كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة، والتفصيل ما لم يخص بدليل. والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان. والأول أصح. والله أعلم.
السادسة عشرة : - البيع في اللغة مصدر باع كذا بكذا، أي دفع عوضاً وأخذ معوضاً. وهو يقتضي بائعا وهو المالك أو من ينزل منزلته، ومبتاعا وهو الذي يبذل الثمن، ومبيعا وهو المثمون وهو الذي يبذل في مقابلته الثمن. وعلى هذا فأركان البيع أربعة: البائع والمبتاع والثمن والمثمن. ثم المعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه، فإن كان أحد المعوضين في مقابلة الرقبة سمي بيعاً، وإن كان في مقابلة منفعة رقبة فإن كانت منفعة بضع سمي نكاحاً، وإن كانت منفعة غيرها سمي إجارة، وإن كان عينا بعين فهو بيع النقد وهو الصرف، وان كان بدين مؤجل فهو السلم، وسيأتي بيانه في آية الدين. وقد مضى حكم الصرف، ويأتي حكم الإجارة في "القصص" وحكم المهر في النكاح في "النساء" كل في موضعه إن شاء الله تعالى.
السابعة عشرة: - البيع قبول وإيجاب يقع باللفظ المستقبل والماضي، فالماضي فيه حقيقة والمستقبل كناية، ويقع بالصريح والكناية المفهوم منها نقل الملك. فسواء قال: بعتك هذه السلعة بعشرة فقال: اشتريتها، أو قال المشتري: اشتريتها وقال البائع: بعتكها، أو قال البائع: أنا أبيعك بعشرة فقال المشتري: أنا أشتري أو قد اشتريت، وكذلك لو قال: خذها بعشرة أو أعطيتكها أو دونكها أو بورك لك فيها بعشرة أو سلمتها إليك - وهما يريدان البيع - فذلك كله بيع لازم. ولو قال البائع: بعتك بعشرة ثم رجع قبل أن يقبل المشتري فقد قال: ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أو رده، لأنه قد بذل ذلك من نفسه وأوجبه عليها، وقد قال ذلك له، لأن العقد لم يتم عليه. ولو قال البائع: كنت لاعبا، فقد اختلفت الرواية عنه، فقال مرة: يلزمه البيع ولا يلتفت إلى قوله. وقال مرة: ينظر إلى قيمة السلعة.

فإن كان الثمن يشبه قيمتها فالبيع لازم، وإن كان متفاوتا كعبد بدرهم ودار بدينار، علم أنه لم يرد به البيع، وإنما كان هازلاً فلم يلزمه.
قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} الألف واللام هنا للعهد، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيناه، ثم تتناول ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من البيوع المنهي عنها.
التاسعة عشرة: - عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال، لما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء بلال بتمر برني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أين هذا" ؟ فقال بلال: من تمر كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: " أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به" وفي رواية " هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا ". قال علماؤنا: فقوله " أوه عين الربا" أي هو الربا المحرم نفسه لا ما يشبهه. وقوله: "فردوه " يدل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لا تصح بوجه، وهو قول الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة حيث يقول: إن بيع الربا جائز بأصله من حيث هو بيع، ممنوع بوصفه من حيث هو رباً، فيسقط الربا ويصح البيع. ولو كان على ما ذكر لما فسخ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة، ولأمره برد الزيادة على الصاع ولصحح الصفقة في مقابلة الصاع.
الموفية عشرين: - كل ما كان من حرام بين ففسخ فعلى المبتاع رد السلعة بعينها. فإن تلفت بيده رد القيمة فيما له القيمة، وذلك كالعقار والعروض والحيوان، والمثل فيما له مثل من موزون أو مكيل من طعام أو عرض. قال ملك: يرد الحرام البين فات أو لم يفت، وما كان مما كره الناس رد إلا أن يفوت فيترك.

الحادية والعشرين: - قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} قال جعفر بن محمد الصادق رحمهما الله: حرم الله الربا ليتقارض الناس. وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قرض مرتين يعدل صدقة مرة " أخرجه البزار، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وقال بعض الناس: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس. وسقطت علامة التأنيث في قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ} لأن تأنيث "الموعظة" غير حقيقي وهو بمعنى وعظ. وقرأ الحسن "فمن جاءته" بإثبات العلامة.
هذه الآية تلتها عائشة لما أخبرت بفعل زيد بن أرقم. روى الدارقطني عن العالية بنت أنفع قالت: خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة رضي الله عنها فسلمنا عليها، فقالت لنا: ممن أنتن ؟ قلنا من أهل الكوفة، قالت: فكأنها أعرضت عنا، فقالت لها أم محبة: يا أم المؤمنين ! كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقداً. قالت: فأقبلت علينا فقالت: بئسما شريت وما اشتريت ! فأبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. فقالت لها: أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي ؟ قالت: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} . العالية هي زوج أبي إسحاق الهمداني الكوفي السبيعي أم يونس بن أبي إسحاق. وهذا الحديث أخرجه مالك من رواية ابن وهب عنه في بيوع الآجال، فان كان منها ما يؤدي إلى الوقوع في المحظور منع منه وإن كان ظاهره بيعاً جائزاً. وخالف مالكاً في هذا الأصل جمهور الفقهاء وقالوا: الأحكام مبنية على الظاهر لا على الظنون. ودليلنا القول بسد الذرائع، فإن سلم وإلا استدللنا على صحته. وقد تقدم. وهذا الحديث نص، ولا تقول عائشة "أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب" إلا بتوقيف، إذ مثله لا يقال بالرأي فإن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي كما تقدم. وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى

حول الحمى يوشك أن يوقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه". وجه دلالته أنه منع من الإقدام على المتشابهات مخافة الوقوع في المحرمات وذلك سد للذريعة. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال: " يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ". فجعل التعريض لسب الآباء كسب الآباء. ولعن صلى الله عليه وسلم اليهود إذا أكلوا ثمن ما نهوا عن أكله. وقال أبو بكر في كتابه: لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. ونهى ابن عباس عن دراهم بدراهم بينهما جريرة. واتفق العلماء على منع الجمع بين بيع وسلف، وعلى تحريم قليل الخمر وإن كان لا يسكر، وعلى تحريم الخلوة بالأجنبية وإن كان عنيناً، وعلى تحريم النظر إلى وجه المرأة الشابة إلى غير ذلك مما يكثر ويعلم على القطع والثبات أن الشرع حكم فيها بالمنع، لأنها ذرائع المحرمات. والربا أحق ما حميت مراتعه وسدت طرائقه، ومن أباح هذه الأسباب فليبح حفر البئر ونصب الحبالات لهلاك المسلمين والمسلمات، وذلك لا يقوله أحد. وأيضا فقد اتفقنا على منع من باع بالعينة إذا عرف بذلك وكانت عادته، وهي في معنى هذا الباب. والله الموفق للصواب.
الثانية والعشرون : - روى أبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ". في إسناده أبو عبدالرحمن الخراساني. ليس بمشهور. وفسر أبو عبيد الهروي العينة فقال: هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. قال: فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن

فهذه أيا عينة، وهي أهون من الأولى، وهو جائز عند بعضهم. وسميت عينة لحضور النقد لصاحب العينة، وذلك أن العَين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره.
الثالثة والعشرون: - قال علماؤنا: فمن باع سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها بثمن من جنس الثمن الذي باعها به، فلا يخلو أن يشتريها منه بنقد، أو إلى أجل دون الأجل الذي باعها إليه، أو إلى أبعد منه، بمثل الثمن أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ثلاث مسائل: وأما الأولى والثانية فإن كان بمثل الثمن أو أكثر جاز، ولا يجوز بأقل على مقتضى حديث عائشة، لأنه أعطى ستمائة ليأخذ ثمانمائة والسلعة لغو، وهذا هو الربا بعينه. وأما الثالثة إلى أبعد من الأجل، فإن كان اشتراها وحدها أو زيادة فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه، ولا يجوز بأكثر، فإن اشترى بعضها فلا يجوز على كل حال لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر. ومسائل هذا الباب حصرها علماؤنا في سبع وعشرين مسألة، ومدارها على ما ذكرناه فاعلم.
الرابعة والعشرون: - قوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي من أمر الربا لا تباعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة، قاله السدي وغيره. وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هنالك. وسلف: معناه تقدم في الزمن وانقضى.
الخامسة والعشرون: - قوله تعالى: { وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فيه أربع تأويلات: أحدها أن الضمير عائد إلى الربا، بمعنى وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك. والآخر أن يكون الضمير عائداً على "ما سلف" أي أمره إلى الله تعالى في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه. والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا، بمعنى أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا. واختار هذا القول النحاس، قال: وهذا قول حسن بين، أي وأمره إلى الله في المستقبل إن شاء ثبته على التحريم وإن شاء أباحه. والرابع أن يعود الضمير على المنتهى، ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير، كما تقول: وأمره إلى طاعة وخير، وكما تقول: وأمره في نمو وإقبال إلى الله تعالى وإلى طاعته.

فهذه أيضا عينة، وهي أهون من الأولى، وهو جائز عند بعضهم. وسميت عينة لحضور النقد لصاحب العينة، وذلك أن العَين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره.
الثالثة والعشرون: - قال علماؤنا: فمن باع سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها بثمن من جنس الثمن الذي باعها به، فلا يخلو أن يشتريها منه بنقد، أو إلى أجل دون الأجل الذي باعها إليه، أو إلى أبعد منه، بمثل الثمن أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ثلاث مسائل: وأما الأولى والثانية فإن كان بمثل الثمن أو أكثر جاز، ولا يجوز بأقل على مقتضى حديث عائشة، لأنه أعطى ستمائة ليأخذ ثمانمائة والسلعة لغو، وهذا هو الربا بعينه. وأما الثالثة إلى أبعد من الأجل، فإن كان اشتراها وحدها أو زيادة فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه، ولا يجوز بأكثر، فإن اشترى بعضها فلا يجوز على كل حال لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر. ومسائل هذا الباب حصرها علماؤنا في سبع وعشرين مسألة، ومدارها على ما ذكرناه فاعلم.
الرابعة والعشرون : - قوله تعالى: { فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي من أمر الربا لا تباعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة، قاله السدي وغيره. وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هنالك. وسلف: معناه تقدم في الزمن وانقضى.
الخامسة والعشرون: - قوله تعالى: { وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فيه أربع تأويلات: أحدها أن الضمير عائد إلى الربا، بمعنى وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك. والآخر أن يكون الضمير عائداً على {ما سلف"} أي أمره إلى الله تعالى في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه. والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا، بمعنى أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا. واختار هذا القول النحاس، قال: وهذا قول حسن بين، أي وأمره إلى الله في المستقبل إن شاء ثبته على التحريم وإن شاء أباحه. والرابع أن يعود الضمير على المنتهى، ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير، كما تقول: وأمره إلى طاعة وخير، وكما تقول: وأمره في نمو وإقبال إلى الله تعالى وإلى طاعته.

نزول آية التحريم، ولا يتعقب بالفسخ ما كان مقبوضا. وقد قيل: إن الآية نزلت بسبب ثقيف، وكانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن مالهم من الربا على الناس فهو لهم، وما للناس عليهم فهو موضوع عنهم، فلما أن جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني عبدة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت على بني المغيرة المخزوميين. فقال بنو المغيرة: لا نعطي شيئا فإن الربا قد رفع ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فعلمت بها ثقيف فكفت. هذا سبب الآية على اختصار مجموع ما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم. والمعنى اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من الربا وصفحكم عنه.
المؤفية ثلاثين: - قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرط محض في ثقيف على بابه لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام. وإذا قدرنا الآية فيمن قد تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلاً فافعل كذا. وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال: إن "إنْ" في هذه الآية بمعنى "إذ". قال ابن عطية: وهذا مردود لا يعرف في اللغة. وقال ابن فورك: يحتمل أن يريد {يَا أَ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بمن قبل محمد عليه السلام من الأنبياء {ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ لا ينفع الأول إلا بهذا. وهذا مردود بما روي في سبب الآية.
الحادية والثلاثون: - قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذا وعيد إن لم يذروا الربا، والحرب داعية القتل. وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وقال ابن عباس أيضا: من كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستثيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. وقال قتادة: أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجاً أينما ثقفوا. وقيل: المعنى إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله، أي

أعداء. وقال ابن خويز منداد: ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالاً كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً جاز للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال: { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [ البقرة: 279]. وقرأ أبو بكر عن عاصم "فآذنوا" على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم.
ذكر ابن بكير قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبدالله، إني رأيت رجلاً سكراناً يتعاقر يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر. فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب.
دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك على ما نبينه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا ومن لم يأكل الربا أصابه غباره" وروى الدارقطني عن عبدالله بن حنظلة غسيل الملائكة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لدرهم ربا أشد عند الله تعالى من ست وثلاثين زنية في الخطيئة" وروي عنه عليه السلام أنه قال: "الربا تسعة وتسعون بابا أدناها كإتيان الرجل بأمه" يعني الزنا بأمه. وقال ابن مسعود آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وروى البخاري عن أبي جحيفة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: " اجتنبوا السبع الموبقات ... - وفيها - وآكل الربا". وفي مصنف أبي داود عن ابن مسعود قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده.
الرابعة والثلاثون: - قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الآية. روى أبو داود عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: "ألا إن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون " وذكر الحديث. فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم: "لا تَظْلِمون" في أخذ الربا " ولا تُظْلَمون" في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون "لا تُظْلَمون" في مطل، لأن مطل الغني ظلم، فالمعنى أنه يكون القضاء مع وضع الربا، وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شيء بالصلح. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى كعب بن مالك في دَيْن ابن أبي حدرد بوضع الشطر فقال كعب: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر: " قم فاقضه". فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات. وسيأتي في "النساء" بيان الصلح وما يجوز منه وما لا يجوز، إن شاء الله تعالى.
الخامسة والثلاثون: - قوله تعالى: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} تأكيد لإبطال ما لم يُقْبَض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه. فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد، كما إذا اشترى مسلم صيدا ثم أحرم المشتري أو البائع قبل القبض بطل البيع، لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد، كما أبطل الله تعالى ما لم يقبض، لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض، ولو كان مقبوضا لم يؤثر. هذا مذهب أبي حنيفة، وهو قول لأصحاب الشافعي. ويستدل به على أن هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد خلافا لبعض السلف، ويروى هذا الخلاف عن أحمد. وهذا إنما يتمشى على قول من يقول: إن العقد في الربا كان في الأصل منعقدا، وإنما بطل بالإسلام الطارئ قبل

القبض. وأما من منع انعقاد الربا في الأصل لم يكن هذا الكلام صحيحا، وذلك أن الربا كان محرما في الأديان، والذي فعلوه في الجاهلية كان عادة المشركين، وأن ما قبضوه منه كان بمثابة أموال وصلت إليهم بالغصب والسلب فلا يتعرض له. فعلى هذا لا يصح الاستشهاد على ما ذكروه من المسائل. واشتمال شرائع الأنبياء قبلنا على تحريم الربا مشهور مذكور في كتاب الله تعالى، كما حكي عن اليهود في قوله تعالى { وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161]. وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } [هود: 87] فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به. نعم، يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ إن كانت معقودة على فساد.
السادسة والثلاثون: - ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام. قال ابن العربي: وهذا غلو في الدين فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه، ولو تلف لقام المثل مقامه والاختلاط إتلاف لتمييزه كما أن الإهلاك إتلاف لعينه والمثل قائم مقام الذاهب وهذا بين حسا بين معنى. والله أعلم.
قلت: قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من رباً فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضراً، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه. وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه. فإن التبس عليه الأمر ولم يدرِ كَمْ الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عُرف ممن ظلمه أو أربى عليه. فإن أيس من وجوده تصدق به عنه. فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه

صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه، لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه. وفارق ههنا المفلس في قول أكثر العلماء لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء بل هم الذين صيروها إليه، فيترك له ما يواريه وما هو هيئة لباسه. وأبو عبيد وغيره يرى ألا يترك للمفلس من اللباس إلا أقل ما يجزئه في الصلاة وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته، ثم كلما وقع بيد هذا شيء أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا، حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه.
السابعة والثلاثون: - هذا الوعيد الذي وعد الله به في الربا من المحاربة، قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في المخابرة. وروى أبو داود قال: أخبرنا يحيى بن معين قال أخبرنا ابن رجاء قال ابن خيثم حدثني عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله ". وهذا دليل على منع المخابرة وهي أخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع، ويسمى المزارعة. وأجمع أصحاب مالك كلهم والشافعي وأبو حنيفة وأتباعهم وداود، على أنه لا يجوز دفع الأرض على الثلث والربع، ولا على جزء مما تخرج، لأنه مجهول، إلا أن الشافعي وأصحابه وأبا حنيفة قالوا بجواز كراء الأرض بالطعام إذا كان معلوماً، لقوله عليه السلام: "فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به " خرجه مسلم. وإليه ذهب محمد بن عبدالله بن عبدالحكم، ومنعه مالك وأصحابه، لما رواه مسلم أيضا عن رافع بن خديج قال: " كنا نحاقل بالأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعاً، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض فنكتريها على الثلث والربع والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزارعها. وكره كراءها وما سوى ذلك". قالوا:

فلا يجوز كراء الأرض بشيء من الطعام مأكولا كان أو مشروبا على حال، لأن ذلك في معنى بيع الطعام بالطعام نسيئا. وكذلك لا يجوز عندهم كراء الأرض بشيء مما يخرج منها وإن لم يكن طعاما مأكولا ولا مشروبا، سوى الخشب والقصب والحطب، لأنه عندهم في معنى المزابنة. هذا هو المحفوظ عن مالك وأصحابه. وقد ذكر ابن سحنون عن المغيرة بن عبدالرحمن المخزومي المدني أنه قال: لا بأس بإكراء الأرض بطعام لا يخرج منها. وروى يحيى بن عمر عن المغيرة أن ذلك لا يجوز، كقول سائر أصحاب مالك. وذكر ابن حبيب أن ابن كنانة كان يقول: لا تكرى الأرض بشيء إذا أعيد فيها نبت، ولا بأس أن تكرى بما سوى ذلك من جميع الأشياء مما يؤكل ومما لا يؤكل خرج منها أو لم يخرج منها، وبه قال يحيى بن يحيى، وقال: إنه من قول مالك. قال: وكان ابن نافع يقول: لا بأس بأن تكرى الأرض بكل شيء من طعام وغيره خرج منها أو لم يخرج، ما عدا الحنطة وأخواتها فإنها المحاقلة المنهي عنها. وقال مالك في الموطأ: فأما الذي يعطي أرضه البيضاء بالثلث والربع مما يخرج منها فذلك مما يدخله الغَرَر، لأن الزرع يقل مرة ويكثر أخرى، وربما هلك رأسا فيكون صاحب الأرض قد ترك كراء معلوما، وإنما مثل ذلك مثل رجل استأجر أجيرا لسفر بشيء معلوم، ثم قال الذي استأجر للأجير: هل لك أن أعطيك عشر ما أربح في سفري هذا إجارة لك. فهذا لا يحل ولا ينبغي. قال مالك: ولا ينبغي لرجل أن يؤاجر نفسه ولا أرضه ولا سفينته ولا دابته إلا بشيء معلوم لا يزول. وبه يقول الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما. وقال أحمد بن حنبل والليث والثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يعطي الرجل أرضه على جزء

مما تخرجه نحو الثلث والربع، وهو قول ابن عمر وطاوس. واحتجوا بقصة خيبر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهلها على شطر ما تخرجه أرضهم وثمارهم. قال أحمد: حديث رافع بن خديج في النهي عن كراء المزارع مضطرب الألفاظ ولا يصح، والقول بقصة خيبر أولى وهو حديث صحيح. وقد أجاز طائفة من التابعين ومن بعدهم أن يعطى الرجل سفينته ودابته، كما يعطى أرضه بجزء مما يرزقه الله في العلاج بها. وجعلوا أصلهم في ذلك القراض المجمع عليه على ما يأتي بيانه في "المزمل" إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وقال الشافعي في قول ابن عمر: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، أي كنا نكري الأرض ببعض ما يخرج منها. قال: وفي ذلك نسخ لسنة خيبر.
قلت : ومما يصحح قول الشافعي في النسخ ما رواه الأئمة واللفظ للدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وعن الثنيا إلا أن تُعلم . صحيح. وروى أبو داود عن زيد بن ثابت قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة. قلت: وما المخابرة ؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع.
الثامنة والثلاثون: - في القراءات. قرأ الجمهور "ما بقي" بتحريك الياء، وسكنها الحسن، ومثله قول جرير:
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
وقال عمر بن أبي ربيعة:
كم قد ذكرتك لو أجزى بذكركم ... يا أشبه الناس كل الناس بالقمر
إني لأجذل أن أمسي مقابله ... حباً لرؤية من أشبهت في الصور

أصله "ما رضي" و"أن أمسي" فأسكنها وهو في الشعر كثير. ووجهه أنه شبه الياء بالألف فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لا تصل هنا إلى الياء. ومن هذه اللغة أحب أن أدعوك، وأشتهي أن أقضيك، بإسكان الواو والياء. وقرأ الحسن "ما بقى" بالألف، وهي لغة طيء، يقولون للجارية: جاراة، وللناصية: ناصاة، وقال الشاعر:
لعمرك لا أخشى التصعلك ما بقى ... على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
وقرأ أبو السمال من بين جميع القراء "من الربو" بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو. وقال أبو الفتح عثمان بن جني: شذ هذا الحرف من أمرين، أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم، والآخر وقوع الواو بعد الضم في آخر الاسم. وقال المهدوي. وجهها أنه فخم الألف فانتحى بها نحو الواو التي الألف منها، ولا ينبغي أن يحمل على غير هذا الوجه، إذ ليس في الكلام اسم آخره واو ساكنة قبلها ضمة. وأمال الكسائي وحمزة "الربا" لمكان الكسرة في الراء. الباقون بالتفخيم لفتحة الباء. وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة "فآذنوا" على معنى فآذنوا غيركم، فحذف المفعول. وقرأ الباقون "فأذنوا" أي كونوا على إذن، من قولك: إن على علم، حكاه أبو عبيد عن الأصمعي. وحكى أهل اللغة أنه يقال: أذنت به إذنا، أي علمت به. وقال ابن عباس وغيره من المفسرين: معنى "فأذنوا" فاستيقنوا الحرب من الله تعالى، وهو بمعنى الإذن. ورجح أبو علي وغيره قراءة المد قال: لأنهم إذا أمروا بإعلام غيرهم ممن لم ينته عن ذلك علموا هم لا محالة. قال: ففي إعلامهم علمهم وليس في علمهم إعلامهم. ورجح الطبري قراءة القصر، لأنها تختص بهم. وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم. وقرأ جميع القراء "لا تظلمون" بفتح التاء "ولا تظلمون" بضمها. وروى المفضل عن عاصم "لا تظلمون" "ولا تظلمون" بضم التاء في الأولى وفتحها في الثانية على العكس. وقال أبو علي: تترجح قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله: {وإن تبتم} في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فيجيء {تظلمون} بفتح التاء أشكل بما قبله.

*3*الآية: 280 {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
فيه تسع مسائل:
الأولى: - قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} لما حكم جل وعز لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال، حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حال الميسرة، وذلك أن ثقيفا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة شكوا العسرة - يعني بني المغيرة - وقالوا: ليس لنا شيء، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم، فنزلت هذه الآية {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} .
الثانية: - قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} مع قوله { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه. ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالماً، فإن الله تعالى يقول: { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} فجعل له المطالبة برأس ماله. فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه.
الثالثة: - قال المهدوي وقال بعض العلماء: هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع مَنْ أعسر. وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام. قال ابن عطية: فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ وإلا فليس بنسخ. قال الطحاوي: كان الحر يباع في الدين أول الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال جل وعز: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . واحتجوا بحديث رواه الدارقطني من حديث مسلم بن خالد الزنجي أخبرنا زيد بن أسلم عن ابن البيلماني عن سرق قال: كان لرجل علي مال - أو قال دين - فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصب لي مالاً فباعني منه، أو باعني له. أخرجه البزار بهذا الإسناد أطول منه. ومسلم بن خالد الزنجي وعبدالرحمن بن البيلماني لا يحتج بهما. وقال جماعة من أهل العلم:

قوله تعالى: { فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} عامة في جميع الناس، فكل من أعسر أنظر، وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء. قال النحاس: وأحسن ما قيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خيثم. قال: هي لكل معسر ينظر في الربا والدين كله. فهذا قول يجمع الأقوال، لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه. ولأن القراءة بالرفع بمعنىً وإن وقع ذو عسرة من الناس أجمعين. ولو كان في الربا خاصة لكان النصب الوجه، بمعنى وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة. وقال ابن عباس وشريح: ذلك في الربا خاصة، فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه، وهو قول إبراهيم. واحتجوا بقول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] الآية. قال ابن عطية: فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع، وأما مع العدم والفقر الصريح فالحكم هو النظرة ضرورة.
الرابعة: - من كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته. روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه. والمشهور أنه يترك له كسوته المعتادة ما لم يكن فيها فضل، ولا ينزع منه رداؤه إن كان ذلك مزرياً به. وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالما خلاف. ولا يترك له مسكن ولا خادم ولا ثوب جمعة ما لم تقل قيمتها، وعند هذا يحرم حبسه. والأصل في هذا قوله تعالى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك". وفي مصنف أبى داود: فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماءه على أن خلع لهم ماله. وهذا نص، فلم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبس الرجل، وهو معاذ بن جبل كما قال شريح، ولا بملازمته، خلافا لأبي حنيفة فإنه قال: يلازم لإمكان أن يظهر له مال، ولا يكلف أن يكتسب لما ذكرنا. وبالله توفيقنا.

الخامسة: - ويحبس المفلس في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم حتى يتبين عدمه. ولا يحبس عند مالك إن لم يتهم أنه غيب ماله ولم يتبين لدده. وكذلك لا يحبس إن صح عسره على ما ذكرنا.
السادسة: - فإن جمع مال المفلس ثم تلف قبل وصوله إلى أربابه وقبل البيع، فعلى المفلس ضمانه، ودين الغرماء ثابت في ذمته. فإن باع الحاكم ماله وقبض ثمنه ثم تلف الثمن قبل قبض الغرماء له، كان عليهم ضمانه وقد برئ المفلس منه. وقال محمد بن عبدالحكم: ضمانه من المفلس أبدا حتى يصل إلى الغرماء.
السابعة: - العسرة ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة. والنظرة التأخير. والميسرة مصدر بمعنى اليسر. وارتفع "ذو" بكان التامة التي بمعنى وجد وحدث، هذا قول سيبويه وأبى علي وغيرهما. وأنشد سيبويه:
فدىً لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
ويجوز النصب. وفي مصحف أبي بن كعب "وإن كان ذا عسرة" على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة. وقرأ الأعمش "وإن كان معسراً فنظرة". قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى: وكذلك في مصحف أبي بن كعب. قال النحاس ومكي والنقاش: وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ "ذو" فهي عامة في جميع من عليه دين، وقد تقدم. وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان "فإن كان - بالفاء - ذو عسرة". وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال: في مصحف عثمان "وإن كان ذا عسرة" ذكره النحاس. وقراءة الجماعة "نظرة" بكسر الظاء. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن "فنظرة" بسكون الظاء، وهي لغة تميمية وهم الذين يقولون: في كَرْم زيد بمعنى كَرَم زيد، ويقولون كبْد في كبِد. وقرأ نافع

وحده "ميسرة" بضم السين، والجمهور بفتحها. وحكى النحاس عن مجاهد وعطاء "فناظره - على الأمر - إلى ميسر هي" بضم السين وكسر الراء وإثبات الياء في الإدراج. وقرئ "فناظرة" قال أبو حاتم لا يجوز فناظرة، إنما ذلك في "النمل" لأنها امرأة تكلمت بهذا لنفسها، من نظرت تنظر فهي ناظرة، وما في "البقرة" فمن التأخير، من قولك: أنظرتك بالديْن، أي أخرتك به. ومنه قوله: { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14] وأجاز ذلك أبو إسحاق الزجاج وقال: هي من أسماء المصادر، كقوله تعالى: { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2]. وكقوله تعالى: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [القيامة: 25] وكـ { خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} [المؤمن: 19] وغيره.
الثامنة: - قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} ابتداء، وخبره "خير". ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك. وقال الطبري: وقال آخرون: معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم. والصحيح الأول، وليس في الآية مدخل للغني.
التاسعة: - روى أبو جعفر الطحاوي عن بريدة بن الخصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة" ثم قلت: بكل يوم مثله صدقة، قال فقال: "بكل يوم صدقة ما لم يحل الدين فإذا أنظره بعد الحل فله بكل يوم مثله صدقة" . وروى مسلم عن أبي مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال: قال الله عز وجل نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه". وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إني معسر. فقال: آلله ؟ قال: ألله. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه"، وفي حديث أبي اليسر الطويل - واسمه

كعب بن عمرو - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله ". ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها. وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علم عسرة غريمه أو ظنها حرمت عليه مطالبته، وإن لم تثبت عسرته عند الحاكم. وإنظار المعسر تأخيره إلى أن يوسر. والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته. وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له: إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل.
*3*الآية: 281 { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
قيل: إن هذه الآية نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء، قاله ابن جريج. وقال ابن جبير ومقاتل: بسبع ليال. وروي بثلاث ليال. وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه عليه السلام قال : "اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ". وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية".
قلت: وحكي عن أبي كعب وابن عباس وقتادة أن آخر ما نزل: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] إلى آخر الآية. والقول الأول أعرف وأكثر وأصح وأشهر. ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم "يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة". ذكره أبو بكر الأنباري في "كتاب الرد" له، وهو قول ابن عمر رضي الله عنه أنها آخر ما نزل، وأنه عليه السلام عاش بعدها أحدا وعشرين يوما، على ما يأتي بيانه في آخر سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إن شاء تعالى. والآية وعظ لجميع

الناس وأمر يخص كل إنسان. و"يوما" منصوب على المفعول لا على الظرف. {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} من نعته. وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، مثل {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] واعتبارا بقراءة أبي "يوما تصيرون فيه إلى الله". والباقون بضم التاء وفتح الجيم، مثل {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 62]. {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} [الكهف: 36] واعتبارا بقراءة عبدالله "يوما تردون فيه إلى الله" وقرأ الحسن "يرجعون" بالياء، على معنى يرجع جميع الناس. قال ابن جني: كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة، إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم: {واتقوا يوما} ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم. وجهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية. وقال قوم: هو يوم الموت. قال ابن عطية: والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية. وفي قوله "إلى الله" مضاف محذوف، تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه. "وهم" رد على معنى "كل" لا على اللفظ، إلا على قراءة الحسن "يرجعون" فقوله "وهم" رد على ضمير الجماعة في "يرجعون". وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الأعمال، وهو رد على الجبرية، وقد تقدم.
*3*الآية: 282 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ

اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
فيه اثنتان وخمسون مسالة:
الأولى: - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} الآية. قال سعيد بن المسيب: بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وقال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السلم خاصة. معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا. وقال ابن خويز منداد: إنها تضمنت ثلاثين حكما. وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض، على ما قال مالك، إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات. وخالف في ذلك الشافعية وقالوا: الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دَيْناً مؤجلا، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه.
الثانية: - قوله تعالى: {دَيْنٍ} تأكيد مثل قوله {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]. { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]. وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والدين ما كان غائبا، قال الشاعر:
وعدتنا بدرهمينا طلاء ... وشواء معجلا غير دين
وقال آخر:
لترم بي المنايا حيث شاءت ... إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أوقدوا حطبا ونارا ... فذاك الموت نقدا غير دين
وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله الحق {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}

الثالثة: قوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قال ابن المنذر: دل قول الله {إلى أجل مسمى} على أن السلم إلى الأجل المجهول غير جائز، ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه ابن عباس. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وقال ابن عمر: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حَبَل الحَبَلة. وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم الجائز أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف، من طعام أرض عامة لا يخطئ مثلها. بكيل معلوم، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة، يدفع ممن ما أسلم فيه قبل أن يفترقا من مقامهما الذي تبايعا فيه، وسميا المكان الذي يقبض فيه الطعام. فإذا فعلا ذلك وكان جائز الأمر كان سلما صحيحا لا أعلم أحدا من أهل العلم يبطله.
قلت: وقال علماؤنا: إن السلم إلى الحصاد والجذاذ والنيروز والمهرجان جائز، إذ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم.
الرابعة: حدّ علماؤنا رحمة الله عليهم السلم فقالوا: هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم. فتقييده بمعلوم في الذمة يفيد التحرز من المجهول، ومن السلم في الأعيان المعينة، مثل الذي كانوا يستلفون في المدينة حين قدم عليهم النبي عليه السلام فإنهم كانوا يستلفون في ثمار نخيل بأعيانها، فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر، إذ قد تخلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئا.
وقولهم [محصور بالصفة] تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل، كما لو أسلم في تمر أو ثياب أو حيتان ولم يبين نوعها ولا صفتها المعينة.
وقولهم [بعين حاضرة] تحرز من الدين بالدين. وقولهم [أو ما هو في حكمها] تحرز من اليومين والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليه، فإنه يجوز تأخيره عندنا ذلك القدر، بشرط

وبغير شرط لقرب ذلك، ولا يجوز اشتراطه عليها. ولم يجز الشافعي ولا الكوفي تأخير رأس مال السلم عن العقد والافتراق، ورأوا أنه كالصرف. ودليلنا أن البابين مختلفان بأخص أوصافهما، فإن الصرف بابه ضيق كثرت فيه الشروط بخلاف السلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر. والله أعلم.
وقولهم " إلى أجل معلوم " تحرز من السلم الحال فإنه لا يجوز على المشهور وسيأتي. ووصف الأجل بالمعلوم تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه.
الخامسة: - السلم والسلف عبارتان عن معنى واحد وقد جاءا في الحديث، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب [السَّلم] لأن السلف يقال على القرض. والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، مستثنى من نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك. وأرخص في السلم، لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتابعين، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج، فإن جاز حالا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة. والله أعلم.
السادسة: - في شروط السلم المتفق عليها والمختلف فيها وهي تسعة: ستة في المُسْلَم فيه، وثلاثة في رأس مال السلم. أما الستة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذمة، وأن يكون موصوفا، وأن يكون مقدرا، وأن يكون مؤجلا، وأن يكون الأجل معلوما، وأن يكون موجودا عند محل الأجل. وأما الثلاثة التي في رأس مال السلم فأن يكون معلوم الجنس، مقدرا، نقدا. وهذه الشروط الثلاثة التي في رأس المال متفق عليها إلا النقد حسب ما تقدم. قال ابن العربي: وأما الشرط الأول وهو أن يكون في الذمة فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة، لأنه مداينة، ولولا ذلك لم يشرع دينا ولا قصد الناس إليه ربحا ورفقا. وعلى ذلك القول اتفق الناس. بيد أن مالكا قال: لا يجوز السلم في المعين إلا بشرطين:

أحدهما أن يكون قرية مأمونة، والثاني أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخلة، ولم يقل ذلك أحد سواه. وهاتان المسألتان صحيحتان في الدليل، لأن التعيين امتنع في السلم مخافة المزابنة والغرر، لئلا يتعذر عند المحل. وإذا كان الموضع مأمونا لا يتعذر وجود ما فيه في الغالب جاز ذلك، إذ لا يتيقن ضمان العواقب على القطع في مسائل الفقه، ولا بد من احتمال الغرر اليسير، وذلك كثير في مسائل الفروع، تعدادها في كتب المسائل. وأما السلم في اللبن والرطب مع الشروع في أخذه فهي مسألة مدنية اجتمع عليها أهل المدينة، وهي مبنية على قاعدة المصلحة، لأن المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مياومة ويشق أن يأخذ كل يوم ابتداء، لأن النقد قد لا يحضره ولأن السعر قد يختلف عليه، وصاحب النخل واللبن محتاج إلى النقد، لأن الذي عنده عروض لا يتصرف له. فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياسا على العرايا وغيرها من أصول الحاجات والمصالح. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون موصوفا فمتفق عليه، وكذلك الشرط الثالث. والتقدير يكون من ثلاثة أوجه: الكيل، والوزن، والعدد، وذلك ينبني على العرف، وهو إما عرف الناس وإما عرف الشرع. وأما الشرط الرابع وهو أن يكون مؤجلا فاختلف فيه، فقال الشافعي: يجوز السلم الحال، ومنعه الأكثر من العلماء. قال ابن العربي: واضطربت المالكية في تقدير الأجل حتى ردوه إلى يوم، حتى قال بعض علمائنا: السلم الحال جائز. والصحيح أنه لا بد من الأجل فيه، لأن المبيع على ضربين: معجل وهو العين، ومؤجل. فإن كان حالا ولم يكن عند المسلم إليه فهو من باب: بيع ما ليس عندك، فلا بد من الأجل حتى يخلص كل عقد على صفته وعلى شروطه، وتتنزل الأحكام، الشرعية منازلها. وتحديده عند علمائنا مدة تختلف الأسواق في مثلها. وقول الله تعالى {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وقوله عليه السلام: "إلى أجل معلوم" يغني عن قول كل قائل.
قلت: الذي أجازه علماؤنا من السلم الحال ما تختلف فيه البلدان من الأسعار، فيجوز السلم فيما كان بينه وبينه يوم أو يومان أو ثلاثة. فأما في البلد الواحد فلا، لأن سعره واحد،

والله أعلم. وأما الشرط الخامس وهو أن يكون الأجل معلوما فلا خلاف فيه بين الأمة، لوصف الله تعالى ونبيه الأجل بذلك. وانفرد مالك دون الفقهاء بالأمصار بجواز البيع إلى الجذاذ والحصاد، لأنه رآه معلوما. وقد مضى القول في هذا عند قوله تعالى { يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]. وأما الشرط السادس وهو أن يكون موجودا عند المحل فلا خلاف فيه بين الأمة أيضا، فإن انقطع المبيع عند محل الأجل بأمر من الله تعالى انفسخ العقد عند كافة العلماء.
السابعة: - ليس من شرط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه خلافا لبعض السلف، لما رواه البخاري عن محمد بن المجالد قال: بعثني عبدالله بن شداد وأبو بردة إلى عبدالله بن أبي أوفى فقالا: سله هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة ؟ فقال عبدالله: كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أصله عنده ؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. ثم بعثاني إلى عبدالرحمن بن أبزى فسألته فقال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا ؟ وشرط أبو حنيفة وجود المسلم فيه من حين العقد إلى حين الأجل، مخافة أن يطلب المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غررا، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا: المراعى وجوده عند الأجل. وشرط الكوفيون والثوري أن يذكر موضع القبض فيما له حمل ومؤونة وقالوا: السلم فاسد إذا لم يذكر موضع القبض. وقال الأوزاعي: هو مكروه. وعندنا لو سكتوا عنه لم يفسد العقد، ويتعين موضع القبض، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث، لحديث ابن عباس فإنه ليس فيه ذكر المكان الذي يقبض فيه السلم، ولو كان من شروطه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الكيل والوزن والأجل، ومثله ابن أبي أوفى.

الثامنة: - روى أبو داود عن سعد - يعني الطائي - عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره". قال أبو محمد عبدالحق بن عطية: هو العوفي ولا يحتج أحد بحديثه، وإن كان الأجلة قد رووا عنه. قال مالك: الأمر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى فحل الأجل فلم يجد المبتاع عند البائع وفاء مما ابتاعه منه فأقاله، إنه لا ينبغي له أن يأخذ منه إلا ورقه أو ذهبه أو الثمن الذي دفع إليه بعينه، وأنه لا يشتري منه بذلك الثمن شيئا حتى يقبضه منه، وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه أو صرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه فهو بيع الطعام قبل أن يستوفى. قال مالك: وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل أن يستوفى.
قوله تعالى: { فَاكْتُبُوهُ} يعني الدين والأجل. ويقال: أمر بالكتابة ولكن المراد الكتابة والإشهاد، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة. ويقال: أمرنا بالكتابة لكيلا ننسى. وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} إلى آخر الآية: " إن أول من جحد آدم عليه السلام إن الله أراه ذريته فرأى رجلا أزهر ساطعا نوره فقال يا رب من هذا قال: هذا ابنك داود، قال: يا رب فما عمره ؟ قال: ستون سنة، قال: يا رب زده في عمره ! فقال: لا إلا أن تزيده من عمرك، قال: وما عمري ؟ قال: ألف سنة، قال آدم فقد وهبت له أربعين سنة، قال: فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه ملائكته فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة، قال: إنه بقي من عمري أربعون سنة، قالوا: إنك قد وهبتها لابنك داود، قال: ما وهبت لأحد شيئا، فأخرج الله تعالى الكتاب وشهد عليه ملائكته - في رواية: وأتم لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة ". خرجه الترمذي أيضا. وفي قوله "فاكتبوه" إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبينة له

المعربة عنه، للاختلاف المتوهم بين المتعاملين، المعرفة للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه. والله أعلم.
العاشرة: - ذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها، فرض بهذه الآية، بيعا كان أو قرضا، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود، وهو اختيار الطبري. وقال ابن جريج: من ادّان فليكتب، ومن باع فليشهد. وقال الشعبي: كانوا يرون أن قوله { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة: 283] ناسخ لأمره بالكتب. وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري. وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضا}. وقال الجمهور: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق. قال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة. ابن عطية: وهذا هو القول الصحيح. ولا يترتب نسخ في هذا، لأن الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ} قال عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب، وقاله الشعبي، وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب. السدي: واجب مع الفراغ. وحذفت اللام من الأول وأثبتت في الثاني، لأن الثاني غائب والأول للمخاطب. وقد ثبتت في المخاطب، ومنه قوله تعالى: { فلتفرحوا} بالتاء. وتحذف في الغائب، ومنه:
محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا
الثانية عشرة: - قوله تعالى : {بِالْعَدْلِ} أي بالحق والمعدلة، أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل. وإنما قال "بينكم " ولم يقل أحدكم، لأنه لما كان الذي له الدين يتهم في الكتابة الذي عليه الدين وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتبا غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمه موادة لأحدهما على الآخر. وقيل: إن الناس لما كانوا يتعاملون

حتى لا يشذ أحدهم عن المعاملة، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب، أمر الله سبحانه أن يكتب بينهم كاتب بالعدل.
الثالثة عشرة: - الباء في قوله تعالى "بالعدل" متعلقة بقوله: "وليكتب" وليست متعلقة بـ "كاتب" لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها. أما المنتصبون لكتبها فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين. قال مالك رحمه الله تعالى: لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} .
قلت: فالباء على هذا متعلقة بـ "كاتب" أي ليكتب بينكم كاتب عدل، فـ "بالعدل" في موضع الصفة.
الرابعة عشرة: - قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} نهى الله الكاتب عن الإباء،
واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد، فقال الطبري والربيع: واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب. وقال الحسن: ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر على كاتب غيره، فيضر صاحب الدين إن امتنع، فإن كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره. السدي: واجب عليه في حال فراغه، وقد تقدم. وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله "ولا يأب" منسوخ بقوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} .
قلت: هذا يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد كان وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع حتى نسخه قوله تعالى: { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} .وهذا بعيد، فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من

كان. ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها، لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة. ابن العربي: والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذه حقه. وأبى يأبى شاذ، ولم يجئ إلا قلى يقلى وأبى يأبى وغسى يغسى وجبى الخراج يجبى، وقد تقدم.
الخامسة عشرة: - قوله تعالى: { كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} الكاف في "كما" متعلقة بقوله "أن يكتب" المعنى كتبا كما علمه الله. ويحتمل أن تكون متعلقة بما في قوله "ولا يأب" من المعنى، أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو وليفضل كما أفضل الله عليه. ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله "أن يكتب" ثم يكون "كما علمه الله" ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله {فَلْيَكْتُبْ}.
السادسة عشرة: - قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} وهو المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه. والإملاء والإملال لغتان، أملّ وأملى، فأمل لغة أهل الحجاز وبني أسد، وتميم تقول: أمليت. وجاء القرآن باللغتين، قال عز وجل: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5]. والأصل أمللت، أبدل من اللام ياء لأنه أخف. فأمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون بسبب إقراره. وأمره تعالى بالتقوى فيما يمل، ونهى عن أن يبخس شيئا من الحق. والبخس النقص. ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228].
السابعة عشرة: - قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} قال بعض الناس: أي صغيرا. وهو خطأ فإن السفيه قد يكون كبيرا على ما يأتي بيانه. {أَوْ ضَعِيفاً} أي كبيرا لا عقل له. {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ} جعل الله الذي عليه الحق أربعة أصناف: مستقل بنفسه يمل، وثلاثة أصناف لا يملون وتقع نوازلهم في كل زمن، وكون الحق يترتب لهم في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك، وهم السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل. فالسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء

منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج. والبذيء اللسان يسمى سفيها، لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة. والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى، قال الشاعر:
نخاف أن تسفه أحلامنا ... ويجهل الدهر مع الحالم
وقال ذو الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
أي استضعفها واستلانها فحركها. وقد قالوا: الضعف بضم الضاد في البدن وبفتحها في الرأي، وقيل: هما لغتان. والأول أصح، لما روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وفي عقله ضعف فأتى أهله نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله، احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقله ضعف. فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع، فقال: يا رسول الله، إني لا أصبر عن البيع ساعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن كنت غير تارك البيع فقل ها وها ولا خلابة" وأخرجه أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي الترمذي من حديث أنس وقال: هو صحيح، وقال: إن رجلا كان في عقله ضعف، وذكر الحديث. وذكره البخاري في التاريخ وقال فيه: " إذا بايعت فقل لا خلابة وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال ". وهذا الرجل هو حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري والد يحيى وواسع ابني حبان: وقيل: وهو منقذ جد يحيى وواسع شيخي مالك ووالده حبان، أتى عليه مائة وثلاثون سنة، وكان شج في بعض مغازيه مع النبي صلى الله عليه وسلم مأمومة خبل منها عقله ولسانه: وروى الدارقطني قال: كان حبان بن منقذ رجلا ضعيفا ضرير البصر وكان قد سفع في رأسه مأمومة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم له الخيار فيما يشتري ثلاثة أيام، وكان قد ثقل لسانه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بع وقل لا خلابة" فكنت

أسمعه يقول: لا خذابة لا خذابة. أخرجه من حديث ابن عمرو. الخلابة: الخديعة، ومنه قولهم: "إذا لم تغلب فاخلب".
الثامنة عشرة: - اختلف العلماء فيمن يخدع في البيوع لقلة خبرته وضعف عقله فهل يحجر عليه أولا فقال بالحجر عليه أحمد وإسحاق. وقال آخرون: لا يحجر عليه. والقولان في المذهب، والصحيح الأول، لهذه الآية، ولقوله في الحديث: " يا نبي الله احجر على فلان ". وإنما ترك الحجر عليه لقوله: "يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع". فأباح له البيع وجعله خاصا به، لأن من يخدع في البيوع ينبغي أن يحجر عليه لا سيما إذا كان ذلك لخبل عقله. ومما يدل على الخصوصية ما رواه محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمرو وكان رجلا قد أصابته آفة في رأسه فكسرت لسانه ونازعته عقله، وكان لا يدع التجارة ولا يزال يغبن، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: " إذا بعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سلعة تبتاعها بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها ". وقد كان عمَّر عمرا طويلا، عاش ثلاثين ومائة سنة، وكان في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه حين فشا الناس وكثروا، يبتاع البيع في السوق ويرجع به إلى أهله وقد غبن غبنا قبيحا، فيلومونه ويقولون له تبتاع ؟ فيقول: أنا بالخيار، إن رضيت أخذت وإن سخطت رددت، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلني بالخيار ثلاثا. فيرد السلعة على صاحبها من الغد وبعد الغد، فيقول: والله لا أقبلها، قد أخذت سلعتي وأعطيتني دراهم، قال فيقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلني بالخيار ثلاثا. فكان يمر الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول للتاجر: ويحك ! إنه قد صدق، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان جعله بالخيار ثلاثا. أخرجه الدارقطني. وذكره أبو عمر في الاستيعاب وقال: ذكره البخاري في التاريخ عن عياش بن الوليد عن عبدالأعلى عن ابن إسحاق.

التاسعة عشرة : - قوله تعالى: {أَوْ ضَعِيفاً} الضعيف هو المدخول العقل الناقص الفطرة العاجز عن الإملاء، إما لعيه أو لخرسه أو جهله بأداء الكلام، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا. والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير، ووليه وصيه أو أبوه والغائب عن موضوع الإشهاد، إما لمرض أو لغير ذلك من العذر. ووليه وكيله. وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممن لا يستطيع. فهذه أصناف تتميز، وسيأتي في "النساء" بيانها والكلام عليها
إن شاء الله تعالى.
الموفية عشرين: - قوله تعالى: { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ذهب الطبري إلى أن الضمير في "وليه" عائد على "الحق" وأسند في ذلك عن الربيع، وعن ابن عباس. وقيل: هو عائد على "الذي عليه الحق" وهو الصحيح. وما روي عن ابن عباس لا يصح. وكيف تشهد البينة على شيء وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين ! هذا شي ليس في الشريعة. إلا أن يريد قائله: إن الذي لا يستطيع أن يمل لمرض أو كبر سن لثقل لسانه عن الإملاء أو لخرس، وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه عن الإملاء لخرس ولي عند أحد العلماء، مثل ما ثبت على الصبي والسفيه عند من يحجر عليه. فإذا كان كذلك فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز، فإذا كمل الإملاء أقر به. وهذا معنى لم تعن الآية إليه: ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل لمرض ومن ذكر معه.
الحادية والعشرين: - ما قال الله تعالى: { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} دل ذلك على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره، فيقتضي ذلك قبول قول الراهن مع يمينه إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين والرهن قائم، فيقول الراهن رهنت بخمسين والمرتهن يدعي مائة، فالقول قول الراهن والرهن قائم، وهو مذهب أكثر الفقهاء: سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، واختاره ابن المنذر قال: لأن المرتهن مدع للفضل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه". وقال مالك: القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن ولا يصدق على أكثر من ذلك. فكأنه يرى أن الرهن ويمينه شاهد

للمرتهن، وقوله تعالى : { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} رد عليه. فإن الذي عليه الحق هو الراهن. وستأتي هذه المسألة. وإن قال قائل: إن الله تعالى جعل الرهن بدلا عن الشهادة والكتاب، والشهادة دالة على صدق المشهود له فيما بينه وبين قيمة الرهن، فإذا بلغ قيمته فلا وثيقة في الزيادة. قيل له: الرهن لا يدل على أن قيمته تجب أن تكون مقدار الدين، فإنه ربما رهن الشيء بالقليل والكثير. يصدق المرتهن مع اليمين في مقدار الدين إلى أن يساوي قيمة الرهن. وليس العرف على ذلك فربما نقص الدين عن الرهن وهو الغالب، فلا حاصل لقولهم هذا.
الثانية والعشرون: - وإذا ثبت أن المراد الولي ففيه دليل على أن إقراره جائز على يتيمه، لأنه إذا أملاه فقد نفذ قوله عليه فيما أملاه.
الثالثة والعشرون: - وتصرف السفيه المحجور عليه دون إذن وليه فاسد إجماعا مفسوخ أبدا لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا. فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف يأتي بيانه في "النساء" إن شاء الله تعالى.
الرابعة والعشرون: - قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا} الاستشهاد طلب الشهادة. واختلف الناس هل هي فرض أو ندب، والصحيح أنه ندب على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الخامسة والعشرون: - قوله تعالى: {شَهِيدَيْنِ} رتب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود وجعل في كل فن شهيدين إلا في الزنا، على ما يأتي بيانه في سورة "النساء". وشهيد بناء مبالغة، وفي ذلك دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه، فكأنه إشارة إلى العدالة. والله أعلم.
السادسة والعشرون: - قوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} " نص في رفض الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم. وقال مجاهد: المراد الأحرار، واختاره القاضي أبو إسحاق وأطنب فيه. وقد اختلف العلماء في شهادة العبيد، فقال شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق

وأبو ثور: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا، وغلبوا لفظ الآية. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد، وغلبوا نقص الرق، وأجازها الشعبي والنخعي في الشيء اليسير. والصحيح قول الجمهور، لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] وساق الخطاب إلى قوله {مِنْ رِجَالِكُمْ} فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون، والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة. فإن قالوا: إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخرها. قيل لهم: هذا يخصه قوله تعالى: { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} على ما يأتي بيانه. وقوله {من رجالكم} دليل على أن الأعمى من أهل الشهادة لكن إذا علم يقينا، مثل ما روي عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: "ترى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع". وهذا يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطئ. نعم يجوز له وطء امرأته إذا عرف صوتها، لأن الإقدام على الوطء جائز بغلبة الظن، فلو زفت إليه امرأة وقيل: هذه امرأتك وهو لا يعرفها جاز له وطؤها، ويحل له قبول هدية جاءته بقول الرسول. ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف أو غصب لما جاز له إقامة الشهادة على المخْبَر عنه، لأن سبيل الشهادة اليقين، وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن، ولذلك قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف: إذا علمه قبل العمى جازت الشهادة بعد العمى، ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه كالغيبة والموت في المشهود عليه. فهذا مذهب هؤلاء. والذي يمنع أداء الأعمى فيما تحمل بصيرا لا وجه له، وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن العلماء من قبل شهادة الأعمى فيما طريقه الصوت، لأنه رأى الاستدلال بذلك يترقى إلى حد اليقين، ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصور والألوان. وهذا ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير.
قلت: مذهب مالك في شهادة الأعمى على الصوت جائزة في الطلاق وغيره إذا عرف الصوت. قال ابن قاسم: قلت لمالك: فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط ولا يراه،

يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت ؟ قال: قال مالك: شهادته جائزة. وقال ذلك علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد وشريح الكندي والشعبي وعطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد وربيعة وإبراهيم النخعي ومالك والليث.
السابعة والعشرون: - قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين، هذا قول الجمهور. "فرجل" رفع بالابتداء، "وامرأتان" عطف عليه والخبر محذوف. أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما. ويجوز النصب في غير القرآن، أي فاستشهدوا رجلا وامرأتين. وحكى سيبويه: إن خنجرا فخنجرا. وقال قوم: بل المعنى فإن لم يكن رجلان، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، فلفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهر منه قول الجمهور، أي إن لم يكن المستشهد رجلين، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما فليستشهد رجلا وامرأتين. فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية، ولم يذكرها في غيرها، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور، بشرط أن يكون معهما رجل. وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها، لأن الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها، فجعل فيها التوثق تارة بالكتبة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال. ولا يتوهم عاقل أن قوله تعالى: { إذا تداينتم بدين} يشتمل على دين المهر مع البضع، وعلى الصلح على دم العمد، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين، بل هي شهادة على النكاح. وأجاز العلماء شهادتهن منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة. وعلى مثل ذلك أجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة.
وقد اختلف العلماء في شهادة الصبيان في الجراح:
الثامنة والعشرون: - فأجازها مالك ما لم يختلفوا ولم يفترقوا. ولا يجوز أقل من شهادة اثنين منهم على صغير لكبير ولكبير على صغير. وممن كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح عبدالله بن الزبير. وقال مالك: وهو الأمر عندنا المجتمع عليه. ولم يجز الشافعي

وأبو حنيفة وأصحابه شهادتهم، لقوله تعالى : {مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ} وقوله: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وهذه الصفات ليست في الصبي.
التاسعة والعشرون: - ما جعل الله سبحانه شهادة امرأتين بدل شهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه، فكما له أن يحلف مع الشاهد عندنا، وعند الشافعي كذلك، يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضية. وخالف في هذا أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا اليمين مع الشاهد وقالوا: إن الله سبحانه قسم الشهادة وعددها، ولم يذكر الشاهد واليمين، فلا يجوز القضاء به لأنه يكون قسما زائدا على ما قسمه الله، وهذه زيادة على النص، وذلك نسخ. وممن قال بهذا القول الثوري والأوزاعي وعطاء والحكم بن عتيبة وطائفة. قال بعضهم: الحكم باليمين مع الشاهد منسوخ بالقرآن. وزعم عطاء أن أول من قضى به عبدالملك بن مروان، وقال: الحكم: القضاء باليمين والشاهد بدعة، وأول من حكم به معاوية. وهذا كله غلط وظن لا يغني من الحق شيئا، وليس من نفى وجهل كمن أثبت وعلم وليس في قول الله تعالى: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية، ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين مع الشاهد ولا أنه لا يتوصل إلى الحقوق ولا تستحق إلا بما ذكر فيها لا غير، فإن ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطالب، فإن ذلك يستحق به المال إجماعا وليس في كتاب الله تعالى، وهذا قاطع في الرد عليهم. قال مالك: فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يقال له: أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه ؟ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق، أن حقه لحق، وثبت حقه على صاحبه. فهذا مما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان، فبأي شيء أخذ هذا وفي أي كتاب الله وجده؟ فمن أقر فليقر باليمين مع الشاهد. قال علماؤنا: ثم العجب مع شهرة الأحاديث وصحتها بدعوا من عمل بها حتى نقضوا حكمه واستقصروا رأيه، مع أنه قد عمل بذلك الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب ومعاوية وشريح وعمر بن عبدالعزيز - وكتب به إلى عماله –

وإياس بن معاوية وأبو سلمة بن عبدالرحمن وأبو الزناد وربيعة، ولذلك قال مالك: وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من عمل السنة، أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم ! هذا إغفال شديد، ونظر غير سديد. روى الأئمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد. قال عمرو بن دينار: في الأموال خاصة، رواه سيف بن سليمان عن قيس بن سعد بن دينار عن ابن عباس. قال أبو عمر: هذا أصح إسناد لهذا الحديث، وهو حديث لا مطعن لأحد في إسناده، ولا خلاف بين أهل المعرفة بالحديث في أن رجاله ثقات. قال يحيى القطان: سيف بن سليمان ثَبْت، ما رأيت أحفظ منه. وقال النسائي: هذا إسناد جيد، سيف ثقة، وقيس ثقة. وقد خرج مسلم حديث ابن عباس هذا. قال أبو بكر البزار: سيف بن سليمان وقيس بن سعد ثقتان، ومن بعدهما يستغنى عن ذكرهما لشهرتهما في الثقة والعدالة. ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد، بل جاء عنهم القول به، وعليه جمهور أهل العلم بالمدينة. واختلف فيه عن عروة بن الزبير وابن شهاب، فقال معمر: سألت الزهري عن اليمين مع الشاهد فقال: هذا شيء أحدثه الناس، لابد من شاهدين. وقد روي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين، وبه قال مالك وأصحابه والشافعي وأتباعه وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الأثر، وهو الذي لا يجوز عندي خلافه، لتواتر الآثار به عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أهل المدينة قرنا بعد قرن. وقال مالك: يقضى باليمين مع الشاهد في كل البلدان، ولم يحتج في موطئه لمسألة غيرها. ولم يختلف عنه في القضاء باليمين مع الشاهد ولا عن أحد من أصحابه بالمدينة ومصر وغيرهما، ولا يعرف المالكيون في كل بلد غير ذلك من مذهبهم إلا عندنا بالأندلس، فإن يحيى بن يحيى زعم أنه لم ير الليث يفتي به ولا يذهب إليه. وخالف يحيى مالكا في ذلك مع مخالفته السنة والعمل بدار الهجرة. ثم اليمين مع الشاهد زيادة حكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قول الله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء: 24]. وكنهيه عن

أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع مع قوله: {قُلْ لا أَجِدُ} [الأنعام: 145]. وكالمسح على الخفين، والقرآن إنما ورد بغسل الرجلين أو مسحهما، ومثل هذا كثير. ولو جاز أن يقال: إن القرآن نسخ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد، لجاز أن يقال: إن القرآن في قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ} [البقرة: 275] وفي قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ناسخ لنهيه عن المزابنة وبيع الغرر وبيع ما لم يخلق، إلى سائر ما نهى عنه في البيوع، وهذا لا يسوغ لأحد، لأن السنة مبينة للكتاب. فإن قيل: إن ما ورد من الحديث قضية في عين فلا عموم. قلنا: بل ذلك عبارة عن تقعيد هذه القاعدة، فكأنه قال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم باليمين مع الشاهد. ومما يشهد لهذا التأويل ما رواه أبو داود في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين في الحقوق، ومن جهة القياس والنظر أنا وقد وجدنا اليمين أقوى من المرأتين، لأنهما لا مدخل لهما في اللعان واليمين تدخل في اللعان. وإذا صحت السنة فالقول بها يجب، ولا تحتاج السنة إلى مايتابعها، لأن من خالفها محجوج بها. وبالله التوفيق.
الموفية ثلاثين - وإذا تقرر وثبت الحكم باليمين مع الشاهد، فقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: ذلك في الأموال وما يتعلق بها دون حقوق الأبدان، للإجماع على ذلك من كل قائل باليمين مع الشاهد. قال: لأن حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان، بدليل قبول شهادة النساء فيها. وقد اختلف قول مالك في جراح العمد، هل يجب القَوَد فيها بالشاهد واليمين ؟ فيه روايتان: إحداهما أنه يجب به التخيير بين القود والدية. والأخرى أنه لا يجب به شيء، لأنه من حقوق الأبدان. قال: وهو الصحيح. قال مالك في الموطأ: وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة، وقاله عمرو بن دينار. وقال المازري: يقبل في المال المحض من غير خلاف، ولا يقبل في النكاح والطلاق المحضين من غير خلاف. وإن كان مضمون الشهادة

ما ليس بمال، ولكنه يؤدي إلى المال، كالشهادة بالوصية والنكاح بعد الموت، حتى لا يطلب من ثبوتها إلا المال إلى غير ذلك، ففي قبوله اختلاف، فمن راعى المال قبله كما يقبله في المال، ومن راعى الحال لم يقبله. وقال المهدوي: شهادة النساء في الحدود غير جائزة في قول عامة الفقهاء، وكذلك في النكاح والطلاق في قول أكثر العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، وإنما يشهدن في الأموال. وكل ما لا يشهدن فيه فلا يشهدن على شهادة غيرهن فيه، كان معهن رجل أو لم يكن، ولا ينقلن شهادة إلا مع رجل نقلن عن رجل وامرأة. ويقضى باثنتين منهن في كل ما لا يحضره غيرهن كالولادة والاستهلال ونحو ذلك. هذا كله مذهب مالك، وفي بعضه اختلاف.
الحادية والثلاثون - قوله تعالى: { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} في موضع رفع على الصفة لرجل وامرأتين. قال ابن بكير وغيره: هذه مخاطبة للحكام. ابن عطية: وهذا غير نبيل، وإنما الخطاب لجميع الناس، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض.
الثانية والثلاثون - لما قال الله تعالى: { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} دل على أن في الشهود من لا يرضي، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم، وذلك معنى زائد على الإسلام، وهذا قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل وإن كان مجهول الحال. وقال شريح وعثمان البتي وأبو ثور: هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا.
قلت فعمموا الحكم، ويلزم منه قبول شهادة البدوي على القروي إذا كان عدلا مرضيا وبه قال الشافعي ومن وافقه، وهو من رجالنا وأهل ديننا. وكونه بدويا ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي، قال الله تعالى{ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فـ "منكم" خطاب للمسلمين. وهذا يقتضي قطعا أن يكون معنى العدالة زائدا على الإسلام ضرورة، لأن الصفة زائدة

على الموصوف، وكذلك {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ} مثله، خلاف ما قال أبو حنيفة، ثم لا يعلم كونه مرضيا حتى يختبر حاله، فيلزمه ألا يكتفي بظاهر الإسلام. وذهب أحمد بن حنبل ومالك في رواية ابن وهب عنه إلى رد شهادة البدوي على القروي لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية" . والصحيح جواز شهادته إذا كان عدلا مرضيا، على ما يأتي في "النساء" و"براءة" إن شاء الله تعالى. وليس في حديث أبي هريرة فرق بين القروي في الحضر أو السفر، ومتى كان في السفر فلا خلاف في قبوله.
قال علماؤنا: العدالة هي الاعتدال في الأحوال الدينية، وذلك يتم بأن يكون مجتنبا للكبائر محافظا على مروءته وعلى ترك الصغائر، ظاهر الأمانة غير مغفل. وقيل: صفاء السريرة واستقامة السيرة في ظن المعدل، والمعنى متقارب.
الثالثة والثلاثون: - لما كانت الشهادة ولاية عظيمة ومرتبة منيفة، وهي قبول قول الغير على الغير، شرط تعالى فيها الرضا والعدالة. فمن حكم الشاهد. أن تكون له شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها حتى تكون له مزية على غيره، توجب له تلك المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله، ويحكم بشغل ذمة المطلوب بشهادته. وهذا أدل دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات عند علمائنا على ما خفي من المعاني والأحكام. وسيأتي لهذا في سورة "يوسف" زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وفيه ما يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام، فربما تفرس في الشاهد غفلة أو ريبة فيرد شهادته لذلك.
الرابعة والثلاثون قال أبو حنيفة: يكتفى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود. وهذه مناقصة تسقط كلامه وتفسد عليه مرامه، لأننا نقول: حق من الحقوق. فلا يكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود، قاله ابن العربي.
الخامسة والثلاثون: - وإذ قد شرط الله تعالى الرضا والعدالة في المداينة كما بينا فاشتراطها في النكاح أولى، خلافا لأبي حنيفة حيث قال: إن النكاح ينعقد. بشهادة فاسقين. فنفى

الاحتياط المأمور به في الأموال عن النكاح، وهو أولى لما يتعلق به من الحل والحرمة والحد والنسب.
قلت: قول أبي حنيفة في هذا الباب ضعيف جدا، لشرط الله تعالى الرضا والعدالة، وليس يعلم كونه مرضيا بمجرد الإسلام، وإنما يعلم بالنظر في أحواله حسب ما تقدم. ولا يغتر بظاهر قوله: أنا مسلم. فربما انطوى على ما يوجب رد شهادته، مثل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة: 204] إلى قوله: { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقين: 4] الآية.
السادسة والثلاثون: - قوله تعالى: { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } قال أبو عبيد: معنى تضل تنسى. والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء، ويبقى المرء حيران ببن ذلك ضالا. ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها. وقرأ حمزة "إن" بكسر الهمزة على معنى الجزاء، والفاء في قوله: { فَتُذَكِّرَ} جوابه، وموضع الشرط وجوابه رفع على الصفة للمرأتين والرجل، وارتفع "تذكر" على الاستئناف، كما ارتفع قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] هذا قول سيبويه. ومن فتح "أن" فهي مفعول له والعامل فيها محذوف. وانتصب "فتذكر" على قراءة الجماعة عطفا على الفعل المنصوب بأن. قال النحاس: ويجوز "تضل" بفتح التاء والضاد، ويجوز تضل بكسر التاء وفتح الضاد. فمن قال: "تضل" جاء به على لغة من قال: ضَلِلْت تَضَل. وعلى هذا تقول تِضل فتكسر التاء لتدل على أن الماضي فعلت. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر "أن تضل" بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى، وهكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني. وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة. تقول: أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما.
السابعة والثلاثون: - قوله تعالى: {فَتُذَكِّرَ} خفف الذال والكاف ابن كثير وأبو عمرو، وعليه فيكون المعنى أن تردها ذكرا في الشهادة، لأن شهادة المرأة نصف شهادة، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر، قاله سفيان بن عيينة وأبو عمرو بن العلاء. وفيه

بعد، إذ لا يحصل في مقابلة الضلال الذي معناه النسيان إلا الذكر، وهو معنى قراءة الجماعة "فتذكر" بالتشديد، أي تنبهها إذا غفلت ونسيت.
قلت: وإليها ترجع قراءة أبي عمرو، أي إن تنس إحداهما فتذكرها الأخرى، يقال: تذكرت الشيء وأذكرته وذكرته بمعنى، قاله في الصحاح.
الثامنة والثلاثون: - قوله تعالى: { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال الحسن: جمعت هذه الآية أمرين، وهما ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها، وقاله ابن عباس. وقال قتادة والربيع وابن عباس: أي لتحملها وإثباتها في الكتاب. وقال مجاهد: معنى الآية إذا دعيت إلى أداء شهادة وقد حصلت عندك. وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا، قال مجاهد: فأما إذا دعيت لتشهد أولا فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا، وقاله أبو مجلز وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم. وعليه فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحالة التي يجوز أن تراد بقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} لإثبات الشهادة فإذا ثبتت شهادتهم ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو بحضورهما عند الحاكم، على ما يأتي. وقال ابن عطية: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر، وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له. وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد، لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء.
قلت: وقد يستلوح من هذه الآية دليل على أن جائزا للإمام أن يقيم للناس شهودا ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا لها، وإن لم

يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت. فيكون المعنى ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا. والله أعلم. فإن قيل: هذه شهادة بالأجرة، قلنا: إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال، وذلك كأرزاق القضاة والولاة وجميع المصالح التي تعن للمسلمين وهذا من جملتها. والله أعلم. وقد قال تعالى: { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] ففرض لهم.
التاسعة والثلاثون: - لما قال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} دل على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم، وهذا أمر بني عليه الشرع وعمل به في كل زمان وفهمته كل أمة، ومن أمثالهم: "في بيته يؤتى الحكم".
الموفية أربعين: - وإذا ثبت هذا فالعبد خارج عن جملة الشهداء، وهو يخص عموم قوله: { من رجالكم }لأنه لا يمكنه أن يجيب، ولا يصح له أن يأتي، لأنه لا استقلال له بنفسه، وإنما يتصرف بإذن غيره، فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منزل الولاية. نعم ! وكما انحط عن فرض الجمعة والجهاد والحج، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الحادية والأربعين: - قال علماؤنا: هذا في حال الدعاء إلى الشهادة. فأما من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقها الذي ينتفع بها، فقال قوم: أداؤها ندب لقوله تعالى: { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ففرض الله الأداء عند الدعاء، فإذا لم يدع كان ندبا، لقوله عليه السلام: "خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" رواه الأئمة. والصحيح أن أداءها فرض وان لم يسألها إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته، أو بطلاق أو عتق على من أقام على تصرفه على الاستمتاع بالزوجة واستخدام العبد إلى غير ذلك، فيجب على من تحمل شيئا من ذلك أداء تلك الشهادة، ولا يقف أداؤها على أن تسأل منه فيضيع الحق، وقد قال تعالى: { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وقال: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما ". فقد تعين عليه نصره بأداء الشهادة التي له عنده إحياء لحقه الذي أماته الإنكار.

الثالثة والاربعون : - لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادة على أحد الأوجه التي ذكرناها فلم يؤدها أنها جرحة في الشاهد والشهادة، ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين وهذا قول ابن القاسم وغيره. وذهب بعضهم إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جرحة في تلك الشهادة نفسها خاصة، فلا يصلح له أداؤها بعد ذلك. والصحيح الأول، لأن الذي يوجب جرحته إنما هو فسقه بامتناعه من القيام بما وجب عليه من غير عذر، والفسق يسلب أهلية الشهادة مطلقا، وهذا واضح.
الثالثةو الاربعون: - لا تعارض بين قوله عليه السلام: " خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها " وبين قوله عليه السلام في حديث عمران بن حصين: " إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - ثم قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثا - ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن" أخرجهما الصحيحان. وهذا الحديث محمول على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يراد به شاهد الزور، فإنه يشهد بما لم يستشهد، أي بما لم يتحمله ولا حمله. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بباب الجابية فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كمقامي فيكم. ثم قال: "يا أيها الناس اتقوا الله في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب وشهادة الزور ". الوجه الثاني: أن يراد به الذي يحمله الشره على تنفيذ ما يشهد به، فيبادر بالشهادة قبل أن يسألها، فهذه شهادة مردودة، فإن ذلك يدل على هوى غالب على الشاهد. الثالث ما قاله إبراهيم النخعي راوي طرق بعض هذا الحديث: كانوا ينهوننا ونحن غلمان عن العهد والشهادات.
قوله تعالى: { وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} "تسأموا" معناه تملوا. قال الأخفش: يقال سئمت أسأم سأما وسآمة وسآما وسأْمة وسأَما، كما قال الشاعر:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ...
ثمانين حولا لا أبالك يسأم

{أَنْ تَكْتُبُوهُ} في موضع نصب بالفعل. {صَغِيراً أَوْ كَبِيراً} حالان من الضمير في "تكتبوه" وقدم الصغير اهتماما به. وهذا النهي عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم فخيف عليهم أن يملوا الكتب، ويقول أحدهم: هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه، فأكد تعالى التحضيض في القليل والكثير. قال علماؤنا: إلا ما كان من قيراط ونحوه لنزارته وعدم تشوف النفس إليه إقرارا وإنكارا.
الخامسة والاربعون: - قوله تعالى : {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} " معناه أعدل، يعني أن يكتب القليل والكثير ويشهد عليه. {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} أي أصح وأحفظ. "وأدنى" معناه أقرب. و{ تَرْتَابُوا} تشكوا.
السادسة والاربعون: - قوله تعالى: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} دليل على أن الشاهد إذا رأى الكتاب ولم يذكر الشهادة لا يؤديها لما دخل عليه من الريبة فيها، ولا يؤدي إلا ما يعلم لكنه يقول: هذا خطي ولا أذكر الآن ما كتبت فيه. قال ابن المنذر: أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يمنع أن يشهد الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة. واحتج مالك على جواز ذلك بقوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81]. وقال بعض العلماء: لما نسب الله تعالى الكتابة إلى العدالة وسعه أن يشهد على خطه وإن لم يتذكر. ذكر ابن المبارك عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه في الرجل يشهد على شهادة فينساها قال: لا بأس أن يشهد إن وجد علامته في الصك أو خط يده. قال ابن المبارك: استحسنت هذا جدا. وفيما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكم في أشياء غير واحدة بالدلائل والشواهد، وعن الرسل من قبله ما يدل على صحة هذا المذهب. والله أعلم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في "الأحقاف" إن شاء الله تعالى.
السابعة والاربعون: - قوله تعالى: {أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} "أن" في موضع نصب استثناء ليس من الأول. قال الأخفش أبو سعيد: أي إلا أن تقع تجارة، فكان بمعنى وقع وحدث. وقال غيره: "تديرونها" الخبر. وقرأ عاصم وحده "تجارة"

على خبر كان واسمها مضمر فيها. "حاضرة" نعت لتجارة، والتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة، أو إلا أن تكون المبايعة تجارة، هكذا قدره مكي وأبو علي الفارسي، وقد تقدم نظائره والاستشهاد عليه. ولما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه لا في كثير كالأملاك ونحوها. وقال السدي والضحاك: هذا فيما كان يدا بيد.
الثامنة والاربعون: - قوله تعالى: { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض. ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا يقبل البينونة ولا يغاب عليه، حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك مبايعة الدين، فكان الكتاب توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب. فأما إذا تفاصلا في المعاملة وتقابضا وبان كل واحد منهما بما ابتاعه من صاحبه، فيقل في العادة خوف التنازع إلا بأسباب غامضة. ونبه الشرع على هذه المصالح في حالتي النسيئة والنقد وما يغاب عليه وما لا يغاب، بالكتاب والشهادة والرهن. قال الشافعي: البيوع ثلاثة: بيع بكتاب وشهود، وبيع برهان، وبيع بأمانة، وقرأ هذه الآية. وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد، وإذا باع بنسيئة كتب.
التاسعة والاربعون: - قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا } قال الطبري: معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره. واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو الندب، فقال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي وابنه أبو بكر. هو على الوجوب، ومن أشدهم في ذلك عطاء قال: أشهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث أو أقل من ذلك، فإن الله عز وجل يقول: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} . وعن إبراهيم قال: أشهد إذا بعت وإذا اشتريت ولو دَسْتَجَةَ بَقَلٍ. وممن كان يذهب إلى هذا ويرجحه الطبري، وقال: لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلا أن يشهد، وإلا كان مخالفا كتاب الله عز وجل، وكذا إن كان إلى أجل فعليه أن يكتب ويشهد إن

وجد كاتبا. وذهب الشعبي والحسن إلى أن ذلك على الندب والإرشاد لا على الحتم. ويحكى أن هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وزعم ابن العربي أن هذا قول الكافة، قال: وهو الصحيح. ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك. قال وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم وكتب. قال: ونسخة كتابه: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشترى منه عبدا - أو أمة - لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم". وقد باع ولم يشهد، واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد. ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة.
قلت: قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك. وحديث العداء هذا أخرجه الدارقطني وأبو داود. وكان إسلامه بعد الفتح وحنين، وهو القائل: قاتلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلم يظهرنا الله ولم ينصرنا، ثم أسلم فحسن إسلامه. ذكره أبو عمر، وذكر حديثه هذا، وقال في آخره: قال الأصمعي: سألت سعيد بن أبي عروبة عن الغائلة فقال: الإباق والسرقة والزنا، وسألته عن الخبثة فقال: بيع أهل عهد المسلمين. وقال الإمام أبو محمد بن عطية: والوجوب في ذلك قلق، أما في الدقائق فصعب شاق، وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستئلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحيي من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كله في الائتمان ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا، لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا. وحكى المهدوي والنحاس ومكي عن قوم أنهم قالوا: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} منسوخ بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة: 283] وأسنده النحاس عن أبي سعيد الخدري، وأنه تلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ } إلى قوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]. قال: نسخت هذه الآية ما قبلها. قال النحاس: وهذا قول الحسن والحكم وعبدالرحمن بن زيد. قال الطبري: وهذا لا معنى له، لأن هذا حكم غير

الأول، وإنما هذا حكم من لم يجد كاتبا قال الله عز وجل: "{ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً - أي فلم يطالبه برهن - فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]. قال: ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول لجاز أن يكون قوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] الآية ناسخا لقوله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 5] الآية ولجاز أن يكون قوله عز وجل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] ناسخا لقوله عز وجل: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وقال بعض العلماء: إن قوله تعالى: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} لم يتبين تأخر نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد، بل وردا معا. ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة. قال: وقد روي عن ابن عباس أنه قال لما قيل له: إن آية الدين منسوخة قال: لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ قال: والإشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا، منها الكتاب، ومنها الرهن، ومنها الإشهاد. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب. فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد. وما زال الناس يتبايعون حضرا وصفرا وبرا وبحرا وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه.
قلت : هذا كله استدلال حسن، وأحسن منه ما جاء من صريح السنة في ترك الإشهاد، وهو ما خرجه الدارقطني عن طارق بن عبدالله المحاربي قال: "أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة: حتى نزلنا قريبا من المدينة ومعنا ظعينة لنا. فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه، فقال: من أين أقبل القوم ؟ فقلنا: من الربذة وجنوب الربذة. قال: ومعنا جمل أحمر، فقال: تبيعوني جملكم هذا؟ فقلنا نعم. قال بكم ؟ قلنا: بكذا وكذا صاعا من تمر. قال: فما استوضعنا شيئا وقال: قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل حتى

دخل المدينة فتوارى عنا، فتلاومنا بيننا وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه! فقالت الظعينة: لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم. ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه. فلما كان العشاء أتانا رجل فقال: السلام عليكم، أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى تستوفوا. قال: فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا". وذكر الحديث الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي، الحديث. وفيه: فطفق الأعرابي يقول: هلم شاهدا يشهد أني بعتك - قال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: "بم تشهد"؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. أخرجه النسائي وغيره.
الموفية خمسين: - قوله تعالى: { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} فيه ثلاثة أقوال:
الأول : لا يكتب الكاتب ما لم يمل عليه، ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها. قاله الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم.
الثاني: وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن المعنى لا يمتنع الكاتب أن يكتب ولا الشاهد أن يشهد. "ولا يضار" على هذين القولين أصله يضارر بكسر الراء، ثم وقع الإدغام، وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول، قال: لأن بعده. {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] فالأولى أن تكون، من شهد بغير الحق أو حرف في الكتابة أن يقال له: فاسق، فهو أولى بهذا ممن سأل شاهدا أن يشهد وهو مشغول. وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق يضارر بكسر الراء الأولى.
الثالث: وقال مجاهد والضحاك وطاوس والسدي وروي عن ابن عباس: معنى الآية: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} بأن يدعى الشاهد إلى الشهادة والكاتب إلى الكتب وهما مشغولان، فإذا اعتذرا بعذرهما أخرجهما وآذاهما، وقال: خالفتما أمر الله، ونحو هذا من القول

فيضر بهما. وأصل "يضار" على هذا يضارر بفتح الراء، وكذا قرأ ابن مسعود "يضارر" بفتح الراء الأولى، فنهى الله سبحانه عن هذا، لأنه لو أطلقه لكان فيه شغل لهما عن أمر دينهما ومعاشهما. ولفظ المضارة، إذ هو من اثنين، يقتضي هذه المعاني. والكاتب والشهيد على القولين الأولين رفع بفعلهما، وعلى القول الثالث رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله.
الحادية والخمسون: - قوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا} يعني المضارة. {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أي معصية، عن سفيان الثوري. فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان، وذلك من الكذب المؤذي في الأموال والأبدان، وفيه إبطال الحق. وكذلك إذايتهما إذا كانا مشغولين معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله. وقوله "بكم" تقديره فسوق حال بكم.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه، أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانا، أي فيصلا يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29]. والله أعلم.
*3*الآية: 283 {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
فيه أربع وعشرون مسألة: -
الأولى: - لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص من

أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر. فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن. وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء ولو ائتمنني لأديت اذهبوا إليه بدرعي" فمات ودرعه مرهونة صلى الله عليه وسلم، على ما يأتي بيانه آنفا.
الثانية: - قال جمهور من العلماء: الرهن في السفر بنص التنزيل، وفي الحضر ثابت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا صحيح. وقد بينا جوازه في الحضر من الآية بالمعنى، إذا قد تترتب الأعذار في الحضر، ولم يرو عن أحد منعه في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود، متمسكين بالآية. ولا حجة فيها، لأن هذا الكلام وإن كان خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال. وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره. وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد. وأخرجه النسائي من حديث ابن عباس قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير لأهله.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً} قرأ الجمهور "كاتبا" بمعنى رجل يكتب. وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد والضحاك وعكرمة وأبو العالية "ولم تجدوا كتابا". قال أبو بكر الأنباري: فسره مجاهد فقال: معناه فإن لم تجدوا مدادا يعني في الأسفار. وروي عن ابن عباس "كتّابا". قال النحاس: هذه القراءة شاذة والعامة على خلافها. وقلما يخرج شيء عن قراءة العامة إلا وفيه مطعن، ونسق الكلام على كاتب، قال الله عز وجل قبل هذا: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} وكتاب يقتضي جماعة. قال ابن عطية: كتابا يحسن من حيث

لكل نازلة كاتب، فقيل للجماعة: ولم تجدوا كتابا. وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ "كُتُبا" وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة. وأما قراءة أبي وابن عباس "كتّابا" فقال النحاس ومكي: هو جمع كاتب كقائم وقيام. مكي: المعنى وإن عدمت الدواة والقلم والصحيفة. ونفي وجود الكاتب يكون بعدم أي آلة اتفق، ونفي الكاتب أيضا يقتضي نفي الكتاب، فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف.
الرابعة : - قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وقرأ أبو عمرو وابن كثير "فرهن" بضم الراء والهاء، وروي عنهما تخفيف الهاء. وقال الطبري: تأول قوم أن "رهنا" بضم الراء والهاء جمع رهان، فهو جمع جمع، وحكاه الزجاج عن الفراء. وقال المهدوي: "فرهان" ابتداء والخبر محذوف. والمعنى فرهان مقبوضة يكفي من ذلك. قال النحاس: وقرأ عاصم بن أبي النجود "فرهن" بإسكان الهاء، ويروى عن أهل مكة. والباب في هذا "رهان"، كما يقال: بغل وبغال، وكبش وكباش، ورُهُن سبيله أن يكون جمع رهان، مثل كتاب وكتب. وقيل: هو جمع رهن، مثل سقف وسقف، وحلق وحلق، وفرش وفرش، ونشر ونشر، وشبهه. "ورهن" بإسكان الهاء سبيله أن تكون الضمة حذفت لثقلها. وقيل: هو جمع رهن، مثل سهم حشر أي دقيق، وسهام حشر. والأول أولى، لأن الأول ليس بنعت وهذا نعت. وقال أبو علي الفارسي: وتكسير "رهن" على أقل العدد لم أعلمه جاء، فلو جاء كان قياسه أفْعُلا ككلب وأكلب، وكأنهم استغنوا بالقليل عن الكثير، كما استغنى ببناء الكثير عن بناء القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وقد استغنى ببناء القليل عن الكثير في رسن وأرسان، فرهن يجمع على بناءين وهما فُعُل وفِعَال. الأخفش: فَعْل على فُعُل قبيح وهو قليل شاذ، قال: وقد يكون "رهن" جمعا للرهان، كأنه يجمع رهن على رهان، ثم يجمع رهان على رُهُن، مثل فراش وفرش.

الخامسة: - معنى الرَّهن: احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم، وهكذا حده العلماء، وهو في كلام العرب بمعنى الدوام والاستمرار. وقال ابن سيده: ورهنه أي أدامه، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر:
الخبز واللحم لهم راهن ... وقهوة راووقها ساكب
قال الجوهري: ورهن الشيء رهنا أي دام. وأرهنت له الطعام والشراب أدمته لهم، وهو طعام راهن. والراهن: الثابت، والراهن: المهزول من الإبل والناس، قال
إما تري جسمي خلا قد رهن ... هزلا وما مجد الرجال في السمن
قال ابن عطية: ويقال في معنى الرهن الذي هو الوثيقة من الرهن: أرهنت إرهانا، حكاه بعضهم. وقال أبو علي: أرهنت في المغالاة، وأما في القرض والبيع فرهنت. وقال أبو زيد: أرهنت في السلعة إرهانا: غاليت بها، وهو في الغلاء خاصة. قال:
عيدية أرهنت فيها الدنانير
يصف ناقة. والعيد بطن من مهرة وإبل مهرة موصوفة بالنجابة. وقال الزجاج: يقال في الرهن: رهنت وأرهنت، وقاله ابن الأعرابي والأخفش. قال عبدالله بن همام السلولي:
فلما خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنتهم مالكا
قال ثعلب: الرواة كلهم على أرهنتهم، على أنه يجوز رهنته وأرهنته، إلا الأصمعي فإنه رواه وأرهنهم، على أنه عطف بفعل مستقبل على فعل ماض، وشبهه بقولهم: قمت وأصك وجهه، وهو مذهب حسن، لأن الواو واو الحال، فجعل أصك حالا للفعل الأول على معنى قمت صاكا وجهه، أي تركته مقيما عندهم، لأنه لا يقال: أرهنت الشيء، وإنما يقال: رهنته. وتقول: رهنت لساني بكذا، ولا يقال فيه: أرهنت. وقال ابن السكيت: أرهنت فيها بمعنى أسلفت. والمرتهن: الذي يأخذ الرهن. والشيء مرهون ورهين، والأنثى رهينة. وراهنت فلانا على كذا مراهنة: خاطرته. وأرهنت به ولدي إرهانا: أخطرتهم به خطرا. والرهينة واحدة

الرهائن، كله عن الجوهري. ابن عطية: ويقال بلا خلاف في البيع والقرض: رهنت رهنا، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع تقول: رهنت رهنا، كما تقول رهنت ثوبا.
السادسة: - قال أبو علي: ولما كان الرهن بمعنى الثبوت، والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى الراهن بوجه من الوجوه، لأنه فارق ما جعل باختيار المرتهن له.
قلت: هذا هو المعتمد عندنا في أن الرهن متى رجع إلى الراهن باختيار المرتهن بطل الرهن، وقاله أبو حنيفة، غير أنه قال: إن رجع بعارية أو وديعة لم يبطل. وقال الشافعي: إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقا لا يبطل حكم القبض المتقدم، ودليلنا {فرهان مقبوضة} ، فإذا خرج عن يد القابض لم يصدق ذلك اللفظ عليه لغة، فلا يصدق عليه حكما، وهذا واضح.
السابعة: - إذا رهنه قولا ولم يقبضه فعلا لم يوجب ذلك حكما، لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} قال الشافعي: لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم، وهذا ظاهر جدا. وقالت المالكية: يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن، لقوله تعالى: { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وهذا عقد، وقوله {بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] وهذا عهد. وقوله عليه السلام: " المؤمنون عند شروطهم " وهذا شرط، فالقبض عندنا شرط في كمال فائدته. وعندهما شرط في لزومه وصحته.
الثامنة: - قوله تعالى: {مَقْبُوضَةٌ} يقتضي بينونة المرتهن بالرهن. وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله. واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء: قبض العدل قبض. وقال ابن أبي ليلى وقتادة والحكم وعطاء: ليس بقبض، ولا يكون مقبوضا إلا إذا كان عند المرتهن، ورأوا ذلك تعبدا. وقول الجمهور أصح من جهة المعنى، لأنه إذا صار عند العدل صار مقبوضا لغة وحقيقة، لأن العدل نائب عن صاحب الحق وبمنزلة الوكيل، وهذا ظاهر.
التاسعة: - ولو وضع الرهن عل يدي عدل فضاع لم يضمن المرتهن ولا الموضوع على يده، لأن المرتهن لم يكن في يده شيء يضمنه. والموضوع على يده أمين والأمين غير ضامن.

العاشرة: - لما قال تعالى: {مَقْبُوضَةٌ} قال علماؤنا: فيه ما يقتضي بظاهره ومطلقه جواز رهن المشاع. خلافا لأبي حنيفة وأصحابه، لا يجوز عندهم أن يرهنه ثلث دار ولا نصفا من عبد ولا سيف، ثم قالوا: إذا كان لرجلين على رجل مال هما فيه شريكان فرهنهما بذلك أرضا فهو جائز إذا قبضاها. قال ابن المنذر: وهذا إجازة رهن المشاع، لأن كل واحد منهما مرتهن نصف دار. قال ابن المنذر: رهن المشاع جائز كما يجوز بيعه.
الحادية عشرة: - ورهن ما في الذمة جائز عند علمائنا، لأنه مقبوض خلافا لمن منع ذلك، ومثاله رجلان تعاملا لأحدهما على الآخر دين فرهنه دينه الذي عليه. قال ابن خويز منداد: وكل عرض جاز بيعه جاز رهنه، ولهذه العلة جوزنا رهن ما في الذمة، لأن بيعه جائز، ولأنه مال تقع الوثيقة به فجاز أن يكون رهنا، قياسا على سلعة موجودة. وقال من منع ذلك: لأنه لا يتحقق إقباضه والقبض شرط في لزوم الرهن، لأنه لا بد أن يستوفي الحق منه عند المحل، ويكون الاستيفاء من ماليته لا من عينه ولا يتصور ذلك في الدين.
الثانية عشرة: - روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة". وأخرجه أبو داود وقال بدل "يشرب" في الموضعين: "يحلب". قال الخطابي: هذا كلام مبهم ليس في نفس اللفظ بيان من يركب ويحلب، هل الراهن أو المرتهن أو العدل الموضوع على يده الرهن ؟.
قلت: قد جاء ذلك مبينا مفسرا في حديثين، وبسببهما اختلف العلماء في ذلك، فروى الدارقطني من حديث أبي هريرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته". أخرجه عن أحمد بن علي بن العلاء حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم حدثنا زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة. وهو قول أحمد وإسحاق: أن المرتهن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة. وقال أبو ثور: إذا كان الراهن ينفق عليه لم ينتفع به المرتهن. وان كان الراهن لا ينفق عليه وتركه

في يد المرتهن فأنفق عليه فله ركوبه واستخدام العبد. وقاله الأوزاعي والليث. الحديث الثاني خرجه الدارقطني أيضا، وفي إسناده مقال ويأتي بيانه - من حديث إسماعيل بن عياش عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يغلق الرهن ولصاحبه غنمه وعليه غرمه ". وهو قول الشافعي والشعبي وابن سيرين. وهو قول مالك وأصحابه. قال الشافعي: منفعة الرهن للراهن، ونفقته عليه، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الإحفاظ للوثيقة. قال الخطابي: وهو أولى الأقوال وأصحها، بدليل قوله عليه السلام: " لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه". قال الخطابي: وقوله: "من صاحبه أي لصاحبه". والعرب تضع "من" موضع اللام، كقولهم:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
قلت : قد جاء صريحا "لصاحبه" فلا حاجة للتأويل. وقال الطحاوي: كان ذلك وقت كون الربا مباحا، ولم ينه عن قرض جر منفعة، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين، ثم حرم الربا بعد ذلك. وقد أجمعت الأمة على أن الأمة المرهونة لا يجوز للراهن أن يطأها، فكذلك لا يجوز له خدمتها. وقد قال الشعبي: لا ينتفع من الرهن بشيء. فهذا الشعبي روى الحديث وأفتى بخلافه، ولا يجوز عنده ذلك إلا وهو منسوخ. وقال ابن عبدالبر وقد أجمعوا أن لبن الرهن وظهره للراهن. ولا يخلو من أن يكون احتلاب المرتهن له بإذن الراهن أو بغير إذنه، فإن كان بغير إذنه ففي حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه " ما يرده ويقضي بنسخه. وإن كان بإذنه ففي الأصول المجتمع عليها في تحريم المجهول والغرر وبيع ما ليس عندك وبيع ما لم يخلق، ما يرده أيضا، فإن ذلك كان قبل نزول تحريم الربا. والله أعلم.

وقال ابن خويز منداد: ولو شرط المرتهن الانتفاع بالرهن فلذلك حالتان: إن كان من قرض لم يجز، وإن كان من بيع أو إجارة جاز، لأنه يصير بائعا للسلعة بالثمن المذكور ومنافع الرهن مدة معلومة فكأنه بيع وإجارة، وأما في القرض فلأنه يصير قرضا جر منفعة، ولأن موضوع القرض أن يكون قربة، فإذا دخله نفع صار زيادة في الجنس وذلك ربا.
الثالثة عشرة: - لا يجوز غلق الرهن، وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه إن لم يأته به عند أجله. وكان هذا من فعل الجاهلية فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يغلق الرهن" هكذا قيدناه برفع القاف على الخبر، أي ليس يغلق الرهن. تقول: أغلقت الباب فهو مغلق. وغلق الرهن في يد مرتهنه إذا لم يفتك، قال الشاعر:
أجارتنا من يجتمع يتفرق ... ومن يك رهنا للحوادث يغلق
وقال زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
الرابعة عشرة: - روى الدارقطني من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يغلق الرهن له غنمه وعليه غرمه". زياد بن سعد أحد الحفاظ الثقات، وهذا إسناد حسن. وأخرجه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن". قال أبو عمر: وهكذا رواه كل من روى الموطأ عن مالك فيما علمت، إلا معن بن عيسى فإنه وصله، ومعن ثقة، إلا أني أخشى أن يكون الخطأ فيه من علي بن عبدالحميد الغضائري عن مجاهد بن موسى عن معن بن عيسى. وزاد فيه أبو عبدالله عمروس عن الأبهري بإسناده: "له غنمه وعليه غرمه". وهذه اللفظة قد اختلف الرواة في رفعها، فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما. ورواه ابن وهب وقال: قال يونس قال ابن شهاب: وكان سعيد بن المسيب يقول: الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه، فأخبر ابن شهاب أن هذا من قول سعيد لا عن النبي صلى الله عليه وسلم. إلا أن معمرا ذكره عن

ابن شهاب مرفوعا، ومعمر أثبت الناس في ابن شهاب. وتابعه على رفعه يحيى بن أبي أنيسة ويحيى ليس بالقوي. وأصل هذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللونها. وهو مع هذا حديث لا يرفعه أحد منهم وإن اختلفوا في تأويله ومعناه. ورواه الدارقطني أيضا عن إسماعيل بن عياش عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعا. قال أبو عمر: لم يسمعه إسماعيل من ابن أبي ذئب وإنما سمعه من عباد بن كثير عن ابن أبي ذئب، وعباد عندهم ضعيف لا يحتج به. وإسماعيل عندهم أيضا غير مقبول الحديث إذا حدث عن غير أهل بلده، فإذا حدث عن الشاميين فحديثه مستقيم، وإذا حدث عن المدنيين وغيرهم ففي حديثه خطأ كثير واضطراب.
الخامسة عشرة: - نماء الرهن داخل معه إن كان لا يتميز كالسمن، أو كان نسلا كالولادة والنتاج، وفي معناه فسيل النخل، وما عدا ذلك من غلة وثمرة ولبن وصوف فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه. والفرق بينهما أن الأولاد تبع في الزكاة للأمهات، وليس كذلك الأصواف والألبان وثمر الأشجار، لأنها ليست تبعا للأمهات في الزكاة ولا هي في صورها ولا في معناها ولا تقوم معها، فلها حكم نفسها لا حكم الأصل خلاف الولد والنتاج. والله أعلم بصواب ذلك.
السادسة عشرة: - ورهن من أحاط الديْن بماله جائز ما لم يفلس، ويكون المرتهن أحق بالرهن من الغرماء، قاله مالك وجماعة من الناس. وروي عن مالك خلاف هذا - وقاله عبدالعزيز بن أبي سلمة - أن الغرماء يدخلون معه في ذلك وليس بشيء، لأن من لم يحجر عليه فتصرفاته صحيحة في كل أحواله من بيع وشراء، والغرماء عاملوه على أنه يبيع ويشتري ويقضي، لم يختلف قول مالك في هذا الباب، فكذلك الرهن. والله أعلم.
السابعة عشرة: - قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء وترك المطل. يعني إن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق وثقة فليؤد له ما عليه ائتمن. وقوله { فَلْيُؤَدِّ} من الأداء مهموز، وهو جواب الشرط ويجوز تخفيف همزه فتقلب الهمزة واوا ولا تقلب ألفا ولا تجعل بين بين، لأن الألف لا يكون

ما قبلها إلا مفتوحا. وهو أمر معناها الوجوب، بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون، وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير.
الثامنة عشرة: - قوله تعالى: {أَمَانَتَهُ} الأمانة مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة، كما قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5].
التاسعة عشرة: - قوله تعالى: { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} أي في ألا يكتم من الحق شيئا. وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } تفسير لقوله: "ولا يضارر" بكسر العين. نهى الشاهد عن أن يضر بكتمان الشهادة، وهو نهي على الوجوب بعدة قرائن منها الوعيد. وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق. وقال ابن عباس: على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد، ويخبر حيثما استخبر، قال: ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي. وقرأ أبو عبدالرحمن "ولا يكتموا" بالياء، جعله نهيا للغائب.
الموفية عشرين: إذا كان على الحق شهود تعين عليهم أداؤها على الكفاية، فإن أداها اثنان واجتزأ الحاكم بهما سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يجتزأ بها تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات. وهذا يعلم بدعاء صاحبها، فإذا قال له: أحي حقي بأداء ما عندك لي من الشهادة تعين ذلك عليه.
الحادية والعشرين: - قوله تعالى: { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} خص القلب بالذكر إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله كما قال عليه السلام، فعبر بالبعض عن الجملة، وقد تقدم في أول السورة. وقال الكيا: لما عزم على ألا يؤديها وترك أداءها باللسان رجع المأثم إلى الوجهين جميعا. فقوله { آثم قلبه} مجاز، وهو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد، وهو من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني. يقال: إثم القلب سبب مسخه، والله تعالى إذا مسخ قلبا جعله منافقا وطبع عليه، نعوذ بالله منه وقد تقدم في أول السورة. و"قلبه" رفع بـ "آثم" و"آثم" خبر

المضمر الذي في "آثم".وتعرضت هنا ثلاث مسائل تتمتة أربع وعشرين:
الأولى : اعلم أن الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البين ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين، لئلا يسول له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق، ولأجله حرم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغن والتباين. فمن ذلك ما حرمه الله من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] الآية. فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدين، قال الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [النساء: 66] الآية.
الثانية : روى البخاري عن أبي هريرة عن الني صلى الله عليه وسلم قال: " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" وروى النسائي عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها استدانت، فقيل: يا أم المؤمنين، تستدينين وليس عندك وفاء ؟ قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عليه". وروى الطحاوي وأبو جعفر الطبري والحارث بن أبي أسامة في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيفوا الأنفس بعد أمنها" قالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ قال: "الدين". وروى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء ذكره: "اللهم أني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال ". قال العلماء: ضلع الدين هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه. وهو مأخوذ من قول العرب: حمل مضلع أي ثقيل، ودابة مضلع لا تقوى على الحمل، قاله صاحب العين. وقال صلى الله عليه وسلم:

"الدَّيْن شيْن الدِّين". وروي عنه أنه قال: " الدين هم بالليل ومذلة بالنهار ". قال علماؤنا: وإنما كان شينا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال والهم اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه. وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف له فيحنث، إلى غير ذلك. ولهذا كان عليه السلام يتعوذ من المأثم والمغرم، وهو الدين. فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تتعوذ من المغرم ؟ فقال: "إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف ". وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به، كما قال عليه السلام: " نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يقضى عنه". وكل هذه الأسباب مشائن في الدين تذهب جماله وتنقص كماله. والله اعلم
ا لثالثة : لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصا قاطعا على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، وردا على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم، وهذا الفعل مذموم منهي عنه. قال أبو الفرج الجوزي: ولست أعجب من المتزهدين الذين فعلوا هذا مع قلة علمهم، إنما أتعجب من أقوام لهم علم وعقل كيف حثوا على هذا، وأمروا به مع مضادته للشرع والعقل. فذكر المحاسبي في هذا كلاما كثيرا، وشيده أبو حامد الطوسي ونصره. والحارث عندي أعذر من أبي حامد، لأن أبا حامد كان أفقه، غير أن دخوله في التصوف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه. قال المحاسبي في كلام طويل له: ولقد بلغني أنه لما توفي عبدالرحمن بن عوف قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نخاف على عبدالرحمن فيما ترك. فقال كعب: سبحان الله ! وما تخافون على عبدالرحمن ؟ كسب طيبا وأنفق طيبا وترك طيبا. فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا يريد كعبا، فمر بلحي بعير فأخذه بيده، ثم انطلق يطلب كعبا، فقيل لكعب: إن أبا ذر يطلبك. فخرج هاربا حتى

دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر. فأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر، فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية، تزعم ألا بأس بما تركه عبدالرحمن ! لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا". قال المحاسبي: فهذا عبدالرحمن مع فضله يوقف في عرصة يوم القيامة بسبب ما كسبه من حلال، للتعفف وصنائع المعروف فيمنع السعي إلى الجنة مع الفقراء وصار يحبو في آثارهم حبوا، إلى غير ذلك من كلامه. ذكره أبو حامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة، وأنه أعطي المال فمنع الزكاة. قال أبو حامد: فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده، وإن صرف إلى الخيرات، إذ أقل ما فيه اشتغال الهمة بإصلاحه عن ذكر الله. فينبغي للمريد أن يخرج عن ماله حتى لا يبقى له إلا قدر ضرورته، فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عن الله تعالى. قال الجوزي: وهذا كله خلاف الشرع والعقل، وسوء فهم المراد بالمال، وقد شرفه الله وعظم قدره وأمر بحفظه، إذ جعله قواما للآدمي وما جعل قواما للآدمي الشريف فهو شريف، فقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] ونهى جل وعز أن يسلم المال إلى غير رشيد فقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، قال لسعد: " إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ". وقال: " ما نفعني مال كمال أبي بكر ". وقال لعمرو بن العاص: " نعم المال الصالح للرجل الصالح". ودعا لأنس، وكان في آخر دعائه: " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه ". وقال كعب: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. فقال: " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ". قال الجوزي: هذه الأحاديث مخرجة في الصحاح، وهي على خلاف

ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة، وأن حبسه ينافي التوكل، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته، وأن خلقا كثيرا اجتنبوه لخوف ذلك، وأن جمعه من وجهه ليعز، وأن سلامة القلب من الافتتان به تقل، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخر يندر، فلهذا خيف فتنته. فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البلغة من حلها فذلك أمر لا بد منه وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظر في مقصوده، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته، وادخر لحوادث زمانه وزمانهم، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات. وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم بجمعه، فحرصوا عليه وسألوا زيادته. ولما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حضر فرسه أجرى الفرس حتى قام ثم رمى سوطه، فقال: " أعطوه حيث بلغ سوطه ". وكان سعد بن عبادة يقول في دعائه: اللهم وسع علي. وقال إخوة يوسف : {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} . وقال شعيب لموسى: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} . وإن أيوب لما عوفي نثر عليه رجل من جراد من ذهب، فأخذ يحثي في ثوبه ويستكثر منه، فقيل له: أما شبعت ؟ فقال: يا رب فقير يشبع من فضلك ؟. وهذا أمر مركوز في الطباع. وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم، وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال. من وضع الجهال وخفيت عدم صحته عنه للحوقه بالقوم. وقد روي بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت، لأن في سنده ابن لهيعة وهو مطعون فيه. قال يحيى: لا يحتج بحديثه.
والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمس وعشرين، وعبدالرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين وثلاثين، فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين. ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع، ثم كيف تقول الصحابة: إنا نخاف على عبدالرحمن! أو ليس الإجماع منعقدا على إباحة جمع المال من حله، فما وجه الخوف مع الإباحة؟ أو يأذن الشرع في شيء ثم يعاقب

عليه؟ هذا قلة فهم وفقه. ثم أينكر أبو ذر على عبدالرحمن، وعبدالرحمن خير من أبي ذر بما لا يتقارب ؟ ثم تعلقه بعبدالرحمن وحده دليل على أنه لم يسير سير الصحابة؛ فإنه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير. والبهار الحمل. وكان مال الزبير خمسين ألفا ومائتي ألف. وخلف ابن مسعود تسعين ألفا. وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم على أحد. وأما قوله: "إن عبدالرحمن يحبو حبوا يوم القيامة " فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث، وأعوذ بالله أن يحبو عبدالرحمن في القيامة؛ أفترى من سبق وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر والشورى يحبو ؟ ثم الحديث يرويه عمارة بن زاذان؛ وقال البخاري: ربما اضطرب حديثه. وقال أحمد: يروي عن أنس أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به. وقال الدارقطني: ضعيف. وقوله: " ترك المال الحلال أفضل من جمعه" ليس كذلك، ومتى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء. وكان سعيد بن المسيب يقول: لا خير فيمن لا يطلب المال، يقضي به دينه ويصون به عرضه؛ فإن مات تركه ميراثا لمن بعده. وخلف ابن المسيب أربعمائة دينار، وخلف سفيان الثوري مائتين، وكان يقول: المال في هذا الزمان سلاح. وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء؛ وإنما تحاماه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات، وجمع الهمم فقنعوا باليسير. فلو قال هذا القائل: إن التقليل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم.
قلت: ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد" . وسيأتي بيانه في "المائدة" إن شاء الله تعالى.
*3*الآية: 284 { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

قوله تعالى: { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} تقدم معناه.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } فيه مسألتان:
اختلف الناس في معنى قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} على أقوال خمسة:
[الأول] أنها منسوخة، قاله ابن عباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وجماعة من الصحابة والتابعين، وأنه بقي هذا التكليف حولا حتى أنزل الله الفرج بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وهو قول ابن مسعود وعائشة وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وغيرهم وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال: "قد فعلت "{رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال: "قد فعلت" { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] قال: "قد فعلت": في رواية فلما فعلوا ذلك نسخها الله ثم أنزل تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وسيأتي.
الثاني: قال ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد: إنها محكمة مخصوصة، وهي في معنى الشهادة التي نهى عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب.
الثالث: أن الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين، وقاله مجاهد أيضا.
الرابع: أنها محكمة عامة غير منسوخة، والله محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، ذكره الطبري عن قوم، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا. روي عن علي

بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول: "إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم " فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، فذلك قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] وهو قوله عز وجل: "{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] من الشك والنفاق. وقال الضحاك: يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه. وفي الخبر: "إن الله تعالى يقول يوم القيامة هذا يوم تبلى فيه السرائر وتخرج الضمائر وأن كتابي لم يكتبوا إلا ما ظهر من أعمالكم وأنا المطلع على ما لم يطلعوا عليه ولم يخبروه ولا كتبوه فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه فأغفر لمن أشاء وأعذب من أشاء" فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، وهذا أصح ما في الباب، يدل عليه حديث النجوى على ما يأتي بيانه، لا يقال: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به ". فإنا نقول: ذلك محمول على أحكام الدنيا، مثل الطلاق والعتاق والبيع التي لا يلزمه حكمها ما لم يتكلم به، والذي ذكر في الآية فيما يؤاخذ العبد به بينه وبين الله تعالى في الآخرة. وقال الحسن: الآية محكمة ليست بمنسوخة. قال الطبري: وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس، إلا أنهم قالوا: إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفوس وصحبه الفكر إنما هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها. ثم أسند عن عائشة نحو هذا المعنى، وهو [القول الخامس]: ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة: قال ابن عطية: وهذا هو الصواب، وذلك أن قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، فبين الله لهم ما أراد بالآية الأخرى، وخصصها ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هي أمر غالب وليست مما يكتسب، فكان في هذا البيان فرجهم وكشف كربهم، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها: ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ، فإن ذهب ذاهب إلى تقدير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم

لهم: " قولوا سمعنا وأطعنا " يجيء منه الأمر بأن يثبتوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران. فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فهذا لفظه الخبر ولكن معناه التزموا هذا واثبتوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ بعد ذلك. وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين. قال ابن عطية: وهذه الآية في "البقرة" أشبه شيء بها. وقيل: في الكلام إضمار وتقييد، تقديره يحاسبكم به الله إن شاء، وعلى هذا فلا نسخ. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في الآية وأشبه بالظاهر قول ابن عباس: إنها عامة، ثم أدخل حديث ابن عمر في النجوى، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، واللفظ لمسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه جل وعز حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي رب أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله". وقد قيل: إنها نزلت في الذين يتولون الكافرين من المؤمنين، أي وإن تعلنوا ما في أنفسكم أيها المؤمنون من ولاية الكفار أو تسروها يحاسبكم به الله، قاله الواقدي ومقاتل. واستدلوا بقوله تعالى في "آل عمران" " {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ ـ من ولاية الكفار ـ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران: 29] يدل عليه ما قبله من قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28].
قلت: وهذا فيه بعد، لأن سياق الآية لا يقتضيه، وإنما ذلك بين في "آل عمران" والله أعلم. وقد قال سفيان بن عيينة: بلغني أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأتون قومهم بهذه الآية {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} .
قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي "فيغفر ويعذب" بالجزم عطف على الجواب. وقرأ ابن عامر وعاصم بالرفع

فيهما على القطع، أي فهو يغفر ويعذب. وروي عن ابن عباس والأعرج وأبي العالية وعاصم الجحدري بالنصب فيهما على إضمار "أن". وحقيقته أنه عطف على المعنى، كما في قوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} وقد تقدم. والعطف على اللفظ أجود للمشاكلة، كما قال الشاعر:
ومتى ما يع منك كلاما ... يتكلم فيجبك بعقل
قال النحاس: وروي عن طلحة بن مصرف "يحاسبكم به الله يغفر" بغير فاء على البدل. ابن عطية: وبها قرأ الجعفي وخلاد. وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود. قال ابن جني: هي على البدل من "يحاسبكم" وهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر:
رويدا بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ... إذا ما غدت في المأزق المتداني
فهذا على البدل. وكرر الشاعر الفعل، لأن الفائدة فيما يليه من القول. قال النحاس: وأجود من الجزم لو كان بلا فاء الرفع، يكون في موضع الحال، كما قال الشاعر:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
الآية: 285 {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}
الآية: 286 {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}

فيه إحدى عشرة مسألة:
الاولى: - قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} روي عن الحسن ومجاهد والضحاك: أن هذه الآية كانت في قصة المعراج، وهكذا روي في بعض الروايات عن ابن عباس، وقال بعضهم: جميع القرآن نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم إلا هذه الآية فإن النبي صلى الله عليه وسلم: هو الذي سمع ليلة المعراج، وقال بعضهم: لم يكن ذلك في قصة المعراج، لأن ليلة المعراج كانت بمكة وهذه السورة كلها مدنية، فأما من قال إنها كانت ليلة المعراج قال: لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ في السماوات في مكان مرتفع ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى فقال له جبريل: إني لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر بالمجاوزة أحد هذا الموضع غيرك فجاوز النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله، فأشار إليه جبريل بأن سلم على ربك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: التحيات لله والصلوات والطيبات. قال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لأمته حظ في السلام فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل وأهل السماوات كلهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال الله تعالى : {آمَنَ الرَّسُولُ} على معنى الشكر أي صدق الرسول {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشارك أمته في الكرامة والفضيلة فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} يعني يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بأحد منهم ولا نفرق بينهم كما فرقت اليهود والنصارى، فقال له ربه كيف قبولهم بآي الذي أنزلتها ؟ وهو قوله: {َإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} يعني المرجع. فقال الله تعالى عند ذلك: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} يعني طاقتها ويقال: إلا دون طاقتها. { لَهَا مَا كَسَبَتْ } من الخير {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من الشر، فقال جبريل عند ذلك: سل تعطه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} يعني إن جهلنا { أَوْ أَخْطَأْنَا } يعني إن تعمدنا، ويقال: إن عملنا بالنسيان

والخطأ. فقال له جبريل: قد أعطيت ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان. فسل شيئا آخر فقال: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} يعني ثقلا {َمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم، وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوا ذلك مكتوبا على بابهم، وكانت الصلوات عليهم خمسين، فخفف الله عن هذه الأمة وحط عنهم بعد ما فرض خمسين صلاة. ثم قال : {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يقول: لا تثقلنا من العمل ما لا نطيق فتعذبنا، ويقال: ما تشق علينا، لأنهم لو أمروا بخمسين صلاة لكانوا يطيقون ذلك ولكنه يشق عليهم ولا يطيقون الإدامة عليه {وَاعْفُ عَنَّا } من ذلك كله { وَاغْفِرْ لَنَا} وتجاوز عنا، ويقال: {وَاعْفُ عَنَّا } من المسخ {وَاغْفِرْ لَنَا} من الخسف {وَارْحَمْنَا} من القذف، لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ وبعضهم أصابهم الخسف وبعضهم القذف ثم قال: { أَنْتَ مَوْلانَا } يعني ولينا وحافظنا {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فاستجيبت دعوته. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نصرت بالرعب مسيرة شهر" ويقال إن الغزاة: إذا خرجوا من ديارهم بالنية الخالصة وضربوا بالطبل وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر في شهر، علموا بخروجهم أو لم يعلموا، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع أوحى الله هذه الآيات، ليعلم أمته بذلك. ولهذه الآية تفسير آخر، قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة وبين أحكام الحج وحكم الحيض والطلاق والإيلاء وأقاصيص الأنبياء وبين حكم الربا، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله سبحانه وتعالى: { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤمنون كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله.

وقيل سبب نزولها الآية التي قبلها وهي: {لَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 284] فإنه لما أنزل هذا على النبي صلى الله عليه وسلم اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة: 285]. فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: "نعم" { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: "نعم" { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: "نعم" {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: "نعم". أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
قال علماؤنا: قوله في الرواية الأولى "قد فعلت" وهنا قال: "نعم" دليل على نقل الحديث بالمعنى، وقد تقدم. ولما تقرر الأمر على أن قالوا: سمعنا وأطعنا، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، ورفع المشقة في أمر الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والانجلاء إذ قالوا: سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله تعالى، أعاذنا الله من نقمه بمنه وكرمه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: إن بيت ثابت بن قيس بن شماس

يزهر كل ليلة بمصابيح. قال: " فلعله يقرأ سورة البقرة" فسئل ثابت قال: قرأت من سورة البقرة "آمن الرسول" نزلت حين شق على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما توعدهم الله تعالى به من محاسبتهم. على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " فلعلكم تقولون سمعنا وعصينا كما قالت بنو إسرائيل" قالوا: بل سمعنا وأطعنا، فأنزل الله تعالى ثناء عليهم: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } فقال صلى الله عليه وسلم: "وحق لهم أن يؤمنوا".
قوله تعالى: {آمَنَ} أي صدق، وقد تقدم. والذي أنزل هو القرآن. وقرأ ابن مسعود "وآمن المؤمنون كل آمن بالله" على اللفظ، ويجوز في غير القرآن "آمنوا" على المعنى. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر {وَكُتُبِهِ} على الجمع. وقرؤوا في "التحريم" كتابه، على التوحيد. وقرأ أبو عمرو هنا وفي "التحريم" و"كتبه" على الجمع. وقرأ حمزة والكسائي "وكتابه" على التوحيد فيهما. فمن جمع أراد جمع كتاب، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله. ويجوز في قراءة من وحد أن يراد به الجمع يكون الكتاب اسما للجنس فتستوي القراءتان، قال الله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 213]. قرأت الجماعة "ورسله" بضم السين، وكذلك "رسُلنا ورسُلكم ورسلك"، إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف "رسْلنا ورسْلكم"، وروي عنه في "رسلك" التثقيل والتخفيف. قال أبو علي: من قرأ "رسلك" بالتثقيل فذلك أصل الكلمة، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد، مثل عنق وطنب. وإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل، وقال معناه مكي. وقرأ جمهور الناس "لا نفرق" بالنون، والمعنى يقولون لا نفرق، فحذف القول، وحذف القول كثير، قال الله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ } [الرعد: 23]: أي يقولون سلام عليكم. وقال: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} [آل عمران: 191] أي يقولون

ربنا، وما كان مثله. وقرأ سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويعقوب "لا يفرق" بالياء، وهذا على لفظ كل. قال هارون: وهي في حرف ابن مسعود "لا يفرقون". وقال "بين أحد" على الإفراد ولم يقل آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد والجميع، كما قال تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] فـ "حاجزين" صفة لأحد، لأن معناه الجمع. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أحلت الغنائم لأحد سود الرؤوس غيركم" وقال رؤبة:
إذا أمور الناس دينت دينكا ... لا يرهبون أحدا من دونكا
ومعنى هذه الآية: أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
الثالثة: - قوله تعالى: { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فيه حذف، أي سمعنا سماع قابلين. وقيل: سمع بمعنى قبل، كما يقال: سمع الله لمن حمده فلا يكون فيه حذف. وعلى الجملة فهذا القول يقتضي المدح لقائله. والطاعة قبول الأمر. وقوله {غُفْرَانَكَ} مصدر كالكفران والخسران، والعامل فيه فعل مقدر، تقديره: اغفر غفرانك، قاله الزجاج. وغيره: نطلب أو أسأل غفرانك . {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل: "إن الله قد أحل الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه" فسأل إلى آخر السورة.
الرابعة: - قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} التكليف هو الأمر بما يشق عليه وتكلفت الأمر تجشمته، حكاه الجوهري. والوسع: الطاقة والجدة. وهذا خبر جزم. نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر. وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضي الله عنه قال: ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب، فإني تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ

منزله لم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثارة فشقه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرُّب وهو يقول:
ما كلف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد
ا لخامسة : - اختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا، بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه، قال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين: تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، ولا يخرم ذلك شيئا من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به، وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة. واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فقال فرقة: وقع في نازلة أبي لهب، لأنه كلفه بالإيمان بجملة الشريعة، ومن جملتها أنه لا يؤمن، لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن. وقالت فرقة: لم يقع قط. وقد حكى الإجماع على ذلك. وقوله تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً} [المسد: 3] معناه إن وافى، حكاه ابن عطية. "ويكلف" يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف، تقديره عبادة أو شيئا. فالله سبحانه بلطفه وإنعامه علينا وإن كان قد كلفنا بما يشق ويثقل كثبوت الواحد للعشرة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه ومفارقة أهله ووطنه وعادته، لكنه لم يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المؤلمة، كما كلف من قبلنا بقتل أنفسهم وقرض موضع البول من ثيابهم وجلودهم، بل سهل ورفق ووضع عنا الإصر والأغلال التي وضعها على من كان قبلنا. فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة.
السادسة: - قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} يريد من الحسنات والسيئات قاله السدي. وجماعة المفسرين لا خلاف بينهم في ذلك، قاله ابن عطية. وهو مثل قوله: {َلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]. والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان. وجاءت العبارة في الحسنات بـ "لها" من حيث هي مما

يفرح المرء بكسبه ويسر بها، فتضاف إلى ملكه وجاءت في السيئات بـ "عليها" من حيث هي أثقال وأوزار ومتحملات صعبة، وهذا كما تقول: لي مال وعلى دين. وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال: { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17]. قال ابن عطية: ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله تعالى ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا، لهذا المعنى.
السابعة: - في هذه الآية دليل على صحة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد كسبا واكتسابا، ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خلق ولا خالق، خلافا لمن أطلق ذلك من مجترئة المبتدعة. ومن أطلق من أئمتنا ذلك على العبد، وأنه فاعل فبالمجاز المحض. وقال المهدوي وغيره: وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد. قال ابن عطية: وهذا صحيح في نفسه ولكن من غير هذه الآية.
الثامنة: - قال الكيا الطبري: قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} يستدل به على أن من قتل غيره بمثقل أو بخنق أو تغريق فعليه ضمانه قصاصا أو دية، فخلافا لمن جعل ديته على العاقلة، وذلك يخالف الظاهر، ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب لا يقتضي سقوطه عن شريكه. ويدل على وجوب الحد على العاقلة إذا مكنت مجنونا من نفسها. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "ذكر علماؤنا هذه الآية في أن القود واجب على شريك الأب خلافا لأبي حنيفة، وعلى شريك الخاطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة، لأن كل واحد منهما قد اكتسب القتل. وقالوا: إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص لا يكون شبهة في درء ما يدرأ بالشبهة".
قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} المعنى: أعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما، كقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان

وما استكرهوا عليه" أي إثم ذلك. وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شيء أو يلزم أحكام ذلك كله ؟ اختلف فيه. والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات. وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر. وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسيانا، ويعرف ذلك في الفروع.
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} أي ثقلا قال مالك والربيع: الإصر الأمر الغليظ الصعب. وقال سعيد بن جبير: الإصر شدة العمل. وما غلظ على بني إسرائيل من البول ونحوه، قال الضحاك: كانوا يحملون أمورا شدادا، وهذا نحو قول مالك والربيع، ومنه قول النابغة:
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم ... والحامل الإصر عنهم بعدما عرفوا
عطاء: الإصر المسخ قردة وخنازير، وقاله ابن زيد أيضا. وعنه أيضا أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة. والإصر في اللغة العهد، ومنه قوله تعالى: { وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} . [آل عمران: 81] والإصر: الضيق والذنب والثقل. والإصار: الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال: أصر يأصر أصرا حبسه. والإصر - بكسر الهمزة - من ذلك قال الجوهري: والموضع مأصِر ومأصَر والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر. قال ابن خويز منداد: ويمكن أن يستدل بهذا الظاهر في كل عبادة ادعى الخصم تثقيلها، فهو نحو قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [المؤمنون: 78] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الدين يسر فيسروا ولا تعسروا". اللهم شق على من شق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت: ونحوه قال الكيا الطبري قال: يحتج به في نفي الحرج والضيق المنافي ظاهره للحنيفية السمحة، وهذا بين.

الحادية عشرة: - قوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال قتادة: معناه لاتشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا الضحاك: لاتحملنا من الاعمال ما لا نطيق ، وقال نحوه ابن زيد ابن جريج: لاتمسخنا قردة ولا خنازير وقال سلام بن سابور: الذي لاطاقة لنا به: الغلمة وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء وروي أن ابا الدرداء كان يقول في دعائة: واعوذ بك من غلمة ليس لها عدة وقال السدي: هو التغليظ والاغلال التي كانت على بني اسرائيل .
قوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا} أي عن ذنوبنا عفوت عن ذنبة اذا تركته ولم تعاقبة {وَاغْفِرْ لَنَا} أي استر على ذنوبنا والغفر: الستر {وَارْحَمْنَا} أي تفضل برحمة مبتدئا منك علينا { أَنْتَ مَوْلانَا} أي ولينا وناصرنا وخرج هذا مخرج التعليم للخلق كيف يدعون روي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذا السورة قال آمين قال ابن عطيه: هذا يظن به انه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فان كان ذلك فكمال ،وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هنالك دعاء وهنا دعاء فحسن وقال على بن أبي طالب: ما أظن أن أحداً عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما
قلت: قد روى مسلم في هذا المعنى عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قراء هاتين الايتين من اخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " قيل: من قيام الليل ، كما روي عن ابن عمر قال: سمعت النبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنزل الله على ايتين من كنوز الجنة ختم بهما سورة البقرة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألف عام من قرأهما بعد العشاء مرتين اجزأتاه من قيام الليل "آمن الرسول "إلى آخر البقرة " وقيل: كفتاه من شر الشيطان فلايكون له علية سلطان وأسند أبو عمرو الداني عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ان الله جل وعز كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والارض بألفي عام من هذة الثلاث آيات

التي ختم بهن البقرة من قرأ هن في بيته لم يقرب الشيطان بيته ثلاث ليال "وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أوتيت هذه الآيات من ىخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي " وهذا صحيح وقد تقدم في الفاتحة نزول الملك بها مع الفاتحة. والحمد لله .

المجلد الرابع
تفسير سورة آل عمرانسورة آل عمران
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتان: 1 - 2 {الم ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
فيه خمس مسائل:
الأولى -قوله: {الم ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} هذه السورة مدنية بإجماع. وحكى النقاش أن اسمها في التوراة طَيْبة، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وعاصم بن أبي النجود وأبو جعفر الرؤاسي "الم. ألله" بقطع ألف الوصل، على تقدير الوقف على "الم" كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد في نحو واحد، إثنان، ثلاثة، أربعة، وهم واصلون. قال الأخفش سعيد: ويجوز "الم الله" بكسر الميم لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: هذا خطأ، ولا تقوله العرب لثقله. قال النحاس: القراءة الأولى قراءة العامة، وقد تكلم فيها النحويون القدماء؛ فمذهب سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين، واختاروا لها الفتح لئلا يجمع بين كسرة وياء وكسرة قبلها. وقال الكسائي: حروف التهجي إذا لقيتها ألف وصل فحذفت ألف الوصل حركتها بحركة الألف فقلت: الم الله، والم اذكر، والمِ اقتربت. وقال الفراء: الأصل "الم ألله" كما قرأ الرؤاسي فألقيت حركة الهمزة على الميم. وقرأ عمر بن الخطاب "الحي القيام". وقال خارجة: في مصحف عبدالله "الحي القيم". وقد تقدم ما للعلماء من آراء في الحروف التي في أوائل السور في أول "البقرة". ومن حيث جاء في هذه السورة: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها.

الثانية - روى الكسائي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى العشاء فاستفتح "آل عمران" فقرأ {الم ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فقرأ في الركعة الأولى بمائة آية، وفي الثانية بالمائة الباقية. قال علماؤنا: ولا يقرأ سورة في ركعتين، فإن فعل أجزأه. وقال مالك في المجموعة: لا بأس به، وما هو بالشأن.
قلت: الصحيح جواز ذلك. وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأعراف في المغرب فرقها في ركعتين، خرجه النسائي أيضا، وصححه أبو محمد عبدالحق، وسيأتي.
الثالثة - هذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار؛ فمن ذلك ما جاء أنها أمان من الحيات، وكنز للصعلوك، وأنها تحاج عن قارئها في الآخرة، ويكتب لمن قرأ آخرها في ليلة كقيام ليلة، إلى غير ذلك. ذكر الدارمي أبو محمد في مسنده حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثني عبيدالله الأشجعي قال: حدثني مسعر قال حدثني جابر، قبل أن يقع فيما وقع فيه، عن الشعبي قال قال عبدالله: "نِعم كنز الصعلوك سورة "آل عمران" يقوم بها في آخر الليل" حدثنا محمد بن سعيد حدثنا عبدالسلام عن الجريري عن أبي السليل قال: أصاب رجل دما قال: فأوى إلى وادي مجنة: واد لا يمشي فيه أحد إلا أصابته حية، وعلى شفير الوادي راهبان؛ فلما أمسى قال أحدهما لصاحبه: هلك والله الرجل! قال: فافتتح سورة "آل عمران" قالا: فقرأ سورة طيبة لعله سينجو. قال: فأصبح سليما. وأسند عن مكحول قال: "من قرأ سورة "آل عمران" يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلى الليل". وأسند عن عثمان بن عفان قال: "من قرأ آخر سورة "آل عمران" في ليلة كتب له قيام ليلة" في طريقه ابن لهيعة. وخرج مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى

بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران"، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: - كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حِزْقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما. وخرج أيضا عن أبي أمامةالباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البَطَلة" . قال معاوية: وبلغني أن البطلة السحرة.
الرابعة - للعلماء في تسمية "البقرة وآل عمران" بالزهراوين ثلاثة أقوال:
الأول : إنهما النيرتان، مأخوذ من الزّهْر والزُّهْرة؛ فإما لهدايتهما قارئهما بما يزهر له من أنوارهما، أي من معانيهما.
وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة، وهو القول الثاني .
الثالث : سميتا بذلك لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم؛ كما ذكره أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} والتي في آل عمران {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} " أخرجه ابن ماجة أيضا. والغمام: السحاب الملتف، وهو الغَيَاية إذا كانت قريباً من الرأس، وهي الظلة أيضا. والمعنى: إن قارئهما في ظل ثوابهما؛ كما جاء "الرجل في ظل صدقته" وقوله: "تحاجان" أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة كما جاء في بعض الحديث: " إن من قرأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} الآية خلق الله سبعين ملكا يستغفرون له إلى يوم القيامة". وقوله: "بينهما شرق" قيد بسكون الراء وفتحها

وهو تنبيه على الضياء، لأنه لما قال: "سوداوان" قد يتوهم أنهما مظلمتان، فنفى ذلك. بقوله: "بينهما شرق". ويعني بكونهما سوداوان أي من كثافتهما التي بسببها حالتا بين من تحتهما وبين حرارة الشمس وشدة اللهب والله أعلم.
الخامسة : صدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران فيما ذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، وكانوا نصارى وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ستين راكبا، فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلا، في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يرجع أمرهم: العاقب أمير القوم وذو آرائهم واسمه عبدالمسيح، والسيد ثمالهم وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم؛ فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر صلاة العصر، عليهم ثياب الحِبَرات جُبَب وأرْدية فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة. وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشرق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوهم" . ثم أقاموا بها أياما يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى ويزعمون أنه ابن الله، إلى غير ذلك من أقوال شنيعة مضطربة، ورسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية؛ إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، حسب ما هو مذكور في سيرة ابن إسحاق وغيره.
الآية: 3 {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ}
الآية: 4 {مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}

قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} يعني القرآن. {الْحَقِّ} أي بالصدق وقيل: بالحجة الغالبة. والقرآن نزل نجوما: شيئا بعد شيء؛ فلذلك قال "نَزّلَ" والتنزيل مرة بعد مرة. والتوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة فلذلك قال "أنزل" والباء في قوله "بالحق" في موضع الحال من الكتاب والباء متعلقة بمحذوف التقدير آتيا بالحق ولا تتعلق بـ "نَزَّلَ" لأنه قد تعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر، ولا يتعدى إلى ثالث. و"مصدقا" حال مؤكدة غير منتقلة؛ لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق، أي غير موافق؛ هذا قول الجمهور. وقدر فيه بعضهم الانتقال، على معنى أنه مصدق لنفسه ومصدق لغيره.
قوله تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني من الكتب المنزلة، "وأنزل التوراة والإنجيل" والتوراة معناها الضياء والنور مشتقة من ورى الزَّنْد ووَرِيَ لغتان إذا خرجت ناره. وأصلها تَوْرَيَة على وزن تفعلة، التاء زائدة، وتحركت الياء وقبلها فتحة فقلبت ألفا. ويجوز أن تكون تَفْعِلة فتنقل الراء من الكسر إلى الفتح كما قالوا في جارية وفي ناصية ناصاة كلاهما عن الفراء. وقال الخليل: أصلها فَوْعَلة فالأصل وَوْرَيَة قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تَوْلَج، والأصل وَوْلج فوعل من وَلَجَت وقلبت الياء ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها. وبناء فَوْعَلة أكثر من تَفْعَلَة. وقيل: التوراة مأخوذة من التورية، وهي التعريض بالشيء والكتمان لغيره؛ فكأن أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح، هذا قول المؤرج. والجمهور على القول الأول لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] يعني التوراة. والإنجيل إفعيل من النَّجْل وهو الأصل، ويجمع على أناجيل وتوراة على تَوَار؛ فالإنجيل أصل لعلوم وحكم. ويقال: لعن الله ناجليه، يعني والديه، إذ كانا أصله. وقيل: هو من نجلت الشيء إذا استخرجته؛ فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم؛ ومنه سمي الولد والنسل نجلا لخروجه؛ كما قال:
إلى معشر لم يورث اللؤم جدهم ... أصاغرهم وكل فحل لهم نجل

والنجل الماء الذي يخرج من النز. واستنجلت الأرض، وبها نجال إذا خرج منها الماء، فسمي الإنجيل به؛ لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا. وقيل: هو من النجل في العين "بالتحريك" وهو سعتها؛ وطعنة نجلاء، أي واسعة؛ قال:
ربما ضربة بسيف صقيل ... بين بصرى وطعنة نجلاء
فسمي الإنجيل بذلك؛ لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم ونورا وضياء. وقيل: التناجل التنازع؛ وسمي إنجيلا لتنازع الناس فيه. وحكى شمر عن بعضهم: الإنجيل كل كتاب مكتوب وافر السطور. وقيل: نَجَل عمل وصنع؛ قال:
وأنجل في ذاك الصنيع كما نجل
أي أعمل وأصنع. وقيل: التوراة والإنجيل من اللغة السريانية. وقيل: الإنجيل بالسريانية إنكليون؛ حكاه الثعلبي. قال الجوهري: الإنجيل كتاب عيسى عليه السلام يذكر ويؤنث؛ فمن أنث أراد الصحيفة، ومن ذكر أراد الكتاب. قال غيره: وقد يسمى القرآن إنجيلا أيضا؛ كما روي في قصة مناجاة موسى عليه السلام أنه قال: "يا رب أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمتي". فقال الله تعالى له: "تلك أمة أحمد" صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد بالأناجيل القرآن. وقرأ الحسن: "والأنجيل" بفتح الهمزة، والباقون بالكسر مثل الإكليل، لغتان. ويحتمل أن سمع أن يكون مما عربته العرب من الأسماء الأعجمية، ولا مثال له في كلامها.
قوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ} يعني القرآن {هُدىً لِلنَّاسِ} قال ابن فورك: التقدير هدى للناس المتقين؛ دليله في البقرة {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] فرد هذا العام إلى ذلك الخاص. و {هُدىً} في موضع نصب على الحال. و {الْفُرْقَانَ} القرآن. وقد تقدم.

الآية: 5 {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}
هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل؛ ومثله في القرآن كثير. فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون؛ فكيف يكون عيسى إلها أو بن إله وهو تخفى عليه الأشياء.
الآية: 6 {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
فيه مسالتان:
الاولى: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ} أخبر تعالى عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات وأصل الرحِم من الرحمة، لأنها مما يتراحم به. واشتقاق الصورة من صاره إلى كذا إذا أماله؛ فالصورة مائلة إلى شَبَه وهيئة. وهذه الآية تعظيم لله تعالى، وفي ضمنها الرد على نصارى نجران، وأن عيسى من المصَوَّرين، وذلك مما لا ينكره عاقل. وأشار تعالى إلى شرح التصوير في سورة "الحج" و"المؤمنون". وكذلك شرحه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود، على ما يأتي هناك بيانه إن شاء الله تعالى وفيها الرد على الطبائعيين أيضا إذ يجعلونها فاعلة مستبدة. وقد مضى الرد عليهم في آية التوحيد وفي مسند ابن سنجر - واسمه محمد بن سَنْجر - حديث "إن الله تعالى يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل وشحمه ولحمه من مني المرأة". وفي هذا أدل دليل على أن الولد يكون من ماء الرجل والمرأة، وهو صريح في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان وفيه: أن اليهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: "ينفعك إن حدثتك" ؟.

قال: أسمع بأذني، قال: جئتك أسألك عن الولد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذْكَرا بإذن الله تعالى وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله..." الحديث. وسيأتي بيانه آخر "الشورى" إن شاء الله تعالى.
الثانية : قوله تعالى: {كَيْفَ يَشَاءُ} يعني من حسن وقبح وسواد وبياض وطول وقصر وسلامة وعاهة، إلى غير ذلك من الشقاء والسعادة. وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه ليسمعوا ما عنده من الأحاديث، فقال لهم: إني مشغول عنكم بأربعة أشياء، فلا أتفرغ لرواية الحديث. فقيل له: وما ذاك الشغل؟ قال: أحدها أني أتفكر في يوم الميثاق حيث قال: "هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي" فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت. والثاني حيث صورت في الرحم فقال الملك الذي هو موكل على الأرحام: "يا رب شقي هو أم سعيد" فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت والثالث حين يقبض ملك الموت روحي فيقول: "يا رب مع الكفر أم مع الإيمان" فلا أدري كيف يخرج الجواب. والرابع حيث يقول: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] فلا أدري في أي الفريقين أكون. ثم قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي لا خالق ولا مصور سواه وذلك دليل على وحدانيته، فكيف يكون عيسى إلها مصورا وهو مصور. {الْعَزِيزُ} لذي لا يغالب. {الْحَكِيمُ} و الحكمة أو المحكم، وهذا أخص بما ذكر من التصوير.
الآية: 7 {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ}

فيه تسع مسائل:
الأولى : عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم" . وعن أبي غالب قال: كنت أمشي مع أبي أمامة وهو على حمار له، حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق فإذا رؤوس منصوبة؛ فقال: ما هذه الرؤوس؟ قيل: هذه رؤوس خوارج يجاء بهم من العراق فقال أبو أمامة: كلاب النار كلاب النار كلاب النار شر قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قتلهم وقتلوه - يقولها ثلاثا - ثم بكى فقلت: ما يبكيك يا أبا أمامة؟ قال: رحمة لهم، "إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه؛ ثم قرأ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إلى آخر الآيات. ثم قرأ {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]. فقلت: يا أبا أمامة، هم هؤلاء؟ قال نعم. قلت: أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إني إذا لجريء إني إذا لجريء! بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال: وإلا فصُمَّتا - قالها ثلاثا -" ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهم في النار ولتزيدن عليهم هذه الأمة واحدةً واحدةٌ في الجنة وسائرهم في النار" .
الثانية : اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة؛ فقال جابر بن عبدالله، وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما: "المحكمات من أي القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه

دون خلقه، قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور".
قلت: هذا أحسن ما قيل في المتشابه. وقد قدمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خيثم "أن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء..." الحديث. وقال أبو عثمان: المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها. وقال محمد بن الفضل: سورة الإخلاص، لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط. وقد قيل: القرآن كله محكم: لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]. وقيل: كله متشابه؛ لقوله: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر: 23].
قلت: وليس هذا من معنى الآية في شيء؛ فإن قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله. ومعنى {كِتَاباً مُتَشَابِهاً} ، أي يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً. وليس المراد بقوله: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} هذا المعنى؛ وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر. والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً. وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما. فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع؛ والمتشابه هو الفرع. وقال ابن عباس: المحكمات هو قوله في سورة الأنعام {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى ثلاث آيات، وقوله في بني إسرائيل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء 23] قال ابن عطية: وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات. وقال ابن عباس أيضا: "المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به" وقال ابن مسعود وغيره: "المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات" وقاله قتادة والربيع والضحاك. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التي فيها حجة الرب

وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد؛ وقاله مجاهد وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية. قال النحاس: أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره؛ نحو {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82]. والمتشابهات نحو "إن الله يغفر الذنوب جميعا" [الزمر: 53] يرجع فيه إلى قوله جل وعلا: "وإني لغفار لمن تاب" [طه: 82] وإلى قوله عز وجل: "إن الله لا يغفر أن يشرك به" [النساء: 48].
قلت: ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان؛ وذلك أن المحكَم اسم مفعول من أحْكِم، والإحكام الإتقان؛ ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها؛ ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. والله أعلم. وقال ابن خويز منداد: للمتشابه وجوه، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى؛ كقول علي وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد أقصى الأجلين. فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون وضع الحمل ويقولون: "سورة النساء القصرى نسخت أربعة أشهر وعشرا" وكان علي وابن عباس يقولان لم تنسخ. وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ. وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه؛ كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] يقتضي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين، وقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] يمنع ذلك. ومنه أيضا تعارض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارض الأقيسة، فذلك المتشابه. وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملا أو مجملا يحتاج إلى تفسير لأن الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه. والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعا؛ كما قرئ:

{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالفتح والكسر، على ما يأتي بيانه "في المائدة" إن شاء الله تعالى.
الثالثة : - روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي. قال: ما هو؟ قال: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] وقال: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء: 42] وقال: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية. وفي النازعات {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} إلى قوله "دحاها" [النازعات: 27 - 28 - 29 - 30] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ .. إلى: طَائِعِينَ} [فصلت: 9، 0 1، 11] فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء. وقال: {طَائِعِينَ} [النساء: 100] {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 158]. {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 134] فكأنه كان ثم مضى. فقال ابن عباس: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون؛ ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وأما قوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين؛ فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم؛ فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين؛ فذلك قوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} . فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين. وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} يعني نفسه

ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد. ويحك فلا يختلف عليك القرآن؛ فإن كلا من عند الله".
الرابعة : -قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لم تصرف {أُخَرُ} لأنها عدلت عن الألف واللام؛ لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر؛ فلما عدلت عن مجرى الألف واللام منعت الصرف. أبو عبيد: لم يصرفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. وأنكر ذلك المبرد وقال: يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش. الكسائي: لم تنصرف لأنها صفة. وأنكره المبرد أيضا وقال: إن لبداً وحطماً صفتان وهما منصرفان. سيبويه: لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الألف واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكان معرفة، ألا ترى أن سَحَرَ معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة عن السحر، وأمْسِ في قول من قال: ذهب أمس معدولا عن الأمس؛ فلو كان أخر معدولا أيضا عن الألف واللام لكان معرفة، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة.
الخامسة : -قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الذين رفع بالابتداء، والخبر "فيتبعون ما تشابه منه". والزيغ الميل؛ ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار. ويقال: زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد؛ ومنه قوله تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]. وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة في تفسير قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} : إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم.
قلت: قد مر هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعا، وحسبك.
السادسة : -قوله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه: متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك

في القرآن وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن؛ أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلك؛ أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها، أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال.
فهذه أربعة أقسام:
الأول : - لا شك في كفرهم، وإن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة.
الثاني الصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد.
الثالث : - اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها. وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون أمروها كما جاءت. وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها.
الرابع : - الحكم فيه الأدب البليغ، كما فعله عمر بصبيغ. وقال أبو بكر الأنباري: وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن، لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل. فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عِسل

قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء؛ فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل. فلما حضر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبدالله صبيغ. فقال عمر رضي الله عنه: وأنا عبدالله عمر؛ ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي. وقد اختلفت الروايات في أدبه، وسيأتي ذكرها في "الذاريات". ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته. ومعنى {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم، ويردوا الناس إلى زيغهم. وقال أبو إسحاق الزجاج: معنى {ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله. قال: والدليل على ذلك قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب "يقول الذين نسوه من قبل" أي تركوه - "قد جاءت رسل ربنا بالحق" [الأعراف: 53] أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل قال: فالوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله.
السابعة : -قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} يقال: إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أحطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: بلغنا أنه نزل عليك "آلم" فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة؛ لأن الألف في حساب الجمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} . والتأويل يكون بمعنى التفسير، كقولك: تأويل هذه الكلمة على كذا. ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه. واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه، أي صار. وأولته تأويلا أي صيرته. وقد حده بعض الفقهاء فقالوا: هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه. فالتفسير بيان اللفظ؛ كقوله {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] أي لا شك. وأصله من الفسر وهو البيان؛ يقال: فسرت

الشيء "مخففا" أفسره "بالكسر" فسرا. والتأويل بيان المعنى؛ كقوله لا شك فيه عند المؤمنين أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك. وكقول ابن عباس في الجد أبا، لأنه تأول قول الله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ} .
الثامنة : -قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} اختلف العلماء في {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع. فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تم عند قوله "إلا الله" هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم، وهو مذ هب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد وغيرهم. قال أبو نهيك الأسدي: إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة. وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . وقال مثل هذا عمر بن عبدالعزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس. و"يقولون" على هذا خبر "الراسخون". قال الخطابي: وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه قسمين: محكما ومتشابها؛ فقال عز من قائل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ... إلى قوله: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فأعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يعلم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به. ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه. ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} . وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة. وإنما روي عن مجاهد أنه نسق "الراسخون" على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه. واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا؛ وزعم أن موضع "يقولون" نصب على الحال. وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل؛ فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال؛ ولو جاز ذلك لجاز

أن يقال: عبدالله راكبا، بمعنى أقبل عبدالله راكبا؛ وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله: عبدالله يتكلم يصلح بين الناس؛ فكان "يصلح" حالا له؛ كقول الشاعر - أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب -:
أرسلت فيها قطما لكالكا ... يقصر يمشي ويطول باركا
أي يقصر ماشيا؛ فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده، وأيضا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك. ألا ترى قوله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل: 65] وقوله: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره. وكذلك قوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} . ولو كانت الواو في قوله: "والراسخون" للنسق لم يكن لقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فائدة. والله أعلم.
قلت: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به؛ وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم. و"يقولون" على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين؛ كما قال:
الريح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في الغمامه
وهذا البيت يحتمل المعنيين؛ فيجوز أن يكون "والبرق" مبتدأ، والخبر "يلمع" على التأويل الأول، فيكون مقطوعا مما قبله. ويجوز أن يكون معطوفا على الريح، و"يلمع" في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعا. واحتج قائلو هذه المقالة أيضا بأن الله سبحانه مدحهم

بالرسوخ في العلم؛ فكيف يمدحهم وهم جهال وقد قال ابن عباس: "أنا ممن يعلم تأويله" وقرأ مجاهد هذه الآية وقال: أنا ممن يعلم تأويله؛ حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي.
قلت: وقد رد بعض العلماء هذا القول إلى القول الأول فقال: وتقدير تمام الكلام "عند الله" أن معناه وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويل المتشابهات، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا بما نصب من الدلائل في المحكم ومكن من رده إليه. فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا، وما لم يحط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصالح فعلمه عند ربنا فإن قال قائل: قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس: "لا أدري ما الأواه ولا ما غسلين" قيل له: هذا لا يلزم؛ لأن ابن عباس قد علم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه. وجواب أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل وكل راسخ فيجب هذا فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر. ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك؛ وفي قوله عليه السلام لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ما يبين لك ذلك، أي علمه معاني كتابك. والوقف على هذا يكون عند قوله {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} . قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وهو الصحيح؛ فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب. وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع!. لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بغيبه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره. فمن قال من العلماء الحداق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم؛ كقوله في عيسى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] إلى غير ذلك. فلا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له. وأما من يقول: إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل؛ لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح.

والرسوخ: الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ. وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض؛ قال الشاعر:
لقد رسخت في الصدر مني مودة ... لليلى أبت آياتها أن تغيرا
ورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخا. وحكى بعضهم: رسخ الغدير: نضب ماؤه؛ حكاه ابن فارس فهو من الأضداد. ورَسَخ ورَضَخ ورَصُن ورسَب كله ثبت فيه. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال: "هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه" . فإن قيل: كيف كان في القرآن متشابه والله يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فكيف لم يجعله كله واضحا؟ قيل له: الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يظهر فضل العلماء؛ لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض. وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا، ويترك للجثوة موضعا؛ لأن ما هان وجوده قل بهاؤه. والله أعلم.
قوله تعالى: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه؛ والتقدير: كله من عند ربنا. وحذف الضمير لدلالة "كل" عليه؛ إذ هي لفظة تقتضي الإضافة. ثم قال: {وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُولُوا الألْبَابَ} أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب، وهو العقل. ولب كل شيء خالصه؛ فلذلك قيل للعقل لب. و"أولو" جمع ذو.
الآية: 8 {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
فيه مسألتان:
الأولى - قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} في الكلام حذف تقديره يقولون. وهذا حكاية عن الراسخين. ويجوز أن يكون المعنى قل يا محمد، ويقال: إزاغة القلب فساد

وميل عن الدين، أفكانوا يخافون وقد هدوا أن ينقلهم الله إلى الفساد؟ فالجواب أن يكونوا سألوا إذ هداهم الله ألا يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال فيعجزوا عنه؛ نحو {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66]. قال ابن كيسان: سألوا ألا يزيغوا فيزيغ الله قلوبهم؛ نحو {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} " [الصف: 5] أي ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا وألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا. وقيل: هو منقطع مما قبل؛ وذلك أنه تعالى لما ذكر أهل الزيغ. عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في ألا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت هي وأهل الزيغ. وفي الموطأ عن أبي عبدالله الصنابحي أنه قال: قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} الآية. قال العلماء: قراءته بهذه الآية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة. والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم، وفي كل صلاة أيضا إذا دهم المسلمين أمر عظيم يفزعهم ويخافون منه على أنفسهم. وروى الترمذي من حديث شهر بن حوشب قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" . فقلت: يا رسول الله، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال: "يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ" . فتلا معاذ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} . قال: حديث حسن. وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم: إن الله لا يضل العباد. ولو لم تكن الإزاغة من قبله لما جاز أن يدعى في دفع ما لا يجوز عليه فعله. وقرأ أبو واقد الجراح "لا تزغ قلوبنا" بإسناد الفعل إلى القلوب، وهذه رغبة إلى الله تعالى. ومعنى الآية على القراءتين ألا يكون منك خلق الزيغ فيها فتزيغ.

الثانية ـ قوله تعالى: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي من عندك ومن قبلك تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل. وفي هذا استسلام وتطارح. وفي "لدن" أربع لغات: لدن بفتح اللام وضم الدال وجزم النون، وهي أفصحها، وبفتح اللام وضم الدال وحذف النون؛ وبضم اللام وجزم الدال وفتح النون؛ وبفتح اللام وسكون الدال وفتح النون. ولعل جهال المتصوفة وزنادقة الباطنية يتشبثون بهذه الآية وأمثالها فيقولون: العلم ما وهبه الله ابتداء من غير كسب، والنظر في الكتب والأوراق حجاب. وهذا مردود على ما يأتي بيانه في هذا الموضع. ومعنى الآية: هب لنا نعيماً صادراً عن الرحمة، لأن الرحمة راجعة إلى صفة الذات فلا يتصور فيها الهبة. يقال: وَهب يَهَب والأصل يوهب بكسر الهاء. ومن قال: الأصل يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ لأنه لو كان كما قال لم تحذف الواو كما لم تحذف في يَوْجَل. وإنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم فتح بعد حذفها لأن فيه حرفا من حروف الحلق.
الآية: 9 {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}
أي باعثهم ومحييهم بعد تفرقهم، وفي هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة. قال الزجاج: هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون وأقروا به، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حتى أنكروه. والريب الشك، وقد تقدمت محامله في البقرة. والميعاد مفعال من الوعد.
الآية: 10 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}
معناه بَيِّن، أي لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا. وقرأ السلمي "لن يغني" بالياء لتقدم الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل. وقرأ الحسن "يُغْني" بالياء وسكون الياء الآخرة للتخفيف؛ كقول الشاعر:

كفى باليأس من أسماء كافي ... وليس لسقمها إذ طال شافي
وكان حقه أن يقول كافيا، فأرسل الياء. وأنشد الفراء في مثله:
كأن أيديهن بالقاع القَرِقْ ... أيدي جوار يتعاطين الوَرِق
القَرِقُ والقَرِقَة لغتان في القاع. و"من" في قوله "من الله" بمعنى عند؛ قاله أبو عبيدة. {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} والوقود اسم للحطب، وقد تقدم في "البقرة". وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف "وقود" بضم الواو على حذف مضاف تقديره حطب وقود النار. ويجوز في العربية إذا ضم الواو أن تقول أقود مثل أُقتت. والوقود بضم الواو المصدر؛ وقدت النار تقد إذا اشتعلت. وخرج ابن المبارك من حديث العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى تخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرؤون القرآن فإذا قرؤوه قالوا من أقرأ منا من أعلم منا؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل ترون في أولئكم من خير"؟ قالوا لا. قال: "أولئك منكم وأولئك من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار" .
الآية: 11 {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
الدأب العادة والشأن. ودأب الرجل في عمله يدأب دأبا ودؤوبا إذا جد واجتهد، وأدأبته أنا. وأدأب بعيره إذا جهده في السير. والدائبان الليل والنهار. قال أبو حاتم: وسمعت يعقوب يذكر "كدأب" بفتح الهمزة، وقال لي وأنا غليم: على أي شيء يجوز "كدأب"؟ فقلت له: أظنه من دَئِب يدْأَب دَأَبا. فقبل ذلك مني وتعجب من جودة تقديري على صغري؛ ولا أدري أيقال أم لا. قال النحاس: "وهذا القول خطأ، لا يقال

البتة دَئِب؛ وإنما يقال: دَأَب يدْأَب دُؤوبا ودَأْبا؛ هكذا حكى النحويون، منهم الفراء حكاه في كتاب المصادر؛ كما قال امرؤ القيس:
كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل
فأما الدَّأَب فإنه يجوز؛ كما يقال: شَعْر وشَعَر ونَهْر ونَهَر؛ لأن فيه حرفا من "حروف الحلق". واختلفوا في الكاف؛ فقيل: هي في موضع رفع تقديره دأبهم كدأب آل فرعون، أي صنيع الكفار معك كصنيع آل فرعون مع موسى. وزعم الفراء أن المعنى: كفرت العرب ككفر آل فرعون. قال النحاس: لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا، لأن كفروا داخلة في الصلة. وقيل: هي متعلقة بـ "أخذهم الله"، أي أخذهم أخذا كما أخذ آل فرعون. وقيل: هي متعلقة بقوله {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [آل عمران: 10] أي لم تغن عنهم غناء كما لم تغن الأموال والأولاد عن آل فرعون. وهذا جواب لمن تخلف عن الجهاد وقال: شغلتنا أموالنا وأهلونا. ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق. ويؤيد هذا المعنى "{وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [المؤمن: 46]. والقول الأول أرجح، واختاره غير واحد من العلماء. قال ابن عرفة: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} أي كعادة آل فرعون. يقول: اعتاد هؤلاء الكفرة الإلحاد والإعنات للنبي صلى الله عليه وسلم كما اعتاد آل فرعون من إعنات الأنبياء؛ وقال معناه الأزهري. فأما قوله في سورة "الأنفال" {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} فالمعنى جوزي هؤلاء بالقتل والأسر كما جوزي آل فرعون بالغرق والهلاك.
{بِآيَاتِنَا} يحتمل أن يريد الآيات المتلوة، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية. { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

الآية: 12 {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}
يعني اليهود، قال محمد بن إسحاق: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود فقال: "يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم" ، فقالوا: يا محمد، لا يغرنك أنك قتلت أقواما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس. فأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} بالتاء يعني اليهود: أي تهزمون {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} في الآخرة. فهذه رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس. وفي رواية أبي صالح عنه أن اليهود لما فرحوا بما أصاب المسلمين يوم أحد نزلت. فالمعنى على هذا {سَيَغْلِبُونَ} بالياء، يعني قريشا، "ويحشرون" بالياء فيهما، وهي قراءة نافع. {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} يعني جهنم؛ هذا ظاهر الآية. وقال مجاهد: المعنى بئس ما مهدوا لأنفسهم، فكأن المعنى: بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم.
الآية: 13 {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ}
قوله تعالى: {{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} أي علامة. وقال "كان" ولم يقل "كانت" لأن "آية" تأنيثها غير حقيقي. وقيل: ردها إلى البيان، أي قد كان لكم بيان؛ فذهب إلى المعنى وترك اللفظ؛ كقول امرئ القيس:

برهرهة رؤدة رخصة ... كخرعوبة البانة المنفطر
ولم يقل المنفطرة؛ لأنه ذهب إلى القضيب. وقال الفراء: ذكره لأنه فرق بينهما بالصفة، فلما حالت الصفة بين الاسم والفعل ذكر الفعل. وقد مضى هذا المعنى في البقرة في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]
قوله تعالى: { فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} يعني المسلمين والمشركين يوم بدر "فئة" قرأ الجمهور "فئة" بالرفع، بمعنى إحداهما فئة. وقرأ الحسن ومجاهد "فئة" بالخفض "وأخرى كافرة" على البدل. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما. قال أحمد بن يحيى: ويجوز النصب على الحال، أي التقتا مختلفتين مؤمنة وكافرة. قال الزجاج: النصب بمعنى أعني. وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها، أي يرجع إليها في وقت الشدة. وقال الزجاج: الفئة الفرقة، مأخوذة من فَأَوْتُ رأسه بالسيف - ويقال: فأيته - إذا فلقته. ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر. واختلف من المخاطب بها؛ فقيل: يحتمل أن يخاطب بها المؤمنون، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة؛ وبكل احتمال منها قد قال قوم. وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع.
قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} قال أبو علي الرؤية في هذه الآية رؤية عين؛ ولذلك تعدت إلى مفعول واحد. قال مكي والمهدوي: يدل عليه { رَأْيَ الْعَيْنِ} . وقرأ نافع "ترونهم" بالتاء والباقون بالياء. {مِثْلَيْهِمْ} نصب على الحال من الهاء والميم في "ترونهم". والجمهور من الناس على أن الفاعل بترون هم المؤمنون، والضمير المتصل هو للكفار. وأنكر أبو عمرو أن يقرأ

"ترونهم" بالتاء؛ قال: ولو كان كذلك لكان مثليكم. قال النحاس" وذا لا يلزم، ولكن يجوز أن يكون مثلي أصحابكم. قال مكي: "ترونهم" بالتاء جرى على الخطاب في "لكم" فيحسن أن يكون الخطاب للمسلمين، والهاء والميم للمشركين. وقد كان يلزم من قرأ بالتاء أن يقرأ مثليكم بالكاف، وذلك لا يجوز لمخالفة الخط؛ ولكن جرى الكلام على الخروج من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22]، وقوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} [الروم: 39] فخاطب ثم قال: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] فرجع إلى الغيبة. فالهاء والميم في "مثليهم" يحتمل أن يكون للمشركين، أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد؛ وهو بعيد في المعنى؛ لأن الله تعالى لم يكثر المشركين في أعين المسلمين بل أعلمنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، فيكون المعنى ترون أيها المؤمنون المشركين مثليكم في العدد وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم ويقع التجاسر، وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، وقلل المسلمين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم فينفذ حكم الله فيهم. ويحتمل أن يكون الضمير في "مثليهم" للمسلمين، أي ترون أيها المسلمون المسلمين مثلي ما أنتم عليه من العدد، أي ترون أنفسكم مثلي عددكم؛ فعل الله ذلك بهم لتقوى أنفسهم على لقاء المشركين. والتأويل الأول أولى؛ يدل عليه قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} [الأنفال: 43] وقوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} [الأنفال: 44] وروي عن ابن مسعود أنه قال: قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أظنهم مائة فلما أخذنا الأسارى أخبرونا أنهم كانوا ألفا. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكافرين حتى كانوا عندهم ضعفين. وضعف الطبري هذا القول. قال ابن عطية: وكذلك هو مردود من جهات. بل قلل الله المشركين في أعين المؤمنين كما تقدم. وعلى هذا التأويل كان يكون "ترون" للكافرين، أي ترون أيها الكافرون المؤمنين مثليهم، ويحتمل مثليكم، على ما تقدم. وزعم الفراء أن المعنى

ترونهم مثليهم ثلاثة أمثالهم. وهو بعيد غير معروف في اللغة. قال الزجاج: وهذا باب الغلط، فيه غلط في جميع المقاييس؛ لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له، ونعقل مثله ما يساويه مرتين. قال ابن كيسان: وقد بين الفراء قوله بأن قال: كما تقول وعندك عبد: أحتاج إلى مثله، فأنت محتاج إليه وإلى مثله. وتقول: أحتاج إلى مثليه، فأنت محتاج إلى ثلاثة. والمعنى على خلاف ما قاله، واللغة. والذي أوقع الفراء في هذا أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين يوم بدر؛ فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عدتهم، وهذا بعيد وليس المعنى عليه. وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين: إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك، لأن المؤمنين تقوى قلوبهم بذلك. والأخرى أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتي ذكر وقعة بدر إن شاء الله تعالى. وأما قراءة الياء فقال ابن كيسان: الهاء والميم في "يرونهم" عائدة على {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} والهاء والميم في "مثليهم" عائدة على {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهذا من الإضمار الذي يدل عليه سياق الكلام، وهو قوله: {يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} . فدل ذلك على أن الكافرين كانوا مثلي المسلمين في رأي العين وثلاثة أمثالهم في العدد. قال: والرؤية هنا لليهود. وقال مكي: الرؤية للفئة المقاتلة في سبيل الله، والمرئية الفئة الكافرة؛ أي ترى الفئة المقاتلة في سبيل الله الفئة الكافرة مثلي الفئة المؤمنة، وقد كانت الفئة الكافرة ثلاثة أمثال المؤمنة فقللهم الله في أعينهم على ما تقدم. والخطاب في "لكم" لليهود. وقرأ ابن عباس وطلحة "تُروهم" بضم التاء، والسلمي بالتاء المضمومة على ما لم يسم فاعله.
{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} تقدم معناه والحمد لله.
الآية: 14 {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}

فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى - قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} زين من التزيين واختلف الناس من المزين؛ فقالت فرقة: الله زين ذلك؛ وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكره البخاري. وفي التنزيل: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف: 7]؛ ولما قال عمر: الآن يا رب حين زينتها لنا! نزلت: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران: 15] وقالت فرقة: المزين هو الشيطان؛ وهو ظاهر قول الحسن، فإنه قال: من زينها؟ ما أحد أشد لها ذما من خالقها. فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء. وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. والآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم. وقرأ الجمهور "زُيِّن" على بناء الفعل للمفعول، ورفع "حُبُّ". وقرأ الضحاك ومجاهد "زَيَّن" على بناء الفعل للفاعل، ونصب "حُبَّ" وحركت الهاء من "الشهوات" فرقا بين الاسم والنعت. والشهوات جمع شهوة وهي معروفة. ورجل شهوان للشيء، وشيء شهي أي مشتهى واتباع الشهوات مرد وطاعتها مهلكة. وفي صحيح مسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها. وأن النار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طريق الجنة حزن بربوة وطريق النار سهل بسهوة..." ؛ وهو معنى قوله " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" . أي طريق الجنة صعبة المسلك فيه أعلى ما يكون من الروابي، وطريق النار سهل لا غلظ فيه ولا وعورة، وهو معنى قوله "سهل بسهوة" وهو بالسين المهملة.

الثانية : -قوله تعالى: {مِنَ النِّسَاءِ} بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن؛ لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء" أخرجه البخاري ومسلم. ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء. ويقال: في النساء فتنتان، وفي الأولاد فتنة واحدة. فأما اللتان في النساء فإحداهما أن تؤدي إلى قطع الرحم؛ لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمهات والأخوات. والثانية يبتلى بجمع المال من الحلال والحرام. وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم. وروى عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتاب" . حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجال، وليس في ذلك تحصين لهن ولا ستر؛ لأنهن قد يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة والبلاء، ولأنهن قد خلقن من الرجل؛ فهمتها في الرجل والرجل خلق فيه الشهوة وجعلت سكنا له؛ فغير مأمون كل واحد منهما على صاحبه. وفي تعلمهن الكتاب هذا المعنى من الفتنة وأشد. وفي كتاب الشهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أعروا النساء يلزمن الحجال" . فعلى الإنسان إذا لم يصبر في هذه الأزمان أن يبحث عن ذات الدين ليسلم له الدين؛ قال صلى الله عليه وسلم: "عليك بذات الدين تربت يداك" أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وفي سنن ابن ماجة عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين ولأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل" .
الثالثة : -قوله تعالى: {وَالْبَنِينَ} " عطف على ما قبله. وواحد من البنين ابن. قال الله تعالى مخبرا عن نوح: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} وتقول في التصغير "بني" كما قال لقمان. وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشعث بن قيس: "هل لك من ابنة حمزة من

ولد" ؟ قال: نعم، لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني جبلة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لئن قلت بذلك إنهم لثمرة القلوب وقرة الأعين وإنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة" .
قوله تعالى: {وَالْقَنَاطِيرِ} " القناطير جمع قنطار، كما قال تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} " [النساء: 20] وهو العقدة الكبيرة من المال، وقيل: هو اسم للمعيار الذي يوزن به؛ كما هو الرطل والربع. ويقال لما بلغ ذلك الوزن: هذا قنطار، أي يعدل القنطار. والعرب تقول: قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار. وقال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه؛ تقول العرب: قنطرت الشيء إذا أحكمته؛ ومنه سميت القنطرة لإحكامها. قال طرفة:
كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفن حتى تشاد بقرمد
والقنطرة المعقودة؛ فكأن القنطار عقد مال. واختلف العلماء في تحرير حده كم هو على أقوال عديدة؛ فروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية" ؛ وقال بذلك معاذ بن جبل وعبدالله بن عمر وأبو هريرة وجماعة من العلماء. قال ابن عطية: وهو أصح الأقوال، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية. وقيل: اثنا عشر ألف أوقية؛ أسنده البستي في مسنده الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "القنطار اثنا عشر ألف أوقية الأوقية خير مما بين السماء والأرض" . وقال بهذا القول أبو هريرة أيضا. وفي مسند أبي محمد الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال: "من قرأ في ليلة عشر آيات كتب من الذاكرين، ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ بخمسمائة آية إلى الألف أصبح وله قنطار من الأجر" قيل:

وما القنطار؟ قال: "ملء مسك ثور ذهبا". موقوف؛ وقال به أبو نضرة العبدي. وذكر ابن سيده أنه هكذا بالسريانية. وقال النقاش عن ابن الكلبي أنه هكذا بلغة الروم. وقال ابن عباس والضحاك والحسن: ألف ومائتا مثقال من الفضة؛ ورفعه الحسن. وعن ابن عباس: اثنا عشر ألف درهم من الفضة، ومن الذهب ألف دينار دية الرجل المسلم؛ وروى عن الحسن والضحاك. وقال سعيد بن المسيب: ثمانون ألفا. قتادة: مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألف درهم من الفضة. وقال أبو حمزة الثمالي: القنطار بإفريقية والأندلس ثمانية آلاف مثقال من ذهب أو فضة. السدي: أربعة آلاف مثقال. مجاهد: سبعون ألف مثقال؛ وروي عن ابن عمر. وحكى مكي قولا أن القنطار أربعون أوقية من ذهب أو فضة؛ وقاله ابن سيده في المحكم، وقال: القنطار بَرْبَرْ ألف مثقال. وقال الربيع بن أنس: القنطار المال الكثير بعضه على بعض؛ وهذا هو المعروف عند العرب، ومنه قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} أي مالا كثيرا. ومنه الحديث: "إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه" أي صار له قنطار من المال. وعن الحكم هو ما بين السماء والأرض. واختلفوا في معنى "المقنطرة" فقال الطبري وغيره: معناه المضعفة، وكأن القناطير ثلاثة والمقنطرة تسع. وروى عن الفراء أنه قال: القناطير جمع القنطار، والمقنطرة جمع الجمع، فيكون تسع قناطير. السدي: المقنطرة المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم. مكي: المقنطرة المكملة؛ وحكاه الهروي؛ كما يقال: بدر مبدرة، وآلاف مؤلفة. وقال بعضهم. ولهذا سمي البناء القنطرة لتكاثف البناء بعضه على بعض. ابن كيسان والفراء: لا تكون المقنطرة أقل من تسع قناطير. وقيل: المقنطرة إشارة إلى حضور المال وكونه عتيدا. وفي صحيح البستي عن عبدالله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطِرين" .

الخامسة : -قوله تعالى: {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} الذهب مؤنثة؛ يقال: هي الذهب الحسنة جمعها ذهاب وذُهوب. ويجوز أن يكون جمع ذَهْبَة، ويجمع على الأذهاب. وذهب فلان مذهبا حسنا. والذهب: مكيال لأهل اليمن. ورجل ذَهِب إذا رأى معدن الذهب فدهش. والفضة معروفة، وجمعها فضض. فالذهب مأخوذة من الذهاب، والفضة مأخوذة من انفض الشيء تفرق؛ ومنه فَضَضْت القوم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا. وهذا الاشتقاق يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد في الوجود. ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول بعضهم:
النار آخر دينار نطقت به ... والهم آخر هذا الدرهم الجاري
والمرء بينهما إن كان ذا ورع ... معذب القلب بين الهم والنار
السادسة : -قوله تعالى: {وَالْخَيْلِ} الخيل مؤنثة. قال ابن كيسان: حدثت عن أبي عبيدة أنه قال: واحد الخيل خائل، مثل طائر وطير، وضائن وضين؛ وسمي الفرس بذلك لأنه يختال في مشيه. وقال غيره: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه، واحد فرس، كالقوم والرهط والنساء والإبل ونحوها. وفي الخبر من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الفرس من الريح ولذلك جعلها تطير بلا جناح" . وهب بن منبه: خلقها من ريح الجنوب. قال وهب: فليس تسبيحة ولا تكبيرة ولا تهليلة يكبرها صاحبها إلا وهو يسمعها فيجيبه بمثلها. وسيأتي لذكر الخيل ووصفها في سورة "الأنفال" ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. وفي الخبر: "إن الله عرض على آدم جميع الدواب، فقيل له: اختر منها واحدا فاختار الفرس؛ فقيل له: اخترت عزك"؛ فصار اسمه الخير من هذا الوجه. وسميت خيلا لأنها موسومة بالعز فمن ركبه اعتز بنحلة الله له ويختال به على أعداء الله تعالى. وسمي فرسا

لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وثبانا، ويقطعها كالالتهام بيديه على شيء خبطا وتناولا، وسمي عربيا لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت، وإسماعيل عربي، فصار له نحلة من الله تعالى فسمي عربيا. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الشيطان دارا فيها فرس عتيق" . وإنما سمي عتيقا لأنه قد تخلص من الهجانة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم ثم الأقرح المحجل طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية" . أخرجه الترمذي عن أبي قتادة. وفي مسند الدارمي عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أريد أن أشتري فرسا فأيها أشتري؟ قال: "اشتر أدهم أرثم محجلا طلق اليمين أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم" . وروى النسائي عن أنس قال: لم يكن أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل. وروى الأئمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر..." الحديث بطوله، شهرته أغنت عن ذكره. وسيأتي ذكر أحكام الخيل في "الأنفال" و"النحل" بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى.
السابعة : -قوله تعالى: {الْمُسَوَّمَةِ} يعني الراعية في المروج والمسارح؛ قاله سعيد بن جبير. يقال: سامت الدابة والشاة إذا سرحت تسوم سوما فهي سائمة. وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة. وسومتها تسويما فهي مسومة. وفي سنن ابن ماجة عن علي قال: نهى

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السوم قبل طلوع الشمس، وعن ذبح ذوات الدر. السوم هنا في معنى الرعي. وقال الله عز وجل: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] قال الأخطل:
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله ... أولى لك ابن مسيمة الأجمال
أراد ابن راعية الإبل. والسوام: كل بهيمة ترعى، وقيل: المعدة للجهاد؛ قاله ابن زيد. مجاهد: المسومة المطهمة الحسان. وقال عكرمة: سومها الحسن؛ واختاره النحاس، من قولهم: رجل وسيم. وروي عن ابن عباس أنه قال: المسومة المعلمة بشيات الخيل في وجوهها، من السيما وهي العلامة. وهذا مذهب الكسائي وأبي عبيدة.
قلت: كل ما ذكر يحتمله اللفظ، فتكون راعية معدة حسانا معلمة لتعرف من غيرها. قال أبو زيد: أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى. وحكى ابن فارس اللغوي في مجمله: المسومة المرسلة وعليها ركبانها. وقال المؤرج: المسومة المكوية، المبرد: المعروفة في البلدان. ابن كيسان: البلق. وكلها متقارب من السيما. قال النابغة:
وضمر كالقداح مسومات ... عليها معشر أشباه جن
الثامنة : -قوله تعالى: {وَالأَنْعَامِ} قال ابن كيسان: إذا قلت نعم لم تكن إلا للإبل، فإذا قلت أنعام وقعت للإبل وكل ما يرعى. قال الفراء: هو مذكر ولا يؤنث؛ يقولون:

هذا نعم وارد، ويجمع أنعاما. قال الهروي: والنعم يذكر ويؤنث، والأنعام المواشي من الإبل والبقر والغنم؛، إذا قيل: النعم فهو الإبل خاصة. وقال حسان:
وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء
وفي سنن ابن ماجة عن عروة البارقي يرفعه قال: "الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة". وفيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشاة من دواب الجنة" . وفيه عن أبي هريرة قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال: عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى. وفيه عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " اتخذي غنما فإن فيها بركة" . أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم هانئ، إسناد صحيح.
التاسعة : -قوله تعالى: {وَالْحَرْثِ} الحرث هنا اسم لكل ما يحرث، وهو مصدر سمي به؛ تقول: حرث الرجل حرثا إذا أثار الأرض لمعنى الفلاحة؛ فيقع اسم الحراثة على زرع الحبوب وعلى الجنات وعلى غير ذلك من نوع الفلاحة. وفي الحديث: "احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا" . يقال حرثت واحترثت. وفي حديث عبدالله "احرثوا هذا القرآن" أي فتشوه. قال ابن الأعرابي: الحرث التفتيش؛ وفي الحديث: " أصدق الأسماء الحارث" لأن الحارث هو الكاسب، واحتراث المال كسبه، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس، والجمع أحرثة، وأحرث الرجل ناقته أهزلها. وفي حديث معاوية: ما فعلت نواضحكم؟ قالوا: حرثناها يوم بدر. قال أبو عبيد: يعنون هزلناها؛ يقال: حرثت الدابة وأحرثتها، لغتان. وفي صحيح البخاري عن أبي أمامة الباهلي قال وقد رأى سكة

وشيئا من آلة الحرث فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل" . قيل: إن الذل هنا ما يلزم أهل الشغل بالحرث من حقوق الأرض التي يطالبهم بها الأئمة والسلاطين. وقال المهلب: معنى قوله في هذا الحديث والله أعلم الحض على معالي الأحوال وطلب الرزق من أشرف الصناعات؛ وذلك لما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله؛ لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها؛ فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة. ألا ترى أن عمر قال: تمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وثبوا على الخيل وثبا لا تغلبنكم عليها رعاة الإبل. فأمرهم بملازمة الخيل، ورياضة أبدانهم بالوثوب عليها. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم غرس غرسا أو زرع زرعا فيأمل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" .
قال العلماء: ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس؛ أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار، وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك، وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي، وأما الحرث فيتمول بها أهل الرساتيق. فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول، فأما النساء والبنون ففتنة للجميع.
العاشرة : قوله تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى. وهذا منه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة. روى ابن ماجة وغيره عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة" . وفي الحديث: " إزهد في الدنيا يحبك الله" أي في متاعها من الجاه والمال الزائد على الضروري. قال صلى الله عليه وسلم: "ليس لابن آدم حق في سوى هذه

الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء" أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب. وسئل سهل بن عبدالله: بم يسهل على العبد ترك الدنيا وكل الشهوات؟ قال: بتشاغله بما أمر به.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} ابتداء وخبر. والمآب المرجع؛ آب يؤوب إيابا إذا رجع؛ قال يؤوب إيابا إذا رجع؛ قال امرؤ القيس:
وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر:
وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
وأصل مآب مأوب، قلبت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف، مثل مقال. ومعنى الآية تقليل الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة.
الآية: 15 {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
منتهى الاستفهام عند قوله: {مِنْ ذَلِكُمْ} ، "للذين اتقوا" خبر مقدم، و"جنات" رفع بالابتداء. وقيل: منتهاه "عند ربهم"، و"جنات" على هذا رفع بابتداء مضمر تقديره ذلك جنات. ويجوز على هذا التأويل "جنات" بالخفض بدلا من "خير" ولا يجوز ذلك على الأول. قال ابن عطية: وهذه الآية والتي قبلها نظير قوله عليه السلام: "تنكح المرأة لأربع لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" خرجه مسلم وغيره. فقوله "فاظفر بذات الدين" مثال لهذه الآية. وما قبل مثال للأولى. فذكر تعالى هذه تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها. وقد تقدم في البقرة معاني ألفاظ هذه الآية.

والرضوان مصدر من الرضا، وهو أنه إذا دخل أهل الجنة يقول الله تعالى لهم " تريدون شيئا أزيدكم"؟ فيقولون: يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: "رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدأ" خرجه مسلم. وفي قوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} وعد ووعيد.
الآيتان: 16 - {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّار} ،
17- {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}
{الَّذِينَ} بدل من قوله {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} وإن شئت كان رفعا أي هم الذين، أو نصبا على المدح. {رَبَّنَا} أي يا ربنا. {إِنَّنَا آمَنَّا} أي صدقنا. {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} دعاء بالمغفرة. {وَقِنَا عَذَابَ النَّار} تقدم في البقرة. {الصَّابِرِينَ} يعني عن المعاصي والشهوات، وقيل: على الطاعات. {وَالصَّادِقِينَ} أي في الأفعال والأقوال {وَالْقَانِتِينَ} الطائعين. {وَالْمُنْفِقِينَ} يعني في سبيل الله. وقد تقدم في البقرة هذه المعاني على الكمال. ففسر تعالى في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات.
واختلف في معنى قوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} فقال أنس بن مالك: هم السائلون المغفرة. قتادة: المصلون.
قلت: ولا تناقض، فإنهم يصلون ويستغفرون. وخص السحر بالذكر لأنه مظان القبول ووقت إجابة الدعاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام لبنيه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]: "أنه أخر ذلك إلى السحر" خرجه الترمذي وسيأتي. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل "أي الليل أسمع"؟ فقال: "لا أدري غير أن العرش يهتز عند السحر" . يقال سحر وسحر، بفتح الحاء وسكونها، وقال الزجاج: السحر من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر الثاني، وقال ابن زيد: السحر هو سدس الليل الآخر.

قلت: أصح من هذا ما روى الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر" في رواية "حتى ينفجر الصبح" لفظ مسلم. وقد اختلف في تأويله؛ وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرا عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا فيقول هل من داع يستجاب له هل من مستغر يغفر له هل من سائل يعطى" . صححه أبو محمد عبدالحق، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك ربنا فيقول. وقد روى "ينزل" بضم الياء، وهو يبين ما ذكرنا، وبالله توفيقنا. وقد أتينا على ذكره في "الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى".
مسألة : الاستغفار مندوب إليه، وقد أثنى الله تعالى على المستغفرين في هذه الآية وغيرها فقال: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]. وقال أنس بن مالك: أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة. وقال سفيان الثوري: بلغني أنه إذا كان أول الليل نادى مناد ليقِم القانتون فيقومون كذلك يصلون إلى السحر، فإذا كان عند السحر نادى مناد: أين المستغفرون فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون فيصلون فيلحقون بهم. فإذا طلع الفجر نادى مناد: ألا ليقم الغافلون فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم. وروي عن أنس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقول إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المتهجدين والمستغفرين بالأسحار صرفت عنهم العذاب بهم" . قال مكحول: إذا كان في أمة خمسة عشر رجلا يستغفرون الله كل يوم خمسا وعشرين مرة لم يؤاخذ الله تلك الأمة بعذاب العامة. وذكره أبو نعيم في كتاب الحلية له. وقال نافع: كان ابن عمر يحيى الليل ثم

يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول لا. فيعاود الصلاة ثم يسأل، فإذا قلت نعم قعد يستغفر. وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول: يا رب، أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي. فنظرت فإذا هو ابن مسعود.
قلت: فهذا كله يدل على أنه استغفار باللسان مع حضور القلب. لا ما قال ابن زيد أن المراد بالمستغفرين الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة. والله أعلم. وقال لقمان لابنه: "يا بني لا يكن الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم". والمختار من لفظ الاستغفار ما رواه البخاري عن شداد بن أوس، وليس له في الجامع غيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت - قال - ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليله قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة" . وروى أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث ابن لهيعة عن أبي صخر عن أبي معاوية عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم قال: "ألا أعلمك كلمات تقولهن لو كانت ذنوبك كمدب النمل - أو كمدب الذر - لغفرها الله لك على أنه مغفور لك: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" .
الآية: 18 {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
فيه أربع مسائل:
قال سعيد بن جبير: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما نزلت هذه الآية خررن سجدا. وقال الكلبي: لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه

حبران من أحبار أهل الشام؛ فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان. فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال "نعم" . قالا: وأنت أحمد؟ قال: "نعم" . قالا: نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلاني" . فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله. فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن المراد بأولي العلم الأنبياء عليهم السلام. وقال ابن كيسان: المهاجرون والأنصار. مقاتل: مؤمنو أهل الكتاب. السدي والكلبي: المؤمنون كلهم؛ وهو الأظهر لأنه عام.
الثانية : -في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء. وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114]. فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن العلماء ورثة الأنبياء" . وقال: "العلماء أمناء الله على خلقه" . وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير. وخرج أبو محمد عبدالغني الحافظ من حديث بركة بن نشيط - وهو عنكل بن حكارك وتفسيره بركة بن نشيط - وكان حافظا، حدثنا عمر بن المؤمل حدثنا محمد بن أبي الخصيب حدثنا عنكل حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة" وفي هذا الباب حديث عن أبي الدرداء خرجه أبو داود.
الثالثة : -روى غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فكنت أختلف إليه. فلما كان ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام فتهجد من الليل فقرأ بهذه الآية: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران: 18 - 19]، قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، وإن الدين عند الله الإسلام - قالها مرارا - فغدوت إليه وودعته ثم قلت: إني سمعتك تقرأ هذه الآية فما بلغك فيها؟ أنا عندك منذ سنة لم تحدثني به. قال: والله لا حدثتك به سنة. قال: فأقمت وكتبت على بابه ذلك اليوم، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد قد مضت السنة. قال: حدثني أبو وائل، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى أدخلوا عبدي الجنة" . قال أبو الفرج الجوزي: غالب القطان هو غالب بن خطاف القطان، يروي عن الأعمش حديث "شهد الله" وهو حديث معضل. قال ابن عدي الضعف على حديثه بين. وقال أحمد بن حنبل: غالب بن خطاف القطان ثقة ثقة. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح.
قلت: يكفيك من عدالته وثقته أن خرج له البخاري ومسلم في كتابيهما، وحسبك. وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} عند منامه خلق الله له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة". ويقال من أقر بهذه الشهادة عن عقد من قلبه فقد قام بالعدل. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من أحياء العرب صنم أو صنمان. فلما نزلت هذه الآية أصبحت الأصنام قد خرت ساجدة لله.
الرابعة : -قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ} أي بين وأعلم؛ كما يقال: شهد فلان عند القاضي إذا بين وأعلم لمن الحق، أو على من هو. قال الزجاج: الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه؛ فقد دلنا الله تعالى على وحدانيته بما خلق وبين. وقال أبو عبيدة: "شهد الله" بمعنى قضى الله، أي أعلم. وقال ابن عطية: وهذا مردود من جهات. وقرأ الكسائي بفتح "أن" في قوله

"أنه لا إله إلا هو" وقوله "أن الدين". قال المبرد: التقدير: أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو، ثم حذفت الباء كما قال: أمرتك الخير. أي بالخير. قال الكسائي: أنصبهما جميعا، بمعنى شهد الله أنه كذا، وأن الذين عند الله. قال ابن كيسان: "أن" الثانية بدل من الأولى؛ لأن الإسلام تفسير المعنى الذي هو التوحيد. وقرأ ابن عباس فيما حكى الكسائي "شهد الله إنه" "بالكسر" "أن الدين" بالفتح. والتقدير: شهد الله أن الدين الإسلام، ثم ابتداء فقال: إنه لا إله إلا هو. وقرأ أبو المهلب وكان قارئا - شهداء الله بالنصب على الحال، وعنه "شهداء الله". وروى شعبة عن عاصم عن زرٍّ عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ "أن الدين عند الله الحنيفية لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية" . قال أبو بكر الأنباري: ولا يخفى على ذي تمييز أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التفسير، أدخله بعض من نقل الحديث في القرآن. و {قَائِماً} نصب على الحال المؤكدة من اسمه تعالى في قوله "شهد الله" أو من قوله "إلا هو". وقال الفراء: هو نصب على القطع، كان أصله القائم، فلما قطعت الألف واللام نصب كقوله: "وله الدين واصباً" [النحل: 52]. وفي قراءة عبدالله "القائم بالقسط" على النعت، والقسط العدل. {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} كرر لأن الأولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت محل الحكم. وقال جعفر الصادق: الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، يعني قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم.
الآية: 19 {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} الدين في هذه الآية الطاعة والملة، والإسلام بمعنى الإيمان والطاعات؛ قاله أبو العالية، وعليه جمهور المتكلمين. والأصل في مسمى الإيمان

والإسلام التغاير؛ لحديث جبريل. وقد يكون بمعنى المرادفة. فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر؛ كما في حديث وفد عبدا لقيس وأنه أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال : "هل تدرون ما الإيمان"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم " الحديث. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله" أخرجه الترمذي. وزاد مسلم "والحياء شعبة من الإيمان" . ويكون أيضا بمعنى التداخل وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل ومسمى الآخر، كما في هذه الآية إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال؛ ومنه قوله عليه السلام: "الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان" . أخرجه ابن ماجة، وقد تقدم والحقيقة هو الأول وضعا وشرعا وما عداه من باب التوسع والله أعلم.
قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية. أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائق، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا. قاله ابن عمر وغيره. وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم؛ قاله الأخفش. قال محمد بن جعفر بن الزبير: المراد بهذه الآية النصارى، وهي توبيخ لنصارى نجران. وقال الربيع بن أنس: المراد بها اليهود. ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعم اليهود والنصارى؛ أي "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب" يعني في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. "إلا من بعد ما جاءهم العلم" يعني بيان صفته ونبوته في كتبهم. وقيل: أي وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل في أمر عيسى وفرقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد، وأن عيسى عبدالله ورسوله. و"بغيا" نصب على المفعول من أجله، أو على الحال من "الذين" والله تعالى أعلم.

الآية: 20 {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي جادلوك بالأقاويل المزورة والمغالطات، فأسند أمرك إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ وعلى الله نصرك. وقوله "وجهي" بمعنى ذاتي؛ ومنه الحديث "سجد وجهي للذي خلقه وصوره". وقيل: الوجه هنا بمعنى القصد؛ كما تقول: خرج فلان في وجه كذا. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة مستوفى؛ والأول أولى. وعبر بالوجه عن سائر الذات إذ هو أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس. وقال:
أسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا
وقد قال حذاق المتكلمين في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]: إنها عبارة عن الذات وقيل: العمل الذي يقصد به وجهه. وقوله "ومن اتبعن" "من" في محل رفع عطفا على التاء في قوله "أسلمت" أي ومن اتبعني أسلم أيضا، وجاز العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد للفصل بينهما. وأثبت نافع وأبو عمرو ويعقوب ياء "اتبعن" على الأصل، وحذف الآخرون اتباعا للمصحف إذ وقعت فيه بغير ياء. وقال الشاعر:
ليس تخفى يسارتي قدر يوم ... ولقد تخف شيمتي إعساري
قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} يعني اليهود والنصارى "والأميين" الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب. "أأسلمتم" استفهام معناه التقرير وفي ضمنه الأمر، أي أسلموا؛ كذا قال الطبري وغيره. وقال الزجاج: "أأسلمتم" تهديد. وهذا حسن لأن المعنى أأسلمتم أم لا. وجاءت العبارة في قوله "فقد اهتدوا" بالماضي مبالغة في الإخبار بوقوع الهدي لهم

وتحصيله. و"البلاغ" مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل، أي إنما عليك أن تبلغ. وقيل: إنه مما نسخ بالجهاد. وقال ابن عطية: وهذا يحتاج إلى معرفة تاريخ نزولها؛ وأما على ظاهر نزول هذه الآيات في وفد نجران فإنما المعنى فإنما عليك أن تبلغ ما أنزل إليك بما فيه من قتال وغيره.
الآيتان: 21 - {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
22 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
فيه ست مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} قال أبو العباس المبرد: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون يدعونهم إلى الله عز وجل فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم؛ ففيهم نزلت هذه الآية. وكذلك قال معقل بن أبي مسكين: كانت الأنبياء صلوات الله عليهم تجيء إلى بني إسرائيل بغير كتاب فيقتلونهم، فيقوم قوم ممن اتبعهم فيأمرون بالقسط، أي بالعدل، فيقتلون. وقد روي عن ابن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية" وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية" . ذكره المهدوي وغيره. وروى شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبدالله قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم سبعين نبيا ثم تقوم سوق بَقْلِهم من آخر

النهار. فإن قال قائل: الذين وعظوا بهذا لم يقتلوا نبيا. فالجواب عن هذا أنهم رضوا فعل من قتل فكانوا بمنزلته؛ وأيضا فإنهم قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهموا بقتلهم؛ قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} [الأنفال: 30].
الثانية - دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة. قال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه" . وعن درة بنت أبي لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: من خير الناس يا رسول الله؟ قال: "آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه" . وفي التنزيل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] ثم قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]. فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين؛ فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه. ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذ كانت إقامة الحدود إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب؛ فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة. قال الله تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} " [الحج: 41].
الثالثة - وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة، خلافا للمبتدعة حيث تقول: لا يغيره إلا عدل. وهذا ساقط؛ فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس. فإن تشبثوا بقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وقوله: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] ونحوه، قيل لهم: إنما وقع الذم ههنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر. ولا شك

في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى، كما بيناه في البقرة عند قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44].
الرابعة : -أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبدالبر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وإنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره؛ فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك. وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك. قال: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا ولكنها مقيدة بالاستطاعة. قال الحسن: إنما يكلم مؤمن يرجى أو جاهل يعلم؛ فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال: اتقني اتقني فما لك وله. وقال ابن مسعود: بحسب المرء إذا رأى منكرا لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وروى ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه". قالوا: يا رسول الله وما إذلاله نفسه؟ قال: "يتعرض من البلاء لما لا يقوم له" .
قلت: وخرجه ابن ماجة عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن بن جندب عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلاهما قد تكلم فيه. وروي عن بعض الصحابة أنه قال: إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات "اللهم إن هذا منكر" فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه، وزعم ابن العربي أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج زواله فأي فائدة عنده. قال: والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يبالي.
قلت: هذا خلاف ما ذكره أبو عمر من الإجماع. وهذه الآية تدل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خوف القتل. وقال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]. وهذا إشارة إلى الإذاية.

الخامسة : -روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" . قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني عوام الناس. فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل؛ وهذا تلقي من قول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]. وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شيء عليه. ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به؛ حتى لقد قال العلماء: لو فرضنا قودا. وقيل: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
السادسة : -روى أنس بن مالك قال: قيل يا رسول الله، متى نترك الأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر؟ قال: "إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم". قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: "الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم" . قال زيد: تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "والعلم في رذالتكم" إذا كان العلم في الفساق. خرجه ابن ماجة. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في "المائدة" وغيرها إن شاء الله تعالى. وتقدم معنى "فبشرهم" و"حبطت" في البقرة فلا معنى للإعادة.
الآية: 23 {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ}

فيه ثلاث مسائل:
الأولى: -قال ابن عباس: هذه الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله. فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني على ملة إبراهيم" . فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم" . فأبيا عليه فنزلت الآية. وذكر النقاش أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "هلموا إلى التوراة ففيها صفتي" فأبوا. وقرأ الجمهور "ليحكم" وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع "ليحكم" بضم الياء. والقراءة الأولى أحسن؛ لقوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29].
الثانية : -في هذه الآية دليل على وجوب ارتفاع المدعو إلى الحاكم لأنه دعي إلى كتاب الله؛ فإن لم يفعل كان مخالفا يتعين عليه الزجر بالأدب على قدر المخالِف والمخالَف. وهذا الحكم جار عندنا بالأندلس وبلاد المغرب وليس بالديار المصرية. وهذا الحكم الذي ذكرناه مبين في التنزيل في سورة "النور" في قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} إلى قوله {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 48 - 49 - 50]. وأسند الزهري عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له" . قال ابن العربي: وهذا حديث باطل. أما قوله "فهو ظالم" فكلام صحيح. وأما قوله "فلا حق له" فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق. قال ابن خويز منداد المالكي: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو يعلم عداؤه من المدعي والمدعى عليه.
الثالثة : -وفيها دليل على أن شرائع من قبلنا شريعة لنا إلا ما علمنا نسخه، وإنه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا، على ما يأتي بيانه. وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل

بما فيها لأن من هي في يده غير أمين عليها وقد غيرها وبدلها، ولو علمنا أن شيئا منها لم يتغير ولم يتبدل جاز لنا قراءته. ونحو ذلك روي عن عمر حيث قال لكعب: إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها. وكان عليه السلام عالما بما لم يغير منها فلذلك دعاهم إليها وإلى الحكم بها. وسيأتي بيان هذا في "المائدة" والأخبار الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في ذلك. والله أعلم.
الآية: 24 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
إشارة إلى التولي والإعراض، واغترار منهم في قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] إلى غير ذلك من أقوالهم. وقد مضى الكلام في معنى قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} في البقرة.
الآية: 25 {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته على جهة التوقيف والتعجب، أي فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم وقبيح أعمالهم. واللام في قوله "ليوم" بمعنى "في"؛ قاله الكسائي، وقال البصريون: المعنى لحساب يوم، الطبري: لما يحدث في يوم.
الآية: 26 {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

قال علي رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لما أراد الله تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشهد الله وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب تعلقن بالعرش وليس بينهن وبين الله حجاب وقلن يا رب تهبط بنا دار الذنوب وإلى من يعصيك فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا يقرأكن عبد عقب كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما كان منه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كل عدو ونصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" . وقال معاذ بن جبل: احتبست عن النبي صلى الله عليه وسلم يوما فلم أصل معه الجمعة فقال: "يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة" ؟ قلت: يا رسول الله، كان ليوحنا بن باريا اليهودي علي أوقية من تبر وكان على بابي يرصدني فأشفقت أن يحبسني دونك. قال: "أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك"؟ قلت نعم. قال: "قل كل يوم قل اللهم مالك الملك - إلى قوله - بغير حساب رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا لأداه الله عنك" . خرجه أبو نعيم الحافظ، أيضا عن عطاء الخراساني أن معاذ بن جبل قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن - أو كلمات - ما في الأرض مسلم يدعو بهن وهو مكروب أو غارم أو ذو دين إلا قضى الله عنه وفرج همه، احتبست عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فذكره. غريب من حديث عطاء أرسله عن معاذ. وقال ابن عباس وأنس بن مالك: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: نزلت دامغة لباطل نصارى أهل نجران في قولهم: إن عيسى هو الله؛ وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى ليس في شيء منها. قال ابن إسحاق: أعلم الله عز وجل في هذه الآية بعنادهم وكفرهم، وإن عيسى صلى الله عليه وسلم وإن كان الله تعالى

أعطاه آيات تدل على نبوته من إحياء الموتى وغير ذلك فإن الله عز وجل هو المنفرد بهذه الأشياء؛ من قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} . وقوله: { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] فلو كان عيسى إلها كان هذا إليه؛ فكان في ذلك اعتبار وآية بينة.
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ} اختلف النحويون في تركيب لفظة "اللهم" بعد إجماعهم أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة، وأنها منادى؛ وقد جاءت مخففة الميم في قول الأعشى:
كدعوة من أبي رباح ... يسمعها اللهم الكبار
قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين: إن أصل اللهم يا الله، فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو "يا" جعلوا بدله هذه الميم المشددة، فجاؤوا بحرفين وهما الميمان عوضا من حرفين وهما الياء والألف، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد. وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم يا ألله أمنا بخير؛ فحذف وخلط الكلمتين، وإن الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة. قال النحاس: هذا عند البصريين من الخطأ العظيم، والقول في هذا ما قاله الخليل وسيبويه. قال الزجاج: محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداء المفرد، وأن يجعل في اسم الله ضمة أُمّ، هذا إلحاد في اسم الله تعالى. قال ابن عطية: وهذا غلو من الزجاج، وزعم أنه ما سمع قط يا ألله أُمّ، ولا تقول العرب يا اللهم. وقال الكوفيون: إنه قد يدخل حرف النداء على "اللهم" وأنشدوا على ذلك قول الراجز:
غفرت أو عذبت يا اللهما
آخر:
وما عليك أن تقولي كلما ... سبحت أو هللت يا اللهم ما
اردد علينا شيخنا مسلما ...
فإننا من خيره لن نعدما

آخر:
إني إذا ما حدث ألما ... أقول يا اللهم يا اللهما
قالوا: فلو كان الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعا. قال الزجاج: وهذا شاذ ولا يعرف قائله، ولا يترك له ما كان في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب؛ وقد ورد مثله في قوله:
هما نفثا في فيّ من فمويهما ... على النابح العاوي أشد رجام
قال الكوفيون: وإنما تزاد الميم مخففة في فم وابنم، وأما ميم مشددة فلا تزاد. وقال بعض النحويين: ما قاله الكوفيون خطأ؛ لأنه لو كان كما قالوا كان يجب أن يقال: "اللهم" ويقتصر عليه لأنه معه دعاء. وأيضا فقد تقول: أنت اللهم الرزاق. فلو كان كما ادعوا لكنت قد فصلت بجملتين بين الابتداء والخبر. قال النضر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسمائه كلها وقال الحسن: اللهم تجمع الدعاء.
قوله تعالى: {مَالِكَ الْمُلْكِ} قال قتادة: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله عز وجل أن يعطي أمته ملك فارس فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل: سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له ملك فارس والروم في أمته؛ فعلمه الله تعالى بأن يدعو بهذا الدعاء. وقد تقدم معناه. و"مالك" منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان؛ ومثله قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر: 46] ولا يجوز عنده أن يوصف اللهم لأنه قد ضمت إليه الميم. وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السري الزجاج فقالا: "مالك" في الإعراب صفة لاسم الله تعالى، وكذلك {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . قال أبو علي؛ هو مذهب

أبي العباس المبرد؛ وما قاله سيبويه أصوب وأبين؛ وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد "اللهم" لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت، والأصوات لا توصف؛ نحو غاق وما أشبهه. وكان حكم الاسم المفرد ألا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع. فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه ألا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت؛ نحو حيهل فلم يوصف. و {الْمُلْكُ} هنا النبوة؛ عن مجاهد. وقيل، الغلبة. وقيل: المال والعبيد. الزجاج: المعنى مالك العباد وما ملكوا. وقيل: المعنى مالك الدنيا والآخرة. ومعنى {تُؤْتِي الْمُلْكَ} أي الإيمان والإسلام. "من تشاء" أي من تشاء أن تؤتيه إياه، وكذلك ما بعده، ولا بد فيه من تقدير الحذف، أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، ثم حذف هذا، وأنشد سيبويه:
ألا هل لهذا الدهر من متعلل ... على الناس مهما شاء بالناس يفعل
قال الزجاج: مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل. وقوله: {تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} يقال: عز إذا علا وقهر وغلب؛ ومنه، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]. {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} ذل يذل ذلا إذا غلب وعلا وقهر. قال طرفة:
بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا ... ذليل بأجماع الرجال ملهد
{بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي بيدك الخير والشر فحذف؛ كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]. وقيل: خص الخير لأنه موضع دعاء ورغبة في فضله. قال النقاش: بيدك الخير، أي النصر والغنيمة. وقال أهل الإشارات. كان أبو جهل يملك المال الكثير، ووقع في الرس يوم بدر، والفقراء صهيب وبلال وخباب لم يكن لهم مال، وكان ملكهم الإيمان، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} تقيم الرسول يتيم أبي طالب على رأس الرس حتى ينادي أبدانا قد انقلبت

إلى القليب: يا عتبة، يا شيبة تعز من تشاء وتذل من تشاء. أي صهيب، أي بلال، لا تعتقدوا أنا منعناكم من الدنيا ببغضكم. بيدك الخير ما منعكم من عجز {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إنعام الحق عام يتولى من يشاء.
الآية: 27 {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي في معنى قوله {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الآية، أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر، حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، والليل تسع ساعات وهو أقصر ما يكون، وكذا {تُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} وهو قول الكلبي، وروى عن ابن مسعود. وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار، كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر. واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} فقال الحسن: معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، وروي نحوه عن سلمان الفارسي. وروي معمر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه فإذا بامرأة حسنة الهيئة قال: "من هذه "؟ قلن إحدى خالاتك. قال: "ومن هي" ؟ قلن: هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الذي يخرج الحي من الميت" . وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا. فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن؛ فالموت والحياة مستعاران. وذهب كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية حقيقتان؛ فقال عكرمة: هي إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة، وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية. وقال ابن مسعود: هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة. وقال عكرمة والسدي: هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة، والنواة من النخلة والنخلة

تخرج من النواة؛ والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه. ثم قال: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير تضييق ولا تقتير؛ كما تقول: فلان يعطي بغير حساب؛ كأنه لا يحسب ما يعطي.
الآية: 28 {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}
فيه مسألتان:
الأولى: -قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار فيتخذوهم أولياء؛ ومثله {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران 118] وهناك يأتي بيان هذا المعنى. ومعنى {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي فليس من حزب الله ولا من أوليائه في شيء؛ مثل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. وحكى سيبويه "هو مني فرسخين" أي من أصحابي ومعي. ثم استثنى
الثانية : فقال: {لاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين؛ فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم. قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثما. وقال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل. وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك: "إلا أن تتقوا منهم تقية" وقيل: إن المؤمن إذا كان قائما بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم. ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر؛ بل يجوز له ذلك على ما يأتي بيانه في "النحل" إن شاء الله تعالى. وأمال حمزة والكسائي "تقاة"، وفخم الباقون؛ وأصل "تقاة" وُقَيَة على وزن فعلة؛ مثل

تؤدة وتهمة، قلبت الواو تاء والياء ألفا. وروى الضحاك عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا تقيا وكان له حلف من اليهود؛ فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو. فأنزل الله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية. وقيل: إنها نزلت في عمار بن ياسر حين تكلم ببعض ما أراد منه المشركون، على ما يأتي بيانه في "النحل].
قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} قال الزجاج: أي ويحذركم الله إياه. ثم استغنوا عن ذلك بذا وصار المستعمل؛ قال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك. وقال غيره: المعنى ويحذركم الله عقابه؛ مثل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} . وقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي مغيبي، فجعلت النفس في موضع الإضمار لأنه فيها يكون. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي وإلى جزاء الله المصير. وفيه إقرار بالبعث.
الآية: 29 {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
فهو العالم بخفيات الصدور وما اشتملت عليه، وبما في السموات والأرض وما احتوت عليه، علام الغيوب لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يغيب عنه شيء، سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة.
الآية: 30 {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}

"يوم" منصوب متصل بقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يَوْمَ تَجِدُ} . وقيل: هو متصل بقوله: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يَوْمَ تَجِدُ} . وقيل: هو متصل بقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ} ويجوز أن يكون منقطعا على إضمار اذكر؛ ومثله قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ} [إبراهيم: 47، 48]. و"محضرا" حال من الضمير المحذوف من صلة "ما" تقديره يوم تجد كل نفس ما عملته من خير محضرا. هذا على أن يكون "تجد" من وجدان الضالة. و"ما" من قوله {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} عطف على "ما" الأولى. و"تود" في موضع الحال من "ما" الثانية. وإن جعلت "تجد" بمعنى تعلم كان "محضرا" المفعول الثاني، وكذلك تكون "تود" في موضع المفعول الثاني؛ تقديره يوم تجد كل نفس جزاء ما عملت محضرا. ويجوز أن تكون "ما" الثانية رفعا بالابتداء، و"تود" في موضع رفع على أنه خبر الابتداء، ولا يصح أن تكون "ما" بمعنى الجزاء؛ لأن "تود" مرفوع، ولو كان ماضيا لجاز أن يكون جزاء، وكان يكون معنى الكلام: وما عملت من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا؛ أي كما بين المشرق والمغرب. ولا يكون المستقبل إذا جعلت "ما" للشرط إلا مجزوما؛ إلا أن تحمله على تقدير حذف الفاء، على تقدير: وما عملت من سوء فهي تود. أبو علي: هو قياس قول الفراء عندي؛ لأنه قال في قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]: إنه على حذف الفاء. والأمد: الغاية، وجمعه آماد. ويقال: استولى على الأمد، أي غلب سابقا. قال النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد
والأمد: الغضب. يقال: أمِد أمَدا، إذا غضب غضبا.
الآية: 31 {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
الحب: المحبة، وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضا الحبيب؛ مثل الخِدن والخَدين؛ يقال أحبه فهو محب، وحبه يحبه "بالكسر" فهو محبوب. قال الجوهري: وهذا شاذ؛ لأنه

لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر. قال أبو الفتح: والأصل فيه حَبُب كظرف، فأسكنت الباء وأدغمت في الثانية. قال ابن الدهان سعيد: في حَبّ لغتان: حَبّ وأحَبّ، وأصل "حب" في هذا البناء حَبُب كظرف؛ يدل على ذلك قولهم: حَبُبْت، وأكثر ما ورد فعيل من فعل. قال أبو الفتح: والدلالة على أحب قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] بضم الياء. و {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] و"حَبّ" يرد على فعل لقولهم حبيب. وعلى فعل كقولهم محبوب: ولم يرد اسم الفاعل من حب المتعدي، فلا يقال: أنا حاب. ولم يرد اسم المفعول من أفعل إلا قليلا؛ كقوله:
مني بمنزلة المحب المكرم
وحكى أبو زيد: حببته أحبه. وأنشد:
فوالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عويف وهاشم
وأنشد:
لعمرك إنني وطلاب مصر ... لكالمزداد مما حب بعدا
وحكى الأصمعي فتح حرف المضارعة مع الياء وحدها. والحب الخابية، فارسي معرب، والجمع حِباب وحِبَبَة؛ حكاه الجوهري. والآية نزلت في وفد نجران إذ زعموا أن ما ادعوه في عيسى حب لله عز وجل؛ قاله محمد بن جعفر بن الزبير. وقال الحسن وابن جريج: نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا: نحن الذين نحب ربنا. وروي أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، والله إنا لنحب ربنا؛ فأنزل الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} . قال ابن عرفة: المحبة عند العرب إرادة الشيء على قصد له. وقال الأزهري: محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما؛ قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} . ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران؛ قال الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] أي لا يغفر لهم. وقال سهل بن عبدالله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب

القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة؛ وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة. وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} قال: "على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس" خرجه أبو عبدالله الترمذي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أراد أن يحبه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وألا يؤذي جاره" . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء - قال - ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء أن الله يبغض فلانا فأبغضوه - قال - فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض" . وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر سورة "مريم" إن شاء الله تعالى. وقرأ أبو رجاء العطاردي {فَاتَّبِعُونِي} بفتح الباء، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} عطف على "يحببكم". وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من "يغفر" في اللام من "لكم". قال النحاس: لا يجيز الخليل وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرو أجل من أن يغلط في مثل هذا، ولعله كان يخفي الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة.
الآية: 32 {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}
قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} يأتي بيانه في "النساء".
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} شرط، إلا أنه ماض لا يعرب. والتقدير فإن تولوا على كفرهم وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله " {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} " أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم كما تقدم.

وقال "فإن الله" ولم يقل "فإنه" لأن العرب إذا عظمت الشيء أعادت ذكره؛ وأنشد سيبويه:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
الآية: 33 {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} اصطفى اختار، وقد تقدم في البقرة. وتقدم فيها اشتقاق آدم وكنيته، والتقدير إن الله اصطفى دينهم وهو دين الإسلام؛ فحذف المضاف. وقال الزجاج: اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم. "ونوحا" قيل إنه مشتق من ناح ينوح، وهو اسم أعجمي إلا أنه انصرف لأنه على ثلاثة أحرف، وهو شيخ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات، ومن قال: إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وهم على ما يأتي بيانه في "الأعراف" إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} تقدم في البقرة معنى الآل وعلى ما يطلق مستوفى. وفي البخاري عن ابن عباس قال: آل إبراهيم وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد؛ يقول الله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] وقيل: آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم. وقيل: آل إبراهيم نفسه، وكذا آل عمران؛ ومنه قوله تعالى: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]. وفي الحديث: "لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود" ؛ وقال الشاعر:

ولا تبك ميتا بعد ميت أحبه ... علي وعباس وآل أبي بكر
وقال آخر:
يلاقي من تذكر آل ليلى ... كما يلقى السليم من العداد
أراد من تذكر ليلى نفسها. وقيل: آل عمران آل إبراهيم؛ كما قال: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34]. وقيل: المراد عيسى، لأن أمه ابنة عمران. وقيل: نفسه كما ذكرنا. قال مقاتل: هو عمران أبو موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر لن فاهاث بن لاوى بن يعقوب. وقال الكلبي: هو عمران أبو مريم، وهو من ولد سليمان عليه السلام. وحكى السهيلي: عمران بن ماتان، وامرأته حنة "بالنون". وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء والرسل بقضهم وقضيضهم من نسلهم. ولم ينصرف عمران لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين. ومعنى قوله: "على العالمين" أي على عالمي زمانهم، في قول أهل التفسير. وقال الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي: جميع الخلق كلهم. وقيل "على العالمين": على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور، وذلك أن هؤلاء رسل وأنبياء فهم صفوة الخلق؛ فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار أمانا للخلق، لما بعثه الله أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور. وسائر الأنبياء لم يحلوا هذا المحل؛ ولذلك قال عليه السلام: "أنا رحمة مهداة" يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله. وقوله "مهداة" أي هدية من الله للخلق. ويقال: اختار آدم بخمسة أشياء: أولها أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته، والثاني أنه علمه الأسماء كلها، والثالث أمر الملائكة بأن يسجدوا له، والرابع أسكنه الجنة، والخامس جعله أبا البشر. واختار نوحا بخمسة

أشياء: أولها أنه جعله أبا البشر؛ لأن الناس كلهم غرقوا وصار ذريته هم الباقين، والثاني أنه أطال عمره؛ ويقال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين، والرابع أنه حمله على السفينة، والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع؛ وكان قبل ذلك لم يحرم تزويج الخالات والعمات. واختار إبراهيم بخمسة أشياء: أولها أنه جعله أبا الأنبياء؛ لأنه روى أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني أنه اتخذه خليلا، والثالث أنه أنجاه من النار، والرابع أنه جعله إماما للناس، والخامس أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن. ثم قال: "وآل عمران" فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين حيث بعث على قومه المن والسلوى وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم. وإن كان أبا مريم فإنه اصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لأحد في العالم. والله أعلم.
الآية: 34 {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
تقدم في البقرة معنى الذرية واشتقاقها. وهي نصب على الحال؛ قاله الأخفش. أي في حال كون بعضهم من بعض، أي ذرية بعضها من ولد بعض. الكوفيون: على القطع. الزجاج: بدل، أي اصطفى ذرية بعضها من بعض، ومعنى بعضها من بعض، يعني في التناصر في الدين؛ كما قال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] يعني في الضلالة؛ قاله الحسن وقتادة. وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة. وقيل: المراد به التناسل، وهذا أضعفها.
الآية: 35 {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
الآية: 36 {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}

فيه ثمان مسأئل:
الأولى: -قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} " قال أبو عبيدة: "إذ" زائدة. وقال محمد بن يزيد: التقدير: اذكر إذ. وقال الزجاج: المعنى واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران. وهي حنة "بالحاء المهملة والنون" بنت فاقود بن قنبل أم مريم جدة عيسى عليه السلام، وليس باسم عربي ولا يعرف في العربية حنة اسم امرأة. وفي العربية أبو حنة البدري، ويقال فيه: أبو حبة "بالباء بواحدة" وهو أصح، واسمه عامر، ودير حنة بالشأم، ودير آخر أيضا يقال له كذلك؛ قال أبو نواس:
يا دير حنة من ذات الأكيراح ... من يصح عنك فإني لست بالصاحي
وحبة في العرب كثير، منهم أبو حبة الأنصاري، وأبو السنابل بن بعكك المذكور في حديث سبيعة حبة، ولا يعرف خنة بالخاء المعجمة إلا بنت يحيى بن أكثم القاضي، وهي أم محمد بن نصر، ولا يعرف جنة "بالجيم" إلا أبو جنة، وهو خال ذي الرمة الشاعر. كل هذا من كتاب ابن ماكولا.
الثانية : -قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} تقدم معنى النذر، وأنه لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه. ويقال: إنها لما حملت قالت: لئن نجاني الله ووضعت

ما في بطني لجعلته محررا. ومعنى "لك" أي لعبادتك. "محررا" نصب على الحال، وقيل: نعت لمفعول محذوف، أي إني نذرت لك ما في بطني غلاما محررا، والأول أولى من جهة التفسير وسياق الكلام والإعراب: أما الإعراب فإن إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع، ويجوز على المجاز في أخرى، وأما التفسير فقيل أن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، وإنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا فتحركت نفسها لذلك، ودعت ربها أن يهب لها ولدا، ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها محررا: أي عتيقا خالصا لله تعالى، خادما للكنيسة حبيسا عليها، مفرغا لعبادة الله تعالى. وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم. فلما وضعت مريم قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} يعني أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة. قيل لما يصيبها من الحيض والأذى. وقيل: لا تصلح لمخالطة الرجال. وكانت ترجو أن يكون ذكرا فلذلك حررت.
الثالثة : -قال ابن العربي: "لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده وكيفما تصرفت حاله؛ فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر له قول في ذلك؛ وإن كان حرا فلا يصح أن يكون مملوكا له، وكذلك المرأة مثله؛ فأي وجه للنذر فيه؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريد ولده للأنس به والاستنصار والتسلي، فطلبت هذه المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه؛ فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الأنس به متروك فيه، وهو على خدمة الله تعالى موقوف، وهذا نذر الأحرار من الأبرار. وأرادت به محررا من جهتي، محررا من رق الدنيا وأشغالها؛ وقد قال رجل من الصوفية لأمه: يا أمه: ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت نعم. فسار حتى تبصر ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت من؟ فقال لها: ابنك فلان، قالت: قد تركناك لله ولا نعود فيك.
الرابعة : -قوله تعالى: {مُحَرَّراً} مأخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية؛ من هذا تحرير الكتاب، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد. وروى خصيف عن عكرمة ومجاهد:

أن المحرر الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا. وهذا معروف في اللغة أن يقال لكل ما خلص: حر، ومحرر بمعناه؛ قال ذو الرمة:
والقرط في حرة الذفرى معلقه ... تباعد الحبل منه فهو يضطرب
وطين حر لا رمل فيه، وباتت فلانة بليلة حرة إذا لم يصل إليها زوجها أول ليلة؛ فإن تمكن منها فهي بليلة شيباء.
الخامسة : -قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} قال ابن عباس: إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور، فقبل الله مريم. "وأنثى" حال، وإن شئت بدل. فقيل: إنها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها؛ رواه أشهب عن مالك: وقيل: لفتها في خرقتها وأرسلت بها إلى المسجد، فوفت بنذرها وتبرأت منها. ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام؛ ففي البخاري ومسلم أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت. الحديث.
السادسة : -قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} هو على قراءة من قرأ "وضعت" بضم التاء من جملة كلامها؛ فالكلام متصل. وهي قراءة أبي بكر وابن عامر، وفيها معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفى عليه شيء، ولم تقله على طريق الإخبار لأن علم الله في كل شيء قد تقرر في نفس المؤمن، وإنما قالته على طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى. وعلى قراءة الجمهور هو من كلام الله عز وجل قدم، وتقديره أن يكون مؤخرا بعد {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] والله أعلم بما وضعت؛ قاله المهدوي. وقال مكي: هو إعلام من الله تعالى لنا على طريق التثبيت فقال: والله أعلم بما وضعت أم مريم قالته أو لم تقله. ويقوي ذلك أنه لو كان من كلام أم مريم لكان وجه الكلام: وأنت أعلم بما وضعت؛ لأنها نادته في أول الكلام في قولها: رب إني وضعتها أنثى. وروي عن ابن عباس "بما وضعت" بكسر التاء، أي قيل لها هذا.

السابعة : -قوله تعالى: {لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} استدل به بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساويه في وجوب الكفارة عليها، ابن العربي، وهذه منه غفلة، فإن هذا خبر عن شرع من قبلنا وهم لا يقولون به، وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له به بينة حالها ومقطع كلامها، فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها. ولم ينصرف "مريم" لأنه مؤنث معرفة، وهو أيضا أعجمي؛ قاله النحاس. والله تعالى أعلم.
الثامنة - قوله تعالى: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} يعني خادم الرب في لغتهم. {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} يعني مريم. {وَذُرِّيَّتَهَا} يعني عيسى. وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه" ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . قال علماؤنا: فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها. قال قتادة: كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأمه جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لها منه شيء، قال علماؤنا: وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد؛ فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان، كما قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمريم وابنها وإن عصما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لها ومقارنته. والله أعلم.

الآية: 37 {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
الآية: 38 {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}
قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} المعنى: سلك بها طريق السعداء؛ عن ابن عباس. وقال قوم: معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها. وقال الحسن: معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار. {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد. والقبول والنبات مصدران على غير المصدر، والأصل تقبلا وإنباتا. قال الشاعر:
أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
أراد بعد إعطائك، لكن لما قال "أنبتها" دل على نبت؛ كما قال امرؤ القيس:
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال
وإنما مصدر ذَلّت ذُلٌّ، ولكنه رده على معنى أذْلَلتْ؛ وكذلك كل ما يرد عليك في هذا الباب. فمعنى تقبل وقبل واحد، فالمعنى فقبلها ربها بقبول حسن. ونظيره قول رؤبة:
وقد تَطَوّيتُ انطواء الحِضْبِ
الأفعى لأن معنى تَطَوّيتُ وانطويت واحد؛ ومثله قول القطامي:
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا
لأن تتبعت واتبعت واحد. وفي قراءة ابن مسعود {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} لأن معنى نزل وأنزل واحد. وقال المفضل: معناه وأنبتها فنبتت نباتا حسنا. ومراعاة المعنى أولى

كما ذكرنا. والأصل في القبول الضم؛ لأنه مصدر مثل الدخول والخروج، والفتح جاء في حروف قليلة؛ مثل الوَلوع والوزوع؛ هذه الثلاثة لا غير؛ قاله أبو عمر والكسائي والأئمة. وأجاز الزجاج "بقبول" بضم القاف على الأصل.
قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي ضمها إليه. أبو عبيدة: ضمن القيام بها. وقرأ الكوفيون "وكفلها" بالتشديد، فهو يتعدى إلى مفعولين؛ والتقدير وكفلها ربها زكريا، أي ألزمه كفالتها وقدر ذلك عليه ويسره له. وفي مصحف أبي "وأكفلها" والهمزة كالتشديد في التعدي؛ وأيضا فإن قبْله "فتقبلها، وأنبتها" فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها؛ فجاء "كفلها" بالتشديد على ذلك. وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا. فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولى كفالتها والقيام بها؛ بدلالة قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]. قال مكي: وهو الاختيار؛ لأن التشديد يرجع إلى التخفيف، لأن الله تعالى إذا كفلها زكريا كفلها بأمر الله، ولأن زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته؛ فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان. وروى عمرو بن موسى عن عبدالله بن كثير وأبي عبدالله المزني "وكفلها" بكسر الفاء. قال الأخفش: يقال كَفَلَ يَكْفُلُ وكَفِلَ يَكْفَلُ ولم أسمع كَفُلَ، وقد ذكرت. وقرأ مجاهد "فتقبلْها" بإسكان اللام على المسألة والطلب. "ربها" بالنصب نداء مضاف. "وأنبتْها" بإسكان التاء "وكفلها" بإسكان اللام "زكرياء" بالمد والنصب. وقرأ حفص وحمزة والكسائي "زكريا" بغير مد ولا همزة، ومده الباقون وهمزوه. وقال الفراء: أهل الحجاز يمدون "زكرياء" ويقصرونه، وأهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون: زكري. قال الأخفش: فيه أربع لغات: المد والقصر، وكري بتشديد الياء والصرف، وزكر ورأيت زكريا. قال أبو حاتم: زكرى بلا صرف لأنه أعجمي وهذا غلط؛ لأن ما كان فيه "يا" مثل هذا انصرف مثل كرسي ويحيى، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لأن فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف.

قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} الى قوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}
فيه أربع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} " المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس. وسيأتي له مزيد بيان في سورة "مريم". وجاء في الخبر: إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم. قال وضاح اليمن:
ربة محراب إذا جئتها
... لم أَلْقها حتى ارتَقِي سلما
أي ربة غرفة. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: حملت امرأة عمران بعد ما أسنت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران: ويحك ما صنعت؟ أرأيت إن كانت أنثى؟ فاغتما لذلك جميعا. فهلك عمران وحنة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حسن، وكان لا يحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي، على ما يأتي. فكفلها زكريا وأخذ لها موضعا فلما أسنت جعل لها محرابا لا يرتقي إليه إلا بسلم، واستأجر لها ظئرا وكان يغلق عليها بابا، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا في قول الكلبي. قال مقاتل: كانت أختها امرأة زكريا. وكانت إذا طهرت من حيضتها واغتسلت ردها إلى المحراب. وقال بعضهم: كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض. وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال: يا مريم أنى لك هذا؟ فقالت: هو من عند الله. فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال: إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا. ومعنى "أنى" من أين؛ قاله أبو عبيدة. قال النحاس: وهذا

فيه تساهل؛ لأن "أين" سؤال عن المواضع و"أنى" سؤال عن المذاهب والجهات. والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا. وقد فرق الكميت بينهما فقال:
أنى ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب
و "كلما" منصوب بـ "وجد"، أي كل دخلة. "إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" قيل: هو من قول مريم، ويجوز أن يكون مستأنفا؛ فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد.
الثانية : -قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} هنالك في موضع نصب؛ لأنه ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان. وقال المفضل بن سلمة: "هنالك" في الزمان و"هناك" في المكان، وقد يجعل هذا مكان هذا. و {هَبْ لِي} أعطني. {مِنْ لَدُنْكَ} من عندك. { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي نسلا صالحا. والذرية تكون واحدة وتكون جمعا ذكرا وأنثى، وهو هنا واحد. يدل عليه قوله. {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5] ولم يقل أولياء، وإنما أنث "طَيِّبة" لتأنيث لفظ الذرية؛ كقوله:
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال
فأنث ولدته لتأنيث لفظ الخليفة. وروي من حديث أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أي رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله له مثل أجر عملهم ولم ينقص من أجورهم شيئا" . وقد مضى في "البقرة" اشتقاق الذرية. و {طَيِّبَةً } أي صالحة مباركة. {إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} أي قابله؛ ومنه: سمع الله لمن حمده.
الثالثة : -دلت هذه الآية على طلب الولد، وهي سنة المرسلين والصديقين، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يتبتل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا. وخرج ابن ماجة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان

ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء". وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال: الذي يطلب الولد أحمق، وما عرف أنه هو الغبي الأخرق؛ قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] وقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]. وقد ترجم البخاري على هذا "باب طلب الولد". وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة حين مات ابنه: "أعرستم الليلة"؟ قال: نعم. قال: "بارك الله لكما في غابر ليلتكما" . قال فحملت. في البخاري: قال سفيان فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرؤوا القرآن. وترجم أيضا "باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة" وساق حديث أنس بن مالك قال: قالت أم سُليم: يا رسول الله، خادمك أنس أدع الله له. فقال: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته" . وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين". خرجه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم" . أخرجه أبو داود. والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد وتندب إليه؛ لما يرجوه الإنسان من نفعة في حياته وبعد موته. قال صلى الله عليه وسلم: " إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث" فذكر "أو ولد صالح يدعو له" . ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.
الرابعة : -فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه؛ ألا ترى قول زكريا: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 6] وقال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} . وقال: { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس فقال: " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه" . خرجه البخاري ومسلم، وحسبك.

الآية: 39 {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ}
قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} قرأ حمزة والكسائي "فناداه" بالألف على التذكير ويميلانها لأن أصلها الياء، ولأنها رابعة. وبالألف قراءة ابن عباس وابن مسعود، وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان عبدالله يذكر الملائكة في كل القرآن. قال أبو عبيد: نراه اختار ذلك خلافا على المشركين لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله. قال النحاس: هذا احتجاج لا يحصل منه شيء؛ لأن العرب تقول: قالت الرجال، وقال الرجال، وكذا النساء، وكيف يحتج عليهم بالقرآن، ولو جاز أن يحتج عليهم بالقرآن بهذا لجاز أن يحتجوا بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} ولكن الحجة عليهم في قوله عز وجل: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19] أي فلم يشاهدوا، فكيف يقولون إنهم إناث فقد علم أن هذا ظن وهوى. وأما "فناداه" فهو جائز على تذكير الجمع، "ونادته" على تأنيث الجماعة. قال مكي: والملائكة ممن يعقل في التكسير فجرى في التأنيث مجرى ما لا يعقل، تقول: هي الرجال، وهي الجذوع، وهي الجِمال، وقالت الأعراب. ويقوي ذلك قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} وقد ذكر في موضع آخر فقال: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 93] وهذا إجماع. وقال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23] فتأنيث هذا الجمع وتذكيره حسنان. وقال السدي: ناداه جبريل وحده؛ وكذا في قراءة ابن مسعود. وفي التنزيل {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} يعني جبريل، والروح الوحي. وجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع. وجاء في التنزيل {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود، على ما يأتي. وقيل: ناداه جميع الملائكة، وهو الأظهر. أي جاء النداء من قبلهم.

قوله تعالى: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} "وهو قائم" ابتداء وخبر "يصلي" في موضع رفع، وإن شئت كان نصبا على الحال من المضمر. "أن الله" أي بأن الله. وقرأ حمزة والكسائي "إن" أي قالت إن الله؛ فالنداء بمعنى القول. "يبشرك" بالتشديد قراءة أهل المدينة. وقرأ حمزة "يَبْشُرُك" مخففا؛ وكذلك حميد بن القيس المكي إلا أنه كسر الشين وضم الياء وخفف الباء. قال الأخفش: هي ثلاث لغات بمعنى واحد.
دليل الأولى هي قراءة الجماعة أن ما في القرآن من هذا من فعل ماض أو أمر فهو بالتثقيل؛ كقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17] {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} [يس: 11] {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر: 55]. وأما الثانية وهي قراءة عبدالله بن مسعود فهي من بَشَر يَبْشُر وهي لغة تهامة؛ ومنه قول الشاعر:
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة ... أتتك من الحجاج يتلى كتابها
وقال آخر:
وإذا رأيت الباهشين إلى الندى ... غبرا أكفهم بقاع ممحل
فأعِنْهُم وابشَرْ بما بَشِروا به ... وإذا هم نزلوا بضنك فانزل
وأما الثالثة فهي من أبشر يُبشر إبشارا قال:
يا أم عمرو أبشري بالبشرى ... موت ذريع وجراد عَظْلَى
قوله تعالى: {بِيَحْيَى} كان اسمه في الكتاب الأول حيا، وكان اسم سارة زوجة إبراهيم عليه السلام بسارة، وتفسيره بالعربية لا تلد، فلما بشرت بإسحاق قيل لها: سارة، سماها

بذلك جبريل عليه السلام. فقالت: يا إبراهيم لم نقص من اسمي حرف؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل عليهما السلام. فقال: "إن ذلك الحرف زيد في اسم ابن لها من أفضل الأنبياء اسمه حيي وسمي بيحيى". ذكره النقاش. وقال قتادة: سمي بيحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان والنبوة. وقال بعضهم: سمي بذلك لأن الله تعالى أحيا به الناس بالهدى. وقال مقاتل: اشتق اسمه من اسم الله تعالى حي فسمي يحيى. وقيل: لأنه أحيا به رحم أمه.
قوله تعالى: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يعني عيسى في قول أكثر المفسرين. وسمي عيسى كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى التي هي "كن" فكان من غير أب. وقرأ أبو السمال العدوي "بكِلْمة" مكسورة الكاف ساكنة اللام في جميع القرآن، وهي لغة فصيحة مثل كِتْف وفِخْذ. وقيل: سمي كلمة لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله تعالى. وقال أبو عبيد: معنى "بكلمة من الله" بكتاب من الله. قال: والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة؛ كما روي أن الحويدرة ذكر لحسان فقال: لعن الله كلمته، يعني قصيدته. وقيل غير هذا من الأقوال. والقول الأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر. و"يحيى" أول من آمن بعيسى عليهما السلام وصدقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين ويقال بستة أشهر. وكانا ابني خالة، فلما سمع زكريا شهادته قام إلى عيسى فضمه إليه وهو في خرقه. وذكر الطبري أن مريم لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى؛ فجاءت أختها زائرة فقالت: يا مريم أشعرت أني حملت؟ فقالت لها مريم: أشعرت أنت أني حملت؟ فقالت لها: وإني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك. وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم. قال السدي: فذلك قوله {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} . "ومصدقا" نصب على الحال. {وَسَيِّداً} السيد: الذي يسود قومه وينتهى إلى قوله، وأصله سَيْوِد يقال: فلان أسود من

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44