كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

أن تكون أمتي شطر أهل الجنة" ثم تلا قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. َثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}. قال مجاهد: كل من هذه الأمة. وروى سفيان عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الثلتان جميعا من أمتي" يعني {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال أبو بكر رضي الله عنه: كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}. وقيل: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي من أول هذه الأمة. {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} يسارع في الطاعات حتى يلحق درجة الأولين، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : "خيركم قرني" ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين. والثلة من ثللت الشيء أي قطعته، فمعنى ثلة كمعنى فرقة، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ} أي السابقون في الجنة {عَلَى سُرُرٍ}، أي مجالسهم على سرر جمع سرير. {مَوْضُونَةٍ} قال ابن عباس: منسوخة بالذهب. وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت. وعن ابن عباس أيضا: {مَوْضُونَةٍ} مصفوفة، كما قال في موضع آخر: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} وعنه أيضا وعن مجاهد: مرمولة بالذهب. وفي التفاسير: {مَوْضُونَةٍ} أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد - والوضن النسج المضاعف والنضد، يقال: وضن فلان الحجر والآجر بعضه فوق بعض فهو موضون، ودرع موضونة أي محكمة في النسج مثل مصفوفة، قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة ... تساق مع الحي عيرا فعيرا
وقال أيضا:
وبيضاء كالنهي موضونة ... لها قونس فوق جيب البدن

والسرير الموضون: الذي سطحه بمنزلة المنسوج، ومنه الوضين: بطان من سيور ينسج فيدخل بعضه في بعض، ومنه قوله:
إليك تعدو قلقا وضينها
{مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} أي على السرر {مُتَقَابِلِينَ} أي لا يرى بعضهم قفا بعض، بل تدور بهم الأسرة، وهذا في المؤمن وزوجته وأهله، أي يتكئون متقابلين. قال مجاهد وغيره. وقال الكلبي: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت.
الآية: [17] {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}
الآية: [18] {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}
الآية: [19] {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ}
الآية: [20] {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ}
الآية: [21] {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}
الآية: [22] {وَحُورٌ عِينٌ}
الآية: [23] {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}
الآية: [24] {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
الآية: [25] {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً}
الآية: [26] {إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً}
قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي غلمان لا يموتون، قال مجاهد. الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون، ومنه قول امرئ القيس:
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرطون، يقال للقرط الخلدة ولجماعة الحلي الخلدة. وقيل: مسورون ونحوه عن الفراء، قال الشاعر:
ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان

وقيل: مقرطون يعني ممنطقون من المناطق. وقال عكرمة: {مُخَلَّدُونَ} منعمون. وقيل: على سن واحدة أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون عليهم كما شاء من غير ولادة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري: الولدان ها هنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة. وقال سلمان الفارسي: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة. قال الحسن: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا في هذا الموضع. والمقصود: أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة، والنعمة إنما تتم باحتفاف الخدم والولدان بالإنسان. {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} أكواب جمع كوب وقد مضى في {الزخرف} وهي الآنية التي لا عرى لها ولا خراطيم، والأباريق التي لها عرى وخراطيم واحدها إبريق، سمي بذلك لأنه يبرق لونه من صفائه. {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} مضى في {والصافات} القول فيه. والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون. وقيل: الظاهرة لعيون فيكون {معين} مفعولا من المعاينة. وقيل: هو فعيل من المعن وهو الكثرة. وبين أنها ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصر وتكلف ومعالجة.
قوله تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي لا تنصدع رؤوسهم من شربها، أي إنها لذة بلا أذى بخلاف شراب الدنيا. {وَلا يُنْزِفُونَ} تقدم في {والصافات} أي لا يسكرون فتذهب. عقولهم. وقرأ مجاهد: {لا يَصَّدَّعُونَ} بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون، كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} وقرأ أهل الكوفة {يُنْزِفُونَ} بكسر الزاي، أي لا ينفد شرابهم ولا تقنى خمرهم، ومنه قول الشاعر:
لعمري لئن أنزفتم أوصحوتم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا

وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، وقد ذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال.
قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي يتخيرون ما شاؤوا لكثرتها. وقيل: وفاكهة متخيرة مرضية، والتخير الاختيار. {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} روى الترمذي عن أنس بن مالك قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ قال: "ذاك نهر أعطانيه الله تعالى - يعني في الجنة - أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزُر" قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكتلها أحسن منها" قال: حديث حسن. وخرجه الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدها يا ولي الله رعيت في مروج تحت العرش وشربت من عيون التسنيم فكل مني فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فتخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطائر فطار يرعى في الجنة حيث شاء" فقال عمر: يا نبي الله إنها لناعمة. فقال: "أكلها أنعم منها". وروي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة لطيرا في الطائر منها سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض فيخرج من كل ريشة لون طعام أبيض من الثلج وأبرد وألين من الزبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه فيأكل منه ما أراد ثم يذهب فيطير".
قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} قرئ بالرفع والنصب والجر، فمن جر وهو حمزة والكسائي وغيرهما جاز أن يكون معطوفا على {بِأَكْوَابٍ} وهو محمول على المعنى، لأن المعنى يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور، قال الزجاج. وجاز أن يكون معطوفا على {فِي جَنَّاتِ} أي هم في {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} وفي حور على تقدير حذف المضاف، كأنه قال: وفي معاشرة

حور. الفراء: الجر على الإتباع في اللفظ وإن اختلفا في المعنى، لأن الحور لا يطاف بهن، قال الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا
والعين لا تزجج وإنما تكحل. وقال آخر:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
وقال قطرب: هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى. قال: ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور ويكون لهم في ذلك لذة. ومن نصب وهو الأشهب العقيلي والنخعي وعيسى بن عمر الثقفي وكذلك هو في مصحف أبي، فهو على تقدير إضمار فعل، كأنه قال: ويزوجون حورا عينا. والحمل في النصب على المعنى أيضا حسن، لأن معنى يطاف عليهم به يعطونه. ومن رفع وهم الجمهور - وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم - فعلى معنى وعندهم حور عين، لأنه لا يطاف عليهم بالحور. وقال الكسائي: ومن قال: {وَحُورٌ عِينٌ} بالرفع وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في فاكهة ولحم، لأن ذلك لا يطاف به وليس يطاف إلا بالخمر وحدها. وقال الأخفش: يجوز أن يكون محمولا على المعنى لهم أكواب ولهم حور عين. وجاز أن يكون معطوفا على {ثُلَّةٌ} و {ثُلَّةٌ} ابتداء وخبره {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} وكذلك {وَحُورٌ عِينٌ} وابتدأ بالنكرة لتخصيصها بالصفة. {كَأَمْثَالِ} أي مثل أمثال {الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي الذي لم تمسه الأيدي ولم يقع عليه الغبار فهو أشد ما يكون صفاء وتلألؤا، أي هن في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن كما قال الشاعر:
كأنما خلقت في قشر لؤلؤة فكل أكنافها وجه لمرصاد
{جزاء بما كانوا يعملون} أي ثوابا ونصبه على المفعول له. ويجوز أن يكون على المصدر، لأن معنى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} يجازون. وقد مضى الكلام في الحور العين في {والطور} وغيرها. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خلق الله الحور العين

من الزعفران" وقال خالد بن الوليد: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل من أهل الجنة ليمسك التفاحة من تفاح الجنة فتنفلق في يده فتخرج منها حوراء لو نظرت للشمس لأخجلت الشمس من حسنها من غير أن ينقص من التفاحة" فقال له رجل: يا أبا سليمان إن هذا لعجب ولا ينقص من التفاحة؟ قال: نعم كالسراج الذي يوقد منه سراج آخر وسرج ولا ينقص، والله على ما يشاء قدير. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض، عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق النعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهها نورا ساطعا كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا، وإذا أدبرت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر، لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها وهي تنادي: هذا ثواب الأولياء {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} قال ابن عباس: باطلا ولا كذبا. واللغو ما يلغى من الكلام، والتأثيم مصدر أثمته أي قلت له أثمت. محمد بن كعب: {وَلا تَأْثِيماً} أي لا يؤثم بعضهم بعضا. مجاهد : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} شتما ولا مأثما. {إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} {قِيلاً} منصوب بـ {يَسْمَعُونَ} أو استئناء منقطع أي لكن يقولون قيلا أويسمعون. و {سَلاماً سَلاماً} منصوبان بالقول، أي إلا أنهم يقولون الخير. أو على المصدر أي إلا أن يقول بعضهم لبعض سلاما. أو يكون وصف لـ {قِيلاً} ، والسلام الثابي بدل من الأول، والمعنى إلا قيلا يسلم فيه من اللغو. ويجوز الرفع على تقدير سلام عليكم. قال ابن عباس: أي يحيي بعضهم بعضا. وقيل: تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عز وجل.

الآية: [27] {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}
الآية: [28] {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} الآية: [29] {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ}
الآية: [30] {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} الآية: [31] {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ}
الآية: [32] {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} الآية: [33] {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ }
الآية: [34] {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} الآية: [35] {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً}
الآية: [36] {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} الآية: [37] {عُرُباً أَتْرَاباً}
الآية: [38] {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} الآية: [39] {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ}
الآية: [40]{ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}
قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة وهم السابقون على ما تقدم، والتكرير لتعظيم شأن النعيم الذي هم فيه . {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} أي في نبق قد خضد شوكه أي قطع، قال ابن عباس وغيره. وذكر ابن المبارك: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يوما، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة توذي صاحبها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما هي" قال: السدر فإن له شوكا مؤذيا، فقال صلى الله عليه وسلم "أو ليس يقول {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر". وقال أبو العالية والضحال: نظر المسلمون إلى وج "وهو واد بالطائف مخصب" فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا، فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة:
إن الحدائق في الجنان ظليلة ... فيها الكواعب سدرها مخضود
وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} وهو الموقر حملا. وهو قريب مما ذكرنا في الخبر. سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال. وقد مضى هذا في سورة

{النجم} عند قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} وأن ثمرها مثل قلال هجر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} الطلح شجر الموز واحده طلحة. قال أكثر المفسرين علي وابن عباس وغيرهم. وقال الحسن: ليس هو موز ولكنه شجر له ظل بارد رطب. وقال الفراء وأبو عبيدة: شجر عظام له شوك، قال بعض الحداة وهو الجعدي:
بشرها دليلها وقالا ... غدا ترين الطلح والأحبالا
فالطلح كل شجر عظيم كثير الشوك. الزجاج: يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه. وقال الزجاج أيضا: كشجر أم غيلان له نور طيب جدا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا. وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {وَطَلْعٍ مَنْضُودٍ} بالعين وتلا هذه الآية {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} وهو خلاف المصحف. في رواية أنه قرئ بين يديه {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} فقال: ما شأن الطلح؟ إنما هو {وَطَلْعٍ مَنْضُودٍ} ثم قال: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} فقيل له: أفلا نحولها؟ فقال: لا ينبغي أن يهاج القرآن ولا يحول. فقد اختار هذه القراءة ولم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رسمه مجمع عليه. قال القشيري. وأسنده أبو بكر الأنباري قال: حدثني أبي قال حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن عباد قال: قرأت عند علي أو قرئت عند علي - شك مجالد – {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} فقال علي رضي الله عنه: ما بال الطلح؟ أما تقرأ {وَطَلْعٍ} ثم قال: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} فقال له: يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟

فقال: "لا" لا يهاج القرآن اليوم. قال أبو بكر: ومعنى هذا أنه رجع إلى ما في المصحف وعلم أنه هو الصواب، وأبطل الذي كان فرط من قول. والمنضود المتراكب الذي "قد" نضد أوله وآخره بالحمل، ليست له سوق بارزة بل هو مرصوص، والنضد هو الرص والمنضد المرصوص، قال النابغة:
خلت سبيل أتى كان يحسبه ... ورفعته إلى السجفين فالنضد
وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله، كلما أكل ثمرة عاد مكانها أحسن منها.
قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس، كقوله تعالى :{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} وذلك بالغداة وهي ما بين الإسفار إلى طلوع الشمس حسب ما تقدم بيانه هناك. والجنة كلها ظل لا شمس معه. قال الربيع بن أنس: يعني ظل العرش. وقال عمر بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة. وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود، وقال لبيد:
غلب العزاء وكنت غير مغلب ... دهر طويل دائم ممدود
وفي صحيح الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}. {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} أي جار لا ينقطع وأصل السكب الصب، يقال: سكبه سكبا، والسكوب أنصبابه. يقال: سكب سكوبا، وانسكب انسكابا، أي وماء مصبوب يجرى الليل والنهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم. وكانت العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الأشجار وظلالها والمياه والأنهار واطرادها.

قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} أي ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم {لا مَقْطُوعَةٍ} أي في وقت من الأوقات كانقطاع فواكه الصيف في الشاء {وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي لا يحظر عليها كثمار الدنيا. وقيل: {وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي لا يمنع من أرادها بشوك ولا بعد ولا حائط، بل إذا أشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال الله تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} وقيل: ليست مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان. والله أعلم.
قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: "ارتفاعها لكما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة" قال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد. وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: الفرش في الدرجات، وما بين الدرجات كما بين السماء والأرض. وقيل: إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة ولم يتقدم لهن ذكر، ولكن قوله عز وجل :{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} دال، لأنها محل النساء، فالمعنى ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن، دليله قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} أي خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا، وقد قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ}. ثم قيل: على هذا هن الحور العين، أي خلقناهن من غير ولادة. وقيل: المراد نساء بني ادم، أي خلقناهن خلقا جديدا وهو الإعادة، أي أعدناهن إلى حال الشباب وكمال الجمال. والمعنى أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن، لأنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولأن الفرش كناية عن النساء كما تقدم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} قال: "منهن البكر والثيب". وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً} فقال "يا أم سلمة هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا عمشا رمصا جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء" أسنده النحاس عن أنس قال: حدثنا أحمد بن عمرو قال: حدثنا عمرو بن على قال: حدثنا أبو عاصم عن

موسى بن عبيد عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رفعه {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} قال "هن العجائز العمش الرمص كن في الدنيا عمشا رمصا". وقال المسيب بن شريك: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} الآية قال: "هن عجائز الدنيا أنشأهن الله خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا" فلما سمعت عائشة ذلك قالت: واوجعاه! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس هناك وجع". {عُرُباً} جمع عروب. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: العرب العواشق لأزوجهن. وعن ابن عباس أيضا: إنها العروب الملقة. عكرمة: الغنجة. ابن زيد: بلغة أهل المدينة. ومنه قول لبيد:
وفي الخباء عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر
وهي الشكلة بلغة أهل مكة. وعن زيد بن أسلم أيضا: الحسنة الكلام. وعن عكرمة أيضا وقتادة: العرب المتحببات إلى أزواجهن، واشتقاقه من أعرب إذا بين، فالعروب تبين محبتها لزوجها بشكل وغنج وحسن كلام. وقيل: إنها الحسنة التبعل لتكون ألذ استمتاعا. وروى جعفر بن محمد عن أببه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عربا" قال: "كلامهن عربي". وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم {عُرْباً} بإسكان الراء. وضم الباقون وهما جائزان في جمع فعول. {أَتْرَاباً} على ميلاد واحد في الاستواء وسن واحدة ثلاث وثلاثين سنة. يقال في النساء أتراب وفي الرجال أقران. وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حد الصبا من النساء وانحطت عن الكبر. وقيل: {أَتْرَاباً} أمثالا وأشكالا، قاله مجاهد. السدي: أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد. {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} قيل: الحور العين للسابقين، والأتراب العرب لأصحاب اليمين.
قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} رجع الكلام إلى قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} أي هم {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} وقد مضى الكلام في معناه. وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك:

{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} يعني من سابقي هذه الأمة {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} من هذه الأمة من آخرها، يدل عليه ما روي عن ابن عباس في هذه الآية {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هم جميعا من أمتي". وقال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان من الأمم الماضية ونصف من هذه الأمة. وهذا يرده ما رواه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه عن بريدة بن خصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. و {ثُلَّةٌ } رفع على الابتداء، أو على حذف خبر حرف الصفة، ومجازه: لأصحاب اليمين ثلتان: ثلة من هؤلاء وثلة من هؤلاء. والأولون الأمم الماضية، والآخرون هذه الأمة على القول الثاني.
الآية: [41] {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ}
الآية: [42] {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ}
الآية: [43] {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ}
الآية: [44] {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ}
الآية: [45] {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}
الآية: [46] {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}
الآية: [47] {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}
الآية: [48] {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ}
الآية: [49 ]{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ}
الآية: [50] {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}
الآية: [51] {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ}
الآية: [52] {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ}
الآية: [53] {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}
الآية: [54] {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ}
الآية: [55] {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}
الآية: [56] {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ}

قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} ذكر منازل أهل النار وسماهم أصحاب الشمال، لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظم ذكرهم في البلاد والعذاب فقال: {مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ. فِي سَمُومٍ} والسموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن. والمراد هنا حر النار ولفحها. {وَحَمِيمٍ} أي ماء حار قد انتهى حره، إذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفئ به الحر فيجده حميما حارا في نهاية الحرارة والغليان. وقد مضى في {محمد} {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي يفزعون من السموم إلى الظل كما يفزع أهل الدنيا فيجدونه ظلا من يحموم، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وكذلك اليحموم في اللغة: الشديد السواد وهو يفعول من الحم وهو الشحم المسود باحتراق النار. وقيل: هو المأخوذ من الحمم وهو الفحم. وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود. وعن ابن عباس أيضا: النار سوداء. وقال ابن زيد: اليحموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار. {لا بَارِدٍ} بل حار لأنه من دخان شفير جهنم. {وَلا كَرِيمٍ} عذب، عن الضحاك. وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره، وكل ما لا خير فيه فليس بكريم. وقيل: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي من النار يعذبون بها، كقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أي إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا متنعمين بالحرام. والمترف المنعم، عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: {مُتْرَفِينَ} أي مشركين. {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} أي يقيمون على الشرك، عن الحسن والضحاك وابن زيد. وقال قتادة ومجاهد: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه. الشعبي: هو اليمين الغموس وهى من الكبائر، يقال: حنث في يمينه أي لم يرها ورجح فيها. وكانوا يقسمون أن لا بعث، وأن أنداد الله فذلك حنثهم، قال الله تعالى مخبرا عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} وفي الخبر:

كان يتحنث في حراء، أي يفعل ما يسقط عن نفسه الحنث وهو الذنب. {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا} هذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له. فقال الله تعالى: {قُلْ} لهم يا محمد {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ} من أبائكم {وَالْآخِرِينَ} منكم {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} يريد يوم القيامة. ومعنى الكلام القسم ودخول اللام في قوله تعالى: {لَمَجْمُوعُونَ} هو دليل القسم في المعنى، أي إنكم لمجموعون قسما حقا خلاف قسمكم الباطل {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ} عن الهدى {الْمُكَذِّبُونَ} بالبعث {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، وهي التي ذكرت في سورة {والصافات}. {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي من الشجرة، لأن المقصود من الشجر شجرة. ويجوز أن تكون {من} الأولى زائدة، ويحوز أن يكون المفعول محذوفا كأنه قال: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} طعاما. وقوله: {مِنْ زَقُّومٍ} صفة لشجر، والصفة إذا قدرت الجار زائدا نصبت على المعنى، أو جررت على اللفظ، فإن قدرت المفعول محذوفا لم تكن الصفة إلا في موضع جر.
قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ} أي على الزقوم أو على الأكل أو على الشجر، لأنه يذكر ومؤنث. {مِنَ الْحَمِيمِ} وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه وهو صديد أهل النار. أي يورثهم حر ما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش فيجدونه حميما مغلى. {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} قراءة نافع وعاصم وحمزة {شُرْبَ} بضم الشين. الباقون بفتحها لغتان جيدتان، تقول العرب: شربت شربا وشربا وشربا وشربا بضمتين. قال أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم الشين ولتحها وكسرها، والفتح هو المصدر الصحيح، لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله فعل، ألا ترى أنك ترده إلى المرة الواحدة، فتقول: فعلة نحو شربة وبالضم الاسم. وقيل: إن المفتوح والاسم مصدران، فالشرب كالأكل، والشرب كالذكر، والشرب بالكسر المشروب كالطحن المطحون. والهيم الإبل العطاش

التي لا تروى لداء يصيبها، عن ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم، وقال عكرمة أيضا: هي الإبل المراض. الضحاك: الهيم الإبل يصيبها داء تعطش منه عطشا شديدا، واحدها أهيم والأنثى هيماء. ويقال لذلك الداء الهيام، قال قيس بن الملوح:
يقال به داء الهيام أصابه ... وقد علمت نفسي مكان شفائها
وقوم هيم أيضا أي عطاش، وقد هاموا هياما. ومن العرب من يقول في الإبل: هائم وهائمة والجمع هيم، قال لبيد:
أجزت إلى معارفها بشعث ... وأطلاح من العيدي هيم
وقال الضحاك والأخفش وابن عيينة وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل. وروي أيضا عن ابن عباس: فيشربون شرب الرمال التي لا تروى بالماء. المهدوي: ويقال لكل ما لا يروى من الإبل والرمل أهيم وهيماء. وفي الصحاح: والهيام بالضم أشد العطش. والهيام كالجنون من العشق. والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى. يقال: ناقة هيماء. والهيماء أيضا المفازة لا ماء بها. والهيام بالفتح: الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه والجمع هيم مثل قذال وقذل. والهيام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان، وناقة هيماء مثل عطشان وعطشى.
قوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي رزقهم الذي يعد لهم، كالنزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم، وفيه تهكم، كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
وكقول أبي السعد الضبي:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
وقرأ يونس بن حبيب وعباس عن أبي عمرو {هَذَا نُزُلُهُمْ} بإسكان الزاي، وقد مضى في آخر {آل عمران} القول فيه. {يَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء، يعني في جهنم

الآية: [57] {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ}
الآية: [58] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ}
الآية: [59] {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}
الآية: [60] {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}
الآية: [61] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ}
الآية: [62] {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ}
قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي فهلا تصدقون بالبعث؟ لأن الإعادة كالابتداء. وقيل: المعنى نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا؟ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} أي ما تصبونه من المني في أرحام النساء. {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} أي تصورون منه الإنسان {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} المقدرون المصورون. وهذا احتجاج عليهم وبيان للآية الأولى، أي إذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث. وقرأ أبو السمال ومحمد بن السميقع وأشهب العقيلي: {تَمْنُونَ} بفتح التاء وهما لغتان أمنى ومنى، وأمذى ومذى يمني ويمني ويمذي ويمذي. الماوردي: ويحتمل أن يختلف معناها عندي، فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع، ومنى إذا أنزل عن الاحتلام. وفي تسمية المني منيا وجهان: أحدهما لإمنائه وهو إراقته. الثاني لتقديره، ومنه المنا الذي يوزن به لأنه مقدار لذلك، وكذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة.
قوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} احتجاج أيضا، أي الذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث. وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير {قَدَّرْنَا} بتخفيف الدال. الباقون بالتشديد، قال الضحاك: أي سوينا بين أهل السماء وأهل الأرض. وقيل: قضينا. وقيل: كتبنا، والمعنى متقارب، فلا أحد يبقى غيره عز وجل. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي إن أردنا أن نبدل أمثالكم لم يسبقنا أحد، أي لم يغلبنا. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} معناه بمغلوبين. وقال الطبري: المعنى نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين

في آجالكم، أي لا يتقدم متأخر ولا يتأخر متقدم. {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} من الصور والهيئات. قال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم. وقيل: المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، فيجمل المؤمن ببياض وجهه، ومقبح الكافر بسواد وجهه. سعيد بن جبير: قوله تعالى: {فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} يعني في حواصل طير سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف، وبرهوت واد في اليمن. وقال مجاهد: {فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} في أي خلق شئنا. وقيل: المعنى ننشئكم في عالم لا تعلمون، وفي مكان لا تعلمون.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} أي إذ خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولم تكونوا شيئا، عن مجاهد وغيره. قتادة والضحاك: يعني خلق آدم عليه السلام. {فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} أي فهلا تذكرون. وفي الخبر: عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو لا يسعى لدار القرار. وقراءة العامة {النَّشْأَةَ} بالقصر. وقرأ مجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو: {النَّشْأَةَ} بالمد، وقد مضى في {العنكبوت} بيانه.
الآية: [63] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}
الآية: [64] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}
الآية: [65 ] {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}
الآية: [66] {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}
الآية: [67] {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} هذه حجة أخرى، أي أخبروني عما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيها البذر، أنتم تنبتونه وتحصلونه زرعا فيكون فيه السنبل والحب أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشق الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السنبل من الحب ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟! وأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى، لأن الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى

وينبت على اختياره لا على اختيارهم. وكذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت فإن الزارع هو الله" قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صلي على محمد، وارزقنا ثمره، وجنبنا ضرره، وأجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا رب العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك، سمعناه من ثقة وجرب فوجد كذلك. ومعنى {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} أي تجعلونه زرعا. وقد يقال: فلان زراع كما يقال حراث، أي يفعل ما يؤول إلى أن يكون زرعا يعجب الزراع. وقد يطلق لفظ الزرع على بذر الأرض وتكريبها تجوزا.
قلت: فهو نهي إرشاد وأدب لا نهي حظر وإيجاب، ومنه قوله عليه السلام: "لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي" وقد مضى في "يوسف" القول فيه. وقد بالغ بعض العلماء فقال: لا يقل حرثت فأصبت، بل يقل: أعانني الله فحرثت، وأعطاني بفضله ما أصبت. قال الماوردي: وتتضمن هذه الآية أمرين، أحدهما: الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم. الثاني: البرهان الموجب للاعتبار، لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره، وانتقال إلى استواء حال من العفن والتتريب حتى صار زرعا أخضر، ثم جعله قويا مشتدا أضعاف ما كان عليه، فهو بإعادة من أمات أخف عليه وأقدر، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة. ثم قال {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} أي متكسرا يعني الزرع. والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبه بذلك أيضا على أمرين: أحدهما: ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاما ليشكروه. الثاني: ليعتبروا بذلك في أنفسهم، كما أنه يجعل

الزرع حطاما إذا شاء وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا. {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي تعجبون بذهابها وتندمون مما حل بكم، قاله الحسن وقتادة وغيرهما. وفي الصحاح: وتفكه أي تعجب، ويقال: تندم، قال الله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي تندمون. وتفكهت بالشيء تمتعت به. وقال يمان: تندمون على نفقاتكم، دليله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} وقال عكرمة: تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم حتى نالتكم في زرعكم. ابن كيسان: تحزنون، والمعنى متقارب. وفيه لغتان: تفكهون وتفكنون: قال الفراء: والنون لغة عكل. وفي الصحاح: التفكن التندم على ما فات. وقيل: التفكه التكلم فيما لا يعنيك، ومنه قيل للمزاج فكاهة بالضم، فأما الفكاهة بالفتح فمصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. وقراءة العامة {فَظَلْتُمْ} بفتح الظاء. وقرأ عبدالله {فَظِلْتُمْ} بكسر الظاء ورواها هارون عن حسين عن أبي بكر. فمن فتح فعلى الأصل. والأصل ظللتم فحذف اللام الأولى تخفيفا، ومن كسر نقل كسرة اللام الأولى إلى الظاء ثم حذفها. {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} وقرأ أبو بكر والمفضل {أئنا} بهمزتين على الاستفهام، ورواه عاصم عن زر بن حبيش. الباقون بهمزة واحدة على الخبر، أي يقولون {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي معذبون، عن ابن عباس وقتادة قالا: والغرام العذاب، ومنه قول ابن المحلم:
وثقت بأن الحفظ مني سجية ... وأن فؤادي متبل بك مغرم
وقال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا، ومنه قول النمر بن تولب:
سلا عن تذكره تكتما ... وكان رهينا بها مغرما
يقال: أغرم فلان بفلانة، أي أولع بها ومنه الغرام وهو الشر اللازم. وقال مجاهد أيضا: لملقون شرا. وقال مقاتل بن حيان: مهلكون. النحاس: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} مأخوذ من الغرام وهو الهلال، كما قال:
يوم النسار ويوم الجفار ... كانا عذابا وكانا غراما

والضحاك وابن كيسان: هو من الغرم، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، أي غرمنا الحب الذي بذرناه. وقال مرة الهمداني: محاسبون. {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي حرث ما طلبنا من الريع. والمحروم الممنوع من الرزق. والمحروم ضد المرزوق وهو المحارف في قول قتادة. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأرض الأنصار فقال: "ما يمنعكم من الحرث" قالوا: الجدوبة، فقال: "لا تفعلوا فإن الله تعالى يقول أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر" ثم تلا {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}.
قلت: وفي هذا الخبر والحديث الذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزارع في أسماء الله سبحانه، وأباه الجمهور من العلماء، وقد ذكرنا ذلك في "الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى".
الآية: [68] {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}
الآية: [69] {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ}
الآية: [70] {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}
الآية: [71] {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}
الآية: [72] {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ}
الآية: [73] {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ}
الآية: [74] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} لتحيوا به أنفسكم، وتسكنوا به عطشكم، لأن الشراب إنما يكون تبعا للمطعوم، ولهذا جاء الطعام مقدما في الآية قبل، ألا ترى أنك تسقي ضيفك بعد أن تطعمه. الزمخشري: ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء:
إذا سقيت ضيوف الناس محضا ... سقوا أضيافهم شبما زلالا
وسقي بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة. "أأنتم أنزلتموه من المزن
أي السحاب، الواحدة مزنة، فقال الشاعر:
فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولافينا يعد بخيل

وهذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المزن السحاب. وعن ابن عباس أيضا والثوري: المزن السماء والسحاب. وفي الصحاح: أبو زيد: المزنة السحابة البيضاء والجمع مزن، والمزنة المطرة، قال:
ألم تر أن الله أنزل مزنة ... وعفر الظباء في الكناس تقمع
{أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} أي فإذا عرفتم بأني أنزلته فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي؟ ولم تنكرون قدرتي على الإعادة؟. {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي ملحا شديد الملوحة، قاله ابن عباس. الحسن: مرا قعاعا لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما . {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} أي فهلا تشكرون الذي صنع ذلك بكم.
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أي أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح من الشجر الرطب {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} يعني التي تكون منها الزناد وهي المرخ والعفار، ومنه قولهم: في كل ش جر نار، واستمجد المرخ والعفار، أي استكثر منها، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما. ويقال: لأنهما يسرعان الوري. يقال: أوريت النار إذا قدحتها. وورى الزند يري إذا أنقدح منه النار. وفيه لغة أخرى: ووري الزند يري بالكسر فيهما. {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} أي المخترعون الخالقون، أي فإذا عرفتم قدوتي فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث. {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} يعني نار الدنيا موعظة للنار الكبرى، قال قتادة. ومجاهد: تبصرة للناس من الظلام. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم" فقالوا يا رسول الله: أن كانت لكافية، قال: "فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها". {وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} قال الضحاك: أي منفعة للمسافرين، سموا بذلك لنزولهم القوى وهو القفر. الفراء: إنما يقال

للمسافرين: مقوين إذا نزلوا القي وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها. وكذلك القوى والقواء بالمد والقصر، ومنزل قواء لا أنيس به، يقال: أقوت الدار وقويت أيضا أي خلت من سكانها، قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
ويقال: أقوى أي قوي وقوي أصحابه، وأقوى إذا سافر أي نزل القواء والقي. وقال مجاهد: {لِلْمُقْوِينَ} المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها. وقال ابن زيد: للجائعين في، إصلاح طعامهم. يقال: أقويت منذ كذا وكذا، أي ما أكلت شيئا، وبات فلان القواء وبات القفر إذا بات جائعا على غير طعم، قال الشاعر:
وإني لأختار القوى طاوي الحشى ... محافظة من أن يقال لئيم
وقال الربيع والسدي: {لِلْمُقْوِينَ} المنزلين الذين لا زناد معهم، يعني نارا يوقدون فيختبزون بها؟ ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال قطرب: المقوي من الأضداد يكون بمعنى الفقير ويكون بمعنى الغني، يقال: أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله. المهدوي: والآية تصلح للجميع، لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير. وحكى الثعلبي أن أكثر المفسرين على القول الأول. القشيري: وخص المسافر بالانتفاع بها لأن انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم، لأن أهل البادية لا بد لهم من النار يوقدونها ليلا لتهرب منهم السباع، وفي كثير من حوائجهم. {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث.

الآية: [75] {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}
الآية: [76] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}
الآية: [77] {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}
الآية: [78] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}
الآية: [79] {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}
الآية: [80] {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
فيه سبع مسائل:
الأولى- قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ} {لا} صلة في قول أكثر المفسرين، والمعنى فأقسم، بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ}. وقال الفراء: هي نفي، والمعنى ليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف {أُقْسِمُ}. وقد يقول الرجل: لا والله ما كان كذا فلا يريد به نفي اليمين، بل يريد به نفي كلام تقدم. أي ليس الأمر كما ذكرت، بل هو كذا. وقيل: {لا} بمعنى إلا للتنبيه كما قال:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
ونبه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة كما زعموا. وقرأ الحسن وحميد وعيسى بن عمر {فَلأُقْسِمُ} بغير ألف بعد اللام على التحقيق وهو فعل حال ويقدر مبتدأ محذوف، التقدير: فلأنا أقسم بذلك. ولو أريد به الاستقبال للزمت النون، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يراد به الاستقبال وهو شاذ.
الثانية- قوله تعالى: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} مواقع النجوم مساقطها ومغاربها في قول قتادة وغيره. عطاء بن أبي رباح: منازلها. الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة. الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا. الماوردي: ويكون قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ} مستعملا على حقيقته من نفي القسم. القشيري: هو قسم، ولله تعالى أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة.

قلت: يدل على هذا قراءة الحسن {فَلأُقْسِمُ} وما أقسم به سبحانه من مخلوقاته في غير موضع من كتابه. وقال ابن عباس: المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوما، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكاتبين، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة، فهو ينزل على الأحداث من أمته، حكاه الماوردي عن ابن عباس والسدي. وقال أبو بكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا همام عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل إلى الأرضى نجوما، وفرق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات وأقل وأكثر، فذلك قول الله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن. وقرأ حمزة والكسائي {بِمَوْقِعِ} على التوحيد، وهي قراءة عبدالله بن مسعود والنخعي والأعمش وابن محيصن ورويس عن يعقوب. الباقون على الجمع فمن أفرد فلأنه اسم جنس يؤدي الواحد فيه عن الجمع، ومن جمع فلاختلاف أنواعه.
الثالثة- قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} قيل: إن الهاء تعود على القرآن، أي إن القرآن لقسم عظيم، قال ابن عباس وغيره. وقيل: ما أقسم الله به عظيم {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} ذكر المقسم عليه، أي أقسم بمواقع النجوم إن هذا القرآن قرآن كريم، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم محمود، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو كريم على المؤمنين، لأنه كلام ربهم، وشفاء صدورهم، كريم على أهل السماء، لأنه تنزيل ربهم ووحيه. وقيل: {كَرِيمٌ} أي غير مخلوق. وقيل: {كَرِيمٌ} لما فيه من كريم الأخلاق ومعاني الأمور. وقيل: لأنه يكرم حافظه، ويعظم قارئه.
الرابعة- قوله تعالى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} مصون عند الله تعالى. وقيل: مكنون محفوظ عن الباطل. والكتاب هنا كتاب في السماء، قال ابن عباس. وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضا: هو اللوح المحفوظ. عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر

القرآن ومن ينزل عليه. السدي: الزبور. مجاهد وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا.
الخامسة- قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} اختلف في معنى {لا يَمَسُّهُ} هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في {الْمُطَهَّرُونَ} من هم؟ فقال أنس وسعيد وابن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون. الكلبي: هم السفرة الكرام البررة. وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} أنها بمنزلة الآية التي في {عَبَسَ وَتَوَلَّى}: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ} يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة {عبس}. وقيل: معنى {لا يَمَسُّهُ} لا ينزل به {إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء. وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون. وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري. ابن العربي: وهذا باطل لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال. وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل، وهو اختيار مالك. وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر. وقد روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته: "من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد" وكان في كتابه :" ألا يمس القرآن إلا طاهر". وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر". وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: {لا يَمَسُّهُ

إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} فقام واغتسل وأسلم. وقد مضى في أول سورة {طه}.وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} من الأحداث والأنجاس. الكلبي: من الشرك. الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا. وقيل: معنى {لا يَمَسُّهُ} لا يقرؤه {إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} إلا الموحدون، قاله محمد بن فضيل وعبدة. قال عكرمة: كان ابن عباس ينهي أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون، أي المؤمنون بالقرآن. ابن العربي: وهو اختيار البخاري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا". وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقال أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلا السعداء. وقيل: المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع، أي لا يمسه إلا المطهرون شرعا، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي. وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر. وقد مضى هذا المعنى في سورة {البقرة}. المهدوي: يجوز أن يكون أمرا وتكون ضمة السين ضمة إعراب. ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة بناء السين ضمة بناء والفعل مجزوم.
السادسة- واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم. وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسه المحدث، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر. ابن العربي: وهذا إن سلمه مما يقوي الحجة عليه، لأن حريم الممنوع ممنوع. وفيما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو

بن حزم أقوى دليل عليه. وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بملاقة ولا على وسادة. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني الجواز، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن، لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا.
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي منزل، كقولهم: ضرب الأمير ونسج اليمن. وقيل: {تَنْزِيلُ} صفة لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}. وقيل: أي هو تنزيل.
الآية: [81] {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ}
الآية: [82] {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}
الآية: [83] {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}
الآية: [84] {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ}
الآية: [85] {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}
الآية: [86] {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}
الآية: [87] {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
قوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} يعني القرآن {أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} أي مكذبون، قال ابن عباس وعطاء وغيرهما. والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبه بالدهن في سهولة ظاهر. وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: مدهنون كافرون، نظيره: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} وقال المؤرج: المدهن المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره،

والإدهان والمداهنة التكذيب والكفر النفاق، وأصله اللين، وأن يسر خلاف ما يظهر، وقال أبو قيس بن الأسلت:
الحزم والقوة خير من ... الإدهان والفهة والهاع
وأدهن وداهن واحد. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت وأدهنت بمعنى غششت. وقال الضحاك: {مُدْهِنُونَ} معرضون. مجاهد: ممالئون الكفار على الكفر به. ابن كيسان: المدهن الذي لا يعقل ما حق الله عليه ويدفعه بالعلل. وقال بعض اللغويين: مدهنون تاركون للجزم في قبول القرآن.
قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال ابن عباس: تجعلون شكركم التكذيب. وذكر الهيثم بن عدي:أن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان؟ أي ما شكره. وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان شكره، لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه فيكون الشكر رزقا على هذا المعنى. فقيل: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقا لكم {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} بالرزق أن تضعوا الرزق مكان الشكر، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} أي لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة. ففيه بيان أن ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكن أسباب، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروها تعبدا له وتذللا. وروي عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسم قرأ {وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} حقيقة. وعن ابن عباس أيضا: أن المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب: مطرنا بنوء كذا، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله لعليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا

هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}- حتى بلغ- {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} .وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم أن دعوت الله لكم فسقيتم لعلكم تقولون هذا المطر بنوء كذا" فقالوا يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا، ولم يقل هذا من رزق الله فنزلت: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي شكركم لله على رزقه إياكم {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} بالنعمة وتقولون سقينا بنوء كذا، كقولك: جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي، وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوا. وفي الموطأ عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحدبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما أنصرف أقبل على الناس وقال: "أتدرون ماذا قال ربكم" قالوا: الله ورسول أعلم، قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب فأما من مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك بالكوكب كافر بي". قال الشافعي رحمه الله: لا أحب أحدا أن يقول مطرنا بنوء كذا وكذا، وإن كان النوء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر ولا يحبس شيئا من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما تقول مطرنا شهر كذا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، كما عني بعض، أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر، حلال دمه إن لم يتب. وقال أبو عمر بن عبدالبر: وأما قوله عليه الصلاة والسلام حاكيا عن اله سبحانه: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" فمعناه عندي على وجهين: أما أحدهما فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفرا صريحا يجب استتابته عليه وقتله إن أبى لنبذه الإسلام ورده القرآن. والوجه الآخر أن

عتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه، وهذا وإن كان وجها مباحا، فإن فيه أيضا كفرا بنعمة الله عز وجل، وجهلا بلطيف حكمته في أنه ينزل الماء متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة بنوء كذا، وكثيرا ما ينوء النوء فلا ينزل معه شيء من الماء، وذلك من الله تعالى لا من النوء. وكذلك كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مطر: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا } قال أبو عمر: وهذا عندي نحو قول وسول الله صلى الله عليه وسلم: "مطرنا بفضل الله ورحمته". ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبدالمطلب حين استسقى به: يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم بقي من نوء الثريا؟ فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا بعد سقوطها. فما مضت سابعة حتى مطروا، فقال عمر: الحمد لله هذا بفضل الله ورحمته. وكان عمر رحمه الله قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل فسأله عنه أخرج أم بقيت منه بغية؟ وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا في بعض أسفاره يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت بل هو سقيا الله عز وجل" قال سفيان: عثانين الأسد الذراع والجبهة. وقراءة العامة {تُكَذِّبُونَ} من التكذيب. وقرأ المفضل عن عاصم ويحيى بن وثاب {تُكَذِّبُونَ} بفتح التاء مخففا. ومعناه ما قدمناه من قول من قال: مطرنا بنوء كذا. وثبت من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لن يزلن في أمتي التفاخر في الأحساب والنياحة والأنواء" ولفظ مسلم في هذا "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة".
قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أي فهلا إذا بلغت النفس أو الروح الحلقوم. ولم يتقدم لها ذكر، لأن المعنى معروف، قال حاتم.
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

وفي حديث: "إن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق يجمعون الروح شيئا فشيئا حتى ينتهى بها إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت". {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} أمري وسلطاني. وقيل: تنظرون إلى الميت لا تقدرون له على شيء. وقال ابن عباس: يريد من حضر من أهل الميت ينتظرون متى تخرج نفسه. ثم قيل: هو رد عليهم في قولهم لإخوانهم {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} أي فهل ردوا روح الواحد منهم إذا بلغت الحلقوم. وقيل: المعنى فهلا إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده، مع حرصكم على امتداد عمره، وحبكم لبقائه. وهذا ردا لقولهم: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}. وقيل: هو خطاب لمن هو في النزع، أي إن لم يك ما بك من الله فهلا حفظت على نفسك الروح. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} أي بالقدرة والعلم والرؤية. قال عامر بن عبد القيس: ما نظر إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إلى منه. وقيل أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} أي لا ترونهم.
قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي فهلا إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم، ومنه قوله تعالى: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} أي مجزيون محاسبون. وقد تقدم. وقيل: غير مملوكين ولا مقهورين. قال الفراء وغيره: دنته ملكته، وأنشد للحطيئة:
لقد دنيت أمر بنيك حتى ... تركتهم أدق من الطحين
يعني ملكت. ودانه أي أدله واستعبده، يقال: دنته فدان. وقد مضى في {الفاتحة} القول في هذا عند قوله تعالى: {يَوْمِ الدِّينِ}. {تَرْجِعُونَهَا} ترجعون الروح إلى الجسد. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي ولن ترجعوها فبطل زعمكم أنكم غير مملوكين ولا محاسبين. و {تَرْجِعُونَهَا} جواب لقوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} ولقوله: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}

أجيبا بجواب واحد، قاله الفراء. وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى: { فإمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أجيبا بجواب واحد وهما شرطان. وقيل: حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. وقيل: فيها تقديم وتأخير، مجازها: فلولا وهلا إن كنتم غير مدينين ترجعونها، تردون نفس هذا الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم.
الآية: [88] {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ}
الآية: [89] {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ}
الآية: [90] {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}
الآية: [91] {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}
الآية: [92] {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ}
الآية: [93] {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ}
الآية: [94] {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}
الآية: [95] {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ}
الآية: [96] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}
قوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ذكر طبقات الخلق عند الموت وعند البعث، وبين درجاتهم فقال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ} هذا المتوفى {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وهم السابقون. {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} وقراءة العامة {فَرَوْحٌ} بفتح الراء ومعناه عند ابن عباس وغيره: فراحة من الدنيا. قال الحسن: الروح الرحمة. الضحاك: الروح الاستراحة. القتبي: المعنى له في طيب نسيم. وقال أبو العباس بن عطاء: الروح النظر إلى وجه الله، والريحان الاستماع لكلامه ووحيه، {وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} هو ألا يحجب فيها عن الله عز وجل. وقرأ الحسن وقتادة ونصر بن عاصم والجحدري ورويس وزيد عن يعقوب {فَرُوْحٌ} بضم الراء، ورويت عن ابن عباس. قال الحسن: الروح الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم. وقالت عائشة رضي الله عنها: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {فَرُوْحٌ} بضم الراء ومعناه فبقاء له وحياة

في الحنة وهذا هو الرحمة. {وَرَيْحَانٌ} قال مجاهد وسعيد بن جبير: أي رزق. قال مقاتل: هو الرزق بلغة حمير، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه، قال النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماه درر
وقال قتادة: إنه الجنة. الضحاك: الرحمة. وقيل هو الريحان المعروف الذي يشم. قاله الحسن وقتادة أيضا. الربيع بن خيثم: هذا عند الموت والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث. أبو الجوزاء: هذا عند قبض روحه يتلقى بضبائر الريحان. أبو العالية: لا يفارق أحد روحه من المقربين في الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان فيشمهما ثم يقبض روحه فيهما، وأصل ريحان واشتقاقه تقدم في أول سورة {الرحمن} فتأمله. وقد سرد الثعلبي في الروح والريحان أقوالا كثيرة سوى ما ذكرنا من أرادها وجدها هناك.
قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي {وَأَمَّا إِنْ كَانَ} هذا المتوفى {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي لست ترى منهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم لهم، فإنهم يسلمون من عذاب الله. وقيل: المعنى سلام لك منهم، أي أنت سالم من الاغتمام لهم. والمعنى واحد. وقيل: أي إن أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك وسلم. وقيل: المعنى إنهم يسلمون عليك يا محمد. وقيل: معناه سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين، فحذف إنك. وقيل: إنه يحيا بالسلام إكراما، فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل: أحدها عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت، قاله الضحاك. وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وقد مضى هذا في سورة {النحل} عند قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ}. ا لثاني عند مساءلته في القبر يسلم عليه منكر ونكير . الثالث عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها.

قلت: وقد يحتمل أن تسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراما بعد إكرام. والله أعلم. وجواب {إِنَّ} عند المبرد محذوف التقدير مهما يكن من شيء {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} إن كان من أصحاب اليمين {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} فحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه، كما حذف الجواب في نحو قولك أنت ظالم إن فعلت، لدلالة ما تقدم عليه. ومذهب الأخفش أن الفاء جواب {أَمَّا} و {إِنَّ}، ومعنى ذلك أن الفاء جواب {أَمَّا} وقد سدت مسد جواب {إِنَّ} على التقدير المتقدم، والفاء جواب لهما على هذا الحد. ومعنى {أَمَّا} عند الزجاج: الخروج من شيء إلى شيء، أي دع ما كنا فيه وخذ في غيره.
قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} بالبعث {الضَّالِّينَ} عن الهدى وطريق الحق {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي فلهم رزق من حميم، كما قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ} وكما قال: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} إدخال في النار. وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها، يقال: أصلاه النار وصلاه، أي جعله يصلاها والمصدر ههنا أضيف إلى المفعول، كما يقال: لفلان إعطاء مال أي يعطى المال. وقرئ {وَتَصْلِيَةُ} بكسر التاء أي ونزل من تصلية جحيم. ثم أدغم أبو عمرو التاء في الجيم وهو بعيد. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي هذا الذي قصصناه محض اليقين وخالصه. وجاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما. قال المبرد: هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين، فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين. وعند البصريين حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين. وقيل: هو توكيد. وقيل: أصل اليقين أن يكون نعتا للحق فأضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع والمجاز، كقوله: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} وقال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين. {فسبح باسم ربك الْعَظِيمِ} أي نزه الله تعالى عن السوء. والباء زائدة أي سبح اسم ربك، والاسم المسمى. وقيل:

{فَسَبِّحْ} أي فصل بذكر ربك وبأمره. وقيل: فاذكر اسم ربك العظيم وسبحه. وعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في سجودكم" خرجه أبو داود. والله أعلم.

سورة الحديد
مقدمة السورة
عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول: "إن فيهن آية أفضل من ألف آية" يعني بالمسبحات {الحديد} و{الحشر} و{الصف} و{الجمعة} و{التغابن}.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية: [1] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
الآية: [2] {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
الآية: [3] {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي مجد الله ونزهه عن السوء. وقال ابن عباس: صلى لله {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} ممن خلق من الملائكة {وَالأَرْضِ} من شيء فيه روح أولا روح فيه. وقيل: هو تسبيح الدلالة. وأنكر الزجاج هذا وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وإنما هو تسبيح مقال. واستدل بقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} فلو كان هذا تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود ؟!

قلت: وما ذكره هو الصحيح، وقد مضى بيانه والقول فيه في {الإسراء} عند قوله تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي أنفرد بذلك. والملك عبارة عن الملك ونفوذ الأمر فهو سبحانه الملك القادر القاهر. وقيل: أراد خزائن المطرو النبات وسائر الرزق. {يُحْيِي وَيُمِيتُ} يميت الأحياء في الدنيا ويحي الأموات للبعث. وقيل: يحيي النطف وهي موات وحيث الأحياء. وموضع "يحيي ويميت" رفع على معنى وهو يحي ويميت. ويجوز أن يكون نصبا بمعنى {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} محييا ومميتا على الحال من المجرور في {لَهُ} والجار عاملا فيها. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو الله لا يعجزه شيء.
قوله تعالى: {هُوَ اْلأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} اختلف في معاني هذه الأسماء وقد بيناها في الكتاب الأسنى. وقد شرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحا يغني عن قول كل قائل، فقال في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر" عنى بالظاهر الغالب، وبالباطن العالم، والله أعلم. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} بما كان أو يكون فلا يخفى عليه شيء.
الآية: [4] {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
الآية: [5] {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}
الآية: [6] {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أي يدخل فيها من مطر وغيره {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من نبات وغيره {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} من رزق ومطر وملك {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} يعني بقدرته وسلطانه وعلمه {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يبصر أعمالكم ويراها ولا يخفى عليه شيء منها. وقد جمع في هذه الآية بين {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وبين {وَهُوَ مَعَكُمْ} والأخذ بالظاهرين تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل، والإعراض عن التأمل اعتراف بالتناقض. وقد قال الإمام أبو المعالي: إن محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله عز وجل من يونس بن متى حين كان في بطن الحوت. وقد تقدم.
قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} هذا التكرير للتأكيد أي هو المعبود على الحقيقة {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي أمور الخلائق في الآخرة. وقرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش وحمزة والكسائي وخلف {تَرْجَعُ} بفتح التاء وكسر الجيم. الباقون {تُرْجَعُ}. {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} تقدم. {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي لا تخفى عليه الضمائر، ومن كان بهذه الصفة فلا يجوز أن يعبد من سواه.

الآية: [7] {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}
الآية: [8] {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية: [9] {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي صدقوا أن الله واحد وأن محمدا رسوله {وَأَنْفِقُوا} تصدقوا. وقيل أنفقوا في سبيل الله. وقيل: المراد الزكاة المفروضة. وقيل: المراد غيرها من وجوه الطاعات وما يقرب منه {مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ} دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله فيثبته على ذلك بالجنة. فمن أنفق منها في حقوق الله وهان عليه الإنفاق منها، كما يهون عل الرجل، النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم. وقال الحسن: {جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ} بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم. وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم. {فَالَّذِينَ آمَنُوا} وعملوا الصالحات {مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا} في سبيل الله {لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} وهو الجنة.
قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ} استفهام يراد به التوبيخ. أي أي عذر لكم في ألا تؤمنوا وقد أزيحت العلل؟ {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} بين بهذا أنه لا حكم قبل ورود الشرائع. قرأ أبو عمرو: {وقد أُخذ ميثاقكم} على غير مسمى الفاعل. والباقون على مسمى الفاعل، أي أخذ الله ميثاقكم. قال مجاهد: هو الميثاق الأول الذي كان وهم في ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه. وقيل: أخذ ميثاقكم بأن ركب فيكم العقول، وأقام عليكم الدلائل والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إذ كنتم. وقيل:

أي إن كنتم مؤمنين بالحجج والدلائل. وقيل: أي إن كنتم مؤمنين بحق يوما من الأيام، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والأعلام ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فقد صحت براهينه. وقيل: إن كنتم مؤمنين بالله خالقكم. وكانوا يعترفون بهذا. وقيل: هو خطاب لقوم آمنوا وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقهم فارتدوا. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم تقرون بشرائط الإيمان.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} يريد القرآن. وقيل: المعجزات، أي لزمكم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما معه من المعجزات، والقرآن أكبرها وأعظمها. {لِيُخْرِجَكُمْ} أي بالقرآن. وقيل: بالرسول. وقيل: بالدعوة. {مِنَ الظُّلُمَاتِ} وهو الشرك والكفر {إِلَى النُّورِ} وهو الإيمان. {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ }.
الآية: [10] {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
فيه خمس مسائل :
الأولى- قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم وأنتم تموتون وتخلفون أموالكم وهي صائرة إلى الله تعالى: فمعنى الكلام التوبيخ على عدم الإنفاق.{ ولله ميراث السماوات والأرض} أي إنهما راجحتان إليه بانقراض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق له.
الثانية- قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح مكة. وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة:

كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك. وفي الكلام حذف، أي {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لدلالة الكلام عليه. وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق والأجر على قدر النصب. والله أعلم.
الثالثة- روى أشهب عن مالك قال: ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم، وقد قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} وقال الكلبي: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ففيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وتقديمه، لأنه أول من أسلم. وعن ابن مسعود: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ولأنه أول من أنفق على نبي الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عبادة قد خللها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال: يا نبي الله! ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال؟ فقال: "قد أنفق علي ماله قبل الفتح" قال: فإن الله يقول لك اقرأ على أبي بكر السلام وقل له أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط"؟ فقال أبو بكر: أأسخط "على ربي؟ إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! قال: "فإن الله يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راض" فبكى أبو بكر فقال جبريل عليه السلام: والذي بعثك يا محمد بالحق، لقد تخللت حملة العرش بالعبي منذ تخلل صاحبك هذا بالعباءة، ولهذا قدمته الصحابة عل أنفسهم، وأقروا له بالتقدم والسبق. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سبق النبي صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة. فنال المتقدمون من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ.

الرابعة- التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا، فأما في أحكام الدين فقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" الحديث. وقال: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" وقال: "وليؤمكما أكبركما" من حديث مالك بن الحويرث وقد قدم. وفهم منه البخاري وغيره من العلماء أنه أراد كبر المنزلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الولاء للكبر" ولم يعن كبر السن. وقد قال مالك وغيره: إن للسن حقا. وراعاه الشافعي وأبو حنيفة وهو أحق بالمراعاة، لأنه إذا اجتمع العلماء والسن في خيرين قدم العلم، وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا. وفي الآثار: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا وحرف لعالمنا حقه". ومن الحديث الثابت في الأفراد: "ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه". وأنشدوا:
يا عائبا للشيوخ من أشر ... داخله في الصبا ومن بذخ
اذكر إذا شئت أن تعيرهم ... جدك واذكر أباك يا ابن أخ
وأعلم بأن الشباب منسلخ ... عنك وما وزره بمنسلخ
من لا يعز الشيوخ لا بلغت ... يوما به سنه إلى الشيخ
الخامسة- قوله تعالى : {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي المتقدمون المتناهون السابقون، والمتأخرون اللاحقون، وعدهم الله جميعا الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ ابن عامر {وَكُلٌّ} بالرفع، وكذلك هو بالرفع في مصاحف أهل الشام. الباقون {وَكُلّاً} بالنصب على ما في مصافحهم، فمن نصب فعلى إيقاع الفعل عليه أي وعد الله كلا الحسنى. ومن رفع فلأن المفعول إذا تقدم ضعف عمل الفعل، والهاء محذوفة من وعده.

الآية: [11] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}
الآية: [12] {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} ندب إلى الإنفاق في سبيل الله. وقد مضى في {البقرة} القول فيه. والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا: قد أقرض، كما قال:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل
وسمي قرضا، لأن القرض أخرج لاسترداد البدل. أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدل الله بالأضعاف الكثيرة. قال الكلبي: {قَرْضاً} أي صدقة {حَسَناً} أي محتسبا من قلبه بلا من ولا أذى. {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} ما بين السبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقيل: القرض الحسن هو أن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر، رواه سفيان عن أبي حيان. وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الأهل. الحسن: التطوع بالعبادات. وقيل: إنه عمل الخير، والعرب تقول: لي عند فلان قرض صدق وقرض سوء. القشيري: والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسمعة، وأن يكون من الحلال. ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الرديء فيخرجه، لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}

وأن يتصدق في حال يأمل الحياة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة فقال: "أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا" وأن يخفي صدقته، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وألا يمن، لقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} وأن يستحقر كثير ما يعطي، لأن الدنيا كلها قليلة، وأن يكون من أحب أموال، لقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وأن يكون كثيرا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها". {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} وقرأ ابن كثير وابن عامر {فَيُضَعِّفَهُ} بإسقاط الألف إلا ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة {فَيُضَاعِفَهُ} بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصما نصب الفاء. ورفع الباقون عطفا على {يُقْرِضُ}. وبالنصب جوابا على الاستفهام. وقد مضى في {البقرة} القول في هذا مستوفى. {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني الجنة.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} العامل في {يَوْمَ} {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}، وفي الكلام حذف أي {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} في {يَوْمَ تَرَى} فيه {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ} أي يمضى على الصراط في قول الحسن، وهو الضياء الذي يمرون فيه {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي قدامهم. {وَبِأَيْمَانِهِمْ} قال الفراء: الباء بمعنى في، أي في أيمانهم. أو بمعنى عن أي عن أيمانهم. وقال الضحاك: {نُورُهُمْ} هداهم {وَبِأَيْمَانِهِمْ} كتبهم، واختاره الطبري. أي يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم. فالباء على هذا بمعنى في. ويجوز على هذا أن يوقف على {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ولا يوقف إذا كانت بمعنى عن. وقرأ سهل بن سعد الساعدي وأبو حيوة {وَبِأَيْمَانِهِمْ} بكسر الألف، أراد الإيمان الذي هو ضد الكفر

وعطف ما ليس بظرف على الظرف، لأن معنى الظرف الحال وهو متعلق بمحذوف. والمعنى يسعى كامنا {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وكائنا {بِأَيْمَانِهِمْ}، وليس قوله : {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} متعلقا بنفس {يَسْعَى}. وقيل: أراد بالنور القرآن. وعن ابن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره على إبهام رجله فيطفأ مرة ويوقد أخرى. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من المؤمنين من يضيء نوره كما بين المدينة وعدن أو ما بين المدينة وصنعاء ودون ذلك حتى يكون منهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه" قال الحسن: ليستضيؤوا به على الصراط كما تقدم. وقال مقاتل: ليكون دليلا لهم إلى الجنة. والله أعلم.
قوله تعالى: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} التقدير يقال لهم: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ} دخول جنات. ولا بد من تقدير حذف المضاف، لأن البشرى حدث، والجنة عين فلا تكون هي هي. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي من تحتهم أنهار اللبن والماء والخمر والعسل من تحت مساكنها. {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من الدخول المحذوف، التقدير {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ} دخول جنات {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} مقدرين الخلود فيها ولا تكون الحال من بشراكم، لأن فيه فصلا بين الصلة والموصول. ويجوز أن يكون مما دل عليه البشرى، كأنه قال: تبشرون خالدين. ويجوز أن يكون الظرف الذي هو {الْيَوْمَ} خبرا عن {بُشْرَاكُمُ} و {جَنَّاتٌ} به لا من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم. و {خَالِدِينَ} حال حسب ما تقدم. وأجاز الفراء نصب {جَنَّات} على الحال على أن يكون {اليوم} خبرا عن {بُشْرَاكُمُ} وهو بعيد، إذ ليس في {جنات} معنى الفعل. وأجاز أن يكون {بُشْرَاكُمُ} نصبا على معنى يبشرونهم بشرى وينصب {جنات} بالبشرى وفيه تفرقة بين الصلة والموصول.

الآية: [13] {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}
الآية: [14] {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}
الآية: [15] {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} العامل في {يَوْمَ} {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وقيل: هو به له من اليوم الأول. {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} قراءة العامة بوصل الألف مضمومة الظاء من نظر، والنظر الانتظار أي انتظرونا. وقرأ الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب {انْظُرُونَا } بقطع الألف وكسر الظاء من الإنظار. أي أمهلونا وأخرونا، أنظرته أخرته، واستنظرته أي استمهلته. وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني أنتظرني، وأنشد لعمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
أي انتظرنا. {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} أي نستضيء من نوركم. قال ابن عباس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة - قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء - ثم يعطون نورا يمشون فيه. قال المفسرون: يعطي الله المؤمنين نورا يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم، دليله قوله تعالى: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وقيل: إنما يعطون النور، لأن جميعهم أهل دعوة دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه، قال ابن عباس. وقال أبو أمامة: يعطى المؤمن النور ويترك الكافر والمنافق بلا نور. وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور، فبينما هم يمشون

إذ بعث الله فيهم ريحا وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين، فذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} يقول المؤمنون، خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}. {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} أي قالت لهم الملائكة {ارْجِعُوا}. وقيل: بل هو قول المؤمنين لهم {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} إلى الموضع الذي أخذنا منه النور فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا فإنكم لا تقتبسون من نورنا. فلما رجعوا وانعزلوا في طلب النور {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} وقيل: أي هلا طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا. {بِسُورٍ} أي سور، والباء صلة. قال الكسائي. والسور حاجز بين الجنة والنار. وروي أن ذلك السور ببيت المقدس عند موضع يعرف بوادي جهنم. {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} يعني ما يلي منه المؤمنين {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} يعني ما يلي المنافقين. قال كعب الأحبار: هو الباء الذي ببيت المقدس المعروف بباب الرحمة. وقال عبدالله بن عمرو: إنه سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} يعني جهنم. ونحوه عن ابن عباس. وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة بن الصامت على سور بيت المقدس الشرقي فبكى، وقال: من ها هنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم. وقال قتادة: هو حائط بين الجنة والنار {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} يعني الجنة { وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} يعني جهنم. وقال مجاهد: إنه حجاب كما في {الأعراف} وقد مضى القول فيه. وقد قل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين.
قوله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ} أي ينادي المنافقون المؤمنين {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} في الدنيا يعني نصلي مثل ما تصلون، ونغزو مثل ما تغزون، ونفعل مثل، ما تفعلون {قَالُوا بَلَى} أي يقول المؤمنون {بَلَى} قد كنتم معنا في الظاهر {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي استعملتموها في الفتنة. وقال مجاهد: أهلكتموها بالنفاق. وقيل: بالمعاصي، قاله أبو سنان. وقيل: بالشهوات واللذات،

رواه أبو نمير الهمداني. {وَتَرَبَّصْتُمْ} أي {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالنبي صلى الله عليه وسلم الموت، وبالمؤمنين الدوائر. وقيل: {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالتوبة {وَارْتَبْتُمْ} أي شككتم في التوحيد والنبوة {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ} أي الأباطيل. وقيل: طول الأمل. وقيل: هو ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين ونزول الدوائر بهم. وقال قتادة: الأماني هنا خدع الشيطان. وقيل: الدنيا، قال عبدالله بن عباس. وقال أبو سنان: هو قولهم سيغفر لنا. وقال بلال بن سعد: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة. {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} يعني الموت. وقيل: نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: إلقاؤهم في النار. {وَغَرَّكُمْ} أي خدعكم {بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي الشيطان، قاله عكرمة. وقيل: الدنيا، قاله الضحاك. وقال بعض العلماء: إن للباقي بالماضي معتبرا، وللآخر بالأول مزدجرا، والسعيد من لا يغتر بالطمع، ولا يركن إلى الخدع، ومن ذكر المنية نسي الأمنية، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل. وجاء {الْغَرُورُ} على لفظ المبالغة للكثرة. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع وسماك بن حرب {الْغُرُورُ} بضم الغين يعني الأباطيل وهو مصدر. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم خط لنا خطوطا، وخط منها خطا ناحية فقال: "أتدرون ما هذا هذا مثل ابن آدم ومثل التمني وتلك الخطوط الآمال بينما هو متمنى إذ جاءه الموت". وعن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط وسطه خطا وجعله خارجا منه، وخط عن يمينه ويساره خطوطا صغارا فقال: "هذا ابن آدم وهذا أجله محيط به وهذا أمله قد جاوز أجله وهذه الخطوط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا".
قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} أيها المنافقون {وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أيأسهم من النجاة. وقراءة العامة {يُؤْخَذُ} بالياء، لأن التأنيث غير. حقيقي، ولأنه قد فصل بينها وبين الفعل. وقرأ ابن عامر ومعقوب {تُؤْخَذُ} بالتاء واختاره أبو حاتم لتأنيث الفدية. والأول

اختيار أبي عبيد، أي لا يقبل منكم بدل ولا عوض ولا نفس أخرى . {مَأْوَاكُمُ النَّارُ} أي مقامكم ومنزلكم {هِيَ مَوْلاكُمْ} أي أولى بكم، والمولى من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن كان ملازما للشيء. وقيل: أي النار تملك أمرهم، بمعنى أن الله تبارك وتعالى يركب فيها الحياة والعقل فهي تتميز غيظا على الكفار، ولهذا خوطبت في قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي ساءت مرجعا ومصيرا.
الآية: [16] {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
الآية: [17] {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي يقرب ويحين، قال الشاعر:
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا
وماضيه أنى بالقصر يأنى. ويقال: آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يئين أينا أي حان، مثل أنى لك وهو مقلوب منه. وأنشد ابن السكيت:
ألما يئن لي تجلى عمايتي ... وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
فجمع بين اللغتين. وقرأ الحسن {ألمَََّاَ يَأْنِ} وأصلها {أَلَمْ} زيدت {مَا} فهي نفي لقول القائل: قد كان كذا، و"لم" نفي لقوله: كان كذا. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: ما كنا بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إلا أربع سنين. قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، تقول عاتبته معاتبة {أَنْ تَخْشَعَ} أي تذل وتلين {قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}

روي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يستبطئكم بالخشوع" فقالوا عند ذلك: خشعنا. وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة فنزلت: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية، فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الأول فنزلت: {الم أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان. قال السدي وغيره: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} بالظاهر وأسروا الكفر {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}. وقيل: نزلت في المؤمنين. قال سعد: قيل يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا فنزل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ونحوه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟ قال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه. وقيل: هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام لأنه قال عقيب هذا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقران، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى، إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم فقست قلوبهم.
قوله تعالى: {وَلا يَكُونُوا} أي وألا يكونوا فهو منصوب عطفا على {أَنْ تَخْشَعَ}. وقيل: مجزوم على النهي، مجازه ولا يكونن، ودليل هذا التأويل رواية رويس عن يعقوب {وَلا تَكُونُوا} بالتاء، وهي قراءة عيسى وابن إسحاق. يقول: لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى، أعطوا التوراة والإنجيل فطالت الأزمان بهم. قال ابن مسعود: إن بني إسرائيل

لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم وإلا فاقتلوهم. ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم، وقالوا: إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإن ابن قتلناه فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة وجعلها في قرن وعلقه في عنقه ثم لبس عليه ثيابه، فأتاهم فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فضرب بيده على صدره، وقال: آمنت بهذا يعني المعلق على صدره. فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة، وخير مللهم أصحاب ذي القرن. قال عبدالله: ومن يعش منكم فسيرى منكرا، وبحسب أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وقال مقاتل بن حيان: يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمد واستبطؤوا بعث النبي صلى الله عليه وسلم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع. وقيل: من لا يعلم ما يتدين به من الفقه ويخالف من يعلم. وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى. ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فأمنوا به، وطائفة منهم رجعوا عن دين عيسى وهم الذين فسقهم الله.
وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله فأفاقوا. وذكر ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس، قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها - أو قال في ذنوبكم - كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى، فأرحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية. وهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله

تعالى. ذكر أبو المطرف عبدالرحمن بن مروان القلاني قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق، قال حدثنا علي بن يعقوب الزيات، قال حدثنا إبراهيم بن هشام، قال حدثنا زكريا بن أبي أبان، قال حدثنا الليث بن الحرث قال حدثنا الحسن بن داهر، قال سئل عبدالله بن المبارك عن بدء زهده قال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين السحر، وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان - يعني العود الذي بيده - ويقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} قلت: بلى والله! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري. وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود:
ألم يأن لي منك أن ترحما ... وتعص العواذل واللوما
وترثي لصب بكم مغرم ... أقام على هجركم مأتما
يبيت إذا جنه ليله ... يراعي الكواكب والأنجما
وماذا على الظبي لوأنه ... أحل من الوصل ما حرما
وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني! اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.

قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي {يُحْيِي الأَرْضَ} الجدبة {بَعْدَ مَوْتِهَا} بالمطر. وقال صالح المري: المعنى يلين القلوب بعد قساوتها. وقال جعفر بن محمد: يحييها بالعدل بعد الجور. وقيل: المعنى فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالكفر والضلالة. وقيل: كذلك يحيي الله الموتى من الأمم، ويميز بين الخاشع قلبه وبين القاسي قلبه. {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله، وأنه لمحيي الموتى.
الآية: [18] {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}
الآية: [19] {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من التصديق، أي المصدقين بما أنزل الله تعالى. الباقون بالتشديد أي المتصدقين والمتصدقات فأدغمت التاء في الصاد، وكذلك في مصحف في. وهو حث على الصدقات، ولهذا قال: { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} بالصدقة والنفقة في سبيل الله. قال الحسن: كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع. وقيل: هو العمل الصالح من الصدقة وغيرها محتسبا صادقا. وإنما عطف بالفعل على الاسم، لأن ذلك الاسم في تقدير الفعل، أي إن الذين تصدقوا وأقرضوا {يُضَاعَفُ لَهُمْ} أمثالها. وقراءة العامة بفتح العين على ما لم يسم فاعله. وقرأ الأعمش {يُضَاعِفُه} بكسر العين وزيادة هاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب {يُضَعَّفُ} بفتح العين وتشديدها. {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني الجنة.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} اختلف في {الشُّهَدَاءُ} هل هو مقطوع مما قبل أو متصل به. فقال مجاهد وزيد بن أسلم: إن الشهداء والصديقين هم المؤمنون وأنه متصل، وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يوقف على هذا على قوله: {الصِّدِّيقُونَ} وهذا قول ابن مسعود في تأويل الآية. قال القشيري قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فالصديقون هم الذين يتلون الأنبياء، والشهداء هم الذين يتلون الصديقين، والصالحون يتلون الشهداء، فيجوز أن تكون هذه الآية في جملة من صدق بالرسل، أعني {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ}. ويكون المعنى بالشهداء من شهد لله بالوحدانية، فيكون صديق فوق صديق في الدرجات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنات العلا ليراهم من دونهم كما يرى أحدكم الكوكب الذي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما" وروي عن ابن عباس ومسروق أن الشهداء غير الصديقين. فالشهداء على هذا منفصل مما قبله والوقف على قوله: {الصِّدِّيقُونَ} حسن. والمعنى {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي لهم أجر أنفسهم ونور أنفسهم. وفيهم قولان أحدهما: أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب، قاله الكلبي، ودليله قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} الثاني: أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة، وفيما يشهدون به قولان: أحدهما: أنهم يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية. وهذا معنى قول مجاهد. الثاني : يشهدون لأنبيائهم بتبليغهم الرسالة إلى أممهم، قال الكلبي. وقال مقاتل قولا ثالثا: إنهم القتلى في سبيل الله تعالى. ونحوه عن ابن عباس أيضا قال: أراد شهداء المؤمنين. والواو واو الابتداء. والصديقون على هذا القول مقطوع من الشهداء.

وقد اختلف في تعيينهم، فقال الضحاك: هم ثمانية نفر، أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة. وتابعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ألحقه الله بهم لما صدق نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل بن حيان: الصديقون هم الذين آمنوا بالرسل ولم يكذبوهم طرفة عين، مثل مؤمن آل فرعون، وصاحب آل ياسين، وأبي بكر الصديق، وأصحاب الأخدود.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا} أي بالرسل والمعجزات {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فلا أجر لهم ولا نور.
الآية: [20] {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}
الآية: [21] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} وجه الاتصال أن الإنسان قد يترك الجهاد خوفا على نفسه من القتل، وخوفا من لزوم الموت، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على ما لا يبقى. و {وَمَا} صلة تقديره: اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل ولهو فرح ثم ينقضي. وقال قتادة: لعب ولهو: أكل وشرب. وقيل: إنه على المعهود من اسمه، قال مجاهد: كل لعب لهو. وقد مضى هذا المعنى

في {الأنعام} وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة، أي شغل عنها. وقيل: اللعب الاقتناء، واللهو النساء. {وَزِينَةٌ} الزينة ما يتزين به، فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة، وكذلك من تزين في غير طاعة الله. {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} أي يفخر بعضكم على بعض بها. وقيل: بالخلقة والقوة. وقيل: بالأنساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد" وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب" الحديث. وقد تقدم جميع هذا. {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأبناء والأموال، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعة. قال بعض المتأخرين: {لَعِبٌ} كلعب الصبيان {وَلَهْوٌ} كلهو الفتيان {وَزِينَةٌ} كزينة النسوان {وَتَفَاخُرٌ} كتفاخر الأقران {وَتَكَاثُرٌ} كتكاثر الدهقان. وقيل: المعنى أن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء. وعن علي رضي الله عنه قال لعمار: لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها. ثم ضرب الله تعالى لها مثلا بالزرع في غيث فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} أي مطر {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} الكفار هنا: الزراع لأنهم يغطون البذر. والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن، وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن. وقد مضى معنى هذا المثل في {يونس} و{الكهف}. وقيل:

الكفار هنا الكافرون بالله عز وجل، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين. وهذا قول حسن، فإن أصل الإعجاب لهم وفيهم، ومنهم يظهر ذلك، وهو التعظيم للدنيا وما فيها. وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم، وتتقلل عندهم وتدق إذا ذكروا الآخرة. وموضع الكاف رفع على الصفة. {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يجف بعد خضرته {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} أي متغيرا عما كان عليه من النضرة. {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} أي فتاتا وتبنا فيذهب بعد حسنه، كذلك دنيا الكافر. {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي للكافرين. والوقف عليه حسن، ويبتدئ {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أي للمؤمنين. وقال الفراء: {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ} تقديره إما عذاب شديد وإما مغفرة، فلا يوقف على {شَدِيدٌ}. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} هذا تأكيد ما سبق، أي تغر الكفار، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة. وقيل: العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدا في العمل للدنيا، وترغيبا في العمل للآخرة.
قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل: سارعوا بالتوبة، لأنها تؤدي إلى المغفرة، قاله الكلبي. وقيل التكبيرة الأولى مع الإمام، قاله مكحول. وقيل: الصف الأول. {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} لو وصل بعضها ببعض. قال الحسن: يعني جميع السموات والأرضين مبسوطتان كل واحدة إلى صاحبتها. وقيل: يريد لرجل واحد أي لكل واحد جنة بهذه السعة. وقال ابن كيسان: عني به جنة واحدة من الجنات. والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله. قال:
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
وقد مضى هذا كله في {آل عمران}. وقال طارق بن شهاب: قال قوم من أهل الحيرة لعمر رضي الله عنه: أرأيت قول الله عز وجل: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}

فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم الليل إذا ولى وجاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: لقد نزعت بما في التوراة مثله. {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} شرط الإيمان لا غير، وفيه تقوية الرجاء. وقد قيل: شرط الإيمان هنا وزاد عليه في {آل عمران} فقال: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي أن الجنة لا تنال ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله. وقد مضى هذا في {الأعراف} وغيرها. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
الآية: [22] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
الآية: [23] {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
الآية: [24] {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار. وقيل: الجوائح في الزرع. {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} بالأوصاب والأسقام، قال قتادة. وقيل: إقامة الحدود، قال ابن حيان. وقيل: ضيق المعاش، وهذا معنى رواه ابن جريج. {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} يعني في اللوح المحفوظ. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} الضمير في {نَبْرَأَهَا} عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع. وقال ابن عباس: من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير: من قبل أن يخلق الأرض والنفس . {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي خلق ذلك وحفظ جميعه {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هين. قال الربيع بن صالح: لما أخذ سعيد بن جبير رضي الله عنه بكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب

إليه. قال: فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية. وقال ابن عباس: لما خلق الله القلم قال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}. وقد قيل: إن هذه الآية تتصل بما قبل، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الأمر.
قوله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه" ثم قرأ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} أي من الدنيا، قال ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب. وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، قال الله تعالى: {لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس. وقراءة العامة {آتَاكُمْ} بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا. واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو {أتَاكُمْ} بقصر الألف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم، وهو معادل لـ {فَاتكُمْ} ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق: يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرزجمهر: أيها الحكيم! مالك لا تحزن على ما فات،

ولا تفرح بما هو آت؟ قال: لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة. وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى: الدنيا مبيد ومفيد، فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} أي لا يحب المختالين {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} فـ {الَّذِينَ} في موضع خفض نعتا للمختال. وقيل: رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلهم، قال السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} يعني بالعلم {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي بألا يعلموا الناس شيئا. زيد بن اسلم: إنه البخل بأداء حق الله عز وجل. وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق، قال عامر بن عبدالله الأشعري. وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين: أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال. {وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي عن الإيمان {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقراءة العامة { بِالْبُخْلِ} بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي {بِالْبَخْل} بفتحتين وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميقع {بالبَخلِ} بفتح الباء وإسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم {بِالْبُخُلِ} بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدم الفرق بين البخل والشح في آخر {آل عمران}.

وقرأ نافع وابن عامر {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} بغير {هُوَ}. والباقون { هُوَ الْغَنِيُّ} على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و {الْغَنِيُّ} خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلا، لأن حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ.
الآية: [25] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}
الآية: [26] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة. وقيل: الإخلاص لله تعالى في العبادة، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بذلك دعت الرسل: نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم . {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أي الكتب، أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم {وَالْمِيزَانَ} قال ابن زيد: هو ما يوزن به ومتعامل {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل في معاملاتهم. وقوله: {بِالْقِسْطِ} يدل على أنه أراد الميزان المعروف وقال قوم: أراد به العدل. قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب:
علفتها تبنا وماء باردا
ويدل على هذا قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} ثم قال: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} وقد مضى القول فيه. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد

والنار والماء والملح". وروى عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة، ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قال ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والإبرة. وحكاه القشيري قال: والميقعة ما يحدد به، يقال وقعت الحديدة أقعها أي حددتها. وفي الصحاح: والميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشية القصار التي يدق عليها، والمطرقة والمسن الطويل. وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء. {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي لإهراق الدماء. ولذلك نهى عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء؛ لأنه يوم جرى فيه الدم. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في يوم الثلاثاء ساعة لا يرقأ فيها الدم" . وقيل: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} أي أنشأناه وخلقناه، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء. وقال أهل المعاني: أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه. {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} يعني السلاح والكراع والجنة. وقيل: أي فيه من خشية القتل خوف شديد. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} قال مجاهد: يعني جنة. وقيل: يعني انتفاع الناس بالماعون من الحديد، مثل السكين والفأس والإبرة ونحوه. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره. وقيل: هو عطف على قوله تعالى: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب، وهذه الأشياء، ليتعامل الناس بالحق، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله {وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} قال ابن عباس: ينصرونهم لا يكذبونهم، ويؤمنون بهم {بِالْغَيْبِ} أي وهم لا يرونهم. {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} {قَوِيٌّ} في أخذه {عَزِيزٌ} أي منيع غالب. وقد تقدم. وقيل: {بِالْغَيْبِ} بالإخلاص.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} فصل ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب، وأخبر أنه أرسل نوحا وإبراهيم وجعل النبوة في نسلهما {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} أي جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء، وبعضهم أمما يتلون الكتب المنزلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم {فَمِنْهُمْ} أي من ائتم بإبراهيم ونوح{مُهْتَدٍ} وقيل: { فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ} أي من ذريتهما مهتدون. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} كافرون خارجون عن الطاعة.
الآية: [27] {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
فيه أربع مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا} أي اتبعنا {عَلَى آثَارِهِمْ} أي على آثار الذرية. وقيل: على أثار نوح وإبراهيم {بِرُسُلِنَا} موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه {وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ} وهو الكتاب المنزل عليه. وتقدم اشتقاقه في أول سورة {آل عمران}.
الثانية- قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} على دينه يعني الحواريين وأتباعهم {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي مودة فكان يواد بعضهم بعضا. وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترل إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه. والرأفة اللين، والرحمة الشفقة. وقيل: الرأفة تخفيف الكل، والرحمة تحمل الثقل. وقيل: الرأفة أشد الرحمة. وتم الكلام. ثم قال:

{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي من قبل أنفسهم. والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل، قال أبو علي: وابتدعوها رهبانية ابتدعوها. وقال الزجاج: أي ابتدعوها رهبانية، كما تقول رأيت زيدا وعمرا كلمت. وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها. قال الماوردي: وفيها قراءتان، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرهب. الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا. قال الضحاك: إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام أرتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة: الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع: "هي لحوقهم بالبراري والجبال" قوله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها، قاله ابن زيد. {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله، قاله ابن مسلم. وقال الزجاج: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة. ويكون {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} بدلا من الهاء والألف في {كَتَبْنَاهَا} والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. وقيل: {إِلاَّ ابْتِغَاءَ} الاستئناء منقطع، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي فما قاموا بها حق القيام. وهذا خصوص، لأن الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر. وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل،

وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والأنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة. فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا. فطائفة قالت: ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها، وأعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم. وقالت طائفة: دعونا نهيم في الأرض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا. وطائفة قالت: ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحفر الآبار ونحرث البقول فلا تروننا. وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا، فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا: نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} الآية. يقول: أبتدعها هؤلاء الصالحون {فَمَا رَعَوْهَا} المتأخرون {حَقَّ رِعَايَتِهَا} {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني المتأخرين، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل، جاؤوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
الثالثة- وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن أبتدع خيرا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية. وعن أبي أمامة الباهلي - واسمه صدي بن عجلان - قال: أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم، إنما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}.
الرابعة- وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان. وقد مضى بيان هذا في سورة {الكهف} مستوفى والحمد لله. وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال:

خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه فقال: مر رجل بغار فيه شيء من ماء، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا. قال: لو أني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت إلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبي الله! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف الأول خير من صلاته ستين سنة". وروى الكوفيون عن ابن مسعود، قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدري أي الناس أعلم" قال قلت: الله ورسول أعلم. قال: "أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه هل تدري من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعن إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر - وتلا {وَرَهْبَانِيَّةً} الآية - أتدري ما رهبانية أمتي الهجرة والجهاد والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان من قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى - عليه السلام - حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك - ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} - الآية - فمن

أمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون" يعني الذي تهودوا وتنصروا. وقيل: هؤلاء الذين أدركوا محد صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون. وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي إن الأولين أصروا على الكفر أيضا فلا تعجب من أهل عصرك إن أصروا على الكفر. والله أعلم.
الآية: [28] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
الآية: [29] {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي آمنوا بموسى وعيسى {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} بمحمد صلى الله عليه وسلم {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي مثلين من الأجر على إيمانكم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} وقد تقدم القول فيه. والكفل الحظ والنصيب وقد مضى في {النساء} وهو في الأصل كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط، قاله ابن جريج. ونحوه قال الأزهري، قال: أشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه إذا ارتدفه لئلا يسقط، فتأويله يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي كما يحفظ الكفل الراكب. وقال أبو موسى الأشعري: {كِفْلَيْنِ} ضعفين بلسان الحبشة. وعن ابن زيد: {كِفْلَيْنِ} أجر الدنيا والآخرة. وقيل: لما نزلت {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} افتخر مؤمنو أهل

الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الحسنة إنما لها من الأجر مثل واحد، فقال: الحسنة اسم عام ينطلق على كل نوع من الإيمان، وينطلق على عمومه، فإذا انطلقت الحسنة على نوع واحد فليس له عليها من الثواب إلا مثل واحد. وإن انطلقت على حسنة تشتمل على نوعين كان الثواب عليها مثلين، بدليل هذه الآلة فإنه قال: {كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} والكفل النصيب كالمثل، فجعل لمن اتقى الله وآمن برسوله نصيبينا، نصيبا لتقوى الله ونصيبا لإيمانه برسوله. فدل على أن الحسنة التي جعل لها عشر هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات، وهو الإيمان الذي جمع الله تعالى في صفته عشرة أنواع، لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية بكمالها. فكانت هذه الأنواع العشرة التي هي ثوابها أمثالها فيكون لكل نوع منها مثل. وهذا تأويل فاسد، لخروجه عن عموم الظاهر، في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} بما لا يحتمله تخصيص العموم، لأن ما جمع عشر حسنات فليس يجزى عن كل حسنة إلا بمثلها. وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها والأخبار دالة عليه. وقد تقدم ذكرها. ولو كان كما ذكر لما كان بين الحسنة والسيئة فرق قوله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً} أي بيانا وهدى، عن مجاهد. وقال ابن عباس: هو القرآن. وقيل: ضياء {تَمْشُونَ بِهِ} في الآخرة على الصراط،وفي القيامة إلى الجنة. وقيل تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها. وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد عليه السلام. وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله، لا الرياسة الحقيقية في الدين. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي ليعلم، و {أَنَّ لا} صلة زائدة مؤكدة، قاله الأخفش. وقال الفراء: معناه لأن يعلم و{لا} صلة زائدة في كل كلام دخل عليه

جحد. قال قتادة: حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي لأن يعلم أهل الكتاب أنهم {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} وقال مجاهد: قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل. فلما خرج من العرب كفروا فنزلت: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ} أي ليعلم أهل الكتاب {أن أَلاَّ يَقْدِرُونَ} أي أنهم يقدرون، كقوله تعالى: {أَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً}. وعن الحسن: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وروي ذلك عن ابن مجاهد. وروى قطرب بكسر اللام وإسكان الياء. وفتح لام الجر لغة معروفة. ووجه إسكان الياء أن همزة {أن} حذفت فصارت {لن} فأدغمت النون في اللام فصار {للا} فلما اجتمعت اللامات أبدلت الوسطى منها ياء، كما قالوا في أما: أيما. وكذلك القول في قراءة من قرأ {لِيْلا} بكسر اللام إلا أنه أبقى اللام على اللغة المشهورة فيها فهو أقوى من هذه الجهة. وعن ابن مسعود {لِكَيْلا يَعْلَمَ} وعن حطان بن عبدالله "لأن يعلم". وعن عكرمة {لِيَعْلَمَ} وهو خلاف المرسوم. {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} قيل: الإسلام. وقيل: الثواب. وقال الكلبي: من رزق الله. وقيل: نعم الله التي لا تحصى. {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} ليس بأيديهم فيصرفون النبوة عن محمد صلى الله عليه وسلم إلى من يحبون. وقيل: {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} أي هو له {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} وفي البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، قال حدثنا شعيب عن الزهري، قال أخبرني سالم بن عبدالله، أن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى أنتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين قال أهل التوراة ربنا هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا قال هل

ظلمتكم من أجركم من شيء قالوا لا فقال فذلك فضلي أوتيه من أشاء" في رواية: "فغضبت اليهود والنصارى وقالوا ربنا " الحديث. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. تم تفسير سورة {الحديد} والحمد لله.

سورة المجادلة
مقدمة السورة
سورة المجادلة مدنية في قول الجميع. إلا رواية عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} نزلت بمكة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية: [1] { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} التي اشتكت إلى الله هي خولة بنت ثعلبة. وقيل بنت حكيم. وقيل اسمها جميلة. وخولة أصح، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وقد مر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة

بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟ وقالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدى ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} خرجه ابن ماجة في السنن. والذي في البخاري من هذا عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}.
وقال الماوردي: هي خولة بنت ثعلبة. وقيل: بنت خويلد. وليس هذا بمختلف، لأن أحدهما أبوها والآخر جدها فنسبت إلى كل واحد منهما. وزوجها أوس بن الصامت أخو عباد بن الصامت وقال الثعلبي قال ابن عباس: هي خولة بنت خويلد الخزرجية، كانت تحت أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وكانت حسنة الجسم، فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها قال عروة: وكان أمرا به لمم فأصابه بعض لممه فقال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: " حرمتِ عليه" فقالت: والله ما ذكر طلاقا، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فقال: "حرمت عليه" فما زالت تراجعه ومراجعها حتى نزلت عليه الآية. وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول الله! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أوحى إلي في هذا شيء" فقالت: يا رسول الله، أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟! فقال: "هو ما قلت لك" فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله.

فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} الآية.
وروى الدارقطني من حديث قتادة أن أنس بن مالك حدثه قال: إن أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ظاهر حين كبرت سني ورق عظمي. فأنزل الله تعالى آية الظهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوس : "أعتق رقبة" قال: مالي بذلك يدان. قال: "فصم شهرين متتابعين" قال: أما إني إذا أخطأني أن آكل في يوم ثلاث مرات يكل بصري. قال: "فأطعم ستين مسكينا" قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة. قال: فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا حتى جمع الله له والله غفور رحيم. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} قال: فكانوا يرون أن عنده مثلها وذلك لستين مسكينا، وفي الترمذي وسنن ابن ماجة: أن سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "أعتق رقبة" قال: فضربت صفحة عنقي بيدي. فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: "فصم شهرين" فقلت: يا رسول الله! وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام. قال: "فأطعم ستين مسكينا" الحديث. وذكر ابن العربي في أحكامه: روي أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد حرمت عليه" فقالت: أشكو إلى الله حاجتي. ثم عادت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرمت عليه" فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه وعائشة تغسل شق رأسه الأيمن، ثم تحولت إلى الشق الآخر وقد نزل عليه الوحي، فذهبت أن تعيد، فقالت عائشة: اسكتي فإنه قد نزل الوحي. فلما نزل القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها: "أعتق رقبة" قال: لا أجد. قال: "صم شهرين متتابعين" قال: إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات خفت أن يعشو بصري. قال: "فأطعم ستين مسكينا". قال: فأعني. فأعانه بشيء. قال أبو جعفر النحاس: أهل التفسير على أنها خولة

وزوجها أوس بن الصامت، واختلفوا في نسبها، قال بعضهم: هي أنصارية وهي بنت ثعلبة، وقال بعضهم: هي بنت دليج، وقيل: هي بنت خويلد، وقال بعضهم: هي بنت الصامت، وقال بعضهم: هي أمة كانت لعبدالله بن أبي، وهي التي أنزل الله فيها {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} لأنه كان يكرهها على الزنى. وقيل: هي بنت حكيم. قال النحاس: وهذا ليس بمتناقض، يجوز أن تنسب مرة إلى أبيها، ومرة إلى أمها، ومرة إلى جدها، ويجوز أن تكون أمة كانت لعبدالله بن أبي فقيل لها أنصارية بالولاء، لأنه كان في عداد الأنصار وإن كان من المنافقين.
الثانية- قرئ {قَد سَمِع اللَّهُ} بالإدغام و {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} بالإظهار. والأصل في السماع إدراك المسموعات، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن. وقال ابن فورك: الصحيح أنه إدراك المسموع. وقال الحاكم أبو عبدالله في معنى السميع: إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذن، كالأصم من الناس لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لإدراك الصوت. والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. وشكى واشتكى بمعنى واحد. وقرئ {تَحَاوِرُكَ} أي تراجعك الكلام و {تُجَادِلُكَ} أي تسائلك.
الآية: [2] {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}

فيه ثلاث عشرون مسألة:
الأولي- قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف {يُظَاهِرُونَ} بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {يُظَهَّرُونَ} بحذف الألف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء. وقرأ أبو العالية وعاصم وزر بن حبيش {يُظَاهِرُونَ} بضم الياء وتخفيف الظاء والف وكسر الهاء. وقد تقدم هذا في {الأحزاب}. وفي قراءة أبى {يُتظَاهِرُونَ} وهي معنى قراءة ابن عامر وحمزة. وذكر الظهر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يركب بطنها ولكن كنى عنه بالظهر، لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره، فكنى بالظهر عن الركوب. ويقال: نزل عن امرأته أي طلقها كأنه نزل عن مركوب. ومعنى أنت علي كظهر أمي: أي أنت علي محرمة لا يحل لي ركوبك
الثانية- حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر. وأكثرهم على أنه إن قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما. واختلف فيه عن الشافعي رضى الله عنه، فروي عنه نحو قول مالك، لأنه شبه امرأته بظهر محرم عليه مؤبد كالأم. وروى عنه أبو ثور: أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها. وهو مذهب قتادة والشعبي. والأول قول الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري
الثالثة- أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا. فإن قال: أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر، أو قال: أنت علي مثل أمي، فإن أراد الظهار فله نيته، وإن أراد الطلاق كان مطلقا البتة عند مالك،

وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهرا. ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق، كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار، وكنايه الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق البت.
الرابعة- ألفاظ الظهار ضربان: صريح وكناية، فالصريح أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي. وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر، مثل قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق تطلق عليه. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يكون ظهارا. وهذا ضعيف منه، لأنه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خاصة حقيقة خلافا لأبي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه. ومت شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف. وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والأخت، والعمة والخالة كان مظاهرا عند أكثر الفقهاء، وعند الإمام الشافعي رضي الله عنه على الصحيح من المذهب على ما ذكرنا. والكناية أن يقول: أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية. فإن أراد الظهار كان ظهارا، وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا عند الشافعي وأبي حنيفة. وقد تقدم مذهب مالك رضي الله عنه في ذلك، والدليل عليه أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه فكان ظهارا. أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي فان معنى اللفظ فيه موجود - واللفظ بمعناه - ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما ألزمه بمعناه وهو التحريم، قاله ابن العربي.
الخامسة- إذا شبه جملة أهله بعضو من أعضاء أمه كان مظاهرا، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إنه إن شبهها بعضو يحل له النظر إليه لم يكن مظاهرا. وهذا لا يصح، لأن النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له، وفيه وقع التشبيه وإياه قصد المظاهر، وقد قال الإمام الشافعي في قوله: إنه لا يكون ظهارا إلا في الظهر وحده. وهذا فاسد، لأن كل عضو منها محرم، فكان التشبيه به ظهارا كالظهر، ولأن المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم فلزم على المعنى.

السادسة- إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا حملا على الأول، وإن لم يذكر الظهر فاختلف فيه علماؤنا، فمنهم من قال: يكون ظهارا. ومنهم من قال: يكون طلاقا. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يكون شيئا. قال ابن العربي: وهذا فاسد، لأنه شبه محللا من المرأة بمحرم فكان مقيدا بحكمه كالظهر، والأسماء بمعانيها عندنا، وعندهم بألفاظها وهذا نقض للأصل منهم.
قلت: الخلاف في الظهار بالأجنبية قوي عند مالك. وأصحابه منهم من لا يرى الظهار إلا بذوات المحارم خاصة ولا يرى الظهار بغيرهن. ومنهم من لا يجعله شيئا. ومنهم من يجعله في الأجنبية طلاقا. وهو عند مالك إذا قال: كظهر ابني أو غلامي أو كظهر زيد أو كظهر أجنبية ظهار لا يحل له وطؤها في حين يمينه. وقد روي عنه أيضا: أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء، كما قال الكوفي والشافعي. وقال الأوزاعي: لو قال لها أنت علي كظهر فلان رجل فهو يمين يكفرها. والله أعلم.
السابعة- إذا قال: أنت علي حرام كظهر أمي كان ظهارا ولم يكن طلاقا، لأن قوله: أنت حرام علي يحتمل التحريم بالطلاق فهي مطلقة، ويحتمل التحريم بالظهار فلما صرح به كان تفسيرا لأحد الاحتمالين يقضي به فيه.
الثامنة- الظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه. وكذلك عند مالك من يجوز له وطؤها من إمائه، إذا ظاهر منهن لزمه الظهار فيهن. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلزم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهي مسألة عسيرة جدا علينا، لأن مالكا يقول: إذا قال لأمته أنت علي حرام لا يلزم. فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته. ولكن تدخل الأمة في عموم قوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} لأنه أراد من محللاتهم. والمعنى فيه أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد فصح في الأمة، أصله الحلف بالله تعالى.

التاسعة- ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك. ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة، لقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} وهذه ليست من نسائه. وقد مضى أصل هذه المسألة في سورة {التوبة} عند قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية.
العاشرة- الذمي لا يلزم ظهاره. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يصح ظهار الذمي، ودليلنا قوله تعالى: {مِنْكُمْ} يعني من المسلمين. وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. فإن قيل: هذا استدلال بدليل الخطاب. قلنا: هو استدلال بالاشتقاق والمعنى، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وذلك كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال.
الحادية عشرة- قوله تعالى: {مِنْكُمْ} يقتضي صحة ظهار العبد خلافا لمن منعه. وحكاه الثعلبي عن مالك، لأنه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام.
الثانية عشرة- وقال مالك رضي الله عنه: ليس على النساء تظاهر، وإنما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَهَّرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} ولم يقل اللائي يظهرن منكن من أزواجهن، إنما الظهار على الرجال. قال ابن العربي: هكذا روي عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد. وهو صحيح معنى، لأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال ليس بيد المرأة منه شيء وهذا إجماع. قال أبو عمر: ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء. وقال الحسن بن زياد: هي مظاهرة. وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد: ليس ظهار المرأة من الرجل بشيء قبل النكاح كان أو بعده. وقال الشافعي: لا ظهار للمرأة من الرجل. وقال الأوزاعي إذا قالت المرأة لزوجها، أنت علي كظهر أمي

فلانة فهي يمين تكفرها. وكذلك قال إسحاق، قال: لا تكون امرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها. وقال الزهري: أرى أن تكفر الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها، رواه عنه معمر. وابن جريج عن عطاء قال: حرمت ما أحل الله، عليها كفارة يمين. وهو قول أبي يوسف. وقال محمد بن الحسن: لا شيء عليها
الثالثة عشرة- من به لمم وانتظمت له في بعض الأوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره، لما روي في الحديث: أن خولة بنت ثعلبة وكان زوجها أوس بن الصامت وكان به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته.
الرابعة عشرة- من غضب وظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط عنه غضبه حكمه. وفي بعض طرق هذا الحديث، قال يوسف بن عبدالله بن سلام: حدثتني خولة امرأة أوس بن الصامت، قالت: كان بيني وبينه شيء، فقال: أنت علي كظهر أمي ثم خرج إلى نادي قومه. فقولها: كان بيني وبينه شيء، دليل على منازعة أحرجته فظاهر منها. والغضب لغولا يرفع حكما ولا يغير شرعا وكذلك السكران.هي:
الخامسة عشرة- يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقل قوله ونظم قوله ونظم كلامه، لقوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} على ما تقدم في {النساء} بيانه. والله أعلم.
السادسة عشرة- ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر، خلافا للشافعي في أحد قوليه، لأن قوله: أنت علي كظهر أمي يقتضي تحريم كل استمتاع بلفظه ومعناه، فإن وطئها قبل أن يكفر، وهي:
السابعة عشرة- استغفر الله تعالى وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة. وقال مجاهد وغيره: عليه كفارتان. روى سعيد عن قتادة، ومطرف عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص في المظاهر: إذا وطئ قبل أن يكفر عليه كفارتان. ومعمر عن قتادة قال: قال قبيصة بن ذؤيب: عليه كفارتان. وروى جماعة من الأئمة منهم ابن ماجة

والنسائي عن ابن عباس: أن رجلا ظاهر من امرأته فغشيها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: "ما حملك على ذلك" فقال: يا رسول الله! رأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فلم أملك نفسي أن وقعت عليها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأمره ألا يقربها حتى يكفر. وروى ابن ماجة والدارقطني عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر أنه ظاهر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا.
الثامنة عشرة: إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة، كقوله: أنتن علي كظهر أمي كان مظاهرا من كل واحدة منهن، ولم يجز له وطء إحداهن وأجزأته كفارة واحدة. وقال الشافعي: تلزمه أربع كفارات. وليس في الآية دليل على شيء من ذلك، لأن لفظ الجمع إنما وقع في عامة المؤمنين والمعول على المعنى. وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهر منهن يجزيه كفارة واحدة، فإن ظاهر من واحدة بعد أخرى لزمه في كل واحدة منهن كفارة. وهذا إجماع.
التاسعة عشرة- فإن قال لأربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفر، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن. وقد قيل: لا يطأ البواقي منهن حتى يكفر. والأول هو المذهب.
الموفية عشرين- وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة، لزمه الطلاق والظهار معا، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفر، فإن قال لها: أنت طالق البتة وأنت علي كظهر أمي لزمه الطلاق ولم يلزمه الظهار، لأن المبتوتة لا يلحقها طلاق.

الحادية والعشرون- قال بعض العلماء: لا يصح ظهار غير المدخول بها. وقال المزني: لا يصح الظهار من المطلقة الرجعية، وهذا ليس بشيء، لأن أحكام الزوجية في الموضعين ثابتة، وكما يلحقها الطلاق كذلك يلحقها الظهار قياسا ونظرا. والله أعلم.
الثانية والعشرون- قوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أي ما نساؤهم بأمهاتهم. وقراءة العامة {أُمَّهَاتِهِمْ} بخفض التاء على لغة أهل الحجاز، كقوله تعالى: {أُمَّهَاتِهِمْ} وقرأ أبو معمر والسلمي وغيرهما {أُمَّهَاتِهِمْ} بالرفع على لغة تميم. قال الفراء: أهل نجد وبنو تميم يقولون {أُمَّهَاتِهِمْ} ، و {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} بالرفع. { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ} أي ما أمهاتهم إلا الوالدات. وفي المثل: ولدك من دمي عقبيك. وقد تقدم القول في اللائي في {الأحزاب}.
الثالثة والعشرون - قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} أي فظيعا من القول لا يعرف في الشرع. والزور الكذب {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر.
الآية: [3] {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
الآية: [4] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

فيه اثنتا عشرة مسألة:
الأولى- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} هذا ابتداء والخبر {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه، أي فعليهم تحرير رقبة. وقيل: أي فكفارتهم عتق رقبة. والمجمع عليه عند العلماء في الظهار قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وهو قول المنكر والزور الذي عنى الله بقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} فمن قال هذا القول حرم عليه وطء امرأته. فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار، لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليها العود، وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على أقوال سبعة : الأول : أنه العزم على الوطء، وهو مشهور قول العراقيين أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك: فإن عزم على وطئها كان عودا، وإن لم يعزم لم يكن عودا. الثاني: العزم على الإمساك بعد التظاهر منها، قال مالك. الثالث: العزم عليهما. وهو قول مالك في موطئه، قال مالك في قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قال: سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على إصابتها وإمساكها، فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة، وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه. قال مالك: وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر. القول الرابع: أنه الوطء نفسه فإن لم يطأ لم يكن عودا، قاله الحسن ومالك أيضا. الخامس: وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، لأنه لما ظاهر قصد التحريم، فإن وصل به الطلاق فقد جرى على خلاف ما ابتدأه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه. وإن أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتجب عليه الكفارة. السادس: أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة. ومعنى العود عند القائلين بهذا: أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها، قاله أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد.
السابع: هو تكرير الظهار بلفظه. وهذا قول أهل الظاهر النافين للقياس، قالوا: إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود، وإن لم يكرر فليس بعود. ويسند ذلك إلى بكير بن

الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة أيضا، وهو قول الفراء وقال أبو العالية: وظاهر الآية يشهد له، لأنه قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي إلى قول ما قالوا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} هو أنو يقول لها أنت علي كظهر أمي فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار. قال ابن العربي: فأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح عن بكير، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه. وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم، وأيضا فإن المعنى ينقضه، لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور، فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة، وهذا لا يعقل، ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطء في صوم أو غيره.
قلت: قول يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمل ممنه عليه، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم، وأما قول الشافعي: بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات: الأول : أنه قال: {ثُمَّ} وهذا بظاهره يقتضي التراخي. الثاني: أن قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ} يقتضي وجود فعل من جهة ومرور الزمان ليس بفعل منه. الثالث: أن الطلاق الرجعي لا ينافي البقاء على الملك فلم يسقط حكم الظهار كالإيلاء. فإن قيل: فإذا رآها كالأم لم يمسكها إذ لا يصح إمساك الأم بالنكاح. وهذه عمدة أهل ما وراء النهر. قلنا: إذا عزم على خلاف ما قال وراها خلاف الأم كفر وعاد إلى أهله. وتحقيق هذا القول: أن العزم قول نفسي، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح، وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار، ثم عاد لما قال وهو التحليل، ولا يصح أن يكون منه ابتداء عقد، لأن العقد باق فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي، وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله، لقول: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وهذا تفسير بالغ في فنه.

الثانية- قال بعض أهل التأويل: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} إلى ما كانوا عليه من الجماع {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} لما قالوا، أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فالجار في قوله: {لِمَا قَالُوا} متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم، قال الأخفش. وقال الزجاج: المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. وقيل: المعنى الذين كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية، ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الإسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة. الفراء: اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء. وقال الأخفش: لما قالوا وإلى ما قالوا واحد، واللام وإلى يتعاقبان، قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} وقال: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} وقال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} وقال: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ}
الثالثة- قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فعليه إعتاق رقبة، يقال: حررته أي جعلته حرا. ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سليمة من كل عيب، من كمالها إسلامها عند مالك والشافعي، كالرقبة في كفارة القتل. وعند أبي حنيفة وأصحابه تجزي الكفارة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها.
الرابعة- فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزيه عندنا ولا عند أبي حنيفة. وقال الشافعي يجزئ، لأن نصف العبدين في معنى العبدالواحد، ولأن الكفارة بالعتق طريقها المال فجاز أن يدخلها التبعيض والتجزيء كالإطعام، ودليلنا قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد، وبعض الرقبة ليس برقبة، وليس ذلك مما يدخله التلفيق، لأن العبادة المتعلقة بالرقبة لا يقوم النصف من رقبتين مقامها، أصله إذا أشترك رجلان في أضحيتين، ولأنه لو أمر رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحج عنه واحد منهما نصفها كذلك هذا، ولأنه لو أوصى بأن تشترى رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين، كذلك في مسألتنا وبهذا يبطل دليلهم. والإطعام وغيره لا يتجزء في الكفارة عندنا.

الخامسة- قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير، فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير وحكي عن مجاهد: أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمته كفارة أخرى. وعن غيره: أن الكفارة الواجبة بالظهار تسقط عنه ولا يلزمه شيء أصلا، لأن الله تعالى أوجب الكفارة وأمر بها قبل المسيس، فإذا أخرها حتى مس فقد فات وقتها. والصحيح ثبوت الكفارة، لأنه بوطئه ارتكب إثما فلم يكن ذلك مسقطا للكفارة، ويأتي بها قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها. وفي حديث أوس بن الصامت لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وطئ امرأته أمره بالكفارة. وهذا نص وسواء كانت كفارة بالعتق أو الصوم أو الإطعام. وقال أبو حنيفة: إن كانت كفارته بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم، فأما غير الوطء مر، القبلة والمباشرة والتلذذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء. وقال الحسن وسفيان، وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وقيل: وكل ذلك محرم وكل معاني المسيس، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. وقد تقدم.
السادسة- قوله تعالى: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي تؤمرون به {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} من التكفير وغيره.
السابعة- من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك: إذا كان له دار وخادم لزمه العتق فإن عجز عن الرقبة،وهي:
الثامنة- فعليه صوم شهرين متتابعين. فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما، وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض، فقيل: يبني، قال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر وبن دينار والشعبي. وهو أحد قولي الشافعي وهو الصحيح من مذهبيه. وقال مالك:

إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا صح. ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يبتدئ. وهو أحد قولي الشافعي.
التاسعة- إذا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة أتم الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي، لأنه بذلك أمر حين دخل فيه. ويهدم الصوم ويعتق عند أبي حنيفة وأصحابه، قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور ترى الدم قبل انقضائها، فإنها تستأنف الحيض إجماعا من العلماء. وإذا ابتدأ سفرا في صيامه فأفطر، ابتدأ الصيام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، لقوله: {مُتَتَابِعَيْنِ}. ويبني في قول الحسن البصري، لأنه عذر وقياسا على رمضان، فإن تخللها زمان لا يحل صومه في الكفارة كالعيدين وشهر رمضان انقطع.
العاشرة- إذا وطئ المتظاهر في خلال الشهرين نهارا، بطل التتابع في قول الشافعي، وليلا فلا يبطل، لأنه ليس محلا للصوم. وقال مالك وأبو حنيفة: يبطل بكل حال ووجب عليه ابتداء الكفارة، لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين، وإلى أبعاضهما، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به، فلزمه استئنافه، كما لو قال: صل قبل أن تكلم زيدا. فكلم زيدا في الصلاة، أو قال: صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها، لأن هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا، والله أعلم.
الحادية عشرة- من تطاول مرضه طولا لا يرجى برؤه كان بمنزلة العاجز من كبر، وجاز له العدول عن الصيام إلى الإطعام. ولو كان مرضه مما يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطء امرأته كان الاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام. ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه.
الثانية عشرة- ومن تظاهر وهو معسر ثم أيسر لم يجزه الصوم. ومن تظاهر وهو موسر ثم أعسر قبل أن يكفر صام. وإنما ينظر إلى حال يوم يكفر. ولو جامعها في عدمه

قلت: وهي رواية ابن وهب ومطرف عن مالك: أنه يعطي مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. ومذهب الشافعي وغيره مد واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك، لأنه يكفر بالإطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المد، أصله كفارة الإفطار واليمين. ودليلنا قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} وإطلاق الإطعام يتناول الشبع، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه. وكذلك قال أشهب: قلت لمالك أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال نعم! الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن. وقال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا. قال ابن العربي: وقع الكلام ها هنا في مد هشام كما ترون، ووددت أن يهشم الزمان ذكره، ويمحو من الكتب رسمه، فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول، بها ووقع عندهم الظهار، وقيل لهم فيه: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم، وقد ورد ذلك الشبع في الأخبار كثيرا، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام، فرأى أن مد النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعه، ولا مثله من حواشيه ونظرائه، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه، فجعله رطلين وحمل الناس عليه، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال، فغير السنة وأذهب محل البركة. قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مده، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام، ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسول بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صلى في كفارة الظهار أحب إلينا من

الرواية بأنها بمد هشام. ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب: الشبع عندنا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، والشبع عندكم أكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة. وبهذا أقول، فإن العبادة إذا أديت بالسنة، فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان، وأبرك في يد الآخذ، وأطيب في شدقه، وأقل آفة في بطنه، وأكثر إقامة لصلبه. والله أعلم.
الثانية: ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه.
الثالثة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: من غريب الأمر أن أبا حنيفة قال إن الحجر على الحر باطل. واحتج بقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولم يفرق بين الرشيد والسفيه، وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره، فإن هذه الآية عامة، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشيا والنظر يقتضيه، ومن كان عليه حجر لصغر أو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام.
الرابعة: وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقا، وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما.
الخامسة- قوله تعالى: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة {لِتُؤْمِنُوا} أي لتصدقوا أن الله أمر به. وقد استدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى، لما ذكرها وأوجبها قال: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدوها، فسمى التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد إيمانا، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان. فإن قيل: معنى قوله: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور.

وقيل له: قد يجوز أن يكون هذا مقصودا والأول مقصودا، فيكون المعنى ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا، إذ كان الله منع من مسيسها، وتكفروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفارة وألزم إخراجها منكم، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله، لأنها حدود تحفظونها، وطاعات تودونها والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إيمان. وبالله التوفيق.
السادسة- قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي بين معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار وطاعته الكفارة. { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم.
الآية: [5] {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}
الآية: [6] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها. والمحادة المعاداة والمخالفة في الحدود، وهو مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقيل: {يُحَادُّونَ اللَّهَ} أي أولياء الله كما في الخبر: "من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة". وقال الزجاج: المحادة أن تكون في حد يخالف حد صاحبك. وأصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحداد للبواب. {كُبِتُوا} قال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا. وقال قتادة: اخزوا كما أخزي الذين من قبلهم. وقال ابن زيد: عذبوا. وقال السدي: لعنوا. وقال الفراء: غيظوا يوم الخندق. وقيل: يوم بدر. والمراد المشركون. وقيل: المنافقون. {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قيل: {كُبِتُوا}

أي سيكبتون، وهو بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريبا للمخبر عنه. وقيل: هي بلغة مدحج . {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
قوله تعالى: {يَوْمَ} نصب بـ {عَذَابٌ مُهِينٌ} أو بفعل مضمر تقديره واذكر تعظيما لليوم. {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} أي الرجال والنساء يبعثهم من قبورهم في حالة واحدة {فَيُنَبِّئُهُمْ} أي يخبرهم {بِمَا عَمِلُوا} في الدنيا {أَحْصَاهُ اللَّهُ} عليهم في صحائف أعمالهم {وَنَسُوهُ} هم حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء.
الآية: [7] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} فلا يخفى عليه سر ولا علانية. {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى} قراءه العامة بالياء، لأجل الحائل بينهما. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعرج وأبو حيوة وعيسى {مَا تكُونُ} بالتاء لتأنيث الفعل. والنجوى: السرار، وهو مصدر والمصدر قد يوصف به، يقال: قوم نجوى أي ذوو نجوى، ونجوى، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}. وقوله تعالى: {ثَلاثَةٍ} خفض بإضافة {نَجْوَى} إليها. قال الفراء: {ثَلاثَةٍ} نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت {نَجْوَى} إليها. ولو نصب على إضمار فعل جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة {ثلاثة} و{خمسة} بالنصب على الحال بإضمار يتناجون، لأن نجوى يدل عليه، قال الزمخشري. ويجوز رفع {ثلاثة} على البدل من موضع {نَجْوَى}. ثم قيل: كل سرار نجوى. وقيل: النجوى ما يكون من

خلوة ثلاثة يسرون شيئا ويتناجون به. والسرار ما كان بين اثنين. {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} يعلم ويسمع نجواهم، يدل عليه آفتتاح الآية بالعلم ثم ختمها بالعلم. وقيل: النجوى من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض، فالمتناجيان يتناجيان ويخلوان بسرهما كخلو المرتفع من الأرض عما يتصل به، والمعنى: أن سمع الله محيط بكل كلام، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها. {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ} قرأ سلام ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بالرفع على موضع {مِنْ نَجْوَى} قبل دخول {مِنْ} لأن تقديره ما يكون نجوى، و"ثلاثة" يجوز أن يكون مرفوعا على محل {لا} مع {أَدْنَى} كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة. ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء، كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله. وقد مضى في {البقرة} بيان هذا مستوفى وقرأ الزهري وعكرمة {أكبر} بالباء. والعامة بالثاء وفتح الراء على اللفظ وموضعها جر. وقال الفراء في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} قال: المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود لأنه تعالى إنما قصد وهو أعلم أنه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم ما يقولون سرا وجهرا ولا تخفى عليه خافية، فمن أجل ذلك آكتفى بذكر بعض العدد دون بعض. وقيل: معنى ذلك أن الله معهم بعلمه حيث كانوا من غير زوال ولا انتقال. ونزل ذلك في قوم من المنافقين كانوا فعلوا شيئا سرا فأعلم الله أنه لا يخفي عليه ذلك، قال ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد: نزلت في اليهود. {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ} يخبرهم {مَا عَمِلُوا} من حسن وسيء {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
الآية: [8] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}

فيه ثلاث مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} قيل: إن هذا في اليهود والمنافقين حسب ما قدمناه. وقيل: في المسلمين. قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فيقول المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة، ويسوءهم ذلك فكثرت شكواهم إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت. وقال مقاتل: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فإذا مر بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا، فيعرج عن طريقه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا فنزلت. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأل الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك فنزلت.
الثانية- روى أبو سعيد الخدري قال: كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى" فقلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله، إنا كنا في ذكر المسيخ - يعني الدجال - فرقا منه. فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه" قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الشرك الحفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل" ذكره الماوردي. وقرأ حمزة وخلف ورويس عن يعقوب {وَيَنتجُوْنَ} في وزن يفتعلون وهي قراءة عبدالله وأصحابه. وقرأ الباقون {وَيَتَنَاجَوْنَ} في وزن يتفاعلون، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله تعالى: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} و {تَنَاجَوْا}. النحاس: وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو تخاصموا واختصموا، وتقاتلوا واقتتلوا فعلى هذا {يَتَنَاجَوْنَ} و {وَيَنتجُوْنَ} واحد. ومعنى {بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي الكذب والظلم. {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} أي مخالفته. وقرأ الضحاك ومجاهد وحميد {وَمَعْصِيَاتِ الرَّسُولِ} بالجمع.

الثالثة- قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: السلام عليك. يريدون بذلك السلام ظاهرا وهم يعنون الموت باطنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم" في رواية، وفي رواية أخرى "وعليكم". قال ابن العربي: وهي مشكلة. وكانوا يقولون: لو كان محمد نبيا لما أمهلنا الله بسبه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليم لا يعاجل من سبه، فكيف من سب نبيه. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أحد أصبر على الأذى من الله يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم" فأنزل الله تعالى هذا كشفا لسرائرهم، وفضحا لبواطنهم، معجزة لرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عن قتادة عن أنس أن يهوديا أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه فقال: السام عليكم. فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أتدرون ما قال هذا" قالوا: الله ورسول أعلم. قال: "قال كذا ردوه علي" فردوه، قال: "قلت السام عليكم" قال: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت" فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}.
قلت: خرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. وثبت عن عائشة أنها قالت: جاء أناس من اليهود إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم وفعل. فقال عليه السلام: "مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش" فقلت: يا رسول الله ألست ترى ما يقولون؟ فقال: "ألست ترين أرد عليهم ما يقولون أقول وعليكم" فنزلت هذه الآية {بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} أي إن الله سلم عليك وهم يقولون السام عليك، والسام الموت. خرجه البخاري ومسلم بمعناه. وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" كذا الرواية "وعليكم" بالواو تكلم عليها العلماء، لأن الواو العاطفة يقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت، أو من

سآمه ديننا وهو الملال. يقال: سئم يسأم سأمه وسأما. فقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي لما أجزنا أنتحى فزاد الواو. وقال بعضهم: هي للاستئناف، كأنه قال: والسام عليكم. وقال بعضهم: هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك، لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. روى الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: سلم ناس من يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال: "وعليكم" فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: "بلى قد سمعت فرددت عليهم وإنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا" خرجه مسلم. ورواية الواو أحسن معنى، وإثباتها أصح رواية وأشهر.
وقد اختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين، وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة، للأمر بذلك. وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإن رددت فقل عليك. وقد اختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام أي ارتفع عنك. واختار بعض أصحابنا: السِّلام بكسر السين يعني الحجارة. وما قال مالك أولى اتباعا للسنة، والله أعلم. وروى مسروق عن عائشة قالت: أتى النبي صلى ا لله عليه وسلم ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، قال: "وعليكم" قالت عائشة: قلت بل عليكم السام والذام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة لا تكوني فاحشة" فقالت: ما سمعت ما قالوا! فقال: "أو ليس قد رددت عليهم الذي قالوا قلت وعليكم". وفي رواية قال: ففطنت بهم عائشة فسبتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش" وزاد فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} إلى آخر الآية. الذام بتخفيف الميم هو العيب، وفي المثل "لا تعدم الحسنات ذاما" أي عيبا، ويهمز ولا يهمز،

يقال: ذأمه يذأمه، مثل ذأب يذأب، والمفعول مذؤوم مهموزا، ومنه {مَذْمُوماً مَدْحُوراً} ويقال: ذامه يذومه مخففا كرامه يرومه.
قوله تعالى: { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} قالوا: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما نقول فهلا يعذبنا الله. وقيل: قالوا إنه يرد علينا ويقول وعليكم السام والسام الموت، فلو كان نبيا لاستجيب له فينا ومتنا. وهذا موضع تعجب منهم، فإنهم كانوا أهل كتاب، وكانوا يعلمون أن الأنبياء قد يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب. {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أي كافيهم جهنم عقابا غدا {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي المرجع.
الآية: [9] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} أي تساررتم. {فَلا تَتَنَاجَوْا} هذه قراءة العامة. وقرأ يحيى بن وثاب وعاصم ورويس عن يعقوب {فَلا تَتَنَاجَوْا} من الانتجاء {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ} أي بالطاعة {وَالتَّقْوَى} بالعفاف عما نهى الله عنه. وقيل: الخطاب للمنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا بزعمهم. وقيل: أي يا أيها الذين آمنوا بموسى. {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي تجمعون في الآخرة.
الآية: [10] {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}

فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} أي من تزيين الشياطين {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} إذ توهموا أن المسلمين أصيبوا في السرايا، أو إذا أجروا اجتماعهم على مكايدة المسلمين، وربما كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى الله عليه وسلم {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً} أي التناجي {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بمشيئته وقيل: بعلمه. وعن ابن عباس: بأمره. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي يكلون أمرهم إليه، ويفوضون جميع شؤونهم إلى عونه، ويستعيذون به من الشيطان ومن كل شر، فهو الذي سلط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا ولو شاء لصرفه عنه.
الثانية- في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد". وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه" فبين في هذا الحديث غاية المنع وهي أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر، ذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعا، فقال له وللأول: تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة. خرجه الموطأ. وفيه أيضا التنبيه على التعليل بقوله: "من أجل أن يحزنه" أي يقع في نفسه ما يحزن لأجله. وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره، أو أنه لم يروه أهلا ليشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان وأحاديث النفس. وحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أمن ذلك، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون بالمنع أولى. وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب ابن عمر ومالك والجمهور. وسواء أكان التناجي في مندوب أو مباح أو واجب فإن الحزن يقع به. وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك كان

في أول الإسلام، لأن ذلك كان في حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإسلام سقط ذلك. وقال بعضهم: ذلك خاص بالسفر في المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه، فأما في الحضر وبين العمارة فلا، فإنه يجد من يعينه، بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم المغيث. والله أعلم.
الآية: [11] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ } لما بين أن اليهود يحيونه بما لم يحيه به الله وذمهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يضيقوا عليه المجلس، وأمر المسلمين بالتعاطف والتآلف حتى يفسح بعضهم لبعض، حتى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه. قال قتادة ومجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض. وقال الضحاك. وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب. قال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض، رغبة في القتال والشهادة فنزلت. فيكون كقوله: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفة، وكان في المكان ضيق يوم الجمعة، وكان النبي

صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حول من غير أهل بدر: "قم يا فلان وأنت يا فلان" بعدد القائمين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا: ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. {تَفَسَّحُوا} أي توسعوا. وفسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا أي وسع له، ومنه قولهم: بلد فسيح ولك في كذا فسحة، وفسح يفسح مثل منع يمنع، أي وسع في المجلس، وفسح يفسح فساحة مثل كرم يكرم كرامة أي صار واسعا، ومنه مكان فسيح.
الثانية- قرأ السلمي وزر بن حبيش وعاصم {فِي الْمَجَالِسِ}. وقرأ قتادة وداود بن أبي هند والحسن باختلاف عنه {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا} الباقون {تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ} فمن جمع فلأن قوله: {تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} ينبئ أن لكل واحد مجلسا. وكذلك إن أريد به الحرب. وكذلك يجوز أن يراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وجمع لأن لكل جالس مجلسا. وكذلك يجوز إن أريد بالمجلس المفرد مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يراد به الجمع على مذهب الجنس، كقولهم: كثر الدينار والدرهم.
قلت: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به" ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ فيخرجه الضيق عن موضعه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر عن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه". وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا. وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه. لفظ البخاري.
الثالثة- إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما روى مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا".
فرع: القاعد في المكان إذا قام حتى يقعد غيره موضعه نظر، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك، لأن فيه تفويت حظه.
الرابعة- إذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة فيجلس له فيه، فإذا جاء قام له منه.
فرع: وعلى هذا من أرسل بساطا أو سجادة فتبسط له في موضع من المسجد.
الخامسة- روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم - وفي حديث أبي عوانة من قام من مجلسه - ثم رجع إليه فهو أحق به" قال علماؤنا: هذا يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه، لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه فقبله أولى به وأحرى. وقد قيل: إن ذلك على الندب، لأنه موضع غير متملك لأحد لا قبل الجلوس ولا بعد. وهذا فيه نظر، وهو أن يقال: سلمنا أنه غير متملك لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه، فصار كأنه يملك منفعته، إذ قد منع غيره من يزاحمه عليه. والله أعلم.

السادسة- قوله تعالى: {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} أي في قبوركم. وقيل: في قلوبكم. وقيل: يوسع عليكم في الدنيا والآخرة. {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما. وكسر الباقون، وهما لغتان مثل {يَعْكُفُونَ} و {يَعْرِشُونَ} والمعنى انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، قال أكثر المفسرين. وقال مجاهد والضحاك: إذا نودي للصلاة فقوموا إليها. وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة فنزلت. وقال الحسن ومجاهد أيضا: أي انهضوا إلى الحرب. وقال ابن زيد: هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} عن النبي صلى الله عليه وسلم {فَانْشُزُوا} فإن له حوائج فلا تمكثوا. وقال قتادة: المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف. وهذا هو الصحيح، لأنه يعم. والنشز الارتفاع، مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها، يقال نشز ينشز وينشز إذا انتحى من موضعه، أي ارتفع منه. وامرأة ناشز منتحية عن زوجها. وأصل هذا من النشز، والنشز هو ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكره النحاس.
السابعة- قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم. وقال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية. والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم {دَرَجَاتٍ} أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به. وقيل: كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف فيستبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم. ورأى عليه الصلاة والسلام رجلا من الأغنياء يقبض ثوبه نفورا من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه فقال: "يا فلان خشيت أن يتعدى غناك إليه أو فقره إليك" وبين في هذه الآية أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان لا بالسبق إلى صدور المجالس. وقيل: أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرؤوا القرآن. وقال يحيى بن يحيى عن مالك: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} الصحابة {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} يرفع الله بها العالم والطالب للحق.

قلت: والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية، فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا. وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبدالله بن عباس على الصحابة، فكلموا في ذلك فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فسكتوا، فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم. وفي البخاري عن عبدالله بن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا. الحديث وقد مضى في آخر {الأعراف}. وفي صحيح مسلم أن نافع بن الحرث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملته على أهل الوتادي؟ فقال: ابن أبزى. فقال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنه قارئ لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" وقد مضى أول الكتاب. ومضى القول في فضل العلم والعلماء في غير موضع من هذا الكتاب والحمد لله. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة ". وعنه صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب". وعنه عليه الصلاة والسلام: "يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء" فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه.

الآية: [12] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} {نَاجَيْتُمُ} ساررتم. قال ابن عباس: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله عز وجل أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك كف كثير من الناس. ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها. وقال الحسن: نزلت بسب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلافه. وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحدا مناجاته. فكان ذلك يشق على المسلمين، لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} الآمة، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية، فأنتهى أهل الباطل عن النجوى، لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الإيمان وامتنعوا من النجوى، لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة فخفف الله عنهم بما بعد الآية.
الثانية- قال ابن العربي: وفي هذا الخبر عن زيد ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله تعالى قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} ثم نسخه مع كونه خيرا وأطهر.

وهذا رد على المعتزلة عظيم في التزام المصالح، لكن راوي الحديث عن زيد ابنه عبدالرحمن وقد ضعفه العلماء. والأمر في قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} نص متواتر في الرد على المعتزلة. والله أعلم.
الثالثة- روى الترمذي عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} سألته قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ترى دينارا" قلت لا يطيقونه. قال: "فنصف دينار " قلت: لا يطيقونه. قال: "فكم" قلت: شعيرة. قال: "إنك لزهيد" قال فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، ومعنى قوله: شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب. قال ابن العربي: وهذا يدل على مسألتين حسنتين أصوليتين: الأولى: نسخ العبادة قبل فعلها. والثانية : النظر في المقدرات بالقياس، خلافا لأبي حنيفة.
قلت: الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة. وقد روي عن مجاهد: أن أول من تصدق في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وناجى النبي صلى الله عليه وسلم. روي أنه تصدق بخاتم. وذكر القشيري وغيره عن علي بن ابن طالب أنه قال: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} كان لى دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} وكذلك قال ابن عباس: نسخها الله بالآية التي بعدها. وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.
قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي من إمساكها {وَأَطْهَرُ} لقلوبكم من المعاصي {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} يعني الفقراء {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

الآية: [13] {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ} استفهام معناه التقرير. قال ابن عباس: {أَأَشْفَقْتُمْ} أي أبخلتم بالصدقة، وقل: خفتم، والإشفاق الخوف من المكروه. أي خفتم وبخلتم بالصدقة وشق عليكم {أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة. وقال ابن عباس: ما بقي إلا ساعة من النهار حتى نسخ. وكذا قال قتادة. والله أعلم.
الثانية: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي نسخ الله ذلك الحكم. وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فنسخت فرضية الزكاة هذه الصدقة. وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن علي رضي الله عنه ضعيف، لأن الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} وهذا يدل على أن أحدا لم يتصدق بشيء. والله أعلم. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في فرائضه {وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} في سننه {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
الآية: [14] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
الآية: [15] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
الآية: [16] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} يقول: ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم. قال السدي ومقاتل: نزلت في عبدالله بن أبي وعبدالله بن نبتل المنافقين، كان أحدهما يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذ قال: "يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان" فدخل عبدالله بن نبتل - وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية - فقال عليه الصلاة والسلام: "علام تشتمني أنت وأصحابك" فحلف بالله ما فعل ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "فعلت" فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت هذه الآية. وقال معناه ابن عباس. روى عكرمة عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة قد كاد الظل يتقلص عنه إذ قال: "يجيئكم الساعة رجل أزرق ينظر إليكم نظر الشيطان" فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك" قال: دعني أجيئك بهم. فمر فجاء بهم فحلفوا جميعا أنه ما كان من ذلك شيء، فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} إلى قوله: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} واليهود مذكرون في القرآن بـ {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} أي لهؤلاء المنافقين {عَذَاباً شَدِيداً} في جهنم وهو الدرك الأسفل. {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس الأعمال أعمالهم {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يستجنون بها من القتل. وقرأ الحسن وأبو العالية {أَيْمَانَهُمْ} بكسر الهمزة هنا وفي {الْمُنَافِقُونَ}. أي إقرارهم اتخذوه جنة، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، وكفرت قلوبهم {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار. والصد المنع {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن الإسلام. وقيل: في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق. وقيل: أي بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم.

الآية: [17] {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
الآية: [18] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
الآية: [19] {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي من عذابه شيئا. وقال مقاتل: قال المنافقون إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة، لقد شقينا إذا فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} أي لهم عذاب مهين يوم يبعثهم {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} اليوم. وهذا أمر عجيب وهو مغالطتهم باليمين غدا، وقد صارت المعرف ضرورية. وقال ابن عباس: هو قولهم {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} بإنكارهم وحلفهم. قال ابن زيد: ظنوا أنهم ينفعهم في الآخرة. وقيل: {وَيَحْسَبُونَ} في الدنيا {أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار. والأول أظهر. وعن بن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله فتقوم القدرية مسودة وجهوهم مزرقة أعينهم مائل شدقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا، ولا اتخذنا من دونك إلها" . قال ابن عباس: صدقوا والله! أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} هم والله القدرية. ثلاثا.
قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} أي غلب واستعلى، أي بوسوسته في الدنيا. وقيل: قوي عليهم. وقال المفضل: أحاط بهم. ويحتمل رابعا أي جمعهم وضمهم. يقال: أحوذ الشيء أي جمعه وضم بعضه إلى بعض، وإذا جمعهم فقد غلبهم وقوي عليهم وأحاط بهم.

{فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أي أوامره في العمل بطاعته. وقيل: زواجره في النهي عن معصيته. والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هنا. {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} طائفته ورهطه {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} في بيعهم، لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.
الآية: [20] {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ}
الآية: [21] {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} تقدم. {أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} أي من جملة الأذلاء لا أذل منهم {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ} أي قضى الله ذلك. وقيل: كتب في اللوح المحفوظ، عن قتادة. الفراء: كتب بمعنى قال . {أنا} توكيد {وَرُسُلِي} من بعث منهم بالحرب فإنه غالب بالحرب، ومن بعث منمهم بالحجة فإنه غالب بالحجة. قال مقاتل قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله على. فارس والروم، فقال عبدالله بن أبي ابن سلول: أتظنون الروم وفارس مثل القرى التي غلبتم عليها؟! والله إنهم لأكثر عددا، وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت: {لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. نظيره: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.
الآية: [22] {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ} أي يحبون ويوالون {مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} تقدم {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} قال السدي: نزلت في عبدالله بن عبدالله بن أبي، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماء، فقال له: بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبي، لعل الله يطهر بها قلبه؟ فأفضل له فأتاه بها، فقال له عبدالله: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهر قلبك بها. فقال له أبوه: فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها. فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أما أذنت لي في قتل أبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل ترفق به وتحسن إليه". وقال ابن جريج: حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر ابنه صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: "أو فعلته، لا تعد إليه" فقال: والذى بعثك بالحق نبيا لو كان السيف مني قريبا لقتلته. وقال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبدالله بن الجراح يوم أحد وقيل: يوم بدر. وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة وأبوعبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله حين قتل أباه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } الآية. قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام. ولقد سألت رجالا من بني الحرث بن فهر فقالوا: توفي أبوه من قبل الإسلام. {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} يعني أبا بكر دعا ابنه عبدالله إلى البراز يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر". {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير

يوم بدر. {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعلا وحمزة قتلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر. وقيل: إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، على ما يأتي بيانه أول سورة {الممتحنة} إن شاء الله تعالى. بين أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب.
الثانية- استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم. قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله، لقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان. وعن عبدالعزيز بن أبي داود أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت" {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ - إلى قوله - أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ} أي خلق في قلوبهم التصديق، يعني من لم يوال من حاد الله. وقيل: كتب أثبت، قاله الربيع بن أنس. وقيل: جعل، كقوله تعالى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي اجعلنا. وقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وقيل: {كَتَبَ} أي جمع، ومنه الكتيبة، أي لم يكونوا ممن يقول نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وقراءة العامة بفتح الكاف من {كَتَبَ} ونصب النون من {الأِيمَانَ} بمعنى كتب الله وهو الأجود، لقوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وقرأ أبو العالية وزر بن حبيش والمفضل عن عاصم {كَتَبَ} على ما لم يسم فاعله {الأِيمَانَ} برفع النون. وقرأ زر بن حبيش {أَو عَشِيرَتَهُمْ} بألف وكسر التاء على الجمع، ورواها الأعمش عن أبي بكر عن عاصم. وقيل: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ} أي على قلوبهم، كما في قلوبهم {في فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان . {وَأَيَّدَهُمْ} قواهم ونصرهم بروح منه، قال الحسن: وبنصر منه. وقال

الربيع بن أنس: بالقرآن وحججه. وقال ابن جريج: بنور وإيمان وبرهان وهدى. وقيل: برحمة من الله. وقال بعضهم: أيدهم بجبريل عليه السلام. {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} أي قبل أعمالهم {وَرَضُوا عَنْهُ} فرحوا بما أعطاهم {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} قال سعيد بن أبي سعيد الجرجاني عن بعض مشايخه، قال داود عليه السلام: إلهي! من حزبك وحول عرشك؟ فأوحى الله إليه: "يا داود الغاضة أبصارهم، النقية قلوبهم، السليمة أكفهم، أولئك حزبي وحول عرشي".
ختمت والحمد لله سورة المجادلة

المجلد الثامن عشر
سورة الحشرالجزء 18 من الطبعة
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحشر
مقدمة السورة
روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ سورة الحشر لم يبق شيء من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوام والريح والسحاب والطير والدواب والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه واستغفروا له. فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا". خرجه الثعلبي. وخرج الثعالبي عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ آخر سورة الحشر {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} - إلى آخرها - فمات من ليلته مات شهيدا". وروى الترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في يومه مات شهيدا ومن قرأها حين يمسي فكذلك". قال: حديث حسن غريب.
الآية: [1] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
تقدم.
الآية: [2] {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ} قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل سورة النضير؛ وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان من أموهم ما نص الله عليه.
الثانية- قوله تعالى: {لأَوَّلِ الْحَشْرِ} الحشر الجمع؛ وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة؛ أما الذي في الدنيا فقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء؛ فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام. قال ابن عباس وعكرمة: من شك أن الحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "اخرجوا" قالوا إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر". قال قتادة: هذا أول المحشر. قال ابن عباس: هم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من دياره. وقيل: إنهم أخرجوا إلى خيبر، وأن معنى {لأَوَّلِ الْحَشْرِ} إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخره إخراج عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى نجد وأذرعات. وقيل تيماء وأريحاء، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم. وأما الحشر الثاني:

فحشرهم قرب القيامة. قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلف. وهذا ثابت في الصحيح، وقد ذكرناه في "كتاب التذكرة". ونحوه روى ابن وهب عن مالك قال: قلت لمالك هو جلاؤهم من ديارهم؟ فقال لي: الحشر يوم القيامة حشر اليهود. قال: وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى خيبر حين سئلوا عن المال فكتموه؛ فاستحلهم بذلك. قال ابن العربي: للحشر أول ووسط وآخر؛ فالأول إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء خيبر، والآخر حشر يوم القيامة. وعن الحسن: هم بنو قريظة. وخالفه بقية المفسرين وقالوا: بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا. حكاه الثعلبي.
الثالثة- قال الكيا الطبري: ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجور الآن، وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ. والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم.
قوله تعالى: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} يريد لعظم أمر اليهود ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين، واجتماع كلمتهم. {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} قيل: هي الوطيح والنطاة والسلالم والكتيبة. {مِنَ اللَّهِ} أي من أمره. وكانوا أهل حلقة - أي سلاح كثير - وحصون منيعة؛ فلم يمنعهم شيء منها. {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ} أي أمره وعذابه. {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي لم يظنوا. وقيل: من حيث لم يعلموا. وقيل: {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} بقتل كعب بن الأشرف؛ قال ابن جريج والسدي وأبو صالح.
قوله تعالى: {قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} بقتل سيدهم كعب بن الأشرف؛ وكان الذي قتله هو محمد بن مسلمة وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وعباد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وخبره مشهور في السيرة. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر" فكيف لا ينصر به مسيرة ميل من المدينة إلى محلة بني النضير. وهذه خصيصى لمحمد صلى الله عليه وسلم دون غيره.

قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} قراءة العامة بالتخفيف من أخرب؛ أي يهدمون. وقرأ السلمي والحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية وقتادة وأبو عمرو {يُخْرِبُونَ} بالتشديد من التخريب. قال أبو عمرو: إنما اخترت التشديد لأن الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن، وبنو النضر لم يتركوها خرابا وإنما خربوها بالهدم؛ يؤيده قوله تعالى: {بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} وقال آخرون: التحريب والإخراب بمعنى واحد، والتشديد بمعنى التكثير. وحكى سيبويه: أن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان؛ نحو أخربته وخربته وأفرحته وفرحته. واختار أبو عبيد وأبو حاتم الأولى. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. فروي أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له؛ فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعت في التوراة، فلا ترد له راية. فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة ثم صبحهم بالكتاب؛ فقال لهم. اخرجوا من المدينة. فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك؛ فتنادوا بالحرب. وقيل: استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فدس إليهم عبدالله بن أبي المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم. فدربوا على الأزقة وحصنوها إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح؛ فأبى عليهم إلا الجلاء؛ على ما يأتي بيانه.وقال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل؛ كانوا يستحسنون الخشبة والعمود فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها. وعن ابن زيد أيضا: كانوا يخربونها لئلا يسكنها المسلمون بعدهم. وقال ابن عباس: كانوا كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع موضع القتال، وهم ينقبون دورهم من أدبارها إلى التي بعدها ليتحصنوا فيها، ويرموا

بالتي أخرجوا منها المسلمين. وقيل: ليسدوا بها أزقتهم. وقال عكرمة {بِأَيْدِيهِمْ} في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذه المسلمون. وبـ {أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} في إخراب ظاهرها ليصلوا بذلك إليهم. قال عكرمة: كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها" فخربوها من داخل وخربها المسلمون من خارج. وقيل: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} بنقض المواعدة {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} بالمقاتلة؛ قال الزهري أيضا. وقال أبو عمرو بن العلاء {بِأَيْدِيهِمْ} في تركهم لها. وبـ{ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} في إجلائهم عنها. قال ابن العربي: التناول للإفساد إذا كان باليد كان حقيقة، وإذا كان بنقض العهد كان مجازا؛ إلا أن قول الزهري في المجاز أمثل من قول أبي عمرو بن العلاء.
قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} أي اتعظوا يا أصحاب العقول والألباب. وقيل: يا من عاين ذلك ببصره؛ فهو جمع للبصر. ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحصون من الله فأنزلهم الله منها. ومن وجوهه: أنه سلط عليهم من كان ينصرهم. ومن وجوهه أيضا: أنهم هدموا أموالهم بأيديهم. ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه. وفي الأمثال الصحيحة: "السعيد من وعظ بغيره".
الآية: [3] {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}
الآية: [4] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ} أي لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن دارهم وأنهم يبقون مدة فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن. {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} أي بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة. والجلاء مفارقة الوطن يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء. والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما في الإبعاد واحدا من وجهين: أحدهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء

الأهل والولد. الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة؛ قاله الماوردي. قوله تعالى: {ذَلِكَ} أي ذلك الجلاء {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي عادوه وخالفوا أمره. {يُشَاقِّ اللَّهَ} قرأ طلحة بن مصرف ومحمد بن السميقع {يُشَاقِّ اللَّهَ} بإظهار التضعيف كالتي في "الأنفال"، وأدغم الباقون.
الآية: 5 {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} {مَا} في محل نصب بـ {قَطَعْتُمْ} ؛ كأنه قال: أي شيء قطعتم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير - وهي البويرة - حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها. واختلفوا في عدد ذلك؛ فقال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة. وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره؛ إما لإضعافهم بها وإما لسعة المكان بقطعها. فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل الكتاب: يا محمد، ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. ووجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا؛ فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: أقطعوا لنغيظهم بذلك. فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله. وقال شاعرهم سماك اليهودي في ذلك:

ألسنا ورثنا الكتاب الحكيم ... على عهد موسى ولم نصدف
وأنتم رعاء لشاء عجاف ... بسهل تهامة والأخيف
ترون الرعاية مجدا لكم ... لدى كل دهر لكم مجحف
فيا أيها الشاهدون انتهوا ... عن الظلم والمنطق المؤنف
لعل الليالي وصرف الزهور ... يدلن من العادل المنصف
بقتل النضير وإجلائها ... وعقر النخيل ولم تقطف
فأجابه حسان بن ثابت:
تفاقد معشر نصروا قريشا ... وليس لهم ببلدتهم نصير
همو أوتوا الكتاب فضيعوه ... وهم عمي عن التوراة بور
كفرتم بالقران وقد أبيتم ... بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لوي ... حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب:
أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في نواحيها الشعير
ستعلم أينا منها بنزه ... وتعلم أي أرضينا تصير
فلو كان النخيل بها ركابا ... لقالوا لا مقام لكم فسيروا
الثانية- كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة، وتحصنوا منه في الحصون، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودس عبدالله بن أبي ابن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير: إنا معكم، وإن قوتلنا قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم؛ فاغتروا بذلك. فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم وألقوا بأيديهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكف عن

دمائهم ويجليهم؛ على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم؛ كحيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع. فدانت لهم خيبر
الثالثة- ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق. ولها يقول حسان:
وهان على سراة بني لوي ... حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت :{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الآية.
واختلف الناس في تخريب دار العدو وتحريقها وقطع ثمارها على قولين: الأول: أن ذلك جائز؛ قال في المدونة. الثاني: إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا، وإن يئسوا فعلوا؛ قاله مالك في الواضحة. وعليه يناظر أصحاب الشافعي. ابن العربي: والصحيح الأول. وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخل بني النضير له؛ ولكنه قطع وحرق ليكون ذلك نكاية لهم ووهنا فيهم حتى يخرجوا عنها. وإتلاف بعض المال لصلاح باقيه مصلحة جائزة شرعا، مقصودة عقلا.
الرابعة- قال الماوردي: إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب. وقاله الكيا الطبري قال: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي ذلك وسكت؛ فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي: وهذأ باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه؛ أخذا بعموم الأذية للكفار، ودخولا في الإذن للكل لما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار؛ وذلك قوله تعالى: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}.
الخامسة- اختلف في اللينة ما هي؛ على أقوال عشرة: الأول: النخل كله إلا العجوة؛ قاله الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل. وعن ابن عباس ومجاهد

والحسن: أنها النخل كله، ولم يستثنوا عجوة ولا غيرها. وعن ابن عباس أيضا: أنها لون من النخل. وعن الثوري: أنها كرام النخل. وعن أبي عبيدة: أنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني. وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة. وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه السلام في السفينة. والعتيق: الفحل. وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها؛ حكاه الماوردي. وقيل: هي ضرب من النخل يقال لتمره: اللون، تمره أجود التمر، وهو شديد الصفرة، يرى نواه من خارجه ويغيب فيه الضرس؛ النخلة منها أحب إليهم من وصيف. وقيل: هي النخلة القريبة من الأرض. وأنشد الأخفش :
قد شجاني الحمام حين تغنى ... بفراق الأحباب من فوق لينه
وقيل: إن اللينة الفسيلة؛ لأنها ألين من النخلة. ومنه قول الشاعر:
غرسوا لينها بمجرى معين ... ثم حفوا النخيل بالآجام
وقيل: إن اللينة الأشجار كلها للينها بالحياة؛ قال ذو الرمة:
طراق الخوافي واقع فوق لينه ... ندى ليله في ريشه يترقرق
والقول العاشر: أنها الدقل؛ قال الأصمعي. قال: وأهل المدينة يقولون لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان؛ يعنون الدقل. قال ابن العربي: والصحيح ما قال الزهري ومالك لوجهين: أحدهما: أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما. الثاني: أن الاشتقاق يعضده، وأهل اللغة يصححونه؛ فإن اللينة وزنها لونة، واعتلت على أصولهم قالت إلى لينة فهي لون، فإذا دخلت الهاء كسر أولها؛ كبرك الصدر "بفتح الباء" وبركه "بكسرها" لأجل الهاء. وقيل لينة أصلها لونة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وجمع اللينة لين. وقيل: ليان؛ قال امرؤ القيس يصف عنق فرسه:
وسالفة كسحوق الليان ... أضرم فيها الغوي السعر

وقال الأخفش: إنما سميت لينة اشتقاقا من اللون لا من اللين. المهدوي: واختلف في اشتقاقها؛ فقيل: هي من اللون وأصلها لونة. وقيل: أصلها لينة من لان يلين. وقرأ عبدالله "ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماء على أصولها" أي قائمة على سوقها. وقرأ الأعمش"ما قطعتم من لينة أو تركتموها قوما على أصولها" المعنى لم تقطعوها. وقرئ "قوماء على أصلها". وفيه وجهان: أحدهما: أنه جمع أصل؛ كرهن ورهن. والثاني : اكتفي فيه بالضمة عن الواو. وقرئ "قائما على أصوله" ذهابا إلى لفظ "ما". {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي بأمره {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} أي ليذل اليهود الكفار به وبنبيه وكتبه.
الآية: [6] {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
الآية: [7] {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} يعني ما رده الله تعالى {عَلَى رَسُولِهِ} من أموال بني النضير. {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} أوضعتم عليه. والإيجاف: الإيضاع في السير وهو الإسراع؛ يقال: وجف الفرس إذا أسرع، وأوجفته أنا أي حركته وأتعبته؛ ومنه قول تميم بن مقبل:
مذاويد بالبيض الحديث صقالها ... عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا
والركاب الإبل، واحدها راحلة. يقول: لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حربا

ولا مشقة؛ وإنما كانت من المدينة على ميلين؛ قاله الفراء. فمشوا إليها مشيا ولم يركبوا خيلا ولا إبلا؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملا وقيل حمارا مخطوما بليف، فافتتحها صلحا وأجلاهم وأخذ أموالهم. فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم لهم فنزلت: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} الآية. فجعل أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء؛ فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين. قال الواقدي: ورواه ابن وهب عن مالك؛ ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين؛ منهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وقيل: إنما أعطى رجلين، سهلا وأبا دجانة. ويقال: أعطى سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: سفيان بن عمير، وسعد بن وهب؛ أسلما على أموالهما فأحرزاها.
وفي صحيح مسلم عن عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله تعالى. وقال العباس لعمر - رضي الله عنهما -: اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن - يعني عليا رضي الله عنه - فيما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير. فقال عمر: أتعلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركناه صدقة" قالا نعم. قال عمر: إن الله عز وجل كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة ولم يخصص بها أحدا غيره. قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} "ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا" فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثرها عليكم ولا أخذها دونكم حتى بقي هذا المال؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال الحديث بطوله، خرجه مسلم. وقيل: لما ترك بنو النضير ديارهم وأموالهم طلب المسلمون أن يكون لهم فيها حظ كالغنائم؛ فبين الله تعالى أنها فيء وكان جرى ثم بعض القتال؛ لأنهم حوصروا أياما وقاتلوا وقتلوا،

ثم صالحوا على الجلاء. ولم يكن قتال على التحقيق؛ بل جرى مبادئ القتال وجرى الحصار، وخص الله تلك الأموال برسوله صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: اعلمهم الله تعالى وذكرهم أنه إنما نصر رسول صلى الله عليه وسلم ونصرهم بغير كراع ولا عدة. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} أي من أعدائه. وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أصحابه.
الثانية- قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} قال ابن عباس: هي قريظة والنضير، وهما بالمدينة وفدك، وهي على ثلاثة أيام من المدينة وخيبر. وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله. وبين أن في ذلك المال الذي خصه بالرسول عليه السلام سهمانا لغير الرسول نظرا منه لعباده. وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها، هل معناهما واحد أو مختلف، والآية التي في الأنفال؛ فقال قوم من العلماء: إن قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} منسوخ بما في سورة الأنفال من كون الخمس لمن سمي له، والأخماس الأربعة لمن قاتل. وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف ولا يكون لمن قاتل عليها شيء. وهذا قول يزيد بن رومان وقتادة وغيرهما. ونحوه عن مالك. وقال قوم: إنما غنم بصلح من غير إيجاف خيل ولا ركاب؛ فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئا والأولى للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين. وقال معمر: الأولى: للنبي صلى الله عليه وسلم. والثانية: هي الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه. والثالثة: الغنيمة في سورة الأنفال للغانمين. وقال قوم منهم الشافعي: إن معنى الآيتين واحد؛ أي ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهم؛ أربعة منها للنبي صلى الله عليه وسلم. وكان الخمس الباقي على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا وسهم لذوي القربى - وهم بنو هاشم وبنو المطلب - لأنهم منعوا الصدقة فجعل لهم حق في الفيء. وسهم لليتامى. وسهم للمساكين. وسهم لابن السبيل. وأما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي كان من ألفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف عند الشافعي في قول إلى المجاهدين المترصدين للقتال في الثغور؛ لأنهم القائمون

مقام الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي قول آخر له: يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر؛ يقدم الأهم فالأهم، وهذا في أربعة أخماس الفيء. فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهو لمصالح المسلمين بعد موته صلى الله عليه وسلم بلا خلاف؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "ليس لي من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم". وقد مضى القول فيه في سورة "الأنفال".
وكذلك ما خلفه من المال غير موروث، بل هو صدقة يصرف عنه إلى مصالح المسلمين؛ كما قال عليه السلام: "إنا لا نورث ما تركناه صدقة". وقيل: كان مال الفيء لنبيه صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} فأضافه إليه؛ غير أنه كان لا يتأثل مالا، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات؛ أما الآية الأولى فهي قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} ثم قال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} يعني من أهل الكتاب معطوفا عليهم.
{فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} يريد كما بينا؛ فلا حق لكم فيه، ولذلك قال عمر: إنها كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني بني النضير وما كان مثلها. فهذه آية واحدة ومعنى متحد.الآية الثانية قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول. وسمى الآية الثالثة آية الغنيمة، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق ثان لمستحق آخر، بيد أن الآية الأولى والثانية، اشتركتا في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال؛ فنشأ الخلاف من ها هنا، فمن طائفة قالت: هي ملحقة بالأولى، وهو مال الصلح كله ونحوه.

ومن طائفة قالت: هي ملحقة بالثانية وهي آية الأنفال. والذين قالوا أنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا؛ هل هي منسوخة - كما تقدم - أو محكمة؟ وإلحاقها بشهادة الله بالتي قبلها أولى؛ لأن فيه تجديد فائدة ومعنى. ومعلوم أن حمل الحرف من الآية فضلا عن الآية على فائدة متجددة أولى من حمله على فائدة معادة. وروى ابن وهب عن مالك في قوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} بني النضير، لم يكن فيها خمس ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. كانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار؛ حسب ما تقدم. وقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} هي قريظة، وكانت قريظة والخندق في يوم واحد. قال ابن العربي: قول مالك إن الآية الثانية في بني قريظة، إشارة إلى أن معناها يعود إلى آية الأنفال، ويلحقها النسخ. وهذا أقوى من القول بالإحكام. ونحن لا نختار إلا ما قسمنا وبينا أن الآية الثانية لها معنى مجدد حسب ما دللنا عليه. والله اعلم.
قلت: ما اختاره حسن. وقد قيل إن سورة "الحشر" نزلت بعد الأنفال، فمن المحال أن ينسخ المتقدم المتأخر. وقال ابن أبي نجيح: المال ثلاثة: مغنم، أو فيء، أو صدقة، وليس منه درهم إلا وقد بين الله موضعه. وهذا أشبه.
الثالثة- الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب: ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم؛ كالصدقات والزكوات. والثاني: الغنائم؛ وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة. والثالث: الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف؛ كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له. فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملين عليها؛ حسب ما ذكره الله تعالى، وقد مضى في "براءة". وأما الغنائم فكانت

في صدر الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء؛ كما قال في سورة "الأنفال": قل الأنفال {لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، ثم نسخ بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية. وقد مضى في الأنفال بيانه. فأما الفيء فقسمته وقسمة الخمس سواء. والأمر عند مالك فيهما إلى الإمام، فإن رأى حبسهما لنوازل تنزل بالمسلمين فعل، وإن رأى قسمتهما أو قسمة أحدهما قسمه كله بين الناس، وسوى فيه بين عربيهم ومولاهم. ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا، ويعطوا ذوو القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيء سهمهم على ما يراه الإمام، وليس له حد معلوم.
واختلف في إعطاء الغني منهم؛ فأكثر الناس على إعطائه لأنه حق لهم. وقال مالك: لا يعطي منه غير فقرائهم، لأنه جعل لهم عوضا من الصدقة. وقال الشافعي: أيما حصل من أموال الكفار من غير قتال كان يقسم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على خمسة وعشرين سهما: عشرون للنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء. والخمس يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة. قال أبو جعفر أحمد بن الداودي: وهذا قول ما سبقه به أحد علمناه، بل كان ذلك خالصا له؛ كما ثبت في الصحيح عن عمر مبينا للآية. ولو كان هذا لكان قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يدل على أنه يجوز الموهبة لغيره، وأن قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يجوز أن يشركهم فيها غيرهم. وقد مضى قول الشافعي مستوعبا في ذلك والحمد لله. ومذهب الشافعي رضي الله عنه: أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة، وأن أربعه أخماسه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي بعده لمصالح المسلمين. وله قول آخر: أنها بعده للمرصدين أنفسهم للقتال بعده خاصة؛ كما تقدم.
الرابعة- قال علماؤنا: ويقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة، فينتقل ذلك إلى أهل الفاقة حيث كانوا، كما فعل عمر بن الخطات رضي الله عنه في أعوام الرمادة، وكانت خمسة أعوام أو ستة. وقد قيل عامين وقيل:

عام فيه اشتد الطاعون مع الجوع. وإن لم يكن ما وصفنا ورأى الإمام إيقاف الفيء أوقفه لنوائب المسلمين، ويعطى منه المنفوس ويبدأ بمن أبوه فقير. والفيء حلال للأغنياء. ويسوى بين الناس فيه إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة. والتفضيل فيه إنما يكون على قدر الحاجة. ويعطي منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم. ويعطي منه الجائزة والصلة إن كان ذلك أهلا، ويرزق القضاء والحكام ومن فيه منفعة للمسلمين. وأولاهم بتوفر الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعا. ومن أخذ من ألفيء شيئا في الديوان كان عليه أن يغزو إذا غزي.
الخامسة- قوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} قراءة العامة "يكون" بالياء. {دولة} بالنصب، أي كي لا يكون الفيء دولة وقرأ أبو جعفر والأعرج وهشام - عن ابن عامر - وأبو حيوة "تكون" بتاء "دولة" بالرفع، أي كي لا تقع دولة. فكانت تامة. و {دولة} رفع على اسم كان ولا خبر له. ويجوز أن تكون ناقصة وخبرها "بين الأغنياء منكم". وإذا كانت تامة فقوله: "بين الأغنياء منكم" متعلق بـ "دولة" على معنى تداول بين الأغنياء منكم. ويجوز أن يكون "بين الأغنياء منكم" وصفا لـ "دولة". وقراءة العامة "دولة" بضم الدال. وقرأها السلمي وأبو حيوة بالنصب. قال عيسى بن عمر ويونس والأصمعي: هما لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة "بالفتح" الظفر في الجواب وغيره، وهي المصدر. وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال. وكذا قال أبو عبيدة: الدولة اسم الشيء الذي يتداول. والدولة الفعل. ومعنى الآية: فعلنا ذلك في هذا الفيء، كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع. ثم يصطفي منها أيضا بعد المرباع ما شاء؛ وفيها قال شاعرهم:
لك المرباع منها والصفايا

يقول: كي لا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية. فجعل الله هذا لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ يقسمه في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس، فإذا جاء خمس وقع بين المسلمين جميعا.
السادسة- قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} أي ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عنه من الأخذ والغلول فانتهوا؛ قاله الحسن وغيره. السدي: ما أعطاكم من مال الفيء فأقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه. وقال ابن جريج: ما آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. الماوردي: وقيل إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه؛ لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد.
قلت: هذا هو معنى القول الذي قبله. فهي ثلاثة أقوال.
السابعة- قال المهدوي: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} هذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى. والآية وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه دخل فيها. وقال الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه يسير على من اتبعه وطلبه. وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن. ومن تهاون بالقرآن وحديثي خسر الدنيا والآخرة. وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
الثامنة- قال عبدالرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلا محرما وعليه ثيابه فقال له: انزع عنك هذا. فقال الرجل: أتقرأ علي بهذا آية من كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال عبدالله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ قال فقلت له: ما تقول - أصلحك الله - في المحرم يقتل الزنبور؟ قال فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبدالملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر". حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أمر بقتل الزنبور. قال علماؤنا: وهذا جواب في نهاية الحسن، أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام، وبين أنه يقتدي فيه بعمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به، وأن الله سبحانه أمر بقبول ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسنة. وقد مضى هذا المعنى من قول عكرمة حين سئل عن أمهات الأولاد فقال: هن أحرار في سورة "النساء" عند قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب؛ فجاءت فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت! فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله! فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه! أما قرأت {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}! قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه.. الحديث. وقد مضى القول فيه في "النساء" مستوفى.
التاسعة- قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وإن جاء بلفظ الإيتاء وهو المناولة فإن معناه الأمر؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فقابله بالنهي، ولا يقابل النهي إلا بالأمر؛ والدليل على فهم ذلك ما ذكرناه قبل مع قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا

أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه". وقال الكلبي: إنها نزلت في رؤوساء المسلمين، قالوا فيما ظهر عليه رسول الله من أموال، المشركين: يا رسول الله، خذ صفيك والربع، ودعنا والباقي؛ فهكذا كنا نفعل في الجاهلية. وأنشدوه:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
العاشرة- {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي عذاب الله، إنه شديد لمن عصاه. وقيل: اتقوا الله في أوامره ونواهيه فلا تضيعوها. {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن خالف ما أمره به.
الآية: [8] {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}
أي الفيء والغنائم {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} وقيل: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ} ولكن يكون {لِلْفُقَرَاءِ}. وقيل: هو بيان لقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فلما ذكروا بأصنافهم قيل المال لهؤلاء، لأنهم فقراء ومهاجرون وقد أخرجوا من ديارهم؛ فهم أحق الناس به. وقيل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} للفقراء المهاجرين لكيلا يكون المال دولة للأغنياء من بني الدنيا. وقيل: والله شديد العقاب للمهاجرين؛ أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم. ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} وقيل: هو عطف على ما مضى، ولم يأت بواو العطف كقولك: هذا المال لزيد لبكر لفلان لفلان. والمهاجرون هنا: من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حبا فيه ونصرة له. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والأوطان حبا لله ولرسول، حتى إن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء

ماله دثار غيرها. وقال عبدالرحمن بن أبزى وسعيد بن جبير: كان ناس من المهاجرين لأحدهم العبد والزوجة والدار والناقة يحج عليها ويغزو فنسبهم الله إلى الفقر وجحل لهم سهما في الزكاة. ومعنى {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} أي أخرجهم كفار مكة؛ أي أحوجوهم إلى الخروج؛ وكانوا مائة رجل. {يَبْتَغُونَ} يطلبون. {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ} أي غنيمة في الدنيا {وَرِضْوَاناً} في الآخرة؛ أي مرضاة ربهم. {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في الجهاد في سبيل الله. {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} في فعلهم ذلك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني؛ فإن الله تعالى جعلني له خازنا وقاسما. ألا وإني باد بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين؛ أنا وأصحابي اخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا.
الآية: [9] { وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} لا خلاف أن الذين تبوؤوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها. "والإيمان" نصب بفعل غير تبوأ؛ لأن التبوء إنما يكون في الأماكن. و{مِنْ قَبْلِهِمْ} "من" صلة تبوأ والمعنى: والذين تبوؤوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الإيمان وأخلصوه؛ لأن الإيمان

ليس بمكان يتبوأ؛ كقوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} أي وادعوا شركاءكم؛ ذكره أبو علي والزمخشري وغيرهما. ويكون من باب قوله: علفتها تبنا وماء باردا. ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: تبوؤوا الدار ومواضع الإيمان. ويجوز حمله على ما دل عليه تبوأ؛ كأنه قال: لزموا الدار ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما. ويجوز أن يكون تبوأ الإيمان عل طريق المثل؛ كما تقول: تبوأ من بني فلان الصميم. والتبوء: التمكن والاستقرار. وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
الثانية- واختلف أيضا هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة؛ فتأول قوم أنها معطوفة على قوله:" {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض. ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن الله تعالى يقول: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} إلى قوله {الْفَاسِقِينَ} فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع. ثم قال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يوجف عليه حين خلوه. وما تقدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر. ثم قال: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وهذا كلام غير معطوف على الأول. وكذا {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ} ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم؛ فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين؛ وكأنه قال؛ الفيء للفقراء المهاجرين؛ والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء. وكذا {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ابتداء كلام؛ والخبر {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا}.
وقال إسماعيل بن إسحاق: إن قوله {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} {وَالَّذِينَ جَاءُوا} معطوف على ما قبل، وأنهم

شركاء في الفيء؛ أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوؤوا الدار. وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - حتى بلغ - لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}، {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ}، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه. وقيل: إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم أغدوا علي. ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت. فلما غدوا عليه قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة "الحشر" وتلا {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى - إلى قوله - لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} فلما بلغ قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} قال: ما هي لهؤلاء فقط. وتلا قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ - إلى قوله - رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك. والله اعلم.
الثالثة- روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة: أن عمر أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الغنائم؛ لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحشوة والذراري، وأن الزبير وبلالا وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم؛ فكره ذلك منهم واختلف فيما فعل من ذلك؛ فقيل: إنه استطاب أنفس أهل الجيش؛ فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين قلة. ومن أبى أعطاه ثمن حظه. فمن قال: إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قسم خيبر، لأن اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها. وقيل: إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش. وقيل إنه

تأول في ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ - إلى قوله - رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} على ما تقدم. والله اعلم.
الرابعة- واختلف العلماء في قسمة العقار؛ فقال مالك: للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين. وقال أبو حنيفة: الإمام مخير بين أن يقسمها أو يجعلها وقفا لمصالح المسلمين. وقال الشافعي: ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال. فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعله وقفا عليهم فله. ومن لم تطب نفسه فهو أحق بمال. وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم.
قلت: وعلى هذا يكون قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} مقطوعا مما قبله، وانهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم.
الخامسة- قال ابن وهب: سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال: إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف؛ ثم قرأ {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} الآية. وقد مضى الكلام في هذا، وفي فضل الصلاة في المسجدين: المسجد الحرام ومسجد المدينة؛ فلا معنى للإعادة.
السادسة- قوله تعالى: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره؛ كذلك قال الناس. وفيه تقدير حذف مضافين؛ المعنى مس حاجة من فقد ما أوتوا. وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم. ثم قال: "إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم". فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: بل نقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار". وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم. ويحتمل أن يريد به {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} إذا كان قليلا بل يقنعون به ويرضون عنه. وقد كانوا على هذه الحالة حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم بحكم الدنيا. وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض".
السابعة- قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في الترمذي عن أبي هريرة: أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك؛ فنزلت هذه الآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه مسلم أيضا. وخرج عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك؛ حتى قلن كلهن مئل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: "من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟" فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل؛ فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قد عجب الله - عز وجل - من صنيعكما بضيفكما الليلة". وفي رواية عن أبي هريرة فال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه. فقال: "ألا رجل يضيف هذا رحمه الله"؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة. فانطلق به إلى رحله...؛ وساق الحديث بنحو الذي قبله، وذكر فيه نزول الآية. وذكر المهدوي عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل

من الأنصار - نزل به ثابت - يقال له أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية؛ وقدم ما كان عنده إلى ضيفه.وكذا ذكر النحاس قال: قال أبو هريرة: نزل برجل من الأنصار - يقال له أبو المتوكل - ثابت بن قيس ضيفا، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية؛ فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ - إلى قوله - فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وقيل: إن فاعل ذلك أبو طلحة. وذكر القشيري أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم: وقال ابن عمر: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا؛ فبعثه إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات، حتى رجعت إلى أولئك؛ فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}. ذكره الثعلبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهودا فوجه به إلى جار له، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول؛ فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية. وقال ابن عباس قال النبي للأنصار يوم بني النضير: "إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا" فقالت الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة؛ فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية. والأول أصح. وفي الصحيحين عن أنس: أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه. لفظ مسلم. وقال الزهري عن أنس بن مالك: لما قدم المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة؛ وكانت أم أنس بن مالك تدعي أم سليم، وكانت أم عبدالله بن أبي طلحة، كان أخا لأنس لأمه؛ وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا لها؛ فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم

أم أيمن مولاته، ثم أسامة بن زيد. قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم. قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه. خرجه مسلم أيضا.
الثامنة- الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية، ورغبة في الحظوظ الدينية. وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة. يقال: آثرته بكذا؛ أي خصصته به وفضلته. ومفعول الإيثار محذوف؛ أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها؛ حسب ما تقدم ببانه. وفي موطأ مالك: "أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن مسكينا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف؛ فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه؛ فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا: شاة وكفنها. فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك. قال علماؤنا: هذا من المال الرابح، والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجل منه ما يشاء، ولا ينقص ذلك مما يدخره عنه. ومن ترك شيئا لله لم يجد فقده. وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وقى شح نفسه وأفلح فلاحا لا خسارة بعده. ومعنى "شاة وكفنها" فإن العرب - أو بعض العرب أو بعض وجوههم - كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غطوه كله بعجين البر وكفنوه به ثم علقوه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن؛ وذلك من طيب الطعام عندهم.وروى النسائي عن نافع

أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنبا، فاشترى له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل؛ فقال: اعطوه إياه؛ فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر، فجاء المسكين فسأل؛ فقال: أعطوه إياه؛ ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه؛ فأراد السائل أن يرجع فمنع. ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا محمد بن مطرف قال: حدثنا أبو حازم عن عبدالرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار، فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تلكأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها. فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك؛ فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان؛ حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل؛ وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل؛ وتلكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن! والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر وقال: إنهم إخوة! بعضهم من بعض.ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها، وكان عشرة آلاف وكان المنكدر دخل عليها. فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه. فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم، فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك. والإمساك لن لا يصبر

ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال: هذه صدقة، فرماه بها وقال: "يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس". والله اعلم.
التاسعة- والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال السائرة:
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حد المحبة: أنها الإيثار، ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام، آثرته على نفسها فقالت: أنا راودته عن نفسه. وأفضل الجود بالنفس الجوة على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم. فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله! لا يصيبونك! نحري دون نحرك ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت. وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، فاذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ! قدم علينا حاجا فقال لي: يا أبا يزيد، ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا. وإن فقدنا صبرنا.

فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا، وإن وجدنا آثرنا. وسئل ذو النون المصري: ما حد الزاهد المنشرح صدره؟ قال ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت.وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري، ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام؛ فلما رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئا؛ إيثارا لصاحبه على نفسه.
العاشرة: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الخصاصة: الحاجة التي مختل بها الحال. وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة؛ أي ولو كان بهم فاقة وحاجة. ومنه قول الشاعر.
أما الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وأثرى المقتر
الحادية عشرة- قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الشح والبخل سواء؛ يقال: رجل شحيح بين الشح والشح والشحاحة. قال عمرو بن كلثوم:
ترى اللحز الشحيح إذا مرت ... عليه لماله فيها مهينا
وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص؛ تقول: شححت "بالكسر" تشح. وشححت أيضا تشح وتشح. ورجل شحيح، وقوم شحاح وأشحة. والمراد بالآية: الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة، وما شاكل ذلك. فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه. ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه. وروى الأسود عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت؟ قال:

وما ذاك؟ قال: سمعت الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا. فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل. ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل. وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام، لا يقنع. ابن جبير: الشح منع الزكاة وادخار الحرام. ابن عيينة: الشح الظلم. الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. ابن عباس: من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان فذلك الشحيح. ابن زيد: من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله عنه، ولم يدعه الشح على أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به، فقد وقاه الله شح نفسه. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة". وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو "اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها ووساوسها" . وقال أبو الهياج الأسدي: رأيت رجلا في الطواف يدعو: اللهم قني شح نفسي. لا يزيد على ذلك شيئا، فقلت له؟ فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل. فاذا الرجل عبدالرحمن بن عوف.
قلت: يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم". وقد بيناه في آخر "آل عمران". وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضر بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشح أضر من الفقر؛ لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبدا.

الآية: [10] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوؤوا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم. فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم: كن شمسا، فإن لم تستطع فكن قمرا، فإن لم تستطع فكن كوكبا مضيئا، فإن لم تستطع فكن كوكبا صغيرا، ومن جهة النور لا تنقطع. ومعنى هذا: كن مهاجريا. فإن قلت: لا أجد، فكن أنصاريا. فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله. وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت منزلة؛ فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه، أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية. قال لا قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية فأنت من قوم قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} الآية. قال لا قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} الآية. وقد قيل: إن محمد بن علي بن الحسين، رضي الله عنهم، روى عن أبيه: أن نفرا من أهل العراق جاؤوا إليه، فسبوا أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثم عثمان - رضي الله عنه - فأكثروا؛ فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا لا. فقال: أفمن الذين تبوؤوا الدار والإيمان من

قبلهم؟ فقالوا لا. فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} قوموا، فعل الله بكم وفعل ذكره النحاس.
الثانية: هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحدا منهم أو اعتقد فيه شرا إنه لا حق له في ألفيء؛ روي ذلك عن مالك وغيره. قال مالك: من كان يبغض أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين؛ ثم قرأ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية.
الثالثة: هذه الآية تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول، وإبقاء العقار والأرض شملا بين المسلمين أجمعين؛ كما فعل عمر رضي الله عنه؛ إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمرا فيمضى عمله فيه لاختلاف الناس عليه وأن هذه الآية قاضية بذلك؛ لأن الله تعالى أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف: المهاجرين والأنصار - وهم معلمون – {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ}. فهي عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين. وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أن رأيت إخواننا" قالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ فقال: "بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض". فبين صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم؛ لا كما قال السدي والكلبي: إنهم الذين هاجروا بعد ذلك. وعن الحسن أيضا {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} من قصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة.

الرابعة: قوله تعالى: {يَقُولُونَ} نصب في موضع الحال؛ أي قائلين. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} فيه وجهان: أحدهما: أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب. قالت عائشة رضي الله عنها: فأمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم. الثاني: أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. قال ابن عباس: أمر الله تعالى بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وقالت عائشة: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد فسببتموهم، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها" وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعن الله أشركم". وقال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم. وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا تثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وإدحاض حجتهم. أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة. {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي حقدا وحسدا {رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
الآية: [11] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

تعجب من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون من النصر مع علمهم بأنهم لا يعتقدون دينا ولا كتابا. ومن جملة المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول، وعبدالله بن نبتل، ورفاعة بن زيد. وقيل: رافعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا، وقالوا ليهود قريظة والنضير. {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} وقيل: هو من قول بني النضير لقريظة. {وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً} يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لا نطيعه في قتالكم. وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة علم الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا، وقوتلوا فلم ينصروهم؛ كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي في قولهم وفعلهم.
الآية: [12] {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}
قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ} أي منهزمين. {لا يُنْصَرُونَ} قيل: معنى {لا يَنْصُرُونَهُمْ} طائعين. { وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ } مكرهين { لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ} وقيل: معنى{ لا يَنْصُرُونَهُمْ } لا يدومون عل نصرهم. هذا على أن الضميرين متفقان. وقيل: إنهما مختلفان؛ والمعنى لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم. { وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ } أي ولئن نصر اليهود المنافقين { لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ} وقيل: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ } أي علم الله منهم أنهم لا يخرجون إن أخرجوا.{ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ } أي علم الله منهم ذلك. ثم قال: { لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ} فأخبر عما قد أخبر أنه لا يكون كيف كان يكون لو كان؟ وهو كقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وقيل: معنى { وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ } أي ولئن شئنا أن ينصروهم زينا ذلك لهم. { لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ}

الآية: [13] {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}
قوله تعالى: {لَأَنْتُمْ} يا معشر المسلمين {أَشَدُّ رَهْبَةً} أي خوفا وخشية {فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} يعني صدور بني النضير. وقيل: في صدور المنافقين. ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين؛ أي يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم ذلك الخوف. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أي لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته.
الآية: [14] {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}
قوله تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً} يعني اليهود {إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ} أي بالحيطان والدور؛ يظنون أنها تمنعهم منكم. {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} أي من خلف حيطان يستترون بها لجبنهم ورهبتهم. وقراءة العامة " جُدُرٍ " على الجمع، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم؛ لأنها نظير قوله تعالى: {فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ} وذلك جمع. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو "جدار" على التوحيد؛ لأن التوحيد يؤدي عن الجمع. وروي عن بعض المكيين "جدر" "بفتح الجيم وإسكان الدال"؛ وهي لغة في الجدار. ويجوز أن يكون معناه من وراء نخيلهم وشجرهم؛ يقال: أجدر النخل إذا طلعت رؤوسه في أول الربيع. والجدر: نبت واحدته جدرة. وقرئ "جدر" "بضم الجيم وإسكان الدال" جمع الجدار. ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف كتاب، وفي الجمع كألف ظراف. ومثله ناقة هجان ونوق هجان؛ لأنك تقول في التثنية: هجانان؛ فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى؛ قاله ابن جني.

قوله تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} يعني عداوة بعضهم لبعض. وقال مجاهد: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي بالكلام والوعيد لنفعلن كذا. وقال السدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد. وقيل: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي إذا لم يلقوا عدوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، ولكن إذا لقوا العدو انهزموا. {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} يعني اليهود والمنافقين؛ قال مجاهد. وعنه أيضا يعني المنافقين. الثوري: هم المشركون وأهل الكتاب. وقال قتادة: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} أي مجتمعين على أمر ورأي. {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} متفرقة. فأهل الباطل مختلفة آراؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. وعن مجاهد أيضا: أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود؛ وهذا ليقوي أنفس المؤمنين عليهم. وقال الشاعر:
إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هي اليوم شتى وهي أمس جمع
وفي قراءة ابن مسعود "وقلوبهم أشت" يعني أشد تشتيتا؛ أي أشد اختلافا. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} أي ذلك التشتيت والكفر بأنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله.
الآية: [15] {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قال ابن عباس: يعني به قينقاع؛ أمكن الله منهم قبل بني النضير. وقال قتادة: يعني بني النضير؛ أمكن الله منهم قبل قريظة. مجاهد: يعني كفار قريش يوم بدر. وقيل: هو عام في كل من انتقم منه على كفره قبل بني الضير من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى "وبال" جزاء كفرهم. ومن قال: هم بنو قريظة، جعل "وبال أمرهم" نزولهم على حكم سعد بن معاذ؛ فحكم فيهم بقتل المقاتل وسبي الذرية. وهو قول الضحاك. ومن قال المراد بنو النضير قال: "وبال أمرهم" الجلاء والنفي. وكان بين النضير وقريظة سنتان. وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، فلذلك قال: "قريبا" وقد قال قوم: غزوة بني النضير بعد وقعة أحد. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة.

الآية: [16] {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [17] {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم. وحذف حرف العطف، ولم يقل: وكمثل الشيطان؛ لأن حذف حرف العطف كثير كما تقول: أنت عاقل أنت كريم أنت عالم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر، راهب تركت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفا أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم، فسجد له فتبرأ منه فأسلمه. ذكره القاضي إسماعيل وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر خبره مطولا ابن عباس ووهب بن منبه. ولفظهما مختلف.
قال ابن عباس في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ}: كان راهب في الفترة يقال له: برصيصا؛ قد تعبد في صومعته سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، حتى أعيا إبليس، فجمع إبليس مردة الشياطين فقال: ألا أجد منكم من يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء، وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي، فجاء جبريل فدخل بينهما، ثم دفعه بيده حتى وقع بأقصى الهند فذلك قوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} فقال: أنا أكفيكه؛ فانطلق فتزيا بزي الرهبان، وحلق وسط رأسه حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه؛ وكان لا ينفتل من صلاته إلا في كل عشرة أيام يوما، ولا يفطر إلا في كل عشره أيام؛ وكان يواصل العشرة

الأيام والعشرين والأكثر؛ فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته؛ فلما انفتل برصيصا من صلاته، رأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان؛ فندم حين لم يجبه، فقال: ما حاجتك؟ فقال: أن أكون معك، فأتأدب بأدبك، وأقتبس من عملك، ونجتمع على العبادة؛ فقال: إني في شغل عنك؛ ثم أقبل على صلاته؛ وأقبل الأبيض أيضا على الصلاة؛ فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده وعبادته قال له: ما حاجتك؟ فقال: أن تأذن لي فارتفع إليك. فأذن له فأقام الأبيض معه حولا لا يفطر إلا في كل أربعن يوما يوما واحدا، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما، وربما مد إلى الثمانين؛ فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه. ثم قال الأبيض: عندي دعوات يشفي الله بها السقيم والمبتلي والمجنون؛ فعلمه إياها. ثم جاء إلى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل. ثم تعرض لرجل فخنقه، ثم قال لأهله - وقد تصور في صورة الآدميين -: إن بصاحبكم جنونا أفأطبه؟ قالوا نعم. فقال: لا أقوى على جنيته، ولكن اذهبوا به إلى برصيصا، فإن عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى،واذا دعي به أجاب؛ فجاؤوه فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنه الشيطان.ثم جعل الأبيض يفعل بالناس ذلك ويرشدهم إلى برصيصا فيعافون. فانطلق إلى جارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة، وكان أبوهم ملكا فمات واستخلف أخاه، وكان عمها ملكا في بني إسرائيل فعذبها وخنقها. ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبب ليعالجها فقال: إن شيطانها مارد لا يطاق، ولكن اذهبوا بها إلى برصيصا فدعوها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها فبرئت؛ فقالوا: لا يجيبنا إلى هذا؛ قال: فابنوا صومعة في جانب صومعته ثم ضعوها فيها، وقولوا: هي أمانة عندك فاحتسب فيها. فسألوه ذلك فأبى فبنوا صومعة ووضعوا فيها الجارية؛ فلما انفتل من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فأسقط في يده، فجاءها الشيطان فخنقها فانفتل من صلاته ودعا لها فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها. وكان يكشف عنها ويتعرض بها لبرصيصا، ثم جاءه الشيطان فقال: ويحك! واقعها،

فما تجد مثلها ثم تتوب بعد ذلك. فلم يزل به حتى واقعها فحملت وظهر حملها. فقال له الشيطان: ويحك! قد افتضحت. فهل لك أن تقتلها ثم تتوب فلا تفتضح، فإن جاؤوك وسألوك فقل جاءها شيطانها فذهب بها. فقتلها برصيصا ودفنها ليلا؛ فأخذ الشيطان طرف ثوبها حتى بقي خارجا من التراب؛ ورجع برصيصا إلى صلاته. ثم جاء الشيطان إلى إخوتها في المنام فقال: إن برصيصا فعل بأختكم كذا وكذا، وقتلها ودفنها في جبل كذا وكذا؛ فاستعظموا ذلك وقالوا لبرصيصا: ما فعلت أختنا؟ فقال: ذهب بها شيطانها؛ فصدقوه وانصرفوا.ثم جاءهم الشيطان في المنام وقال: إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف ردائها خارج من التراب؛ فانطلقوا فوجدوها، فهدموا صومعته وأنزلوه وخنقوه، وحملوه إلى الملك فأقر على نفسه فأمر بقتله. فلما صلب قال الشيطان: أتعرفني؟ قال لا والله قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، أما اتقيت الله أما استحيت وأنت أعبد بني إسرائيل ثم لم يكفك صنيعك حتى فضحت نفسك، وأقررت عليها وفضحت أشباهك من الناس فان مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك بعدك. فقال: كيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة وأنجيك منهم وآخذ بأعينهم. قال: وما ذاك؟ قال تسجد لي سجدة واحدة؛ فقال: أنا أفعل؛ فسجد له من دون الله. فقال: يا برصيصا، هذا أردت منك؛ كان عاقبة أمرك أن كفرت بربك، إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين.وقال وهب بن منبه: إن عابدا كان في بني إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت، وكانت بكرا، ليست لهم أخت غيرها، فخرج البعث على ثلاثتهم، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم، ولا عند من يأمنون عليها، ولا عند من يضعونها. قال فاجتمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يقفلوا من غزاتهم، فأبى ذلك عليهم وتعوذ بالله منهم ومن أختهم. قال فلم يزالوا به حتى أطمعهم فقال: أنزلوها في بيت حذاء صومعتي، فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانا، ينزل إليها الطعام من

صومعته، فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد في صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. قال: فتلطف له الشيطان فلم يزل يرغبه في الخير، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارا، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها. قال: فلبث بذلك زمانا، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والأجر، وقال له: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك؛ قال: فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها، قال: فلبثت بذلك زمانا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه، وقال: لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة. قال: فلم يزل به حتى حدثها زمانا يطلع عليها من فوق صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال: لوكنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها وتقعد على باب بيتها فتحدثك كان أنس لها. فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها، وتخرج الجارية من بيتها، فلبثا زمانا يتحدثان، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع بها، وقال: لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريبا من باب بيتها كان آنس لها. فلم يزل به حتى فعل. قال: فلبثا زمانا، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وفيما له من حسن الثواب فيما يصنع بها، وقال له: لو دنوت من باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها، ففعل. فكان ينزل من صومعته فيقعد على باب بيتها فيحدثها. فلبثا بذلك حينا ثم جاءه إبليس فقال: لو دخلت البيت معها تحدثها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك. فلم يزل به حتى دخل البيت، فجعل يحدثها نهاره كله، فإذا أمسى صعد في صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها. فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها، فولدت له غلاما، فجاءه إبليس فقال له: أرأيت أن جاء إخوة هذه الجارية وقد ولدت منك! كيف تصنع! لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك! فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها، ففعل. فقال له: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها! خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها. فلم يزل به حتى ذبحها

وألقاها في الحفيرة مع ابنها، وأطبق عليها صخرة عظيمة، وسوى عليها التراب، وصعد في صومعته يتعبد فيها؛ فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث؛ حتى قفل إخوتها من الغزو، فجاؤوه فسألوه عنها فنعاها لهم وترحم عليها، وبكى لهم وقال: كانت خير أمة، وهذا قبرها فانظروا إليه.فأتى إخوتها القبر فبكوا على قبرها وترحموا عليها، وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم. فلما جن عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم، أتاهم الشيطان في صورة رجل مسافر، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم؛ فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها؛ فكذبه الشيطان وقال: لم يصدقكم أمر أختكم، إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فزعا منكم، وألقاها في حفيرة احتفرها خلف الباب الذي كانت فيه عن يمين من دخله. فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فإنكم ستجدونهما هنالك جميعا كما أخبرتكم. قال: وأتى الأوسط في منامه وقال له مثل ذلك. ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك. فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لما رأى كل واحد منهم. فأقبل بعضهم على بعض، يقول كل واحد منهم: لقد رأيت عجبا، فأخبر بعضهم بعضا بما رأى. قال أكبرهم: هذا حلم ليس بشيء، فامضوا بنا ودعوا هذا. قال أصغرهم: لا أمضى حتى أتي ذلك المكان فأنظر فيه. قال: فانطلقوا جميعا حتى دخلوا البيت الذي كانت فيه أختهم، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم، فسألوا العابد فصدق قول إبليس فيما صنع بهما. فاستعدوا عليه ملكهم، فأنزل من صومعته فقدموه ليصلب، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له: قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وذبحت ابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلصتك مما أنت فيه. قال: فكفر العابد بالله؛ فلما كفر خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه.قال: ففيه نزلت هذه الآية: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ - إلى قوله - جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}

قال ابن عباس: فضرب الله هذا مثلا للمنافقين مع اليهود. وذلك أن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام أن يجلي بني النضير من المدينة، فدس إليهم المنافقون ألا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم كنا معكم، وإن أخرجوكم كنا معكم، فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون، وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد. فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون إلا بالتقية والكتمان. وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح، حتى كان أم جريج الراهب، وبرأه الله فانبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس. وقيل: المعنى مثل المنافقين في غدرهم لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش: {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} الآية. وقال مجاهد المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم. ومعنى قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ} أي أغواه حتى قال: إني كافر. وليس قول الشيطان: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} حقيقة، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} وفتح الياء من "إني" نافع وابن كثير وأبو عمرو. وأسكن الباقون. {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} أي عاقبة الشيطان وذلك الإنسان { أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ} نصب على الحال. والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان. ومن جعلها في الجنس فالمعنى: وكان عاقبة الفريقين أو الصنفين. ونصب {عَاقِبَتَهُمَا} على أنه خبر كان. والاسم "أنهما في النار" وقرأ الحسن "فكان عاقبتهما" بالرفع على الضد من ذلك. وقرأ الأعمش "خالدان فيها" بالرفع وذلك خلاف المرسوم. ورفعه على أنه خبر "أن" والظرف ملغى.
الآية: [18] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه. {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} يعني يوم القيامة. والعرب تكني عن المستقبل بالغد. وقيل: ذكر الغد تنبيها على أن الساعة قريبة؛ كما قال الشاعر:
وإن غدا للناظرين قريب
وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلها كغد. ولا شك أن كل آت قريب؛ والموت لا محالة آت. ومعنى "ما قدمت" يعني من خير أو شر. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أعاد هذا تكريرا، كقولك: اعجل اعجل، ارم ارم. وقيل التقوى الأولى التوبة فيما مضى من الذنوب، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قال سعيد بن جبير: أي بما يكون منكم. والله اعلم.
الآية: [19] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
قوله تعالى : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} أي تركوا أمره {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} أن يعلموا لها خيرا؛ قال ابن حبان. وقيل: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم؛ قال سفيان. وقيل: "نسوا الله" بترك شكره وتعظيمه. "فأنساهم أنفسهم" بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضا؛ حكاه ابن عيسى. وقال سهل بن عبدالله: "نسوا الله" عند الذنوب "فأنساهم انفسهم" عند التوبة. ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في "أنساهم" إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه الذي تركوه. وقيل: معناه وجدهم تاركين أمره ونهيه؛ كقولك: أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا. وقيل: "نسوا الله" في الرخاء "فأنساهم أنفسهم" في الشدائد. {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال ابن جبير: العاصون. وقال ابن زيد: الكاذبون. وأصل الفسق الخروج؛ أي الذين خرجوا عن طاعة الله.

الآية: 20 {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}
قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} أي في الفضل والرتبة {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} أي المقربون المكرمون. وقيل: الناجون من النار. وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في "المائدة" عند قوله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} وفي سورة "السجدة" عند قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} وفي سورة "ص" {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} فلا معنى للإعادة، والحمد لله.
الآية: 21 {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً} حث على تأمل مواعظ القرآن وبين أنه لا عذر في ترك التدبر؛ فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة؛ أي متشققة من خشية الله. والخاشع: الذليل. والمتصدع: المتشقق. وقيل: " خَاشِعاً" لله بما كلفه من طاعته. "مُتَصَدِّعاً "من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه. وقيل: هو على وجه المثل للكفار.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي أنه لو أنزل هذا القرآن على جبل لخشع لوعده وتصدع لوعيده وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من

وعيده وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، وتصدع من نزوله عليه؛ وقد أنزلناه عليك وثبتناك له؛ فيكون ذلك امتنانا عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال. وقيل: إنه خطاب للأمة، وأن الله تعالى لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله. والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتا؛ فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على رده إن عصى؛ لأنه موعود بالثواب، ومزجور بالعقاب.
الآية: [22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} قال ابن عباس: عالم السر والعلانية. وقيل: ما كان وما يكون. وقال سهل. عالم بالآخرة والدنيا. وقيل: "الغيب" ما لم يعلم العباد ولا عاينوه. " وَالشَّهَادَةِ " ما علموا وشاهدوا. {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}.
الآية: [23] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} أي المنزه عن كل نقص، والطاهر عن كل عيب. والقدس "بالتحريك": السطل بلغة أهل الحجاز؛ لأنه يتطهر به. ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء من البئر بالسانية. وكان سيبويه يقول: قدوس وسبوح؛ بفتح أولهما. وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابيا فصيحا يكني أبا الدينار يقرأ " القَدّوس " " بفتح القاف. قال ثعلب: كل اسم على

فعول فهو مفتوح الأول؛ مثل سفود وكلوب وتنور وسمور وشبوط، إلا السبوح والقدوس فان الضم فيهما أكثر؛ وقد يفتحان. وكذلك الذروج "بالضم" وقد يفتح. {السَّلامُ} أي ذو السلامة من النقائص. وقال ابن العربي: اتفق العلماء رحمة الله عليهم على أن معنى قولنا في الله " السَّلامُ ": النسبة، تقديره ذو السلامة. ثم اختلفوا في ترجمة النسبة على ثلاثة أقوال: الأول: معناه الذي سلم من كل عيب وبريء من كل نقصى. الثاني: معناه ذو السلام؛ أي المسلم على عباده في الجنة؛ كما قال: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}. الثالث: أن معناه الذي سلم الخلق من ظلمه.
قلت: وهذا قول الخطابي؛ وعليه والذي قبله يكون صفة فعل. وعلى أنه البريء من العيوب والنقائص يكون صفة ذات. وقيل: السلام معناه المسلم لعباده. قوله تعالى: {الْمُؤْمِنُ} أي المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب. وقيل: المؤمن الذي يؤمن أولياءه من عذابه ويؤمن عباده من ظلمه؛ يقال: آمنه من الأمان الذي هو ضد الخوف؛ كما قال تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} فهو مؤمن؛ قال النابغة:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند
وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه بقول: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}. وقال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار. وأول من يخرج من وافق اسمه اسم نبي، حتى إذا لم يبق فيها من يوافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم: أنتم

المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين. {الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ} وقال قتادة: المهيمن معناه المشاهد. وقيل: الحافظ. وقال الحسن: المصدق؛ {الْجَبَّارُ} قال ابن عباس: هو العظيم. وجبروت الله عظمته. وهو على هذا القول صفة ذات، من قولهم: نخلة جبارة. قال امرؤ القيس:
سوامق جبار أثيث فروعه ... وعالين قنوانا من البسر أحمرا
يعني النخلة التي فاتت اليد. فكان هذا الاسم يدل على عظمة الله وتقديسه عن أن تناله النقائص وصفات الحدث. وقيل: هو من الجبر وهو الإصلاح، يقال: جبرت العظم فجبر، إذا أصلحته بعد الكسر، فهو فعال من جبر إذا أصلح الكسير وأغنى الفقير. وقال الفراء: هو من أجبره على الأمر أي قهره. قال: ولم أسمع فعالا من أفعل إلا في جبار ودراك من أدرك. وقيل: الجبار الذي لا تطاق سطوته. {الْمُتَكَبِّرُ} الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله. وقيل: المتكبر عن كل سوء المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم. وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلة الانقياد. وقال حميد بن ثور:
عفت مئل ما يعفو الفصيل فأصبحت ... بها كبرياء الصعب وهي ذلول
والكبرياء في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قصمته ثم قذفته في النار". وقيل: المتكبر معناه العالي. وقيل: معناه الكبير لأنه أجل من أن يتكلف كبرا. وقد يقال: تظلم بمعنى ظلم، وتشتم بمعنى شتم، واستقر بمعنى قر. كذلك المتكبر بمعنى الكبير. وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف بتفعل إذا نسب إلى ما لم يكن منه. ثم نزه نفسه فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ} أي تنزيها لجلالته وعظمته {عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

الآية: [24] {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} " الْخَالِقُ " هنا المقدر. و" الْبَارِئُ " المنشئ المخترع. و"الْمُصَوِّر" مصور الصور ومركبها على هيئات مختلفه. فالتصوير مرتب على الخلق والبراية وتابع لهما. ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل. وخلق الله الإنسان في أرحام الأمهات ثلاث خلق: جحله علقة، ثم مضغة، ثم جعله صورة وهو التشكيل الذي يكون به صورة وهيئة يعرف بها ويتميز عن غيره بسمتها. فتبارك الله أحسن الخالقين. وقال النابغة:
الخالق البارئ المصور في الـ ... ـأرحام ماء حتى يصير دما
وقد جعل بعض الناس الخلق بمعنى التصوير، وليس كذلك، وإنما التصوير آخرا والتقدير أولا والبراية بينهما. ومنه قول الحق: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} وقال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لا يفري
يقول: تقدم ما تقدر ثم تفريه، أي تمضيه على وفق تقديرك، وغيرك يقدر ما لا يتم له ولا يقع فيه مراده، إما لقصوره في تصور تقديره أو لعجزه عن تمام مراده. وقد أتينا على هذا كله في "الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" والحمد لله. وعن حاطب بن أبي بلتعة أنه قرأ "البارئ المصور" بفتح الواو ونصب الراء، أي الذي يبرأ المصور، أي يميز ما يصوره بتفاوت الهيئات. ذكره الزمخشري. {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم الكلام فيه. وعن أبي هريرة قال: سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: "يا أبا هريرة،

عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها" فأعدت عليه فأعاد علي، فأعدت عليه فأعاد علي. وقال جابر بن زيد: إن اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية. وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". وعن أبي أمامة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل أو نهار فقبضه الله في تلك الليلة أو ذلك اليوم فقد أوجب الله له الجنة".

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44