كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

الخصوص في هذه الصلاة وعدوه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وقد قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} وهذا خطاب له، وأمته داخلة فيه، ومثله كثير. وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وذلك لا يوجب الاقتصار عليه وحده، وأن من بعده يقوم في ذلك مقامه؛ فكذلك في قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} . ألا ترى أن أبا بكر الصديق في جماعة الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا من تأول في الزكاة مثل ما تأولتموه في صلاة الخوف. قال أبو عمر: ليس في أخذ الزكاة التي قد استوى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء ما يشبه صلاة من صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلف غيره؛ لأن أخذ الزكاة فائدتها توصيلها للمساكين، وليس فيها فضل للمعطى كما في الصلاة فضل للمصلي خلفه.
الثانية: قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} يعني جماعة منهم جماعة منهم تقف معك في الصلاة. {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} يعني الذين يصلون معك. ويقال: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} الذين هم بإزاء العدو، على ما يأتي بيانه. ولم يذكر الله تعالى في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة، ولكن روى في الأحاديث أنهم أضافوا إليها أخرى، على ما يأتي. وحذفت الكسرة من قوله: "فلتقم "و "فليكونوا" لثقلها. وحكى الأخفش والفراء والكسائي أن لام الأمر ولام كي ولام الجحود يفتحن. وسيبويه يمنع من ذلك لعلة موجبة، وهى الفرق بين لام الجر ولام التأكيد. والمراد من هذا الأمر الانقسام، أي وسائرهم وجاه العدو حذر من توقع حملته.
وقد اختلفت الروايات في هيئة صلاة الخوف، واختلف العلماء لاختلافها؛ فذكر ابن القصار أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع. قال ابن العربي: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة. وقال الإمام أحمد بن حنبل، وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه: لا أعلم أنه روى في صلاة الخوف إلا حديث ثابت. وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة

الخوف أجزأه إن شاء الله. وكذلك قال أبو جعفر الطبري. وأما مالك وسائر أصحابه إلا أشهب فذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة، وهو ما رواه في موطئه عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإمام ركعة وسجد بالذين معه ثم يقوم، فإذا استوى قائما ثبت، وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم الركعة ويسجد ثم يسلم، فيقومون ويركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون. قال ابن القاسم صاحب مالك: والعمل عند مالك على حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات. قال ابن القاسم: وقد كان يأخذ بحديث مزيد بن رومان ثم رجع إلى هذا. قال أبو عمر: حديث القاسم وحديث يزيد بن رومان كلاهما عن صالح بن خوات: إلا أن بينهما فصلا في السلام، ففي حديث القاسم أن الإمام يسلم بالطائفة الثانية ثم يقومون فيقضون لأنفسهم الركعة، وفي حديث يزيد بن رومان أنه ينتظرهم ويسلم بهم. وبه قال الشافعي وإليه ذهب؛ قال الشافعي: حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات هذا أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب الله، وبه أقول. ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم القياس على سائر الصلوات، في أن الإمام ليس له أن ينتظر أحدا سبقه بشيء منها، وأن السنة المجتمع عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الإمام. وقول أبي ثور في هذا الباب كقول مالك، وقال أحمد كقول الشافعي في المختار عنده؛ وكان لا يعيب من فعل شيئا من الأوجه المرومة في صلاة الخوف.
وذهب أشهب من أصحاب مالك إلى حديث ابن عمر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة. وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك صلى

راكبا أو قائما يومئ إيماء، أخرجه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم. وإلى هذه الصفة ذهب الأوزاعي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر، قال: لأنه أصحها إسنادا، وقد ورد بنقل أهل المدينة وبهم الحجة على من خالفهم، ولأنه أشبه بالأصول، لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة، وهو المعروف من سنته المجتمع عليها في سائر الصلوات. وأما الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف القاضي يعقوب فذهبوا إلى حديث عبدالله بن مسعود، أخرجه أبو داود والدارقطني قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقاموا صفين، صفا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا مستقبل العدو، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة؛ وجاء الآخرون فقاموا مقامهم، واستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سلم، فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلين العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا. وهذه الصفة والهيئة هي الهيئة المذكورة في حديث ابن عمر إلا أن بينهما فرقا؛ وهو أن قضاء أولئك في حديث ابن عمر يظهر أنه في حالة واحدة ويبقى الإمام كالحارس وحده، وههنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم. وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما جاء في حديث ابن مسعود. وقد ذهب إلى حديث ابن مسعود الثوري - في إحدى الروايات الثلاث عنه - وأشهب بن عبدالعزيز فيما ذكر أبو الحسن اللخمي عنه، والأول ذكره أبو عمر وابن يونس وابن حبيب عنه. وروى أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر أنه عليه السلام صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا، وهو مقتضى حديث ابن عباس "وفي الخوف ركعة". وهذا قول إسحاق. وقد تقدم في "البقرة "الإشارة إلى هذا، وأن الصلاة أولى بما احتيط لها، وأن حديث ابن عباس لا تقوم به حجة، وقوله في حديث حذيفة وغيره: "ولم يقضوا "أي في علم من روى ذلك، لأنه قد روي أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها، وشهادة من زاد أولى. ويحتمل أن يكون المراد لم يقضوا، أي لم يقضوا إذا أمنوا، وتكون فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة

من الصلوات في الخوف، قال جميعه أبو عمر. وفي صحيح مسلم عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين. قال: فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان. وأخرجه أبو داود والدارقطني من حديث الحسن عن أبي بكرة وذكرا فيه أنه سلم من كل ركعتين. وأخرجه الدارقطني أيضا عن الحسن عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم. قال أبو داود: وبذلك كان الحسن يفتي، وروي عن الشافعي. وبه يحتج كل من أجاز اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن علية وأحمد بن حنبل وداود. وعضدوا هذا بحديث جابر: أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يأتي فيؤم قومه، الحديث. وقال الطحاوي: إنما كان هذا في أول الإسلام إذ كان يجوز أن تصلي الفريضة مرتين ثم نسخ ذلك، والله أعلم. فهذه أقاويل العلماء في صلاة الخوف.
الثالثة: وهذه الصلاة المذكورة في القرآن إنما يحتاج إليها والمسلمون مستدبرون القبلة ووجه العدو القبلة، وإنما اتفق هذا بذات الرقاع، فأما بعسفان والموضع الآخر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة. وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين، فإن في الحديث بعد قوله: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} قال: فحضرت الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا السلاح وصفنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعا، قال: ثم رفع فرفعنا جميعا، قال: ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه قال: والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، قال: ثم تقدم هؤلاء في مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، قال: ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، والآخرون قيام، يحرسونهم فلما جلس الآخرون سجدوا ثم سلم عليهم. قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بعسفان ومرة في أرض بني سليم. وأخرجه أبو داود من حديث أبي عياش

الزرقي وقال: وهو قول الثوري وهو أحوطها. وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان؛ الحديث. وفيه أنه عليه السلام صدعهم صدعين وصلى بكل طائفة ركعة، فكانت للقوم ركعة ركعة، وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان، قال: حديث حسن صحيح غريب. وفي الباب عن عبدالله بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وجابر وأبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت، وابن عمر وحذيفة وأبي بكر وسهل بن أبي حثمة.
قلت: ولا تعارض بين هذه الروايات، فلعله صلى بهم صلاة كما جاء في حديث أبي عياش مجتمعين، وصلى بهم صلاة أخرى متفرقين كما جاء في حديث أبي هريرة، ويكون فيه حجة لمن يقول صلاة الخوف ركعة. قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة.
الرابعة: واختلفوا في كيفية صلاة المغرب، فروى الدارقطني عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرفوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ستا وللقوم ثلاثا ثلاثا، وبه قال الحسن. والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا، وهو أنه يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة، وتقضي على اختلاف أصولهم فيه متى يكون ؟ هل قبل سلام الإمام أو بعده. هذا قول مالك وأبي حنيفة، لأنه أحفظ لهيئة الصلاة. وقال الشافعي: يصلي بالأولى ركعة، لأن عليا رضي الله عنه فعلها ليلة الهرير، والله تعالى أعلم.
الخامسة: واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدة القتال وخيف خروج الوقت فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن، لقول ابن عمر: فإن كان خوف أكثر من ذلك فيصلي راكبا أو قائما يومئ إيماء. قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها، وقد تقدم في "البقرة "قول الضحاك وإسحاق. وقال الأوزاعي:

إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه؛ فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة سجدتين، فإن لم يقدروا يجزئهم التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا؛ وبه قال مكحول.
قلت: وحكاه الكيا الطبري في "أحكام القرآن "له عن أبي حنيفة وأصحابه، قال الكيا: وإذا كان الخوف أشد من ذلك وكان التحام القتال فإن المسلمين يصلون على ما أمكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها؛ وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه بل يؤخرون الصلاة. وإن قاتلوا في الصلاة قالوا: فسدت الصلاة وحكي عن الشافعي أنه إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته.
قلت: وهذا القول يدل على صحة قول أنس: حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم نقدر على الصلاة إلا بعد ارتفاع النهار؛ فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا. قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها، ذكره البخاري وإليه كان يذهب شيخنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بأبي حجة؛ وهو اختيار البخاري فيما يظهر؛ لأنه أردفه بحديث جابر، قال: جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول: يا رسول الله، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا والله ما صليتها " قال: فنزل إلى بطحان فتوضأ وصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعدها.
السادسة: واختلفوا في صلاة الطالب والمطلوب؛ فقال مالك وجماعة من أصحابه هما سواء، كل واحد منهما يصلي على دابته. وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبدالحكم: لا يصلي الطالب إلا بالأرض وهو الصحيح؛ لأن الطلب تطوع، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلي بالأرض حيثما أمكن ذلك، ولا يصليها راكب إلا خائف شديد خوفه وليس كذلك الطالب. والله أعلم.

السابعة: واختلفوا أيضا في العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم بان لهم أنه غير شيء؛ فلعلمائنا فيه روايتان: إحداهما يعيدون، وبه قال أبو حنيفة. والثانية لا إعادة عليهم، وهو أظهر قولي الشافعي. ووجه الأولى أنهم تبين لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم. ووجه الثانية أنهم عملوا على اجتهادهم فجاز لهم كما لو أخطؤوا القبلة؛ وهذا أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به. وقد يقال: يعيدون في الوقت، فأما بعد خروجه فلا. والله أعلم.
الثامنة: قوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} وقال: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} هذا وصاة بالحذر وأخذ السلاح لئلا ينال العدو أمله ويدرك فرصته. والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، قال عنترة:
كسوت الجعد بني أبان ... سلاحي بعد عري وافتضاح
يقول: أعرته سلاحي ليمتنع بها بعد عريه من السلاح. قال ابن عباس: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} يعني الطائفة التي وجاه العدو، لأن المصلية لا تحارب. وقال غيره: هي المصلية أي وليأخذ الذين صلوا أولا أسلحتهم، ذكره، الزجاج. قال: ويحتمل أن تكون الطائفة الذين هم في الصلاة أمروا بحمل السلاح؛ أي فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإنه أرهب للعدو. النحاس: يجوز أن يكون للجميع؛ لأنه أهيب. للعدو. ويحتمل أن يكون للتي وجاه العدو خاصة. قال أبو عمر: أكثر أهل العلم يستحبون للمصلي أخذ سلاحه إذا صلى في الخوف، ويحملون قوله: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} على الندب؛ لأنه شيء لولا الخوف لم يجب أخذه؛ فكان الأمر به ندبا. وقال أهل الظاهر: أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به، إلا لمن كان به أذى من مطر، فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه. قال ابن العربي: إذا صلوا أخذوا سلاحهم عند الخوف، وبه قال الشافعي وهو نص القرآن. وقال أبو حنيفة: لا يحملونها؛ لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها. قلنا: لم يجب حملها لأجل الصلاة وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا.

التاسعة قوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا} الضمير في "سجدوا" للطائفة المصلية فلينصرفوا؛ هذا على بعض الهيئات المروية. وقيل: المعنى فإذا سجدوا ركعة القضاء؛ وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة. ودلت هذه الآية على أن السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة؛ وهو كقوله عليه السلام: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين " . أي فليصل ركعتين وهو في السنة. والضمير في قوله: "فليكونوا "يحتمل أن يكون للذين سجدوا، ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو.
العاشرة: قوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي تمنى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح ليصلوا إلى مقصودهم؛ فبين الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح، وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى؛ لأنها أولى بأخذ الحذر، لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة؛ وأيضا يقول العدو قد أثقلهم السلاح وكلوا. وفي هذه الآية أدل دليل على تعاطي الأسباب، واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب، ويوصل إلى السلامة، ويبلغ دار الكرامة. {مَيْلَةً وَاحِدَةً} مبالغة، أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} الآية. للعلماء في وجوب حمل السلاح في الصلاة كلام قد أشرنا إليه، فإن لم يجب فيستحب للاحتياط. ثم رخص في المطر وضعه؛ لأنه تبتل المبطنات وتثقل ويصدأ الحديد. وقيل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة لما انهزم المشركون وغنم المسلمون؛ وذلك أنه كان يوما مطيرا وخرج النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته واضعا سلاحه، فرآه الكفار منقطعا عن أصحابه فقصده غورث بن الحارث فانحدر عليه من الجبل بسيفه، فقال: من يمنعك مني اليوم ؟ فقال: "الله " ثم قال: "اللهم اكفني الغورث بما شئت ". فأهوى بالسيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه، فانكب لوجهه لزلقة زلقها. وذكر الواقدي أن جبريل عليه

السلام دفعه في صدره على ما يأتي في المائدة، وسقط السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "من يمنعك مني يا غورث " ؟ فقال: لا أحد. فقال: "تشهد لي بالحق وأعطيك سيفك " ؟ قال: لا؛ ولكن أشهد ألا أقاتلك بعد هذا ولا أعين عليك عدوا؛ فدفع إليه السيف ونزلت الآية رخصة في وضع السلاح في المطر. ومرض عبدالرحمن بن عوف من جرح كما في صحيح البخاري، فرخص الله سبحانه لهم في ترك السلاح والتأهب للعدو بعذر المطر، ثم أمرهم فقال: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} أي كونوا متيقظين، وضعتم السلاح أو لم تضعوه. وهذا يدل على تأكيد التأهب والحذر من العدو في كل الأحوال وترك الاستسلام؛ فإن الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريط في حذر. وقال الضحاك. في قوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} يعني تقلدوا سيوفكم فإن ذلك هيئة الغزاة.
103- {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}
104- {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قَضَيْتُمُ} معناه فرغتم من صلاه الخوف وهذا يدل على أن القضاء يستعمل فيما قد فعل قي وقته؛ ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} وقد تقدم. الثانية: قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} ذهب الجمهور إلى أن هذا الذكر المأمور به. إنما هو إثر صلاة الخوف؛ أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله بالقلب واللسان، على أي حال كنتم {قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} وأديموا ذكره بالتكبير والتهليل والدعاء بالنصر لا سيما في حال القتال. ونظيره {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ

كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . ويقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} بمعنى إذا صليتم في دار الحرب فصلوا على الدواب، أو قياما أو قعودا أو على جنوبكم إن لم تستطيعوا القيام، إذا كان خوفا أو مرضا؛ كما قال تعالى في آية أخرى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} وقال قوم: هذه الآية نظيرة التي في "آل عمران "؛ فروي أن عبدالله بن مسعود رأى الناس يضجون في المسجد فقال: ما هذه الضجة ؟ قالوا: أليس الله تعالى يقول {اذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} ؟ قال: إنما يعني بهذا الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا، وإن لم تستطع فصل على جنبك. فالمراد نفس الصلاة؛ لأن الصلاة ذكر الله تعالى، وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة؛ والقول الأول أظهر. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} أي أمنتم. والطمأنينة سكون النفس من الخوف. {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي فأتوها بأركانها وبكمال هيئتها في السفر، وبكمال عددها في الحضر. {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} أي مؤقتة مفروضة. وقال زيد بن أسلم: "موقوتا "منجما، أي تؤدونها في أنجمها؛ والمعنى عند أهل اللغة: مفروض لوقت بعينه؛ يقال: وقته فهو موقوت. ووقته فهو مؤقت. وهذا قول زيد بن أسلم بعينه. وقال: "كتابا "والمصدر مذكر؛ فلهذا قال: "موقوتا".
الرابعة: قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا} أي لا تضعفوا، وقد تقدم في "آل عمران". {فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} طلبهم. قيل: نزلت في حرب أحد حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج في آثار المشركين، وكان بالمسلمين جراحات، وكان أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة، كما تقدم في "آل عمران" وقيل: هذا في كل جهاد.
الخامسة: قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} أي تتألمون مما أصابكم من الجراح فهم يتألمون أيضا مما يصيبهم، ولكم مزية وهي أنكم ترجون ثواب الله وهم لا يرجونه؛ وذلك أن من لا يؤمن بالله. لا يرجون من الله شيئا. ونظير هذه الآية {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ

الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} وقد تقدم. وقرأ عبدالرحمن الأعرج "أن تكونوا "بفتح الهمزة، أي لأن وقرأ منصور بن المعتمر "إن تكونوا تئلمون" بكسر التاء. ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقل الكسر فيها. ثم قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ لأن من رجا شيئا فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من خوف فوت ما يرجو. وقال الفراء والزجاج: لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي؛ كقوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقارا } أي لا تخافون لله عظمة. وقوله تعالى: {للذين لا يرجون أيام الله} أي لا يخافون. قال القشيري: ولا يبعد ذكر الخوف من غير أن يكون في الكلام نفي، ولكنها ادعيا أنه لم يوجد ذلك إلا مع النفي. والله أعلم.
105- {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}
فيه أربع مسائل:
الأولى: في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم، وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق ! وكانوا ثلاثة إخوة: بشر وبشير ومبشر، وأسير بن عروة ابن عم لهم؛ نقبوا مشربة لرفاعة بن زيد في الليل وسرقوا أدراعا له وطعاما، فعثر على ذلك. وقيل إن السارق بشير وحده، وكان يكنى أبا طعمة أخذ درعا؛ قيل: كان الدرع في جراب فيه دقيق، فكان الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره، فجاء ابن أخي رفاعة واسمه قتادة بن النعمان يشكوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجاء أسير بن عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة ورموهم بها من غير بينة؛ وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتادة ورفاعة؛ فأنزل الله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية. وأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً

أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} وكان البريء الذي رموه بالسرقة لبيد بن سهل. وقيل: زيد بن السمين وقيل: رجل من الأنصار. فلما أنزل الله ما أنزل، هرب ابن أبيرق السارق إلى مكة، ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد؛ فقال فيها حسان بن ثابت بيتا يعرض فيه بها، وهو:
وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ... ينازعها جلد استها وتنازعه
ظننتم بأني خفي الذي قد صنعتمو ... وفينا نبي عنده الوحي واضعه
فلما بلغها قالت: إنما أهديت لي شعر حسان؛ وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل، فهرب إلى خيبر وأرتد. ثم إنه نقب بيتا ذات ليلة ليسرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدا. ذكر هذا الحديث بكثير من ألفاظه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني. وذكره الليث والطبري بألفاظ مختلفة. وذكر قصة موته يحيى بن سلام في تفسيره، والقشري كذلك وزاد ذكر الردة. ثم قيل: كان زيد بن السمين ولبيد بن سهل يهوديين. وقيل: كان لبيد مسلما. وذكره المهدوي، وأدخله أبو عمر في كتاب الصحابة له، فدل ذلك على إسلامه عنده. وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينحل الشعر غيره، وكان المسلمون يقولون: والله ما هو إلا شعر الخبيث. فقال شعرا يتنصل فيه؛ فمنه قوله:
أو كلما قال الرجال قصيدة ... نحلت وقالوا ابن الأبيرق قالها
وقال الضحاك: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده وكان مطاعا، فجاءت اليهود شاكين في السلاح فأخذوه وهربوا به؛ فنزل {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} يعني اليهود. والله أعلم.
الثانية: قوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} معناه على قوانين الشرع؛ إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي. وهذا أصل في القياس؛ وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب؛ لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة؛ فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا قطع فيما رآه، ولم يرد رؤية العين هنا؛ لأن الحكم لا يرى

بالعين. وفي الكلام إضمار، أي بما أراكه الله، وفيه إضمار آخر، وامض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستدلالهم.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} اسم فاعل؛ كقولك: جالسته فأنا جليسه، ولا يكون فعيلا هنا بمعنى مفعول؛ يدل على ذلك {وَلا تُجَادِلْ} فالخصيم هو المجادل وجمع الخصيم خصماء. وقيل: خصيما مخاصما اسم فاعل أيضا. فنهى الله عز وجل رسول عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة. وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز. فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق. ومشى الكلام في السورة على حفظ أموال اليتامى والناس؛ فبين أن مال الكافر محفوظ عليه كمال المسلم، إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى.
قال العلماء: ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم؛ فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} وقوله: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين: أحدهما: أنه تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . والآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره، فدل على أن القصد لغيره.
106- {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}
فيه مسألة واحدة:
ذهب الطبري إلى أن المعنى: استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين؛ فأمره بالاستغفار لما هم بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي. وهذا مذهب من جوز الصغائر على الأنبياء، صلوات الله عليهم. قال ابن عطية: وهذا ليس بذنب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع على

قال الضحاك: لما سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته وجعل الدرع تحت التراب؛ فنزلت {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} يقول: لا يخفى مكان الدرع على الله "وهو معهم"
أي رقيب حفيظ عليهم. وقيل: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} أي يستترون، كما قال تعالى: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} أي مستتر. وقيل: يستحيون من الناس، وهذا لأن الاستحياء سبب الاستتار. ومعنى {وَهُوَ مَعَهُمْ} أي بالعلم والرؤية والسمع، هذا قول أهل السنة. وقالت الجهمية والقدرية والمعتزلة: هو بكل مكان، تمسكا بهذه الآية وما كان مثلها، قالوا: لما قال {وَهُوَ مَعَهُمْ} ثبت أنه بكل مكان، لأنه قد أثبت كونه معهم تعالى الله عن قولهم، فإن هذه صفة الأجسام والله تعالى متعال عن ذلك ألا ترى مناظرة بشر في قول الله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} حين قال: هو بذاته في كل مكان فقال له خصمه: هو في قلنسوتك وفي حشوك وفي جوف حمارك. تعالى الله عما يقولون ! حكى ذلك وكيع رضي الله عنه. ومعنى {يُبَيِّتُونَ} يقولون. قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. {مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} أي ما لا يرضاه الله لأهل طاعته. {مِنَ الْقَوْلِ} أي من الرأي والاعتقاد، كقولك: مذهب مالك الشافعي. وقيل: "القول "بمعنى المقول؛ لأن نفس القول لا يبيت.
قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} يريد قوم بشير السارق لما هربوا به وجادلوا عنه. قال الزجاج: {هَؤُلاءِ} بمعنى الذين. {جَادَلْتُمْ} حاججتم. {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} استفهام معناه الإنكار والتوبيخ. {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} الوكيل: القائم بتدبير الأمور، فالله تعالى قائم بتدبير خلقه. والمعنى: لا أحد يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار.
110- {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}

قال ابن عباس: عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية، أي {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً} بأن يسرق {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بأن يشرك {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} يعني بالتوبة، فإن الاستغفار باللسان من غير توبة لا ينفع، وقد بيناه في "آل عمران". وقال الضحاك: نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني لنادم فهل لي من توبة ؟ فنزل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية. وقيل: المراد بهذه الآية العموم والشمول لجميع الخلق. وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة قالا: قال عبدالله بن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة "النساء "ثم استغفر له: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} . {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما شاء، وإذا سمعته من غيره حلفته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له، ثم تلا هذه الآية {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.
111- {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
112- {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}
قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً} أي ذنبا {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} أي عاقبته عائدة عليه. والكسب ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا؛ ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} قيل: هما بمعنى واحد كرر لاختلف اللفظ تأكيدا. وقال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير

عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد. وقيل: الخطيئة ما لم تتعمده خاصة كالقتل بالخطأ. وقيل: الخطيئة الصغيرة، والإثم الكبيرة، وهذه الآية لفظها عام يندرج تحته أهل النازلة وغيرهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} قد تقدم اسم البريء في البقرة. والهاء في "به "للإثم أو للخطيئة. لأن معناها الإثم، أولهما جميعا. وقيل: ترجع إلى الكسب. {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} تشبيه؛ إذ الذنوب ثقل ووزر فهي كالمحمولات. وقد قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} . والبهتان من البهت، وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء. وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة " ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: "ذكرك أخاك بما يكره " . قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته " . وهذا نص؛ فرمي البريء بهت له. يقال: بهته بهتا وبهتا وبهتانا إذا قال عليه ما لم يفعله. وهو بهات والمقول له مبهوت. ويقال: بهت الرجل "بالكسر " إذا دهش وتحير. وبهت "بالضم " مثله، وأفصح منهما بهت، كما قال الله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} لأنه يقال: رجل مبهوت ولا يقال: باهت ولا بهيت، قاله الكسائي.
113- {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}
قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} ما بعد "لولا" مرفوع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا يظهر، والمعنى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} بأن نبهك على الحق، وقيل: بالنبوءة والعصمة. {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} عن الحق؛ لأنهم

سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها اليهودي، فتفضل الله عز وجل على رسوله عليه السلام بأن نبهه على ذلك وأعلمه إياه. {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} لأنهم يعملون عمل الضالين، فوباله لهم راجع عليهم. {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} لأنك معصوم. {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} هذا ابتداء كلام. وقيل: الواو للحال، كقولك: جئتك والشمس طالعة؛ ومنه قول امرئ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
فالكلام متصل، أي ما يضرونك من شيء مع إنزال الله عليك القرآن. {وَالْحِكْمَةَ} القضاء بالوحي. {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} يعني من الشرائع والأحكام. و"تعلم" في موضع نصب؛ لأنه خبر كان. وحذفت الضمة من النون للجزم، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين.
114- {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}
أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير، وذكروه النبي صلى الله عليه وسلم. والنجوى: السر بين الاثنين، تقول: ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون. ونجوت فلانا أنجوه نجوا، أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه، أي خلصته وأفردته، والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله، قال الشاعر:
فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح
فالنجوى المسارة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال: قوم عدل ورضا. قال الله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} فعلى الأول يكون الأمر أمر استثناء من غير الجنس. وهو

الاستثناء المنقطع. وقد تقدم، وتكون "من" في موضع رفع، أي لكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير. ويجوز أن تكون "من" في موضع خفض ويكون التقدير: لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة ثم حذف. وعلى الثاني وهو أن يكون النجوى اسما للجماعة المنفردين، فتكون "من" في موضع خفض على البدل، أي لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة. أو تكون في موضع نصب على قول من قال: ما مررت بأحد إلا زيدا. وقال بعض المفسرين منهم الزجاج: النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين كان ذلك سرا أو جهرا، وفيه بعد. والله أعلم. والمعروف لفظ يعم أعمال البر كلها. وقال مقاتل: المعروف هنا الفرض، والأول أصح. وقال صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق " . وقال صلى الله عليه وسلم: "المعروف كاسمه وأول من يدخل، الجنة يوم القيامة المعروف وأهله " . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر. وقال الحطيئة:
من يفعل الخير لايعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وأنشد الرياشي:
يد المعروف غنم حيث كانت ... تحملها كفور أو شكور
ففي شكور الشكور لها جزاء ... وعند الله ما كفر الكفور
وقال الماوردي: "فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندما، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا، كما قال الشاعر:
ما زلت أسمع كم من واثق خجل ... حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلا
ولو فطن لنوائب دهره، وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمه مجبورة، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من فتح عليه باب من الخير

فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه " . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح " . وقيل لأنوشروان: ما أعظم المصائب عندكم ؟ قال: أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت. وقال عبدالحميد: من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها. وقال بعض الشعراء:
إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها ... فما تدري السكون متى يكون
وكتب بعض ذوي الحرمات إلى وال قصر في رعاية حرمته:
أعلى الصراط تريد رعية حرمتي ... أم في الحساب تمن بالإنعام
للنفع في الدنيا أريدك، فأنتبه ... لحوائجي من رقدة النوام
وقال العباس رضي الله عنه: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجلته هنأته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته. وقال بعض الشعراء:
زاد معروفك عندي عظما ... أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور خطير
ومن شرط المعروف ترك الامتنان به، وترك الإعجاب بفعله، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر. وقد تقدم في "البقرة "بيانه.
قوله تعالى: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى. وفي الخبر: "كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى ". فأما من طلب الرياء والترؤس فلا ينال الثواب. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: رد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن. وسيأتي في "المجادلة "ما يحرم من المناجاة وما يجوز إن شاء الله تعالى. وعن أنس بن مالك

رضي الله عنه أنه قال،: من أصلح بين أثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب: "ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله، تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا " . وقال الأوزاعي: ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار. وقال محمد بن المنكدر: تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما، فلم أزل بهما حتى اصطلحا؛ فقال أبو هريرة وهو يراني: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أصلح بين أثنين استوجب ثواب شهيد " . ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات له، وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه. و {ابْتِغَاءَ} نصب على المفعول من أجله.
115- {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}
116- {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً}
قال العلماء: هاتان الآيتان نزلتا بسبب ابن أبيرق السارق، لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالقطع وهرب إلى مكة وارتد؛ قال سعيد بن جبير: لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة فلحقه المشركون فقتلوه؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} . وقال الضحاك: قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} . والمشاقة المعاداة. والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين. و{الْهُدَى} :

الرشد والبيان، وقد تقدم. وقوله تعالى: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} يقال: إنه نزل فيمن ارتد؛ والمعنى؛ نتركه وما يعبد؛ عن مجاهد. أي نكله إلى الأصنام التي لا تنفع ولا تضر؛ وقال مقاتل. وقال الكلبي؛ نزل قوله تعالى: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} في ابن أبيرق؛ لما ظهرت حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا لرجل بمكة يقال له: حجاج بن علاط، فسقط فبقي في النقب حتى وجد على حاله، وأخرجوه من مكة؛ فخرج إلى الشام فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه، فنزلت {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} . وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو "نولِهْ ""ونصلِهْ "بجزم الهاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان.
الثانية: قال العلماء في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} دليل على صحة القول بالإجماع، وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} رد على الخوارج؛ حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر. وقد تقدم القول في هذا المعنى. وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} قال: هذا حديث غريب. قال ابن فورك: وأجمع أصحابنا على أنه لا تخليد إلا للكافر، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب فإنه إن عذب بالنار فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول؛ أو بابتداء رحمة من الله تعالى. وقال الضحاك: إن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، فما حالي عند الله ؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية.
117- {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً}

قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي من دون الله {إِلَّا إِنَاثاً} ؛ نزلت في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام. و"إن "نافية بمعنى "ما". و"إناثا" أصناما، يعني اللات والعزى ومناة. وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون: أنثى بني فلان، قال الحسن وابن عباس، وأتى مع كل صنم شيطانه يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم؛ فخرج الكلام مخرج التعجب؛ لأن الأنثى من كل جنس أخسه؛ فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا فيسميه أنثى، أو يعتقده أنثى. وقيل: {إِلَّا إِنَاثاً} مواتا؛ لأن الموات لا روح له، كالخشبة والحجر. والموات يخبر عنه كما يخبر عن المؤنث لا تضاع المنزلة؛ تقول: الأحجار تعجبني، كما تقول: المرأة تعجبني. وقيل: {إِلَّا إِنَاثاً} ملائكة؛ لقولهم: الملائكة بنات الله، وهي شفعاؤنا عند الله؛ عن الضحاك. وقراءة ابن عباس "إلا وثنا "بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس؛ وقرأ أيضا "وثنا "بضم الثاء والواو؛ جمع وثن. وأوثان أيضا جمع وثن مثل أسد وآساد. النحاس: ولم يقرأ به فيما علمت.
قلت: قد ذكر أبو بكر الأنباري - حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقرأ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَوْثَاناً} . وقرأ ابن عباس أيضا "إلا أثنا" كأنه جمع وثنا على وثان؛ كما تقول: جمل وجمال، ثم جمع أوثانا على وثن؛ كما تقول: مثال ومثل؛ ثم أبدل من الواو همزة لما انضمت؛ كما قال عز وجل: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} من الوقت؛ فأثن جمع الجمع. وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا أنثا "جمع أنيث، كغدير وغدر. وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر. حكى هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو عمرو الداني؛ قال: وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حيوة.
قوله تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً} يريد إبليس؛ لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه؛ ونظيره في المعنى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي أطاعوهم فيما أمروهم به؛ لا أنهم عبدوهم. وسيأتي. وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان. والمريد:

العاتي المتمرد؛ فعيل من مرد إذا عتا. قال الأزهري: المريد الخارج عن الطاعة، وقد مرد الرجل يمرد مرودا إذا عتا وخرج عن الطاعة، فهو مارد ومريد ومتمرد. ابن عرفة هو الذي ظهر شره؛ ومن هذا يقال: شجرة مرداء إذا تساقط ورقها فظهرت عيدانها؛ ومنه قيل للرجل: أمرد، أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه.
118- {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً}
قوله تعالى: {لَعَنَهُ اللَّهُ} أصل اللعن الإبعاد، وقد تقدم. وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب؛ فلعنة الله على إبليس - عليه لعنة الله - على التعيين جائزة، وكذلك سائر الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل؛ فأما الأحياء فقد مضى الكلام فيه في "البقرة".
قوله تعالى: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} أي وقال الشيطان؛ والمعنى: لاستخلصنهم. بغوايتي وأضلنهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة. وفي الخبر "من كل ألف واحد لله والباقي للشيطان ".
قلت: وهذا صحيح معنى؛ يعضده قوله تعالى لآدم يوم القيامة: "أبعث بعث النار فيقول: وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين " . أخرجه مسلم. وبعث النار هو للمولود مسمارا عند ولادته، ودورانهم به يوم أسبوعه، يقولون: ليعرفه العمار.
119- {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً}

فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} أي لأصرفنهم عن طريق الهدى. {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} أي لأسولن لهم، من التمني، وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأمنية، لأن كل واحد في نفسه إنما يمنيه بقدر رغبته وقرائن حاله. وقيل: لأمنينهم طول الحياة الخير والتوبة والمعرفة مع الإصرار. {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} البتك القطع، ومنه سيف باتك. أي أحملهم على قطع آذان البحيرة والسائبة ونحوه. يقال: بتكه وبتكه، "مخففا ومشددا " وفي يده قطعة، والجمع بتك، قال زهير:
طارت وفي كفه من ريشها بتك
الثانية: قوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} اللامات كلها للقسم. واختلف العلماء في هذا التغيير إلى ماذا يرجع، فقالت طائفة: هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان، قال معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو صالح. وذلك كله تعذيب، للحيوان، وتحريم وتحليل بالطغيان، وقول بغير حجة ولا برهان. والآذان في الأنعام جمال ومنفعة، وكذلك غيرها من الأعضاء، فلذلك رأى الشيطان أن يغير بها خلق الله تعالى. وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وأمرتهم أن يغيروا خلقي " . الحديث، أخرجه القاضي إسماعيل ومسلم أيضا. وروى إسماعيل قال: حدثنا أبو الوليد وسليمان بن حرب قالا حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قشف الهيئة، قال: "هل لك من مال " ؟ قال قلت: نعم. قال "من أي المال " ؟ قلت: من كل المال، من الخيل والإبل والرقيق - قال أبو الوليد: والغنم - قال: "فإذا أتاك الله مالا فلير عليك أثره " ثم قال: "هل تنتج إبل قومك صحاحا

آذانها فتعمد إلى موسى فتشق آذانها وتقول هذه بمر وتشق جلودها وتقول هذه صرم لتحرمها عليك وعلى أهلك " ؟ قال: قلت أجل. قال: "وكل ما آتاك الله حل وموسى الله أحد من موسك، وساعد الله أشد من ساعدك". قال قلت: يا رسول الله، أرأيت رجلا نزلت به فلم يقرني ثم نزل بي أفأقريه أم أكافئه ؟ فقال:"بل أقره ".
الثالثة: ولما كان هذا من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء " أخرجه أبو داود عن علي قال: أمرنا؛ فذكره. المقابلة: المقطوعة طرف الأذن. والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن. والشرقاء: مشقوقة الأذن. والخرقاء التي تخرق أذنها السمة. والعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء. قال مالك والليث: المقطوعة الأذن أو جل الأذن لا تجزئ، والشق للميسم يجزئ، وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء. فإن كانت سكاء، وهى التي خلقت بلا أذن فقال مالك والشافعي: لا تجوز. وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك.
الرابعة: وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره. والجمهور من العلماء وجماعتهم على أنه لا بأس أن يضحي بالخصي، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره. ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبدالعزيز. وخصى عروة بن الزبير بغلا له. ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم، وإنما جاز ذلك لأنه لا يقصد به تعليق الحيوان بالدين لصنم يعبد، ولا لرب يوحد. وإنما يقصد به تطييب اللحم فيما يؤكل، وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى. ومنهم من كره ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " . واختاره ابن المنذر وقال: لأن ذلك

ثابت عن ابن عمر، وكان يقول: هو نماء خلق الله؛ وكره ذلك عبدالملك بن مروان. وقال الأوزاعي: كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل. وقال ابن المنذر: وفيه حديثان: أحدهما عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل . والآخر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم . والذي في الموطأ من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ويقول: فيه تمام الخلق. قال أبو عمر: يعني في ترك الإخصاء تمام الخلق، وروي نماء الخلق.
قلت: أسنده أبو محمد عبدالغني من حديث عمر بن إسماعيل عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تخصوا ما ينمي خلق الله " . رواه عن الدارقطني شيخه، قال: حدثنا أبو عبدالله المعدل حدثنا عباس بن محمد حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل، فذكره. قال الدارقطني: ورواه عبدالصمد بن النعمان عن أبي مالك.
الخامسة: وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة، فإنه إذا خصي بطل قلبه وقوته، عكس الحيوان، وانقطع نسله المأمور به في قوله عليه السلام: "تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم " ثم إن فيه ألما عظيما ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك، فيكون فيه تضييع مال وإذهاب نفس، وكل ذلك منهي عنه. ثم هذه مثلة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وهو صحيح. وقد كره جماعة من فقهاء الحجازيين والكوفيين شراء الخصي من الصقالبة وغيرهم وقالوا: لو لم يشتروا منهم لم يخصوا. ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز؛ لأنه مثلة وتغيير لخلق الله تعالى، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود، قاله أبو عمر.
السادسة: وإذا تقرر هذا فاعلم أن الوسم والإشعار مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان، وهي ما قدمناه من نهيه عن تعذيب الحيوان بالنار، والوسم: الكي بالنار وأصله العلامة، يقال: وسم الشيء يسمه إذا علمه بعلامة يعرف بها، ومنه قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} . فالسيما العلامة والميسم المكواة. وثبت في صحيح مسلم عن أنس

قال: رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء وغير ذلك حتى يعرف كل مال فيؤدى في حقه، ولا يتجاوز به إلى غيره.
السابعة: والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه، لما رواه جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه ، أخرجه مسلم. وإنما كان ذلك لشرفه على الأعضاء، إذ هو مقر الحسن والجمال، ولأن به قوام الحيوان، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يضرب عبده فقال: "اتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته " . أي على صورة المضروب؛ أي وجه هذا المضروب يشبه وجه آدم، فينبغي أن يحترم لشبهه. وهذا أحسن ما قيل في تأويله والله أعلم. وقالت طائفة: الإشارة بالتغيير إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن؛ قال ابن مسعود والحسن. ومن ذلك الحديث الصحيح عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله " الحديث أخرجه مسلم، وسيأتي بكماله في الحشر إن شاء الله تعالى. والوشم يكون في اليدين، وهو أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور فيخضر. وقد وشمت تشم وشما فهي واشمة. والمستوشمة التي يفعل ذلك بها؛ قال الهروي. وقال ابن العربي: ورجال صقلية وإفريقية يفعلونه؛ ليدل كل واحد منهم على رجلته في حداثته. قال القاضي عياض: ووقع في رواية الهروي - أحد رواة مسلم - مكان "الواشمة والمستوشمة ""الواشية والمستوشية ""بالياء مكان الميم " وهو من الوشي وهو التزين؛ وأصل الوشي نسج الثوب على لونين، وثور موشى في وجهه وقوائمه سواد؛ أي تشي المرأة نفسها بما تفعله فيها من التنميص والتفليج والأشر. والمتنمصات جمع متنمصة وهي التي تقلع الشعر من وجهها بالمنماص، وهو الذي يقول الشعر؛ ويقال لها النامصة. ابن العربي: وأهل مصر ينتفون شعر العانة وهو منه؛ فإن السنة حلق العانة ونتف الإبط، فأما نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه، ويبطل كثيرا من المنفعة

فيه. والمتفلجات جمع متفلجة، وهي التي تفعل الفلج في أسنانها؛ أي تعانيه حتى ترجع المصمتة الأسنان خلقة فلجاء صنعة. وفي غير كتاب مسلم: "الواشرات"، وهي جمع واشرة، وهي التي تشر أسنانها؛ أي تصنع فيها أشرا، وهي التحزيزات التي تكون في أسنان الشبان؛ تفعل ذلك المرأة الكبيرة تشبها بالشابة. وهذه الأمور كلها قد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر. واختلف في المعنى الذي نهي لأجلها؛ فقيل: لأنها من باب التدليس. وقيل: من باب تغيير خلق الله تعالى؛ كما قال ابن مسعود، وهو أصح، وهو يتضمن المعنى الأول. ثم قيل: هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون باقيا؛ لأنه من باب تغيير خلق الله تعالى، فأما ما لا يكون باقيا كالكحل والتزين به للنساء فقد أجاز العلماء ذلك مالك وغيره. وكرهه مالك للرجال. وأجاز مالك أيضا أن تشي المرأة يديها بالحناء. وروي عن عمر إنكار ذلك وقال: إما أن تخضب يديها كلها وإما أن تدع، وأنكر مالك هذه الرواية عن عمر، ولا تدع الخضاب بالحناء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة لا تختضب قال: "لا تدع إحداكن يدها كأنها يد رجل" فما زالت تختضب وقد جاوزت التسعين حتى ماتت.
قال القاضي عياض: وجاء حديث بالنهي عن تسويد الحناء، ذكره صاحب المصابيح ولا تتعطل، ويكون في عنقها قلادة من سير في خرز، فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها: "إنه لا ينبغي أن تكوني بغير قلادة إما بخيط وإما بسير" . وقال أنس: يستحب للمرأة أن تعلق في عنقها في الصلاة ولو سيرا. قال أبو جعفر الطبري: في حديث ابن مسعود دليل على أنه لا يجوز تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان، التماس الحسن لزوج أو غيره، سواء فلجت أسنانها أو وشرتها، أو كان لها سن زائدة فأزالتها أو أسنان طوال فقطعت أطرافها. وكذا لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت لها؛ لأن كل ذلك تغيير خلق الله. قال عياض: ويأتي على ما ذكره أن من خلق بأصبع زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه؛ لأنه من تغيير خلق الله تعالى: إلا أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعها عند أبي جعفر وغيره.

الثامنة: قلت: ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة " أخرجه مسلم. فنهى صلى الله عليه وسلم عن وصل المرأة شعرها؛ وهو أن يضاف إليه شعر آخر يكثر به، والواصلة هي التي تفعل ذلك، والمستوصلة هي التي تستدعي من يفعل ذلك بها. مسلم عن جابر قال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئا. وخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله ؟ فقال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة " . وهذا كله نص في تحريم وصل الشعر، وبه قال مالك وجماعه العلماء. ومنعوا الوصل بكل شيء من الصوف والخرق وغير ذلك؛ لأنه في معنى وصله بالشعر. وشذ الليث بن سعد فأجاز وصله بالصوف والخرق وما ليس بشعر؛ وهذا أشبه بمذهب أهل الظاهر. وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس وقالوا: إنما جاء النهي عن الوصل خاصة، وهذه ظاهرية محضة وإعراض عن المعنى. وشذ قوم فأجازوا الوصل مطلقا، وهو قول باطل قطعا ترده الأحاديث. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ولم يصح. وروي عن ابن سيرين أنه سأل رجل فقال: إن أمي كانت تمشط النساء، أتراني آكل من مالها ؟ فقال: إن كانت تصل فلا. ولا يدخل في النهي ما ربط منه بخيوط الحرير الملونة على وجه الزينة والتجميل، والله أعلم.
التاسعة: وقالت طائفة: المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات؛ ليعتبر بها وينتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة. قال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق الله. وقاله جماعة من أهل التفسير: مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة. وروي عن ابن عباس {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} دين الله؛ وقال النخعي، واختاره الطبري قال: وإذا كان ذلك معناه

دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي؛ لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي؛ أي فليغيرن ما خلق الله في دينه. وقال مجاهد أيضا: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله عليه السلام: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " . فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الإيمان به في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . قال ابن العربي: روي عن طاوس أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ويقول: هذا من قول الله {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} . قال القاضي: وهذا وإن كان يحتمله اللفظ فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلى الله عليه وسلم من نكاح مولاه زيد وكان أبيض؛ بظئره بركة الحبشية أم أسامة وكان أسود من أبيض، وهذا مما خفي على طاوس مع علمه.
قلت: ثم أنكح أسامة فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية. وقد كانت تحت بلال أخت عبدالرحمن بن عوف زهرية. وهذا أيضا يخص وقد خفي عليهما.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي يطيعه ويدع أمر الله. {فَقَدْ خَسِرَ} أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه وتركه من أجله.
120- {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً}
121- {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً}
122- {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}
قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ} المعنى يعدهم أباطيله وترهاته من المال والجاه والرياسة، وأن لا بعث ولا عقاب، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير {وَيُمَنِّيهِمْ} كذلك {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} أي خديعة. قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وفيه

باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور؛ لأنه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء. {أُولَئِكَ} ابتداء {مَأْوَاهُمْ} ابتداء ثان {جَهَنَّمُ} خبر الثاني والجملة خبر الأول. و {مَحِيصاً} ملجأ، والفعل منه حاص يحيص. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} ابتداء وخبر."قيلاً" على البيان؛ قال قيلا وقولا وقالا، بمعنى أي لا أحد أصدق من الله. وقد مضى الكلام على ما تضمنته هذه الآي من المعاني والحمد لله.
123- {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}
قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} وقرأ أبو جعفر المدني {لَيْسَ بِأَمَانِيِكُمْ وَلا أَمَانِيِ أَهْلِ الْكِتَابِ} بتخفيف الياء فيها جميعا. ومن أحسن ما روي في نزولها ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا. وقالت قريش: ليس نبعث، فأنزل الله {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} . وقال قتادة والسدي: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم. وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب، فنزلت الآية.
قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} السوء ههنا الشرك، قال الحسن: هذه الآية في الكافر، وقرأ {وَهَلْ يُجَازَى إِلَّا الْكَفُورَ} . وعنه أيضا {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} قال: ذلك لمن أراد الله هوانه، فأما من أراد كرامته فلا، قد ذكر الله قوما فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} . وقال الضحاك: يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب. وقال الجمهور: لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجازى بعمله السوء، فأما مجازاة الكافر فالنار؛ لأن كفره أوبقه، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة

قال: لما نزلت {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها " . وخرج الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول، في الفصل الخامس والتسعين " حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال حدثنا عبدالرحمن بن سليم بن حيان أبو زيد قال: سمعت أبي يذكر عن أبيه قال صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فقال لنافع: لا تمر بي على المصلوب؛ يعني ابن الزبير، قال: فما فجئه في جوف الليل أن صك محمله جذعه؛ فجلس فمسح عينيه ثم قال: يرحمك الله أبا خبيب أن كنت وأن كنت ! ولقد سمعت أباك الزبير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يعمل سوءا يجز به في الدنيا أو في الآخرة " فإن يك هذا بذاك فهيه. قال الترمذي أبو عبدالله: فأما في التنزيل فقد أجمله فقال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} فدخل فيه البر والفاجر والعدو والولي والمؤمن والكافر؛ ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الموطنين فقال: "يجز به في الدنيا أو في الآخرة " وليس يجمع عليه الجزاء في الموطنين؛ ألا ترى أن ابن عمر قال: فإن يك هذا بذاك فهيه؛ معناه أنه قاتل في حرم الله وأحدث فيه حدثا عظيما حتى أحرق البيت ورمي الحجر الأسود بالمنجنيق فانصدع حتى ضبب بالفضة فهو إلى يومنا هذا كذلك، وسمع للبيت أنينا: آه آه ! فلما رأى ابن عمر فعله ثم رآه مقتولا مصلوبا ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءا يجز به " . ثم قال: إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهيه؛ أي كأنه جوزي بذلك السوء هذا القتل والصلب. رحمه الله ! ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بين الفريقين؛ حدثنا أبي رحمه الله قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد الليثي قال: لما نزلت {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ما هذه بمبقية منا؛ قال: "يا أبا بكر إنما يجزى المؤمن بها في الدنيا ويجزى بها الكافر يوم القيامة " . حدثنا الجارود قال حدثنا وكيع وأبو معاوية وعبدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر

بن أبي زهير الثقفي قال: لما نزلت {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر: كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا ؟ كل شيء عملناه جزينا به، فقال: "غفر الله لك يا أبا بكر ألست تنصب، ألست تحزن، الست تصيبك اللأواء ؟. قال: بلى. قال "فذلك مما تجزون به " ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله التنزيل من قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} . وروى الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها لما نزلت قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة " . قال: حديث غريب: وفي إسناده مقال: وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل. ومولى بن سباع مجهول، وقد روي هذا من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أيضا؛ وفي الباب عن عائشة.
قلت: خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} وعن هذه الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} فقالت عائشة: ما سألني أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؛ فقال: "يا عائشة، هذه مبايعة الله بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع فيجدها في عيبته، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر من الكير ". واسم "ليس "مضمر فيها في جميع هذه الأقوال؛ والتقدير: ليس الكائن من أموركم ما تتمنونه، بل من يعمل سوءا يجز به. وقيل: المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم إذ قد تقدم {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات} .
قوله تعالى: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} يعني المشركين؛ لقوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} . وقيل: {مَنْ يَعْمَلْ

سُوءاً يُجْزَ بِهِ} إلا أن يتوب. وقراءة الجماعة {وَلا يَجِدْ لَهُ} بالجزم عطفا على {يُجْزَ بِهِ} . وروى ابن بكار عن ابن عامر {وَلا يَجِدُ لَهُ} بالرفع استئنافا. فإن حملت الآية على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير. وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير دون الله.
124- {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}
شرط الإيمان لأن المشركين أدلوا بخدمة الكعبة وإطعام الحجيج وقرى الأضياف، وأهل الكتاب بسبقهم، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه؛ فبين تعالى أن الأعمال الحسنة لا تقبل من غير إيمان. وقرأ "يدخلون الجنة "الشيخان أبو عمرو وابن كثير "بضم الياء وفتح الخاء " على ما لم يسم فاعله. الباقون بفتح الياء وضم الخاء؛ يعني يدخلون الجنة بأعمالهم. وقد مضى ذكر النقير وهي النكتة في ظهر النواة.
125- {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }
قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} فضل دين الإسلام على سائر الأديان و {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} معناه أخلص دينه لله وخضع له وتوجه إليه بالعبادة. قال ابن عباس: أراد أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وانتصب {دِيناً} على البيان. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} ابتداء وخبر في موضع الحال، أي موحد فلا يدخل فيه أهل الكتاب؛ لأنهم تركوا الإيمان بمحمد عليه السلام. والملة الدين، والحنيف المسلم وقد تقدم.

قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} قال ثعلب: إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته؛ وأنشد قول بشار:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبه سمي الخليل خليلا
وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل: هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا لله. وقيل: الخليل من الاختصاص فالله عز وجل أعلم اختص إبراهيم في وقته للرسالة. واختار هذا النحاس قال: والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم "وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا " يعني نفسه. وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا " أي لو كنت مختصا أحدا بشيء لاختصصت أبا بكر. رضي الله عنه. وفي هذا رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص بعض أصحابه بشيء من الدين. وقيل: الخليل المحتاج؛ فإبراهيم خليل الله معنى أنه فقير محتاج إلى الله تعالى؛ كأنه الذي به الاختلال. وقال زهير يمدح هرم بن سنان:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غالب مالي ولا حرم
أي لا ممنوع. قال الزجاج: ومعنى الخليل: الذي ليس في محبته خلل؛ فجائز أن يكون سمي خليلا لله بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة. وجائز أن يسمى خليل الله أي فقيرا إلى الله تعالى؛ لأنه لم يجعل فقره ولا فاقته إلا إلى الله تعالى مخلصا في ذلك. والاختلال الفقر؛ فروي أنه لما رمي بالمنجنيق وصار في الهواء أتاه جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة ؟ قال: أما إليك فلا. فخلق الله تعالى لإبراهيم نصرته إياه. وقيل: سمي بذلك بسبب أنه مضى إلى خليل له بمصر، وقيل: بالموصل ليمتار من عنده طعاما فلم يجد صاحبه، فملأ غرائره رملا وراح به إلى أهله فحطه ونام؛ ففتحه أهله فوجدوه دقيقا فصنعوا له منه، فلما قدموه إليه قال: من أين لكم هذا ؟ قالوا: من الذي جئت به من عند خليلك المصري؛ فقال: هو من عند خليلي؛ يعني الله تعالى؛ فسمي خليل الله بذلك. وقيل: إنه أضاف رؤساء الكفار وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له: ما حاجتك ؟ قال: حاجتي أن تسجدوا

سجدة؛ فسجدوا فدعا الله تعالى وقال: اللهم إني قد فعلت ما أمكنني فافعل اللهم ما أنت أهل لذلك؛ فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلا لذلك. ويقال: لما دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميين وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا: إنا لا نأكل شيئا بغير ثمن فقال لهم: أعطوا ثمنه وكلوا، قالوا: وما ثمنه ؟ قال: أن تقولوا في أوله باسم الله وفي آخره الحمد لله، فقالوا فيما بينهم: حق على الله أن يتخذه خليلا؛ فاتخذه الله خليلا. وروى جابر بن عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتخذ الله إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام " . وروى عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا " ؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد . وقيل: معنى الخليل الذي يوالي في الله ويعادي في الله. والخلة بين الآدميين الصداقة؛ مشتقة من تخلل الأسراء بين المتخالين. وقيل: هي من الخلة فكل واحد من الخليلين يسد خلة صاحبه. وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " . ولقد أحسن من قال:
من لم تكن في الله خلته ... فخليله منه على خطر
آخر:
إذا ما كنت متخذا خليلا ... فلا تثقن بكل أخي إخاء
فإن خيرت بينهم فألصق ... بأهل العقل منهم والحياء
فإن العقل ليس له إذا ما ... تفاضلت الفضائل من كفاء
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أخلاء الرجال هم كثير ... ولكن في البلاء هم قليل
فلا تغررك خلة من تؤاخي ... فمالك عند نائبة خليل
وكل أخ يقول أنا وفي ... ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خل له حسب ودين ... فذاك لما يقول هو الفعول

126- {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً}
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي ملكا واختراعا. والمعنى إنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالته ولا للتكثير به والاعتضاد؛ وكيف وله ما في السموات وما في الأرض ؟ وإنما أكرمه لامتثاله لأمره.
قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} أي أحاط علمه بكل الأشياء.
127- {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً}
نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك؛ فأمر الله نبيه عليه السلام أن يقول لهم: الله يفتيكم فيهن؛ أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه. وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم: إن الله يفتيكم فيهن. روى أشهب عن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كتاب الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} . {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} . و {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} . {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} .
قوله تعالى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} "ما" في موضع رفع، عطف على اسم الله تعالى. والمعنى: والقرآن يفتيكم فيهن، وهو قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقد تقدم.
وقوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أي وترغبون عن أن تنكحوهن، ثم حذفت "عن".

وقيل: وترغبون في أن تنكحوهن ثم حذفت "في". قال سعيد بن جبير ومجاهد: ويرغب في نكاحها وإذا كانت كثيرة المال. وحديث عائشة يقوي حذف "عن "فإن في حديثها: وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال؛ وقد تقدم أول السورة.
128- {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ} رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده. و {خَافَتْ} بمعنى توقعت. وقول من قال: خافت تيقنت خطأ. قال الزجاج: المعنى وإن امرأة. خافت من بعلها دوام النشوز. قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد، والإعراض ألا يكلمها ولا يأنس بها. ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة. روى الترمذي عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني، وأجعل يومي منك لعائشة؛ ففعل فنزلت: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، قال: هذا حديث حسن غريب. وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة بنة محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره، فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما شئت؛ فجرت السنة بذلك فنزلت {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} . وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل؛ فنزلت هذه الآية. وقراءة العامة {أَنْ يُصّالَحَا} .

وقرأ أكثر الكوفيين "أن يصلحا". وقرأ الجحدري وعثمان البتي "أن يصلحا "والمعنى يصطلحا ثم أدغم.
الثانية: في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها. قال ابن أبي مليكة: إن سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فآثرت الكون معه، فقالت له: أمسكني وأجعل يومي لعائشة؛ ففعل صلى الله عليه وسلم، وماتت وهي من أزواجه.
قلت: وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة؛ روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها واحدة، ثم أهملها حتى إذا كانت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال: ما شئت إنما بقيت واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة، وإن شئت فارقتك. قالت: بل أستقر على الأثرة. فأمسكها على ذلك؛ ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة. رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه وزاد: فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْر} . قال أبو عمر بن عبدالبر: قول والله أعلم: "فآثر الشابة عليها "يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها؛ لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت؛ لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع، والله أعلم. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلا سأل عن هذه الآية فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه؛ فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له أن يأخذ وإن جعلت له من أيامها فلا حرج. وقال الضحاك: لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه. وقال مقاتل بن حيان: هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة؛ فيقول لهذه الكبيرة:

أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار؛ فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه؛ وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم
الثالثة: قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة؛ بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء؛ فهذا كله مباح. وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غضب على صفية، فقالت لعائشة: أصلحي بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهبت يومي لك. ذكره ابن خويز منداد في أحكامه عن عائشة قالت: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية في شيء؛ فقالت لي صفية: هل لك أن ترضين رسول الله صلى الله عليه وسلم عني ولك يومي ؟ قالت: فلبست خمارا كان عندي مصبوغا بزعفران ونضحته، ثم جئت فجلست إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إليك عني فإنه ليس بيومك " . فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ وأخبرته الخبر، فرضي عنها. وفيه أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها.
الرابعة: قرأ الكوفيون "يصلحا". والباقون "أن يصالحا". الجحدري "يصلحا" فمن قرأ "يصالحا "فوجهه أن المعروف في كلام العرب إذا كان بين قوم تشاجر أن يقال: تصالح القوم، ولا يقال: أصلح القوم ؟ ولو كان أصلح لكان مصدره إصلاحا. ومن قرأ "يصلحا "فقد استعمل مثله في التشاجر والتنازع؛ كما قال "فاصلح بينهم". ونصب قوله: "صلحا" على هذه القراءة على أنه مفعول، وهو اسم مثل العطاء من أعطيت. فأصلحت صلحا مثل أصلحت أمرا؛ وكذلك هو مفعول أيضا على قراءة من قرأ "يصالحا "لأن تفاعل قد جاء متعديا؛ ويحتمل أن يكون مصدرا حذفت زوائده. ومن قرأ "يصلحا "

فالأصل "يصتلحا "ثم صار إلى يصطلحا، ثم أبدلت الطاء صادا وأدغمت فيها الصاد؛ ولم تبدل الصاد طاء لما فيها من امتداد الزفير.
الخامسة: قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق. ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين الرجل وامرأته في مال أو وطء أو غير ذلك. "خير "أي خير من الفرقة؛ فإن التمادي على الخلاف والشحناء والمباغضة هي قواعد الشر، وقال عليه السلام في البغضة: "إنها الحالقة " يعني حالقة الدين لا حالقة الشعر.
السادسة: قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} إخبار بأن الشح في كل أحد. وأن الإنسان لا بد أن يشح بحكم خلقته وجبلته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره؛ يقال: شح يشح "بكسر الشين " قال ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها. وقال ابن زيد: الشح هنا منه ومنها. وقال ابن عطية: وهذا أحسن؛ فإن الغالب على المرأة الشح بنصيبها من زوجها، والغالب على الزوج الشح بنصيبه من الشابة. والشح الضبط على المعتقدات والإرادة وفي الهمم والأموال ونحو ذلك، فما أفرط منه على الدين فهو محمود، وما أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة. وإذا آل البخل إلى هذه الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة لم يبق معه خير مرجو ولا صلاح مأمول.
قلت: وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: "من سيدكم " ؟ قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأي داء أدوى من البخل " ! قالوا: وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال: "إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف ببعد النساءوتعتذر

النساء ببعد الرجال ففعلوا وطال ذلك بهم،فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء. " . وقد تقدم، ذكره الماوردي.
السابعة: قوله تعالى: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} شرط {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} جوابه. وهذا خطاب للأزواج من حيث إن للزوج أن يشح ولا يحسن؛ أي إن تحسنوا وتتقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهن مع كراهيتكم لصحبتهن واتقاء ظلمهن فهو أفضل لكم.
129- {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}
قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب. فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض؛ ولهذا كان عليه السلام يقول: "اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" . ثم نهى فقال: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} قال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسم والنفقة؛ لأن هذا مما يستطاع. وسيأتي بيان هذا في "الأحزاب" مبسوطا إن شاء الله تعالى. وروى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " .
قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي لا هي مطلقة ولا ذات زوج؛ قاله الحسن. وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء؛ لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل؛ وهذا مطرد في قولهم في المثل: "أرض من المركب بالتعليق". وفي عرف النحويين فمن تعليق

الفعل. ومنه في حديث أم زرع في قول المرأة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق. وقال قتادة: كالمسجونة؛ وكذا قرأ أبي "فتذروها كالمسجونة". وقرأ ابن مسعود "فتذروها كأنها معلقة" وموضع "فتذروها" نصب؛ لأنه جواب النهي. والكاف في "كالمعلقة" في موضع نصب أيضا.
130- {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً}
131- {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً}
132- {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}
قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} أي وإن لم يصطلحا بل تفرقا فليحسنا ظنهما بالله، فقد يقيض للرجل امرأة تقر بها عينه، وللمرأة من يوسع عليها. وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر، فأمره بالنكاح، فذهب الرجل وتزوج؛ ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر، فأمره بالطلاق؛ فسئل عن هذه الآية فقال: أمرته بالنكاح لعله من أهل هذه الآية: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت: فلعله من أهل هذه الآية {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} .
قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي الأمر بالتقوى كان عاما لجميع الأمم: وقد مضى القول في التقوى. {وَإِيَّاكُمْ} عطف على "الذين". {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} في موضع نصب؛ قال الأخفش: أي بأن اتقوا الله. وقال بعض العارفين: هذه الآية هي رحى أي القرآن، لأن جميعه يدور عليها.

قوله تعالى :{وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} إن قال قائل: ما فائدة هذا التكرير ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه كرر تأكيدا؛ ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه وأنه غني عن العالمين. الجواب الثاني: أنه كرر لفوائد: فأخبر في الأول أن الله تعالى يغني كلا من سعته؛ لأن له ما في السموات وما في الأرض فلا تنفد خزائنه. ثم قال: أوصيناكم وأهل الكتاب بالتقوى "وإن تكفروا "أي وإن تكفروا فإنه غني عنكم؛ لأن له ما في السموات وما في الأرض. ثم أعلم في الثالث بحفظ خلقه وتدبيره إياهم بقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} لأن له ما في السموات وما في الأرض. وقال: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} ولم يقل من في السموات؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس، وفي السموات والأرض من يعقل ومن لا يعقل.
133- {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً}
قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يعني بالموت {أَيُّهَا النَّاسُ} يريد المشركين والمنافقين {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} يعني بغيركم. ولما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهر سلمان وقال: "هم قوم هذا " . وقيل: الآية عامة، أي وإن تكفروا يذهبكم ويأت بخلق أطوع لله منكم. وهذا كما قال في آية أخرى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} . وفي الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة فلا يعدل في رعيته، أو كان عالما فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس، أن يذهبه ويأتي بغيره .{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} والقدرة صفة أزلية، لا تتناهى مقدوراته، كما لا تتناهى معلوماته، والماضي والمستقبل في صفاته بمعنى واحد، وإنما خص الماضي بالذكر لئلا يتوهم أنه يحدث في ذاته وصفاته. والقدرة هي التي يكون بها الفعل ولا يجوز وجود العجز معها.
134- {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً}

أي من عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة أتاه الله ذلك في الآخرة، ومن عمل طلبا للدنيا أتاه بما كتب له في الدنيا وليس له في الآخرة من ثواب؛ لأنه عمل لغير الله كما قال تعالى: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} . وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} . وهذا على أن يكون المراد بالآية المنافقون والكفار، وهو اختيار الطبري. وروي أن المشركين كانوا لا يؤمنون بالقيامة، وإنما. يتقربون إلى الله تعالى ليوسع عليهم في الدنيا ويرفع عنهم مكروهها؛ فأنزل الله عز وجل {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} أي يسمع ما يقولونه ويبصر ما يسرونه.
الآية: 135 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ} "قوامين" بناء مبالغة، أي ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها. ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما، ثم ثنى بالأقربين إذ هم مظنة المودة والتعصب؛ فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه، فجاء الكلام في السورة في حفظ حقوق الخلق في الأموال.
الثانية: لا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وأن شهادة الولد على الوالدين الأب والأم ماضية، ولا يمنع ذلك من برهما، بل من برهما أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل، وهو معنى قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} فإن شهد لهما أو شهدا له وهي:

الثالثة: فقد اختلف فيها قديما وحديثا؛ فقال ابن شهاب الزهري: كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} فلم يكن أحد يتهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وابن حنبل. وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا. وروي عن عمر بن الخطاب أنه أجازه؛ وكذلك روي عن عمر بن عبدالعزيز، وبه قال إسحاق والثوري والمزني. ومذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلا إلا في النسب. وروى عنه ابن وهب أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه. وقال مالك وأبو حنيفة: شهادة الزوج لزوجته لا تقبل؛ لتواصل منافع الأملاك بينهما وهي محل الشهادة. وقال الشافعي: تجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض؛ لأنهما أجنبيان، وإنما بينهما عقد الزوجية وهو معرض للزوال. والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص فيما عدا المخصوص فبقي على الأصل؛ وهذا ضعيف؛ فإن الزوجية توجب الحنان والمواصلة والألفة والمحبة، فالتهمة قوية ظاهرة. وقد روى أبو داود من حديث سليمان بن موسى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم. قال الخطابي: ذو الغمر الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، فترد شهادته عليه للتهمة. وقال أبو حنيفة: شهادته على العدو مقبولة إذا كان عدلا. والقانع السائل والمستطعم، وأصل القنوع السؤال. ويقال في القانع: إنه المنقطع إلى القوم يخدمهم ويكون في حوائجهم؛ وذلك مثل الأجير أو الوكيل ونحوه. ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر المنفعة إلى نفسه؛ لأن القانع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع. وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعا

فشهادته مردودة؛ كمن شهد لرجل على شراء دار هو شفيعها، أو كمن حكم له على رجل بدين وهو مفلس، فشهد المفلس على رجل بدين ونحوه. قال الخطابي: ومن رد شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يرد شهادة الزوج لزوجته؛ لأن ما بينهما من التهمة في جر المنفعة أكثر؛ وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. والحديث حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه؛ لأنه يجر به النفع لما جبل عليه من حبه والميل إليه؛ ولأنه يمتلك ماله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك ".
وممن ترد شهادته عند مالك البدوي على القروي؛ قال: إلا أن يكون في بادية أو قرية، فأما الذي يشهد في الحضر بدويا ويدع جيرته من أهل الحضر عندي مريب. وقد روى أبو داود والدارقطني عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية " . قال محمد بن عبدالحكم: تأول مالك هذا الحديث على أن المراد به الشهادة في الحقوق والأموال، ولا ترد الشهادة في الدماء وما في معناها مما يطلب به الخلق. وقال عامة أهل العلم: شهادة البدوي إذا كان عدلا يقيم الشهادة على وجهها جائزة؛ والله أعلم. وقد مضى القول في هذا في "البقرة"، ويأتي في "براءة " تمامها إن شاء الله تعالى.
الرابعة: قوله تعالى: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} نصب على النعت {قَوَّامِينَ} ، وإن شئت كان خبرا بعد خبر. قال النحاس: وأجود من هذين أن يكون نصبا على الحال بما في "قوامين "من ذكر الذين آمنوا؛ لأنه نفس المعنى، أي كونوا قوامين بالعدل عند شهادتكم. قال ابن عطية: والحال فيه ضعيفة في المعنى؛ لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط. ولم ينصرف "شهداء "لأن فيه ألف التأنيث.
الخامسة: قوله تعالى: {لِلَّهِ} معناه لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه. {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} متعلق بـ {شُهَدَاءَ} ؛ هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس، وإن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق فيقر بها لأهلها، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه؛ كما تقدم.

أدب الله جل وعز المؤمنين بهذا؛ كما قال ابن عباس: أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم. ويحتمل أن يكون قوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} معناه بالوحدانية لله، ويتعلق قوله: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} بـ {قَوَّامِينَ} والتأويل الأول أبين.
السادسة: قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} في الكلام إضمار وهو اسم كان؛ أي إن يكن الطالب أو المشهود غنيا فلا يراعى لغناه ولا يخاف منه، وإن يكن فقيرا فلا يراعى إشفاقا عليه. {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي فيما اختار لهما من فقر وغنى. قال السدي: اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم غني وفقير، فكان ضلعه صلى الله عليه وسلم مع الفقير، ورأى أن الفقير لا يظلم الغني؛ فنزلت الآية.
السابعة: قوله تعالى: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} إنما قال "بهما "ولم يقل "به "وإن كانت " أو " إنما تدل على الحصول الواحد؛ لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما. وقال الأخفش: تكون "أو" بمعنى الواو؛ أي إن يكن غنيا وفقيرا فالله أولى بالخصمين كيفما كانا؛ وفيه ضعف. وقيل: إنما قال: "بهما" لأنه قد تقدم ذكرهما؛ كما قال تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}.
الثامنة: قوله تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} نهي، فإن اتباع الهوى مرد، أي مهلك؛ قال الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق، وعلى الجور في الحكم، إلى غير ذلك. وقال الشعبي: أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا. {أَنْ تَعْدِلُوا} في موضع نصب.
قوله تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} قرئ "وإن تلووا "من لويت فلانا حقه ليا إذا دفعته به، والفعل منه "لوى "والأصل فيه "لوى "قلبت الياء ألفا لحركتها وحركة ما قبلها، والمصدر "ليا "والأصل لويا، وليانا والأصل لويانا، ثم أدغمت الواو

في الياء. وقال القتبي: "تلووا "من اللي في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين. وقرأ ابن عامر والكوفيون "تلوا "أراد قمتم بالأمر وأعرضتم، من قولك: وليت الأمر، فيكون في الكلام. التوبيخ للإعراض عن القيام بالأمر وقيل: إن معنى "تلوا "الإعراض. فالقراءة بضم اللام تفيد معنيين: الولاية والإعراض، والقراءة بواوين تفيد معنى واحدا وهو الإعراض. وزعم بعض النحويين أن من قرأ "تلوا "فقد لحن؛ لأنه لا معنى للولاية ههنا. قال النحاس وغيره: وليس يلزم هذا ولكن تكون "تلوا "بمعنى "تلووا "وذلك أن أصله "تلووا" فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى. فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين؛ وهي كالقراءة بإسكان اللام وواوين؛ ذكره مكي. وقال الزجاج: المعنى على قراءته "وإن تلووا "ثم همز الواو الأولى فصارت "تلؤوا "ثم خففت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام فصارت "تلوا "وأصلها "تلووا". فتتفق القراءتان على هذا التقدير. وذكره النحاس ومكي وابن العربي وغيرهم. قال ابن عباس: هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر؛ فاللي على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي إليه. قال ابن عطية: وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك، والله حسيب الكل. وقال ابن عباس أيضا والسدي وابن زيد والضحاك ومجاهد: هي في الشهود يلوي الشاهد الشهادة بلسانه ويحرفها فلا يقول الحق فيها، أو يعرض عن أداء الحق فيها. ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة، وكل إنسان مأمور بأن يعدل. وفي الحديث: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " . قال ابن الأعرابي: عقوبته حبسه، وعرضه شكايته.
العاشرة: وقد استدل بعض العلماء في رد شهادة العبد بهذه الآية؛ فقال: جعل الله تعالى الحاكم شاهدا في هذه الآية، وذلك أدل دليل على أن العبد ليس من أهل الشهادة؛ لأن المقصود منه الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة إليه، ولا يتأتى ذلك من العبد أصلا فلذلك ردت الشهادة.

136- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} الآية. نزلت في جميع المؤمنين؛ والمعنى: يا أيها الذين صدقوا أقيموا على تصديقكم وأثبتوا عليه. {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} أي القرآن. {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} أي كل كتاب أنزل على النبيين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر "نزل "و "أنزل "بالضم. الباقون "نزل "و "أنزل "بالفتح. وقيل: نزلت فيمن آمن بمن تقدم محمدا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام. وقيل: إنه خطاب للمنافقين؛ والمعنى على هذا يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله. وقيل: المراد المشركون؛ والمعنى يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى والطاغوت آمنوا بالله؛ أي صدقوا بالله وبكتبه.
137- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}
قيل: المعنى آمنوا بموسى وكفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الذين آمنوا بموسى ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعد عزير بالمسيح، وكفرت النصارى بما جاء به موسى وآمنوا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن. فإن قيل: إن الله تعالى لا يغفر شيئا من الكفر فكيف قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} فالجواب أن الكافر إذا آمن غفر له كفره، فإذا رجع فكفر لم يغفر له الكفر الأول؛ وهذا كما جاء في صحيح مسلم عن عبدالله قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

[ يا رسول الله ] أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ قال: " أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام" . وفي رواية "ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر " . الإساءة هنا بمعنى الكفر؛ إذ لا يصح أن يراد بههنا ارتكاب سيئة، فإنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما سبق قبله إلا لمن يعصم من جميع السيئات إلا حين موته، وذلك باطل بالإجماع. ومعنى: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} أصروا على الكفر. {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} ليرشدهم. {سَبِيلاً} طريقا إلى الجنة. وقيل: لا يخصهم بالتوفيق يخص أولياءه. وفي هذه الآية رد على أهل القدر؛ فإن الله تعالى بين أنه لا يهدي الكافرين طريق خير ليعلم العبد أنه إنما ينال الهدى بالله تعالى، ويحرم الهدى بإرادة الله تعالى أيضا. وتضمنت الآية أيضا حكم المرتدين، وقد مضى القول فيهم في "البقرة "عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} .
138- {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
التبشير الإخبار بما ظهر أثره على البشرة، وقد تقدم بيانه في "البقرة "ومعنى النفاق.
139- {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} "الذين "نعت للمنافقين. وفي هذا دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق؛ لأنه لا يتولى الكفار. وتضمنت المنع من موالاة الكافر، وأن يتخذوا أعوانا على الأعمال المتعلقة بالدين. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم يقاتل معه، فقال له: "ارجع فإنا لا نستعين بمشرك" . {الْعِزَّةُ} أي الغلبة، عزه يعزه

عزا إذا غلبه. {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} أي الغلبة والقوة لله. قال ابن عباس: {يبتغون عندهم} يريد بني قينقاع، فإن ابن أبي كان يواليهم.
140- {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}
141- {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}
قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من محق ومنافق؛ لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله. فالمنزل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} . وكان المنافقين يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن. وقرأ عاصم ويعقوب "وقد نزل "بفتح النون والزاي وشدها؛ لتقدم اسم الله جل جلاله في قوله تعالى: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} . وقرأ حميد كذلك، إلا أنه خفف الزاي. الباقون "نزل "غير مسمى الفاعل. {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} موضع {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ} على قراءة عاصم ويعقوب نصب بوقوع الفعل عليه. وفي قراءة الباقين رفع؛ لكونه اسم ما لم يسم فاعله. {يُكْفَرُ بِهَا} أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله؛ فأوقع السماع

على الآيات، والمراد سماع الكفر والاستهزاء؛ كما تقول: سمعت عبدالله يلام، أي سمعت اللوم في عبدالله.
قوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي غير الكفر. {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر؛ قال الله عز وجل: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} . فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية. وقد روي عن عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} أي إن الرضا بالمعصية معصية؛ ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم. وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة؛ كما قال:
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقد تقدم. وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى. وقال الكلبي: قوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} نسخ بقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . وقال عامة. المفسرين: هي محكمة. وروى جويبر عن الضحاك قال: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ} الأصل "جامع" بالتنوين فحذف استخفافا؛ فإنه بمعنى يجمع. {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} يعني المنافقين، أي ينتظرون بكم الدوائر.

{فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} أي غلبة على اليهود وغنيمة. {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي أعطونا من الغنيمة. {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} أي ظفر. {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي ألم نغلب عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم. يقال: استحوذ على كذا أي غلب عليه؛ ومنه قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} . وقيل: أصل الاستحواذ الحوط؛ حاذه يحوذه حوذا إذا حاطه. وهذا الفعل جاء على الأصل، ولو أعل لكان ألم نستحذ، والفعل على الإعلال استحاذ يستحيذ، وعلى غير الإعلال استحوذ يستحوذ. {وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي بتخذيلنا إياهم عنكم، وتفريقنا إياهم مما يريدونه منكم. والآية تدل على أن المنافقين كانوا يخرجون في الغزوات مع المسلمين ولهذا قالوا: ألم نكن معكم ؟ وتدل على أنهم كانوا لا يعطونهم الغنيمة ولهذا طلبوها وقالوا: ألم نكن معكم ! ويحتمل أن يريدوا بقولهم {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} الامتنان على المسلمين. أي كنا نعلمكم بأخبارهم وكنا أنصارا لكم.
قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} للعلماء فيه تأويلات خمس:
أحدها: ما روي عن يسيع الحضرمي قال: كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له رجل يا أمير المؤمنين، أرأيت قول الله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} كيف ذلك، وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا ! فقال علي رضي الله عنه: معنى ذلك يوم القيامة يوم الحكم. وكذا قال ابن عباس: ذاك يوم القيامة. قال ابن عطية: وبهذا قال جميع أهل التأويل. قال ابن العربي: وهذا ضعيف: لعدم فائدة الخبر فيه، وإن أوهم صدر الكلام معناه؛ لقوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فأخر الحكم إلى يوم القيامة. وجعل الأمر في الدنيا دولا تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى؛

بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة. ثم قال: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} فتوهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله، وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكرارا.
الثاني: إن الله لا يجعل لهم سبيلا يمحو به دولة المؤمنين، ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم؛ كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا " .
الثالث: إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . قال ابن العربي: وهذا نفيس جدا.
قلت: ويدل عليه قوله عليه السلام في حديث ثوبان "حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا " وذلك أن "حتى "غاية؛ فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسبي بعضهم لبعض، وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين؛ فغلظت شوكة الكافرين واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله؛ فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه.
الرابع: إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا؛ فإن وجد فبخلاف الشرع.
الخامس: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} أي حجة عقلية ولا شرعيه يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت.

الثانية: ابن العربي: ونزع علماؤنا بهذه الآية في الاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم. وبه قال أشهب والشافعي: لأن الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه، والملك بالشراء سبيل، فلا يشرع له ولا ينعقد العقد بذلك. وقال ابن القاسم عن مالك، وهو قول أبي حنيفة: إن معنى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} في دوام الملك؛ لأنا نجد الابتداء يكون له عليه وذلك بالإرث. وصورته أن يسلم عبد كافر في يد كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه، فقبل الحكم عليه ببيعه مات، فيرث العبد المسلم وارث الكافر. فهده سبيل قد ثبت قهرا لا قصد فيه، وإن ملك الشراء ثبت بقصد النية، فقد أراد الكافر تملكه باختياره، فإن حكم بعقد بيعه وثبوت ملكه فقد حقق فيه قصده، وجعل له سبيل عليه. قال أبو عمر: وقد أجمع المسلمون على أن عتق النصراني أو اليهودي لعبده المسلم صحيح نافذ عليه. وأجمعوا أنه إذا أسلم عبدالكافر فبيع عليه أن ثمنه يدفع إليه. فدل على أنه على ملكه بيع وعلى ملكه ثبت العتق له، إلا أنه ملك غير مستقر لوجوب بيعه عليه؛ وذلك والله أعلم لقول الله عز وجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} يريد الاسترقاق والملك والعبودية ملكا مستقرا دائما.
واختلف العلماء في شراء العبد الكافر العبد المسلم على قولين: أحدهما: البيع مفسوخ. والثاني: البيع صحيح ويباع على المشتري.
الثالثة: واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في رجل نصراني دبر عبدا له نصرانيا فأسلم العبد؛ فقال مالك والشافعي في أحد قوليه: يحال بينه وبين العبد، ويخارج على سيده النصراني، ولا يباع عليه حتى يتبين أمره. فإن هلك النصراني وعليه دين قضي دينه من ثمن العبد المدبر، إلا أن يكون في ماله ما يحمل المدبر فيعتق المدبر. وقال الشافعي في القول الآخر: إنه يباع عليه ساعة أسلم؛ واختاره المزني؛ لأن المدبر وصية ولا يجوز ترك مسلم

في ملك مشرك يذله ويخارجه، وقد صار بالإسلام عدوا له. وقال الليث بن سعد: يباع النصراني من مسلم فيعتقه، ويكون ولاؤه للذي اشتراه وأعتقه، ويدفع إلى النصراني ثمنه. وقال سفيان والكوفيون: إذا أسلم مدبر النصراني قوم قيمته فيسعى في قيمته، فإن مات النصراني قبل أن يفرغ المدبر من سعايته عتق العبد وبطلت السعاية.
142- {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً}
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} قد مضى في "البقرة "معنى الخدع. والخداع من الله مجازاتهم على خداعهم أولياءه ورسله. قال الحسن: يعطى كل إنسان من مؤمن ومنافق نور يوم القيامة فيفرج المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا؛ فإذا جاؤوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق، فذلك قولهم: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} .
قوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} أي يصلون مراءاة وهم متكاسلون متثاقلون، لا يرجون ثوابا ولا يعتقدون تركها عقابا. وفي صحيح الحديث: "إن أثقل صلاة على المنافقين العتمة والصبح " . فإن العتمة تأتي وقد أتعبهم عمل النهار فيثقل عليهم القيام إليها، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به، ولولا السيف ما قاموا.
والرياء: إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله؛ وقد تقدم بيانه. ثم وصفهم بقلة الذكر عند المراءاة وعند الخوف. وقال صلى الله عليه وسلم ذاما لمن أخر الصلاة: "تلك صلاة المنافقين - ثلاثا - يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان - أو - على قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا " رواه مالك وغيره. فقيل: وصفهم بقلة الذكر لأنهم كانوا لا يذكرون الله بقراءة ولا تسبيح، وإنما كانوا يذكرونه بالتكبير. وقيل: وصفه بالقلة لأن الله تعالى لا يقبله. وقيل: لعدم الإخلاص فيه. وهنا مسألتان:

الأولى: بين الله تعالى في هذه الآية صلاة المنافقين، وبينها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فمن صلى كصلاتهم وذكر كذكرهم لحق بهم في عدم القبول، وخرج من مقتضى قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} . وسيأتي اللهم إلا أن يكون له عذر فيقتصر على الفرض حسب ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم. للأعرابي حين رآه أخل بالصلاة فقال له: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم أركع حتى تطمئن راكعا ثم أرفع حتى تعتدل قائما ثم أسجد حتى تطمئن ساجدا ثم أرفع حتى تطمئن جالسا ثم أفعل ذلك في صلاتك كلها " . رواه الأئمة. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" . وقال: "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه. الركوع والسجود" . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود. قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لاتجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود" . قال ابن العربي: وذهب ابن القاسم وأبو حنيفة إلى أن الطمأنينة ليست بفرض. وهي رواية عراقية لا ينبغي لأحد من المالكيين أن يشتغل بها. وقد مضى في "البقرة "هذا المعنى.
الثانية: قال ابن العربي: إن من صلاة ليراها الناس ويرونه فيها فيشهدون له بالإيمان، أو أراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة جواز الإمامة فليس ذلك بالرياء المنهي عنه، ولم يكن عليه حرج؛ وإنما الرياء المعصية أن يظهرها صيدا للناس وطريقا إلى الأكل، فهذه نية لا تجزئ وعليه الإعادة.

قلت: قوله "وأراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة "فيه نظر. وقد تقدم بيانه في "النساء" فتأمله هناك. ودلت هذه الآية على أن الرياء يدخل الفرض والنفل؛ لقول الله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا} فعم. وقال قوم: إنما يدخل النفل خاصة؛ لأن الفرض واجب على جميع الناس والنفل عرضة لذلك. وقيل بالعكس؛ لأنه لو لم يأت بالنوافل لم يؤاخذ بها.
143- {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}
المذبذب: المتردد بين أمرين؛ والذبذبة الاضطراب. يقال: ذبذبته فتذبذب؛ ومنه قول النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
آخر:
خيال لأم السلسبيل ودونها ... مسيرة شهر للبريد المذبذب
كذا روي بكسر الذال الثانية. قال ابن جني: أي المهتز القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل. فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين، لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى " وفي رواية "تكر" بدل "تعير". وقرأ الجمهور "مذبذبين" بضم الميم وفتح الذالين. وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية. وفي حرف أبي "متذبذبين". ويجوز الإدغام على هذه القراءة "مذبذبين" بتشديد الذال الأولى وكسر الثانية. وعن الحسن "مذبذبين" بفتح الميم والذالين.

144- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} مفعولان؛ أي لا تجعلوا خاصتكم وبطانتكم منهم؛ وقد تقدم هذا المعنى. {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} أي في تعذيبه إياكم بإقامته حجته عليكم إذ قد نهاكم.
145- {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا}
قوله تعالى: {فِي الدَّرْكِ} . قرأ الكوفيون "الدرك" بإسكان الراء، والأولى أفصح؛ لأنه يقال في الجمع: أدراك مثل جمل وأجمال؛ قال النحاس. وقال أبو علي: هما لغتان كالشمع والشمع ونحوه، والجمع أدراك. وقيل: جمع الدرك أدرك؛ كفلس وأفلس. والنار دركات سبعة؛ أي طبقات ومنازل؛ إلا أن استعمال العرب لكل ما تسافل أدراك. يقال: للبئر أدراك، ولما تعالى درج؛ فللجنة درج، وللنار أدراك. وقد تقدم هذا. فالمنافق في الدرك الأسفل وهي الهاوية؛ لغلظ كفره وكثرة غوائله وتمكنه من أذى المؤمنين. وأعلى الدركات جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية؛ وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، أعاذنا الله من عذابها بمنه وكرمه. وعن ابن مسعود في تأويل قوله تعالى: {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} قال: توابيت من حديد مقفلة في النار تقفل عليهم. وقال ابن عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون؛ تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} . وقال تعالى في أصحاب المائدة: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} . وقال في آل فرعون: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .

146- {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً}
استثناء ممن نافق. ومن شرط التائب. من النفاق أن يصلح في قوله وفعله، ويعتصم بالله أي يجعله ملجأ ومعاذا، ويخلص دينه لله؛ كما نصت عليه. هذه الآية؛ وإلا فليس بتائب؛ ولهذا أوقع أجر المؤمنين في التسويف لانضمام المنافقين إليهم. والله أعلم. روى البخاري عن الأسود قال: كنا في حلقة عبدالله فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم ثم قال: لقد نزل النفاق على قوم خير منكم، قال الأسود: سبحان الله ! إن الله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} . فتبسم عبدالله وجلس حذيفة في ناحية المسجد؛ فقام عبدالله فتفرق أصحابه فرماني بالحصى فأتيته. فقال حذيفة: عجبت من ضحكه وقد عرف ما قلت: لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيرا منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم. وقال الفراء: معنى {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي من المؤمنين. وقال القتبي: حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} ولم يقل: هم المؤمنون. وحذفت الياء من {يُؤْتِ} في الخط كما حذفت في اللفظ؛ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} و {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} و {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} حذفت الواوات لالتقاء الساكنين.
147- {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً}
استفهام بمعنى التقرير للمنافقين. التقدير: أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم؛ فنبه تعالى أنه لا يعذب الشاكر المؤمن، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه. وقال مكحول: أربع من كن فيه كن له، وثلاث من كن

فيه كن عليه؛ فالأربع اللاتي له: فالشكر والإيمان والدعاء والاستغفار، قال الله تعالى: { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وقال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} . وأما الثلاث اللاتي عليه: فالمكر والبغي والنكث؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} . وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} وقال تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} . {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} أي يشكر عباده على طاعته. ومعنى "يشكرهم" يثيبهم؛ فيتقبل العمل القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته. والشكر في اللغة الظهور، يقال: دابة شكور إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. والعرب تقول في المثل: "أشكر من بروقة" لأنها يقال: تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر. والله أعلم.

المجلد السادس
تابع سورة النساء148- { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً }
149- { إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً }
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ } وتم الكلام. ثم قال جل وعز: { إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ } استثناء ليس من الأول في موضع نصب؛ أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان. ويجوز أن يكون في موضع رفع ويكون التقدير: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم. وقراءة الجمهور { ظُلِمَ } بضم الظاء وكسر اللام؛ ويجوز إسكانها. ومن قرأ {ظَلَمَ} بفتح الظاء وفتح اللام وهو زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق وغيرهما على ما يأتي، فلا يجوز له أن يسكن اللام لخفة الفتحة. فعلى القراءة الأولى قالت طائفة: المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا من ظلم فلا يكره له الجهر به. ثم اختلفوا في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك؛ فقال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه، ولكن ليقل: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي. فهذا دعاء في المدافعة وهي أقل منازل السوء. وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له؛ فهذا إطلاق في نوع الدعاء على الظالم. وقال أيضا هو والسدي: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ويجهر له بالسوء من القول. وقال ابن المستنير: { إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ } معناه؛ إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفر أو نحوه فذلك مباح. والآية على هذا في الإكراه؛ وكذا قال قطرب:

{ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ } يريد المكره؛ لأنه مظلوم فذلك موضوع عنه وإن كفر؛ قال: ويجوز أن يكون المعنى { إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ } على البدل؛ كأنه قال: لا يحب الله إلا من ظلم، أي لا يحب الله الظالم؛ فكأنه يقول: يحب من ظلم أي يأجر من ظلم. والتقدير على هذا القول: لا يحب الله ذا الجهر بالسوء إلا من ظلم، على البدل. وقال مجاهد: نزلت في الضيافة فرخص له أن يقول فيه. قال ابن جريج عن مجاهد: نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الأرض فلم يضيفه فنزلت { إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ } ورواه ابن أبي نجيح أيضا عن مجاهد؛ قال: نزلت هذه الآية { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ } في الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه: إنه لم يحسن ضيافته. وقد استدل من أوجب الضيافة بهذه الآية؛ قالوا: لأن الظلم ممنوع منه فدل على وجوبها؛ وهو قول الليث بن سعد. والجمهور على أنها من مكارم الأخلاق وسيأتي بيانها في "هود" والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه - ولكن مع اقتصاد - وإن كان مؤمنا كما قال الحسن؛ فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا؛ وقد تقدم في "البقرة". وإن كان كافرا فأرسل لسانك وأدع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" وقال: " اللهم عليك بفلان وفلان" سماهم. وإن كان مجاهرا بالظلم دعي عليه جهرا، ولم يكن له عرض محترم ولا بدن محترم ولا مال محترم. وقد روي أبو داود عن عائشة قال: سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبخي عنه" أي لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه. وروي، أيضا عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته" . قال ابن المبارك: يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له. وفي صحيح مسلم "مطل الغني ظلم" . فالموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ومطل ظلم، وذلك يبيح من

عرضه أن يقال فيه: فلان يمطل الناس ويحبس حقوقهم ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك؛ حكي معناه عن سفيان، وهو معنى قول ابن المبارك رضي الله عنهما.
الثانية: وليس من هذا الباب ما وقع في صحيح مسلم من قول العباس في علي رضي الله عنهما بحضرة عمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن. الحديث. ولم يرد عليه واحد منهم؛ لأنها كانت حكومة، كل واحد منهما يعتقدها لنفسه، حتى أنفذ فيها عليهم عمر الواجب؛ قاله ابن العربي. وقال علماؤنا: هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقاربت، وأما إذا تفاوتت، فلا تمكن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء، وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب؛ وهذا صحيح وعليه تدل الآثار. ووجه آخر: وهو أن هذا القول أخرجه من العباس الغضب وصولة سلطة العمومة ! فإن العم صنو الأب، ولا شك أن الأب إذا أطلق هذه الألفاظ على ولده إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الإغلاظ والردع مبالغة في تأديبه، لا أنه موصوف بتلك الأمور؛ ثم أنضاف إلى هذا أنهم في محاجة ولاية دينية؛ فكان العباس يعتقد أن مخالفته فيها لا تجوز، وأن مخالفته فيها تؤدي إلى أن يتصف المخالف بتلك الأمور؛ فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه؛ ولما علم الحاضرون ذلك لم ينكروا عليه؛ أشار إلى هذا المازري والقاضي عياض وغيرهما.
الثالثة: فأما من قرأ "ظلم" بالفتح في الظاء واللام - وهي، قراءة زيد بن أسلم، وكان من العلماء بالقرآن بالمدينة بعد محمد بن كعب القرظي، وقراءة ابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب - فالمعنى: إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول؛ في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له والرد عليه؛ المعنى لا يحب الله أن يقال لمن تاب من النفاق: ألست نافقت ؟ إلا من ظلم، أي أقام على النفاق؛ ودل على هذا قوله تعالى: { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا } . قال ابن زيد: وذلك أنه سبحانه لما أخبر عن المنافقين

أنهم في الدرك الأسفل من النار كان ذلك جهرا بسوء من القول، ثم قال لهم بعد ذلك: { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ } على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان. ثم قال للمؤمنين: { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ } في إقامته على النفاق؛ فإنه يقال له: ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل من النار ؟ ونحو هذا من القول. وقال قوم: معنى الكلام: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، ثم استثنى استثناء منقطعا؛ أي لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك.
قلت: وهذا شأن كثير من الظلمة ودأبهم؛ فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم وينالون من عرض مظلومهم ما حرم عليهم. وقال أبو إسحاق الزجاج: يجوز أن يكون المعنى "إلا من ظلم" فقال سوءا؛ فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه؛ ويكون الاستثناء ليس من الأول.
قلت: ويدل على هذا أحاديث منها قوله عليه السلام: "خذوا على أيدي سفهائكم" . وقوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قالوا: هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال: "تكفه عن الظلم" .وقال الفراء: { إِلَّا مَنْ ظُلِمَ } يعني ولا من ظلم.
قوله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً } تحذير للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحد في الانتصار. ثم أتبع هذا بقوله: { إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ } فندب إلى العفو ورغب فيه. والعفو من صفة الله تعالى مع القدرة على الانتقام؛ وقد تقدم في "آل عمران" فضل العافين عن الناس. ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها. وقيل: إن عفوت فإن الله يعفو عنك. روي ابن المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا؛ يصدق هذا الحديث قوله تعالى: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } .

150- { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً }
151- { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً }
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ } لما ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب، اليهود والنصارى؛ إذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبين أن الكفر به كفر بالكل؛ لأنه ما من نبي إلا وقد أمر قومه بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ومعنى { وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي بين الإيمان بالله ورسله؛ فنص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر؛ وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أمروا بالتزامها؛ فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية. وكذلك التفريق بين رسله في الإيمان بهم كفر.
المسألة الثانية: قوله تعالى: { وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } وهم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد؛ وقد تقدم هذا من قولهم في " البقرة ". ويقولون لعوامهم: لم نجد ذكر محمد في كتبنا. { وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } أي يتخذوا بين الإيمان والجحد طريقا، أي دينا مبتدعا بين الإسلام واليهودية. وقال: { ذَلِكَ } ولم يقل ذينك؛ لأن ذلك تقع للاثنين ولو كان ذينك لجاز.
الثالثة: قوله تعالى: { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً } تأكيد يزيل التوهم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله؛ وإذا

كفروا برسوله فقد كفروا به عز وجل، وكفروا بكل رسول مبشر بذلك الرسول؛ فلذلك صاروا الكافرين حقا. { لِلْكَافِرِينَ } يقوم مقام المفعول الثاني لأعتدنا؛ أي أعتدنا لجميع أصنافهم { عَذَاباً مُهِيناً } أي مذلا.
152- { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً }
يعني به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته.
153- { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً }
سألت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة؛ تعنتا له صلى الله عليه وسلم؛ فأعلم الله عز وجل أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السلام بأكبر من هذا { فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } أي عيانا؛ وقد تقدم في "البقرة". و { جَهْرَةً } نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة؛ فعوقبوا بالصاعقة لعظم ما جاؤوا به من السؤال والظلم من بعد ما رأوا من المعجزات.
قوله تعالى: { ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ } في الكلام حذف تقديره: فأحييناهم فلم يبرحوا فاتخذوا العجل؛ وقد تقدم في "البقرة" ويأتي ذكره في "طه" إن شاء الله. { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي البراهين والدلالات والمعجزات الظاهرات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها

بأنه لا معبود إلا الله عز وجل. { فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ } أي عما كان منهم من التعنت. { وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً } أي حجة بينة وهي الآيات التي جاء بها؛ وسميت سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجة، وهي قاهرة للقلوب، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها.
154- { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً }
قوله تعالى: { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } أي بسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ منهم، وهو العمل بما في التوراة؛ وقد تقدم رفع الجبل ودخولهم الباب في "البقرة". و { سُجَّداً } نصب على الحال. وقرأ ورش وحده { وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ } بفتح العين من عدا يعدو عدوا وعدوانا وعدوا وعداء، أي باقتناص الحيتان كما تقدم في "البقرة". والأصل فيه وتعتدوا أدغمت التاء في الدال؛ قال النحاس: ولا يجوز إسكان العين ولا يوصل إلى الجمع بين ساكنين في هذا، والذي يقرأ به إنما يروم الخطأ. { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً } يعني العهد الذي أخذ عليهم في التوراة. وقيل: عهد مؤكد باليمين فسمي غليظا لذلك.
155- { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً }
156- { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً }
قوله تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } { فَبِمَا نَقْضِهِمْ } خفض بالباء و"ما" زائدة مؤكدة كقوله: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ } وقد تقدم؛ والباء متعلقة بمحذوف، التقدير: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم؛ عن قتادة وغيره. وحذف هذا لعلم السامع. وقال أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي: هو متعلق بما قبله؛ والمعنى فأخذتهم الصاعقة بظلمهم

إلى قوله: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } قال: ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما بعده من نقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وسائر ما بين من الأشياء التي ظلموا فيها أنفسهم. وأنكر ذلك الطبري وغيره؛ لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم مريم بالبهتان. قال المهدوي وغيره: وهذا لا يلزم؛ لأنه يجوز أن يخبر عنهم والمراد آباؤهم؛ على ما تقدم في "البقرة". قال الزجاج: المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم؛ لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا } . ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم. وقيل: المعنى فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلا؛ والفاء مقحمة. و { وَكُفْرِهِمْ } عطف، وكذا و { وَقَتْلِهِمُ } . والمراد { بِآيَاتِ اللَّهِ } كتبهم التي حرفوها. و { غُلْفٌ } جمع غلاف؛ أي قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا. وقيل: هو جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف؛ أي قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول؛ وهو كقوله: { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ } وقد تقدم هذا في "البقرة" وغرضهم بهذا درء حجة الرسل. والطبع الختم؛ وقد تقدم في "البقرة". { بِكُفْرِهِمْ } أي جزاء لهم على كفرهم؛ كما قال: { بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ } أي إلا إيمانا قليلا أي ببعض الأنبياء، وذلك غير نافع لهم. ثم كرر { وَبِكُفْرِهِمْ } ليخبر أنهم كفروا كفرا بعد كفر. وقيل: المعنى { وَبِكُفْرِهِمْ } بالمسيح؛ فحذف لدلالة ما بعده عليه، والعامل في { بِكُفْرِهِمْ } هو العامل في {بِنَقْضِهِمْ} لأنه معطوف عليه، ولا يجوز أن يكون العامل فيه { طَبَعَ } . والبهتان العظيم رميها بيوسف النجار وكان من الصالحين منهم. والبهتان الكذب المفرط الذي يتعجب منه وقد تقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

157- { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً }
158- { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }
قوله تعالى: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } كسرت "إن" لأنها مبتدأة بعد القول وفتحها لغة. وقد تقدم في "آل عمران" اشتقاق لفظ المسيح. { رَسُولَ اللَّهِ } بدل، وإن شئت على معنى أعني. {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} رد لقولهم. { وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } أي ألقي شبهه على غيره كما تقدم في "آل عمران". وقيل: لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه؛ كما قال تعالى: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ } والإخبار قيل: إنه عن جميعهم. وقيل: إنه لم يختلف فيه إلا عوامهم؛ ومعنى اختلافهم قول بعضهم إنه إله، وبعضهم هو ابن الله. قاله الحسن: وقيل اختلافهم أن عوامهم قالوا قتلنا عيسى. وقال من عاين رفعه إلى السماء: ما قتلناه. وقيل: اختلافهم أن النسطورية من النصارى قالوا: صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته. وقالت الملكانية: وقع الصلب والقتل على المسيح بكماله ناسوته ولا هوته. وقيل: اختلافهم هو أنهم قالوا: إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟ ! وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ ! وقيل: اختلافهم هو أن اليهود قالوا: نحن قتلناه؛ لأن يهوذا رأس اليهود هو الذي سعى في قتله. وقالت طائفة من النصارى: بل قتلناه نحن. وقالت طائفة منهم: بل رفعه الله إلى السماء ونحن ننظر إليه. { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } من زائدة؛ وتم الكلام. ثم قال عز وجل: { إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ } استثناء ليس من

الأول في موضع نصب، ويجوز أن يكون في موضع رفع على البدل؛ أي ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وأنشد سيبويه:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} قال ابن عباس والسدي: المعنى ما قتلوا ظنهم يقينا؛ كقولك: قتلته علما إذا علمته علما تاما؛ فالهاء عائدة على الظن. قال أبو عبيد: ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقينا لقال: وما قتلوه فقط. وقيل: المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم أنه عيسى يقينا؛ فالوقف على هذا على { يَقِيناً } . وقيل: المعنى وما قتلوا عيسى، والوقف على {وَمَا قَتَلُوهُ } و { يَقِيناً } نعت لمصدر محذوف، وفيه تقديران: أحدهما: أي قالوا هذا قولا يقينا، أو قال الله هذا قولا يقينا. والقول الآخر: أن يكون المعنى وما علموه علما يقينا. النحاس: إن قدرت المعنى بل رفعه الله إليه يقينا فهو خطأ؛ لأنه لا يعمل ما بعد "بل" فيما قبلها لضعفها. وأجاز ابن الأنباري الوقف على { وَمَا قَتَلُوهُ } على أن ينصب { يَقِيناً } بفعل مضمر هو جواب القسم، تقديره: ولقد صدقتم يقينا أي صدقا يقينا. { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } ابتداء كلام مستأنف؛ أي إلى السماء، والله تعالى متعال عن المكان؛ وقد تقدم كيفية رفعه في "آل عمران". { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً } أي قويا بالنقمة من اليهود فسلط عليهم بطرس بن استيسانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة. { حَكِيماً } حكم عليهم باللعنة والغضب.
159- { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً }
قوله تعالى: { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة: المعنى ليؤمنن بالمسيح "قبل موته" أي الكتابي؛ فالهاء الأولى عائدة على عيسى، والثانية على الكتابي؛ وذلك أنه ليس أحد من أهل الكتاب

اليهود والنصارى إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام إذا عاين الملك، ولكنه إيمان لا ينفع؛ لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت؛ فاليهودي يقر في ذلك الوقت بأنه رسول الله، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله. وروي أن الحجاج سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال: إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب عنقه، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان؛ فقال له شهر بن حوشب: إنه حين عاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبدالله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه؛ فقال له الحجاج: من أين أخذت هذا ؟ قال: أخذته من محمد بن الحنفية؛ فقال له الحجاج: أخذت من عين صافية. وروي عن مجاهد أنه قال: ما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موته؛ فقيل له: إن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى ؟ فقال: نعم ! وقيل: إن الهاءين جميعا لعيسى عليه السلام؛ والمعنى ليؤمنن به من كان حيا حين نزوله يوم القيامة؛ قال قتادة وابن زيد وغيرهما واختاره الطبري. وروى يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله تعالى: { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال: قبل موت عيسى؛ والله إنه لحي عند الله الآن؛ ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون؛ ونحوه عن الضحاك وسعيد. بن جبير. وقيل: { لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } أي بمحمد عليه السلام وإن لم يجر له ذكر؛ لأن هذه الأقاصيص أنزلت عليه والمقصود الإيمان به، والإيمان بعيسى يتضمن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أيضا؛ إذ لا يجوز أن يفرق بينهم. وقيل: { لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } أي بالله تعالى قبل أن يموت ولا ينفعه الإيمان عند المعاينة. والتأويلان الأولان أظهر. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليقتلن الدجال وليقتلن الخنزير وليكسرن الصليب وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين" ، ثم قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال أبو هريرة: قبل موت عيسى؛ يعيدها ثلاث مرات. وتقدير الآية عند سيبويه: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به. وتقدير الكوفيين: وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به، وفيه قبح، لأن فيه حذف الموصول، والصلة بعض الموصول فكأنه حذف بعض الاسم.

قوله تعالى: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } أي بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه.
160- { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً }
161- { وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } قال الزجاج: هذا بدل من { فَبِمَا نَقْضِهِمْ } . والطيبات ما نصه في قوله تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } . وقدم الظلم على التحريم إذ هو الغرض الذي قصد إلى الإخبار عنه بأنه سبب التحريم. { وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } أي وبصدهم أنفسهم وغيرهم عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. { وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } كله تفسير للظلم الذي تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وما بعده؛ وقد مضى في "آل عمران" أن اختلاف العلماء في سبب التحريم على ثلاثة أقوال هذا أحدها.
الثانية: قال ابن العربي: لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون، وقد بين الله في هذه الآية أنهم قد نهوا عن الربا وأكل الأموال بالباطل؛ فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت، وإن كان خبرا عما أنزل الله على موسى في التوراة، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز؛ وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد. والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرم الله سبحانه عليهم؛ فقد قام الليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة؛ قال الله تعالى: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ }

وهذا نص؛ وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله. والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأمة على جواز التجارة مع أهل الحرب؛ وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجرا، وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم. فإن قيل: كان ذلك قبل النبوة؛ قلنا: إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام - ثبت ذلك تواترا - ولا اعتذر عنه إذ بعث، ولا منع منه إذ نبئ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته، ولا أحد من المسلمين بعد وفاته؛ فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى وذلك واجب، وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره؛ وقد يجب وقد يكون ندبا؛ فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فمباح.
162- { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً }
قوله تعالى: { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ } استثنى مؤمني أهل الكتاب؛ وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا؛ فنزل { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه، والرسوخ الثبوت؛ وقد تقدم في "آل عمران" والمراد عبدالله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما. { وَالْمُؤْمِنُونَ } أي من المهاجرين والأنصار، أصحاب محمد عليه السلام. { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } وقرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة: "والمقيمون" على العطف، وكذا هو في حرف عبدالله، وأما حرف أبي فهو فيه { وَالْمُقِيمِينَ } كما في المصاحف. واختلف في نصبه على أقوال ستة؛ أصحها قول سيبويه بأنه نصب على المدح؛ أي وأعني المقيمين؛ قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم؛ ومن ذلك { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } وأنشد:

وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم ... إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
ويروى "أمر مرشدهم".
الظاعنين ولما يظعنوا أحدا ... والقائلون لمن دار نخليها
وأنشد:
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر
قال النحاس: وهذا أصح ما قيل في { َالْمُقِيمِينَ } . وقال الكسائي: { وَالْمُقِيمِينَ } معطوف على {ما}. قال النحاس قال الأخفش: وهذا بعيد؛ لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين. وحكى محمد بن جرير أنه قيل له: إن المقيمين ههنا الملائكة عليهم السلام؛ لدوامهم على الصلاة والتسبيح والاستغفار، واختار هذا القول، وحكى أن النصب على المدح بعيد؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر، وخبر الراسخين في { أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } فلا ينتصب { َالْمُقِيمِينَ } على المدح. قال النحاس: ومذهب سيبويه في قوله: { وَالْمُؤْتُونَ } رفع بالابتداء. وقال غيره: هو مرفوع على إضمار مبتدأ؛ أي هم المؤتون الزكاة. وقيل: { وَالْمُقِيمِينَ } عطف على الكاف التي في { قَبْلِكَ } أي من قبلك ومن قبل المقيمين. وقيل: { َالْمُقِيمِينَ } عطف على الكاف التي في { إِلَيْكَ } . وقيل: هو عطف على الهاء والميم، أي منهم ومن المقيمين؛ وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز؛ لأن فيها عطف مظهر على مضمر مخفوض. والجواب السادس: ما روي أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن هذه الآية وعن قوله: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } ، وقوله: { وَالصَّابِئُونَ } في "المائدة" ، فقالت للسائل: يا ابن أخي الكتاب أخطؤوا. وقال

أبان بن عثمان: كان الكاتب يملى عليه فيكتب فكتب { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ } ثم قال له: ما أكتب ؟ فقيل له: اكتب { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } فمن ثم وقع هذا. قال القشيري: وهذا المسلك باطل؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة، فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل. وأصح هذه الأقوال قول سيبويه وهو قول الخليل، وقول الكسائي هو اختيار القفال والطبري، والله أعلم.
163- { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً }
قوله تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ } هذا متصل بقوله: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ } ، فأعلم تعالى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء. وقال ابن عباس فيما ذكره ابن إسحاق: نزلت في قوم من اليهود - منهم سكين وعدي بن زيد - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله. والوحي إعلام في خفاء؛ يقال: وحى إليه بالكلام يحي وحيا، وأوحى يوحي إيحاء. { إِلَى نُوحٍ } قدمه لأنه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع. وقيل غير هذا؛ ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال: أول نبي بعثه الله تبارك وتعالى في الأرض إدريس واسمه أخنوخ؛ ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وقد كان سام بن نوح نبيا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا؛ وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة، ثم إسحاق بن إبراهيم

فمات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن يوبب، ثم هود بن عبدالله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب ثم الخضر وهو خضرون، ثم داود بن إيشا، ثم سليمان بن داود، ثم يونس بن متى، ثم إلياس، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا من سبط يهوذا بن يعقوب؛ قال: وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة وليسا من سبط؛ ثم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الزبير: كل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح. ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة: هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين؛ وإنما سموا عربا لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم.
قوله تعالى: { وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } هذا يتناول جميع الأنبياء ثم قال: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } فخص أقواما بالذكر تشريفا لهم؛ كقوله تعالى: { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } ثم قال: { وَعِيسَى وَأَيُّوبَ } قدم عيسى على قوم كانوا قبله؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأيضا فيه تخصيص عيسى ردا على اليهود. وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه، حيث قدمه في الذكر على أنبيائه؛ ومثله قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ } ؛ ونوح مشتق من النوح؛ وقد تقدم ذكره موعبا في {آل عمران} وانصرف وهو اسم أعجمي؛ لأنه على ثلاثة أحرف فخف؛ فأما إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فأعجمية وهي معرفة ولذلك لم تنصرف، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة؛ فأما يونس ويوسف فروي عن الحسن أنه قرأ {ويونِس} بكسر النون وكذا {يُوسِف} يجعلهما من آنس وآسف، ويجب على هذا أن يصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يآنس ويآسف. ومن لم يهمز قال: يوانس

ويواسف. وحكى أبو زيد: يونس ويوسف بفتح النون والسين؛ قال المهدوي: وكأن {يونِس} في الأصل فعل مبني للفاعل، و { يونَس } فعل مبني للمفعول، فسمي بهما.
قوله تعالى: { وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً } الزبور كتاب داود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ. والزبر الكتابة، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب، كالرسول والركوب والحلوب. وقرأ حمزة { زَُبُوراً } بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس، وزبر بمعنى المزبور؛ كما يقال: هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه؛ والأصل في الكلمة التوثيق؛ يقال: بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة، والكتاب يسمى زبورا لقوة الوثيقة به. وكان داود عليه السلام حسن الصوت؛ فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن والطير والوحش لحسن صوته، وكان متواضعا يأكل من عمل يده؛ روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أن كان داود صلى الله عليه وسلم ليخطب الناس وفي يده القفة من الخوص، فإذا فرغ ناولها بعض من إلى جنبه يبيعها، وكان يصنع الدروع؛ وسيأتي. وفي الحديث: "الزرقة في العين يمن" وكان داود أزرق.
164- { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً }
قوله تعالى: { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ } يعني بمكة. { وَرُسُلاً } منصوب بإضمار فعل، أي وأرسلنا رسلا؛ لأن معنى { وأَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ } وأرسلنا نوحا. وقيل: هو منصوب بفعل دل عليه { قَصَصْنَاهُمْ } أي وقصصنا رسلا؛ ومثله ما أنشد سيبويه:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أي وأخشى الذئب. وفي حرف أبي { وَرُسُلٌ} بالرفع على تقدير ومنهم رسل. ثم قيل: إن الله تعالى لما قص في كتابه بعض أسماء أنبيائه، ولم يذكر أسماء بعض، ولمن ذكر فضل على من لم يذكر. قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى؛ فنزلت { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } { تَكْلِيماً } مصدر معناه التأكيد؛ يدل على بطلان من يقول: خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما. قال النحاس: وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وأنه لا يجوز في قول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني
أن يقول: قال قولا؛ فكذا لما قال: { تَكْلِيماً } وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل. وقال وهب بن منبه: إن موسى عليه السلام قال: "يا رب بم اتخذتني كليما" ؟ طلب العمل الذي أسعده الله به ليكثر منه؛ فقال الله تعالى له: أتذكر إذ ند من غنمك جدي فأتبعته أكثر النهار وأتعبك، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له: أتعبتني وأتعبت نفسك، ولم تغضب عليه؛ من أجل ذلك اتخذتك كليما.
165- { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }
قوله تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } هو نصب على البدل من { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ } ويجوز أن يكون على إضمار فعل؛ ويجوز نصبه على الحال؛ أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده رسلا. { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا، وما أنزلت علينا كتابا؛ وفي التنزيل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } وفي هذا كله دليل واضح أنه لا يجب شيء من ناحية العقل. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف. وقال مقاتل: كان الأنبياء

ألف ألف وأربعمائة وعشرين ألفاً. وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل" ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير له؛ ثم أسند عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون ؟ قال: "كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر" .
قلت: هذا أصح ما روي في ذلك؛ خرجه الآجري وأبو حاتم البستي في المسند الصحيح له.
166- { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً }
قوله تعالى: { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ } رفع بالابتداء، وإن شئت شددت النون ونصبت. وفي الكلام حذف دل عليه الكلام؛ كأن الكفار قالوا: ما نشهد لك يا محمد فيما تقول فمن يشهد لك ؟ فنزل { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ } . ومعنى {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي وهو يعلم أنك أهل لإنزاله عليك؛ ودلت الآية على أنه تعالى عالم بعلم. {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} ذكر شهادة الملائكة ليقابل بها نفي شهادتهم. { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } أي كفى الله شاهدا، والباء زائدة.
167- { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً }
قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني اليهود أي ظلموا. { وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي عن اتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم: ما نجد صفته في كتابنا، وإنما النبوة في ولد هارون وداود، وإن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ. { قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً } لأنهم كفروا ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام.

168- { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً }
169- { إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }
قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا } يعني اليهود؛ أي ظلموا محمدا بكتمان نعته، وأنفسهم إذ كفروا، والناس إذ كتموهم. { لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } هذا فيمن يموت على كفره ولم يتب.
170- { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } هذا خطاب للكل. { قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ } يريد محمدا عليه الصلاة والسلام. { بِالْحَقِّ } بالقرآن. وقيل: بالدين الحق؛ وقيل: بشهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: الباء للتعدية؛ أي جاءكم ومعه الحق؛ فهو في موضع الحال.
قوله تعالى: { فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ } في الكلام إضمار؛ أي وأتوا خيرا لكم؛ هذا مذهب سيبويه، وعلى قول الفراء نعت لمصدر محذوف؛ أي إيمانا خيرا لكم، وعلى قول أبي عبيدة يكن خيرا لكم.
171- {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}

قوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } نهى عن الغلو. والغلو التجاوز في الحد؛ ومنه غلا السعر يغلو غلاء؛ وغلا الرجل في الأمر غلوا، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها؛ ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا؛ فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر؛ ولذلك قال مطرف بن عبدالله: الحسنة بين سيئتين؛ وقال الشاعر:
وأوف ولا تستوف حقك كله ... وصافح فلم يستوف قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر وأقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر:
عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ... ولا تركب ذلولا ولا صعبا
وفي صحيح البخاري عنه عليه السلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبدالله ورسوله" .
قوله تعالى: { وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } أي لا تقولوا إن له شريكا أو ابنا. ثم بين تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال: { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ }
وفيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمَسِيحُ } المسيح رفع بالابتداء؛ و { عِيسَى } بدل منه وكذا { ابْنَ مَرْيَمَ } ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى: إنما المسيح ابن مريم. ودل بقوله: { عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا. ويكون { رَسُولُ اللَّهِ } خبرا بعد خبر.
الثانية: لم يذكر الله عز وجل امرأة وسماها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران؛ فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة ذكرها بعض الأشياخ؛ فإن الملوك والأشراف

لا يذكرون حرائرهم في الملأ، ولا يبتذلون أسماءهن؛ بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال ونحو ذلك؛ فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها؛ فلما قالت النصارى في مريم ما قالت، وفي ابنها صرح الله باسمها، ولم يكن عنها بالأموة والعبودية التي هي صفة لها؛ وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها.
الثالثة: اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب، فإذا تكرر اسمه منسوبا للام استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله. والله أعلم.
قوله تعالى: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } أي هو مكون بكلمة "كن" فكان بشرا من غير أب؛ والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادرا عنه. وقيل: {كَلِمَتُهُ} بشارة الله تعالى مريم عليها السلام، ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام؛ وذلك قوله: { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } وقيل: {الكلمة} ههنا بمعنى الآية؛ قال الله تعالى: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } و { مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } . وكان لعيسى أربعة أسماء؛ المسيح وعيسى وكلمة وروح، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن. ومعنى { أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } أمر بها مريم.
قوله تعالى: { وَرُوحٌ مِنْهُ } هذا الذي أوقع النصارى في الإضلال؛ فقالوا: عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا؛ وعنه أجوبة ثمانية: الأول: قال أبي بن كعب: خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق؛ ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام؛ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم، فكان منه عيسى عليه السلام؛ فلهذا قال: { وَرُوحٌ مِنْهُ } . وقيل: هذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه؛ وهذا كقوله: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } ، وقيل: قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا، وتضاف إلى الله تعالى فيقال: هذا روح من الله أي من خلقه؛ كما يقال في النعمة إنها من الله. وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فاستحق هذا الاسم. وقيل:

يسمى روحاً بسبب نفخة جبريل عليه السلام، ويسمى النفخ روحا؛ لأنه ريح يخرج من الروح. قال الشاعر - هو ذو الرمة:
فقلت له أرفعها إليك وأحيها ... بروحك وأقتته لها قيتة قدرا
وقد ورد أن جبريل نفخ في درع مريم فحملت منه بإذن الله؛ وعلى هذا يكون { وَرُوحٌ مِنْهُ } معطوفا على المضمر الذي هو اسم الله في { أَلْقَاهَا } التقدير: ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم. وقيل: { وَرُوحٌ مِنْهُ } أي من خلقه؛ كما قال: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ } أي من خلقه. وقيل: { وَرُوحٌ مِنْهُ } أي رحمة منه؛ فكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه؛ ومنه قوله تعالى: { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي برحمة، وقرئ: { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } . وقيل: { وَرُوحٌ مِنْهُ } وبرهان منه؛ وكان عيسى برهانا وحجة على قومه صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي آمنوا بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسله، وآمنوا برسله ومنهم عيسى فلا تجعلوه إلها. { وَلا تَقُولُوا } آلهتنا { ثَلاثَةٌ } عن الزجاج. قال ابن عباس: يريد بالتثليث الله تعالى وصاحبته وابنه. وقال الفراء وأبو عبيد: أي لا تقولوا هم ثلاثة؛ كقوله تعالى: { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ } قال أبو علي: التقدير ولا تقولوا هو ثالث ثلاثة؛ فحذف المبتدأ والمضاف. والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث ويقولون: إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم؛ فيجعلون كل أقنوم إلها ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس؛ فيعنون بالأب الوجود، وبالروح الحياة، وبالابن المسيح، في كلام لهم فيه تخبط بيانه في أصول الدين. ومحصول كلامهم يؤول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله سبحانه وتعالى على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته؛ وقالوا: قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفا بالإلهية؛ فيقال لهم: لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به

كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته، وليس كذلك؛ فإن اعترفت النصارى بذلك فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به؛ وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضا؛ لأنهم معارضون بموسى عليه السلام، وما كان يجري على يديه من الأمور العظام، مثل قلب العصا ثعبانا، وفلق البحر واليد البيضاء والمن والسلوى، وغير ذلك؛ وكذلك ما جرى على يد الأنبياء؛ فإن أنكروا ذلك فننكر ما يدعونه هم أيضا من ظهوره على يد عيسى عليه السلام، فلا يمكنهم إثبات شيء من ذلك لعيسى؛ فإن طريق إثباته عندنا نصوص القرآن وهم ينكرون القرآن، ويكذبون من أتى به، فلا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار التواتر. وقد قيل: إن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى؛ يصلون إلى القبلة؛ ويصومون شهر رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار؛ وإني أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار؛ وكان له فرس يقال لها العقاب، فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى: أنا بولس عدوكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر، فأدخلوه في الكنيسة بيتا فأقام فيه سنة لا يخرج ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل؛ فخرج وقال: نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وأعلمه أن عيسى ابن مريم إله، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكنه ابن الله. وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك؛ ثم دعا رجلا يقال له الملك فقال له؛ إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى؛ فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا وقال له: أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي وأتقرب

بها، فأدع الناس إلى نحلتك، ثم دخل المذبح فذبح نفسه؛ فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته، فتبع كل واحد منهم طائفة، فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث؛ فهذا كان سبب شركهم فيما يقال؛ والله أعلم. وقد رويت هذه القصة في معنى قوله تعالى: { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وسيأتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: { انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ } { خَيْراً } منصوب عند سيبويه بإضمار فعل؛ كأنه قال: ائتوا خيرا لكم، لأنه إذا نهاهم عن الشرك فقد أمرهم بإتيان ما هو خير لهم؛ قال سيبويه: ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره { انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ } لأنك إذا قلت: انته فأنت تخرجه من أمر وتدخله في أخر؛ وأنشد:
فواعديه سرحتي مالك ... أو الربا بينهما أسهلا
ومذهب أبي عبيدة: انتهوا يكن خيرا لكم؛ قال محمد بن يزيد: هذا خطأ؛ لأنه يضمر الشرط وجوابه، وهذا لا يوجد في كلام العرب. ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف؛ قال علي بن سليمان: هذا خطأ فاحش؛ لأنه يكون المعنى: انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم.
قوله تعالى: { إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } هذا ابتداء وخبر؛ و { وَاحِدٌ } نعت له. ويجوز أن يكون { إِلَهٌ } بدلا من اسم الله عز وجل و { وَاحِدٌ } خبره؛ التقدير إنما المعبود واحد. { سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي تنزيها عن أن يكون له ولد؛ فلما سقط "عن" كان "أن" في محل النصب بنزع الخافض؛ أي كيف يكون له ولد ؟ وولد الرجل مشبه له، ولا شبيه لله عز وجل. { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } فلا شريك له، وعيسى ومريم من جملة ما في السموات وما في الأرض، وما فيهما مخلوق، فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق ! وإن جاز ولد فليجز أولاد حتى يكون كل من ظهرت عليه معجزة ولدا له. { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } أي لأوليائه؛ وقد تقدم.

172- { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً }
173- { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً }
قوله تعالى: { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ } أي لن يأنف ولن يحتشم. { أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ } أي من أن يكون؛ فهو في موضع نصب. وقرأ الحسن: { إنْ يَكُونَ } بكسر الهمزة على أنها نفي هو بمعنى "ما" والمعنى ما يكون له ولد؛ وينبغي رفع يكون ولم يذكره الرواة. { وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } أي من رحمة الله ورضاه؛ فدل بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وكذا { وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في {البقرة}. { وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ } أي يأنف { عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ } فلا يفعلها. { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ } أي إلى المحشر. { جَمِيعاً } فيجازي كلا بما يستحق، كما بينه في الآية بعد هذا { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } إلى قوله: { نَصِيراً } . وأصل { يَسْتَنْكِفَ } نكف، فالياء والسين والتاء زوائد؛ يقال: نكفت من الشيء واستنكفت منه وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه؛ ومنه الحديث سئل عن "سبحان الله" فقال: "إنكاف الله من كل سوء" يعني تنزيهه وتقديسه عن الأنداد والأولاد. وقال الزجاج: استنكف أي أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك، ومنه الحديث "ما ينكف العرق عن جبينه" أي ما ينقطع؛ ومنه الحديث "جاء بجيش لا ينكف آخره" أي لا ينقطع آخره. وقيل: هو من النكف وهو العيب؛

يقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي عيب: أي لن يمتنع المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها.
174- { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً }
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم؛ عن الثوري؛ وسماه برهانا لأن معه البرهان وهو المعجزة. وقال مجاهد: البرهان ههنا الحجة؛ والمعنى متقارب؛ فإن المعجزات حجته صلى الله عليه وسلم. والنور المنزل هو القرآن؛ عن الحسن؛ وسماه نورا لأن به تتبين الأحكام ويهتدى به من الضلالة، فهو نور مبين، أي واضح بين.
175- { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً }
قوله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ } أي بالقرآن عن معاصيه، وإذا اعتصموا بكتابه فقد اعتصموا به وبنبيه. وقيل: { وَاعْتَصَمُوا بِهِ } أي بالله. والعصمة الامتناع، وقد تقدم .{ وَيَهْدِيهِمْ } أي وهو يهديهم؛ فأضمر هو ليدل على أن الكلام مقطوع مما قبله. { إِلَيْهِ } أي إلى ثوابه. وقيل: إلى الحق ليعرفوه. { صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } أي دينا مستقيما. و { صِرَاطاً } منصوب بإضمار فعل دل عليه { وَيَهْدِيهِمْ } التقدير؛ ويعرفهم صراطا مستقيما. وقيل: هو مفعول ثان على تقدير؛ ويهديهم إلى ثوابه صراطا مستقيما. وقيل: هو حال. والهاء في { إِلَيْهِ } قيل: هي للقرآن، وقيل: للفضل، وقيل للفضل والرحمة؛ لأنهما بمعنى الثواب. وقيل: هي لله عز وجل على حذف المضاف كما تقدم من أن المعنى ويهديهم إلى ثوابه. أبو علي: الهاء راجعة إلى ما تقدم من اسم الله عز وجل، والمعنى ويهديهم إلى صراطه؛ فإذا جعلنا { صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } نصبا على الحال كانت الحال من

هذا المحذوف. وفي قوله: { وَفَضْلٍ } دليل على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه؛ إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا. والله أعلم.
176- {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
فيه ست مسائل:
الأولى: قال البراء بن عازب: هذه آخر آية نزلت من القرآن؛ كذا في كتاب مسلم. وقيل: نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم متجهز لحجة الوداع، ونزلت بسبب جابر؛ قال جابر بن عبدالله: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين، فأغمي علي؛ فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب علي من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أقضي في مالي ؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت آية الميراث { َيسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } رواه مسلم؛ وقال: آخر آية نزلت: { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } وقد تقدم. ومضى في أول السورة الكلام في { الْكَلالَةِ } مستوفى، وأن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأب والأم أو للأب وكان لجابر تسع أخوات.
الثانية: قوله تعالى: { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } أي ليس له ولد ولا والد؛ فاكتفى بذكر أحدهما؛ قال الجرجاني: لفظ الولد ينطلق على الوالد والمولود، فالوالد يسمى، والدا لأنه ولد، والمولود يسمى ولدا لأنه ولد؛ كالذرية فإنها من ذرا ثم تطلق على المولود وعلى الوالد؛ قال الله تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ }

الثالثة: والجمهور من العلماء من الصحابة والتابعين يجعلون الأخوات عصبة البنات وإن لم يكن معهن أخ، غير ابن عباس؛ فإنه كان لا يجعل الأخوات عصبة البنات؛ وإليه ذهب داود وطائفة؛ وحجتهم ظاهر قول الله تعالى: { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } ولم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد؛ قالوا: ومعلوم أن الابنة من الولد، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها. وكان ابن الزبير يقول بقول ابن عباس في هذه المسألة حتى أخبره الأسود بن يزيد: أن معاذا قضى في بنت وأخت فجعل المال بينهما نصفين.
الرابعة: هذه الآية تسمى بآية الصيف؛ لأنها نزلت في زمن الصيف؛ قال عمر: إني والله لا أدع شيئا أهم إلي من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في صدري ثم قال: "يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء" . وعنه رضي الله عنه قال: ثلاث لأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن أحب إلي من الدنيا وما فيها: الكلالة والربا والخلافة؛ خرجه ابن ماجة في سننه.
الخامسة: طعن بعض الرافضة بقول عمر: "والله لا أدع" الحديث.
السادسة: قوله تعالى: { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } قال الكسائي: المعنى يبين الله لكم لئلا تضلوا. قال أبو عبيد؛ فحدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة" فاستحسنه. قال النحاس: والمعنى عند أبي عبيد لئلا يوافق من الله إجابة، وهذا القول عند البصريين خطأ صراح؛ لأنهم لا يجيزون إضمار لا؛ والمعنى عندهم: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، ثم حذف؛ كما قال: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } وكذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كراهية أن يوافق من الله إجابة. { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تقدم في غير موضع. والله أعلم تمت سورة { النِّسَاءَ } والحمد لله الذي وفق.

سورة المائدة
بحول الله تعالى وقوته، وهي مدنية بإجماع، وروي أنها نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية. وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال: "يا علي أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ونعمت الفائدة" . قال ابن العربي: هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده؛ أما إنا نقول: سورة "المائدة، ونعمت الفائدة" فلا نأثره عن أحد ولكنه كلام حسن. وقال ابن عطية: وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب" ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما أنزل عام الفتح وهو قوله تعالى: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } الآية. وكل ما أنزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدني، سواء نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار. وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة. وقال أبو ميسرة: {المائدة} من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ، وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها؛ وهي: { وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ } ، { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وتمام الطهور { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } ، { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } ، { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } إلى قوله: { عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } و { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ } وقوله تعالى: { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } الآية.
قلت: وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله جل وعز: { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة، أما ما جاء في سورة { الْجُمُعَةِ } فمخصوص بالجمعة،

وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة {المائدة} في حجة الوداع وقال: "يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها" ونحوه عن عائشة رضي الله عنها موقوفا؛ قال جبير بن نفير: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت: هل تقرأ سورة {المائدة} ؟ فقلت: نعم، فقالت: فإنها من آخر ما أنزل الله، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. وقال الشعبي: لم ينسخ من هذه السورة إلا قوله: { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ } الآية. وقال بعضهم: نسخ منها { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ }
1- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }
فيه سبع مسائل:
الأولى- قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } قال علقمة: كل ما في القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فهو مدني و { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } فهو مكي؛ وهذا خرج على الأكثر، وقد تقدم. وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام؛ فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأول: الأمر بالوفاء بالعقود؛ الثاني: تحليل بهيمة الأنعام؛ الثالث: استثناء ما يلي بعد ذلك؛ الرابع: استثناء حال الإحرام فيما يصاد؛ الخامس: ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم. وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم أعمل لنا مثل هذا القرآن فقال: نعم ! أعمل مثل بعضه؛ فأحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد؛ إني فتحت المصحف فخرجت سورة {المائدة} فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما،

ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد
الثانية- قوله تعالى: { أَوْفُوا } يقال: وفى وأوفى لغتان: قال الله تعالى: { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } ، وقال تعالى: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } وقال الشاعر:
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها
فجمع بين اللغتين.
قوله تعالى: { بِالْعُقُودِ } العقود الربوط، واحدها عقد؛ يقال: عقدت العهد والحبل، وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام؛ قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فأمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود؛ قال الحسن: يعني بذلك عقود الدين وهي ما عقده المرء على نفسه؛ من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة؛ وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام. وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع من الأمة؛ قال ابن العربي. ثم قيل: إن الآية نزلت في أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } .قال ابن جريج: هو خاص بأهل الكتاب وفيهم نزلت. وقيل: هي عامة وهو الصحيح؛ فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب؛ لأن بينهم وبين الله عقدا في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم مأمورون بذلك في قوله: { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وغير موضع. قال ابن عباس: { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء؛ وكذلك قال مجاهد وغيره. وقال ابن شهاب:

قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: " هذا بيان للناس من الله ورسوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } فكتب الآيات فيها إلى قوله: { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } " وقال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض. وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب؛ قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون عند شروطهم" وقال: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله أي دين الله؛ فإن ظهر فيها ما يخالف رد؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" . ذكر ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبدالله بن جدعان - لشرفه ونسبه - فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته؛ فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعي به في الإسلام لأجبت" . وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" لأنه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف من الظالم؛ فأما ما كان من عهودهم الفاسدة وعقودهم الباطلة على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام والحمد لله. قال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على الحسين بن علي في مال له - لسلطان الوليد؛ فإنه كان أميرا على المدينة - فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول. قال عبدالله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا؛ وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك؛ وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبيدالله التيمي فقال مثل ذلك؛ فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه
الثالثة- قوله تعالى: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } الخطاب لكل من ألتزم الإيمان على وجهه وكماله؛ وكانت للعرب سنن في الأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، يأتي

بيانها؛ فنزلت هذه الآية رافعة لتلك الأوهام الخيالية، والآراء الفاسدة الباطلة. واختلف في معنى { بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } والبهيمة اسم لكل ذي أربع؛ سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها؛ ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له. و { الأَنْعَامِ } : الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك للين مشيها؛ قال الله تعالى: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } إلى قوله: { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } وقال تعالى: { وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً } يعني كبارا وصغارا؛ ثم بينها فقال: { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } إلى قوله: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ } وقال تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا } يعني الغنم { وَأَوْبَارِهَا } يعني الإبل { وَأَشْعَارِهَا } يعني المعز؛ فهذه ثلاثة أدلة تنبئ عن تضمن اسم الأنعام لهذه الأجناس؛ الإبل والبقر والغنم؛ وهو قول ابن عباس والحسن. قال الهروي: وإذا قيل النعم فهو الإبل خاصة. وقال الطبري: وقال قوم { بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك. وذكره غير الطبري والربيع وقتادة والضحاك، كأنه قال: أحلت لكم الأنعام، فأضيف الجنس إلى أخص منه. قال ابن عطية: وهذا قول حسن؛ وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما أنضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها، وكأن المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام؛ فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع.
قلت: فعلى هذا يدخل فيها ذوات الحوافر لأنها راعية غير مفترسة وليس كذلك؛ لأن الله تعالى قال: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } ثم عطف عليها قوله: { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ } فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها؛ والله أعلم. وقيل: { بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } ما لم يكن صيدا؛ لأن الصيد يسمى وحشا لا بهيمة، وهذا راجع إلى القول الأول. وروي عن عبدالله بن عمر أنه قال: { بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأمهات؛ فهي تؤكل دون ذكاة، وقاله ابن عباس وفيه بعد؛

لأن الله تعالى قال: { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } وليس في الأجنة ما يستثنى؛ قال مالك: ذكاة الذبيحة ذكاة لجنينها إذا لم يدرك حيا وكان قد نبت شعره وتم خلقه؛ فإن لم يتم خلقه ولم ينبت شعره لم يؤكل إلا أن يدرك حيا فيذكى، وإن بادروا إلى تذكيته فمات بنفسه، فقيل: هو ذكي. وقيل: ليس بذكي؛ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى:
الرابعة- قوله تعالى: { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } وقوله عليه الصلاة والسلام: "وكل ذي ناب من السباع حرام" . فإن قيل: الذي يتلى علينا الكتاب ليس السنة؛ قلنا: كل سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من كتاب الله؛ والدليل عليه أمران: أحدهما: حديث العسيف "لأقضين بينكما بكتاب الله" والرجم ليس منصوصا في كتاب الله. الثاني: حديث ابن مسعود: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؛ الحديث. وسيأتي في سورة { الْحَشْرِ }. ويحتمل { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } الآن أو { مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة.
الخامسة- قوله تعالى: { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } أي ما كان صيدا فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدا فهو حلال في الحالين. واختلف النحاة في { إِلاَّ مَا يُتْلَى } هل هو استثناء أو لا ؟ فقال البصريون: هو استثناء من { بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } و { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } استثناء آخر أيضا منه؛ فالاستثناءان جميعا من قوله: { بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } وهي المستثنى منها؛ التقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون؛ بخلاف قوله: { قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. إِلاَّ آلَ لُوطٍ } على ما يأتي. وقيل: هو مستثنى مما يليه من الاستثناء؛ فيصير بمنزلة قوله عز وجل: { ِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ } ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام؛ لأنه مستثنى من المحظور إذ كان قوله تعالى: { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ }

مستثنى من الإباحة؛ وهذا وجه ساقط؛ فإذا معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد. ويجوز أن يكون معناه أيضا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم. وأجاز الفراء أن يكون { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } في موضع رفع على البدل على أن يعطف بإلا كما يعطف بلا؛ ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو جاء القوم إلا زيد. والنصب عنده بأن { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } نصب على الحال مما في {أوفوا} ؛ قال الأخفش: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد. وقال غيره: حال من الكاف والميم في { لَكُمُ } والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد. ثم قيل: يجوز أن يرجع الإحلال إلى الناس، أي لا تحلوا الصيد في حال الإحرام، ويجوز أن يرجع إلى الله تعالى أي أحللت لكم البهيمة إلا ما كان صيدا في وقت الإحرام؛ كما تقول: أحللت لك كذا غير مبيح لك يوم الجمعة. فإذا قلت يرجع إلى الناس فالمعنى: غير محلين الصيد، فحذفت النون تخفيفا.
السادسة- قوله تعالى: { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يعني الإحرام بالحج والعمرة؛ يقال: رجل حرام وقوم حرم إذا أحرموا بالحج؛ ومنه قول الشاعر:
فقلت لها فيئي إليك فإنني ... حرام و إني بعد ذلك لبيب
أي ملب، وسمي ذلك إحراما لما يحرمه من دخل فيه على نفسه من النساء والطيب وغيرهما. ويقال: أحرم دخل في الحرم؛ فيحرم صيد الحرم أيضا. وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب { حُرُمٌ } بسكون الراء؛ وهي لغة تميمية يقولون في رسل: رسل وفي كتب كتب ونحوه.
السابعة- قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب؛ أي فأنت يا محمد السامع لنسخ تلك التي عهدت من أحكامهم تنبه، فإن الذي هو مالك الكل { يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } { لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } يشرع ما يشاء كما يشاء.

2- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
فيه ثلاث عشرة مسألة:
الأولى- قوله تعالى: { لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } خطاب للمؤمنين حقا؛ أي لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور. والشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة. وقال ابن فارس: ويقال للواحدة شعارة؛ وهو أحسن. والشعيرة البدنة تهدى، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم فيعلم أنها هدي. والإشعار الإعلام من طريق الإحساس؛ يقال: أشعر هديه أي جعل له علامة ليعرف أنه هدي؛ ومنه المشاعر المعالم، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات. ومنه الشعر، لأنه يكون بحيث يقع الشعور؛ ومنه الشاعر؛ لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره؛ ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه؛ فالشعائر على قول ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله، وعلى قول جميع مناسك الحج؛ قال ابن عباس. وقال مجاهد: الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر. وقال الشاعر:
نقتلهم جيلاً فجيلاً تراهم ... شعائر قربان بها يتقرب
وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم؛ فأنزل الله تعالى: { لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } . وقال عطاء بن أبي رباح: شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه. وقال الحسن: دين الله كله؛ كقوله: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } أي دين الله.

قلت: وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على غيره لعمومه. وقد اختلف العلماء في إشعار الهدي وهي:
الثانية- فأجازه الجمهور؛ ثم اختلفوا في أي جهة يشعر؛ فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: يكون في الجانب الأيمن؛ وروي عن ابن عمر. وثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن؛ أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح. وروي أنه أشعر بدنه من الجانب الأيسر؛ قال أبو عمر بن عبدالبر: هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس؛ والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس، قال: ولا يصح عنه غيره. وصفحة السنام جانبه، والسنام أعلى الظهر. وقالت طائفة: يكون في الجانب الأيسر؛ وهو قول مالك، وقال: لا بأس به في الجانب الأيمن. وقال مجاهد: من أي الجانبين شاء؛ وبه قال أحمد في أحد قوليه. ومنع من هذا كله أبو حنيفة وقال: إنه تعذيب للحيوان، والحديث يرد عليه؛ وأيضا فذلك يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك كما تقدم؛ وقد أوغل ابن العربي على أبي حنيفة في الرد والإنكار حين لم ير الإشعار فقال: كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة ! لهي أشهر منه في العلماء.
قلت: والذي رأيته منصوصا في كتب علماء الحنفية الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنة بل هو مباح؛ لأن الإشعار لما كان إعلاما كان سنة بمنزلة التقليد، ومن حيث أنه جرح ومثلة كان حراما، فكان مشتملا على السنة والبدعة فجعل مباحا. ولأبي حنيفة أن الإشعار مثلة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروها، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في أول الابتداء حين كانت العرب تنتهب كل مال إلا ما جعل هديا، وكانوا لا يعرفون الهدي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العذر؛ هكذا روي عن ابن عباس. وحكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله تعالى أنه قال: يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية، أما ما لم يجاوز الحد فعل كما كان يفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

فهو حسن؛ وهكذا ذكر أبو جعفر الطحاوي. فهذا اعتذار علماء الحنفية لأبي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الإشعار، فقد سمعوه ووصل إليهم وعلموه؛ قالوا: وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحد محرما؛ لأن مباشرة المكروه لا تعد من المناسك.
الثالثة- قوله تعالى: { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي أربعة: واحد فرد وثلاثة سرد، يأتي بيانها في { بَرَاءَةٌ } ؛ والمعنى: لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها؛ فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء؛ وكذلك قوله: { وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ } أي لا تستحلوه، وهو على حذف مضاف أي ولا ذوات القلائد جمع قلادة. فنهى سبحانه عن استحلال الهدي جملة، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد.
الرابعة- قوله تعالى: { وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ } الهدي ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة؛ الواحدة هدية وهدية وهدي. فمن قال: أراد بالشعائر المناسك قال: ذكر الهدي تنبيها على تخصيصها. ومن قال: الشعائر الهدي قال: إن الشعائر ما كان مشعرا أي معلما بإسالة الدم من سنامه، والهدي ما لم يشعر، اكتفى فيه بالتقليد. وقيل: الفرق أن الشعائر هي البدن من الأنعام. والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما يهدى. وقال الجمهور: الهدي عاما في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة" إلى أن قال: "كالمهدي بيضة" فسماها هديا؛ وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصدقة؛ وكذلك قال العلماء: إذا قال جعلت ثوبي هديا فعليه أن يتصدق به؛ إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه، وهذا إنما تلقي من عرف الشرع في قوله تعالى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } وأراد به الشاة؛ وقال تعالى: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } وقال تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ

فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } وأقله شاة عند الفقهاء. وقال مالك: إذا قال ثوبي هدي يجعل ثمنه في هدي. { وَالْقَلائِدَ } ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم؛ فهو على حذف مضاف، أي ولا أصحاب القلائد ثم نسخ. قال ابن عباس: آيتان نسختا من {المائدة} آية القلائد وقوله: { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فأما القلائد فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا. وأما الأخرى فنسخها قوله تعالى: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } على ما يأتي. وقيل: أراد بالقلائد نفس القلائد؛ فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يتقلد به طلبا للأمن؛ قاله مجاهد وعطاء ومطرف بن الشخير. والله أعلم. وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض. وأتفق الفقهاء على أن من قال: لله علي هدي أنه يبعث بثمنه إلى مكة. وأما القلائد فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه؛ من نعل أو غيره، وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام، وهي سنة البقر والغنم. قالت عائشة رضي الله عنها: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها؛ أخرجه البخاري ومسلم؛ وإلى هذا صار جماعة من العلماء: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن حبيب؛ وأنكره مالك وأصحاب الرأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم، أو بلغ لكنهم ردوه لانفراد الأسود به عن عائشة رضي الله عنها؛ فالقول به أولى. والله أعلم. وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أشعرت كالبدن؛ قال ابن عمر؛ وبه قال مالك. وقال الشافعي: تقلد وتشعر مطلقا ولم يفرقوا. وقال سعيد بن جبير: تقلد ولا تشعر؛ وهذا القول أصح إذ ليس لها سنام، وهي أشبه بالغنم منها بالإبل. والله أعلم.
الخامسة- واتفقوا فيمن قلد بدنة على نية الإحرام وساقها أنه يصير محرما؛ قال الله تعالى: { لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ } إلى أن قال: { فَاصْطَادُوا } ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام.

السادسة- فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه لم يكن محرما؛ لحديث عائشة قالت: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي؛ ثم قلدها بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي؛ أخرجه البخاري، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء. وروي عن ابن عباس أنه قال: يصير محرما؛ قال ابن عباس: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي؛ رواه البخاري؛ وهذا مذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وحكاه الخطابي عن أصحاب الرأي؛ واحتجوا بحديث جابر بن عبدالله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فقد قميصه من جيبه ثم أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي" وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة. في إسناده عبدالرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة وهو ضعيف. فإن قلد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون: لا يصير محرما؛ لأن تقليد الشاة ليس بمسنون ولا من الشعائر؛ لأنه يخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البدن؛ فإنها تترك حتى ترد الماء وترعى الشجر وتصل إلى الحرم. وفي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت: فتلت قلائدها من عهن كان عندي. العهن الصوف المصبوغ؛ ومنه قوله تعالى: { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } .
السابعة- ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلد أو أشعر؛ لأنه قد وجب، وإن مات موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه؛ بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول؛ فإن أوجبها بالقول قبل الذبح فقال: جعلت هذه الشاة أضحية تعينت؛ وعليه؛ إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحها ولم يجز له بيعها؛ فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعا في قول أحمد وإسحاق. وقال الشافعي: لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت، إنما الإبدال في الواجب. وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا ضلت فقد أجزأت. ومن

مات يوم النحر قبل أن يضحي كانت ضحيته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهدي. وقال أحمد وأبو ثور: تذبح بكل حال. وقال الأوزاعي: تذبح إلا أن يكون عليه دين لا وفاء له إلا من تلك الأضحية فتباع في دينه. ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يصنع بها، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث. وما أصاب الأضحية قبل الذبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهدي، هذا تحصيل مذهب مالك. وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل؛ والأول أصوب. والله أعلم.
الثامنة- قوله تعالى: { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } يعني القاصدين له؛ من قولهم أممت كذا أي قصدته. وقرأ الأعمش: { وَلا آمِّي الْبَيْتَ الْحَرَامِ } بالإضافة كقوله: { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } والمعنى: لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة؛ وعليه فقيل: ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك، أو مراعاة حرمة له بقلادة، أو أم البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وقوله: { فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } فلا يمكن المشرك من الحج، ولا يؤمن في الأشهر الحرم وإن أهدى وقلد وحج؛ روي عن ابن عباس وقاله ابن زيد على ما يأتي ذكره. وقال قوم: الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين، وقد نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين. والنهي عام في الشهر الحرام وغيره؛ ولكنه خص الشهر الحرام بالذكر تعظيما وتفضيلا؛ وهذا يتمشى على قول عطاء؛ فإن المعنى لا تحلوا معالم الله، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلوه؛ ولذلك قال أبو ميسرة: هي محكمة. وقال مجاهد: لم ينسخ منها إلا { الْقَلائِدَ } وكان الرجل يتقلد بشيء من لحاء الحرم فلا يقرب فنسخ ذلك. وقال ابن جريج: هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم. وقال ابن زيد: نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؛ جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون فقال المسلمون: يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم؛ فنزل القرآن { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } . وقيل:

كان هذا لأمر شريح بن ضبيعة البكري - ويلقب بالحطم - أخذته جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عمرته فنزلت هذه الآية، ثم نسخ هذا الحكم كما. ذكرنا. وأدرك الحطم هذا ردة اليمامة فقتل مرتدا وقد روي من خبره أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وخلف خيله خارج المدينة فقال: إلام تدعو الناس ؟ فقال: "إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة" فقال: حسن، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان" ثم خرج من عنده فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم"
فمر بسرح المدينة فاستاقه؛ فطلبوه فعجزوا عنه، فانطلق وهو يقول:
قد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم ... باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم ... خدلج الساقين خفاق القدم
فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة فقال: "هذا الحطم وأصحابه" . وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى مكة، فتوجهوا في طلبه؛ فنزلت الآية، أي لا تحلوا ما أشعر لله وإن كانوا مشركين؛ ذكره ابن عباس.
التاسعة- وعلى أن الآية محكمة قوله تعالى: { لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } يوجب إتمام أمور المناسك؛ ولهذا قال العلماء: إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج، ولا يجوز أن يترك شيئا منها وإن فسد حجه؛ ثم عليه القضاء في السنة الثانية قال أبو الليث السمرقندي: وقوله تعالى: { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } منسوخ بقوله: { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } وقوله: { وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ } محكم لم ينسخ؛ فكل من قلد الهدي

ونوى الإحرام صار محرما لا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية؛ فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض؛ بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ
العاشرة- قوله تعالى: { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } قال فيه جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم. وقيل: كان منهم من يبتغي التجارة، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله؛ وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت، وأنه يبعث، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار. قال ابن عطية: هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم؛ لتنبسط النفوس، وتتداخل الناس، ويردون الموسم فيستمعون القرآن، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان. وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عام سنة تسع؛ إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة { بَرَاءَةٌ }
الحادية عشرة- قوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } أمر إباحة - بإجماع الناس - رفع ما كان محظورا بالإحرام؛ حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح، بل صيغة "أفعل" الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب؛ وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره؛ لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعا؛ دليله قوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } فهذه "أفعل" على الوجوب؛ لأن المراد بها الجهاد، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا } { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } من النظر إلى المعنى والإجماع، لا من صيغة الأمر. والله أعلم.
الثانية عشرة- قوله تعالى: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي لا يحملنكم؛ عن ابن عباس وقتادة، وهو قول الكسائي وأبي العباس. وهو يتعدى إلى مفعولين؛ يقال: جرمني كذا على بغضك أي حملني عليه؛ قال الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وقال الأخفش: أي ولا يحقنكم. وقال أبو عبيدة والفراء: معنى { لا يَجْرِمَنَّكُمْ } أي لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم، قال عليه السلام: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وقد مضى القول في هذا. ونظير هذه الآية { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وقد تقدم مستوفى. ويقال: فلان جريمة أهله أي كاسبهم، فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب وأجرم فلان أي أكتسب الإثم. ومنه قول الشاعر:
جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا
معناه كاسب قوت، والصليب الودك، وهذا هو الأصل في بناء ج ر م. قال ابن فارس: يقال جرم وأجرم، ولا جرم بمنزلة قولك: لا بد ولا محالة؛ وأصلها من جرم أي أكتسب، قال:
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وقال آخر:
يا أيها المشتكي عكلا وما جرمت ... إلى القبائل من قتل وإباس
ويقال: جرم يجرم جرما إذا قطع؛ قال الرماني علي بن عيسى: وهو الأصل؛ فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب، وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه. وقال الخليل: { لاَجَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ } لقد حق أن لهم العذاب. وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد، أي أكتسب. وقرأ ابن مسعود { يُجْرِمَنَّكُمْ } بضم الياء، والمعنى أيضا لا يكسبنكم؛ ولا يعرف البصريون الضم، وإنما يقولون: جرم لا غير. والشنآن البغض. وقرئ بفتح النون وإسكانها؛ يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنانا

وشنآنا بجزم النون، كل ذلك إذا أبغضته؛ أي لا يكسبنكم بغض قوم بصدهم إياكم أن تعتدوا؛ والمراد بغضكم قوما، فأضاف المصدر إلى المفعول. قال ابن زيد: لما صد المسلمون عن البيت عام الحديبية مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة؛ فقال المسلمون: نصدهم كما صدنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية؛ أي لا تعتدوا على هؤلاء، ولا تصدوهم { أَنْ صَدُّوكُمْ } أصحابهم، بفتح الهمزة مفعول من أجله؛ أي لأن صدوكم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة { إنْ صَدُّوكُمْ } وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن الأعمش { إنْ يصَدُّوكُمْ } . قال ابن عطية: فإن للجزاء؛ أي إن وقع مثل هذا الفعل في المستقبل. والقراءة الأولى أمكن في المعنى. وقال النحاس: وأما { إنْ صَدُّوكُمْ } بكسر { إِنَّ } فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء: منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المسلمين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية؛ وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده؛ كما تقول: لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك؛ فهذا لا يكون إلا للمستقبل، وإن فتحت كان للماضي، فوجب على هذا ألا يجوز إلا { أَنْ صَدُّوكُمْ } . وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا؛ لأن قوله: { لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } إلى آخر الآية يدل على أن مكة كانت في أيديهم، وأنهم لا ينهون عن هذا إلا وهم قادرون على الصد عن البيت الحرام، فوجب من هذا فتح { إِنَّ } لأنه لما مضى { أَنْ تَعْتَدُوا } في موضع نصب؛ لأنه مفعول به، أي لا يجرمنكم شنآن قوم الاعتداء وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد { شَنْآنُ } بإسكان النون؛ لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة؛ وخالفهما غيرهما وقال: ليس هذا مصدرا ولكنه اسم الفاعل على وزن كسلان وغضبان
الثالثة عشرة- قوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } قال الأخفش: هو مقطوع من أول الكلام، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى؛ أي ليعن بعضكم بعضا، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى وأعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه؛ وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدال على الخير كفاعله" . وقد قيل:

الدال على الشر كصانعه. ثم قيل: البر والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة، إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر. قال ابن عطية: وفي هذا تسامح ما، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه، والتقوى رعاية الواجب، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز. وقال الماوردي: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته. وقال ابن خويز منداد في أحكامه: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه؛ فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم". ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه. ثم نهى فقال: { وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وهو الحكم اللاحق عن الجرائم، وعن { َالْعُدْوَانِ } وهو ظلم الناس. ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
3- {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

فيه ست وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } تقدم القول فيه كاملا في البقرة.
الثانية: قوله تعالى: { وَالْمُنْخَنِقَةُ } هي التي تموت خنقا، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو أتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه. وذكر قتادة: أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها؛ وذكر نحوه ابن عباس.
الثالثة: قوله تعالى: { وَالْمَوْقُوذَةُ } الموقوذة هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية؛ عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي؛ يقال منه: وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ. والوقذ شدة الضرب، وفلان وقيذ أي مثخن ضربا. قال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه. وقال الضحاك: كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها، ومنه المقتولة بقوس البندق. وقال الفرزدق:
شغارة تقذ الفصيل برجلها ... فطارة لقوادم الأبكار
وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؛ فقال: "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله" وفي رواية "فإنه وقيذ" . قال أبو عمر: اختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض؛ فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته؛ على ما روي عن ابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي. وخالفهم الشاميون في ذلك؛ قال الأوزاعي في المعراض؛ كله خزق أو لم يخزق؛ فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبدالله بن عمر

ومكحول لا يرون به بأساً ؛ قال أبو عمر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبدالله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكره مالك عن نافع عنه. والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة لمن لجأ إليه حديث عدي بن حاتم وفيه "وما أصاب بعرضه فلا تأكله فإنما هو وقيذ" .
الرابعة: قوله تعالى: { وَالْمُتَرَدِّيَةُ } المتردية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت؛ كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه؛ وهي متفعلة من الردى وهو الهلاك؛ وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها. وإذا أصاب السهم الصيد فتردى من جبل إلى الأرض حرم أيضا؛ لأنه ربما مات بالصدمة والتردي لا بالسهم؛ ومنه الحديث "وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" أخرجه مسلم. وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف؛ فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة؛ فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة على ما يأتي بيانها، وبقيت هذه كلها ميتة، وهذا كله من المحكم المتفق عليه. وكذلك النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل.
الخامسة: قوله تعالى: { وَالنَّطِيحَةُ } النطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى. وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة؛ لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان. وقيل: نطيحة ولم يقل نطيح، وحق فعيل لا يذكر فيه الهاء كما يقال: كف خضيب ولحية دهين؛ لكن ذكر الهاء ههنا لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به؛ يقال: شاة نطيح وامرأة قتيل، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول: رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم؛ لأنك لو لم تذكر الهاء فقلت: رأيت قتيل بني فلان لم يعرف أرجل هو أم امرأة. وقرأ أبو ميسرة { وَالمنَّطِوحَةُ } .
السادسة: قوله تعالى: { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } يرد كل ما أفترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان، كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوها، هذه كلها سباع. يقال: سبع فلان فلانا أي عضه بسنه، وسبعه أي عابه ووقع فيه. وفي الكلام إضمار، أي وما أكل منه

السبع؛ لأن ما أكله السبع فقد فني. ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد، وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها، وكذلك إن أكل بعضها؛ قاله قتادة وغيره وقرأ الحسن وأبو حيوة { السَّبْعُ } بسكون الباء، وهي لغة لأهل نجد. وقال حسان في عتبة بن أبي لهب:
من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع
وقرأ ابن مسعود: "وأكيلة السَّبُع" وقرأ عبدالله بن عباس: { وأَكَيلَ السَّبُعُ } .
السابعة: قوله تعالى: { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } نصب على الاستثناء المتصل، عند الجمهور من العلماء والفقهاء. وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة؛ فإن الذكاة عاملة فيه؛ لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له. روى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال: سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال: كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل. قال إسحاق بن راهويه: السنة في الشاة على ما وصف ابن عباس؛ فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم؛ وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة، ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها ؟ فكذلك المريضة؛ قال إسحاق: ومن خالف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلماء.
قلت: وإليه ذهب ابن حبيب وذكر عن أصحاب مالك؛ وهو قول ابن وهب والأشهر من مذهب الشافعي. قال المزني: وأحفظ للشافعي قولا آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردي إلى ما لا حياة معه؛ وهو قول المدنيين، والمشهور من قول مالك، وهو الذي ذكره عبدالوهاب في تلقينه، وروي عن زيد بن ثابت؛ ذكره مالك في موطئه، وإليه ذهب إسماعيل القاضي وجماعة المالكيين البغداديين. والاستثناء على هذا القول منقطع؛ أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم. قال ابن العربي: اختلف قول مالك

في هذه الأشياء؛ فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما ذكي بذكاة صحيحة؛ والذي في الموطأ أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري، وهي تضطرب فليأكل؛ وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره؛ فهو أولى من الروايات النادرة. وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة؛ وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض، وبقية حياة من سبع لو أتسق النظر، وسلمت من الشبهة الفكر !. وقال أبو عمرو: قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك؛ وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يدا ولا رجلا أنه لا ذكاة فيها؛ وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية. والله أعلم.
الثامنة: قوله تعالى: { ذَكَّيْتُمْ } الذكاة في كلام العرب الذبح؛ قاله قطرب. وقال ابن سيده في "المحكم" والعرب تقول "ذكاة الجنين ذكاة أمه"؛ قال ابن عطية: وهذا إنما هو حديث. وذكى الحيوان ذبحه؛ ومنه قول الشاعر:
يذكيها الأسل
قلت: الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه " وبه يقول جماعة أهل العلم، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا لم يحل أكله؛ لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين. قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" دليل على أن الجنين غير الأم، وهو يقول: لو أعتقت أمة حامل أن عتقه عتق أمه؛ وهذا يلزمه أن ذكاته ذكاة أمه؛ لأنه إذا أجاز أن يكون عتق واحد عتق اثنين جاز أن يكون ذكاة واحد ذكاة اثنين؛ على أن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن أصحابه، وما عليه جل الناس مستغنى به عن قول كل قائل. وأجمع أهل العلم على

أن الجنين إذا خرج حيا أن ذكاة أمه ليست بذكاة له، واختلفوا إذا ذكيت الأم وفي بطنها جنين؛ فقال مالك وجميع أصحابه: ذكاته ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره، وذلك إذا خرج ميتا أو خرج به رمق من الحياة، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك، فإن سبقهم بنفسه أكل. وقال ابن القاسم: ضحيت بنعجة فلما ذبحتها جعل يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى يموت في بطنها، ثم أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج منه فذبحته فسال منه دم؛ فأمرت أهلي أن يشووه. وقال عبدالله بن كعب بن مالك. كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. قال ابن المنذر: وممن قال ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق. قال القاضي أبو الوليد الباجي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" إلا أنه حديث ضعيف؛ فمذهب مالك هو الصحيح من الأقوال الذي عليه عامة فقهاء الأمصار. وبالله التوفيق
التاسعة: قوله تعالى: { ذَكَّيْتُمْ } الذكاة في اللغة أصلها التمام، ومنه تمام السن. والفرس المذكى الذي يأتي بعد تمام القروح بسنة، وذلك تمام استكمال القوة. ويقال: ذكى يذكي، والعرب تقول: جري المذكيات غلاب. والذكاء حدة القلب؛ وقال الشاعر:
يفضله إذا اجتهدوا عليه ... تمام السن منه والذكاء
والذكاء سرعة الفطنة، والفعل منه ذكي يذكى ذكا، والذكوة ما تذكو به النار، وأذكيت الحرب والنار أو قدتهما. وذكاء اسم الشمس؛ وذلك أنها تذكو كالنار، والصحيح ابن ذكاء لأنه من ضوئها. فمعنى { ذَكَّيْتُمْ } أدركتم ذكاته على التمام. ذكيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التطيب؛ يقال: رائحة ذكية؛ فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب، لأنه يتسارع إليه التجفيف؛ وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما "ذكاة الأرض يبسها" يريد

طهارتها من النجاسة؛ فالذكاة في الذبيحة لها، وإباحة لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيرا لها وإباحة الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة؛ وهو قول أهل العراق. وإذا تقرر هذا فأعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور، مقرونا بنية القصد لله وذكره عليه؛ على ما يأتي بيانه
العاشرة- واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة؛ فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والعظم؛ على هذا تواترت الآثار، وقال به فقهاء الأمصار. والسن والظفر المنهي عنهما في التذكية هما غير المنزوعين؛ لأن ذلك يصير خنقا؛ وكذلك قال ابن عباس: ذلك الخنق؛ فأما المنزوعان فإذا فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما عندهم. وقد كره قوم السن والظفر والعظم على كل حال؛ منزوعة أو غير منزوعة؛ منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد، وروي عن الشافعي؛ وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خديج قال: قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى - في رواية - فنذكي بالليط ؟. وفي موطأ مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ: أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا بأس بها وكلوها" . وفي مصنف أبي داود: أنذبح بالمروة وشقة العصا ؟ قال: "أعجل وأرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة" الحديث أخرجه مسلم. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: ما ذبح بالليطة والشطير والظرر فحل ذكي. الليطة فلقة القصبة ويمكن بها الذبح والنحر. والشطير

فلقة العود، وقد يمكن بها الذبح لأن لها جانبا دقيقا. والظرر فلقة الحجر يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر؛ وعكسه الشظاظ ينحر به، لأنه كطرف السنان ولا يمكن به الذبح
الحادية عشرة: قال مالك وجماعة: لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين. وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين؛ لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة، وهو الغرض من الموت. ومالك وغيره اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة؛ وعليه يدل حديث رافع بن خديج في قوله: "ما أنهر الدم" . وحكى البغداديون عن مالك أنه يشترط قطع أربع: الحلقوم والودجين والمريء؛ وهو قول أبي ثور، والمشهور ما تقدم وهو قول الليث. ثم اختلف أصحابنا في قطع أحد الودجين والحلقوم هل هو ذكاة أم لا ؟ على قولين
الثانية عشرة: وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة؛ واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا، على قولين: وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل؛ وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل. وقال الشافعي: تؤكل؛ لأن المقصود قد حصل. وهذا ينبني على أصل، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدم ففيها ضرب من التعبد؛ وقد ذبح صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال: "إنما الذكاة في الحلق واللبة" فبين محلها وعين موضعها، وقال مبينا لفائدتها: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل" . فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنية ولا بشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حظ التعبد، فلم تؤكل لذلك. والله أعلم.
الثالثة عشرة: واختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في الفور وأكمل الذكاة؛ فقيل: يجزئه. وقيل: لا يجزئه؛ والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها

الرابعة: ويستحب إلا يذبح إلا من ترضى حاله، وكل من أطاقه وجاء به على سنته من ذكر أو أنثى بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلما أو كتابيا، وذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي، ولا يذبح نسكا إلا مسلم؛ فإن ذبح النسك كتابي فقد اختلف فيه؛ ولا يجوز في تحصيل المذهب، وقد أجازه أشهب
الخامسة عشرة: وما استوحش من الإنسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الإنسي، في قول مالك وأصحابه وربيعة والليث بن سعد؛ وكذلك المتردي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحلق واللبة على سنة الذكاة. وقد خالف في هاتين المسألتين بعض أهل المدينة وغيرهم؛ وفي الباب حديث رافع بن خديج وقد تقدم، وتمامه بعد قوله: "فمدى الحبشة" قال: وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا - وفي رواية - فكلوه" . وبه قال أبو حنيفة والشافعي؛ قال الشافعي: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة؛ واحتج بما رواه أبو داود والترمذي عن أبي الشعراء عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ قال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك" قال يزيد بن هارون: وهو حديث صحيح أعجب أحمد بن حنبل ورواه عن أبي داود، وأشار على من دخل عليه من الحفاظ أن يكتبه. قال أبو داود: لا يصلح هذا إلا في المتردية والمستوحش. وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مهواة فلا يوصل إلى ذكاته إلا بالطعن في غير موضع الذكاة؛ وهو قول أنفرد به عن مالك وأصحابه. قال أبو عمر: قول الشافعي أظهر في أهل العلم، وأنه يؤكل بما يؤكل به الوحشي؛ لحديث رافع بن خديج؛ وهو قول ابن عباس وابن مسعود؛ ومن جهة القياس لما كان الوحشي إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسي؛ لأنه صار مقدورا عليه؛ فكذلك ينبغي في القياس إذا توحش أو صار في معنى الوحشي من الامتناع أن يحل بما يحل به الوحشي.

قلت: أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خديج بأن قالوا: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته، وهو مقتضى الحديث وظاهره؛ لقوله: "فحبسه" ولم يقل إن السهم قتله؛ وأيضا فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال فلا يراعى النادر منه، وإنما يكون ذلك في الصيد. وقد صرح الحديث بأن السهم حبسه وبعد أن صار محبوسا صار مقدورا عليه؛ فلا يؤكل إلا بالذبح والنحر. والله أعلم. وأما حديث أبي العشراء فقد قال فيه الترمذي: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث. واختلفوا في اسم أبي الشعراء؛ فقال بعضهم: اسمه أسامة بن قهطم، ويقال: اسمه يسار بن برز - ويقال: بلز - ويقال: اسمه عطارد نسب إلى جده" فهذا سند مجهول لا حجة فيه؛ ولو سلمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حجة؛ إذ مقتضاه جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقا في المقدور وغيره، ولا قائل به في المقدور؛ فظاهره ليس بمراد قطعا. وتأويل أبي داود وابن حجيب له غير متفق عليه؛ فلا يكون فيه حجة، والله أعلم. قال أبو عمر: وحجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم يند الإنسي أنه لا يذكى إلا بما يذكى به المقدور عليه، ثم اختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا. وهذا لا حجة فيه؛ لأن إجماعهم إنما انعقد على مقدور عليه، وهذا غير مقدور عليه.
السادسة عشرة: ومن تمام هذا الباب قوله عليه السلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم عن شداد بن أوس قال: اثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب" فذكره. قال علماؤنا: إحسان الذبح في البهائم الرفق بها؛ فلا يصرعها بعنف ولا يجرها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نية الإباحة والقربة وتوجيهها إلى القبلة، والإجهاز، وقطع الودجين والحلقوم، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد، والاعتراف لله بالمنة، والشكر له بالنعمة؛ بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء

لحرمه علينا. وقال ربيعة: من إحسان الذبح ألا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها؛ وحكي جوازه عن مالك؛ والأول أحسن. وأما حسن القتلة فعام في كل شيء من التذكية والقصاص والحدود وغيرها. وقد روى أبو داود عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان، زاد ابن عيسى في حديثه "وهي التي تذبح فتقطع ولا تفرى الأوداج ثم تترك فتموت"
السابعة عشرة: قوله تعالى: { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } قال ابن فارس: "النصب" حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح، وهو النصب أيضا. والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد، وغبار منتصب مرتفع. وقيل: { النُّصُبِ } جمع، واحده نصاب كحمار وحمر. وقيل: هو اسم مفرد والجمع أنصاب؛ وكانت ثلاثمائة وستين حجرا. وقرأ طلحة { النُّصْبِ } بجزم الصاد. وروي عن ابن عمر { النَصْبِ } بفتح النون وجزم الصاد. الجحدري: بفتح النون والصاد جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب؛ كالأجمال والأجبال. قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها. قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة؛ فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك؛ فأنزل الله تعالى: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا } ونزلت { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } المعنى: والنية فيها تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز، وقال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعافية والله ربك فاعبدا
وقيل: {على} بمعنى اللام؛ أي لأجلها؛ قال قطرب قال ابن زيد: ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شيء واحد. قال ابن عطية: ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله، ولكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وتشرف الموضع وتعظيم النفوس له

الثامنة عشرة: قوله تعالى: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ } معطوف على ما قبله، و {أن} في محل رفع، أي وحم عليكم الاستقسام. والأزلام قداح الميسر، واحدها زلم وزلم؛ قال:
بات يقاسيها غلام كالزلم
وقال آخر، فجمع:
فلئن جذيمة قتلت سرواتها ... فنساؤها يضربن بالأزلام
وذكر محمد بن جرير: أن ابن وكيع حدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها. قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع: هي الشطرنج. فأما قول لبيد:
تزل عن الثرى أزلامها
فقالوا: أراد أظلاف البقرة الوحشية. والأزلام العرب ثلاثة أنواع:
منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه، على أحدها أفعل، وعلى الثاني لا تفعل، والثالث مهمل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده - وهي متشابهة - فإذا خرج أحدها ائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء عليه أعاد الضرب؛ وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين أتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة؛ وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون؛ كما يقال: الاستسقاء في الاستدعاء للسقي. ونظير هذا الذي حرمه الله تعالى قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا، وأخرج من أجل نجم كذا. وقال جل وعز: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً } الآية . وسيأتي بيان هذا مستوفى إن شاء الله.
والنوع الثاني: سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل، كل قدح منها فيه كتاب؛ قدح فيه العقل من أم الديات، وفي آخر "منكم" وفي آخر "من غيركم"، وفي آخر "ملصق"، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك،

وهي التي ضرب بها عبدالمطلب على بنيه إذ كان نذر نحر أحدهم إذا كملوا عشرة؛ الخبر المشهور ذكره ابن إسحاق. وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم؛ على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل.
والنوع الثالث: هو قداح المسير وهي عشرة؛ سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مقام لهوا ولعبا، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف. وقال مجاهد: الأزلام هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها. وقال سفيان ووكيع: هي الشطرنج؛ فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب كما بينا؛ وهو من أكل المال بالباطل، وهو حرام، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كله؛ وهو صرب من التكهن والتعرض لدعوى علم الغيب. قال ابن خويز منداد: ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المنجمون على الطرقات من السهام التي معهم، ورقاع الفأل في أشباه ذلك. وقال الكيا الطبري: وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب؛ فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غدا، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر؛ فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الإقراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بني على الأخبار الصحيحة، وليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام؛ فإن العتق حكم شرعي، يجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على إثبات حكم العتق قطعا للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فعلت كذا أو قلت كذا فذلك يدلك في المستقبل على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح علما على شيء يتجدد في المستقبل، ويجوز أن يجعل خروج القرعة علما على العتق قطعا؛ فظهر افتراق البابين.
التاسعة عشرة: وليس من هذا الباب طلب الفأل، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح؛ أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح غريب؛ وإنما كان يعجبه الفأل لأنه

تنشرح له النفس وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل؛ فيحسن الظن بالله عز وجل، وقد قال: "أنا عند ظن عبدي بي" وكان عليه السلام يكره الطيرة؛ لأنها من أعمال أهل الشرك؛ ولأنها تجلب ظن السوء بالله عز وجل. قال الخطابي: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه. وقال الأصمعي: سألت ابن عون عن الفأل فقال: هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم، أو يكون باغيا فيسمع يا واجد؛ وهذا معنى حديث الترمذي، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طيرة وخيرها الفأل" ، قيل: يا رسول الله وما الفأل ؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم " . وسيأتي لمعنى الطيرة مزيد بيان إن شاء الله تعالى. روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا؛ من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة
الموفية العشرون: قوله تعالى: { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } إشارة إلى الاستقسام بالأزلام. والفسق الخروج، وقد تقدم. وقيل يرجع إلى جميع ما ذكر من الاستحلال لجميع هذه المحرمات، وكل شيء منها فسق وخروج من الحلال إلى الحرام، والانكفاف عن هذه المحرمات من الوفاء بالعقود، إذ قال: { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } .
الحادية والعشرون: قوله تعالى: { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارا. قال الضحاك: نزلت هذه الآية حين فتح مكة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، ويقال: سنة ثمان، ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا من قال لا إله إلا الله فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن" . وفي { يَئِسَ } لغتان، يئس ييأس يأسا، وأيس يأيس

إياسا وإياسة؛ قاله النضر بن شميل. { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } أي لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم
الثانية والعشرون: قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حج؛ فلما حج وكمل الدين نزلت هذه الآية: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية؛ على ما نبينه. روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا؛ قال: وأي آية ؟ قال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه؛ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة. لفظ مسلم. وعند النسائي ليلة جمعة. وروي أنها لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك" ؟ فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقت" وروى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة.
قلت: القول الأول أصح، أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء، فكاد عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت. و { الْيَوْمَ } قد يعبر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه؛ تقول: فعلنا في شهر كذا وكذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة؛ وذلك مستعمل في لسان العرب والعجم. والدين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا؛ فإنها نزلت نجوما وآخر ما نزل منها هذه الآية، ولم ينزل بعدها حكم، قاله ابن عباس والسدي. وقال الجمهور: المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم، قالوا: وقد نزل

بعد ذلك قرآن كثير، ونزلت آية الربا، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل معظم الدين وأم الحج، إذا لم يطف معهم في هذه السنة مشرك، ولا طاف بالبيت عريان، ووقف الناس كلهم بعرفة. وقيل: { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } بأن أهلكت لكم عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول: قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك.
الثالثة والعشرون: قوله تعالى: { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } أي بإكمال الشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام كما وعدتكم، إذ قلت: { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } وهي دخول مكة. آمنين مطمئنين وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالى
الرابعة والعشرون: لعل قائلا يقول: قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شهدوا بدرا والحديبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعا، وبذلوا أنفسهم لله مع عظيم ما حل بهم من أنواع المحن ماتوا على دين ناقص، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دين ناقص، ومعلوم أن النقص عيب، ودين الله تعالى قيم، كما قال تعالى: { دِيناً قِيَماً } فالجواب أن يقال له: لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ؟ ثم يقال له: أرأيت نقصان الشهر هل كون عيبا، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها، ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } أهو عيب له، ونقصان أيام الحيض عن المعهود، ونقصان أيام الحمل، ونقصان المال بسرقة أو حريق أو غرق إذا لم يفتقر صاحبه، فما أنكرت أن نقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في علم الله تعالى هذه ليست بشين ولا عيب، وما أنكرت أن معنى قول الله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يخرج على وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب، لكنه يوصف بنقصان مقيد

فيقال له: إنه كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه ملحقه به وضامه إليه؛ كالرجل يبلغه الله مائة سنة فيقال: أكمل الله عمره؛ ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصا نقص قصور وخلل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر" . ولكنه يجوز أن يوصف بنقصان مقيد فيقال: كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه مبلغه إياه ومعمره إليه. وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات؛ فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحا، ولا يجب عن ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة نقص قصور وخلل؛ ولو قيل: كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامه إليها وزائدة عليها لكان ذلك صحيحا فهكذا، هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئا فشيئا إلى أن أنهى الله الدين منتهاه الذي كان له عنده. والله أعلم.
والوجه الآخر: أنه أراد بقوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره، فحجوا؛ فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه وقياما بفرائضه؛ فإنه يقول عليه السلام: "بني الإسلام على خمس" الحديث. وقد كانوا تشهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجوا؛ فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى وهم بالموقف عشية عرفة { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } فإنما أراد أكمل وضعه لهم؛ وفي ذلك دلالة على أن الطاعات كلها دين وإيمان وإسلام.
الخامسة والعشرون: قوله تعالى: { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } أي أعلمتكم برضاي به لكم دينا؛ فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا؛ فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره. و { دِيناً } نصب على التمييز، وإن شئت على مفعول ثان. وقيل: المعنى ورضيت عنكم إذا أنقدتم لي بالدين الذي شرعته لكم. ويحتمل أن يريد { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } أي ورضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا باقيا بكماله إلى آخر الآية لا أنسخ منه شيئا. والله أعلم. و { الإسْلامَ } في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى:

{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ } وهو الذي يفسر في سؤال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام، وهو الإيمان والأعمال والشعب
السادسة والعشرون: قوله تعالى: { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات في هذه الآية. والمخمصة الجوع وخلاء البطن من الطعام. والخمص ضمور البطن. ورجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة؛ ومنه أخمص القدم، ويستعمل كثيرا في الجوع والغرث؛ قال الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن. وقال النابغة في خمص البطن من جهة ضمره:
والبطن ذو عكن خميص لين ... والنحر تنفجه بثدي مقعد
وفي الحديث: "خماص البطون خفاف الظهور" الخماص جمع الخميص البطن، وهو الضامر. أخبر أنهم أعفاء عن أموال الناس؛ ومنه الحديث: "إن الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" والخميصة أيضا ثوب؛ قال الأصمعي: الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة، وهي سوداء، كانت من لباس الناس. وقد تقدم معنى الاضطرار وحكمه في البقرة.
السابعة والعشرون: قوله تعالى: { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي غير مائل لحرام، وهو بمعنى { غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } وقد تقدم. والجنف الميل، والإثم الحرام؛ ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تجانفنا فيه لإثم؛ أي ما ملنا ولا تعمدنا ونحن نعلمه: وكل مائل فهو متجانف وجنف. وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي { مُتَجَنِِّفٍ } دون ألف، وهو أبلغ في المعني، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتا لحكمه؛ وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء

والتقرب منه؛ ألا ترك أنك إذا قلت: تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأودا ومقاربة ميل، وإذا قلت: تميل فقد ثبت حكم الميل، وكذلك تصاون الرجل وتصون، وتعاقل وتعقل؛ فالمعنى غير متعمد لمعصية في مقصده؛ قاله قتادة والشافعي. { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي فإن الله له غفور رحيم فحذف، وأنشد سيبويه:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع
أراد لم أصنعه فحذف. والله أعلم.
4- { يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
فيه ثماني عشرة مسألة:
الأولى- قوله تعالى: { يَسْأَلونَكَ } الآية نزلت بسبب عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير؛ قالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما تقتله فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت الآية.
الثانية- قوله تعالى: { مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } {مَا} في موضع رفع بالابتداء، والخبر { أُحِلَّ لَهُمْ } و {ذَا} زائدة، وإن شئت كانت بمعنى الذي، ويكون الخبر { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } وهو الحلال، وكل حرام فليس بطيب. وقيل: ما التذه آكله وشاربه ولم يكن عليه فيه ضرر في الدنيا ولا في الآخرة. وقيل: الطيبات الذبائح، لأنها طابت بالتذكية
الثالثة- قوله تعالى: { وَمَا عَلَّمْتُمْ } أي وصيد ما علمتم؛ ففي الكلام إضمار لا بد منه، ولولاه لكان المعنى يقتضي أن يكون الحل المسؤول عنه متناولا للمعلم من الجوارح المكلبين،

وذلك ليس مذهبا لأحد؛ فإن الذي يبيح لحم الكلب فلا يخصص الإباحة بالمعلم؛ وسيأتي ما للعلماء في أكل الكلب في {الأنعام} إن شاء الله تعالى. وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تتناول ما علمناه من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل، وهو الأكل من الجوارح أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير؛ وكان لعدي كلاب خمسة قد سماها بأسماء أعلام، وكان أسماء أكلبه سلهب وغلاب والمختلس والمتناعس، قال السهيلي: وخامس أشك، قال فيه أخطب، أو قال فيه وثاب.
الرابعة- أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم فينشلي إذا أشلي ويجيب إذ دعي، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر، وأن يكون لا يأكل من صيده الذي صاده، وأثر فيه بجرح أو تنييب، وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف؛ فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف. فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب. يقال: جرح فلان واجترح إذا اكتسب؛ ومنه الجارحة لأنها يكتسب بها، ومنه اجتراح السيئات. وقال الأعشى:
ذا جبار منضجا ميسمه ... يذكر الجارح ما كان اجترح
وفي التنزيل { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } وقال: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } .
الخامسة- قوله تعالى: { مُكَلِّبِينَ } معنى { مُكَلِّبِينَ } أصحاب الكلاب وهو كالمؤدب صاحب التأديب. وقيل: معناه مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب؛ قال الرماني: وكلا

القولين محتمل. وليس في { مُكَلِّبِينَ } دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة؛ لأنه بمنزلة قوله: { مُؤْمِنِينَ } وإن كان قد تمسك به من قصر الإباحة على الكلاب خاصة. روي عن ابن عمر فيما حكى ابن المنذر عنه قال: وأما ما يصاد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو لك حلال، وإلا فلا تطعمه. قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن البازي يحل صيده قال: لا؛ إلا أن تدرك ذكاته. وقال الضحاك والسدي: { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } هي الكلاب خاصة؛ فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي. وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما؛ وبه قال إسحاق بن راهويه؛ فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم، أما من منع صيد الكلب الأسود فلقوله صلى الله عليه وسلم: "الكلب الأسود شيطان" ، أخرجه مسلم. احتج الجمهور بعموم الآية، واحتجوا أيضا في جواز صيد البازي بما ذكر من سبب النزول، وبما خرجه الترمذي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: "ما أمسك عليك فكل" . في إسناده مجالد ولا يعرف إلا من جهته وهو ضعيف. وبالمعنى وهو أن كل ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلا فلا فارق إلا فيما لا مدخل له في التأثير؛ وهذا هو القياس في معنى الأصل، كقياس السيف على المدية والأمة على العبد، وقد تقدم.
السادسة- وإذا تقرر هذا فأعلم أنه لا بد للصائد أن يقصد عند الإرسال التذكية والإباحة، وهذا لا يختلف فيه؛ لقوله عليه السلام: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل" وهذا يقتضي النية والتسمية؛ فلو قصد مع ذلك اللهو فكرهه مالك وأجازه ابن عبدالحكم، وهو ظاهر قول الليث: ما رأيت حقا أشبه بباطل منه، يعني الصيد؛ فأما لو فعله بغير نية التذكية فهو حرام؛ لأنه من باب الفساد وإتلاف حيوان لغير منفعة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكلة. وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى أن التسمية لا بد منها بالقول عند الإرسال؛ لقوله: "وذكرت اسم الله" فلو لم توجد على أي وجه كان لم يؤكل الصيد؛ وهو مذهب أهل الظاهر وجماعة أهل الحديث. وذهبت جماعة

من أصحابنا وغيرهم إلى أنه يجوز أكل ما صاده المسلم وذبحه وإن ترك التسمية عمدا؛ وحملوا الأمر بالتسمية على الندب. وذهب مالك في المشهور إلى الفرق بين ترك التسمية عمدا أو سهوا فقال: لا تؤكل مع العمد وتؤكل مع السهو؛ وهو قول فقهاء الأمصار، وأحد قولي الشافعي، وستأتي هذه المسألة في {الأنعام} إن شاء الله تعالى. ثم لا بد أن يكون انبعاث الكلب بإرسال من يد الصائد بحيث يكون زمامه بيده. فيخلي عنه ويغريه عليه فينبعث، أو يكون الجارح ساكنا مع رؤيته الصيد فلا يتحرك له إلا بالإغراء من الصائد، فهذا بمنزلة ما زمامه بيده فأطلقه مغريا له على أحد القولين؛ فأما لو انبعث الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال ولا إغراء فلا يجوز صيده ولا يحل أكله عند الجمهور ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي؛ لأنه إنما صاد لنفسه من غير إرسال وأمسك عليها، ولا صنع للصائد فيه، فلا ينسب إرسال إليه؛ لأنه لا يصدق عليه قوله عليه السلام: "إذا أرسلت كلبك المعلم" وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي: يؤكل صيده إذا كان أخرجه للصيد.
السابعة- قرأ الجمهور { عَلَّمْتُمْ } بفتح العين واللام. وابن عباس ومحمد بن الحنفية بضم العين وكسر اللام، أي من أمر الجوارح والصيد بها. والجوارح الكواسب، وسميت أعضاء الإنسان جوارح لأنها تكسب وتتصرف. وقيل: سميت جوارح لأنها تجرح وتسيل الدم، فهو مأخوذ من الجراح، وهذا ضعيف، وأهل اللغة على خلافه، وحكاه ابن المنذر عن قوم. و{ مُكَلِّبِينَ } قراءة الجمهور بفتح الكاف وشد اللام، والمكلب معلم الكلاب ومضريها. ويقال لمن يعلم غير الكلب: مكلب؛ لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب؛ حكاه بعضهم. ويقال للصائد: مكلب فعلى هذا معناه صائدين. وقيل: المكلب صاحب الكلاب، يقال: كلب فهو مكلب وكلاب. وقرأ الحسن { مُكْلِبِِينَ } بسكون الكاف وتخفيف اللام، ومعناه أصحاب كلاب، يقال: أمشى الرجل كثرت ماشيته، وأكلب كثرت كلابه، وأنشد الأصمعي:
وكل فتى وإن أمشى فأثرى ... ستخلجه عن الدنيا منون

الثامنة- قوله تعالى: { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } أنث الضمير مراعاة للفظ الجوارح؛ إذ هو جمع جارحة. ولا خلاف بين العلماء في شرطين في التعليم وهما: أن يأتمر إذا أمر وينزجر إذا زجر؛ لا خلاف في هذين الشرطين في الكلاب وما في معناها من سباع الوحوش. واختلف فيما يصاد به من الطير؛ فالمشهور أن ذلك مشترط فيها عند الجمهور. وذكر ابن حبيب أنه لا يشترط فيها أن تنزجر إذا زجرت؛ فإنه لا يتأتى ذلك فيها غالبا، فيكفي أنها إذا أمرت أطاعت. وقال ربيعة: ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري؛ لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي. وقد شرط الشافعي وجمهور من العلماء في التعليم أن يمسك على صاحبه، ولم يشترطه مالك في المشهور عنه. وقال الشافعي: المعلم هو الذي إذا أشلاه صاحبه انشلى؛ وإذا دعاه إلى الرجوع رجع إليه، ويمسك الصيد على صاحبه ولا يأكل منه؛ فإذا فعل هذا مرارا وقال أهل العرف: صار معلما فهو المعلم. وعن الشافعي أيضا والكوفيين: إذا أشلي فانشلى وإذا أخذ حبس وفعل ذلك مرة بعد مرة أكل صيده في الثالثة. ومن العلماء من قال: يفعل ذلك ثلاث مرات ويؤكل صيده في الرابعة. ومنهم من قال: إذا فعل ذلك مرة فهو معلم ويؤكل صيده في الثانية.
التاسعة- قوله تعالى: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } أي حبسن لكم. واختلف العلماء في تأويله؛ فقال ابن عباس وأبو هريرة والنخعي وقتادة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه: المعنى ولم يأكل؛ فإن أكل لم يؤكل ما بقي، لأنه أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه. والفهد عند أبي حنيفة وأصحابه كالكلب ولم يشترطوا ذلك في الطيور بل يؤكل ما أكلت منه. وقال سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر وسلمان الفارسي وأبو هريرة أيضا: المعنى وإن أكل؛ فإذا أكل الجارح كلبا كان أو فهدا أو طيرا أكل ما بقي من الصيد وإن لم يبق إلا بضعة؛ وهذا قول مالك وجميع أصحابه، وهو القول الثاني للشافعي، وهو القياس. وفي الباب حديثان بمعنى ما ذكرنا أحدهما: حديث عدي في الكلب المعلم "وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" أخرجه مسلم. الثاني:

حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك" أخرجه أبو داود، وروي عن عدي ولا يصح؛ والصحيح عنه حديث مسلم؛ ولما تعارضت الروايتان رام بعض أصحابنا وغيرهم الجمع بينهما فحملوا حديث النهي على التنزيه والورع، وحديث الإباحة على الجواز، وقالوا: إن عديا كان موسعا عليه فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بالكف ورعا، وأبا ثعلبة كان محتاجا فأفتاه بالجواز؛ والله أعلم. وقد دل على صحة هذا التأويل قول عليه الصلاة والسلام في حديث عدي: "فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" هذا تأويل علمائنا. وقال أبو عمر في كتاب "الاستذكار": وقد عارض حديث عدي هذا حديث أبي ثعلبة، والظاهر أن حديث أبي ثعلبة ناسخ له؛ فقوله: وإن أكل يا رسول الله ؟ قال: "وإن أكل"
قلت: هذا فيه نظر؛ لأن التاريخ مجهول؛ والجمع بين الحديثين أولى ما لم يعلم التاريخ؛ والله أعلم. وأما أصحاب الشافعي فقالوا: إن كان الأكل عن فرط جوع من الكلب أكل وإلا لم يؤكل؛ فإن ذلك من سوء تعليمه. وقد روي عن قوم من السلف التفرقة بين ما أكل منه الكلب والفهد فمنعوه، وبين ما أكل منه البازي فأجازوه، قال النخعي والثوري وأصحاب الرأي وحماد بن أبي سليمان، وحكي عن ابن عباس وقالوا: الكلب والفهد يمكن ضربه وزجره، والطير لا يمكن ذلك فيه، وحد تعليمه أن يدعى فيجيب، وأن يشلى فينشلي؛ لا يمكن فيه أكثر من ذلك، والضرب يؤذيه.
العاشرة- والجمهور من العلماء على أن الجارح إذا شرب من دم الصيد أن الصيد يؤكل؛ قال عطاء: ليس شرب الدم بأكل؛ وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري، ولا خلاف بينهم أن سبب إباحة الصيد الذي هو عقر الجارح له لا بد أن يكون متحققا غير مشكوك فيه، ومع الشك لا يجوز الأكل، وهي:
الحادية عشرة- فإن وجد الصائد مع كلبه كلبا آخر فهو محمول على أنه غير مرسل من صائد آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه، ولا يختلف في هذا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:

"وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل - في رواية - فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" . فأما لو أرسله صائد آخر فاشترك الكلبان فيه فإنه للصائدين يكونان شريكين فيه. فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله ثم جاء الآخر فهو للذي أنفذ مقاتله، وكذلك لا يؤكل ما رمي بسهم فتردى من جبل أو غرق في ماء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي: "وإن رميت بسهمك فأذكر اسم الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" وهذا نص
الثانية عشرة- لو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير بضع لم يؤكل؛ لأنه مات خنقا فأشبه أن يذبح بسكين كالة فيموت في الذبح قبل أن يفرى حلقه. ولو أمكنه أخذه من الجوارح وذبحه فلم يفعل حتى مات لم يؤكل، وكان مقصرا في الذكاة؛ لأنه قد صار مقدورا على ذبحه، وذكاة المقدور عليه تخالف ذكاة غير المقدور عليه. ولو أخذه ثم مات قبل أن يخرج السكين، أو تناولها وهي معه جاز أكله؛ ولو لم تكن السكين معه فتشاغل بطلبها لم تؤكل. وقال الشافعي: فيما نالته الجوارح ولم تدمه قولان أحدهما: إلا يؤكل حتى يجرح؛ لقوله تعالى: { مِنَ الْجَوَارِحِ } وهو قول ابن القاسم؛ والآخر: أنه حر وهو قول أشهب، قال أشهب: إن مات من صدمة الكلب أكل.
الثالثة عشرة- قوله: "فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل" ونحوه في حديث أبي ثعلبة الذي خرجه أبو داود، غير أنه زاد "فكله بعد ثلاث ما لم ينتن" يعارضه قوله عليه السلام: "كل ما أصميت ودع ما أنميت" فالإصماء ما قتل مسرعا وأنت تراه، والإنماء أن ترمي الصيد فيغيب، عنك فيموت وأنت لا تراه؛ يقال: قد أنميت الرمية فنمت تنمي إذا غابت ثم ماتت قال امرؤ القيس:
فهو لا تنمي رميته ... ماله لا عد من نفرة
وقد اختلف العلماء في أكل الصيد الغائب على ثلاثة أقوال: يؤكل، وسواء قتله السهم أو الكلب. الثاني: لا يؤكل شيء من ذلك إذا غاب؛ لقوله: "كل ما أصميت ودع ما أنميت"

وإنما لم يؤكل مخافة أن يكون قد أعان على قتله غير السهم من الهوام. الثالث: الفرق بين السهم فيؤكل وبين الكلب فلا يؤكل، ووجهه أن السهم يقتل على جهة واحدة فلا يشكل؛ والجارح على جهات متعددة فيشكل، والثلاثة الأقوال لعلمائنا. وقال مالك في غير الموطأ: إذا بات الصيد ثم أصابه ميتا لم ينفذ البازي أو الكلب أو السهم مقاتله لم يأكله؛ قال أبو عمر: فهذا يدلك على أنه إذا بلغ مقاتله كان حلالا عنده أكله وإن بات، إلا أنه يكرهه إذا بات؛ لما جاء عن ابن عباس: "وإن غاب عنك ليلة فلا تأكل" ونحوه عن الثوري قال: إذا غاب عنك يوما كرهت أكله. وقال الشافعي: القياس ألا يأكله إذا غاب عنه مصرعه. وقال الأوزاعي: إن وجده من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا من كلبه فليأكله؛ ونحوه قال أشهب وعبدالملك وأصبغ؛ قالوا: جائز أكل الصيد وإن بات إذا نفذت مقاتله، وقوله في الحديث: "ما لم ينتن" تعليل؛ لأنه إذا أنتن لحق بالمستقذرات التي تمجها الطباع فيكره أكلها؛ فلو أكلها لجاز، كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم الإهالة السنخة وهي المنتنة. وقيل: هو معلل بما يخاف منه الضرر على آكله، وعلى هذا التعليل يكون أكله محرما إن كان الخوف محققا، والله أعلم
الرابعة عشرة- واختلف العلماء من هذا الباب في الصيد بكلب اليهودي والنصراني إذا كان معلما، فكرهه الحسن البصري؛ وأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبدالله والحسن وعطاء ومجاهد والنخعي والثوري وإسحاق، وأجاز الصيد بكلابهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إذا كان الصائد مسلما؛ قالوا: وذلك مثل شفرته. وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك، وفرق بين ذلك وبين ذبيحته؛ وتلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } قال: فلم يذكر الله في هذا اليهود ولا النصارى. وقال ابن وهب وأشهب: صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته؛ وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابئ ولا ذبحه، وهم قوم بين اليهود والنصارى

ولا دين لهم. وأما إن كان الصائد مجوسا فمنع من أكله مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور الناس. وقال أبو ثور فيها قولان: أحدهما: كقول هؤلاء، والآخر: أن المجوس من أهل الكتاب وأن صيدهم جائز. ولو أصطاد السكران أو ذبح لم يؤكل صيده ولا ذبيحته؛ لأن الذكاة تحتاج إلى قصد، والسكران لا قصد له.
الخامسة عشرة- واختلف النحاة في { مِنْ } في قوله تعالى: { مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } فقال الأخفش: هي زائدة كقوله: { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ } وخطأه البصريون وقالوا: { مِنْ } لا تزاد في الإثبات وإنما تزاد في النفي والاستفهام، وقوله: { مِنْ ثَمَرِهِ } { َيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ } و { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } للتبعيض؛ أجاب فقال: قد قال: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } بإسقاط { مِنْ } فدل على زيادتها في الإيجاب؛ أجيب بأن { مِنْ } ههنا للتبعيض؛ لأنه إنما يحل من الصيد اللحم دون الفرث والدم
قلت: هذا ليس بمراد ولا معهود في الأكل فيعكر على ما قال. ويحتمل أن يريد { مِمَّا أَمْسَكْنَ } أي مما أبقته الجوارح لكم؛ وهذا على قول من قال: لو أكل الكلب الفريسة لم يضر وبسبب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل الجارح منه على ما تقدم
السادسة عشرة- ودلت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد، وثبت ذلك في صحيح السنة وزادت الحرث والماشية؛ وقد كان أول الإسلام أمر بقتل الكلاب حتى كان يقتل كلب المرية من البادية يتبعها؛ روى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان" وروي أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط" . قال الزهري: وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال: يرحم الله أبا هريرة، كان صاحب زرع؛ فقد دلت السنة على ما ذكرنا، وجعل النقص من أجر من أقتناها على غير ذلك من المنفعة؛ إما لترويع الكلب المسلمين

وتشويشه عليهم بنباحه - كما قال بعض شعراء البصرة، وقد نزل بعمار فسمع لكلابه نباحا فأنشأ يقول:
نزلنا بعمار فأشلى كلابه ... علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل
فقلت لأصحابي أسر إليهم ... إذا اليوم أم يوم القيامة أطول
أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته على ما يراه الشافعي، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه؛ والله أعلم. وقال في إحدى الروايتين: "قيراطان" وفي الأخرى "قيراط" وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر؛ كالأسود الذي أمر عليه الصلاة والسلام بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها فقال: "عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان" أخرجه مسلم. ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان، وبغيرهما قيراط؛ والله أعلم. وأما المباح اتخاذه فلا ينقص أجر متخذه كالفرس والهر، ويجوز بيعه وشراؤه، حتى قال سحنون: ويحج بثمنه. وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها لا الذي يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذي يحفظه من الوحوش بالليل والنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع والدار في البادية.
السابعة عشرة- وفي هذه الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل؛ لأن الكلب إذا علم يكون له فضيلة على سائر الكلاب، فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس، لا سيما إذا عمل بما علم؛ وهذا كما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يحسنه
الثامنة عشرة- قوله تعالى: { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } أمر بالتسمية؛ قيل: عند الإرسال على الصيد، وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد، يأتي بيانه في {الأنعام}. وقيل: المراد بالتسمية هنا التسمية عند الأكل، وهو الأظهر. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال لعمر بن أبي سلمة: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" . وروي من حديث حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه" الحديث. فإن نسي التسمية أول الأكل فليسم آخره؛ وروى النسائي عن أمية بن مخشي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل ولم يسم الله، فلما كان في آخر لقمة قال: بسم الله أوله وآخره؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زال الشيطان يأكل معه فلما سمى قاء ما أكله" .
التاسعة عشرة- قوله تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أمر بالتقوى على الجملة، والإشارة القريبة هي ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر. وسرعة الحساب هي من حيث كونه تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا؛ فلا يحتاج إلى محاولة عد ولا عقد كما يفعله الحساب؛ ولهذا قال: { وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } فهو سبحانه يحاسب الخلائق دفعة واحدة. ويحتمل أن يكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال: إن حساب الله لكم سريع إتيانه؛ إذ يوم القيامة قريب، ويحتمل أن يريد بالحساب المجازاة؛ فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتقوا الله.
5- { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
فيه عشر مسائل:
الأولى- قوله تعالى: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ، أي { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } و { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } فأعاد تأكيدا أي أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها؛ وكانت

الطيبات أبيحت للمسلمين قبل نزول هذه الآية؛ فهذا جواب سؤالهم إذ قالوا: ماذا أحل لنا ؟. وقيل: أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم كما يقال: هذه أيام فلان؛ أي هذا أوان ظهوركم وشيوع الإسلام؛ فقد أكملت بهذا دينكم، وأحللت لكم الطيبات. وقد تقدم ذكر الطيبات في الآية قبل هذا
الثانية- قوله تعالى: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } ابتداء وخبر. والطعام اسم لما يؤكل والذبائح منه، وهو هنا خاص بالذبائح عند كثير من أهل العلم بالتأويل. وأما ما حرم علينا من طعامهم فليس بداخل تحت عموم الخطاب؛ قال ابن عباس: قال الله تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } ، ثم استثنى فقال: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } يعني ذبيحة اليهودي والنصراني؛ وإن كان النصراني يقول عند الذبح: باسم المسيح واليهودي يقول: باسم عزير؛ وذلك لأنهم يذبحون على الملة. وقال عطاء: كل من ذبيحة النصراني وإن قال باسم المسيح؛ لأن الله جل وعز قد أباح ذبائحهم، وقد علم ما يقولون. وقال القاسم بن مخيمرة: كل من ذبيحته وإن قال باسم سرجس - اسم كنيسة لهم - وهو قول الزهري وربيعة والشعبي ومكحول؛ وروي عن صحابيين: عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت. وقالت طائفة: إذا سمعت الكتابي يسمي غير اسم الله عز وجل فلا تأكل؛ وقال بهذا من الصحابة علي وعائشة وابن عمر؛ وهو قول طاوس والحسن متمسكين بقوله تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } . وقال مالك: أكره ذلك، ولم يحرمه.
قلت: العجب من الكيا الطبري الذي حكى الاتفاق على جواز ذبيحة أهل الكتاب، ثم أخذ يستدل بذلك على أن التسمية على الذبيحة ليست بشرط فقال: ولا شك أنهم لا يسمون على الذبيحة إلا الإله الذي ليس معبودا حقيقة مثل المسيح وعزير، ولو سموا الإله حقيقة لم تكن تسميتهم على طريق العبادة، وإنما كان على طريق آخر؛ واشتراط التسمية لا على وجه العبادة لا يعقل، ووجود التسمية من الكافر وعدمها بمثابة واحدة؛ إذا لم تتصور منه العبادة، ولأن النصراني إنما يذبح على اسم المسيح، وقد حكم الله بحل ذبائحهم مطلقا، وفي ذلك دليل على أن

التسمية لا تشترط أصلا كما يقول الشافعي، وسيأتي ما في هذا للعلماء في {الأنعام} إن شاء الله تعالى.
الثالثة- ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام الذي لا محاولة فيه كالفاكهة والبر جائز أكله؛ إذ لا يضر فيه تملك أحد. والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين: أحدهما: ما فيه محاولة صنعة لا تعلق للدين بها؛ كخبز الدقيق، وعصر الزيت ونحوه؛ فهذا إن تجنب من الذمي فعلى وجه التقزز. والضرب الثاني: هي التذكية التي ذكرنا أنها هي التي تحتاج إلى الدين والنية؛ فلما كان القياس إلا تجوز ذبائحهم - كما نقول إنهم لا صلاة لهم ولا عبادة مقبولة - رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة، وأخرجها النص عن القياس على ما ذكرناه من قول ابن عباس؛ والله أعلم
الرابعة- واختلف العلماء أيضا فيما ذكوه هل تعمل الذكاة فيما حرم عليهم أولا ؟ على قولين؛ فالجمهور على أنها عاملة في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه، لأنه مذكى. وقالت جماعة من أهل العلم: إنما حل لنا من ذبيحتهم ما حل لهم؛ لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم؛ فمنعت هذه الطائفة الطريف، والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب؛ وقصرت لفظ الطعام على البعض، وحملته الأولى على العموم في جميع ما يؤكل. وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك. قال أبو عمر: وكره مالك شحوم اليهود وأكل ما نحروا من الإبل، وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا؛ وسيأتي هذا في {الأنعام} إن شاء الله تعالى؛ وكان مالك رحمه الله يكره ما ذبحوه إذا وجد ما ذبحه المسلم، وكره أن يكون لهم أسواق يبيعون فيها ما يذبحون؛ وهذا منه رحمه الله تنزه
الخامسة- وأما المجوس فالعلماء مجمعون - إلا من شذ منهم - على أن ذبائحهم لا تؤكل، ولا يتزوج منهم؛ لأنهم ليسوا أهل كتاب على المشهور عند العلماء. ولا بأس يأكل

طعام من لا كتاب له كالمشركين وعبدة الأوثان ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة؛ إلا الجبن؛ لما فيه من إنفحة الميتة. فإن كان أبو الصبي مجوسيا وأمه كتابية فحكمه حكم أبيه عند مالك، وعند غيره لا تؤكل ذبيحة الصبي إذا كان أحد أبويه ممن لا تؤكل ذبيحته
السادسة- وأما ذبيحة نصارى بني تغلب وذبائح كل دخيل في اليهودية والنصرانية فكان علي رضي الله عنه ينهى عن ذبائح بني تغلب؛ لأنهم عرب، ويقول: إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر؛ وهو قول الشافعي؛ وعلى هذا فليس ينهى عن ذبائح النصارى المحققين منهم. وقال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني حلال؛ سواء كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهودي. واحتج ابن عباس بقوله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } فلو لم تكن بنو تغلب من النصارى إلا بتوليهم إياهم لأكلت ذبائحهم
السابعة- ولا بأس بالأكل والشرب والطبخ في آنية الكفار كلهم، ما لم تكن ذهبا أو فضة أو جلد خنزير بعد أن تغسل وتغلى؛ لأنهم لا يتوقون النجاسات ويأكلون الميتات؛ فإذا طبخوا في تلك القدور تنجست، وربما سرت النجاسات في أجزاء دور الفخار؛ فإذا طبخ فيها بعد ذلك توقع مخالطة تلك الأجزاء النجسة للمطبوخ في القدد ثانية؛ فاقتضى الورع الكف عنها. وروي عن ابن عباس أنه قال: إن كان الإناء من نحاس أو حديد غسل، وإن كان من فخار أغلي فيه الماء ثم غسل - هذا إذا احتيج إليه - وقاله مالك؛ فأما ما يستعملونه لغير الطبخ فلا بأس باستعماله من غير غسل؛ لما روى الدارقطني عن عمر أنه توضأ من بيت نصراني في حق نصرانية؛ وهو صحيح وسيأتي في { الْفُرْقَانَ } بكماله. وفي صحيح مسلم من حديث أبي ثعلبة الخشني قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم من أهل كتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد، أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم، وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم؛ فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك؟ قال: "أما ما ذكرت

أنكم بأرض قوم من أهل كتاب تأكلون في آنيتهم فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها" ثم ذكر الحديث.
الثامنة- قوله تعالى: { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } دليل على أنهم مخاطبون بتفاصيل شرعنا؛ أي إذا اشتروا منا اللحم يحل لهم اللحم ويحل لنا الثمن المأخوذ منهم.
التاسعة- قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية. قد تقدم معناها في {البقرة} و{النساء} والحمد لله. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } . هو على العهد دون دار الحرب فيكون خاصا. وقال غيره: يجوز نكاح الذمية والحربية لعموم الآية. وروي عن ابن عباس أنه قال: {الْمُحْصَنَاتُ} العفيفات العاقلات. وقال الشعبي: هو أن تحصن فرجها فلا تزني، وتغتسل من الجنابة. وقرأ الشعبي { وَالْمُحْصِنَاتُ } بكسر الصاد، وبه قرأ الكسائي. وقال مجاهد: { وَالْمُحْصَنَاتُ } الحرائر؛ قال أبو عبيد: يذهب إلى أنه لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: { فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } وهذا القول الذي عليه جلة العلماء
العاشرة- قوله تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ } قيل: لما قال تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } قال نساء أهل الكتاب: لولا أن الله تعالى رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا؛ فنزلت { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ } أي بما أنزل على محمد. وقال أبو الهيثم: الباء صلة؛ أي ومن يكفر الإيمان أي يجحده { فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وقرأ ابن السميقع { فَقَدْ حَبَطَ } بفتح الباء. وقيل: لما ذكرت فرائض وأحكام يلزم القيام بها، ذكر الوعيد على مخالفتها؛ لما في ذلك من تأكيد الزجر عن تضييعها. وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المعنى: ومن يكفر بالله؛ قال الحسن بن الفضل: إن صحت هذه الرواية فمعناها برب الإيمان. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: ولا يجوز أن يسمى الله إيمانا خلافا للحشوية والسالمية؛ لأن

الإيمان مصدر آمن يؤمن إيمانا، واسم الفاعل منه مؤمن؛ والإيمان التصديق، والتصديق لا يكون إلا كلاما، ولا يجوز أن يكون الباري تعالى كلاما.
6- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فيه أثنتان وثلاثون مسألة:
الأولى- ذكر القشيري وابن عطية أن هذه الآية نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد في غزوة المريسيع، وهي آية الوضوء. قال ابن عطية: لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا، فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم. وقد ذكرنا في آية {النساء} خلاف هذا، والله أعلم. ومضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع، وفيما ذكر من إتمام النعمة؛ فإن هذه الرخصة من إتمام النعم.
الثانية- واختلف العلماء في المعنى المراد بقوله: { قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } على أقوال؛ فقالت طائفة: هذا لفظ عام في كل قيام إلى الصلاة، سواء كان القائم متطهرا أو محدثا؛ فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ، وكان علي يفعله ويتلو هذه الآية؛ ذكره أبو محمد الدرامي في مسنده. وروي مثله عن عكرمة. وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة.

قلت: فالآية على هذا محكمة لا نسخ فيها. وقالت طائفة: الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه؛ فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث. وقال علقمة بن الفغواء عن أبيه - وهو من الصحابة، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وملم إلى تبوك: نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء، ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك؛ فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو قيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال. وقالت طائفة: المراد بالآية الوضوء لكل صلاة طلبا للفضل؛ وحملوا الأمر على الندب، وكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر يتوضؤون لكل صلاة طلبا للفضل، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد، إرادة البيان لأمته صلى الله عليه وسلم.
قلت: وظاهر هذا القول أن الوضوء لكل صلاة قبل ورود الناسخ كان مستحبا لا إيجابا وليس كذلك؛ فإن الأمر إذا ورد، مقتضاه الوجوب؛ لا سيما عند الصحابة رضوان الله عليهم، على ما هو معروف من سيرتهم. وقال آخرون: إن الفرض في كل وضوء كان لكل صلاة ثم نسخ في فتح مكة؛ وهذا غلط لحديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، وأن أمته كانت على خلاف ذلك، وسيأتي؛ ولحديث سويد بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو بالصهباء العصر والمغرب بوضوء واحد؛ وذلك في غزوة خيبر، وهي سنة ست، وقيل: سنة سبع، وفتح مكة كان في سنة ثمان؛ وهو حديث صحيح رواه مالك في موطئه، وأخرجه البخاري ومسلم؛ فبان بهذين الحديثين أن الفرض لم يكن قبل الفتح لكل صلاة. فإن قيل: فقد روى مسلم عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر رضي الله عنه: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن

تصنعه؛ فقال: "عمدا صنعته يا عمر" فلم سأله عمر واستفهمه؟ قيل له: إنما سأله لمخالفته عادته منذ صلاته بخيبر؛ والله أعلم. وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا وغير طاهر؛ قال حميد: قلت لأنس: وكيف كنتم تصنعون أنتم؟ قال: كنا نتوضأ وضوءا واحدا؛ قال: حديث حسن صحيح؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"الوضوء على الوضوء نور" فكان عليه السلام يتوضأ مجددا لكل صلاة، وقد سلم عليه رجل وهو يبول فلم يرد عليه حتى تيمم ثم رد السلام وقال :"إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" رواه الدارقطني. وقال السدي وزيد بن أسلم: معنى الآية { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } يريد من المضاجع يعني النوم، والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر، ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو حدث في نفسه أم لا؟ وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير؛ التقدير: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء - يعني الملامسة الصغرى - فاغسلوا؛ فتمت أحكام المحدث حدثا أصغر. ثم قال: { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } فهذا حكم نوع آخر؛ ثم قال للنوعين جميعا: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } . وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك - رحمه الله - وغيره. وقال جمهور أهل العلم: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين؛ وليس في الآية على هذا تقديم وتأخير، بل ترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله: { فَاطَّهَّرُوا } ودخلت الملامسة الصغرى في قوله "محدثين". ثم ذكر بعد قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } حكم عادم الماء من النوع جميعا، وكانت الملامسة هي الجماع، ولا بد أن يذكر الجنب العادم الماء كما ذكر الواجد؛ وهذا تأويل الشافعي وغيره؛ وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى الأشعري وغيرهم.
قلت: وهذان التأويلان أحسن ما قيل في الآية؛ والله أعلم. ومعنى { إِذَا قُمْتُمْ } إذا أردتم، كما قال تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ } ، أي إذا أردت؛ لأن الوضوء حالة القيام إلى الصلاة لا يمكن

الثالثة- قوله تعالى: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ذكر تعالى أربعة أعضاء: الوجه وفرضه الغسل واليدين كذلك والرأس وفرضه المسح اتفاقا واختلف في الرجلين على ما يأتي، لم يذكر سواها فدل ذلك على أن ما عداها آداب وسنن. والله أعلم. ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه، وإمرار اليد عليه؛ وهذه حقيقة الغسل عندنا، وقد بيناه في {النساء}. وقال غيرنا: إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دلك بيده؛ ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يدلك يقال: غسل وجهه ويده، ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم، فإذا حصل كفى. والوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض؛ فحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، ومن الأذن إلى الأذن في العرض، وهذا في الأمرد؛ وأما الملتحي فإذا اكتسى الذقن بالشعر فلا يخلو أن يكون خفيفا أو كثيفا؛ فإن كان الأول بحيث تبين منه البشرة فلا بد من إيصال الماء إليها، وإن كان كثيفا فقد انتقل الفرض إليه كشعر الرأس؛ ثم ما زاد على الذقن من الشعر واسترسل من اللحية، فقال سحنون عن ابن القاسم: سمعت مالكا سئل: هل سمعت بع أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه فليمر عليها الماء؟ قال: نعم، وتخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله. وذكر ابن القاسم أيضا عن مالك قال: يحرك المتوضئ ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها؛ قال: وهي مثل أصابع الرجلين. قال ابن عبدالحكم: تخليل اللحية واجب في الوضوء والغسل. قال أبو عمر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في الوضوء من وجوه كلها ضعيفة. وذكر ابن خويز منداد: أن الفقهاء اتفقوا على أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء، إلا شيء روي عن سعيد بن جبير؛ قوله: ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها، وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية؟ قال الطحاوي: التيمم واجب فيه مسح البشرة قبل نبات الشعر في الوجه ثم سقط بعده عند جميعهم. فكذلك الوضوء. قال أبو عمر: من جعل غسل اللحية كلها واجبا جعلها وجها؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، والله قد أمر بغسل الوجه أمرا مطلقا لم يخص صاحب لحية من أمرد؛ فوجب غسلها بظاهر القرآن لأنها بدل من البشرة.

قلت: واختار هذا القول ابن العربي وقال: وبه أول؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل لحيته، خرجه الترمذي وغيره؛ فعين المحتمل بالفعل. وحكى ابن المنذر عن إسحاق أن من ترك تخليل لحيته عامدا أعاد. وروى الترمذي عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته؛ قال: هذا حديث حسن صحيح؛ قال أبو عمر: ومن لم يوجب غسل ما انسدل من اللحية ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله البشرة، فوجب غسل ما ظهر فوق البشرة، وما انسدل من اللحية ليس تحته ما يلزم غسله، فيكون غسل اللحية بدلا منه. واختلفوا أيضا في غسل ما وراء العذار إلى الأذن؛ فروى ابن وهب عن مالك قال: ليس ما خلف الصدغ الذي من وراء شعر اللحية إلى الذقن من الوجه. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: البياض بين العذار والأذن من الوجه. وغسله واجب؛ ونحوه قال الشافعي وأحمد. وقيل: يغسل البياض استحبابا؛ قال ابن العربي: والصحيح عندي أنه لا يلزم غسله إلا للأمرد لا للمعذر.
قلت: وهو اختيار القاضي عبدالوهاب؛ وسبب الخلاف هل تقع عليه المواجهة أم لا؟ والله أعلم. وبسبب هذا الاحتمال اختلفوا هل يتناول الأمر بغسل الوجه باطن الأنف والفم أم لا؟ فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما إلى وجوب ذلك في الوضوء والغسل، إلا أن أحمد قال: يعيد من ترك الاستنشاق في وضوئه ولا يعيد من ترك المضمضة. وقال عامة الفقهاء: هما سنتان في الوضوء والغسل؛ لأن الأمر إنما يتناول الظاهر دون الباطن، والعرب لا تسمي وجها إلا ما وقعت به المواجهة، ثم إن الله تعالى لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما المسلمون، ولا أتفق الجميع عليه؛ والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه. وقد مضى هذا المعنى في {النساء}. وأما العينان فالناس كلهم مجمعون على أن داخل العينين لا يلزم غسله، إلا ما روي عن عبدالله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه؛ وإنما سقط غسلهما للتأذي

بذلك والحرج به؛ قال ابن العربي: ولذلك كان عبدالله بن عمر لما عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى بذلك؛ وإذا تقرر هذا من حكم الوجه فلا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير تحديد، كما لا بد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدر؛ وهذا ينبني على أصل من أصول الفقه وهو: "أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب مثله" والله أعلم.
الرابعة- وجمهور العلماء على أن الوضوء لا بد فيه من نية؛ لقول عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" قال البخاري: فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام؛ وقال الله تعالى: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } ، يعني على نيته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولكن جهاد ونية" وقال كثير من الشافعية: لا حاجة إلى نية؛ وهو قول الحنفية؛ قالوا: لا تجب النية إلا في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سببا لغيرها، فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقارنه، والطهارة شرط؛ فإن من لا صلاة عليه لا يجب عليه فرض الطهارة، كالحائض والنفساء. احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } فلما وجب فعل الغسل كانت النية شرطا في صحة الفعل؛ أن الفرض من قبل الله تعالى فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به؛ فإذا قلنا: إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى، ومعلوم أن الذي اغتسل تبردا أو لغرض ما، قصد أداء الواجب؛ وصح في الحديث أن الوضوء يكفر؛ فلو صح بغير نية لما كفر. وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }
الخامسة- قال ابن العربي، قال بعض علمائنا: إن من خرج إلى النهر بنية الغسل أجزأه، وإن عزبت نيته في الطريق، ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بطلت النية. قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: فركب على هذا سفاسفة المفتين أن نية الصلاة تتخرج على القولين، وأوردوا فيها نصا عمن لا يفرق بين الظن واليقين بأنه قال:

يجوز أن تتقدم فيها النية على التكبير؛ ويا لله ويا للعالمين من أمة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة فما وفقها الله ولا سددها؛ اعلموا رحمكم الله أن النية في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء، وقد اختلف فيها قول مالك؛ فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح في تقديمها في بعض المواضع، فأما الصلاة فلم يختلف أحد من الأئمة فيها، وهي أصل مقصود، فكيف يحمل الأصل المقصود المتفق عليه على الفرع التابع المختلف فيه! هل هذا إلا غاية الغباوة؟ وأما الصوم فإن الشرع رفع الحرج فيه لا كان ابتداؤه في وقت الغفلة بتقديم النية عليه
السادسة- قوله تعالى: { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } واختلف الناس في دخول المرافق في التحديد؛ فقال قوم: نعم؛ لأن ما بعد { إِلى } إذا كان من نوع ما قبلها دخل فيه؛ قال سيبويه وغيره، وقد مضى هذا في {البقرة} مبينا. وقيل: لا يدخل المرفقان في الغسل؛ والروايتان مرويتان عن مالك؛ الثانية لأشهب؛ والأولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح؛ لما رواه الدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. وقد قال بعضهم: إن { إِلى } بمعنى مع، كقولهم: الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود، وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه في {النساء}؛ ولأن اليد عند العرب تقع على أطراف الأصابع إلى الكتف، وكذلك الرجل تقع على الأصابع إلى أصل الفخذ؛ فالمرفق داخل تحت اسم اليد، فلو كان المعنى مع المرافق لم يفد، فلما قال: { إِلى } اقتطع من حد المرافق عن الغسل، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر، وهذا كلام صحيح يجري على الأصول لغة ومعنى؛ قال ابن العربي: وما فهم أحد مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قان: إن قوله { إِلَى الْمَرَافِقِ } حد للمتروك من اليدين لا للمغسول فيه؛ ولذلك تدخل المرافق في الغسل.
قلت: وما كان اليد والرجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا كان أبو هريرة يبلغ بالوضوء إبطه وساقه ويقول: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن

حيث يبلغ الوضوء" . قال القاضي عياض: والناس مجمعون على خلاف هذا، وألا يتعدى بالوضوء حدوده؛ لقوله عليه السلام: "فمن زاد فقد تعدى وظلم" وقال غيره: كان هذا الفعل مذهبا له ومما انفرد به، ولم يحكه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما استنبطه من قوله عليه السلام: "أنتم الغر المحجلون" ومن قوله: "تبلغ الحلية" كما ذكر.
السابعة- قوله تعالى: { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ } تقدم في {النساء} أن المسح لفظ مشترك. وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذكره الله عز وجل في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم؛ وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه؛ فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال: أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه؟ ووضح بهذا الذي ذكرناه أن الأذنين من الرأس، وأن حكمهما حكم الرأس خلافا للزهري، حيث قال: هما من الوجه يغسلان معه، وخلافا للشعبي، حيث قال: ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس؛ وهو قول الحسن وإسحاق، وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعي، وسيأتي بيان حجتهما؛ وإنما سمي الرأس رأسا لعلوه ونبات الشعر فيه، ومنه رأس الجبل؛ وإنما قلنا إن الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر:
إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
الثامنة- واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولا؛ ثلاثة لأبي حنيفة، وقولان للشافعي، وستة أقوال لعلمائنا؛ والصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرناه. وأجمع العلماء على أن مسح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه؛ والباء مؤكدة زائدة ليست للتبعيض: والمعنى وامسحوا رؤوسكم. وقيل: دخولها حسن كدخولها في التيمم

في قوله: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ } فلو كان معناها التبعيض لإفادته في ذلك الموضع، وهذا قاطع. وقيل: إنما دخلت لتفيد معنى بديعا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به؛ فلو قال: وامسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس؛ فدخلت الباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء؛ وذلك فصيح في اللغة على وجهين؛ إما على القلب كما أنشد سيبويه:
كنواح ريش حمامة بخديه ... ومسحت باللثتين عصف الإثمد
واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد فقلب، وإما على الاشتراك في الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر:
مثل القنافذ هداجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سوءاتهم هجر
فهذا ما لعلمائنا في معنى الباء. وقال الشافعي: احتمل قول الله تعالى: { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ } بعض الرأس ومسح جميعه فدلت السنة أن مسح بعضه يجزئ، وهو أن النبي صلى الله علبه وسلم مسح بناصيته؛ وقال في موضع آخر: فإن قيل قد قال الله عز وجل: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ } في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه؟ قيل له: مسح الوجه في التيمم بدل من غسله؛ فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل؛ فهذأ فرق ما بينهما. أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا: لعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظنة الأعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، وحذف كثير من الفرائض لأجل المشقات والأخطار؛ ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة؛ أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة؛ فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجبا لما مسح على العمامة؛ والله أعلم

التاسعة- وجمهور العلماء على أن مسحة واحدة موعبة كاملة تجزئ. وقال الشافعي: يمسح رأسه ثلاثا؛ وروي عن أنس وسعيد بن جبير وعطاء. وكان ابن سيرين يمسح مرتين. قال أبو داود: وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة؛ فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا، قالوا فيها: ومسح برأسه ولم يذكروا عددا.
العاشرة- واختلفوا من أين يبدأ بمسحه؛ فقال مالك: يبدأ بمقدم رأسه، ثم يذهب بيديه إلى مؤخره، ثم يردهما إلى مقدمه؛ على حديث عبدالله بن زيد أخرجه مسلم؛ وبه يقول الشافعي وابن حنبل. وكان الحسن بن حي يقول: يبدأ مؤخر الرأس؛ على حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء؛ وهو حديث يختلف في ألفاظه، وهو يدور. على عبدالله بن محمد بن عقيل وليس بالحافظ عندهم؛ أخرجه أبو داود من رواية بشر بن المفضل عن عبدالله عن الربيع، وروي ابن عجلان عنه عن الربيع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندنا فمسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية بمنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته؛ ورويت هذه الصفة عن ابن عمر، وأنه كان يبدأ من وسط رأسه. وأصح ما في هذا الباب حديث عبدالله بن زيد؛ وكل من أجاز بعض الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدم الرأس. وروي عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا: أي نواحي رأسك مسحت أجزأ عنك. ومسح عمر اليافوخ فقط. والإجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معا، وعلى الإجزاء إن مسح بيد واحدة. واختلف فيمن مسح بإصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس؛ فالمشهور أن ذلك يجزئ، وهو قول سفيان الثوري؛ قال سفيان: إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه. وقيل: إن ذلك لا يجزئ؛ لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب، إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا تل يختلف في الإجزاء. قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع؛ واختلفوا في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة - بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن - فالجمهور على أنه سنة. وقيل: هو فرض

الحادية عشرة- فلو غسل متوضئ رأسه بدل المسح فقال ابن العربي: لا نعلم خلافا أن ذلك يجزئه، إلا ما أخبرنا الإمام فخر الإسلام الشاشي في الدرس عن أبي العباس ابن القاص من أصحابهم قال: لا يجزئه، وهذا تولج في مذهب الداودية الفاسد من أتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمه الله في قوله: { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، وقال تعالى: { أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ } وإلا فقد جاء هذا الغسل بما أمر وزيادة. فإن قيل: هذه زيادة خرجت عن اللفظ المتعبد به؛ قلنا: ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل؛ وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح.
الثانية عشرة- وأما الأذنان فهما الرأس عند مالك وأحمد والثوري وأبي حنيفة وغيرهم، ثم اختلفوا في تجديد الماء؛ فقال مالك وأحمد: يستأنف لهما ماء جديدا سوى الماء الذي مسح به الرأس، على ما فعل ابن عمر؛ وهكذا قال الشافعي في تجديد الماء، وقال: هما سنة على حالهما لا من الوجه ولا من الرأس؛ لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج؛ وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعي. وقال الثوري وأبو حنيفة: يمسحان مع الرأس بماء واحد؛ وروي عن جماعة من السلف مثل هذا القول من الصحابة والتابعين. وقال داود: إن مسح أذنيه فحسن، وإلا فلا شيء عليه؛ إذ ليستا مذكورتين في القرآن. قيل له: اسم الرأس تضمنهما كما بيناه. وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في كتاب النسائي وأبي داود وغيرهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه في صماخيه، وإنما يدل عدد ذكرهما من الكتاب على أنهما ليستا بفرض كغسل الوجه واليدين، وثبتت سنة مسحهما بالسنة. وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق فإنه قال: إن ترك مسح أذنيه لم يجزه. وقال أحمد: إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد. وروي عن علي بن زياد من أصحاب مالك أنه قال: من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامدا أعاد؛ وهذا عند الفقهاء ضعيف، وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر، ولو كان كذلك لم يعرف

الفرض الواجب من غيره؛ والله أعلم. احتج قال: هما من الوجه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره" فأضاف السمع إلى الوجه فثبت أن يكون لهما حكم الوجه. وفى مصنف أبي داود من حديث عثمان: فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة، ثم غسل رجليه ثم قال: أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. احتج من قال: يغسل ظاهرهما مع الوجه، وباطنها يمس مع الرأس بأن الله عز وجل قد أمر بغسل الوجه وأمر بمسح الرأس؛ فما واجهك من الأذنين وجب غسله؛ لأنه من الوجه وما لم يواجهك وجب مسحه لأنه من الرأس، وهذا ترده الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والربيع وغيرهم. احتج من قال: هما من الرأس بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث الصنابحي: "فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج أذنيه" الحديث أخرجه مالك.
الثالثة عشرة- قوله تعالى: { وَأَرْجُلَكُمْ } قرأ نافع وابن عامر والكسائي { وَأَرْجُلَكُمْ } بالنصب؛ وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ { وَأَرْجُلُكُمْ } بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة { وَأَرْجُلِِِِكُمْ } بالخفض ويحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون؛ فمن قرأ بالنصب جعل العام { اغْسِلُوا } وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، واللازم من قول في غير ما حديث، وقد رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته "ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء" ثم إن الله حدهما فقال: { إِلَى الْكَعْبَيْنِ } كما قال في اليدين { إِلَى الْمَرَافِقِ } فدل على وجوب غسلهما؛ والله أعلم. ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء، قال ابن العربي: اتفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الخفض

قلت: قد روي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان. وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيهما. فسمع ذلك أنس بن مالك فقال: صدق الله وكذب الحجاج؛ قال الله وتعالى: { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } . قال: وكان إذا مسح رجليه بلهما، وروي عن أنس أيضا أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل. وكان عكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيه المسح. وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح؛ ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا، ويلغي ما كان مسحا. وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسح. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين؛ قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه؛ أن المسح والغسل واجبان جميعا، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين. قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل.
قلت: وهو الصحيح؛ فإن لفظ المسح مشترك، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل؛ قال الهروي: أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال: المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه: قد تمسح؛ ويقال: مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب، فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال: إن المراد بقراءة الخفض الغسل؛ بقراءة النصب التي لا احتمال فيها، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل، والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة أخرجها الأئمة؛ ثم إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرجلين، التقدير فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم؛ فلما كان الرأس مفعولا قبل

الرجلين قدم عليهما في التلاوة - والله أعلم - لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدمه عليهما في صفة التطهير. وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: قرأ الحسن والحسين - رحمة الله عليهما – علي { وَأَرْجُلِكُمْ } فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال: { وَأَرْجُلَكُمْ } هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: اغسلوا الأقدام إلى الكعبين. وكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرأ { وَأَرْجُلَكُمْ } بالنصب. وقد قيل: إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيد لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي غسل فيه الرجل والحال التي تمسح فيه، وهذا حسن. فإن قيل: إن المسح على الخفين منسوخ بسورة {المائدة} - وقد قال ابن عباس، ورد المسح أبو هريرة وعائشة، وأنكره مالك في رواية عنه - فالجواب أن من نفى شيئا وأثبته غيره فلا حجة للنافي، وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من الصحابة وغيرهم، وقد قال الحسن: حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين؛ وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال: بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه؛ قال إبراهيم النخعي: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. وقال إبراهيم النخعي: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول {المائدة} وهذا نص يرد ما ذكروه وما احتجوا به من رواية الواقدي عن عبدالحميد بن جعفر عن أبيه أن جريرا أسلم في ستة عشر من شهر رمضان، وأن {المائدة} نزلت في ذي الحجة يوم عرفات، وهذا حديث لا يثبت لوهاه ؟؟؛ وإنما نزل منها يوم عرفة { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } على ما تقدم؛ قال أحمد بن حنبل: أنا استحسن حديث جرير في المسح على الخفين؛ لأن إسلامه كان بعد نزول {المائدة} وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح، أما عائشة فلم يكن عندها بذلك علم؛ ولذلك ردت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقالت: سله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الحديث.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44