كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

الرابعة- قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } أ ي الذين بلغوا عن الله تعالى التوحيد والرسالة. وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين" وقيل: معنى {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } أي أمن لهم من الله جل وعز يوم الفزع الأكبر. {والحمد لله رب العالمين} أي على إرسال المرسلين مبشرين ومنذرين. وقيل: أي على جميع ما أنعم الله به على الخلق أجمعين. وقيل: أي على هلاك المشركين؛ دليله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
قلت: والكل مراد والحمد يعم. ومعنى {يَصِفُونَ } يكذبون، والتقدير عما يصفون من الكذب.

تفسير سورة ص
سورة ص
مكية في قول الجميع، وهي ست وثمانون آية. وقيل ثمان وثمانون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية: [1] { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ }
الآية: [2] { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ }
الآية: [3] { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ }
قوله تعالى: {ص} قراءة العامة {ص} بجزم الدال على الوقف؛ لأنه حرف من حروف الهجاء مثل: {الم} و {المر} . وقرأ أبي بن عب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم {صاد} بكسر الدال بغير تنوين. ولقراءته مذهبان: أحدهما: أنه من صادى يصادي إذا عارض، ومنه { فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى } أي تعرض. والمصاداة المعارضة، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية. فالمعنى صاد القرآن بعملك؛ أي عارضه بعملك وقابله به، فاعمل بأوامره، وانته عن نواهيه. النحاس: وهذا المذهب يروى عن الحسن أنه فسر به قراءته رواية صحيحة. وعنه أن المعنى اتله وتعرض

لقراءته. والمذهب الآخر أن تكون الدال مكسورة لالتقاء الساكنين. وقرأ عيسى بن عمر {صاد} بفتح الدال مثله: {قاف} و {نون} بفتح آخرها. وله في ذلك ثلاثة مذاهب: أحدهن: أن يكون بمعنى أتل. والثاني: أن يكون فتح لالتقاء الساكنين واختار الفتح للإتباع؛ ولأنه أخف الحركات. والثالث: أن يكون منصوبا على القسم بغير حرف؛ كقولك: الله لأفعلن، وقيل: نصب على الإغراء. وقيل: معناه صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا {صادِ} بكسر الدال والتنوين على أن يكون مخفوضا على حذف حرف القسم، وهذا بعيد وإن كان سيبويه قد أجاز مثله. ويجوز أن يكون مشبها بما لا يتمكن من الأصوات وغيرها. وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع: {صادُ} و {قافُ} و {نونُ} بضم آخرهن: لأنه المعروف بالبناء في غالب الحال، نحو منذ وقط وقبل وبعد. و {ص} إذا جعلته اسما للسورة لم ينصرف؛ كما أنك إدا سميت مؤنثا بمذكر لا ينصرف وإن قلت حروفه. وقال ابن عباس وجابر بن عبدالله وقد سئلا عن {ص} فقالا: لا ندري ما هي. وقال عكرمة: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن {ص} فقال: {ص} كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار. وقال سعيد بن جبير: {ص} بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقال الضحاك: معناه صدق الله. وعنه أن {ص} قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى. وقال السدي، وروي عن ابن عباس. وقال محمد بن كعب: هو مفتاح أسماء الله تعالى صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد. وقال قتادة: هو اسم من أسماء الرحمن. وعنه أنه اسم من أسماء القرآن. وقال مجاهد: هو فاتحة السورة. وقيل: هو مما استأثر الله تعالى بعلمه وهو معنى القول الأول. وقد تقدم جميع هذا في "البقرة".
قوله تعالى: { وَالْقُرْآنِ } ؤ خفض بواو القسم والواو بدل من الباء؛ أقسم بالقرآن تنبيها على جلالة قدره؛ فإن فيه بيان كل شيء، وشفاء لما في الصدور، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. { ذِي الذِّكْرِ } خفض على النعت وعلامة خفضه الياء، وهو اسم معتل والأصل فيه ذوى على فعل. قال ابن عباس: ومقاتل معنى {ذِي الذِّكْرِ} ذي البيان. الضحاك:

ذي الشرف أي من آمن به كان شرفا له في الدارين؛ كما قال تعالى: { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أي شرفكم. وأيضا القرآن شريف في نفسه لإعجازه واشتماله على ما لا يشتمل عليه غيره. وقيل: { ذِي الذِّكْرِ } أي فيه ذكر ما يحتاج إليه من أمر الدين. وقيل: { ذِي الذِّكْرِ } أي فيه ذكر أسماء الله وتمجيده. وقيل: أي ذي الموعظة والذكر. وجواب القسم محذوف. واختلف فيه على أوجه: فقيل جواب القسم {ص} ؛ لأن معناه حق فهي جواب لقوله: { وَالْقُرْآنِ } كما تقول: حقا والله، نزل والله، وجب والله؛ فيكون الوقف من هذا الوجه على قوله: { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } حسنا، وعلى { فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } تماما. قال ابن الأنباري. وحكى معناه الثعلبي عن الفراء. وقيل: الجواب { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } لأن {بل} نفي لأمر سبق وإثبات لغيره؛ قاله القتبي؛ فكأنه قال: {والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق} عن قبول الحق وعداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم. أو { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } ما الأمر كما يقولون من أنك ساحر كذاب؛ لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة بل هم في تكبر عن قبول الحق. وهو كقوله: { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ. بَلْ عَجِبُوا } . وقيل: الجواب { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } كأنه قال: والقرآن لكم أهلكنا؛ فلما تأخرت {كم} حذفت اللام منها؛ كقوله تعالى: { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } ثم قال: { قَدْ أَفْلَحَ } أي لقد أفلح. قال المهدوي: وهذا مذهب الفراء. ابن الأنباري: فمن هذا الوجه لا يتم الوقف على قوله: { فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ }. وقال الأخفش: جواب القسم { إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } ونحو منه قوله تعالى: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وقوله: { وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ } إلى قوله { إِنْ كُلُّ نَفْسٍ }. ابن الأنباري: وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال فيما بينهما وكثرت الآيات والقصص. وقال الكسائي: جواب القسم قوله: { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } ابن الأنباري: وهذا أقبح من الأول؛ لأن الكلام أشد طولا فيما بين القسم وجوابه. وقيل الجواب قوله: { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ } وقال قتادة: الجواب محذوف تقديره { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } لتبعثن ونحوه.

قوله تعالى: { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ } أي تكبر وامتناع من قبول الحق؛ كما قال جل وعز: {وإذا وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالأِثْمِ } أخذته العزة بالإثم والعزة عند العرب: الغلبة والقهر. يقال: من عز بز؛ يعني من غلب سلب. ومنه: { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أراد غلبني. وقال جرير:
يعز على الطريق بمنكبيه ... كما ابترك الخليع على القداح
أراد يغلب. { وَشِقَاقٍ } أي في إظهار خلاف ومباينة. وهو من الشق كأن هذا في شق وذلك في شق. وقد مضى في "البقرة" مستوفى.
قوله تعالى: { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي قوم كانوا أمنع من هؤلاء. و { كَمْ} لفظة التكثير { فَنَادَوْا } أي بالاستغاثة والتوبة. والنداء رفع الصوت؛ ومنه الخبر: "ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا" أي أرفع. { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال الحسن: نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل. النحاس: وهذا تفسير منه لقوله عز وجل: {ولات حين مناص} فأما إسرائيل فروى عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس: { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال: ليس بحين نزو ولا فرار؛ قال: ضبط القوم جميعا قال الكلبي: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض مناص؛ أي عليكم بالفرار والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص؛ فقال الله عز وجل: { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال القشيري: وعلى هذا فالتقدير: فنادوا مناص فحذف لدلالة بقية الكلام عليه؛ أي ليس الوقت وقت ما تنادون به. وفي هذا نوع تحكم؛ إذ يبعد أن يقال: كل من هلك من القرون كانوا يقولون مناص عند الاضطرار. وقيل: المعنى { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } أي لا خلاص وهو نصب بوقوع لا عليه. قال القشيري: وفيه نظر لأنه لا معنى على هذا للواو في { وَلاتَ حِينَ

مَنَاصٍ } وقال الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص؛ أي ساعة لا منجى ولا فوت. فلما قدم {لا} وأخر {حين} اقتضى ذلك الواو، كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا؛ مثل قولك: جاء زيد راكبا؛ فإذا جعلته مبتدأ وخبر اقتضى الواو مثل جاءني زيد وهو راكب، فحين ظرف لقوله: { فَنَادَوْا }. والمناص بمعنى التأخر والفرار والخلاص؛ أي نادوا لطلب الخلاص في وقت لا يكون لهم فيه خلاص. قال الفراء:
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص
يقال: ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي فر وزاغ. النحاس: ويقال: ناص ينوص إذا تقدم.
قلت: فعلى هذا يكون من الأضداد، والنوص الحمار الوحشي. واستناص أي تأخر؛ قاله الجوهري. وتكلم النحويون في { وَلاتَ حِينَ } وفي الوقف عليه، وكثر فيه أبو عبيدة القاسم بن سلام في كتاب القراءات وكل ما جاء به إلا يسيرا مردود. فقال سيبويه: {لات} مشبهة بليس والاسم فيها مضمر؛ أي ليست أحياننا حين مناص. وحكي أن من العرب من يرفع بها فيقول: ولات حين مناص. وحكي أن الرفع قليل ويكون الخبر محذوفا كما كان الاسم محذوفا في النصب؛ أي ولات حين مناص لنا. والوقف عليها عند سيبويه والفراء {ولات} بالتاء ثم تبتدئ { حِينَ مَنَاصٍ } هو قول ابن كيسان والزجاج. قال أبو الحسن بن كيسان: والقول كما قال سيبويه؛ لأن شبهها بليس فكما يقال ليست يقال لات. والوقوف عليها عتد الكسائي بالهاء ولاه. وهو قول المبرد محمد بن يزيد. وحكى عنه علي بن سليمان أن الحجة في ذلك أنها دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة، كما يقال ثُمه ورُبه. وقال القشيري: وقد يقال ثُمت بعني ثُم، وربت بمعنى رب؛ فكأنهم زادوا في لا هاء فقالوا لاه، كما قالوا في ثمه عند الوصل صارت تاء. وقال الثعلبي: وقال أهل اللغة: و { وَلاتَ حِينَ } مفتوحتان كأنهما

كلمة واحدة، وإنما هي {لا} زيدت فيها التاء نحو رب وربت، وثم وثمت. قال أبو زبيد الطائي:
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء
وقال آخر:
تذكر حب ليلى لات حينا ... وأمسى الشيب قد قطع القرينا
ومن العرب من يخفض بها؛ وأنشد الفراء:
فلتعرفن خلائقا مشمولة ... ولتندمن ولات ساعة مندم
وكان الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش يذهبون إلى أن {ولات حين} التاء منقطعة من حين، ويقولون معناها وليست. وكذلك هو في المصاحف الجدد والعتق بقطع التاء من حين. وإلى هذا كان يذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: الوقف عندي على هذا الحرف {ولا} والابتداء { تَحِينَ مَنَاصٍ } فتكون التاء مع حين. وقال بعضهم: {لات} ثم يبتدئ فيقول: { حِينَ مَنَاصٍ } . قال المهدوي: وذكر أبو عبيد أن التاء في المصحف متصلة بحين وهو غلط عند النحويين، وهو خلاف قول المفسرين. ومن حجة أبي عبيد أن قال: إنا لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن؛ وأنشد لأبي وجزة السعدي:
العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ابن المطعم
وأنشد لأبي زبيد الطائي:
طلبوا صلحنا ولا تأوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء
فأدخل التاء في أوان. قال أبو عبيد: ومن إدخالهم التاء في الآن، حديث ابن عمر وسأله رجل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تلان معك. وكذلك قول الشاعر:
نولي قبل نأي داري جمانا ... وصلينا كما زعمت تلانا

فال أبو عبيد: ثم مع هذا كله إني تعمدت النظر في الذي يقال له الإمام - مصحف عثمان - فوجدت التاء متصلة مع حين قد كتبت تحين. قال أبو جعفر النحاس: أما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فرواه العلماء باللغة على أربعة أوجه، كلها على خلاف ما أنشده؛ وفي أحدها تقديران؛ رواه أبو العباس محمد بن يزيد:
العاطفون ولات ما من عاطف
والرواية الثانية:
العاطفون ولات حين تعاطف
والرواية الثالثة رواها ابن كيسان:
العاطفونةَ حين ما من عاطف
جعلها هاء في الوقف وتاء في الإدراج، وزعم أنها لبيان الحركة شبهت بهاء التأنيث. الرواية الرابعة:
العاطفونهُ حين ما من عاطف
وفي هذه الرواية تقديران؛ أحدهما وهو مذهب إسماعيل بن إسحاق أن الهاء في موضع نصب؛ كما تقول: الضاربون زيدا فإذا كنيت قلت الضاربوه. وأجاز سيبويه في الشعر الضاربونه، فجاء إسماعيل بالتأنيث على مذهب سيبويه في إجازته مثله. والتقدير الآخر العاطفون على أن الهاء لبيان الحركة، كما تقول: مر بنا المسلمونه في الوقف، ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف؛ كما قرأ أهل المدينة: { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } وأما البيت الثاني فلا حجة له فيه؛ لأنه يوقف عليه: ولات أوان، غير أن فيه شيئا مشكلا؛ لأنه يروى: ولات أوان بالخفض، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعا أو منصوبا. وإن كان قد روي عن عيسى بن عمر أنه قرأ { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } بكسر التاء من لات والنون من حين فإن الثبت عنه أنه قرأ { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } فبنى { وَلاتَ } على الكسر ونصب { حِينَ }. فأما: ولات أوان ففيه تقديران؛ قال الأخفش: فيه مضمر أي ولات حين أوان.

قال النحاس: وهذا القول بين الخطأ. والتقدير الآخر عن أبي إسحاق قال: تقديره ولات أواننا فحذف، المضاف إليه فوجب ألا يعرب، وكسره لالتقاء الساكنين. وأنشده محمد بن يزيد ولات أوان بالرفع. وأما البيت الثالث فبيت مولد لا يعرف قائله ولا تصح به حجة. على أن محمد بن يزيد رواه: كما زعمت الآن. وقال غيره: المعنى كما زعمت أنت الآن. فأسقط الهمزة من أنت والنون. وأما احتجاجه بحديث ابن عمر، لما ذكر للرجل مناقب عثمان فقال له: اذهب بها تلان إلى أصحابك فلا حجة، فيه؛ لأن المحدث إنما يروي هذا على المعنى. والدليل على هذا أن مجاهدا يروي عن ابن عمر هذا الحديث وقال فيه: اذهب فاجهد جهدك. ورواه آخر: اذهب بها الآن معك. وأما احتجاجه بأنه وجدها في الإمام { تَحِينَ }. فلا حجة فيه؛ لأن معنى الإمام أنه إمام المصاحف فإن كان مخالفا لها فليس بإمام لها، وفي المصاحف كلها { وَلاتَ } فلو لم يكن في هذا إلا هذا الاحتجاج لكان مقنعا. وجمع مناص مناوص.
الآية: [4] { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ }
الآية: [5] { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }
قوله تعالى: { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } {أن} في موضع نصب والمعنى من أن جاءهم. قيل: هو متصل بقوله: { فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } أي في عزة وشقاق وعجبوا، وقوله: { كَمْ أَهْلَكْنَا } معترض. وقيل: لا بل هذا ابتداء كلام؛ أي ومن جهلهم أنهم أظهروا التعجب من أن جاءهم منذر منهم. { وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ } أي يجيء بالكلام المموه الذي يخدع به الناس؛ وقيل: يفرق بسحره بين الوالد وولده والرجل وزوجته { كَذَّابٌ } أي في دعوى النبوة.
قوله تعالى: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } مفعولان أي صير الآلهة إلها واحدا. { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } أي عجيب. وقرأ السلمي: { عُجَابٌ } بالتشديد. والعجاب والعجّاب

والعجب سواء. وقد فرق الخليل بين عجيب وعجاب فقال: العجيب العجب، والعجاب الذي قد تجاوز حد العجب، والطويل الذي فيه طول، والطوال، الذي قد تجاوز حد الطول. وقال الجوهري: العجيب الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة. وقال مقاتل: { عُجَابٌ } لغة أزد شنوءة. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فجاءت قريش إليه، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، قال: وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ فقال: " يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها الجزية العجم " فقال: وما هي؟ قال: "لا إله إلا الله" قال: فقالوا { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } قال: فنزل فيهم القرآن: { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } حتى بلغ { إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ } خرجه الترمذي أيضا بمعناه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقيل: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شق على قريش إسلامه فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا: اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تمل كل الميل على قومك. قال: "وماذا يسألونني " قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتعطونني كلمة واحدة وتملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم" فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا لا إله إلا الله" فنفروا من ذلك وقاموا؛ فقالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } فكيف يسع الخلق كلهم إله واحد. فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى قوله: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}

الآية: [6] { وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }
الآية: [7] { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ }
الآية: [8] { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ }
الآية: [9] { أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب }
الآية: [10] { أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ }
الآية: [11] { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ }
قوله تعالى: { وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا } {الملأ} الأشراف، والانطلاق الذهاب بسرعة؛ أي انطلق هؤلاء الكافرون من عند الرسول عليه السلام يقول بعضهم لبعض: { أَنِ امْشُوا } أي امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه. { وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } وقيل: هو إشارة إلى مشيهم إلى أبي طالب في مرضه كما سبق. وفي رواية محمد بن إسحاق أنهم أبو جهل بن هشام، وشيبة وعتبة أبناء ربيعة بن عبد شمس، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وأبو معيط؛ وجاؤوا إلى أبي طالب فقالوا: أنت سيدنا وأنصفنا في أنفسنا، فاكفنا أمر ابن أخيك وسفهاء معه، فقد تركوا ألهتنا وطعنوا في ديننا؛ فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن قومك يدعونك إلى السواء والنصفة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أدعوهم إلى كلمة واحدة" فقال أبو جهل وعشرا. قال: "تقولون لا إله إلا الله" فقاموا وقالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } الآيات. { أَنِ امْشُوا }{أن} في موضع نصب والمعنى بأن امشوا. وقيل: {أن} بمعنى أي؛ أي { وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ } أي أمشوا؛ وهذا تفسير انطلاقهم لا أنهم تكلموا بهذا اللفظ. وقيل: المعنى انطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام: { امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } أي على عبادة آلهتكم. {إنَّ هَذاَ} أي هذا الذي جاء به محمد عليه السلام { لَشَيْءٌ يُرَادُ } أي يراد بأهل الأرض من زوال نعم قوم

وغِيَر تنزل بهم. وقيل: { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } كلمة تحذير؛ أي إنما يريد محمد بما يقول الانقياد له ليعلو علينا، ونكون له أتباعا فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه. وقال مقاتل: إن عمر لما أسلم وقوي به الإسلام شق ذلك على قريش فقالوا: إن إسلام عمر في قوة الإسلام لشيء يراد.
قوله تعالى: { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } قال ابن عباس والقرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي: يعنون ملة عيسى النصرانية وهي آخر الملل. والنصارى يجعلون مع الله إلها. وقال مجاهد وقتادة أيضا: يعنون ملة قريش. وقال الحسن: ما سمعنا أن هذا يكون في آخر الزمان. وقيل: أي ما سمعنا من أهل الكتاب أن محمدا رسول حق. { إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} ْ أي كذب وتخرص؛ عن ابن عباس وغيره. يقال: خلق واختلق أي ابتدع. وخلق الله عز وجل الخلق من هذا؛ أي ابتدعهم على غير مثال.
قوله تعالى: { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } هو استفهام إنكار، والذكر ها هنا القرآن. أنكروا اختصاصه بالوحي من بينهم. { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي } أي من وحيي وهو القرآن. أي قد علموا أنك لم تزل صدوقا فيما بينهم، وإنما شكوا فيما أنزلته عليك هل هو من عندي أم لا. { بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } أي إنما اغتروا بطول الإمهال، ولو ذاقوا عذابي على الشرك لزال عنهم الشك، ولما قالوا ذلك؛ ولكن لا ينفع الإيمان حينئذ. و { لَمَّا } بمعنى لم وما زائدة كقوله: { عَمَّا قَلِيلٍ } { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ }.
قوله تعالى: { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } قيل: أم لهم هذا فيمنعوا محمدا عليه السلام مما أنعم الله عز وجل به عليه من النبوة. و { أَمْ } قد ترد بمعنى التقريع إذا كان الكلام متصلا بكلام قبله؛ كقوله تعالى: {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } وقد قيل إن قوله: { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } متصل بقول: { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } فالمعنى أن الله عز وجل يرسل من يشاء؛ لأن خزائن السموات والأرض له: { أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا }

أي فإن ادعوا ذلك: { فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ } أي فليصعدوا إلى السموات، وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحي على محمد. يقال: رقي يرقى وارتقى إذا صعد. ورقى يرقي رقيا مثل رمى يرمي رميا من الرقية. قال الربيع بن أنس: الأسباب أرق من الشعر وأشد من الحديد ولكن لا ترى. والسبب في اللغة كل ما يوصل به إلى المطلوب من حبل أو غيره. وقيل: الأسباب أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها؛ قاله مجاهد وقتادة. قال زهير:
ولو رام أسباب السماء بسلم
وقيل: الأسباب السموات نفسها؛ أي فليصعدوا سماء سماء. وقال السدي: { فِي الأَسْبَابِ } في الفضل والدين. وقيل: أي فليعلوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة. وهو معنى قول أبي عبيدة. وقيل: الأسباب الحبال؛ يعني إن وجدوا حبلا أو سببا يصعدون فيه إلى السماء فليرتقوا؛ وهذا أمر توبيخ وتعجيز. ثم وعد نبيه صلى النصر عليهم فقال: { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ } { مَا } صلة وتقديره هم جند، فـ {ـجُنْدٌ } خبر ابتداء محذوف. { مَهْزُومٌ } أي مقموع ذليل قد انقطعت حجتهم؛ لأنهم لا يصلون إلى أن يقولوا هذا لنا. ويقال: تهزمت القربة إذا انكسرت، وهزمت الجيش كسرته. والكلام مرتبط بما قبل؛ أي: { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } وهم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تغمك عزتهم وشقاقهم، فإني أهزم جمعهم وأسلب عزهم. وهذا تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد فعل بهم هذا في يوم بدر. قال قتادة: وعد الله أنه سيهزمهم وهم بمكة فجاء تأويلها يوم بدر. و { هُنَالِكَ } إشارة لبدر وهو موضع تحزبهم لقتال محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد بالأحزاب الذين أتوا المدينة وتحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد مضى ذلك في {الأحزاب}. والأحزاب الجند، كما يقال: جند من قبائل شتى. وقيل: أراد بالأحزاب القرون الماضية من الكفار. أي هؤلاء جند على طريقة أولئك كقوله

تعالى: { فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } أي على ديني ومذهبي. وقال الفراء: المعنى هم جند مغلوب؛ أي ممنوع عن أن يصعد إلى السماء. وقال القتبي: يعني أنهم جند لهذه الآلهة مهزوم، فهم لا يقدرون على أن يدعوا لشيء من آلهتهم، ولا لأنفسهم شيئا من خزائن رحمة الله، ولا من ملك السموات والأرض.
الآية: [12] { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ }
الآية: [13] { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ }
الآية: [14] { إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ }
قوله تعالى: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } ذكرها تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له؛ أي هؤلاء من قومك يا محمد جند من الأحزاب المتقدمين الذين تحزبوا على أنبيائهم، وقد كانوا أقوى من هؤلاء فأهلكوا. وذكر الله تعالى القوم بلفظ التأنيث، واختلف أهل العربية في ذلك على قولين: أحدهما: أنه قد يجوز فيه التذكير والتأنيث. الثاني: أنه مذكر اللفظ لا يجوز تأنيثه، إلا أن يقع المعنى على العشيرة والقبيلة، فيغلب في اللفظ حكم المعنى المضمر تنبيها عليه؛ كقوله تعالى: { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } ولم يقل ذكرها؛ لأنه لما كان المضمر فيه مذكرا ذكره؛ وإن كان اللفظ مقتضيا للتأنيث. ووصف فرعون بأنه ذو الأوتاد. وقد اختلف في تأويل ذلك؛ فقال ابن عباس: المعنى ذو البناء المحكم. وقال الضحاك: كان كثير البنيان، والبنيان يسمى أوتادا. وعن ابن عباس أيضا وقتادة وعطاء: أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب له عليها. وعن الضحاك أيضا: ذو القوة والبطش. وقال الكلبي ومقاتل: كان يعذب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد في الأرض، ويرسل عليه العقارب والحيات حتى يموت. وقيل: كان يشبح المعذب بين أربع سوار؛ كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد ويتركه حتى يموت. وقيل: ذو الأوتاد أي ذو الجنود الكثيرة فسميت

الجنود أوتادا؛ لأنهم يقوون أمره كما يقوي الوتد البيت. وقال ابن قتيبة: العرب تقول هم في عز ثابت الأوتاد، يريدون دائما شديدا. وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد. وقال الأسود بن يعفر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
وواحد الأوتاد وتد بالكسر، وبالفتح لغة. وقال الأصمعي: يقال وتد واتد كما يقال: شغل شاغل. وأنشد:
لاقت على الماء جذيلا واتدا ... ولم يكن يخلفها المواعدا
قال: شبه الرجل بالجذل. { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْأَيْكَةِ } أي الغيضة. وقد مضى ذكرها في {الشعراء}. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر: { لْيكَةِ } بفتح اللام والتاء من غير همز. وهمز الباقون وكسروا التاء. وقد تقدم هذا. { أُولَئِكَ الأَحْزَابُ } أي هم الموصوفون بالقوة والكسرة؛ كقولك فلان هو الرجل. { إِنْ كُلٌّ } بمعنى ما كل. { إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } أي فنزل بهم العذاب لذلك التكذيب. وأثبت يعقوب الياء في {عذابي} و {عقابي} في الحالين وحذفها الباقون في الحالين. ونظير هذه الآية قوله عز وجل: { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } فسمى هذه الأمم أحزابا.
الآية: [15] { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ }
الآية: [16] { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ }
قوله تعالى: { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } { يَنْظُرُ } بمعنى ينتظر؛ ومنه قوله تعالى: { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } . { هَؤُلاءِ } يعني كفار مكة. { إِلاَّ صَيْحَةً

وَاحِدَةً } أي نفخة القيامة. أي ما ينتظرون بعد ما أصيبوا ببدر إلا صيحة القيامة. وقيل: ما ينتظر أحياؤهم الآن إلا الصيحة التي هي النفخة في الصور، كما قال تعالى: { مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فلا فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } وهذا إخبار عن قرب القيامة والموت. وقيل: أي ما ينتظر كفار آخر هذه الأمة المتدينين بدين أولئك إلا صيحة واحدة وهي النفخة. وقال عبدالله بن عمرو: لم تكن صيحة في السماء إلا بغضب من الله عز وجل على أهل الأرض. { مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } أي من ترداد؛ عن ابن عباس. مجاهد: ما لها رجوع. قتادة: ما لها من مثنوية. السدي: مالها من إفاقة. وقرأ حمزة والكسائي: { مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } بضم الفاء. الباقون بالفتح. الجوهري: والفَواق والفُواق ما بين الحلبتين من الوقت؛ لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب. يقال: ما أقام عنده إلا فواقا؛ وفي الحديث: "العيادة قدر فواق الناقة". وقوله تعالى: { مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } يقرأ بالفتح والضم أي ما لها من نظرة وراحة وإفاقة. والفيقة بالكسر اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين: صارت الواو ياء لكسر ما قبلها؛ قال الأعشى يصف بقرة:
حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت ... جاءت لترضع شق النفس لو رضعا
والجمع فيق ثم أفواق مثل شبر وأشبار ثم أفاويق. قال ابن همام السلولي:
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
والأفاويق أيضا ما اجتمع في السحاب من ماء، فهو يمطر ساعة بعد ساعة. وأفاقت الناقة إفاقة أي اجتمعت الفيقة في ضرعها؛ فهي مفيق ومفيقة - عن أبي عمرو - والجمع مفاويق. وقال الفراء وأبو عبيدة وغيرهما: { مِنْ فَوَاقٍ } بفتح الفاء أي راحة لا يفيقون فيها، كما يفيق المريض والمغشي عليه. و { مِنْ فَوَاقٍ } بضم الفاء من انتظار. وقد تقدم أنهما بمعنى وهو ما بين الحلبتين

قلت: والمعنى المراد أنها ممتدة لا تقطيع فيها. وروى أبو هريرة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في طائفة من أصحابه... الحديث. وفيه: "يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ نفخة الفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله ويأمره فيمدها ويديمها ويطولها يقول الله عز وجل : { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } وذكر الحديث، خرجه علي بن معبد وغيره كما ذكرناه في كتاب التذكرة.
قوله تعالى: { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } قال مجاهد: عذابنا. وكذا قال قتادة: نصيبنا من العذاب. الحسن: نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا. وقال سعيد بن جبير. ومعروف في اللغة أن يقال للنصيب قط وللكتاب المكتوب بالجائزة قط. قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب. ومنه قيل للصك قط. وقال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب بالجوائز والجمع القطوط؛ قال الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفق
يعني كتب الجوائز. ويروى: بأمته بدل بغبطته، أي بنعمته وحال الجليلة، ويأفق يصلح. ويقال: في جمع قط أيضا قططة وفي القليل أقط وأقطاط. ذكره النحاس. وقال السدي: سألوا أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به. وقال إسماعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا. وقيل: معناه عجل لنا ما يكفينا؛ من قولهم: قطني؛ أي يكفيني. وقيل: إنهم قالوا ذلك استعجالا لكتهم التي يعطونها بأيمانهم وشمائلهم حين تلى عليهم بذلك القرآن. وهو قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ } وأصل القط القط وهو القطع، ومنه قط القلم؛ فالقط اسم للقطعة من الشيء كالقسم والقس فأطلق على النصيب والكتاب والرزق لقطعه عن غيره، إلا أنه في الكتاب أكثر استعمالا وأقوى حقيقة. قال أمية بن أبى الصلت:
قوم لهم ساحة العراق وما ... يجبى إليه والقط والقلم

{ قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } أي قبل يوم القيامة في الدنيا إن كان الأمر كما يقول محمد. وكل هذا استهزاء منهم.
الآية: [17] { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ }
قوله تعالى: { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر لما استهزؤوا به. وهذه منسوخة بآية السيف.
قوله تعالى: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ } لما ذكر من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم، أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على أذاهم، وسلاه بكل ما تقدم ذكره. ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء؛ ليتسلى بصبر من صبر منهم؛ وليعلم أن له في الآخرة أضعاف ما أعطيه داود وغيره من الأنبياء. وقيل: المعنى اصبر على قولهم، واذكر لهم أقاصيص الأنبياء؛ لتكون برهانا على صحة نبوتك. وقول: { عَبْدَنَا } إظهارا لشرفه بهذه الإضافة { ذَا الأَيْدِ } ذا القوة في العبادة. وكان يصوم يوما ويفطر يوما وذلك أشد الصوم وأفضله؛ وكان يصلي نصف الليل، وكان لا يفر إذا لاقى العدو، وكان قويا في الدعاء إلى الله تعالى. ويقال: الأيد والآد كما تقول العيب والعاب. قال:
لم يك يناد فأمسى أنادا
ومنه رجل أيد أي قوي. وتأيد الشيء تقوى، قال الشاعر:
إذا القوس وترها أيد ... رمى فأصاب الكلى والذوا
يقول: إذا الله وتر القوس التي في السحاب رمى كلى الإبل وأسمنها بالشحم. يعني من النبات الذي يكون من المطر. { إِنَّهُ أَوَّابٌ } قال الضحاك: أي تواب. وعن غيره: أنه كلما ذكر

ذنبه أو خطر على باله استغفر منه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة". ويقال آب يؤوب إذا رجع؛ كما قال:
وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
فكان داود رجاعا إلى طاعة الله ورضاه في كل أمر فهو أهل لأن يقتدى به.
الآية: [18] { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ }
فيه أربع مسائل:
الأولى- قوله تعالى: { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ } { يُسَبِّحْنَ } في موضع نصب على الحال. ذكر تعالى ما آتاه من البرهان والمعجزة وهو تسبيح الجبال معه. قال مقاتل: كان داود إذا ذكر الله جل وعز ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال. وقال ابن عباس: { يُسَبِّحْنَ } يصلين. وإنما يكون هذا معجزة إذا رآه الناس وعرفوه. وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن، وما تصغي لحسنه الطير وتصوت معه، فهذا تسبيح الجبال والطير. وقيل: سخرها الله عز وجل لتسير معه فذلك تسبيحها؛ لأنها دالة على تنزيه الله عن شبه المخلوقين. وقد مضى القول في هذا في {سبأ} وفي {سبحان} عند قوله تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } وأن ذلك تسبيح مقال على الصحيح من الأقوال. والله أعلم. { بِالْعَشِيِّ وَالأِشْرَاقِ } الإشراق أيضا أبيضاض الشمس بعد طلوعها. يقال: شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت. فكان داود يسبح إثر صلاته عند طلوع الشمس وعند غروبها.
الثانية- روي عن ابن عباس أنه قال: كنت أمر بهذه الآية: { بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ } ولا أدري ما هي، حتى حدثتني أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها،

فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى صلاة الضحى، وقال: "يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق". وقال عكرمة قال ابن عباس: كان في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في القرآن { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ } . قال عكرمة: وكان ابن عباس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلاها بعد. وروي أن كعب الأحبار قال لابن عباس: إني أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس هي صلاة الأوابين. فقال ابن عباس: وأنا أوجدك في القرآن؛ ذلك في قصة داود: { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ }.
الثالثة- صلاة الضحى نافلة مستحبة، وهي في الغداة بإزاء العصر في العشي، لا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة؛ ويرتفع كدرها؛ وتشرق بنورها؛ كما لا تصلى العصر إذا اصفرت الشمس. وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال" الفصال والفصلان جمع فصيل، وهو الذي يفطم من الرضاعة من الإبل. والرمضاء شدة الحر في الأرض. وخص الفصال هنا بالذكر؛ لأنها هي التي ترمض قبل انتهاء شدة الحر التي ترمض بها أمهاتها لقلة جلدها، وذلك يكون في الضحى أوبعده بقليل وهو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها؛ قاله القاضي أبو بكر بن العربي. ومن الناس من يبادر بها قبل ذلك استعجالا، لأجل شغله فيخسر عمله؛ لأنه يصليها في الوقت المنهي عنه ويأتي بعمل هو عليه لا له.
الرابعة- روى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة" قال حديث غريب. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى". وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حافظ على شفعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مئل زبد البحر". وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة

قال: "أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر" لفظ البخاري. وقال مسلم: "وركعتي الضحى" وخرجه من حديث أبي الدرداء كما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة. وهذا كله يدل على أن أقل الضحى ركعتان وأكثره ثنتا عشرة. والله أعلم. وأصل السلامى: "بضم السين" عظام الأصابع والأكف والأرجل، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله. وروي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجرا عن طريق الناس، أو شوكة أو عظما عن طريق الناس وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة سلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار" قال أبو توبة: وربما قال: "يمسي" كذا خرجه مسلم. وقوله: "ويجزي من ذلك ركعتان" أي يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان. وذلك أن الصلاة عمل بجميع أعضاء الجسد؛ فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه في الأصل. والله أعلم.
الآية: [19] { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ }
الآية: [20] { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ }
قوله تعالى: { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } معطوف على الجبال. قال الفراء: ولو قرئ { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } لجاز؛ لأنه لم يظهر الفعل. قال ابن عباس: كان داود عليه السلام إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه. فاجتماعها إليه حشرها. فالمعنى وسخرنا الطير مجموعة إليه لتسبح الله معه. وقيل: أي وسخرنا الريح لتحشر الطيور إليه لتسبح معه. أو أمرنا الملائكة تحشر الطيور. { كُلٌّ لَهُ } أي لداود { أَوَّابٌ } أي مطيع؛ أي تأتيه وتسبح معه. وقيل: الهاء لله عز وجل.
قوله تعالى: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي قويناه حتى ثبت. قيل: بالهيبة وإلقاء الرعب منه في القلوب. وقيل: بكثرة الجنود. وقيل: بالتأييد والنصر. وهذا اختيار ابن العربي.

فلا ينفع الجيش الكثير التفافه على غير منصور وغير معان. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا. كان يحرس محرابه كل ليلة نيف وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله. والملك عبارة عن كثرة الملك، فقد يكون للرجل ملك ولكن لا يكون ملكا حتى يكثر ذلك؛ فلو ملك الرجل دارا وامرأة لم يكن ملكا حتى يكون له خادم يكفيه مؤنة التصرف في المنافع التي يفتقر إليها لضرورته الآدمية. وقد مضى هذا المعنى في {براءة} وحقيقة الملك في {النمل}مستوفى.
قوله تعالى: { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } أي النبوة؛ قال السدي. مجاهد: العدل. أبو العالية: العلم بكتاب الله تعالى. قتادة: السنة. شريح: العلم والفقه. {وفصل الخطاب} قال أبو عبدالرحمن السلمي وقتادة: يعني الفصل في القضاء. وهو قول ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس: بيان الكلام. علي بن أبي طالب: هو البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقاله شريح والشعبي وقتادة أيضا. وقال أبو موسى الأشعري والشعبي أيضا: هو قوله أما بعد، وهو أول من تكلم بها. وقيل: { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } البيان الفاصل بين الحق والباطل. وقيل: هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وقول علي رضي الله عنه يجمعه؛ لأن مدار الحكم عليه في القضاء ما عدا قول أبي موسى.
الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي: فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم مجرد، وفصل منه مؤكد، غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام؛ ففي الحديث: "أقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل". وقد يكون الرجل بصيرا بأحكام الأفعال، عارفا بالحلال والحرام، ولا يقوم بفصل القضاء. يروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حفر قوم زبية للأسد؛

فوقع فيها الأسد؛ وازدحم الناس على الزبية فوقع فيها رجل وتعلق بآخر، وتعلق الآخر بآخر، حتى صاروا أربعة، فجرحهم الأسد فيها فهلكوا، وحمل القوم السلاح وكاد يكون بينهم قتال؛ قال فأتيتهم فقلت: أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة إناس! تعالوا أقض بينكم بقضاء؛ فإن رضيتموه فهو قضاء بينكم، وإن أبيتم رفعتم ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحق بالقضاء. فجعل للأول ربع الدية، وجحل للثاني ثلث الدية، وجعل للثالث نصف الدية، وجعل للرابع الدية، وجعل الديات على حفر الزبية على قبائل الأربعة؛ فسخط بعضهم ورضي بعضهم، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصوا عليه القصة؛ فقال: "أنا أقضي بينكم" فقال قائل: إن عليا قد قضى بيننا. فأخبروه بما قضى علي؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القضاء كما قضى علي" في رواية: فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء علي وكذلك يروى في المعرفة بالقضاء أن أبا حنيفة جاء إليه رجل فقال: إن ابن أبي ليلى - وكان قاضيا بالكوفة - جلد امرأة مجنونة قالت لرجل يا ابن الزانيين حدين في المسجد وهي قائمة. فقال: أخطأ من ستة أوجه. قال ابن العربي: وهذا الذي قال أبو حنيفة بالبديهة لا يدركه أحد بالرؤية إلا العلماء. فأما قضية علي فلا يدركها الشادي، ولا يلحقها بعد التمرن في الأحكام إلا العاكف المتمادى. وتحقيقها أن هؤلاء الأربعة المقتولين خطأ بالتدافع على الحفرة من الحاضرين عليها، فلهم الديات على من حضر على وجه الخطأ، بيد أن الأول مقتول بالمدافعة قاتل ثلاثة بالمجاذبة، فله الدية بما قتل، وعليه ثلاثة أرباع الدية بالثلاثة الذين قتلهم. وأما الثاني فله ثلث الدية وعليه الثلثان بالإثنين اللذين قتلهما بالمجاذبة. وأما الثالث فله نصف الدية وعليه النصف؛ لأنه قتل واحدا بالمجاذبة فوقعت المحاصة وغرمت العواقل هذا التقدير بعد القصاص الجاري فيه. وهذا من بديع الاستنباط. وأما أبو حنيفة فإنه نظر إلى المعاني المتعلقة فرأها ستة: الأول أن المجنون لا حد عليه؛ لأن الجنون يسقط التكليف. وهذا إذا كان القذف في حالة الجنون، وأما إذا كان يجن مرة ويفيق أخرى فإنه يحد بالقذف في حالة إفاقته. والثاني قولها يا ابن الزانيين فجلدها حدين لكل أب حد، فإنما خطأه أبو حنيفة على مذهبه في أن حد

القذف يتداخل، لأنه عنده حق لله تعالى كحد الخمر والزنى، وأما الشافعي ومالك فإنهما يريان أن الحد بالقذف حق للآدمي، فيتعدد بتعدد المقذوف. الثالث أنه جلد بغير مطالبة المقذوف، ولا تجوز إقامة حد القذف بإجماع من الأمة إلا بعد المطالبة بإقامته ممن يقول إنه حق لله تعالى، ومن يقول إنه حق الآدمي. وبهذا المعنى وقع الاحتجاج لمن يرى أنه حق للآدمي؛ إذ لو كان حقا لله لما توقف على المطالبة كحد الزنى. الرابع أنه والى بين الحدين، ومن وجب عليه حدان لم يوال بينهما، بل يحد لأحدهما ثم يترك حتى يندمل الضرب، أو يستبل المضروب ثم يقام عليه الحد الآخر. الخامس أنه حدها قائمة، ولا تحد المرأة إلا جالسة مستورة، قال بعض الناس: في زنبيل. السادس أنه أقام الحد في المسجد ولا تقام الحدود فيه إجماعا. وفي القضاء في المسجد والتعزير فيه خلاف. قال القاضي: فهذا هو فصل الخطاب وعلم القضاء، الذي وقعت الإشارة إليه على أحد التأويلات في الحديث المروي: "أقضاكم علي" . وأما من قال: إنه الإيجاز فذلك للعرب دون العجم، ولمحمد صلى الله عليه وسلم دون العرب؛ وقد بين هذا بقوله: "وأوتيت جوامع الكلم" . وأما من قال: إنه قوله أما بعد؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "أما بعد". ويروى أن أول من قالها في الجاهلية سحبان بن وائل، وهو أول من آمن بالبعث، وأول من توكأ على عصا، وعمر مائة وثمانين سنة. ولو صح أن داود عليه السلام قالها، لم يكن ذلك منه بالعربية على هذا النظم، وإنما كان بلسانه. والله أعلم.
الآية: [21] { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ }
الآية: [22] { إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ }
الآية: [23] { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ }

الآية: [24] { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ }
الآية: [25] { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ }
فيه أربع وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } { الْخَصْمِ } يقع على الواحد والاثنين والجماعة؛ لأن أصله المصدر. قال الشاعر:
وخصم غضاب ينفضون لحاهم ... كنفض البراذين العراب المخاليا
النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أنه يراد به ها هنا ملكان. وقيل: { تَسَوَّرُوا } وإن كان اثنين حملا على الخصم، إذ كان بلفظ الجمع ومضارعا له، مثل الركب والصحب. وتقديره للاثنين ذوا خصم وللجماعة ذوو خصم. ومعنى: { تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } أتوه من أعلى سوره. يقال: تسور الحائط تسلقه، والسور حائط المدينة وهو بغير همز، وكذلك السور جمع سورة مثل بسرة وبسر وهي كل منزلة من البناء. ومنه سورة القرآن؛ لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى. وقد مضى في مقدمة الكتاب بيان هذا. وقول النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
يريد شرفا ومنزلة. فأما السؤر بالهمز فهو بقية الطعام في الإناء. ابن العربي: والسؤر الوليمة بالفارسي. وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "إن جابرا قد صنع لكم سؤرا فحيهلا بكم". والمحراب هنا الغرفة؛ لأنهم تسوروا عليه فيها؛ قاله يحيى بن سلام. وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد. وقد مضى القول فيه في غير موضع. { إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ } جاءت { إِذْ } مرتين؛ لأنهما فعلان. وزعم

الفراء: أن إحداهما بمعنى لما. وقول آخر أن تكون الثانية مع ما بعدها تبيينا لما قبلها. قيل: إنهما كانا إنسيين؛ قاله النقاش. وقيل: ملكين؛ قاله جماعة. وعينهما جماعة فقالوا: إنهما جبريل وميكائيل. وقيل: ملكين في صورة إنسيين بعثهما الله إليه في يوم عبادته. فمنعهما الحرس الدخول، فتسوروا المحراب عليه، فما شعر وهو في الصلاة إلا وهما بين يديه جالسين؛ وهو قوله تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } أي علوا ونزلوا عليه من فوق المحراب؛ قال سفيان الثوري وغيره. وسبب ذلك ما حكاه ابن عباس أن داود عليه السلام حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم. فقيل له: انك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك. فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يدرج بين يديه. فهم أن يتناوله بيده، فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فطار، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل، فلما رأته غطت جسدها بشعرها. قال السدي: فوقعت في قلبه. قال ابن عباس: وكان زوجها غازيا في سبيل الله وهو أوريا بن حنان، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا، فقدمه فيهم فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود، واشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة بعده، وكتبت عليه بذلك كتابا، وأشهدت عليه خمسين رجلا من بني إسرائيل، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشب، وتسور الملكان وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه. ذكره الماوردي وغيره. ولا يصح. قال ابن لعربي: وهو أمثل ما روي في ذلك.

قلت: ورواه مرفوعا بمعناه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن يزيد الرقاشي، سمع أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فهم بها قطع على بني إسرائيل بعثا وأوصى صاحب البعث فقال: إذا حضر العدو قرب فلانا وسماه، قال فقربه بين يدي التابوت - قال - وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يستنصر به فمن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله فقدم فقتل زوج المرأة ونزل الملكان على داود فقصا عليه القصة". وقال سعيد عن قتادة: كتب إلى زوجها وذلك في حصار عمان مدينة بلقاء أن يأخذوا بحلقة الباب، وفيه الموت الأحمر، فتقدم فقتل. وقال الثعلبي قال قوم من العلماء: إنما امتحن الله داود بالخطيئة؛ لأنه تمنى يوما على ربه منزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه نحو ما امتحنهم، ويعطيه نحو ما أعطاهم. وكان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام، يوم يقضي فيه بين الناس، ويوم يخلو فيه بعبادة ربه، ويوم يخلو فيه بنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فقال: يا رب إن الخير كله قد ذهب به آبائي، فأوحى الله تعالى إليه: إنهم ابتلوا ببلايا لم يبتل بها غيرهم فصبروا عليها؛ ابتلي إبراهيم بنمروذ وبالنار وبذبح ابنه، وابتلي إسحاق بالذبح، وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره، ولم تبتل أنت بشيء من ذلك. فقال داود عليه السلام: فابتلني بمثل ما ابتليتهم، وأعطني مثل ما أعطيتهم، فأوحى الله تعالى إليه: إنك مبتلى في شهر كذا في يوم الجمعة. فلما كان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه، وجعل يصلي ويقرأ الزبور. فبينا هو كذلك إذ مثل له الشيطان في صورة حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، فوقف بين رجليه، فمد يده ليأخذها فيدفعها لابن له صغير، فطارت غير بعيد ولم تؤيسه من نفسها، فامتد إليها ليأخذها فتنحت، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة، فذهب ليأخذها فطارت ونظر داود يرتفع في إثرها ليبعث إليها من يأخذها، فنظر امرأة في بستان على شط بركة

تغتسل؛ قاله الكلبي. وقال السدي: تغتسل عريانة على سطح لها؛ فرأى أجمل النساء خلقا، فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطى بدنها، فزاده إعجابا بها. وكان زوجها أوريا بن حنان، في غزوة مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود، فكتب داود إلى أيوب أن ابعث بأوريا إلى مكان كذا وكذا، وقدمه قبل التابوت، وكان من قدم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله عليه أو يستشهد. فقدمه ففتح له فكتب إلى داود يخبره بذلك. قال الكلبي: وكان أوريا سيف الله في أرضه في زمان داود، وكان إذا ضرب ضربة وكبر كبر جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، وكبرت ملائكة السماء بتكبيره حتى ينتهي ذلك إلى العرش، فتكبر ملائكة العرش بتكبيره. قال: وكان. سيوف الله ثلاثة؛ كالب بن يوفنا في زمن موسى، وأوريا في زمن داود، وحمزة بن عبدالمطلب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كتب أيوب إلى داود يخبره أن الله قد فتح على أوريا كتب داود إليه: أن ابعثه في بعث كذا وقدمه قبل التابوت؛ ففتح الله عليه، فقتل في الثالث شهيدا. فتزوج داود تلك المرأة حين انقضت عدتها. فهي أم سليمان بن داود. وقيل: سبب امتحان داود عليه السلام أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يوم بغير مقارفة شيء. قال الحسن: إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء؛ جزء لنسائه، وجزءا للعبادة، وجزءا لبني إسرائيل يذاكرونه ويذاكرهم ويبكونه ويبكيهم، ويوما للقضاء. فتذاكروا هل يمر على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟ فأضمر داود أنه يطيق ذلك؛ فأغلق الباب على نفسه يوم عبادته، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكب على قراءة الزبور، فوقعت حمامة من ذهب بين يديه. وذكر نحو ما تقدم قال علماؤنا: وفي هذا دليل وهي:
الثانية- على أنه ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم، وأنه ليس للإنسان أن يترك وطء نسائه وإن كان مشغولا بالعبادة. وقد مضى هذا المعنى في "النساء". وحكم كعب بذلك في زمن عمر بمحضره رضي الله عنهما. وقد قال عليه السلام

لعبدالله بن عمر: "إن لزوجك عليك حقا..." الحديث. وقال الحسن أيضا ومجاهد: إن داود عليه السلام قال لبني إسرائيل حين استخلف: والله لأعدلن بينكم، ولم يستثن فابتلي بهذا. وقال أبو بكر الوراق: كان داود كثير العبادة فأعجب بعمله وقال: هل في الأرض أحد يعمل كعملي. فأرسل الله إليه جبريل؛ فقال: إن الله تعالى يقول لك: أعجبت بعبادتك، والعجب يأكل العبادة كما تأكل النار الحطب، فإن أعجبت ثانية وكلتك إلى نفسك. قال: يا رب كلني إلى نفسي سنة. قال: إن ذلك لكثير. قال: فشهرا. قال: إن ذلك لكثير. قال: فيوما. قال: إن ذلك لكثير. قال: يا رب فكلني إلى نفسي ساعة. قال: فشأنك بها. فوكل الأحراس، ولبس الصوف، ودخل المحراب، ووضع الزبور بين يديه؛ فبينما هو في عبادته إذ وقع الطائر بين يديه، فكان من أمر المرأة ما كان. وقال سفيان الثوري: قال داود ذات يوم: يا رب ما من يوم إلا ومن آل داود لك فيه صائم، وما من ليلة إلا ومن آل داود لك فيها قائم. فأوحى الله إليه: يا داود منك ذلك أو مني؟ وعزتي لأكلنك إلى نفسك. قال: يا رب اعف عني. قال: أكلك إلى نفسك سنة. قال: لا بعزتك. قال: فشهرا. قال: لا بعزتك. قال: فأسبوعا. قال: لا بعزتك. قال: فيوما. قال: لا بعزتك. قال: فساعة. قال: لا بعزتك. قال: فلحظة. فقال له الشيطان: وما قدر لحظة. قال: كلني إلى نفسي لحظة. فوكله الله إلى نفسه لحظة. وقيل له: هي في يوم كذا في وقت كذا. فلما جاء ذلك اليوم جعله للعبادة، ووكل الأحراس حول مكانه. قيل: أربعة آلاف. وقيل: ثلاثين ألفا أو ثلاثة وثلاثين ألفا. وخلا بعبادة ربه، ونشر الزبور بين يديه، فجاءت الحمامة فوقعت له، فكان من أمره في لحظته مع المرأة ما كان. وأرسل الله عز وجل إليه الملكين بعد ولادة سليمان، وضربا له المثل بالنعاج؛ فلما سمع المثل ذكر خطيئته فخر ساجدا أربعين ليلة على ما يأتي.
الثالثة- قوله تعالى: { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } لأنهما أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم. وقيل: لدخولهم عليه بغير إذنه. وقيل: لأنهم تسوروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب.

قال ابن العربي: وكان محراب داود عليه السلام من الامتناع بالارتفاع، بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة إلا أن يقيم إليه أياما أو أشهرا بحسب طاقته، مع أعوان يكثر عددهم، وآلات جمة مختلفة الأنواع. ولو قلنا: إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى مخبرا عن ذلك: { تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } إذ لا يقال تسور المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها، وجاءها من أسفلها إلا أن يكون ذلك مجازا؛ وإذا شاهدت الكوة التي يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعا أنهما ملكان؛ لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا علوي. قال الثعلبي: وقد قيل: كان المتسوران أخوين من بني إسرائيل لأب وأم. فلما قضى داود بينهما بقضية قال له ملك من الملائكة: فهلا قضيت بذلك على نفسك يا داود. قال الثعلبي: والأول أحسن أنهما كانا ملكين نبها داود على ما فعل.
قلت: وعلى هذا أكثر أهل التأويل. فإن قيل: كيف يجوز أن يقول الملكان { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } وذلك كذب والملائكة عن مثله منزهون. فالجواب عنه أنه لا بد في الكلام من تقدير؛ فكأنهما قالا: قدرنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق، وعلى ذلك يحمل قولهما: { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } لأن ذلك وإن كان بصورة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبه داود على ما فعل؛ والله أعلم.
الرابعة- إن قيل: لم فزع داود وهو نبي، وقد قويت نفسه بالنبوة، واطمأنت بالوحي، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة، وأظهر على يديه من الآيات، وكان من الشجاعة في غاية المكانة؟ قيل له: ذلك سبيل الأنبياء قبله، لم يأمنوا القتل والأذية ومنهما كان يخاف. ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا: { إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } فقال الله عز وجل: { لا تَخَافَا }. وقالت الرسل للوط: لا تخف { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } وكذا قال الملكان هنا: { لا تَخَفْ } . قال محمد بن إسحاق: بعث الله إليه ملكين يختصمان إليه وهو في محرابه - مثلا ضربه الله ولأوريا فرآهما واقفين على رأسه؛ فقال: ما أدخلكما علي؟ قالا: { لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } فجئناك لتقضي بيننا.

الخامسة- قال ابن العربي: فإن قيل كيف لم يأمر بإخراجهما إذ قد علم مطلبهما، وهلا أدبهما وقد دخلا عليه بغير إذن؟ فالجواب عليه من أربعة أوجه: الأول: أنا لم نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن، فيكون الجواب بحسب تلك الأحكام وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملا في هذه الأحكام، حتى أوضحها الله تعالى بالبيان. الثاني: أنا لو نزلنا الجواب على أحكام الحجاب، لاحتمل أن يكون الفزع الطارئ عليه أذهله عما كان يجب في ذلك له. الثالث: أنه أراد أن يستوفي كلامهما الذي دخلا له حتى يعلم آخر الأمر منه، ويرى هل يحتمل التقحم فيه بغير إذن أم لا؟ وهل يقترن بذلك عذر لهما أم لا يكون لهما عذر فيه؟ فكان من آخر الحال ما انكشف أنه بلاء ومحنة، ومثل ضربه الله في القصة، وأدب وقع على دعوى العصمة. الرابع: أنه يحتمل أن يكون في مسجد ولا إذن في المسجد لأحد إذ لا حجر فيه على أحد.
قلت: وقول خامس ذكره القشيري؛ وهو أنهما قالا: لما لم يأذن لنا الموكلون بالحجاب، توصلنا إلى الدخول بالتسور، وخفنا أن يتفاقم الأمر بيننا. فقبل داود عذرهم، وأصغى إلى قولهم.
السادسة- قوله تعالى: { خَصْمَانِ } إن قيل: كيف قال: { خَصْمَانِ } وقبل هذا: { إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } فقيل: لأن الاثنين جمع؛ قال الخليل: كما تقول نحن فعلنا إذا كنتما اثنين. وقال الكسائي: جمع لما كان خبرا، فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة، خبر الإثنان عن أنفسهما فقالا خصمان. وقال الزجاج: المعنى نحن خصمان. وقال غيره: القول محذوف؛ أي يقول: { َخَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } قال الكسائي: ولو كان بغى بعضهما على بعض، لجاز. الماوردي: وكانا ملكين، ولم يكونا خصمين ولا باغيين، ولا يتأتى منهما كذب؛ وتقدير كلامهما ما تقول: إن أتاك خصمان قالا بغى بعضنا على بعض. وقيل: أي نحن فريقان من الخصوم بغى بعضنا على بعض. وعلى هذا يحتمل أن تكون الخصومة بين اثنين ومع كل واحد جمع. ويحتمل أن يكون لكل واحد من هذا الفريق خصومة

مع كل واحد من الفريق الآخر، فحضروا الخصومات ولكن ابتدأ منهم اثنان، فعرف داود بذكر النكاح القصة. وأغنى ذلك عن التعرض للخصومات الأخر. والبغي التعدي والخروج عن الواجب. يقال: بغى الجرح إذا أفرط وجعه وترامى، إلى ما يفحش، ومنه بغت المرأة إذا أتت الفاحشة.
السابعة- قوله تعالى: { فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ } أي لا تجُر؛ قال السدي. وحكى أبو عبيد: شططت عليه وأشططت أي جرت. وفي حديث تميم الداري: "إنك لشاطي" أي جائر علي في الحكم. وقال قتادة: لا تمل. الأخفش: لا تسرف. وقيل: لا تفرط. والمعنى متقارب. والأصل فيه البعد من شطت الدار أي بعدت؛ شطت الدار تشط وتشط شطا وشطوطا بعدت. وأشط في القضية أي جار، وأشط في السوم واشتط أي أبعد، وأشطوا في طلبي أي امعنوا. قال أبو عمرو: الشطط مجاوزة القدر في كل شيء. وفي الحديث: "لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط" أي لا نقصان ولا زيادة. وفي التنزيل: { لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي جورا من القول وبعدا عن الحق. { وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ } أي أرشدنا إلى قصد السبيل.
الثامنة- قوله تعالى: { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } أي قال الملك الذي تكلم عن أوريا { إِنَّ هَذَا أَخِي } أي على ديني، وأشار إلى المدعى عليه. وقيل: أخي أي صاحبي. { لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } وقرأ الحسن: { تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } بفتح التاء فيهما وهي لغة شاذة، وهي الصحيحة من قراءة الحسن؛ قال النحاس. والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة؛ لما هي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب. وقد يكنى عنها بالبقرة والحجرة والناقة، لأن الكل مركوب. قال ابن عون:
أنا أبوهن ثلاث هنَّه ... رابعة في البيت صغراهنه
ونعجتي خمسا توفيهنه ... ألا فتى سمح يغذيهنه
طي النقا في الجوع يطويهنه ... ويل الرغيف ويله منهنه

وقال عنترة:
يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم
فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي ... فتجسسي أخبارها لي واعلمي
قالت رأيت من الأعادي غرة ... والشاة ممكنة لمن هو مرتم
فكأنما التفتت بجيد جداية ... رشأ من الغزلان حر أرثم
وقال آخر:
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
وهذا من أحسن التعريض حيث كنى بالنعاج عن النساء. قال الحسين بن الفضل: هذا من الملكين تعريض وتنبيه كقولهم ضرب زيد عمرا، وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق، كأنه قال: نحن خصمان هذه حالنا. قال أبو جعفر النحاس: وأحسن ما قيل في هذا أن المعنى: يقول: خصمان بغى بعضنا على بعض على جهة المسألة؛ كما تقول: رجل يقول لامرأته كذا، ما يجب عليه؟
قلت: وقد تأول المزني صاحب الشافعي هذه الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب الذي خرجه الموطأ وغيره: "هو لك يا عبد بن زمعة" على نحو هذا؛ قال المزني: يحتمل هذا الحديث عندي - والله أعلم - أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى، لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد، ولا على زمعة قول ابنه إنه ولد زنى، لأن كل، واحد منهما أخبر عن غيره. وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره. وقد ذكر الله سبحانه في كتابه مثل ذلك في، قصة داود والملائكة؛ إذ دخلوا عليه ففزع منهم، قالوا: لا تخف خصمان ولم يكونوا خصمين، ولاكان لواحد منهم تسع وتسعون نعجة، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرف بها ما أرادوا تعريفه. فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم

حكم في هذه القصة على المسألة، وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل في الحديث؛ فإنه عندي صحيح. والله أعلم.
التاسعة- قال النحاس: وفي قراءة ابن مسعود { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أنثى} و {كان} هنا مثل قول عز وجل: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } فأما قوله: {أنثى} فهو تأكيد، كما يقال: هو رجل ذكر وهو تأكيد. وقيل: لما كان يقال هذه مائة نعجة، وإن كان فيها من الذكور شيء يسير، جاز أن يقال: أنثى ليعلم أنه لا ذكر فيها. وفي التفسير: له تسع وتسعون امرأة. قال ابن العربي: إن كان جميعهن أحرارا فذلك شرعه، وإن كن إماء فذلك شرعنا. والظاهر أن شرع من تقدم قبلنا لم يكن محصورا بعدد، وإنما الحصر في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لضعف الأبدان وقلة الأعمار. وقال القشيري: ويجوز أن يقال: لم يكن له هذا العدد بعينه، ولكن المقصود ضرب مثل، كما تقول: لو جئتني مائة مرة لم أقض حاجتك، أي مرارا كثيرة. قال ابن العربي: قال بعض المفسرين: لم يكن لداود مائة امرأة، وإنما ذكر التسعة والتسعين مثلا؛ المعنى: هذا غني عن الزوجة وأنا مفتقر إليها. وهذا فاسد من، وجهين: أحدهما: أن العدول عن الظاهر بغير دليل، لا معنى له، ولا دليل يدل على أن شرع من قبلنا كان مقصورا من النساء على ما في شرعنا. الثاني: أنه روى البخاري وغيره أن سليمان قال: "لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله" وهذا نص
قوله تعالى: { وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } أي امرأة واحدة: { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي أنزل لي عنها حتى أكفلها. وقال ابن عباس: أعطنيها. وعنه: تحول لي عنها. وقال ابن مسعود. وقال أبو العالية: ضمها إلي حتى أكفلها. وقال ابن كيسان: اجعلها كفلي ونصيبي. { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي غلبني. قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني. يقال: عزه يعزه بضم العين في المستقبل عزا غلبه. وفي المثل: من عزيز؛ أي من غلب سلب. والاسم العزة وهي القوة والغلبة. قال الشاعر:
قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح

وقرأ عبدالله بن مسعود وعبيد بن عمير: { وَعَازَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي غالبني؛ من المعازة وهي المغالبة؛ عازه أي غالبه. قال ابن العربي: واختلف في سبب الغلبة؛ فقيل: معناه غلبني ببيانه. وقيل: غلبني بسلطانه؛ لأنه لما سأله لم يستطع خلافه. كان ببلادنا أمير يقال له: سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلا حاجة، فقال لي: أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها. فقلت: أما إذا كان عدلا فلا. فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته، كما عجب من جوابي له واستغربه.
الحادية عشرة- قوله تعالى: { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } قال النحاس: فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام؛ لأنه قال: لقد ظلمك من غير تثبت ببينة، ولا إقرار من الخصم؛ هل كان هذا كذا أولم يكن. فهذا قول.
وسيأتي بيانه في المسألة بعد هذا، وهو حسن إن شاء الله تعالى. وقال أبو جعفر النحاس: فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم؛ منهم عبدالله بن مسعود وابن عباس، فإنهم قالوا: ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك. قال أبو جعفر: فعاتبه الله عز وجل على ذلك ونبهه عليه، وليس هذا بكبير من المعاصي، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم، ويلحقه فيه إثم عظيم. كذا قال: في كتاب إعراب القرآن. وقال: في كتاب معاني القرآن له بمثله. قال رضي الله عنه: قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود عليه السلام وأوريا، وأكثرها لا يصح ولا يتصل إسناده، ولا ينبغي أن يجترأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها. وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسروق عن عبدالله بن مسعود قال: ما زاد داود عليه السلام على أن قال: { أَكْفِلْنِيهَا } أي انزل لي عنها. وروى المنهال عن سعيد بن جبير قال: ما زاد داود صلى الله عليه وسلم على أن قال: { أَكْفِلْنِيهَا } أي تحول لي عنها وضمها إلي. قال أبو جعفر: فهذا أجل ما روي في هذا، والمعنى عليه أن داود عليه السلام سأل أوريا أن يطلق امرأته، كما يسأل الرجل الرجل أن يبيعه جاريته، فنبهه الله

عز وجل على ذلك، وعاتبه لما كان نبيا وكان له تسع وتسعون أنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا بالتزيد منها، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه. قال ابن العربي: وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعا؛ فإن داود صلى الله عليه وسلم لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه: انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك، كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة؛ كانت في الأهل أو في المال. وقد قال سعيد بن الربيع لعبدالرحمن بن عوف حين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما: إن لي زوجتين أنزل لك عن أحسنهما؛ فقال له: بارك الله لك في أهلك. وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه، وليس في القرآن أن ذلك كان، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها، ولا ولادتها لسليمان، فعمن يروى هذا ويسند؟! وعلى من في نقله يعتمد، وليس يأثره عن الثقات الأثبات أحد. أما أن في سورة {الأحزاب} نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة، وذلك قوله: { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } يعني في أحد الأقوال: تزويج داود المرأة التي نظر إليها، كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش؛ إلا أن تزويج زينب كان من غير سؤال الزوج في فراق، بل أمره بالتمسك بزوجته، وكان تزويج داود للمرأة بسؤال زوجها فراقها. فكانت، هذه المنقبة لمحمد صلى الله عليه وسلم على داود مضافة إلى مناقبه العلية صلى الله عليه وسلم. ولكن قد قيل: إن معنى { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } تزويج الأنبياء بغير صداق من وهبت نفسها لهم من النساء بغير صداق. وقيل: أراد بقوله: { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } أن الأنبياء صلوات الله عليهم فرض لهم ما يمتثلونه في النكاح وغيره. وهذا أصح الأقوال. وقد روى المفسرون أن داود عليه السلام نكح مائة امرأة؛ وهذا نص القرآن. وروي أن سليمان كانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة جارية؛ وربك أعلم.وذكر الكيا الطبري في أحكامه في قول الله عز وجل: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } الآية: ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر، أن داود عليه

السلام كان قد أقدم على خطبة امرأة قد خطبها غيره، يقال: هو أوريا؛ فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه، وزاهدين في الخاطب الأول، ولم يكن بذلك داود عارفا، وقد كان يمكنه أن يعرف ذلك فيعدل عن هذه الرغبة، وعن الخطبة بها فلم يفعل ذلك، من حيث أعجب بها إما وصفا أومشاهدة على غير تعمد؛ وقد كان لداود عليه السلام من النساء العدد الكثير، وذلك الخاطب لا امرأة له، فنبه الله تعالى على ما فعل بما كان من تسور الملكين، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض؛ لكى يفهم من ذلك موقع العتب فيعدل عن هذه الطريقة، ويستغفر ربه من هذه الصغيرة.
الثانية عشرة- قوله تعالى: { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } فيه الفتوى في النازلة بعد السماع من أحد الخصمين، وقبل أن يسمع من الآخر بظاهر هذا القول. قال ابن العربي: وهذا مما لا يجوز عند أحد، ولا في ملة من الملل، ولا يمكن ذلك للبشر. وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين أدعى والآخر سلم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضى لأحدهما حتى تسمع من الآخر" وقيل: إن داود لم يقض للآخر حتى اعترف صاحبه بذلك. وقيل: تقديره لقد ظلمك إن كان كذلك. والله أعلم بتعيين ما يمكن من هذه الوجوه.
قلت: ذكر هذين الوجهين القشيري والماوردي وغيرهما. قال القشيري: وقوله: { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } من غير أن يسمع كلام الخصم مشكل؛ فيمكن أن يقال: إنما قال هذا بعد مراجعة الخصم الآخر وبعد اعترافه. وقد روي هذا وإن لم تثبت روايته، فهذا معلوم من قرائن الحال، أو أراد لقد ظلمك إن كان الأمر على ما تقول، فسكته بهذا وصبره إلى أن يسأل خصمه. قال ويحتمل أن يقال: كان من شرعهم التعويل على قول المدعي عند سكوت المدعى عليه، إذا لم يظهر منه إنكار بالقول. وقال الحليمي أبو عبدالله في كتاب منهاج الدين له: ومما جاء في شكر النعمة المنتظرة إذا حضرت، أوكانت خافية فظهرت: السجود لله عز وجل. قال والأصل في ذلك قول عز وجل: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ

الْخَصْمِ } إلى قوله: { وَحُسْنُ مَآبٍ } . أخبر الله عز وجل عن داود عليه السلام: أنه سمع قول المتظلم من الخصمين، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر، إنما حكى أنه ظلمه، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول، ودعاه ذلك إلى ألا يسأل الخصم؛ فقال له مستعجلا: { لَقَدْ ظَلَمَكَ } مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول: كانت لي مائة نعجة ولا شيء لهذا، فسرق مني هذه النعجة، فلما وجدتها عنده قلت له ارددها، وما قلت له أكفلنيها، وعلم أني مرافعه إليك، فجرني قبل أن أجره، وجاءك متظلما من قبل أن أحضره، لتظن أنه هو المحق وأني أنا الظالم. ولما تكلم داود بما حملته العجلة عليه، علم أن الله عز وجل خلاه ونفسه في ذلك الوقت، وهو الفتنة التي ذكرناها، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه، فاستغفر ربه وخر راكعا لله تعالى شكرا على أن عصمه، بأن اقتصر على تظليم المشكو، ولم يزده على ذلك شيئا من انتهار أو ضرب أو غيرهما، مما يليق بمن تصور في القلب أنه ظالم، فغفر الله له ثم أقبل عليه يعاتبه؛ فقال: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } فبان بما قصه الله تعالى من هذه الموعظة، التي توخاه بها بعد المغفرة، أن خطيئته إنما كانت التقصير في الحكم، والمبادرة إلى تظليم من لم يثبت عنده ظلمه. ثم جاء عن ابن عباس أنه قال: سجدها داود شكرا، وسجدها النبي صلى الله عليه وسلم اتباعا، فثبت أن السجود للشكر سنة متواترة عن الأنبياء صلوات الله عليهم. { بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } أي بسؤاله نعجتك؛ فأضاف المصدر إلى المفعول، وألقى الهاء من السؤال؛ وهو كقوله تعالى: { لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ } أي من دعائه الخير.
الثالثة عشرة- قوله تعالى: { وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ } يقال: خليط وخلطاء، ولا يقال طويل وطولاء؛ لثقل الحركة في الواو. وفيه وجهان: أحدهما: أنهما الأصحاب. الثاني: أنهما الشركاء.

قلت: إطلاق الخلطاء على الشركاء. فيه بعد، وقد اختلف العلماء في صفة الخلطاء فقال أكثر العلماء: هو أن يأتي كل واحد بغنمه فيجمعهما راع واحد والدلو والمراح. وقال طاوس وعطاء: لا يكون الخلطاء إلا الشركاء. وهذا خلاف الخبر؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجحان بينهما بالسوية" وروي: "فإنهما يترادان الفضل" ولا موضع لتراد الفضل بين الشركاء؛ فاعلمه. وأحكام الخلطة مذكورة في كتب الفقه. ومالك وأصحابه وجمع من العلماء لا يرون الصدقة على من ليس في حصته ما تجب فيه الزكاة. وقال الربيع والليث وجمع من العلماء منهم الشافعي: إذا كان في جميعها ما تجب فيه الزكاة أخذت منهم الزكاة. قال مالك: وإن أخذ المصدق بهذا ترادوا بينهم للاختلاف في ذلك، وتكون كحكم حاكم اختلف فيه.
الرابعة عشرة- قوله تعالى: { لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي يتعدى ويظلم. { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فإنهم لا يظلمون أحدا. { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } يعني الصالحين، أي وقليل هم فـ {ما} زائدة. وقيل: بمعنى الذين وتقديره وقليل الذين هم. وسمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل. فقال له عمر: ما هذا الدعاء. فقال أردت قول الله عز وجل: { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر!
الخامسة عشرة- قوله تعالى: { وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أي ابتليناه. { وَظَنَّ } معناه أيقن. قال أبو عمرو والفراء: ظن بمعنى أيقن، إلا أن الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاين أن يكون الظن إلا بمعنى اليقين. والقراءة { فَتَنَّاهُ } بتشديد النون دون التاء. وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه { فَتَنَّاهُ } بتشديد التاء والنون على المبالغة. وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السميقع { فَتَنَّاهُ } بتخفيفهما. ورواه علي بن نصر عن أبي عمرو، والمراد به الملكان اللذان دخلا على داود عليه السلام.

السادسة عشرة- قيل: لما قضى داود بينهما في المسجد، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فلم يفطن داود؛ فأحبا أن يعرفهما، فصعدا إلى السماء حيال وجهه، فعلم داود عليه السلام أن الله تعالى ابتلاه بذلك، ونبهه على ما ابتلاه.
قلت: وليس في القران ما يدل على، القضاء في المسجد إلا هذه الآية، وبها استدل من قال بجواز القضاء في المسجد، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي لما أقرهم داود على ذلك. ويقول: انصرفا إلى موضع القضاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء يقضون في المسجد، وقد قال مالك: القضاء في المسجد من الأمر القديم. يعني في أكثر الأمور. ولا بأس أن يجلس في رحبته؛ ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض، ولا يقيم فيه الحدود؛ ولا بأس بخفيف الأدب. وقد قال أشهب: يقضي في منزله وأين أحب.
السابعة عشرة- قال مالك رحمه الله: وكان الخلفاء يقضون بأنفسهم، وأول من استقضى معاوية. قال مالك: وينبغي للقضاة مشاورة العلماء. وقال عمر بن عبدالعزيز: لا يستقضي حتى يكون عالما بآثار من مضى، مستشيرا لذوي الرأي، حليما نزها. قال: ويكون ورعا. قال مالك: وينبغي أن يكون متيقظا كثير التحذر من الحيل، وأن يكون عالما بالشروط، عارفا بما لا بد له منه من العربية؛ فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات والدعاوى والإقرارات والشهادات والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له. وينبغي له أن يقول قبل إنجاز الحكم للمطلوب: أبقيت لك حجة؟ فإن قال لا حكم عليه، ولا يقبل منه حجة بعد إنفاذ حكمه إلا أن يأتي بما له وجه أوبينة. وأحكام القضاء والقضاة فيما لهم وعليهم مذكورة في غير هذا الموضع.
الثامنة عشرة- قوله تعالى: { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } اختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر منه على أقوال ستة: الأول: أنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها. قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنته النظرة. قال أبو إسحاق: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها، فصارت الأولى له والثانية عليه. الثاني: أنه أغزى زوجها في حملة التابوت. الثالث:

أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها. الرابع: أن أوريا كان خطب تلك المرأة، فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا. فعتب الله على داود إذ لم يتركها لخاطبها. وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة. الخامس: أنه لم يجزع على قتل أوريا، كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله تعالى على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله. السادس: أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر. قال القاضي ابن العربي: أما قول من قال: إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء، وكذلك تعريض زوجها للقتل. وأما من قال: إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال؛ لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب! وحكى السدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو سمعت رجلا يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرما لجلدته ستين ومائة؛ لأن حد قاذف الناس ثمانون وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة. ذكره الماوردي والثعلبي أيضا. قال الثعلبي: وقال الحارث الأعور عن علي: من حدث بحديث داود على ما ترويه القصاص معتقدا جلدته حدين؛ لعظم ما ارتكب برمي من قد رفع الله محله، وارتضاه من خلقه رحمة للعالمين، وحجة للمجتهدين. قال ابن العربي: وهذا مما لم يصح عن علي. فإن قيل: فما حكمه عندكم؟ قلنا: أما من قال إن نبيا زنى فإنه يقتل، وأما من نسب إليه ما دون ذلك من النظر والملامسة، فقد اختلف نقل الناس في ذلك؛ فإن صمم أحد على ذلك فيه ونسبه إليه قتلته، فإنه يناقض التعزير المأمور به، فأما قولهم: إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة، فلما رأته أسبلت شعرها فسترت جسدها، فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع من الأمة؛ لأن النظرة الأولى تكشف المنظور إليه ولا يأثم الناظر بها، فأما النظرة الثانية فلا أصل لها. وأما قولهم: إنه. نوى إن مات زوجها تزوجها فلا شيء فيه إذ لم يعرضه للموت، وأما قولهم: إنه خطب على خطبة أوريا فباطل يرده القرآن والآثار التفسيرية كلها.

وقد روى أشهب عن مالك قال: بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريبا من داود عليه السلام وهي من ذهب، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده، ثم صنع مثل ذلك مرتين، ثم طارت واتبعها ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي، تغتسل ولها شعر طويل؛ فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموع عينه. قال ابن العربي: وأما قول المفسرين إن الطائر درج عنده فهم بأخذه واتبعه فهذا لا يناقض العبادة؛ لأنه مباح فعله، لا سيما وهو حلال وطلب الحلال فريضة، وإنما أتبع الطير لذاته لا لجماله فإنه لا منفعة له فيه، وإنما ذكرهم لحسن الطائر خرق في الجهالة. أما أنه روي أنه كان طائرا من ذهب فاتبعه ليأخذه؛ لأنه من فضل الله سبحانه وتعالى كما روي في الصحيح: "إن أيوب عليه السلام كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحثي منه ويجعل في ثوبه، فقال الله تعالى له: "يا أيوب ألم أكن أغنيتك" قال: "بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك". وقال القشيري: فهم داود بأن يأخذه ليدفعه إلى ابن له صغير فطار ووقع على كوة البيت؛ وقاله الثعلبي أيضا وقد تقدم.
التاسعة عشرة- قوله تعالى: { وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } أي خر ساجدا، وقد يعبر عن السجود بالركوع. قال الشاعر:
فخر على وجهه راكعا ... وتاب إلى الله من كل ذنب
قال ابن العربي: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع ها هنا السجود؛ فإن السجود هو الميل، والركوع هو الانحناء، وأحدهما يدخل على الآخر، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئه، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر، فسمي السجود ركوعا. وقال المهدوي: وكان ركوعهم سجودا. وقيل: بل كان سجودهم ركوعا. وقال مقاتل: فوقع من ركوعه ساجدا لله عز وجل. أي لما أحس بالأمر قام إلى الصلاة، ثم وقع من الركوع إلى السجود؛ لاشتمالهما جميعا على الانحناء. { وَأَنَابَ } أي تاب من خطيئته ورجع إلى الله.

وقال الحسن بن الفضل: سألني عبدالله بن طاهر وهو الوالي عن قول الله عز وجل: { وَخَرَّ رَاكِعاً } فهل يقال للراكع خر؟. قلت: لا. قال: فما معنى الآية؟ قلت: معناها فخر بعد أن كان راكعا أي سجد.
الموفيه عشرين- واختلف في سجدة داود هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أم لا؟ فروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر: { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأ بها فتشزن الناس للسجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود" ونزل وسجد. وهذا لفظ أبي داود. وفي البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: {ص} ليست من عزائم القرآن، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. وقد روي من طريق عن ابن مسعود أنه قال: { ص } توبة نبي ولا يسجد فيها؛ وعن ابن عباس أنها توبة نبي ونبيكم ممن أمر أن يقتدى به. قال ابن العربي: والذي عندي أنها ليست موضع سجود، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به. ومعنى السجود أن داود سجد خاضعا لربه، معترفا بذنبه. تائبا من خطيئته؛ فإذا سجد أحد فيها فليسجد بهذه النية، فلعل الله أن يغفر له بحرمة داود الذي اتبعه، وسواء قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فإن هذا أمر مشروع في كل أمة لكل أحد. والله أعلم.
الحادية والعشرون- قال ابن خُوَيزِمَنداد: قوله: { وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } فيه دلالة على، أن السجود للشكر مفردا لا يجوز؛ لأنه ذكر معه الركوع؛ وإنما الذي يجوز أن يأتي بركعتين شكرا فأما سجدة مفردة فلا؛ وذلك أن البشارات كانت تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده، فلم ينقل عن أحد منهم أنه سجد شكرا، ولو كان ذلك مفعولا لهم لنقل نقلا متظاهرا لحاجة العامة إلى جوازه وكونه قربة.

قلت: وفي سنن ابن ماجة عن عبدالله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين. وخرج من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره - أو يسر به - خر ساجدا شكرا لله. وهذا قول الشافعي وغيره.
الثانية والعشرون- روى الترمذي وغيره واللفظ للغير: أن رجلا من الأنصار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل يستتر بشجرة وهو يقرأ: {ص والقرآن ذي الذكر} فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة، فسمعها وهي تقول: اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجرا، وارزقني بها شكرا.
قلت: خرج ابن ماجة في سننه عن ابن عباس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم،فأتاه رجل فقال: إني رأيت البارحة فيما يرى النائم، كأني أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم أحطط بها عني وزرا، واكتب لي بها أجرا، وأجعلها لي عندك ذخرا. قال ابن عباس فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {السجدة} فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة. ذكره الثعلبي عن أبي سعيد الخدري؛ قال: قلت يا رسول الله رأيتني في النوم كأني تحت شجرة والشجرة تقرأ {ص} فلما بلغت السجدة سجدت فيها، فسمعتها تقول في سجودها: اللهم أكتب لي بها أجرا، وحط عني بها وزرا، وارزقني بها شكرا، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "أفسجدت أنت يا أبا سعيد" فقلت: لا والله يا رسول الله. فقال: "لقد كنت أحق بالسجود من الشجرة" ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {ص} حتى بلغ السجدة فسجد، ثم قال مثل ما قالت الشجرة.
الثالثة والعشرون- قوله تعالى: { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أي فغفرنا له ذنبه. قال ابن الأنباري: { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } تام، ثم تبتدئ { وَإِنَّ لَهُ } وقال القشيري: ويجوز الوقف على { فَغَفَرْنَا لَهُ } ثم تبتدئ { ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ } كقوله: { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } أي الأمر ذلك.

وقال عطاء الخراساني وغيره: إن داود سجد أربعين يوما حتى نبت المرعى من حر جوفه وغمر رأسه، فنودي: أجائع فتطعم وأعار فتكسى؛ فنحب نحبة هاج المرعى من حر جوفه، فغفر له وستر بها. فقال: يا رب هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته، وكيف بفلان وكذا وكذا رجلا من بني إسرائيل، تركت أولادهم أيتاما، ونساءهم أرامل؟ قال: يا داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم أمكنه منك ثم أستوهبك منه بثواب الجنة. قال: يا رب هكذا تكون المغفرة الهينة. ثم قيل: يا داود ارفع رأسك. فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نشب في الأرض، فأتاه جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها. رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن عطاء. قال الوليد: وأخبرني منير بن الزبير، قال: فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله. قال الوليد قال ابن لهيعة: فكان يقول في سجوده سبحانك هذا شرابي دموعي وهذا طعامي في رماد بين يدي. في رواية: إنه سجد أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة، فبكى حتى نبت العشب من دموعه. وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن داود مكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده: يا رب داود زل زلة بعد بها ما بين المشرق والمغرب رب إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده فقال له جبريل بعد أربعين سنة يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به" وقال وهب: إن داود عليه السلام نودي أني قد غفرت لك. فلم يرفع رأسه حتى جاءه جبريل فقال: لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك؟ قال يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا. فقال الله لجبريل: اذهب إلى داود فقل له يذهب إلى قبر أوريا فيتحلل منه، فأنا أسمعه نداءه. فلبس داود المسوح وجلس عند قبر أوريا ونادى يا أوريا فقال: لبيك ! من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني؟ فقال: أنا أخوك داود أسألك أن تجعلني في حل فإني عرضتك للقتل قال: عرضتني للجنة فأنت في حل. وقال الحسن وغيره: كان داود عليه السلام بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين، ويقول: تعالوا إلى داود الخطاء، ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه. وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال

يبكي حتى يبتل بدموعه، وكان يذر عليه الرماد والملح فيأكل ويقول: هذا أكل الخاطئين. وكان قبل الخطيئة يقوم نصف اليل ويصوم نصف الدهر. ثم صام بعده الدهر كله وقام الليل كله. وقال: يا رب اجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته منقوشة في كفه. فكان لا يبسطها لطعام ولا شراب ولا شيء إلا رأها فأبكته، وإن كان ليؤتى بالقدح ثلثاه ماء، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه عن شفته حتى يفيض من دموعه. وروى الوليد بن مسلم: حدثني أبو عمرو الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل عيني داود مثل القربتين تنطفان ولقد خدد الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض". قال الوليد: وحدثنا عثمان بن ابن العاتكة أنه كان في قول داود. إذ هو خلو من الخطيئة شدة قوله في الخطائين أن كان يقول: اللهم لا تغفر للخطائين. ثم صار إلى أن يقول: اللهم رب اغفر للخاطئين لكي تغفر لداود معهم؛ سبحان خالق النور. إلهي خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني. إلهي أخطأت خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها؛ سبحان خالق النور. إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت الأرض برحبها علي، وإذا ذكرت رحمتك أرتد إلى روحي. وفي الخبر: أن داود عليه السلام كان إذا علا المنبر رفع يمينه فاستقبل بها الناس ليريهم نقش خطيئته؛ فكان ينادي: إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك أرتد إلي روحي؛ رب اغفر للخاطئين كي تغفر لداود معهم. وكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد، فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من الأفرشة كلها. وكان إذا كان يوم نوحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشعاب وعلى رؤوس الجبال وأفواه الغيران: ألا إن هذا يوم نوح داود، فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت داود فيسعده؛ فيهبط السياح من الغيران والأودية، وترتج الأصوات حول منبره والوحوش والسباع والطير عكف؛ وبنو إسرائيل حول منبره؛ فإذا أخذ في العويل والنوح، وأثارت الحرقات منابع دموعه، صارت الجماعة ضجة واحدة نوحا وبكاء، حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم. ومات داود عليه السلام فيما قيل يوم السبت فجأة؛ أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه وينزل؛

فقال: جئت لأقبض روحك. فقال: دعني حتى أنزل أو أرتقي. فقال: مالي إلى ذلك سبيل؛ نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق، فما أنت بمؤثر بعدها أثرا. قال: فسجد داود على مرقاة من الدرج فقبض نفسه على تلك الحال. وكان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة. وقيل: تسع وسبعون، وعاش مائة سنة، وأوصى إلى ابنه سليمان بالخلافة.
الرابعة والعشرون- قوله تعالى: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } قال محمد بن كعب ومحمد بن قيس: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى } قربة بعد المغفرة. { وَحُسْنَ مَآبٍ } قالا: والله إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود. وقال مجاهد عن عبدالله بن عمر: الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة. وعن مجاهد: يبعث داود يوم القيامة وخطيئته منقوشة في يده: فإذا رأى أهاويل يوم القيامة لم يجد منها محرزا إلا أن يلجأ إلى رحمة الله تعالى. قال: ثم يرى خطيئته فيقلق فيقال له ها هنا؛ ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا، ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا؛ حتى يقرب فيسكن فذلك قوله عز وجل: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } ذكره الترمذي الحكيم. قال: حدثنا الفضل بن محمد، قال حدثنا عبدالملك بن الأصبغ قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن عبدالملك بن أبي سليمان عن مجاهد فذكره. قال الترمذي: ولقد كنت أمر زمانا طويلا بهذه الآيات فلا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله: { رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا } والقط الصحيفة في اللغة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ }: وقال لهم: "إنكم ستجدون هذا كله في صحائفكم تعطونها بشمائلكم" قالوا: { رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا } أي صحيفتنا { قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } قال الله تعالى: { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ } فقص قصة خطيئته إلى منتهاها، فكنت أقول: أمره بالصبر على ما قالوا، وأمره بذكر داود فأي شيء أريد من هذا الذكر؟ وكيف اتصل هذا بذاك؟ فلا أقف على شيء يسكن قلبي عليه، حتى هداني الله له

يوما فألهمته أن هؤلاء أنكروا قول أنهم يعطون كتبهم بشمائلهم، فيها ذنوبهم وخطاياهم استهزاء بأمر الله؛ وقالوا: { رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } فأوجعه ذلك من استهزائهم، فأمره بالصبر على مقالتهم، وأن يذكر عبده داود؛ سأل تعجيل خطيئته أن يراها منقوشة في كفه، فنزل به ما نزل من أنه كان إذا رآها اضطرب وامتلأ القدح من دموعه، وكان إذا رآها بكى حتى تنفذ سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد، فإنما سألها بعد المغفرة وبعد ضمان تبعة الخصم، وأن الله تبارك وتعالى آسمه يستوهبه منه، وهو حبيبه ووليه وصفيه؛ فرؤية نقش الخطيئة بصورتها مع هذه المرتبة صنعت به هكذا، فكيف كان يحل بأعداء الله وبعصاته من خلقه وأهل خزيه، لو عجلت لهم صحائفهم فنظروا إلى صورة تلك الخطايا التي عملوها على الكفر والجحود، وماذا يحل بهم إذا نظروا إليها في تلك الصحائف، وقد أخبر الله عنهم فقال: { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } فداود صلوات الله عليه مع المغفرة والبشرى والعطف لم يقم لرؤية صورتها. وقد روينا في الحديث: إذا رآها يوم القيامة منقوشة في كفه قلق حتى يقال له ها هنا، ثم يرى فيقلق ثم يقال ها هنا، ثم يرى فيقلق حتى يقرب فيسكن.
الآية: [26] { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }
فيه خمس مسائل:
الأولى- قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ } أي ملكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين وقد مضى في {البقرة} القول في الخليفة وأحكامه مستوفى والحمد لله.

الثانية- قوله تعالى: { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } أي بالعدل وهو أمر على الوجوب وقد ارتبط هذا بما قبله، وذلك أن الذي عوتب عليه داود طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل. فقيل له بعد هذا؛ فاحكم بين الناس بالعدل { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى } أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله. { فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي عن طريق الجنة. { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي يحيدون عنها ويتركونها { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في النار { بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } أي بما تركوا من سلوك طريق الله؛ فقوله: { نَسُوا } أي تركوا الإيمان به، أو تركوا العمل به فصاروا كالناسين. ثم قيل: هذا لداود لما أكرمه الله بالنبوة. وقيل: بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته.
الثالثة- الأصل في الأقضية قوله تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } وقوله: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وقوله تعالى: { ِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } الآية. وقد تقدم الكلام فيه.
الرابعة- قال ابن عباس في قوله تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } قال: إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوى، فلا تشته في نفسك الحق له ليفلح على صاحبه، فإن فعلت محوت اسمك من نبوتي، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي. فدل هذا على بيان وجوب الحكم بالحق، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أوصداقة، أوغيرهما. وقال ابن عباس: إنما ابتلي سليمان بن داود عليه السلام، لأنه تقدم إليه خصمان فهوي أن يكون الحق لأحدهما. وقال عبدالعزيز بن أبي رواد: بلغني أن قاضيا كان في زمن بني إسرائيل، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه

أن يجعل بينه وبينه علما، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك؛ وإذا هو قصر عرف ذلك، فقيل له: ادخل منزلك، ثم مد يدك في جدارك، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطا؛ فإذا أنت قمت من مجلس القضاء، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه، وإن قصرت عن الحق قصر بك، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاما ولا شرابا، ولم يفض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحل الله له من أهل أو مطعم أو مشرب. فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء، أقبل إليه رجلان يريدانه: فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه، وكان أحدهما له صديقا وخدنا، فتحرك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له، فلما أن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم، فمد يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمر إلى السقف، وإذا هو لا يبلغه فخر ساجدا وهو يقول: يا رب شيئا لم أتعمده ولم أرده فبينه لي. فقيل له: أتحسبن أن الله تعالى لم يطلع على خيانة قلبك، حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك لتقضي له به، قد أردته وأحببته ولكن الله قد رد الحق إلى أهله وأنت كاره.وعن ليث قال: تقدم إلى عمر بن الخطاب خصمان فأقامهما، ثم عادا فأقامهما، ثم عادا ففصل بينهما، فقيل له في ذلك، فقال: تقدما إلي فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه، فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك، ثم،عادا فوجدت بعض ذلك له، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما. وقال الشعبي: كان بين عمر وأُبيّ خصومة، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت، فلما دخلا عليه أشار لعمر إلى وسادته، فقال عمر: هذا أول جورك؛ أجلسني وإياه مجلسا واحدا؛ فجلسا بين يديه.
الخامسة- هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه؛ لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به. ونحو ذلك روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر؛ قال: لو رأيت رجلا على حد من حدود

الله، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري. وروي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له: احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده. فقال لها: إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد؛ وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى فرسا فجحده البائع، فلم يحكم عليه بعلمه وقال: "من يشهد لي" فقام خزيمة فشهد فحكم. خرج الحديث أبو داود وغيره وقد مضى في {البقرة}.
الآية: [27] { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ }
الآية: [28] { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ }
الآية: [29] { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ }
قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } أي هزلا ولعبا. أي ما خلقناهما إلا لأمر صحيح وهو الدلالة على قدرتنا. { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي حسبان الذين كفروا أن الله خلقهما باطلا. { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } ثم وبخهم فقال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } والميم صلة تقديره: أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات { كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ } فكان في هذا رد على المرجئة؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يكون المفسد كالصالح أو أرفع درجة منه. وبعده أيضا: { أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } أي أنجعل أصحاب محمد عليه السلام كالكفار؛ قاله ابن عباس. وقيل هو عام في المسلمين المتقين والفجار الكافرين وهو أحسن، وهو رد على منكري البعث الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شيء واحد.

قوله تعالى: { كِتَابٌ } أي هذا كتاب { أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } أي { أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } يا محمد { لِيَدَّبَّرُوا } أي ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال. وفي هذا دليل على، وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذ؛ إذ لا يصح التدبر مع الهذ على ما بيناه في كتاب التذكار. وقال الحسن: تدبر آيات الله اتباعها. وقراءة العامة { لِيَدَّبَّرُوا }. وقرأ أبو حنيفة وشيبة: { لِيَدَّبَّرُوا } بتاء وتخفيف الدال، وهي قراءة علي رضي الله عنه، والأصل لتتدبروا فحذف إحدى التاءين تخفيفا { وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ } أي أصحاب العقول واحدها لب، وقد جمع على ألب، كما جمع بؤس على أبؤس، ونعم على أنعم؛ قال أبو طالب:
قلبي إليه مشرف الألب
وربما أظهروا التضعيف في ضرورة الشعر؛ قال الكميت:
إليكم ذوي آل النبي تطلعت
نوازع من قلبي ظماء وألبب
الآية: [30] { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }
الآية: [31] { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ }
الآية: [32] { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ }
الآية: [33] { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ }
قوله تعالى: { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } لما ذكر داود ذكر سليمان و { أَوَّابٌ } معناه مطيع. { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } يعني الخيل جمع جواد للفرس إذا كان شديد الحضر؛ كما يقال للإنسان جواد إذا كان كثير العطية غزيرها؛ يقال: قوم أجواد وخيل جياد، جاد الرجل بماله يجود جودا فهو جواد، وقوم جود مثال

قذال وقذل، وإنما سكنت الواو لأنها حرف علة، وأجواد وأجاود وجوداء، وكذك امرأة جواد ونسوة جود مثل نوار ونور، قال الشاعر:
صناع بإشفاها حصان بشكرها ... جواد بقوت البطن والعرق زاخر
وتقول: سرنا عقبة جوادا، وعقبتين جوادين، وعقبا جيادا. وجاد الفرس أي صار رائعا يجود جودة بالضم فهو جواد للذكر والأنثى، من خيل جياد وأجياد وأجاويد. وقيل: إنها الطوال الأعناق مأخوذ من الجيد وهو العنق؛ لأن طول الأعناق في الخيل من صفات فراهتها. وفي الصافنات أيضا وجهان: أحدهما: أن صفونها قيامها. قال القتبي والفراء: الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أوغيرها. ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار" أي يديمون له القيام؛ حكاه قطرب أيضا وأنشد قول النابغة:
لنا قبة مضروبة بفنائها ... عتاق المهارى والجياد الصوافن
وهذا قول قتادة. الثاني أن صفونها رفع إحدى اليدين على طرف الحافر حتى يقوم على ثلاث كما قال الشاعر:
ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
وهذا قول مجاهد. قال الكلبي: غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس. وقال مقاتل: ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس، وكان أبوه أصابها من العمالقة. وقال الحسن: بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة. وقاله الضحاك. وأنها كانت خيلا أخرجت لسليمان من البحر منقوشة ذات أجنحة. ابن زيد: أخرج

الشيطان لسليمان الخيل من البحر من مروج البحر، وكانت لها أجنحة. وكذلك قال علي رضي الله عنه: كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة. وقيل: كانت مائة فرس. وفي الخبر عن إبراهيم التيمي: أنها كانت عشرين ألفا، فالله أعلم. فقال: { إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } يعني بالخير الخيل، والعرب تسميها كذلك، وتعاقب بين الراء واللام؛ فتقول: انهملت العين وانهمرت، وختلت وخترت إذا خدعت. قال الفراء: الخير في كلام العرب والخيل واحد. النحاس: في الحديث: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" فكأنها سميت خيرا لهذا. وفي الحديث: لما وفد زيد الخيل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: "أنت زيد الخير" وهو زيد بن مهلهل الشاعر. وقيل: إنما سميت خيرا لما فيها من المنافع. وفي الخبر: إن الله تعالى عرض على آدم جميع الدواب، وقيل له: اختر منها واحدا فاختار الفرس؛ فقيل له: اخترت عزك؛ فصار اسمه الخير من هذا الوجه. وسمي خيلا؛ لأنها موسومة بالعز. وسمي فرسا لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وثبانا، ويقطعها كالالتهام بيديه على كل شيء خبطا وتناولا. وسمي عربيا لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت، وإسماعيل عربي فصارت له نحلة من الله؛ فسمى عربيا. و { حُبَّ } مفعول في قول الفراء. والمعنى إني آثرت حب الخير. وغيره يقدره مصدرا أضيف إلى المفعول؛ أي أحببت الخير حبا فألهاني عن ذكر ربي. وقيل: إن معنى { أَحْبَبْتُ } قعدت وتأخرت من قولهم: أحب البعير إذا برك وتأخر. وأحب فلان أي طأطأ رأسه. قال أبو زيد: يقال: بعير محب، وقد أحب إحبابا وهو أن يصيبه مرض أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت. وقال ثعلب: يقال أيضا للبعير الحسير محب؛ فالمعنى قعدت عن ذكر ربي. و { حُبَّ } على هذا مفعول له. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان: أحببت بمعنى لزمت؛ من قوله:
مثل بعير السوء إذ أحبا

قوله تعالى: { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } يعني الشمس كناية عن غير مذكور؛ مثل قوله تعالى: { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } أي على ظهر الأرض؛ وتقول العرب: هاجت باردة أي هاجت الريح باردة. وقال الله تعالى: { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } أي بلغت النفس الحلقوم. وقال تعالى: { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } ولم يتقدم للنار ذكر. وقال الزجاج: إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء أو دليل الذكر، وقد جرى ها هنا الدليل وهو قوله: { بِالْعَشِيِّ }. والعشي ما بعد الزوال، والتواري الاستتار عن الأبصار، والحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق؛ قاله قتادة وكعب. وقيل: هو جبل قاف. وقيل: جبل دون قاف. والحجاب الليل سمي حجابا لأنه يستر ما فيه. وقيل: { حَتَّى تَوَارَتْ } أي الخيل في المسابقة. وذلك أن سليمان كان له ميدان مستدير يسابق فيه بين الخيل، حتى توارت عنه وتغيب عن عينه في المسابقة؛ لأن الشمس لم يجر لها ذكر. وذكر النحاس أن سليمان عليه السلام كان في صلاة فجيء إليه بخيل لتعرض عليه قد غنمت فأشار بيده لأنه كان يصلي حتى توارت الخيل وسترتها جدر الإصطبلات فلما فرغ من صلاته قال: { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً } أي فأقبل يمسحها مسحا. وفي معناه قولان: أحدهما: أنه أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها، وليرى أن الجليل لا يقبح أن يفعل مثل هذا بخيله. وقال قائل هذا القول: كيف يقتلها؟ وفي ذلك إفساد المال ومعاقبة من لا ذنب له. وقيل: المسح ها هنا هو القطع أذن له في قتلها. قال الحسن والكلبي ومقاتل: صلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه، وكانت ألف فرس؛ فعرض عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة، ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم؛ فقال: { رُدُّوهَا عَلَيَّ } فردت فعقرها بالسيف؛ قربة لله وبقي منها مائة، فما في أيدي الناس من الخيل العتاق اليوم فهي من نسل تلك الخيل. قال القشيري: وقيل: ما كان في ذلك الوقت صلاة الظهر ولا صلاة العصر، بل كانت تلك الصلاة نافلة فشغل عنها. وكان سليمان عليه السلام رجلا مهيبا، فلم يذكره أحد ما نسي من الفرض أو النفل وظنوا التأخر مباحا، فتذكر سليمان تلك

الصلاة الفائتة، وقال على سبيل التلهف: { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } أي عن الصلاة، وأمر برد الأفراس إليه، وأمر بضرب عراقيبها وأعناقها، ولم يكن ذلك معاقبة للأفراس؛ إذ ذبح البهائم جائز إذا كانت مأكولة، بل عاقب نفسه حتى لا تشغله الخيل بعد ذلك عن الصلاة. ولعله عرقبها ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار، ثم ذبحها في الحال، ليتصدق بلحمها؛ أو لأن ذلك كان مباحا في شرعه فأتلفها لما شغلته عن ذكر الله، حتى يقطع عن نفسه ما يشغله عن الله، فأثنى الله عليه بهذا، وبين أنه أثابه بأن سخر له الريح، فكان يقطع عليها من المسافة في يوم ما يقطع مثله على الخيل في شهرين غدوا ورواحا. وقد قيل: إن الهاء في قوله: { رُدُّوهَا عَلَيَّ } للشمس لا للخيل.
قال ابن عباس: سألت عليا عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها؟ فقلت سمعت كعبا يقول: إن سليمان لما اشتغل بعرض الأفراس حتى توارت الشمس بالحجاب وفاتته الصلاة، قال: { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } أي آثرت { حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } الآية { رُدُّوهَا عَلَيَّ } يعني الأفراس وكانت أربع عشرة؛ فضرب سوقها وأعناقها بالسيف، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما؛ لأنه ظلم الخيل. فقال علي بن أبي طالب: كذب كعب لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس للجهاد حتى توارت أي غربت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس: { رُدُّوهَا } يعني الشمس فردوها حتى صلى العصر في وقتها، وأن أنبياء الله لا يظلمون لأنهم معصومون.
قلت: الأكثر في التفسير أن التي توارت بالحجاب هي الشمس، وتركها لدلالة السامع عليها بما ذكر مما يرتبط بها ومتعلق بذكرها، حسب ما تقدم بيانه. وكثيرا ما يضمرون الشمس؛ قال لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
والهاء في { رُدُّوهَا } للخيل، ومسحها قال الزهري وابن كيسان: كان يمسح سوقها وأعناقها، ويكشف الغبار عنها حبا لها. وقال الحسن وقتادة وابن عباس. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رئي وهو يمسح فرسه بردائه. وقال: "إني عوتبت الليلة في الخيل"

خرجه الموطأ عن يحيى بن سعيد مرسلا. وهوفي غير الموطأ مسند متصل عن مالك عن يحيى بن سعيد عن أنس. وقد مضى في {الأنفال} قوله عليه السلام: "وامسحوا بنواصيها وأكفالها" وروى ابن وهب عن مالك أنه مسح أعناقها وسوقها بالسيوف.
قلت: وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية في تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان، هذا. وهو استدلال فاسد؛ لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبي معصوم أنه فعل الفساد. والمفسرون اختلفوا في معنى الآية؛ فمنهم من قال: مسح على أعناقها وسوقها إكراما لها وقال: أنت في سبيل الله؛ فهذا إصلاح. ومنهم من قال: عرقبها ثم ذبحها، وذبح الخيل وأكل لحمها جائز. وقد مضى في {النحل} بيانه. وعلى هذا فما فعل شيئا عليه فيه جناح. فأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح فإنه لا يجوز. ومن الجائز أن يكون في شريعة سليمان جواز ما فعل، ولا يكون في شرعنا. وقد قيل: إنما فعل بالخيل ما فعل بإباحة الله جل وعز له ذلك. وقد قيل: إن مسحه إياها وسمها بالكي وجعلها في سبيل الله؛ فالله أعلم. وقد ضعف هذا القول من حيث أن السوق ليست بمحل للوسم بحال. وقد يقال: الكي على الساق علاط، وعلى العنق وثاق. والذي في الصحاح للجوهري: علط البعير علطا كواه في عنقه بسمة العلاط. والعلاطان جانبا العنق.
قلت: ومن قال إن الهاء في { رُدُّوهَا } ترجع للشمس فذلك من معجزاته. وقد اتفق مثل ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم. خرج الطحاوي في مشكل الحديث عن أسماء بنت عميس من طريقين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصليت يا علي" قال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فأردد عليه الشمس" قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها بعدما غربت طلعت على الجبال والأرض، وذلك بالصهباء في خيبر. قال الطحاوي: وهذان الحديثان ثابتان، ورواتهما ثقات.

قلت: وضعف أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث فقال: وغلو الرافضة في حب علي عليه السلام حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله؛ منها أن الشمس غابت ففاتت عليا عليه السلام العصر فردت له الشمس، وهذا من حيث النقل محال، ومن حيث المعنى فإن الوقت قد فات وعودها طلوع متجدد لا يرد الوقت. ومن قال: أن الهاء ترجع إلى الخيل، وأنها كانت تبعد عن عين سليمان في السباق، ففيه دليل على المسابقة بالخيل وهو أمر مشروع. وقد مضى القول فيه في {يوسف}.
الآية: [34] { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ }
الآية: [35] { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }
الآية: [36] { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ }
الآية: [37] { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ }
الآية: [38] { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ }
الآية: [39] { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
الآية: [40] { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ }
قوله تعالى: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة، وملك بعد الفتنة عشرين سنة؛ ذكره الزمخشري. و { فَتَنَّا } أي ابتلينا وعاقبنا. وسبب ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: اختصم إلى سليمان عليه السلام فريقان أحدهما من أهل جرادة امرأة سليمان؛ وكان يحبها فهوى أن يقع القضاء لهم، ثم قضى بينهما بالحق، فأصابه الذي أصابه عقوبة لذلك الهوى. وقال سعيد بن المسيب: إن سليمان عليه السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد، ولا ينصف مظلوما من ظالم، فأوحى الله تعالى إليه: "إنى لم أستخلفك لتحتجب عن عبادي ولكن لتقضي بينهم وتنصف مظلومهم".

وقال شهر بن حوشب ووهب بن منبه: إن سليمان عليه السلام سبى بنت ملك غزاه في البحر، في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون. فألقيت عليه محبتها وهي تعرض عنه، لا تنظر إليه إلا شزرا، ولا تكلمه إلا نزرا، وكان لا يرقأ لها دمع حزنا على أبيها، وكانت في غاية من الجمال، ثم إنها سألته أن يصنع لها تمثالا على صورة أبيها حتى تنظر إليه، فأمر فصنع لها فعظمته وسجدت له، وسجدت معها جواريها، وصار صنما معبودا في داره وهو لا يعلم، حتى مضت أربعون ليلة، وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره، وحرقه ثم ذراه في البحر. وقيل: إن سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون واسمها جرادة - فيما ذكر الزمخشري - أعجب بها، فعرض عليها الإسلام فأبت، فخوفها فقالت: اقتلني ولا أسلم فتزوجها وهي مشركة فكانت تعبد صنما لها من ياقوت أربعين يوما في خفية من سليمان إلى أن أسلمت فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما. وقال كعب الأحبار: إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه. وقال الحسن: إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أوغيره. وقيل: إنه أمر ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غيرهم، فعوقب على ذلك؛ والله أعلم.
قوله تعالى: { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً } قيل: شيطان في قول أكثر أهل التفسير؛ ألقى الله شبه سليمان عليه السلام عليه، واسمه صخر بن عمير صاحب البحر، وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر سليمان ببناء بيت المقدس، فصوتت الحجارة لما صنعت بالحديد، فأخذوا الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والفصوص وغيرها ولا تصوت. قال ابن عباس: كان ماردا لا يقوى عليه جميع الشياطين، ولم يزل يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان بن داود، وكان سليمان لا يدخل الكنيف بخاتمه، فجاء صخر في صورة سليمان حتى أخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان أم ولد له يقال لها الأمينة؛ قال شهر ووهب. وقال ابن عباس وابن جبير: اسمها جرادة. فقام أربعين يوما على ملك سليمان وسليمان هارب، حتى رد الله عليه الخاتم والملك. وقال سعيد بن المسيب: كان سليمان قد وضع خاتمه تحت فراشه، فأخذه الشيطان من تحته.

وقال مجاهد: أخذه الشيطان من يد سليمان؛ لأن سليمان سأل الشيطان وكان اسمه آصف: كيف تضلون الناس؟ فقال له الشيطان: أعطني خاتمك حتى أخبرك. فأعطاه خاتمه، فلما أخذ الشيطان الخاتم جلس على كرسي سليمان، متشبها بصورته، داخلا على نسائه، يقضي بغير الحق، ويأمر بغير الصواب.
واختلف في إصابته لنساء سليمان، فحكي عن ابن عباس ووهب بن منبه: أنه كان يأتيهن في حيضهن. وقال مجاهد: منع من إتيانهن وزال عن سليمان ملكه فخرج هاربا إلى ساحل البحر يتضيف الناس؛ ويحمل سموك الصيادين بالأجر، وإذا أخبر الناس أنه سليمان أكذبوه. قال قتادة: ثم إن سليمان بعد أن استنكر بنو إسرائيل حكم الشيطان أخذ حوته من صياد. قيل: إنه استطعمها. وقال ابن عباس: أخذها أجرة في حمل حوت. وقيل: إن سليمان صادها فلما شق بطنها وجد خاتمه فيها، وذلك بعد أربعين يوما من زوال ملكه، وهي عدد الأيام التي عبد فيها الصنم في داره، وإنما وجد الخاتم في بطن الحوت؛ لأن الشيطان الذي أخذه ألقاه في البحر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بينما سليمان على شاطئ البحر وهو يعبث بخاتمه، إذ سقط منه في البحر وكان ملكه في خاتمه. وقال جابر بن عبدالله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلا الله محمد رسول الله". وحكى يحيى بن أبي عمرو الشيباني أن سليمان وجد خاتمه بعسقلان، فمشى منها إلى بيت المقدس تواضعا لله تعالى. قال ابن عباس وغيره: ثم إن

سليمان لما رد الله عليه ملكه، أخذ صخرا الذي أخذ خاتمه، ونقر له صخرة وأدخله فيها، وسد عليه بأخرى وأوثقها بالحديد والرصاص، وختم عليها بخاتمه وألقاها في البحر، وقال: هذا محبسك إلى يوم القيامة.وقال علي رضي الله عنه: لما أخذ سليمان الخاتم، أقبلت إليه الشياطين والجن والإنس والطير والوحش والريح، وهرب الشيطان الذي خلف في أهله، فأتى جزيرة في البحر، فبعث إليه الشياطين فقالوا: لا نقدر عليه، ولكنه يرد عينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوما، ولا نقدر عليه حتى يسكر! قال: فنزح سليمان ماءها وجعل فيها خمرا، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر، فقال: والله إنك لشراب طيب إلا أنك تطيشين الحليم، وتزيدين الجاهل جهلا. ثم عطش عطشا شديدا ثم أتاه فقال مثل مقالته، ثم شربها فغلبت على عقله؛ فأروه الخاتم فقال: سمعا وطاعة. فأتوا به سليمان فأوثقه وبعث به إلى جبل، فذكروا أنه جبل الدخان فقالوا: إن الدخان الذي ترون من نفسه، والماء الذي يخرج من الجبل من بوله. وقال مجاهد: اسم ذلك الشيطان آصف. وقال السدي اسمه حبقيق؛ فالله أعلم. وقد ضعف هذا القول من حيث إن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء، ثم من المحال أن يلتبس على أهل مملكة سليمان الشيطان بسليمان حتى يظنوا أنهم مع نبيهم في حق، وهم مع الشيطان في باطل. وقيل: إن الجسد وَلدٌ وُلِدَ لسليمان، وأنه لما ولد اجتمعت الشياطين؛ وقال بعضهم لبعض: إن عاش له ابن لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسخرة، فتعالوا نقتل ولده أو نخبله. فعلم سليمان بذلك فأمر الريح حتى حملته إلى السحاب، وغدا ابنه في السحاب خوفا من مضرة الشياطين، فعاقبه الله بخوفه من الشياطين، فلم يشعر إلا وقد وقع على كرسيه ميتا. قال معناه الشعبي. فهو الجسد الذي قال الله تعالى: { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً }.
وحكى النقاش وغيره: إن أكثر ما وطئ سليمان جواريه طلبا للولد، فولد له نصف إنسان، فهو كان الجسد الملقى على كرسيه جاءت به القابلة فألقته هناك. وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال سليمان لأطوفن الليلة على

تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون" وقيل: إن الجسد هو آصف بن برخيا الصديق كاتب سليمان، وذلك أن سليمان لما فتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه، فأعاده إلى يده فسقط فأيقن بالفتنة؛ فقال له آصف: إنك مفتون ولذلك لا يتماسك في يدك، ففر إلى الله تعالى تائبا من ذلك، وأنا أقوم مقامك في عالمك إلى أن يتوب الله عليك، ولك من حين فتنت أربعة عشر يوما. ففر سليمان هاربا إلى ربه، وأخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت، وكان عنده علم من الكتاب. وقام آصف في ملك سليمان وعياله، يسير بسيره ويعمل بعمله، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله تعالى، ورد الله عليه ملكه؛ فأقام آصف في مجلسه، وجلس على كرسيه وأخذ الخاتم. وقيل: إن الجسد كان سليمان نفسه؛ وذلك أنه مرض مرضا شديدا حتى صار جسدا. وقد يوصف به المريض المضنى فيقال: كالجسد الملقى.
صفة كرسي سليمان وملكه
روي عن ابن عباس قال: كان سليمان يوضع له ستمائة كرسي، ثم يجيء أشراف الناس فيجلسون مما يليه، ثم يأتي أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتقلهم، وتسير بالغداة الواحدة مسيرة شهر. وقال وهب وكعب وغيرهما: إن سليمان عليه السلام لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء، وأمر أن يعمل بديعا مهولا بحيث إذا رأه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيب؛ فأمر أن يعمل من أنياب الفيلة مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد، وأن يحف بنخيل الذهب؛ فحف بأربع نخلات من ذهب، شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، على رأس نخلتين منهما طاووسان من ذهب، وعلى رأس نخلتين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض، وجعلوا من جنبي الكرسي أسدين من ذهب، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر.

وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي. وكان سليمان عليه السلام إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها، ويبسط الأسدان أيديهما، ويضربان الأرض بأذنابهما. وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأسه، ثم يستدير الكرسي بما فيه، ويدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلان برؤوسهما إلى سليمان، وينضحن عليه من أجوافهن المسك والعنبر، ثم تناول حمامة من ذهب قائمة على عمود من أعمدة الجواهر فوق الكرسي التوراة، فيفتحها سليمان عليه السلام ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء. قالوا: ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة بالجواهر، وهي ألف كرسي عن يمينه، ويجلس عظماء الجن على كراسي الفضة عن يساره وهي ألف كرسي، ثم تحف بهم الطير تظلهم، ويتقدم الناس لفصل القضاء. فإذا تقدمت الشهود للشهادات، دار الكرسي بما فيه وعليه دوران الرحى المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما، وينشر النسران والطاووسان أجنحتهما، فتفزع الشهود فلا يشهدون إلا بالحق.وقيل: إن الذي كان يدور بذلك الكرسي تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه، وهو عظم مما عمله له صخر الجني؛ فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسد والطواويس التي في أسفل الكرسي إلى أعلاه درن معه، فإذا وقفن وقفن كلهن عل رأس سليمان وهو جالس، ثم ينضحن جميعا على رأسه ما في أجوافهن من المسك والعنبر. فلما توفي سليمان بعث بختنصر فأخذ الكرسي فحمله إلى أنطاكية، فأراد أن يصعد إليه ولم يكن له علم كيف يصعد إليه؛ فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله فكسرها، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعا. ومات بختنصر وحمل الكرسي إلى بيت المقدس، فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه، ولكن لم يدر أحد عاقبة أمره ولعله رفع.

قوله تعالى: { ثُمَّ أَنَابَ } أي رجع إلى الله وتاب. وقد تقدم.
قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي } أي اغفر لي ذنبي { وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } يقال: كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا، مع ذمها من الله تعالى، وبغضه لها، وحقارتها لديه؟. فالجواب أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله تعالى وسياسة ملكه، وترتيب منازل خلقه، وإقامة حدوده، والمحافظة على رسومه، وتعظيم شعائره، وظهور عبادته، ولزوم طاعته، ونظم قانون الحكم النافذ عليهم منه، وتحقيق الوعود في أنه يعلم ما لا يعلم أحد من خلقه حسب ما صرح بذلك لملائكته فقال: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } وحوشي سليمان عليه السلام أن يكون سؤاله طلبا لنفس الدنيا؛ لأنه هو والأنبياء أزهد خلق الله فيها، وإنما سأل مملكتها لله، كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله؛ فكانا محمودين مجابين إلى ذلك، فأجيب نوح فأهلك من عليها، وأعطى سليمان المملكة. وقد قيل: أن ذلك كان بأمر من الله جل وعز على الصفة التي علم الله أنه لا يضبطه إلا هو وحده دون سائر عباده، أو أراد أن يقول ملكا عظيما فقال: { لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } وهذا فيه نظر. والأول أصح. ثم قال له: { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال الحسن: ما من أحد إلا ولله عليه تبعة في نعمه غير سليمان بن داود عليه السلام فإنه قال: { هَذَا عَطَاؤُنَا } الآية.
قلت: وهذا يرد ما روي في الخبر: إن آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داود عليه السلام لمكان ملكه في الدنيا. وفي بعض الأخبار: يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفا؛ ذكره صاحب القوت وهو حديث لا أصل له؛ لأنه سبحانه إذا كان عطاؤه لا تبعة فيه لأنه من طريق المنة، فكيف يكون آخر الأنبياء دخولا الجنة، وهو سبحانه يقول: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ }. وفي الصحيح: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته..." الحديث. وقد تقدم فجعل له من قبل السؤال حاجة مقضية، فلذلك لم تكن عليه تبعة. ومعنى قوله: { لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } أي أن يسأله. فكأنه سأل منع السؤال بعده، حتى لا يتعلق به أمل أحد، ولم يسأل منع الإجابة. وقيل: إن سؤاله ملكا لا ينبغي

لأحد من بعده؛ ليكون محله وكرامته من الله ظاهرا في خلق السموات والأرض؛ فإن الأنبياء عليهم السلام لهم تنافس في المحل عنده، فكل يحب أن تكون له خصوصية يستدل بها على محله عنده، ولهذا لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العفريت الذي أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه الله منه، أراد ربطه ثم تذكر قوله أخيه سليمان: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } فرده خاسئا. فلو أعطي أحد بعده مثله ذهبت الخصوصية، فكأنه كره صلى الله عليه وسلم أن يزاحمه في تلك الخصوصية، بعد أن علم أنه شيء هو الذي خص به من سخرة الشياطين، وأنه أجيب إلى ألا يكون لأحد بعده. والله أعلم.
قوله تعالى: { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً } أي لينة مع قوتها وشدتها حتى لا تضر بأحد، وتحمله بعسكره وجنوده وموكبه. وكان موكبه فيما روي فرسخا في فرسخ، مائة درجة بعضها فوق بعض، كل درجة صنف من الناس، وهو في أعلى درجة مع جواريه وحشمه وخدمه؛ صلوات الله وسلامه عليه. وذكر أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا أحمد بن جعفر، قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل، قال حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن إدريس بن وهب بن منبه، قال حدثني أبي قال: كان لسليمان بن داود عليه السلام ألف بيت أعلاه قوارير وأسفله حديد، فركب الريح يوما فمر بحراث فنظر إليه الحراث فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما فحملت الريح كلامه فألقته في أذن سليمان، قال فنزل حتى أتى الحراث فقال: إني سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه؛ لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك لخير مما أوتي آل داود. فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي.
قوله تعالى: { حَيْثُ أَصَابَ } أي أراد؛ قاله مجاهد. والعرب تقول: أصاب الصواب وأخطأ الجواب. أي أراد الصواب وأخطأ الجواب؛ قال ابن الأعرابي. وقال الشاعر:
أصاب الكلام فلم يستطع ... فأخطأ الجواب لدى المفصل

وقيل: أصاب أراد بلغة حمير. وقال قتادة: هو بلسان هجر. وقيل: { حَيْثُ أَصَابَ } حينما قصد، وهو مأخوذ من إصابة السهم الغرض المقصود. { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ } أي وسخرنا له الشياطين وما سخرت لأحد قبله. { كُلَّ بَنَّاءٍ } بدل من الشياطين أي كل بناء منهم، فهم يبنون له ما يشاء. قال:
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
{ وَغَوَّاصٍ } يعني في البحر يستخرجون له الدر. فسليمان أول من استخرج له اللؤلؤ من البحر. { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ } أي وسخرنا له مردة الشياطين حتى قرنهم في سلاسل الحديد وقيود الحديد؛ قال قتادة. السدي: الأغلال. ابن عباس: في وثاق. ومنه قول الشاعر:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
قال يحيى بن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم.
قوله تعالى: { هَذَا عَطَاؤُنَا } الإشارة بهذا إلى الملك، أي هذا الملك عطاؤنا فأعط من شئت أو امنع من شئت لا حساب عليك؛ عن الحسن والضحاك وغيرهما. قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه فيها تبعة إلا سليمان عليه السلام؛ فإن الله تعالى يقول: { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. وقال قتادة: الإشارة في قوله تعالى: { هَذَا عَطَاؤُنَا } إلى ما أعطيه من القوة على الجماع، وكانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية، وكان في ظهره ماء مائة رجل، رواه عكرمة عن ابن عباس. ومعناه في البخاري. "فامنن أو أمسك بغير حساب" وعلى هذا { فَامْنُنْ } من المني؛ يقال: أمنى يمني ومنى يمني لغتان، فإذا أمرت من أمنى قلت أمن؛ ويقال: من منى يمني في الأمر آمن، فإذا جئت بنون الفعل نون الخفيفة قلت امنن. ومن

ذهب به إلى المنة قال: من عليه؛ فإذا أخرجه مخرج الأمر أبرز النونين؛ لأنه كان مضاعفا فقال امنن. فيروى في الخبر أنه سخر له الشياطين، فمن شاء من عليه بالعتق والتخلية، ومن شاء أمسكه؛ قال قتادة والسدي. وعلى ما روى عكرمة عن ابن عباس: أي جامع من شئت من نسائك، واترك جماع من شئت منهن لا حساب عليك. { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي إن أنعمنا عليه في الدنيا فله عندنا في الآخرة قربة وحسن مرجع.
الآية: [41] { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ }
الآية: [42] { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }
الآية: [43] { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ }
قوله تعالى: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ } أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في الصبر على المكاره .{أيوب} بدل. { إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } وقرأ عيسى بن عمر {إني} بكسر الهمزة أي قال. قال الفراء: وأجمعت القراء على أن قرؤوا { بِنُصْبٍ } بضم النون والتخفيف. النحاس: وهذا غلط وبعده مناقضة وغلط أيضا؛ لأنه قال: أجمعت القراء على هذا، وحكى بعده أنهم ذكروا عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ: { بِنُصْبٍ } بفتح النون والصاد فغلط على أبي جعفر، وإنما قرأ أبو جعفر: { بِنُصْبٍ } بضم النون والصاد؛ كذا حكاه أبو عبيد وغيره وهو مروي عن الحسن. فأما { بِنُصْبٍ } فقراءة عاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي. وقد رويت هذه القراءة عن الحسن وقد حكي { بِنُصْبٍ } بفتح النون وسكون الصاد عن أبي جعفر. وهذا كله عند أكثر النحويين بمعنى النصب فنصب ونصب كحزن وحزن. وقد يجوز أن يكون نصب جمع نصب كوُثن ووَثن. ويجوز أن يكون نصب بمعنى نصب حذفت منه الضمة، فأما { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } فقيل: إنه جمع نصاب. وقال أبو عبيدة وغيره: النصب الشر والبلاء. والنصب التعب والإعياء. وقد قيل في معنى: { أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } أي ما يلحقه من وسوسته لا غير. والله أعلم.

ذكره النحاس. وقيل: إن النصب ما أصابه في بدنه، والعذاب ما أصابه في ماله؛ وفيه بعد. وقال المفسرون: إن أيوب كان روميا من البثنية وكنيته أبو عبدالله في قول الواقدي؛ اصطفاه الله بالنبوة، وأتاه جملة عظيمة من الثروة في أنواع الأموال والأولاد. وكان شاكرا لأنعم الله؛ مواسيا لعباد الله، برا رحيما. ولم يؤمن به إلا ثلاثة نفر. وكان لإبليس موقف من السماء السابعة في يوم من الأيام، فوقف به إبليس على عادته؛ فقال الله له أوقيل له عنه: أقدرت من عبدي أيوب على شيء؟ فقال: يا رب وكيف أقدر منه على شيء، وقد ابتليته بالمال والعافية، فلو ابتليته بالبلاء والفقر ونزعت منه ما أعطيته لحال عن حاله، ولخرج عن طاعتك، قال الله: قد سلطتك على أهله وماله. فانحط عدو الله فجمع عفاريت الجن فأعلمهم، وقال قائل منهم: أكون إعصارا فيه نار أهلك ماله فكان؛ فجاء أيوب في صورة قيم ماله فأعلمه بما جرى؛ فقال: الحمد لله هو أعطاه وهو منعه. ثم جاء قصره بأهله وولده، فاحتمل القصر من نواحيه حتى ألقاه على أهله وولده، ثم جاء إليه وأعلمه فألقى التراب على رأسه، وصعد إبليس إلى السماء فسبقته توبة أيوب. قال: يا رب سلطني على بدنه. قال: قد سلطتك على بدنه إلا على لسانه وقلبه وبصره، فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها فصار في جسده ثآليل فحكها بأظفاره حتى دميت، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه. وقال عند ذلك: { مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ }. ولم يخلص إلى شيء من حشوة البطن؛ لأنه لا بقاء للنفس إلا بها فهو يأكل ويشرب، فمكث كذلك ثلاث سنين. فلما غلبه أيوب اعترض لامرأته في هيئة أعظم من هيئة بني آدم في القدر والجمال، وقال لها: أنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت، ولو سجدت لي سجدة واحدة لرددت عليه أهله وماله وهم عندي. وعرض لها في بطن الوادي ذلك كله في صورته؛ أي أظهره لها، فأخبرت أيوب فأقسم أن يضربها إن عافاه الله.وذكروا كلاما طويلا في سبب بلائه ومراجعته لربه وتبرمه من البلاء الذي

نزل به، وأن النفر الثلاثة الذين آمنوا به نهوه عن ذلك واعترضوا عليه، وقيل: استعان به مظلوم فلم ينصره فابتلي بسبب ذلك. وقيل: استضاف يوما الناس فمنع فقيرا الدخول فابتلي بذلك. وقيل: كان أيوب يغزو ملكا وكان له غنم في ولايته، فداهنه لأجلها بترك غزوه فابتلي. وقيل،: كان الناس يتعدون امرأته ويقولون نخشى العدوى وكانوا يستقذرونها؛ فلهذا قال. { مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ }. وامرأته ليا بنت يعقوب. وكان أيوب في زمن يعقوب وكانت أمه ابنة لوط. وقيل: كانت زوجة أيوب رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام. ذكر القولين الطبري رحمه الله. قال ابن العربي: ما ذكره المفسرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة يوما من العام فقول باطل؛ لأنه أهبط منها بلعنة وسخط إلى الأرض، فكيف يرقى إلى محل الرضا، ويجول في مقامات الأنبياء، ويخترق السموات العلى، ويعلو إلى السماء السابعة إلى منازل الأنبياء، فيقف موقف الخليل؟! إن هذا لخطب من الجهالة عظيم. وأما قولهم: إن الله تعالى قال له هل قدرت من عبدي أيوب على شيء فباطل قطعا؛ لأن الله عز وجل لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس الملعون؛ فكيف يكلم من تولى إضلالهم؟! وأما قولهم: إن الله قال قد سلطتك على ماله وولده فذلك ممكن في القدرة، ولكنه بعيد في هذه القصة. وكذلك قولهم: إنه نفخ في جسده حين سلطه عليه فهو أبعد، والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان فيه كسب حتى تقر له - لعنة الله عليه - عين بالتمكن من الأنبياء في أموالهم وأهليهم وأنفسهم. وأما قولهم: إنه قال لزوجته أنا إله الأرض، ولو تركت ذكر الله وسجدت أنت لي لعافيته، فاعلموا وإنكم لتعلمون أنه لو عرض لأحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض، وأنه يسجد له، وأنه يعافي من البلاء، فكيف أن تستريب زوجة نبي؟! ولو كانت زوجة سوادي أو فدم بربري ما ساغ ذلك عندها. وأما تصويره الأموال والأهل في واد للمرأة فذلك ما لا يقدر عليه إبليس بحال، ولا هو في طريق السحر فيقال إنه من جنسه.

ولو تصور لعلمت المرأة أنه سحر كما نعلمه نحن وهي فوقنا في المعرفة بذلك؛ فإنه لم يخل زمان قط من السحر وحديثه وجريه بين الناس وتصويره.قال القاضي: والذي جرأهم على ذلك وتذرعوا به إلى ذكر هذا قوله تعالى: { أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } فلما رأوه قد شكا مس الشيطان أضافوا إليه من رأيهم ما سبق من التفسير في هذه الأقوال. وليس الأمر كما زعموا والأفعال كلها خيرها وشرها. في إيمانها وكفرها، طاعتها وعصيانها، خالقها هو الله لا شريك له في خلقه، ولا في خلق شيء غيرها، ولكن الشر لا ينسب إليه ذكرا، وإن كان موجودا منه خلقا؛ أدبا أدبنا به، وتحميدا علمناه. وكان من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم لربه به قول من جملته: "والخير في يديك والشر ليس إليك" على هذا المعنى. ومنه قول إبراهيم: { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وقال الفتى للكليم: { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } وأما قولهم: انه استعان به مظلوم فلم ينصره، فمن لنا بصحة هذا القول. ولا يخلو أن يكون قادرا على نصره، فلا يحل لأحد تركه فيلام على أنه عصى وهو منزه عن ذلك، أو كان عاجزا فلا شيء عليه في ذلك، وكذلك قولهم: إنه منع فقيرا من الدخول؛ إن كان علم به فهو باطل عليه وإن لم يعلم به فلا شيء عليه فيه. وأما قولهم: إنه داهن على غنمه الملك الكافر فلا تقل داهن ولكن قل دارى. ودفع الكافر والظالم عن النفس أو المال بالمال جائز؛ نعم وبحسن الكلام. قال ابن العربي القاضي أبو بكر رضى الله عنه: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين؛ الأولى قوله تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ } والثانية في: {ص} { أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: "بينا أيوب يغتسل إذ خر عليه رِجل من جراد من ذهب..." الحديث. وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات؛ فأعرض عن سطورها بصرك، وأصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا

وفي الصحيح واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال: يا معشر المسلمين تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله، تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب؛ فقالوا: { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } ولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة.
قوله تعالى: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } الركض الدفع بالرجل. يقال: ركض الدابة وركض ثوبه برجله. وقال المبرد: الركض التحريك؛ ولهذا قال الأصمعي: يقال ركضت الدابة ولا يقال ركضت هي؛ لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ولا فعل لها في ذلك. وحكى سيبويه: ركضت الدابة فركضت مثل جبرت العظم فجبر وحزنته فحزن؛ وفي الكلام إضمار أي قلنا له: { ارْكُضْ } قال الكسائي. وهذا لما عافاه الله. { هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } أي فركض فنبعت عين ماء فاغتسل به، فذهب الداء من ظاهره، ثم شرب منه فذهب الداء من باطنه. وقال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية، فاغتسل من إحداهما فأذهب الله تعالى ظاهر دائه، وشرب من الأخرى فأذهب الله تعالى باطن دائه. ونحوه عن الحسن ومقاتل؛ قال مقاتل: نبعت عين حارة واغتسل فيها فخرج صحيحا، ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذبا. وقيل: أمر بالركض بالرجل ليتناثر عنه كل داء في جسده. والمغتسل الماء الذي يغتسل به؛ قال القتبي. وقيل: إنه الموضع الذي يغتسل فيه؛ قال مقاتل. الجوهري: واغتسلت بالماء، والغسول الماء الذي يغتسل به، وكذلك المغتسل، قال الله تعالى: { هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } والمغتسل أيضا الذي يغتسل فيه، والمغسل والمغسل بكسر السين وفتحها مغسل الموتى والجمع المغاسل. واختلف كم بقي أيوب في البلاء؛ فقال ابن عباس: سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات. وقال وهب بن منبه: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف، في السجن سبع سنين،

وعذب بختنصر وحول في السباع سبع سنين. ذكره أبو نعيم. وقيل: عشر سنين. وقيل: ثمان عشرة سنة. رواه أنس مرفوعا فيما ذكر الماوردي:
قلت: وذكره ابن المبارك؛ أخبرنا يونس بن يزيد، عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما أيوب، وما أصابه من البلاء، وذكر أن البلاء الذي أصابه كان به ثمان عشرة سنة. وذكر الحديث القشيري. وقيل: أربعين سنة.
قوله تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } تقدم. { رَحْمَةً مِنَّا } أي نعمة منا. { وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ } أي عبرة لذوي العقول.
الآية: [44] { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }
فيه سبع مسائل:
الأولى- كان أيوب حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة؛ وفي سبب ذلك
أربعة أقوال: أحدها: ما حكاه ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب، فقال أداويه عل أنه إذا برئ قال أنت شفيتني، لا أريد جزاء سواه. قالت: نعم فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها. وقال: ويحك ذلك الشيطان. الثاني: ما حكاه سعيد بن المسيب، أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه من الخبز، فخاف خيانتها فحلف ليضربنها. الثالث: ما حكاه يحيى بن سلام وغيره: أن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا إليه وأنه يبرأ، فذكرت ذلك له فحلف ليضربنها إن عوفي مائة. الرابع: قيل: باعت ذوائبها برغيفين إذ لم تجد شيئا تحمله إلى أيوب، وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضرب به،

فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة. وقيل: الضغث قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس. وقال ابن عباس: إنه إثكال النخل الجامع بشماريخه.
الثانية- تضمنت هذه الآية جواز ضرب الرجل امرأته تأديبا. وذلك أن امرأة أيوب أخطأت فحلف ليضربنها مائة، فأمره الله تعالى أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخل، وهذا لا يجوز في الحدود. إنما أمره الله بذلك لئلا يضرب امرأته فوق حد الأدب. وذلك أنه ليس للزوج أن يضرب امرأته فوق حد الأدب؛ ولهذا قال عليه السلام: "واضربوهن ضربا غير مبرح" على ما تقدم في {النساء} بيانه.
الثالثة- واختلف العلماء في هذا الحكم هل هو عام أوخاص بأيوب وحده، فروى عن مجاهد أنه عام للناس. ذكره ابن العربي. وحكي عن القشيري أن ذلك خاص بأيوب. وحكى المهدوي عن عطاء بن أبي رباح أنه ذهب إلى أن ذلك حكم باق، وأنه إذا ضرب بمائة قضيب ونحوه ضربة واحدة بر. وروي نحوه الشافعي. وروى نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المقعد الذي حملت منه الوليدة، وأمر أن يضرب بعثكول فيه مائة شمراخ ضربة واحدة. وقال القشيري: وقيل لعطاء هل يعمل بهذا اليوم؟ فقال: ما أنزل القرآن إلا ليعمل به ويتبع. ابن العربي: وروي عن عطاء أنها لأيوب خاصة. وكذلك روى أبو زيد عن ابن القاسم عن مالك: من حلف ليضربن عبده مائة فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر. قال بعض علمائنا: يريد مالك قوله تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } أي إن ذلك منسوخ بشريعتنا. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي أنه جلد الوليد بن عقبة بسوط له طرفان أربعين جلدة. وأنكر مالك هذا وتلا قول الله عز وجل: { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وهذا مذهب أصحاب الرأي. وقد احتج الشافعي لقوله بحديث، وقد تكلم في إسناده؛ والله أعلم.
قلت: الحديث الذي احتج به الشافعي خرجه أبو داود في سننه قال: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، قال حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرني

أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلدة على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإني قد وقعت على جارية دخلت علي. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به؛ لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة، أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو ذلك بقلبه يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ولا يحنث. قال ابن المنذر: وإذا حلف الرجل ليضربن عبده مائة فضربه ضربا خفيفا فهو بار عند الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. وقال مالك: ليس الضرب إلا الضرب الذي يؤلم.
الرابعة- قوله تعالى: { وَلا تَحْنَثْ } دليل على أن الاستثناء في اليمين لا يرفع حكما إذا كان متراخيا. وقد مضى القول فيه في {المائدة} يقال: حنث في يمينه يحنث إذا لم يبر بها. وعند الكوفيين الواو مقحمة أي فاضرب لا تحنث.
الخامسة- قال ابن العربي: قوله تعالى: { فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ } يدل على أحد وجهين: إما أن يكون أنه لم يكن في شرعهم كفارة، وإنما كان البر والحنث. والثاني أن يكون صدر منه نذر لا يمين وإذا كان النذر معينا فلا كفارة فيه عند مالك وأبي حنيفة. وقال الشافعي: في كل نذر كفارة.
قلت: قول إنه لم يكن في شرعهم كفارة ليس بصحيح؛ فإن أيوب عليه السلام لما بقي في البلاء ثمان عشرة سنة، كما في حديث ابن شهاب، قال له صاحباه: لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه. فقال أيوب صلى الله عليه وسلم: ما أدري ما تقولان، غير أن ربي

عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان فكل يحلف بالله، أو على النفر يتزاعمون فأنقلب إلى أهلى، فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد يذكره ولا يذكره إلا بحق فنادى ربه { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } وذكر الحديث. فقد أفادك هذا الحديث أن الكفارة كانت من شرع أيوب، وأن من كفر عن غيره بغير إذنه فقد قام بالواجب عنه وسقطت عنه الكفارة.
السادسة- استدل بعض جهال المتزهدة؛ وطغام المتصوفة بقوله تعالى لأيوب: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } على جواز الرقص قال أبو الفرج الجوزي: وهذا احتجاج بارد؛ لأنه لوكان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة، وإنما أمر بضرب الرجل لينبع الماء. قال ابن عقيل: أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الأرض لينبع الماء إعجازا من الرقص ولئن جاز قوله سبحانه لموسى: { اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ } دلالة على ضرب المحاد بالقضبان نعوذ بالله من التلاعب بالشرع. وقد احتج بعض قاصريهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنت مني وأنا منك" فحجل، وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" فحجل. وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا" فحجل. ومنهم من احتج بأن الحبشة زفنت والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم. والجواب: أما الحجل فهو نوع من المشي يفعل عند الفرج فأين هو والرقص، وكذلك زفن الحبشة نوع من المشي يفعل عند اللقاء للحرب.
السابعة- قوله تعالى: { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً } أي على البلاء. { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي تواب رجاع مطيع. وسئل سفيان عن عبدين ابتلى أحدهما فصبر، وأنعم على الآخر فشكر؛ فقال: كلاهما سواء؛ لأن الله تعالى أثنى على عبدين؛ أحدهما صابر والآخر شاكر ثناء واحدا؛ فقال في وصف أيوب: { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } وقال في وصف سليمان: { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }

قلت: وقد رد هذا الكلام صاحب: "القوت" واستدل بقصة أيوب في تفضيل الفقير على الغني وذكر كلاما كثيرا شيد به كلامه، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع من كتاب "منهج العباد ومحجة السالكين والزهاد" وخفي عليه أن أيوب عليه السلام كان أحد الأغنياء من الأنبياء قبل البلاء وبعده، وإنما ابتلي بذهاب ماله وولده وعظيم الداء في جسده. وكذلك الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه صبروا على ما به امتحنوا وفتنوا. فأيوب عليه السلام دخل في البلاء على صفة، فخرج منه كما دخل فيه، وما تغير منه حال ولا مقال، فقد اجتمع مع أيوب في المعنى المقصود، وهو عدم التغير الذي يفضل فيه بعض الناس بعضا. وبهذا الاعتبار يكون الغني الشاكر والفقير الصابر سواء. وهو كما قال سفيان. والله أعلم. وفي حديث ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أيوب خرج لما كان يخرج إليه من حاجته فأوحى الله إليه : { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فاغتسل فأعاد الله لحمه وشعره وبشره على أحسن ما كان ثم شرب فأذهب الله كل ما كان في جوفه من ألم أو ضعف وأنزل الله عليه ثوبين من السماء أبيضين فائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر ثم أقبل يمشي إلى منزله وراث على امرأته فأقبلت حتى لقيته وهي لا تعرفه فسلمت عليه وقالت أي يرحمك الله هل رأيت هذا الرجل المبتلى؟ قال من هو؟ قالت نبي الله أيوب، أما والله ما رأيت أحدا قط أشبه به منك إذ كان صحيحا. قال فإني أيوب وأخذ ضغثا فضربها به" فزعم ابن شهاب أن ذلك الضغث كان ثماما. ورد الله إليه أهله ومثلهم معهم، فأقبلت سحابة حتى سجلت في أندر قمحه ذهبا حتى امتلأ، وأقبلت سحابة أخرى إلى أندر شعيره وقطانيه فسجلت فيه ورقا حتى امتلأ.

الآية: [45] { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ }
الآية: [46] { إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ }
الآية: [47] { وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ }
قوله تعالى: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } قرأ ابن عباس: { عَبْدَنَا } بإسناد صحيح؛ رواه ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عنه، وهي قراءة مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير؛ فعلى هذه القراءة يكون {إبراهيم} بدلا من { عَبْدَنَا } و {إسحاق ويعقوب} عطف. والقراءة بالجمع أبين، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، ويكون {إبراهيم} وما بعده على البدل. النحاس: وشرح هذا من العربية أنك إذا قلت: رأيت أصحابنا زيدا وعمرا وخالدا، فزيد وعمرو وخالد بدل وهم الأصحاب، وإذا قلت رأيت صاحبنا زيدا وعمرا وخالدا فزيد وحده بدل وهو صاحبنا، وزيد وعمرو عطف على صاحبنا وليسا بداخلين في المصاحبة إلا بدليل غير هذا، غير أنه قد علم أن قوله: {وإسحاق ويعقوب} داخل في العبودية. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الذبيح إسحاق لا إسماعيل، وهو الصحيح على ما ذكرناه في كتاب: "الإعلام بمولد النبي عليه السلام". { أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ } قال النحاس: أما { وَالأَبْصَارِ } فمتفق على تأويلها أنها البصائر في الدين والعلم. وأما { الأَيْدِي } فمختلف في تأويلها؛ فأهل التفسير يقولون: إنها القوة في الدين. وقوم يقولون: "الأيدي" جمع يد وهي النعمة؛ أي هم أصحاب النعم؛ أي الذين أنعم الله عز وجل عليهم. وقيل: هم أصحاب النعم والإحسان؛ لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا. وهذا اختيار الطبري. { وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ } أي الذين اصطفاهم من الأدناس واختارهم لرسالته ومصطفين جمع مصطفى والأصل مصتفى وقد مضى في {البقرة} عند قوله: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } {والأخيار} جمع خير. وقرأ الأعمش وعبدالوارث والحسن

وعيسى الثقفي { أُولِي الأَيْدِي } بغير ياء في الوصل والوقف على معنى أولي القوة في طاعة الله. ويجوز أن يكون كمعنى قراءة الجماعة وحذف الياء تخفيفا.
قوله تعالى: { إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } قراءة العامة { بِخَالِصَةٍ } منونة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر وهشام عن ابن عامر { بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } بالإضافة فمن نون خالصة فـ { ـذِكْرَى الدَّارِ } بدل منها؛ التقدير إنا أخلصناهم بأن يذكروا الدار الآخرة ويتأهبوا لها ويرغبوا فيها ويرغبوا الناس فيها. ويجوز أن يكون {خالصة} مصدرا لخلص و {ذكرى} في موضع رفع بأنها فاعلة، والمعنى أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار؛ أي تذكير الدار الآخرة. ويجوز أن يكون {خالصة} مصدرا لأخلصت فحذفت الزيادة، فيكون {ذكرى} على هذا في موضع نصب، التقدير: بأن أخلصوا ذكرى الدار. والدار يجوز أن يراد بها الدنيا؛ أي ليتذكروا الدنيا ويزهدوا فيها، ولتخلص لهم بالثناء الحسن عليهم، كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } ويجوز أن يراد بها الدار الآخرة وتذكير الخلق بها. ومن أضاف خالصة إلى الدار فهي مصدر بمعنى الإخلاص، والذكرى مفعول به أضيف إليه المصدر؛ أي بإخلاصهم ذكرى الدار. ويجوز أن يكون المصدر مضافا إلى الفاعل والخالصة مصدر بمعنى الخلوص؛ أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار، وهي الدار الآخرة أو الدنيا على ما تقدم. وقال ابن زيد: معنى أخلصناهم أي بذكر الآخرة؛ أي يذكرون الآخرة ويرغبون فيها ويزهدون في الدنيا. وقال مجاهد: المعنى إنا أخلصناهم بأن ذكرنا الجنة لهم.
الآية: [48] { وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ }
الآية: [49] { هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ }
الآية: [50] { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ }
الآية: [51] { مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ }
الآية: [52] { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ }
الآية: [53] { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ }
الآية: [54] { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ }

قوله تعالى: { وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ } وقد مضى ذكرهم. { وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ } أي ممن اختير للنبوة. { هَذَا ذِكْرٌ } بمعنى هذا ذكر جميل في الدنيا وشرف يذكرون به في الدنيا أبدا. { هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } أي لهم مع هذا الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع في القيامة. { جَنَّاتِ عَدْنٍ } والعدن في اللغة الإقامة؛ يقال: عدن بالمكان إذا أقام. وقال عبدالله بن عمر: إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج فيه خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. { مُفَتَّحَةً } حال { لَهُمُ الأَبْوَابُ } رفعت الأبواب لأنه اسم ما لم يسم فاعله. قال الزجاج: أي مفتحة لهم الأبواب منها. وقال الفراء: مفتحة لهم أبوابها. وأجاز الفراء: { مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ } بالنصب. قال الفراء: أي مفتحة الأبواب ثم جئت بالتنوين فنصبت. وأنشد هو وسيبويه:
ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام
وإنما قال: { مُفَتَّحَةً } ولم يقل مفتوحة؛ لأنها تفتح لهم بالأمر لا بالمس. قال الحسن: تُكلم: انفتحي فتنفتح انغلقي فتنغلق. وقيل: تفتح لهم الملائكة الأبواب.
قوله تعالى: { مُتَّكِئِينَ فِيهَا } هو حال قدمت على العامل فيها وهو قوله: { يَدْعُونَ فِيهَا } أي يدعون في الجنات متكئين فيها. { بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ } أي بألوان الفواكه { وَشَرَابٍ } أي وشراب كثير فحذف لدلالة الكلام عليه.
قوله تعالى: { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم وقد مضى. { أَتْرَابٌ } أي على سن واحد. وميلاد امرأة واحدة، وقد

تساوين في الحسن والشباب، بنات ثلاث وثلاثين سنة. قال ابن عباس: يريد الآدميات. و { أَتْرَابٌ } جمع ترب وهو نعت لقاصرات؛ لأن { قَاصِرَاتُ } نكرة وإن كان مضافا إلى المعرفة. والدليل على ذلك أن الألف واللام يدخلانه كما قال:
من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا
قوله تعالى: { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي هذا الجزاء الذي وعدتم به. وقراءة العامة بالتاء أي ما توعدون أيها المؤمنون. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب بالياء على الخبر، وهي قراءة السلمي واختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لقوله تعالى: { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } فهو خبر. { لِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي في يوم الحساب، قال الأعشى:
المهينين ما لهم لزمان السـ ... ـوء حتى إذا أفاق أفاقوا
أي في زمان السوء.
قوله تعالى: { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ } دليل على أن نعيم الجنة دائم لا ينقطع؛ كما قال: { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } وقال: { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ }.
الآية: [55] { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ }
الآية: [56] { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ }
الآية: [57] { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ }
الآية: [58] { وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ }
الآية: [59] { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ }
الآية: [60] { قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ }
الآية: [61] { قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ }
قوله تعالى: { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } { هَذَا } لما ذكر ما للمتقين ذكر ما للطاغين قال الزجاج: "هذا" خبر ابتداء محذوف أي الأمر هذا فيوقف على "هذا" قال ابن الأنباري: "هذا" وقف حسن. ثم بتتدئ { وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } وهم الذين كذبوا الرسل.

{ لَشَرَّ مَآبٍ } أي منقلب يصيرون إليه. { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي بئس ما مهدوا لأنفسهم، أو بئس الفراش لهم. ومنه مهد الصبي. وقيل: فيه حذف أي بئس موضع المهاد. وقيل: أي هذا الذي وصفت لهؤلاء المتقين، ثم قال: وإن للطاغين لشر مرجع فيوقف على {هذا} أيضا.
قوله تعالى: { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } { هَذَا } في موضع رفع بالابتداء وخبره { حَمِيمٌ } على التقديم والتأخير؛ أي هذا حميم وغساق فليذوقوه. ولا يوقف على { فَلْيَذُوقُوهُ } ويجوز أن يكون {هذا} في موضع رفع بالابتداء و { فَلْيَذُوقُوهُ } في موضع الخبر، ودخلت الفاء للتنبيه الذي في {هذا} فيوقف على { فَلْيَذُوقُوهُ } ويرتفع { حَمِيمٌ } على تقدير هذا حميم. قال النحاس: ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا، وحميم وغساق إذا لم تجمعهما خبرا فرفعهما على معنى هو حميم وغساق. والفراء يرفعهما بمعنى منه حميم ومنه غساق وأنشد:
حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس ... وغودر البقل ملوى ومحصود
وقال آخر:
لها متاع وأعوان غدون به ... قتب وغرب إذا ما أفرغ أنسحقا
ويجوز أن يكون {هذا} في موضع نصب بإضمار فعل يفسره { فَلْيَذُوقُوهُ } كما تقول زيدا اضربه. والنصب في هذا أولى فيوقف على { فَلْيَذُوقُوهُ } وتبتدئ { حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } على تقدير الأمر حميم وغساق. وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين في { وَغَسَّاقٌ } . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي { وَغَسَّاقٌ } بالتشديد، وهما لغتان بمعنى واحد في قول الأخفش. وقيل: معناهما مختلف؛ فمن خفف فهو اسم مثل عذاب وجواب وصواب، ومن شدد قال: هو اسم فاعل نقل إلى فعال للمبالغة، نحو ضراب وقتال وهو فعال من غسق يغسق فهو غساق وغاسق. قال ابن عباس: هو الزمهرير يخوفهم

ببرده. وقال مجاهد ومقاتل: هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده. وقال غيرهما. إنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحره. وقال عبدالله بن عمرو: هو قيح غليظ لو وقع منه شيء بالمشرق لأنتن من في المغرب، ولو وقع منه شيء في المغرب لأنتن من في المشرق. وقال قتادة: هوما يسيل من فروج الزناة ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم من الصديد والقيح والنتن. وقال محمد بن كعب: هو عصارة أهل النار. وهذا القول أشبه باللغة؛ يقال: غسق الجرح يغسق غسقا إذا خرج منه ماء أصفر؛ قال الشاعر:
إذا ما تذكرت الحياة وطيبها ... إلي جرى دمع من الليل غاسق
أي بارد. ويقال: ليل غاسق؛ لأنه أبرد من النهار. وقال السدي: الغساق الذي يسيل من أعينهم ودموعهم يسقونه مع الحميم. وقال ابن زيد: الحميم دموع أعينهم، يجمع في حياض النار فيسقونه، والصديد الذي يخرج من جلودهم. والاختيار على هذا { وَغَسَّاق } حتى يكون مثل سيال. وقال كعب: الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي حمة من عقرب وحية. وقيل: هو مأخوذ من الظلمة والسواد. والغسق أول ظلمة اليل، وقد غسق الليل يغسق إذا أظلم. وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "لوأن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا".
قلت: وهذا أشبه على الاشتقاق الأول كما بينا، إلا أنه يحتمل أن يكون الغساق مع سيلانه أسود مظلما فيصح الاشتقاقان. والله أعلم.
قوله تعالى: { وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } قرأ أبو عمرو: { وَآخَرُ } جمع أخرى مثل الكبرى والكبر. الباقون: { وَآخَرُ } مفرد مذكر. وأنكر أبو عمرو { وَآخَرُ } لقوله تعالى: { أَزْوَاجٌ } أي لا يخبر بواحد عن جماعة. وأنكر عاصم الجحدري { وَآخَرُ } قال: ولو كانت { وَأخَرُ } لكان من شكلها. وكلا الردين لا يلزم والقراءتان صحيحتان. { وَآخَرُ } أي وعذاب آخر سوى الحميم والغساق. { مِنْ شَكْلِهِ } قال قتادة: من نحوه. قال ابن مسعود: هو

الزمهرير. وارتفع { وَآخَرُ } بالابتداء و { أَزْوَاجٌ } مبتدأ ثان و { مِنْ شَكْلِهِ } خبره والجملة خبر { وَآخَرُ }. ويجوز أن يكون { وَآخَرُ } مبتدأ والخبر مضمر دل عليه { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } لأن فيه دليلا على أنه لهم، فكأنه قال: ولهم آخر ويكون { مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } صفة لآخر فالمبتدأ متخصص بالصفة و { أَزْوَاجٌ } مرفوع بالظرف. ومن قرأ { وَأ خَرُ } أراد وأنواع من العذاب أُخَر، ومن جمع وهو يريد الزمهرير فعلى أنه جعل الزمهرير أجناسا فجمع لاختلاف الأجناس. أو على أنه جعل لكل جزء منه زمهريرا ثم جمع كما قالوا: شابت مفارقه. أو على أنه جمع لما في الكلام من الدلالة على جواز الجمع؛ لأنه جعل الزمهرير الذي هو نهاية البرد بإزاء الجمع في قوله: { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } والضمير في { شَكْلِهِ } يجوز أن يعود على الحميم أو الغساق. أو على معنى { وَأ خَرُ مِنْ شَكْلِهِ } ما ذكرنا، ورفع { وَأ خَرُ } على قراءة الجمع بالابتداء و { مِنْ شَكْلِهِ } صفة له وفيه ذكر يعود على المبتدأ و { أَزْوَاجٌ } خبر المبتدأ. ولا يجوز أن يحمل على تقدير ولهم آخر و { مِنْ شَكْلِهِ } صفة لأخر و { أَزْوَاجٌ } مرتفعة بالظرف كما جاز في الإفراد؛ لأن الصفة لا ضمير فيها من حيث ارتفع { أَزْوَاجٌ } مفرد،؛ قاله أبو علي. و { أَزْوَاجٌ } أي أصناف وألوان من العذاب. وقال يعقوب: الشكل بالفتح المثل وبالكسر الدل.
قوله تعالى: { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ } قال ابن عباس: هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة: { هَذَا فَوْجٌ } يعني الأتباع والفوج الجماعة { مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ } أي داخل النار معكم؛ فقالت السادة: { لا مَرْحَباً بِهِمْ }
قوله تعالى: { لا مَرْحَباً بِهِمْ } أي لا اتسعت منازلهم في النار. والرحب السعة، ومنه رحبة المسجد وغيره. وهو في مذهب الدعاء فلذلك نصب؛ قال النابغة:
لا مرحبا بغد ولا أهلا به ... إن كان تفريق الأحبة في غد

قال أبو عبيدة العرب تقول: لا مرحبا بك؛ أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت. { إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ } قيل: هو من قول القادة، أي إنهم صالو النار كما صليناها. وقيل: هو من قول الملائكة متصل بقولهم: { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ } و { قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ } هو من قول الأتباع وحكى النقاش: إن الفوج الأول قادة المشركين ومطعموهم يوم بدر، والفوج الثاني أتباعهم ببدر والظاهر من الآية أنها عامة في كل تابع ومتبوع. { أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } أي دعوتمونا إلى العصيان { فَبِئْسَ الْقَرَارُ } لنا ولكم { قَالُوا } يعني الأتباع { رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا } قال الفراء: من سوغ لنا هذا وسنه وقال غيره من قدم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى المعاصي { فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ } وعذابا بدعائه إيانا فصار ذلك ضعفا. وقال ابن مسعود: معنى عذابا ضعفا في النار الحيات والأفاعي. ونظير هذه الآية قوله تعالى: { رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ }
الآية: [62] { وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ }
الآية: [63] { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ }
الآية: [64] { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ }
قوله تعالى: { وَقَالُوا } يعني أكابر المشركين { مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ } قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقول أبو جهل: أين بلال أين صهيب أين عمار أولئك في الفردوس واعجبا لأبي جهل مسكين؛ أسلم ابنه عكرمة، وابنته جويرية، وأسلمت أمه، وأسلم أخوه، وكفر هو؛ قال:
ونورا أضاء الأرض شرقا ومغربا ... وموضع رجلي منه أسود مظلم
{ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً } قال مجاهد: أتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ } فلم نعلم مكانهم. قال الحسن: كل ذلك قد فعلوا؛ اتخذوهم سخريا، وزاغت عنهم أبصارهم في الدنيا محقرة لهم. وقيل: معنى { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ } أي أهم معنا في النار فلا

نراهم. وكان ابن كثير والأعمش وأبو عمر وحمزة والكسائي يقرؤون { مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ } بحذف الألف في الوصل. وكان أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر يقرؤون { أَتَّخَذْنَاهُمْ } بقطع الألف على الاستفهام وسقطت ألف الوصل؛ لأنه قد استغنى عنها؛ فمن قرأ بحذف الألف لم يقف على { الأَشْرَارِ } لأن { أَتَّخَذْنَاهُمْ } حال. وقال النحاس والسجستاني: هو نعت لرجال. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ؛ لأن النعت لا يكون ماضيا ولا مستقبلا. ومن قرأ: {أتخذناهم} بقطع الألف وقف على {الأشرار} قال الفراء: والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب. { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ } إذا قرأت بالاستفهام كانت أم للتسوية، وإذا قرأت بغير الاستفهام فهي بمعنى بل. وقرأ بو جعفر ونافع وشيبة والمفضل وهبيرة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي،: { سِخْرِيّاً } بضم السين. الباقون بالكسر. قال أبو عبيدة: من كسر جعله من الهزء ومن ضم جعله من التسخير. وقد تقدم. { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } { لَحَقٌّ } خبر إن و { تَخَاصُمُ } خبر مبتدأ محذوف بمعنى هو تخاصم. ويجوز أن يكون بدلا من حق. ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. ويجوز أن يكون بدلا من ذلك على الموضع. أي إن تخاصم أهل النار في النار لحق. يعني قولهم: { لا مَرْحَباً بِكُمْ } الآية وشبهه من قول أهل النار.
الآية: [65] { قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
الآية: [66] { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }
الآية: [67] { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ }
الآية: [68] { أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ }
الآية: [69] { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ }
الآية: [70] { إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ }
قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ } أي مخوف عقاب الله لمن عصاه وقد تقدم. { وَمَا مِنْ إِلَهٍ } أي معبود { إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } الذي لا شريك له { رَبُّ السَّمَاوَاتِ

وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } بالرفع على النعت وإن نصبت الأول نصبته. ويجوز رفع الأول ونصب ما بعده على المدح. { الْعَزِيزُ } معناه المنيع الذي لا مثل له. { الْغَفَّارُ } الستار لذنوب خلقه.
قوله تعالى: { قُلْ } أي وقل لهم يا محمد { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } أي ما أنذركم به من الحساب والثواب والعقاب خبر عظيم القدر فلا ينبغي أن يستخف به. قال معناه قتادة. نظيره قوله تعالى: { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ } وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني القرآن الذي أنبأكم به خبر جليل. وقيل: عظيم المنفعة { أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ }
قوله تعالى: { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } الملأ الأعلى هم الملائكة في قول ابن عباس والسدي اختصموا في أمر آدم حين خلق فـ { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا و } وقال إبليس: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } وفي هذا بيان أن محمدا صلى الله عله وسلم أخبر عن قصة آدم وغيره، وذلك لا يتصور إلا بتأييد إلهي؛ فقد قامت المعجزة على صدقه، فما بالهم أعرضوا عن تدبر القرآن ليعرفوا صدقه؛ ولهذا وصل قوله بقوله: { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ }. وقول ثان رواه أبو الأشهب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألني ربي فقال يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى قلت في الكفارات والدرجات قال وما الكفارات قلت المشي على الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات والتعقيب في المساجد بانتظار الصلاة بعد الصلاة قال وما الدرجات قلت إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام" خرجه الترمذي بمعناه عن ابن عباس، وقال فيه حديث غريب. وعن معاذ بن جبل أيضا وقال حديث حسن صحيح. وقد كتبناه بكماله في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، وأوضحنا إشكاله والحمد لله. وقد مضى في {يس} القول في المشي إلى المساجد، وأن الخطا تكفر السيئات، وترفع الدرجات. وقيل: الملأ الأعلى الملائكة والضمير في { يَخْتَصِمُونَ } لفرقتين. يعني قول من قال منهم الملائكة بنات الله،

ومن قال آلهة تعبد. وقيل: الملأ الأعلى ها هنا قريش؛ يعني اختصامهم فيما بينهم سرا، فأطلع الله نبيه على ذلك. { إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي إن يوحى إلي إلا الإنذار. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع { إِلاَّ أَنَّمَا } بكسر الهمزة؛ لأن الوحي قول، كأنه قال: يقال لي إنما أنت نذير مبين، ومن فتحها جعلها في موضع رفع؛ لأنها اسم ما لم يسم فاعله. قال الفراء: كأنك قلت ما يوحى إلي إلا الإنذار، النحاس: ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى إلا لأنما. والله أعلم.
الآية: [71] { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ }
الآية: [72] { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }
الآية: [73] { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ }
الآية: [74] { إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ } { إِذْ } من صلة { يَخْتَصِمُونَ } المعنى؛ ما كان لي من علم بالملأ الأعلى حين يختصمون حين { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ }. وقيل: { إِذْ قَالَ } بدل من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } و { يَخْتَصِمُونَ } يتعلق بمحذوف؛ لأن المعنى ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم. { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } { إِذْا } ترد الماضي إلى المستقبل؛ لأنها تشبه حروف الشرط وجوابها كجوابه؛ أي خلقته. { سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } أي من الروح الذي أملكه ولا يملكه غيري. فهذا معنى الإضافة، وقد مضى هذا المعنى مجودا في {النساء} في قوله في عيسى { وَرُوحٌ مِنْهُ } . { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } نصب على الحال. وهذا سجود تحية لا سجود عبادة. وقد مضى في {البقرة}. { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } أي امتثلوا الأمر وسجدوا له خضوعا له وتعظيما لله بتعظيمه { إِلاَّ إِبْلِيسَ } أنف من السجود له جهلا بأن السجود له طاعة لله؛ والأنفة من طاعة الله استكبارا كفر، ولذلك كان من الكافرين باستكباره عن أمر الله تعالى. وقد مضى الكلام في، هذا في {البقرة} مستوفى.

لآية: [75] { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ }
الآية: [76] { قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ }
الآية: [77] { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ }
الآية: [78] { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ }
الآية: [79] { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
الآية: [80] { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ }
الآية: [81] { إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ }
الآية: [82] { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }
الآية: [83] { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }
قوله تعالى: { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ } أي صرفك وصدك { أَنْ تَسْجُدَ } أي عن أن تسجد { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } أضاف خلقه إلى نفسه تكريما له، وإن كان خالق كل شيء وهذا كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد. فخاطب الناس بما يعرفونه في تعاملهم، فإن الرئيس من المخلوقين لا يباشر شيئا بيده إلا على سبيل الإعظام والتكرم، فذكر اليد هنا بمعنى هذا. قال مجاهد: اليد ها هنا بمعنى التأكد والصلة؛ مجازه لما خلقت أنا كقوله: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } أي يبقى ربك. وقيل: التشبيه في اليد في خلق الله تعالى دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة؛ وإنما هما صفتان من صفات ذاته تعالى. وقيل: أراد باليد القدرة؛ يقال: مالي بهذا الأمر يد. وما لي بالحمل الثقيل يدان. ويدل عليه أن الخلق لا يقع إلا بالقدرة بالإجماع. وقال الشاعر:
تحملت من عفراء ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان
وقيل: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } لما خلقت بغير واسطة. { أَسْتَكْبَرْتَ } أي عن السجود { أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ } أي المتكبرين على ربك. وقرأ محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير وأهل مكة { بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ } موصولة الألف على الخبر وتكون أم منقطعة بمعنى بل مثل: { أَمْ يَقُولُونَ

افْتَرَاهُ } وشبهه. ومن استفهم فـ { أَمْ } معادلة لهمزة الاستفهام وهو تقرير وتوبيخ. أي استكبرت بنفسك حين أبيت السجود لآدم، أم كنت من القوم الذين يتكبرون فتكبرت لهذا.
قوله تعالى: { قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } قال الفراء: من العرب من يقول أنا أخير منه وأشر منه؛ وهذا هو الأصل إلا أنه حذف لكثرة الاستعمال. { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } فضل النار على الطين وهذا جهل منه؛ لأن الجواهر متجانسة فقاس فأخطأ القياس. وقد مضى في {الأعراف} بيانه. { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا } يعني من الجنة { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } أي مرجوم بالكواكب والشهب { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي } أي طردي وإبعادي من رحمتي { إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } تعريف بإصراره على الكفر لأن اللعن منقطع حينئذ، ثم بدخوله النار يظهر تحقيق اللعن { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أراد الملعون ألا يموت فلم يجب إلى ذلك، وأخر إلى وقت معلوم، وهو يوم يموت الخلق فيه، فأخر تهاونا به. { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } لما طرده بسبب آدم حلف بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات وإدخال الشبهة عليهم، فمعنى: { لأُغْوِيَنَّهُمْ } لأستدعينهم إلى المعاصي وقد علم أنه لا يصل إلا إلى الوسوسة، ولا يفسد إلا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه؛ ولهذا قال: { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } أي الذي أخلصتهم لعبادتك، وعصمتهم مني. وقد مضى في {الحجر} بيانه.
الآية: [84] { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ }
الآية: [85] { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ }
الآية: [86] { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ }
الآية: [87] { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ }
الآية: [88] { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ }
قوله تعالى: { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة والكسائي. وقرأ ابن عباس ومجاهد وعاصم والأعمش وحمزة برفع الأول. وأجاز الفراء فيه

الخفض. ولا اختلاف في الثاني في أنه منصوب بـ { أَقُولُ } ونصب الأول على الإغراء أي فاتبعوا الحق واستمعوا الحق، والثاني بإيقاع القول عليه. وقيل: هو بمعنى أحق الحق أي أفعله. قال أبو علي: الحق الأول منصوب بفعل مضمر أي يحق الله الحق، أو على القسم وحذف حرف الجر؛ كما تقول: الله لأفعلن؛ ومجازه: قال فبالحق وهو الله تعالى أقسم بنفسه. { وَالْحَقَّ أَقُولُ } جملة اعترضت بين القسم والمقسم عليه، وهو توكيد القصة، وإذا جعل الحق منصوبا بإضمار فعل كان { لأَمْلأَنَّ } على إرادة القسم. وقد أجاز الفراء وأبو عبيدة أن يكون الحق منصوبا بمعنى حقا { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } وذلك عند جماعة من النحويين خطأ؛ لا يجوز زيدا لأضربن؛ لأن ما بعد اللام مقطوع مما قبلها فلا يعمل فيه. والتقدير على قولهما لأملأن جهنم حقا. ومن رفع { الْحَقُّ } رفعه بالابتداء؛ أي فأنا الحق أو الحق مني. رويا جميعا عن مجاهد. ويجوز أن يكون التقدير هذا الحق. وقول ثالث على مذهب سيبويه والفراء أن معنى فالحق لأملأن جهنم بمعنى فالحق أن أملأ جهنم. وفي الخفض قولان وهي قراءة ابن السميقع وطلحة بن مصرف: أحدهما أنه على حذف حرف القسم. هذا قول الفراء قال كما يقول: الله عز وجل لأفعلن. وقد أجاز مثل هذا سيبويه وغلطه فيه أبو العباس ولم يجز الخفض؛ لأن حروف الخفض لا تضمر، والقول الآخر أن تكون الفاء بدلا من واو القسم؛ كما أنشدوا:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
قوله تعالى: { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ } أي من نفسك وذريتك { وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } من بني آدم { أَجْمَعِينَ }. قوله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر} أي من جعل على تبليغ الوحي وكنى به عن غير مذكور. وقيل هو راجع إلى قوله: { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } أي لا أتكلف ولا أتخرص ما لم أومر به. وروى مسروق عن عبدالله بن مسعود قال:

من سئل عما لم يعلم فليقل لا أعلم ولا يتكلف؛ فإن قوله لا أعلم علم، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ }. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمتكلف ثلاث علامات ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم". وروى الدارقطني من حديث نافع عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فسار ليلا فمروا على رجل جالس عند مقراة له، فقال له عمر: يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور". وفي الموطأ عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب: أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا، فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. وقد مضى القول في المياه في سورة {الفرقان}. { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } يعني القرآن { لِلْعَالَمِينَ } من الجن والإنس. { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } أي نبأ الذكر وهو القرآن أنه حق { بَعْدَ حِينٍ } قال قتادة: بعد الموت. وقال الزجاج. وقال ابن عباس وعكرمة وابن زيد: يعني يوم القيامة. وقال الفراء: بعد الموت وقبله. أي لتظهر لكم حقيقة ما أقول: { بَعْدَ حِينٍ } أي في المستأنف أي إذا أخذتكم سيوف المسلمين. قال السدي: وذلك يوم بدر. وكان الحسن يقول: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين. وسئل عكرمة عمن حلف ليصنعن كذا إلى حين. قال: إن من الحين ما لا تدركه كقوله تعالى: {ولتعلمن نبأه بعد حين} ومنه ما تدركه؛ كقوله تعالى: { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } من صرام النخل إلى طلوعه ستة أشهر. وقد مضى القول في هذا في {البقرة} و{إبراهيم} والحمد لله.

تفسير سورة الزمر
سورة الزمر
مقدمة السورة
ويقال سورة الغرف. قال وهب بن منبه: من أحب أن يعرف قضاء الله عز وجل في خلقه فليقرأ سورة الغرف. وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد. وقال ابن عباس: إلا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } والأخرى { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } الآية. وقال آخرون: إلا سبع آيات من قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } إلى آخر سبع آيات نزلت في وحشي وأصحابه على ما يأتي. روى الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل. وهي خمس وسبعون آية. وقيل: اثنتان وسبعون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية: [1] { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }
الآية: [2] { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ }
الآية: [3] { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }
الآية: [4] { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
قوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ } رفع بالابتداء وخبره { مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } . ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل؛ قال الفراء. وأجاز الكسائي والفراء أيضا { تَنْزِيلُ } بالنصب على أنه مفعول به. قال الكسائي: أي اتبعوا واقرؤوا { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ }. وقال الفراء: هو على الإغراء مثل قوله: { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي الزموا. والكتاب القرآن. سمي بذلك لأنه مكتوب.

قوله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي هذا تنزيل الكتاب من الله وقد أنزلناه بالحق؛ أي بالصدق وليس بباطل وهزل. { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً } في مسألتان:
الأولى- { مُخْلِصاً } نصب على الحال أي موحدا لا تشرك به شيئا { لَهُ الدِّينَ } أي الطاعة. وقيل: العبادة وهو مفعول به. { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } أي الذي لا يشوبه شيء. وفي حديث الحسن عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إني أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئا شورك فيه" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وقد مضى هذا المعنى في {البقرة} و{النساء} و{الكهف} مستوفى.
قال ابن العربي: هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان أن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطرا ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية.
الثانية- قوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } يعني الأصنام والخبر محذوف. أي قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله، فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام في الأحقاف { فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً } والزلفى القربة؛ أي ليقربونا إليه تقريبا، فوضع { زُلْفَى } في موضع المصدر. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

زُلْفَى } وفي حرف أُبيّ: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ } ذكره النحاس. قال: والحكاية في هذا بينة. { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحق. { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي من سبق له القضاء بالكفر لم يهتد؛ أي للدين الذي ارتضاه وهو دين الإسلام؛ كما قال الله تعالى: { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } وفي هذا رد على القدرية وغيرهم على ما تقدم.
قوله تعالى: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي لو أراد أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله عز وجل إليهم. { سُبْحَانَهُ } أي تنزيها له عن الولد { هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }.
الآية: [5] { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }
الآية: [6] { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }
قوله تعالى: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } أي هو القادر على الكمال المستغني عن الصاحبة والولد، ومن كان هكذا فحقه أن يفرد بالعبادة لا أنه يشرك به. ونبه بهذا على أن يتعبد العباد بما شاء وقد فعل. { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا وهذا على هذا. وهذا على معنى التكوير في اللغة وهو طرح الشيء بعضه على بعض؛ يقال كور المتاع أي ألقى بعضه على بعض؛

ومنه كور العمامة. وقد روي عن ابن عباس هذا في معنى الآية. قال: ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل. وهو معنى قوله تعالى: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } وقيل: تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوءه، ويغشى النهار على الليل فيذهب ظلمته، وهذا قول قتادة. وهو معنى قوله تعالى: { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي بالطلوع والغروب لمنافع العباد. { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً } أي في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا وهو يوم القيامة حين تنفطر السماء وتنتثر الكواكب. وقيل: الأجل المسمى هو الوقت الذي ينتهي فيه سير الشمس والقمر إلى المنازل المرتبة لغروبها وطلوعها. قال الكلبي: يسيران إلى أقصى منازلهما، ثم يرجعان إلى أدنى منازلهما لا يجاوزانه. وقد تقدم بيان هذا في سورة {يس} . { أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } { أَلا } تنبيه أي تنبهوا فإني أنا { الْعَزِيزُ } الغالب { الْغَفَّارُ } الساتر لذنوب خلقه برحمته.
قوله تعالى: { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم عليه السلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يعني ليحصل التناسل وقد مضى هذا في {الأعراف} وغيرها. { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أخبر عن الأزواج بالنزول، لأنها تكونت بالنبات والنبات بالماء المنزل. وهذا يسمى التدريج؛ ومثله قوله تعالى: { قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً } الآية. وقيل: أنزل أنشأ وجعل. وقال سعيد بن جبير: خلق. وقيل: إن الله تعالى خلق هذه الأنعام في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض؛ كما قيل في قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } فإن آدم لما هبط إلى الأرض أنزل معه الحديد. وقيل: { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ } أي أعطاكم. وقيل: جعل الخلق إنزالا؛ لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء. فالمعنى: خلق لكم كذا بأمره النازل. قال قتادة: من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين كل واحد

زوج. وقد تقدم هذا. { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } قال قتادة والسدي: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما. ابن زيد: { خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم. وقيل: في ظهر الأب ثم خلقا في بطن الأم ثم خلقا بعد الوضع ذكره الماوردي. { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ } ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك. وقال ابن جبير: ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة الليل. والقول الأول أصح. وقيل: ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم. وهذا مذهب أبي عبيدة. أي لا تمنعه الظلمة كما تمنع المخلوقين. { ذَلِكُمُ اللَّهُ } أي الذي خلق هذه الأشياء { رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ }. { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره. وقرأ حمزة: { أُمَّهَاتِكُمْ } بكسر الهمزة والميم. والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم.
الآية: [7] { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
قوله تعالى: { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ } شرط وجوابه. { وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } أي أن يكفروا أي لا يحب ذلك منهم. وقال ابن عباس والسدي: معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله فيهم: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وكقوله: { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } أي المؤمنون. وهذا على قول من لا يفرق بين الرضا والإرادة. وقيل: لا يرضى الكفر وإن أراده؛ فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادة غير الرضا. وهذا مذهب أهل السنة.

قوله تعالى: { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } أي يرضى الشكر لكم؛ لأن { تَشْكُرُوا } يدل عليه. وقد مضى القول في الشكر في {البقرة} وغيرها. ويرضى بمعنى يثيب ويثني، فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } وإما ثناؤه فهو صفة ذات. و {يرضه} بالإسكان في الهاء قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم. وأشبع الضمة ابن ذكوان وابن كثير وابن محيصن والكسائي وورش عن نافع. واختلس الباقون. { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } قد تقدم.
الآية: [8] { وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ }
الآية: [9] { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ }
قوله تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ } يعني الكافر { ضُرٌّ } أي شدة من الفقر والبلاء { دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } أي راجعا إليه مخبتا مطيعا له مستغيثا به في إزالة تلك الشدة عنه. { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ } أي أعطاه وملكه. يقال: خولك الله الشيء أي ملكك إياه، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا

وخول الرجل: حشمه الواحد خائل. قال أبو النجم:
أعطى فلم يبخل ولم يبخل ... كوم الذرى من خول المخول
{ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ } أي نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه فـ {ما} على هذا الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي. وقيل: بمعنى من كقوله: { وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } والمعنى واحد. وقيل: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل. أي ترك كون الدعاء منه إلى الله، فما والفعل على هذا القول مصدر. { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً } أي أوثانا وأصناما. وقال السدي: يعني أندادا من الرجال يعتمدون عليهم في جميع أمورهم. { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ } أي ليقتدي به الجهال. { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } أي قل لهذا الإنسان { تَمَتَّعْ } وهو أمر تهديد فمتاع الدنيا قليل. { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } أي مصيرك إلى النار.
قوله تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ } بين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره. وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي { أَمَّنْ } بالتشديد. وقرأ نافع وابن كثير ويحيى ابن وثاب والأعمش وحمزة: { أَمَّنْ هُوَ } بالتخفيف على معنى النداء؛ كأنه قال يا من هو قانت. قال الفراء: الألف بمنزلة يا، تقول يا زيد أقبل وأزيد أقبل. وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين؛ كما قال أوس بن حجر:
أبني لبينى لستم بيد ... إلا يدا ليست لها عضد
وقال آخر هو ذو الرمة:
أدارا بحزوي هجت للعين عبرة ... فماء الهوى يرفض أو يترقرق
فالتقدير عل هذا { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة؛ كما يقال في الكلام: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من يصلي ويصوم أبشر؛ فحذف لدلالة الكلام عليه. وقيل: إن الألف في { أَمَّنْ } ألف استفهام أي { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ } أفضل؟ أم من جعل لله أندادا؟ والتقدير الذي هو قانت خير. ومن شدد

{ أَمَّنْ } فالمعنى العاصون المتقدم ذكرهم خير { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } فالجملة التي عادلت أم محذوفة، والأصل أم من فأدغمت في الميم. النحاس: وأم بمعنى بل، ومن بمعنى الذي؛ والتقدير: أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر. وفي قانت أربعة أوجه: أحدها: أنه المطيع؛ قاله ابن مسعود. الثاني: أنه الخاشع في صلاته؛ قاله ابن شهاب. الثالث: أنه القائم في صلاته؛ قاله يحيى بن سلام. الرابع: أنه الداعي لربه. وقول ابن مسعود يجمع ذلك. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله عز وجل" وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل؟ فقال: "طول القنوت" وتأوله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام. وروى عبدالله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت فقال: ما أعرف القنوت إلا طول القيام، وقراءة القرآن. وقال مجاهد: من القنوت طول الركوع وغض البصر. وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين. قال النحاس: أصل هذا أن القنوت الطاعة، فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل، فهذه الأشياء كلها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها كما قال نافع: قال لي ابن عمر قم فصل فقمت أصلي وكان علي ثوب خلق، فدعاني فقال لي: أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضى هكذا؟ فقلت: كنت أتزين قال: فالله أحق أن تتزين له. واختلف في تعيين القانت ها هنا، فذكر يحيى بن سلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس في رواية الضحاك عنه: هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال ابن عمر: هو عثمان رضي الله عنه. وقال مقاتل: إنه عمار بن ياسر. الكلبى: صهيب وأبو ذر وابن مسعود. وعن الكلبي أيضا أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال. { آنَاءَ اللَّيْلِ } قال الحسن: ساعاته؛ أوله وأوسطه وآخره. وعن ابن عباس: { آنَاءَ اللَّيْلِ } جوف الليل. قال ابن عباس: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه. وقيل: ما بين المغرب والعشاء. وقول الحسن عام. { يَحْذَرُ الآخِرَةَ } قال سعيد بن جبير: أي عذاب الآخرة. { وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } أي

نعيم الجنة. وروي عن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال: هذا متمن. ولا يقف على قوله: { رَحْمَةَ رَبِّهِ } من خفف { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } على معنى النداء؛ لأن قوله: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } متصل إلا أن يقدر في الكلام حذف وهو أيسر، على ما تقدم بيانه. قال الزجاج: أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقال غيره: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم. { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ } أي أصحاب العقول من المؤمنين.
الآية: [10] { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا } أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين { اتَّقُوا رَبَّكُمْ } أي أتقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو وقد تقدم. وقال ابن عباس: يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة. ثم قال: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } يعني بالحسنة الأولى الطاعة وبالثانية الثواب في الجنة. وقيل: المعنى للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا، يكون ذلك زيادة على ثواب الآخرة، والحسنة الزائدة في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة. قال القشيري: والأول أصح؛ لأن الكافر قد نال نعم الدنيا.
قلت: وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم. وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن، وفي الآخرة الجزاء. { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي. وقد مضى القول في هذا مستوفى في {النساء} وقيل: المراد أرض الجنة؛ رغبهم في سعتها وسعة نعيمها؛ كما قال: { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } والجنة قد تسمى أرضا؛

قال الله تعالى: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } والأول أظهر فهو أمر بالهجرة. أي ارحلوا من مكة إلى حيث تأمنوا. الماوردي: يحتمل أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق؛ لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه ورزق الله واسع وهو أشبه؛ لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان.
قلت: فتكون الآية دليلا على الانتقال من الأرض الغالية، إلى الأرض الراخية، كما قال سفيان الثوري: كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزا بدرهم .{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بغير تقدير. وقيل: يزاد على الثواب؛ لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب. وقيل: { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعيم الدنيا. و { الصَّابِرُونَ } هنا الصائمون؛ دليله قوله عليه الصلاة والسلام مخبرا عن الله عز وجل: "الصوم لي وأنا أجزي به" قال أهل العلم: كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا؛ وحكي عن علي رضي الله عنه. وقال مالك بن أنس في قوله: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال: هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها. ولا شك أن كل من سلم فيما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجرهم. وقال قتادة: لا والله ما هناك مكيال ولا ميزان، حدثني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تنصب الموازين فيؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين وكذلك الصلاة والحج ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا" ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم

{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. ولفظ صابر يمدح به وإنما هو لمن صبر عن المعاصي، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت صابر على كذا؛ قال النحاس. وقد مضى في {البقرة} مستوفى.
الآية: [11] { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ }
الآية: [12] { وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ }
الآية: [13] { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
الآية: [14] { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي }
الآية: [15] { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }
الآية: [16] { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ }
قوله تعالى: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ } تقدم. { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } من هذه الأمة، وكذلك كان؛ فإنه كان أول من خالف دين آبائه؛ وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إليه صلى الله عليه وسلم. واللام في قوله: { لأَنْ أَكُونَ } صلة زائدة قال الجرجاني وغيره. وقيل: لام أجل. وفي الكلام حذف أي أمرت بالعبادة { لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ }.
قوله تعالى: { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يريد عذاب يوم القيامة وقال حين دعاه قومه إلى دين آبائه؛ قال أكثر أهل التفسير. وقال أبو حمزة الثمالي وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فكانت هذه الآية من قبل أن يغفر ذنب النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ } {الله} نصب بـ { أَعْبُدُ } ، { مُخْلِصاً لَهُ دِينِي } طاعتي وعبادتي. { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } أمر تهديد ووعيد وتوبيخ؛ كقوله تعالى: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } . وقيل: منسوخة بآية السيف.
قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } قال ميمون بن مهران عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. في رواية عن ابن عباس: فمن عمل بطاعة الله كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ }. { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } سمى ما تحتهم ظللا؛ لأنها تظل من تحتهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } وقوله: { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ }. { ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ } قال ابن عباس: أولياءه. { يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } أي يا أوليائي فخافون. وقيل: هو عام في المؤمن والكافر. وقيل: خاص بالكفار.
الآية: [17] { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ }
الآية: [18] { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ }
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا } قال الأخفش: الطاغوت جمع ويجوز أن تكون واحدة مؤنثة. وقد تقدم. أي تباعدوا من الطاغوت وكانوا منها على جانب فلم يعبدوها. قال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان. وقال الضحاك والسدي: هو الأوثان. وقيل: إنه الكاهن. وقيل إنه اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت وهاروت وماروت. وقيل: إنه اسم عربي مشتق من الطغيان، و {أن} في موضع نصب بدلا من الطاغوت، تقديره: والذين

أجتنبوا عبادة الطاغوت. { وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ } أي رجعوا إلى عبادته وطاعته. { لَهُمُ الْبُشْرَى } في الحياة الدنيا بالجنة في العقبى. روي أنها نزلت في عثمان وعبدالرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير رضي الله عنهم؛ سألوا أبا بكر رضي الله عنه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا. وقيل: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وغيرهما ممن وحد الله تعالى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به. وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون القرآن وأقوال الرسول فيتبعون أحسنه أي محكمه فيعملون به. وقيل: يستمعون عزما وترخيصا فيأخذون بالعزم دون الترخيص. وقيل: يستمعون العقوبة الواجبة لهم والعفو فيأخذون بالعفو. وقيل: إن أحسن القول على من جعل الآية فيمن وحد الله قبل الإسلام "لا إله إلا الله". وقال عبدالرحمن بن زيد: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم، واتبعوا أحسن ما صار من القول إليهم. { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ } لما يرضاه. { وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ } أي أصحاب العقول من المؤمنين الذين انتفعوا بعقولهم.
الآية: [19] { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ }
قوله تعالى: { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ } كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قوم وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس: يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان. وكرر الاستفهام في قوله: { أَفَأَنْتَ } تأكيدا لطول الكلام، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى: { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ } على ما تقدم. والمعنى: { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ } أفأنت تنقذه. والكلام شرط وجوابه. وجيء بالاستفهام؛ ليدل على التوقيف والتقرير. وقال الفراء: المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه

كلمة العذاب. والمعنى واحد. وقيل: إن في الكلام حذفا والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه، وما بعده مستأنف. وقال: { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ } وقال في موضع آخر: { حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ } لأن الفعل إذا تقدم ووقع بينه وبين الموصوف به حائل جاز التذكير والتأنيث، على أن التأنيث هنا ليس بحقيقي بل الكلمة في معنى الكلام والقول؛ أي أفمن حق عليه قول العذاب.
الآية: [20] { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ }
قوله تعالى: { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ } لما بين أن للكفار ظلا من النار من فوقهم ومن تحتهم بين أن للمتقين غرفا فوقها غرف؛ لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا و { لَكِنِ } ليس للاستدرار؛ لأنه لم يأت نفي كقوله: ما رأيت زيدا لكن عمرا؛ بل هو لترك قصة إلى قصة مخالفة للأولى كقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يأت. { مَبْنِيَّةٌ } قال ابن عباس: من زبرجد وياقوت { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي هي جامعة لأسباب النزهة. { وَعْدَ اللَّهِ } نصب على المصدر؛ لأن معنى { لَهُمْ غُرَفٌ } وعدهم الله ذلك وعدا. ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد الله. { لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } أي ما وعد الفريقين.
الآية: [21] { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ }
قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي إنه لا يخلف الميعاد في إحياء الخلق، والتمييز بين المؤمن والكافر، وهو قادر على ذلك كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء. { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ } أي من السحاب { مَاءً } أي المطر { فَسَلَكَهُ } أي فأدخله في الأرض

وأسكنه فيها؛ كما قال: { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ } { يَنَابِيعَ } جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع وينبع وينبع بالرفع والنصب والخفض. النحاس: وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر:
ينباع من ذفرى غضوب جسرة
أن معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا، نبوعا خرج. والينبوع عين الماء والجمع الينابيع. وقد مضى في {سبحان}.{ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ } أي بذلك الماء الخارج من ينابيع الأرض { زَرْعاً } هو للجنس أي زروعا شتى لها ألوان مختلفة، حمرة وصفرة وزرقة وخضرة ونورا. قال الشعبي والضحاك: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة، ثم تقسم منها العيون والركايا. { ثُمَّ يَهِيجُ } أي ييبس. { فَتَرَاهُ } أي بعد خضرته { مُصْفَرّاً } قال المبرد قال الأصمعي: يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى. قال: كذلك هاج النبت. قال: وكذلك قال غير الأصمعي. وقال الجوهري: هاج النبت هياجا أي يبس. وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر، وأهاجت الريح النبت أيبسته، وأهيجنا الأرض أي وجدناها هائجة النبات، وهاج هائجه أي ثار غضبه، وهدأ هائجه أي سكنت فورته. { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } أي فتاتا مكسرا من تحطم العود إذا تفتت من اليبس. والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة. وقيل: هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض، أي أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أي دينا مختلفا بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع. وقيل: هو مثل ضربه الله للدنيا؛ أي كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك الدنيا بعد بهجتها. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ } .
الآية: [22] { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }

قوله تعالى: { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ } شرح فتح ووسع. قال ابن عباس: وسع صدره للإسلام حتى ثبت فيه. وقال السدي: وسع صدره بالإسلام للفرح به والطمأنينة إليه؛ فعلى هذا لا يجوز أن يكون هذا الشرح إلا بعد الإسلام؛ وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام. { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } أي على هدى من ربه. { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } قال المبرد: يقال قسا القلب إذا صلب، وكذلك عتا وعسا مقاربة لها. وقلب قاس أي صلب لا يرق ولا يلين. والمراد بمن شرح الله صدره ها هنا فيما ذكر المفسرون علي وحمزة رضي الله عنهما. وحكى النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال مقاتل: عمار بن ياسر. وعنه أيضا والكلبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآية عامة فيمن شرح الله صدوره بخلق الإيمان فيه. وروى مرة عن ابن مسعود قال: قلنا يا رسول الله قوله تعالى: { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } كيف انشرح صدره؟ قال: "إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح" قلنا: يا رسول الله وما علامة ذلك؟. قال: "الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله" وخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث ابن عمر: أن رجلا قال يا رسول الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: "أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع" قالوا: فما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت" فذكر صلى الله عليه وسلم خصالا ثلاثة، ولا شك أن من كانت فيه هذه الخصال فهو الكامل الإيمان، فإن الإنابة إنما هي أعمال البر؛ لأن دار الخلود إنما وضعت جزاء لأعمال البر، ألا ترى كيف ذكره الله في مواضع في تنزيله ثم قال بعقب ذلك: { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فالجنة جزاء الأعمال؛ فإذا انكمش العبد في أعمال البر فهو إنابته إلى دار الخلود، وإذا خمد حرصه عن الدنيا، ولها عن طلبها، وأقبل على

ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع، فقد تجافى عن دار الغرور. وإذا أحكم أموره بالتقوى فكان ناظرا في كل أمر، واقفا متأدبا متثبتا حذرا يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه، فقد استعد للموت. فهذه علامتهم في الظاهر. وإنما صار هكذا لرؤية الموت، ورؤية صرف الآخرة عن الدنيا، ورؤية الدنيا أنها دار الغرور، وإنما صارت له هذه الرؤية بالنور الذي ولج القلب. وقوله: { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } قيل: المراد أبو لهب وولده؛ ومعنى: { مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } أن قلوبهم تزداد قسوة من سماع ذكره. وقيل: إن { مِنْ } بمعنى عن، والمعنى قست عن قبول ذكر الله. وهذا اختيار الطبري. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى اطلبوا الحوائج من السمحاء فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي". وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.
الآية: [23] { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- قوله تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } يعني القرآن لما قال: { فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } بين أن أحسن ما يسمع ما أنزله الله وهو القرآن. قال سعد بن أبي وقاص قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } فقالوا: لو قصصت علينا فنزل: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } فقالوا: لو ذكرتنا فنزل: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } الآية. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له: حدثنا فنزلت. والحديث ما يحدث به المحدث. وسمي القرآن حديثا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث به

أصحابه وقومه، وهو كقوله: { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } وقوله: { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } وقوله: { إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } وقوله: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً } وقوله: { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ } قال القشيري: وتوهم قوم أن الحديث من الحدوث فيدل على أن كلامه محدث وهو وهم؛ لأنه لا يريد لفظ الحديث على ما في قوله: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } وقد قالوا: إن الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو، وهو كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الرب تعالى. { كِتَاباً } نصب على البدل من { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } ويحتمل أن يكون حالا منه. { مُتَشَابِهاً } يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف. وقال قتادة: يشبه بعضه بعضا في الآي والحروف. وقيل: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه؛ لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب وإن كان أعم وأعجز. { مَثَانِيَ } تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام وثنى للتلاوة فلا يمل. { تَقْشَعِرُّ } تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد. { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي عند آية الرحمة. وقيل: إلى العمل بكتاب الله والتصديق به. وقيل: { إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } يعني الإسلام.
الثانية- وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال سعيد بن عبدالرحمن الجمحي: مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم؛ ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عمر بن عبدالعزيز: ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق. وقال أبو عمران

الجوني: وعظ موسى عليه السلام بني إسرائيل ذات يوم فشق رجل قميصه، فأوحى الله إلى موسى: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه فإني لا أحب المبذرين؛ يشرح لي عن قلبه.
وقال زيد بن أسلم: ذرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة". وعن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها". وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما اقشعر جلد عبد من خشية الله إلا حرمه الله على النار". وعن شهر بن حوشب عن أم الدرداء قالت: إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة، أما تجد إلا قشعريرة؟ قلت: بلى؛ قالت: فادع الله فإن الدعاء عند ذلك مستجاب. وعن ثابت البناني قال: قال فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي. قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي. يقال: اقشعر جلد الرجل أقشعرارا فهو مقشعر والجمع قشاعر فتحذف الميم، لأنها زائدة؛ يقال أخذته قشعريرة. قال امرؤ القيس:
فبت أكابد ليل التمام ... والقلب من خشية مقشعر
وقيل: إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته، اقشعرت الجلود منه إعظاما له، وتعجبا من حسن ترصيعه وتهيبا لما فيه؛ وهو كقوله تعالى: { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } فالتصدع قريب من الاقشعرار، والخشوع قريب من قوله :{ ُثمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } ومعنى لين القلب رقته وطمأنينته وسكونه. { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ } أي القرآن هدى الله. وقيل: أي الذي وهبه الله لهؤلاء من خشية عقابه ورجاء ثوابه هدى الله. { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي من خذله فلا مرشد له. وهو يرد على القدرية وغيرهم. وقد مضى معنى هذا كله مستوفى في غير موضع والحمد لله. ووقف ابن كثير وابن محيصن على قوله: { هَادٍ } في الموضعين بالياء، الباقون بغير ياء.

الآية: [24] { أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ }
الآية: [25] { كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ }
الآية: [26] { فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: { أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ } قال عطاء وابن زيد: يرمى به مكتوفا في النار فأول شيء تمس منه النار وجهه. وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار. وقال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة عظيمة كالجبل العظيم من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه، فحرها ووهجها على وجهه؛ لا يطيق دفعها عن وجهه من أجل الأغلال. والخبر محذوف. قال الأخفش: أي { أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ } أفضل أم من سعد، مثل: { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ } أي وتقول الخزنة للكافرين { ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } أي جزاء كسبكم من المعاصي. ومثله { هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ }.
قوله تعالى: { كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد. { كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } تقدم معناه. وقال المبرد: يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته،أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما. قال: والخزي من المكروه والخزاية من الاستحياء { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ } أي مما أصابهم في الدنيا { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }.
الآية: [27] { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
الآية: [28] { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

قوله تعالى: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } أي من كل مثل يحتاجون إليه؛ مثل قوله تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } وقيل: أي ما ذكرناه من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء. { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يتعظون. { قُرْآناً عَرَبِيّاً } نصب على الحال. مال الأخفش: لأن قوله جل وعز: { فِي هَذَا الْقُرْآنِ } معرفة. وقال علي بن سليمان: { عَرَبِيّاً } نصب على الحال و { قُرْآناً } توطئة للحال كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا فقولك صالحا هو المنصوب على الحال. وقال الزجاج: { عَرَبِيّاً } منصوب على الحال و { قُرْآناً } توكيد. { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } النحاس: أحسن ما قيل فيه قول الضحاك، قال: غير مختلف. وهو قول ابن عباس، ذكره الثعلبي. وعن ابن عباس أيضا غير مخلوق، ذكره المهدوي وقاله السدي فيما ذكره الثعلبي. وقال عثمان بن عفان: غير متضاد. وقال مجاهد: غير ذي لبس. وقال بكر بن عبدالله المزني: غير ذي لحن. وقيل: غير ذي شك. قال السدي فيما ذكره الماوردي. قال:
وقد أتاك يقين غير ذي عوج ... من الإله وقول غير مكذوب
{ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الكفر والكذب.
الآية: [29] { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ } قال الكسائي: نصب { وَرَجُلاً } لأنه ترجمة للمثل وتفسير له، وإن شئت نصبته بنزع الخافض، مجازه: ضرب الله مثلا برجل { فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ } قال الفراء: أي مختلفون. وقال المبرد: أي متعاسرون من شكس يشكس شكسا بوزن قفل فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر، يقال: رجل شكس وشرس وضرس وضبس. ويقال: رجل ضبس وضبيس أي

شرس عسر شكس؛ قاله الجوهري. الزمخشري: والتشاكس والتشاخس الاختلاف. يقال: تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه. ويقال: شاكسني فلان أي ماكسني وشاحني في حقي. قال الجوهري: رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق. قال الراجز:
شكس عبوس عنبس عذور
وقوم شكس مثال رجل صدق وقوم صدق. وقد شكس بالكسر شكاسة. وحكى الفراء: رجل شكس. وهو القياس، وهذا مثل من عبد آلهة كثيرة. { وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ } أي خالصا لسيد واحد، وهو مثل من يعبد الله وحده. { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة، ونياتهم متباينة، لا يلقاه رجل إلا جره واستخدمه؛ فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم، وهو مع ذلك كله لا يرضي واحدا منهم بخدمته لكثرة الحقوق في رقبته، والذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد، إذا أطاعه وحده عرف ذلك له، وإن أخطأ صفح عن خطأه، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم. وقرأ أهل الكوفة وأهل المدينة: { وَرَجُلاً سَلَماً } وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وعاصم الجحدري وأبو عمرو وابن كثير ويعقوب: { وَرَجُلاً سَلَماً } واختاره أبو عبيد لصحة التفسير فيه. قال: لأن السالم الخالص ضد المشترك، والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب هنا. النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم؛ لأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما، فهذا وإن كان السلم ضد الحرب فله موضع آخر؛ كما يقال لك في هذا المنزل شركاء فصار سلما لك. ويلزمه أيضا في سالم ما ألزم غيره؛ لأنه يقال شيء سالم أي لا عاهة به. والقراءتان حسنتان قرأ بهما الأئمة. واختار أبو حاتم قراءة أهل المدينة {سلما} قال وهذا الذي لا تنازع فيه. وقرأ سعيد بن جبير وعكرمة وأبو العالية ونصر { سَلَماً } بكسر السين وسكون اللام. وسلما وسلما مصدران؛ والتقدير: ورجلا ذا سلم فحذف المضاف و { مَثَلاً } صفة على التمييز، والمعنى هل تستوي صفاتهما وحالاهما. وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس. { الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي لا يعلمون الحق فيتبعونه.

الآية: [30] { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }
الآية: [31] { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ }
قوله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } قرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق { إِنَّكَ مَائتٌ وَإِنَّهُمْ مَائتُونَ } وهي قراءة حسنة وبها قرأ عبدالله بن الزبير. النحاس: ومثل هذه الألف تحذف في الشواذ و { مَائت } في المستقبل كثير في كلام العرب؛ ومثله ما كان مريضا وإنه لمارض من هذا الطعام. وقال الحسن والفراء والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف من فارقته الروح؛ فلذلك لم تخفف هنا. قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ونعيت إليكم أنفسكم. وقال ثابت البناني: نعى رجل إلى صلة بن أشيم أخا له فوافقه يأكل، فقال: ادن فكل فقد نعي إلي أخي منذ حين؛ قال: وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر. قال إن الله تعالى نعاه إلي فقال: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }. وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بموته وموتهم؛ فاحتمل خمسة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك تحذيرا من الآخرة. الثاني: أن يذكره حثا على العمل. الثالث: أن يذكره توطئة للموت. الرابع: لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره، حتى أن عمر رضي الله عنه لما أنكر موته احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذه الآية فأمسك. الخامس: ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره؛ لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة .{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } يعني تخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم؛ قال ابن عباس وغيره. وفي خبر فيه طول: إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاج الروح الجسد. وقال الزبير: لما نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: "نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه" فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد. وقال ابن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } فقلنا: وكيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد، حتى رأيت

بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف؛ فعرفت أنها فينا نزلت. وقال أبو سعيد الخدري: "كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا". وقال إبراهيم النخعي: لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ما خصومتنا بيننا؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا بيننا. وقيل تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى، فيستوفي من حسنات الظالم بقدر مظلمته، ويردها في حسنات من وجبت له. وهذا عام في جميع المظالم كما في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" خرجه مسلم. وقد مضى المعنى مجودا في {آل عمران} وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" وفي الحديث المسند: "أول ما تقع الخصومات في الدنيا" وقد ذكرنا هذا الباب كله في {التذكرة }مستوفى.
الآية: [32] { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ }
الآية: [33] { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
الآية: [34] { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ }
الآية: [35] { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ }

قوله تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ } أي لا أحد أظلم { مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ } فزعم أن له ولدا وشريكا { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ } يعني القرآن { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ } استفهام تقرير { مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ } أي مقام للجاحدين، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوي ثواء وثويا مثل مضى مضاء ومضيا، ولو كان من أثوى لكان مثوى. وهذا يدل على أن ثوى هي اللغة الفصيحة. وحكى أبو عبيد أثوى، وأنشد قول الأعشى:
أثوى وقصر ليلة ليزودا ... ومضى وأخلف من قتيلة موعدا
والأصمعي لا يعرف إلا ثوى، ويروى البيت أثوى على الاستفهام. وأثويت غيري يتعدى ولا يتعدى.
قوله تعالى: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } في موضع رفع بالابتداء وخبره { أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } واختلف في الذي جاء بالصدق وصدق به؛ فقال علي رضي الله عنه: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } النبي صلى الله عليه وسلم { وَصَدَّقَ بِهِ } أبو بكر رضي الله عنه. وقال مجاهد: النبي عليه السلام وعلي رضي الله عنه. السدي: الذي جاء بالصدق جبريل والذي صدق به محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد ومقاتل وقتادة: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } النبي صلى الله عليه وسلم: { وَصَدَّقَ بِهِ } المؤمنون. واستدلوا على ذلك بقوله: { أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } كما قال: { هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } وقال النخعي ومجاهد: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } المؤمنون الذين يجيؤون بالقرآن يوم القيامة فيقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه؛ فيكون {الَّذِي} على هذا بمعنى جمع كما تكون من بمعنى جمع. وقيل: بل حذفت منه النون لطول الاسم، وتأول الشعبي على أنه واحد. وقال: { الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } محمد صلى الله عليه وسلم فيكون على هذا خبره جماعة؛ كما يقال لمن يعظم هو فعلوا، وزيد فعلوا كذا وكذا. وقيل: إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله عز وجل؛ قاله ابن عباس وغيره، واختاره الطبري. وفي قراءة ابن مسعود { وَالَّذِي جَاءَوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } وهي قراءة على التفسير. وفي قراءة أبي صالح الكوفي { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } مخففا على معنى وصدق بمجيئه

به، أي صدق في طاعة الله عز وجل، وقد مضى في {البقرة} الكلام في { الَّذِي } وأنه يكون واحدا ويكون جمعا. { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي من النعيم في الجنة، كما يقال: لك إكرام عندي؛ أي ينالك مني ذلك. { ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } الثناء في الدنيا والثواب في الآخرة.
قوله تعالى: { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ } أي صدّقوا { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ }. { أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا } أي يكرمهم ولا يؤاخذهم بما عملوا قبل الإسلام. { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ } أي يثيبهم على الطاعات في الدنيا { بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } وهي الجنة.
الآية: [36] { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }
الآية: [37] { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ }
قوله تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } حذفت الياء من { بِكَافٍ } لسكونها وسكون التنوين بعدها؛ وكان الأصل ألا تحذف في الوقف لزوال التنوين، إلا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل. ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول: كافي. وقراءة العامة { عَبْدَهُ } بالتوحيد يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يكفيه الله وعيد المشركين وكيدهم. وقرأ حمزة والكسائي { عِبَادِهِ } وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم. واختار أبو عبيدة قراءة الجماعة لقوله عقيبه: { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } . ويحتمل أن يكون العبد لفظ الجنس؛ كقوله عز من قائل: { إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } وعلى هذا تكون القراءة الأولى راجعة إلى الثانية. والكفاية شر الأصنام، فإنهم كانوا يخوفون المؤمنين بالأصنام، حتى قال إبراهيم عليه السلام. { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ }. وقال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر، هذا بالثواب وهذا بالعقاب.

قوله تعالى: { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم مضرة الأوثان، فقالوا: أتسب آلهتنا؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنك أوتصيبنك بسوء. وقال قتادة: مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس. فقال له سادنها: أحذركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس. وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي وجه خالدا. ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم؛ كما قال: { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ } { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } تقدم. { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ } أي ممن عاداه أوعادى رسله.
الآية: [38] { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ }
الآية: [39] { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
الآية: [40] { مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ }
الآية: [41] { إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ }
قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } أي ولئن سألتهم يا محمد { مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } بين أنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الخالق هو الله، وإذا كان الله هو الخالق فكيف يخوفونك بآلهتهم التي هي مخلوقة لله تعالى، وأنت رسول الله الذي خلقها وخلق السماوات والأرض. { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي قل لهم يا محمد بعد اعترافهم بهذا { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } { إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ } بشدة وبلاء { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } يعني هذه الأصنام { أَوْ أَرَادَنِي

بِرَحْمَةٍ } نعمة ورخاء { هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } قال مقاتل: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا. وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئا قدره الله ولكنها تشفع. فنزلت: { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } ترك الجواب لدلالة الكلام عليه؛ يعني فسيقولون لا أي لا تكشف ولا تمسك فـ { قُلْ } أنت { حَسْبِيَ اللَّهُ } أي عليه توكلت أي اعتمدت و { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } يعتمد المعتمدون. وقد تقدم الكلام في التوكل. وقرأ نافع وابن كثير والكوفيون ما عدا عاصما { كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } بغير تنوين. وقرأ أبو عمرو وشيبة وهي المعروفة من قراءة الحسن وعاصم { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } . { مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } بالتنوين على الأصل وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأنه اسم فاعل في معنى الاستقبال، وإذا كان كذلك كان التنوين أجود. قال الشاعر:
الضاربون عميرا عن بيوتهم ... بالليل يوم عمير ظالم عادي
ولوكان ماضيا لم يجز فيه التنوين، وحذف التنوين على التحقيق، فإذا حذفت التنوين لم يبق بين الاسمين حاجز فخفضت الثاني بالإضافة. وحذف التنوين كثير في كلام العرب موجود حسن؛ قال الله تعالى: { هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وقال: { إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ } قال سيبويه: ومثل ذلك { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } وأنشد سيبويه:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أوعبد رب أخا عون بن مخراق
وقال النابغة:
احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد
معناه وارد الثمد فحذف التنوين؛ مثل { كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ }
قوله تعالى: { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ } أي على مكانتي أي على جهتي التي تمكنت عندي { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } . وقرأ أبو بكر بالجمع { مَكَانَتِكُمْ }. وقد مضى في {الأنعام}.

{ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي يهينه ويذله أي في الدنيا وذلك بالجوع والسيف. { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } أي في الآخرة. { إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } تقدم.
الآية: [42] { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
فيه أربع مسائل:
الأولى- قوله تعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } أي يقبضها عند فناء آجالها { وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } اختلف فيه. فقيل: يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى } وهي النائمة فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها؛ قال ابن عيسى. وقال الفراء: المعنى ويقبض التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها. قال: وقد يكون توفيها نومها؛ فيكون التقدير على هذا والتي لم تمت وفاتها نومها. وقال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى } أي يعيدها. قال علي رضي الله عنه: فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين، وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة.

وقال ابن زيد: النوم وفاة والموت وفاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كما تنامون فكذلك تموتون وكما توقظون فكذلك تبعثون". وقال عمر: النوم أخو الموت. وروي مرفوعا من حديث جابر بن عبدالله قيل: يا رسول الله أينام أهل الجنة؟ قال: " لا النوم أخو الموت والجنة لا موت فيها" خرجه الدارقطني. وقال ابن عباس: "في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والتحريك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه". وهذا قول ابن الأنباري والزجاج. قال القشيري أبو نصر: وفي هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحال شيء واحد؛ ولهذا قال: { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } فإذاً يقبض الله الروح في حالين في حالة النوم وحالة الموت، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض، وما قبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة. وقوله: { وَيُرْسِلُ الأُخْرَى } أي يزيل الحابس عنه فيعود كما كان. فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الحس وخلق الغفلة والآفة في محل الإدراك. وتوفيها في حالة الموت بخلق الموت وإزالة الحس بالكلية. { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } بألا يخلق فيها الإدراك كيف وقد خلق فيها الموت؟ { وَيُرْسِلُ الأُخْرَى } بأن يعيد إليها الإحساس.
الثانية- وقد اختلف الناس من هذه الآية في النفس والروح؛ هل هما شيء واحد أو شيئان على ما ذكرنا. والأظهر أنهما شيء واحد، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح على ما نذكره في هذا الباب. من ذلك حديث أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر" وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره" قال: "فذلك حين يتبع بصره نفسه" خرجهما مسلم. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء..." وذكر الحديث وإسناده صحيح خرجه ابن ماجة؛ وقد ذكرناه في التذكرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: "إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها..." . وذكر الحديث. وقال بلال في حديث الوادي: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلا له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي: "يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولوشاء ردها إلينا في حين غير هذا" .
الثالثة- والصحيح فيه أنه جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة، يجذب ويخرج وفي أكفانه يلف ويدرج، وبه إلى السماء يعرج، لا يموت ولا يفنى، وهو مما له أول وليس له آخر، وهو بعينين ويدين، وأنه ذو ريح طيبة وخبيثة؛ كما في حديث أبي هريرة. وهذه صفة الأجسام لا صفة الأعراض؛ وقد ذكرنا الأخبار بهذا كله في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة. وقال تعالى: { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } يعني النفس إلى خروجها من الجسد؛ وهذه صفة الجسم. والله أعلم.
خرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه وليُسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل سبحانك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها". وقال البخاري وابن ماجة والترمذي: "فارحمها" بدل: "فاغفر لها": "وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" زاد الترمذي: "وإذا استيقظ فليقل الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره" . وخرج البخاري عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده؛ ثم يقول: "اللهم باسمك أموت وأحيا" وإذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" .

قوله تعالى: { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } هذه قراءة العامة على أنه مسمى الفاعل { الْمَوْتَ } نصبا؛ أي قضى الله عليها وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد؛ لقوله في أول الآية: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ } فهو يقضي عليها. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزه والكسائي { الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } على ما لم يسم فاعله. النحاس، والمعنى واحد غير أن القراءة الأولى أبين وأشبه بنسق الكلام؛ لأنهم قد أجمعوا على {ويُرسِلُ} ولم يقرؤوا {ويُرسَلُ} . وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته وانفراده بالألوهية، وأنه يفعل ما يشاء، ويحيي ويميت، لا يقدر على ذلك سواه. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ } يعني في قبض الله نفس الميت والنائم، وإرساله نفس النائم وحبسه نفس الميت { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وقال الأصمعي سمعت معتمرا يقول: روح الإنسان مثل كبة الغزل، فترسل الروح، فيمضى ثم تمضى ثم تطوى فتجيء فتدخل؛ فمعنى الآية أنه يرسل من الروح شيء في حال النوم ومعظمها في البدن متصل بما يخرج منها اتصالا خفيا، فإذا استيقظ المرء جذب معظم روحه ما انبسط منها فعاد. وقيل غير هذا؛ وفي التنزيل: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي لا يعلم حقيقته إلا الله. وقد تقدم في {سبحان}.
الآية: [43] { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ }
الآية: [44] { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
الآية: [45] { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }
قوله تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ } أي بل اتخذوا يعني الأصنام وفي الكلام ما يتضمن لم؛ أي { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } لم يتفكروا ولكنهم اتخذوا آلهتهم شفعاء. { قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً } أي قل لهم يا محمد أتتخذونهم شفعاء وإن كانوا

لا يملكون شيئا من الشفاعة { وَلا يَعْقِلُونَ } لأنها جمادات. وهذا استفهام إنكار. { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } نص في أن الشفاعة لله وحده كما قال: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } فلا شافع إلا من شفاعته { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى }. { جَمِيعاً } نصب على الحال. فإن قيل: { جَمِيعاً } إنما يكون للاثنين فصاعدا والشفاعة واحدة. فالجواب أن الشفاعة مصدر والمصدر يؤدي عن الاثنين والجميع: { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
قوله تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ } نصب على المصدر عند الخليل وسيبويه، وعلى الحال عند يونس. { اشْمَأَزَّتْ } قال المبرد: انقبضت. وهو قول ابن عباس ومجاهد. وقال قتادة: نفرت واستكبرت وكفرت وتعصت. وقال المؤرج أنكرت. وأصل الاشمئزاز النفور والازورار. قال عمرو بن كلثوم:
إذا عض الثقاف بها اشمأزت ... وولتهم عشوزنة زبونا
وقال أبو زيد: اشمأز الرجل ذعر من الفزع وهو المذعور. وكان المشركون إذا قيل لهم "لا إله إلا الله" نفروا وكفروا. { وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } يعني الأوثان حين ألقى الشيطان في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءته سورة {النجم} تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم ترتجى. قاله جماعة المفسرين. { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي يظهر في وجوههم البشر والسرور.
الآية: [46] { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
الآية: [47] { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ }
الآية: [48] { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } نصب لأنه نداء مضاف وكذا { عَالِمَ الْغَيْبِ } ولا يجوز عند سيبويه أن يكون نعتا. { أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وفي صحيح مسلم عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل "فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون" اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" ولما بلغ الربيع بن خيثم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهم قرأ: { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . وقال سعيد بن جبير: إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } أي كذبوا وأشركوا { مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ } أي من سوء عذاب ذلك اليوم. وقد مضى هذا في سورة {آل عمران} و{الرعد} { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } من أجل ما روي فيه ما رواه منصور عن مجاهد قال: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات. وقاله السدي. وقيل: عملوا أعمالا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة. ويجوز أن يكونوا توهموا أنه يغفر لهم من غير توبة فـ { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } من دخول النار. وقال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال:

أخاف آية من كتاب الله { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب. { وَبَدَا لَهُمْ } أي ظهر لهم { سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } أي عقاب ما كسبوا من الكفر والمعاصي. { وَحَاقَ بِهِمْ } أي أحاط بهم ونزل { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .
الآية: [49] { فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
الآية: [50] { قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
الآية: [51] { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ }
الآية: [52] { أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: { فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا } قيل: إنها نزلت في حذيفة بن المغيرة. { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } قال قتادة: { عَلَى عِلْمٍ } عندي بوجوه المكاسب، وعنه أيضا { عَلَى عِلْمٍ } على خير عندي. وقيل: { عَلَى عِلْمٍ } أي على علم من الله بفضلي. وقال الحسن: { عَلَى عِلْمٍ } أي بعلم علمني الله إياه. وقيل: المعنى أنه قال قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة؛ فقال الله: { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } أي بل النعم التي أوتيتها فتنة تختبر بها. قال الفراء: أنث { هِيَ } لتأنيث الفتنة، ولوكان بل هو فتنة لجاز. النحاس: التقدير بل أعطيته فتنة. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار.
قوله تعالى: { قَدْ قَالَهَا } أنث على تأنيث الكلمة. { الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني الكفار قبلهم كقارون وغيره حيث قال: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } . { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } { مَا } للجحد أي لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا. وقيل:

أي فما الذي أغنى أموالهم؟ فـ { مَا } استفهام. { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } أي جزاء سيئات أعمالهم. وقد يسمى جزاء السيئة سيئة. { وَالَّذِينَ ظَلَمُوا } أي أشركوا { مِنْ هَؤُلاءِ } الأمة { سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } أي بالجوع والسيف. { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي فائتين الله ولا سابقيه. وقد تقدم.
قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } خص المؤمن بالذكر؛ لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها. ويعلم أن سعة الرزق قد يكون مكرا واستدراجا، وتقتيره رفعة وإعظاما.
الآية: [53] { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
الآية: [54] { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ }
الآية: [55] { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ }
الآية: [56] { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ }
الآية: [57] { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }
الآية: [58] { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }
الآية: [59] { بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } وإن شئت حذفت الياء؛ لأن النداء موضع حذف. النحاس: ومن أجل ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: لما اجتمعنا على الهجرة، أتعدت

أنا وهشام بن العاصي بن وائل السهمي، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضاة بني غفار، وقلنا: من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه. فأصبحت أنا وعياش بن عتبة وحبس عنا هشام، وإذا به قد فتن فافتتن، فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة، وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم، فأنزل الله عز وجل في كتابه: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } إلى قوله تعالى: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ } قال عمر: فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام. قال هشام: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت: اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أو بعثوا إليه: إن ما تدعو إليه لحسن أو تخبرنا أن لنا توبة؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } ذكره البخاري بمعناه. وقد مضى في آخر {الفرقان}.وعن ابن عباس أيضا نزلت في أهل مكة قالوا: بزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة، وخافوا ألا يتقبل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية. وقال ابن عباس أيضا وعطاء نزلت في وحشي قاتل حمزة؛ لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه: وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أتى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله" قال: فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت، هل يقبل الله منى توبة؟ فصمت

رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } إلى آخر الآية فتلاها عليه؛ فقال أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلت: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فدعا به فتلا عليه؛ قال: فلعلي ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلت: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } فقال: نعم الآن لا أرى شرطا. فأسلم. وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }. وفي مصحف ابن مسعود { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لِمَنْ يَشَاءُ } . قال أبو جعفر النحاس: وهاتان القراءتان على التفسير، أي يغفر الله لمن يشاء. وقد عرف الله عز وجل من شاء أن يغفر له، وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم تكن له كبيرة، ودل على أنه يريد التائب ما بعده { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ } فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا يدل على ذلك { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ } فهذا لا إشكال فيه. وقال علي بن أبي طالب: ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } وقد مضى هذا في {سبحان} . وقال عبدالله بن عمر: وهذه أرجى آية في القرآن فرد عليهم ابن عباس وقال أرجى آية في القرآن قوله تعالى: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } وقد مضى في {الرعد}. وقرئ {ولا تَقْنَطُوا} بكسر النون وفتحها. وقد مضى في {الحجر} بيانه.
قوله تعالى: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ } أي ارجعوا إليه بالطاعة. لما بين أن من تاب من الشرك يغفر له أمر بالتوبة والرجوع إليه، والإنابة الرجوع إلى الله بالإخلاص. { وَأَسْلِمُوا لَهُ } أي اخضعوا له وأطيعوا { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ } في الدنيا

{ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ } أي لا تمنعون من عذابه. وروى من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من السعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة ويرزقه الإنابة، وإن من الشقاوة أن يعمل المرء ويعجب بعمله".
قوله تعالى: { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } { أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ } هو القرآن وكله حسن، والمعنى ما قال الحسن: التزموا طاعته، واجتنبوا معصيته. وقال السدي: الأحسن ما أمر الله به في كتابه. وقال ابن زيد: يعني المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى علمه. وقال: أنزل الله كتب التوراة والإنجيل والزبور، ثم أنزل القرآن وأمر باتباعه فهو الأحسن وهو المعجز. وقيل: هذا أحسن لأنه ناسخ قاض على جميع الكتب وجميع الكتب منسوخة. وقيل: يعني العفو؛ لأن الله تعالى خير نبيه عليه السلام بين العفو والقصاص. وقيل: ما علم الله النبي عليه السلام وليس بقرآن فهو حسن؛ وما أوحى إليه من القرآن فهو الأحسن. وقيل: أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية.
قوله تعالى- { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ } {أن} في موضع نصب أي كراهة { أَنْ تَقُولَ } وعند الكوفيين لئلا تقول وعند البصريين حذر { أَنْ تَقُولَ }. وقيل: أي من قبل { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ } لأنه قال قيل هذا: { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ } الزمخشري: فإن قلت لم نكرت؟ قلت: لأن المراد بها بعض الأنفس وهى نفس الكافر. ويجوز أن يريد نفسا متميزة من الأنفس، إما بلجاج في الكفر شديد، أو بعقاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير كما قال الأعشى:
ورب بقيع لو هتفت بجوه ... أتاني كريم ينفض الرأس معضبا
وهو يريد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا، ونظيره: رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت، ولا يقصد إلا التكثير. { يَا حَسْرَتَا } والأصل { يَا حَسْرَتَى } فأبدل من الياء ألف؛ لأنها أخف وأمكن في الاستغاثة بمد الصوت، وربما ألحقوا بها الهاء؛ أنشد الفراء:
يا مرحباه بحمار ناجيه ... إذا أتى قربته للسانيه

وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف؛ لتدل على الإضافة. وكذلك قرأها أبو جعفر: { يَا حَسْرَتَاى } والحسرة الندامة { فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } قال الحسن: في طاعة الله. وقال الضحاك: أي في ذكر الله عز وجل. قال: يعني القرآن والعمل به. وقال أبو عبيدة: { فِي جَنْبِ اللَّهِ } أي في ثواب الله. وقال الفراء: الجنب القرب والجوار؛ يقال فلان يعيش في جنب فلان أي في جواره؛ ومنه { وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } أي ما فرطت في طلب جواره وقربه وهو الجنة. وقال الزجاج: أي على ما فرطت في الطريق الذي هو طريق الله الذي دعاني إليه. والعرب تسمي السبب والطريق إلى الشيء جنبا؛ تقول: تجرعت في جنبك غصصا؛ أي لأجلك وسببك ولأجل مرضاتك. وقيل: { فِي جَنْبِ اللَّهِ } أي في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله عز وجل وثوابه، والعرب تسمي الجانب جنبا، قال الشاعر:
قسم مجهودا لذاك القلب ... الناس جنب والأمير جنب
يعني الناس من جانب والأمير من جانب. وقال ابن عرفة: أي تركت من أمر الله؛ يقال ما فعلت ذلك في جنب حاجتي؛ قال كثير:
ألا تتقين الله في جنب عاشق ... له كبد حرى عليك تقطع
وكذا قال مجاهد؛ أي ضيعت من أمر الله. ويروى عن النبي صلى أنه قال: "ما جلس رجل مجلسا ولا مشى ممشى ولا اضطجع مضطجعا لم يذكر الله عز وجل فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة" أي حسرة؛ خرجه أبو داود بمعناه. وقال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي آتاه الله في الدنيا يوم القيامة في ميزان غيره، قد ورثه وعمل فيه بالحق، كان له أجره وعلى الآخر وزره، ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوله الله إياه في الدنيا أقرب منزلة من الله عز وجل، أو يرى رجلا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة وعمي هو. { وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } أي وما كنت إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول في الدنيا وبأولياء الله تعالى: قال قتادة: لم يكفه أن ضيع

طاعة الله حتى سخر من أهلها ومحل { وَإِنْ كُنْتُ } النصب على الحال؛ كأنه قال: فرطت وأنا ساخر؛ أي فرطت في حال سخريتي. وقيل: وما كنت إلا في سخرية ولعب وباطل؛ أي ما كان سعيي إلا في عبادة غير الله تعالى.
قوله تعالى: { أَوْ تَقُولَ } هذه النفس { لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي } أي أرشدني إلى دينه. وهذا القول لو أن الله هداني لاهتديت قول صدق. وهو قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الرب جل وعز عنهم في قوله: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } فهي كلمة حق أريد بها باطل؛ كما قال علي رضى الله عنه لما قال قائل من الخوارج لاحكم إلا لله. { لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } أي الشرك والمعاصي. { أَوْ تَقُولَ} يعني أن هذه النفس { حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً } أي رجعة. { فَأَكُونَ } نصب على جواب التمني، وإن شئت كان معطوفا على { كَرَّةً } لأن معناه أن أكر؛ كما قال الشاعر:
للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف
وأنشد الفراء:
فما لك منها غير ذكرى وخشية ... وتسأل عن ركبانها أين يمموا
فنصب وتسأل على موضع الذكرى؛ لأن معنى الكلام فما لك منها إلا أن تذكر. ومنه للبس عباءة وتقر؛ أي لأن ألبس عباءة وتقر. وقال أبو صالح: كان رجل عالم في بني إسرائيل وجد رقعة: إن العبد ليعمل الزمان الطويل بطاعة الله فيختم له عمله بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بمعصية الله ثم يختم له عمله بعمل رجل من أهل الجنة فيدخل الجنة؛ فقال: ولأي شيء أتعب نفسي فترك عمله وأخذ في الفسوق والمعصية، وقال له إبليس: لك عمر طويل فتمتع في الدنيا ثم تتوب، فأخذ في الفسوق وأنفق ماله في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله؛ ذهب عمري في طاعة الشيطان، فندم حين لا ينفعه الندم؛ فأنزل الله خبره في القرآن. وقال

قتادة: هؤلاء أصناف؛ صنف منهم قال: { يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ }. وصنف منهم قال: { لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } . وقال آخر: { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فقال الله تعالى ردا لكلامهم: { بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي } قال الزجاج: {بلى} جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي، ولكن معنى { لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي } ما هداني، وكأن هذا القائل قال ما هديت؛ فقيل: بل قد بين لك طريق الهدى فكنت بحيث لو أردت أن تؤمن أمكنك أن تؤمن. {آياتي} أي القرآن. وقيل: عنى بالآيات المعجزات؛ أي وضح الدليل فأنكرته وكذبته. { وَاسْتَكْبَرْتَ } أي تكبرت عن الإيمان { وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }. وقال: { وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ } وهو خطاب الذكر؛ لأن النفس تقع على الذكر والأنثى. يقال: ثلاثة أنفس. وقال المبرد؛ تقول العرب نفس واحد أي إنسان واحد. وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: { بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }. وقرأ الأعمش: { بَلَى قَدْ جَاءَتْهُ آيَاتِي } وهذا يدل على التذكير. والربيع بن أنس لم يلحق أم سلمة إلا أن القراءة جائزة؛ لأن النفس تقع للمذكر والمؤنث. وقد أنكر هذه القراءة بعضهم وقال: يجب إذا كسر التاء أن تقول وكنت من الكوافر أو من الكافرات. قال النحاس: وهذا لا يلزم؛ ألا ترى أن قبله { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ } ثم قال: { وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } ولم يقل من السواخر ولا من الساخرات. والتقدير في العربية على كسر التاء { وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ } من الجمع الساخرين أو من الناس الساخرين أو من القوم الساخرين.
الآية: [60] { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ }
الآية: [61] { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
الآية: [62] { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }
الآية: [63] { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
الآية: [64] { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ }

قوله تعالى: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ } أي مما حاط بهم من غضب الله ونقمته. وقال الأخفش: { تَرَى } غير عامل في قوله: { وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ } إنما هو ابتداء وخبر. الزمخشري: جملة في موضع الحال إن كان { تَرَى } من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب. {أليس في جهنم مثوى للمتكبرين} بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال عليه السلام: "سفه الحق وغمص الناس" أي احتقارهم. وقد مضى في {البقرة} وغيرها. وفي حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر يلحقهم الصغار حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم".
قوله تعالى: { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا } وقرئ: { وَيُنَجِّي } أي من الشرك والمعاصي. { بِمَفَازَتِهِمْ } على التوحيد قراءة العامة لأنها مصدر. وقرأ الكوفيون: { بِمَفَازَتِهِمْ } وهو جائز كما تقول بسعاداتهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة، قال: "يحشر الله مع كل امرئ عمله فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح فكلما كان رعب أو خوف قال له لا ترع فما أنت بالمراد به ولا أنت بالمعني به فإذا كثر ذلك عليه قال فما أحسنك فمن أنت فيقول أما تعرفني أنا عملك الصالح حملتني على ثقلي فوالله لأحملنك ولأدفعن عنك فهي التي قال الله : { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }.{ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } أي حافظ وقائم به. وقد تقدم.
قوله تعالى: { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } واحدها مقليد. وقيل: مقلاد وأكثر ما يستعمل فيه إقليد. والمقاليد المفاتيح عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: خزائن السماوات والأرض. وقال غيره: خزائن السماوات المطر، وخزائن الأرض النبات. وفيه لغة أخرى أقاليد وعليها يكون واحدها إقليد. قال الجوهري: والإقليد المفتاح، والمقلد مفتاح كالمنجل ربما يقلد به الكلأ كما يقلد القت إذا جعل حبالا؛ أي يفتل والجمع المقاليد. وأقلد البحر على خلق كثير أي غرقهم كأنه أغلق عليهم. وخرج البيهقي عن ابن عمر أن عثمان بن

عفان رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما سألني عنها أحد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده استغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير" ذكره الثعلبي في تفسيره، وزاد من قالها إذا أصبح أو أمسى عشر مرات أعطاه الله ست خصال: أولها يحرس من إبليس، والثانية يحضره اثنا عشر ألف ملك، والثالثة يعطى قنطارا من الأجر، والرابعة ترفع له درجة، والخامسة يزوجه الله من الحور العين، والسادسة يكون له من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وله أيضا من الأجر كمن حج واعتمر فقبلت حجته وعمرته، فإن مات من ليلته مات شهيدا. وروى الحارث عن علي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير المقاليد فقال: "يا علي لقد سألت عن عظيم المقاليد هو أن تقول عشرا إذا أصبحت وعشرا إذا أمسيت لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قوة إلا بالله الأول والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير" من قالها عشرا إذا أصبح، وعشرا إذا أمسى أعطاه الله خصالا ستا: أولها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان، والثانية يعطى قنطارا في الجنة هو أثقل في ميزانه من جبل أحد، والثالثة ترفع له درجة لا ينالها إلا الأبرار، والرابعة يزوجه الله من الحور العين، والخامسة يشهده اثنا عشر ألف ملك يكتبونها له في رق منشور ويشهدون له بها يوم القيامة، والسادسة يكون له من الأجر كأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وكمن حج واعتمر فقبل الله حجته وعمرته، وإن مات من يومه أو ليلته أوشهره طبع بطابع الشهداء. وقيل: المقاليد الطاعة يقال ألقى إلى فلان بالمقاليد أي أطاعه فيما يأمره؛ فمعنى الآية له طاعة من في السماوات والأرض.
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ } أي بالقرآن والحجج والدلالات. { ُأولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } تقدم.

قوله تعالى: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ } ذلك حين دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا هو دين آبائك. و { غَيْرَ } نصب بـ { أَعْبُدُ } على تقدير أعبد غير الله فيما تأمرونني. ويجوز أن ينتصب بـ { تَأْمُرُونِّي } على حذف حرف الجر؛ التقدير: أتأمروني بغير الله أن أعبده، لأن أن مقدرة وأن والفعل مصدر، وهي بدل من غير؛ التقدير: أتأمروني بعبادة غير الله. وقرأ نافع: { تَأْمُرُونِّي } بنون واحدة مخففة وفتح الياء. وقرأ ابن عامر: { تَأْمُرُونِّي } بنونين مخففتين على الأصل. الباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها وقعت في مصحف عثمان بنون واحدة. وقرأ نافع على حذف النون الثانية وإنما كانت المحذوفة الثانية؛ لأن التكرير والتثقيل يقع بها، وأيضا حذف الأولى لا يجوز؛ لأنها دلالة الرفع. وقد مضى في {الأنعام} بيانه عند قوله تعالى: { أَتُحَاجُّونِّي } . { أَعْبُدَ } أي أن أعبد فلما حذف { أَنَّ } رفع؛ قاله الكسائي. ومنه قول الشاعر:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ { أَعْبُدَ } بالنصب.
الآية: [65] { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
الآية: [66] { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ }
قوله تعالى: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ } قيل: إن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ والتقدير: لقد أوحي إليك لئن أشركت وأوحي إلى الذين من قبلك كذلك. وقيل: هو على بابه؛ قال مقاتل: أي أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف. ثم قال: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } يا محمد: { لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم

خاصة. وقيل: الخطاب له والمراد أمته؛ إذ قد علم الله أنه لا يشرك ولا يقع منه إشراك. والإحباط الإبطال والفساد؛ قال القشيري: فمن ارتد لم تنفعه طاعاته السابقة ولكن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة على الكفر؛ ولهذا قال: { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } فالمطلق ها هنا محمول على المقيد؛ ولهذا قلنا: من حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لا يجب عليه إعادة الحج.
قلت: هذا مذهب الشافعي. وعند مالك تجب عليه الإعادة وقد مضى في {البقرة} بيان هذا مستوفى.
قوله تعالى: { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ } النحاس: في كتابي عن أبي إسحاق لفظ اسم الله عز وجل منصوب بـ {اعبد} قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين. قال النحاس: وقال الفراء يكون منصوبا بإضمار فعل. وحكاه المهدوي عن الكسائي. فأما الفاء فقال الزجاج: إنها للمجازاة. وقال الأخفش: هي زائدة. وقال ابن عباس: { فَاعْبُدِ } أي فوحد. وقال غيره: { بَلِ اللَّهَ } فأطع { وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } لنعمه بخلاف المشركين.
الآية: [67] { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
الآية: [68] { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ }
قوله تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } قال المبرد: ما عظموه حق عظمته من قولك فلان عظيم القدر. قال النحاس: والمعنى على هذا وما عظموه حق عظمته إذا عبدوا معه غيره وهو خالق الأشياء ومالكها. ثم أخبر عن قدرته وعظمته فقال: { وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } . ثم نزه نفسه عن أن يكون ذلك بجارحة

فقال: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وفي الترمذي عن عبدالله قال: جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }. قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض" . وفي الترمذي عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: { وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } قالت: قلت فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: "على جسر جهنم" في رواية: "على الصراط يا عائشة" قال: حديث حسن صحيح. وقوله: { وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } : "ويقبض الله الأرض" عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته؛ يقال: ما فلان إلا في قبضتي، بمعنى ما فلان إلا في قدرتي، والناس يقولون الأشياء في قبضته يريدون في ملكه وقدرته. وقد يكون معنى القبض والطي إفناء الشيء وإذهابه فقوله جل وعز: { وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } يحتمل أن يكون المراد به والأرض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة، والمراد بالأرض الأرضون السبع؛ يشهد لذلك شاهدان: قوله: { وَالأَرْضُ جَمِيعاً } ولأن الموضع موضع تفخيم وهو مقتضٍ للمبالغة. وقوله: { وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ليس يريد به طيا بعلاج وانتصاب،وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب؛ يقال: قد انطوى عنا ما كنا فيه وجاءنا غيره. وانطوى عنا دهر بمعنى المضى والذهاب. واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك؛ ومنه قوله تعالى: { َوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يريد به الملك؛ وقال: { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } أي بالقوة والقدرة أي لأخذنا قوته وقدرته. قال الفراء والمبرد: اليمين القوة والقدرة. وأنشدا:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين

وقال آخر:
ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيمين
قتلت شنيفا ثم فاران بعده ... وكان على الآيات غير أمين
وإنما خص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة لكل شيء أيضا؛ لأن الدعاوى تنقطع ذلك اليوم، كما قال: { وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وقال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } حسب ما تقدم في {الفاتحة} ولذلك قال في الحديث: "ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض" وقد زدنا هذا الباب في التذكرة بيانا، وتكلمنا على ذكر الشمال في حديث ابن عمر قوله: "ثم يطوي الأرض بشماله".
قوله تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى } بين ما يكون بعد قبض الأرض وطي السماء وهو النفخ في الصور، وإنما هما نفختان؛ يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون في الثانية وقد مضى الكلام في هذا في {النمل} و{الأنعام} أيضا. والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام. وقد قيل: إنه يكون معه جبريل لحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صاحبي الصور بأيديهما - أو في أيديهما - قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران" خرجه ابن ماجة في السنن. وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر رسول الله صاحب الصور، وقال: "عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل". واختلف في المستثنى من هم؟ فقيل: هم الشهداء متقلدين أسيافهم حول العرش. روي مرفوعا من حديث أبي هريرة فيما ذكر القشيري، ومن حديث عبدالله بن عمر فيما ذكر الثعلبي. وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام. وروي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ

فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ } فقالوا: يا نبي الله من هم الذين استثنى الله تعالى؟ قال: "هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت فيقول الله تعالى لملك الموت يا ملك الموت من بقي من خلقي وهو أعلم فيقول يا رب بقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وعبدك الضعيف ملك الموت فيقول الله تعالى خذ نفس إسرائيل وميكائيل فيخران ميتين كالطودين العظيمين فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول الله تعالى لجبريل يا جبريل من بقي فيقول تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني فيقول الله تعالى يا جبريل لا بد من موتك فيقع ساجدا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على الظرب من الظراب" ذكره الثعلبي. وذكره النحاس أيضا من حديث محمد بن إسحاق، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله جل وعز: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ } قال: "جبريل وميكائيل وحملة العرش وملك الموت وإسرافيل" وفي هذا الحديث: "إن آخرهم موتا جبريل عليه وعليهم السلام" وحديث أبي هريرة في الشهداء أصح على ما تقدم في {النمل}. وقال الضحاك: هو رضوان والحور ومالك والزبانية. وقيل: عقارب أهل النار وحياتها. وقال الحسن: هو الله الواحد القهار وما يدع أحدا من أهل السماء والأرض إلا أذاقه الموت. وقال قتادة: الله أعلم بثنياه. وقيل: الاستئناء في قوله: { إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ } يرجع إلى من مات قبل النفخة الأولى؛ أي فيموت من في السماوات والأرضى إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا.وفي الصحيحين وابن ماجة واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رجل من اليهود بسوقي المدينة، والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه؛ قال: تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قال الله عز وجل : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب" وخرجه الترمذي أيضا وقال فيه: حديث حسن صحيح. قال القشيري: ومن حمل الاستثناء على موسى والشهداء فهؤلاء قد ماتوا غير أنهم أحياء عند الله. فيجوز أن تكون الصعقة بزوال العقل دون زوال الحياة، ويجوز أن تكون بالموت، ولا يبعد أن يكون الموت والحياة فكل ذلك مما يجوزه العقل، والأمر في وقوعه موقوف على خبر صدق.
قلت: جاء في بعض طرق أبي هريرة أنه عليه السلام قال: "لا تخيروني على موسى فان الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله" خرجه مسلم. ونحوه عن أبي سعيد الخدري؛ والإفاقة إنما تكون عن غشية وزوال عقل لا عن موت برد الحياة. والله أعلم.
قوله تعالى: { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } أي فإذا الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء بعثوا من قبورهم، وأعيدت إليهم أبدانهم وأرواحهم، فقاموا ينظرون ماذا يؤمرون. وقيل: قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به. وقيل: هذا النظر بمعنى الانتظار؛ أي ينتظرون ما يفعل بهم. وأجاز الكسائي قياما بالنصب؛ كما تقول: خرجت فإذا زيد جالسا.
الآية: [69] { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }
الآية: [70] { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ }

قوله تعالى: { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } إشراقها إضاءتها؛ يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت وشرقت إذا طلعت. ومعنى: { بِنُورِ رَبِّهَا } بعدل ربها؛ قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك: بحكم ربها؛ والمعنى واحد؛ أي أنارت وأضاءت بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده. والظلم ظلمات والعدل نور. وقيل: إن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به. وقال ابن عباس: النور المذكور ها هنا ليس من نور الشمس والقمر، بل هو نور يخلقه الله فيضيء به الأرض. وروي أن الأرض يومئذ من فضة تشرق بنور الله تعالى حين يأتي لفصل القضاء. والمعنى أنها أشرقت بنور خلقه الله تعالى، فأضاف النور إليه على حد إضافة الملك إلى المالك. وقيل: إنه اليوم الذي يقضي فيه بين خلقه؛ لأنه نهار لا ليل معه. وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير: { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ } على ما لم يسم فاعله وهي قراءة على التفسير. وقد ضل قوم ها هنا فتوهموا أن الله عز وجل من جنس النور والضياء المحسوس، وهو متعال عن مشابهة المحسوسات، بل هو منور السماوات والأرض، فمنه كل نور خلقا وإنشاء. وقال أبو جعفر النحاس: وقوله عز وجل: { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } يبين هذا الحديث المرفوع من طرق كثيرة صحاح: "تنظرون إلى الله عز وجل لا تضامون في رؤيته" وهو يروى على أربعة أوجه: لا تضامون ولا تضارون ولا تضامون ولا تضارون؛ فمعنى: "لا تضامُون" لا يلحقكم ضيم كما يلحقكم في الدنيا في النظر إلى الملوك. و"لا تضارُون" لا يلحقكم ضير. و"لا تضامُّون" لا ينضم بعضكم إلى بعض ليسأله أن يريه. و"لا تضارُّون" لا يخالف بعضكم بعضا. يقال: ضاره مضارة وضرارا أي خالفه.
قوله تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } قال ابن عباس: يريد اللوح المحفوظ. وقال قتادة: يريد الكتاب والصحف التي فيها أعمال بني آدم، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله. { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ } أي جيء بهم فسألهم عما أجابتهم به أممهم. { وَالشُّهَدَاءِ } الذين شهدوا على الأمم من أمة

محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وقيل: المراد بالشهداء الذي استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله؛ قاله السدي. قال ابن زيد: هم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم. قال الله تعالى: { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } فالسائق يسوقها إلى الحساب والشهيد يشهد عليها، وهو الملك الموكل بالإنسان على ما يأتي بيانه في {قاف } { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ } أي بالصدق والعدل. { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } قال سعيد بن جبير: لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم. { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ } من خير أو شر. { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } في الدنيا ولا حاجة به عز وجل إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك فتشهد الكتب، والشهود إلزاما للحجة.
الآية: [71] { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
الآية: [72] { قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ }
قوله تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً } هذا بيان توفية كل نفس عملها، فيساق الكافر إلى النار والمؤمن إلى الجنة. والزمر: الجماعات واحدتها زمرة كظلمة وغرفة. وقال الأخفش وأبو عبيدة: {زمرا} جماعات متفرقة بعضها إثر بعض. قال الشاعر:
وترى الناس إلى منزله ... زمرا تنتابه بعد زمر
وقال آخر:
حتى احزألت ... زمر بعد زمر

وقيل: دفعا وزجرا بصوت كصوت المزمار. { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } جواب إذا، وهي سبعة أبواب. وقد مضى في {الحجر}. { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } واحدهم خازن نحو سدنة وسادن، يقولون لهم تقريعا وتوبيخا .{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ } أي الكتب المنزلة على الأنبياء. { وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } أي يخوفونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى" أي قد جاءتنا، وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم { وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } وهي قوله تعالى: { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } { قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } أي يقال لهم ادخلوا جهنم. وقد مضى الكلام في أبوابها. قال وهب: تستقبلهم الزبانية بمقامع من نار فيدفعونهم بمقامعهم، فإنه ليقع في الدفعة الواحدة إلى النار بعدد ربيعة ومضر . { فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } تقدم بيانه.
الآية: [73] { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ }
الآية: [74] { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }
الآية: [75] { وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قوله تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً } يعني من الشهداء والزهاد والعلماء والقراء وغيرهم، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته. وقال في حق الفريقين: { وَسِيقَ } بلفظ واحد، فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي والهوان، كما يفعل بالأسارى والخارجين

على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل، وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان؛ لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين. { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ } قيل: الواو هنا للعطف عطف على جملة والجواب محذوف. قال المبرد: أي سعدوا وفتحت، وحذف الجواب بليغ في كلام العرب. وأنشد:
فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
فحذف جواب لو والتقدير لكان أروح. وقال الزجاج: { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا } دخلوها وهو قريب من الأول. وقيل: الواو زائدة. قال الكوفيون وهو خطأ عند البصريين. وقد قيل: إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله تعالى، والتقدير حتى إذا جاؤوها وأبوابها مفتحة، بدليل قوله: { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ } وحذف الواو في قصة أهل النار؛ لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالا وترويعا لهم. ذكره المهدوي وحكى معناه النحاس قبله. قال النحاس: فأما الحكمة في إثبات الواو في الثاني وحذفها من الأول، فقد تكلم فيه بعض أهل العلم بقول لا أعلم أنه سبقه إليه أحد، وهو أنه لما قال الله عز وجل في أهل النار: { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } دل بهذا على أنها كانت مغلقة ولما قال في أهل الجنة: { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } دل بهذا على أنها كانت مفتحة قبل أن يجيؤوها؛ والله أعلم. وقيل: إنها واو الثمانية. وذلك من عادة قريش أنهم يعدون من الواحد فيقولون خمسة ستة سبعة وثمانية، فإذا بلغوا السبعة قالوا وثمانية. قال أبو بكر بن عياش. قال الله تعالى: { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ } وقال: { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ } ثم قال في الثامن: { وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وقال: { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } وقال { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } وقد مضى القول في هذا في {براءة} مستوفى وفي {الكهف} أيضا.

قلت: وقد استدل بهذا من قال إن أبواب الجنة ثمانية؛ وذكروا حديث عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ الوضوء - ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" خرجه مسلم وغيره. وقد خرج الترمذي حديث عمر هذا وقال فيه: "فتح له من أبواب الجنة ثمانية أبواب يوم القيامة" بزيادة من وهو يدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية. وقد ذكرنا ذلك في كتاب التذكرة وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابا، وذكرنا هناك عظم أبوابها وسعتها حسب ما ورد في الحديث من ذلك، فمن أراده وقف عليه هناك.
قوله تعالى: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } قيل: الواو ملغاة تقديره حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } أي في الدنيا. قال مجاهد: بطاعة الله. وقيل: بالعمل الصالح. حكاه النقاش والمعنى واحد. وقال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه: { سَلامٌ عَلَيْكُمْ } بمعنى التحية { طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ }.
قلت: خرج البخاري حديث القنطرة هذا في جامعه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا" وحكى النقاش: إن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان يشرب المؤمنون من إحداهما فتطهر أجوافهم وذلك قوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } ثم يغتسلون من الأخرى فتطيب أبشارهم فعندها يقول لهم خزنتها: { سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } وهذا يروى معناه عن علي رضي الله عنه.
قوله تعالى: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي إذا دخلوا الجنة

قالوا هذا. { وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ } أي أرض الجنة قيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت تكون لأهل النار لو كانوا مؤمنين؛ قاله أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وأكثر المفسرين وقيل: إنها أرض الدنيا على التقديم والتأخير. { فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } قيل: هو من قولهم أي نعم الثواب هذا. وقيل: هو من قول الله تعالى؛ أي نعم ثواب المحسنين هذا الذي أعطيتهم.
قوله تعالى: { وَتَرَى الْمَلائِكَةَ } يا محمد { حَافِّينَ } أي محدقين { مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } في ذلك اليوم { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } متلذذين بذلك لا متعبدين به؛ أي يصلون حول العرش شكرا لربهم. والحافون أخذ من حافات الشيء ونواحيه. قال الأخفش: واحدهم حاف. وقال الفراء: لا واحد له إذ لا يقع لهم الاسم إلا مجتمعين. ودخلت { مِنْ } على {حول} لأنه ظرف والفعل يتعدى إلى الظرف بحرف وبغير حرف. وقال الأخفش: { مِنْ } زائدة أي حافين حول العرش. وهو كقولك: ما جاءني من أحد، فمن توكيد. الثعلبي: والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح وتحذفها أحيانا، فيقولون: سبح بحمد ربك، وسبح حمدا لله؛ قال الله تعالى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } وقال: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ } بين أهل الجنة والنار. وقيل: قضى بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء وبين أممهم بالحق والعدل. { وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي يقول المؤمنون الحمد لله على ما أثابنا من نعمه وإحسانه ونصرنا على من ظلمنا. وقال قتادة في هذه الآية: افتتح الله أول الخلق بالحمد لله، فقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } وختم بالحمد فقال: { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فلزم الاقتداء به، والأخذ في ابتداء كل أمر بحمده وخاتمته بحمده. وقيل: إن قول { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } من قول الملائكة فعلى هذا يكون حمدهم لله تعالى على عدله وقضائه. وروي من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر آخر سورة {الزمر} فتحرك المنبر مرتين.

تفسير سورة غافر
، وهي سورة المؤمن، وتسمي سورة الطول
وهي سورة المؤمن، وتسمى سورة الطول وهي مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. وعن الحسن إلا قوله: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } لأن الصلوات نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ } والتي بعدها وهي خمس وثمانون آية. وقيل ثنتان وثمانون آية.
وفي مسند الدارمي قال: حدثنا جعفر بن عون عن مسعر عن سعد بن إبراهيم قال: كن الحواميم يسمين العرائس. وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحواميم ديباج القرآن" وروي عن ابن مسعود مثله. وقال الجوهري وأبو عبيدة: وآل حم سور في القرآن. قال ابن مسعود: آل حم ديباج القرآن. قال الفراء: إنما هو كقولك آل فلان وآل فلان كأنه نسب السورة كلها إلى حم؛ قال الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم آية ... تأولها منا تقي ومعزب
قال أبو عبيدة: هكذا رواها الأموي بالزاي، وكان أبو عمرو يرويها بالراء. فأما قول العامة الحواميم فليس من كلام العرب. وقال أبو عبيدة: الحواميم سور في القرآن على غير قياس؛ وأنشد قائلا:
وبالحواميم التي قد سبغت
قال: والأولى أن تجمع بذوات حم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل شيء ثمرة وإن ثمرة القرآن ذوات حم هن روضات حسان مخصبات متجاورات فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب" ذكرهما الثعلبي. وقال أبو عبيد: وحدثني حجاج بن محمد عن أبي معشر عن محمد بن قيس قال: رأى رجل سبع جوار حسان مزينات في النوم فقال لمن أنتن بارك الله فيكن فقلن نحن لمن قرأنا نحن الحواميم.

بسم الله الرحمن الرحيم
الآية: [1] {حم}
الآية: [2] { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }
الآية: [3] { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
الآية: [4] { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ }
قوله تعالى: {حم} اختلف في معناه؛ فقال عكرمة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " {حم} اسم من أسماء الله تعالى وهي مفاتيح خزائن ربك" قال ابن عباس: {حم} اسم الله الأعظم. وعنه: {الر} و{حم} و {ن} حروف الرحمن مقطعة. وعنه أيضا: اسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وقال قتادة: إنه اسم من أسماء القرآن. مجاهد: فواتح السور. وقال عطاء الخراساني: الحاء افتتاح اسمه حميد وحنان وحليم وحكيم، والميم افتتاح اسمه ملك ومجيد ومنان ومتكبر ومصور؛ يدل عليه ما روى أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما {حم} فإنا لا نعرفها في لساننا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بدء أسماء وفواتح سور" وقال الضحاك والكسائي: معناه قضي ما هو كائن. كأنه أراد الإشارة إلى تهجي {حم} ؛ لأنها تصير حم بضم الحاء وتشديد الميم؛ أي قضي ووقع. وقال كعب بن مالك:
فلما تلاقيناهم ودارت بنا الرحى ... وليس لأمر حمه الله مدفع
وعنه أيضا: إن المعنى حم أمر الله أي قرب؛ كما قال الشاعر:
قد حم يومي فسر قوم ... قوم بهم غفلة ونوم
ومنه سميت الحمى؛ لأنها تقرب من المنية. والمعنى المراد قرب نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه كيوم بدر. وقيل: حروف هجاء؛ قال الجرمي: ولهذا تقرأ ساكنة الحروف

فخرجت مخرج التهجي وإذا سميت سورة بشيء من هذه الحروف أعربت؛ فتقول: قرأت {حم} فتنصب؛ ومنه:
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا ... تلا حاميم قبل التقدم
وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: {حم} بفتح الميم على معنى اقرأ حم أو لالتقاء الساكنين. ابن أبي إسحاق وأبو السمال بكسرها. والإمالة والكسر للالتقاء الساكنين، أو على وجه القسم. وقرأ أبو جعفر بقطع الحاء من الميم. الباقون بالوصل. وكذلك في {حم عسق} . وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والكسائي وخلف وابن ذكوان بالإمالة في الحاء. وروي عن أبي عمرو بين اللفظين وهي قراءة نافع وأبي جعفر وشيبة. الباقون بالفتح مشبعا.
قوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ } ابتداء والخبر { مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } . ويجوز أن يكون { تَنْزِيلُ } خبرا لمبتدأ محذوف؛ أي هذا { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ }. ويجوز أن يكون { حم } مبتدأ و { تَنْزِيلُ } خبره والمعنى: أن القرآن أنزله الله وليس منقولا ولا مما يجوز أن يكذب به.
قوله تعالى: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } قال الفراء: جعلها كالنعت للمعرفة وهي نكرة. وقال الزجاج: هي خفض على البدل. النحاس: وتحقيق الكلام في هذا وتلخيصه أن { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } يجوز أن يكونا معرفتين على أنهما لما مضى فيكونا نعتين، ويجوز أن يكونا للمستقبل والحال فيكونا نكرتين ولا يجوز أن يكونا نعتين على هذا ولكن يكون خفضهما على البدل، ويجوز النصب على الحال، فأما { شَدِيدِ الْعِقَابِ } فهو نكره ويكون خفضه على البدل. قال ابن عباس: { غَافِرِ الذَّنْبِ } لمن قال: { لا إِلَهَ إِلاَّ الله} { وَقَابِلِ التَّوْبِ } ممن قال: { لا إِلَهَ إِلاّ الله} { شَدِيدِ الْعِقَابِ} لمن لم يقل: { لا إِلَهَ إِلاَّ الله} وقال ثابت البناني: كنت إلى سرادق مصعب بن الزبير في مكان لا تمر فيه الدواب، قال: فاستفتحت {حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } فمر علي رجل على دابة فلما قلت { غَافِرِ الذَّنْبِ } قال: قل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي، فلما قلت: { قَابِلِ التَّوْبِ } قال:

قل يا قابل التوب تقبل توبتي، فلما قلت: { شَدِيدِ الْعِقَابِ } قال: قل يا شديد العقاب اعف عني، فلما قلت: { ذِي الطَّوْلِ } قال: قل يا ذا الطول طل علي بخير؛ فقمت إليه فأخذ ببصري، فالتفت يمينا وشمالا فلم أر شيئا. وقال أهل الإشارة: { غَافِرِ الذَّنْبِ } فضلا { وَقَابِلِ التَّوْبِ } وعدا { شَدِيدِ الْعِقَابِ } عدلا { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } فردا. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام؛ فقيل له: تتابع في هذا الشراب؛ فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } ثم ختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته. فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه. و {التوب} يجوز أن يكون مصدر تاب يتوب توبا، ويحتمل أن يكون جمع توبة نحو دومة ودوم وعزمة وعزم؛ ومنه قوله:
فيخبو ساعة ويهب ساعا
ويجوز أن يكون التوب بمعنى التوبة. قال أبو العباس: والذي يسبق إلى قلبي أن يكون مصدرا؛ أي يقبل هذا الفعل، كما تقول قالا قولا، وإذا كان جمعا فمعناه يقبل التوبات. { ذِي الطَّوْلِ } على البدل وعلى النعت؛ لأنه معرفة. وأصل الطول الإنعام والفضل يقال منه: اللهم طل علينا أي انعم وتفضل. قال ابن عباس: { ذِي الطَّوْلِ } ذي النعم. وقال مجاهد: ذي الغنى والسعة؛ ومنه قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } أي غنى وسعة. وعن ابن عباس أيضا: { ذِي الطَّوْلِ } ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله. وقال عكرمة:

{ ذِي الطَّوْلِ } ذي المن. قال الجوهري: والطول بالفتح المن؛ يقال منه طال عليه وتطول عليه إذا امتن عليه. وقال محمد بن كعب: { ذِي الطَّوْلِ } ذي التفضل؛ قال الماوردي: والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب. والتفضل إحسان غير مستحق. والطول مأخوذ من الطول كأنه طال بإنعامه على غيره. وقيل: لأنه طالت مدة إنعامه. { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي المرجع.
قوله تعالى: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } سجل سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر، والمراد الجدال بالباطل، من الطعن فيها، والقصد إلى إدحاض الحق، وإطفاء نور الله تعالى. وقد دل على ذلك في قوله تعالى: { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } . فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها، وحل مشكلها، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها، ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله. وقد مضى هذا المعنى في {البقرة} عند قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } مستوفى. { فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ } { فَلا يَغْرُرْكَ } وقرئ: { فَلا يَغْرُرْكَ } { تَقَلُّبُهُمْ } أي تصرفهم { فِي الْبِلادِ } فإني إن أمهلتهم لا أهملهم بل أعاقبهم. قال ابن عباس: يريد تجارتهم من مكة إلى الشام وإلى اليمن. وقيل: { لا يَغْرُرْكَ } ما هم فيه من الخير والسعة في الرزق فإنه متاع قليل في الدنيا. وقال الزجاج: { لا يَغْرُرْكَ } سلامتهم بعد كفرهم فإن عاقبتهم الهلاك. وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن: قوله: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } ، وقوله: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } .
الآية: [5] { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }

الآية: [6] { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ }
الآية: [7] { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }
الآية: [8] { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
الآية: [9] { وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
قوله تعالى: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } على تأنيث الجماعة أي كذبت الرسل. { وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي والأمم الذين تحزبوا عل أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد وثمود فمن بعدهم. { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي ليحبسوه ويعذبوه. وقال قتادة والسدي: ليقتلوه. والأخذ يرد بمعنى الإهلاك؛ كقوله: { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } والعرب تسمي الأسير الأخيذ؛ لأنه مأسور للقتل؛ وأنشد قطرب قول الشاعر:
فإما تأخذوني تقتلوني ... فكم من آخذ يهوى خلودي
وفي وقت أخذهم لرسولهم قولان: أحدهما : عند دعائه لهم. الثاني عند نزول العذاب بهم. { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } أي ليزيلوا. ومنه مكان دحض أي مزلقة، والباطل داحض؛ لأنه يزلق ويزل فلا يستقر. قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان. { فَأَخَذْتُهُمْ } أي بالعذاب. { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي عاقبة الأمم المكذبة. أي أليس وجدوه حقا.
قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ } أي وجبت ولزمت؛ مأخوذ من الحق لأنه اللازم. { كَلِمَتُ رَبِّكَ } هذه قراءة العامة على التوحيد. وقرأ نافع وابن عامر: { كَلِمَاتُ } جمعا.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44