كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

قال: فذرني وعمل اللّه، فأعتقه. وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا رضي اللّه عنه. وقال عطاء - وروى عن ابن عباس -: إن السورة نزلت في أبي الدحداح؛ في النخلة التي اشتراها بحائط له، فيما ذكر الثعلبي عن عطاء. وقال القشيري عن ابن عباس: بأربعين نخلة؛ ولم يسم الرجل. قال عطاء: كان لرجل من الأنصار نخلة، يسقط من بلحها في دار جار له، فيتناول صبيانه، فشكا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم. "تبيعها بنخلة في الجنة" ؟ فأبى؛ فخرج فلقيه أبو الدحداح فقال: هل لك أن تبيعنيها بـ"حسنى": حائط له. فقال: هي لك. فأتى أبو الدحداح إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقال: يا رسول اللّه، اشترها مني بنخلة في الجنة. قال: "نعم، والذي نفسي بيده" فقال: هي لك يا رسول اللّه؛ فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم جار الأنصاري، فقال: "خذها" فنزلت {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} " يعني أبا الدحداح. {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي بالثواب. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} : يعني الجنة. " {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} يعني الأنصاري. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي بالثواب. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ، يعني جهنم. {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} أي مات. إلى قوله: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} يعني بذلك الخزرجي؛ وكان منافقا، فمات على نفاقه. {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} يعني أبا الدحداح. {الذي يؤتي ماله يتزكى} في ثمن تلك النخلة. {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} يكافئه عليها؛ يعني أبا الدحداح. {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} إذا أدخله اللّه الجنة. والأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي اللّه عنه. وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبدالله بن الزبير وغيرهم. وقد ذكرنا خبرا آخر لأبي الدحداح في سورة "البقرة"، عند قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} . واللّه تعالى أعلم.

سورة الضحى
مكية باتفاق. وهي إحدى عشر آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {وَالضُّحَى}
2- {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}
3- {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
قوله تعالى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} قد تقدم القول في {الضُّحَى} ، والمراد به النهار؛ لقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} فقابله بالليل. وفي سورة الأعراف {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي نهارا. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق: أقسم بالضحى الذي كلم اللّه فيه موسى، وبليلة المعراج. وقيل: هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا. بيانه قوله تعالى: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} . وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فيه إضمار، مجازه ورب الضحى. و {سَجَى} معناه: سكن؛ قال قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال: ليلة ساجية أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجية. يقال: سجا الليل يسجو سجوا: إذا سكن. والبحر إذا سجا: سكن. قال الأعشى:
فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج ما يواري الدعامصا
وقال الراجز:
يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج

وقال جرير:
ولقد رمينك يوم رحن بأعين ... ينظرن من خلل الستور سواجي
وقال الضحاك: {سَجَى} غطى كل شيء. قال الأصمعي: سجو الليل: تغطيته النهار؛ مثلما يسجى الرجل بالثوب. وقال الحسن: غشى بظلامه؛ وقال ابن عباس. وعنه: إذا ذهب. وعنه أيضا: إذا أظلم. وقال سعيد بن جبير: أقبل؛ وروي عن قتادة أيضا. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: {سَجَى} استوى. والقول الأول أشهر في اللغة: {سَجَى} سكن؛ أي سكن الناس فيه. كما يقال: نهار صائم، وليل قائم. وقيل: سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} : يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم. ويقال: {وَالضُّحَى} : يعني نور الجنة إذا تنور. {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} : يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال: {وَالضُّحَى} : يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} : يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل؛ فأقسم اللّه عز وجل بهذه الأشياء.
قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال المشركون: قلاه اللّه وودعه؛ فنزلت الآية. وقال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما. وقيل: خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل: أربعين يوما. فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من اللّه لتابع عليه، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء. وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا؛ فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث؛ فأنزل اللّه عز وجل {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وفي الترمذي عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في غار فدميت إصبعه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "هل أنت إلا إصبع دميت،

وفي سبيل اللّه ما لقيت" ! قال: وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون: قد ودع محمد؛ فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . هذا حديث حسن صحيح. لم يذكر الترمذي: "فلم يقم ليلتين أو ثلاثا" أسقطه الترمذي. وذكره البخاري، وهو أصح ما قيل في ذلك. واللّه أعلم. وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي، قال: رُمي النبي صلى اللّه عليه وسلم في إصبعه بحجر، فدميت، فقال: "هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل اللّه ما لقيت" فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم اره قربك منذ ليلتين أو ثلاث؛ فنزلت {وَالضُّحَى} . وروى عن أبي عمران الجوني، قال: أبطأ جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى شق عليه؛ فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو؛ فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وقالت خولة - وكانت تخدم النبي صلى اللّه عليه وسلم -: إن جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي. فقال: "يا خولة، ما حدث في بيتي؟ ما لجبريل لا يأتيني" قالت خولة فقلت: لو هيأت البيت وكنسته؛ فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار؛ فجاء نبي اللّه ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال: "يا خولة دثريني" فأنزل اللّه هذه السورة. ولما نزل جبريل سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن التأخر فقال: "أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة" . وقيل: لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال: "سأخبركم غدا" . ولم يقل إن شاء اللّه. فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأخبره بما سئل عنه. وفي هذه القصة نزلت {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}. وقيل: إن المسلمين قالوا: يا رسول اللّه، مالك لا ينزل عليك الوحي؟ فقال: "وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم - وفي رواية براجمكم - ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم" . فنزل

جبريل بهذه السورة؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "ما جئت حتى اشتقت إليك" فقال جبريل: "أنا كنت أشد إليك شوقا، ولكني عبد مأمور" ثم أنزل عليه {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}{وَدَّعَكَ} بالتشديد: قراءة العامة، من التوديع، وذلك كتوديع المفارق. وروي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرآه {ودعك} بالتخفيف، ومعناه: تركك. قال:
وثم ودعنا آل عمرو وعامر ... فرائس أطراف المثقفة السمر
واستعماله قليل. يقال: هو يدع كذا، أي يتركه. قال المبرد محمد بن يزيد: لا يكادون يقولون ودع ولا وذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنها بترك.
قوله تعالى: {وَمَا قَلَى} أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. وترك الكاف، لأنه رأس آية. والقلى: البغض؛ فإن فتحت القاف مددت؛ تقول: قلاه يقليه قلى وقلاء. كما تقول: قريت الضيف أقريه قرى وقراء. ويقلاه: لغة طيء. وأنشد ثعلب:
أيام أم الغمر لا نقلاها
أي لا نبغضها. ونقلي أي نبغض. وقال:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقال امرؤ القيس:
ولست بمقلي الخلال ولا قال
وتأويل الآية: ما ودعك ربك وما قلاك. فترك الكاف لأنه رأس آية؛ كما قال عز وجل: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} أي والذاكرات اللّه.

4- {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}
5- {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}
روى سلمة عن ابن إسحاق قال: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} أي ما عندي في مرجعك إلي يا محمد، خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا. وقال ابن عباس: أري النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يفتح اللّه على أمته بعده؛ فسر بذلك؛ فنزل جبريل بقوله: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . قال ابن إسحاق: الفلج في الدنيا، والثواب في الآخرة. وقيل: الحوض والشفاعة. وعن ابن عباس: ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. رفعه الأوزاعي، قال: حدثني إسماعيل بن عبيدالله، عن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه قال: أري النبي صلى اللّه عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته، فسر بذلك؛ فأنزل اللّه عز وجل {وَالضُّحَى - إلى قوله تعالى - وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، فأعطاه اللّه جل ثناؤه ألف قصر في الجنة، ترابها المسك؛ في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. وعنه قال: رضي محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال السدي. وقيل: هي الشفاعة في جميع المؤمنين. وعن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "يشفعني اللّه في أمتي حتى يقول اللّه سبحانه لي: رضيت يا محمد؟ فأقول يا رب رضيت" . وفي صحيح مسلم عن، عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا قول اللّه تعالى في إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ، فرفع يديه وقال: "اللهم أمتي أمتي" وبكى. فقال اللّه تعالى لجبريل: "اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك" فأتى جبريل النبي صلى اللّه عليه وسلم، فسأل فأخبره. فقال اللّه تعالى لجبريل: "اذهب إلى محمد، فقل له: إن اللّه يقول لك: إنا سنرضيك في أمتك

ولا نسوءك" .وقال علي رضي اللّه عنه لأهل العراق: إنكم تقولون إن أرجى آية في كتاب اللّه تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} قالوا: إنا نقول ذلك. قال: ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب اللّه قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . وفي الحديث: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "إذا واللّه لا أرضى وواحد من أمتي في النار" .
6- {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى}
عدد سبحانه مننه على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً} لا أب لك قد مات أبوك. {فَآوَى} أي جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب، فكفلك. وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صلى اللّه عليه وسلم من أبويه؟ فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه حق. وعن مجاهد: هو من قول العرب: درة يتيمة؛ إذا لم يكن لها مثل. فمجاز الآية: ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك، فآواك اللّه بأصحاب يحفظونك ويحوطونك.
7- {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}
أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك: أي أرشدك. والضلال هنا بمعنى الغفلة؛ كقوله جل ثناؤه: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} أي لا يغفل. وقال في حق نبيه: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} وقال قوم: {ضَالاً} لم تكن تدري القرآن والشرائع، فهداك اللّه إلى القرآن، وشرائع الإسلام؛ عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. وهو معنى

قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} ، على ما بينا في سورة الشورى. وقال قوم: {وَوَجَدَكَ ضَالاً} أي في قوم ضلال، فهداهم اللّه بك. هذا قول الكلبي والفراء. وعن السدي نحوه؛ أي ووجد قومك في ضلال، فهداك إلى إرشادهم. وقيل: {وَوَجَدَكَ ضَالاً} عن الهجرة، فهداك إليها. وقيل: {ضَالاً} أي ناسيا شأن الاستئناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح - فأذكرك؛ كما قال تعالى: " {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} . وقيل: ووجدك طالبا للقبلة فهداك إليها؛ بيانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ...} الآية. ويكون الضلال بمعنى الطلب؛ لأن الضال طالب. وقيل: ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك، فهداك إليه؛ فيكون الضلال بمعنى التحير؛ لأن الضال متحير. وقيل: ووجدك ضائعا في قومك؛ فهداك إليه؛ ويكون الضلال بمعنى الضياع. وقيل: ووجدك محبا للهداية، فهداك إليها؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة. ومنه قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} أي في محبتك. قال الشاعر:
هذا الضلال أشاب مني المفرقا ... العارضين ولم أكن متحققا
عجبا لعزة في اختيار قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا
وقيل: {ضَالاً} في شعاب مكة، فهداك وردك إلى جدك عبدالمطلب. قال ابن عباس: ضل النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو صغير في شعاب مكة، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه، فرده إلى جده عبدالمطلب؛ فمن اللّه عليه بذلك، حين رده إلى جده على يدي عدوه. وقال سعيد بن جبير: خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم مع عمه أبي طالب في سفر، فأخذ إبليس بزمام الناقة في ليلة ظلماء، فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل عليه السلام، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند، ورده إلى القافلة؛ فمن اللّه عليه بذلك. وقال كعب: إن حليمة لما قضت حق الرضاع، جاءت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لترده على عبدالمطلب،

فسمعت عند باب مكة: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد إليك النور والدين والبهاء والجمال. قالت: فوضعته لأصلح ثيابي، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس، أين الصبي؟ فقال: لم نر شيئا؛ فصحت: وامحمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصاه، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده عليك فعل. ثم طاف الشيخ بالصنم، وقبل رأسه وقال: يا رب، لم تزل منتك على قريش، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل، فرده إن شئت. فانكب هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام، وقالت: إليك عنا أيها الشيخ، فهلاكنا على يدي محمد. فألقى الشيخ عصاه، وارتعد وقال: إن لابنك ربا لا يضيعه، فاطلبيه على مهل. فانحشرت قريش إلى عبدالمطلب، وطلبوه في جميع مكة، فلم يجدوه. فطاف عبدالمطلب بالكعبة سبعا، وتضرع إلى اللّه أن يرده، وقال:
يا رب رد ولدي محمدا ... اردده ربي واتخذ عندي يدا
يا رب إن محمد لم يوجدا ... فشمل قومي كلهم تبددا
فسمعوا مناديا ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه، وإن محمدا بوادي تهامة، عند شجرة السمر. فسار عبدالمطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى اللّه عليه وسلم قائم تحت شجرة، يلعب بالأغصان وبالورق. وقيل: {وَوَجَدَكَ ضَالاً} ليلة المعراج، حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش. وقال أبو بكر الوراق وغيره: {وَوَجَدَكَ ضَالاً} : تحب أبا طالب، فهداك إلى محبة ربك. وقال بسام بن عبدالله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً} بنفسك لا تدري من أنت، فعرفك بنفسك وحالك. وقال الجنيدي: ووجدك متحيرا في بيان الكتاب، فعلمك البيان؛ بيانه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية. {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} . وقال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض، لا شجر معها، سموها ضالة، فيهتدي بها إلى الطريق؛ فقال اللّه تعالى

لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالاً} أي لا أحد على دينك، وأنت وحيد ليس معك أحد؛ فهديت بك الخلق إلي.
قلت: هذه الأقوال كلها حسان، ثم منها ما هو معنوي، ومنها ما هو حسي. والقول الأخير أعجب إلي؛ لأنه يجمع الأقوال المعنوية. وقال قوم: إنه كان على جملة ما كان القوم عليه، لا يظهر لهم خلافا على ظاهر الحال؛ فأما الشرك فلا يظن به؛ بل كان على مراسم القوم في الظاهر أربعين سنة. وقال الكلبي والسدي: هذا على ظاهره؛ أي وجدك كافرا والقوم كفار فهداك. وقد مضى هذا القول والرد عليه في سورة "الشورى". وقيل: وجدك مغمورا بأهل الشرك، فميزك عنهم. يقال: ضل الماء في اللبن؛ ومنه {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} أي لحقنا بالتراب عند الدفن، حتى كأنا لا نتميز من جملته. وفي قراءة الحسن {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} أي وجدك الضال فاهتدى بك؛ وهذه قراءة على التفسير. وقيل: {وَوَجَدَكَ ضَالاً} لا يهتدي إليك قومك، ولا يعرفون قدرك؛ فهدى المسلمين إليك، حتى آمنوا بك.
8- {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}
أي فقيرا لا مال لك. {فَأَغْنَى} أي فأغناك بخديجة رضي اللّه عنها؛ يقال: عال الرجل يعيل عيلة: إذا افتقر. وقال أحيحة بن الجلاح:
فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يغيل
أي يفتقر. وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق. وقال الكلبي: قنعك بالرزق. وقال ابن عطاء: ووجدك فقير النفس، فأغنى قلبك. وقال الأخفش: وجدك ذا عيال؛ دليله "فأغنى". ومنه قول جرير:
الله أنزل في الكتاب فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل

وقيل: وجدك فقيرا من الحجج والبراهين، فأغناك بها. وقيل: أغناك بما فتح لك من الفتوح، وأفاءه عليك من أموال الكفار. القشيري وفي هذا نظر؛ لأن السورة مكية، وإنما فرض الجهاد بالمدينة.
وقراءة العامة {عَائِلاً} وقرأ ابن السميقع {عيلا} بالتشديد؛ مثل طبيب وهين.
9- {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَر}ْ
10- {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}
11- {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}
فيه أربع مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} أي لا تسلط عليه بالظلم، ادفع إليه حقه، واذكر يتمك؛ قال الأخفش. وقيل: هما لغتان: بمعنى. وعن مجاهد {فَلا تَقْهَرْ} فلا تحتقر. وقرأ النخعي والأشهب العقيلي {تكهر}بالكاف، وكذا هو في مصحف ابن مسعود. فعلى هذا يحتمل أن يكون نهيا عن قهره، بظلمه وأخذ ماله. وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير اللّه تعالى؛ فغلظ في أمره، بتغليظ العقوبة على ظالمه. والعرب تعاقب بين الكاف والقاف. النحاس: وهذا غلط، إنما يقال كهره: إذا اشتد عليه وغلظ. وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي، حين تكلم في الصلاة برد السلام، قال: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه - يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فواللّه ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني... الحديث. وقيل: القهر الغلبة. والكهر: الزجر.
الثانية- ودلت الآية على اللطف باليتيم، وبره والإحسان إليه؛ حتى قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم. وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قسوة قلبه؛ فقال: "إن أردت أن يلين، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين" . وفي الصحيح عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين" .

وأشار بالسبابة والوسطى. ومن حديث ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول اللّه تعالى لملائكته: يا ملائكتي، من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم، فيقول اللّه تعالى لملائكته: يا ملائكتي، اشهدوا أن من أسكته وأرضاه؟ أن أرضيه يوم القيامة" . فكان ابن عمر إذا رأى يتيما مسح برأسه، وأعطاه شيئا. وعن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "من ضم يتيما فكان في نفقته، وكفاه مؤونته،كان له حجابا من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة" . وقال أكثم بن صيفي: الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والمديون، واليتيم.
الثالثة- قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} أي لا تزجره؛ فهو نهى عن إغلاط القول. ولكن رده ببذل يسير، أو رد جميل، واذكر فقرك؛ قال قتادة وغيره. وروي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "لا يمنعن أحدكم السائل، وأن يعطيه إذا سأل، ولو رأى في يده قلبين من ذهب" . وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السُّؤَّال: يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "ردوا السائل ببذل يسير، أو رد جميل، فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن، ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم اللّه" . وقيل: المراد بالسائل هنا، الذي يسأل عن الدين؛ أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجبه برفق ولين؛ قاله سفيان. قال ابن العربي: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم، على الكفاية؛ كإعطاء سائل البر سواء. وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث، ويبسط رداءه لهم، ويقول: مرحبا بأحبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وفي حديث أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول: مرحبا بوصية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "إن الناس لكم تبع

وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا" . وفي رواية "يأتيكم رجال من قبل المشرق" ... فذكره. و {الْيَتِيمَ} و {السَّائِلَ} منصوبان بالفعل الذي بعده؛ وحق المنصوب أن يكون بعد الفاء، والتقدير: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "سألت ربي مسئلة وددت أني لم أسألها: قلت يا رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، وسخرت مع داود الجبال يسبحن، وأعطيت فلانا كذا؛ فقال عز وجل: ألم أجدك يتيما فآويتك؟ ألم أجدك ضالا فهديتك؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أوتك ما لم أوت أحدا قبلك: خواتيم سورة البقرة، الم أتخذك خليلا، كما اتخذت إبراهيم خليلا؟ قلت بلى يا رب"
الرابعة- قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي أنشر ما أنعم اللّه عليك بالشكر والثناء. والتحدث بنعم اللّه، والاعتراف بها شكر. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد "وأما بنعمة ربك" قال بالقرآن. وعنه قال: بالنبوة؛ أي بلغ ما أرسلت به. والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والحكم عام له ولغيره. وعن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما قال: إذا أصبت خيرا، أو عملت خيرا، فحدث به الثقة من إخوانك. وعن عمرو بن ميمون قال: إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به، يقول له: رزق اللّه من الصلاة البارحة وكذا وكذا. وكان أبو فراس عبدالله بن غالب إذا أصبح يقول: لقد رزقني اللّه البارحة كذا، قرأت كذا، وصليت كذا، وذكرت اللّه كذا، وفعلت كذا. فقلنا له: يا أبا فراس، إن مثلك لا يقول هذا قال: يقول اللّه تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وتقولون أنتم: لا تحدث بنعمة اللّه ونحوه عن أيوب السختياني وأبي رجاء العطاردي رضي اللّه عنهم. وقال بكر بن عبدالله المزني قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "من أعطي خيرا فلم ير عليه، سمي بغيض اللّه، معاديا لنعم اللّه" . وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "من لم يشكو القليل، لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس، لم يشكر اللّه، والتحدث بالنعم شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب" . وروى النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال: كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا، فرآني رث الثياب فقال: "ألك مال؟" قلت:

نعم، يا رسول اللّه، من كل المال. قال: "إذا آتاك اللّه مالا فلير أثره عليك" . وروى أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إن اللّه جميل يحب الجمال، ويجب أن يرى أثر نعمته على عبده" .
فصل: يُكبر القارئ في رواية البزي عن ابن كثير - وقد رواه مجاهد عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: إذا بلغ آخر {وَالضُّحَى} كبر بين كل سورة تكبيرة، إلى أن يختم القرآن، ولا يصل آخر السورة بتكبيره؛ بل يفصل بينهما بسكتة. وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أياما، فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه وقلاه؛ فنزلت هذه السورة فقال: "اللّه أكبر". قال مجاهد: قرأت على ابن عباس، فأمرني به، وأخبرني به عن أبيّ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. ولا يكبر في قراءة الباقين؛ لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن.
قلت: القرآن ثبت نقلا متواترا سوره وآياته وحروفه؛ لا زيادة فيه ولا نقصان؛ فالتكبير على هذا ليس بقرآن. فإذا كان بسم اللّه الرحمن الرحيم المكتوب في المصحف بخط المصحف ليس بقرآن، فكيف بالتكبير الذي هو ليس بمكتوب. أما أنه ثبت سنة بنقل الآحاد، فاستحبه ابن كثير، لا أنه أوجبه فخطأ من تركه. ذكر الحاكم أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحافظ في كتاب المستدرك له على البخاري ومسلم: حدثنا أبو يحيى محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله بن يزيد، المقرئ الإمام بمكة، في المسجد الحرام، قال: حدثنا أبو عبدالله محمد بن علي بن زيد الصائغ، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن عبدالله بن قسطنطين، فلما بلغت {وَالضُّحَى} قال لي كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، فإني قرأت على عبدالله بن كثير فلما بلغت {وَالضُّحَى} قال: كبر حتى تختم. وأخبره عبدالله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبيّ بن كعب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمره بذلك. هذا حديث صحيح ولم يخرجاه.

سورة ألم نشرح
مكية في قول الجميع. وهي ثماني آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}
شرح الصدر: فتحه؛ أي ألم نفتح صدرك للإسلام. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ألم نلين لك قلبك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول اللّه، أينشرح الصدر؟ قال: "نعم وينفسح" . قالوا: يا رسول اللّه، وهل لذلك علامة؟ قال: "نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاعتداد للموت، قبل نزول الموت" . وقد مضى هذا المعنى في "الزمر" عند قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} وروي عن الحسن قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} قال: مُلئ حكما وعلما. وفي الصحيح عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة - رجل من قومه - أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة فأٌتيت بطست من ذهب، فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا" قال قتادة قلت: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني، قال: "فاستخرج قلبي، فغسل قلبي بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانا وحكمة" . وفي الحديث قصة. وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "جاءني ملكان في صورة طائر، معهما ماء وثلج، فشرح أحدهما صدري، وفتح

الآخر بمنقاره فيه فغسله" . وفي حديث آخر قال: "جاءني ملك فشق عن قلبي، فاستخرج منه عذرة، وقال: قلبك وكيع، وعيناك بصيرتان، وأذناك سميعتان، أنت محمد رسول اللّه، لسانك صادق، ونفسك مطمئنة، وخلقك قثم، وأنت قيم" . قال أهل اللغة: قوله [وكيع] أي يحفظ ما يوضع فيه. يقال: سقاء وكيع؛ أي قوي يحفظ ما يوضع فيه. واستوكعت معدته، أي قويت وقوله: [قثم] أي جامع. يقال: رجل قثوم للخير؛ أي جامع له. ومعنى {أَلَمْ نَشْرَحْ} قد شرحنا؛ الدليل؛ على ذلك قوله في النسق عليه: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} ، فهذا عطف على التأويل، لا على التنزيل؛ لأنه لو كان على التنزيل لقال: ونضع عنك وزرك. فدل هذا على أن معنى {أَلَمْ نَشْرَحْ} : قد شرحنا. و{لم} جحد، وفي الاستفهام طرف من الجحد، وإذا وقع جحد، رجع إلى التحقيق؛ كقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} . ومعناه: اللّه أحكم الحاكمين. وكذا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} . ومثله قول جرير يمدح عبدالملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
المعنى: أنتم كذا.
2- {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ}
3- {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ}
قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} أي حططنا عنك ذنبك. وقرأ أنس {وحللنا، وحططنا}. وقرأ ابن مسعود: {وحللنا عنك وقرك}. هذه الآية مثل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} . قيل: الجميع كان قبل النبوة. والوزر: الذنب؛ أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية؛ لأنه كان صلى اللّه عليه وسلم في كثير من مذاهب قومه، وإن لم يكن عبد صنما ولا وثنا. قال قتادة والحسن والضحاك: كانت للنبي صلى اللّه عليه وسلم ذنوب أثقلته؛ فغفرها اللّه له {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أي أثقله حتى سمع

نقيضه؛ أي صوته. وأهل اللغة يقولون: أنقض، الحمل ظهر الناقة: إذا سمعت له صريرا من شدة الحمل. وكذلك سمعت نقيض الرحل؛ أي صريره. قال جميل:
وحتى تداعت بالنقيض حباله ... وهمت بواني زوره أن تحطما
بواني زوره: أي أصول صدره. فالوزر: الحمل الثقيل. قال المحاسبي: يعني ثقل الوزر لو لم يعف اللّه عنه. {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أي أثقله وأوهنه. قال: وإنما وصفت ذنوب، الأنبياء بهذا الثقل، مع كونها مغفورة، لشدة اهتمامهم بها، وندمهم منها، وتحسرهم عليها. وقال السدي: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} أي وحططنا عنك ثقلك. وهي في قراءة عبدالله بن مسعود {وحططنا عنك وقرك}. وقيل: أي حططنا عنك ثقل آثام الجاهلية. قال الحسين بن المفضل: يعني الخطأ والسهو. وقيل: ذنوب أمتك، أضافها إليه لاشتغال قلبه. بها. وقال عبدالعزيز بن يحيى وأبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بها، حتى لا تثقل عليك. وقيل: كان في الابتداء يثقل عليه الوحي، حتى كاد يرمي نفسه من شاهق الجبل، إلى أن جاءه جبريل وأراه نفسه؛ وأزيل عنه ما كان يخاف من تغير العقل. وقيل: عصمناك عن احتمال الوزر، وحفظناك قبل النبوة في الأربعين من الأدناس؛ حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر من الأدناس.
4- {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}
قال مجاهد: يعني بالتأذين. وفيه يقول حسان بن ثابت:
أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وروي عن الضحاك عن ابن عباس، قال: يقول له لا ذُكِرتُ إلا ذُكِرتَ معي في الأذان، والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى: وأيام التشريق،

ويوم عرفة، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها. ولو أن رجلا عبد اللّه جل ثناؤه، وصدق بالجنة والنار وكل شيء، ولم يشهد أن محمدا رسول اللّه، لم ينتفع بشيء وكان كافرا. وقيل: أي أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه. وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات.
5- {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} 6- {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}
أي إن مع الضيقة والشدة يسرا، أي سعة وغنى. ثم كرر فقال: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ، فقال قوم: هذا التكرير تأكيد للكلام؛ كما يقال: ارم ارم، اعجل اعجل؛ قال اللّه تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ونظيره في تكرار الجواب: بلى بلى، لا لا. وذلك للإطناب والمبالغة؛ قاله الفراء. ومنه قول الشاعر:
هممت بنفسي بعض الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
وقال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه، فهو هو. وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره. وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر؛ قاله ثعلب. وقال ابن عباس: يقول اللّه تعالى خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، ولن يغلب عسر يسرين. وجاء في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه السورة: أنه قال: "لن يغلب عسر يسرين" . وقال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حجر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه؛ ولن يغلب عسر يسرين. وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم، وما يتخوف منهم؛ فكتب إليه عمر رضي اللّه عنهما: أما بعد، فإنهم مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل اللّه بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن اللّه تعالى يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا

وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وقال قوم منهم الجرجاني: هذا قول مدخول؛ لأنه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفا، إن مع الفارس سيفا، أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنان. والصحيح أن يقال: إن اللّه بعث نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم مقلا مخفا، فعيره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالا؛ فاغتم وظن أنهم كذبوه لفقره؛ فعزاه اللّه، وعدد نعمه عليه، ووعده الغنى بقوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر؛ فإن مع ذلك العسر يسرا عاجلا؛ أي في الدنيا. فأنجز له ما وعده؛ فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن، ووسع ذات يده، حتى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنة. فهذا الفضل كله من أمر الدنيا؛ وإن كان خاصا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء اللّه تعالى. ثم ابتدأ فضلا آخرا من الآخرة وفيه تأسية وتعزية له صلى اللّه عليه وسلم، فقال مبتدئا: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فهو شيء آخر. والدليل على ابتدائه، تعريه من فاء أو واو أو غيرها من حروف النسق التي تدل على العطف. فهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه؛ أي إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة. وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة. والذي في الخبر: "لن يغلب عسر يسرين" يعني العسر الواحد لن يغلبهما، وإنما يغلب أحدهما إن غلب، وهو يسر الدنيا؛ فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شيء. أو يقال: "إن مع العسر" وهو إخراج أهل مكة النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة {يُسْراً}، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل، مع عز وشرف.
7- {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}
8- {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}
قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ} قال ابن عباس وقتادة: فإذا فرغت من صلاتك {فَانْصَبْ} أي بالغ في الدعاء وسله حاجتك. وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض

فانصب في قيام الليل. وقال الكلبي: إذا فرغت من تبليغ الرسالة {فَانْصَبْ} أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات. وقال الحسن وقتادة أيضا: إذا فرغت من جهاد عدوك، فانصب لعبادة ربك. وعن مجاهد: {فَإِذَا فَرَغْتَ} من دنياك، {فَانْصَبْ} في صلاتك. ونحوه عن الحسن. وقال الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق، فاجتهد في عبادة الحق. قال ابن العربي: "ومن المبتدعة من قرأ هذه الآية {فانصب} بكسر الصاد، والهمز من أوله، وقالوا: معناه: انصب الإمام الذي تستخلفه. وهذا باطل في القراءة، باطل في المعنى؛ لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يستخلف أحدا. وقرأها بعض: الجهال {فانصب} بتشديد الباء، معناه: إذا فرغت من الجهاد، فجد في الرجوع إلى بلدك.. وهذا باطل أيضا قراءة، لمخالفة الإجماع، لكن معناه صحيح؛ لقوله صلى اللّه عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته، فليعجل، الرجوع إلى أهله" . وأشد الناس عذابا وأسوأهم مباء ومآبا، من أخذ معنى صحيحا، فركب عليه من قبل نفسه قراءة أو حديثا، فيكون كاذبا على اللّه، كاذبا على رسول؛ "ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا". قال المهدوي: وروي عن أبي جعفر المنصور: أنه قرأ {ألم نشرح لك صدرك} بفتح الحاء؛ وهو بعيد، وقد يؤول على تقدير النون الخفيفة، ثم أبدلت النون ألفا في الوقف، ثم حمل الوصل على الوقف، ثم حذف الألف. وأنشد عليه:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسوط قونس الفرس
أراد: اضربن. وروي عن أبي السمال {فإذا فرغت} بكسر الراء، وهي لغة فيه. وقرئ {فرغب} أي فرغب الناس إلى ما عنده.
قال ابن العربي: روي عن شريح أنه مر بقوم يلعبون يوم عيد، فقال ما بهذا أمر الشارع. وفيه نظر، فإن الحبش كانوا يلعبون بالدرق والحراب في المسجد يوم

العيد، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ينظر. ودخل أبو بكر في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على عائشة رضي اللّه عنها وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنيان؛ فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال: "دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد" . وليس يلزم الدؤوب على العمل، بل هو مكراه للخلق.
سورة التينمكية في قول الأكثر. وقال ابن عباس وقتادة: هي مدنية، وهي ثماني آيات.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت؛ قال اللّه تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} . وقال أبو ذر: أهدي للنبي صلى اللّه عليه وسلم سل تين؛ فقال: "كلوا" وأكل منه. ثم قال: "لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس" . وعن معاذ: أنه استاك بقضيب زيتون، وقال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: "نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة، يطيب الفم، ويذهب بالحفر، وهي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي" .
وروي عن ابن عباس أيضا: التين: مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي، والزيتون: مسجد بيت المقدس. وقال الضحاك: التين: المسجد الحرام، والزيتون المسجد

الأقصى. ابن زيد: التين: مسجد دمشق، والزيتون: مسجد بيت المقدس. قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق: والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس. وقال محمد بن كعب: التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد إيلياء. وقال كعب الأخبار وقتادة أيضا وعكرمة وابن زيد: التين: دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وهذا اختيار الطبري. وقال الفراء: سمعت رجلا من أهل الشام يقول: التين: جبال ما بين حلوان إلى همذان، والزيتون: جبال الشام. وقيل: هما جبلان بالشام، يقال لهما طور زيتا وطور تينا بالسريانية سميا بذلك لأنهما ينبتانهما. وكذا روى أبو مكين عن عكرمة، قال: التين والزيتون: جبلان بالشام. وقال النابغة:
...أتين التين عن عرض
وهذا اسم موضع. ويجوز أن يكون ذلك على حذف مضاف؛ أي ومنابت التين والزيتون. ولكن لا دليل على ذلك من ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه؛ قاله النحاس.
الثانية- وأصح هذه الأقوال الأول؛ لأنه الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل. وإنما أقسم اللّه بالتين، لأنه كان ستر آدم في الجنة؛ لقوله تعالى: {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} وكان ورق التين. وقيل: أقسم به ليبين وجه المنة العظمى فيه؛ فإنه جميل المنظر، طيب المخبر، نشر الرائحة، سهل الجني، على قدر المضغة. وقد أحسن القائل فيه:
انظر إلى التين في الغصون ضحى ... ممزق الجلد مائل العنق
كأنه رب نعمة سلبت ... فعاد بعد الجديد في الخلق
أصغر ما في النهود أكبره ... لكن ينادى عليه في الطرق

وقال آخر:
التين يعدل عندي كل فاكهة ... إذا انثنى مائلا في غصنه الزاهي
مخمش الوجه قد سالت حلاوته ... كأنه راكع من خشية الله
وأقسم بالزيتون لأنه مثل به إبراهيم في قوله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} وهو أكثر أُدَم أهل الشام والمغرب؛ يصطبغون به، ويستعملونه في طبيخهم، ويستصبحون به، ويداوي به أدواء الجوف والقروح والجراحات، وفيه منافع كثيرة. وقال عليه السلام: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة" . وقد مضى في سورة "المؤمنون" القول فيه.
الثالثة- قال ابن العربي ولامتنان البارئ سبحانه، وتعظيم المنة في التين، وأنه مقتات مدخر فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه. وإنما فرّ كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه، تقية جور الولاة؛ فإنهم يتحاملون في الأموال الزكاتية، فيأخذونها مغرما، حسب ما أنذر به الصادق صلى اللّه عليه وسلم. فكره العلماء أن يجعلوا لهم سبيلا إلى مال آخر يتشططون فيه، ولكن ينبغي للمرء أن يخرج عن نعمة ربه، بأداء حقه. وقد قال الشافعي لهذه العلة وغيرها: لا زكاة في الزيتون. والصحيح وجوب الزكاة فيهما.
2- {وَطُورِ سِينِينَ}
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد "وَطُور" قال: جبل. " سِينِينَ " قال: مبارك بالسريانية. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: {طُور} جبل، و{سِينِينَ}، حسن. وقال قتادة: سينين هو المبارك الحسن. وعن عكرمة قال: الجبل الذي نادى اللّه جل ثناؤه منه موسى عليه السلام. وقال مقاتل والكلبي: {سِينِينَ} كل جبل فيه شجر مثمر، فهو سينين وسيناء؛ بلغة النبط وعن عمرو بن ميمون قال: صليت مع عمر بن الخطاب العشاء بمكة، فقرأ {والتين والزيتون.

وطور سيناء. وهذا البلد الأمين} قال: وهكذا هي في قراءة عبدالله؛ ورفع صوته تعظيما للبيت. وقرأ في الركعة الثانية: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} و{لإيلاف قريش} جمع بينهما. ذكره ابن الأنباري. النحاس: وفي قراءة عبدالله {سناء} (بكسر السين)، وفي حديث عمرو بن ميمون عن عمر (بفتح السين). وقال الأخفش: {طُور} جبل. و{سِينِينَ} شجر واحدته سينينية. وقال أبو علي: {سِينِينَ} فعليل، فكررت اللام التي هي نون فيه، كما كررت في زحليل: للمكان الزلق، وكرديدة: للقطعة من التمر، وخنذيد: للطويل. ولم ينصرف {سِينِينَ} كما لم ينصرف سيناء؛ لأنه جعل اسما لبقعة أو أرض، ولو جعل اسما للمكان أو للمنزل أو اسم مذكر لانصرف؛ لأنك سميت مذكرا بمذكر. وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام والأرض المقدسة، وقد بارك اللّه فيهما؛ كما قال: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } .
3- {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}
يعني مكة. سماه أمينا لأنه آمن؛ كما قال: {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} فالأمين: بمعنى الآمن؛ قال الفراء وغيره. قال الشاعر:
ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني ... حلفت يمينا لا أخون أميني
يعني: آمني. وبهذا احتج من قال: إنه أراد بالتين دمشق، وبالزيتون بيت المقدس. فأقسم اللّه بجبل دمشق، لأنه مأوى عيسى عليه السلام، وبجبل بيت المقدس، لأنه مقام الأنبياء عليهم السلام، وبمكة لأنها أثر إبراهيم ودار محمد صلى اللّه عليه وسلم.
4- {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}
5- {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ} هذا جواب القسم، وأراد بالإنسان: الكافر. قيل: هو الوليد بن المغيرة. وقيل: كلدة بن أسيد. فعلى هذا نزلت في منكري

البعث. وقيل: المراد بالإنسان آدم وذريته. {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وهو اعتداله واستواء شبابه؛ كذا قال عامة المفسرين. وهو أحسن ما يكون؛ لأنه خلق كل شيء منكبا عل وجهه، وخلقه هو مستويا، وله لسان ذلق، ويد وأصابع يقبض بها. وقال أبو بكر بن طاهر: مُزيناً بالعقل، مُؤدياً للأمر، مَهدياً بالتمييز، مديد القامة؛ يتناول مأكوله بيده. ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن اللّه خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما. وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: "إن اللّه خلق آدم على صورته" يعني عل صفاته التي قدمنا ذكرها. وفي رواية "على صورة الرحمن" ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني. وقد أخبرنا المبارك بن عبدالجبار الأزدي قال: أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي علي القاضي المحسن عن أبيه قال: كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما: أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر؛ فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني. وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعا عظيما؛ فاستحضر الفقهاء واستفتاهم. فقال جميع من حضر: قد طلقت؛ إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتا. فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم؟ فقال له الرجل: بسم اللّه الرحمن الرحيم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه. فقال المنصور لعيسى ابن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل: أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك.
فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللّه باطنا وظاهرا، جمال هيئة، وبديع تركيب الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه، والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه.

قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، حتى يصير كالصبي في الحال الأول؛ قاله الضحاك والكلبي وغيرهما. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إلى النار، يعني الكافر، وقال أبو العالية. وقيل: لما وصفه اللّه بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها، طغى وعلا، حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وحين علم اللّه هذا من عبده، وقضاؤه صادر من عنده، رده أسفل سافلين؛ بأن جعله مملوءا قذرا، مشحونا نجاسة، وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا، على وجه الاختيار تارة، وعلى وجه الغلبة أخرى، حتى، إذا شاهد ذلك من أمره، رجع إلى قدره. وقرأ عبدالله {أسفل السافلين}. وقال؛ {أسفل سافلين} على الجمع؛ لأن الإنسان في معنى جمع، ولو قال: أسفل سافل جاز؛ لأن لفظ الإنسان واحد. وتقول: هذا أفضل قائم. ولا تقول أفضل قائمين؛ لأنك تضمر لواحد، فإن كان الواحد غير مضمر له، رجع اسمه بالتوحيد والجمع؛ كقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وقوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} وقد قيل: إن معنى {رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي رددناه إلي الضلال؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي إلا هؤلاء، فلا يردون إلى ذلك. والاستثناء على قول من قال {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} النار، متصل. ومن قال: إنه الهرم فهو منقطع.
6- {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنه تكتب لهم حسناتهم، وتمحى عنهم سيئاتهم؛ قاله ابن عباس. قال: وهم الذين أدركهم الكبر، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم.

وروى الضحاك عنه قال: إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة، ثم ضعف عما كان يعمل في شبابه؛ أجرى اللّه عز وجل له ما كان يعمل في شبابه. وفي حديث قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "إذا سافر العبد أو مرض كتب اللّه له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا" . وقيل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنه لا يخرف ولا يهرم، ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا به. وعن عاصم الأحول عن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وروي عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال "طوبى لمن طال عمره وحسن عمله" . وروي: إن العبد المؤمن إذا مات أمر اللّه ملكيه أن يتعبدا على قبره إلى يوم القيامة، ويكتب له ذلك. {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال الضحاك: أجر بغير عمل. وقيل مقطوع.
7- {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}
قيل: الخطاب للكافر؛ توبيخا وإلزاما للحجة. أي إذا عرفت أيها الإنسان أن اللّه خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك إلى أرذل العمر، وينقلك من حال إلى حال؛ فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء، وقد أخبرك محمد صلى اللّه عليه وسلم به؟ وقيل: الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ أي استيقن مع ما جاءك من اللّه عز وجل، أنه أحكم الحاكمين. روي معناه عن قتادة. وقال قتادة أيضا والفراء: المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين. واختاره الطبري. كأنه قال: فمن يقدر على ذلك؛ أي على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان والدين والجزاء. قال الشاعر:
دنا تميما كما كانت أوائلنا ...
دانت أوائلهم في سالف الزمن

8- {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}
أي أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق. وقيل: {بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قضاء بالحق، وعدلا بين الخلق. وفيه تقدير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم. وألف الاستفهام إذا دخلت عل النفي وفي الكلام معنى التوقيف صار إيجابا، كما قال:
ألستم خير من ركب المطايا
وقيل: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} : منسوخة بآية السيف. وقيل: هي ثابتة؛ لأنه لا تنافي بينهما. وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما إذا قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قالا: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين؛ فيختار ذلك. واللّه أعلم. ورواه الترمذي عن أبي هريرة قال: من قرأ سورة {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فقرأ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. واللّه أعلم.
سورة العلقوهي مكية بإجماع، وهي أول ما نزل من القرآن، في قول أبي موسى وعائشة رضي الله عنهما.
وهي تسع عشرة آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
هذه السورة أول ما نزل من القرآن؛ في قول معظم المفسرين. نزل بها جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو قائم على حراء، فعلمه خمس آيات من هذه السورة. وقيل: إن أول ما نزل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، قاله جابر بن عبدالله؛ وقد تقدم. وقيل: فاتحة الكتاب أول ما نزل؛ قاله أبو ميسرة الهمداني. وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: أول ما نزل من القرآن

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} والصحيح الأول. قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا الصادقة؛ فجاءه الملك فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} خرجه البخاري.
وفي الصحيحين عنها قالت: أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك؛ ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها؛ حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: {اقْرَأْ} فقال: "ما أنا بقارئ - قال - فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني" فقال: {اقْرَأْ} فقلت: "ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني" ، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} " الحديث بكامله. وقال أبو رجاء العطاردي: وكان أبو موسى الأشعري يطوف علينا في هذا المسجد: مسجد البصرة، فيقعدنا حلقا، فيقرئنا القرآن؛ فكأني أنظر إليه بين ثوبين له أبيضين، وعنه أخذت هذه السورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وكانت أول سورة أنزلها اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم. وروت عائشة رضي اللّه عنها أنها أول سورة أنزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم بعدها {نْ وَالْقَلَمِ} ، ثم بعدها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ثم بعدها {وَالضُّحَى} ذكره الماوردي. وعن الزهري: أول ما نزل سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ - إلى قوله - مَا لَمْ يَعْلَمْ} فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل فقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فرجع إلى خديجة وقال: "دثروني وصبوا عليّ ماء باردا" فنزل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .

ومعنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اقرأ ما أنزل إليك من القرآن مفتتحا باسم ربك، وهو أن تذكر التسمية في ابتداء كل سورة. فمحل الباء من {بِاسْمِ رَبِّكَ} النصب على الحال. وقيل: الباء بمعنى على، أي اقرأ على اسم ربك. يقال: فعل كذا باسم اللّه، وعلى اسم اللّه. وعلى هذا فالمقروء محذوف، أي اقرأ القرآن، وافتتحه باسم اللّه. وقال قوم: اسم ربك هو القرآن، فهو يقول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } أي اسم ربك، والباء زائدة؛ كقوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} ، وكما قال:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
أراد: لا يقرأن السور. وقيل: معنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اذكر اسمه. أمره أن يبتدئ القراءة باسم اللّه.
2- {خلق الإنسان من علق}
قوله تعالى: "خلق الإنسان" "خلق الإنسان" يعني ابن آدم. "من علق" أي من دم؛ جمع علقة، والعلقة الدم الجامد؛ وإذا جرى فهو المسفوح. وقال: "من علق" فذكره بلفظ الجمع؛ لأنه أراد بالإنسان الجمع، وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة. والعلقة: قطعة من دم رطب، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه، فإذا جفت لم تكن علقة. قال الشاعر:
تركناه يخر على يديه ... يمج عليهما علق الوتين
وخص الإنسان بالذكر تشريفا له. وقيل: أراد أن يبين قدر نعمته عليه، بأن خلقه من علقة مهينة، حتى صار بشرا سويا، وعاقلا مميزا.
3- {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}
قوله تعالى: {اقْرَأْ} تأكيد، وتم الكلام، ثم استأنف فقال: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} أي الكريم. وقال الكلبي: يعني الحليم عن جهل العباد، فلم يعجل بعقوبتهم. والأول أشبه

بالمعنى، لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمه، دل بها على كرمه. وقيل: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ} أي اقرأ يا محمد وربك يعينك ويفهمك، وإن كنت غير القارئ. و {الْأَكْرَمُ} بمعنى المتجاوز عن جهل العباد.
4- {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} يعني الخط والكتابة؛ أي علم الإنسان الخط بالقلم. وروى سعيد عن قتادة قال: القلم نعمة من اللّه تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش. فدل على كمال كرمه سبحانه، بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب اللّه المنزلة إلا بالكتابة؛ ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا. وسمي قلما لأنه يقلم؛ أي يقطع، ومنه تقليم الظفر. وقال بعض الشعراء المحدثين يصف القلم:
فكأنه والحبر يخضب رأسه ... شيخ لوصل خريدة يتصنع
لم لا ألاحظه بعين جلالة ... وبه إلى الله الصحائف ترفع
وعن عبدالله بن عمر قال: يا رسول اللّه، أأكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال: "نعم فاكتب، فإن اللّه علم بالقلم" . وروى مجاهد عن أبي عمر قال: خلق اللّه عز وجل أربعة أشياء بيده، ثم قال لسائر الحيوان: كن فكان: القلم، والعرش، وجنة عدن، وآدم عليه السلام. وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه آدم عليه السلام؛ لأنه أول من كتب، قاله كعب الأحبار. الثاني: أنه إدريس، وهو أول من كتب. قال الضحاك. الثالث: أنه أدخل كل من كتب بالقلم؛ لأنه ما علم إلا بتعليم اللّه سبحانه، وجمع بذلك نعمته عليه في خلقه، وبين نعمته عليه في تعليمه؛ استكمالا للنعمة عليه.

الثانية- صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من حديث أبي هريرة، قال: "لما خلق اللّه الخلق كتب في كتابه - فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب عضبي" . وثبت عنه عليه السلام أنه قال: "أول ما خلق اللّه: القلم، فقال له اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فهو عنده في الذكر فوق عرشه" . وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث اللّه إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها، ثم يقول، يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله، فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول يا رب رزقه، ليقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص، وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} "
قال علماؤنا: فالأقلام في الأصل ثلاثة: القلم الأول: الذي خلقه اللّه بيده، وأمره أن يكتب. والقلم الثاني: أقلام الملائكة، جعلها اللّه بأيديهم يكتبون بها المقادير والكوائن والأعمال. والقلم الثالث: أقلام الناس، جعلها اللّه بأيديهم، يكتبون بها كلامهم، ويصلون بها مآربهم. وفي الكتابة فضائل جمة. والكتابة من جملة البيان، والبيان مما اختص به الآدمي.
الثالثة- قال علماؤنا: كانت العرب أقل الخلق معرفة بالكتاب، وأقل العرب معرفة به المصطفى صلى اللّه عليه وسلم؛ صرف عن علمه، ليكون ذلك أثبت لمعجزته، وأقوى في حجته، وقد مضى هذا مبينا في سورة "العنكبوت". وروى حماد بن سلمة عن الزبير بن عبدالسلام، عن أيوب بن عبدالله الفهري، عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة" . قال علماؤنا: وإنما حذرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك، لأن في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجل؛ وليس في ذلك تحصين لهن ولا تستر. وذلك أنهن لا يملكن أنفسهن حتى يشرفن على الرجل؛ فتحدث الفتنة والبلاء؛ فحذرهم أن يجعلوا لهن غرفا ذريعة إلى الفتنة.

وهو كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "ليس للنساء خير لهن من ألا يراهن الرجال، ولا يرين الرجال" . وذلك أنها خلقت من الرجل، فنهمتها في الرجل، والرجل خلقت فيه الشهوة، وجعلت سكنا له، فغير مأمون كل واحد منهما في صاحبه. وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سببا للفتنة، وذلك إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى. والكتابة عين من العيون، بها يبصر الشاهد الغائب، والخط هو آثار يده. وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطلق به اللسان، فهو أبلغ من اللسان. فأحب رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن ينقطع عنهن أسباب الفتنة؛ تحصينا لهن، وطهارة لقلوبهن.
5- {عَلَّمَ الْإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
قيل: {الْإنْسَانَ} هنا آدم عليه السلام. علمه أسماء كل شيء؛ حسب ما جاء به القرآن في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . فلم يبق شيء إلا وعلم سبحانه آدم اسمه بكل لغة، وذكره آدم للملائكة كما علمه. وبذلك ظهر فضله، وتبين قدره، وثبتت نبوته، وقامت حجة اللّه على الملائكة وحجته، وامتثلت الملائكة الأمر لما رأت من شرف الحال، ورأت من جلال القدرة، وسمعت من عظيم الأمر. ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف، وتناقلوه قوما عن قوم. وقد مضى هذا في سورة "البقرة" مستوفى والحمد لله. وقيل: {الْإنْسَانَ} هنا الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم؛ دليله قوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} . وعلى هذا فالمراد بـ {وَعَلَّمَكَ} المستقبل؛ فإن هذا من أوائل ما نزل. وقيل: هو عام لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً}
6- {كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى}
7- {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}
قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى} ، قيل: إنه نزل

في أبي جهل. وقيل: نزلت السورة كلها في أبي جهل؛ نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الصلاة؛ فأمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يصلي في المسجد ويقرأ باسم الرب. وعلى هذا فليست السورة من أوائل ما نزل. ويجوز أن يكون خمس آيات من أولها أول ما نزلت، ثم نزلت البقية في شأن أبي جهل، وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بضم ذلك إلى أول السورة؛ لأن تأليف السور جرى بأمر من اللّه. ألا ترى أن قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} آخر ما نزل، ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل. و{كَلَّا} بمعنى حقا؛ إذ ليس قبله شيء. والإنسان هنا أبو جهل. والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان. {أَنْ رَآهُ} أي لأن رأى نفسه استغنى؛ أي صار ذا مال وثروة. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه، قال: لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل فقال: يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى؛ فاجعل لنا جبال مكة ذهبا، لعلنا نأخذ منها، فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال: "يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوه: فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة" . فعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن القوم لا يقبلون ذلك؛ فكف عنهم إبقاء عليهم. وقيل: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} بالعشيرة والأنصار والأعوان. وحذف اللام من قوله {أَنْ رَآهُ} كما يقال: إنكم لتطغون إن رأيتم غناكم. وقال الفراء: لم يقل رأى نفسه، كما قيل قتل نفسه؛ لأن رأى من الأفعال التي تريد اسما وخبرا، نحو الظن والحسبان، فلا يقتصر فيه على مفعول واحد. والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول: رأيتني وحسبتني، ومتى تراك خارجا، ومتى تظنك خارجا. وقرأ مجاهد وحميد وقنبل عن ابن كثير {أن رآه استغنى} بقصر الهمزة. الباقون {رآه} بمدها، وهو الاختيار.

8- {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}
أي مرجع من هذا وصفه، فنجازيه. والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر؛ يقال: رجع إليه رجوعا ومرجعا. ورجعى؛ على وزن فعلى.
9- {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى}
10- {عَبْداً إِذَا صَلَّى}
قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} وهو أبو جهل {عَبْداً} وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم. فإن أبا جهل قال: إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه؛ قاله أبو هريرة. فأنزل اللّه هذه الآيات تعجبا منه. وقيل: في الكلام حذف؛ والمعنى: أمن هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة.
11- {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى}
12- {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى}
أي أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد على هذه الصفة، أليس ناهيه عن التقوى والصلاة هالكا؟
13- {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
14- {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}
يعني أبا جهل كذب بكتاب اللّه عز وجل، وأعرض عن الإيمان. وقال الفراء: المعنى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} وهو على الهدى، وأمر بالتقوى، والناهي مكذب متول عن الذكر؛ أي فما أعجب هذا! ثم يقول: ويله ألم يعلم أبو جهل بأن اللّه يرى؛ أي يراه ويعلم فعله؛ فهو تقرير وتوبيخ. وقيل: كل واحد من {أَرَأَيْتَ} بدل من الأول. و {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} الخبر.
15- {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ}
16- {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}

قوله تعالى: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} أي أبو جهل عن أذاك يا محمد. {لَنَسْفَعاً} أي لنأخذن {بِالنَّاصِيَةِ} فلنذلنه. وقيل: لنأخذن بناصيته يوم القيامة، وتطوى مع قدميه، ويطرح في النار، كما قال تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} . فالآية - وإن كانت في أبي جهل - فهي عظة للناس، وتهديد لمن يمتنع أو يمنع غيره عن الطاعة. وأهل اللغة يقولون: سفعت بالشيء: إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا. ويقال: سفع بناصية فرسه. قال:
قوم إذا كثر الصياح رأيتهم ... من بين ملجم مهره أو سافع
وقيل: هو مأخوذ من سفعته النار والشمس: إذا غيرت وجهه إلى حال تسويد؛ كما قال:
أثافي سفعا في معرس مرجل ... ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
والناصية: شعر مقدم الرأس. وقد يعبر بها عن جملة الإنسان؛ كما يقال: هذه ناصية مباركة؛ إشارة إلى جميع الإنسان. وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته. وقال المبرد: السفع: الجذب بشدة؛ أي لنجرن بناصيته إلى النار. وقيل: السفع الضرب؛ أي لنلطمن وجهه. وكله متقارب المعنى. أي يجمع عليه الضرب عند الأخذ؛ ثم يجر إلى جهنم. ثم قال على البدل: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}

أي ناصية أبي جهل كاذبة في قولها، خاطئة في فعلها. والخاطئ معاقب مأخوذ. والمخطئ غير مأخوذ. ووصف الناصية بالكاذبة الخاطئة، كوصف الوجوه بالنظر في قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . وقيل: أي صاحبها كاذب خاطئ؛ كما يقال: نهاره صائم، وليله قائم؛ أي هو صائم في نهاره، ثم قائم في ليله.
17- {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}
18- {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}
قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي أهل مجلسه وعشيرته، فليستنصر بهم. {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} أي الملائكة الغلاط الشداد - عن ابن عباس وغيره - واحدهم زبني؛ قاله الكسائي. وقال الأخفش: زابن. أبو عبيدة: زبنية. وقيل: زباني. وقيل: هو اسم للجمع؛ كالأبابيل والعباديد. وقال قتادة: هم الشرط في كلام العرب. وهو مأخوذ من الزبن وهو الدفع؛ ومنه المزابنة في البيع. وقيل: إنما سموا الزبانية لأنهم يعملون بأرجلهم، كما يعملون بأيديهم؛ حكاه أبو الليث السمرقندي - رحمه اللّه - قال: وروي في الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قرأ هذه السورة، وبلغ إلى قوله تعالى: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} قال أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك. فقال اللّه تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} فلما سمع ذكر الزبانية رجع فزعا؛ فقيل له: خشيت منه قال لا ولكن رأيت عنده فارسا يهددني بالزبانية. فما أدري ما الزبانية، ومال إلي الفارس، فخشيت منه أن يأكلني. وفي الأخبار أن الزبانية رؤوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض، فهم يدفعون الكفار في جهنم وقيل: إنهم أعظم الملائكة خلقا، وأشدهم بطشا. والعرب تطلق هذا الاسم على من أشتد بطشه. قال الشاعر:
مطاعيم في القصوى مطاعين في الوغى ... زبانية غلب عطام حلومها

وعن عكرمة عن ابن عباس: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "لو فعل لأخذته الملائكة عيانا" . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مر أبو جهل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يصلي عند المقام، فقال: ألم أنهك عن هذا يا محمد فأغلظ له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني يا محمد، واللّه إني لأكثر أهل الوادي هذا ناديا؛ فأنزل اللّه عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال ابن عباس: واللّه لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب من ساعته. أخرجه الترمذي بمعناه، وقال: حسن غريب صحيح. والنادي في كلام العرب: المجلس الذي ينتدي فيه القوم؛ أي يجتمعون، والمراد أهل النادي؛ كما قال جرير:
لهم مجلس صهب السبال أذلة
وقال زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم
وقال آخر:
واستب بعدك يا كليب المجلس
وقد ناديت الرجل أناديه إذا جالسته. قال زهير:
وجار البيت والرجل المنادي ... أمام الحي عقدهما سواء

19- {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}
قوله تعالى: {كَلَّا} أي ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل. {لا تُطِعْهُ} أي فيما دعاك إليه من ترك الصلاة. {وَاسْجُدْ} أي صل لله {وَاقْتَرِبْ} أي تقرب إلى اللّه جل ثناؤه بالطاعة والعبادة. وقيل: المعنى: إذا سجدت فاقترب من اللّه بالدعاء. روى عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه، وأحبه إليه، جبهته في الأرض ساجدا لله" .
قال علماؤنا: وإنما كان ذلك لأنها نهاية العبودية والذلة؛ ولله غاية العزة، وله العزة التي لا مقدار لها؛ فكلما بعدت من صفته، قربت من جنته، ودنوت من جواره في داره. وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "أما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فإنه قمن أن يستجاب لكم" . ولقد أحسن من قال:
وإذا تذللت الرقاب تواضعا ... منا إليك فعزها في ذلها
وقال زيد بن أسلم: اسجد أنت يا محمد مصليا، واقترب أنت يا أبا جهل من النار.
قوله تعالى: {وَاسْجُدْ} هذا من السجود. يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة. قال ابن العربي: "والظاهر أنه سجود الصلاة" لقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى - إلى قوله - كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} ، لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم وغيره من الأئمة عن أبي هريرة أنه قال: سجدت مع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} سجدتين، فكان هذا نصا على أن المراد سجود التلاوة. وقد روى ابن وهب، عن حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، قال: عزائم السجود أربع: "ألم" و"حم تنزيل من الرحمن الرحيم" و"النجم" و{اقرأْ

باسم ربك}. وقال ابن العربي: وهذا إن صح يلزم عليه السجود الثاني من سورة "الحج"، وإن كان مقترنا بالركوع؛ لأنه يكون معناه اركعوا في موضع الركوع، واسجدوا في موضع السجود. وقد قال ابن نافع ومطرف: وكان مالك يسجد في خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة من {اقرأ باسم ربك} وابن وهب يراها من العزائم.
قلت: وقد روينا من حديث مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن نافع عن ابن عمر قال: لما أنزل اللّه تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ: "اكتبها يا معاذ" فأخذ معاذ اللوح والقلم والنون - وهي الدواة - فكتبها معاذ؛ فلما بلغ {كلا لا تطعه واسجد واقترب} سجد اللوح، وسجد القلم، وسجدت النون، وهم يقولون: اللهم ارفع به ذكرا، اللهم احطط به وزرا، اللهم اغفر به ذنبا. قال معاذ: سجدت، وأخبرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فسجد.
ختمت السورة. والحمد لله على ما فتح ومنح وأعطى. وله الحمد والمنة.
سورة القدروهي مدنية في قول لأكثر المفسرين؛ ذكره الثعلبي. وحكى الماوردي عكسه.
قلت: وهي مدنية في قول الضحاك، وأحد قولي ابن عباس. وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وهي خمس آيات.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} يعني القرآن، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة؛ لأن المعنى معلوم، والقرآن كله كالسورة الواحدة. وقد قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقال: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} يريد: في ليلة القدر. وقال

الشعبي: المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزة، وأملاه جبريل على السفرة، ثم كان جبريل ينزله على النبي صلى اللّه عليه وسلم نجوما نجوما. وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة؛ قاله ابن عباس، وقد تقدم في سورة "البقرة". وحكى الماوردي عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة، جملة واحدة من عند اللّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا؛ فنجمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم عشرين سنة. قال ابن العربي: "وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللّه واسطة، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة".
قوله تعالى: {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قال مجاهد: في ليلة الحكم. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر} قال: ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير؛ سمين بذلك لأن اللّه تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة؛ من أمر الموت والأجل والرزق وغيره. ويسلمه إلى مدبرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل. عليهم السلام. وعن ابن عباس قال: يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر وحياة وموت، حتى الحاج. قال عكرمة: يكتب حاج بيت اللّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء أبائهم، ما يغادر منهم أحد، ولا يزاد فيهم. وقاله سعيد بن جبير. وقد مضى في أول سورة "الدخان" هذا المعنى. وعن ابن عباس أيضا: أن اللّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر؛ أي شرف ومنزلة. قال الزهري وغيره. وقيل: سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرا عظيما، وثوابا جزيلا. وقال أبو بكر الوراق:

سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها. وقيل: سميت بذلك لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر. وقيل: لأنه ينزل فيها ملائكة ذوي قدر وخطر. وقيل: لأن اللّه تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة. وقال سهل: سميت بذلك لأن اللّه تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين. وقال: الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق.
2- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر}
3- {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}
قال الفراء: كل ما في القرآن من قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أدراه. وما كان من قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يدره. وقاله سفيان، وقد تقدم.
قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} بين فضلها وعظمها. وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل. وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر. واللّه أعلم. وقال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقال أبو العالية: ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر. وقيل: عنى بألف شهر جميع الدهر؛ لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء؛ كما قال تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني جميع الدهر. وقيل: إن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابدا حتى يعبد اللّه ألف شهر، ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر، فجعل اللّه تعالى لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم عبادة ليلة خيرا من ألف شهر كانوا يعبدونها. وقال أبو بكر الوراق: كان ملك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر فصار ملكهما ألف شهر؛ فجعل اللّه تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما. وقال ابن مسعود: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم

ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر؛ فعجب المسلمون من ذلك؛ فنزلت {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} الآية. {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل اللّه. ونحوه عن ابن عباس. وهب بن منبه: إن ذلك الرجل كان مسلما، وإن أمه جعلته نذرا لله، وكان من قرية قوم يعبدون الأصنام، وكان سكن قريبا منها؛ فجعل يغزوهم وحده، ويقتل ويسبي ويجاهد، وكان لا يلقاهم إلا بلحيي بعير، وكان إذا قاتلهم وقاتلوه وعطش، انفجر له من اللحيين ماء عذب، فيشرب منه، وكان قد أعطي قوة في البطش، لا يوجعه حديد ولا غيره: وكان اسمه شمسون. وقال كعب الأحبار: كان رجلا ملكا في بني إسرائيل، فعل خصلة واحدة، فأوحى اللّه إلى نبي زمانهم: قل لفلان يتمنى. فقال: يا رب أتمنى أن أجاهد بمالي وولدي ونفسي، فرزقه اللّه ألف ولد، فكان يجهز الولد بماله في عسكر، ويخرجه مجاهدا في سبيل، اللّه، فيقوم شهرا ويقتل ذلك الولد، ثم يجهز آخر في عسكر، فكان كل ولد يقتل في الشهر، والملك مع ذلك قائم الليل، صائم النهار؛ فقتل الألف ولد في ألف شهر، ثم تقدم فقاتل فقتل. فقال الناس: لا أحد يدرك منزلة هذا الملك؛ فأنزل اللّه تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} من شهور ذلك الملك، في القيام والصيام والجهاد بالمال والنفس والأولاد في سبيل اللّه. وقال عليّ وعروة: ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم أربعة من بني إسرائيل، فقال "عبدوا اللّه ثمانين سنة، لم يعصوا طرفة عين" ؛ فذكر أيوب وزكريا، وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون؛ فعجب أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم من ذلك. فأتاه جبريل فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا اللّه طرفة عين، فقد أنزل اللّه عليك خيرا من ذلك؛ ثم قرأ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . فسر بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره: سمعت

من أثق به يقول: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أري أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر؛ فأعطاه اللّه تعالى ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر. وفي الترمذي. عن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أري بني أمية على منبره، فساءه ذلك؛ فنزلت {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، يعني نهرا في الجنة. ونزلت {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يملكها بعدك بنو أمية. قال القاسم بن الفضل الحداني: فعددناها، فإذا هي ألف شهر، لا تزيد يوما، ولا تنقص يوما. قال: حديث غريب.
4- {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}
قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} أي تهبط من كل سماء، ومن سدرة المنتهى؛ ومسكن جبريل على وسطها. فينزلون إلى الأرض ويؤمنون على دعاء الناس، إلى وقت طلوع الفجر؛ فذلك قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} {وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي جبريل عليه السلام. وحكى القشيري: أن الروح صنف من الملائكة، جعلوا حفظة على سائرهم، وأن الملائكة لا يرونهم، كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة. وأقربهم من اللّه تعالى. وقيل: إنهم جند من جند اللّه عز وجل من غير الملائكة. رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعا؛ ذكره الماوردي وحكى القشيري: قيل هم صنف من خلق اللّه يأكلون الطعام، ولهم أيد وأرجل؛ وليسوا ملائكة. وقيل: {وَالرُّوحُ} خلق عظيم يقوم صفا، والملائكة كلهم صفا. وقيل: {وَالرُّوحُ} الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها؛ دليله: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي بالرحمة. {فِيهَا} أي في ليلة القدر. {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي بأمره. {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} أمر بكل أمر قدره اللّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل؛ قاله ابن عباس؛ كقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } أي بأمر اللّه. وقراءة العامة {تَنَزَّلُ} بفتح التاء؛ إلا أن البزي

شدد التاء. وقرأ طلحة بن مصرف وابن السميقع، بضم التاء على الفعل المجهول. وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} . وروي عن ابن عباس أن معناه: من كل ملك؛ وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة، فيسلمون على كل امرئ مسلم. {فمن} بمعنى على. وعن أنس قال: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر اللّه تعالى" .
5- {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}
قيل: إن تمام الكلام {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} ثم قال {سَلامٌ} . روي ذلك عن نافع وغيره؛ أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي إلى طلوع الفجر. قال الضحاك: لا يقدر اللّه في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة وقيل: أي هي سلام؛ أي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وكذا قال مجاهد: هي ليلة سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وروي مرفوعا. وقال الشعبي: هو تسليم الملائكة على أهل المساجد، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر؛ يمرون على كل مؤمن، ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن. وقيل: يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض فيها. وقال قتادة: {سَلامٌ هِيَ} خير هي. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي إلى مطلع الفجر. وقرأ الكسائي وابن محيصن {مطلع} بكسر اللام، الباقون بالفتح. والفتح والكسر: لغتان في المصدر. والفتح الأصل في فعل يفعل؛ نحو المقتل والمخرج. والكسر على أنه مما شذ عن قياسه؛ نحو المشرق والمغرب والمنبت والمسكن والمنسك والمحشر والمسقط والمجزر. حكى في ذلك كله الفتح والكسر، على أن يراد به المصدر لا الاسم.
وهنا ثلاث مسائل:
الأولى: في تعيين ليلة القدر؛ وقد اختلف العلماء في ذلك. والذي عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين؛ لحديث زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب: إن أخاك عبدالله

ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال: يغفر اللّه لأبي عبدالرحمن! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين؛ ولكنه أراد ألا يتكل الناس؛ ثم حلف لا يستثني: أنها ليلة سبع وعشرين. قال قلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالآية التي أخبرنا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أو بالعلامة أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وخرجه مسلم. وقيل: هي في شهر رمضان دون سائر العام؛ قاله أبو هريرة وغيره. وقيل: هي في ليالي السنة كلها. فمن علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر، لم يقع العتق والطلاق إلا بعد مضى سنة من يوم حلف. لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت؛ فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا بمضى حول. وكذلك العتق؛ وما كان مثله من يمين أو غيره. وقال ابن مسعود: من يقم الحول يصبها؛ فبلغ ذلك ابن عمر، فقال: يرحم اللّه أبا عبدالرحمن! أما إنه علم أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، ولكنه أراد ألا يتكل الناس. وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة أنها في جميع السنة. وقيل عنه: إنها رفعت - يعني ليلة القدر - وأنها إنما كانت مرة واحدة؛ والصحيح أنها باقية. وروي عن ابن مسعود أيضا: أنها إذا كانت في يوم من هذه السنة، كانت في العام المقبل في يوم آخر. والجمهور على أنها في كل عام من رمضان. ثم قيل: إنها الليلة الأولى من الشهر؛ قال أبو رزين العقيلي. وقال الحسن وابن إسحاق وعبدالله بن الزبير: هي ليلة سبع عشرة من رمضان، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر. كأنهم نزعوا بقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} ، وكان ذلك ليلة سبع عشرة، وقيل هي ليلة التاسع عشر. والصحيح المشهور: أنها في العشر الأواخر من رمضان؛ وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي وأبي ثور وأحمد. ثم قال قوم: هي ليلة الحادي والعشرين. ومال إليه الشافعي رضي اللّه عنه، لحديث الماء والطين

ورواه أبو سعيد الخدري، خرجه مالك وغيره. وقيل ليلة الثالث والعشرين؛ لما رواه ابن عمر أن رجلا قال: يا رسول اللّه إني رأيت ليلة القدر في سابعة تبقى. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين، فمن أراد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين" . قال معمر: فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيبا. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين" . قال عبدالله بن أنيس: فرأيته في صبيحة ليلة ثلاث وعشرين في الماء والطين، كما أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: ليلة خمس وعشرين؛ لحديث أبي سعيد الخدري: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر. الأواخر في تاسعة تبقى، في سابعه تبقى، في خامسة تبقى" . رواه مسلم، قال مالك: يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين. وقيل: ليلة سبع وعشرين. وقد مضى دليله، وهو قول علي رضي اللّه عنه وعائشة ومعاوية وأبيّ بن كعب. وروى ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "من كان متحريا ليلة القدر، فليتحرها ليلة سبع وعشرين" .
وقال أبيّ بن كعب: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين" . وقال أبو بكر الوراق: إن اللّه تعالى قسم ليالي هذا الشهر - شهر رمضان - على كلمات هذه السورة، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: هي وأيضا فإن ليلة القدر كرر ذكرها ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فتجيء سبعا وعشرين. وقيل: هي ليلة تسع وعشرين؛ لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "ليلة القدر التاسعة

والعشرون - أو السابعة والعشرون - وأن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى" . وقد قيل: إنها في الأشفاع. قال الحسن: ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة، فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها. يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة. وقيل إنها مستورة في جميع السنة، ليجتهد المرء في إحياء جميع الليالي. وقيل: أخفاها في جميع شهر رمضان، ليجتهدوا في العمل والعبادة ليالي شهر رمضان، طمعا في إدراكها، كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات، واسمه الأعظم في أسمائه الحسنى، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة وساعات الليل، وغضبه في المعاصي، ورضاه في الطاعات، وقيام الساعة في الأوقات، والعبد الصالح بين العباد؛ رحمة منه وحكمة.
الثانية: في علاماتها: منها أن الشمس، تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها. وقال الحسن قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في ليلة القدر: "إن من أماراتها: أنها ليلة سمحة بلجة، لا حارة ولا باردة، تطلع، الشمس صبيحتها ليس لها شعاع" . وقال عبيد بن عمير: كنت ليلة السابع والعشرين في البحر، فأخذت من مائه، فوجدته عذبا سلسا.
الثالثة: في فضائلها. وحسبك بقوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} وفي الصحيحين: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه" رواه أبو هريرة. وقال ابن عباس: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "إذا كان ليلة القدر، تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى، منهم جبريل، ومعهم ألوية ينصب منها لواء على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء على المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا تدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا تسلم عليه، إلا مدمن الخمر، وآكل الخنزير، والمتضمخ بالزعفران" : وفي الحديث: "إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل ولا شيء من الفساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر" . وقال الشعبي: وليلها كيومها، ويومها كليلها. وقال الفراء؛ لا يقدر اللّه في ليلة القدر إلا السعادة والنعم، ويقدر في غيرها البلايا والنقم؛ وقد تقدم عن الضحاك. ومثله لا يقال

من جهة الرأي، فهو مرفوع. واللّه أعلم. وقال سعيد بن المسيب في الموطأ: "من شهد العشاء من ليلة القدر، فقد أخذ بحظه منها"، ومثله لا يدرك بالرأي. وقد روى عبيدالله بن عامر بن ربيعة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "من صلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر" ذكره الثعلبي في تفسيره. وقالت عائشة رضي اللّه عنها: قلت: يا رسول اللّه إن وافقت ليلة القدر فما أقول؟ قال: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" .
سورة البينة "لم يكن"وهي مكية في قول يحيى بن سلام. ومدنية؛ في قول ابن عباس والجمهور. وهي تسع آيات.
وقد جاء في فضلها حديث لا يصح، رويناه عن محمد بن محمد بن عبداللّه الحضرمي قال: قال لي أبو عبدالرحمن بن نمير: اذهب إلى أبي الهيثم الخشاب، فاكتب عنه فإنه قد كتب، فذهب إليه، فقال: حدثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه: "لو يعلم الناس ما في {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} لعطلوا الأهل والمال، فتعلموها" فقال رجل من خزاعة: وما فيها من الأجر يا رسول اللّه؟ قال: "لا يقرؤها منافق أبدا، ولا عبد في قلبه شك في اللّه. واللّه إن الملائكة المقربين يقرؤونها منذ خلق اللّه السموات والأرض ما يفترون من قراءتها. وما من عبد يقرؤها إلا بعث اللّه إليه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه، ويدعون له بالمغفرة والرحمة" . قال الحضرمي: فجئت إلى أبي عبدالرحمن بن نمير، فألقيت هذا الحديث عليه، فقال: هذا

قد كفانا مؤونته، فلا تعد إليه. قال ابن العربي: "روى إسحاق بن بشر الكاهلي عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب: عن أبي الدرداء، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في {لم يكن} الذين كفروا لعطلوا الأهل والمال ولتعلموها" . حديث باطل؛ وإنما الحديث الصحيح ما روي عن أنس: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بن كعب: "إن اللّه أمرني أن اقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: وسماني لك قال: "نعم" فبكى.
قلت: خرجه البخاري ومسلم. وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. قال بعضهم: إنما قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبيّ، ليعلم الناس التواضع؛ لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة. وقيل: لأن أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فأراد بقراءته عليه، أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه، ويعلم غيره. وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ؛ إذ أمر اللّه رسوله أن يقرأ عليه. قال أبو بكر الأنباري: وحدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد؛ قال حدثنا علي بن الجعد، قال حدثنا عكرمة عن عاصم عن زر بن حبيش قال: في قراءة أبيّ بن كعب: ابن آدم لو أعطي واديا من مال لالتمس ثانيا ولو أعطي واديين من مال لا لتمس ثالثا، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب اللّه على من تاب. قال عكرمة. قرأ علي عاصم {لَمْ يَكُنِ} ثلاثين آية، هذا فيها. قال أبو بكر: هذا باطل عند أهل العلم، لأن قراءتي ابن كثير وأبي عمرو متصلتان بأبيّ بن كعب، لا يقرأ فيها هذا المذكور في {لَمْ يَكُنِ} مما هو معروف في حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، على أنه من كلام الرسول عليه السلام، لا يحكيه عن رب العالمين في القرآن. وما رواه اثنان معهما الإجماع: أثبت مما يحكيه واحد مخالف مذهب الجماعة.

بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}
2- {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً }
3- {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ }
قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} كذا قراءة العامة، وخط المصحف. وقرأ ابن مسعود {لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين} وهذه قراءة على التفسير. قال ابن العربي: "وهي جائزة في معرض البيان لا في معرض التلاوة؛ فقد قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم في رواية الصحيح {فطلقوهن لقبل عدتهن} وهو تفسير؛ فإن التلاوة: هو ما كان في خط المصحف".
قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني اليهود والنصارى {وَالْمُشْرِكِينَ} في موضع جر عطفا على {أَهْلِ الْكِتَابِ} . قال ابن عباس {أَهْلِ الْكِتَابِ} : اليهود الذين كانوا بيثرب، وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع. والمشركون: الذين كانوا بمكة وحولها، والمدينة والذين حولها؛ وهم مشركو قريش. {مُنْفَكِّينَ} أي منتهين عن كفرهم، مائلين عنه. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي أتتهم البينة؛ أي محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: الانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا، حتى تأتيهم البينة. فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء. وقيل: {مُنْفَكِّينَ} زائلين؛ أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول. والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا: أي ما زلت. وما انفك فلان قائما. أي ما زال قائما. وأصل الفك: الفتح؛ ومنه فك الكتاب، وفك الخلخال، وفك السالم. قال طرفة:
فآليت لا ينفك كشحي بطانة ... لعضب رقيق الشفرتين مهند

وقال ذو الرمة:
حراجيج ما تنفك إلا مناخة ... على الخف أو نرمي بها بلدا قفرا
يريد: ما تنفك مناخة؛ فزاد "إلا". وقيل: {مُنْفَكِّينَ} : بارحين؛ أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا، حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان: أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم، حتى بعث؛ فلما بعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ولهذا قال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}. .. الآية. وعلى هذا {وَالْمُشْرِكِينَ} أي ما كانوا يسيؤون القول في محمد صلى اللّه عليه وسلم، حتى بعث؛ فإنهم كانوا يسمونه. الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم، فحينئذ عادوه. وقال بعض اللغويين: {مُنْفَكِّينَ} هالكين من قولهم: أنفك صلا المرأة عند الولادة؛ وهو أن ينفصل، فلا يلتئم فتهلك المعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. وقال قوم في المشركين: إنهم من أهل الكتاب؛ فمن اليهود من قال: عزير ابن اللّه. ومن النصارى من قال: عيسى هو اللّه. ومنهم من قال: هو ابنه. ومنهم من قال: ثالث ثلاثة. وقيل: أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيائهم. والمشركون ولدوا على الفطرة، فكفروا حين بلغوا. فلهذا قال: {وَالْمُشْرِكِينَ} وقيل: المشركون وصف أهل الكتاب أيضا، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد. فالنصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبهة؛ والكل شرك. وهو كقولك: جاءني العقلاء والظرفاء؛ وأنت تريد أقواما بأعيانهم، تصفهم بالأمرين. فالمعنى: من أهل الكتاب المشركين. وقيل: إن الكفر هنا هو الكفر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ أي لم يكن الذين كفروا بمحمد من اليهود والنصارى، الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون، الذين هم عبدة

الأوثان من العرب وغيرهم - وهم الذين ليس لهم كتاب - منفكين. قال القشيري: وفيه بعد؛ لأن الظاهر من {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أن هذا الرسول هو محمد صلى اللّه عليه وسلم. فيبعد أن يقال: لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم منفكين حتى يأتيهم محمد؛ إلا أن يقال: أراد: لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد - وإن كانوا من قبل معظمين له، بمنتهين عن هذا الكفر، إلى أن يبعث اللّه محمدا إليهم ويبين لهم الآيات؛ فحينئذ يؤمن قوم. وقرأ الأعمش وإبراهيم {والمشركون} رفعا، عطفا على {الذين}. والقراءة الأولى أبين؛ لأن الرفع يصير فيه الصنفان كأنهم من غير أهل الكتاب. وفي حرف أبيّ: {فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين}. وفي مصحف ابن مسعود: {لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين}. وقد تقدم. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} قيل حتى أتتهم. والبينة: محمد صلى اللّه عليه وسلم.
قوله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أي بعيث من اللّه جل ثناؤه. قال الزجاج: {رَسُولٌ} رفع على البدل من {الْبَيِّنَةُ} . وقال الفراء: أي هي رسول من اللّه، أو هو رسول من اللّه؛ لأن البينة قد تذكر فيقال: بينتي فلان. وفي حرف أبيّ وابن مسعود {رسول} بالنصب على القطع. {يَتْلُو} أي يقرأ. يقال: تلا يتلو تلاوة {صُحُفاً} جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب. {مُطَهَّرَةً} قال ابن عباس: من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة. وقال قتادة: من الباطل. وقيل: من الكذب، والشبهات. والكفر؛ والمعنى واحد. أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب؛ ويدل عليه أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب؛ لأنه كان أميا، لا يكتب ولا يقرأ. و {مُطَهَّرَةً} : من نعت الصحف؛ وهو كقوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} ، فالمطهرة نعت للصحف في الظاهر، وهي نعت لما في الصحف من القرآن. وقيل: {مُطَهَّرَةً} أي ينبغي ألا يمسها إلا المطهرون؛ كما قال في سورة "الواقعة" حسب ما تقدم بيانه. وقيل: الصحف المطهرة: هي التي عند اللّه في أم الكتاب، الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء

من الكتب؛ كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} . قال الحسن: يعني الصحف المطهرة في السماء. {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي مستقيمة مستوية محكمة؛ من قول العرب: قام يقوم: إذا استوى وصح. وقال بعض أهل العلم: الصحف هي الكتب؛ فكيف قال في صحف فيها كتب؟ فالجواب: أن الكتب هنا بمعنى الأحكام؛ قال اللّه عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} بمعنى حكم. وقال صلى اللّه عليه وسلم: "واللّه لأقضين بينكما بكتاب اللّه" ثم قضى بالرجم، وليس ذكر الرجم مسطورا في الكتاب؛ فالمعنى: لأقضين بينكما بحكم اللّه تعالى. وقال الشاعر:
وما الولاء بالبلاء فملتم ... وما ذاك قال الله إذ هو يكتب
وقيل: الكتب القيمة: هي القرآن؛ فجعله كتبا لأنه يشتمل على أنواع من البيان.
4- {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}
قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي من اليهود والنصارى. خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين؛ لأنهم مظنون بهم علم فاذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي أتتهم البينة الواضحة. والمعني به محمد صلى اللّه عليه وسلم؛ أي القرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته. وذلك أنهم كانوا مجتمعين على نبوته، فلما بعث جحدوا نبوته وتفرقوا، فمنهم من كفر: بغيا وحسدا، ومنهم من آمن؛ كقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} وقيل: {الْبَيِّنَةُ} : البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل. قال العلماء: من أول السورة إلى قوله "قيمة": حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين. وقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ} : حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج.

5- {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا} أي وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} أي ليوحدوه. واللام في {لِيَعْبُدُوا} بمعنى "أن"؛ كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي أن يبين. و {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} و {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وفي حرف عبدالله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا أن لِيَعْبُدُوا اللَّهَ}. {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي العبادة؛ ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} . وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات فإن الإخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه اللّه تعالى لا غيره.
الثانية- قوله تعالى: {حُنَفَاءَ} أي مائلين عن الأديان كلها، إلى دين الإسلام، وكان ابن عباس يقول: حنفاء: على دين إبراهيم عليه السلام. وقيل: الحنيف: من اختتن وحج؛ قاله سعيد بن جبير. قال أهل اللغة: وأصله أنه تحنف إلى الإسلام؛ أي مال إليه.
الثالثة- قوله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} أي بحدودها في أوقاتها. {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أي يعطوها عند محلها. {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي ذلك الدين الذي أمروا به دين القيامة؛ أي الدين المستقيم. وقال الزجاج: أي ذلك دين الملة المستقيمة. و {الْقَيِّمَةِ} : نعت لموصوف محذوف. أو يقال: دين الأمة القيمة بالحق؛ أي القائمة بالحق. وفي حرف عبدالله {وذلك الدين القيم}. قال الخليل: "القيمة" جمع القيم، والقيم والقائم: واحد. وقال الفراء: أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته، لاختلاف اللفظين. وعنه أيضا: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة. وقيل: الهاء راجعة إلى الملة أو الشريعة. وقال محمد بن الأشعث، الطالقاني "القيمة" ها هنا: الكتب التي جرى ذكرها، والدين مضاف إليها.

6- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}
7- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} {الْمُشْرِكِينَ} : معطوف على{الَّذِينَ}، أو يكون مجرورا معطوفا على {أَهْلِ} {فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} قرأ نافع وابن ذكوان بالهمز على الأصل في الموضعين؛ من قولهم: برأ اللّه الخلق، وهو البارئ الخالق، وقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} . الباقون بغير همز، وشد الياء عوضا منه. قال الفراء: إن أخذت البرية من البرى، وهو التراب، فأصله غير الهمز؛ تقول منه: براه اللّه يبروه بروا؛ أي خلقه. قال القشيري: ومن قال البرية من البرى، وهو التراب، قال: لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة. وقيل: البرية: من بريت القلم، أي قدرته؛ فتدخل فيه الملائكة. ولكنه قول ضعيف؛ لأنه يجب منه تخطئة من همز. وقوله {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أي شر الخليقة. فقيل يحتمل أن يكون على التعميم. وقال قوم: أي هم شر البرية الذين كانوا في عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ كما قال تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي على عالمي زمانكم. ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل هذا من هو شر منهم؛ مثل فرعون وعاقر ناقة صالح. وكذا {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} : إما على التعميم، أو خير برية عصرهم. وقد استدل بقراءة الهمز من فضل بني آدم على الملائكة، وقد مضى في سورة "البقرة" القول فيه. وقال أبو هريرة رضي اللّه عنه: المؤمن أكرم على اللّه عز وجل من بعض الملائكة الذين عنده.

8- {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}
قوله تعالى: {جَزَاؤُهُمْ} أي ثوابهم. {عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي خالقهم ومالكهم. {جَنَّاتُ} أي بساتين. {عَدْنٍ} أي إقامة. والمفسرون يقولون: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بطنان الجنة، أي وسطها؛ تقول: عدن بالمكان يعدن [عدنا وعدونا]: أقام. ومعدن الشيء: مركزه ومستقره. قال الأعشى:
وإن يستضافوا إلى حكمه ... يضافوا إلى راجح قد عدن
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} لا يظعنون ولا يموتون. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} أي رضي أعمالهم؛ كذا قال ابن عباس. {وَرَضُوا عَنْهُ} أي رضوا هم بثواب اللّه عز وجل. {ذَلِكَ} أي الجنة. {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي خاف ربه، فتناهى عن المعاصي.
سورة الزلزلةمدنية، في قول ابن عباس وقتادة. ومكبة؛ في قول ابن مسعود وعطاء وجابر. وهي تسع آيات
قال العلماء: وهذه السورة فضلها كثير، وتحتوي على عظيم: روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "من قرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} عدلت له بنصف القرآن. ومن قرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عدلت له بربع القرآن، ومن قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عدلت له بثلث القرآن" . قال: حديث غريب، وفي الباب عن ابن عباس. وروي عن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "من قرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} أربع مرات، كان كمن قرأ القرآن كله" . وروى عبدالله بن عمرو بن العاص قال: لما نزلت {إِذَا زُلْزِلَتِ} بكى أبو بكر؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "لولا أنكم تخطئون وتذنبون ويغفر اللّه لكم، لخلق أمة يخطئون ويذنبون ويغفر لهم، إنه هو الغفور الرحيم".

بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}
قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} أي حركت من أصلها. كذا روى عكرمة عن ابن عباس، وكان يقول: في النفخة الأولى يزلزلها - وقال مجاهد - ؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ.تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} ثم تزلزل ثانية، فتخرج موتاها وهي الأثقال. وذكر المصدر للتأكيد، ثم أضيف إلى الأرض؛ كقولك: لأعطينك عطيتك؛ أي عطيتي لك. وحسن ذلك لموافقة رؤوس الآي بعدها. وقراءة العامة بكسر الزاي من الزلزال. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر بفتحها، وهو مصدر أيضا، كالوسواس والقلقال والجرجار. وقيل: الكسر المصدر. والفتح الاسم.
2- {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}
قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض، فهو ثقل لها. وإذا كان قوقها، فهو ثقل عليها. وقال ابن عباس ومجاهد: {أَثْقَالَهَا} : موتاها، تخرجهم في النفخة الثانية، ومنه قيل للجن والإنس: الثقلان. وقالت الخنساء:
أبعد ابن عمرو من آل الشر ... يد حلت به الأرض أثقالها
تقول: لما دفن عمرو صار حلية لأهل القبور، من شرفه وسؤدده. وذكر بعض أهل العلم قال: كانت العرب تقول: إذا كان الرجل سفاكا للدماء: كان ثقلا على ظهر الأرض؛ فلما مات حطت الأرض عن ظهرها ثقلها. وقيل: {أَثْقَالَهَا} كنوزها؛ ومنه الحديث: "تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة..." .

3- {وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا}
قوله تعالى: {وَقَالَ الْأِنْسَانُ} أي ابن آدم الكافر. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هو الأسود بن عبد الأسد. وقيل: أراد كل إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الأولى: من مؤمن وكافر. وهذا قول من جعلها في الدنيا من أشراط الساعة؛ لأنهم لا يعلمون جميعا من أشراط الساعة في ابتداء أمرها، حتى يتحققوا عمومها؛ فلذلك سأل بعضهم بعضا عنها. وعلى قول من قال: إن المراد بالإنسان الكفار خاصة، جعلها زلزلة القيامة؛ لأن المؤمن معترف بها، فهو لا يسأل عنها، والكافر جاحد لها، فلذلك يسأل عنها. {مَا لَهَا} أي ما لها زلزلت. وقيل: ما لها أخرجت أثقالها، وهي كلمة تعجيب؛ أي لأي شيء زلزلت. ويجوز أن يحيى اللّه الموتى بعد وقوع النفخة الأولى، ثم تتحرك الأرض فتخرج الموتى وقد رأوا الزلزلة وانشقاق الأرض عن الموتى أحياء، فيقولون من الهول: ما لها.
4- {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}
5- {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}
6- {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} {يَوْمَئِذٍ} منصوب بقوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ} . وقيل: بقوله {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ؛ أي تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شر يومئذ. ثم قيل: هو من قول اللّه تعالى. وقيل: من قول الإنسان؛ أي يقول الإنسان ما لها تحدث أخبارها؛ متعجبا. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: "أتدرون ما أخبارها" - قالوا اللّه ورسوله أعلم، قال: "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا، كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها" . قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الماوردي، قوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} : فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} بأعمال العباد على ظهرها؛ قال أبو هريرة، ورواه مرفوعا. وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة.

الثاني: تحدث أخبارها بما أخرجت من أثقالها؛ قاله يحيى بن سلام. وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة.
قلت: وفي هذا المعنى حديث رواه ابن مسعود عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أنه قال: "إذا كان أجل العبد بأرض أوثبته الحاجة إليها، حتى إذا بلغ أقصى أثره قبضه اللّه، فتقول الأرض يوم القيامة: رب هذا ما استودعتني" . أخرجه ابن ماجه في سننه. وقد تقدم.
الثالث: أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها؟ قال ابن مسعود. فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى. فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم، ووعيدا للكافر، وإنذارا للمؤمن. وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن اللّه تعالى يقلبها حيوانا ناطقا؛ فتتكلم بذلك. الثاني: أن اللّه تعالى يحدث فيها الكلام. الثالث: أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام. قال الطبري: تبين أخبارها بالرجة والزلزلة وإخراج الموتى.
قوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي إنها تحدث أخبارها أوحي اللّه {لَهَا} ، أي إليها. والعرب تضع لام الصفة موضع "إلى". قال العجاج يصف الأرض:
وحى لها القرار فاستقرت ... وشدها بالراسيات الثبت
وهذا قول أبي عبيدة: {أَوْحَى لَهَا} أي إليها. وقيل: {أَوْحَى لَهَا} أي أمرها؛ قال مجاهد. وقال السدي: {أَوْحَى لَهَا} أي قال لها. وقال: سخرها. وقيل: المعنى يوم تكون الزلزلة، وإخراج الأرض أثقالها، تحدث الأرض أخبارها؛ ما كان عليها من الطاعات والمعاصي، وما عمل على ظهرها من خير وشر. وروي ذلك عن الثوري وغيره.
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} أي فرقا؛ جمع شت. قيل: ءن موقف الحساب؛ فريق يأخذ جهة اليمين إلى الجنة، وفريق آخر يأخذ جهة الشمال إلى النار؛ كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} . وقيل: يرجعون عن الحساب بعد فراغهم من الحساب. {أَشْتَاتاً}

عني فرقا فرقا. {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} يعني ثواب أعمالهم. وهذا كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه، فإن كان محسنا فيقول: لم لا أزددت إحسانا؟ وإن كان غير ذلك يقول: لم لا نزعت عن المعاصي" ؟ وهذا عند معاينة الثواب والعقاب. وكان ابن عباس يقول: {أَشْتَاتاً} متفرقين على قدر أعمالهم أهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة. وقيل: هذا الصدور، إنما هو عند النشور؛ يصدرون أشتاتا من القبور، فيصار بهم إلى موقف الحساب، ليروا أعمالهم في كتبهم، أو ليروا جزاء أعمالهم؛ فكأنهم وردوا القبور فدفنوا فيها، ثم صدروا عنها. والوارد: الجائي. والصادر: المنصرف. {أَشْتَاتاً} أي يبعثون من أقطار الأرض. وعلى القول الأول فيه تقديم وتأخير، مجازه: تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها، ليروا أعمالهم. واعترض قوله {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} متفرقين عن موقف الحساب. وقراءة العامة {لِيُرَوْا} بضم الياء؛ أي ليريهم اللّه أعمالهم. وقرأ الحسن والزهري وقتادة والأعرج ونصر بن عاصم وطلحة بفتحها؛ وروي ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.
7- {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}
8- {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} كان ابن عباس يقول: من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا، ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة، مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات، ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه، ويضاعف له في الآخرة. وفي بعض الحديث: "الذرة لا زنة لها" وهذا مثل ضربه الله تعالى: أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة. وهو مثل قوله تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} وقد تقدم الكلام هناك في الذر، وأنه لا وزن له. وذكر بعض أهل اللغة أن الذر: أن يضرب الرجل بيده على الأرض، فما علق بها من التراب فهو الذر، وكذا قال ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة. وقال محمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر، يرى ثوابه في الدنيا، في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير. ومن يعمل، مثقال ذرة من شر من مؤمن، يرى عقوبته في الدنيا، في نفسه وماله وولده وأهله، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس: أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل، فأمسك وقال: يا رسول الله، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر؟ قال: "ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذر الشر، ويدخر لكم مثاقيل ذر الخير، حتى تعطوه يوم القيامة" . قال أبو إدريس: إن مصداقه في كتاب الله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} . وقال مقاتل: نزلت في رجلين، وذلك أنه لما نزل {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} كان أحدهم يأتيه السائل، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة. وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما أوعد الله النار على الكبائر؛ فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه؛ فإنه يوشك أن يكثر، ويحذرهم اليسير من الذنب، فإنه يوشك أن يكثر؛ وقاله سعيد بن جبير. والإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء.
الثانية- قراءة العامة {يَرَهْ} بفتح الياء فيهما. وقرأ الجحدري والسلمي وعيسى بن عمر وأبان عن عاصم: {يره} بضم الياء؛ أي يريه الله إياه. والأولى الاختيار؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} الآية. وسكن الهاء في قوله{يره}

في الموضعين هشام. وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حيوة والمغيرة. واختلس يعقوب والزهري والجحدري وشيبة. وأشبع الباقون. وقيل {يَرَهُ} أي يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعدم فلا يرى. وأنشدوا:
إن من يعتدي ويكسب إثما ... وزن مثقال ذرة سيراه
ويجازى بفعله الشر شرا ... وبفعل الجميل أيضا جزاه
هكذا قوله تبارك ربي ... في إذا زلزلت وجل ثناه
قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن؛ وصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية؛ القائلون بالعموم ومن لم يقل به. وروى كعب الأحبار أنه فال: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . قال الشيخ أبو مدين في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} قال: في الحال قبل المآل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى هذه الآية الآية الجامعة الفاذة؛ كما في الصحيح لما سئل عن الحمر وسكت عن البغال، والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر؛ فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم، والثواب المستمر، سأل السائل عن الحمر، لأنهم لم يكن عندهم يومئذ بغل، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم "الدلدل"، التي أهداها له المقوقس، فأفتاه في الحمير بعموم الآية، وإن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة؛ قاله ابن العربي. وفي الموطأ: أن مسكينا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب؛ فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها. فجعل ينظر إليها ويعجب؛ فقال: أتعجب! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة. وروي عن سعد بن أبي وقاص: أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل: ويقبل الله منا مثاقيل الذر، وفي التمرتين مثاقيل ذر كثيرة. وروى المطلب بن حنطب: أن أعرابيا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها فقال: يا رسول الله، أمثقال ذرة! قال: "نعم" فقال الأعرابي: واسوأتاه! مرارا: ثم قام وهو يقولها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

"لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان" . وقال الحسن: قدم صعصعة عم الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآيات؛ قال: لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها، حسبي، فقد انتهت الموعظة؛ ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي: وروى أن صعصة ابن ناجية جد الفرزدق أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئه، فقرأ عليه هذه الآية؛ فقال صعصعة: حسبي حسبي؛ إن عملت مثقال ذرة شرا رأيته. وروى معمر عن زيد بن أسلم: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني مما علمك الله. فدفعه إلى رجل يعلمه؛ فعلمه {إِذَا زُلْزِلَتِ - حتى إذا بلغ - فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} قال: حسبي. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "دعوه فإنه قد فقه" . ويحكي أن أعرابيا أخّر {خَيْراً يَرَهُ} فقيل: قدمت وأخّرت. فقال:
خذا بطنَ هَرشى أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى لهن طريق
سورة العادياتوهي مكية؛ في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء. ومدنية
في قول ابن عباس وأنس ومالك وقتادة. وهي إحدى عشرة آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً}
2- {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً}
قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} أي الأفراس تعدو. كذا قال عامة المفسرين وأهل اللغة؛ أي تعدو في سبيل الله فتضبح. قال قتادة: تضبح إذا عدت؛ أي تحمحم. وقال

الفراء: الضبح: صوت أنفاس الخيل إذا عدون. ابن عباس: ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب. وقيل: كانت تكعم لئلا تصهل، فيعلم العدو بهم؛ فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة. قال ابن العربي: أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {يس.وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} ، وأقسم بحياته فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها، وقدح حوافرها النار من الحجر، فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} ... الآيات الخمس. وقال أهل اللغة:
وطعنة ذات رشاش واهيه ... طعنتها عند صدور العادية
يعني الخيل.
وقال آخر:
والعاديات أسابي الدماء بها ... كأن أعناقها أنصاب ترجيب
يعني الخيل. وقال عنترة:
والخيل تعلم حين تضبح ... في حياض الموت ضبحا
وقال آخر:
لست بالتبع اليماني إن لم ... تضبح في سواد العراق
وقال أهل اللغة: وأصل الضبح والضباح للثعالب؛ فاستعير للخيل. وهو من قول العرب: ضبحته النار: إذا غيرت لونه ولم تبالغ فيه. وقال الشاعر:
فلما أن تلهوجنا شواء ... به اللهبان مقهورا ضبيحا
وأنضبح لونه: إذا تغير إلى السواد قليلا. وقال:
علقتها قبل انضباح لوني

وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فزع وتعب أو طمع. ونصب {ضَبْحاً} على المصدر؛ أي والعاديات تضبح ضبحا. والضبح أيضا الرماد. وقال البصريون: {ضَبْحاً} نصب على الحال. وقيل: مصدر في موضع الحال. قال أبو عبيدة: ضبحت الخيل ضبحا مثل ضبعت؛ وهو السير. وقال أبو عبيدة: الضبح والضبع: بمعنى العدو والسير. وكذا قال المبرد: الضبح مد أضباعها في السير. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى أناس من بين كنانة، فأبطأ عليه خبرها، وكان استعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري، وكان أحد النقباء؛ فقال المنافقون: إنهم قتلوا؛ فنزلت هذه السورة إخبارا للنبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها، وبشارة له بإغارتها على القوم الذين بعث إليهم. وممن قال: إن المراد بالعاديات الخيل، ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد. والمراد الخيل التي يغزو عليها المؤمنون. وفي الخبر: "من لم يعرف حرمة فرس الغازي، فيه شعبة من النفاق" . وقول ثان: أنها الإبل؛ قال مسلم: نازعت فيها عكرمة فقال عكرمة: قال ابن عباس هي الخيل. وقلت: قال علي هي الإبل في الحج، ومولاي أعلم من مولاك. وقال الشعبي: تمارى علي وابن عباس في {وَالْعَادِيَاتِ} فقال علي: هي الإبل تعدو في الحج. وقال ابن عباس: هي الخيل؛ ألا تراه يقول {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} فهل تثير إلا بحوافرها! وهل تضبح الإبل! فقال علي: ليس كما قلت، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد، وفرس لمرثد بن أبي مرثد؛ ثم قال له علي: أتفتي الناس بما لا تعلم! والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام وما معنا إلا فرسان: فرس للمقداد، وفرس للزبير؛ فكيف تكون العاديات ضبحا! إنما العاديات الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى عرفة. قال ابن عباس: فرجعت إلى قول علي، وبه قال ابن مسعود وعبيد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي. ومنه قول صفية بنت عبدالمطلب:
فلا والعاديات غداه جمع ... بأيديها إذا سطع الغبار

يعني الإبل. وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو، وهو تباعد الأرجل في سرعة المشي. وقال آخر:
رأى صاحبي في العاديات نجيبة ... وأمثالها في الواضعات القوامس
ومن قال هي الإبل فقوله {ضَبْحاً} بمعنى ضبعا؛ فالحاء عنده مبدلة من العين؛ لأنه يقال: ضبعت الإبل وهو أن تمد أعناقها في السير. وقال المبرد: الضبع مد أضباعها في السير. والضبح أكثرها ما يستعمل في الخيل. والضبع في الإبل. وقد تبدل الحاء من العين. أبو صالح: الضبح من الخيل: الحمحمة، ومن الإبل التنفس. وقال عطاء: ليس شيء من الدواب يضبح إلا الفرس والثعلب والكلب؛ وروي عن ابن عباس. وقد تقدم عن أهل اللغة أن العرب تقول: ضبح الثعلب؛ وضبح في غير ذلك أيضا. قال توبة:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر ضابح
زقا الصدى يزقو زقاء: أي صاح. وكل زاق صائح. والزقية: الصيحة.
قوله تعالى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} قال عكرمة وعطاء والضحاك: هي الخيل حين توري النار بحوافرها، وهي سنابكها؛ وروي عن ابن عباس. وعنه أيضا: أورت بحوافرها غبارا. وهذا يخالف سائر ما روي عنه في قدح النار؛ وإنما هذا في الإبل. وروى ابن نجيح عن مجاهد {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} قال قال ابن عباس: هو في القتال وهو في الحج. ابن مسعود: هي الإبل تطأ الحصى، فتخرج منها النار. وأصل القدح الاستخراج؛

ومنه قدحت العين: إذا أخرجت منها الماء الفاسد. واقتدحت بالزند. واقتدحت المرق: غرفته. وركى قدوح: تغترف باليد. والقديح: ما يبقى في أسفل القدر، فيغرف بجهد. والمقدحة: ما تقدح به النار. والقداحة والقداح: الحجر الذي يوري النار. يقال: ورى الزند (بالفتح) يري وريا: إذا خرجت ناره. وفيه لغة أخرى: وري الزند (بالكسر) يري فيهما. وقد مضى هذا في سورة "الواقعة". و {قَدْحاً} انتصب بما انتصب به {ضَبْحاً} وقيل: هذه الآيات في الخيل؛ ولكن إيراءها: أن تهيج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم. ومنه يقال للحرب إذا ألتحمت: حمي الوطيس. ومنه قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} . وروي معناه عن ابن عباس أيضا، وقال قتادة. وعن ابن عباس أيضا، وقاله قتادة. وعن ابن عباس أيضا: أن المراد بالموريات قدحا: مكر الرجال في الحرب؛ وقاله مجاهد وزيد بن أسلم. والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه: والله لأمكرن بك، ثم لأورين لك. وعن ابن عباس أيضا: هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل، لحاجتهم وطعامهم. وعنه أيضا: أنها نيران المجاهدين إذا كثرت نارها إرهابا. وكل من قرب من العدو يوقد نيرانا كثيرة ليظنهم العدو كثيرا. فهذا إقسام بذلك. قال محمد بن كعب: هي النار تجمع. وقيل هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة. وقال عكرمة: هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به، ويظهر بها، من إقامة الحجج، وإقامة الدلائل، وإيضاح الحق، وإبطال الباطل. وروى ابن جريح عن بعضهم قال: فالمنجحات أمرا وعملا، كنجاح الزند إذا أوري.
قلت: هذه الأقوال مجاز؛ ومنه قولهم: فلان يوري زناد الضلالة. والأول: الحقيقة، وأن الخيل من شدة عدوها تقدح النار بحوافرها. قال مقاتل: العرب تسمي تلك النار نار أبي حباحب، وكان أبو حباحب شيخا من مضر في الجاهلية، من أبخل الناس، وكان لا يوقد نارا لخبز ولا غيره حتى تنام العيون، فيوقد نويرة تقدم مرة وتخمد أخرى؛ فإن استيقظ لها أحد

أطفأها، كراهية أن ينتفع بها أحد. فشبهت العرب هذه النار بناره؛ لأنه لا ينتقع بها. وكذلك إذا وقع السيف على البيضة فاقتدحت نارا، فكذلك يسمونها. قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
تَقُدَّ السَّلوقي المضاعفَ نسجُه ... وتوقد بالصُفاح نار الحُباحِب
3- {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً}
الخيل تغير على العدو عند الصبح؛ عن ابن عباس وأكثر المفسرين. وكانوا إذا أرادوا الغارة سروا ليلا، ويأتون العدو صبحا؛ لأن ذلك وقت غفلة الناس. ومنه قوله تعالى: {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} وقيل: لعزهم أغاروا نهارا، و {صُبْحاً} على هذا، أي علانية، تشبيها بظهور الصبح. وقال ابن مسعود وعلي رضي الله عنهما: هي الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من منى إلى جمع. والسنة ألا تدفع حتى تصبح؛ وقاله القرطبي. والإغارة: سرعة السير؛ ومنه قولهم: أشرق ثبير، كيما نغير.
4- {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً}
أي غبارا؛ يعني الخيل تثير الغبار بشدة العدو في المكان الذي أغارت به. قال عبدالله بن رواحة:
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء
والكناية في "به" ترجع إلى المكان أو إلى الموضع الذي تقع فيه الإغارة. وإذا علم المغني جاز أن يكني عما لم يجر له ذكر بالتصريح؛ كما قال {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} . وقيل: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} ،

أي بالعدو "نقعا". وقد تقدم ذكر العدو. وقيل: النقع: ما يبين مزدلفة إلى مني؛ قاله محمد ابن كعب القرظي. وقيل: إنه طريق الوادي؛ ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع. وفي الصحاح: النقع: الغبار، والجمع: نقاع. والنقع: محبس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه. وفي الحديث: أنه نهى أن يمنع نقع البئر. والنقع الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء؛ والجمع: نقاع وأنقع؛ مثل بحر وبحار وأبحر.
قلت: وقد يكون النقع رفع الصوت، ومنه حديث عمر حين قيل له: إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد؛ فقال: وما على نساء بني المغيرة أن يسفكن من دموعهن وهن جلوس على أبي سليمان، ما لم يكن نقع، ولا لقلة. قال أبو عبيد: يعني بالنقع رفع الصوت؛ على هذا رأيت قول الأكثرين من أهل العلم؛ ومنه قول لبيد:
فمتى ينقع صراخ صادق ... يحلبوها ذات جرس وزجل
ويروى "يحلبوها" أيضا. يقول:متى سمعوا صراخا أحلبوا الحرب، أي جمعوا لها. وقوله "ينقع صراخ ": يعني رفع الصوت. وقال الكسائي: قوله "نقع ولا لقلقة" النقع: صنعه الطعام؛ يعني في المأتم. يقال منه: نقعت أنقع نقعا. قال أبو عبيد: ذهب بالنقع إلى النقيعة؛ وإنما النقيعة عند غيره من العلماء: صنعة الطعام عند القدوم من سفر، لا في المأتم. وقال بعضهم: يريد عمر بالنقع: وضع التراب على الرأس؛ يذهب إلى أن النقع هو الغبار. ولا أحسب عمر ذهب إلى هذا، ولا خافه منهن، وكيف يبلغ خوفه ذا وهو يكره لهن القيام. فقال: يسفكن من دموعهن وهن جلوس. قال بعضهم: النقع: شق الجيوب؛ وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه، وليس النقع عندي في الحديث إلا الصوت الشديد، وأما اللقطة: فشدة الصوت، ولم أسمع فيه اختلافا. وقرأ أبو حيوة {فأثرن} بالتشديد؛ أي أرت آثار ذلك. ومن خفف فهو من أثار: إذا حرك؛ ومنه {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} .

5- {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}
قوله تعالى: {جَمْعاً} مفعول بـ {وَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} ؛ أي فوسطن بركبانهن العدو؛ أي الجمع الذي أغاروا عليهم. وقال ابن مسعود: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} : يعني مزدلفة؛ وسميت جمعا لاجتماع الناس. ويقال: وسطت القوم أسطهم وسطا؛ أي صرت وسطهم. وقرأ علي رضي الله عنه {فوسطن} بالتشديد، وهي قراءة قتادة وابن مسعود وأبي رجاء؛ لغتان بمعنى، يقال: جعلها الجمع قسمين. (بالتشديد والتخفيف) وتوسطهم:بمعنى واحد. وقيل: معنى التشديد: جعلها الجمع قسمين. والتخفيف: صرن في وسط الجمع؛ وهما يرجعان إلى معنى الجمع.
6- {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}
هذا جواب لنعم القسم؛ أي طبع الإنسان على كفران النعمة. قال ابن عباس: {لَكَنُودٌ} لكفور جحود لنعم الله. وكذلك قال الحسن. وقال: يذكر المصائب وينسى النعم. أخذه الشاعر فنظمه:
يا أيها الظالم في فعله ... والظلم مردود على من ظلم
إلى متى انت وحتى متى ... تشكو المصيبات وتنسى النعم
وروى أبو أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكنود، هو الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عده" . وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أنبكم بشراركم" ؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: "من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده" . خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقد روي عن عباس أيضا أنه قال: الكنود بلسان كندة وحضر موت: العاصي، وبلسان ربيعة ومضر: الكفور. وبلسان كنانة: البخيل السيئ الملكة؛ وقاله مقاتل: وقال الشاعر:
كنود لنعماء الرجال ومن يكن ... كنودا لنعماء الرجال يبعد

أي كفور. ثم قيل: هو الذي يكفر باليسير، ولا يشكر الكثير. وقيل: الجاحد للحق. وقيل: إنما سميت كندة كندة، لأنها جحدت أبها. وقال إبراهيم بن هرمة الشاعر:
دع البخلاء إن شمخوا وصدوا ... وذكرى بخل غانية كنود
وقيل: الكنود: من كند إذا قطع؛ كأنه يقطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر. ويقال: كند الحبل: إذا قطعه. قال الأعشى:
أميطي تميطي بصلب الفؤاد ... وصول حبال وكنادها
فهذا يدل على القطع. ويقال: كند يكند كنودا: أي كفر النعمة وجحدها، فهو كنود. وامرأة كنود أيضا، وكند مثله. قال الأعشى:
أحدث لها تحدث لوصلك إنها ... كند لوصل الزائر المعتاد
أي كفور للمواصلة. وقال ابن عباس: الإنسان هنا الكافر؛ يقول إنه لكفور؛ ومنه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئا. وقال الضحاك: نزلت في الوليد بن المغيرة. قال المبرد: الكنود: المانع لما عليه. وأنشد لكثير:
أحدث لها تحدث لوصلك إنها ... كند لوصل الزائر المعتاد
وقال أبو بكر الواسطي: الكنود: الذي ينفق نعم الله في معاصي الله. وقال أبو بكر الوراق: الكنود: الذي يرى النعمة من نفسه وأعوانه. وقال الترمذي: الذي يرى النعمة ولا يرى المنعم. وقال ذو النون المصري: الهلوع والكنود: هو الذي يرى النعمة ولا يرى النعمة ولا يرى المنعم. وقيل: هو الحقود الحسود. وقيل: هو الجهول لقدره. وفي الحكمة: من جهل قدرة: هتك ستره.

قلت: هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة، وأحوال غير محمودة؛ فإن صح فهو أعلى ما يقال، ولا يبقى لأحد معه مقال.
7- {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}
أي وإن الله عز وجل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد. كذا روى منصور عن مجاهد؛ وهو قول أكثر المفسرين، وهو قول ابن عباس. وقال الحسن وقتادة ومحمد بن كعب: "وإنه" أي وإن الإنسان لشاهد على نفسه بما يصنع؛ وروي عن مجاهد أيضا.
8- {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ} أي الإنسان من غير خلاف. {لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي المال؛ ومنه قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وقال عدي:
ماذا ترجي النفوس من طلب الـ ... ــخير وحب الحياة كاربها
{لَشَدِيدٌ} أي لقوي في حبه للمال. وقيل: {لَشَدِيدٌ} لبخيل. ويقال للبخيل: شديد ومتشدد. قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقلية مال الفاحش المتشدد
يقال: اعتامه واعتماه؛ أي أختاره. والفاحش: البخيل أيضا. ومنه قوله تعالى: {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} أي البخل. قال ابن زيد: سمى الله المال خيرا؛ وعسى أن يكون شرا وحراما؛ ولكن الناس يعدونه خيرا، فسماه الله خيرا لذلك. وسمى الجهاد سواء، فقال: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} على ما يسميه الناس. قال الفراء: نظم الآية أن يقال: وإنه لشديد الحب للخير؛ فلما تقدم الحب قال: شديد، وحذف من آخره

ذكر الحب؛ لأنه قد جرى ذكره، ولرؤس الآي؛ كقوله تعالى: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} والعصوف: للريح لا الأيام، فلما جرى ذكر الريح؛ كأنه قال: في يوم عاصف الريح.
9- {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}
10- {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}
11- {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}
قوله تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ} أي ابن آدم {إِذَا بُعْثِرَ} أي أثير وقلب وبحث، فأخرج ما فيها. قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع: جعلت أسفله أعلاه. وعن محمد بن كعب قال: ذلك حين يبعثون. الفراء: سمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ: {بحثر} بالحاء مكان العين؛ وحكاه الماوردي عن ابن مسعود، وهما بمعنى. {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} أي ميز ما فيها من خير وشر؛ كذا قال المفسرون: وقال ابن عباس: أبرز. وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم {وحصل} بفتح الحاء وتخفيف الصاد وفتحها؛ أي ظهر. {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} أي عالم لا يخفى عليه منهم خافية. وهو عالم بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ولكن المعنى أنه يجازيهم في ذلك اليوم. وقوله: {إِذَا بُعْثِرَ} العامل في {إِذَا}:{بُعْثِرَ}، ولا يعمل فيه {يَعْلَمُ} ؛ إذ لا يراد به العلم من الإنسان ذلك الوقت، إنما يراد في الدنيا. ولا يعمل فيه {خبير}؛ لأن ما بعد {إِنَّ} لا يعمل فيما قبلها. والعامل في {يَوْمَئِذٍ}: {خبير}، وإن فصلت اللام بينهما؛ لأن موضع اللام الابتداء. وإنما دخلت في الخبر لدخول {إن} على المبتدأ. ويروى أن الحجاج قرأ هذه السورة على المنبر يحضهم على الغزو، فجرى على لسانه: {أن ربهم} بفتح الألف، ثم استدركها فقال: {خبير} بغير لام. ولولا اللام لكانت مفتوحة، لوقوع العلم عليها. وقرأ أبو السمال {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} . والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة القارعة
وهي مكبة بإجماع. وهي عشر آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {الْقَارِعَةُ}
2- {مَا الْقَارِعَةُ}
3- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}
قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} أي القيامة والساعة؛ كذا قال عامة المفسرين. وذلك أنها تقرع الخلائق بأهوالها وأفزاعها. وأهل اللغة يقولون: تقول العرب قرعتهم القارعة، وفقرتهم الفاقرة؛ إذا وقع بهم أمر فظيع. قال ابن أحمر:
وقارعة من الأيام لولا ... سبيلهم لزاحت عنك حينا
وقال آخر:
متى تقرع بمروتكم نسؤكم ... ولم توقد لنا في القدر نار
وقال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} وهي الشديدة من شدائد الدهر. {مَا الْقَارِعَةُ} استفهام؛ أي أي شيء هي القارعة؟ وكذا {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} كلمة استفهام على جهة التعظيم والتفخيم لشأنها، كما قال: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ.وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} على ما تقدم.

4- {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}
قوله تعالى: {يَوْمَ} منصوب على الظرف، تقديره: تكون القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث. قال قتادة: الفراش الطير الذي يتساق في النار والسراج. الواحد فراشة، وقاله أبو عبيدة. وقال الفراء: إنه الهمج الطائر، من بعوض وغيره؛ ومنه الجراد. ويقال: هو أطيش من فراشه. وقال:
طويش من نفر أطياش ... أطيش من طائرة الفراش
وقال آخر:
وقد كان أقوام رددت قلوبهم ... إليهم وكانوا كالفراش من الجهل
وفي صحيح مسلم عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أو قد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها، وأنا أخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي" . وفي الباب عن أبي هريرة. والمبثوث المتفرق. وقال في موضع آخر: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} . فأول حالهم كالفراش لا وجه له، يتحير في كل وجه، ثم يكونون كالجراد، لأن لها وجها تقصده. والمبثوث: المتفرق والمنتشر. وإنما ذكر على اللفظ: كقوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ولو قال المبثوثة [فهو] كقوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} وقال ابن عباس والفراء: {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} كغوغاء الجراد، يركب بعضها بعضا. كذلك الناس، يجول بعضهم في بعض إذا بعثوا.
5- {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}
أي الصوف الذي ينفش باليد، أي تصير هباء وتزول؛ كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: {هَبَاءً مُنْبَثّاً} وأهل اللغة يقولون: العهن الصوف المصبوغ. وقد مضى في سورة {سَأَلَ سَائِلٌ} .

6- {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} 7- {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}
8- {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} 9- {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}
10- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} 11- {نَارٌ حَامِيَةٌ}
قد تقدم القول في الميزان في "الأعراف والكهف والأنبياء". وأن له كفة ولسانا توزن فيه الصحف المكتوب فيها الحسانات والسيئات. ثم قيل: إنه ميزان واحد بيد جبريل يزن أعمال بني آدم، فعبر عنه بلفظ الجوع. وقيل: موازين، كما قال:
فلكل حادثة لها ميزان
وقد ذكرناه فيما تقدم. وذكرناه أيضا في كتاب "التذكرة" وقيل: إن الموازين الحجج والدلائل، قاله عبدالعزيز بن يحيى، واستشهد بقول الشاعر:
قد كنت قبل لقائكم ذا مرة ... عندي لكل مخاصم ميزانه
{عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي عيش مرضي، يرضاه صاحبه. وقيل: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي فاعلة للرضا، وهو اللين والانقياد لأهلها. فالفعل للعيشة لأنها أعطت الرضا من نفسها، وهو اللين والانقياد. فالعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة، فهي فاعلة للرضا، كالفرش المرفوعة، وارتفاعها مقدار مائة عام، فإذا دنا منها ولي الله أتضعت حتى يستوي عليها، ثم ترتفع كهيئتها، ومثل الشجرة فرعها، كذلك أيضا من الارتفاع، فإذا أشتهى ولي الله ثمرتها تدلت إليه، حتى يتناولها ولي الله قاعدا وقائما، وذلك قوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} وحيثما مشى أو ينتقل من مكان إلى مكان، جرى معه نهر حيث شاء، علوا وسفلا، وذلك قوله تعالى: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} . فيروى في الخبر "إنه يشير بقضيبه فيجري من غير أخدود حيث شاء من قصوره وفي مجالسه".فهذه الأشياء كلها عيشة قد أعطت الرضا من نفسها، فهي

فاعلة للرضا، وهي أنزلت وانقادت بذلا وسماحة. {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} يعني جهنم. وسماها أما، لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه، قاله ابن زيد. ومنه قول أمية بن أبي الصلت: فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد وسميت النار هاوية، لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها. ويروى أن الهاوية اسم الباب الأسفل من النار. وقال قتادة: معنى {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} فمصيره إلى النار. عكرمة: لأنه يهوي فيها على أم رأسه. الأخفش: {أمه}: مستقره، والمعنى متقارب. وقال الشاعر:
يا عمرو لو نالتك أرماحنا ... كنت كمن تهوي به الهاوية
والهاوية: المهواة. وتقول: هوت أمه، فهي هاوية، أي ثاكلة، قال كعب بن سعد الغنوي:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يؤدي الليل حين يؤوب
والمهوي والمهواة: ما بين الجبلين، ونحو ذلك. وتهاوى القوم في المهواة: إذا سقط بعضهم في إثر بعض. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} الأصل "ما هي" فدخلت الهاء للسكت. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وابن محيصن {ما هي نار} بغير هاء في الوصل، ووقفوا بها. وقد مضى في سورة الحاقة بيانه. {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي شديدة الحرارة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم" قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله. قال "فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا، كلها مثل حرها" . وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: إنما ثقل ميزان من ثقل ميزانه، لأنه وضع فيه الحق، وحق لميزان يكون فيه الحق أن يكون ثقيلا. وإنما خف ميزان من خف ميزانه، لأنه وضع فيه الباطل، وحق لميزان يكون فيه الباطل أن يكون خفيفا. وفي الخبر عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الموتى يسألون الرجل يأتيهم عن رجل مات قبله، فيقول ذلك مات قبلي، أما بربكم؟ فيقولون لا والله، فيقول إنا لله وإنا إليه راجحون! ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم، وبئست المربية" . وقد ذكرناه بكماله في كتاب "التذكرة"، والحمد لله.

سورة التكاثر
وهي مكية، في قول جميع المفسرين. وروى البخاري أنها مدنية. وهي ثماني آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر}ُ
2- {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}
فيه خمس مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} {أَلْهَاكُمُ} شغلكم. قال:
فألهيتها عن ذي تمائم مغيل
أي شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله، حتى متم ودفنتم في المقابر. وقيل {أَلْهَاكُمُ} : أنساكم. {التَّكَاثُرُ} أي من الأموال والأولاد، قال ابن عباس والحسن. وقال قتادة: أي التفاخر بالقبائل والعشائر. وقال الضحاك: أي ألهاكم التشاغل بالمعاش والتجارة. يقال: لهيت عن كذا (بالكسر) ألهى لهيا ولهيانا: إذا سلوت عنه، وتركت ذكره، وأضربت عنه. وألهاه: أي شغله. ولهاه به تلهية أي علله. والتكاثر: المكاثرة. قال مقاتل وقتادة وغيرهما: نزلت في اليهود حين قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا. وقال ابن زيد: نزلت في فخذ من الأنصار. وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي: نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني: سهم، تعادوا وتكاثروا بالسادة والأشراف في الإسلام، فقال كل حي منهم نحن أكثر سيدا، وأعز عزيزا، وأعظم نفرا، وأكثر عائذا، فكثر بنو عبد مناف سهما. ثم تكاثروا بالأموات، فكثرتهم سهم، فنزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} بأحيائكم فلم ترضوا

{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} مفتخرين بالأموات. وروى سعيد عن قتادة قال: كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعد من بني فلان؛ وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله مازالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم. وعن عمرو بن دينار: حلف أن هذه السورة نزلت في التجار. وعن شيبان عن قتادة قال: نزلت في أهل الكتاب.
قلت: الآية تعم جميع ما ذكر وغيره. وفي صحيح مسلم عن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت [وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس]" . وروى البخاري عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن لابن آدم واديا من ذهب، لأحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" . قال ثابت عن أنس عن أبي: كنا نرى هذا من القرآن، حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال ابن العربي: وهذا نص صحيح مليح، غاب عن أهل التفسير فجهلوا والحمد لله على المعرفة. وقال ابن عباس: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: "تكاثر الأموال: جمعها من غير حقها، ومنعها من حقها، وشدها في الأوعية" .
الثانية- قوله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي حتى أتاكم الموت، فصرتم في المقابر زوار، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار. يقال لمن مات: قد زار قبره. وقيل: أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات، على ما تقدم. وقيل: هذا وعيد. أي أشغلتم بمفاخرة الدنيا، حتى تزوروا القبور، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله عز وجل. الثالثة- قوله تعالى: {الْمَقَابِرَ} جمع مقبرة ومقبرة (بفتح الباء وضمها). والقبور: جمع القبر قال:

أرى أهل القصور إذا أميتوا ... بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخرا ... على الفقراء حتى في القبور
وقد جاء في الشعر (المقبر) قال:
لكل أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد
وهو المقبري والمقبري: لأبي سعيد المقبري؛ وكان يسكن المقابر. وقبرت الميت أقبره وأقبره قبرا، أي دفنته. وأقبرته أي أمرت بأن يقبر. وقد مضى في سورة "عبس " القول فيه. والحمد لله.
الرابعة- لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة. وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي؛ لأنها تذكر الموت والآخرة. وذلك يحمل على قصر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور، فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة" رواه ابن مسعود؛ أخرجه ابن ماجه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: "فإنها تذكر الموت" . وفي الترمذي عن بريدة: "فإنها تذكر الآخرة" . قال: هذا حديث حسن صحيح. وفيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور. قال: وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت. قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح. وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور؛ فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء. وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن.
قلت: زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء، مختلف فيه للنساء. أما الشواب فحرام عليهن الخروج، وأما القواعد فمباح لهن ذلك. وجائز لجميعهن. ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال؛ ولا يختلف في هذا إن شاء الله. وعلى هذا المعنى يكون قوله: "زوروا القبور" عاما. وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء، فلا يحل ولا يجوز.

فبينا الرجل يخرج ليعتبر، فيقع بصره على امرأة فيفتتن، وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزورا غير مأجور. والله أعلم.
الخامسة- قال العلماء: ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه، أن يكثر من ذكر هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وموتم البنين والبنات، ويواظب على مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين. فهذه ثلاثة أمور، ينبغي لمن قسا قلبه، ولزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه؛ فإن أنتفع بالإكثار من ذكر الموت، وأنجلت به قساوة قلبه فذاك، وإن عظم عليه ران قلبه، واستحكمت فيه دواعي الذنب؛ فإن مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول؛ لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير. وفي مشاهدة من أحتضر، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة؛ فلذلك كان أبل من الأول؛ قال صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة" رواه ابن عباس. فأما الاعتبار بحال المحتضرين، فغير ممكن في كل الأوقات، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات. وأما زيارة القبور فوجودها أسرع، والانتفاع بها أليق وأجدر. فينبغي لمن عزم على الزيارة، أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها التطواف على الأحداث فقط؛ فإن هذه حاله تشاركه فيها بهيمة. ونعوذ بالله من ذلك. بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه، أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب المشي على المقابر، والجلوس عليها ويسلم إذا دخل المقابر وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضا، وأتاه من تلقاء وجهه، لأنه في زيارته كمخاطبته حيا، ولو خاطبه حيا لكان الأدب استقباله بوجهه؛ فكذلك ها هنا. ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر؛ فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه. فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه، ودرج من

قرانه الذين بلغوا الآمال، وجمعوا الأموال؛ كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، واقتسم غيرهم طريفهم وتلادهم. وليتذكر ترددهم في المآرب، وحرصهم على نيل المطالب، وانخداعهم لمواتاة الأسباب، وركونهم إلى الصحة والشباب. وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع، والهلاك السريع، كغفلتهم، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم، وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه، وكيف تهدمت رجلاه. وكان يتلذذ بالنظر إلى ما خوله وقد سالت عيناه، ويصول ببلاغة نطقه وقد أكل الدود لسانه، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه، وليتحقق أن حاله كحاله، ومآله كمآله. وعند هذا التذكر والاعتبار تزول عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمال الأخروية، فيزهد في دنياه، ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه، وتخشع جوارحه.
3- {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}
4- {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى: {كَلَّا} قال الفراء: أي ليس الأمر على ما أنتم عليه من التفاخر والتكاثر والتمام على هذا {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي سوف تعلمون عاقبة هذا "ثم كلا سوف تعلمون": وعيد بعد وعيد؛ قاله مجاهد. ويحتمل أن يكون تكراره على وجه التأكيد والتغليظ؛ وهو قول الفراء. وقال ابن عباس: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما ينزل بكم من العذاب في القبر. {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} : وعيد بعد الآخرة إذا حل بكم العذاب. فالأول في القبر، والثاني في الآخرة؛ فالتكرار للحالتين. وقيل {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} عند المعاينة، أن ما دعوتكم إليه حق. {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} : عند البعث أن ما وعدتكم به صدق. وروى زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه، قاله: كنا نشك في عذاب القبر، حتى نزلت هذه السورة، فأشار إلى أن قوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني في القبور. وقيل: {كَلَّا سَوْفَ

تَعْلَمُونَ} ؛ إذا نزل بكم الموت، وجاءتكم رسل لتنزع أرواحكم. {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} : إذا دخلتم قبوركم، وجاءكم منكر ونكير، وحاط بكم هول السؤال، وانقطع منكم الجواب.
قلت: فتضمنت السورة القول في عذاب القبر. وقد ذكرنا في كتاب "التذكرة" أن الإيمان به واجب، والتصديق به لازم؛ حسبما أخبر به الصادق، وأن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره، برد الحياة إليه، ويجعل له من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه؛ ليعقل ما يسأل عنه، وما يجيب به، ويفهم ما أتاه من ربه، وما أعد له في قبره، من كرامة وهوان. وهذا هو مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أهل الملة. وقد ذكرناه هناك مستوفى، والحمد لله، وقيل: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} عند النشور أنكم مبعوثون {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} في القيامة أنكم معذبون. وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة من بعث وحشر، وسؤال وعرض، إلى غير ذلك من أهوالها وأفزاعها؛ حسب ما ذكرناه في كتاب "التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة". وقال الضحاك: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني الكفار، {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} : قال المؤمنون. وكذلك كان يقرؤها، الأولى بالتاء والثانية بالياء.
5- {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}
قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أعاد {كَلَّا} وهو زجر وتنبيه، لأنه عقب كل واحد بشيء آخر؛ كأنه قال: لا تفعلوا، فإنكم تندمون، لا تفعلوا، فإنكم تستوجبون العقاب. وإضافة العلم إلى اليقين، كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} . وقيل: اليقين ها هنا: الموت؛ قاله قتادة. وعنه أيضا: البعث؛ لأنه إذا جاء زال الشك، أي لو تعلمون علم البعث وجواب {لو} محذوف؛ أي لو تعلمون اليوم من البعث ما تعلمونه إذا جاءتكم نفخة الصور، وأنشقت اللحود عن جثثكم، كيف يكون حشركم؟ لشغلكم ذاك عن التكاثر بالدنيا. وقيل: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أي لو قد تطايرت الصحف، فشقي وسعيد.

وقيل: إن {كَلَّا} في هذه المواضع الثلاثة بمعنى "ألا" قاله ابن أبي حاتم، وقال الفراء: هي بمعنى "حقا" وقد تقدم الكلام فيها مستوفى.
6- {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}
7- {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}
قوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} هذا وعيد آخر. وهو على إضمار القسم؛ أي لترون الجحيم في الآخرة. والخطاب للكفار الذين وجبت لهم النار. وقيل: هو عام؛ كما قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فهيئ للكفار دار، وللمؤمنين ممر. وفي الصحيح: "فيمر أولهم كالبرق، ثم كالريح، ثم كالطير..." الحديث. وقد مضى في سورة "مريم". وقرأ الكسائي وابن عامر {لترون} بضم التاء، من رأيته الشيء؛ أي تحشرون إليها فترونها. وعلى فتح التاء، هي قراءة الجماعة؛ أي لترون الجحيم بأبصاركم على البعد. {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} أي مشاهدة. وقيل: هو إخبار عن دوام مقامهم في النار؛ أي هي رؤية دائمة متصلة. والخطاب على هذا للكفار. وقيل: معنى {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أي لو تعلمون اليوم في الدنيا، علم اليقين فيما أمامكم، مما وصفت: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} بعيون قلوبكم؛ فإن علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك؛ وهو أن تتصور لك تارات القيامة، وقطع مسافاتها. {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} : أي عند المعاينة بعين الرأس، فتراها يقينا، لا تغيب عن عينك. {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} : في موقف السؤال والعرض.
8- {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}
قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر؛ فقال: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة" ؟ قالا: الجوع يا رسول الله. قال: "وأنا

والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما؛ قوما" فقاما معه؛ فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين فلان" ؟ قالت: يستعذب لنا من الماء؛ إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبيه، ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضافيا مني. قال: فانطلق، فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه. وأخذ المدية فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياك والحلوب" فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا؛ فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم، يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم" . خرجه الترمذي، وقال [فيه]: "هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة: ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد" وكنى الرجل الذي من الأنصار، فقال: أبو الهيثم ابن التيهان. وذكر قصته.
قلت: اسم هذا الرجل الأنصاري مالك بن التيهان، ويكنى أبا الهيثم. وفي هذه القصة يقول عبدالرحمن رواحة، يمدح بها أبا الهيثم بن التيهان:
فلم أر كالإسلام عزا لأمة ... ولا مثل أضياف الإراشي معشرا
نبي وصديق وفاروق أمة ... وخير بني حواء فرعا وعنصرا
فوافوا لميقات وقدر قضية ... وكان قضاء الله قدرا مقدرا
إلى رجل نجد يباري بجوده ... شموس الضحى جودا ومجدا ومفخرا
وفارس خلق الله في كل غارة ... إذا لبس القوم الحديد المسمرا
ففدى وحيا ثم أدنى قراهم ... فلم يقرهم إلا سمينا متمرا

وقد ذكر أبو نَعَم الحافظ، عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فخرجت إليه، ثم مر بأبي بكر فدعاه، فخرج إليه، ثم مر بعمر فدعاه، فخرج إليه، فانطلق حتى دخل حائطا لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: "أطعمنا بسرا" فجاء بعذق، فوضعه فأكلوا، ثم دعا بماء فشرب، فقال: "لتسألن عن هذا يوم القيامة" قال: وأخذ عمر العذق، فضرب به الأرض حتى تناثر البسر نحو وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟ قال: "نعم إلا من ثلاث: كسرة يسد بها جوعته، أو ثوب يستر به عورته، أو حجر يأوي فيه من الحر والقر" . واختلف أهل التأويل في النعيم المسؤول عنه على عشرة أقوال:
أحدها: الأمن والصحة؛ قاله ابن مسعود. الثاني: الصحة والفراغ؛ قاله سعيد بن جبير. وفي البخاري عنه عليه السلام: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" . الثالث: الإدراك بحواس السمع والبصر؛ قاله ابن عباس. وفي التنزيل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} وفي الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتي بالعبد يوم القيامة، فيقول له: ألم أجعل لك سمعا وبصرا، ومالا وولدا... " ، الحديث. خرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح. الرابع: ملاذ المأكول والمشروب قاله جابر بن عبدالله الأنصاري. وحديث أبي هريرة يدل عليه. الخامس: أنه الغداء والعشاء؛ قال الحسن. السادس: قول مكحول الشامي: أنه شبع البطون وبارد الشراب،وظلال المساكن، واعتدال الخلق؛ ولذة النوم. ورواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} يعني عن شبع البطون" . فذكره. ذكره الماوردي،وقال: وهذا السؤال يعم الكافر والمؤمن، إلا أن سؤال المؤمن

تبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. وسؤال الكافر تقريع أن قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية. وقال قوم: هذا السؤال عن كل نعمة، إنما يكون في حق الكفار، فقد روي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان، من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب، وماء عذب، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه؟ فقال عليه السلام: "ذلك للكفار؛ثم قرأ: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} " ذكره القشيري أبو نصر. وقال الحسن لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. وقال القشيري: والجمع بين الأخبار: أن الكل يسألون، ولكن سؤال الكفار توبيخ، لأنه قد ترك الشكر. وسؤال المؤمن سؤال تشريف، لأنه شكر. هذا النعيم في كل نعمة.
قلت: هذا القول حسن، لأن اللفظ يعم. وقد ذكر الفريابي قال: حدثنا ورقاء ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال: كل شيء من لذة الدنيا. وروى أبو الأحوص عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى ليعدد نعمه على العبد يوم القيامة، حتى يعد عليه: سألتني فلانة أن أزوجكها، فيسميها باسمها، فزوجتكها" . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال الناس: يا رسول الله، عن أي النعيم نسأل؟ فإنما هما الأسودان والعدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا. قال: "إن ذلك سيكون" . وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة - يعني العبد - أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد" قال: حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده، فيوقفه بين يديه، فيسأله عن جاهه كما يسأل عن ماله" . والجاه من نعيم الدنيا لا محالة. وقال مالك رحمه الله: إنه صحة البدن، وطيب النفس. وهو القول السابع. وقيل: النوم مع الأمن والعافية. وقال سفيان بن عيينة: إن ما سد الجوع وستر العورة من خشن الطعام واللباس، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة، وإنما يسأل عن النعيم. قال: والدليل عليه أن الله تعالى أسكن آدم الجنة. فقال له: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى

وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} . فكانت هذه الأشياء الأربعة - ما يسد به الجوع، وما يدفع به العطش، وما يستكن فيه من الحر، ويستر به عورته - لآدم عليه السلام بالإطلاق، لا حساب عليه فيها، لأنه لابد له منها.
قلت: ونحو هذا ذكره القشيري أبو نصر، قال: إن مما لا يسأل عنه العبد لباسا يواري سوأته، وطعاما يقيم صلبه، ومكانا يكنه من الحر والبرد.
قلت: وهذا منتزع من قول عليه السلام: "ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء" خرجه الترمذي. وقال النضر بن شميل: جلف الخبز: ليس معه إدام. وقال محمد بن كعب: النعيم: هو ما أنعم الله علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وفي التنزيل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . وقال الحسن أيضا والمفضل: هو تخفيف الشرائع، وتيسير القرآن، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
قلت: وكل هذه نعم، فيسأل العبد عنها: هل شكر ذلك أم كفر. والأقوال المتقدمة أظهر. والله أعلم.
سورة العصروهي مكية. وقال قتادة مدنية؛ وروي عن ابن عباس. وهي ثلاث آيات.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيم
1- {وَالْعَصْرِ}
فيه مسألتان:
ا لأولى- قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} أي الدهر؛ قاله ابن عباس وغيره. فالعصر مثل الدهر؛ ومنه قول الشاعر:
سبيل الهوى وعر وبحر الهوى غمر ... ويوم الهوى شهر وشهر الهوى دهر

أي عصر أقسم الله به عز وجل؛ لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع. وقيل: العصر: الليل والنهار. قال حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران: يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
والعصران أيضا: الغداة والعشي. قال:
وأمطله العصرين حتى يملني ... ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
يقول: إذا جاءني أول النهار ووعدته آخره. وقيل: إنه العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها؛ قاله الحسن وقتادة. ومنه قول الشاعر:
تروح بنا يا عمر قد قصر العصر ... وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر
وعن قتادة أيضا: هو آخر ساعة من ساعات النهار. وقيل: هو قسم بصلاة العصر، وهي الوسطى؛ لأنها أفضل الصلوات؛ قال مقاتل. يقال: أذن للعصر، أي لصلاة العصر. وصليت العصر؛ أي صلاة العصر. وفي الخبر الصحيح "الصلاة الوسطى صلاة العصر" . وقد مضى في سورة "البقرة" بيانه. وقيل: هو قسم بعصر النبي صلى الله عليه وسلم، لفضله بتجديد النبوة فيه. وقيل: معناه ورب العصر.
الثانية- قال مالك: من حلف ألا يكلم رجلا عصرا: لم يكلمه سنة. قال ابن العربي: إنما حمل مالك يمين الحالف ألا يكلم امرأ عصرا على السنة؛ لأنه أكثر ما قيل فيه، وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الأيمان. وقال الشافعي: يبر بساعة؛ إلا أن تكون له نية، وبه أقول؛ إلا أن يكون الحالف عربيا، فيقال له: ما أودت؟ فإذا فسره بما يحتمله قبل منه، إلا أن يكون الأقل، ويجيء على مذهب مالك أن يحمل على ما يفسر. والله أعلم.
2- {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}
هذا جواب القسم. والمراد به الكافر؛قاله ابن عباس في رواية أبي صالح. وروى الضحاك عنه قال: يريد جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود

ابن عبدالمطلب بن أسد بن عبد العزى، والأسود بن عبد يغوث. وقيل: يعني بالإنسان جنس الناس. {لَفِي خُسْرٍ} لفي غبن. وقال الأخفش: هلكة. الفراء: عقوبة؛ ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} . ابن زيد: لفي شر. وقيل: لفي نقص؛ المعنى متقارب. وروي عن سلام {والعصر} بكسر الصاد. وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى الثقفي {خسر} بضم السين. وروى ذلك هارون عن أبي بكر عن عاصم. والوجه فيهما الإتباع. ويقال: خسر وخسر؛ مثل عسر وعسر. وكان علي يقرؤها {والعصر ونوائب الدهر، إن الإنسان لفي خسر. وإنه فيه إلى آخر الدهر}. وقال إبراهيم: إن الإنسان إذا عمر في الدنيا وهرم، لفي نقصى وضعف تراجع؛ إلا المؤمنين، فإنهم تكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم؛ نظيره قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} . قال: وقراءتنا "والعصر إن الإنسان لفي خسر، وإنه في آخر الدهر". والصحيح ما عليه الأمة والمصاحف. وقد مضى الرد في مقدمة الكتاب على من خالف مصحف عثمان، وأن ذلك ليس بقرآن يتلى؛ فتأمله هناك.
3- {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} استئناء من الإنسان؛ إذ هو بمعنى الناس على الصحيح. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي أدوا الفرائض المفترضة عليهم؛ وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبي بن كعب: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالْعَصْرِ} ما تفسيرها يا نبي الله؟ قال: " {وَالْعَصْرِ} قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} : أبو جهل {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} : أبو بكر، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} عمر. {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} عثمان {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} علي" . رضي الله عنهم أجمعين. وهكذا خطب

ابن عباس على المنبر موقوفا عليه.ومعنى {وَتَوَاصَوْا} أي تحابوا؛ أوصى بعضهم بعضا وحث بعضهم بعضا. {بِالْحَقِّ} أي بالتوحيد؛ كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال قتادة: {بِالْحَقِّ} أي القرآن. وقال السدي: الحق هنا هو الله عز وجل. {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} على طاعة الله عز وجل، والصبر عن معاصيه. وقد تقدم. والله أعلم.
سورة الهمزةمكية بإجماع. وهي تسع آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}
قد تقدم القول في "الويل" في غير موضع، ومعناه الخزي والعذاب والهلكة. وقيل: واد في جهنم. {لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} قال ابن عباس: هم المشّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب؛ فعلى هذا هما بمعنى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شرار عباد الله تعالى المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب" . وعن ابن عباس أن الهمزة: الذي يغتاب اللمزة: العياب. وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح: الهمزة: الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة: الذي يغتابه من خلفه إذا غاب؛ ومنه قول حسان:
همزتك فاختضعت بذل نفس ... بقافية تأجج كالشواظ

واختار هذا القول النحاس، قال: ومنه قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} وقال مقاتل ضد هذا الكلام: إن الهمزة: الذي يغتاب بالغيبة، واللمزة: الذي يغتاب في الوجه. وقال قتادة ومجاهد: الهمزة: الطعان في الناس، واللمزة: الطعان في أنسابهم. وقال ابن زيد الهامز: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة: الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال سفيان الثوري يهمز بلسانه، ويلمز بعينيه. وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه. وقال مرة: هما سواء؛ وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. وقال زياد الأعجم:
تدلي بودي إذا لاقيتني كذبا ... وإن أغيب فأنت الهامز اللمزة
وقال آخر:
إذا لقيتك عن سخط تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة
الشحط: البعد. والهمزة: اسم وضع للمبالغة في هذا المعنى؛ كما يقال: سخرة وضحكة: للذي يسخر ويضحك بالناس. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي والأعرج {همْزة لمْزة} بسكون الميم فيهما. فإن صح ذلك عنهما، فهي معنى المفعول، وهو الذي يتعرض للناس حتى يهمزوه ويضحكوا منه، ويحملهم على الاغتياب. وقرأ عبدالله بن مسعود وأبو وائل والنخعي والأعمش: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} وأصل الهمز: الكسر، والعض على الشيء بعنف؛ ومنه همز الحرف. ويقال: همزت رأسه. وهمزت الجوز يكفي كسرته. وقيل لأعرابي: أتهمزون (الفارة)؟ فقال: إنما تهمزها الهرة. الذي في الصحاح: وقيل لأعرابي أتهمز الفارة؟ فقال السنور يهمزها. والأول قاله الثعلبي، وهو يدل على أن الهر يسمى الهمزة. قال العجاج:
ومن همزنا رأسه تهشما
وقيل: أصل الهمز واللمز: الدفع والضرب. لمزه يلمزا: إذا ضربه ودفعه. وكذلك همزه: أي دفعه وضربه. قال الراجز:
ومن همزنا عزه تبركعا ... على أسته زوبعة أو زوبعا

البركعة: القيام على أربع. وبركعه فتبركع؛ أي صرعه فوقع على أسته؛ قاله في الصحاح. والآية نزلت في الأخنس بن شريق، فيما روى الضحاك عن ابن عباس. وكان يلمز الناس ويعيبهم: مقبلين ومدبرين. وقال ابن جريج: في الوليد بن المغيرة، وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويقدح فيه في وجهه. وقيل: نزلت في أبي بن خلف. وقيل: في جميل بن عامر الثقفي. وقيل: إنها مرسلة على العموم من غير تخصيص؛ وهو قول الأكثرين. قال مجاهد: ليست بخاصة لأحد، بل لكل من كانت هذه صفته. وقال الفراء: بجوز أن يذكر الشيء العام ويقصد به الخاص، قصد الواحد إذا قال: لا أزورك أبدا. فتقول: من لم يزرني فلست بزائره؛ يعني ذلك القائل.
2- {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ}
أي أعده - زعم - لنوائب الدهر؛ مثل كرم وأكرم. وقيل: أحصى عدده؛ قال السدي. وقال الضحاك: أي أعد مال لمن يرثه من أولاده. وقيل: أي فاخر بعدده وكثرته. والمقصود الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة. كما قال: "مناع للخير" [ق: 25]، وقال: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} . وقراءة الجماعة {وَجَمَعَ} مخفف الميم. وشددها ابن عامر وحمزة والكسائي على التكثير. واختاره أبو عبيد؛ لقوله: {وَعَدَّدَهُ} . وقرأ الحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية {جمع} مخففا، {وعدده} مخففا أيضا؛ فأظهروا التضعيف، لأن أصله عده وهو بعيد؛ لأنه وقع في المصحف بدالين. وقد جاء مثله في الشعر؛ لما أبرزوا التضعيف خففوه. قال:
مهلا أمامة قد جريت من خلقي ... إني أجود لأقوام وإن ضَنِنوا

أراد: ضنوا وبخلوا، فأظهر التضعيف؛ لكن الشعر موضع ضرورة. قال المهدوي: من خفف {وَعَدَّدَهُ} فهو معطوف على المال؛ أي وجمع عدده فلا يكون فعلا على إظهار التضعيف؛ لأن ذلك لا يستعمل إلا في الشعر.
3- {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}
4- {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}
5- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ}
6- {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}
7- {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ}
قوله تعالى: {يَحْسَبُ} أي يظن {أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أي يبقيه حيا لا يموت؛ قاله السدي. وقال عكرمة: أي يزيد في عمره. وقيل: أحياه فيما مضى، وهو ماض بمعنى المستقبل. يقال: هلك والله فلان ودخل النار؛ أي يدخل. {كَلَّا} رد لما توهمه الكافر؛ أي لا يخلد ولا يبقى له مال. وقد مضى القول في {كَلَّا} مستوفى. وقال عمر بن عبدالله مولى غفرة: إذا سمعت الله عز وجل يقول {كَلَّا} فإنه يقول كذبت. {لَيُنْبَذَنَّ} أي ليطرحن وليلقين. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن: لينبذان بالتثنية، أي هو وماله. وعن الحسن أيضا {لينبذنه} على معنى لينبذن ما له. وعنه أيضا بالنون {لينبذنه} على إخبار الله تعالى عن نفسه، وأنه ينبذ صاحب المال. وعنه أيضا {لينبذن} بضم الذال؛ على أن المراد الهمزة واللمزة والمال وجامعه.
قوله تعالى: {فِي الْحُطَمَةِ} وهي نار الله؛ سميت بذلك لأنها تكسر كل ما يلقي فيها وتحطمه وتهشمه. قال الراجز:
إنا حطمنا بالقضيب مصعبا ... يوم كسرنا أنفه ليغضبنا
وهي الطبقة السادسة من طبقات جهنم. حكاه الماوردي عن الكلبي. وحكى القشيري عنه: {الْحُطَمَةِ} الدركة الثانية من درك النار. وقال الضحاك: وهي الدرك الرابع. ابن زيد: اسم من أسماء جهنم.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} على التعظيم لشأنها، والتفخيم لأمرها.

ثم فسرها ما هي فقال: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} أي التي أوقد عليها ألف عام، وألف عام، وألف عام؛ فهي غير خامدة؛ أعدها الله للعصاة. {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} قال محمد بن كعب: تأكل النار جميع ما في أجسادهم، حتى إذا بلغت إلى الفؤاد، خلقوا خلقا جديدا، فرجعت تأكلهم. وكذا روى خالد بن أبي عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن النار تأكل أهلها، حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إذا صدروا تعود، فذلك قوله تعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ.الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} " . وخص الأفئدة لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه. أي إنه في حال من يموت وهم لا يموتون؛ كما قال الله تعالى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} فهم إذاً أحياء في معنى الأموات. وقيل: معنى {تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} أي تعلم مقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب؛ وذلك بما استبقاه الله تعالى من الأمارة الدالة عليه. ويقال: أطلع فلان على كذا: أي علمه. وقد قال الله تعالى: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} . وقال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} فوصفها بهذا، فلا يبعد أن توصف بالعلم.
8- {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ}
9- {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}
أي مطبقة؛ قال الحسن والضحاك. وقد تقدم في سورة "البلد" القول فيه. وقيل: مغلقة؛ بلغة قريش. يقولون: آصدت الباب إذا أغلقته؛ قال مجاهد. ومنه قول عبيدالله بن قيس الرقيات:
إن في القصر لو دخلنا غزالا ... مصفقا موصدا عليه الحجاب
{فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} الفاء بمعنى الباء؛ أي موصدة بعمد بعمد ممددة؛ قاله ابن مسعود. وهي في قراءته {بعمد ممددة} في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ثم إن الله يبعث إليهم

ملائكة بأطباق من نار، ومسامير من نار وعمد من نار، فتطبق عليهم بتلك الأطباق، وتشد عليهم بتلك المسامير، وتمد بتلك العبد، فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح، ولا يخرج منه غم، وينساهم الرحمن على عرشه، ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم، ولا يستغيثون بعدها أبدا، وينقطع الكلام، فيكون كلامهم زفيرا وشهيقا؛ فذلك قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} " وقال قتادة: {عَمَدٍ} يعذبون بها. واختاره الطبري. وقال ابن عباس: إن العمد الممددة أغلال في أعناقهم. وقيل: قيود في أرجلهم؛ قاله أبو صالح. وقال القشيري: والمعظم على أن العمد أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. وتشد تلك الأطباق بالأوتاد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا يدخل عليهم روح. وقيل: أبواب النار مطبقة عليهم وهم في عمد؛ أي في سلاسل وأغلال مطولة، وهي أحكم وأرسخ من القصيرة. وقيل: هم في عمد ممددة؛ أي في عذابها وآلامها يضربون بها. وقيل: المعنى في دهر ممدود؛ أي لا انقطاع له. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {في عمد} بضم العين والميم: جمع عمود. وكذلك {عَمَدٍ} أيضا. قال الفراء: والعمد: جمعان صحيحان لعمود؛ مثل أديم أدم وأدم، وأفيق وأفق وأفق. أبو عبيدة: عمد: جمع عماد؛ مثل إهاب. واختار أبو عبيد {عَمَدٍ} بفتحتين. وكذلك أبو حاتم؛ أعتبارا بقوله تعالى: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وأجمعوا على فتحها. قال الجوهري: العمود: عمود البيت، وجمع القلة: أعمدة، وجمع الكثرة عمد، وعمد؛ وقرئ بهما قوله تعالى: {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} وقال أبو عبيدة: العمود، كل مستطيل من خشب أو حديد، وهو أصل للبناء مثل العماد. عمدت الشيء فانعمد؛ أي أقمته بعماد يعتمد عليه. وأعمدته جعلت تحته عمدا. والله أعلم.

سورة الفيل
وهي مكية بإجماع. وهي خمس آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}
فيه خمس مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} أي ألم تخبر. وقيل: ألم تخبر. وقيل ألم تعلم. وقال ابن عباس: ألم تسمع؟ واللفظ استفهام، والمعنى تقرير. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه عام؛ أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؛ أي قد رأيتم ذلك، وعرفتم موضع مِنَتِي عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟ و {كَيْفَ} في موضع نصب بـ {فَعَلَ رَبُّكَ} لا بـ {كَيْفَ فَعَلَ} في معنى الاستفهام.
الثانية- قوله تعالى: {بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} الفيل معروف، والجمع أفيال: وفيول، وفيلة. قال ابن السكيت: ولا تقل أفيلة. والأنثى فيلة وصاحبه فيال. قال سيبوبه: يجوز أن يكون أصل فيل فُعلاً، فكسر من أجل الياء؛ كما قالوا: أبيض وبيض. وقال الأخفش: هذا لا يكون في الواحد، إنما يكون في الجمع. ورجل فيل الرأي، أي ضعيف الرأي. والجمع أفيال. ورجل فال؛ أي ضعيف الرأي، مخطئ الفراسة. وقد فال الرأي يفيل فيولة، وفيل رأيه تفييلا: أي ضعفه، فهو فيل الرأي.
الثالثة- في قصة أصحاب الفيل؛ وذلك أن (أبرهة) بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكان نصرانيا، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب

فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة، فخرج حتى أتى الكنيسة، فقعد فيها - أي أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه؛ فأخبر بذلك أبرهة، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت، الذي تحج إليه العرب بمكة، لما سمع قولك: (أصرف إليها حج العرب) غضب، فجاء فقعد فيها. أي أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، وبعث رجلا كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة؛ فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل؛ فزاد أبرهة ذلك غضبا وحنقا، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل؛ وسمعت بذلك العرب، فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه؛ فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا؛ فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي؛ فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلا حليما. ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم: شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب؛ فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرا؛ فأتي به، فلما هم بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم: شهران وناهس، بالسمع والطاعة؛ فخلى سبيله. وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف، فقالوا له: أيها الملك، إنما نحن عبيدك؛ سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة،

نحن نبعث معك من يدلك عليه؛ فتجاوز عنهم. وبعثوا معه أبا رغال، حتى أنزله المغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فرجمت قبره العرب؛ فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس، وفيه يقول الشاعر:
وارجم قبره في كل عام ... كرجم الناس قبر أبي رغال
فلما نزل أبرهة بالمغمس، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها ماتتي بعير لعبدالمطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها؛ فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله؛ ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لي بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم؛ فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها؛ فقيل له: عبدالمطلب بن هاشم؛ فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة؛ فقال له عبدالمطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك منه طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، أو كما قال، فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته، وإن يحل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة: فانطلق إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك؛ فانطلق معه عبدالمطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر؛ فسأل عن ذي نفر، وكان صديقا له، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر؛ وما غناء رجل أسير بيدي ملك، ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي، فسأرسل إليه، وأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك؛ فقال حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس، فقال له:

إن عبدالمطلب سيد قريش، وصاحب عين مكة، ويطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت؛ فقال: أفعل. فكلم أنيس أبرهة، فقال له: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك، يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال؛ فأذن له عليك، فيكلمك في حاجته. قال: فأذن له أبرهة.
وكان عبدالمطلب أوسم الناس، وأعظمهم وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجله، وأعظمه عن أن يجلسه تحته؛ فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه. ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان، فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه؟ لا تكلمني فيه. قال له عبدالمطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني قال أنت وذاك. فرد عليه إبله. وانصرف عبدالمطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب، تخوفا عليهم معرة الجيش. ثم قام عبدالمطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبدالمطلب وهو أخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن العبد يمـ ... ـنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك
إن يدخلوا البلد الحرا ... م فأمر ما بدا لك

يقول: أي: شيء ما بدا لك، لم تكن تفعله بنا. والحلال: جمع حل. والمحال: القوة وقيل: إن عبدالمطلب لما أخذ بحلقة باب الكعبة قال:
يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا ... إنهم لن يقهروا قواكا
وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي:
لا هم أخز الأسودين مقصود ... الأخذ الهجمة فيها التقليد
بين حراء وثبير فالبيد ... يحبسها وهي أولات التطريد
فضمها إلى طماطم سود ... قد أجمعوا ألا يكون معبود
ويهدموا البيت الحرام المعمود ... والمروتين والمشاعر السود
أخفره يا رب وأنت محمود
قال ابن إسحاق: ثم أرسل عبدالمطلب حلقة باب الكعبة، ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودا، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب، حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال له: ابرك محمود، وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل. وخرج نفيل بن حبيب يشتد، حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى؛ فأدخلوا

محاجن لهم في مراقه، فبزغوه بها ليقوم، فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله عليهم طيرا من البحر، أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك؛ وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاؤوا منها، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن. فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمه:
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال أيضا:
حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيل ... كأن علي للحبشان دينا
فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك على كل سهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث قيحا ودما؛ حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى أنصدع صدره عن قلبه؛ فيما يزعمون.
وقال الكلبي ومقاتل بن سليمان - يزيد أحدهما وينقص -: سبب الفيل ما روي أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى، تسميها النصاري الهيكل، فأوقدوا نارا لطعامهم وتركوها وارتحلوا؛ فهبت ريح عاصف على النار فأضرمت البيعة نارا، فاحترقت، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره،

فاستشاط غضبا. فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وأبو يكسوم الكنديون؛ وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة. وكان النجاشي هو الملك، وأبرهة صاحب الجيش، وأبو يكسوم نديم الملك، وقيل وزير، وحجر بن شرحبيل من قواده، وقال مجاهد: أبو يكسوم هو أبرهة بن الصباح. فساروا ومعهم الفيل. قال الأكثرون: هو فيل واحد. وقال الضحاك: هي ثمانية فيلة. ونزلوا بذي المجاز، واستاقوا سرح مكة، وفيها إبل عبدالمطلب. وأتى الراعي نذيرا، فصعد الصفا، فصاح: واصباحاه ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل. فخرج عبدالمطلب، وتوجه إلى أبرهة، وسأله في إبله. واختلف في النجاشي، هل كان معهم؛ فقال قوم كان معهم. وقال الأكثرون: لم يكن معهم. ونظر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر؛ فقال عبدالمطلب: (إن هذه الطير غريبة بأرضنا، وما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية) وإنها أشباه اليعاسيب. وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة؛ فلما أطلت على القوم ألقتها عليهم، حتى هلكوا. قال عطاء بن أبي رباح: جاءت الطير عشية؛ فباتت ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم. وقال الكلبي: في مناقيرها حصى كحصى الخذف، أمام كل فرقة طائر يقودها، أحمر المنقار، أسود الرأس، طويل العنق. فلما جاءت عسكر القوم وتوافت، أهالت ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه المقتول به. وقيل: كان كل حجر مكتوب: من أطاع الله نجا، ومن عصاه غوى. ثم انصاعت راجعة من حيث جاءت. وقال العوفي: سألت عنها أبا سعيد الخدري، فقال: حمام مكة منها. وقيل: كان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها، ويقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابة. ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه. وكان أصحاب الفيل ستين ألفا، لم يرجع منهم أحد إلا أميرهم، رجع ومعه شرذمة لطيفة. فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. وقال الواقدي: أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرهة هو الأشرم، سمي بذلك لأنه تفاتن مع أرياط، حتى تزاحفا،

ثم اتفقا على أن يلتقيا بشخصيهما، فمن غلب فله الأمر. فتبارزا - وكان أرياط جسيما عظيما، في يده حربة، وأبرهة قصيرا حادرا ذا دين في النصرانية، ومع أبرهة وزير له يقال له عتودة - فلما دنوا ضرب أرياط بحربته رأس أبرهة، فوقعت على جبينه، فشرمت عينه وأنفه وجبينه وشفته؛ فلذلك سمي الأشرم. وحمل عتودة على أرياط فقتله. فاجتمعت الحبشة لأبرهة؛ فغضب النجاشي، وحلف ليحزن ناصية أبرهة، ويطأن بلاده. فجز أبرهة ناصيته وملأ مزودا من تراب أرضه، وبعث بهما إلى النجاشي، وقال: إنما كان عبدك، وأنا عبدك، وأنا أقوم بأمر الحبشة، وقد جززت ناصيتي، وبعثت إليك بتراب أرضي، لتطأه وتبر في يمينك؛ فرضي عنه النجاشي. ثم بنى أبرهة كنيسة بصنعاء، ليصرف إليها حج العرب؛ على ما تقدم.
الرابعة- قال مقاتل: كان عام الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه بأربعين سنة. وقال الكلبي وعبيد بن عمير: كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة. والصحيح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ولدت عام الفيل" . وروي عنه أنه قال: "يوم الفيل" . حكاه الماوردي في التفسير له. وقال في كتاب أعلام النبوة: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وكان بعد الفيل بخمسين يوما. ووافق من شهور الروم العشرين من أسباط، في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان. قال: وحكى أبو جعفر الطبري أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان. وقد قيل: إنه عليه السلام حملت به أمه آمنة في يوم عاشوراء من المحرم، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان؛ فكانت مدة حمله ثمانية أشهر كملا ويومين من التاسع. وقيل: إنه ولد يوم عاشوراء من شهر المحرم؛ حكاه ابن شاهين أبو حفص، في فضائل يوم عاشوراء له. ابن العربي: قال ابن وهب عن مالك: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وقال قيس بن مخرمة: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل. وقد روى الناس عن مالك أنه قال:

من مروءة الرجل ألا يخبر بسنه؛ لأنه إن كان صغيرا استحقروه وإن كان كبيرا استهرموه. وهذا قول ضعيف؛ لأن مالكا لا يخبر بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتم سنه؛ وهو من أعظم العلماء قدوة به. فلا بأس بأن يخبر الرجل بسنه كان كبيرا أو صغيرا. وقال عبدالملك بن مروان لعتاب بن أسيد: أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم أكبر منه، وأنا أسن منه؛ ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، وقيل لبعض القضاة: كم سنك؟ قال: سن عتاب بن أسيد حين ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وكان سنه يومئذ دون العشرين.
الخامسة- قال علماؤنا: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله وقبل التحدي؛ لأنها كانت توكيدا لأمره، وتمهيدا لشأنه. ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة، كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة؛ ولهذا قال: {أَلَمْ تَرَ} ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكففان الناس. وقالت عائشة رضي الله عنها مع حداثة سنها: لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس. وقال أبو صالح: رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة، سودا مخططة بحمرة.
2- {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}
قوله تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} أي في إبطال وتضييع؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشا بالقتل والسبي، والبيت بالتخريب والهدم. فحكي عن عبدالمطلب أنه بعث ابنه عبدالله على فرس له، ينظر ما لقوا من تلك الطير، فإذا القوم مشدخين جميعا، فرجع يركض فرسه، كاشفا عن فخذه، فلما رأى ذلك أبوه قال: إن ابني هذا أفرس العرب. وما كشف عن فخذه إلا بشيرا أو نذيرا. فلما دنا من ناديهم بحيث يسمعهم الصوت، قالوا: ما وراءك؟ قال: هلكوا جميعا. فخرج عبدالمطلب وأصحابه، فأخذوا أموالهم. وكانت

أموال بني عبدالمطلب منها، وبها تكاملت رياسة عبدالمطلب؛ لأنه احتمل ما شاء من صفراء وبيضاء، ثم خرج أهل مكة بعده ونهبوا. وقيل: إن عبدالمطلب حفر حفرتين فملأهما من الذهب والجوهر، ثم قال لأبي مسعود الثقفي وكان خليلا لعبدالمطلب -: اختر أيهما شئت. ثم أصاب الناس من أموالهم حتى ضاقوا ذرعا، فقال عبدالمطلب عند ذلك:
أنت منعت الحبش والأفيالا ... وقد رعوا بمكة الأجبالا
وقد خشينا منهم القتالا ... وكل أمر لهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
قال ابن إسحاق: ولما رد الله الحبشة عن مكة عظمت العرب قريشا، وقالوا: هم: أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم. وقال عبدالله بن عمرو بن مخزوم، في قصة أصحاب الفيل:
أنت الجليل ربنا لم تدنس ... أنت حبست الفيل بالمغمس
من بعد ما هم بشر مبلس ... حبسته في هيئة المكركس
وما لهم من فرج ومنفس
والمكركس: المنكوس المطروح.
3- {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ}
قال سعيد بن جبير: كانت طيرا من السماء لم ير قبلها، ولا بعدها مثلها. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها طير بين السماء والأرض تعشش وتفرخ" . وعن ابن عباس: كانت لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب وقال عكرمة: كانت طيرا خضرا، خرجت من البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع. ولم تر قبل ذلك ولا بعده. وقالت عائشة رضي الله عنها: هي أشبه شيء بالخطاطيف. وقيل: بل كانت أشباه الوطاويط، حمراء وسوداء. وعن

سعيد بن جبير أيضا: هي طير خضر لها مناقير صفر. وقيل: كانت بيضا. وقال محمد بن كعب: هي طير سود بحرية، في مناقيرها وأظفارها الحجارة. وقيل: إنها العنقاء المُغرِب التي تضرب بها الأمثال؛؛ قال عكرمة: "أبابيل" أي مجتمعة. وقيل: متتابعة، بعضها في إثر بعض؛ قال ابن عباس ومجاهد. وقيل مختلفة متفرقة، تجيء من كل ناحية من ها هنا وها هنا؛ قال ابن مسعود وابن زيد والأخفش. قال النحاس: وهذه الأقوال متفقة، وحقيقة المعنى: أنها جماعات عظام. يقال: فلان يؤبل على فلان؛ أي يعظم عليه ويكثر؛ وهو مشتق من الإبل. واختلف في واحد (أبابيل)؛ فقال الجوهري: قال الأخفش يقال: جاءت إبلك أبابيل؛ أي فرقا، وطيرا أبابيل. قال: وهذا يجيء في معنى التكثير، وهو من الجمع الذي لا واحد له. وقال بعضهم: واحده أبول. مثل عجول. وقال بعضهم - وهو المبرد -: إبيل مثل سكين. فال: ولم أجد العرب تعرف له واحدا في غير الصحاح. وقيل في واحده إبال. وقال رؤبة بن العجاج في الجمع:
ولعبتْ طيرٌ بهم أبابيلْ ... فصيروا مثل كعصف مأكول
وقال الأعشى:
طريق وجبار رواء أصوله ... عليه أبابيل من الطير تنعب
وقال آخر:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
وقال آخر:
تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم ... أبابيل طير تحت دجن مسخن

قال الفراء: لا واحد له من لفظه. وزعم الرؤاسي - وكان ثقة - أنه سمع في واحدها "إبالة" مشددة. وحكى الفراء "إبالة" مخففا. قال: سمعت بعض العرب يقول: ضغث على إبالة. يريد: خصبا على خصب. قال: ولو قال قائل إيبال كان صوابا؛ مثل دينار ودنانير. وقال إسحاق بن عبدالله بن الحارث بن نوفل: الأبابيل: مأخوذ من الإبل المؤبلة؛ وهي الأقاطيع.
4- {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}
في الصحاح: "حجارة من سجيل" قالوا: حجارة من طين، طبخت بنار جهنم، مكتوب فيها أسماء القوم؛ لقوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} وقال عبدالرحمن بن أبزى: {مِنْ سِجِّيلٍ} : من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط. وقيل من الجحيم. وهي "سجين" ثم أبدلت اللام نونا؛ كما قالوا في أصيلان أصيلال. قال ابن مقبل:
ضربا تواصت به الأبطال سجينا
وإنما هو سجيلا. وقال الزجاج: {مِنْ سِجِّيلٍ} أي مما كتب عليهم أن يعذبوا به؛ مشتق من السجل. وقد مضى القول في سجيل في "هود" مستوفى. قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري لم ير قبل ذلك اليوم. وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة. وقال ابن عباس: كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، فكان ذلك أول الجدري. وقراءة العامة {تَرْمِيهِمْ} بالتاء، لتأنيث جماعة الطير. وقرأ الأعرج وطلحة {يرميهم} بالياء؛ أي يرميهم الله؛ دليله قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} ويجوز أن يكون راجعا إلى الطير، لخلوها من علامات التأنيث، ولأن تأنيثها غير حقيقي.

5- {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}
أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب، فرمت به من أسفل. شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه. روى معناه عن ابن زيد وغيره. وقد مضى القول في العصف في سورة "الرحمن". ومما يدل على أنه ورق الزرع قول علقمة:
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتى الماء مطموم
وقال رؤبة بن العجاج:
ومسهم ما مس أصحاب الفيل ... ترميهم حجارة من سجيل
ولعبت طير بهم أبابيل ... فصيروا مثل كعصف مأكول
العصف: جمع، واحدته عصفة وعصافة، وعصيفة. وأدخل الكاف في {كَعَصْفٍ} للتشبيه مع مثل، نحو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ومعنى {مَأْكُولٍ} حبه. كما يقال: فلان حسن؛ أي حسن وجهه. وقال ابن عباس: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} أن المراد به قشر البر؛ يعني الغلاف الذي تكون فيه حبة القمح. ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة. وقال ابن مسعود: لما رمت الطير بالحجارة، بعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدة، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك، ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة؛ فقال:
فإنك لو رأيت ولم تريه ... لدى جنب المغمس ما لقينا

خشيت الله إذ قد بث طيرا ... وظل سحابة مرت علينا
وباتت كلها تدعو بحق ... كأن لها على الحبشان دينا
ويروى أنها لم تصبهم كلهم، لكنها أصابت من شاء الله منهم. وقد تقدم أن أميرهم رجع وشرذمة لطيفة معه، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. فالله أعلم. وقال ابن إسحاق: لما رد الله الحبشة عن مكة، عظمت العرب قريشا وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم، وكفاهم مؤونة عدوهم، فكان ذلك نعمة من الله عليهم.
سورة قريشمكية؛ في قول الجمهور. ومدنية؛ في قول الضحاك والكلبي وهي أربع آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}
قيل: إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى. يقول: أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش؛ أي لتأتلف، أو لتتفق قريش، أو لكي تأمن قريش فتؤلف رحلتيها. وممن عد السورتين واحدة أبي بن كعب، ولا فصل بينهما في مصحفه. وقال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معا. وقال عمرو بن ميمون الأودي: صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقرأ في الأولى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} وفي الثانية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} . وقال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى؛ لأنه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش. وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها، فلا يُغار عليها ولا تُقرب في الجاهلية. يقولون هم أهل بيت الله جل وعز؛ حتى جاء صاحب الفيل

ليهدم الكعبة، ويأخذ حجارتها، فيبني بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه، فأهلكهم الله عز وجل، فذكرهم نعمته. أي فجعل الله ذلك لإيلاف قريش، أي ليألفوا الخروج ولا يجتزأ عليهم؛ وهو معنى قول مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير عنه. ذكره النحاس: حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمرو بن علي قال: حدثني عامر بن إبراهيم - وكان ثقة من خيار الناس - قال حدثني خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة، قال: حدثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} قال: نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي وإن لم يكن الكلام تاما؛ على ما نبينه أثناء السورة. وقيل: ليست بمتصلة؛ لأن بين السورتين {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وذلك دليل على انقضاء السورة وافتتاح الأخرى، وأن اللام متعلقة بقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا} أي فليعبدوا هؤلاء رب هذا البيت، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتيار. وكذا قال الخليل: ليست متصلة؛ كأنه قال: أَلَّف الله قريشا إيلافا فليعبدوا رب هذا البيت. وعمل ما بعد الفاء فيما قبلها لأنها زائدة غير عاطفة؛ كقولك: زيدا فاضرب. وقيل: اللام في قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} لام التعجب؛ أي اعجبوا لإيلاف قريش؛ قاله الكسائي والأخفش. وقيل: بمعنى إلى. وقرأ ابن عامر: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} مهموزا مختلسا بلا ياء. وقرأ أبو جعفر والأعرج "ليلاف" بلا همز طلبا للخفة. الباقون {لِإِيلافِ} بالياء مهموزا مشبعا؛ من آلفت أولف إيلافا. قال الشاعر:
المنعمين إذا النجوم تغيرت ... والظاعنين لرحلة الإيلاف
ويقال: ألفته إلفا وإلافا. وقرأ أبو جعفر أيضا: {لِإِلْفِ قُرَيْشٍ} وقد جمعهما من قال:
زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف
قال الجوهري: وفلان قد ألف هذا الموضع (بالكسر) يألف إلفا، وآلفه إياه غيره. ويقال أيضا: آلفت الموضع أولفه إيلافا. وكذلك: آلفت الموضع أولفه مؤالفة وإلافا؛

فصار صورة أفعل وفاعل في الماضي واحدة. وقرأ عكرمة {ليألف} بفتح اللام على الأمر وكذلك هو في مصحف ابن مسعود. وفتح لام الأمر لغة حكاها ابن مجاهد وغيره. وكان عكرمة يعيب على من يقرأ {لإيلاف}. وقرأ بعض أهل مكة {إلاف قريش} استشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم:
فلا تتركنه ما حييت لمعظم ... وكن رجلا ذا نجدة وعفاف
تذود العدا عن عصبة هاشمية ... إلافهم في الناس خير إلاف
وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه. وربما قالوا: قريشي، وهو القياس؛ قال الشاعر:
بكل قريشي عليه مهابة
فإن أردت بقريش الحي صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه؛ قال الشاعر:
وكفى قريش المعضلات وسادها
والتقريش: الاكتساب، وتقرشوا أي تجمعوا. وقد كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي ابن كلاب في الحرم، حتى اتخذوه مسكنا. قال الشاعر:
أبونا قصي كان يدعي مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر
وقد قيل:إن قريشا بنو فهر بن مالك بن النضر. فكل من لم يلده فهر فليس بقرشي. والأول أصح وأثبت. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفوا أُمنا، ولا ننتفي من أبينا" . وقال وائلة بن الأسقع: قال النبي

صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" . صحيح ثابت، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. واختلف في تسميتهم قريشا على أقوال: أحدهما: لتجمعهم بعد التفرق، والتقرش: التجمع والالتئام. قال أبو جلدة اليشكري:
إخوة قرشوا الذنوب علينا ... في حديث من دهرهم وقديم
الثاني: لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم. والتقرش: التكسب. وقد قرش يقرش قرشا: إذا كسب وجمع. قال الفراء: وبه سميت قريش. الثالث: لأنهم كانوا يفتشون الحاج من ذي الخلة، فيسدون خلته. والقرش: التفتيش. قال الشاعر:
أيها الشامت المقرش عنا ... عند عمرو فهل له إبقاء
الرابع: ما روي أن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشا؟ فقال: لدابة في البحر من أقوى دوابه يقال لها القرش؛ تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تُعلى. وأنشد قول تبع:
قريش هي التي تسكن البحـ ... ـر بها سميت قريش قريشا
تأكل الرث والسمين ولا تتـ ... ـرك فيها لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا
2- {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}
قرأ مجاهد وحميد {إلفهم} ساكنة اللام بغير ياء. وروي نحوه عن ابن كثير. وكذلك روت أسماء أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {إلفهم}. وروي عن ابن عباس

وغيره. وقرأ أبو جعفر والوليد عن أهل الشام وأبو حيوة {إلافهم} مهموزا مختلسا بلا ياء. وقرأ أبو بكر عن عاصم {إئلافهم} بهمزتي، الأولى مكسورة والثانية ساكنة. والجمع بين الهمزتين في الكلمتين شاذ. الباقون {إيلافهم} بالمد والهمز؛ وهو الاختيار، وهو بدل من الإيلاف الأول للبيان. وهو مصدر آلف: إذا جعلته يألف. وألف هو إلفا؛ على ما تقدم ذكره من القراءة؛ أي وما قد ألفوه من رحلة الشتاء والصيف. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} قال: لا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف، مِنةً منهُ على قريش. وقال الهروي وغيره: وكان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل؛ بنو عبد مناف. فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك الشام؛ أي أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى الشام. وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة. والمطلب إلى اليمن. ونوفل إلى فارس. ومعنى يؤلف يجير. فكان هؤلاء الإخوة يسمون المجيرين. فكان تجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم. قال الزهري: الإيلاف: شبه الإجارة بالخفارة؛ يقال: آلف يؤلف: إذا أجار الحمائل بالخفارة. والحمائل: جمع حمولة. قال: والتأويل: أن قريشا كانوا سكان الحرم، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يُتَخطفون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض الناس لهم. وذكر أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في تفسيره: حدثنا سعيد بن محمد، عن بكر بن سهل الدمياطي، بإسناده إلى ابن عباس، في قول الله عز وجل: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} إلفهم رحلة الشتاء والصيف. وذلك أن قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا؛ حتى كان عمرو بن عبد مناف، وكان سيد

في زمانه، وله ابن يقال له أسد، وكان له ترب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غدا نعتفد، قال ابن فارس: هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري: بالدال هي أم بالراء؛ فإن كانت بالراء فلعلها من العفر، وهو التراب، وإن كان بالدال، فما أدري معناها، وتأويله على ما أظنه: ذهابهم إلى ذلك الخباء، وموتهم واحدا بعد واحد. قال: فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه. قال: فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياما. ثم إن تربه أتاه أيضا فقال: نحن غدا نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله وجل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثم إنه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس؛ فسمي هاشما. وفيه قال الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
ثم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم؛ فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم:
والخالطون فقيرهم بغنيهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي
فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} بصنيع هاشم {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أن تكثر العرب ويقلوا.

قوله تعالى: {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} {رِحْلَةَ} نصب بالمصدر؛ أي ارتحالهم رحلة؛ أو بوقوع {إِيلافِهِمْ} عليه، أو على الظرف. ولو جعلتها في محل الرفع، على معنى هما رحلة الشتاء والصيف، لجاز. والأول أولى. والرحلة الارتحال. وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء، لأنها بلاد حامية، والرحلة الأخرى في الصيف إلى الشام، لأنها بلاد باردة. وعن ابن عباس أيضا قال: كانوا يشتون بمكة لدفئها، ويصيفون بالطائف لهوائها. وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف؛ فذكرهم الله تعالى هذه النعمة. وقال الشاعر:
تشتي بمكة نعمة ... ومصيفها بالطائف
وهنا أربع مسائل:
الأولى- اختار القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من العلماء: أن قوله تعالى: "لإيلاف" متعلق بما قبله. ولا يجوز أن يكون متعلقا بما بعده، وهو قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} قال: وإذا ثبت أنه متعلق بالسورة الأخرى - وقد قطع عنه بكلام مبتدأ، واستئناف بيان وسطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فقد تبين جواز الوقف في القراءة للقراء قبل تمام الكلام، وليست المواقف التي ينتزع بها القراء شرعا عن النبي صلى الله عليه وسلم مرويا، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني، فإذا علموها وقفوا حيث شاءوا. فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه، ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك. هذا رأيي فيه، ولا دليل على ما قالوه، بحال، ولكني أعتمد الوقف على التمام، كراهية الخروج عنهم.
قلت: ومن الدليل على صحة هذا، قراءة النبي صلى الله عليه وسلم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف. وقد مضى في مقدمة الكتاب. وأجمع المسلمون أن

الوقف عند قوله: {كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} ليس بقبيح. وكيف يقال إنه قبيح وهذه السورة تقرأ في الركعة الأولى والتي بعدها في الركعة الثانية، فيتخللها من قطع القراءة أركان؟ وليس أحد من العلماء يكره ذلك، وما كانت العلة فيه إلا أن قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} انتهاء آية. فالقياس على ذلك: ألا يمتنع الوقف عند أعجاز الآيات سواء كان الكلام يتم، والغرض ينتهي، أو لا يتم، ولا ينتهي. وأيضا فإن الفواصل حلية وزينة للكلام المنظوم، ولولاها لم يتبين المنظوم من المنثور. ولا خفاء أن الكلام المنظوم أحسن؛ فثبت بذلك أن الفواصل من محاسن المنظوم، فمن أظهر فواصله بالوقوف عليها فقد أبدى محاسنه، وترك الوقوف يخفي تلك المحاسن، ويشبه المنثور بالمنظوم, وذلك إخلال بحق المقروء.
الثانية- قال مالك: الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها، ولم أزل أرى ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومن معه، لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا، وهو يوم التاسع عشر من بشنس، وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس. وأراد بطلوع الثريا أن يخرج السعاة، ويسير الناس بمواشيهم إلى مياههم، وأن طلوع الثريا أول الصيف ودبر الشتاء. وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه. وقال عنه أشهب وحده: إذا سقطت الهقعة نقص الليل،، فلما جعل طلوع الثريا أول الصيف، وجب أن يكون له في مطلق السنة ستة أشهر، ثم يستقبل الشتاء من بعد ذهاب الصيف ستة أشهر. وقد سئل محمد بن عبدالحكم عمن حلف ألا يكلم أمرأ حتى يدخل الشتاء؟ فقال: لا يكلمه حتى يمضى سبعة عشر من هاتور. ولو قال يدخل الصيف، لم يكلمه حتى يمضى سبعة عشر من بشنس. قال القرظي: أما ذكر هذا عن محمد في بشنس، فهو سهو، إنما هو تسعة عشر من بشنس، لأنك إذ حسبت المنازل

على ما هي عليه، من ثلاث عشرة ليلة كل منزلة، علمت أن ما بين تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازل إلا بدخول تسع عشرة من بشنس. والله أعلم.
الثالثة- قال قوم: الزمان أربعة أقسام: شتاء، وربيع، وصيف، وخريف. وقال قوم: هو شتاء، وصيف، وقيظ، وخريف. والذي قاله مالك أصح؛ لأن الله قسم الزمان قسمين ولم يجعل لهما ثالثا.
الرابعة- لما امتن الله تعالى على قريش برحلتين، شتاء وصيفا، على ما تقدم، كان فيه دليل على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلين، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر؛ كالجلوس في المجلس البحري في الصيف، وفي القبلي في الشتاء، وفي اتخاذ البادهنجات والخيش للتبريد، واللبد واليانوسة للدفء.
3- {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}
أمرهم الله تعالى بعبادته وتوحيده، لأجل إيلافهم رحلتين. ودخلت الفاء لأجل ما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: إما لا فليعبدوه لإيلافهم؛ على معنى أن نعم الله تعالى عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لشأن هذه الواحدة، التي هي نعمة ظاهرة. والبيت: الكعبة. وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان: أحدهما لأنه كانت لهم أوثان فيميز نفسه عنها. الثاني: لأنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك، تذكيرا لنعمته. وقيل: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أي ليألفوا عبادة رب الكعبة، كما كانوا يألفون الرحلتين. قال عكرمة: كانت قريش قد ألفوا رحلة إلى بصرى

ورحلة إلى اليمن، فقيل لهم: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أي يقيموا بمكة. رحلة الشتاء، إلى اليمن، والصيف: إلى الشام.
4- {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}
قوله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} أي بعد جوع. {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} قال ابن عباس: وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} . وقال ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك المكان الحرم - وقرأ – {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} . وقيل: شق عليهم السفر في الشتاء والصيف، فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاما في السفن، فحملوه؛ فخافت قريش منهم، وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام، وأغاثوهم بالأقوات؛ فكان أهل مكة يخرجون إلى جدة بالإبل والحمر، فيشترون الطعام، على مسيرة ليلتين. وقيل: هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون. فدعا فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمين؛ فحملوا الطعام إلى مكة، وأخصب أهلها. وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان: "وآمنهم من خوف" أي من خوف الجذام، لا يصيبهم ببلدهم الجذام. وقال الأعمش: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أي من خوف الحبشة مع الفيل. وقال علي رضي الله عنه: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أن تكون الخلافة إلاًّ فيهم. وقيل: أي كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك. فالله أعلم، واللفظ يعم.

سورة الماعون
وهي مكية؛ في قول عطاءوجابر وأحد قولي ابن عباس. ومدنية؛ في قول له آخر، وهو قول قتادة وغيره.
وهي سبع آيات.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}
2- {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}
3- {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}
4- {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}
5- {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}
6- {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ}
7- {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}
فيه ست مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} أي بالجزاء والحساب في الآخرة؛ وقد تقدم في "الفاتحة". و{أَرَأَيْتَ} بإثبات الهمزة الثانية؛ إذ لا يقال في أرأيت: ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفا؛ ذكره الزجاج. وفي الكلام حذف؛ والمعنى: أرأيت الذي يكذب بالدين: أمصيب هو أم مخطئ. واختلف فيمن نزل هذا فيه؛ فذكر أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في العاص بن وائل السهمي؛ وقاله الكلبي ومقاتل. وروى الضحاك عنه قال: نزلت في رجل من المنافقين. وقال السدي: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل في أبي جهل. الضحاك: في عمرو بن عائذ. قال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا، فطلب منه يتيم شيئا، فقرعه بعصاه؛ فأنزل الله هذه السورة. و{يَدُعُّ} أي يدفع، كما قال: " {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} وقد

تقدم. وقال الضحاك عن ابن عباس: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} أي يدفعه عن حقه. قتادة: يقهره ويظلمه. والمعنى متقارب. وقد تقدم في سورة "النساء" أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويقولون: إنما يحوز المال من يطعن بالسنان، ويضرب بالحسام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ضم يتيما من المسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة" . وقد مضى هذا المعنى في غير موضع.
الثانية- قوله تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي لا يأمر به، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء. وهو مثل قوله تعالى في سورة الحاقة: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وقد تقدم. وليس الذم عاما حتى يتناول من تركه عجزا، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم، ويقولون: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} ، فنزلت هذه الآية فيهم، وتوجه الذم إليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا.
الثالثة- قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} أي عذاب لهم. وقد تقدم في غير موضع. {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} فروى الضحاك عن ابن عباس قال هو المصلي الذي إن صلى لم يرج لها ثوابا، وإن تركها لم يخش عليها عقابا. وعنه أيضا: الذين يؤخرونها عن أوقاتها. وكذا روى المغيرة عن إبراهيم، قال: ساهون بإضاعة الوقت. وعن أبي العالية: لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها.
قلت: ويدل على هذا قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} حسب ما تقدم بيانه في سورة "مريم" عليها السلام. وروي عن إبراهيم أيضا: أنه الذي إذا سجد قام برأسه هكذا ملتفتا. وقال قطرب: هو ألا يقرأ ولا يذكر الله. وفي قراءة عبدالله {الذين هم عن صلاتهم لاهون}. وقال سعد بن أبي وقاص: قال النبي صلى الله عليه وسلم [في قوله]:

{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} - قال -: "الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، تهاونا بها". وعن ابن عباس أيضا: هم المنافقون يتركون الصلاة سرا، يصلونها علانية {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى } ... الآية. ويدل على أنها في المنافقين قوله: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} ، وقال ابن وهب عن مالك. قال ابن عباس: ولو قال في صلا:الم وقال عطاء: الحمد لله الذي قال {عَنْ صَلاتِهِمْ} ولم يقل في صلاتهم. قال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين قوله: {عَنْ صَلاتِهِمْ} ، وبين قولك: في صلاتهم؟ قلت: معنى {عن} أنهم ساهون عنها سهو ترك لها، وقلة التفات إليها، وذلك فعل المنافقين، أو الفسقة الشطار من المسلمين. ومعنى {في} أن السهو يعتريهم فيها، بوسوسة شيطان، أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته، فضلا عن غيره؛ ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. قال ابن العربي: لأن السلامة من السهو محال، وقد سها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته والصحابة: وكل من لا يسهو في صلاته، فذلك رجل لا يتدبرها، ولا يعقل قراءتها، وإنما همه في أعدادها؛ وهذا رجل يأكل القشور، ويرمي اللب. وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته إلا لفكرته في أعظم منها؛ اللهم إلا أنه قد يسهو في صلاته من يقبل على وسواس الشيطان إذا قال له: اذكر كذا، اذكر كذا؛ لما لم يكن يذكر، حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى.
الرابعة- قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} أي يري الناس أنه يصلي طاعة وهو يصلي تقية؛ كالفاسق، يرى أنه يصلي عبادة وهو يصلي ليقال: إنه يصلي. وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس. وأولها تحسين السمت؛ وهو من أجزاء النبوة، ويريد بذلك الجاه والثناء. وثانيها: الرياء بالثياب القصار والخشنة؛ ليأخذ بذلك هيئة

الزهد في الدنيا. وثالثها: الرياء بالقول، بإظهار التسخط على أهل الدنيا؛ وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوت من الخير والطاعة. ورابعها: الرياء بإظهار الصلاة والصدقة، أو بتحسين الصلاة لأجل رؤية الناس؛ وذلك يطول، وهذا دليله؛ قاله ابن العربي.
قلت: قد تقدم في سورة "النساء وهود وآخر الكهف" القول في الرياء وأحكامه وحقيقته بما فيه كفاية. والحمد لله.
الخامسة- ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة؛ فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لقوله عليه السلام: "ولا غمة في فرائض الله" لأنها أعلام الإسلام، وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت؛ فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفي؛ لأنه لا يلام تركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا. وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فتثني عليه بالصلاح. وعن بعضهم أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطالها؛ فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك. وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة. وقد مضى هذا المعنى في سورة "البقرة" عند قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} وفي غير موضع. والحمد لله على ذلك.
السادسة- قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} فيه اثنا عشر قولا: الأول: أنه زكاة أموالهم. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وروى عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، وقاله مالك. والمراد به المنافق يمنعها. وقد روى أبو بكر بن عبدالعزيز عن مالك قال: بلغني أن قوله الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قال: إن المنافق إذا صلى صلى رياءً، وإن فاتته لم يندم عليها، {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} الزكاة التي فرض الله عليهم. قال زيد بن أسلم: لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا. القول الثاني: أن {الْمَاعُونَ} المال، بلسان

قريش؛ قاله ابن شهاب وسعيد بن المسيب. وقول ثالث: أنه اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك؛ قاله ابن مسعود، وروي عن ابن عباس أيضا. قال الأعشى:
بأجود منه بماعونه ... إذا ما سماؤهم لم تغم
الرابع- ذكر الزجاج وأبو عبيد والمبرد أن الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة، حتى الفأس والقدر والدلو والقداحة، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير؛ وأنشدوا بيت الأعشى. قالوا: والماعون في الإسلام: الطاعة والزكاة؛ وأنشدوا قول الراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله من أموالنا ... حق الزكاة منزلا تنزيلا
قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا
يعني الزكاة. الخامس- أنه العارية؛ وروي عن ابن عباس أيضا. السادس- أنه المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم؛ قاله محمد بن كعب والكلبي. السابع- أنه الماء والكلأ. الثامن- الماء وحده. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون: الماء؛ وأنشدني فيه:
يمج صبيره الماعون صبا
الصبير: السحاب. التاسع- أنه منع الحق؛ قاله عبدالله بن عمر. العاشر- أنه المستغل من منافع الأموال؛ مأخوذ من المعن وهو القليل؛ حكاه الطبري ابن عباس. قال قطرب: أصل الماعون من القلة. والمعن: الشيء القليل؛ تقول العرب: ماله سعنة ولا معنة؛ أي شيء قليل. فسمى الله تعالى الزكاة والصدقة ونحوهما من المعروف، ماعونا؛ لأنه قليل من كثير. ومن الناس من قال: الماعون: أصله معونة، والألف عوض من الهاء؛ حكاه الجوهري. ابن العربي: الماعون: مفعول من أعان يعين، والعون: هو الإمداد

بالقوة والآلات والأسباب الميسرة للأمر. الحادي عشر- أنه الطاعة والانقياد. حكى الأخفش عن أم أعرابي فصيح: لو قد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا تعطيك الماعون؛ أي تنقاد لك وتعطيك. قال الراجز:
متى تصادفهن في البرين ... يخضعن أو يعطين بالماعون
وقيل: هو ما لا يحل منعه، كالماء والملح والنار؛ لأن عائشة رضوان الله عليها قالت: قلت يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الماء والنار والملح" قلت: يا رسول الله هذا الماء، فما بال النار والملح؟ فقال: "يا عائشة من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما طبخ بتلك النار، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيب به ذلك الملح، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق ستين نسمة. ومن سقى شربة من الماء حيث لا يوجد، فكأنما أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" . ذكره الثعلبي في تفسيره، وخرجه ابن ماجه في سننه. وفي إسناده لين؛ وهو القول الثاني عشر. الماوردي: ويحتمل أنه المعونة بما خف فعله وقد ثقله الله. والله أعلم. وقيل لعكرمة مولى ابن عباس: من منع شيئا من المتاع كان له الويل؟ فقال: لا، ولكن من جمع ثلاثهن فله الويل؛ يعني: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالماعون.
قلت: كونها في المنافقين أشبه، وبهم أخلق؛ لأنهم جمعوا الأوصاف الثلاثة: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالمال؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} ، وقال: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} . وهذه أحوالهم ويبعد أن توجد من مسلم محقق، وإن وجد بعضها فيلحقه جزء من التوبيخ، وذلك في منع الماعون إذا تعين؛ كالصلاة إذا تركها. والله أعلم. إنما يكون منعا قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة. والله أعلم.

سورة الكوثر
وهي مكية؛ في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل. ومدنية؛ في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة.
وهي ثلاث آيات.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قراءة العامة. {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} بالعين. وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف: {أنطيناك} بالنون؛ وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي لغة في العطاء؛ أنطيته: أعطيته. و {الْكَوْثَرَ} : فوعل من الكثرة؛ مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر. والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا. قال سفيان: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت بكوثر؛ أي بمال كثير. والكوثر من الرجال: السيد الكثير الخير. قال الكميت:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
والكوثر: العدد الكثير من الأصحاب والأشياع. والكوثر من الغبار: الكثير. وقد تكوثر إذا كثر؛ قال الشاعر:
وقد ثار الموت حتى تكوثرا
الثانية- واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولا: الأول- أنه نهر في الجنة؛ رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا

وقيل: هو الرجل الفرد الذي لا ولد له ولا أخ. وقيل: هو مثعب الحوض خاصة؛ حكاه أبو عبيد. وأنشد:
ما بين صنبور إلى الإزاء
والصنبور: قصبة تكون في الإداوة من حديد أو رصاص يشرب منها. حكى جميعه الجوهري رحمه الله. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سورة الكافرونوهي مكية؛ في قول ابن عباس وعكرمة. ومدنية؛ في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك. وهي ست آيات.
وفي الترمذي من حديث أنس: أنها تعدل ثلث القرآن. وفي كتاب (الرد لأبي بكر الأنباري): أخبرنا عبدالله بن ناجية قال: حدثنا يوسف قال حدثنا القعنبي وأبو نعيم عن موسى بن وردان عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} تعدل ربع القرآن" . ورواه موقوفا عن أنس. وخرج الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد عن ابن عمر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الفجر في سفر، فقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} . و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ثم قال: "قرأت بكم ثلث القرآن وربعه" . وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتحب يا جبير إذا خرجت سفرا أن تكون من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا" ؟ قلت: نعم. قال: "فاقرأ هذه السور الخمس من أول {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} –إلى– {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وأفتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم" .قال: فوالله لقد كنت غير كثير المال، إذا سافرت أكون أبذهم هيئة، وأقلهم زادا، فمذ قرأتهن صرت من أحسنهم هيئة، وأكثرهم زادا، حتى أرجع من سفري ذلك.

وقال فروة بن نوفل الأشجعي: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني قال: "أقرأ عند منامك {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فإنها براءة من الشرك" . خرجه أبو بكر الأنباري وغيره. وقال ابن عباس: ليس في القرآن أشد غيظا لإبليس منها؛ لأنها توحيد وبراءة من الشرك. وقال الأصمعي: كان يقال? {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} المقشقشتان؛ أي أنهما تبرئان من النفاق. وقال أبو عبيدة: كما يقشقش الهناء الجرب فيبرئه. وقال ابن السكيت: يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف، وللجرب في الإبل إذا قفل: قد توسف جلده، وتوسف جلده، وتقشقش جلده.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
2- {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}
3- {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}
4- {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ}
5- {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}
ذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس: أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبدالمطلب، وأمية بن خلف؛ لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه؛ فأنزل الله عز وجل {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} .
وقال أبو صالح عن ابن عباس: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك؛ فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السورة فيئسوا منه، وآذوه، وآذوا أصحابه. والألف واللام ترجع إلى معنى المعهود

وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة لأي؛ لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كفره، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم. ونحوه عن الماوردي: نزلت جوابا، وعني بالكافرين قوما معينين. لا جميع الكافرين؛ لأن منهم من آمن، فعبد الله، ومنهم من مات أو قتل على كفره.، وهم المخاطبون بهذا القول، وهم المذكورون. قال أبو بكر بن الأنباري: وقرأ من طعن في القرآن: قل للذين كفروا {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وزعم أن ذلك هو الصواب، وذلك افتراء على رب العالمين، وتضعيف لمعنى هذه السورة، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين بخطابه إياهم بهذا الخطاب الزري، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لب وحجا. وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى، وتزيد تأويلا ليس عندهم في باطلهم وتحريفهم. فمعنى قراءتنا: قل للذين كفروا: يأيها الكافرون؛ دليل صحة هذا: أن العربي إذا قال لمخاطبه قل لزيد أقبل إلينا، فمعناه قل لزيد يا زيد أقبل إلينا. فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم، وسقط من باطلهم أحسن لفظ وأبلغ معنى؛ إذ كان الرسول عليه السلام يعتمدهم في ناديهم، فيقول لهم: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} . وهو يعلم أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر، ويدخلوا في جملة أهله إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم يد، أو تقع به من جهتهم أذية. فمن لم يقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} كما أنزلها الله، أسقط آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبيل أهل الإسلام ألا يسارعوا إلى مثلها، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه، التي منحه الله إياها، وشرفه بها.
وأما وجه التكرار فقد قيل إنه للتأكيد في قطع أطماعهم؛ كما تقول: والله لا أفعل كذا، ثم والله لا أفعله. قال أكثر أهل المعاني: نزل القرآن بلسان العرب، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التأكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز؛ لأن خروج الخطيب والمتكلم من شيء إلى شيء أولى من اقتصاره في المقام على شيء واحد؛ قال الله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } . {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} . و {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} . كل هذا على التأكيد.

وقد يقول القائل: إرم إرم، اعجل اعجل؛ ومنه قوله عليه السلام في الحديث الصحيح: "فلا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني" . خرجه مسلم. وقال الشاعر:
هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين أينا
وقال آخر:
يا لبكر انشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار
وقال آخر:
يا علقمة يا علقمة يا علقمة ... خير تميم كلها وأكرمه
وقال آخر:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع
وقال آخر:
ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمَّت اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تكلم
ومثله كثير. وقيل: هذا على مطابقة قولهم: تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم نعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، فنجري على هذا أبدا سنة وسنة. فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده؛ أي إن هذا لا يكون أبدا. قال ابن عباس: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل بمكة، ونزوجك من شئت، ونطأ عقبك؛ أي نمشي خلفك، وتكف عن شتم آلهتنا، فإن لم تفعل فنحن نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك صلاح، تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة،

ونحن نعبد إلهك سنة؛ فنزلت السورة. فكان التكرار في {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ؛ لأن القوم كرروا عليه مقالهم مرة بعد مرة. والله أعلم. وقيل: إنما كرر بمعنى التغليظ. وقيل: أي {لا أَعْبُدُ} الساعة {مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ} الساعة {مَا أَعْبُدُ} . ثم قال: {وَلا أَنَا عَابِدٌ} في المستقبل {مَا عَبَدْتُمْ.وَلا أَنْتُمْ} في المستقبل {عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} . قاله الأخفش والمبرد. وقيل: إنهم كانوا يعبدون الأوثان، فإذا ملوا وثنا، وسئموا العبادة له، رفضوه، ثم أخذوا وثنا غيره بشهوة نفوسهم، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه ورفعوا تلك، فعظموها ونصبوها آلهة يعبدونها؛ فأمر عليه السلام أن يقول لهم: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} اليوم من هذه الآلهة التي بين أيدكم. ثم قال: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي وإنما أنتم تعبدون الوثن الذي اتخذتموه، وهو عندكم الآن. {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} أي بالأمس من الآلهة التي رفضتموها، وأقبلتم على هذه. {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فإني أعبد إلهي. وقيل: إن قوله تعالى: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} . {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الاستقبال. وقوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} على نفي العبادة منه لما عبدوا في الماضي. ثم قال: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} على التكرير في اللفظ دون المعنى، من قبل أن التقابل يوجب أن يكون: ولا أنتم عابدون ما عبدت، فعدل عن لفظ عبدت إلى أعبد، إشعارا بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل، مع أن الماضي والمستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر. وأكثر ما يأتي ذلك في أخبار الله عز وجل. وقال: {مَا أَعْبُدُ} ، ولم يقل: من أعبد؛ ليقابل به {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} وهي أصنام وأوثان، ولا يصلح فيها إلا {ما} دون {من} فحمل الأول على الثاني، ليتقابل الكلام ولا يتنافى. وقد جاءت {ما} لمن يعقل. ومنه قولهم: سبحان ما سخركن لنا. وقيل: إن معنى الآيات وتقديرها: قل يا أيها الكافرون لا أعبد الأصنام التي تعبدونها، ولا أنتم عابدون الله عز وجل الذي أعبده؛ لإشراككم به، واتخاذكم الأصنام، فإن زعمتم أنكم تعبدونه، فأنتم كاذبون؛ لأنكم تعبدونه مشركين. فأنا لا أعبد ما عبدتم، أي مثل عبادتكم؛ {فما} مصدرية. وكذلك

{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} مصدرية أيضا؛ معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي، التي هي توحيد.
6- {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
فيه معنى التهديد؛ وهو كقوله تعالى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي إن رضيتم بدينكم، فقد رضينا بديننا. وكان هذا قبل الأمر بالقتال، فنسخ بآية السيف. وقيل: السورة كلها منسوخة. وقيل: ما نسخ منها شيء لأنها خبر. ومعنى {لَكُمْ دِينُكُمْ} أي جزاء دينكم، ولي جزاء ديني. وسمى دينهم دينا، لأنهم اعتقدوه وتولوه. وقيل: المعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي؛ لأن الدين الجزاء. وفتح الياء من {وَلِيَ دِينِ} نافع، والبزي عن ابن كثير باختلاف عنه، وهشام عن ابن عامر، وحفص عن عاصم. وأثبت الياء في{ديني} في الحالين نصر بن عاصم وسلام ويعقوب؛ قالوا: لأنها اسم مثل الكاف في قمت. الباقون بغير ياء، مثل قوله تعالى: " {فَهُوَ يَهْدِينِ}. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ونحوه، اكتفاء بالكسرة، واتباعا لخط المصحف، فإنه وقع فيه بغير ياء.
سورة النصروهي مدنية بإجماع. وتسمى سورة "التوديع". وهي ثلاث آيات.
وهي آخر سورة نزلت جميعاً؛ قاله ابن عباس في صحيح مسلم.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}
النصر: العون مأخوذ من قولهم: قد نصر الغيث الأرض: إذا أعان على نباتها، من قحطها. قال الشاعر:

إذا انسلخ الشهر الحرام فودعي ... بلاد تميم وأنصري أرض عامر
ويروى:
إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي ... بلاد تميم وأنصري أرض عامر
يقال: نصره على عدوه ينصره نصرا؛ أي أعانه. والاسم النصرة، واستنصره على عدوه: أي سأله أن ينصره عليه. وتناصروا: نصر بعضهم بعضا. ثم قيل: المراد بهذا النصر نصر الرسول على قريش؛ الطبري. وقيل: نصره على من قاتله من الكفار؛ فإن عاقبة النصر كانت له. وأما الفتح فهو فتح مكة؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هو فتح المدائن والقصور. وقيل: فتح سائر البلاد. وقيل: ما فتحه عليه من العلوم. و{إِذَا} بمعنى قد؛ أي قد جاء نصر الله؛ لأن نزولها بعد الفتح. ويمكن أن يكون معناه: إذا يجيئك.
2- {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً}
قوله تعالى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ} أي العرب وغيرهم. {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} أي جماعات: فوجا بعد فوج. وذلك لما فتحت مكة قالت العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان. فكانوا يسلمون أفواجا: أمة أمة. قال الضحاك: والأمة: أربعون رجلا. وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن. وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين، بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن، وبعضهم يهللون؛ فسر النبي صلى الله عليه وسلم لك، وبكى عمر وابن عباس. وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم، لينة طباعهم، سخية قلوبهم، عظيمة خشيتهم، فدخلوا في دين الله أفواجا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة الفقه يمان، والحكمة يمانية" . وروى أنه

صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن" وفيه تأويلان: أحدهما: أنه الفرج؛ لتتابع إسلامهم أفواجا. والثاني: معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل اليمن، وهم الأنصار. وروى جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا" ذكره الماوردي، ولفظ الثعلبي: وقال أبو عمار حدثني جابر لجابر، قال: سألني جابر عن حال الناس، فأخبرته عن حال اختلافهم وفرقتهم؛ فجعل يبكي ويقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون من دين الله أفواجا" .
3- {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}
قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} أي إذا صليت فأكثر من ذلك. وقيل: معنى سبح: صل؛ عن ابن عباس: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي حامدا له على ما آتاك من الظفر والفتح. {وَاسْتَغْفِرْهُ} أي سل الله الغفران. وقيل: {فَسَبِّحْ} المراد به: التنزيه؛ أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له. {وَاسْتَغْفِرْهُ} أي سل الله الغفران مع مداومة الذكر. والأول أظهر. روى الأئمة واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول: "سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" . يتأول القرآن. وفي غير الصحيح: وقالت أم سلمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال: "سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب

إليه" - قال – "فإني أمرت بها" - ثم قرأ - {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخرها. وقال أبو هريرة: اجتهد النبي بعد نزولها، حتى تورمت قدماه. ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه. وقال عكرمة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها. وقال مقاتل: لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا عم؟" قال: نعيت إليك نفسك. قال: "إنه لكما تقول" ؛ فعاش بعدها ستين يوما، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا. وقيل: نزلت في منى بعد أيام التشريق، حجة الوداع، فبكى عمر والعباس، فقيل لهما: إن هذا يوم فرح، فقالا: بل فيه نعي النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقتما، نعيت إليّ نفسي" . وفي البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم. قال: فوجد بعضهم من ذلك، فقالوا: يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم. قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقالوا: أمر الله جل وعز نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه. فقال: ما تقول يا ابن عباس؟ قلت: ليس كذلك، ولكن أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم حضور أجله، فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، فذلك علامة موتك. {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} . فقال عمر رضي الله عنه: تلومونني عليه؟ وفي البخاري فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. ورواه الترمذي، قال: كان عمر يسألني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عبدالرحمن بن عوف: أتسأله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنه من حيث نعلم. فسأله عن هذه الآية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} . فقلت: إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه إياه؛ وقرأ السورة إلى آخرها. فقال له عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم. قال: هذا

حديث حسن صحيح. فإن قيل: فماذا يغفر للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار؟ قيل له: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "رب اغفر في خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت المقدم وأنت المؤخر، إنك على شيء قدير" . فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا. ويحتمل أن يكون بمعنى: كن متعلقا به، سائلا راغبا، متضرعا على رؤية التقصير في أداء الحقوق؛ لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال. وقيل: الاستغفار تَعَبُدٌ يجب إتيانه، لا للمغفرة، بل تعبدا. وقيل: ذلك تنبيه لأمته، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار. وقيل: {وَاسْتَغْفِرْهُ} أي استغفر لأمتك.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} أي على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم. وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره؟ روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه" . فقال: "خَبّرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} - فتح مكة – {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً}. {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} " . وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع؛ ثم نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوما. ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما. ثم نزل {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما. ثم نزل {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما. وقال مقاتل سبعة أيام. وقيل غير هذا مما تقدم في "البقرة" بيانه، والحمد الله.

سورة المسد
وهي مكية بإجماع وهي خمس آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} في الصحيحين وغيرهما (واللفظ لمسلم) عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} {ورهطك منهم المخلصين}، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه! فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا محمد. فاجتمعوا إليه. فقال: "يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبدالمطلب" فاجتمعوا إليه. فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي" ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" . فقال أبو لهب: تبا لك، أما جمعتنا إلا لهذا! ثم قام، فنزلت هذه السورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة. زاد الحميدي وغيره: فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر. فقالت: يا أبا بكر، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة:
مذمما عصينا ... وأمره أبينا ... ودينه قلينا

ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ قال: "ما رأتني، لقد أخذ الله بصرها عني". وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما؛ يسبونه، وكان يقول: "ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش، يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد" . وقيل: إن سبب نزولها ما حكاه عبدالرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أُعطى إن آمنت بك يا محمد؟ فقال: "كما يُعطى المسلمون" قال ما لي عليهم فضل؟. قال: "وأي شيء تبغي" ؟ قال: تبا لهذا من دين، أن أكون أنا وهؤلاء سواء؛ فأنزل الله تعالى فيه. {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . وقول ثالث حكاه عبدالرحمن بن كيسان قال: كان إذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وقد انطلق إليهم أبو لهب فيسألونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون له: أنت أعلم به منا. فيقول لهم أبو لهب: إنه كذاب ساحر. فيرجعون عنه ولا يلقونه. فأتى وفد، ففعل معهم مثل ذلك، فقالوا: لا ننصرف حتى نراه، ونسمع كلامه. فقال لهم أبو لهب: إنا لم نزل نعالجه فتبا له وتعسا. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتأب لذلك؛ فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ... السورة. وقيل: إن أبا لهب أراد أن يرمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر، فمنعه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} للمنع الذي وقع به. ومعنى {تَبَّ} : خسرت؛ قال قتادة. وقيل: خابت؛ قال ابن عباس. وقيل ضلت؛ قال عطاء. وقيل: هلكت؛ قاله ابن جبير. وقال يمان بن رئاب: صفرت من كل خبر. حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان رحمه الله سمع الناس هاتفا يقول:
لقد خلوك وانصرفوا ... فما آبوا ولا رجعوا
ولم يوفوا بنذرهم ... فيا تبا لما صنعوا
وخص اليدين بالتباب، لأن العمل أكثر ما يكون بهما؛ أي خسرتا وخسر هو. وقيل: المراد باليدين نفسه. وقد يعبر عن النفس باليد، كما قال الله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} .

أي نفسك. وهذا مَهيَع كلام العرب؛ تعبر ببعض الشيء عن كله؛ تقول: أصابته يد الدهر، ويد الرزايا والمنايا؛ أي أصابه كل ذلك. قال الشاعر:
لما أكبت يد الرزايا ... عليه نادى ألا مجير
{تَبَّ} قال الفراء: التب الأول: دعاء والثاني خبر؛ كما يقال: أهلكه الله وقد هلك. وفي قراءة عبدالله وأُبي "وقد تب" وأبو لهب اسمه عبد العزى، وهو ابن عبدالمطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم. وامرأته العوراء أم جميل، أخت أبي سفيان بن حرب، وكلاهما، كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم. قال طارق بن عبدالله المحاربي: إني بسوق ذي المجاز، إذ أنا بإنسان يقول: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" ، وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت من هذا؟ فقالوا: محمد، زعم أنه نبي. وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب. وروى عطاء عن ابن عباس قال: قال أبو لهب: سحركم محمد إن أحدنا ليأكل الجذعة، ويشرب العس من اللبن فلا يشبع، وإن محمدا قد أشبعكم من فخذ شاة، وأرواكم من عس لبن.
الثانية- قوله تعالى: {أَبِي لَهَبٍ} قيل: سمي باللهب لحسنه، وإشراق وجهه. وقد ظن قوم أن في هذا دليلا على تكنية المشرك؛ وهو باطل، وإنما كناه الله بأبي لهب - عند العلماء - لمعان أربعة: الأول: أنه كان اسمه عبد العزى، والعزى: صنم، ولم يضف الله في كتابه العبودية إلى صنم. الثاني: أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه؛ فصرح بها. الثالث: أن الاسم أشرف من الكنية، فحطه الله عز وجل عن الأشرف إلى الأنقص؛ إذا لم يكن بد من الإخبار عنه، ولذلك دعا الله تعالى الأنبياء بأسمائهم، ولم يكن عن أحد منهم. ويدلك على شرف الاسم على الكنية: أن الله تعالى يُسمى ولا يُكنى، وإن كان ذلك لظهوره وبيانه؛ واستحالة نسبة الكنية إليه، لتقدسه عنها. الرابع : أن

الله تعالى أراد أن يحقق نسبته، بأن يدخله النار، فيكون أبا لها، تحقيقا للنسب، وإمضاء للفأل والطيرة التي اختارها لنفسه. وقد قيل: اسمه كنيته. فكان أهله يسمونه أبا لهب، لتلهب وجهه وحسنه؛ فصرفهم الله عن أن يقولوا: أبو النور، وأبو الضياء، الذي هو المشترك بين المحبوب والمكروه، وأجرى على ألسنتهم أن يضيفوه إلى اللهب الذي هو مخصوص بالمكروه المذموم، وهو النار. ثم حقق ذلك بأن يجعلها مقره. وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير وابن. محيصن. {أَبِي لَهْبٍ} بإسكان الهاء. ولم يختلفوا في {ذَاتَ لَهَبٍ} إنها مفتوحة؛ لأنهم راعوا فيها رؤوس الآي.
قال ابن عباس: لما خلق الله عز وجل القلم قال له: اكتب ما هو كائن، وكان فيما كتب {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . وقال منصور: سئل الحسن عن قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . هل كان في أم الكتاب؟ وهل كان أبو لهب يستطيع ألا يصلى النار؟ فقال: والله ما كان يستطيع ألا يصلاها، وإنها لفي كتاب الله من قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه. ويؤيده قول موسى لآدم: "أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، خيبت الناس، وأخرجتهم من الجنة. قال آدم: وأنت موسى الذي اصطفاك بكلامه، وأعطاك التوراة، تلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلق الله السموات والأرض. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى" . وقد تقدم هذا. وفي حديث همام عن أبي هريرة أن آدم قال لموسى: "بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني؟ قال: بألفي عام قال: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قال: نعم قال: أفتلومني على أمر وكتب الله على أن أفعله من قبل أن أخلق بألفي عام. فحج آدم موسى" . وفي حديث طاووس وابن هرمز والأعرج عن أبي هريرة: "بأربعين عاما" .

2- {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}
أي ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال، ولا ما كسب من جاه. وقال مجاهد: من الولد؛ وولد الرجل من كسبه. وقرأ الأعمش {وَمَا كَسَبَ} ورواه عن ابن مسعود. وقال أبو الطفيل: جاء بنو أبي لهب يختصمون عند ابن عباس، فاقتتلوا، فقام ليحجز بينهم، فدفعه بعضهم، فوقع على الفراش، فغضب ابن عباس وقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث؛ يعني ولده. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه" . خرجه أبو داود. وقال ابن عباس: لما أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بالنار، قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي؛ فنزل: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} . و{مَا} في قوله: {مَا أَغْنَى} : يجوز أن تكون نفيا، ويجوز أن تكون استفهاما؛ أي أي شيء أغنى عنه؟ و{مَا} الثانية: يجوز أن تكون بمعنى الذي، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا؛ أي ما أغنى عنه ماله وكسبه.
3- {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}
أي ذات اشتعال وتلهب. وقد مضى في سورة "المرسلات" القول فيه. وقراءة العامة: {سَيَصْلَى} بفتح الياء. وقرأ أبو رجاء والأعمش: بضم الياء. ورواها محبوب عن إسماعيل عن ابن كثير، وحسين عن أبي بكر عن عاصم، ورويت عن الحسن. وقرأ أشهب العقيلي وأبو سمال العدوي ومحمد بن السميقع {سيُصلى} بضم الياء، وفتح الصاد، وتشديد اللام؛ ومعناها سيصليه الله؛ من قوله: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} والثانية من الإصلاء؛ أي يصليه الله؛ من قوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} . والأولى هي الاختيار؛ لإجماع الناس عليها؛ وهي من قوله: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} .

4- {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}
قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ} أم جميل. وقال ابن العربي: العوراء أم قبيح، وكانت عوراء. {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: كانت تمشي بالنميمة بين الناس؛ تقول العرب: فلان يحطب على فلان: إذا ورش عليه. قال الشاعر:
إن بني الأدرم حمالو الحطب ... هم الوشاة في الرضا وفي الغضب
عليهم اللعنة تترى والحرب
وقال آخر:
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
يعني: لم تمش بالنمائم، وجعل الحطب رطبا ليدل على التدخين، الذي هو زيادة في الشر. وقال أكثم بن صيفي لبنيه: إياكم والنميمة فإنها نار محرقة، وإن النمام ليعمل في ساعة مالا يعمل الساحر في شهر. أخذه بعض الشعراء فقال:
إن النميمة نار ويك محرقة ... ففر عنها وجانب من تعاطاها
ولذلك قيل: نار الحقد لا تخبو. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام" . وقال: "ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها" . وقال عليه الصلاة والسلام: "من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه" . وقال كعب الأحبار: أصاب بني إسرائيل قحط، فخرج بهم موسى عليه السلام ثلاث مرات فلم يستسقوا. فقال موسى:"إلهي عبادك" فأوحى الله إليه: "إني لا أستجيب لك ولا لمن معك لأن فيهم رجلا نماما، قد أصر على النميمة" فقال موسى: "يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا"؟ فقال: "يا موسى أنهاك عن النميمة وأكون نماما" قال: فتابوا بأجمعهم، فسقوا . والنميمة من الكبائر، لا خلاف في ذلك؛ حيت قال الفضيل بن عياض: ثلاث تهد العمل الصالح ويفطرون الصائم، وينقضن الوضوء: الغيبة، والنميمة، والكذب.

وقال عطاء بن السائب: ذكرت للشعبي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة سافك دم، ولا مشاء بنميمة، ولا تاجر يربي" فقلت: يا أبا عمرو، قرن النمام بالقاتل وآكل الربا؟ فقال: وهل تسفك الدماء، وتنتهب الأموال، وتهيج الأمور العظام، إلا من أجل النميمة.
وقال قتادة وغيره: كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر. ثم كانت مع كثرة ما لها تحمل الحطب على ظهرها؛ لشدة بخلها، فعيرت بالبخل. وقال ابن زيد والضحاك: كانت تحمل العضاه والشوك، فتطرحه بالليل على طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وقاله ابن عباس. قال الربيع: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطوه كما يطأ الحرير. وقال مرة الهمداني: كانت أم جميل تأتي كل يوم بإباله من الحسك، فتطرحها على طريق المسلمين، فبينما هي حاملة ذات يوم حزمة أعيت، فقعدت على حجر لتستريح، فجذبها الملك من خلفها فأهلكها. وقال سعيد بن جبير: حمالة الخطايا والذنوب؛ من قولهم: فلان يحتطب على ظهره؛ دليله قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} . وقيل: المعنى حمالة الحطب في النار؛ وفيه بعد. وقراءة العامة {حمالة} بالرفع، على أن يكون خبرا {وامرأته} مبتدأ. ويكون {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} جملة في موضع الحال من المضمر في {حمالة}. أو خبرا ثانيا. أو يكون {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} نعتا لامرأته. والخبر {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} ؛ فيوقف - على هذا - على {ذَاتَ لَهَبٍ} . ويجوز أن يكون {وَامْرَأَتُهُ} معطوفة على المضمر في {سَيَصْلَى} فلا يوقف على {ذَاتَ لَهَبٍ} ويوقف على {وَامْرَأَتُهُ} وتكون {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} خبر ابتداء محذوف. وقرأ عاصم {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} بالنصب على الذم، كأنها اشتهرت بذلك، فجاءت الصفة للذم لا للتخصيص، كقوله تعالى: {حمالة الحطب} بالنصب على الذم، وقرأ أبو قلابة {حاملة الحطب}.

5- {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}
قوله تعالى: {فِي جِيدِهَا} أي عنقها. وقال امرؤ القيس:
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل
"حبل من مسد" أي من ليف؛ قال النابغة:
مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
وقال آخر:
يا مسد الحوص تعوذ مني ... إن كنت لدنا لينا فإني
ما شئت من أشمط مقسئن
وقد يكون من جلود الإبل، أو من أوبارها؛ قال الشاعر:
ومسد أمر من أيانق ... لسن بأنياب ولا حقائق
وجمع الجيد أجياد، والمسد أمساد. أبو عبيدة: هو حبل يكون من صوف. قال الحسن: هي حبال من شجر تنبت باليمن تسمى المسد، وكانت تفتل. قال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا؛ فكانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف، فخنقها الله جل وعز به فأهلكها؛ وهو في الآخرة حبل من نار. وقال ابن عباس

في رواية أبي صالح: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قال: سلسلة ذرعها سبعون ذراعا - وقاله مجاهد وعروة بن الزبير: تدخل من فيها، وتحرج من أسفلها، ويلوى سائرها على عنقها. وقال قتادة. {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قال: قلادة من ودع. الودع: خرز بيض تخرج من البحر، تتفاوت في الصغر والكبر. قال الشاعر:
والحلم حلم صبي يمرث الودعة
والجمع: ودعات. الحسن: إنما كان خرزا في عنقها. سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة من جوهر، فقالت: واللات والعزى لأنفقتها في عداوة محمد. ويكون ذلك عذابا في جيدها يوم القيامة. وقيل: إن ذلك إشارة إلى الخذلان؛ يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء، كالمربوط في جيده بحبل من مسد. والمسد: الفتل. يقال: مسد حبلة يمسده مسدا؛ أي أجاد فتله. قال:
يمسد أعلى لحمه ويأرمه
يقول: إن البقل يقوي ظهر هذا الحمار ويشده. ودابة ممسودة الخلق: إذا كانت شديدة الأسر. قال الشاعر:
ومسدٍ أُمِرَّ من أيانق ... صهب عتاق ذات مخ زاهق
لسن بأنياب ولا حقائق
ويروى:
ولا ضعاف مخهن زاهق
قال الفراء: هو مرفوع والشعر مكفأ. يقول: بل مخهن مكتنز؛ رفعه على الابتداء. قال: ولا يجوز أن يريد ولا ضعاف زاهق مخهن. كما لا يجوز أن تقول: مررت برجل أبوه قائم؛

بالخفض. وقال غيره: الزاهق هنا: بمعنى الذاهب كأنه قال: ولا ضعاف مخهن، ثم رد الزاهق على الضعاف. ورجل ممسود: أي مجدول الخلق. وجارية حسنة المسد والعصب والجدل والأرم؛ وهي ممسودة ومعصوبة ومجدولة ومأرومة. والمساد، على فعال: لغة في المساب، وهي نحى السمن، وميقاء العسل. قال جميعه الجوهري. وقد أعترض فقيل: إن كان ذلك حبلها الذي تحتطب به، فكيف يبقى في النار؟ وأجيب عنه بأن الله عز وجل قادر على تجديده كلما احترق. والحكم ببقاء أبي لهب وأمراته في النار مشروط ببقائهما على الكفر إلى الموافاة؛ فلما ماتا على الكفر صدق الإخبار عنهما. ففيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. فامرأته خنقها الله بحبلها، وأبو لهب رماه الله بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال، بعد أن شجته أم الفضل. وذلك أنه لما قدم الحيسمان مكة يخبر خبر بدر؛ قال له أبو لهب: أخبرني خبر الناس. قال: نعم، والله ما هو إلا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا، يضعون السلاح منا حيث شاؤوا، ومع ذلك ما لمست الناس. لقينا رجالا بيضا على خيل بلق، لا والله ما تبقي منا؛ يقول: ما تبقي شيئا. قال أبو رافع: وكنت غلاما للعباس أنحت الأقداح في صفة زمزم، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، فرفعت طنب الحجرة، فقلت: تلك والله الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب وجهي ضربة منكرة، وثاورته، وكنت رجلا ضعيفا، فاحتملني، فضرب بي الأرض، وبرك على صدري يضربني. وتقدمت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فتأخذه وتقول: استضعفتَه أن غاب عنه سيده! وتضربه بالعمود على رأسه فتفلقه شجة منكرة. فقام يجر رجليه ذليلا، ورماه الله بالعدسة، فمات، وأقام ثلاثة أيام يدفن حتى أنتن؛ ثم إن ولده غسلوه بالماء، قذفا من بعيد، مخافة عدوى العدسة. وكانت قريش تتقيها كما يتقي الطاعون. ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه الحجارة.

سورة الإخلاص
مكية؛ في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر. ومدنية؛ في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي. وهي أربع آيات.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
2- {اللَّهُ الصَّمَدُ}
3- {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}
4- {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي الواحد الوتر، الذي لا شبيه له، ولا نظير ولا صاحبة، ولا ولد ولا شريك. وأصل{أَحَدٌ}: وحد؛ قلبت الواو همزة. ومنه قول النابغة:
بذي الجليل على مستأنس وحد
وقد تقدم في سورة "البقرة" الفرق بين واحد وأحد، وفي كتاب "الأسنى، في شرح أسماء الله الحسي" أيضا مستوفى. والحمد لله. و {أَحَدٌ} مرفوع، على معنى: هو أحد. وقيل: المعنى: قل: الأمر والشأن: الله أحد. وقيل: "{أَحَدٌ} بدل من قوله: {اللَّهُ} وقرأ جماعة {أحد الله} بلا تنوين، طلبا للخفة، وفرارا من التقاء الساكنين؛ ومنه قول الشاعر:
ولا ذاكر الله إلا قليلا

{اللَّهُ الصَّمَدُ} أي الذي يصمد إليه في الحاجات. كذا روى الضحاك عن ابن عباس، قال: الذي يصمد إليه في الحاجات؛ كما قال عز وجل: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} . قال أهل اللغة: الصمد: السيد الذي يصمد إليه في النوازل والحوائج. قال:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقال قوم: الصمد: الدائم الباقي، الذي لم يزل ولا يزال. وقيل: تفسيره ما بعده "لم يلد ولم يولد". قال أبي بن كعب: الصمد: الذي لا يلد ولا يولد؛ لأنه ليس شيء إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا يورث. وقال علي وابن عباس أيضا وأبو وائل شقيق بن سلمة وسفيان: الصمد: هو السيد الذي قد أنتهى سؤدده في أنواع الشرف والسؤدد؛ ومنه قول الشاعر:
علوته بحسام ثم قلت له ... خذها حذيف فأنت السيد الصمد
وقال أبو هريرة: إنه المستغني عن كل أحدا، والمحتاج إليه كل أحد. وقال السدي: إنه: المقصود في الرغائب، والمستعان به في المصائب. وقال الحسين بن الفضل: إنه: الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقال مقاتل: إنه: الكامل الذي لا عيب فيه؛ ومنه قول الزبرقان:
سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا ... ولا رهينة إلا سيد صمد
وقال الحسن وعكرمة والضحاك وابن جبير: الصمد: المصمت الذي لا جوف له؛ قال الشاعر:
شهاب حروب لا تزال جياده ... عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
قلت: قد أتينا على هذه الأقوال مبينة في الصمد، في (كتاب الأسنى) وأن الصحيح منها. ما شهد له الاشتقاق؛ وهو القول الأول، ذكره الخطابي. وقد أسقط من هذه السورة من أبعده الله وأخزاه، وجعل النار مقامة ومثواه، وقرأ {الله الواحد الصمد} في الصلاة، والناس يستمعون، فاسقط: {قل هو}، وزعم أنه ليس من القرآن. وغير لفظ {أحد}، وأدعى أن هذا

هو الصواب، والذي عليه الناس هو الباطل والمحال، فأبطل معنى الآية؛ لأن أهل التفسير قالوا: نزلت الآية جوابا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله صلى: صف لنا ربك، أمن ذهب هو أم من نحاس أم من صفر؟ فقال الله عز وجل ردا عليهم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " ففي {هُوَ} دلالة على موضع الرد، ومكان الجواب؛ فإذا سقط بطل معنى الآية، وصح الافتراء على الله عز وجل، والتكذيب لرسول صلى الله عليه وسلم.
وروى الترمذي عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك؛ فأنزل الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} . والصمد: الذي لم يلد ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وأن الله تعالى لا يموت ولا يورث. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء. وروي عن أبي العالية: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم فقالوا: انسب لنا ربك. قال: فأتاه جبريل بهذه السورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فذكر نحوه، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب، وهذا صحيح؛ قاله الترمذي.
قلت: ففي هذا الحديث إثبات لفظ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وتفسير الصمد، وقد تقدم. وعن عكرمة نحوه. وقال ابن عباس: "لم يلد" كما ولدت مريم، ولم يولد كما ولد عيس وعزير. وهو رد على النصارى، وعلى من قال: عزير ابن الله.
قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} أي لم يكن له مثلا أحد. وفيه تقدم وتأخير؛ تقديره: ولم يكن له كفوا أحد؛ فقدم خبر كان على اسمها، لينساق أو آخر الآي على نظم واحد. وقرئ {كفوا} بضم الفاء وسكونها، وقد تقدم في "البقرة" أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فإنه يجوز في عينه الضم والإسكان؛ إلا قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} لعلة تقدمت. وقرأ حفص {كفوا} مضموم الفاء غير مهموز. وكلها لغات فصيحة.

القول في الأحاديث الواردة في فضل هذه السورة؛ وفيه ثلاث مسائل:
الأولى: ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا سمع رجلا يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها؛ فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن" . وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة" فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: "الله الواحد الصمد ثلث القرآن" خرجه مسلم من حديث أبي الدرداء بمعناه. وخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن" ، فحشد من حشد؛ ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله. ثم خرج فقال: "إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن" قال بعض العلماء: إنها عدلت ثلث القرآن لأجل هذا الاسم، الذي هو {الصَّمَدُ}، فإنه لا يوجد في غيرها من السور. وكذلك {أَحَدٌ}. وقيل: إن القرآن أنزل أثلاثا، ثلثا منه أحكام، وثلثا منه وعد ووعيد، وثلثا منه أسماء وصفات، وقد جمعت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أحد الأثلاث، وهو الأسماء والصفات. ودل على هذا التأويل ما في صحيح مسلم، من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله جل وعز جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} جزءا من أجزاء القرآن" . وهذا نص؛ وبهذا المعنى سميت سورة الإخلاص، والله أعلم.
الثانية : روى مسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي

صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك" ؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله عز وجل يحبه" . وروى الترمزي عن أنس بن مالك قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما أفتتح سورة يقرؤها لهم في الصلاة فقرأ بها، أفتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ؛ حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تقرأ بهذه السورة، ثم لا ترى منها تجزيك حتى تقرأ بسورة أخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعوا وتقرأ بسورة أخرى؟ قال: ما أنا بتاركها وإن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكم؛ وكانوا يرونه أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم اخبروه الخبر، فقال: "يا فلان ما يمنعك مما يأمر به أصحابك؟ وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة" ؟ فقال: يا رسول الله، إني أحبها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن حبها أدخلك الجنة" . قال: حديث حسن غريب صحيح. قال ابن العربي: فكان هذا دليلا على أنه يجوز تكرار سورة في كل ركعة. وقد رأيت على باب الأسباط فيما يقرب منه، إماما من جملة الثمانية والعشرين إماما، كان يصلي فيه التراويح في رمضان بالأتراك؛ فيقرأ في كل ركعة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يتم التراويح؛ تخفيفا عليه، ورغبة في فضلها وليس من السنة ختم القرآن في رمضان.
قلت: هذا نص قول مالك، قال مالك: وليس ختم القرآن في المساجد بسنة.
الثالثة: روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ "قل هو الله أحد"؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت" . قلت: وما وجبت؟ قال: "الجنة" . قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الترمذي:

حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال حدثنا حاتم بن ميمون أبو سهل عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد، محي عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دين" . وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه، ثم قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مائة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقول الرب: يا عبدي، ادخل على يمينك الجنة" . قال: هذا حديث غريب من حديث، ثابت عن أنس. وفي مسند أبي محمد الدارمي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خمسين مرة، غفرت له ذنوب خمسين سنة" قال: وحدثنا عبدالله بن يزيد قال حدثنا حيوة قال: أخبرني أبو عقيل: أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عشرة مرات بني له قصر في الجنة. ومن قرأها عشرين مرة بني له بها قصران في الجنه. ومن قرأها ثلاثين مرة بني له بها ثلاثة قصور في الجنة" . فقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله إذا لنكثرن قصورنا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أوسع من ذلك" قال أبو محمد: أبو عقيل زهرة بن معبد، وزعموا أنه كان من الأبدال. وذكر أبو نعيم الحافظ من حديث أبي العلاء يزيد بن عبدالله بن الشخير عن أبيه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في مرضه الذي يموت فيه، لم يفتن في قبره. وأمن من ضغطة القبر. وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها، حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة" . قال: هذا حديث غريب من حديث يزيد، تفرد به نصر بن حماد البجلي.
وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ عن عيسى بن أبي فاطمة الرازي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إذا نقس بالناقوس اشتد غضب الرحمن، فتنزل الملائكة، فيأخذون بأقطار الأرض، فلا يزالون يقرؤون {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يسكن غضبه جل وعز. وخرج من حديث محمد بن خالد الجندي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل يوم الجمعة

المسجد، فصلى أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خمسين مرة فذلك مائتا مرة في أربع ركعات، لم يمت حتى يرى منزله في الجنة أو يرى له" . وقال أبو عمر مولى جرير بن عبدالله البجلي، عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حين يدخل منزله، نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل وعن الجيران" وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مرة بورك عليه، ومن قرأها مرتين بورك عليه وعلى أهله، ومن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى جميع جيرانه، ومن قرأها اثنتي عشرة بني الله له اثني عشر قصرا في الجنة، وتقول الحفظة انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا، فإن قرأها مائة مرة كفر الله عنه ذنوب خمسين سنة، ما خلا الدماء والأموال، فإن قرأها أربعمائة مرة كفر الله عنه ذنوب مائة سنة، فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له". وعن سهل بن سعد الساعدي قال: شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر وضيق المعيشة؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلت البيت فسلم إن كان فيه أحد، وإن لم يكن فيه أحد فسلم علي، واقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مرة واحدة" ففعل الرجل فأدر الله عليه الرزق، حتى أفاض عليه جيرانه. وقال أنس: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فطلعت الشمس بيضاء لها شعاع ونور، لم أرها فيما مضى طلعت قط كذلك، فأتى جبريل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل، مالي أرى الشمس طلعت بيضاء بشعاع لم أرها طلعت كذلك فيما مضى قط"؟ فقال: "ذلك لأن معاوية الليثي توفي بالمدينة اليوم، فبعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه". قال "ومم ذلك"؟ قال: "كان يكثر قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} آناء الليل وآناء النهار، وفي ممشاه وقيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض. فتصلي عليه"؟ قال "نعم" فصلى عليه ثم رجع. ذكره الثعلبي، والله أعلم.

سورة الفلق
وهي مكية؛ في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. ومدنية؛ في أحد
قولي ابن عباس وقتادة. وهي خمس آيات.
وهذه السورة وسورة "الناس"و" الإخلاص": تعوذ بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سحرته اليهود؛ على ما يأتي. وقيل: إن المعوذتين كان يقال لهما المقشقشتان؛ أي تبرئان من النفاق. وقد تقدم. وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به، وليستا من القرآن؛ خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت. قال ابن قتيبة: لم يكتب عبدالله بن مسعود في مصحفه المعوذتين؛ لأنه كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين - رضي الله عنهما - بهما، فقدر أنهما بمنزلة: "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" . قال أبو بكر الأنباري: وهذا مردود على ابن قتيبة؛ لأن المعوذتين من كلام رب العالمين، المعجز لجميع المخلوقين؛ و "أعيذكما بكلمات الله التامة" من قول البشر بين. وكلام الخالق الذي هو آية لمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وحجة له باقية على جميع الكافرين، لا يلتبس بكلام الآدميين، على مثل عبدالله بن مسعود الفصيح اللسان، العالم باللغة، العارف بأجناس الكلام، وأفانين القول. وقال بعض الناس: لم يكتب عبدالله المعوذتين لأنه أمن عليهما من النسيان، فأسقطهما وهو يحفظهما؛ كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه، وما يشك في حفظه وإتقانه لها. فرد هذا القول على قائله، واحتج عليه بأنه قد كتب: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وهن يحرين مجرى المعوذتين في أنهن غير طوال، والحفظ إليهن أسرع، ونسيانهن مأمون، وكلهن يخالف فاتحة الكتاب؛ إذ الصلاة لا تتم إلا بقراءتها. وسبيل كل ركعة أن تكون المقدمة فيها قبل ما يقرأ من بعدها، فاسقاط فاتحة الكتاب من المصحف، على معنى الثقة ببقاء حفظها، والأمن نسيانها، صحيح، وليس من السور ما يجري في هذا المعنى مجراها، ولايسلك به طريقها. وقد مضى هذا المعنى في سورة"الفاتحة". والحمد لله.

بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}
2- {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}
3- {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}
4- {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}
5- {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}
فيه تسع مسائل:
الأولى- روى النسائي عن عقبة بن عامر، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرئني سورة [هود] أقرئني سورة يوسف. فقال لي: "ولن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} " . وعنه قال: بينا أنا أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء، إذ غشتنا ريح مظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ "بأعوذ برب الفلق"، و"أعوذ برب الناس"، ويقول: "يا عقبة، تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما" . قال: وسمعته يقرأ بهما في الصلاة. وروى النسائي عن عبدالله قال: أصابنا طش وظلمة، فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج. ثم ذكر كلاما معناه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا، فقال: قل. فقلت: ما أقول؟ قال: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاثا، يكفك كل شيء" وعن عقبة بن عامر الجهني قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل" . قلت: ما أقول؟ قال قل: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}. {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} - فقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لم يتعوذ الناس بمثلهن، أو لا يتعوذ الناس بمثلهن" . وفي حديث ابن عباس " {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ

الْفَلَقِ} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، هاتين السورتين" . وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، كلما أشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها. النفث: النفخ ليس معه ريق.
الثانية- ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى سحره يهودي من يهود بني زريق، يقال له لبيد بن الأعصم، حتى يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء ولا يفعله، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث - في غير الصحيح: سنة - ثم قال: "يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي: ما شأن الرجل؟ قال: مطبوب. قال ومن طبه؟ قال لبيد بن الأعصم. قال في ماذا؟ قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، تحت راعوفة في بئر ذي أوران" فجاء البئر واستخرجه. انتهى الصحيح. وقال ابن عباس: "أما شعرت يا عائشة أن الله تعالى أخبرني بدائي" . ثم بعث عليا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة وهي الراعوفة - صخرة تترك أسفل البئر يقوم عليها المائح، وأخرجوا الجف، فإذا مشاطة رأس إنسان، وأسنان من مشط، وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فأنزل الله تعالى هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية على عدد تلك العقد، وأمر أن يتعوذ بهما؛ فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، حتى انحلت العقدة الأخيرة، فكأنما أنشط من عقال، وقال: ليس به بأس. وجعل جبريل يرقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "باسم الله

أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر حاسد وعين، والله يشفيك" . فقالوا: يا رسول الله، ألا نقتل الخبيث. فقال: "أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على الناس شرا" . وذكر القشيري في تفسيره أنه ورد في الصححاح: أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فدست إليه اليهود، ولم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم. والمشاطة بضم الميم: ما يسقط من الشعر عند المشط. وأخذ عدة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك لبيد بن الأعصم اليهودي. وذكر نحو ما تقدم عن ابن عباس.
الثالثة- وقد تقدم في "البقرة" القول في السحر وحقيقته، وما ينشأ عنه من الآلام والمفاسد، وحكم الساحر؛ فلا معنى لإعادته.
الرابعة- قوله تعالى: "الفلق" اختلف فيه؛ فقيل: سجن في جهنم؛ قال ابن عباس. وقال أبي بنكعب: بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من حره. وقال الحبلي أبو عبدالرحمن: هو اسم من أسماء جهنم. وقال الكلبي: واد في جهنم. وقال عبدالله بن عمر: شجرة في النار. سعيد بن جبير: جب في النار. النحاس: يقال لما اطمأن من الأرض فلق؛ فعلى هذا يصح هذا القول. وقال جابر بن عبدالله والحسن وسعيد بن جبيرأيضا ومجاهد وقتادة والقرظبي وابن زيد: الفلق، الصبح. وقال ابن عباس. تقول العرب: هو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح. وقال الشاعر:
يا ليلة لم أنمها بت مرتفقا ... أرعى النجوم إلى أن نور الفلق
وقيل: الفلق: الجبال والصخور تنفرد بالمياه؛ أي تتشقق. وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور؛ لأنها تتشقق من خوف الله عز وجل. قال زهير:
ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت ... أيدي الركاب بهم من راكس فلقا

الراكس: بطن الوادي. وكذلك هو في قول النابغة:
أتاني ودوني راكس فالضواجع
والراكس أيضا: الهادي، وهو الثور وسط البيدر، تدور عليه الثيران في الدياسة. وقيل: الرحم تنقلق بالحيوان. وقيل: إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى، وكل شيء من نبات وغيره؛ قاله الحسن وغيره. قال الضحاك: الفلق الخلق كله؛ قال:
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق ... سرا وقد أون تأوين العقق
قلت: هذا القول يشهد له الاشتقاق؛ فإن الفلق الشق. فلقت الشيء فاقا أي شققته. والتفليق مثله. يقال: فلقته فانفلق وتفلق. فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق؛ قال اللة تعالى: {فالِقُ الإصباحِ} قال: {فالِق الحَبِّ والنَّوَى} وقال ذو الرمة يصف الثور الوحشي:
حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق ... هاديه في أخريات الليل منتصب
يعني بالفلق هنا: الصبح بعينه. والفلق أيضا: المطمئن من الأرض بين الربوتين، وجمعه: فلقان؛ مثل خلق وخلقان، وربما قال: كان ذلك بفالق كذا وكذا؛ يريدون المكان المنحدر

بين الربوتين، والفلق أيضا مقطرة السجان. فأما الفلق (بالكسر): فالداهية والأمر العجب؛ تقول منه: أفلق الرجل وأفتلق. وشاعر مفلق، وقد جاء بالفلق (أي بالداهية). والفلق أيضا: القضيب يشق باثنين، فيعمل منه قوسان، يقال لكل واحدة منهما فلق، وقولهم: جاء بعلق فلق؛ وهي الداهية؛ لا يجرى (مجرى عمر). يقال منه: أعلقت وأفلقت؛ أي جئت بعلق فلق. ومر يفتلق في عدوه؛ أي يأتي بالعجب من شدته.
قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} قيل: هو إبليس وذريته. وقيل جهنم. وقيل: هوعام؛ أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل.
الخامسة- {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} اختلف فيه؛ فقيل: هو الليل. والغسق: أول ظلمة الليل؛ يقال منه: غسقا الليل يغسق أي أظلم. قال ابن قيس الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهم والأرقا
وقال آخر:
يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقا ... إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا
هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. و"وقب" على هذا التفسير: أظلم؛ قاله ابن عباس. والضحاك: دخل. قتادة: ذهب. يمان بن رئاب: سكن. وقيل: نزل؛ يقال: وقب العذاب على الكافرين؛ نزل. قال الشاعر:
وقب العذاب عليهم فكأنهم ... لحقتهم نار السموم فاحصدوا
وقال الزجاج: قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار. والغاسق: البارد. والغسق: البرد؛ ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر على العبث

والفساد. وقيل: الغاسق: الثريا؛ وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك؛ قال عبدالرحمن بن زيد. وقيل: هو الشمس إذا غربت؛ قاله ابن شهاب. وقيل: هو القمر. قال القتبي: "إذا وقب" القمر: إذا دخل في ساهوره، وهو كالغلاف له، وذلك إذا خسف به. وكل شيء أسود فهو غسق. وقال قتادة: {إِذَا وَقَبَ} إذا غاب. وهو أصح؛ لأن في الترمذي عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر، فقال: "يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب" . قال أبو عيس: هذا حديث حسن صحيح. وقال أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر. وأنشد:
أراحني الله من أشياء أكرهها ... منها العجوز ومنها الكلب والقمر
هذا يبوح وهذا يستضاء به ... وهذه ضمرز قوامة السحر
وقيل: الغاسق: الحية إذا لدغت. وكأن الغاسق نابها؛ لأن السم يغسق منه؛ أي يسيل. ووقب نابها: إذا دخل في اللديغ. وقيل: الغاسق: كل هاجم يضر، كائنا ما كان؛ من قولهم: غسقت القرحة: إذا جرى صديدها.
السادسة- قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها. شبه النفخ كما يعمل من يرقي. قال الشاعر:
أعوذ بربي من النافثات ... في عضه العاضه المعضه
وقال متمم بن نويرة:
نفثت في الخيط شبيه الرقى ... من خشية الجنة والحاسد
وقال عنترة:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقود

السابعة- روى النسائي عن أبي هريرة قال: فال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عقد عقدة ثم نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه" . واختلف في النفث عند الرقي فمنعه قوم، وأجازه آخرون. قال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث، ولا يمسح ولا يعقد. قال إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرقي. وقال بعضهم: دخلت، على الضحاك وهو وجع، فقلت: ألا أعوذك يا أبا محمد؟ قال: لا شيء من ذلك ولكن لا تنفث؛ فعوذته بالمعوذتين. وقال ابن جريج قلت لعطاء: القرآن ينفخ به أو ينفث؟ قال: لا شيء من ذلك ولكن تقرؤه هكذا. ثم قال بعد: انفث إن شئت. وسئل محمد بن سيرين عن الرقيه ينفث فيها، فقال: لا أعلم بها بأسا، وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة. روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث في الرقية؛ رواه الأئمة، وقد ذكرناه أول السورة وفي "الإسراء". وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام؛ زعم أنه لم يحفظه. وقال محمد بن الأشعث: ذهب بي إلى عائشة رضي الله عنها وفي عيني سوء، فرقتني ونفثت.
وأما ما روي عن عكرمة من قوله: لا ينبغي للراقي أن ينفث، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ به، فلا يكون بنفسه عوذة. وليس هذا هكذا؛ لأن النفث في العقد إذا كان مذموما لم يجب أن يكون النفث بلا عقد مذموما. ولأن النفث في العقد إنما أريد به السحر المضر بالأرواح، وهذا النفث لاستصلاح الأبدان، فلا يقاس ما ينفع بما يضر. وأما كراهة عكرمة المسح فخلاف السنة. قال علي رضي الله عنه: اشتكيت، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فاشفني وعافني، وإن كان بلاء فصبرني. فقال النبي

صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت" ؟ فقلت له: فمسحني بيده، ثم قال: "اللم اشفه" فما عاد ذلك الوجع بعد. وقرأ عبدالله بن عمرو وعبدالرحمن بن سابط وعيسى بن عمر ورويس عن يعقوب "من شر النافثات" في وزن (فاعلات). ورويت عن عبدالله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. وروي أن نساء سحرن النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية. قال ابن زيد: كن من اليهود؛ يعني السواحر المذكورات. وقيل: هن بنات لبيد بن الأعصم.
الثامنة- قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قد تقدم في سورة "النساء" معنى الحسد، وأنه تمنى زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها. والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل. فالحسد شر مذموم. والمنافسة مباحة وهي الغبطة. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن يغبط، والمنافق يحسد" . وفي الصحيحين: "لا حسد إلا في اثنتين..." يريد لا غبطة وقد مضى في سورة "النساء" والحمد لله.
قلت: قال العلماء: الحاسد لايضر إلا اذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا حسدت فلا تبغ..." الحديث. وقد تقدم. والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل. والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون ولقد أحسن من قال:
قل للحسود إذا تنفس طعنة ... يا ظالما وكأنه مظلوم
هذه سورة دالة على أن الله سبحانه خالق كل شر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من جميع الشرور. فقال: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} . وجعل خاتمة ذلك الحسد،

تنبيها على عظمه، وكثرة ضرره. والحاسد عدو نعمة الله. قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه: أحدها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. وثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة؟ وثالثها: أنه ضاد فعل الله، أي إن فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله. ورابعها: أنه خذل أولياء الله، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. وخامسها: أنه أعان عدوه إبليس. وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة ألا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا وغما، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا، ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم: آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غل أو حسد للمسلمين" . والله سبحانه وتعالى أعلم.
سورة الناسمثل "الفلق" لأنها إحدى المعوذتين. وروى الترمذي عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أنزل الله على آيات لم ير مثلهن: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى آخر السورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى آخر السورة". وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه مسلم.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}
2- {مَلِكِ النَّاسِ}
3- {إِلَهِ النَّاسِ}
قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} أي مالكهم ومصلح أمورهم. وإنما ذكر أنه رب الناس، وإن كان ربا لجميع الخلق لأمرين: أحدهما: لأن الناس معظمون؛ فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا. الثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعلم بذكرهم

أنه هو الذي يعيذ منهم. وإنما قال: {مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} لأن في الناس ملوكا يذكر أنه ملكهم. وفي الناس من يعبد غيره، فذكر أنه إلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به ويلجأ إليه، دون الملوك والعظماء.
4- {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}
يعني: من شر الشيطان. والمعنى: من شر ذي الوسواس؛ فحذف المضاف؛ قال الفراء: وهو (بفتح الواو) بمعنى الاسم؛ أي الموسوس. و(بكسر الواو) المصدر؛ يعني الوسوسة. وكذا الزلزال والزلزال. والوسوسة: حديث النفس. يقال: وسوست إليهم نفسه وسوسة ووسوسة (بكسر الواو). ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي: وسواس. وقال ذو الرمة:
فبات بشئزه ثاد ويسهره ... تذؤب الريح والوسواس والهضب
وقال الأعشى:
تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل
وقيل: إن الوسواس الخناس ابن لإبليس، جاء به إلى حواء، ووضعه بين يديها وقال: اكفليه. فجاء آدم عليه السلام فقال: ما هذا (يا حواء) قالت: جاء عدونا بهذا وقال لي: اكفليه. فقال: ألم أقل لك لا تطيعيه في شيء، هو الذي غرنا حتى وقعنا في المعصية؟ وعمد إلى الولد فقطعه أربعة أرباع، وعلق كل ربع على شجرة، غيظا له؛ فجاء إبليس فقال: يا حواء، أين ابني؟ فأخبرته بما صنع به آدم عليه السلام فقال: يا خناس، فحيي فأجابه. فجاء به إلى حواء وقال: اكفليه؛ فجاء آدم عليه السلام فحرقه بالنار، وذر رماده في البحر؛ فجاء إبليس (عليه اللعنة) فقال: يا حواء، أين ابني؟ فأخبرته بفعل آدم إياه؛ فذهب

إلى البحر، فقال: يا خناس، فحيي فأجابه. فجاء به إلى حواء الثالثة، وقال: أكفليه. فنظر؛ إليه آدم، فذبحه وشواه، وأكلاه جميعا. فجاء إبليس فسألها فأخبرته (حواء). فقال: يا خناس، فحيي فأجابه (فجاء به) من جوف آدم وحواء. فقال إبليس: هذا الذي أردت، وهذا مسكنك في صدر ولد آدم؛ فهو ملتقم قلب آدم ما دام غافلا يوسوس، فإذا ذكر الله لفظ قلبه وانخنس. ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول بإسناد عن وهب بن منبه. وما أظنه يصح، والله تعالى أعلم. ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء؛ ومنه قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } يعني النجوم، لاختفائها بعد ظهورها. وقيل: لأنه يخنس إذا ذكر العبد الله؛ أي يتأخر. وفي الخبر "إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا غفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس" أي تأخر وأقصر. وقال قتادة: {الْخَنَّاسِ} الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا غفل الإنسان وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خنس. يقال: خنسته فخنس؛ أي أخرته فتأخر. وأخنسته أيضا. ومنه قول أبي العلاء الحضرمي - أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وإن دحسوا بالشر فاعف تكرما ... وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل
الدحس: الإفساد. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس" . وقال ابن عباس: إذا ذكر الله العبد خنس من قلبه فذهب، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومناه. وقال إبراهيم التيمي: أول ما يبدو الوسواس من قبل الوضوء. وقيل: سمي خناسا لأنه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله. والخنس: الرجوع. وقال الراجز:
وصاحب يمتعس امتعاسا ... يزداد إن حييته خناسا

وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} وجهين: أحدهما: أنه الراجع بالوسوسة عن الهدى. الثاني: أنه الخارج بالوسوسة من اليقين.
5- {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}
قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير، يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، سلطه الله على ذلك؛ فذلك قوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" . وهذا يصحح ما قاله مقاتل.
وروى شهر بن حوشب عن أبي ثعلبة الخشني قال: سألت الله أن يريني الشيطان ومكانه من ابن آدم فرأيته، يداه في يديه، ورجلاه في رجليه، ومشاعبه في جسده؛ غير أن له خطما كخطم الكلب، فإذا ذكر الله خنس ونكس، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه. فعلى ما وصف أبو ثعلبة، أنه متشعب في الجسد؛ أي في كل عضو منه شعبة.
وروي عن عبدالرحمن بن الأسود أو غيره من التابعين أنه قال - وقد كبر سنه -: ما أمنت الزنى، وما يؤمنني أن يدخل الشيطان ذكره فيوتده! فهذا القول ينبئك أنه متشعب في الجسد، وهذا معنى قول مقاتل.
ووسوسته: هو الدعاء لطاعته بكلام خفي، يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت.
6- {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}
أخبر أن الموسوس قد يكون من الناس. قال الحسن: هما شيطانان؛ أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين؛ فتعوذ بالله من شياطين الإنس والجن. وروي عن أبي ذر أنه قال لرجل: هل تعوذت بالله من شياطين الإنس؟ فقال: أو من الإنس شياطين؟ قال: نعم؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} ... الآية. وذهب قوم إلى أن الناس هنا يراد به الجن. سموا ناسا كما سموا رجلا في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ

الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} - وقوما ونفرا. فعلى هذا يكون {وَالنَّاسِ} عطفا على {الْجِنَّةِ} ، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. وذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدث: جاء قوم من الجن فوقفوا. فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجن. وهو معنى قول الفراء. وقيل: الوسواس هو الشيطان. وقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ} بيان أنه من الجن {وَالنَّاسِ} معطوف على الوسواس. والمعنى: قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس، الذي هو من الجنة، ومن شر الناس. فعلى هذا أمر بأن يستعيذ من شر الإنس والجن. والجنة: جمع جني؛ كما يقال: إنس وإنسي. والهاء لتأنيث الجماعة. وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الناس. فعلى هذا يكون {فِي صُدُورِ النَّاسِ} عاما في الجميع. و {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيان لما يوسوس في صدره. وقيل: معنى {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} أي الوسوسة التي تكون من الجنة والناس، وهو حديث النفس. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به" . رواه أبو هريرة، أخرجه مسلم. فالله تعالى أعلم بالمراد من ذلك.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44