كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

الثالثة- لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة ولله أن يفعل ما يشاء وقد قال {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقول ثانية {قُلْنَا اهْبِطُوا} وسيأتي.
الرابعة- قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} ابتداء وخبر، أي موضع استقرار. قاله أبو العالية وابن زيد. وقال السدي: "مستقر" يعني القبور.
قلت: وقول الله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً} [النمل: 61] يحتمل المعنيين. والله أعلم.
الخامسة- قوله تعالى: {وَمَتَاعٌ} المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك، ومنه سميت متعة النكاح لأنها يتمتع بها وأنشد سليمان بن عبدالملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه:
وقفت على قبر غريب بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق
السادسة- قوله تعالى: {إِلَى حِينٍ} اختلف المتأولون في الحين على أقوال، فقالت فرقة إلى الموت وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا وقيل إلى قيام الساعة، وهذا قول من يقول المستقر هو القبور وقال الربيع "إلى حين" إلى أجل والحين الوقت البعيد فحينئذ تبعيد من قولك الآن قال خويلد:
كأبي الرماد عظيم القدر جفنته ... حين الشتاء كحوض المنهل اللقف
لقف الحوض لقفا، أي تهور من أسفله واتسع. وربما أدخلوا عليه التاء قال أبو وجزة:
العاطفون تحين ما من عاطف ...
والمطعمون زمان أين المطعم

والحين أيضا: المدة ومنه قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] والحين الساعة قال الله تعالى {أو تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ} [الزمر: 58] قال ابن عرفة الحين القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها وقوله "فذرهم في غمرتهم حتى حين} [المؤمنون: 54] أي حتى تفنى آجالهم وقوله تعالى {تؤتي أكلها كل حين} [إبراهيم: 25] أي كل سنة وقيل بل كل ستة أشهر وقيل بل غدوة وعشيا قال الأزهري ال تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ حين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت. والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت ولا ينقطع نفعها البتة قال والحين يوم القيامة. والحين الغدوة والعشية قال الله تعالى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] ويقال عاملته محاينة من الحين وأحينت بالمكان إذا أقمت به حينا وحان حين كذا أي قرب. قالت بثينة:
وإن سُلُوّي عن جميل لساعة من ... الدهر ما حانت ولا حان حينها
السابعة- لما اختلف أهل اللسان في الحين اختلف فيه أيضا علماؤنا وغيرهم في فقال الفراء الحين حينان حين لا يوقف على حده والحين الذي ذكر الله جل ثناؤه {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] ستة أشهر: قال ابن العربي الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف وأكثر المعلوم سنة. ومالك يرى في الأحكام والأيمان أعم الأسماء والأزمنة والشافعي يرى الأقل وأبو حنيفة توسط فقال ستة أشهر. ولا معنى لقوله لأن المقدرات عنده لا تثبت قياسا وليس فيه نص عن صاحب الشريعة وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة فمن نذر أن يصلي حينا فيحمل على ركعة عند الشافعي لأنه أقل النافلة قياسا على ركعة الوتر. وقال مالك وأصحابه أقل النافلة ركعتان فيقدر الزمان بقدر الفعل وذكر ابن خويز منداد في أحكامه أن من حلف ألا يكلم فلانا حينا أولا يفعل كذا حينا أن الحين سنة قال واتفقوا في الأحكام أن من حلف ألا يفعل كذا حينا أولا يكلم فلانا حينا أن الزيادة على سنة لم تدخل في يمينه.

قلت: هذا الاتفاق إنما هو في المذهب. قال مالك رحمه الله: من حلف ألا يفعل شيئا إلى حين أو زمان أو دهر، فذلك كله سنة. وقال عنه ابن وهب: إنه شك في الدهر أن يكون سنة. وحكى ابن المنذر عن يعقوب وابن الحسن أن الدهر ستة أشهر. وعن ابن عباس وأصحاب الرأي وعكرمة وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبيدة في قوله تعالى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] أنه ستة أشهر وقال الأوزاعي وأبو عبيدالحين ستة أشهر وليس عند الشافعي في الحين وقت معلوم ولا للحين غاية قد يكون الحين عنده مدة الدنيا وقال لا نحنثه أبدا، والورع أن يقضيه قبل انقضاء يوم وقال أبو ثور وغيره الحين والزمان على ما تحتمله اللغة يقال قد جئت من حين ولعله لم يجئ من نصف يوم قال الكيا الطبري الشافعي وبالجملة الحين له مصارف ولم ير الشافعي تعيين محمل من هذه المحامل لأنه مجمل لم يوضع في اللغة لمعنى معين وقال بعض العلماء في قوله تعالى {إِلَى حِينٍ} قائدة بشارة إلى آدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب والله أعلم.
الآية: 37 {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} وفيه ثمان مسائل:
الأولى - قوله تعالى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} تلقى قيل معناه فهم وفطن. وقيل: قبل وأخذ وكان عليه السلام يتلقى الوحي أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه. تقول خرجنا نتلقى الحجيج أي نستقبلهم. وقيل معنى تلقى تلقن هذا في المعنى صحيح ولكن لا يجوز أن يكون التلقي من التلقن في الأصل لأن أحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا، مثل تظنوا من تظنن وتقصى من تقصص ومثله تسريت من تسررت، وأمليت من أمللت وشبه ذلك ولهذا لا يقال: تقبل من تقبل ولا تلقى من تلقن فاعلم. وحكى مكي أنه ألهمها فانتفع بها. وقال الحسن قبولها تعلمه لها وعمله بها.

الثانية- واختلف أهل التأويل في الكلمات، فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وعن مجاهد أيضا: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ربي ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم: وقالت طائفة رأى مكتوبا على ساق العرش "محمد رسول الله" فتشفع بذلك، فهي الكلمات. وقالت طائفة: المراد بالكلمات البكاء والحياء والدعاء وقيل: الندم والاستغفار والحزن. قال ابن عطية: وهذا يقتضي أن آدم عليه السلام لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود. وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقول المذنب فقال يقول ما قاله أبواه {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية وقال موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] وقال يونس {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] وعن ابن عباس ووهب بن منبه: أن الكلمات "سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي اغفر لي إنك خير الغافرين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم" وقال محمد بن كعب هي قوله: "لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أرحم الراحمين" وقيل: الكلمات قوله حين عطس "الحمد لله" والكلمات: جمع كلمة والكلمة تقع على القليل والكثير وقد تقدم:
الثالثة- قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي قبل توبته، أو وفقه للتوبة. وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم جمعة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وتاب العبد: رجع إلى طاعة ربه وعبد تواب: كثير الرجوع إلى الطاعة وأصل التوبة الرجوع يقال: تاب وثاب وأب وأناب: رجع.

الرابعة- إن قيل: لم قال "عليه" لم يقل عليهما وحواء مشاركة له في الذنب بإجماع وقد قال {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] و {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] فالجواب: أن آدم عليه السلام لما خاطب في أول القصة بقوله "اسكن" خصه بالذكر في التلقي فلذلك كملت القصة بذكره وحده وأيضا فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] وأيضا لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر لم تذكر كما لم يذكر فتى موسى مع موسى في قوله {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} [الكهف: 75] وقيل: إنه دل بذكر التوبة عليه أنه تاب عليها إذ أمرهما سواء، قاله الحسن. وقيل: إنه مثل قوله تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] أي التجارة لأنها كانت مقصود القوم فأعاد الضمير عليها ولم يقل إليهما والمعنى متقارب. وقال الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن فوق الطوي رماني
وفي التنزيل {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] فحذف إيجازا واختصارا
الخامسة- قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه التواب وتكرر في القرآن معرفا ومنكرا واسما وفعلا، وقد يطلق على العبد أيضا تواب قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. قال ابن العربي: ولعلمائنا في وصف الرب بأنه تواب ثلاثة أقوال أحدها: أنه يجوز في حق الرب سبحانه وتعالى فيدعى به كما في الكتاب والسنة ولا يتأول وقال آخرون: هو وصف حقيقي لله سبحانه وتعالى وتوبة الله على العبد رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة وقال آخرون: توبة الله على العبد قبوله توبته، وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى قبلت توبتك وأن يرجع إلى خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسيء وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة.

لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى: تائب اسم فاعل من تاب يتوب لنا أن نطلق عليه من الأسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيه عليه السلام أو جماعة المسلمين، وإن كان في اللغة محتملا جائزا. هذا هو الصحيح في هذا الباب على ما بيناه في "الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" قال الله تعالى {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 117] وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104] وإنما قيل لله عز وجل تواب، لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه.
السابعة- اعلم أنه ليس لأحد قدرة على خلق التوبة، لأن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بخلق الأعمال، خلافا للمعتزلة ومن قال بقولهم. وكذلك ليس لأحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه ولا أن يعفو عنه قال علماؤنا: وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدين {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] جل وعز، وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر أو الراهب فيعطيه شيئا ويحط عنه ذنوبه {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]
الثامنة- قرأ ابن كثير {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} والباقون برفع "آدم" ونصب "كلمات" والقراءتان ترجعان إلى معنى، لأن آدم إذا تلقي الكلمات فقد تلقته. وقيل لما كانت الكلمات هي المنقذة لآدم بتوفيق الله تعالى له لقبوله إياها ودعائه بها كانت الكلمات فاعله وكأن الأصل على هذه القراءة "فتلقت آدم من ربه كلمات" ولكن لما بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث. وهذا أصل يجري في كل القرآن والكلام إذ ا جاء فعل المؤنث بغير علامة ومنه قولهم: حضر القاضي اليوم امرأة. وقيل: إن الكلمات لما لم يكن تأنيثه حقيقيا حمل على معنى الكلم فذكر. وقرأ الأعمش "آدم من ربه" مدغما. وقرأ أبو نوفل بن أبي عقرب "أنه" بفتح الهمزة على معنى لأنه وكسر الباقون على الاستئناف. وأدغم الهاء في الهاء عمرو وعيسى وطلحة فيما حكى أبو حاتم عنهم وقيل لا يجوز؛

لأن بينهما واوا في اللفظ لا في الخط. قال النحاس أجاز سيبويه أن تحذف هذه الواو وأنشد:
له زجل كأنه صوت حاد ... إذا طلب الوسيقة أو زمير
فعلى هذا يجوز الإدغام وهو رفع بالابتداء "التواب" خبره والجملة خبر "إن" ويجوز أن يكون "هو" توكيدا للهاء ويجوز أن تكون فاصلة، على ما تقدم.
وقال سعيد بن جبير لما أهبط آدم إلى الأرض لم يكن فيها شيء غير النسر في البر والحوت في البحر فكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده فلما رأى النسر آدم قال: يا حوت لقد أهبط اليوم إلى الأرض شيء يمشى على رجليه ويبطش بيديه فقال الحوت: لئن كنت صادقا لي منه في البحر منجى ولا لك في البر منه مخلص.
الآية: 38 {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا} كرر الأمر على جهة التغليظ وتأكيده، كما تقول لرجل: قم قم. وقيل: كرر الأمر لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر فعلق بالأول العداوة وبالثاني إتيان الهدى. وقيل: الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض وعلى هذا يكون فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة كما دل عليه حديث الإسراء على ما يأتي
{جَمِيعاً} نصب على الحال وقال وهب بن منبه: لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال إبليس للسباع إن هذا عدو لكم فأهلكوه فاجتمعوا وولوا أمرهم إلى الكلب

وقالوا أنت أشجعنا وجعلوه رئيسا فلما رأى ذلك آدم عليه السلام تحير في ذلك فجاءه جبريل عليه السلام وقال له امسح يدك على رأس الكلب ففعل فلما رأت السباع أن الكلب ألف آدم تفرقوا واستأمنه الكلب فأمنه آدم فبقى معه ومع أولاده وقال الترمذي الحكيم نحو هذا وأن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم على آدم ليؤذوه وكان أشدهم عليه الكلب فأميت فؤاده فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه وألفه فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم وبموت فؤاده يفزع من الآدميين فلو رمي بمدر ولى هاربا ثم يعود آلفا لهم ففيه شعبة من إبليس وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويهر ويعدو على الآدمي وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم ولهثه على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب على ما يأتي بيانه في "الأعراف" إن شاء الله تعالى ونزلت عليه تلك العصا التي جعلها الله آية لموسى فكان يطرد بها السباع عن نفسه
قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} اختلف في معنى قوله "هدى" فقيل: كتاب الله قاله السدي وقيل التوفيق للهداية، وقالت فرقة: الهدى الرسل، وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر كما جاء في حديث أبي ذر وخرجه الآجري وفي قوله "مني" إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى خلافا للقدرية وغيرهم كما تقدم. وقرأ الجحدري "هديّ" وهو لغة هذيل يقولون: هدي وعصي ومحيي وأنشد النحويون لأبي ذؤيب يرثي بنيه
سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم ...
فتخرموا ولكل جنب مصرع

قال النحاس: وعلة هذه اللغة عند الخليل وسيبويه أن سبيل ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فلما لم يجز أن تتحرك الألف أبدلت ياء وأدغمت و"ما" في قوله إِمَّا {إما} زائدة على "إن" التي للشرط وجواب الشرط الفاء مع الشرط الثاني في قوله {فَمَنْ تَبِعَ} و"من" في موضع رفع بالابتداء و"تبع" في موضع جزم بالشرط "فلا خوف" جوابه قال سيبويه الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول وقال الكسائي {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} جواب الشرطين جميعا
قوله تعالى: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه والتخوف التنقص ومنه قوله تعالى {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب "فلا خوف" بفتح الفاء على التبرئة والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن "لا" لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد ويجوز أن تكون "لا" في قولك فلا خوف بمعنى ليس.
والحُزن والحَزَن ضد السرور ولا يكون إلا على ماض، وحزن الرجل "بالكسر" فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ومحزون بني عليه. قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما. واحتزن وتحزن بمعنىً، والمعنى في الآية فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. وقيل: ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا والله أعلم.
3 الآية: 39 {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} أي أشركوا، لقوله: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} الصحبة: الاقتران بالشيء في حالة ما في زمان ما فإن كانت الملازمة والخلطة فهي كمال الصحبة وهكذا هي صحبة أهل النار لها. وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة على ما نبينه في "براءة" إن شاء الله. وباقي ألفاظ الآية تقدم معناها والحمد لله.
الآية: 40 {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}
قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} نداء مضاف علامة النصب فيه الياء وحذفت منه النون للإضافة. الواحد ابن والأصل فيه بني وقيل بنو فمن قال المحذوف منه واو احتج بقولهم البنوة وهذا لا حجة فيه لأنهم قد قالوا الفتوة وأصله الياء. وقال الزجاج: المحذوف منه عندي ياء كأنه من بنيت. الأخفش اختار أن يكون المحذوف منه الواو لأن حذفها أكثر لثقلها ويقال ابن بين البنوة والتصغير بني. قال الفراء يقال يا بنيِّ ويا بنيَّ لغتان، مثل يا أبت ويا أبت وقرئ بهما وهو مشتق من البناء وهو وضع الشيء على الشيء والابن فرع للأب وهو موضوع عليه.
وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال أبو الفرج الجوزي وليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن له أسماء كثيرة ذكره في كتاب "فهوم الآثار" له
قلت: وقد قيل في المسيح أنه اسم علم لعيسى عليه السلام غير مشتق وقد سماه الله روحا وكلمة، وكانوا يسمونه أبيل الأبيلين، ذكره الجوهري في الصحاح. وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن الخليل بن أحمد: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين محمد وأحمد نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى والمسيح وإسرائيل ويعقوب ويونس وذو النون وإلياس وذو الكفل صلى الله عليهم وسلم.

قلت: ذكرنا أن لعيسى أربعة أسماء وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فله أسماء كثيرة بيانها في مواضعها. وإسرائيل: اسم أعجمي ولذلك لم ينصرف وهو في موضع خفض بالإضافة وفيه سبع لغات إسرائيل وهي لغة القرآن وإسرائيل بمدة مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ عن ورش وإسراييل بمدة بعد الياء من غير همز وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر، وقرأ الحسن والزهري بغير همز ولا مد وإسرائِل بغير ياء بهمزة مكسورة، وإسراءَل بهمزة مفتوحة، وتميم يقولون إسرائين بالنون. ومعنى إسرائيل عبدالله قال ابن عباس: إسرا بالعبرانية هو عبد وإيل هو الله، وقيل إسرا هو صفوة الله وإيل هو الله وقيل إسرا من الشد فكأن إسرائيل الذي شده الله وأتقن خلقه، ذكره المهدوي. وقال السهيلي: سمي إسرائيل لأنه أسرى ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى فسمي إسرائيل أي أسرى إلى الله، ونحو هذا فيكون بعض الاسم عبرانيا وبعضه موافقا للعرب والله أعلم.
قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} الذكر اسم مشترك، فالذكر بالقلب ضد النسيان والذكر باللسان ضد الإنصات وذكرت الشيء بلساني وقلبي ذكرا واجعله منك على ذكر "بضم الذال" أي لا تنسه. قال الكسائي: ما كان بالضمير فهو مضموم الذال وما كان باللسان فهو مكسور الذال. وقال غيره هما لغتان يقال ذِكر وذُكر، ومعناهما واحد والذكر "بفتح الذال" خلاف الأنثى، والذكر أيضا الشرف ومنه قوله {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف 44] قال ابن الأنباري والمعنى في الآية: اذكروا شكر نعمتي فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة. وقيل إنه أراد الذكر بالقلب وهو المطلوب أي لا تغفلوا عن نعمتي التي أنعمت عليكم ولا تناسوها وهو حسن. والنعمة هنا اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع قال الله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أي نعمه ومن نعمه عليهم أن أنجاهم من آل فرعون وجعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى وفجر لهم

في الحجر الماء إلى ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ورسالته والنعم على الآباء نعم على الأبناء لأنهم يشرفون بشرف آبائهم.
تنبيه: قال أرباب المعاني ربط سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النعمة وأسقطه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى ذكره فقال {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] ليكون نظر الأمم من النعمة إلى المنعم ونظر أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المنعم إلى النعمة.
قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أمر وجوابه. وقرأ الزهري "أوَفِّ" "بفتح الواو وشد الفاء" للتكثير. واختلف في هذا العهد ما هو فقال الحسن: عهده قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] وقوله {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12] وقيل هو قوله{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وقال الزجاج "أوفوا بعهدي" الذي عهدت إليكم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم "أوف بعهدكم" بما ضمنت لكم على ذلك إن أوفيتم به فلكم الجنة وقيل "أوفوا بعهدي" في أداء الفرائض على السنة والإخلاص "أوف" بقبولها منكم ومجازاتكم [في النسخة: مجاراتكم] عليها. وقال بعضهم "أوفوا بعهدي" في العبادات "أوف بعهدكم" أي أوصلكم إلى منازل الرعايات. وقيل "أوفوا بعهدي" في حفظ آداب الظواهر "أوف بعهدكم" بتزيين سرائركم وقيل هو عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة وغيره. هذا قول الجمهور من العلماء وهو الصحيح. وعهده سبحانه وتعالى هو أن يدخلهم الجنة.
قلت: وما طلب من هؤلاء من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا قال الله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النحل: 91]، وهو كثير ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم لا علة له بل ذلك تفضل منه عليهم
قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي خافون والرهب والرهب والرهبة الخوف ويتضمن الأمر به معنى التهديد وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية. وقرأ ابن

أبي إسحاق "فارهبوني" بالياء وكذا "فاتقوني" على الأصل "وإياي" منصوب بإضمار فعل وكذا الاختيار في الأمر والنهي والاستفهام، التقدير: وإياي ارهبوا فارهبون. ويجوز في الكلام وأنا فارهبون على الابتداء والخبر وكون "فارهبون" الخبر على تقدير الحذف، المعنى وأنا ربكم فارهبون.
3 الآية: 41 {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}
قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} أي صدقوا، يعني بالقرآن. {مُصَدِّقاً} حال من الضمير في "أنزلت"، التقدير بما أنزلته مصدقا، والعامل فيه أنزلت. ويجوز أن يكون حالا من ما والعامل فيه آمنوا التقدير آمنوا بالقران مصدقا. ويجوز أن تكون مصدرية التقدير آمنوا بإنزال. {لِمَا مَعَكُمْ} يعني من التوراة.
قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} الضمير في "به" قيل هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية. وقال ابن جريج: هو عائد على القرآن، إذ تضمنه قوله {بِمَا أَنْزَلْتُ} . وقيل: على التوراة، إذ تضمنها قوله: {لِمَا مَعَكُمْ} فإن قيل كيف قال "كافر" ولم يقل كافرين قيل التقدير ولا تكونوا أول فريق كافر به وزعم الأخفش والفراء أنه محمول على معنى الفعل لأن المعنى أول من كفر به. وحكى سيبويه هو أظرف الفتيان وأجمله وكان ظاهر الكلام هو أظرف فتى وأجمله وقال "أول كافر به" وقد كان قد كفر قبلهم كفار قريش فإنما معناه من أهل الكتاب إذ هم منظور إليهم في مثل هذا لأنهم حجة مظنون بهم علم. و"أول" عند سيبويه نصب على خبر كان وهو مما لم ينطق منه بفعل وهو على أفعل عينه وفاؤه واو وإنما لم ينطق منه بفعل لئلا يعتل من جهتين العين والفاء، وهذا مذهب البصريين. وقال الكوفيون: هو من وأل إذا نجا فأصله أوأل ثم خففت الهمزة وأبدلت واوا وأدغمت

فقيل أول كما تخفف همزة خطيئة، قال الجوهري: والجمع الأوائل والأوالي أيضا على القلب وقال قوم أصله وولِّ على فوعل فقلبت الواو الأولى همزة وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع وقيل هو أفعل من آل يؤول فأصله أأول قلب فجاء أعفل مقلوبا من أفعل فسهل وأبدل وأدغم.
مسألة: لا حجة في هذه الآية لمن يمنع القول بدليل الخطاب، وهم الكوفيون ومن وافقهم، لأن المقصود من الكلام النهي عن الكفر أولا وآخرا، وخص الأول بالذكر لأن التقدم فيه أغلظ، فكان حكم المذكور والمسكوت عنه واحدا، وهذا واضح.
قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} فيه أربع مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا} معطوف على قوله {وَلا تَكُونُوا} نهاهم عن أن يكونوا أول من كفر وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا أي على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم رشى. وكان الأحبار يفعلون ذلك فنهوا عنه قال قوم من أهل التأويل منهم الحسن وغيره. وقيل كانت لهم مأكل يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك وقيل إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك وفي كتبهم يا ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا أي باطلا بغير أجرة، قاله أبو العالية وقيل المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي ثمنا قليلا يعني الدنيا ومدتها والثمن الذي هو نزر لا خطر له، فسمي ما اعتاضوه عن ذلك ثمنا لأنهم جعلوه عوضا فانطلق عليه اسم الثمن وإن لم يكن ثمنا وقد تقدم هذا المعنى وقال الشاعر:
إن كنت حاولت ذنبا أو ظفرت به ... فما أصبت بترك الحج من ثمن
قلت: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه

وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرا فقد دخل في مقتضى الآية والله أعلم وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها
الثانية- وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم - لهذه الآية وما كان في معناها فمنع ذلك الزهري وأصحاب الرأي وقالوا لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والإخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام وقد قال تعالى {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "معلمو صبيانكم شراركم أقلهم رحمة باليتيم وأغلظهم على المسكين" . روى أبو هريرة قال قلت يا رسول الله ما تقول في المعلمين قال "درهمهم حرام وثوبهم سحت وكلامهم رياء" وروى عبادة بن الصامت قال: علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها" . وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء لقوله عليه السلام حديث ابن عباس حديث الرقية " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" أخرجه البخاري وهو نص يرفع الخلاف فينبغي أن يعول عليه.
وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة والصيام فاسد لأنه في مقابلة النص ثم إن بينهما فرقانا وهو أن الصلاة والصوم عبادات مختصة بالفاعل وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم فتجوز الأجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن قال ابن المنذر وأبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحا أو شعرا أو غناء معلوما بأجر معلوم، فيجوز الإجارة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة.

وأما الجواب عن الآية - فالمراد بها بنو إسرائيل، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا، فيه خلاف، وهو لا يقول به.
جواب ثان: وهو أن تكون الآية فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجرا فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنة في ذلك وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته. ويجب على الإمام أن يعين لإقامة الدين إعانته وإلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال ومن أين أنفق على عيالي فردوه وفرضوا له كفايته. وأما الأحاديث فليس شيء منها يقوم على ساق ولا يصح منها شيء عند أهل العلم بالنقل أما حديث ابن عباس فرواه سعيد بن طريف عن عكرمة عنه وسعيد متروك. وأما حديث أبي هريرة فرواه علي بن عاصم عن حماد بن سلمة عن أبي جرهم عنه وأبو جرهم مجهول لا يعرف ولم يرو حماد بن سلمة عن أحد يقال له أبو جرهم وإنما رواه عن أبي المهزم وهو متروك الحديث أيضا وهو حديث لا أصل له. وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عنه، والمغيرة معروف عند أهل العلم ولكنه له مناكير هذا منها، قاله أبو عمر. ثم قال وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم لأنه روي عن عبادة من وجهين، وروي عن أبي بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن أبي، وهو منقطع. وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل، وحديث عبادة وأبي يحتمل التأويل لأنه جائز أن يكون علمه لله ثم أخذ عليه أجرا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلمون كلما خلق الدين جددوه، أعطوهم ولا تستأجروهم فتحرجوهم فإن المعلم إذا قال للصبي قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبي وبراءة للمعلم وبراءة لأبويه من النار" .

الثالثة- واختلف العلماء في حكم المصلي بأجرة، فروى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة خلف من استؤجر في رمضان يقوم للناس، فقال: أرجو ألا يكون به بأس، وهو أشد كراهة له في الفريضة. وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور: لا بأس بذلك ولا بالصلاة خلفه. وقال الأوزاعي لا صلاة له. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه على ما تقدم: قال ابن عبدالبر وهذه المسألة معلقة من التي قبلها وأصلهما واحد.
قلت: ويأتي لهذا أصل آخر من الكتاب في "براءة" إن شاء الله تعالى. وكره ابن القاسم أخذ الأجرة على تعليم الشعر والنحو. وقال ابن حبيب لا بأس بالإجارة على تعليم ا لشعر والرسائل وأيام العرب ويكره من الشعر ما فيه الخمر والخنا والهجاء، قال أبو الحسن اللخمي ويلزم على قوله أن يجيز الإجارة على كتبه. وأما الغناء والنوح فممنوع على كل حال.
الرابعة- روى الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن عمر بن الكميت قال حدثنا علي بن وهب الهمداني قال أخبرنا الضحاك بن موسى قال مر سليمان بن عبدالملك بالمدينة وهو يريد مكة فأقام بها أياما فقال هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب النبي قالوا له أبو حازم فأرسل إليه فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم ما هذا الجفاء قال أبو حازم يا أمير المؤمنين وأي جفاء رأيت مني، قال أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني قال يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن ما عرفتني قبل هذا اليوم ولا أنا رأيتك. قال فالتفت إلى محمد بن شهاب الزهري فقال أصاب الشيخ وأخطأت، قال سليمان يا أبا حازم ما لنا نكره الموت قال لأنكم أخربتم الآخرة وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال أصبت يا أبا حازم فكيف القدوم غدا على الله تعالى، قال أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال ليت شعري ما لنا عند الله قال اعرض عملك على كتاب الله قال وأي مكان أجده قال:

{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13 - 14] قال سليمان فأين رحمة الله يا أبا حازم؟ قال أبو حازم رحمة الله قريب من المحسنين قال له سليمان يا أبا حازم فأي عباد الله أكرم؟ قال أولو المروءة والنهى قال له سليمان فأي الأعمال أفضل قال أبو حازم أداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال سليمان: فأي الدعاء أسمع قال دعاء المحسن إليه للمحسن، فقال أي الصدقة أفضل قال للسائل البائس وجهد المقل ليس فيها منٌ ولا أذى قال: فأي القول أعدل قال: قول الحق عند من تخافه أو ترجوه قال فأي المؤمنين أكيس قال رجل عمل بطاعة الله ودل الناس عليها، قال: فأي المؤمنين أحمق قال رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره قال له سليمان أصبت فما قولك فيما نحن فيه قال يا أمير المؤمنين أوتعفيني قال له سليمان لا ولكن نصيحة تلقيها إلي، قال يا أمير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة على غير مشورة من المسلمين ولا رضاهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة فقد ارتحلوا عنها فلو شعرت ما قالوه وما قيل لهم فقال له رجل من جلسائه بئس ما قلت يا أبا حازم، قال أبو حازم كذبت إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبينه للناس ولا يكتمونه قال له سليمان فكيف لنا أن نصلح قال: تدعون الصلف وتتمسكون بالمروءة وتقسمون بالسوية قال له سليمان فكيف لنا بالمأخذ به قال أبو حازم تأخذه من حله وتضعه في أهله قال له سليمان هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك. قال أعوذ بالله قال له سليمان ولم ذاك قال أخشى أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات. قال له سليمان ارفع إلينا حوائجك قال تنجيني من النار وتدخلني الجنة قال له سليمان ليس ذاك إلي قال أبو حازم فما لي إليك حاجة غيرها قال فادع لي قال أبو حازم اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى. قال له سليمان قط قال أبو حازم قد أوجزت وأكثرت

إن كنت من أهله وإن لم تكن من أهله فما ينبغي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر. قال له سليمان أوصني قال سأوصيك وأوجز: عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار وكتب إليه أن أنفقها ولك عندي مثلها كثير، قال: فردها عليه وكتب إليه يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا أو ردي عليك بذلا وما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي، إن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليه رعاء يسقون ووجد من دونهم جاريتين تذودان فسألهما فقالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل، فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وذلك أنه كان جائعا خائفا لا يأمن فسأل ربه ولم يسأل الناس فلم يفطن الرعاء وفطنت الجاريتان فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة وبقوله فقال أبوهما وهو شعيب عليه السلام هذا رجل جائع فقالت إحداهما اذهبي فادعيه فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فشق على موسى حين ذكرت "أجر ما سقيت لنا" ولم يجد بدا من أن يتبعها لأنه كان بين الجبال جائعا مستوحشا فلما تبعها هبت الريح فجعلت تصفق ثيابها على ظهرها فتصف له عجيزتها وكانت ذات عجز وجعل موسى يعرض مرة ويغض أخرى فلما عيل صبره ناداها يا أمة الله كوني خلفي وأريني السمت بقولك فلما دخل على شعيب إذ هو بالعشاء مهيأ فقال له شعيب اجلس يا شاب فتعشى فقال له موسى عليه السلام: أعوذ بالله فقال له شعيب لم؟ أما أنت جائع؟ قال: بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من ديننا بملء الأرض ذهبا فقال له شعيب لا يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فأكل فإن كانت هذه المائة دينار عوضا لما حدثت فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل من هذه ، وإن كان لحق في بيت المال فلي فيها نظراء ؛ فإن ساويت بيننا وإلا فليس لي فيها حاجة.

قلت: هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والأنبياء. انظروا إلى هذا الإمام الفاضل والحبر العالم كيف لم يأخذ على عمله عوضا ولا على وصيته بدلا ولا على نصيحته قصدا بل بين الحق وصدع ولم يلحقه في ذلك خوف ولا فزع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعن أحدكم هيبة أحد أن يقول بالحق حيث كان" وفي التنزيل {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة 54]
قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} قد تقدم معنى التقوى. وقرئ "فاتقوني" بالياء وقد تقدم وقال سهل بن عبدالله قوله {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} قال موضع علمي السابق فيكم. {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} قال موضع المكر والاستدراج لقول الله تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] فما استثنى نبيا ولا صديقاً
الآية 42 {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} اللبس: الخلط، لبست عليه الأمر ألبسه، إذا مزجت بينه بمشكله وحقه بباطله قال الله تعالى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] وفي الأمر لبسة أي ليس بواضح ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط يا حارث "إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله" وقالت الخنساء:
ترى الجليس يقول الحق تحسبه ... رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا
صدق مقالته واحذر عداوته ...
والبس عليه أمورا مثل ما لبسا

وقال العجاج:
لما لبسن الحق بالتجني ... غنين واستبدلن زيدا مني
روى سعيد عن قتادة في قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42]، يقول: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله - الذي لا يقبل غيره ولا يجزئ إلا به - الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة وليست من الله. والظاهر من قول عنترة:
وكتيبة لبستها بكتيبة
أنه من هذا المعنى، ويحتمل أن يكون من اللباس. وقد قيل هذا في معنى الآية، أي لا تغطوا. ومنه لبس الثوب يقال لبست الثوب ألبسه ولباس الرجل زوجته وزوجها لباسها. قال الجعدي
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنت عليه فكانت لباسا
وقال الأخطل:
وقد لبست لهذا الأمر أعصره ... حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا
واللبوس: كل ما يلبس من ثياب ودرع، قال الله تعالى {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] ولابست فلانا حتى عرفت باطنه. وفي فلان ملبس أي مستمتع قال:
ألا إن بعد العدم للمرء قنوة ... وبعد المشيب طول عمر وملبسا
ولبس الكعبة والهودج ما عليهما من لباس "بكسر اللام".
قوله تعالى {بِالْبَاطِلِ} الباطل في كلام العرب خلاف الحق، ومعناه الزائل قال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وبطل الشيء يبطل بطلا وبطولا وبطلانا ذهب ضياعا وخسرا وأبطله غيره ويقال ذهب دمه بطلا أي هدرا والباطل الشيطان والبطل الشجاع سمي بذلك لأنه يبطل شجاعة صاحبه، قال النابغة:
لهم لواء بأيدي ماجد بطل ...
لا يقطع الخرق إلا طرفه سامي

والمرأة بطلة. وقد بطل الرجل "أي بالضم" يبطل بطولة وبطالة أي صار شجاعا وبطل الأجير "بالفتح" بطالة أي تعطل فهو بطال. واختلف أهل التأويل في المراد بقوله: {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} فروي عن ابن عباس وغيره لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل وهو التغيير والتبديل. وقال أبو العالية قالت اليهود محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا. فإقرارهم ببعثه حق وجحدهم أنه بعث إليهم باطل. وقال ابن زيد: المراد بالحق التوراة، والباطل ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام وغيره. وقال مجاهد: لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام. وقاله قتادة وقد تقدم.
قلت: وقول ابن عباس أصوب، لأنه عام فيدخل فيه جميع الأقوال والله المستعان.
قوله تعالى: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} يجوز أن يكون معطوفا على "تلبسوا" فيكون مجزوما ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن، التقدير لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه أي وأن تكتموه قال ابن عباس: "يعني كتمانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه" وقال محمد بن سيرين:
نزل عصابة من ولد هارون يثرب لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدو عليهم والذلة، وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ فأقاموا بيثرب يرجون أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وهم مؤمنون مصدقون بنبوته فمضى أولئك الآباء وهم مؤمنون وخلف الأبناء وأبناء الأبناء فأدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فكفروا به وهم يعرفونه، وهو معنى قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة في موضع الحال أي أن محمدا عليه السلام حق، فكفرهم كان كفر عناد ولم يشهد تعالى لهم بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا. ودل هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم وأنه أعصى من الجاهل. وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44] الآية.
الآية: 43 {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}
فيه أربع وثلاثين مسألة

الأولى: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أمر معناه الوجوب ولا خلاف فيه، وقد تقدم القول في معنى إقامة الصلاة واشتقاقها وفي جملة من أحكامها، والحمد لله.
الثانية: قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} أمر أيضا يقتضي الوجوب. والإيتاء: الإعطاء، آتيته: أعطيته. قال الله تعالى {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] وأتيته - بالقصر من غير مد - جئته، فإذا كان المجيء بمعنى الاستقبال مُدّ، ومنه الحديث "ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه" وسيأتي.
الثالثة: الزكاة مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد. يقال زكا الزرع والمال يزكو، إذا كثر وزاد ورجل زكي أي زائد الخير وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكي ويقال: زرع زاك بين الزكاء. وزكأت الناقة بولدها تزكأ به إذا رمت به من بين رجليها وزكا الفرد: إذا صار زوجا بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعا. قال الشاعر:
كانوا خسا أو زكا من دون أربعة ... لم يخلقوا وجدود الناس تعتلج
جمع جد وهو الحظ والبخت. تعتلج: أي ترتفع اعتلجت الأرض طال نباتها. فخسا: الفرد وزكا: الزوج
وقيل: أصلها الثناء الجميل ومنه زكّى القاضي الشاهد. فكأن من يخرج الزكاة يحصل لنفسه الثناء الجميل وقيل الزكاة مأخوذة من التطهير، كما يقال زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة والإغفال. فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس، وقد قال تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]
الرابعة: واختلف في المراد بالزكاة هنا فقيل: الزكاة المفروضة لمقارنتها الصلاة وقيل: صدقة الفطر قاله مالك في سماع ابن القاسم.

قلت: فعلى الأول- وهو قول أكثر العلماء - فالزكاة في الكتاب مجملة بينها النبي صلى الله عليه وسلم فروى الأئمة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة" وقال البخاري: "خمس أواق من الورق" وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر" وسيأتي بيان هذا الباب في "الأنعام" إن شاء الله تعالى. ويأتي في "براءة" زكاة العين والماشية وبيان المال الذي لا يؤخذ منه زكاة عند قوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وأما زكاة الفطر فليس لها في الكتاب نص عليها إلا ما تأوله مالك هنا، وقوله تعالى {قدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] والمفسرون يذكرون الكلام عليها في سورة "الأعلى"، ورأيت الكلام عليها في هذه السورة عند كلامنا على آي الصيام لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر في رمضان، الحديث. وسيأتي، فأضافها إلى رمضان.
الخامسة: قوله تعالى: {وَارْكَعُوا} الركوع في اللغة الانحناء بالشخص وكل منحن راكع قال لبيد
أخبر أخبار القرون التي مضت ... أدب كأني كلما قمت راكع
وقال ابن دريد: الركعة الهوة في الأرض لغة يمانية وقيل الانحناء يعم الركوع والسجود ويستعار أيضا في الانحطاط في المنزلة. قال:
ولا تعاد الضعيف علك أن
...
تركع يوما والدهر قد رفعه

السادسة: واختلف الناس في تخصيص الركوع بالذكر فقال قوم جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة.
قلت: وهذا ليس مختصا بالركوع وحده فقد جعل الشرع القراءة عبارة عن الصلاة والسجود عبارة عن الركعة بكمالها فقال: {و قُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الفجر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" وأهل الحجاز يطلقون على الركعة سجدة وقيل إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع وقيل لأنه كان أثقل على القوم في الجاهلية حتى لقد قال بعض من أسلم أظنه عمران بن حصين للنبي صلى الله عليه وسلم: وعلى ألا أخر إلا قائما فمن تأويله على ألا أركع فلما تمكن الإسلام من قلبه اطمأنت بذلك نفسه وأمتثل ما أمر به من الركوع.
السابعة: الركوع الشرعي هو أن يحني الرجل صلبه ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعا يقول سبحان ربي العظيم ثلاثا وذلك أدناه "روى مسلم عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك" وروى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره الحديث.
الثامنة: الركوع فرض، قرآنا وسنة، وكذلك السجود لقوله تعالى في آخر الحج {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]. وزادت السنة الطمأنينة فيهما والفصل بينهما، وقد تقدم القول في ذلك وبينا صفة الركوع آنفا وأما السجود فقد جاء مبينا من حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان "إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه". خرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وروى مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه

انبساط الكلب". وعن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك" . وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوّى بيديه - يعني جنح حتى يرى وضح إبطيه من ورائه - وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى.
التاسعة: واختلف العلماء فيمن وضع جبهته في السجود دون أنفه أو أنفه دون جبهته، فقال مالك: يسجد على جبهته وأنفه، وبه قال الثوري وأحمد، وهو قول النخعي. قال أحمد: لا يجزئه السجود على أحدهما دون الآخر، وبه قال أبو خيثمة وابن أبي شيبة. قال إسحاق: إن سجد على أحدهما دون الآخر فصلاته فاسدة. وقال الأوزاعي وسعيد بن عبدالعزيز، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وعبدالرحمن بن أبي ليلى كلهم أمر بالسجود على الأنف. وقالت طائفة: يجزئ أن يسجد على جبهته دون أنفه، هذا قول عطاء وطاوس وعكرمة وابن سيرين والحسن البصري، وبه قال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد. قال ابن المنذر: وقال قائل: إن وضع جبهته ولم يضع أنفه أو وضع أنفه ولم يضع جبهته فقد أساء وصلاته تامة، هذا قول النعمان. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا سبقه إلى هذا القول ولا تابعه عليه.
قلت: الصحيح في السجود وضع الجبهة والأنف، لحديث أبي حميد، وقد تقدم. وروى البخاري عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب والشعر" . وهذا كله بيان لمجمل الصلاة فتعين القول به. والله أعلم وروي عن مالك أنه يجزيه أن يسجد على جبهته دون أنفه، كقول عطاء والشافعي والمختار عندنا قول الأول ولا يجزئ عند مالك إذا لم يسجد على جبهته.

العاشرة: ويكره السجود على كور العمامة، وإن كان طاقة أو طاقتين مثل الثياب التي تستر الركب والقدمين فلا بأس، والأفضل مباشرة الأرض أو ما يسجد عليه فإن كان هناك ما يؤذيه أزاله قبل دخول فلا الصلاة، فإن لم يفعل فليمسحه مسحة واحدة. وروى مسلم عن معيقيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال: "إن كنت فاعلا فواحدة" وروي عن أنس بن مالك قال: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه".
الحادية عشرة: لما قال تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] قال بعض علمائنا وغيرهم يكفي منها ما يسمى ركوعا وسجودا، وكذلك من القيام ولم يشترطوا الطمأنينة في ذلك فأخذوا بأقل الاسم في ذلك وكأنهم لم يسمعوا الأحاديث الثابتة في إلغاء الصلاة قال ابن عبدالبر: ولا يجزي ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا وساجدا وجالسا. وهو الصحيح في الأثر وعليه جمهور العلماء وأهل النظر وهى رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد تكاثرت الرواية عن ابن القاسم وغيره بوجوب الأصل وسقوط الطمأنينة وهو وهم عظيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها وعلمها. فإن كان لابن القاسم عذر أن كان لم يطلع عليها فما لكم أنتم وقد انتهى العلم إليكم وقامت الحجة به عليكم روى النسائي والدارقطني وعلي بن عبدالعزيز عن رفاعة بن رافع قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فدخل المسجد فصلى، فلما قضى الصلاة جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع فصل فإنك لم تصل" وجعل يصلي وجعلنا نرمق صلاته لا ندري ما يعيب منها فلما جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " وعليك ارجع فصل فانك لم تصل" قال همام فلا ندري أمره بذلك مرتين أو ثلاثا فقال له الرجل:

ما ألوت فلا ادري ما عبت علي من صلاتي فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله تعالى ويثني عليه ثم يقرأ أم القرآن وما أذن له فيه وتيسر ثم يكبر فيركع فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يقول سمع الله لمن حمده ويستوي قائما حتى يقيم صلبه ويأخذ كل عظم مأخوذه ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه. قال همام وربما قال جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعده ويقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك" ومثله حديث أبي هريرة خرجه مسلم وقد تقدم.
قلت: فهذا بيان الصلاة المجملة في الكتاب بتعليم النبي عليه السلام وتبليغه إياها جميع الأنام فمن لم يقف عند هذا البيان وأخل بما فرض عليه الرحمن ولم يمتثل ما بلغه عن نبيه عليه السلام كان من جملة من دخل في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59] على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. روى البخاري عن زيد بن وهب قال رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع ولا السجود فقال "ما صلت ولو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم"
الثانية عشرة: قوله تعالى: { مَعَ الرَّاكِعِينَ} "مع" تقتضي المعية والجمعية ولهذا قال جماعة من أهل التأويل بالقرآن إن الأمر بالصلاة أولا لم يقتض شهود الجماعة فأمرهم بقوله "مع" شهود الجماعة وقد اختلف العلماء في شهود الجماعة على قولين فالذي عليه الجمهور أن ذلك من السنن المؤكدة ويجب على من أدمن التخلف عنها من غير عذر العقوبة وقد أوجبها بعض أهل العلم فرضا على الكفاية قال ابن عبدالبر وهذا قول صحيح لإجماعهم على أنه لا يجوز أن يجتمع على تعطيل المساجد كلها من الجماعات فإذا قامت الجماعة في المسجد فصلاة المنفرد في بيته جائزة لقوله عليه السلام: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" أخرجه مسلم من حديث ابن عمر. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا" . وقال داود الصلاة في الجماعة فرض على كل أحد في خاصته كالجمعة واحتج بقوله عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبدالحق، وهو قول عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل وأبي ثور وغيرهم. وقال الشافعي: لا أرخص لمن قدر على الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر. حكاه ابن المنذر وروى مسلم عن أبي هريرة قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداء بالصلاة" قال نعم قال "فأجب" وقال أبو داود في هذا الحديث " لا أجد لك رخصة" . خرجه من حديث ابن أم مكتوم وذكر أنه كان هو السائل وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله "من سمع النداء فلم يمنعه من إتيانه عذر قالوا وما العذر قال خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى" قال أبو محمد عبدالحق: هذا يرويه مغراء العبدي والصحيح موقوف على ابن عباس "من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له" على أن قاسم بن أصبغ ذكره في كتابه فقال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر" وحسبك بهذا الإسناد صحة ومغراء العبدي روى عنه أبو إسحاق وقال ابن مسعود ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق وقال عليه السلام: "بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما" قال ابن المنذر ولقد روينا عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا "من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له" منهم ابن مسعود وأبو موسى الأشعري وروى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزما من حطب ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست لهم علة فأحرقها عليهم" هذا ما احتج به من أوجب الصلاة في الجماعة فرضا وهى ظاهرة في الوجوب وحملها الجمهور على تأكيد أمر شهود الصلوات في الجماعة بدليل حديث ابن عمر وأبي هريرة وحملوا قول الصحابة وما جاء في الحديث من أنه "لا صلاة له" على الكمال والفضل وكذلك قول عليه السلام لابن أم مكتوم "فأجب" على الندب وقوله عليه السلام "لقد هممت" لا يدل على الوجوب الحتم لأنه هم ولم يفعل وإنما مخرجه مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة والجمعة يبين هذا المعنى ما رواه مسلم عن عبدالله قال: "من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. فبين رضي الله عنه في حديثه أن الاجتماع سنة من سنن الهدى وتركه ضلال، ولهذا قال القاضي أبو الفضل عياض: اختلف في التمالؤ على ترك ظاهر السنن، هل يقاتل عليها أو لا، والصحيح قتالهم، لأن في التمالؤ عليها إماتتها.
قلت: فعلى هذا إذا أقيمت السنة وظهرت جازت صلاة المنفرد وصحت روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة

وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللهم أرحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه". قيل لأبي هريرة: ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط.
الثالثة عشرة: واختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة هل لأجل الجماعة فقط حيث كانت أو إنما يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد لما يلازم ذلك من أفعال تختص بالمساجد كما جاء في الحديث قولان. والأول أظهر لأن الجماعة هو الوصف الذي علق عليه الحكم. والله أعلم وما كان من إكثار الخطى إلى المساجد وقصد الإتيان إليها والمكث فيها فذلك زيادة ثواب خارج عن فضل الجماعة والله أعلم.
الرابعة عشرة: واختلفوا أيضا هل تفضل جماعة جماعة بالكثرة وفضيلة الإمام؟ فقال مالك لا وقال ابن حبيب نعم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله" رواية أبي بن كعب وأخرجه أبو داود وفي إسناده لين.
الخامسة عشرة: واختلفوا أيضا فمن صلى في جماعة هل يعيد صلاته تلك في جماعة أخرى فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إنما يعيد الصلاة في جماعة مع الإمام من صلى وحده في بيته وأهله أو في غير بيته، وأما من صلى في جماعة وإن قلت فإنه لا يعيد في جماعة أكثر منها ولا أقل. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي جائز لمن صلى في جماعة ووجد أخرى في تلك الصلاة أن يعيدها معهم إن شاء لأنها نافلة وسنة. وروي ذلك عن حذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وصلة بن زفر والشعبي والنخعي، وبه قال حماد بن زيد وسليمان بن حرب
احتج مالك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلى صلاة في يوم مرتين" ومنهم من يقول لا تصلوا رواه سليمان بن يسار عن ابن عمر واتفق أحمد وإسحاق على أن معنى

هذا الحديث أن يصلي الإنسان الفريضة ثم يقوم فيصليها ثانية ينوي بها الفرض مرة أخرى فأما إذا صلاها مع الإمام على أنها سنة أو تطوع فليس بإعادة الصلاة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة "إنها لكم نافلة" من حديث أبي ذر وغيره.
السادسة عشرة: روى مسلم عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سِلْما، ولا يؤمّن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه" وفي رواية "سناً" مكان "سلما"، وأخرجه أبو داود وقال: قال شعبة فقلت لإسماعيل: ما تكرمته؟ قال: فراشه. وأخرجه الترمذي وقال حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم.
قالوا: أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنة وقالوا صاحب المنزل أحق بالإمامة. وقال بعضهم إذا أذن صاحب المنزل لغيره فلا بأس أن يصلي به. وكرهه بعضهم وقالوا السنة أن يصلي صاحب البيت. قال ابن المنذر: روينا عن الأشعث بن قيس أنه قّدم غلاما، وقال إنما أقّدم القرآن. وممن قال يؤم القوم أقرؤهم ابن سيرين والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: بهذا نقول لأنه موافق للسنة. وقال مالك: يتقدم القوم أعلمهم إذا كانت حاله حسنة وإن للسن حقا. وقال الأوزاعي: يؤمهم أفقههم وكذلك قال الشافعي وأبو ثور إذا كان يقرأ القرآن وذلك لأن الفقيه أعرف بما ينوبه من الحوادث في الصلاة. وتأولوا الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان الأفقه لأنهم كانوا يتفقهون في القرآن، وقد كان من عرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقراء، واستدلوا بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه أبا بكر لفضله وعلمه وقال إسحاق: إنما قدمه النبي صلى الله عليه وسلم ليدل على أنه خليفته بعده. ذكره أبو عمر في التمهيد وروى أبو بكر البزار بإسناد حسن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

" إذا سافرتم فليؤمكم أقرؤكم وإن كان أصغركم وإذا أمّكم فهو أميركم" قال لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من رواية أبي هريرة بهذا الإسناد.
قلت: إمامة الصغير جائزة إذا كان قارئا. ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن سلمة قال: كنا بماء ممر الناس وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه كذا أوحى إليه كذا فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامها فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم والله من عند نبي الله حقا، قال: "صلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا" . فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآنا لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني ببن أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا است قارئكم فاشتروا فقطعوا لي قميصا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص. وممن أجاز إمامة الصبي غير البالغ الحسن البصري وإسحاق بن راهويه واختاره ابن المنذر إذا عقل الصلاة وقام بها لدخوله في جملة قوله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم" ولم يستثن، ولحديث عمرو بن سلمة وقال الشافعي في أحد قوليه يؤم في سائر الصلوات ولا يؤم في الجمعة وقد كان قبل يقول ومن أجزأت إمامته في المكتوبة أجزأت إمامته في الأعياد غير أني أكره فيها إمامة غير الوالي وقال الأوزاعي: لا يؤم الغلام في الصلاة المكتوبة حتى يحتلم إلا أن يكون قوم ليس معهم من القرآن شيء فإنه يؤمهم الغلام المراهق. وقال الزهري إن اضطروا إليه أمهم ومنع ذلك جملة مالك والثوري وأصحاب الرأي.
السابعة عشرة: الائتمام بكل إمام بالغ مسلم حر على استقامة جائز من غير خلاف إذا كان يعلم حدود الصلاة ولم يكن يلحن في أم القرآن لحنا يخل بالمعنى مثل أن يكسر الكاف

من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ويضم التاء في {أَنْعَمْتَ} ومنهم من راعى تفريق الطاء من الضاد وإن لم يفرق بينهما لا تصح إمامته، لأن معناهما يختلف ومنهم من رخص في ذلك كله إذا كان جاهلا بالقراءة وأم مثله ولا يجوز الائتمام بامرأة ولا خنثى مشكل ولا كافر ولا مجنون ولا أميّ ولا يكون واحد من هؤلاء إماما بحال من الأحوال عند أكثر العلماء على ما يأتي ذكره إلا الأمي لمثله، قال علماؤنا لا تصح إمامة الأمي الذي لا يحسن القراءة مع حضور القارئ له ولا لغيره وكذلك قال الشافعي فإن أم أميا مثله صحت صلاتهم عندنا وعند الشافعي. وقال أبو حنيفة إذا صلى الأمي بقوم يقرؤون وبقوم أميين فصلاتهم كلهم فاسدة. وخالفه أبو يوسف فقال صلاة الإمام ومن لا يقرأ تامة. وقالت فرقة: صلاتهم كلهم جائزة لأن كلا مؤد فرضه وذلك مثل المتيمم يصلي بالمتطهرين بالماء والمصلي قاعدا يصلي بقوم قيام صلاتهم مجزئة في قول من خالفنا، لأن كلا مؤد فرض نفسه.
قلت: وقد يحتج لهذا القول بقول عليه السلام: "ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه" أخرجه مسلم وإن صلاة المأموم ليست مرتبطة بصلاة الإمام، والله أعلم. وكان عطاء بن أبي رباح يقول إذا كانت امرأته تقرأ كبر هو، وتقرأ هي فإذا فرغت من القراءة كبر وركع وسجد وهى خلفه تصلي، وروي هذا المعنى عن قتادة.
الثامنة عشرة: ولا بأس بإمامة الأعمى والأعرج والأشل والأقطع والخصي والعبد إذا كان كل واحد منهم عالما بالصلاة. وقال ابن وهب لا أرى أن يؤم الأقطع والأشل لأنه منتقص عن درجة الكمال وكرهت إمامته لأجل النقص. وخالفه جمهور أصحابه وهو الصحيح لأنه عضو لا يمنع فقده فرضا من فروض الصلاة فجازت الإمامة الراتبة مع فقده كالعين، وقد روى أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى،" وكذا الأعرج والأقطع والأشل والحصى قياسا ونظرا والله أعلم. وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال في الأعمى: وما حاجتهم إليه وكان ابن عباس وعتبان بن مالك يؤمان وكلاهما أعمى، وعليه عامة العلماء.

التاسعة عشرة: واختلفوا في إمامة ولد الزنى فقال مالك أكره أن يكون إماما راتبا وكره ذلك عمر بن عبدالعزيز، وكان عطاء بن أبي رباح يقول له أن يؤم إذا كان مرضيا، وهو قول الحسن البصري والزهري والنخعي وسفيان الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وتجزئ الصلاة خلفه عند أصحاب الرأي وغيره أحب إليهم. وقال الشافعي أكره أن ينصب إماما راتبا من لا يعرف أبوه ومن صلى خلفه أجزأه وقال عيسى بن دينار لا أقول بقول مالك في إمامة ولد الزنى وليس عليه من ذنب أبويه شيء. ونحوه قال ابن عبدالحكم إذا كان في نفسه أهلا للإمامة قال ابن المنذر يؤم لدخوله جملة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤوهم" وقال أبو عمر: ليس في شيء من الآثار الواردة في شرط الإمامة ما يدل على مراعاة نسب وإنما فيها دلالة على الفقه والقراءة والصلاح في الدين.
الموفية عشرين: وأما العبد فروى البخاري عن ابن عمر قال: لما قدم المهاجرون الأولون العصبة - موضع بقباء - قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآناً. وعنه قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يوم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء فهم أبو بكر وعمر وزيد وعامر بن ربيعة وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف. قال ابن المنذر وأم أبو سعيد مولى أبي أسيد - وهو عبد - نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حذيفة وأبو مسعود.
ورخص في إمامة العبد النخعي والشعبي والحسن البصري والحكم والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي وكره ذلك أبو مجلز، وقال مالك لا يؤمهم إلا أن يكون العبد قارئا ومن معه من الأحرار لا يقرؤون إلا أن يكون في عيد أو جمعة فإن العبد لا يؤمهم فيها ويجزئ عند الأوزاعي إن صلوا وراءه. قال ابن المنذر العبد داخل في جمله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم" .
الحادية والعشرون: وأما المرأة فروى البخاري عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم

امرأة" وذكر أبو داود عن عبدالرحمن بن خلاد عن أم ورقه بنت عبدالله قال: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها قال: وجعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها" قال عبدالرحمن "فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا" قال ابن المنذر: والشافعي يوجب الإعادة على من صلى من الرجال خلف المرأة. قال أبو ثور لا إعادة عليهم. وهذا قياس قول المزني.
قلت: وقال علماؤنا لا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء وروى ابن أيمن جواز إمامتها للنساء. وأما الخنثى المشكل فقال الشافعي: لا يؤم الرجال ويؤم النساء. وقال مالك: لا يكون إماما بحال، وهو قول أكثر الفقهاء..
الثانية والعشرون: الكافر المخالف للشرع كاليهودي والنصراني يؤم المسلمين وهم لا يعلمون بكفره. وكان الشافعي وأحمد يقولان لا يجزئهم ويعيدون وقاله مالك وأصحابه لأنه ليس من أهل القربة. وقال الأوزاعي: يعاقب. وقال أبو ثور والمزني لا إعادة على من صلى خلفه ولا يكون بصلاته مسلما عند الشافعي وأبي ثور. وقال أحمد: يجبر على الإسلام.
الثالثة والعشرون: وأما أهل البدع من أهل الأهواء كالمعتزلة والجهمية وغيرهما فذكر البخاري عن الحسن: صل وعليه بدعته. وقال أحمد لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه وقال مالك ويصلى خلف أئمة الجور ولا يصلى خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم وقال ابن المنذر كل من أخرجته بدعته إلى الكفر لم تجز الصلاة خلفه ومن لم يكن كذلك فالصلاة خلفه جائزة ولا يجوز تقديم من هذه صفته.
الرابعة والعشرون: وأما الفاسق بجوارحه كالزاني وشارب الخمر ونحو ذلك فاختلف المذهب فيه فقال ابن حبيب من صلى وراء من شرب الخمر فإنه يعيد أبدا إلا أن يكون الوالي الذي تؤدى إليه الطاعة فلا إعادة على من صلى خلفه إلا أن يكون حينئذ سكران. قاله

من لقيت من أصحاب مالك وروي من حديث جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: "لا تؤمن امرأة رجلا ولا يؤمن أعرابي مهاجرا ولا يؤمن فاجر برا إلا أن يكون ذلك ذا سلطان" قال أبو محمد عبدالحق: هذا يرويه علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب والأكثر يضعف علي بن زيد وروى الدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن سركم أن تزكوا صلاتكم فقدموا خياركم" في إسناده أبو الوليد خالد بن إسماعيل المخزومي وهو ضعيف قاله الدارقطني. وقال فيه أبو أحمد بن عدي: كان يضع الحديث على ثقات المسلمين وحديثه هذا يرويه عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة وذكر الدارقطني عن سلام بن سليمان عن عمر عن محمد بن واسع عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفد فيما بينكم وبين الله" قال الدارقطني عمر هذا هو عندي عمر بن يزيد قاضي وسلام بن سليمان أيضا مدائني ليس بالقوي قاله عبدالحق.
الخامسة والعشرون: روى الأئمة أن رسول الله صلى قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون" .
وقد اختلف العلماء فيمن ركع أو خفض قبل الإمام عامدا على قولين: أحدهما: أن صلاته فاسدة إن فعل ذلك فيها كلها أو في أكثرها وهو قول أهل الظاهر وروي عن ابن عمر. ذكر سنيد قال: حدثنا ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الورد الأنصاري قال صليت إلى جنب ابن عمر فجعلت أرفع قبل الإمام وأضع قبله فلما سلم الإمام أخذ ابن عمر بيدي فلواني وجذبني فقلت مالك قال من أنت؟ قلت فلان بن فلان قال أنت من أهل بيت صدق فما يمنعك أن تصلي قلت أوما رأيتني إلى جنبك قال قد رأيتك ترفع قبل الإمام وتضع قبله وإنه: "لا صلاة لمن خالف الإمام". وقال الحسن بن حي فيمن ركع أو سجد قبل الإمام ثم رفع من ركوعه أو سجوده قبل أن يركع الإمام أو يسجد

لم يعتد بذلك ولم يجزه. وقال أكثر الفقهاء من فعل ذلك فقد أساء ولم تفسد صلاته لأن الأصل في صلاة الجماعة والائتمام فيها بالأئمة سنه حسنة فمن خالفها بعد أن أدى فرض صلاته بطهارتها وركوعها وسجودها وفرائضها فليس عليه إعادتها وإن أسقط بعض سننها لأنه لو شاء أن ينفرد فصلى قبل إمامه تلك الصلاة أجزأت عنه وبئس ما فعل في تركه الجماعة قالوا ومن دخل في صلاة الإمام فركع بركوعه وسجد بسجوده ولم يكن في ركعة وإمامه في أخرى فقد افتدى وإن كان يرفع قبله ويخفض قبله لأنه بركوعه يركع وبسجوده يسجد ويرفع وهو في ذلك تبع له إلا أنه مسيء في فعله ذلك لخلافه سنة المأموم المجتمع عليها.
قلت: ما حكاه ابن عبدالبر عن الجمهور ينبئ على أن صلاة المأموم عندهم غير مرتبطة بصلاة الإمام لأن الاتباع الحسي والشرعي مفقود وليس الأمر هكذا عند أكثرهم والصحيح في الأثر والنظر القول الأول فإن الإمام إنما جعل ليؤتم به ويقتدى به بأفعاله ومنه قوله تعالى { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] أي يأتمون بك على ما يأتي بيانه.
هذا حقيقة الإمام لغة وشرعا فمن خالف إمامه لم يتبعه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين فقال :"إذا كبر فكبروا" الحديث. فأتى بالفاء التي توجب التعقيب وهو المبين عن الله مراده. ثم أوعد من رفع أو ركع قبل وعيدا شديدا فقال: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار" أخرجه الموطأ والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم وقال أبو هريرة إنما ناصيته بيد شيطان وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" يعني مردود فمن تعمد خلاف إمامه عالما بأنه مأمور باتباعه منهي عن مخالفته فقد استخف بصلاته وخالف ما أمر به فواجب ألا تجزي عنه صلاته تلك والله أعلم.
السادسة والعشرون: فإن رفع رأسه ساهيا قبل الإمام فقال مالك رحمه الله: السنة فيمن سها ففعل ذلك في ركوع أو في سجود أن يرجع راكعا أو ساجدا وينتظر الإمام وذلك خطأ ممن فعله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به

فلا تختلفوا عليه" قال ابن عبدالبر: ظاهر قول مالك هذا لا يوجب الإعادة على فعله عامدا لقوله "وذلك خطأ ممن فعله" لأن الساهي الإثم عنه موضوع.
السابعة والعشرون: وهذا الخلاف إنما هو فيما عدا تكبيرة الإحرام والسلام أما السلام فقد تقدم القول فيه وأما تكبيرة الإحرام فالجمهور على أن تكبير المأموم لا يكون إلا بعد تكبير الإمام إلا ما روي عن الشافعي في أحد قوليه: أنه إن كبر قبل إمامه تكبيرة الإحرام أجزأت عنه لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى الصلاة فلما كبر انصرف وأومأ إليهم - أي كما أنتم - ثم خرج ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم فلما انصرف قال: "إني كنت جنبا فنسيت أن أغتسل" ومن حديث أنس "فكبر وكبرنا معه" وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى: {وَلا جُنُباً} في "النساء" [النساء: 43] إن شاء الله تعالى.
الثامنة والعشرون: وروى مسلم عن أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" قال أبو مسعود "فأنتم اليوم أشد اختلافا". زاد من حديث عبدالله "وإياكم وهيشات الأسواق". وقوله "استووا" أمر بتسوية الصفوف وخاصة الصف الأول وهو الذي يلي الإمام على ما يأتي بيانه في سورة "الحجر" إن شاء الله تعالى وهناك يأتي الكلام على معنى هذا الحديث بحول الله تعالى.
التاسعة والعشرون: واختلف العلماء في كيفية الجلوس في الصلاة لاختلاف الآثار في ذلك فقال مالك وأصحابه: يفضي المصلي بأليتيه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويثني رجله اليسرى، لما رواه في موطئه عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد "أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه"، ثم قال: أراني هذا عبدالله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك.

قلت: وهذا المعنى قد جاء في صحيح مسلم عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسا وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم.
قلت: ولهذا الحديث - والله أعلم - قال ابن عمر: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي "ينصب اليمنى ويقعد على اليسرى"، لحديث وائل بن حجر، وكذلك قال الشافعي وأحمد وإسحاق في الجلسة الوسطى. وقالوا في الآخرة من الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء كقول مالك لحديث أبي حميد الساعدي رواه البخاري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم "إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع استوى حتى يعود كل فقار مكانه فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب الأخرى وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته". قال الطبري إن فعل هذا فحسن كل ذلك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الموفية الثلاثين: مالك عن مسلم بن أبي مريم عن علي بن عبدالرحمن المعاوي أنه قال: رآني عبدالله بن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة، فلما انصرف نهاني فقال اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قلت وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قال: كان "إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه

كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وقال: هكذا كان يفعل". قال ابن عبدالبر: "وما وصفه ابن عمر من وضعه كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابع يده تلك كلها إلا السبابة منها فإنه يشير بها ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى مفتوحة مفروجة الأصابع، كل ذلك سنة في الجلوس في الصلاة مجمع عليه ولا خلاف علمته بين العلماء فيها وحسبك بهذا. إلا أنهم اختلفوا في تحريك أصبعه السبابة فمنهم من رأى تحريكها ومنهم من لم يره وكل ذلك مروي في الآثار الصحاح المسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميعه مباح والحمد لله. وروى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مريم بمعنى ما رواه مالك وزاد فيه قال سفيان وكان يحيى بن سعيد حدثناه عن مسلم ثم لقيته فسمعته منه وزادني فيه قال "هي مذبة الشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بإصبعه ويقول هكذا".
قلت: روى أبو داود في حديث ابن الزبير أنه عليه السلام "كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها" وإلى هذا ذهب بعض العراقيين فمنع من تحريكها وبعض علمائنا رأوا أن مدها إشارة إلى دوام التوحيد وذهب أكثر العلماء من أصحاب مالك وغيرهم إلى تحريكها إلا أنهم اختلفوا في الموالاة بالتحريك على قولين تأول من والاه بأن قال إن ذلك يذكر بموالاة الحضور في الصلاة وبأنها مقمعة ومدفعة للشيطان على ما روى سفيان ومن لم يوال رأى تحريكها عند التلفظ بكلمتي الشهادة وتأول في الحركة كأنها نطق بتلك الجارحة بالتوحيد والله أعلم.
الحادية والثلاثون: واختلفوا في جلوس المرأة في الصلاة فقال مالك هي كالرجل ولا تخالفه فيما بعد الإحرام إلا في اللباس والجهر وقال الثوري تسدل المرأة جلبابها من جانب واحد ورواه عن إبراهيم النخعي وقال أبو حنيفة وأصحابه تجلس المرأة كأيسر ما يكون لها وهو قول الشعبي تقعد كيف تيسر لها وقال الشافعي تجلس بأستر ما يكون لها.

الثانية والثلاثون: روى مسلم عن طاوس قال قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين، فقال: "هي السنة فقلنا له إنا لنراه جفاء بالرجل فقال ابن عباس بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم" وقد اختلف العلماء في صفة الإقعاء فقال أبو عبيد: "الإقعاء جلوس الرجل على أليتيه ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع" قال ابن عبدالبر وهذا إقعاء مجتمع عليه لا يختلف العلماء فيه. وهذا تفسير أهل اللغة وطائفة من أهل الفقه. وقال أبو عبيد: وأما أهل الحديث فانهم يجعلون الإقعاء أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين قال القاضي عياض: والأشبه عندي في تأويل الإقعاء الذي قال فيه ابن عباس إنه من السنة، الذي فسر به الفقهاء من وضع الأليتين على العقبين بين السجدتين، وكذا جاء مفسرا عن ابن عباس: من السنة أن تمس عقبك أليتك. رواه إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عنه، ذكره أبو عمر قال القاضي: وقد روي عن جماعة من السلف والصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ولم يقل بذلك عامة فقهاء الأمصار وسموه إقعاء. ذكر عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه رأى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير يقعون بين السجدتين.
الثالثة والثلاثون: لم يختلف من قال من العلماء بوجوب التسليم وبعدم وجوبه أن التسليمة الثانية ليست بفرض إلا ما روي عن الحسن بن حي أنه أوجب التسليمتين معا. قال أبو جعفر الطحاوي: لم نجد عن أحد من أهل العلم الذين ذهبوا إلى التسليمتين أن الثانية من فرائضها غيره. قال ابن عبدالبر من حجة الحسن بن صالح في إيجابه التسليمتين جميعا وقوله إن من أحدث بعد الأولى وقبل الثانية فسدت صلاته - قوله صلى الله عليه وسلم "تحليلها التسليم" ثم بين كيف التسليم فكان يسلم عن يمينه وعن يساره ومن حجة من أوجب التسليمة الواحدة دون الثانية قوله صلى الله عليه وسلم "تحليلها التسليم" قالوا: والتسليمة الواحدة يقع عليها اسم تسليم.

قلت: هذه المسألة مبنية على الأخذ بأقل الاسم أو بآخره ولما كان الدخول في الصلاة بتكبيرة واحدة بإجماع فكذلك الخروج منها بتسليمة واحدة إلا أنه تواردت السنن الثابتة من حديث ابن مسعود - وهو أكثرها تواترا - ومن حديث وائل بن حجر الحضرمي وحديث عمار وحديث البراء بن عازب وحديث بن عمر وحديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين. روى ابن جريج وسليمان بن بلال وعبدالعزيز بن محمد الدرداوردي كلهم عن عمرو ابن يحيى المازني. عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال: قلت لابن عمر: حدثني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت؟ فذكر التكبير كلما رفع رأسه وكلما خفضه وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله عن يساره قال ابن عبدالبر وهذا إسناد مدني صحيح، والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرا عن كابر، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا وكذلك العمل بالكوفة وغيرها مستفيض عندهم بالتسليمتين ومتوارث عنهم أيضا وكل ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح كالأذان، وكذلك لا يروى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة ولا إنكار التسليمتين بل ذلك عندهم معروف وحديث التسليمة الواحدة رواه سعد بن أبي وقاص وعائشة وأنس إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث.
الرابعة والثلاثون: روى الدارقطني عن ابن مسعود أنه قال: من السنة أن يخفى التشهد. واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو التحيات لله الزكيات لله الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. واختار الشافعي وأصحابه والليث بن سعد تشهد ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات

لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله".
واختار الثوري والكوفيون وأكثر أهل الحديث تشهد ابن مسعود الذي رواه مسلم أيضا، قال: كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام على الله السلام على فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: "إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسول ثم يتخير من المسألة ما شاء" وبه قال أحمد وإسحاق وداود. وكان أحمد بن خالد بالأندلس يختاره ويميل إليه وروي عن أبي موسى الأشعري مرفوعا وموقوفا نحو تشهد ابن مسعود. وهذا كله اختلاف في مباح ليس شيء منه على الوجوب والحمد لله وحده فهذه جملة من أحكام الإمام والمأموم تضمنها قوله جل وعز {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] وسيأتي القول في القيام في الصلاة عند قوله تعالى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. ويأتي هناك حكم الإمام المريض وغيره من أحكام الصلاة ويأتي في "آل عمران" حكم صلاة المريض غير الإمام ويأتي في "النساء" في صلاة الخوف حكم المفترض خلف المتنفل ويأتي في سورة "مريم" حكم الإمام يصلي أرفع من المأموم إلى غير ذلك من الأوقات والأذان والمساجد وهذا كله بيان لقوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وقد تقدم في أول السورة جملة من أحكامها والحمد لله على ذلك.
الآية 44 {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
فيه تسع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} هذا استفهام التوبيخ والمراد في قول أهل التأويل علماء اليهود. قال ابن عباس "كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين اثبت على الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمد صلى الله عليه وسلم فإن أمره حق فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه" وعن ابن عباس أيضا "كان الأحبار يأمرون مقلديهم وأتباعهم باتباع التوراة وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم" وقال ابن جريج: كان الأحبار يحضون على طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي وقالت فرقة: كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون والمعنى متقارب وقال بعض أهل الإشارات المعنى أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم تخالقون عن ظواهر رسومها.
الثانية: في شدة عذاب من هذه صفته روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة أسري بي مررت على ناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" وروى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم فيقال لهم من أنتم فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا" .
قلت: وهذا الحديث وإن كان فيه لين، لأن في سنده الخصيب بن جحدر كان الإمام أحمد يستضعفه وكذلك ابن معين يرويه عن أبي غالب عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي وأبو غالب هو - فيما حكى يحيى بن معين - حزور القرشي مولى خالد بن عبدالله بن أسيد وقيل مولى باهلة. وقيل مولى عبدالرحمن الحضرمي. كان يختلف إلى

الشام في تجارته قال يحيى بن معين هو صالح الحديث فقد رواه مسلم في صحيحه بمعناه عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه"
القصب "بضم القاف" المعى وجمعه أقصاب والأقتاب الأمعاء واحدها قتب ومعنى "فتندلق": فتخرج بسرعة. وروينا "فتنفلق".
قلت: فقد دل الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه وإنما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله تعالى ومستخف بأحكامه وهو ممن لا ينتفع بعلمه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشد
الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" أخرجه ابن ماجه في سننه.
الثالثة: اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوما كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخا يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال "أتأمرون الناس بالبر" الآية وقال منصور الفقيه فأحسن:
إن قوما يأمرونا ... بالذي لا يفعلونا
لمجانين وإن هم
...
لم يكونوا يصرعونا
وقال أبو العتاهية:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى ... وريح الخطايا من ثيابك تسطع

وقال أبو الأسود الدؤلي:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم
وقال أبو عمرو بن مطر: حضرت مجلس أبي عثمان الحيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير، فسكت حتى طال سكوته، فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس: ترى أن تقول في سكوتك شيئا؟ فأنشأ يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض
قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.
قال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44] الآية، وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، وقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]. وقال سلم بن عمرو:
ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا ... أضحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض الدنيا فما باله ... يستمنح الناس ويسترفد
والرزق مقسوم على من ترى ... يناله الأبيض والأسود
وقال الحسن لمطرف بن عبدالله: عظ أصحابك، فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر

أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء.
الخامسة قوله تعالى: {الْبِرَّ} البر هنا الطاعة والعمل الصالح. والبر: الصدق. والبر: ولد الثعلب. والبر: سوق الغنم، ومنه قولهم: "لا يعرف هرا من بر" أي لا يعرف دعاء الغنم من سوقها. فهو مشترك، وقال الشاعر:
لا هم رب إن بكرا دونكا ... يبرك الناس ويفجرونكا
أراد بقوله "يبرك الناس": أي يطيعونك. ويقال: إن البر الفؤاد في قوله:
أكون مكان البر منه ودونه ... واجعل ما لي دونه وأوامره
والبر "بضم الباء" معروف، و"بفتحها" الإجلال والتعظيم، ومنه ولد بر وبار، أي يعظم والديه ويكرمهما.
قوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي تتركون. والنسيان "بكسر النون" يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، وفي قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44]، وقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. ويكون خلاف الذكر والحفظ، ومنه الحديث: "نسي آدم فنسيت ذريته" . وسيأتي. يقال: رجل نسيان "بفتح النون": كثير النسيان للشيء. وقد نسيت الشيء نسيانا، ولا تقل نَسَيانا "بالتحريك"، لأن النسَيان إنما هو تثنية نسا العرق. وأنفس: جمع نفس، جمع قلة. والنفس: الروح، يقال: خرجت نفسه، قال أبو خراش:
نجا سالم والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
أي بجفن سيف ومئزر. ومن الدليل على أن النفس الروح قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] يريد الأرواح في قول جماعة من أهل التأويل على ما يأتي، وذلك

بين في قول بلال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم "إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا" رواهما مالك. وهو أولى ما يقال به. والنفس أيضا الدم يقال سالت نفسه قال الشاعر:
تسيل على حد السيوف نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
وقال إبراهيم النخعي ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه والنفس أيضا الجسد قال الشاعر:
نبئت أن بني سحيم أدخلوا ... أبياتهم تامور نفس المنذر
والتامور أيضا: الدم.
السابعة: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} توبيخ عظيم لمن فهم. "وتتلون": تقرؤون "الكتاب" التوراة. وكذا من فعل فعلهم كان مثلهم وأصل التلاوة الاتباع، ولذلك استعمل في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه: يقال: تلوته إذا تبعته تلوا وتلوت القرآن تلاوة. وتلوت الرجل تلوا إذا خذلته. والتلية والتلاوة "بضم التاء" البقية يقال تليت لي من حقي تلاوة وتلية أي بقيت. وأتليت أبقيت وتتّليت حقي إذا تتبعته حتى تستوفيه. قال أبو زيد تلى الرجل إذا كان بآخر رمق.
الثامنة- قوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم. والعقل المنع، ومنه عقال البعير لأنه يمنع عن الحركة ومنه العقل للدية لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني، ومنه اعتقال البطن واللسان، ومنه يقال للحصن معقل والعقل نقيض الجهل والعقل ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تغشي به الهوادج. قال علقمة:
عقلا ورقما تكاد الطير تخطفه ... كأنه من دم الأجواف مدموم

المدموم "بالدال المهملة" الأحمر وهو المراد هنا والمدموم الممتلئ شحما من البعير وغيره. ويقال هما ضربان من البرود قال ابن فارس: والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولا وما كان نقشه مستديرا فهو الرقم. وقال الزجاج: العاقل من عمل بما أوجب الله عليه فمن لم يعمل فهو جاهل.
التاسعة- اتفق أهل الحق على أن العقل كائن موجود ليس بقديم ولا معدوم لأنه لو كان معدوما لما اختص بالاتصاف به بعض الذوات دون بعض وإذا ثبت وجوده فيستحيل القول بقدمه، إذ الدليل قد قام على أن لا قديم إلا الله تعالى على ما يأتي بيانه في هذه السورة وغيرها إن شاء الله تعالى.
وقد صارت الفلاسفة إلى أن العقل قديم ثم منهم من صار إلى أنه جوهر لطيف في البدن ينبث شعاعه منه بمنزلة السراج في البيت يفصل به بين حقائق المعلومات ومنهم من قال إنه جوهر بسيط أي غير مركب. ثم اختلفوا في محله فقالت طائفة منهم محله الدماغ لأن الدماغ محل الحس، وقالت طائفة أخرى محله القلب لأن القلب معدن الحياة ومادة الحواس وهذا القول في العقل بأنه جوهر فاسد من حيث إن الجواهر متماثلة فلو كان جوهر عقلا لكان كل جوهر عقلا وقيل إن العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني وهذا القول وإن كان أقرب مما قبله فيبعد عن الصواب من جهة أن الإدراك من صفات الحي والعقل عرض يستحيل ذلك منه كما يستحيل أن يكون ملتذا ومشتهيا. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري والأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وغيرهما من المحققين العقل هو العلم بدليل أنه لا يقال عقلت وما علمت أو علمت وما عقلت. وقال القاضي أبو بكر العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وهو اختيار أبي المعالي في الإرشاد. واختار في البرهان أنه صفة يتأتى بها درك العلوم واعترض على مذهب القاضي واستدل على فساد مذهبه وحكي في البرهان عن المحاسبي أنه قال العقل غريزة. وحكى الأستاذ

أبو بكر عن الشافعي وأبي عبدالله بن مجاهد أنهما قال: العقل آلة التمييز. وحكى عن أبي العباس القلانسي أنه قال العقل قوة التمييز. وحكي عن المحاسبي أنه قال العقل أنوار وبصائر ثم رتب هذه الأقوال وحملها على محامل فقال: والأولى ألا يصح هذا النقل عن الشافعي ولا عن ابن مجاهد فإن الآلة إنما تستعمل في الآلة المثبتة واستعمالها في الأعراض مجاز وكذلك قول من قال إنه قوة فإنه لا يعقل من القوة إلا القدرة. والقلانسي أطلق ما أطلقه توسعا في العبارات وكذلك المحاسبي. والعقل ليس بصورة ولا نور ولكن تستفاد به الأنوار والبصائر، وسيأتي في هذه السورة بيان فائدته في آية التوحيد إن شاء الله تعالى.
الآية: 45 {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الصبر الحبس في اللغة: وقتل فلان صبرا أي أمسك وحبس حتى أتلف. وصبرت نفسي على الشيء: حبستها. والمصبورة التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت، وهي المجثَّمة. وقال عنترة:
فصبرتُ عارفةً لذلك حرة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع
الثانية: أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال "واصبروا" يقال فلان صابر عن المعاصي، وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة، هذا أصح ما قيل. قال النحاس ولا يقال لمن صبر على المصيبة: صابر، إنما يقال صابر على كذا. فإذا قلت صابر مطلقا فهو على ما ذكرنا، قال الله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
الثالثة: قوله تعالى: {وَالصَّلاةِ} خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها، وكان عليه السلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ومنه ما روي أن عبدالله

بن عباس نعي له أخوه قثم - وقيل بنت له - وهو في سفر فاسترجع وقال: "عورة سترها الله، ومؤونة كفاها الله، وأجر ساقه الله. ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية، وقال قوم: هي الدعاء على عرفها في اللغة، فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال 45] لأن الثبات هو الصبر، والذكر هو الدعاء. وقول ثالث قال مجاهد الصبر في هذه الآية الصوم ومنه قيل لرمضان شهر الصبر فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة والله أعلم.
الرابعة: الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين، قال يحيى بن اليمان: الصبر ألا تتمنى حال سوى ما رزقك الله والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك. وقال الشعبي قال علي رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. قال الطبري: وصدق علي رضي الله منه وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق. فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به.
الخامسة: وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدا فقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام 160] وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] الآية. وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وقال {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43]. وقد قيل أن المراد بالصابرين في قوله {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} [الزمر: 10] أي الصائمون، لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " الصيام لي وأنا أجزي به" . فلم يذكر ثوابا مقدرا كما لم يذكره في الصبر والله اعلم.

السادسة: من فضل الصبر وصف الله تعالى نفسه به كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله تعالى، إنهم ليدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم". أخرجه البخاري. قال علماؤنا: وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها، ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل وإنما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم قال ابن فورك وغيره: وجاء في أسمائه "الصبور" للمبالغة في الحلم عمن عصاه.
السابعة: قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} اختلف المتأولون في عود الضمير من قوله: "وإنها"، فقيل: على الصلاة وحدها خاصة، لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم. والصبر هنا الصوم فالصلاة فيها سجن النفوس والصوم إنما فيه منع الشهوة فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات. فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق، فيتسلى بتلك الأشياء عما منع والمصلي يمتنع من جميع ذلك فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات. وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعب على النفس ومكابدتها أشد فلذلك قال {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} وقيل عليهما، ولكنه كنى عن الأغلب وهو الصلاة، كقوله {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] وقوله {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]. فرد الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم وإلى التجارة لأنها الأفضل والأهم. وقيل إن الصبر لما كان داخلا في الصلاة أعاد عليها كما قال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله جل وعز ومنه قول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ... ـود ما لم يعاص كان جنونا

ولم يقل يعاصيا، رد إلى الشباب لأن الشعر داخل فيه وقيل رد الكناية إلى كل واحد منهم لكن حذف اختصارا، قال الله تعالى {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين ومنه قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة ... رحله فإني وقيار بها لغريب
وقال آخر:
لكل هم من الهموم سعه ... والصبح والمسي لا فلاح معه
أراد: لغريبان، لا فلاح معهما، وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة وقيل على المصدر وهى الاستعانة التي يقتضيها قوله: {وَاسْتَعِينُوا} وقيل على أجابه محمد عليه السلام، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه. وقيل على الكعبة لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها. "وكبيرة" معناه ثقيلة شاقة، خبر "إن" ويجوز في غير القرآن: "وإنه لكبيرة إلا على الخاشعين" فإنها خفيفة عليهم. قال أرباب المعاني إلا على من أيد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى.
الثامنة: قوله تعالى: {عَلَى الْخَاشِعِينَ} الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع والخشوع هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع. وقال قتادة الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة. قال الزجاج الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقوان؟ هذا هو الأصل قال النابغة:
رماد ككحل العين لأيا أبينه ... ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
ومكان خاشع: لا يهتدى له. وخشعت الأصوات أي سكنت، وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقا لزجا. وخشع ببصره إذا غضه. والخشعة قطعة من الأرض رخوة. وفي الحديث "كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد". وبلدة خاشعة مغبرة لا منزل بها.

قال سفيان الثوري: سألت الأعمش عن الخشوع فقال: يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال أعيمش تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس، لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك. ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال يا هذا! ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب. وقال علي بن أبي طالب: الخشوع في القلب، وأن تلين كفيك للمرء المسلم وألا تلتفت في صلاتك. وسيأتي هذا المعنى مجودا عند قوله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا على نفاق. قال سهل بن عبدالله لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23].
قلت: هذا هو الخشوع المحمود لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا. وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان. روى الحسن أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه. وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان ناسكا صدقا وخاشعا حقا. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الخاشعون هم المؤمنون حقا.
الآية: 46 {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} "الذين" في موضع خفض على النعت للخاشعين، ويجوز الرفع على القطع. والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] وقوله: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]. قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد

وقال أبو داود:
رب هم فرجته بغريم ... وغيوب كشفتها بظنون
وقد قيل: إن الظن في الآية يصح أن يكون على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين ذكر المهدوي والماوردي قال ابن عطية: وهذا تعسف. وزعم الفراء أن الظن قد يقع بمعنى الكذب ولا يعرف ذلك البصريون. وأصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه وقد يوقع موقع اليقين، كما في هذه الآية وغيرها لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر: أظن هذا إنسانا. وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بمعنى كهذه الآية والشعر، وكقوله تعالى {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} . وقد يجيء اليقين بمعنى الظن وقد تقدم بيانه أول السورة وتقول: سؤت به ظنا وأسأت به الظن. يدخلون الألف إذا جاؤوا بالألف واللام. ومعنى {مُلاقُو رَبِّهِمْ} جزاء ربهم. وقيل: إذا جاء على المفاعلة وهو من واحد، مثل عافاه الله. {وَأَنَّهُمْ} بفتح الهمزة عطف على الأول ويجوز "وإنهم" بكسرها على القطع. {إِلَيْهِ} أي إلى ربهم، وقيل إلى جزائه. {رَاجِعُونَ} إقرار بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى.
الآية: 47 {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} تقدم. {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} يريد على عالمي زمانهم، وأهل كل زمان عالم. وقيل: على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم.
الآية: 48 {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أمر معناه الوعيد، وقد مضى الكلام في التقوى. "يوماً" يريد عذابه وهوله وهو يوم القيامة. وانتصب على المفعول بـ "اتقوا". ويجوز في غير القرآن يوم لا تجزي على الإضافة. وفي الكلام حذف بين النحويين فيه اختلاف. قال البصريون: التقدير يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا ثم حذف فيه كما قال:
ويوما شهدناه سليما وعامرا
أي شهدنا فيه. وقال الكسائي: هذا خطأ لا يجوز حذف "فيه" ولكن التقدير: واتقوا يوما لا تجزيه نفس، ثم حذف الهاء. وإنما يجوز حذف الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها قال: لا يجوز أن تقول هذا رجلا قصدت، ولا رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه قال: ولو جاز ذلك لجاز الذي تكلمت زيد بمعنى تكلمت فيه زيد. وقال الفراء يجوز أن تحذف الهاء وفيه. وحكى المهدوي أن الوجهين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج.
ومعنى {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أي لا تؤاخذ نفس بذنب أخرى ولا تدفع عنها شيئا تقول: جزى عني هذا الأمر يجزي، كما تقول قضى عني واجتزأت بالشيء اجتزاء إذا اكتفيت به، قال الشاعر:
فإن الغدر في الأقوام عار ... وأن الحر يجزأ بالكراع
أي يكتفي بها وفي حديث عمر "إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك" يريد إذا صببت الماء على البول في الأرض فجرى عليه طهر المكان ولا حاجة بك إلى غسل ذلك الموضع وتنشيف الماء بخرقة أو غيرها كما يفعل كثير من الناس. وفي صحيح الحديث عن أبي بردة بن نيار في الأضحية "لن تجزي عن أحد بعدك" أي لن تغني. فمعنى لا تجزي لا تقضي ولا تغني ولا تكفي إن لم يكن عليها شيء، فإن كان فإنها تجزي وتقضي وتغني،

بغير اختيارها من حسناتها ما عليها من الحقوق، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" . خرجه البخاري. ومثله حديثه الآخر في المفلس وقد ذكرناه في التذكرة خرجه مسلم. وقرئ "تجزئ" بضم التاء والهمز. ويقال جزى وأجزى بمعنى واحد وقد فرق بينهما قوم فقالوا جزى بمعنى قضى وكافأ، وأجزى بمعنى أغنى وكفى. أجزأني الشيء يجزئني: أي كفاني قال الشاعر
وأجزأت أمر العالمين ولم يكن ... ليجزئ إلا كامل وابن كامل
الثالثة: قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} الشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان، تقول كان وترا فشفعته شفعا والشفعة منه لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك. والشفيع صاحب الشفعة وصاحب الشفاعة وناقة شافع: إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها، تقول منه: شفعت الناقة شفعا وناقة شفوع وهي التي تجمع بين محلبين في حلبة واحدة واستشفعته إلى فلان سألته أن يشفع لي إليه. وتشفعت إليه في فلان فشفعني فيه فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعته للمشفوع.
الرابعة: مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق، وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب والأخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين. وقد تمسك القاضي عليهم في الرد بشيئين أحدهما: الأخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى والثاني الإجماع من السلف على تلقي هذه الأخبار بالقبول ولم يبد من

أحد منهم في عصر من الأعصار نكير فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة.
فإن قالوا قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب رد هذه الأخبار مثل قوله {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون وقال {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] قلنا: ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم والعموم لا صيغة له فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس، وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك وأيضا فإن الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وقال {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وقال {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين. وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} النفس الكافرة لا كل نفس. ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول إنهم مخلدون فيها بدليل الأخبار التي رويناها وبدليل قوله {يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وقوله {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
فإن قالوا: فقد قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} والفاسق غير مرتضى قلنا لم يقل لمن لا يرضى وإنما قال {لِمَنِ ارْتَضَى} ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون، بدليل قوله {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم 87] وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما عهد الله مع خلقه قال "أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئا" وقال المفسرون إلا من قال لا إله إلا الله
فإن قالوا المرتضى هو التائب الذي اتخذ عند الله عهدا بالإنابة إليه بدليل أن الملائكة استغفروا لهم، وقال {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] وكذلك شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر. قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة

فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار. وأجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} أي من الشرك "واتبعوا سبيلك" أي سبيل المؤمنين. سألوا الله تعالى أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم كما قال تعالى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
فإن قالوا جميع الأمة يرغبون في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت لأهل الكبائر خاصة بطل سؤالهم.
قلنا: إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده انه غير سالم من الذنوب ولا قائم لله سبحانه بكل ما افترض عليه بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة وقال صلى الله عليه وسلم "لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى فقيل: ولا أنت يا رسول الله فقال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" .
الخامسة: قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو "تقبل" بالتاء لأن الشفاعة مؤنثة وقرأ الباقون بالياء على التذكير لأنها بمعنى الشفيع وقال الأخفش حسن التذكير لأنك قد فرقت، كما تقدم في قوله {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37].
السادسة: قوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي فداء. والعدل "بفتح العين" الفداء و"بكسرها" المثل يقال عدل وعديل للذي يماثلك في الوزن والقدر. ويقال: عدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه والعدل "بالكسر" هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير
قوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي يعانون والنصر العون والأنصار الأعوان ومنه قوله {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي من يضم نصرته إلى نصرتي وانتصر الرجل أنتقم والنصر الإتيان يقال نصرت أرض بني فلان أتيتها قال الشاعر:

إذا دخل الشهر الحرام فودعي ... بلاد تميم وانصري أرض عامر
والنصر المطر يقال نصرت الأرض مطرت والنصر العطاء قال:
إني وأسطار سطرن سطرا ... لقائل يا نصر نصرا نصرا
وكان سبب هذه الآية فيما ذكروا أن بني إسرائيل قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعات ولا يؤخذ فيه فدية وإنما خص الشفاعة والفدية والنصر بالذكر، لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا فإن الواقع في الشدة لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدي.
3الآية: 49 {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}
فيها ثلاثة عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} "إذ" في موضع نصب عطف على {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} وهذا وما بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوكم وجعل الأنبياء فيكم. والخطاب للموجودين والمراد من سلف من الآباء كما قال {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] أي حملنا آباءكم وقيل إنما قال "نجيناكم" لأن نجاة الآباء كانت سببا لنجاة هؤلاء الموجودين. ومعنى "نجيناكم" ألقيناكم على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها هذا هو الأصل ثم سمى كل فائز ناجيا فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة وقرىء "وإذ نجيتكم" على التوحيد.
الثانية: قوله تعالى: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} "آل فرعون" قومه وأتباعه وأهل دينه وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن. ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه. خلافا للرافضة حيث قالت: إن آل الرسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة

والحسن والحسين فقط. دليلنا قوله تعالى {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 50] {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة ولأنه لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبا له ولأجل هذا يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول "ألا إن آل أبي - يعني فلانا - ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين" وقالت طائفة آل محمد أزواجه وذريته خاصة لحديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال "قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صلت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" رواه مسلم وقالت طائفة من أهل العلم الأهل معلوم والآل الأتباع والأول أصح لما ذكرناه ولحديث عبدالله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: "اللهم صل عليهم" فأتاه أبي بصدقته فقال "اللهم صل على آل أبي أوفى"
الثالثة: اختلف النحاة هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا؟ فقال الكسائي: إنما يقال آل فلان وآل فلانة ولا يقال في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة قال الأخفش إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد صلى الله عليه وسلم وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة قال وقد سمعناه في البلدان قالوا: أهل المدينة وآل المدينة.

الرابعة : واختلف النحاة أيضا هل يضاف الآل إلى المضمر أو لا؟ فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائي فلا يقال إلا اللهم صل على محمد وآل محمد ولا يقال وآله والصواب أن يقال أهله وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال منهم ابن السيد وهو الصواب لأن السماع الصحيح يعضده فإنه قد جاء في قول عبدالمطلب:
لا هم إن العبد يمـ ... ـنع رحله فامنع حلالك
وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك
وقال ندبة:
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي ... وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
الحقيقة [بقافين] ما يحق على الإنسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته
الخامسة: واختلفوا أيضا في أصل آل فقال النحاس أصله أهل ثم أبدل من الهاء ألفا فإن صغرته رددته إلى أصله فقلت: أهيل وقال المهدوي: أصله أول وقيل: أهل، قبلت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا وجمعه آلون وتصغيره أويل فيما حكى الكسائي. وحكى غيره أهيل وقد ذكرنا عن النحاس وقال أبو الحسن بن كيسان: إذا جمعت آلا قلت آلون فإن جمعت آلا الذي هو السراب قلت آوال مثل مال وأموال.
السادسة: قوله تعالى: {فِرْعَوْنَ} قيل: إنه اسم ذلك الملك بعينه وقيل إنه اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة وأن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب. وقال وهب اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ويكنى أبا مرة وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. قال السهيلي: وكل من ولى القبط ومصر فهو فرعون وكان فارسيا من أهل اصطخر قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية قال الجوهري فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عات فرعون والعتاة الفراعنة وقد تفرعن

وهو ذو فرعنة أي دهاء ونكر. وفي الحديث "أخذنا فرعون هذه الأمة" "وفرعون" في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعجمته
السابعة: قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ} قيل معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه وقال أبو عبيدة يولونكم يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو بن كلثوم
إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل يديمون تعذيبكم والسوم الدوام ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي قال الأخفش: وهو في موضع رفع على الابتداء وإن شئت كان في موضع نصب على الحال أي سائمين لكم
الثامنة: قوله تعالى: {سُوءَ الْعَذَابِ} مفعول ثان لـ "يسومونكم" ومعناه أشد العذاب ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا فروي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يتخدمون وكان قومه جندا ملوكا ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب.
التاسعة: قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} "يذبحون" بغير واو على البدل من قومه "يسومونكم" كما قال أنشده سيبويه:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
قال الفراء وغيره "يذبحون" بغير واو على التفسير لقوله {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49] كما تقول أتاني القوم زيد وعمرو فلا تحتاج إلى الواو في زيد ونظيره: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان: 68 - 69] وفي سورة إبراهيم {وَيُذَبِّحُونَ} بالواو لأن المعنى

يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح فقوله {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله والله أعلم
قلت قد يحتمل أن يقال إن الواو زائدة بدليل سورة "البقرة" والواو قد تزاد كما قال:
فلما اجزنا ساحة الحي وانتحى
أي قد انتحى وقال آخر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة وهو كثير
العاشرة: قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ} قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير وقرأ ابن محيصن "يذبحون" بفتح الباء والذبح الشق والذبح المذبوح والذباح تشقق في أصول الأصابع وذبحت الدن بزلته أي كشفته وسعد الذابح أحد السعود والمذابح المحاريب والمذابح جمع مذبح وهو إذا جاء السيل فخد في الأرض فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحا فكان فرعون يذبح الأطفال ويبقي البنات وعبر عنهم باسم النساء بالمآل وقالت طائفة {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} يعني الرجال وسموا أبناء لما كانوا كذلك واستدل هذا القائل بقوله "نساءكم" والأول أصح لأنه الأظهر والله أعلم
الحادية عشرة: نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله قال الطبري: ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به.
قلت: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته هكذا قال النخعي وقال الشافعي ومالك في تفصيل لهما قال الشافعي إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظلما كان عليه وعلى الإمام القود كقاتلين معا وإن أكرهه الإمام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الإمام القود وفي المأمور

قولان: أحدهما أن عليه القود والآخر لا قود عليه وعليه نصف الدية حكاه ابن المنذر وقال علماؤنا لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الآمر ويخاف شره كالسلطان والسيد لعبده فالقود في ذلك لازم لهما أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيقتل المباشر وحده دون الآمر وذلك كالأب يأمر ولده أو المعلم بعض صبيانه أو الصانع بعض متعلميه إذا كان محتلما فان كان غير محتلم فالقتل على الآمر وعلى عاقلة الصبي نصف الدية وقال ابن نافع لا يقتل السيد إذا أمر عبده وإن كان أعجميا بقتل إنسان قال ابن حبيب وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه بل يقتل المأمور دون الآمر ويضرب الآمر ويحبس وقال أحمد في السيد يأمر عبده أن يقتل رجلا يقتل السيد وروي هذا القول عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما وقال علي ويستودع العبد السجن وقال أحمد ويحبس العبد ويضرب ويؤدب وقال الثوري يعزر السيد وقال الحكم وحماد يقتل العبد وقال قتادة يقتلان جميعا وقال الشافعي إن كان العبد فصيحا يعقل قتل العبد وعوقب السيد وإن كان العبد أعجميا فعلى السيد القود وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن تقطع يديه ثم يعاقب ويحبس وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة وكذلك قال عطاء والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق في الرجل يأمر الرجل بقتل الرجل وذكره ابن المنذر وقال زفر لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث حكاه أبو المعالي في البرهان ورأى أن الآمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقلا في القود فلذلك يقتل لا واحد منهما عنده والله أعلم
الثانية عشرة: قرأ الجمهور "يذبحون" بالتشديد على المبالغة وقرأ ابن محيصن "يذبحون" بالتخفيف والأولى أرجح إذ الذبح متكرر وكان فرعون على ما روي قد رآه في منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيكون خراب ملكه على يديه وقيل غير هذا والمعنى متقارب.

الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُمْ} إشارة إلى جملة الأمر إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء أي امتحان واختبار و{بَلاءٌ} نعمة ومنه قوله تعالى {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [الأنفال: 17] قال أبو الهيثم البلاء يكون حسنا ويكون سيئا وأصله المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء وللسيئ بلاء حكاه الهروي وقال قوم الإشارة بـ "ذلكم" إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم وقال الجمهور الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هنا في الشر والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان وقال ابن كيسان ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه وأنشد
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فجمع بين اللغتين والأكثر في الخير أبليته وفي الشر بلوته وفي الاختبار أبتليته وبلوته قاله النحاس..
الآية 50 {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ} "إذا" في موضع نصب و"فرقنا" فلقنا فكان كل فرق كالطود العظيم أي الجبل العظيم وأصل الفرق الفصل ومنه فرق الشعر ومنه الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل ومنه: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} [المرسلات: 4] يعني الملائكة تنزل بالفرق ببن الحق والباطل ومنه {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] يعني يوم بدر كان، فيه فرق بين الحق والباطل ومنه {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] أي فصلناه وأحكمناه. وقرأ الزهري "فرقنا" بتشديد الراء أي جعلناه فرقا ومعنى "بكم" أي لكم فالباء بمعنى اللام وقيل الباء في مكانها أي فرقنا البحر بدخولكم إياه أي صاروا بين الماءين فصار الفرق بهم وهذا أولى يبينه "فانفلق".

قوله تعالى: {الْبَحْرَ} البحر معروف سمي بذلك لاتساعه ويقال فرس بحر إذا كان واسع الجري أي كثيره، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مندوب فرس أبي طلحة "وإن وجدناه لبحرا" والبحر الماء الملح ويقال أبحر الماء ملح قال نصيب
وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني ... إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب
والبحر: البلدة يقال هذه بحرتنا أي بلدتنا. قال الأموي والبحر السلال يصيب الإنسان. ويقولون لقيته صحرة بحرة أي بارزا مكشوفا. وفي الخبر عن كعب الأحبار قال إن لله ملكا يقال له صندفاييل البحار كلها في نقرة إبهامه. ذكره أبو نعيم في ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب.
قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاكُمْ} أي أخرجناكم منه يقال نجوت من كذا نجاء ممدود ونجاة مقصور والصدق منجاة. وأنجيت غيري ونجيته وقرئ بهما "وإذ نجيناكم" "فأنجيناكم".
قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} يقال غرق في الماء غرقا فهو غرق وغارق أيضا ومنه قول أبي النجم:
من بين مقتول وطاف غارق
وأغرقه غيره وغرقه فهو مغرق وغريق. ولجام مغرق بالفضة أي محلى والتغريق: القتل قال الأعشى:
ألا ليت قيسا غرقته القوابل
وذلك أن القابلة كانت تغرق المولود في ماء السلى عام القحط ذكرا كان أو أنثى حتى يموت ثم جعل كل قتل تغريقا ومنه قول ذي الرمة:

إذا غرقت أرباضها ثني بكرة ... بتيهاء لم تصبح رؤوما سلوبها
والأرباض الحبال والبكرة الناقة الفتية وثنيها بطنها الثاني، وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب.
القول في اختلاف العلماء في كيفية إنجاء بني إسرائيل
فذكر الطبري أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط وأحل الله ذلك لبني إسرائيل فسرى بهم موسى من أول الليل فأعلم فرعون فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الديكة فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين كما قال تعالى {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه. وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف. وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف وقيل: إن فرعون اتبعه في ألف ألف حصان سوى الإناث وقيل دخل إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام - مصر في ستة وسبعين نفسا من ولده وولد ولده فأنمى الله عددهم وبارك في ذريته حتى خرجوا إلى البحر يوم فرعون وهم ستمائة ألف من المقاتلة سوى الشيوخ والذرية والنساء وذكر أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة قال: حدثنا شبابة بن سوار عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبدالله بن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون فأمر بشاة فذبحت، ثم قال: لا والله لا يفرغ من سلخها حتى تجتمع لي ستمائة ألف من القبط، قال: فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له أفرق فقال له البحر لقد استكبرت يا موسى وهل فرقت لأحد من ولد آدم فأفرق لك قال: ومع موسى رجل على حصان له قال: فقال له ذلك الرجل: أين أمرت يا نبي الله؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه قال فأقحم فرسه فسبح فخرج. فقال أين أمرت يا نبي الله قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذبت ولا كذبت ثم أقتحم الثانية فسبح به حتى خرج فقال أين أمر ت يا نبي الله؟ فقال ما أمرت

إلا بهذا الوجه قال والله ما كذبت ولا كذبت قال فأوحى الله إليه {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الأعراف 160] فضربه موسى بعصاه {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء 63] فكان فيه اثنا عشر فرقا لاثني عشر سبطا، لكل سبط طريق يتراءون، وذلك أن أطواد الماء صار فيها طيقانا وشبابيك يرى منها بعضهم بعضا فلما خرج أصحاب موسى وقام أصحاب فرعون التطم البحر عليهم فأغرقهم ويذكر أن البحر هو بحر القلزم وأن الرجل الذي كان مع موسى على الفرس هو فتاه يوشع بن نون وأن الله تعالى أوحى إلى البحر أن انفلق لموسى إذا ضربك فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب البحر وكناه أبا خالد ذكره ابن أبي شيبة أيضا وقد أكثر المفسرون في قصص هذا المعنى وما ذكرناه كاف وسيأتي في سورة "يونس والشعراء" زيادة بيان أن شاء الله تعالى.
فصل: ذكر الله تعالى الإنجاء والإغراق ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه فروى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى صلى الله عليه وسلم "ما هذا اليوم الذي تصومونه" فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضا عن ابن عباس وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "أنتم أحق بموسى منهم فصوموا".
مسألة: ظاهر هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صام عاشوراء وأمر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما أخبره به اليهود. وليس كذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه أخرجه البخاري ومسلم.

فإن قيل: يحتمل أن تكون قريش إنما صامته بإخبار اليهود لها لأنهم كانوا يسمعون منهم لأنهم كانوا عندهم أهل علم فصامه النبي عليه السلام كذلك في الجاهلية أي بمكة فلما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه قال "نحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه اتباعا لموسى. "وأمر بصيامه" أي أوجبه وأكد أمره حتى كانوا يصومونه الصغار قلنا: هذه شبهة من قال: إن النبي صلى لعله كان متعبدا بشريعة موسى وليس كذلك على ما يأتي بيانه في "الأنعام" عند قوله تعالى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]
مسألة: اختلف في يوم عاشوراء هل هو التاسع من المحرم أو العاشر؟ فذهب الشافعي إلى أنه التاسع لحديث الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما قلت هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال نعم خرجه مسلم. وذهب سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وجماعة من السلف إلى أنه العاشر. وذكر الترمذي حديث الحكم ولم يصفه بصحة ولا حسن. ثم أردفه: أنبأنا قتيبة أنبأنا عبدالوارث عن يونس عن الحسن عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر. قال أبو عيسى حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. قال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال: صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود. وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. قال غيره: وقول ابن عباس للسائل "فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما" ليس فيه دليل على ترك صوم العاشر بل وعد أن يصوم التاسع مضافا إلى العاشر. قالوا: فصيام اليومين جمع بين الأحاديث. وقول ابن عباس للحكم لما قال له: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال نعم معناه أن لو عاش وإلا فما كان النبي صلى الله عليه وسلم صام التاسع قط يبينه ما خرجه ابن ماجة في سننه ومسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع" .

فضيلة: روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" أخرجه مسلم والترمذي وقال: لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال: "صيام يوم عاشوراء كفارة سنة" إلا في حديث أبي قتادة.
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملة في موضع الحال ومعناه بأبصاركم فيقال إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم يغرقون وإلى أنفسهم ينجون ففي هذا أعظم المنة. وقد قيل: إنهم أخرجوا لهم حتى رأوهم فهذه منة بعد منة وقيل: المعنى "وأنتم تنظرون" أي ببصائركم الاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار وقيل: المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر كما تقول هذا الأمر منك بمرأى ومسمع أي بحال تراه وتسمعه إن شئت. وهذا القول والأول أشبه بأحوال بني إسرائيل لتوالى عدم الاعتبار فيما صدر من بني إسرائيل بعد خروجهم من البحر وذلك أن الله تعالى لما أنجاهم وغرق عدوهم قالوا: يا موسى إن قلوبنا لا تطمئن إن فرعون قد غرق حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه.
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن قيس بن عباد أن بني إسرائيل قالت: ما مات فرعون وما كان ليموت أبدا قال: فلما أن سمع الله تكذيبهم نبيه عليه السلام رمى به على ساحل البحر كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل فلما اطمأنوا وبعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون حتى نقلوا كنوزه وغرقوا في النعمة رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حتى زجرهم موسى وقال: أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين أي عالمي زمانه ثم أمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة التي كانت مساكن آبائهم ويتطهروا من أرض فرعون وكانت الأرض المقدسة في أيدي الجبارين قد غلبوا عليها فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال فقالوا أتريد أن تجعلنا لحمة للجبارين فلو أنك تركتنا في يد فرعون كان خيرا لنا قال: { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] إلى قول "قاعدون" حتى دعا عليهم وسماهم فاسقين. فبقوا في التيه أربعين سنة عقوبة ثم رحمهم فمن عليهم بالسلوى وبالغمام - على ما يأتي بيانه - ثم سار موسى إلى طور سيناء

ليجيئهم بالتوراة فاتخذوا العجل - على ما يأتي بيانه - ثم قيل لهم: قد وصلتم إلى بيت المقدس فادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة - على ما يأتي - وكان موسى عليه السلام شديد الحياء ستيرا فقالوا إنه آدر. فلما أغتسل وضع على الحجر ثوبه فعدا الحجر بثوبه إلى مجالس بني إسرائيل وموسى على أثره عريان وهو يقول: يا حجر ثوبي فذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: 69] - على ما يأتي بيانه - ثم لما مات هارون قالوا له: أنت قتلت هارون وحسدته حتى نزلت الملائكة بسريره وهارون ميت عليه - وسيأتي في المائدة - ثم سألوه أن يعلموا آية في قبول قربانهم فجعلت نار تجيء من السماء فتقبل قربانهم ثم سألوه أن بين لنا كفارات ذنوبنا في الدنيا فكان من أذنب ذنبا أصبح على بابه مكتوب "عملت كذا وكفارته قطع عضو من أعضائك" يسميه له ومن أصابه بول لم يطهر حتى يقرضه ويزيل جلدته من بدنه ثم بدلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بأيديهم واشتروا به عرضا ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم. فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم وسيأتي بيان كل فصل من هذه الفصول مستوفى في موضعه إن شاء الله تعالى وقال الطبري: وفي أخبار القرآن على لسان محمد عليه السلام بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في حق بني إسرائيل دليل واضح عند بن إسرائيل قائم عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
الآية: 51 {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}
فيه ست مسائل:

الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قرأ أبو عمرو "وعدنا" بغير ألف، واختاره أبو عبيد ورجحه وأنكر "واعدنا" قال: لأن المواعدة إنما تكون من البشر فأما الله جل وعز فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد. على هذا وجدنا القرآن، كقوله عز وجل: {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} "إبراهيم: 22" وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} "الفتح: 29" وقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] قال مكي: وأيضا فإن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله تعالى لموسى، وليس فيه وعد من موسى، فوجب حمله على الواحد، لظاهر النص أن الفعل مضاف إلى الله تعالى وحده، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر، وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحاق. قال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا "وعدنا" بغير ألف، لأن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين، كل واحد منهما يَعِد صاحبه. قال الجوهري: الميعاد: المواعدة والوقت والموضع. قال مكي: المواعدة أصلها من اثنين، وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا: طارقت النعل، وداويت العليل، وعاقبت اللص، والفعل من واحد. فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى وعدنا، فتكون القراءتان بمعنى واحد. والاختبار "واعدنا" بالألف لأنه بمعنى "وعدنا" في أحد معنييه، ولأنه لا بدّ لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصح المفاعلة. قال النحاس: وقراءة "واعدنا" بالألف أجود وأحسن، وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي، وليس قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} من هذا في شيء، لأن "واعدنا موسى" إنما هو من باب الموافاة، وليس هذا من الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا. والفصيح في هذا أن يقال: واعدته. قال أبو إسحاق الزجاج: "واعدنا" ههنا بالألف جيد، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله جل وعز وعد، ومن موسى قبول واتباع يجري مجرى المواعدة. قال ابن عطية. ورجح أبو عبيدة "وعدنا" وليس بصحيح، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة.

الثانية: قوله تعالى: {مُوسَى} اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف والقبط على - ما يروى - يقولون للماء: مو، وللشجر: شا. فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر سمي موسى. قال السدي: لما خافت عليه أمه جعلته في التابوت وألقته في اليَمّ - كما أوحى الله إليها - فألقته في اليم بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه، فسمي باسم المكان. وذكر النقاش وغيره: أن اسم الذي التقطته صابوث. قال ابن إسحاق: وموسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
الثالثة: قوله تعالى: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أربعين نصب على المفعول الثاني، وفي الكلام حذف قال الأخفش: التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة كما قال {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} والأربعون كلها داخلة في الميعاد.
والأربعون في قول أكثر المفسرين ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأل قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة فعدوا - فيما ذكر المفسرون - عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد أخلفنا موعده. فاتخذوا العجل وقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فاطمأنوا إلى قوله. ونهاهم هارون وقال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 90] فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فيما روي في الخبر. وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة

وورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لدن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى فقتل بعضهم بعضا لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحد كل من استقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله حتى عج موسى إلى الله صارخا: يا رباه قد فنيت بنو إسرائيل فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله فقبل توبة من بقي وجعل من قتل في الشهداء على ما يأتي.
الرابعة: إن قيل: لم خص الليالي بالذكر دون الأيام؟ قيل له: لأن الليلة أسبق من اليوم قبله في الرتبة ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أول الشهور والأيام تبع لها.
الخامسة- قال النقاش: في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم لأنه تعالى لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين يوما بلياليها. قال ابن عطية: سمعت أبي يقول: سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل الجوهري رحمه الله يعظ الناس في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول: ابن حال موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قول حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62]
قلت: وبهذا استدل علماء الصوفية على الوصال وأن أفضله أربعون يوما وسيأتي الكلام في الوصال في آي الصيام من هذه السورة إن شاء الله تعالى ويأتي في "الأعراف" زيادة أحكام لهذه الآية عند قوله تعالى {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] ويأتي لقصة العجل ببان في كيفيته وخواره هناك وفي "طه" إن شاء الله تعالى.
السادسة: قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} أي اتخذتموه إلها من بعد موسى وأصل اتخذتم ائتخذتم من الأخذ ووزنه أفتعلتم سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين فجاء إيتخذتم فاضطربت الياء في التصريف جاءت ألفا في ياتخذ وواوا في موتخذ

فبدلت بحرف جلد ثابت من جنس ما بعدها وهي التاء وأدغمت ثم اجتلبت ألف الوصل للنطق وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير كقوله تعالى {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} [البقرة: 80] فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير قال الشاعر:
استحدث الركب عن أشياعهم خبرا ... أم راجع القلب من أطرابه طرب
ونحوه في القرآن {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} [مريم: 78] {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ} [الصافات: 153] {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ} [ص: 75] ومذهب أبي علي الفارسي أن "اتخذتم" من تخذ لا من أخذ.
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} جملة في موضع الحال وقد تقدم معنى الظلم والحمد لله.
الآية 52 {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} العفو عفو الله جل وعز عن خلقه وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة. وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه فالعفو محو الذنب أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مأخوذ من قولك عفت الريح الأثر أي أذهبته وعفا الشيء كثر فهو من الأضداد ومنه قوله تعالى {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف 95]
الثانية: قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد عبادتكم العجل وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته. والله أعلم والعجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة عن أبي الجراح.
الثالثة: قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} كي تشكروا عفو الله عنكم وقد تقدم معنى لعل وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قول دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه. كما تقدم

في الفاتحة. قال الجوهري: الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف يقال: شكرته وشكرت له وباللام أفصح والشكران خلاف الكفران وتشكرت له مثل شكرت له. وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" قال الخطابي: هذا الكلام يتأول على معنيين أحدهما - أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له. والوجه الآخر - أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر.
الرابعة: في عبارات العلماء في معنى الشكر فقال سهل بن عبدالله الشكر: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية. وقالت فرقة أخرى: الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ولذلك قال تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ: 13] فقال داود: كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك قال الآن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة قال: يا رب فأرني أخفى نعمك علي قال: يا داود تنفس فتنفس داود فقال الله تعالى من يحصي هذه النعمة الليل والنهار وقال موسى عليه السلام: كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازى بها عملي كله فأوحى الله إليه يا موسى الآن شكرتني وقال الجنيد: حقيقة الشكر العجز عن الشكر وعنه قال: كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وببن يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي: يا غلام ما الشكر؟ فقلت: ألا يعصى الله بنعمه فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك قال الجنيد فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي وقال الشبلي الشكر: التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسماوات وقال ذو النون المصري أبو الفيض الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال.

3 الآية 53 {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} "إذا" اسم للوقت الماضي و"إذا" اسم للوقت المستقبل و"آتينا" أعطينا وقد تقدم جميع هذا والكتاب: التوراة بإجماع من المتأولين واختلف في الفرقان فقال الفراء وقطرب: المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا عليه السلام الفرقان قال النحاس: هذا خطأ في الإعراب والمعنى أما الإعراب فإن المعطوف على الشيء مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه وأما المعنى فقد قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} قال أبو إسحاق الزجاج: يكون الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره باسمين تأكيدا وحكي عن الفراء ومنه قول الشاعر:
وقدمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذبا ومينا
وقال آخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد
فنسق البعد على النأي والمين على الكذب لاختلاف اللفظين تأكيدا ومنه قول عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
قال النحاس: وهذا إنما يجيء في الشعر وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد: فرقا بين الحق والباطل أي الذي علمه إياه وقال ابن زيد الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقا فعبروا وقيل: الفرقان الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ومنه قوله تعالى {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29] أي فرجا ومخرجا وقيل: إنه الحجة والبيان قال ابن بحر وقيل الواو صلة والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان والواو قد تزاد في النعوت كقولهم فلان حسن وطويل وأنشد:
إلى الملك القرم وبن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم

أراد إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة ودليل هذا التأويل قوله عز وجل: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 154] أي بين الحرام والحلال والكفر والإيمان والوعد والوعيد وغير ذلك. وقيل: الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون أنجى هؤلاء وأغرق أولئك ونظيره: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} فقيل يعني به يوم بدر نصر الله فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهلك أبا جهل وأصحابه.
قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا من الضلالة وقد تقدم.
الآية 54 {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} القوم: الجماعة الرجال دون النساء قال الله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] ثم قال: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات: 11] وقال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وقال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف: 80] أراد الرجال دون النساء وقد يقع القوم على الرجل والنساء قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1] وكذا كل نبي مرسل إلى النساء والرجال جميعا.
قوله تعالى: {يَا قَوْمِ} منادى مضاف وحذفت الياء في "يا قوم" لأنه موضع حذف والكسرة تدل عليها وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول: يا قومي لأنها اسم وهي في موضع خفض وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت: يا قوميه وإن شئت أبدلت منها ألفا لأنها أخف فقلت: يا قوما وإن شئت قلت: يا قوم بمعنى يا أيها القوم وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ وتقول: قوم وأقوام وأقاوم جمع الجمع والمراد هنا بالقوم عبدة العجل وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى.

قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} استغنى بالجمع القليل عن الكثير والكثير نفوس وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلة والقليل موضع الكثرة قال الله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} "البقرة: 228] وقال {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ} [الزخرف: 71] ويقال لكل من فعل فعلا يعود عليه ضرره: إنما أسأت إلى نفسك وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه.ثم قوله تعالى: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} قال بعض أرباب المعاني: عجل كل إنسان نفسه فمن أسقطه وخالف مراده فقد برئ من ظلمه والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل والحمد لله
قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} لما قال لهم فتوبوا إلى بارئكم قالوا كيف؟ قال {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قال أرباب الخواطر ذللوها بالطاعات وكفوها عن الشهوات والصحيح أنه قتل على الحقيقة هنا والقتل: إماتة الحركة وقتلت الخمر: كسرت شدتها بالماء قال سفيان بن عينه التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل. وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري: لما قيل لهم: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم: كفوا فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي على ما تقدم وقال بعض المفسرين: أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك وقيل: وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا - إذ لم يعبدوا العجل - من عبدالعجل. ويروى أن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال: ملعون من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو أتقاه. بيد أو رجل فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم - يعني من قتل - وأقبل الرجل يقتل من يليه ذكره النحاس وغيره وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم - على القول الأول - لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده. وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع روى جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يعمل فيهم

بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب" أخرجه ابن ماجة في سننه وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى. فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما. وإنما رفع الله عنهم القتل لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة وقرأ قتادة فأقيلوا أنفسكم - من الإقالة - أي استقبلوها من العثرة بالقتل.
قوله تعالى: {بَارِئِكُمْ} البارئ الخالق وبينهما فرق وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال والبرية: الخلق وهي فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز وقرأ أبو عمرو "بارئكم" - بسكون الهمزة - ويشعركم وينصركم ويأمركم واختلف النحاة في هذا فمنهم من يسكن الضمه والكسرة في الوصل وذلك في الشعر وقال أبو العباس المبرد: لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شعر وقراءة أبي عمرو لحن قال النحاس وغيره: وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة وأنشدوا:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم ... بالدو أمثال السفين العوم
وقال امرؤ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
وقال آخر:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا
وقال الآخر
رحت وفي رجليك ما فيهما ... وقد بدا هنك من المئزر

محالا وقد سألها موسى عليه السلام. وسيأتي الكلام في الرؤية في "الأنعام" و"الأعراف" إن شاء الله تعالى.
الثانية: قوله تعالى: {جَهْرَةً} مصدر في موضع الحال ومعناه علانية وقيل عيانا قاله ابن عباس وأصل الجهر الظهور ومنه الجهر بالقراءة إنما هو إظهارها والمجاهرة بالمعاصي: المظاهرة بها ورأيت الأمير جهارا وجهرة أي غير مستتر بشيء وقرأ ابن عباس "جهرة" بفتح الهاء وهما لغتان مثل زهرة وزهرة وفي الجهر وجهان:
أحدهما - أنه صفة لخطابهم لموسى أنهم جهروا به وأعلنوا فيكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: وإذ قلتم جهرة يا موسى.الثاني - أنه صفة لما سألوه من روية الله تعالى أن يروه جهرة وعيانا فيكون الكلام عله نسقه لا تقديم فيه ولا تأخير وأكد بالجهر فرقا بين رؤية العيان ورؤية المنام.
الثالثة: قوله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} قد تقدم في أول السورة معنى الصاعقة وقرأ عمر وعثمان وعلي "الصعقة" وهي قراءة ابن محيصين في جميع القرآن. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملة في موضع الحال ويقال: كيف يموتون وهم ينظرون؟ فالجواب أن العرب تقول دور آل فلان تراءى أي يقابل بعضها بعضا وقيل: المعنى "تنظرون" أي إلى حالكم وما نزل بكم من الموت وآثار الصعقة.
الرابعة: قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أي أحييناكم. قال قتادة: ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ردوا لاستيفاء آجالهم. قال النحاس: وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا والمعنى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ما فعل بكم من البعث بعد الموت وقيل: ماتوا موت همود يعتبر به الغير، ثم أرسلوا وأصل البعث الإرسال. وقيل: بل أصله إثارة الشيء من محله، يقال: بعثت الناقة: أثرتها، أي حركتها، قال امرؤ القيس:

وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ... فقاموا جميعا بين ونشوان
وقال عنترة:
وصحابة شم الأنوف بعثتهم ... ليلا وقد مال الكرى بطلاها
وقال بعضهم: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56] علمناكم من بعد جهلكم.
قلت: والأول أصح، لأن الأصل الحقيقة، وكان موت عقوبة، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} على ما يأتي [البقرة: 243]
الخامسة: قال الماوردي: واختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ومعاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين: أحدهما - بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل من تعبد. الثاني: سقوط تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار.
قلت: والأول أصح، فإن بني إسرائيل قد رأوا الجبل في الهواء ساقطا عليهم والنار محيطة بهم وذلك مما اضطرهم إلى الإيمان، وبقاء التكليف ثابت عليهم، ومثلهم قوم يونس. ومحال أن يكونوا غير مكلفين والله أعلم.
الآية: 57 {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} أي جعلناه عليكم كالظلة. والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب قاله الأخفش سعيد. قال الفراء: ويجوز غمائم وهي السحاب لأنها تغم المساء أي تسترها وكل مغطى فهو مغموم ومنه المغموم على عقله. وغم الهلال

إذا غطاه الغيم والغين مثل الغيم ومنه قول عليه السلام: "إنه ليغان على قلبي" قال صاحب العين: غين عليه غطى عليه والغين شجر ملتف وقال السدي: الغمام السحاب الأبيض وفعل هذا بهم ليقيهم حر الشمس نهارا وينجلي في آخره ليستضيؤوا بالقمر ليلا وذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24] فعوقبوا في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيت كانوا بكرة أمس. وإذا كانوا بأجمعهم في التيه قالوا لموسى: من لنا بالطعام فأنزل الله عليهم المن والسلوى قالوا من لنا من حر الشمس فظلل عليهم الغمام. قالوا: فبم نستصبح فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم وذكر مكي: عمود من نار قالوا: من لنا بالماء فأمر موسى بضرب الحجر قالوا: من لنا باللباس فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان والله أعلم.
الثانية: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} اختلف في المن ما هو وتعيينه على أقوال فقيل: الترنجبين - بتشديد الراء وتسكين النون ذكره النحاس ويقال: الطرنجبين بالطاء - وعلى هذا أكثر المفسرين وقيل: صمغة حلوة وقيل عسل: وقيل شراب حلو. وقيل: خبز الرقاق عن وهب بن منبه وقيل: "المن" مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: "الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين" في رواية "من المن الذي أنزل الله على موسى" . رواه مسلم قال علماؤنا: وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على بني إسرائيل أي مما خلقه الله لهم في الآية قال أبو عبيد: إنما شبهها بالمن لأنه لا مؤونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج فهي منه أي من جنس مَن

بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف روي أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه فإن ادخر منه شيئا فسد عليه إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم لأن يوم السبت يوم عبادة وما كان ينزل عليهم يوم السبت شيء.
الثالثة: لما نص عليه السلام على أن ماء الكمأة شفاء للعين قال بعض أهل العلم بالطب: أما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة وأما لغير ذلك فمركبة مع غيرها وذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى استعمالها بحتا في جميع مرض العين. وهذا كما استعمل أبو وجزة العسل في جميع الأمراض كلها حتى في الكحل على ما يأتي بيانه في سورة "النحل" إن شاء الله تعالى وقال أهل اللغة: الكمء واحد وكمآن اثنان وأكمؤ ثلاثة فإذا زادوا قالوا كمأة - بالتاء - على عكس شجرة وشجر والمن اسم جنس لا واحد له لفظه مثل الخير والشر قاله الأخفش.
الرابعة: قوله تعالى: {وَالسَّلْوَى} اختلف في السلوى فقيل: هو السماني بعينه قاله الضحاك قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي فقال:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها
ظن السلوى العسل.
قلت: ما ادعاه من الإجماع لا يصح وقد قال المؤرج أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل واستدل ببيت الهذلي وذكر أنه كذلك بلغة كنانة سمي به لأنه يسلى به ومنه عين السلوان، وأنشد:
لو أشرب السلوان ما سليت ... ما بي غنى عنك وإن غنيت

وقال الجوهري: والسلوى العسل وذكر بيت الهذلي:
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
ولم يذكر غلطا والسلوانة "بالضم": خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا قال:
شربت على سلوانة ماء مزنة ... فلا وجديد العيش ياميّ ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان وقال بعضهم السلوان دواء يسقاه الحزين فيسلو والأطباء يسمونه المفرح يقال: سليت وسلوت لغتان. وهو في سلوة من العيش أي في رغد عن أبى زيد.
الخامسة: واختلف في السلوى هل هو جمع أو مفرد فقال الأخفش: جمع لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته كما قالوا: دفلى للواحد والجماعة وسمانى وشكاعى في الواحد والجميع. وقال الخليل: واحده سلواة وأنشد:
وإني لتعروني لذكرك هزة ... كما أنتفض السلواة من بلل القطر
وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوى
السادسة: {السَّلْوَى} عطف على "المن" ولم يظهر فيه الإعراب لأنه مقصور ووجب هذا في المقصور كله لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف. قال الخليل: والألف حرف هوائي لا مستقر له فأشبه الحركة فاستحالت حركته وقال الفراء: لو حركت الألف صارت همزة.
السابعة: قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} "كلوا" فيه حذف تقديره وقلنا كلوا فحذف اختصار الدلالة الظاهر عليه والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ.

الثامنة: قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا} يقدر قبله فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لمقابلتهم النعم بالمعاصي.
الآية: 58 {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} حذفت الألف من "قلنا" لسكونها وسكون الدال بعدها والألف التي يبتدأ بها قبل الدال ألف وصل لأنه من يدخل
الثانية: قوله تعالى: {هَذِهِ الْقَرْيَةَ} أي المدينة سميت بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته واسم ذلك الماء قرى "بكسر القاف" مقصور وكذلك ما قري به الضيف قال الجوهري: والمقراة للحوض والقري لمسيل الماء والقرا للظهر ومنه قوله:
لاحق بطن بقرا سمين
والمقاري: الجفان الكبار. قال:
عظام المقاري ضيفهم لا يفزع
وواحد المقاري مقراة وكله بمعنى الجمع غير مهموز والقرية "بكسر القاف" لغة اليمن واختلف في تعيينها فقال الجمهور: هي بيت المقدس وقيل: أريحاء من بيت المقدس قال عمر بن شبة كانت قاعدة ومسكن ملوك. ابن كيسان الشام: الضحاك: الرملة والأردن وفلسطين وتدمر. وهذه نعمه أخرى وهى أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه.

الثالثة: قوله تعالى: {فَكُلُوا} إباحة {رَغَداً} كثيرا واسعا وهو نعت لمصدر محذوف أي أكلاً رغداً ويجوز أن يكون في موضع الحال على ما تقدم وكانت أرضا مباركة عظيمة الغلة فلذلك قال "رغدا"
الرابعة: قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} الباب يجمع أبوابا وقد قالوا: أبوبة للازدواج قال الشاعر:
هتاك أخيية ولاج أبوبة ... يخلط بالبر منه الجد واللينا
ولو أفرده لم يجز. ومثله قول عليه السلام: "مرحبا بالقوم - أو بالوفد - غير خزايا ولا ندامى" وتبوبت بوابا اتخذته. وأبواب مبوبة كما قالوا: أصناف مصنفة. وهذا شيء من بابتك أي يصلح لك. وقد تقدم معنى السجود فلا معنى لإعادته والحمد لله.
والباب الذي أمروا بدخول هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بـ "باب حطه" عن مجاهد وغيره وقيل: باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل و"سجدا" قال ابن عباس: منحنين ركوعا وقيل: متواضعين خشوعا لا على هية متعينة.
الخامسة: قوله تعالى: {وَقُولُوا} عطف على أدخلوا {حِطَّةٌ} بالرفع قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ أي مسألتنا حطة أو يكون حكاية. قال الأخفش: وقرئت "حطة" بالنصب على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة. قال النحاس: الحديث عن ابن عباس أنه قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله وفي حديث آخر عنه قيل لهم قولوا مغفرة - تفسير للنصب، أي قولوا شيئا يحط ذنوبكم كما يقال: قل خيرا والأئمة من القراء على الرفع. وهو أولى في اللغة لما حكي عن العرب في معنى بدل قال أحمد بن يحيى: يقال بدلته، أي غيرته ولم أزل عينه. وأبدلته أزلت عينه وشخصه كما قال:
عزل الأمير للأمير المبدل

وقال الله عز وجل: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] وحديث ابن مسعود قالوا "حطة" تفسير على الرفع هذا كله قول النحاس وقال الحسن وعكرمة: "حطه" بمعنى حط ذنوبنا، أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله ليحط بها ذنوبهم. وقال ابن جبير: معناه الاستغفار أبان بن تغلب: التوبة قال الشاعر:
فاز بالحطة التي جعل اللـ ... ـه بها ذنب عبده مغفورا
وقال ابن فارس في المجمل: "حطة" كلمة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم وقاله الجوهري أيضا في الصحاح.
قلت: يحتمل أن يكونوا تعبدوا بهذا اللفظ بعينه وهو الظاهر من الحديث روى مسلم عن أبي هريرة: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة" وأخرجه البخاري وقال: "فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة" في غير الصحيحين: "حنطة في شعر" وقيل: قالوا هطا سمهانا وهي لفظة عبرانية تفسيرها: حنطة حمراء حكاها ابن قتيبة وحكاه الهروي عن السدي ومجاهد وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمردوا واستهزؤوا فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب وقال ابن زيد: كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفا. وروي أن الباب جعل فصيرا ليدخلوه ركعا فدخلوه متوركين على أستاههم والله أعلم.
السادسة- استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو بمعناها فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه.

وقد اختلف العلماء في هذا المعنى فحكي عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله وهو قول الجمهور. ومنع ذلك جمع كثير من العلماء منهم ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة وقال مجاهد: انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه. وكان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التاء والياء ونحو هذا وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحونا ويعلمون ذلك ولا يغيرونه. وروى أبو مجلز عن قيس بن عباد قال قال عمر بن الخطاب من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم. وروى نحوه عن عبدالله بن عمرو وزيد بن أرقم. وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ ومنهم من يشدد في ذلك ولا يفارق اللفظ.وذلك هو الأحوط في الدين والأتقى والأولى ولكن أكثر العلماء على خلافه. والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ولا كتبها. وروي عن واثلة بن الأسقع أنه قال: ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم حسبكم المعنى. وقال قتادة عن زرارة بن أوفى: لقيت عده من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا علي في اللفظ واجتمعوا في المعنى وكان النخعي والحسن والشعبي رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني وقال الحسن: إذا أصبت المعنى أجزأك. وقال سفيان الثوري رحمه الله: إذا قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى. وقال وكيع رحمه الله: إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس. واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلقة والمعنى واحد ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والإلغاء

والزيادة والنقصان. وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز بالعربية أولى. احتج بهذا المعنى الحسن والشافعي وهو الصحيح في الباب.
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها كما سمعها" وذكر الحديث. وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه: "آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت" فقال الرجل: ورسولك الذي أرسلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ونبيك الذي أرسلت" قالوا: أفلا ترى أنه لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال: "فأداها كما سمعها" قيل لهم: أما قوله "فأداها كما سمعها" فالمراد حكمها لا لفظها لأن اللفظ غير معتد به. ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله: " فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة وذلك أدل على الجواز وأما رده عليه السلام الرجل من قوله: "ورسولك - إلى قوله - ونبيك" لأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع. ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي صلى الله عليه وسلم يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة. فلما قال: "ونبيك" جاء بالنعت الأمدح ثم قيده بالرسالة بقوله: "الذي أرسلت" وأيضا فإن نقله من قوله: "ورسولك - إلى قوله - ونبيك" ليجمع بين النبوة والرسالة. ومستقبح في الكلام أن تقول: هذا رسول فلان الذي أرسله وهذا قتيل زيد الذي قتله لأنك تجتزئ بقولك: رسول فلان وقتيل فلان عن إعادة المرسل والقاتل إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول. وإنما يحسن أن تقول: هذا رسول عبدالله الذي أرسله إلى عمرو وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أوفي وقعة كذا والله ولي التوفيق.

فإن قيل: إذا جاز للراوي الأول تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغيير ألفاظ الأول ويؤدي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها. قيل له: الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا فإن عدمت لم يجز. قال ابن العربي: الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيرت والفهوم قد تباينت والعوائد قد اختلفت وهذا هو الحق والله أعلم.
قال بعض علمائنا: لقد تعاجم ابن العربي رحمه الله فإن الجواز إذا كان مشروطا بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ولهذا لم يفصل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل. نعم، لو قال: المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب والله اعلم.
السابعة: قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} قراءة نافع بالياء مع ضمها وابن عامر بالتاء مع ضمها وهي قراءة مجاهد وقرأها الباقون بالنون مع نصبها وهي أبينها لأن قبلها "وإذ قلنا ادخلوا" فجرى "نغفر" على الأخبار عن الله تعالى، والتقدير وقلنا ادخلوا الباب سجدا نغفر ولان بعده "وسنزيد" بالنون. و"خطاياكم" اتباعا للسواد وأنه على بابه. ووجه من قرأ بالتاء أنه أثبت لتأنيث لفظ الخطايا لأنها جمع خطيئة على التكسير. ووجه القراءة بالياء أنه ذكر لما حال بين المؤنث وبين فعله على ما تقدم في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] وحسن الياء والتاء وإن كان قبله إخبار عن الله تعالى في قوله "وإذ قلنا" لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله تعالى فاستغنى عن النون ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة.
الثامنة: واختلف في أصل خطايا جمع خطية بالهمزة فقال الخليل: الأصل في خطايا أن يقول: خطايئ ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول:

خطائىء ولا تجتمع همزتان في كلمة، فأبدلت من الثانية ياء فقلت: خطائى ثم عملت كما عملت في الأول. وقال الفراء: خطايا جمع خطية بلا همزة كما تقول: هدية وهدايا. قال الفراء: ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت خطاءا وقال الكسائي: لو جمعتها مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت: دواب.
التاسعة : قوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي في إحسان من لم يعبد العجل. ويقال: يغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد وسنزيد في إحسان من لم يرفع للغد. ويقال: يغفر خطايا من هو عاص وسيزيد في إحسان من هو محسن أي نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدم عندهم. وهو اسم فاعل من أحسن. والمحسن من صحح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه وأقبل على أداء فرائضه وكفى المسلمين شره. وفي حديث جبريل عليه السلام: "ما الإحسان قال أن تعبدالله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت..." وذكر الحديث. خرجه مسلم.
الآية: 59 {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {بَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً} "الذين" في موضع رفع أي فبدل الظالمون منهم قولا غير الذي قيل لهم. وذلك أنه قيل لهم: قولوا حطة فقالوا حنطة، على ما تقدم فزادوا حرفا في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفا أن الزيادة في الدين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر. هذا في تغير كلمة هي عبارة عن التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود هذا والقول أنقص من العمل فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل.
الثانية: {فَبَدَّلَ} تقدم معنى بدل وأبدل وقرئ {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا} على الوجهين قال الجوهري: وأبدلت الشيء بغيره. وبدله الله من الخوف

أمنا. وتبديل الشيء أيضا تغييره وإن لم يأت ببدل. واستبدل الشيء بغيره، وتبدل به إذا أخذه مكانه. والمبادلة التبادل. والأبدال: قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر. قال ابن دريد الواحد بديل والبديل البدل. وبدل الشيء: غيره يقال: بدل وبدل لغتان مصل: شبَه وشِبْه ومثَلَ ومِثْل ونكَلَ ونِكْل قال أبو عبيد: لم يسمع في فعَلَ وفِعْل غير هذه الأربعة اليدين والرجلين. وقد بدل "بالكسر" يبدل بدلا.
الثالثة: قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} كرر لفظ "ظلموا" ولم يضمره تعظيما للأمر. والتكرير يكون على ضربين أحدهما استعماله بعد تمام الكلام كما في هذه الآية وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] ثم قال بعد: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبْت أَيْدِيهِمْ} ولم يقل: مما كتبوا وكرر الويل تغليظا لفعلهم ومنه قول الخنساء:
تعرقني الدهر نهسا وحزا ... وأوجعني الدهر قرعا وغمزا
أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه وصغيرياتها والضرب الثاني: مجي تكرير الظاهر في موضع المضمر قبل أن يتم الكلام كقوله تعالى {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1 - 2] و {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1 - 2] كان القياس لولا ما أريد به من التعظيم والتفخيم: الحاقة ما هي، والقارعة ما هي، ومثله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} كرر "أصحاب الميمنة" تفخيما لما ينيلهم من جزيل الثواب وكرر لفظ "أصحاب المشأمة" لما ينالهم من أليم العذاب. ومن هذا الضرب قول الشاعر:
ليت الغراب غداة ينعب دائبا ... كان الغراب مقطع الأوداج
وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فكرر لفظ الموت ثلاثا وهو من الضرب الأول ومنه قول الآخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد
فكرر ذكر محبوبته ثلاثا تفخيما لها
قوله تعالى: {رِجْزاً} قراءة الجماعة "رجزا" بكسر الراء وابن محيصن بضم الراء والرجز: العذاب "بالزاي" و"بالسين" النتن والقذر ومنه قوله تعالى {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] أي نتنا إلى نتنهم قاله الكسائي وقال الفراء الرجز هو الرجس. قال أبو عبيد: كما يقال السدغ والزدغ وكذا رجس ورجز بمعنى. قال الفراء: وذكر بعضهم أن الرجز "بالضم" اسم صنم كانوا يعبدونه وقرئ بذلك في قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} والرجز "بفتح الراء والجيم" نوع من الشعر وأنكر الخليل أن يكون شعرا وهو مشتق من الرجز وهو داء يصيب الإبل في أعجازها فإذا ثارت ارتعشت أفخاذها.
قوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي بفسقهم والفسق الخروج وقد تقدم. وقرأ ابن وثاب والنخعي "يفسقون" بكسر السين..
الآية 60 {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} كسرت الذال لالتقاء الساكنين والسين سين السؤال مثل استعلم واستخبر واستنصر ونحو ذلك أي طلب وسأل السقيَ لقومه. والعرب تقول: سقيته وأسقيته لغتان بمعنى، قال:

سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال
وقيل: سقيته من سقي الشفة وأسقيته دللته على الماء.
الثانية: الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح. وقد استسقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا متخشعا مترسلا متضرعا وحسبك به فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد فأنى نسقى لكن قد قال صلى في حديث ابن عمر: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا" الحديث. وسيأتي بكماله إن شاء الله.
الثالثة: سنة الاستسقاء الخروج إلى المصلى - على الصفة التي ذكرنا - والخطبة والصلاة وبهذا قال جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنته صلاة ولا خروج وإنما هو دعاء لا غير. واحتج بحديث أنس الصحيح أخرجه البخاري ومسلم. ولا حجة له فيه فإن ذلك كان دعاء عجلت إجابته فاكتفي به عما سواه ولم يقصد بذلك بيان سنة ولما قصد البيان بين بفعله حسب ما رواه عبدالله بن يزيد المازني قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه ثم صلى ركعتين رواه مسلم. وسيأتي من أحكام الاستسقاء زيادة في سورة "هود" إن شاء الله.
الرابعة: قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} العصا: معروف وهو اسم مقصور مؤنث وألفه منقلبة عن واو، قال:
على عصويها سابري مشبرق

والجمع عُصِيّ وعِصِيّ وهو فعول وإنما كسرت العين لما بعدها من الكسرة وأعص أيضا مثله مثل زمن وأزمن وفي المثل: "العصا من العصية" أي بعض الأمر من بعض وقولهم "ألقى عصاه" أي أقام وترك الأسفار وهو مَثَل. قال:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
وفي التنزيل: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 17 - 18] وهناك يأتي الكلام في منافعها إن شاء الله تعالى. قال الفراء: أول لحن سمع بالعراق هذه عصاتي وقد يعبر بالعصا عن الاجتماع والافتراق، ومنه يقال في الخوارج: قد شقوا عصا المسلمين أي اجتماعهم وائتلافهم. وانشقت العصا أي وقع الخلاف قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند
أي يكفيك ويكفي الضحاك. وقولهم: لا ترفع عصاك عن أهلك براد به الأدب والله أعلم. والحجر معروف وقياس جمعه في أدنى العدد أحجار، وفي الكثير حجار وحجارة، والحجارة نادر. وهو كقولنا: جمل وجمالة، وذكر وذكارة، كذا قال ابن فارس والجوهري.
قلت: وفي القرآن {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة: 74] {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} [البقرة: 74] {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً} [الإسراء: 50] {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ} [الفيل: 4] {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [الحجر: 74] فكيف يكون نادرا، إلا أن يريدا أنه نادر في القياس كثير في الاستعمال فصيح. والله أعلم.
قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ} في الكلام حذف تقديره فضرب فانفجرت. وقد كان تعالى قادرا على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب لكن أراد أن بربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد. والانفجار: الانشقاق ومنه انشق الفجر. وانفجر الماء انفجارا: انفتح. والفجرة: موضع تفجر الماء. والانبجاس أضيق من الانفجار، لأنه يكون انبجاسا ثم يصير انفجارا. وقيل: انبجس وتبجس وتفجر وتفتق بمعنى واحد حكاه الهروي وغيره.

الخامسة- قوله تعالى: {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} "اثنتا" في موضع رفع بـ "انفجرت" وعلامة الرفع فيها الألف وأعربت دون نظائرها لأن التثنية معربة أبدا لصحة معناها. "عينا" نصب على البيان. وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى "عشرة" بكسر الشين وهي لغة بني تميم وهذا من لغتهم نادر، لأن سبيلهم التخفيف. ولغة أهل الحجاز "عشْرة" وسبيلهم التثقيل. قال جميعه النحاس. والعين من الأسماء المشتركة يقال: عن الماء وعين الإنسان وعين الركبة وعين الشمس. والعَيْن: سحابة تقبل من ناحية القبلة والعين: مطر يدوم خمسا أو ستا لا يقلع. وبلد قليل العَيْن: أي قليل الناس. وما بها عين، محركة الياء والعين: الثقب في المزادة والعَين من الماء مشبهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها كخروج الدمع من عين الحيوان. وقيل: لما كان عين الحيوان أشرف ما فيه شبهت به عين الماء لأنها أشرف ما في الأرض
السادسة: لما استسقى موسى عليه السلام لقومه أمر أن يضرب عند استسقائه بعصاه حجرا قيل مربعا طوريا "من الطور" على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به، فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحله في منزلته من المرحلة الأولى وهذا أعظم في الآية والإعجاز. وقيل: إنه أطلق له اسم الحجر ليضرب موسى أي حجر شاء وهذا أبلغ في الإعجاز. وقيل: إن الله تعالى أمره أن يضرب حجرا بعينه بينه لموسى عليه السلام ولذلك ذكر بلفظ التعريف. قال سعيد بن جبير: هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه لما اغتسل وفر بثوبه حتى برأه الله مما رماه به قومه. قال ابن عطية: ولا خلاف أنه كان حجرا منفصلا مربعا تطرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون.

قلت: ما أوتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من نبع الماء وانفجاره من يده وبين أصابعه أعظم في المعجزة فإنا نشاهد الماء يتفجر من الأحجار آناء الليل وآناء النهار ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم يخرج الماء من بين لحم ودم. روى الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات عن عبدالله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد ماء فأتي بتور؟؟ فأدخل يده فيه فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه ويقول: "حي على الطهور" قال الأعمش: فحدثني سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال ألفا وخمسمائة. لفظ النسائي.
السابعة: قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} يعني أن لكل سبط منهم عينا قد عرفها لا يشرب من غيرها. والمشرب: موضع الشرب وقيل: المشروب. والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها. قال عطاء: كان للحجر أربعة أوجه يخرج من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين لا يخالطهم سواهم. وبلغنا أنه كان في كل سبط خمسون ألف مقاتل سوى خيلهم ودوابهم. قال عطاء: كان يظهر على كل موضع من ضربة موسى مثل ثدي المرأة على الحجر فيعرق أولا ثم يسيل.
الثامنة : قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} في الكلام حذف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر المنفصل.. {وَلاَ تَعْثَوا } أي لا تفسدوا والعيث: شدة الفساد، نهاهم عن ذلك. يقال: عث يعث عثيا وعثا يعثو عثوا، وعاث يعيث عيثا وعيوثا ومعاثا والأول لغة القرآن. ويقال: عث يعث في المضاعف أفسد ومنه العثة، وهي السوسة التي تلحس الصوف. و {مُفْسِدِينَ} حال وتكرر المعنى تأكيدا لاختلاف اللفظ. وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها والتقدم في المعاصي والنهي عنها.

الآية: 61 {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ} كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى وتذكروا عيشهم الأول بمصر قال الحسن: كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا: لن نصبر على طعام واحد وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فلذلك قالوا طعام واحد وقيل لتكرارهما: في كل يوم غذاء كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة: هو على أمر واحد لملازمته لذلك. وقيل: المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منا بنفسه وكذلك كانوا فهم أول من اتخذ العبيد والخدم.
قوله تعالى: {عَلَى طَعَامٍ} الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب قال الله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} وقال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] أي ما شربوه من الخمر على ما يأتي بيانه. وإن كان السلوى العسل - كما حكى المؤرج - فهو مشروب أيضا. وربما خص بالطعام البر والتمر كما في حديث أبي سعيد الخدري قال: كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من

شعير الحديث. والعرف جار بأن القائل: ذهبت إلى سوق الطعام فليس يفهم منه إلا موضع به دون غيره مما يؤكل أو يشرب والطعم "بالفتح": هو ما يؤديه الذوق يقال: طعمه مر. والطعم أيضا: ما يشتهى منه يقال: ليس له طعم. وما فلان بذي طعم: إذا كان غثا. والطعم "بالضم": الطعام قال أبو خراش:
أرد شجاع البطن لو تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم
وأغتبق الماء القراح فأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
أراد بالأول الطعام وبالثاني ما يشتهى. منه وقد طعم يطعم فهو طاعم إذا أكل وذاق ومنه قوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] أي من لم يذقه. وقال: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53] أي أكلتم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم: "إنها طعام طعم وشفاء سقم" واستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدثه. وفي الحديث: "إذا استطعمكم الإمام فأطعموه" يقول: إذا استفتح فافتحوا عليه وفلان ما يطعم النوم إلا قائما. وقال الشاعر:
نعاما بوجرة صفر الخدو ... د ما تطعم النوم إلا صياما
قوله تعالى: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} لغة بني عامر "فادع" بكسر العين لالتقاء الساكنين، يجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف. و"يخرج" مجزوم على معنى سلْه وقل له: أخرج، يخرج. وقيل: هو على معنى الدعاء على تقدير حذف

اللام وضعفه الزجاج. و"من" في قول "مما" زائدة في قول الأخفش وغير زائدة في قول سيبويه لأن الكلام موجب. قال النحاس: وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولا لـ "يخرج" فأراد أن يجعل "ما" مفعولا. والأوْلى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سائر الكلام، التقدير: يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولا. فـ "من" الأولى على هذا للتبعيض والثانية للتخصيص.
قوله تعالى: {مِنْ بَقْلِهَا} بدل من "ما" بإعادة الحرف، والبقل معروف وهو كل نبات ليس له ساق. والشجر: ما له ساق. و {وَقِثَّائِهَا} عطف عليه وكذا ما بعده فاعلمه والقثاء أيضا معروف وقد تضم قافه وهى قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف لغتان والكسر. أكثر وقيل في جمع قثاء: قثائي مثل علباء وعلابي إلا أن قثاء من ذوات الواو تقول: اقثأئت القوم أي أطعمتهم ذلك.
وقثأت القدر سكنت غليانها بالماء قال الجعدي:
تفور علينا قدرهم فنديمها ... ونفثؤها عنا إذا حميها غلا
وقثأت الرجل إذا كسرته عنك بقول أو غيره وسكنت غضبه. وعدا حتى أفثأ أي أعيا وانبهر وأفثأ الحر أي سكن وفتر ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم: إن الرثيئة تفثأ في الغضب. وأصله أن رجلا كان غضب على قوم وكان مع غضبه جامعا فسقوه رثيئة فسكن غضبه وكف عنهم. الرثيئة: اللبن المحلوب على الحامض ليخثر. رثأت اللبن رثأ إذا حلبته على حامض فخثر والاسم الرثيئة وارتثأ اللبن خثر.
وروى ابن ماجه حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة وهذا إسناد صحيح.

قوله تعالى: {وَفُومِهَا} اختلف في الفوم فقيل هو الثوم لأنه المشاكل للبصل. رواه جويبر عن الضحاك والثاء تبدل من الفاء كما قالوا: مغافير ومغاثير. وجدث وجدف للقبر. وقرأ ابن مسعود "ثومها" بالثاء المثلثة وروي ذلك عن ابن عباس. وقال أمية بن أبي الصلت:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة ... فيها الفراديس والفومان والبصل
الفراديس: واحدها فرديس. وكرم مفردس أي معرش. وقال حسان:
وأنتم أناس لئام الأصول ... طعامكم الفوم والحوقل
يعني الثوم والبصل وهو قول الكسائي والنضر بن شميل. وقيل: الفوم الحنطة. روي عباس أيضا وأكثر المفسرين واختاره النحاس قال: وهو أولى ومن قال به أعلى وأسانيده صحاح وليس جويبر بنظير لروايته وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء والإبدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب. وأنشد عباس لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة قول أحيحة بن الجلاح:
قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ... ورد المدينة عن زراعة فوم
وقل أبو إسحاق الزجاج: وكيف يطلب القوم طعاما لا بر فيه والبر أصل الغذاء!. وقال الجوهري أبو نصر: الفوم الحنطة. وأنشد الأخفش:
قد كنت أحسبني كأغنى واجد ... نزل المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن دريد: الفومة السنبلة وأنشد:
وقال ربيئهم لما أتانا ... بكفه فومة أو فومتان

والهاء في "كفه" غير مشبعة. وقال بعضهم: الفوم الحمص لغة شامية. وبائعه فامي مغير عن فومي لأنهم قد يغيرون في النسب، كما قالوا: سهلي ودهري. ويقال: فوموا لنا أي اختبزوا. قال الفراء: هي لغة قديمة. وقال عطاء وقتادة: الفوم كل حب يختبز.
مسألة: اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول. جمهور العلماء إلى إباحة ذلك، للأحاديث الثابتة في ذلك وذهبت طائفة من أهل الظاهر - القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا - إلى المنع، وقالوا: كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به. واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها خبيثة، والله عز قد وصف نبيه عليه السلام بأنه يحرم الخبائث. ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ببدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا، قال: فأخبر بما فيها من البقول، فقال: "قربوها" - إلى بعض أصحابه كان معه - فلما رآه كره أكلها، قال: " كل فإني أناجي من لا تناجي" . أخرجه مسلم وأبو داود. فهذا بين في الخصوص له والإباحة لغيره. وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على أبي أيوب، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فيه ثوم، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: لم يأكل. ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ولكني أكرهه" . قال: فإني أكره ما تكره أو ما كرهت، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى "يعني يأتيه الوحي". فهذا نص على عدم التحريم. وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها: "أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها" الأحاديث تشعر بأن الحكم خاص به، إذ هو المخصوص بمناجاة الملك. لكن قد علمنا هذا الحكم في حديث جابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال: "من أكل من هذه البقلة الثوم وقال مرة: من أكل البصل والثوم

والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم " وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طول إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم. ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا. خرجه مسلم.
قوله تعالى: {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} العدس معروف. والعدسة: بثرة تخرج بالإنسان، وربما قتلت. وعدس: زجر للبغال، قال:
عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
والعدس: شدة الوطء، والكدح أيضا، يقال: عدسة. وعدس في الأرض: ذهب فيها. وعدست إليه المنية أي سارت، قال الكميت:
أكلفها هول الظلام ولم أزل ... أخا الليل معدوسا إلي وعادسا
أي يسار إلي بالليل. وعدس: لغة في حدس، قاله الجوهري. ويؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي أنه قال: "عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس وإنه يرق القلب ويكثر الدمعة فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم" ، ذكره الثعلبي وغيره. وكان عمر بن عبدالعزيز يأكل يوما خبزا بزيت، ويوما بلحم، ويوما بعدس. قال الحليمي: والعدس والزيت طعام الصالحين، ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية. وهو مما يخفف البدن فيخف للعبادة، لا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم. والحنطة من جملة الحبوب وهي الفوم على الصحيح، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام، فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم

لم يشبع هو وأهله من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجل.
قوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} الاستبدال: وضع الشيء موضع الآخر، ومنه البدل، وقد تقدم. و"أدنى" مأخوذ عند الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة، من قولهم: ثوب مقارب، أي قليل الثمن. وقال علي بن سليمان: هو مهموز من الدنيء البين الدناءة بمعنى الأخس، إلا أنه خفف همزته. وقيل: هو مأخوذ من الدون أي الأحط، فأصله أدون، أفعل، قلب فجاء أفلع، وحولت الواو ألفا لتطرفها. وقرئ في الشواذ "أدنى". ومعنى الآية: أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير.
واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهى خمسة:
الأول: أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل، قاله الزجاج.
الثاني : لما كان المن والسلوى طعاما مّن الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل كان أدنى في هذا الوجه.
الثالث : لما كان ما مّن الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة.
الرابع: لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب كان أدنى.
الخامس: لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه، كانت أدنى من هذا الوجه.

مسألة: في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، ويشرب الماء البارد العذب، وسيأتي هذا المعنى في "المائدة" و"النحل" إن شاء الله مستوفى.
قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً} تقدم معنى الهبوط، وهذا أمر معناه التعجيز، كقوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} [الإسراء: 50] لأنهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم. وقيل: إنهم أعطوا ما طلبوه. و"مصرا" بالتنوين منكرا قراءة الجمهور، وهو خط المصحف، قال مجاهد وغيره: فمن صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين. وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {اهْبِطُوا مِصْراً} قال: مصرا من هذه الأمصار. وقالت طائفة ممن صرفها أيضا: أراد مصر فرعون بعينها. استدل الأولون بما اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه. واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث، بني إسرائيل ديار آل فرعون وأثارهم، وأجازوا صرفها. قال الأخفش والكسائي: لخفتها وشبهها بهند ودعد، وأنشد:
لم تتلفع بفضل مئزرها ... دعد ولم تسق دعد في العلب
فجمع بين اللغتين. وسيبويه والخليل والفراء لا يجيزون هذا، لأنك لو سميت امرأة بزيد لم تصرف. وقال غير الأخفش: أراد المكان فصرف. وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة: "مصر" بترك الصرف. وكذلك هي في مصحف أبى بن كعب وقراءة ابن مسعود. وقالوا: هي مصر فرعون. قال أشهب قال لي مالك: هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون، ذكره ابن عطية. والمصر أصله في اللغة الحد. ومصر الدار: حدودها. قال ابن فارس ويقال: إن أهل هجر يكتبون في شروطهم "اشترى فلان الدار بمصورها" أي حدودها، قال عدي:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا

قوله تعالى: {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} "ما" نصب بإن، وقرأ ابن وثاب والنخعي "سألتم" بكسر السين، يقال: سألت وسلت بغير همز. وهو من ذوات الواو، بدليل قولهم: يتساولان.
قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي ألزموهما وقضي عليهم بهما، مأخوذ من ضرب القباب، قال الفرزدق في جرير:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل
وضرب الحاكم على اليد، أي حمل وألزم. والذلة: الذل والصغار. والمسكنة: الفقر. فلا يوجد يهودي وإن كان غنيا خاليا من زي الفقر وخضوعه ومهانته. وقيل: الذلة فرض الجزية، عن الحسن وقتادة. والمسكنة الخضوع، وهي مأخوذة من السكون، أي قلل الفقر حركته، قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة: الذلة الصغار. والمسكنة مصدر المسكين. وروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} قال: هم أصحاب القبالات.
قوله تعالى: {وَبَاءُوا} أي انقلبوا ورجعوا، أي لزمهم ذلك. ومنه قوله عليه السلام في دعائه ومناجاته: "أبو ء بنعمتك علي" أي أقر بها وألزمها نفسي. وأصله في اللغة الرجوع، يقال باء بكذا، أي رجع به، وباء إلى المباءة وهي المنزل أي رجع. والبواء: الرجوع بالقود. وهم في هذا الأمر بواء، أي سواء، يرجعون فيه إلى معنى واحد. وقال الشاعر:
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي ... محارمنا لا يبؤؤ الدم بالدم
أي لا يرجع الدم بالدم في القود. وقال:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
أي رجعوا ورجعنا. وقد تقدم معنى الغضب في الفاتحة.

قوله تعالى: {ذَلِكَ} تعليل. {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي يكذبون، {بآيَاتِ اللَّهِ} أي بكتابه ومعجزات أنبيائه، كعيسى ويحيى وزكريا ومحمد عليهم السلام. و {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} معطوف على "يكفرون" وروي عن الحسن "يقتلون" وعنه أيضا كالجماعة. وقرأ نافع "النبيئين" بالهمز حيث وقع في القرآن إلا في موضعين: في سورة الأحزاب: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ } [الأحزاب. 50]. و {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ} [الأحزاب: 53] فإنه قرأ بلا مد ولا همز. وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين. وترك الهمز في جميع ذلك الباقون. فأما من همز فهو عنده من أنبأ إذا أخر، واسم فاعله منبئ. ويجمع نبيء أنبياء، وقد جاء في جمع نبي نبآء، قال العباس بن مرداس السلمي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
يا خاتم النبآء إنك مرسل ... بالحق كل هدى السبيل هداكا
هذا معنى قراءة الهمز. واختلف القائلون بترك الهمز، فمنهم من اشتق اشتقاق من همز، ثم سهل الهمز. ومنهم من قال: هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر. فالنبي من النبوة وهو الارتفاع، فمنزلة النبي رفيعة. والنبي بترك الهمز أيضا الطريق، فسمي الرسول نبيا لاهتداء الخلق به كالطريق، قال الشاعر:
لأصبح رتما دقاق الحصى ... مكان النبي من الكاثب
رتمت الشيء: كسرته، يقال: رتم أنفه ورثمه، بالتاء والثاء جميعا. والرتم أيضا المرتوم أي المكسور. والكاثب اسم جبل. فالأنبياء لنا كالسبل في الأرض. ويروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا نبيء الله، وهمز. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لست بنبيء الله - وهمز - ولكني نبي الله" ولم يهمز. قال أبو علي: ضعف سند هذا الحديث، ومما يقوي ضعفه أنه عليه السلام قد أنشده المادح: يا خاتم النبآء...ولم يؤثر في ذلك إنكار.

قوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه".
فإن قيل: هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق، ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به. قيل له: ليس كذلك، وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم وليس بحق، فكان هذا تعظيما للشنعة عليهم، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن يقتل على الحق، فصرح قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله.
فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ قيل: ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بخذلان لهم. قال ابن عباس والحسن: لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} "ذلك" رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه. والباء في "بما" باء السبب. قال الأخفش: أي بعصيانهم. والعصيان: خلاف الطاعة. واعتصت النواة إذا اشتدت. والاعتداء: تجاوز الحد في كل شيء، وعرف في الظلم والمعاصي.
الآية 62 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
فيه ثماني مسائل
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال سفيان: المراد المنافقون. كأنه قال: الذين أمنوا في ظاهر أمرهم، فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم
الثانية- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَادُوا} معناه صاروا يهودا، نسبوا إلى يهوذا وهو أكبر ولد يعقوب عليه السلام، فقلبت العرب الذال دالا، لأن الأعجمية إذا عربت غيرت

عن لفظها. وقيل: سموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل. هاد: تاب. والهائد: التائب، قال الشاعر:
إني امرؤ من حبه هائد
أي تائب. وفي التنزيل: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أي تبنا. وهاد القوم يهودون هودا وهيادة إذا تابوا. وقال ابن عرفة: "هدنا إليك" أي سكنا إلى أمرك. والهوادة السكون والموادعة. قال: ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} وقرأ أبو السمال: "هادوا" بفتح الدال.
الثالثة- قوله تعالى: {وَالنَّصَارَى} جمع واحده نصراني. وقيل: نصران بإسقاط الياء، وهذا قول سيبويه. والأنثى نصرانة، كندمان وندمانة. وهو نكرة يعرف بالألف واللام، قال الشاعر:
صدت كما صد عما لا يحل له ... ساقي نصارى قبيل الفصح صوام
فوصفه بالنكرة. وقال الخليل: واحد النصارى نصري، كمهري ومهارى. وأنشد سيبويه شاهدا على قوله:
تراه إذا دار العشا متحنفا ... ويضحي لديه وهو نصران شامس
وأنشد:
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما أسجدت نصرانة لم تحنف
يقال: أسجد إذا مال. ولكن لا يستعمل نصران ونصرانة إلا بياءي النسب، لأنهم قالوا: رجل نصراني وامرأة نصرانية. ونصره: جعله نصرانيا. وفي الحديث: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه". وقال عليه السلام: "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني

ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها، وقياسه النصرانيون. ثم قيل: سموا بذلك لقرية تسمى "ناصرة" كان ينزلها عيسى عليه السلام فنسب إليها فقيل: عيسى الناصري، فلما نسب أصحابه إليه قيل النصارى، قاله ابن عباس وقتادة. وقال الجوهري: ونصران قرية بالشام ينسب إليها النصارى، ويقال ناصرة. وقيل: سموا بذلك لنصرة بعضهم بعضا، قال الشاعر:
لما رأيت نبطا أنصارا ... شمرت عن ركبتي الإزارا
كنت لهم من النصارى جارا
وقيل: سموا بذلك لقول: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52].
الرابعة- قوله تعالى: {وَالصَّابِئِينَ} جمع صابئ، وقيل: صاب، ولذلك اختلفوا في همزه، وهمزه الجمهور إلا نافعا. فمن همزه جعله من صبأت النجوم إذا طلعت، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت. ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال. فالصابئ في اللغة: من خرج ومال من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ. فالصابئون قد خرجوا من دين أهل الكتاب.
الخامسة- لا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل كتاب ولأجل كتابهم جاز نكاح نسائهم وأكل طعامهم على ما يأتي بيانه في المائدة وضرب الجزية عليهم، على ما يأتي في، سورة "براءة" إن شاء الله. واختلف في الصابئين، فقال السدي: هم فرقة من أهل الكتاب، وقاله إسحاق بن راهويه. قال ابن المنذر وقال إسحاق: لا بأس بذبائح الصابئين لأنهم طائفة من أهل الكتاب. وقال أبو حنيفة: لا بئس بذبائحهم ومناكحة نسائهم. وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام. وقال مجاهد والحسن وابن أبي نجيح: هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم. ابن عباس: ولا تنكح نساؤهم. وقال الحسن أيضا وقتادة هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور ويصلون الخمس، رآهم زياد

ابن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة. والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض علمائنا أنهم موحدون معتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة، ولهذا أفتى أبو سعيد الاصطخري القادر بالله بكفرهم حين سأله عنهم.
السادسة: قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ} بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم "أي صدق. و"من" في قوله: {مَنْ آمَنَ} في موضع نصب بدل من "الذين". والفاء في قوله {فَلَهُمْ} داخلة بسبب الإبهام الذي في "من". و"لهم أجرهم" ابتداء وخبر في موضع خبر إن. ويحسن أن يكون "من" في موضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط. و"آمن" في موضع جزم بالشرط، والفاء الجواب. و"لهم أجرهم" خبر "من"، والجملة كلها خبر "إن"، والعائد على "الذين" محذوف، تقديره من آمن منهم بالله. وفي الإيمان بالله واليوم الآخر اندراج الإيمان بالرسل والكتب والبعث.
السابعة: إن قال قائل: لم جمع الضمير في قوله تعالى: {لهُمْ أَجْرُهُمْ} و"آمن" لفظ مفرد ليس بجمع، وإنما كان يستقيم لو قال: له أجره. فالجواب أن "من" يقع على الواحد والتثنية والجمع، فجائز أن يرجع الضمير مفردا ومثنى ومجموعا، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] على المعنى. وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} على اللفظ. وقال الشاعر:
ألما بسلمى عنكما إن عرضتما ... وقولا لها عوجي على من تخلفوا
وقال الفرزدق:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فحمل على المعنى ولو حمل على اللفظ لقال: يصطحب وتخلف. قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} فحمل على اللفظ. ثم قال: {خَالِدِينَ} فحمل على المعنى، ولو راعى اللفظ لقال: خالدا فيها. وإذا جرى ما بعد "من" على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى كما في هذه الآية. وإذا جرى ما بعدها على المعنى لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ لأن الإلباس يدخل في الكلام. وقد مضى الكلام في قوله تعالى: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} والحمد لله

الثامنة: روي عن ابن عباس أن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [الحج: 17] الآية. منسوخ بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] الآية. وقال غيره: ليست بمنسوخة. وهى فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام.
الآية 63 {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
الآية 64 {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} هذه الآية تفسر معنى قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171]. قال أبو عبيدة: المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه. قال: وكل شيء قلعته فرميت به فقد نتقته. وقيل: نتقناه رفعناه. قال ابن الأعرابي: الناتق الرافع، والناتق الباسط، والناتق الفاتق. وامرأة ناتق ومنتاق: كثيرة الولد. وقال القتبي: أخذ ذلك من نتق السقاء، وهو نفضه حتى تقتلع الزبدة منه. قال وقوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} قال: قلع من أصله.
واختلف في الطور، فقيل: الطور اسم للجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره، رواه ابن جريج عن ابن عباس. وروى الضحاك عنه أن الطور ما أنبت من الجبال خاصة دون ما لم ينبت. وقال مجاهد وقتادة: أي جبل كان. إلا أن مجاهدا قال: هو اسم لكل جبل بالسريانية، وقال أبو العالية. وقد مضى الكلام هل وقع في القرآن ألفاظ مفردة غير معربة من غير كلام في مقدمة الكتاب. والحمد لله. وزعم البكري أنه سمي بطور بن إسماعيل عليه السلام، والله تعالى أعلم.
القول في سبب رفع الطور
وذلك أن موسى عليه السلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزموها. فقالوا: لا! إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك. فصعقوا ثم أحيوا. فقال لهم: خذوها. فقالوا لا، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله

فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأتوا ببحر من خلفهم، ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل. فسجدوا توبة الله وأخذوا التوراة بالميثاق. قال الطبري عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق. وكان سجودهم على شق، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا، فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها عباده، فأمروا سجودهم على شق واحد. قال ابن عطية: والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة بذلك.
قوله تعالى: {خُذُوا} أي فقلنا خذوا، فحذف. {مَا آتَيْنَاكُمْ} أعطيناكم. {بِقُوَّةٍ} أي بجد واجتهاد، قال ابن عباس وقتادة والسدي. وقيل: بنية وإخلاص. مجاهد: القوة العمل بما فيه. وقيل: بقوة، بكثرة درس. {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه ولا تضيعوه.
قلت: هذا هو المقصود من الكتب، العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها، فإن ذلك نبذ لها، على ما قاله الشعبي وابن عيينة، وسيأتي قولهما عند قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 101]. وقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من شر الناس وجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه" . فبين صلى الله عليه وسلم أن المقصود العمل كما بينا. وقال مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. فما لزم إذا من قبلنا وأخذ عليهم لازم لنا وواجب علينا. قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] فأمرنا باتباع كتابه والعمل بمقتضاه، لكن تركنا ذلك، كما تركت اليهود والنصارى، وبقيت أشخاص الكتب والمصاحف لا تفيد شيئا، لغلبة الجهل وطلب الرياسة واتباع الأهواء. روى الترمذي عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: "هذا أوان

يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء". فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا. فقال: "ثكلتك أمك يا زياد أن كنت لأعدك من فقهاء المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم" وذكر الحديث، وسيأتي. وخرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزياد: "ثكلتك أمك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى" . وفي الموطأ عن عبدا لله بن مسعود قال لإنسان: "إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون الصلاة ويقصرون فيه الخطبة، يبدؤون فيه أعمالهم قبل أهوائهم. وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدؤون فيه أهواءهم قبل أعمالهم". وهذه نصوص تدل على ما ذكرنا. وقد قال يحيى: سألت ابن نافع عن قوله. يبدؤون أهواءهم قبل أعمالهم؟ قال يقول: يتبعون أهواءهم ويتركون العمل بالذي افترض عليهم.
قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وتقدم القول في معناه فلا معنى لإعادته.
قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} تولى تفعل، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم ا ستعمل في الإعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات اتساعا ومجازا.قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد البرهان، وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل قوله تعالى: {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} "فضل" مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا يجوز إظهاره، لأن العرب استغنت عن إظهاره، إلا أنهم إذا أرادوا إظهاره جاؤوا بأن، فإذا جاؤوا بها لم يحذفوا الخبر. والقدير فلولا فضل الله تدارككم. و {وَرَحْمَتُهُ} عطف على "فضل" أي

لطفه وإمهاله. {لَكُنْتُمْ} جواب "لولا" {مِنَ الْخَاسِرِينَ} خبر كنتم. والخسران: النقصان، وقد تقدم. وقيل: فضله قبول التوبة، و"رحمته" العفو. والفضل: الزيادة على ما وجب. والإفضال: فعل ما لم يجب. قال ابن فارس في المجمل: الفضل الزيادة والخير، والإفضال: الإحسان.
الآية 65 {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} "علمتم" معناه عرفتم أعيانهم. وقيل: علمتم أحكامهم. والفرق بينهما أن المعرفة متوجهة إلى ذات المسمى. والعلم متوجه إلى أحوال المسمى. فإذا قلت: عرفت زيدا، فالمراد شخصه وإذا قلت: علمت زيدا، فالمراد به العلم بأحواله من فضل ونقص. فعلى الأول يتعدى الفعل إلى مفعول واحد، وهو قول سيبويه: "علمتم" بمعنى عرفتم. وعلى الثاني إلى مفعولين وحكى الأخفش ولقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه. وفي التنزيل: "لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال: 60] كل هذا بمعنى المعرفة، فاعلم. {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] صلة "الذين". والاعتداء. التجاوز، وقد تقدم.
الثانية: روى النسائي عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي. فقال له صاحبه: لا تقل نبي لو سمعك فإن له أربعة أعين. فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات، فقال لهم: "لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرفوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت" . فقبلوا يديه ورجليه وقالوا: نشهد أنك نبي. قال: "فما

يمنعكم أن تتبعوني " قالوا: إن داود دعا بألا يزال من ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود. وخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وسيأتي لفظه في سورة "سبحان" إن شاء الله تعالى.
الثالثة: قوله تعالى: {فِي السَّبْتِ} معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت. والأول قول الحسن وأنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال. وروى أشهب عن مالك قال: زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع لا يبتلى، حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده. فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت. ويقال: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولا يعرف الإنس أنسابهم من القردة، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم فتقول برأسها نعم. قال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. وسيأتي في "الأعراف" قول من قال: إنهم كانوا ثلاث فرق. وهو أصح من قول من قال: إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين. والله أعلم.
والسبت مأخوذ من السبت وهو القطع، فقيل: إن الأشياء سبتت وتمت خلقتها. وقيل: هو مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة.
واختلف العلماء في الممسوخ هل ينسل على قولين. قال الزجاج: قال قوم يجوز أن تكون هذه القردة منهم. واختاره القاضي أبو بكر بن العربي. وقال الجمهور: الممسوخ لا ينسل وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك، والذين مسخهم الله قد هلكوا

ولم يبق لهم نسل، لأنه قد أصابهم السخط والعذاب، فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام. قال ابن عباس: لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. قال ابن عطية: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
قلت: هذا هو الصحيح من القولين. وأما ما احتج به ابن العربي وغيره على صحة القول الأول من قوله صلى الله عليه وسلم: "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته". رواه أبو هريرة أخرجه مسلم، وبحديث الضب رواه مسلم أيضا عن أبي سعيد وجابر، قال جابر: أتي، النبي صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه، وقال: "لا أدري لعله من القرون التي مسخت" فمتأول على ما يأتي. قال ابن العربي: وفي البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال: رأيت في الجاهلية قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم. ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها، وثبت في نص الحديث "قد زنت" وسقط هذا اللفظ عند بعضهم. قال ابن العربي: فإن قيل: وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفا عن سلف إلى زمان عمرو؟ قلنا: نعم كذلك كان، لأن اليهود غيروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم، حتى يعلموا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويحصي ما يبدلون وما يغيرون، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون وينصر نبيه عليه السلام وهم لا ينصرون.
قلت: هذا كلامه في الأحكام، ولا حجة في شيء منه. وأما ما ذكره من قصة عمرو فذكر الحميدي في جمع الصحيحين: حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأودي في الصحيحين حكاية من رواية حصين عنه قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة.

فرجموها فرجمتها معهم. كذا حكى أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاري من كتابه، فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها، فذكر في كتاب أيام الجاهلية. وليس في رواية النعيمي عن الفربري أصلا شيء من هذا الخبر في القردة، ولعلها من المقحمات في كتاب البخاري. والذي قال البخاري في التاريخ الكبير: قال نعيم بن حماد أخبرنا هشيم عن أبي بلج وحصين عن عمرو بن ميمون قال: رأيت في الجاهلية فردة اجتمع عليها قرود فرجموها فرجمتها معهم. وليس فيه "قد زنت". فإن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية. وذكر أبو عمر في الاستيعاب عمرو بن ميمون وأن كنيته أبو عبدالله "معدود في كبار التابعين من الكوفيين، وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة إن صح ذلك، لأن رواته مجهولون. وقد ذكره البخاري عن نعيم عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون الأودي مختصرا قال: رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها - يعني القردة - فرجمتها معهم. ورواه عباد بن العوام عن حصين كما رواه هشيم مختصرا. وأما القصة بطولها فإنها تدور على عبدالملك بن مسلم عن عيسى بن حطان، وليسا ممن يحتج بهما. وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنى إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم. ولو صح لكانوا من الجن، لأن العبادات في الإنس والجن دون غيرهما". وأما قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة: "ولا أراها إلا الفأر" وفي الضب: "لا أدري لعله من القرون التي مسخت" وما كان مثله، فإنما كان ظنا وخوفا لأن يكون الضب والفأر وغيرهما مما مسخ، وكان هذا حدسا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلا، فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك التخوف، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ، وعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير: هي مما مسخ؟ فقال: "إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" . وهذا نص صريح صحيح رواه عبدالله بن مسعود أخرجه مسلم في كتاب القدر. وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم ينكر،

فدل على صحة ما ذكرنا. وبالله توفيقنا. وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط، وردت أفهامهم كأفهام القردة. ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم، والله أعلم.
قوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} "قردة" خبر كان. {خَاسِئِينَ} نعت، وإن شئت جعلته خبرا ثانيا لكان، أوحالا من الضمير في "كونوا". ومعناه مبعدين. يقال: خسأته فخسأ وخسئ، وانخسأ أي أبعدته فبعد. وقوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً} [الملك: 4] أي مبعدا وقوله تعالى: {اخْسَأُوا فِيهَا} [المؤمنون: 108] أي تباعدوا. تباعد سخط. قال الكسائي: خسأ الرجل خسوءا، وخسأته خسأ. ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر القميء. يقال: قمؤ الرجل قماء وقماءة صار قميئا، وهو الصاغر الذليل. وأقمأته: صغرته وذللته، فهو قميء على فعيل.
الآية 66 {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} نصب على المفعول الثاني. وفي المجعول نكالا أقاويل، قيل: العقوبة. وقيل: القرية، إذ معنى الكلام يقتضيها وقيل: الأمة التي مسخت. وقيل: الحيتان، وفيه بعد. والنكال: الزجر والعقاب. والنكل والأنكال: القيود. وسميت القيود أنكالا لأنها ينكل بها، أي يمنع. ويقال للجام الثقيل: نَكل ونِكل، لأن الدابة تمنع به ونكل عن الأمر ينكل، ونكل ينكل إذا امتنع. والتنكيل: إصابة الأعداء بعقوبة تنكل من وراءهم، أي تجبنهم. وقال الأزهري: النكال العقوبة. ابن دريد: والمنكل: الشيء الذي ينكل بالإنسان، قال:
فارم على أقفائهم بمنكل

قوله تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} قال ابن عباس والسدي: لما بين يدي المسخة ما قبلها من ذنوب القوم.
قوله تعالى: {وما خلفها} لمن يعمل مثل تلك الذنوب. قال الفراء: جعلت المسخة نكالا لما مضى من الذنوب، ولما يعمل بعدها ليخافوا المسخ بذنوبهم. قال ابن عطية: وهذا قول جيد، والضميران للعقوبة. وروى الحكم عن مجاهد عن ابن عباس: لمن حضر معهم ولمن يأتي بعدهم. واختاره النحاس، قال: وهو أشبه بالمعنى، والله أعلم. وعن ابن عباس أيضا. "لما بين يديها وما خلفها" من القرى. وقال قتادة: "لما بين يديها" من ذنوبهم "وما خلفها" من صيد الحيتان.
قوله تعالى: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} عطف على نكال، ووزنها مفعلة من الاتعاظ والانزجار. والوعظ: التخويف. والعظة الاسم. قال الخليل: الوعظ التذكير بالخير فيما يرق له القلب. قال الماوردي: وخص المتقين وإن كانت موعظة للعالمين لتفردهم بها عن الكافرين المعاندين قال ابن عطية: واللفظ يعم كل متق من كل أمة وقال الزجاج "وموعظة للمتقين" لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا من حرم الله جل وعز ما نهاهم عنه: فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت إذ انتهكوا حرم الله في سبتهم.
الآية 67 {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إن الله يأمركم} حكي عن أبي عمرو أنه قرأ "يأمركم" بالسكون، وحذف الضمة من الراء لثقلها. قال أبو العباس المبرد: لا يجوز هذا لأن الراء حرف الإعراب، وإنما الصحيح عن أبي عمرو انه كان يختلس الحركة. {أَنْ تَذْبَحُوا} في موضع نصب بـ "يأمركم" أي تَذْبَحُوا {بَقَرَةً} نصب "تذبحوا". وقد تقدم معنى الذبح فلا معنى لإعادته.

الثانية: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} مقدم في التلاوة وقوله {قَتَلْتُمْ نَفْساً} مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة. ويجوز أن يكون قوله: "قتلتم" في النزول مقدما، والأمر بالذبح مؤخرا. ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع في أمر القتل، فأمروا أن يضربوه ببعضها، ويكون "وإذ قتلتم" مقدما في المعنى على القول الأول حسب ما ذكرنا، لأن الواو لا توجب الترتيب. ونظيره في التنزيل في قصة نوج بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ إلى قوله- إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40]. فذكر إهلاك من هلك منهم ثم عطف عليه بقوله: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]. فذكر الركوب متأخرا في الخطاب، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك. وكذلك قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قِيَماً} [هود: 19]. وتقديره: أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله في القرآن كثير.
الثالثة: لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم، والنحر أولى في الإبل، والتخير في البقر. وقيل: الذبح أولى، لأنه الذي ذكره الله، ولقرب المنحر من المذبح. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا حرم أكل ما نحر مما يذبح، أو ذبح مما ينحر. وكره مالك ذلك. وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه. وسيأتي في سورة "المائدة" أحكام الذبح والذابح وشرائطهما عند قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] مستوفى إن شاء الله تعالى. قال الماوردي: وإنما أمروا - والله أعلم - بذبح بقرة دون غيرها، لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته. وهذا المعنى علة في ذبح البقرة، وليس بعلة في جواب السائل، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها.
الرابعة: قوله تعالى: {بَقَرَةً} البقرة اسم للأنثى، والثور اسم للذكر مثل ناقه وجمل وامرأة ورجل. وقيل: البقرة واحد البقر، الأنثى والذكر سواء. واصله من قولك:

بقر بطنه، أي شقه، فالبقرة تشق الأرض بالحرث وتثيره. ومنه الباقر لأبى جعفر محمد بن علي زين العابدين، لأنه بقر العلم وعرف أصله، أي شقه. والبقيرة: ثوب يشق فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمين. وفي حديث ابن عباس في شأن الهدهد "فبقر الأرض". قال شمر: بقر نظر موضع الماء، فرأى الماء تحت الأرض. قال الأزهري: البقر اسم للجنس وجمعه باقر. ابن عرفة: يقال بقير وباقر وبيقور. وقرأ عكرمة وابن يعمر "إن الباقر". والثور: واحد الثيران. والثور: السيد من الرجال. والثور القطعة من الأقط. والثور: الطحلب. وثور: الجبل. وثور: قبيلة من العرب. وفي الحديث: "ووقت العشاء ما لم يغب ثور الشفق" يعني انتشاره، يقال: ثار يثور ثورا وثورانا إذا انتشر في الأفق وفي الحديث: "من أراد العلم فليثور القرآن" . قال شمر: تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به.
قوله تعالى: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال، لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وذلك أنهم وجدوا قتيلا بين أظهرهم قيل: اسمه عاميل واشتبه أمر قاتله عليهم، ووقع بينهم خلاف، فقالوا: نقتتل ورسول الله بين أظهرنا، فأتوه وسألوه البيان - وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهره جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده، قالوا: أتتخذنا هزؤا؟ والهزء: اللعب والسخرية، وقد تقدم. وقرأ الجحدري "أيتخذنا" بالياء، أي قال ذلك بعضهم لبعض فأجابهم موسى عليه السلام بقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل، فاستعاذ منه عليه السلام، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء. والجهل نقيض العلم. فاستعاذ من الجهل، كما جهلوا في قولهم: أتتخذنا هزؤا،

لمن يخبرهم عن الله تعالى، وظاهر هذا القول يدل على فساد اعتقاد من قاله. ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته، وقال: إن الله يأمرك بكذا: أتتخذنا هزؤا؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى لوجب تكفيره. وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. وكما قال له الآخر: اعدل يا محمد وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل، وأنه مفسد للدين.
قوله تعالى: {هُزُواً} مفعول ثان، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة. وجعلها حفص واوا مفتوحة، لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل، كقوله: "السفهاء ولكن". ويجوز حذف الضمة من الزاي كما تحذفها من عضد، فتقول: هزؤا، كما قرأ أهل الكوفة، وكذلك {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . وحكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان: التخفيف والتثقيل، نحو العسر واليسر والهزء.ومثله ما كان من الجمع على فعل ككتب وكتب، ورسل ورسل، وعون وعون. وأما قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إ} [الزخرف: 15] فليس مثل هزء وكفء، لأنه على فعل، من الأصل. على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
مسألة: في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد. وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده. قال ابن خويز منداد: وقد بلغنا أن رجلا تقدم إلى عبيدالله بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيدالله فقال: جبتك هذه من صوف نعجة أو صوف كبش؟ فقال له: لا تجهل أيها القاضي فقال له عبيدالله: وابن وجدت المزاج جهلا فتلا عليه هذه الآية، فأعرض عنه عبيدالله، لأنه رآه جاهلا لا يعرف المزح من الاستهزاء، وليس أحدهما من الآخر بسبيل.

الآية 68 {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}
قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} هذا تعنيت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الأمر وذبحوا أي بقرة كانت لحصل المقصود، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. ونحو ذلك روى الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولغة بنى عامر "ادع".
قوله تعالى: {يُبَيِّنْ} مجزوم على جواب الأمر، {مَا هِيَ} ابتداء وخبر وماهية الشيء: حقيقته وذاته التي هو عليها.
قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في هذا دليل على جواز النسخ قبل وقت الفعل، لأنه لما أمر ببقرة اقتضى أي بقرة كانت، فلما زاد في الصفة نسخ الحكم الأول بغيره، كما لو قال: في ثلاثين من الإبل بنت مخاض، ثم نسخه بابنة لبون أو حقة. وكذلك ههنا لما عين الصفة صار ذلك نسخا للحكم المتقدم. والفارض: المسنة. وقد فرضت تفرض فروضا، أي أسنت. ويقال للشيء القديم فارض، قال الراجز:
شيب أصداغي فرأسي أبيض ... محامل فيها رجال فرض
يعني هرمي، قال آخر:
لعمرك قد أعطيت جارك فارضا ... تساق إليه ما تقوم على رجل
أي قديما، وقال آخر:
يا رب ذي ضغن علي فارض ... له قروء كقروء الحائض

أي قديم. و"لا فارض" رفع على الصفة لبقرة. "ولا بكر" عطف. وقيل: "لا فارض" خبر مبتدأ مضمر، أي لا هي فارض وكذا "لا ذلول"، وكذلك "لا تسق الحرث" وكذلك "مسلمة" فاعلمه. وقيل: الفارض التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها لذلك، لأن معنى الفارض في اللغة الواسع، قال بعض المتأخرين. والبكر: الصغيرة التي لم تحمل. وحكى القتبي أنها التي ولدت. والبكر: الأول من الأولاد، قال:
يا بكر بكرين ويا خلب الكبد ... أصبحت مني كذراع من عضد
والبكر أيضا في إناث البهائم وبني آدم: ما لم يفتحله الفحل، وهي مكسورة الباء. وبفتحها الفتي من الإبل. والعوان: النصف التي قد ولدت بطنا أو بطنين، وهي أقوى ما تكون من البقر وأحسنه، بخلاف الخيل، قال الشاعر يصف فرسا:
كميت بهيم اللون ليس بفارض ... ولا بعوان ذات لون مخصف
فرس أخصف: إذا ارتفع البلق من بطنه إلى جنبه. وقال مجاهد: العوان من البقرة هي التي قد ولدت مرة بعد مرة. وحكاه أهل اللغة. ويقال: إن العوان النخلة الطويلة، وهي فيما زعموا لغة يمانية. وحرب عوان: إذا كان قبلها حرب بكر، قال زهير:
إذا لقحت حرب عوان مضرة ... ضروس تهر الناس أنيابها عصل
أي لا هي صغيرة ولا هي مسنة، أي هي عوان، وجمعها "عون" بضم العين وسكون الواو وسمع "عون" بضم الواو كرسل. وقد تقدم. وحكى الفراء من العوان عونت تعوينا.
قوله تعالى: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت فما تركوه وهذا يدل على أن مقتضى الأمر الوجوب كما تقول الفقهاء، وهو الصحيح على ما هو مذكور في أصول الفقه، وعلى أن الأمر على الفور، وهو مذهب أكثر الفقهاء أيضا ويدل على صحة ذلك أنه تعالى استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمروا به فقال:

{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]. وقيل: لا، بل على التراخي، لأنه لم يعنفهم على التأخير والمراجعة في الخطاب. قال ابن خويز منداد.
الآية 69 {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}
قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} "ما" استفهام مبتدأة و"لونها" الخبر. ويجوز نصب "لونها" بـ "يبين"، وتكون "ما" زائدة. واللون واحد الألوان وهو هيئة كالسواد والبياض والحمرة. واللون: النوع. وفلان متلون: إذا كان لا يثبت على خلاق واحد وحال واحد، قال:
كل يوم تتلون ... غير هذا بك أجمل
ولون البسر تلوينا: إذا بدا فيه أثر النضج. واللون: الدقل، وهو ضرب من النخل. قال الأخفش هو جماعة، واحدها لينة.
قوله: {صَفْرَاءُ} جمهور المفسرين أنها صفراء اللون، من الصفرة المعروفة. قال مكي عن بعضهم: حتى القرن والظلف. وقال الحسن وابن جبير: كانت صفراء القرن والظلف فقط. وعن الحسن أيضا: "صفراء" معناه سوداء، قال الشاعر:
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب
قلت: والأول أصح لأنه الظاهر، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلا في الإبل، قال الله تعالى {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 33] وذلك أن السود من الإبل سوادها صفرة. ولو أراد السواد لما أكده بالفقوع، وذلك نعت مختص بالصفرة، وليس يوصف السواد بذلك تقول العرب: أسود حالك وحَلَكوك وحُلْكوك، ودجوجي وغربيب، وأحمر قانئ، وأبيض ناصع ولهق ولهاق ويقق، وأخضر ناضر، وأصفر فاقع، هكذا نص نقلة اللغة عن العرب. قال

الكسائي: يقال فقع لونها يفقع فقوعا إذا خلصت صفرته. والإفقاع: سوء الحال. وفواقع الدهر بوائقه. وفقع بأصابعه إذا صوت، ومنه حديث ابن عباس: نهى عن التفقيع في الصلاة، وهي الفرقعة، وهي غمز الأصابع حتى تنقض. ولم ينصرف "صفراء" في معرفة ولا نكرة، لأن فيها ألف التأنيث وهى ملازمة فخالفت الهاء، لأن ما فيه الهاء ينصرف في النكرة، كفاطمة وعائشة.
قوله تعالى: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} يريد خالصا لونها لا لون فيها سوى لون جلدها.
قوله تعالى: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} قال وهب: كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها، ولهذا قال ابن عباس: الصفرة تسر النفس. وحض على لباس النعال الصفر، حكاه عنه النقاش. وقال علي بن أبى طالب رضي الله عنه: من لبس نعلي جلد أصفر قل همه، لأن الله تعالى يقول: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} حكاه عنه الثعلبي. ونهى ابن الزبير ومحمد بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهم. ومعنى "تسر" تعجب. وقال أبو العالية: معناه في سمتها ومنظرها فهي ذات وصفين، والله أعلم.
الآية 70 {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}
قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} سألوا سؤالا رابعا، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان. وذكر البقر لأنه بمعنى الجمع، ولذلك قال: "إن البقر تشابه علينا" فذكره للفظ تذكير البقر. قال قطرب: جمع البقرة باقر وباقور وبقر. وقال الأصمعي: الباقر جمع باقرة، قال: ويجمع بقر على باقورة، حكاه النحاس. وقال الزجاج: المعنى إن جنس البقر. وقرأ الحسن فيما ذكر النحاس، والأعرج فيما ذكر الثعلبي {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} بالتاء وشد الشين، جعله فعلا مستقبلا وأنثه. والأصل تتشابه، ثم أدغم التاء في الشين. وقرأ مجاهد "تشبه" كقراءتهما،

إلا أنه بغير ألف. وفي مصحف أبي "تشابهت" بتشديد الشين. قال أبو حاتم: وهو غلط، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلا في المضارعة. وقرأ يحيى بن يعمر "إن الباقر يشابه" جعله فعلا مستقبلا، وذكر البقر وأدغم. ويجوز "إن البقر تشابه" بتخفيف الشين وضم الهاء، وحكاها الثعلبي عن الحسن. النحاس: ولا يجوز "يشابه" بتخفيف الشين والياء، وإنما جاز في التاء لأن الأصل تتشابه فحذفت لاجتماع التاءين. والبقر والباقر والبيقور والبقير لغات بمعنى، والعرب تذكره وتؤنثه، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في "تشابه". وقيل إنما قالوا: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} لأن وجوه البقر تشابه، ومنه حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر "فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر". يريد أنها يشبه بعضها بعضا. ووجوه البقر تتشابه، ولذلك قالت بنو إسرائيل: إن البقر تشابه علينا.
قوله تعالى: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} استثناء منهم، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لوما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا" . وتقدير الكلام وإنا لمهتدون إن شاء الله. فقدم على ذكر الاهتداء اهتماما به. و"شاء" في موضع جزم بالشرط، وجوابه عند سيبويه الجملة "إن" وما عملت فيه. وعند أبي العباس المبرد محذوف.
الآية 71 {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} قرأ الجمهور "لا ذلول" بالرفع على، الصفة لبقرة. قال الأخفش: "لا ذلول" نعته ولا يجوز نصبه. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي "لا ذلول" بالنصب على النفي والخبر مضمر. ويجوز لا هي ذلول، لا هي تسقى الحرث، هي مسلمة. ومعنى "لا ذلول" لم يذللها العمل، يقال: بقرة مذللة بينة الذل "بكسر الذال". ورجل ذليل بين الذل "بضم الذال". أي هي بقرة صعبة غير ريضة لم تذلل بالعمل.

قوله تعالى: {تُثِيرُ الأَرْضَ} "تثير" في موضع رفع على الصفة للبقرة أي هي بقرة لا ذلول مثيرة. قال الحسن: وكانت تلك البقرة وحشية ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث أي لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها. والوقف ههنا حسن. وقال قوم: "تثير" فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقي. والوقف على هذا التأويل "لا ذلول" والقول الأول أصح لوجهين: أحدهما: ما ذكره النحاس، عن علي بن سليمان أنه قال: لا يجوز أن يكون "تثير" مستأنفا، لأن بعده "ولا تسقي الحرث"، فلو كان مستأنفا لما جمع بين الواو و"لا". الثاني أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها، والله تعالى قد نفى عنها الذل بقوله: {لا ذَلُولٌ} قلت: ويحتمل أن تكون {تُثِيرُ الأَرْضَ} في غير العمل مرحا ونشاطا، كما قال امرؤ القيس:
يهيل ويذري تربه ويثيره ... إثارة نباث الهواجر مخمس
فعلى هذا يكون "تثير" مستأنفا، "ولا تسقي" معطوف عليه، فتأمله. وإثارة الأرض: تحريكها وبحثها، ومنه الحديث: "أثيروا القرآن فإنه علم الأولين والآخرين" وفي رواية أخرى: "من أراد العلم فليثور القرآن" وقد تقدم. وفي التنزيل: {وَأَثَارُوا الأَرْضَ} [الروم: 9] أي قلبوها للزراعة. والحرث: ما حرث وزرع. وسيأتي.
مسألة: في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه. وبه قال مالك وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي. وكذلك كل ما يضبط بالصفة، لوصف الله تعالى في كتابه وصفا يقوم مقام التعيين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها" . أخرجه مسلم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية، وجعل صلى الله عليه وسلم دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه دينا إلى أجل ولم يجعلها على الحلول. وهو يرد قول

الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح حيث قالوا: لا يجوز السلم في الحيوان. وروي عن ابن مسعود وحذيفة وعبدالرحمن بن سمرة، لأن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته من مشي وحركة، وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته. وسيأتي حكم السلم وشروطه في آخر السورة في آية الدين، إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {مُسَلَّمَةٌ} أي هي مسلمة. ويجوز أن يكون وصفا، أي أنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب، قاله قتادة وأبو العالية. ولا يقال: مسلمة من العمل لنفي الله العمل عنها. وقال الحسن: يعني سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل.
قوله تعالى: {لا شِيَةَ فِيهَا} أي ليس فيها لون يخالف معظم لونها، هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد، كما قال: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} . وأصل "شية" وشي حذفت الواو كما حذفت من يشي، والأصل يوشي، ونظيره الزنة والعدة والصلة. والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين. وثور موشى: في وجهه وقوائمه سواد. قال ابن عرفة: الشية اللون. ولا يقال لمن نم: واش، حتى يغير الكلام ويلونه فجعله ضروبا ويزين منه ما شاء. والوشي: الكثرة. ووشى بنو فلان: كثروا. ويقال: فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع، وثور أشيه كل ذلك بمعنى البلقة، هكذا نص أهل اللغة.
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يسر، والتعمق في سؤال الأنبياء وغيرهم من العلماء مذموم، نسأل الله العافية. وروي في قصص هذه البقرة روايات تلخيصها: أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة فأرسلها في غيضة وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لهذا الصبي. ومات الرجل، فلما كبر الصبي قالت له أمه وكان برا بها: إن أباك استودع الله عجلة لك فاذهب فخذها، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها وكانت مستوحشة فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمروا بها، فساموه فاشتط عليهم. وكان قيمتها على

ما روي عن عكرمة ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم: أرضوه في ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة. السدي: بوزنها عشر مرات. وقيل: بملء مسكها دنانير. وذكر مكي: أن هذه البقرة نزلت من السماء ولم تكن من بقر الأرض فالله أعلم.
قوله تعالى: {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي بينت الحق، قاله قتادة. وحكى الأخفش: "قالوا الآن" قطع ألف الوصل، كما يقال: يا الله. وحكى وجها آخر "قالوا لان" بإثبات الواو. نظيره قراءة أهل المدينة وأبي عمرو "عادا لولى" وقرأ الكوفيون "قالوا الآن" بالهمز. وقراءة أهل المدينة "قال لان" بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: "الآن" مبني على الفتح لمخالفته سائر ما فيه الألف واللام، لأن الألف واللام دخلتا لغير عهد، تقول: أنت إلى الآن هنا، فالمعنى إلى هذا الوقت. فبنيت كما بني هذا، وفتحت النون لالتقاء الساكنين. وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل.
قوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} أجاز سيبويه: كاد أن يفعل، تشبيها بعسى. وقد تقدم أول السورة. وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله. وقال القرظي محمد بن كعب: لغلاء ثمنها. وقيل: خوفا من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم، قاله وهب بن منبه.
الآية 72 {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}
قوله تعالى: {قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} هذا الكلام مقدم على أول القصة، التقدير: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها. فقال موسى: إن الله يأمركم بكذا. وهذا كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قِيَماً} [الكهف: 1 - 2] أي أنزل على عبده قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله كثير، وقد بيناه أول القصة.

وفي سبب قتله قولان: أحدهما: لابنة له حسناء احب أن يتزوجها ابن عمها فمنعه عمه، فقتله وحمله من قريته إلى قرية أخرى فألقاه هناك. وقيل: ألقاه بين قريتين. الثاني: قتله طلبا لميراثه، فإنه كان فقيرا وادعى قتله على بعض الأسباط. قال عكرمة: كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا لكل باب قوم يدخلون منه، فوجدوا قتيلا في سبط من الأسباط، فادعى هؤلاء على هؤلاء، وادعى هؤلاء على هؤلاء، ثم أتوا موسى يختصمون إليه فقال: {نَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] الآية. ومعنى "ادارأتم} [البقرة: 72] الآية. ومعنى "ادارأتم": اختلفتم وتنازعتم، قال مجاهد. وأصله تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال، ولا يجوز الابتداء بالمدغم، لأنه ساكن فزيد ألف الوصل.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} ابتداء وخبر. {مَا كُنْتُمْ} في موضع نصب بـ "مخرج"، ويجوز حذف التنوين على الإضافة. {كْتُمُونَ} جمله في موضع خبر كان والعائد محذوف التقدير تكتمونه.
وعلى القول بأنه قتله طلبا لميراثه لم يرث قاتل عمد من حينئذ، قاله عبيدة السلماني. قال ابن عباس: قتل هذا الرجل عمه ليرثه. قال ابن عطية: وبمثله جاء شرعنا. وحكى مالك رحمه الله في "موطئه" أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي كانت سبب ألا يرث قاتل، ثم ثبت ذلك الإسلام كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يرث قاتل العمد من الدية ولا من المال، إلا فرقة شذت عن الجمهور كلهم أهل بدع. ويرث قاتل الخطأ من المال ولا يرث من الدية في قول مالك والأوزاعي وأبي ثور والشافعي، لأنه لا يتهم على أنه قتله ليرثه ويأخذ ماله 0 وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي في قول له آخر: لا يرث القاتل عمدا ولا خطأ شيئا من المال ولا من الدية. وهو قول شريح وطاوس والشعبي والنخعي. ورواه الشعبي عمر وعلي وزيد قالوا: لا يرث القاتل عمدا ولا خطا شيئا. وروي عن مجاهد القولان جميعا. وقالت طائفة من البصريين: يرث قاتل الخطأ من الدية ومن المال جميعا، حكاه أبو عمر. وقول مالك أصح، على ما يأتي بيانه في آية المواريث إن شاء الله تعالى.

الآية 73 {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} قيل: باللسان لأنه آلة الكلام. وقيل: بعجب الذنب، إذ فيه يركب خلق الإنسان. وقيل: بالفخذ. وقيل: بعظم من عظامها، والمقطوع به عضو من أعضائها، فلما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتا كما كان.
مسألة: استدل مالك رحمه الله في رواية ابن وهب وابن القاسم على صحة القول بالقسامة بقول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني. ومنعه الشافعي وجمهور العلماء، قالوا: وهو الصحيح، لأن قول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني، خبر يحتمل الصدق والكذب. ولا خلاف أن دم المدعى عليه معصوم إباحته إلا بيقين، ولا يقين مع الاحتمال، فبطل اعتبار قول المقتول دمي عند فلان. وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرا جزما لا يدخله احتمال، فافترقا. قال ابن العربي: المعجزة كانت في إحيائه، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد. وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه، فلعله أمرهم بالقسامة معه واستبعد ذلك البخاري والشافعي وجماعة من العلماء فقالوا: كيف يقبل قوله في الدم وهو لا يقبل قوله في درهم.
مسألة: اختلف العلماء في الحكم بالقسامة، فروي عن سالم وأبي قلابة وعمر بن عبدالعزيز والحكم بن عيينة التوقف في الحكم بها. وإليه مال البخاري، لأنه أتى بحديث القسامة في غير موضعه. وقال الجمهور: الحكم بالقسامة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا في كيفية الحكم بها، فقالت طائفة: يبدأ فيها المدعون بالأيمان فإن حلفوا] استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرئوا. هذا قول أهل المدينة والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور. وهو مقتضى حديث حويصة ومحيصة، خرجه الأئمة مالك وغيره. وذهبت

طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرؤون. روي هذا عن عمر بن الخطاب والشعبي والنخعي، وبه قال الثوري والكوفيون، واحتجوا بحديث شعبة بن عبيد عن بشير بن يسار، وفيه: فبدأ بالأيمان المدعى عليهم وهم اليهود. وبما رواه أبو داود عن الزهري عن أبى سلمة بن عبدالرحمن عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم: "أيحلف منكم خمسون رجلا" . فأبو ا، فقال للأنصار: "استحقوا" فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود، لأنه وجد بين أظهرهم. وبقوله عليه السلام: "ولكن اليمين على المدعى عليه" فعينوا.
قالوا: وهذا هو الأصل المقطوع به في الدعاوى الذي نبه الشرع على حكمته بقوله عليه السلام "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" رد عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: حديث سعيد بن عبيد في تبدية اليهود وهم عند أهل الحديث، وقد أخرجه النسائي وقال: ولم يتابع سعيد في هذه الرواية فيما أعلم، وقد أسند حديث بشير عن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين يحيى بن سعيد وابن عيينة وحماد بن زيد وعبدالوهاب الثقفي وعيسى بن حماد وبشر بن المفضل، فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد. قال أبو محمد الأصيلي: فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من أبل الصدقة، والصدقة لا تعطى في الديات ولا يصالح بها عن غير أهلها، وحديث أبي داود مرسل فلا تعارض به الأحاديث الصحاح المتصلة، وأجابوا عن التمسك بالأصل بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، والحكم بظاهر ذلك يجب، إلا أن يخص الله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حكما في شيء من الأشياء فيستثنى من جملة هذا الخبر. فمما دل عليه الكتاب إلزام القاذف حد المقذوف إذا لم يكن معه أربعة شهداء يشهدون له على صدق ما رمي به المقذوف وخص

من رمى زوجته بأن أسقط عنه الحد إذا شهد أربع شهادات. ومما خصته السنة حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة. وقد روى ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة" . خرجه الدارقطني. وقد احتج مالك لهذه المسألة في موطئه بما فيه كفاية، فتأمله هناك.
مسألة: واختلفوا أيضا في وجوب القود بالقسامة، فأوجبت طائفة القود بها، وهو قول مالك والليث وأحمد وأبي ثور، لقوله عليه السلام لحويصة ومحيصة وعبدالرحمن: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" . وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بالقسامة من بني نضر بن مالك. قال الدارقطني: نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيحة، وكذلك أبو عمر بن عبدالبر يصحح حديث عمرو بن شعيب، ويحتج به، وقال البخاري: رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به قاله الدارقطني في السنن. وقالت طائفة: لا قود بالقسامة، وإنما توجب الدية. روي هذا عن عمر وابن عباس، وهو قول النخعي والحسن، وإليه ذهب الثوري والكوفيون الشافعي وإسحاق، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن عبدالله عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله للأنصار: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب" . قالوا: وهذا يدل على الدية لا على القود، قالوا: ومعنى قوله عليه السلام: "وتستحقون دم صاحبكم" دية دم قتيلكم لأن اليهود ليسوا بأصحاب لهم، ومن استحق دية صاحبه فقد استحق دمه، لأن الدية قد تؤخذ في العمد فيكون ذلك استحقاقا للدم.
مسألة: الموجب للقسامة اللوث ولا بد منه. واللوث: أمارة تغلب على الظن صدق مدعي القتل، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل، أو يرى المقتول يتشحط في دمه، والمتهم نحوه أو قربه عليه آثار القتل. وقد اختلف في اللوث والقول به، فقال مالك: هو قول المقتول دمي عند فلان. والشاهد العدل لوث. كذا في رواية ابن القاسم عنه.

وروى أشهب عن مالك أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة. وروى ابن وهب أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لوث دون شهادة المرأة الواحدة. قال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في اللوث اختلافا كثيرا، مشهور المذهب أنه الشاهد العدل. وقال محمد: هو أحب إلي. قال: وأخذ به ابن القاسم وابن عبدالحكم. وروي عن عبدالملك بن مروان: أن المجروح أو المضروب إذا قال دمي عند فلان ومات كانت القسامة. وبه قال مالك والليث بن سعد. واحتج مالك بقتيل بني إسرائيل أنه قال: قتلني فلان. وقال الشافعي: اللوث الشاهد العدل، أو يأتي ببينة وإن لم يكونوا عدولا. وأوجب الثوري والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، قالوا: إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله عليهم، وإذا لم يكن، به أثر لم يكن على العاقلة شيء إلا أن تقوم البينة على واحد. وقال سفيان: وهذا مما أجمع عليه عندنا، وهو قول ضعيف خالفوا فيه أهل العلم، ولا سلف لهم فيه، وهو مخالف للقرآن والسنة، ولأن فيه إلزام العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم. وذهب مالك والشافعي إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر، لا يؤخذ به أقرب الناس دارا، لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤاخذ بمثل ذلك حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة. وقد قال عمر بن عبدالعزيز هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضي الله فيه يوم القيامة.
مسألة: قال القاسم بن مسعدة قلت للنسائي: لا يقول مالك بالقسامة إلا باللوث، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه؟ قال النسائي: أنزل مالك العداوة التي كانت بينهم وببن اليهود بمنزلة اللوث، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة. قال ابن أبي زيد: وأصل هذا في قصة بني إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب ببعض البقرة فقال: قتلني فلان، وبأن العداوة لوث قال الشافعي: ولا نرى قول المقتول لوثا، كما تقدم. قال الشافعي:

إذا كان بين قوم وقوم عداوة ظاهرة كالعداوة التي كانت بين الأنصار واليهود، ووجد قتيل في أحد الفريقين ولا يخالطهم غيرهم وجبت القسامة فيه.
مسألة: واختلفوا في القتيل بوجد في المحلة التي أكراها أربابها، فقال أصحاب الرأي: هو على أهل الخطة وليس على السكان شيء، فإن باعوا دورهم ثم وجد قتيل فالدية على المشتري وليس على السكان شيء، وإن كان أرباب الدور غيبا وقد أكروا دورهم فالقسامة والدية على أرباب الدور الغيب وليس على السكان الذين وجد القتيل بين أظهرهم شيء.
ثم رجع يعقوب من بينهم عن هذا القول فقال: القسامة والدية على السكان في الدور. وحكى هذا القول عن ابن أبي ليلى، واحتج بأن أهل خيبر كانوا عمالا سكانا يعملون فوجد القتيل فيهم. قال الثوري ونحن نقول: هو على أصحاب الأصل، يعني أهل الدور. وقال أحمد: القول قول ابن أبي ليلى في القسامة لا في الدية. وقال الشافعي: وذلك كله سواء، ولا عقل ولا قود إلا ببينة تقوم، أو ما يوجب القسامة فيقسم الأولياء. قال ابن المنذر: وهذا أصح.
مسألة: ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينا، لقول عليه السلام في حديث حويصة ومحيصة: "يقسم خمسين منكم على رجل منهم" . فإن كان المستحقون خمسين حلف كل واحد منهم يمينا واحدة، فإن كانوا أقل من ذلك أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم. ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال، لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينا. هذا مذهب مالك والليث والثوري والأوزاعي وأحمد وداود. وروى مطرف عن مالك أنه لا يحلف مع المدعى عليه أحد ويحلف هم أنفسهم كما لو كانوا واحدا فأكثر خمسين يمينا يبرئون بها أنفسهم، وهو قول الشافعي. قال الشافعي: لا يقسم إلا وارث، كان القتل عمدا أو خطأ. ولا يحلف على مال ويستحقه إلا من له الملك لنفسه أومن جعل الله له الملك من الورثة، والورثة يقسمون على قدر مواريثهم. وبه قال أبو ثور واختاره ابن المنذر وهو الصحيح، لأن من لم يدع عليه لم يكن له سبب يتوجه عليه فيه يمين. ثم مقصود هذه

الأيمان البراءة من الدعوى ومن لم يدع عليه بريء. وقال مالك في الخطأ: يحلف فيها الواحد من الرجال والنساء، فمهما كملت خمسين يمينا من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه، ومن نكل لم يستحق شيئا، فإن جاء من غاب حلف من الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه. هذا قول مالك المشهور عنه، وقد روى عنه أنه. لا يرى في الخطأ قسامة.
وتتميم مسائل القسامة وفروعها وأحكامها مذكور في كتب الفقه والخلاف، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق.
مسألة: في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وقال به طوائف من المتكلمين وقوم من الفقهاء، واختاره الكرخي ونص عليه ابن بكير القاضي من علمائنا، وقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه، وإليه مال الشافعي، وقد قال الله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} أي كما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من مات فالكاف في موضع نصب، لأنه نعت لمصدر محذوف {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي علاماته وقدرته. "لعلكم تعقلون" كي تعقلوا وقد تقدم أي تمتنعون من عصيانه وعقلت نفسي عن كذا أي منعتها منه والمعاقل: الحصون.
الآية 74 {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} القسوة: الصلابة والشدة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما:

المراد قلوب جميع بني إسرائيل. وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب، بعد ما رأوا هذه الآية العظمى، فلم يكونوا قط أعمى قلوبا، ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك، لكن نفذ حكم الله بقتله. روى الترمذي عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي" . وفي مسند البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا" .
قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} "أو" قيل هي بمعنى الواو كما قال: {آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24]. {عُذْراً أَوْ نُذْراً} وقال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا
أي وكانت. وقيل: هي بمعنى بل، كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] المعنى بل يزيدون. وقال الشاعر:
بدت مثل الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح
أي بل أنت وقيل: معناها الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:
أحب محمدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة أو عليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... ولست بمخطئ إن كان غيا
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر، وإنما قصد الإبهام. وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك: شككت قال: كلا، ثم استشهد بقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] وقال: أو كان شاكا من أخبر بهذا! وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة

تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وهذا كقول القائل: جالس الحسن أو ابن سيرين، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو. قيل: بل هي على بابها من الشك، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم: أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر فالمعنى: هم فرقتان.
{أَوْ أَشَدُّ} أشد مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله "كالحجارة"، لأن المعنى فهي مثل الحجارة أو أشد. ويجوز أو "أشد" بالفتح عطف على الحجارة. و {قَسْوَةً} نصب على التمييز. وقرأ أبو حيوة "قساوة" والمعنى واحد.
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} قد تقدم معنى الانفجار. ويشقق أصله بتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تتشقق وإن لم يجر ماء منفسح. وقرأ ابن مصرف "ينشقق" بالنون، وقرأ "لما يتفجر" "لما يتشقق" بتشديد "لما" في الموضعين. وهي قراءة غير متجهة. وقرأ مالك بن دينار "ينفجر" بالنون وكسر الجيم. قال قتادة: عذر الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم. قال أبو حاتم: يجوز لما تتفجر بالتاء، ولا يجوز لما تتشقق بالتاء، لأنه إذا قال تتفجر أنثه بتأنيث الأنهار، وهذا لا يكون في تشقق. قال النحاس: يجوز ما أنكره على المعنى، لأن المعنى وأن منها لحجارة تتشقق، وأما يشقق فمحمول على لفظ ما. والشق واحد الشقوق، فهو في الأصل مصدر، تقول: بيد فلان ورجليه شقوق، ولا تقل: شقاق، إنما الشقاق داء يكون بالدواب، وهو تشقق يصيب أرساغها وربما ارتفع إلى وظيفها، عن يعقوب. والشق: الصبح. و"ما" في قوله:

{لَمَا يَتَفَجَّرُ} في موضع نصب، لأنها اسم إن واللام للتأكيد. "منه" على لفظ ما، ويجوز منها على المعنى، وكذلك {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} . وقرأ قتادة "وإن" في الموضعين، مخففة من الثقيلة.
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} يقول إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم، لخروج الماء منها وترديها. قال مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر. من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم. ومثله عن ابن جريج. وقال بعض المتكلمين في قوله: "وإن منها لما يهبط من خشية الله": البرد الهابط من السحاب. وقيل: لفظة الهبوط مجاز، وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها، وتخشع بالنظر إليها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة، أي تبعث من يراها على شرائها. وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، وكما قال زيد الخيل:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا} راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي من القلوب لما يخضع من خشيه الله.
قلت: كل ما قيل يحتمله اللفظ، والأول صحيح، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحول عنه حن، وثبت عنه أنه قال: "إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية

إني لأعرفه الآن" . وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال لي ثبير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله" . فناداه حراء: إلي يا رسول الله. وفي التنزيل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] الآية. وقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] يعني تذللا وخضوعا، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة "سبحان" إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} "بغافل" في موضع نصب على لغة أهل الحجاز، وعلى لغة تميم في موضع رفع. والياء توكيد {عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] ولا تحتاج "ما" إلى عائد إلا أن يجعلها بمعنى الذي فيحذف العائد لطول الاسم، أي عن الذي تعملونه. وقرأ ابن كثير "يعلمون" بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد عليه السلام.

المجلد الثاني
تفسير سورة البقرة (تابع)الآية 75 {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} هذا استفهام فيه معنى الإنكار، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود، أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك. والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، عن ابن عباس. أي لا تحزن على تكذيبهم إياك، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا. و"أن" في موضع نصب، أي في أن يؤمنوا، نصب بأن، ولذلك حذفت منه النون. يقال: طمع فيه طمعا وطماعية - مخفف - فهو طمع، على وزن فعل. وأطمعه فيه غيره. ويقال في التعجب: طمع الرجل - بضم الميم - أي صار كثير الطمع. والطمع: رزق الجند، يقال: أمر لهم الأمير بأطماعهم، أي بأرزاقهم. وامرأة مطماع: تطمع ولا تمكن.
الثانية: قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، وجمعه في أدنى العدد أفرقة، وفي الكثير أفرقاء. قوله تعالى: {يَسْمَعُونَ} في موضع نصب خبر "كان". ويجوز أن يكون الخبر "منهم"، ويكون "يسمعون" نعتا لفريق وفيه بُعد.
قوله تعالى: {كَلامَ اللَّهِ} قراءة الجماعة. وقرأ الأعمش "كلم الله" على جمع كلمة. قال سيبويه: واعلم أن ناسا من ربيعة يقولون "منهم" بكسر الهاء اتباعا لكسرة الميم، ولم يكن المسكن حاجزا حصينا عنده. "كلام الله" مفعول بـ "يسمعون". والمراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه

السلام، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره، وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم. هذا قول الربيع وابن إسحاق، وفي هذا القول ضعف. ومن قال: إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ، وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم. وقد قال السدي وغيره: لم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم، فلما فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيهم موسى عليه السلام، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6].
فإن قيل: فقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوم موسى سألوا موسى أن يسأل ربه أن يسمعهم كلامه، فسمعوا صوتا كصوت الشبور: "إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديدة".
قلت: هذا حديث باطل لا يصح، رواه ابن مروان عن الكلبي وكلاهما ضعيف لا يحتج به وإنما الكلام شيء خص به موسى من بين جميع ولد آدم، فإن كان كلم قومه أيضا حتى أسمعهم كلامه فما فضل موسى عليهم، وقد قال وقوله الحق: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144]. وهذا واضح.
الثالثة: واختلف الناس بماذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه، فمنهم من قال: إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات، وليس فيه تقطيع ولا نفس، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين. وقال آخرون: إنه لما سمع كلاما لا من جهة، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست، علم أنه ليس من كلام البشر. وقيل: إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام، فعلم أنه كلام الله. وقيل فيه: إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله، وذلك أنه قيل له: ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا، فكان ذلك علامة على صدق الحال، وأن الذي يقول له: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 12] هو الله جل وعز. وقيل: إنه قد كان أضمر في نفسه شيئا لا يقف عليه

إلا علام الغيوب، فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير، فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز. وسيأتي في سورة "القصص" بيان معنى قوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص: 30] إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} قال مجاهد والسدي: هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما اتباعا لأهوائهم. قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي عرفوه وعلموه. وهذا توبيخ لهم، أي إن هؤلاء اليهود قد سلفت لآبائهم أفاعيل سوء وعناد فهؤلاء على ذلك السنن، فكيف تطمعون في إيمانهم
ودل هذا الكلام أيضا على أن العالم بالحق المعاند فيه بعيد من الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم ينهه ذلك عن عناده.
الآيتان: 76 - {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
77- {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} هذا في المنافقين. أصل لقوا: لقيوا وقد تقدم قوله تعالى: {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية في اليهود، وذلك أن ناسا منهم أسلموا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم، فقالت لهم اليهود: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي حكم الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أكرم على الله منكم، عن ابن عباس والسدي. وقيل: إن عليا لما نازل قريظة يوم خيبر سمع سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إليه وقال: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وعرض له، فقال: " أظنك سمعت شتمي منهم لو رأوني لكفوا عن ذلك" ونهض إليهم، فلما رأوه أمسكوا، فقال لهم: "أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته" فقالوا:

ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا، من حدثك بهذا؟ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا! روي هذا المعنى عن مجاهد.
قوله تعالى: {وَإِذَا خَلا} الأصل في "خلا" خلو، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وتقدم معنى "خلا" في أول السورة. ومعنى "فتح" حكم. والفتح عند العرب: القضاء والحكم، ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أي الحاكمين، والفتاح: القاضي بلغة اليمن، يقال: بيني وبينك الفتاح، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم. والفتح: النصر، ومنه قوله: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89]، وقوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19]. ويكون بمعنى الفرق بين الشيئين.
قوله تعالى: {لِيُحَاجُّوكُمْ} نصب بلام كي، وإن شئت بإضمار أن، وعلامة النصب، حذف النون. قال يونس: وناس من العرب يفتحون لام كي. قال الأخفش: لأن الفتح الأصل. قال خلف الأحمر: هي لغة بني العنبر. ومعنى "ليحاجوكم" ليعيروكم، ويقولوا نحن أكرم على الله منكم. وقيل: المعنى ليحتجوا عليكم بقولكم، يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه. وقيل: إن الرجل من اليهود كان يلقى صديقه من المسلمين فيقول له: تمسك بدين محمد فإنه نبي حقا. {عِنْدَ رَبِّكُمْ} قيل في الآخرة، كما قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31]. وقيل: عند ذكر ربكم. وقيل: "عند" بمعنى "في" أي ليحاجوكم به في ربكم، فيكونوا أحق به منكم لظهور الحجة عليكم، وروي عن الحسن. والحجة: الكلام المستقيم على الإطلاق، ومن ذلك محجة الطريق. وحاججت فلانا فحججته، أي غلبته بالحجة. ومنه الحديث: "فحج آدم موسى" . {أَفَلا تَعْقِلُونَ} قيل: هو من قول الأحبار للأتباع. وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال، ثم وبخهم توبيخا يتلى فقال: {أَوَلا يَعْلَمُونَ} الآية. فهو استفهام معناه التوبيخ والتقريع. وقرأ الجمهور "يعلمون" بالياء، وابن محيصن بالتاء، خطابا للمؤمنين. والذي أسروه كفرهم، والذي أعلنوه الجحد به.

الآية: 78 {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي من اليهود. وقيل: من اليهود والمنافقين أميون، أي من لا يكتب ولا يقرأ، واحدهم أمي، منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادة أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها، ومنه قوله عليه السلام: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" الحديث. وقد قيل لهم إنهم أميون لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب، عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال: ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب. عكرمة والضحاك: هم نصارى العرب. وقيل: هم قوم من أهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين. علي رضي الله عنه: هم المجوس
قلت: والقول الأول أظهر، والله اعلم
الثانية: قوله تعالى: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} "إلا" ههنا بمعنى لكن، فهو استثناء منقطع، كقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]. وقال النابغة:
حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج "إلا أماني" خفيفة الياء، حذفوا إحدى الياءين استخفافا. قال أبو حاتم: كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد، فلك فيه التشديد والتخفيف، مثل أثافي وأغاني وأماني، ونحوه. وقال الأخفش: هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفاتيح ومفاتح، وهي ياء الجمع. قال النحاس: الحذف في المعتل أكثر، كما قال الشاعر:
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ... ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع

والأماني جمع أمنية وهي التلاوة، وأصلها أمنوية على وزن أفعولة، فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت أمنية، ومنه قوله تعالى: {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته. وقال كعب بن مالك:
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله آخر ليله ... تمني داود الزبور على رسل
والأماني أيضا الأكاذيب، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت منذ أسلمت، أي ما كذبت. وقول بعض العرب لابن دأب وهو يحدث: أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته؟ أي افتعلته. وبهذا المعنى فسر ابن عباس ومجاهد "أماني" في الآية. والأماني أيضا ما يتمناه الإنسان ويشتهيه. قال قتادة: "إلا أماني" يعني انهم يتمنون على الله ما ليس لهم. وقيل: الأماني التقدير، يقال: منى له أي قدر، قال الجوهري، وحكاه ابن بحر، وأنشد قول الشاعر:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني
أي يقدر لك المقدر.
الثالثة: قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} "إن" بمعنى ما النافية، كما قال تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ} [الملك: 20]. قوله تعالى: و {يَظُنُّونَ} يكذبون ويحدثون، لأنهم لا علم لهم بصحة ما يتلون، وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيما يقرؤون به.
قال أبو بكر الأنباري: وقد حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظن علما وشكا وكذبا، وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب، قال الله عز وجل {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} أراد إلا يكذبون.
الرابعة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: نعت الله تعالى أحبارهم بأنهم يبدلون ويحرفون فقال وقوله الحق: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] الآية. وذلك أنه لما درس

الأمر فيهم، وساءت رعية علمائهم، وأقبلوا على الدنيا حرصا وطمعا، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم، فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها، وألحقوا ذلك بالتوراة، وقالوا لسفهائهم هذا من عند الله، ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل، وهم العرب، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: لا يضرنا ذنب، فنحن أحباؤه وأبناؤه، تعالى الله عن ذلك! وإنما كان في التوراة "يا أحباري ويا أبناء رسلي" فغيروه وكتبوا "يا أحبائي ويا أبنائي" فأنزل الله تكذيبهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]. فقالت: لن يعذبنا الله، وإن عذبنا فأربعين يوما مقدار أيام العجل، فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} [البقرة: 80] قال ابن مقسم: يعني توحيدا، بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم: 87] يعني لا إله إلا الله {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80] ثم أكذبهم فقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81 - 82]. فبين تعالى أن الخلود في النار والجنة إنما هو بحسب الكفر والإيمان، لا بما قالوه.
الآية: 79 {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}
فيه خمسة مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَوَيْلٌ} اختلف في "الويل" ما هو، فروى عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من نار. وروى أبو سعيد الخدري أن الويل واد في جهنم بين

جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا. وروى سفيان وعطاء بن يسار: أن الويل في هذه الآية واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار. وقيل: صهريج في جهنم. وحكى الزهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جهنم. وعن ابن عباس: الويل المشقة من العذاب. وقال الخليل: الويل شدة الشر. الأصمعي: الويل تفجع وترحم. سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح زجر لمن أشرف على الهلكة. ابن عرفة: الويل الحزن: يقال: تويل الرجل إذا دعا بالويل، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه، ومنه قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]. وقيل: أصله الهلكة، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، ومنه قوله تعالى: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} [الكهف: 49]. وهي الويل والويلة، وهما الهلكة، والجمع الويلات، قال:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
وقال أيضا:
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
وارتفع "ويل" بالابتداء، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأن فيه معنى الدعاء. قال الأخفش: ويجوز النصب على إضمار فعل، أي ألزمهم الله ويلا. وقال الفراء: الأصل في الويل "وي" أي حزن، كما تقول: ويل لفلان، أي حزن له، فوصلته العرب باللام وقدروها منه فأعربوها. والأحسن فيه إذا فصل عن الإضافة الرفع، لأنه يقتضي الوقوع. ويصح النصب على معنى الدعاء، كما ذكرنا
قال الخليل: ولم يسمع على بنائه إلا ويح وويس وويه وويك وويل وويب، وكله يتقارب في المعنى. وقد فرق بينها قوم، وهي مصادر لم تنطلق العرب منها بفعل. قال الجرمي: ومما ينتصب انتصاب المصادر ويله وعوله وويحه وويسه، فإذا أدخلت اللام رفعت فقلت: ويل له، وويح له
الثانية: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ} الكتابة معروفة. وأول من كتب بالقلم وخط به إدريس عليه السلام، وجاء ذلك في حديث أبي ذر، خرجه الآجري وغيره. وقد قيل: إن آدم عليه السلام أعطي الخط فصار وراثة في ولده.

الثالثة: قوله تعالى: {بِأَيْدِيهِمْ} تأكيد، فإنه قد علم أن الكتب لا يكون إلا باليد، فهو مثل قوله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 167]. وقيل: فائدة "بأيديهم" بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم، فإن من تولى الفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله وإن كان رأيا له وقال ابن السراج: "بأيديهم" كناية عن أنهم من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم.
الرابعة: في هذه الآية والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في الشرع، فكل من بدل وغير أو ابتدع في دين الله ما ليس منه ولا يجوز فيه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد، والعذاب الأليم، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته لما قد علم ما يكون في آخر الزمان فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" الحديث، وسيأتي. فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه فيضلوا به الناس، وقد وقع ما حذره وشاع، وكثر وذاع، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الخامسة: قوله تعالى: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وصف الله تعالى ما يأخذونه بالقلة، إما لفنائه وعدم ثباته، وإما لكونه حراما، لأن الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند الله. قال ابن إسحاق والكلبي: كانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم ربعة أسمر، فجعلوه آدم سبطا طويلا، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يبعث في آخر الزمان ليس يشبهه نعت هذا، وكانت للأحبار والعلماء رياسة ومكاسب، فخافوا إن بينوا أن تذهب مآكلهم ورياستهم، فمن ثم غيروا.
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} قيل من المآكل. وقيل من المعاصي. وكرر الويل تغليظا لفعلهم.

الآية: 80 {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَقَالُوا} يعني اليهود. {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} اختلف، في سبب نزولها، فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: "من أهل النار" . قالوا: نحن، ثم تخلفونا أنتم. فقال: "كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم" فنزلت هذه الآية، قال ابن زيد. وقال عكرمة عن ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف، وإنما يعذب الناس في النار لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، وإنما هي سبعة أيام، فأنزل الله الآية، وهذا قول مجاهد. وقالت طائفة: قالت اليهود إن في التوراة أن جهنم مسيرة أربعين سنة، وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم. ورواه الضحاك عن ابن عباس. وعن ابن عباس: زعم اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم. وقالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك. وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن اليهود قالت إن الله أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل، فأكذبهم الله، كما تقدم.
الثانية: في هذه الآية رد على أبي حنيفة وأصحابه حيث استدلوا بقوله عليه السلام: "دعي الصلاة أيام أقرائك" في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة، قالوا: لأن ما دون الثلاثة يسمى يوما ويومين، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما ولا يقال فيه أيام، وإنما يقال أيام من الثلاثة إلى العشرة، قال الله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة. 196]، {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]، {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [هود: 7].

فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصوم: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} يعني جميع الشهر، وقال: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] يعني أربعين يوما. وأيضا فإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك وسفرك وإقامتك، وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد، ولعله أراد ما كان معتادا لها، والعادة ست أو سبع، فخرج عليه، والله اعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ} تقدم القول في {اتَّخَذَ} فلا معنى لإعادته {عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} أي أسلفتم عملا صالحا فآمنتم وأطعتم فتستوجبون بذلك الخروج من النار! أو هل عرفتم ذلك بوحيه الذي عهده إليكم. قوله تعالى: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} توبيخ وتقريع.
الآية: 81 {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
الآية: 82 {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {بَلَى} أي ليس الأمر كما ذكرتم. قال سيبويه: ليس "بلى" و"نعم" اسمين. وإنما هما حرفان مثل "بل" وغيره، وهي رد لقولهم: إن تمسنا النار. وقال الكوفيون: أصلها بل التي للإضراب عن الأول، زيدت عليها الياء ليحسن الوقف، وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام. فـ "بل" تدل على رد الجحد، والياء تدل على الإيجاب لما بعد. قالوا: ولو قال قائل: ألم تأخذ دينارا؟ فقلت: نعم، لكان المعنى لا، لم آخذ، لأنك حققت النفي وما بعده. فإذا قلت: بلى، صار المعنى قد أخذت. قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك علي شيء، فقال الآخر: نعم، كان ذلك تصديقا، لأن لا شيء

له عليه، ولو قال: بلى، كان ردا لقوله، وتقديره: بلى لي عليك. وفي التنزيل {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ولو قالوا نعم لكفروا.
الثانية: قوله تعالى: {سَيِّئَةً} السيئة الشرك. قال ابن جريج قلت لعطاء: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} ؟ قال: الشرك، وتلا {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} وكذا قال الحسن وقتادة، قالا: والخطيئة الكبيرة.
لما قال تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} دل على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، ومثله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، وقوله عليه السلام لسفيان بن عبدالله الثقفي وقد قال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" . رواه مسلم. وقد مضى القول في هذا المعنى وما للعلماء فيه عند قوله تعالى لآدم وحواء: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]. وقرأ نافع "خطيئاته" بالجمع، الباقون بالإفراد، والمعنى الكثرة، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} .
فسرت هذه الآية في موضع قبل هذا.
3 الآية: 83 {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} تقدم الكلام في بيان هذه الألفاظ. واختلف في الميثاق هنا، فقال مكي: هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم

وهو قوله: "لا تعبدون إلا الله" وعبادة الله إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه
الثانية: قوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ} قال سيبويه: {لا تَعْبُدُونَ} متعلق بقسم، والمعنى وإذ استخلفناهم والله لا تعبدون، وأجازه المبرد والكسائي والفراء. وقرأ أبي وابن مسعود "لا تعبدوا" على النهي، ولهذا وصل الكلام بالأمر فقال: "وقوموا، وقولوا، وأقيموا، وآتوا". وقيل: هو في موضع الحال، أي أخذنا ميثاقهم موحدين، أو غير معاندين، قاله قطرب والمبرد أيضا. وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي "يعبدون" بالياء من أسفل. وقال الفراء والزجاج وجماعة: المعنى أخذنا ميثاقهم بألا يعبدوا إلا الله، وبأن يحسنوا للوالدين، وبألا يسفكوا الدماء، ثم حذفت أن والباء فارتفع الفعل لزوالهما، كقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي} . قال المبرد: هذا خطأ، لأن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهرا، تقول: وبلد قطعت، أي رب بلد.
قلت: ليس هذا بخطأ، بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد سيبويه:
ألا أيها ذا الزاجري أحْضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
بالنصب والرفع، فالنصب على إضمار أن، والرفع على حذفها
الثالثة: قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا. وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد، لأن النشأة الأولى من عند الله، والنشء الثاني - وهو التربية - من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]. والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما، وصلة أهل ودهما، على ما يأتي بيانه مفصلا في "الإسراء" إن شاء الله تعالى.

الرابعة: قوله تعالى: {وَذِي الْقُرْبَى} عطف ذي القربى على الوالدين. والقربى: بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم. وسيأتي بيان هذا مفصلا في سورة "القتال" إن شاء الله تعالى.
الخامسة: قوله تعالى: {وَالْيَتَامَى} اليتامى عطف أيضا، وهو جمع يتيم، مثل ندمى جمع نديم. واليتم في بني آدم بفقد الأب، وفي البهائم بفقد الأم. وحكى الماوردي أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الأم، والأول المعروف. وأصله الانفراد، يقال: صبي يتيم، أي منفرد من أبيه. وبيت يتيم: أي ليس قبله ولا بعده شيء من الشعر. ودرة يتيمة: ليس لها نظير. وقيل: أصله الإبطاء، فسمي به اليتيم، لأن البر يبطئ عنه. ويقال: يتم ييتم يتما، مثل عظم يعظم. ويتم ييتم يتْما ويتَما، مثل سمع يسمع، ذكر الوجهين الفراء. وقد أيتمه الله. ويدل هذا على الرأفة باليتيم والحض على كفالته وحفظ ماله، على ما يأتي بيانه في "النساء". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة" . وأشار مالك بالسبابة والوسطى، رواه أبو هريرة وأخرجه مسلم. وخرج الإمام الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث الحسن بن دينار أبي سعيد البصري وهو الحسن بن واصل قال حدثنا الأسود بن عبدالرحمن عن هِصّان عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان" . وخرج أيضا من حديث حسين بن قيس وهو أبو علي الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضم يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه - قالوا: وما كريمتاه؟ قال: - عيناه ومن كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يبن أو يمتن غفرت له ذنوبه البتة

إلا أن يعمل عملا لا يغفر" فناداه رجل من الأعراب ممن هاجر فقال: يا رسول الله أو اثنتين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو اثنتين" . فكان ابن عباس إذا حدث بهذا الحديث قال: هذا والله من غرائب الحديث وغرره
السادسة: السبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام، وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة، لأنهم كانوا يسبون بها، فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسموها المشيرة، لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله في التوحيد. وتسمى أيضا بالسباحة، جاء تسميتها بذلك في حديث وائل بن حجر وغيره، ولكن اللغة سارت بما كانت تعرفه في الجاهلية فغلبت. وروي عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى. روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبدالله بن مقسم الطائفي قال حدثتني عمتي سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت: خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وسأله أبي عن أشياء، فلقد رأيتني أتعجب وأنا جارية من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه. فقوله عليه السلام: "أنا وهو كهاتين في الجنة" ، وقوله في الحديث الآخر: " أحشر أنا وأبو بكر وعمر يوم القيامة هكذا" وأشار بأصابعه الثلاث، فإنما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق فقال: نحشر هكذا ونحن مشرفون وكذا كافل اليتيم تكون منزلته رفيعة. فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى حمل تأويل الحديث على الانضمام والاقتراب بعضهم من بعض في محل القربة. وهذا معنى بعيد، لأن منازل الرسل والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة، ومنازل مختلفة.
السابعة: قوله تعالى: {وَالْمَسَاكِينِ} "المساكين" عطف أيضا أي وأمرناهم بالإحسان إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم. وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمؤاساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء. روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله - وأحسبه قال -

وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر". قال ابن المنذر: وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله.
الثامنة: قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} {حُسْناً} نصب على المصدر على المعنى، لأن المعنى ليحسن قولكم. وقيل: التقدير وقولوا للناس قولا ذا حسن، فهو مصدر لا على المعنى. وقرأ حمزة والكسائي "حسنا" بفتح الحاء والسين. قال الأخفش: هما بمعنى واحد، مثل البُخل والبَخل، والرشد والرشد. وحكى الأخفش: "حسنى" بغير تنوين على فعلى. قال النحاس: "وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام، نحو الفضلى والكبرى والحسنى، هذا قول سيبويه وقرأ عيسى بن عمر "حسنا" بضمتين، مثل "الحلم". قال ابن عباس: المعنى قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها. ابن جريج: قولوا للناس صدقا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغيروا نعته. سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر. أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به. وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه: 44]. فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} . فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي؟؟. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: "لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء" . وقيل: أراد بالناس محمدا صلى الله عليه وسلم، كقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]. فكأنه قال: قولوا للنبي صلى الله عليه وسلم حسنا. وحكى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44