كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

الثانية- قرأ الحسن: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} وعنه أيضا {لا يَحِطِّمَنَّكم} وعنه أيضا وعن أبي رجاء: {لا يُحَطِّمَنَّكم} والحطْم الكسر. حطمته حطما أي كسرته وتحطَّم؛ والتحطيم التكسير، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} يجوز أن يكون حالا من سليمان، وجنوده، والعامل في الحال {يَحْطِمَنَّكُمْ}. أو حالا من النملة والعامل {قَالَتْ} : أي قالت ذلك في حال غفلة الجنود؛ كقولك: قمت والناس غافلون. أو حالا من النمل أيضا والعامل {قَالَتْ} على أن المعنى: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها. وفيه بعد وسيأتي.
الثالثة- روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" وفي طريق آخر: "فهلا نملة واحدة" . قال علماؤنا: يقال إن هذا النبي هو موسى عليه السلام، وإنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع. فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها، وعندها قرية النمل، فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته، فدلكهن بقدمه فأهلكهن، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم، فأراه الله العبرة في ذلك آية: لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها! يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة، وشرا ونقمة على العاصي. وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل؛ فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك وسلطت عليها، فإذا آذاك أبيح لك قتله. وروي عن إبراهيم: ما آذاك من النمل فاقتله. وقوله: "إلا نملة واحدة" دليل على أن الذي يؤذي يؤذى ويقتل، وكلما كان القتل لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء. وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي لدغت من غيرها؛ لأنه ليس المراد القصاص؛ لأنه لو أراده لقال ألا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: ألا نملة مكان نملة؛ فعم البريء

والجاني بذلك، ليعلم أنه أراد أن ينبهه لمسألته ربه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي. وقد قيل: إن هذا النبي كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه؛ فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النمل لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله: "فهلا نملة واحدة" أي هلا حرقت نملة واحدة. وهذا بخلاف شرعنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التعذيب بالنار. وقال: "لا يعذب بالنار إلا الله" . وكذلك أيضا كان قتل النمل مباحا في شريعة ذلك النبي؛ فإن الله لم يعتبه على أصل قتل النمل. وأما شرعنا فقد جاء من حديث ابن عباس وأبي هريرة النهي عن ذلك. وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل. وقد قيل: إن هذا النبي إنما عاتبه الله حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد، وكان الأولى الصبر والصفح؛ لكن وقع للنبي أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التشفي الطبعي لم يعاتب. والله أعلم. لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه.
الرابعة- قوله: "أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" مقتضى هذا أنه تسبيح بمقال ونطق، كما أخبر الله عن النمل أن لها منطقا وفهمه سليمان عليه السلام - وهذا معجزة له - وتبسم من قولها. وهذا يدل دلالة واضحة أن للنمل نطقا وقولا، لكن لا يسمعه كل أحد، بل من شاء الله تعالى ممن خرق له العادة من نبي أو ولي. ولا ننكر هذا من حيث أنا لا نسمع ذلك؛ فإنه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرك في نفسه. ثم إن الإنسان يجد في نفسه قولا وكلاما ولا يسمع منه إلا إذا نطق بلسانه. وقد خرق الله العادة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأسمعه كلام النفس من قوم تحدثوا مع أنفسهم وأخبرهم بما في نفوسهم، كما قد نقل منه الكثير من أئمتنا في كتب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكذلك وقع لكثير ممن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثل ذلك في غير ما قضية. وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم" . وقد مضى هذا المعنى

في تسبيح الجماد في {الإسراء} وإنه تسبيح لسان ومقال لا تسبيح دلالة حال. والحمد لله.
الخامسة- قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} وقرأ ابن السميقع: {ضَاحِكاً} بغير ألف، وهو منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل عليه تبسم، كأنه قال ضحك ضحكا، هذا مذهب سيبويه. وهو عند غير سيبويه منصوب بنفس {تَبَسَّمَ} لأنه في معنى ضحك؛ ومن قرأ: {ضَاحِكاً} فهو منصوب على الحال من الضمير في {تَبَسَّمَ} . والمعنى تبسم مقدار الضحك؛ لأن الضحك يستغرق التبسم، والتبسم دون الضحك وهو أوله. يقال: بسم: "بالفتح" يبسم بسما فهو باسم وابتسم وتبسم، والمبسم الثغر مثل المجلس من جلس يجلس ورجل مبسام وبسام كثير التبسم، فالتبسم ابتداء الضحك. والضحك عبارة عن الابتداء والانتهاء، إلا أن الضحك يقتضي مزيدا على التبسم، فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه قيل قهقه. والتبسم ضحك الأنبياء عليهم السلام في غالب أمرهم. وفي الصحيح عن جابر بن سمرة وقيل له: أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: نعم كثيرا؛ كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح - أو الغداة - حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون ويأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم. وفيه عن سعد قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارم فداك أبي وأمي" قال فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه. فكان عليه السلام في أكثر أحواله يتبسم. وكان أيضا يضحك في أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم وأقل من الاستغراق الذي تبدو فيه اللهوات. وكان في النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى بدت نواجذه. ود كره العلماء منه الكثرة؛ كما قال لقمان لابنه: يا بني إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب. وقد روي مرفوعا من

حديث أبي ذر وغيره. وضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه حين رمى سعد الرجل فأصابه، إنما كان سرورا بإصابته لا بانكشاف عورته؛ فإنه المنزه عن ذلك صلى الله عليه وسلم.
السادسة- لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول. وقد قال الشافعي: الحمام أعقل الطير. قال ابن عطية: والنمل حيوان فطن قوي شمام جدا يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت، ويشق الكزبرة بأربع قطع؛ لأنها تنبت إذا قسمت شقتين، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي سائره عدة. قال ابن العربي: وهذه خواص العلوم عندنا، وقد أدركتها النمل بخلق الله ذلك لها؛ قال الأستاذ أبو المظفر شاهنود الإسفرايني: ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم وحدوث المخلوقات؛ ووحدانية الإله، ولكننا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا، أما أنا نطلبها وهي تفر منا فبحكم الجنسية.
قوله تعالى: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} فـ {أن} مصدرية. و {أَوْزِعْنِي} أي ألهمني ذلك. وأصله من وزع فكأنه قال: كفني عما يسخط. وقال محمد بن إسحاق: يزعم أهل الكتاب أن أم سليمان هي امرأة أوريا التي امتحن الله بها داود، أو أنه بعد موت زوجها تزوجها داود فولدت له سليمان عليه السلام. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة {ص} إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أي مع عبادك، عن ابن زيد. وقيل: المعنى في جملة عبادك الصالحين.
الآية: [20] {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}
الآية: [21] {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
الآية: [22] {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ}

الآية: [23] {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}
الآية: [24] {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}
الآية: [25] {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}
الآية: [26] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}
الآية: [27] {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}
الآية: [28] {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}
فيه ثمان عشرة مسألة:
الأولى- قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} ذكر شيئا آخر مما جرى له في مسيره الذي كان فيه من النمل ما تقدم. والتفقد تطلب ما غاب عنك من شيء. والطير اسم جامع والواحد طائر، والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها. وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها. واختلف الناس في معنى تفقده للطير؛ فقالت فرقة: ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك، والتهمم بكل جزء منها؛ وهذا ظاهر الآية. وقالت فرقة: بل تفقد الطير لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب؛ فكان ذلك سبب تفقد الطير؛ ليتبين من أين دخلت الشمس. وقال عبدالله بن سلام: إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض؛ لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها؛ فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة؛ تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة؛ قاله ابن عباس فيما روي عن ابن سلام. قال أبو مجلز قال ابن عباس لعبدالله بن سلام: أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل. قال: أتسألني وأنت تقرأ القرآن؟ قال: نعم ثلاث مرات. قال: لم تفقد سليمان الهدهد دون

سائر الطير؟ قال: احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه - أو قال مسافته - وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده. وقال في كتاب النقاش: كان الهدهد مهندسا. وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له: قف يا وقاف كيف يرى الهدهد باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه؟! فقال له ابن عباس: إذا جاء القدر عمي البصر. وقال مجاهد: قيل لابن عباس كيف تفقد الهدهد من الطير؟ فقال: نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد مهتديا إليه، فأراد أن يسأله. قال مجاهد: فقلت كيف يهتدي والصبي يضع له الحبالة فيصيده؟ قال: إذا جاء القدر عمي البصر. قال ابن العربي: ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن.
قلت: هذا الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدم. وأنشدوا:
إذا أراد الله أمرا بامرئ ... وكان ذا عقل ورأي ونظر
وحيلة يعملها في دفع ما ... يأتي به مكروه أسباب القدر
غطى عليه سمعه وعقله ... وسله من ذهنه سل الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه ... رد عليه عقله ليعتبر
قال الكلبي: لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد. والله أعلم.
الثانية- في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته؛ والمحافظة عليهم. فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك. ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته؛ قال: لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر. فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان. وفي الصحيح عن عبدالله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام. الحديث؛ قال علماؤنا: كان هذا الخروج من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط.

كان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه، فقد دل القرآن والسنة وبينا ما يجب على الإمام من تفقد أحوال رعيته، ومباشرة ذلك بنفسه، والسفر إلى ذلك وإن طال. ورحم الله ابن المبارك حيث يقول:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها
الثالثة- قوله تعالى: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} أي ما للهدهد لا أراه؛ فهو من القلب الذي لا يعرف معناه. وهو كقولك: ما لي أراك كئيبا. أي مالك. والهدهد طير معروف وهدهدته صوته. قال ابن عطية: إنما مقصد الكلام الهدهد غاب لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقف على اللازم وهذا ضرب من الإيجاز. والاستفهام الذي في قوله: {مَا لِيَ} ناب مناب الألف التي تحتاجها أم. وقيل: إنما قال: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} ؛ لأنه اعتبر حال نفسه، إذ علم أنه أوتي الملك العظيم، وسخر له الخلق، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر، فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه؛ فقال: {مَا لِيَ} . قال ابن العربي: وهدا يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا مالهم، تفقدوا أعمالهم؛ هذا في الآداب، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض!. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام وأيوب: {مَا لِيَ} بفتح الياء وكذلك في {يس} {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]. وأسكنها حمزة ويعقوب. وقرأ الباقون المدنيون وأبو عمرو: بفتح التي في {يس} وإسكان هذه. قال أبو عمرو: لأن هذه التي في {النمل} استفهام، والأخرى انتفاء. واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان {فقال مالي} . وقال أبو جعفر النحاس: زعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ، وبين ما كان معطوفا على ما قبله، وهذا ليس بشيء؛ وإنما هي ياء النفس، من العرب من يفتحها ومنهم من يسكنها، فقرؤوا باللغتين؛ واللغة الفصيحة في ياء النفس أن تكون مفتوحة؛ لأنها اسم وهي على حرف واحد، وكان الاختيار ألا تسكن فيجحف الاسم. {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} بمعنى بل.

الرابعة- قوله تعالى: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} دليل على أن الحد على قدر الذنب لا على قدر الجسد، أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة. روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه. قال ابن جريج: ريشه أجمع. وقال يزيد بن رومان: جناحاه. فعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظا على العاصين، وعقابا على إخلاله بنوبته ورتبته؛ وكأن الله أباح له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع. والله أعلم. وفي "نوادر الأصول" قال: حدثنا سليمان بن حميد أبو الربيع الإيادي، قال حدثنا عون بن عمارة، عن الحسين الجعفي، عن الزبير بن الخريت، عن عكرمة، قال: إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه. وسيأتي. وقيل: تعذيبه أن يجعل مع أضداده. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه. وقيل: إيداعه القفص. وقيل: بأن يجعله للشمس بعد نتفه. وقيل: بتبعيده عن خدمتي، والملوك يؤدبون بالهجران الجسد بتفريق إلفه. وهو مؤكد بالنون الثقيلة، وهي لازمة هي أو الخفيفة. قال أبو حاتم: ولو قرئت " لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه " جاز. {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة بينة. وليست اللام في {لَيَأْتِيَنِّي} لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد؛ ولكن لما جاء في أثر قوله: {لأُعَذِّبَنَّهُ} وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه. وقرأ ابن كثير وحده: {لَيَأْتِيَنِّي} بنونين.
الخامسة- قوله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي الهدهد. والجمهور من القراء على ضم الكاف، وقرأ عاصم وحده بفتحها. ومعناه في القراءتين أقام. قال سيبويه: مكث يمكث مكوثا كما قالوا قعد يقعد قعودا. قال: ومكث مثل ظرف. قال غيره: والفتح أحسن لقوله تعالى: {مَاكِثِينَ} [الكهف: 3] إذ هو من مكث؛ يقال: مكث يمكث فهو ماكث؛ ومكث يمكث مثل عظم يعظم فهو مكيث؛ مثل عظيم. ومكث يمكث فهو ماكث؛ مثل حمض يحمض فهو حامض. والضمير في {مَكَثَ} يحتمل أن يكون لسليمان؛ والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل أي غير وقت طويل. ومحتمل أن يكون للهدهد وهو الأكثر. فجاء: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وهي:

السادسة- أي علمت ما لم تعلمه من الأمر فكان في هذا رد على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب. وحكى الفراء "أحط" يدغم التاء في الطاء. وحكى "أحت" بقلب الطاء تاء وتدغم.
السابعة- قوله تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح. وقرأ الجمهور: {سَبَأٍ} بالصرف. وابن كثير وأبو عمرو: {سَبَأ} بفتح الهمزة وترك الصرف؛ فالأول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم، وعليه قول الشاعر:
الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل، وقال {سَبَأٍ} اسم مدينة تعرف بمأرب باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام.
قلت: وقع في عيون المعاني للغزنوي ثلاثة أميال. قتادة والسدي بعث إليه اثنا عشر نبيا. وأنشد للنابغة الجعدي:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
قال: فمن لم يصرف قال إنه اسم مدينة، ومن صرف وهو الأكثر فلأنه اسم البلد فيكون مذكرا سمي به مذكر. وقيل: اسم امرأة سميت بها المدينة. والصحيح أنه اسم رجل، كذلك في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي عن النبي صلى الله عليه وسلم: وسيأتي إن شاء الله تعالى. قال ابن عطية: وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشواء. وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال: ما أدري ما هو. قال النحاس: وتأول الفراء على أبي عمرو أنه منعه من الصرف لأنه مجهول، وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف. وقال النحاس: وأبو عمر وأجل من أن يقول مثل هذا، وليس في حكاية الرؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه، وإنما قال لا أعرفه، ولو سئل نحوي عن اسم فقال لا أعرفه لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف، بل الحق على غير هذا؛ والواجب إذا لم يعرفه أن يصرفه؛ لأن أصل الأسماء الصرف؛ وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلة داخلة عليه؛ فالأصل ثابت بيقين فلا يزول بما لا يعرف. وذكر كلاما كثيرا

عن النحاة وقال في آخره: والقول في {سَبَأ} ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف وحجته في ذلك قاطعة؛ لأن هذا الاسم لما كان يقع له التذكير والتأنيث كان التذكير أولى؛ لأنه الأصل والأخف.
الثامنة- وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه. هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضي الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم بالاستئذان. وكان علم التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا: لا يتيمم الجنب. وكان حكم الإذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا زيد بن ثابت. وكان غسل رأس المحرم معلوما عند ابن عباس وخفي عن المسور بن مخرمة. ومثله كثير فلا يطول به.
التاسعة- قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} لما قال الهدهد: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} قال سليمان: وما ذلك الخبر؟ قال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} يعني بلقيس بنت شراحيل تملك أهل سبأ. ويقال: كيف وخفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهي من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب ؟ والجواب أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة، كما أخفى على يعقوب مكان يوسف. ويروى أن أحد أبويها كان من الجن. قال ابن العربي: وهذا أمر تنكره الملحدة، ويقولون: الجن لا يأكلون ولا يلدون؛ كذبوا لعنهم الله أجمعين؛ ذلك صحيح ونكاحهم جائز عقلا فإن صح نقلا فبها ونعمت.
قلت: خرج أبو داود من حديث عبدالله بن مسعود أنه قال: قدم وفد من الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو جمجمة فإن الله جاعل لنا فيها رزقا. وفي صحيح مسلم: فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن" وفي البخاري من حديث أبي هريرة قال فقلت: ما بال العظم والروثة؟ فقال: "هما من طعام الجن وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما" وهذا كله نص في أنهم يطعمون. وأما نكاحهم فقد تقدمت الإشارة إليه في {سُبْحَانَ} "الإسراء" عند قوله: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64]. وروى وهيب بن جرير بن حازم عن الخليل بن أحمد عن عثمان بن حاضر قال: كانت أم بلقيس من الجن يقال لها بلعمة بنت شيصان. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
العاشرة- روى البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه؛ ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق؛ ولا بأن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة، وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير. وقد روي عن عمر أنه قدم امرأة على حسبة السوق. ولم يصح فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث. وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري مع أبي الفرج بن طرار شيخ الشافعية، فقال أبو الفرج: الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها، وسماع البينة عليها، والفصل بين الخصوم فيها، وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل. فاعترض عليه القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى؛ فإن الغرض منه حفظ الثغور، وتدبير الأمور وحماية البيضة، وقبض الخراج ورده على مستحقه، وذلك لا يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل. قال ابن العربي: وليس

كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء؛ فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير؛ لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها، لأن كانت بَرْزَة لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم، وتكون مناظرة لهم؛ ولن يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده.
الحادية عشرة- قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مبالغة؛ أي مما تحتاجه المملكة. وقيل: المعنى أوتيت من كل شيء في زمانها شيئا فحذف المفعول؛ لأن الكلام دل عليه. {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي سرير؛ ووصفه بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان. قيل: كان من ذهب تجلس عليه. وقيل: العرش هنا الملك؛ والأول أصح؛ لقوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38]. الزمخشري: فإن قلت كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظيم؟
قلت: بين الوصفين بون عظيم؛ لأن وصف عرشها بالعظيم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظيم تعظيم له بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والأرض. قال ابن عباس: كان طول عرشها ثمانين ذراعا، وعرضه أربعين ذراعا، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعا، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر. قتادة: وقوائمه لؤلؤ وجوهر، وكان مسترا بالديباج والحرير، عليه سبعة مغاليق. مقاتل: كان ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا، وارتفاعه من الأرض ثمانون ذراعا، وهو مكلل بالجواهر. ابن إسحاق: وكان يخدمها النساء، وكان معها لخدمتها ستمائة امرأة. قال ابن عطية: واللازم من الآية أنها امرأة ملكت على مدائن اليمن، ذات ملك عظيم، وسرير عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار.
الثانية عشرة- قوله تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قيل: كانت هذه الأمة ممن يعبد الشمس؛ لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى. وقيل: كانوا مجوسا يعبدون الأنوار. وروي عن نافع أن الوقف على {عرش} . قال الهدوي:

فعظيم على هذا متعلق بما بعده، وكان ينبغي على هذا أن يكون عظيم أن وجدتها؛ أي وجودي إياها كافرة. وقال ابن الأنباري: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} وقف حسن، ولا يجوز أن يقف على {عَرْش} ويبتدئ {عظيم وجدتها} إلا على من فتح؛ لأن عظيما نعت لعرش فلو كان متعلقا بـ {وجدتها} لقلت عظيمة وجدتها؛ وهذا محال من كل وجه. وقد حدثني أبو بكر محمد بن الحسين بن شهريار، قال: حدثنا أبو عبدالله الحسين بن الأسود العجلي، عن بعض أهل العلم أنه قال: الوقف على {عرش} والابتداء {عظيم} على معنى عظيم عبادتهم الشمس والقمر. قال: وقد سمعت من يؤيد هذا المذهب، ويحتج بأن عرشها أحقر وأدق شأنا من أن يصفه الله بالعظيم. قال ابن الأنباري: والاختيار عندي ما ذكرته أولا؛ لأنه ليس على إضمار عبادة الشمس والقمر دليل. وغير منكر أن يصف الهدهد عرشها بالعظيم إذا رآه متناهي الطول والعرض؛ وجريه على إعراب {عرش} دليل على أنه نعته. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي ما هم فيه من الكفر. {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي عن طريق التوحيد. وبين يهذا أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به على التحقيق. {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } إلى الله وتوحيده.
الثالثة عشرة- قوله تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ} قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وحمزة: {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ} بتشديد {أَلاَّ} قال ابن الأنباري: {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} غير تام لمن شدد {أَلاَّ} لأن المعنى: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا. قال النحاس: هي {أَنَّ} دخلت عليها {لا} و {أَنَّ} في موضع نصب؛ قال الأخفش: بـ {َزَيَّنَ} أي وزين لهم لئلا يسجدوا لله. وقال الكسائي: بـ {فَصَدَّهُمْ} أي فصدهم ألا يسجدوا. وهو في الوجهين مفعول له.
وقال اليزيدي وعلي بن سليمان: {أَنَّ} بدل من {أَعْمَالَهُمْ} في موضع نصب. وقال أبو عمرو: و {أَنَّ} في موضع حفض على البدل من السبيل وقيل: العامل فيها {لا يَهْتَدُونَ} أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله؛ أي لا يعلمون أن ذلك واجب عليهم. وعلى هذا القول {لا} زائدة؛ كقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] أي ما منعك أن تسجد. وعلى هذه القراءة

فليس بموضع سجدة؛ لأن ذلك خبر عنهم بترك السجود، إما بالتزيين، أو بالصد، أو بمنع الاهتداء. وقرأ الزهري والكسائي وغيرهما: {ألا يسجدوا لله} بمعنى يا هؤلاء اسجدوا؛ لأن {يا} ينادي بها الأسماء دون الأفعال. وأنشد سيبويه:
يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار
قال سيبويه: {يا} لغير اللعنة، لأنه لو كان للعنة لنصبها، لأنه كان يصير منادى مضافا، ولكن تقديره يا هؤلاء لعنة الله والأقوام على سمعان. وحكى بعضهم سماعا عن العرب: ألا يا ارحموا ألا يا اصدقوا. يريدون ألا يا قوم ارحموا اصدقوا، فعلى هذه القراءة {اسْجُدُوا} في موضع جزم بالأمر والوقف على {ألا يا} ثم تبتدئ فتقول: {اسْجُدُوا} . قال الكسائي: ما كنت أسمع الأشياخ يقرؤونها إلا بالتخفيف على نية الأمر. وفي قراءة عبدالله: {أَلا هَلْ تَسْجُدُون لِلَّهِ} بالتاء والنون. وفي قراءة أبي {أَلا تَسْجُدُون لِلَّهِ} فهاتان القراءتان حجة لمن خفف. الزجاج: وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون التشديد. واختار أبو حاتم وأبو عبيدة قراءة التشديد. وقال: التخفيف وجه حسن إلا أن فيه انقطاع الخبر من أمر سبأ، ثم رجع بعد إلى ذكرهم، والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه. ونحوه قال النحاس. قال: قراءة التخفيف بعيدة؛ لأن الكلام يكون معترضا، وقراءة التشديد يكون الكلام بها متسقا، وأيضا فإن السواد على غير هذه القراءة، لأنه قد حذف منه ألفان، وإنما يختصر مثل هذا بحذف ألف واحدة نحو يا عيسى بن مريم. ابن الأنباري: وسقطت ألف {اسْجُدُوا} كما تسقط مع هؤلاء إذا ظهر، ولما سقطت ألف {يا} واتصلت بها ألف {اسْجُدُوا} سقطت، فعد سقوطها دلالة على الاختصار وإيثارا لما يخف وتقل ألفاظه. وقال الجوهري في آخر كتابه: قال بعضهم: إن {يا} في هذا الموضع إنما هو للتنبيه كأنه قال: ألا اسجدوا لله، فلما أدخل عليه {يا} للتنبيه سقطت الألف التي في {اسْجُدُوا} لأنها

ألف وصل، وذهبت الألف التي في {يا} لاجتماع الساكنين؛ لأنها والسين ساكنتان. قال ذو الرمة:
ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وقال الجرجاني: هو كلام معترض من الهدهد أو سليمان أو من الله. أي ألا ليسجدوا؛ كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قيل: إنه أمر أي ليغفروا. وتنتظم على هذا كتابة المصحف؛ أي ليس ها هنا نداء. قال ابن عطية: قيل هو من كلام الهدهد إلى قوله {الْعَظِيمِ} وهو قول ابن زيد وابن إسحاق؛ ويعترض بأنه غير مخاطب فكيف يتكلم في معنى شرع. ويحتمل أن يكون من قول سليمان لما أخبره الهدهد عن القوم. ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى فهو اعتراض بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل، وقراءة التشديد في {ألا} تعطي أن الكلام للهدهد، وقراءة التخفيف تمنعه، والتخفيف يقتضي الأمر بالسجود لله عز وجل للأمر على ما بيناه. وقال الزمخشري: فإن قلت أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما؟ قلت هي واجبة فيهما جميعا؛ لأن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك.
قلت: وقد أخبر الله عن الكفار بأنهم يسجدون كما في {الانشقاق} وسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها، كما ثبت في البخاري وغيره فكذلك {النمل}. والله أعلم. الزمخشري: وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه.{الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} خبء السماء قطرها، وخبء الأرض كنوزها ونباتها. وقال قتادة: الخبء السر. النحاس: وهذا أولى. أي ما غاب في السماوات والأرض، ويدل عليه {مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} . وقرأ عكرمة ومالك بن دينار: {الْخَبَ} بفتح الباء من غير همز. قال المهدوي: وهو التخفيف القياسي؛ وذكر من يترك الهمز في الوقف. وقال النحاس:

وحكى أبو حاتم أن عكرمة قرأ: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَباَ} بألف غير مهموزة، وزعم أن هذا لا يجوز في العربية، واعتل بأنه إن خفف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال: {الْخَبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وأنه إن حول الهمزة قال: الخبي بإسكان الباء وبعدها ياء. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلده لم يلق أعلم منه. وحكى سيبويه عن العرب أنها تبدل من الهمزة ألفا إذا كان قبلها ساكن وكانت مفتوحة، وتبدل منها واوا إذا كان قبلها ساكن وكانت مضمومة، وتبدل منها ياء إذا كان قبلها ساكن وكانت مكسورة؛ فتقول: هذا الوثو وعجبت من الوثي ورأيت الوثا؛ وهذا من وثئت يده؛ وكذلك هذا الخبو وعجبت من الخبي، ورأيت الخبا؛ وإنما فعل هذا لأن الهمزة خفيفة فأبدل منها هذه الحروف. وحكى سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد أنهم يقولون: هذا الخبؤ؛ يضمون الساكن إذا كانت الهمزة مضمومة، ويثبتون الهمزة ويكسرون الساكن إذا كانت الهمزة مكسورة، ويفتحون الساكن إذا كانت الهمزة مفتوحة. وحكى سيبويه أيضا أنهم يكسرون وإن كانت الهمزة مضمومة، إلا أن هذا عن بني تميم؛ فيقولون: الرديء؛ وزعم أنهم لم يضموا الدال لأنهم كرهوا ضمة قبلها كسرة؛ لأنه ليس في الكلام فعل. وهذه كلها لغات داخلة على اللغة التي قرأ بها الجماعة؛ وفي قراءة عبدالله {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَباَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} و {من} و {في} يتعاقبان؛ تقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم يريد منكم؛ قاله الفراء. {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} قراءة العامة فيهما بياء الغائب، وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد، وأن الله تعالى خصه من المعرفة بتوحيده ووجوب السجود له، وإنكار سجودهم للشمس، وإضافته للشيطان، وتزيينه لهم، ما خص به غيره من الطيور وسائر الحيوان؛ من المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقول الراجحة تهتدي لها. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي: {تُخْفُونَ} و{تُعْلِنُونَ} بالتاء على الخطاب؛ وهذه القراءة تعطي أن الآية

من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} قرأ ابن محيصن {الْعَظِيمِ}: رفعا نعتا لله. الباقون بالخفض نعتا للعرش. وخص بالذكر لأنه أعظم المخلوقات وما عداه في ضمنه وقبضته.
الرابعة عشرة- قوله تعالى: {سَنَنْظُرُ} من النظر الذي هو التأمل والتصفح. {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} في مقالتك. و {كُنْتَ} بمعنى أنت. وقال: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} ولم يقل سننظر في أمرك؛ لأن الهدهد لما صرح بفخر العلم في قوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} صرح له سليمان بقوله: سننظر أصدقت أم كذبت، فكان ذلك كفاء لما قاله.
الخامسة عشرة قوله: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم؛ لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه. وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد. وفي الصحيح: "ليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل". وقد قبل عمر عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه. ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة. كما فعل سليمان؛ فإنه لما قال الهدهد: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} لم يستفزه الطمع، ولا استجره حب الزيادة في الملك إلى أن يعرض له حتى قال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فغاظه حينئذ ما سمع، وطلب الانتهاء إلى ما أخبر، وتحصيل علم ما غاب عنه من ذلك، فقال: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ونحو منه ما رواه الصحيح عن المسور بن مخرمة، حين استشار عمر الناس في إملاص المرأة وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها؛ فقال المغيرة ابن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة. قال فقال عمر: ايتني بمن يشهد معك؛ قال: فشهد له محمد بن مسلمة وفي رواية فقال: لا تبرح حتى تأتي بالمخرج

من ذلك؛ فخرجت فوجدت محمد بن سلمة فجئت به فشهد. ونحوه حديث أبي موسى في الاستئذان وغيره.
السادسة عشرة- قوله تعالى: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} قال الزجاج: فيها خمسة أوجه {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} بإثبات الياء في اللفظ. وبحذف الياء وإثبات الكسرة دالة عليها {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . وبضم الهاء وإثبات الواو على الأصل {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . وبحذف الواو وإثبات الضمة {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . قال النحاس: وهذا عند النحويين لا يجوز إلا على حيلة بعيدة تكون: يقدر الوقف؛ وسمعت علي بن سليمان يقول: لا تلتفت إلى هذه العلة، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن يحذف الإعراب من الأسماء. وقال: {إِلَيْهِمْ} على لفظ الجمع ولم يقل إليها؛ لأنه قال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} فكأنه قال: فألقه إلى الذين هذا دينهم؛ اهتماما منه بأمر الدين، واشتغالا به عن غيره، وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك. وروي في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدران؛ فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها لمعنى عبادتها إياها، فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي - فيما يروى - نائمة؛ فلما انتبهت وجدته فراعها، وظنت أنه قد دخل عليها أحد، ثم قامت فوجدت حالها كما عهدت، فنظرت إلى الكوة تهمما بأمر الشمس، فرأت الهدهد فعلمت. وقال وهب وابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة مطلع الشمس، فإذا طلعت سجدت، فسدها الهدهد بجناحه، فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى الصحيفة إليها، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، لأن ملك سليمان عليه السلام كان في خاتمه؛ فقرأته فجمعت الملأ من قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد. وقال مقاتل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره، وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر، فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه، فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها.

السابعة عشرة- في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة، ودعائهم إلى الإسلام. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار؛ كما تقدم في {آل عمران}:
الثامنة عشرة- قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك. بمعنى: وكن قريبا حتى ترى مراجعتهم؛ قال وهب بن منبه. وقال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه؛ أي ألقه وارجع. {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} في معنى التقديم على قوله: {ثُمَّ تَوَلَّ} واتساق رتبة الكلام أظهر؛ أي ألقه ثم تول، وفي خلال ذلك فانظر أي انتظر. وقيل: فاعلم؛ كقوله: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] أي اعلم ماذا يرجعون أي يجيبون وماذا يردون من القول. وقيل: {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} يتراجعون بينهم من الكلام.
الآية: [29] {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}
الآية: [30] {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
الآية: [31] {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}
فيه ست مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ} في الكلام حذف؛ والمعنى: فذهب فألقاه إليهم فسمعها وهي تقول: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ} ثم وصفت الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالا لسليمان عليه السلام؛ وهذا قول ابن زيد. وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم، فكرامة الكتاب ختمه؛ وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: لأنه بدأ فيه بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم" . وقيل: لأنه بدأ

فيه بنفسه، ولا يفعل ذلك إلا الجلة. وفي حديث ابن عمر أنه كتب إلى عبدالملك بن مروان يبايعه. من عبدالله لعبدالملك بن مروان أمير المؤمنين؛ إني أقر لك بالسمع والطاعة ما استطعت، وإن بني قد أقروا لك بذلك. وقيل: توهمت أنه كتاب جاء من السماء إذ كان الموصل طيرا. وقيل: {كَرِيمٌ} حسن؛ كقول: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58] أي مجلس حسن. وقيل: وصفته بذلك؛ لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا ولا لعنا، ولا ما يغير النفس، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق؛ على عادة الرسل في الدعاء إلى الله عز وجل؛ ألا ترى إلى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] وقوله لموسى وهرون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. وكلها وجوه حسان وهذا أحسنها. وقد روي أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أحد قبل سليمان. وفي قراءة عبدالله {وإِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} بزيادة واو.
الثانية- الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف؛ ألا ترى قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير وبالأثير وبالمبرور؛ فإن كان لملك قالوا: العزيز وأسقطوا الكريم غفلة، وهو أفضلها خصلة. فأما الوصف بالعزيز فقد وصف به القرآن في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:41 - 42] فهذه عزته وليست لأحد إلا له، فاجتنبوها في كتبكم، واجعلوا بدلها العالي؛ توفية لحق الولاية، وحياطة للديانة؛ قال القاضي أبو بكر بن العربي.
الثالثة- كان رسم المتقدمين إذا كتبوا أن يبدؤوا بأنفسهم من فلان إلى فلان، وبذلك جاءت الآثار. وروى الربيع عن أنس قال: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم: وكان أصحابه إذا كتبوا بدؤوا بأنفسهم. وقال ابن سيرين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أهل فارس إذا كتبوا بدؤوا بعظمائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه"

قال أبو الليث في كتاب "البستان" له: ولو بدأ بالمكتوب إليه لجاز؛ لأن الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك، أو نسخ ما كان من قبل؛ فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه، ثم ينفسه؛ لأن البداية بنفسه تعد منه استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه؛ إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده، أو غلام من غلمانه.
الرابعة- وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب؛ لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر. وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام. والله أعلم.
الخامسة- اتفقوا على كتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول الكتب والرسائل، وعلى ختمها؛ لأنه أبعد من الريبة، وعلى هذا جرى الرسم، وبه جاء الأثر عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيما كتاب لم يكن مختوما فهو أغلف. وفي الحديث: "كرم الكتاب ختمه". وقال بعض الأدباء؛ هو ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به؛ لأن الختم ختم. وقال أنس: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم فقيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه ختم؛ فاصطنع خاتما ونقش على فصه: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وكأني أنظر إلى وبيصه وبياضه في كفه.
السادسة قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {إِنَّهُ} بالكسر فيهما أي وإن الكلام، أو إن مبتدأ الكلام {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وأجاز الفراء {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ} بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بدل من الكتاب؛ بمعنى ألقي إلي أنه من سليمان. وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض؛ أي لأنه من سليمان ولأنه؛ كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله. وقرأ الأشهب العقيلي ومحمد بن السميقع: {أَلا تَغْلُوا} بالغين المعجمة، وروي عن وهب بن منبه؛ من غلا يغلو إذا تجاوز وتكبر. وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة. {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي منقادين طائعين مؤمنين.

الآية: [32] {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}
الآية: [33] {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}
الآية: [34] {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}
فيه ست مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} الملأ أشراف القوم وقد مضى في سورة {البقرة} القول فيه. قال ابن عباس: كان معها ألف قيل. وقيل: اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف. والقيل الملك دون الملك الأعظم. لأخذت في حسن الأدب مع قومها، ومشاورتهم في أمرها، وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر يعرض، {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} فكيف في هذه النازلة الكبرى. فراجعها الملا بما يقر عينها، من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلموا الأمر إلى نظرها؛ وهذه محاورة حسنة من الجميع. قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا هم أهل مشورتها، كل رجل منهم على عشرة آلاف.
الثانية- في هذه الآية دليل على صحة المشاورة. وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] في إما استعانة بالآراء، وإما مداراة للأولياء. وقد مدح الله تعالى الفضلاء بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب؛ فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضائهم على الطاعة لها، بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة

من أمرهم، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، ودخيلة في تقدير أمرهم، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوة شوكتهم، وشدة مدافعتهم؛ ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس: كان من قوة أحدهم أنه يركض فرسه حتى إذا احتد ضم فخذيه فحبسه بقوته.
الثالثة- قوله تعالى: {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} سلموا الأمر إلى نظرها مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة؛ فلما فعلوا ذلك أخبرت عند ذلك بفعل الملوك بالقرى التي يتغلبون عليها. وفي هذا الكلام خوف على قومها، وحيطة واستعظام لأمر سليمان عليه السلام. {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} قيل: هو من قول بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته. وقال ابن عباس: هو من قول الله عز وجل معرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبرا به. وقال وهب: لما قرأت عليهم الكتاب لم تعرف اسم الله، فقالت: ما هذا؟! فقال بعض القوم: ما نظن هذا إلا عفريتا عظيما من الجن يقتدر به هذا الملك على ما يريده؛ فسكتوه. وقال الآخر: أراهم ثلاثة من العفاريت؛ فسكتوه؛ فقال شاب قد علم: يا سيدة الملوك! إن سليمان ملك قد أعطاه ملك السماء ملكا عظيما فهو لا يتكلم بكلمة إلا بدأ فيها بتسمية إلهه، والله اسم مليك السماء، والرحمن الرحيم نعوته؛ فعندها قالت: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} فقالوا: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} في القتال {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} قوة في الحرب واللقاء {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} ردوا أمرهم إليها لما جربوا على رأيها من البركة {فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} فـ {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} أهانوا شرفاءها لتستقيم لهم الأمور، فصدق الله قولها. {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} قال ابن الأنباري: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} هذا وقف تام؛ فقال الله عز وجل تحقيقا لقولها: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وشبيه به في سورة {لأعراف} {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف: 109 - 110] تم الكلام، فقال فرعون: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110]. وقال ابن شجرة. هو قول بلقيس، فالوقف {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا.

الآية: [35] {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}
فيه ست مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} هذا من حسن نظرها وتدبيرها؛ أي إني أجرب هذا الرجل بهدية، وأعطيه فيها نفائس من الأموال، وأغرب عليه بأمور المملكة: فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة أكثر الناس في تفصيلها، فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أرسلت إليه بلبنة من ذهب، فرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاؤوا به. وقال مجاهد: أرسلت إليه بمائتي غلام ومائتي جارية. وروي عن ابن عباس: باثنتي عشرة وصيفة مذكرين قد ألبستهم زي الغلمان، واثني عشر غلاما مؤنثين قد ألبستهم زي النساء، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب، وبخرزتين إحداهما غير مثقوبة، والأخرى مثقوبة ثقبا معوجا، وبقدح لا شيء فيه، وبعصا كان يتوارثها ملوك حمير، وأنفذت الهدية مع جماعة من قومها. وقيل: كان الرسول واحدا ولكن كان في صحبته أتباع وخدم. وقيل: أرسلت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذرين عمرو، وضمت إليه رجالا ذوي رأي وعقل، والهدية مائة وصيف ومائة وصيفة، وقد خولف بينهم في اللباس، وقالت للغلمان: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث يشبه كلام النساء، وقالت للجواري: كلمنه بكلام فيه غلظ يشبه كلام الرجال؛ فيقال: إن الهدهد جاء وأخبر سليمان بذلك كله. وقيل: إن الله أخبر سليمان بذلك، فأمر سليمان عليه السلام أن يبسط من موضعه إلى تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة، ثم قال: أي الدواب رأيتم أحسن في البر والبحر؟ قالوا: يا نبي الله رأينا في بحر كذا دواب منقطة مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواصي؛ فأمر بها فجاءت فشدت على يمين الميدان وعلى يساره، وعلى لبنات الذهب والفضة، وألقوا لها علوفاتها؛ ثم قال: للجن علي بأولادكم؛ فأقامهم - أحسن ما يكون من الشباب - عن يمين

الميدان ويساره. ثم قعد سليمان عليه السلام على كرسيه في مجلسه، ووضع له أربعة آلاف كرسي من ذهب عن يمينه ومثلها عن يساره، وأجلس عليها الأنبياء والعلماء، وأمر الشياطين والجن والإنس أن يصطفوا صفوفا فراسخ، وأمر السباع والوحوش والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم أحسن منها تروث على لبنات الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا ما معهم من الهدايا. وفي بعض الروايات: إن سليمان لما أمرهم بفرش الهيدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع بساط من الأرض غير مفروش، فلما مروا به خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلما رأوا الشياطين رأوا منظرا هائلا فظيعا ففزعوا وخافوا، فقالت لهم الشياطين: جوزوا لا بأس عليكم؛ فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والبهائم والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق، وكانت قالت لرسولها: إن نظر إليك نظر مغضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قول ورد الجواب، فأخبر الهدهد سليمان بذلك على ما تقدم.
وكانت عمدت إلى حقه من ذهب فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة، وخرزة معوجة الثقب، وكتبت كتابا مع رسولها تقول فيه: إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحقة، وعرفني رأس العصا من أسفلها، واثقب الدرة ثقبا مستويا، وأدخل خيط الخرزة، واملأ القدح ماء من ندى ليس من الأرض ولا من السماء؛ فلما وصل الرسول ووقف بين يدي سليمان أعطاه كتاب الملكة فنظر فيه، وقال: أين الحقة؟ فأتى بها فحركها؛ فأخبره جبريل بما فيها، ثم أخبرهم سليمان. فقال له الرسول: صدقت؛ فاثقب الدرة، وأدخل الخيط في الخرزة؛ فسأل سليمان الجن والإنس عن ثقبها فعجزوا؛ فقال للشياطين: ما الرأي فيها؟ فقالوا: ترسل إلى الأرضة، فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها حتى خرجت من الجانب الآخر؛ فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت: تصير رزقي في الشجرة؛

فقال لها: لك ذلك. ثم قال سليمان: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا نبي الله؛ فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر؛ فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت تجعل رزقي في الفواكه؛ قال: ذلك لك. ثم ميز بين الغلمان والجواري. قال السدي: أمرهم بالوضوء، فجعل الرجل يحدر الماء على اليد والرجل حدرا، وجعل الجواري يصببن من اليد اليسرى على اليد اليمنى، ومن اليمنى على اليسرى، فميز بينهم بهذا. وقيل: كانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها، ثم تحمله على الأخرى، ثم تضرب به على الوجه؛ والغلام كان يأخذ الماء من الآنية يضرب به في الوجه، والجارية تصب على بطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، والجارية تصب الماء صبا، والغلام يحدر على يديه؛ فميز بينهم بهذا. وروى يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير قال: أرسلت بلقيس بمائتي وصيفة ووصيف، وقالت: إن كان نبيا فسيعلم الذكور من الإناث، فأمرهم فتوضؤوا؛ فمن توضأ منهم فبدأ بمرفقه قبل كفه قال هو من الإناث، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال هو من الذكور؛ ثم أرسل العصا إلى الهواء فقال: أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها، ثم رد سليمان الهدية؛ فروي أنه لما صرف الهدية إليها وأخبرها رسولها بما شاهد؛ قالت لقومها: هذا أمر من السماء.
الثانية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثبت عليها ولا يقبل الصدقة، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها؛ على ما ذكرناه من كون سليمان ملكا أو نبيا؛ لأنه قال لها في كتابه: {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا يؤخذ عنه هدية، وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة عن قبول الهدية بسبيل، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل، وهي الرشوة التي لا تحل. وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل أحد وعلى كل حال، وهذا ما لم يكن من مشرك.

الثالثة- فإن كانت من مشرك ففي الحديث: "نهيت عن زبد المشركين" يعني رفدهم وعطاياهم. وروي عنه عليه السلام أنه قبلها كما في حديث مالك عن ثور بن زيد الدبلي وغيره، فقال جماعة من العلماء بالنسخ فيهما، وقال آخرون: ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، والمعنى فيها: أنه كان لا يقبل هدية من يطمع بالظهور عليه وأخذ بلده ودخوله في الإسلام، وبهذه الصفة كانت حالة سليمان عليه السلام، فعن مثل هذا نهى أن تقبل هديته حملا على الكف عنه؛ وهذا أحسن تأويل للعلماء في هذا؛ فإنه جمع بين الأحاديث. وقيل غير هذا.
الرابعة- الهدية مندوب إليها، وهي مما تورث المودة وتذهب العداوة؛ روى مالك عن عطاء بن عبدالله الخراساني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء" . وروى معاوية بن الحكم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تهادوا فإنه يضعف الود ويذهب بغوائل الصدر" . وقال الدارقطني: تفرد به ابن بجير عن أبيه عن مالك، ولم يكن بالرضي، ولا يصح عن مالك ولا عن الزهري. وعن ابن شهاب قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا بينكم فإن الهدية تذهب السخيمة" قال ابن وهب: سألت يونس عن السخيمة ما هي فقال: الغل. وهذا الحديث وصله الوقاصي عثمان عن الزهري وهو ضعيف. وعلى الجملة: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة. ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تزيل حزازات النفوس، وتكسب المهدي والمهدى إليه رنة في اللقاء والجلوس. ولقد أحسن من قال:
هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولد في قلوبهم الوصالا
وتزرع في الضمير هوى وودا ... وتكسبهم إذا حضروا جمالا
آخر:
إن الهدايا لها حظ إذا وردت ... أحظى من الابن عند الوالد الحدب
الخامسة- روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "جلساؤكم شركاؤكم في الهدية" واختلف في معناه؛ فقيل: هو محمول على ظاهره. وقيل: يشاركهم على وجه

الكرم والمروءة، فإن لم يفعل فلا يجبر عليه. وقال أبو يوسف: ذلك في الفواكه ونحوها. وقال بعضهم: هم شركاؤه في السرور لا في الهدية. والخبر محمول في أمثال أصحاب الصفة والخوانق والرباطات؛ أما إذا كان فقيها من الفقهاء اختص بها فلا شركة فيها لأصحابه، فإن أشركهم فذلك كرم وجود منه.
السادسة- قوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ} أي منتظرة {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} قال قتادة: يرحمها الله أن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها؛ قد علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس. وسقطت الألف في {بِمَ} للفرق بين {ما} الخبرية. وقد يجوز إثباتها؛ قال:
على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد
الآية: [36 ]{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}
الآية: [37 ] {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}
الآية: [38] {قالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}
الآية: [39] {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}
الآية: [40] { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنيِ بِمَالٍ} أي جاء الرسول سليمان بالهدية قال: {أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ} . قرأ حمزة ويعقوب والأعمش: بنون واحدة مشددة وياء ثابتة بعدها.

الباقون بنونين وهو اختيار أبي عبيد؛ لأنها في كل المصاحف بنونين. وقد روى إسحاق عن نافع أنه كان يقرأ: {أَتُمِدُّونِ} بنون واحدة مخففة بعدها ياء في اللفظ. قال ابن الأنباري: فهذه القراءة يجب فيها إثبات الياء عند الوقف، ليصح لها موافقة هجاء المصحف. والأصل في النون التشديد، فخفف التشديد من ذا الموضع كما خفف من: أشهد أنك عالم؛ وأصله: أنك عالم. وعلى هذا المعنى بنى الذي قرأ: {تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27]، {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} [الأنعام: 80]. وقد قالت العرب: الرجال يضربون ويقصدون، وأصله يضربوني ويقصدوني: لأنه إدغام يضربونني ويقصدونني قال الشاعر:
ترهبين والجيد منك لليلى ... والحشا والبغام والعينان
والأصل ترهبيني فخفف. ومعنى {أَتُمِدُّونَنِي} أتزيدونني مالا إلى ما تشاهدونه من أموالي.
قوله تعالى: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} أي فما أعطاني من الإسلام والملك والنبوة خير مما أعطاكم، فلا أفرح بالمال. و {آتانِ} وقعت في كل المصاحف بغير ياء. وقرأ أبو عمرو ونافع وحفص: {آتَانِيَ اللَّهُ} بياء مفتوحة؛ فإذا وقفوا حذفوا. وأما يعقوب فإنه يثبتها في الوقف ويحذف في الوصل لالتقاء الساكنين. الباقون بغير ياء في الحالين. {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} لأنكم أهل مفاخرة ومكاثرة في الدنيا.
قوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} أي قال سليمان للمنذر بن عمرو أمير الوفد؛ ارجع إليهم بهديتهم. {إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} لام قسم والنون لها لازمة. قال النحاس: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول: هي لام توكيد وكذا كان عنده أن اللامات كلها ثلاث لا غير؛ لام توكيد؛ ولام أمر، ولام خفض؛ وهذا قول الحذاق من النحويين؛ لأنهم يردون الشيء إلى أصله: وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية. ومعنى {لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي لا طاقة لهم عليها. {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} أي من أرضهم وقيل: {مِنْهَا} أي من قرية سبأ. وقد سبق ذكر القرية في قوله: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا

في عقلها خلل؛ فأراد أن يمتحنها بعرشها. وقيل: أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قاله الطبري. وعن قتادة: أحب أن يراه لما وصفه الهدهد. والقول الأول عليه أكثر العلماء؛ لقوله تعالى: {قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} . ولأنها لو أسلمت لحظر عليه مالها فلا يؤتي به إلا بإذنها. روي أنه كان من فضة وذهب مرصعا بالياقوت الأحمر والجوهر، وأنه كان في جوف سبعة أبيات عليه سبعة أغلاق.
قوله تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} كذا قرأ الجمهور وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي: {عِفْرِيَةٌ} ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفي الحديث: "إن الله يبغض العفرية النفرية". النفرية إتباع لعفرية. قال قتادة: هي الداهية قال النحاس: يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفرية وعفريت وعفارية. وقيل: {عفريت} أي رئيس. وقرأت فرقة: {قال عِفْرٌ} بكسر العين؛ حكاه ابن عطية؛ قال النحاس: من قال عفرية جمعه على عفار، ومن قال: عفريت كان له في الجمع ثلاثة أوجه؛ إن شاء قال عفاريت، وإن شاء قال عَفار؛ لأن التاء زائدة؛ كما يقال: طواغ في جمع طاغوت، وإن شاء عوض من التاء ياء فقال عفاري. والعفريت من الشياطين القوي المارد. والتاء زائدة. وقد قالوا: تعفرت الرجل إذا تخلق بخلق الإذاية. وقال وهب بن منبه: اسم هذا العفريت كودن؛ ذكره النحاس. وقيل: ذكوان؛ ذكره السهيلي. وقال شعيب الجبائي: اسمه دعوان. وروي عن ابن عباس أنه صخر الجني. ومن هذا الاسم قول ذي الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفرية ... مصوب في سواد الليل منقضب
وأنشد الكسائي:
إذ قال شيطانهم العفريت ... ليس لكم ملك ولا تثبيت

وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع علي الصلاة وإن الله أمكنني منه فدعته..." وذكر الحديث. وفي البخاري: "تفلت على البار حة" مكان: "جعل يفتك" . وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه قال: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه؛ فقال جبريل: أفلا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى" فقال: "أعوذ بالله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وشر ما يعرج فيها وشر ما ذرأ في الأرض، وشر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن" .
قوله تعالى: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} يعني في مجلسه الذي يحكم فيه. {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أي قوي على حمله. {أَمِينٌ} على ما فيه. ابن عباس: أمين على فرج المرأة؛ ذكره المهدوي. فقال سليمان أريد أسرع من ذلك؛ فـ {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أكثر المفسرين على أن الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا وهو من بني إسرائيل، وكان صديقا يحفظ اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب. وقالت عائشة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن اسم الله الأعظم الذي دعا به آصف بن برخيا يا حي يا قيوم" قيل: وهو بلسانهم، أهيا شراهيا؛ وقال الزهري: دعاء الذي عنده اسم الله الأعظم؛ يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ايتني بعرشها؛ فمثل بين يديه. وقال مجاهد: دعا فقال: يا إلهنا وإله كل شيء يا ذا الجلال والإكرام. قال السهيلي: الذي عنده علم من الكتاب هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان، وكان عنده اسم الله الأعظم من أسماء الله تعالى.

وقيل: هو سليمان نفسه؛ ولا يصح في سياق الكلام مثل هذا التأويل. قال ابن عطية وقالت فرقة هو سليمان عليه السلام، والمخاطبة في هذا التأويل للعفريت لما قال: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} كأن سليمان استبطأ ذلك فقال له على جهة تحقيره: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} واستدل قائلو هذه المقالة بقول سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} .
قلت: ما ذكره ابن عطية قال النحاس في معاني القرآن له، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى. قال بحر: هو ملك بيده كتاب المقادير، أرسله الله عند قول العفريت. قال السهيلي: وذكر محمد بن الحسن المقرئ أنه ضبة بن أد؛ وهذا لا يصح البتة لأن ضبة هو ابن أد بن طابخة، واسمه عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد: ومعد كان في مدة بختنصر، وذلك بعد عهد سليمان بدهر طويل؛ فإذا لم يكن معد في عهد سليمان، فكيف ضبة بن أد وهو بعده بخمسة آباء؟! وهذا بين لمن تأمله. ابن لهيعة: هو الخضر عليه السلام. وقال ابن زيد: الذي عنده علم من الكتاب رجل صالح كان في جزيرة من جزائز البحر، خرج ذلك اليوم ينظر من ساكن الأرض؛ وهل يعبد الله أم لا؟ فوجد سليمان، فدعا باسم من أسماء الله تعالى فجيء بالعرش. وقول سابع: إنه رجل من بني إسرائيل اسمه يمليخا كان يعلم اسم الله الأعظم؛ ذكره القشيري. وقال ابن أبي بزة: الرجل الذي كان عنده علم من الكتاب اسمه أسطوم وكان عابدا في بني إسرائيل؛ ذكره الغزنوي. وقال محمد بن المنكدر: إنما هو سليمان عليه السلام؛ أما إن الناس يرون أنه كان معه اسم وليس ذلك كذلك؛ إنما كان رجل من بني إسرائيل عالم آتاه الله علما وفقها قال: {أنا أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال: هات. قال: أنت نبي الله ابن نبي الله فإن دعوت الله جاءك به، فدعا الله سليمان فجاءه الله بالعرش. وقول ثامن: إنه جبريل عليه السلام؛ قاله النخعي، وروي عن ابن عباس. وعلم الكتاب على هذا علمه بكتب الله المنزلة، أو بما في اللوح المحفوظ. وقيل: علم كتاب سليمان إلى بلقيس. قال ابن عطية: والذي

عليه الجمهور من الناس أنه رجل صالح من بني إسرائيل اسمه آصف بن برخيا؛ روي أنه صلى ركعتين، ثم قال لسليمان: يا نبي الله آمدد بصرك فمد بصره نحو اليمن فإذا بالعرش، فما رد سليمان بصره إلا وهو عنده. قال مجاهد: هو إدامة النظر حتى يرتد طرفه خاسئا حسيرا. وقيل: أراد مقدار ما يفتح عينه ثم يطرف، وهو كما تقول: افعل كذا في لحظة عين؛ وهذا أشبه؛ لأنه إن كان الفعل من سليمان فهو معجزة، وإن كان من آصف أو من غيره من أولياء الله فهي كرامة، وكرامة الولي معجزة النبي. قال القشيري: وقد أنكر كرامات الأولياء من قال إن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان، قال للعفريت: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . وعند هؤلاء ما فعل العفريت فليس من المعجزات ولا من الكرامات، فإن الجن يقدرون على مثل هذا. ولا يقطع جوهر في حال واحدة مكانين، بل يتصور ذلك بأن يعدم الله الجوهر في أقصى الشرق ثم يعيده في الحالة الثانية، وهي الحالة التي بعد العدم في أقصى الغرب. أو يعدم الأماكن المتوسطة ثم يعيدها. قال القشيري: ورواه وهب عن مالك. وقد قيل: بل جيء به في الهواء؛ قاله مجاهد. وكان بين سليمان والعرش كما بين الكوفة والحيرة. وقال مالك: كانت باليمن وسليمان عليه السلام بالشام. وفي التفاسير انخرق بعرش بلقيس مكانه الذي هو فيه ثم نبع بين يدي سليمان؛ قال عبدالله بن شداد: وظهر العرش من نفق تحت الأرض؛ فالله أعلم أي ذلك كان.
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ} أي ثابتا عنده. {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} أي هذا النصر والتمكين من فضل ربي. {لِيَبْلُوَنِي} قال الأخفش: المعنى لينظر {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وقال غيره: معنى {لِيَبْلُوَنِي} ليتعبدني؛ وهو مجاز. والأصل في الابتلاء الاختبار أي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي لا يرجع نفع ذلك إلا إلى نفسه، حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد منها. والشكر قيد النعمة الموجودة، وبه تنال النعمة المفقودة. {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أي عن الشكر {كَرِيمٌ} في التفضل.

الآية: [41] {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ}
الآية: [42] {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}
الآية: [43] {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}
قوله تعالى: { قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} أي غيروه. قيل: جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه. وقيل: غيّر بزيادة أو نقصان. قال الفراء وغيره: إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئا فأراد أن يمتحنها. وقيل: خافت الجن أن يتزوج بها سليمان فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبدا، فقالوا لسليمان: إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار؛ فقال: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} لنعرف عقلها. وكان لسليمان ناصح من الجن، فقال كيف لي أن أرى قدميها من غير أن أسألها كشفها؟ فقال: أنا أجعل في هذا القصر ماء، وأجعل فوق الماء زجاجا، تظن أنه ماء فترفع ثوبها فترى قدميها؛ فهذا هو الصرح الذي أخبر الله تعالى عنه.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ} يريد بلقيس، {قِيلَ} لها {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } شبهته به لأنها خلفته تحت الأغلاق، فلم تقر بذلك ولم تنكر، فعلم سليمان كمال عقلها. قال عكرمة: كانت حكيمة فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ }. وقال مقاتل: عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها؛ ولو قيل لها: أهذا عرشك لقالت نعم هو؛ وقاله الحسن بن الفضل أيضا. وقيل: أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوة وتؤمن به. وقد قيل هذا في مقابلة تعميتها الأمر في باب الغلمان والجواري. {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} قيل: هو من قول بلقيس؛ أي أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل هذه الآية في العرش {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين لأمره. وقيل:هو من قول سليمان أي أوتينا العلم

بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرة. وقيل: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها. وقيل: هو من كلام قوم سليمان. والله أعلم.
قوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الوقف على {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حسن؛ والمعنى: منعها من أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر فـ {مَا} في موضع رفع. النحاس: المعنى؛ أي صدها عبادتها من دون الله وعبادتها إياها عن أن تعلم ما علمناه عن أن تسلم. ويجوز أن يكون {مَا} في موضع نصب، ويكون التقدير: وصدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله؛ أي حال بينها وبينه. ويجوز أن يكون المعنى: وصدها الله؛ أي منعها الله عن عبادتها غيره فحذفت {عن} وتعدى الفعل. نظيره: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أي من قومه. وأنشد سيبويه:
ونبئت عبدالله بالجو أصبحت ... كراما مواليها لئيما صميمها
وزعم أن المعنى عنده نبئت عن عبدالله. {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} قرأ سعيد بن جبير: {إِنَّهَا} بفتح الهمزة، وهي في موضع نصب بمعنى، لأنها. ويجوز أن يكون بدلا من {مَا} فيكون في موضع رفع إن كانت {مَا} فاعلة الصد. والكسر على الاستئناف.
الآية: [44] {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّه}
قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} التقدير عند سيبويه: ادخلي إلى الصرح فحذف إلى وعدي الفعل. وأبو العباس يغلطه في هذا؛ قال: لأن دخل يدل على مدخول. وكان الصرح صحنا من زجاج تحته ماء وفيه الحيتان، عمله ليريها ملكا أعظم من ملكها؛ قاله مجاهد.

وقال قتادة: كان من قوارير خلفه ماء {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} أي ماء. وقيل: الصرح القصر؛ عن أبي عبيدة. كما قال:
تحسب أعلامهن الصروحا
وقيل: الصرح الصحن؛ كما يقال: هذه صرحة الدار وقاعتها؛ بمعنى. وحكى أبو عبيدة في الغريب المصنف أن الصرح كل بناء عال مرتفع من الأرض، وأن الممرد الطويل. النحاس: أصل هذا أنه يقال لكل بناء عمل عملا واحدا صرح؛ من قولهم: لبن صريح إذا لم يشبه ماء؛ ومن قولهم: صرح بالأمر، ومنه: عربي صريح. وقيل: عمله ليختبر قول الجن فيها إن أمها من الجن، ورجلها رجل حمار؛ قاله وهب بن منبه. فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق: وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر. {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} فإذا هي أحسن الناس ساقا؛ سليمة مما قالت الجن، غير أنها كانت كثيرة الشعر، فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ } والممرد المحكوك المملس، ومنه الأمرد. وتمرد الرجل إذ أبطأ خروج لحيته بعد إدراكه؛ قاله الفراء. ومنه الشجرة المرداء التي لا ورق عليها. ورملة مرداء إذا كانت لا تنبت. والممرد أيضا المطول، ومنه قيل للحصن مارد. أبو صالح: طويل على هيئة النخلة. ابن شجرة: واسع في طوله وعرضه. قال:
غدوت صباحا باكرا فوجدتهم ... قبيل الضحا في السابري الممرد
أي الدروع الواسعة. وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم؛ على ما يأتي. ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها قال لناصحه من الشياطين: كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة بالجسد؟ فدله على عمل النورة، فكانت النورة والحمامات من يومئذ. فيروى أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام؛ قاله الضحاك.

وقال سعيد بن عبدالعزيز في كتاب النقاش: تزوجها وردها إلى ملكها: باليمن، وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة؛ فولدت له غلاما سماه داود مات في زمانه. وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بلقيس من أحسن نساء العالمين ساقين وهي من أزواج سليمان عليه السلام في الجنة" فقالت عائشة: هي أحسن ساقين مني؟ فقال عليه السلام: "أنت أحسن ساقين منها في الجنة" ذكره القشيري. وذكر الثعلبي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود فلما ألصق ظهره إلى الجدار فمسه حرها قال أواه من عذاب الله" . ثم أحبها حبا شديدا وأقرها على ملكها باليمن، وأمر الجن فبنوا لها ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا: سلحون وبينون وعمدان، ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة، ويقيم عندها ثلاثة أيام. وحكى الشعبي أن ناسا من حمير حفروا مقبرة الملوك، فوجدوا فيها قبرا معقودا فيه امرأة حلل منسوجة بالذهب، وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب:
يا أيها الأقوام عوجوا معا ... وأربعوا في مقبري العيسا
لتعلموا أني تلك التي ... قد كنت أدعى الدهر بلقيسا
شيدت قصر الملك في حمير ... قومي وقدما كان مأنوسا
وكنت في ملكي وتدبيره ... أرغم في الله المعاطيسا
بعلي سليمان النبي الذي ... قد كان للتوراة دريسا
وسخر الريح له مركبا ... تهب أحيانا رواميسا
مع ابن داود النبي الذي ... قدسه الرحمن تقديسا
وقال محمد بن إسحاق ووهب بن منبه: لم يتزوجها سليمان، وإنما قال لها: اختاري زوجا؛ فقالت: مثلي لا ينكح وقد كان لي من الملك ما كان. فقال: لا بد في الإسلام من ذلك. فاختارت ذا تبع ملك همدان، فزوجه إياها وردها إلى اليمن، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان. وقال قوم: لم يرد فيه خبر صحيح

لا في أنه تزوجها ولا في أنه زوجها. وهي بلقيس بنت السرح بن الهداهد بن شراحيل بن أدد بن حدر بن السرح بن الحرس بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وكان جدها الهداهد ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ولدا كلهم ملوك، وكان ملك أرض اليمن كلها، وكان أبوها السرح يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤا لي، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقمة وهي بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها. وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان أحد أبوي بلقيس جنيا" فمات أبوها، واختلف عليها قومها فرقتين، وملكوا أمرهم رجلا فساءت سيرته، حتى فجر بنساء رعيته، فأدركت بلقيس الغيرة، فعرضت عليه نفسها فتزوجها، فسقته الخمر حتى حزت رأسه، ونصبته على باب دارها فملكوها. وقال أبو بكرة: ذكرت بلقيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" .
ويقال: إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرا لملك عات يغتصب نساء الرعية، وكان الوزير غيورا فلم يتزوج، فصحب مرة في الطريق رجلا لا يعرفه، فقال هل لك من زوجة؟ فقال: لا أتزوج أبدا، فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن، فقال لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدا. قال: بل يغتصبها. قال: إنا قوم من الجن لا يقدر علينا؛ فتزوج ابنته فولدت له بلقيس؛ ثم ماتت الأم وابتنت بلقيس قصرا في الصحراء، فتحدث أبوها بحديثها غلطا، فنمى للملك خبرها فقال له: يا فلان تكون عندك هذه البنت الجميلة وأنت لا تأتيني بها، وأنت تعلم حبي للنساء ثم أمر بحبسه، فأرسلت بلقيس إليه إني بين يديك؛ فتجهز للمسير إلى قصرها، فلما هم بالدخول بمن معه أخرجت إليه الجواري من بنات الجن مثل صورة الشمس، وقلن له ألا تستحي ؟ تقول لك سيدتنا أتدخل بهؤلاء الرجال معك على أهلك فأذن لهم بالانصراف ودخل وحده، وأغلقت عليه الباب وقتلته بالنعال، وقطعت رأسه ورمت به إلى عسكره، فأمروها عليهم، فلم تزل كذلك إلى أن

بلغ الهدهد خبرها سليمان عليه السلام. وذلك أن سليمان لما نزل في بعض منازله قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فارتفع نحو السماء فأبصر طول الدنيا وعرضها، فأبصر الدنيا يمينا وشمالا، فرأى بستانا لبلقيس فيه هدهد، وكان اسم ذلك الهدهد عفير، فقال عفير اليمن ليعفور سليمان: من أين أقبلت ؟ وأين تريد ؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. قال: ومن سليمان ؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحش والريح وكل ما بين السماء والأرض. فمن أين أنت؟ قال: من هذه البلاد؛ ملكها امرأة يقال لها بلقيس، تحت يدها اثنا عشر ألف قيل، تحت يد كل قيل مائة ألف مقاتل من سوى النساء والذراري؛ فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، ورجع إلى سليمان وقت العصر، وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة فلم يجده، وكانوا على غير ماء.
قال ابن عباس في رواية: وقعت عليه نفحة من الشمس. فقال لوزير الطير: هذا موضع من؟ قال: يا نبي الله هذا موضع الهدهد قال: وأين ذهب؟ قال: لا أدوي أصلح الله الملك. فغضب سليمان وقال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} [النمل:21] الآية. ثم دعا بالعقاب سيد الطير وأصرمها وأشدها بأسا فقال: ما تريد يا نبي الله؟ فقال: علي بالهدهد الساعة. فرفع العقاب نفسه دون، السماء حتى لزق بالهواء، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحن اليمن، فانقض نحوه وأنشب فيه مخلبه. فقال له الهدهد: أسألك بالله الذي أقدرك وقواك علي إلا رحمتني. فقال له: الويل لك؛ وثكلتك أمك! إن نبي الله سليمان حلف أن يعذبك أو يذبحك. ثم أتى به فاستقبلته النسور وسائر عساكر الطير. وقالوا الويل لك؛ لقد توعدك نبي الله. فقال: وما قدري وما أنا! أما استثنى؟ قالوا: بلى إنه قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] ثم دخل على سليمان فرفع رأسه، وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعا لسليمان عليه السلام. فقال له سليمان: أين كنت عن خدمتك ومكانك؟ لأعذبنك عذابا شديدا أو لأذبحنك. فقال له الهدهد: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله بمنزلة وقوفي بين يديك. فاقشعر جلد سليمان وارتعد وعفا عنه. وقال عكرمة: إنما صرف الله سليمان عن ذبح الهدهد أنه

كان بارا بوالديه؛ ينقل الطعام إليهما فيزقهما. ثم قال له سليمان: ما الذي أبطأ بك؟ فقال الهدهد ما أخبر الله عن بلقيس وعرشها وقومها حسبما تقدم بيانه. قال الماوردي: والقول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول لتباين الجنسين، واختلاف الطبعين، وتفارق الحسين؛ لأن الآدمي جسماني والجن روحاني، وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، ويمنع الامتزاج مع هذا التباين، ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف.
قلت: قد مضى القول في هذا، والعقل لا يحيله مع ما جاء من الخبر في ذلك، وإذا نظر في أصل الخلق فأصله الماء على ما تقدم بيانه، ولا بعد في ذلك؛ والله أعلم. وفي التنزيل {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64] وقد تقدم. وقال تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن: 56]. على ما يأتي في {الرَّحْمَنِ}.
قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أي بالشرك الذي كانت عليه؛ قاله ابن شجرة. وقال سفيان: أي بالظن الذي توهمته في سليمان؛ لأنها لما أمرت بدخول الصرح حسبته لجة، وأن سليمان يريد تغريقها فيه. فلما بان لها أنه صرح ممرد من قوارير علمت أنها ظلمت نفسها بذلك الظن. وكسرت {إِنَّ} لأنها مبتدأة بعد القول. ومن العرب من يفتحها فيعمل فيها القول. {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إذا سكنت {مع} فهي حرف جاء لمعنى بلا اختلاف بين النحويين. وإذا فتحتها ففيها قولان: أحدهما: أنه بمعنى الظرف اسم. والآخر: أنه حرف خافض مبني على الفتح؛ قال النحاس:
الآية: [45] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ}
الآية: [46] {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
الآية: [47] {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا} تقدم معناه. {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} قال مجاهد: أي مؤمن وكافر؛ قال: والخصومة ما قصه الله تعالى في قوله: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف: 75] إلى قوله: {كَافِرُونَ}. وقيل: تخاصمهم أن كل فرقة قالت: نحن على الحق دونكم.
قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قال مجاهد: بالعذاب قبل الرحمة؛ المعنى: لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب، وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب؛ فكان الكفار يقولون لفرط الإنكار: ايتنا بالعذاب. وقيل: أي لم تفعلون ما تستحقون به العقاب؛ لا أنهم التمسوا تعجيل العذاب. {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} أي هلا تتوبون إلى الله من الشرك. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكي ترحموا؛ وقد تقدم.
قوله تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} أي تشاءمنا. والشؤم النحس. ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة. ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء، أو يدفع مقدورا فقد جهل. وقال الشاعر:
طيرة الدهر لا ترد قضاء ... فاعذر الدهر لا تشبه بلوم
أي يوم يخصه بسعود ... والمنايا ينزلن في كل يوم
ليس يوم إلا وفيه سعود ... ونحوس تجري لقوم فقوم
وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة، وكانت إذا أرادت سفرا نفرت طائرا، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: "أقِروا الطير على وكناتها" على ما تقدم بيانه في {المائدة}. {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أي مصائبكم. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي تمتحنون. وقيل: تعذبون بذنوبكم.

الآية: [48] {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}
الآية: [49] {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}
قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ} أي في مدينة صالح وهي الحجر {تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} أي تسعة رجال من أبناء أشرافهم. قال الضحاك. كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة، وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد، فجلسوا عند صخرة عظيمة فقلبها الله عليهم. وقال عطاء بن أبي رباح: بلغني أنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم، وذلك من الفساد في الأرض؛ وقاله سعيد بن المسيب. وقيل: فسادهم أنهم يتبعون عورات الناس ولا يسترون عليهم. وقيل: غير هذا. واللازم من الآية ما قاله الضحاك وغيره أنهم كانوا من أوجه القوم وأقناهم وأغناهم، وكانوا أهل كفر ومعاص جمة؛ وجملة أمرهم أنهم يفسدون ولا يصلحون. والرهط اسم للجماعة؛ فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم رهط. والجمع أرهط وأراهط. قال:
يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا
وهؤلاء المذكورون كانوا أصحاب قُدَار عاقر الناقة؛ ذكره ابن عطية.
قلت: واختلف في أسمائهم؛ فقال الغزنوي: وأسماؤهم قدار بن سالف ومصدع وأسلم ودسما وذهيم وذعما وذعيم وقتال وصداق. ابن إسحاق: رأسهم قدار بن سالف ومصدع بن مهرع، فاتبعهم سبعة؛ هم بلع بن ميلع ودعير بن غنم وذؤاب بن مهرج وأربعة لم تعرف أسماؤهم. وذكر الزمخشري أسماءهم عن وهب بن منبه: الهذيل بن عبد رب، غنم بن غنم، رياب بن مهرج، مصدع بن مهرج، عمير بن كردبة، عاصم بن مخرمة، سبيط بن صدقة، سمعان بن صفي، قدار بن سالف؛ وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح، وكانوا من أبناء أشرافهم. السهيلي: ذكر النقاش التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وسماهم بأسمائهم، وذلك لا ينضبط برواية؛ غير أني أذكره على وجه الاجتهاد

والتخمين، ولكن نذكره على ما وجدناه في كتاب محمد بن حبيب، وهم: مصدع بن دهر. ويقال دهم، وقدار بن سالف، وهريم وصواب ورياب وداب ودعما وهرما ودعين بن عمير.
قلت: وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن ابن عباس فقال: هم دعما ودعيم وهرما وهريم وداب وصواب ورياب ومسطح وقدار، وكانوا بأرض الحجر وهي أرض الشام.
قوله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} يجوز أن يكون {تَقَاسَمُوا} فعلا مستقبلا وهو أمر؛ أي قال بعضهم لبعض احلفوا. ويجوز أن يكون ماضيا في معنى الحال كأنه قال: قالوا متقاسمين بالله؛ ودليل هذا التأويل قراءة عبدالله: {يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ. تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} وليس فيها {قَالُوا} . قراءة العامة بالنون فيهما واختاره أبو حاتم. وقرأ حمزة والكسائي: بالتاء فيهما، وضم التاء واللام على الخطاب أي أنهم تخاطبوا بذلك؛ واختاره أبو عبيد. وقرأ مجاهد وحميد بالياء فيهما، وضم الياء واللام على الخبر. والبيات مباغتة العدو ليلا. ومعنى {لِوَلِيِّهِ} أي لرهط صالح الذي له ولاية الدم. {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ما حضرنا، ولا ندري من قتله وقتل أهله .{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في إنكارنا لقتله والمهلك بمعنى الإهلاك؛ ويجوز أن يكون الموضع. وقرأ عاصم والسلمي: "بفتح الميم واللام" أي الهلاك؛ يقال: ضرب يضرب مضربا أي ضربا. وقرأ المفضل وأبو بكر: "بفتح الميم وجر اللام" فيكون اسم المكان كالمجلس لموضع الجلوس؛ ويجوز أن يكون مصدرا؛ كقوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} [يونس: 4] أي رجوعكم.
الآية: [50] {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
الآية: [51] {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}
الآية: [52] {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
الآية: [53] {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}

قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} مكرهم ما روي أن هؤلاء التسعة لما كان في صدر الثلاثة الأيام بعد عقر الناقة، وقد أخبرهم صالح بمجيء العذاب، اتفقوا وتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلا ويقتلوه وأهله المختصين به؛ قالوا: فإذا كان كاذبا في وعيده أوقعنا به ما يستحق، وإن كان صادقا كنا عجلناه قبلنا، وشفينا نفوسنا؛ قال مجاهد وغيره. قال ابن عباس: أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة، فامتلأت بهم دار صالح، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم، فقتلهم الملائكة رضخا بالحجارة فيرون الحجارة ولا يرون من يرميها. وقال قتادة: خرجوا مسرعين إلى صالح، فسلط عليهم ملك بيده صخرة فقتلهم. وقال السدي: نزلوا على جرف من الأرض، فانهار بهم فأهلكهم الله تحته. وقيل: اختفوا في غار قريب من دار صالح، فانحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعا، فهذا ما كان من مكرهم. ومكر الله مجازاتهم على ذلك. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} أي بالصيحة التي أهلكتهم. وقد قيل: إن هلاك الكل كان بصيحة جبريل. والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد؛ ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة. وكان الأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وحمزة والكسائي يقرؤون: {أَنَّا} بالفتح؛ وقال ابن الأنباري: فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} لأن {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} خبر كان. ويجوز أن تجعلها في موضع رفع على الإتباع للعاقبة. ويجوز أن تجعلها في موضع نصب من قول الفراء، وخفض من قول الكسائي على معنى: بأنا دمرناهم ولأنا دمرناهم. ويجوز أن تجعلها في موضع نصب على الإتباع لموضع {كَيْفَ} فمن هذه المذاهب لا يحسن الوقف على {مَكْرِهِمْ} وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: {إِنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} بكسر الألف على الاستئناف؛ فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على {مَكْرِهِمْ} . قال النحاس: ويجوز أن تنصب {عَاقِبَةُ} على خبر {كَانَ} ويكون {إِنَّا} في موضع رفع على أنها اسم {كان} . ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ تبيينا للعاقبة؛ والتقدير: هي إنا دمرناهم؛ قال أبو حاتم: وفي حرف أُبَي {إِنَّ دَمَّرْنَاهُمْ} تصديقا لفتحها.

قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} قراءة العامة بالنصب على الحال عند الفراء والنحاس؛ أي خالية عن أهلها خرابا ليس بها ساكن. وقال الكسائي وأبو عبيدة: {خَاوِيَةً} نصب على القطع؛ مجازه: فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف واللام نصب على الحال؛ كقوله: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} [النحل: 52]. وقرأ عيسى بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري: بالرفع على أنها خبر عن {تِلْكَ} و {بُيُوتُهُمْ} بدل من {تِلْكَ} . ويجوز أن تكون {بُيُوتُهُمْ} عطف بيان و {خَاوِيَةً} خبر عن {تِلْكَ} . ويجوز أن يكون رفع {خَاوِيَةً} على أنها خبر ابتداء محذوف؛ أي هي خاوية، أو بدل من {بُيُوتُهُمْ} لأن النكرة تبدل من المعرفة. {ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} بصالح {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} الله ويخافون عذابه. قيل: آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل. والباقون خرج بأبدانهم - في قول مقاتل وغيره - خراج مثل الحمص؛ وكان في اليوم الأول أحمر، ثم صار من الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود. وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، وهلاكهم يوم الأحد. قال مقاتل: فقعت تلك الخراجات، وصاح جبريل بهم خلال ذلك صيحة فخمدوا، وكان ذلك ضحوة. وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت؛ فلما دخلها مات صالح؛ فسميت حضرموت. قال الضحاك: ثم بنى الأربعة الآلاف مدينة يقال لها حاضورا؛ على ما تقدم بيانه في قصة أصحاب الرس.
الآية: [54] {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}
الآية: [55] {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}
الآية: [56] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}
الآية: [57] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ}
الآية: [58] {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}

قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أي وأرسلنا لوطا، أو اذكر لوطا {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} وهم أهل سدوم. وقال لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} الفعلة القبيحة الشنيعة. {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أنها فاحشة، وذلك أعظم لذنوبكم. وقيل: يأتي بعضكم بعضا وأنتم تنظرون إليه. وكانوا لا يستترون عتوا منهم وتمردا. {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} أعاد ذكرها لفرط قبحها وشنعتها. {لْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} إما أمر التحريم أو العقوبة. واختيار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة الثانية من {َإِنَّكُمْ} فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلها؛ لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام.
قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي عن أدبار الرجال. يقولون ذلك استهزاء منهم؛ قاله مجاهد. وقال قتادة: عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء. {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} وقرأ عاصم: {قَدَّرْنَا} مخففا والمعنى واحد. يقال قد قدرت الشيء قدرا وقدرا وقدرته. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} أي من أنذر فلم يقبل الإنذار. وقد مضى بيانه.
الآية: [59] {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}
الآية: [60] {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}
الآية: [61] {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}

قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال الفراء: قال أهل المعاني: قيل للوط {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على هلاكهم. وخالف جماعة من العلماء الفراء في هذا وقالوا: هو مخاطبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي قل الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية. قال النحاس: وهذا أولى، لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما فيه فهو مخاطب به عليه السلام إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره. وقيل: المعنى؛ أي {قُلِ} يا محمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} يعني أمته عليه السلام. قال الكلبي: اصطفاهم الله بمعرفته وطاعته. وقال ابن عباس وسفيان: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين، وإصغائهم إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني، وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن.
قوله تعالى: {الَّذِينَ اصْطَفَى} اختار؛ أي لرسالته وهم الأنبياء عليهم السلام؛ دليله قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181]. {آللَّهِ خَيْرٌ} وأجاز أبو حاتم {أأللَّهِ خَيْرٌ} بهمزتين. النحاس: ولا نعلم أحدا تابعه على ذلك؛ لأن هذه المدة إنما جيء بها فرقا بين الاستفهام والخبر، وهذه ألف التوقيف، و {خَيْرٌ} ههنا ليس بمعنى أفضل منك، وإنما هو مثل قول الشاعر:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
فالمعنى فالذي فيه الشر منكما للذي فيه الخير الفداء. ولا يجوز أن يكون بمعنى من لأنك إذا قلت: فلان شر من فلان ففي كل واحد منهما شر. وقيل: المعنى؛ الخير في هذا

أم في هذا الذي تشركونه في العبادة! وحكى سيبويه: السعادة أحب إليك أم الشقاء؛ وهو يعلم أن السعادة أحب إليه. وقيل: هو على بابه من التفضيل، والمعنى: آلله خير أم ما تشركون؛ أي أثوابه خير أم عقاب ما تشركون. وقيل: قال لهم ذلك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خير فخاطبهم الله عز وجل على اعتقادهم. وقيل: اللفظ لفظ الاستفهام ومعناه الخبر. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب :{ريشركون} بياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية يقول: "بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم" .
قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} قال أبو حاتم: تقديره؛ آلهتكم خير أم من خلق السماوات والأرض؛ وقد تقدم. ومعناه: قدر على خلقهن. وقيل: المعنى؛ أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السماوات والأرض؟ فهو مردود على ما قبله من المعنى؛ وفيه معنى التوبيخ لهم، والتنبيه على قدرة الله عز وجل وعجز آلهتهم. {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} الحديقة البستان الذي عليه حائط. والبهجة المنظر الحسن. قال الفراء: الحديقة البستان المحظر عليه حائط، وإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة. وقال قتادة وعكرمة: الحدائق النخل ذات بهجة، والبهجة الزينة والحسن؛ يبهج به من رآه. {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} {مَا} للنفي. ومعناه الحظر والمنع من فعل هذا؛ أي ما كان للبشر، ولا يتهيأ لهم، ولا يقع تحت قدرتهم، أن ينبتوا شجرها؛ إذ هم عجزة عن مثلها، لأن ذلك إخراج الشيء من العدم إلى الوجود.
قلت: وقد يستدل من هذا على منع تصوير شيء سواء كان له روح أم لم يكن؛ وهو قول مجاهد. ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة" رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة؛ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عز وجل" فذكره؛ فعم بالذم والتهديد والتقبيح كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه

فيما انفرد به سبحانه من الخلق والاختراع هذا واضح. وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح يجوز هو والاكتساب به. وقد قال ابن عباس للذي سأل أن يصنع الصور: إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له خرجه مسلم أيضا. والمنع أولى والله أعلم لما ذكرنا. وسيأتي لهذا مزيد بيان في {سَبَأ} إن شاء الله تعالى ثم قال على جهة التوبيخ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي هل معبود مع الله يعينه على ذلك. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} بالله غيره. وقيل: {يَعْدِلُونَ} عن الحق والقصد؛ أي يكفرون. وقيل: {إِلَهٌ} مرفوع بـ {مَعَ} تقديره: أمع الله ويلكم إله. والوقف على {مَعَ اللَّهِ} حسن.
قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً} أي مستقرا. {وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً} أي وسطها مثل: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} [الكهف: 33]. {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} يعني جبالا ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة. {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} مانعا من قدرته لئلا يختلط الأجاج بالعذب. وقال ابن عباس: سلطانا من قدرته فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يغير هذا. والحجز المنع. {إِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غيره فلم يعبدون ما لا يضر ولا ينفع. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} يعني كأنهم يجهلون الله فلا يعلمون ما يجب له من الوحدانية.
الآية: [62] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}
الآية: [63] {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
الآية: [64] {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} قال ابن عباس: هو ذو الضرورة المجهود. وقال السدي: الذي لا حول له ولا قوة. وقال ذو النون: هو الذي قطع العلائق عما دون الله. وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري: هو المفلس. وقال سهل بن عبدالله: هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدمها. وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر؛ قال: إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. قال الشاعر:
وإني لأدعو الله والأمر ضيق ... علي فما ينفك أن يتفرجا
ورب أخ سدت عليه وجوهه ... أصاب لها لما دعا الله مخرجا
الثانية- وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء المضطر: "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت" .
الثالثة- ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه؛ والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه؛ وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22] وقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم. وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه. وفي الحديث: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده" ذكره صاحب الشهاب؛ وهو حديث صحيح. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن: "واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب"

وفي كتاب الشهاب: " اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام فيقول الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين" وهو صحيح أيضا. وخرج الآجري من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر" فيجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه، وإجابة لإخلاصه وإن كان كافرا، وكذلك إن كان فاجرا في دينه؛ ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده، فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته. وفسر إجابة دعوة المظلوم بالنصرة على ظالمه بما شاء سبحانه من قهر له، أو اقتصاص منه، أو تسليط ظالم آخر عليه يقهره كما قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} [الأنعام: 129] وأكد سرعة إجابتها بقول: "تحمل على الغمام" ومعناه والله أعلم أن الله عز وجل يوكل ملائكته بتلقي دعوة المظلوم وبحملها على الغمام، فيعرجوا بها إلى السماء، والسماء قبلة الدعاء ليراها الملائكة كلهم، فيظهر منه معاونة المظلوم، وشفاعة منهم له في إجابة دعوته، رحمة له. وفي هذا تحذير من الظلم جملة، لما فيه من سخط الله ومعصيته ومخالفة أمره؛ حيث قال على لسان نبيه في صحيح مسلم وغيره: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا..." الحديث. فالمظلوم مضطر، ويقرب منه المسافر؛ لأنه منقطع عن الأهل والوطن منفرد عن الصديق والحميم، لا يسكن قلبه إلى مسعد ولا معين لغربته. فتصدق ضرورته إلى المولى، فيخلص إليه في اللجاء، وهو المجيب للمضطر إذا دعاه، وكذلك دعوة الوالد على ولده، لا تصدر منه مع ما يعلم من حنته عليه وشفقته، إلا عند تكامل عجزه عنه، وصدق ضرورته؛ وإياسه عن بر ولده، مع وجود أذيته، فيسرع الحق إلى إجابته.
قوله تعالى: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} أي الضر. وقال الكلبي: الجور. {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} أي سكانها يهلك قوما وينشئ آخرين. وفي كتاب النقاش: أي ويجعل أولادكم خلفا منكم. وقال الكلبي: خلفا من الكفار ينزلون أرضهم، وطاعة الله بعد كفرهم. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} على جهة التوبيخ؛ كأنه قال أمع الله ويلكم إله؛ فـ {إله} مرفوع بـ { مَعَ} .

ويجوز أن يكون مرفوعا بإضمار أإله مع الله يفعل ذلك فتعبدوه. والوقف على { أَنَّ مَعَ اللَّهِ} حسن. {قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} قرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب: {يذَّكَّروْ} بالياء على الخبر، كقول: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنبياء:24] و {تعالى الله عما يشركون} فأخبر فيما قبلها وبعدها؛ واختاره أبو حاتم. الباقون بالتاء خطابا لقوله: { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} .
قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ} أي يرشدكم الطريق {فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إذا سافرتم إلى البلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار. وقيل: وجعل مفاوز البر التي لا أعلام لها، ولجج البحار كأنها ظلمات؛ لأنه ليس لها علم يهتدى به. {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي قدام المطر باتفاق أهل التأويل. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يفعل ذلك ويعينه عليه. {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} من دونه.
قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} كانوا يقرون أنه الخالق الرازق فألزمهم الإعادة؛ أي إذا قدر على الابتداء فمن ضرورته القدرة على الإعادة، وهو أهون عليه. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يخلق ويرزق ويبدئ ويعيد {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي حجتكم أن لي شريكا، أوحجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
الآية: [65] {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}
الآية: [66] {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}
قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} . وعن بعضهم: أخفى غيبه على الخلق، ولم يطلع عليه أحد لئلا يأمن أحد من عبيده مكره. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة. و {مَنْ} في موضع رفع؛ والمعنى: قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله؛ فإنه بدل من {مَنْ} قال الزجاج.

تفسير سورة القصص
سورة القصص
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وقال ابن عباس وقتادة إلا آية نزلت بين مكة والمدينة وقال ابن سلام: بالجحفة في وقت، هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهي قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] وقال مقاتل: فيها من المدني {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121] إلى قوله: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] وهي ثمان وثمانون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية: [1] {طسم}
الآية: [2] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}
الآية: [3] {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
الآية: [4] {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}
الآية: [5] {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}
الآية: [6] {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}
قوله تعالى: {طسم} تقدم الكلام فيه. {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} {تِلْكَ} في موضع رفع بمعنى هذه تلك و {آيَاتٍ} بدل منها. ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ {نَتْلُو} و {آيَاتُ} بدل منها أيضا؛ وتنصبها كما تقول: زيدا ضربت و {الْمُبِينِ}

أي المبين بركته وخيره، والمبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأنبياء، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقال: بان الشيء وأبان اتضح. {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ذكر قصة موسى عليه السلام وفرعون وقارون، واحتج على مشركي قريش، وبين أن قرابة قارون من موسى لم تنفعه مع كفره، وكذلك قرابة قريش لمحمد، وبين أن فرعون علا في الأرض وتجبر، فكان ذلك من كفره، فليجتنب العلو في الأرض، وكذلك التعزز بكثرة المال، وهما من سيرة فرعون وقارون {نَتْلُو عَلَيْكَ} أي يقرأ عليك جبريل بأمرنا {مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} أي من خبرهما و {مِنْ} للتبعيض و {مِنْ نَبَأِ} مفعول {نَتْلُو} أي نتلو عليك بعض خبرهما؛ كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] ومعنى: {بِالْحَقِّ} أي بالصدق الذي لا ريب فيه ولا كذب {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي يصدقون بالقرآن ويعلمون أنه من عند الله؛ فأما من لم يؤمن فلا يعتقد أنه حق
قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} أي استكبر وتجبر؛ قاله ابن عباس والسدي وقال قتادة: علا في نقسه عن عبادة ربه بكفره وادعى الربوبية وقيل: بملكه وسلطانه فصار عاليا على من تحت يده {فِي الأَرْضِ} أي أرض مصر {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أي فرقا وأصنافا في الخدمة قال الأعشى:
وبلدة يرهب الجواب دجلتها ... حتى تراه عليها يبتغى الشيعا
{يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} أي من بني إسرائيل {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} تقدم القول في هذا في {البقرة} عند قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة: 49] الآية؛ وذلك لأن الكهنة قالوا له: إن مولودا يولد في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه، أو قال المنجمون له ذلك، أو رأى رؤيا فعبرت كذلك قال

الزجاج: العجب من حمقه لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا معنى للقتل وقيل: جعلهم شيعا فاستسخر كل قوم من بني إسرائيل في شغل مفرد {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أي في الأرض بالعمل والمعاصي والتجبر.
قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} أي نتفضل عليهم وننعموهذه حكاية مضت {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} قال ابن عباس: قادة في الخير مجاهد: دعاة إلى الخير. قتادة: ولاة وملوكا؛ دليله قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} [المائدة: 20]
قلت: وهذا أعم فإن الملك إمام يؤتم به ومقتدى به .{وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} لملك فرعون؛ يرثون ملكه، ويسكنون مساكن القبط وهذا معنى قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]
قوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي نجعلهم مقتدرين على الأرض وأهلها حتى يُستولى عليها؛ يعني أرض الشام ومصر {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} أي ونريد أن نري فرعون وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف: {وَيَرِيَ} بالياء على أنه فعل ثلاثي من رأى {فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} رفعا لأنه الفاعل الباقون {نُرِيَ} بضم النون وكسر الراء على أنه فعل وباعي من أري يري، وهي علي نسق الكلام؛ لأن قبله {ونريد} وبعده {وَنُمَكِّنَ} {فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} نصبا بوقوع الفعل وأجاز الفراء {وَيُرِيَ فرعَوْنُ} بضم الياء وكسر الراء وفتح الياء ويري الله فرعون {مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجل {مِنْهُمْ} فأراهم الله {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} قال قتاد: كان حازيا لفرعون ـ والحازي المنجم ـ قال إنه سيولد في هذه السنة مولود يذهب بملكك؛ فأمر فرعون بقتل الولدان في تلك السنة وقد تقدم

الآية: [7] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}
الآية: [8] {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}
الآية: [9] {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} قد تقدم معنى الوحي ومحامله واختلف في هذا الوحي إلى أم موسى؛ فقالت فرقة: كان قولا في منامها وقال قتادة: كان إلهاما وقالت فرقة: كان بملك يمثل لها، قال مقاتل ـ أتاها جبريل بذلك فعلي هذا هو وحي إعلام لا إلهام وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى في الحديث المشهور؛ خرجه البخاري ومسلم، وقد ذكرناه في سورة {براءة} وغير ذلك مما روي من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلمت على عمران بن حصين فلم يكن بذلك نبيا واسمها أيارخا وقيل أيارخت فيما ذكر السهيلي وقال الثعلبي: واسم أم موسي لوحا بنت هاند بن لاوى بن يعقوب {أَنْ أَرْضِعِيهِ} وقرأ عمر بن عبدالعزير: {أَنِ أَرْضِعِيهِ} بكسر النون وألف وصل؛ حذف همزة أرضع تخفيفا ثم كسر النون لالتقاء الساكنين قال مجاهد: وكان الوحي بالرضاع قبل الولادة. وقال غيره بعدها. قال السدي: لما ولدت أم موسى أمرت أن ترضعه عقيب الولادة وتصنع به بما في الآية؛ لأن الخوف كان عقيب الولادة وقال ابن جريج: أمرت بإرضاعه أربعة أشهر في بستان، فإذا خافت أن يصيح ـ لأن لبنها لا يكفيه ـ صنعت به هذا والأول أظهر إلا أن الآخر يعضده قوله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} و {إِذا} لما يستقبل من الزمان؛ فيروي أنها

أتخذت له تابوتا من بردي وقيرته بالقار من داخله، ووضعت فيه موسى وألقته في نيل مصر وقد مضى خبره في {طه} قال ابن عباس: إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي، فسلط الله عليهم القبط، وساموهم سوء العذاب، إلى أن نجاهم الله على يد موسى قال وهب: بلغني أن فرعون ذبح في طلب موسى سبعين ألف وليد ويقال: تسعون ألفا ويروي أنها حين اقتربت وضربها الطلق، وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها، فقالت: لينفعني حبك اليوم، فعالجتها فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه، وأرتعش كل مفصل منها، ودخل حبه قلبها، ثم قالت: ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون، ولكني وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله قط، فاحفظيه؛ فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور نارا لم تعلم ما تصنع لما طاش عقلها، فطلبوا فلم يلفوا شيئا، فخرجوا وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، وقد جعل الله عليه النار بردا وسلاما.
قوله تعالى: {وَلا تَخَافِي} فيه وجهان: أحدهما: لا تخافي عليه الغرق؛ قاله ابن زيد الثاني: لا تخافي عليه الضيعة؛ قاله يحيى بن سلام {وَلا تَحْزَنِي} فيه أيضا وجهان: أحدهما: لا تحزني لفراقه؛ قاله ابن زيد الثاني: لا تحزني أن يقتل؛ قاله يحيى بن سلام فقيل: إنها جعلته في تابوت طوله خمسة أشبار وعرضه خمسة أشبار، وجعلت المفتاح مع التابوت وطرحته في اليم بعد أن أرضعته أربعة أشهر وقال آخرون: ثلاثة أشهر وقال آخرون ثمانية أشهر؛ في حكاية الكلبيوحكي أنه لما فرغ النجار من صنعة التابوت نم إلى فرعون بخبره، فبعث معه من يأخذه، فطمس الله عينيه وقلبه فلم يعرف الطريق، فأيقن أنه المولود الذي يخاف منه فرعون، فآمن من ذلك الوقت؛ وهو مؤمن آل فرعون؛ ذكره الماوردي. وقال ابن عباس: فلما توارى عنها ندمها الشيطان وقالت في نفسها: لو ذبح عندي فكفنته وواريته لكان أحب إلي من إلقائه في البحر

فقال الله تعالى : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي إلى أهل مصر. حكى الأصمعي قال: سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول:
أستغفر الله لذنبي كله ... قبلت إنسانا بغير حله
مثل الغزال ناعما في دله ... فأنتصف الليل ولم أصله
فقلت: قاتلك الله ما أفصحك ! فقالت: أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} لما كان التقاطهم إياه يؤدي إلى كونه لهم عدوا وحزنا؛ فاللام في {لِيَكُونَ} لام العاقبة ولام الصيرورة؛ لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا، فذكر الحال بالمآل؛ كما قال الشاعر:
وللمنايا تربي كل مرضعة ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال آخر:
فللموت تغذو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن
أي فعاقبة البناء الخراب وإن كان في الحال مفروحا به والالتقاط وجود الشيء من غير طلب ولا إرادة، والعرب تقول لما وجدته من غير طلب ولا إرادة: التقطه التقاطا ولقيت فلانا التقاطا قال الراجز:
ومنهل وردته التقاطا
ومن اللقطة وقد مضى بيان ذلك من الأحكام في سورة {يُوسُفُ} بما فيه كفاية وقرأ الأعمش ويحيى والمفضل وحمزة والكسائي وخلف: {وَحَزَناً} بضم الحاء وسكون الزاي والباقون بفتحهما واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قال التفخيم فيه

وهما لغتان مثل العدم والعدم، والسقم والسقم، والرشد والرشد {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} وكان وزيره من القبط {وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} أي عاصين مشركين آثمين.
قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} يروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر، فأمرت بسوقه إليها وفتحه فرأت فيه صبيا صغيرا فرحمته وأحبته؛ فقالت لفرعون: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} أي هو قرة عين لي ولك فـ {قُرَّةُ} خبر ابتداء مضمر؛ قاله الكسائي وقال النحاس: وفيه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسحاق؛ قال: يكون رفعا بالابتداء والخبر {لا تَقْتُلُوهُ} وإنما بعد لأنه يصير المعنى أنه معروف بأنه قرة عين وجوازه أن يكون المعنى: إذا كان قرة عين لي ولك فلا تقتلوه. وقيل: تم الكلام عند قوله: {وَلَكَ} النحاس: والدليل على هذا أن في قراءة عبدالله بن مسعود: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} ويجوز النصب بمعنى لا تقتلوا قرة عين لي ولك وقالت: {لا تَقْتُلُوهُ} ولم تقل لا تقتله فهي تخاطب فرعون كما يخاطب الجبارون؛ وكما يخبرون عن أنفسهم وقيل: قالت: {لا تَقْتُلُوهُ} فإن الله أتى به من أرض أخرى وليس من بني إسرائيل {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} فنصيب منه خيرا {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها، وكان فرعون لما رأى الرؤيا وقصها على كهنته وعلمائه ـ على ما تقدم - قالوا له إن غلاما من بني إسرائيل يفسد ملكك؛ فأخذ بني إسرائيل بذبح الأطفال، فرأى أنه يقطع نسلهم فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما، فولد هارون في عام الاستحياء، وولد موسى في عام الذبح.
قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} هذا ابتداء كلام من الله تعالى؛ أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وقيل: هو من كلام المرأة؛ أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه، ولا يشعرون إلا أنه ولدنا واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه امرأة فرعون {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فقالت فرقة: كان ذلك عند التقاطه التابوت لما أشعرت فرعون به

ولما أعلمته سبق إلى فهمه أنه من بني إسرائيل، وأن ذلك قصد به ليتخلص من الذبح فقال: علي بالذباحين؛ فقالت امرأته ما ذكر فقال فرعون: أما لي فلا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قال فرعون نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له" وقال السدي: بل ربته حتى درج فرأى فرعون فيه شهامة وظنه من بني إسرائيل وأخذه في يده، فمد موسى يده ونتف لحية فرعون فهم حينئذ يذبحه، وحينئذ خاطبته بهذا، وجربته له في الياقوتة والجمرة، فاحترق لسانه وعلق العقدة على ما تقدم في {طه} قال الفراء: سمعت محمد بن مروان الذي يقال له السدي يذكر عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس أنه قال: إنما قالت {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا} ثم قالت: {تَقْتُلُوهُ} قال الفراء: وهو لحن؛ قال ابن الأنباري: وإنما حكم عليه باللحن لأنه لو كان كذلك لكان تقتلونه بالنون؛ لأن الفعل المستقبل مرفوع حتى يدخل عليه الناصب أو الجازم، فالنون فيه علامة الرفع قال الفراء: ويقويك على رده قراءة عبدالله بن مسعود {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ لا تَقْتُلُوهُ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} بتقديم {لا تَقْتُلُوهُ}
الآية: [10] {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية: [11] {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
الآية: [12] {وَحَرَّمنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}
الآية: [13] {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
الآية: [14] {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}

قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عمران الجوني وأبو عبيدة: {فَارِغاً} أي خاليا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى وقال الحسن أيضا وابن إسحاق وابن زيد: {فَارِغاً} من الوحي إذ أوحى إليها حين أمرت أن تلقيه في البحر {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} والعهد الذي عهده إليها أن يرده ويجعله من المرسلين؛ فقال لها الشيطان: يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فغرقتيه أنت ! ثم بلغها أن ولدها وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها وقال أبو عبيدة: {فَارِغاً} من الغم والحزن لعلمها أنه لم يغرق؛ وقاله الأخفش أيضا وقال العلاء بن زياد: {فَارِغاً} نافرا الكسائي: ناسيا ذاهلا وقيل: والها؛ رواه سعيد بن جبير ابن القاسم عن مالك: هو ذهاب العقل؛ والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش، ونحوه قوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} أي جوف لا عقول لها كما تقدم في سورة {إبراهيم} وذلك أن القلوب مراكز العقول؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ويدل عليه قراءة من قرأ: {فزعا} النحاس: أصح هذه الأقوال الأول، والذين قالوه أعلم بكتاب الله عز وجل؛ فإذا كان فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي وقول أبي عبيدة فارغا من الغم غلط قبيح؛ لأن بعده {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كادت تقول وا إبناه ! وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه ومحمد بن السميقع وأبو العالية وابن محيصن: {فزعا} بالفاء والعين المهملة من الفزع، أي خائفة عليه أن يقتل ابن عباس: {قرعا} بالقاف والراء والعين المهملتين، وهى راجعة إلى قراءة الجماعة {فارغا} ولذلك قيل للرأس الذي لا شعر عليه: أقرع؛ لفراغه من الشعر وحكي قطرب أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {فرغا} : الفاء والراء والغين المعجمة من غير ألف، وهو كقولك: هدرا وباطلا؛ يقال:

دماؤهم بينهم فرغ أي هدر؛ والمعنى بطل قلبها وذهب وبقيت لا قلب لها من شدة ما ورد عليها وفي قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ} وجهان: أحدهما: أنها ألقته ليلا فأصبح فؤادها في النهار فارغا الثاني: ألقته نهارا ومعنى: {وأصبح} أي صار؛ كما قال الشاعر:
مضى الخلفاء بالأمر الرشيد ... وأصبحت المدينة للوليد
قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ} أي إنها كادت؛ فلما حذفت الكناية سكنت النون فهي {إِنْ} المخففة ولذلك دخلت اللام في {لَتُبْدِي بِهِ} أي لتظهر أمره؛ من بدا يبدو إذا ظهر قال ابن عباس: أي تصيح عند إلقائه: وا إبناه السدي: كادت تقول لما حملت لإرضاعه وحضانته هو ابني وقيل: إنه لما شب سمعت الناس يقولون موسى بن فرعون؛ فشق عليها وضاق صدرها، وكادت تقول هو ابني وقيل: الهاء في {بِهِ} عائدة إلى الوحي تقديره: إن كانت لتبدي بالوحي الذي أوحيناه إليها أن نرده عليها والأول أظهر قال ابن مسعود: كادت تقول أنا أمه وقال الفراء: إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها. {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} قال قتادة: بالإيمان السدي: بالعصمة وقيل: بالصبر والربط على القلب: إلهام الصبر. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي من المصدقين بوعد الله حين قال لها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} وقال: {لَتُبْدِي بِهِ} ولم يقل: لتبديه؛ لأن حروف الصفات قد تزاد في الكلام؛ تقول: أخذت الحبل وبالحبل وقيل: أي لتبدي القول به.
قوله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي قالت أم موسى لأخت موسى: اتبعي أثره حتى تعلمي خبره واسمها مريم بنت عمران؛ وافق اسمها اسم مريم أم عيسى عليه السلام؛ ذكره السهيلي والثعلبي وذكر الماوردي عن الضحاك: أن اسمها كلثمة وقال السهيلي: كلثوم؛ جاء ذلك في حديث رواه الزبير بن بكار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "أشعرت أن الله زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون" فقالت: الله أخبرك بهذا ؟ فقال: "نعم" فقالت: بالرفاء والبنين. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أي بعد؛ قال مجاهد ومنه الأجنبي

قال الشاعر:
فلا تحرمني نائلا عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
وأصله عن مكان جنب وقال ابن عباس: {عَنْ جُنُبٍ} أي عن جانب وقرأ النعمان بن سالم: {عَنْ جانِبٍ} أي عن ناحية وقيل: عن شوق؛ وحكى أبو عمرو بن العلاء أنها لغة لجذام؛ يقولون: جنبت إليك أي أشتقت وقيل: {عَنْ جُنُبٍ} أي عن مجانبة لها منه فلم يعرفوا أنها أمه بسبيل وقال قتادة: جعلت تنظر إليه بناحية كأنها لا تريده، وكان يقرأ: {عن جنب} بفتح الجيم وإسكان النون. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أنها أخته لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه.
قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} أي منعناه من الارتضاع من قبل؛ أي من قبل مجيء أمه وأخته و {الْمَرَاضِعَ} جمع مرضع ومن قال مراضيع فهو جمع مرضاع، ومفعال يكون للتكثير، ولا تدخل الهاء فيه فرقا بين المؤنث والمذكر لأنه ليس بجار على الفعل، ولكن من قال مرضاعة جاء بالهاء للمبالغة؛ كما يقال مطرابة قال ابن عباس: لا يؤتى بمرضع فيقبلها وهذا تحريم منع لا تحريم شرع؛ قال امرؤ القيس:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام
أي ممتنع فلما رأت أخته ذلك قالت {أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} الآية. فقالوا لها عند قولها: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} وما يدريك ؟ لعلك تعرفين أهله ؟ فقالت: لا، ولكنهم يحرصون على مسرة الملك، ويرغبون في ظئره وقال السدي وابن جريج: قيل لها لما قالت: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} قد عرفت أهل هذا الصبي فدلينا عليهم، فقالت: أردت وهم للملك ناصحون فدلتهم على أم موسى، فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبي علي يد فرعون يعلله شفقة عليه، وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها؛ فلما وجد الصبي

ريح أمة قبل ثديها وقال ابن زيد استرابوها حين قالت ذلك فقالت: وهم للملك ناصحون وقيل: إنها لما قالت: {أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} وكانوا يبالغون في طلب مرضعة يقبل ثديها فقالوا: من هي ؟ فقالت: أمي، فقيل: لها لبن؟ قالت: نعم ! لبن هارون ـ وكان ولد في سنة لا يقتل فيها الصبيان ـ فقالوا صدقت والله. {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أي فيهم شفقة ونصح، فروي أنه قيل لأم موسى حين ارتضع منها: كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك ؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني قال أبو عمران الجوني: وكان فرعون يعطي أم موسي كل يوم دينارا قال الزمخشري: فإن قلت كيف حل لها أن تأخذ الأجر علي إرضاع ولدها ؟ قلت: ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع، ولكنه مال حربي تأخذه علي وجه الاستباحة.
قوله تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} أي رددناه وقد عطف الله قلب العدو عليه، ووفينا لها بالوعد {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أي بولدها {وَلا تَحْزَنَ} أي بفراق ولدها {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي لتعلم وقوعه فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} يعني أكثر آل فرعون لا يعلمون؛ أي كانوا في غفلة عن التقرير وسر القضاء وقيل: أي أكثر الناس لا يعلمون أن وعد الله في كل ما وعد حق.
قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} قد مضى الكلام في الأشد في {الأنعام} وقول ربيعة ومالك أنه الحُلُم أولى ما قيل فيه، لقوله تعالي: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فإن ذلك أول الأشد، وأقصاه أربع وثلاثون سنة، وهو قول سفيان الثوري، {وَاسْتَوَى} قال ابن عباس: بلغ أربعين سنة والحكم: الحكمة قبل النبوة وقيل: الفقة في الدين وقد مضى بيانها في {البقرة} وغيرها والعلم الفهم في قول السدي وقيل: النبوة وقال مجاهد: الفقه محمد بن إسحاق: أي العلم بما في دينه ودين آبائه، وكان له تسعة من بني إسرائيل يسمعون منه، ويقتدون به، ويجتمعون إليه، وكان هذا قبل النبوة.

{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي كما جزينا أم موسى لما استسلمت لأمر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدقت بوعد الله، فرددنا ولدها إليها بالتحف والطرف وهي آمنة، ثم وهبنا له العقل والحكمة والنبوة، وكذلك نجزي كل محسن.
الآية: [15] {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}
الآية: [16] {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
الآية: [17] {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}
الآية: [18] {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}
الآية: [19] {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}
قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} قيل: لما عرف موسى عليه السلام ما هو عليه من الحق في دينه، عاب ما عليه قوم فرعون؛ وفشا ذلك، منه فأخافوه فخافهم، فكان لا يدخل مدينة فرعون إلا خائفا مستخفيا وقال السدي: كان موسى في وقت هذه القصة على رسم التعلق بفرعون، وكان يركب مراكبه، حتى كان يدعى موسى بن فرعون؛ فركب فرعون يوما وسار إلى مدينة من مدائن مصر يقال لها منف ـ قال مقاتل على رأس فرسخين من مصر ـ ثم علم موسى بركوب فرعون، فركب بعده ولحق بتلك القرية في وقت

القائلة، وهو وقت الغفلة؛ قال ابن عباس وقال أيضا: هو بين العشاء والعتمة وقال ابن إسحاق: بل المدينة مصر نفسها، وكان موسى في هذا الوقت قد أظهر خلاف فرعون، وعاب عليهم عبادة فرعون والأصنام، فدخل مدينة فرعون يوما على حين غفلة من أهلها قال سعيد بن جبير وقتادة: وقت الظهيرة والناس نيام وقال ابن زيد: كان فرعون قد نابذ موسى وأخرجه من المدينة، وغاب عنها سنين وجاء والناس على غفلة بنسيانهم لأمره، وبعد عهدهم به، وكان ذلك يوم عيد وقال الضحاك: طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها، فدخلها حين علم ذلك منهم، فكان منه من قتل الرجل من قبل أن يؤمر بقتله، فاستغفر ربه فغفر له ويقال في الكلام: دخلت المدينة حين غفل أهلها، ولا يقال: على حين غفل أهلها؛ فدخلت {عَلَى} في هذه الآية لأن الغفلة هي المقصودة؛ فصار هذا كما تقول: جئت على غفلة، وإن شئت قلت: جئت على حين غفلة، وكذا الآية. {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} والمعنى: إذا نظر إليهما الناظر قال هذا من شيعته؛أي من بني إسرائيل. {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} أي من قوم فرعون. {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} أي طلب نصره وغوثه، وكذا قال في الآية بعدها: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} أي يستغيث به على قبطي آخر وإنما أغاثه لأن نصر المظلوم دين في الملل كلها على الأمم، وفرض في جميع الشرائع قال قتادة: أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا لمطبخ فرعون فأبى عليه، فاستغاث بموسي قال سعيد بن جبير: وكان خبازا لفرعون. {فَوَكَزَهُ مُوسَى} قال قتادة: بعصاه وقال مجاهد: بكفه؛ أي دفعه والوكز واللكز واللهز واللهد بمعنى واحد، وهو الضرب بجمع الكف مجموعا كعقد ثلاثة وسبعين وقرأ ابن مسعود: {فَلَكَزَهُ} وقيل: اللكز في اللحى والوكز على القلب وحكى الثعلبي أن في مصحف عبدالله بن مسعود {فَنكَزَهُ} بالنون والمعنى واحد وقال الجوهري عن أبي عبيدة: اللكز الضرب بالجمع على الصدر وقال أبو زيد: في جميع الجسد، واللهز: الضرب بجمع اليد في الصدر مثل اللكز؛ عن أبي عبيدة أيضا وقال أبو زيد: هو بالجمع في اللهازم والرقبة؛ والرجل ملهز بكسر الميم

وقال الأصمعي: نكزه؛ أي ضربه ودفعه الكسائي: نهزه مثل نكزه ووكزه، أي ضربه ودفعه ولهده لهدا أي دفعه لذله فهو ملهود؛ وكذلك لهده؛ قال طرفة يذم رجلا:
بطيء عن الداعي سريع إلى الخنا ... ذلول بإجماع الرجال ملهد
أي مدفع وإنما شدد للكثرة وقالت عائشة رضي الله عنها: فلهدني ـ تعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ لهدة أوجعني؛ خرجه مسلم ففعل موسى عليه السلام ذلك وهو لا يريد قتله، إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه، وهو معنى: {فَقَضَى عَلَيْهِ} وكل شيء أتيت عليه وفرغت منه فقد قضيت عليه قال:
قد عضه فقضي عليه الأشجع
قوله تعالى: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي من إغوائه قال الحسن: لم يكن يحل قتل الكافر يومئذ في تلك الحال؛ لأنها كانت حال كف عن القتال. {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} خبر بعد خبر. {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} ندم موسى عليه السلام على ذلك الوكز الذي كان فيه ذهاب النفس، فحمله ندمه على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفر؛ ثم لم يزل صلى الله عليه وسلم يعدد ذلك على نفسه، مع علمه بأنه قد غفر له، حتى أنه في القيامة يقول: إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها وإنما عدده على نفسه ذنبا وقال: {ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وأيضا فإن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم قال النقاش: لم يقتله عن عمد مريدا للقتل، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه قال وقد قيل: إن هذا كان قبل النبوة وقال كعب: كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة، وكان قتله مع ذلك خطأ؛ فإن الوكزة واللكزة في الغالب لا تقتل وروى مسلم عن سالم بن عبدالله أنه قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة سمعت أبي عبدالله بن عمر يقول سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ها هنا وأومأ بيده نحو المشرق - من حيث يطلع قرنا الشيطان وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عز وجل: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: أي من المعرفة والحكم والتوحيد {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} أي عونا للكافرين قال القشيري:ولم يقل بما أنعمت علي من المغفرة؛ لأن هذا قبل الوحي، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل وقال الماوردي: {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} فيه وجهان: أحدهما:من المغفرة؛ وكذلك ذكر المهدوي والثعلبي. قال المهدوي :{بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} من المغفرة فلم تعاقبني. الوجه الثاني: من الهداية
قلت: قوله: {فَغَفَرَ لَهُ} يدل على المغفرة؛ والله أعلم قال الزمخشري قوله تعالى: {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف تقديره؛ أقسم بإنعامك علي بالمغفرة لأتوبن {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} وأن يكون استعطافا كانه قال: رب أعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته، وتكثير سواده، حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون؛ وإما بمظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلي القتل الذي لم يحل له قتله وقيل: أراد إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، فعلى هذا كان الإسرائيلي مؤمنا ونصرة المؤمن واجبه في جميع الشرائع وقيل في بعض الروايات: إن ذلك الإسرائيلي كان كافرا وإنما قيل له إنه من شيعته لأنه كان إسرائيليا ولم يرد الموافقة في الدين، فعلى هذا ندم لأنه أعان كافر علي كافر، فقال: لا أكون بعدها ظهيرا للكافرين وقيل: ليس هذا خبرا بل هو دعاء؛ أي فلا أكون بعد هذا ظهيرا أي فلا تجعلني يا رب ظهيرا للمجرمين وقال الفراء:

إلا إذا مشي معه ليعينه، ولأنه ارتكب نهي الله تعالى في قول سبحانه وتعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً} قد تقدم في {طه} وغيرها أن الأنبياء صلوات الله عليهم يخافون؛ ردا على من قال غير ذلك، وأن الخوف لا ينافي المعرفة بالله ولا التوكل عليه فقيل: أصبح خائفا من قتل النفس أن يؤخذ بها وقيل خائفا من قومه أن يسلموه وقيل: خائفا من الله تعالى. {يَتَرَقَّبُ} قال سعيد بن جبير: يتلفت من الخوف وقيل: ينتظر الطلب، وينتظر ما يتحدث به الناس وقال قتادة: {يَتَرَقَّبُ} أي يترقب الطلب وقيل: خرج يستخبر الخبر ولم يكن أحد علم بقتل القبطي غير الإسرائيلي. و {أَصْبَحَ} يحتمل أم يكون بمعنى صار أي لما قتل صار خائفا ومحتمل أن يكون دخل في الصباح، أي في صباح اليوم الذي يلي يومه {خَائِفاً} منصوب على أنه خبر {أَصْبَحَ} ، وإن شئت على الحال، ويكون الظرف في موضع الخبر {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي خلصه بالأمس يقاتل قبطيا آخر أرد أن يسخره والاستصراخ الاستغاثة وهو من الصراخ، وذلك لأن المستغيث يصرخ ويصوت في طلب الغوث قال:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
قيل: كان هذا الإسرائيلي المستنصر السامري استسخره طباخ فرعون في حمل الحطب إلي المطبخ؛ ذكره القشيري و {الَّذِي} رفع بالابتداء {يَسْتَصْرِخُهُ} في موضع الخبر ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال وأمس لليوم الذي قبل يومك، وهو مبني علي على الكسر لالتقاء الساكنين فإذا دخله الألف واللام أو الإضافة تمكن فأعرب بالرفع والفتح عند أكثر النحويين ومنهم من يبنيه وفيه الألف واللام وحكى سيبويه وغيره أن

من العرب من يجري أمس مجري ما لا ينصرف في موضع الرفع خاصة، وربما اضطر الشاعر ففعل هذا في الخفض والنصب وقال الشاعر:
لقد رأيت عجبا مذ أمسا
فخفض بمذ ما مضى واللغة الجيدة الرفع، فأجري أمس في الخفض مجراه في الرفع على اللغة. {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} والغوي الخائب، وأي لأنك تشاد من لا تطيقه وقيل: مضل بين الضلالة؛ قتلت بسببك أمس رجلا، وتدعوني اليوم لآخر والغوي فعيل من أغوي يغوي، وهو بمعنى مغو؛ وهو كالوجيع والأليم بمعنى الموجع والمؤلم وقيل: الغوي بمعنى الغاوي أي إنك لغوي في قتال من لا تطيق دفع شره عنك، وقال الحسن: إنما قال للقبطي: {يَسْتَصْرِخُهُ} في استسخار هذا الإسرائيلي وهم أن يبطش به، ويقال: بطش يبطش ويبطش والضم أقيس لأنه فعل لا يتعدى. {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي} قال ابن جبير: أراد موسى أن يبطش بالقبطي فتوهم الإسرائيلي أنه يريده، لأنه أغلظ له في القول فقال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ} فسمع القبطي الكلام فأفشاه وقيل: أراد أن يبطش الإسرائيلي بالقبطي فنهاه موسى فخاف منه؛ فقال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} {إِنْ تُرِيدُ} أي ما تريد .{إ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ} أي قتالا وقال عكرمة والشعبي: لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} أي من الذين يصلحون بين الناس.
الآية: [20] { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}
الآية: [21] {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
الآية: [20] {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}

قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ} قال أكثر أهل التفسير: هذا الرجل هو حزقيل بن صبورا مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون؛ ذكره الثعلبي وقيل: طالوت؛ ذكره السهيلي وقال المهدوي عن قتادة: شمعون مؤمن آل فرعون وقيل: شمعان؛ قال الدارقطني: لا يعرف شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون وروي أن فرعون أمر بقتل موسى فسبق ذلك الرجل بالخبر؛ فـ {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي يتشاورون في قتلك بالقبطي الذي قتلته بالأمس وقيل: يأمر بعضهم بعضا قال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا أي أم بعضهم بعضا؛ نظيره قوله: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} وقال النمر بن تولب:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} أي ينتظر الطلب. {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قيل: الجبار الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب، ولا يدفع بالتي هي أحسن وقيل: المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله تعالى
قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} لما خرج موسى عليه السلام فارا بنفسه منفردا خائفا، لا شيء معه من زاد ولا راحلة ولا حذاء نحو مدين، للنسب الذي بينه وبينهم؛ لأن مدين من ولد إبراهيم، وموسى من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ ورأى حاله وعدم معرفته بالطريق، وخلوه من زاد وغيره، أسند أمره إلى الله تعالى بقوله: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} وهذه حالة المضطر.
قلت: روي أنه كان يتقوت ورق الشجر، وما وصل حتى سقط خف قدميه قال أبو مالك: وكان فرعون وجه في طلبه وقال لهم: اطلبوه في ثنيات الطريق، فإن موسى لا يعرف الطريق فجاءه ملك راكبا فرسا ومعه عنزة، فقال لموسى اتبعني فاتبعه فهداه إلى الطريق، فيقال: إنه أعطاه العنزة فكانت عصاه ويروى أن عصاه إنما أخذها لرعيي الغنم من مدين وهو أكثر وأصح قال مقاتل والسدي: إن الله بعث إليه جبريل؛ فالله أعلم. وبين مدين ومصر ثمانية أيام؛ قال ابن جبير والناس وكان ملك مدين لغير فرعون.

الآية: [23] {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}
الآية: [24] {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
الآية: [25] {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
الآية: [26] {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}
الآية: [27] {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}
الآية: [28] {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}
فيه أربع مسألة:
الأولى- قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} مشى موسى عليه السلام حتى ورد ماء مدين أي بلغها ووروده الماء معناه بلغه لا أنه دخل فيه ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول في المورود، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه إن لم يدخل فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه؛ ومنه قول زهير:
فلما وردن الماء زرقا جمامه ... وضعن عصي الحاضر المتخيم

وقد تقدمت هذه المعاني في قوله: {وإن منكم إلا واردها} ومدين لا تنصرف إذ هي بلدة معروفةقال الشاعر:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا ... والعصم من شعف الجبال الفادر
وقيل: قبيلة من ولد مدين بن إبراهيم؛ وقد مضى القول فيه في {الأعراف} والأمة: الجمع الكثير و {يَسْقُونَ} معناه ماشيتهم. و {مِنْ دُونِهِمُ } معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها، فوصل إلى المرأتين قبل وصول إلى الأمة، ووجدهما تذودان ومعناه تمنعان وتحبسان، ومنه قول عليه السلام: "فليذادَنَّ رجال عن حوضي" وفي بعض المصاحف: {امْرَأَتَيْنِ حابستين تَذُودَانِ} يقال: ذاد يذود إذا حبس وذدت الشيء حبسته؛ قال الشاعر:
أبيت على باب القوافي كأنما ... أذود بها سربا من الوحش نزعا
أي أحبس وأمنع وقيل: {تَذُودَانِ} تطردان؛ قال:
لقد سلبت عصاك بنو تميم ... فما تدري بأي عصا تذود
أي تطرد وتكف وتمنع ابن سلام: تمنعان غنمهما لئلا تختلط بغنم الناس؛ فحذف المفعول: إما إيهاما على المخاطب، وإما استغناء بعلمه قال ابن عباس: تذودان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء قتادة: تذودان الناس عن غنمهما؛ قال النحاس: والأول أولى؛ لأن بعده {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ} ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس لم تخبرا عن سبب تأخير سقيهما حتى يصدر الرعاء فلما رأى موسى عليه السلام ذلك منهما {مَا خَطْبُكُمَا} أي شأنكما؛ قال رؤبة:
يا عجبا ما خطبه وخطبي

ابن عطية: وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أومن يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر، فكأنه بالجملة في شر؛ فأخبرتاه بخبرهما، وأن أباهما شيخ كبير؛ فالمعنى: لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه، وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا تقدران على مزاحمة الأقوياء، وأن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى؛ وحينئذ تردان وقرأ ابن عامر وأبو عمرو: {يَصْدِرَ } من صدر، وهو ضد ورد أي يرجع الرعاء والباقون {يُصْدِرَ } بضم الياء من أصدر؛ أي حتى يصدروا مواشيهم من وردهم والرعاء جمع راع؛ مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب قالت فرقة: كانت الآبار مكشوفة، وكان زحم الناس يمنعهما، فلما أراد موسى أن يسقى لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى، فعن هذا الغلب الذي كان منه وصفته إحداهما بالقوة وقالت فرقة: إنهما كانتا تتبعان فضالتهم في الصهاريج، فإن وجدتا في الحوض بقية كان ذلك سقيهما، وإن لم يكن فيه بقيه عطشت غنمهما، فرق لهما موسى، فعمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها، وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة، قال ابن زيد ابن جريج: عشرة ابن عباس: ثلاثون الزجاج: أربعون؛ فرفعه وسقى للمرأتين؛ فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة وقيل: إن بئرهم كانت واحدة، وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة، إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات. روى عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما استقى الرعاة غطوا على البئر صخرة لا يقلعها إلا عشرة رجال، فجاء موسى فاقتلعها واستقى ذنوبا واحدا لم تحتج إلى غيره فسقى لهما
الثانية- إن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب صلى الله عليه وسلم أن يرضى لا بنتيه بسقي الماشية ؟ قيل له: ليس ذلك بمحظور والدين لا يأباه؛ وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك، والعادة متباينة فيه، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو غير مذهب الحضر، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة
الثالثة- قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} تولى إلى ظل سمرة؛ قاله ابن مسعود وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وكان لم يذق طعاما

سبعة أيام، وقد لصق بطنه بظهره؛ فعرض بالدعاء ولم يصرح بسؤال؛ هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله؛ فالخير يكون بمعنى الطعام كما في هذه الآية، ويكون بمعنى المال كما قال: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وقول: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ويكون بمعنى القوة كما قال : {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} ويكون بمعنى العبادة كقول: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} قال ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع، وأخضر لونه من أكل البقل في بطنه، لإنه لأكرم الخلق على الله ويروي أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدميه وفي هذا معتبر وإشعار بهوان الدنيا على الله وقال أبو بكر بن طاهر في قوله: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي إني لما أنزلت من فضلك وغناك فقير إلى أن تغنيني بك عمن سواك.
قلت: ما ذكره أهل التفسير أولى؛ فإن الله تعالى إنما أغناه بواسطة شعيب
الرابعة- قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } في هذا الكلام اختصار يدل عليه هذا الظاهر؛ قدره ابن إسحاق: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه - وقيل الصغرى ـ أن تدعوه له، {فَجَاءَتْ} على ما في هذه الآية قال عمر وابن ميمون: ولم تكن سلفعا من النساء، خراجة ولاّجة وقيل: جاءته ساترة وجهها بكم درعها؛ قال عمر بن الخطاب وروي أن اسم إحداهما ليا والأخرى صفوريا ابنتا يثرون، ويثرون وهو شعيب عليه السلام وقيل: ابن أبي شعيب، وأن شعيبا كان قد مات وأكثر الناس على أنهما ابنتا شعيب عليه السلام وهو ظاهر القرآن، قال الله تعالي: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} كذا في سورة {الأعراف} وفي سورة الشعراء: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} قال قتادة: بعث الله تعالى شعيبا إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين وقد مضى في {الأعراف} الخلاف في اسم أبيه فروي أن موسى عليه السلام لما جاءته بالرسالة قام يتبعها، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال، فهبت ريح فضمت قميصها فوصفت عجيزتها، فتحرج موسى من النظر

إليها فقال: أرجعي خلفي وأرشديني إلى الطريق بصوتك وقيل: أن موسى قال ابتداء: كوني ورائي فإني رجل عبراني لا أنظر في أدبار النساء، ودليني على الطريق يمينا أو يسارا؛ فذلك سبب وصفها له بالأمانة؛ قال ابن عباس فوصل موسى إلى داعيه فقص عليه أمره من أوله إلى آخره فآنسه بقوله: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون وقرب إليه طعاما فقال موسى: لا أكل؛ إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا؛ فقال شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة أبائي قرى الضيف، وإطعام الطعام؛ فحينئذ أكل موسى.
الخامسة- قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة معلومة، وكذلك كانت في كل ملة وهي من ضرورة الخليقة، ومصلحة الخلطة بين الناس؛ خلاف الأصم حيث كان عن سماعها أصم.
السادسة- قوله تعالى: {أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} الآية. فيه عرض الولي بنته على الرجل؛ وهذه سنة قائمة؛ عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن الحسن عرض الرجل وليته، والمرأة نفسها على الرجل الصالح، اقتداء بالسلف الصالح قال ابن عمر: لما تأيمت حفصة قال عمر لعثمان: إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر؛ الحديث انفرد بإخراجه البخاري.
السابعة- وفي هذه الآية دليل على أن النكاح إلى الولي لا حظ للمرأة فيه، لأن صالح مدين تولاه، وبه قال فقهاء الأمصار وخالف في ذلك أبو حنيفة وقد مضى.
االثامنة- هذه الآية تدل على أن للأب أن يزوج ابنته البكر البالغ من غير استئمار، وبه قال مالك واحتج بهذه الآية، وهو ظاهر قوي في الباب، واحتجاجه بها يدل على أنه كان يعول على الإسرائيليات؛ كما تقدم وبقول مالك في هذه المسألة قال الشافعي وكثير من العلماء وقال أبو حنيفة: إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها أحد إلا برضاها؛ لأنها بلغت

حد التكليف، فأما إذا كانت صغيرة فإنه يزوجها بغير رضاها لأنه لا إذن لها ولا رضا، بغير خلاف
استدل أصحاب الشافعي بقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} علي أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف عنه وقال علماؤنا في المشهور: ينعقد النكاح بكل لفظ وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد؛ أما الشافعية فلاحجة لهم في الآية لأنه شرع من قبلنا وهم لا يرونه حجة في شيء في المشهور عندهم وأما أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي فقالوا: ينعقد النكاح بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه؛ لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية، قالوا: فكذلك النكاح قالوا: والذي خص به النبي صلى الله عليه وسلم تعرى البضع من العوض لا النكاح بلفظ الهبة، وتابعهم ابن القاسم فقال: إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظ عن مالك فيه شيئا، وهو عندي جائز كالبيع قال أبو عمر: الصحيح أنه لا ينعقد نكاح بلفظ الهبة، كما لا ينعقد بلفظ النكاح هبة شيء من الأموال وأيضا فإن النكاح مفتقر إلى التصريح لتقع الشهادة عليه، وهو ضد الطلاق فكيف يقاس عليه، وقد أجمعوا أن النكاح لا ينعقد بقول: أبحت لك وأحللت لك فكذلك الهبة وقال صلي الله عليه وسلم: "استحللتم فروجهن بكلمة الله" يعني القرآن، وليس في القرآن عقد النكاح بلفظ الهبة، وإنما فيه التزويج والنكاح، وفي إجازة النكاح بلفظ الهبة إبطال بعض خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم.
العاشرة- قوله تعالى: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} دل على أنه عرض لا عقد، لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له؛ لأن العلماء إن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال: بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا؛ فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح؛ لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلصق بالنكاح
الحادية عشرة- قال مكي: في هذه الآية خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول الأمد، وجعل المهر إجارة، ودخل ولم ينقد شيئا

قلت: فهذه أربع مسائل تضمنتها هذه المسألة
الأولى: التعيين، قال علماؤنا: أما التعيين فيشبه أنه كان في ثاني حال المراوضة، وإنما عرض الأمر مجملا، وعين بعد ذلك وقد قيل: إنه زوجه صفوريا وهي الصغرى يروى عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن سئلت أي الأجلين قضي موسى فقل خيرهما وأوفاهما وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى وهي التي جاءت خلفه وهي التي قالت : {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ القوي الأمين} . قيل: إن الحكمة في تزويجه الصغرى منه قبل الكبرى وإن كانت الكبرى أحوج إلى الرجال أنه توقع أن يميل إليها؛ لأنه رأها في رسالته، وماشاها في إقباله إلى أبيها معها، فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره وقيل غير هذا؛ والله أعلم وفي بعض الأخبار أنه تزوج بالكبرى؛ حكاه القشيري.
الثانية: وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه؛ فإما رسماه، وإلا فهو من أول وقت العقد.
الثالثة: وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية، وهو أمر قد قرره شرعنا، وجري في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن؛ رواه الأئمة؛ وفي بعض طرقه: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تحفظ من القرآن" فقال: سورة البقرة والتي تليها؛ قال: "فعلمها عشرين آية وهي امرأتك" واختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: فكرهه مالك، ومنعه ابن القاسم، وأجازه ابن حبيب؛ وهو قول الشافعي وأصحابه؛ قالوا: يجوز أن تكون منفعة الحر صداقا كالخياطة والبناء وتعليم القرآن وقال أبو حنيفة: لا يصح، وجوز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة، أو يسكنها داره سنة؛ لأن العبد والدار مال، وليس خدمتها بنفسه مالا وقال أبو الحسن الكرخي: إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز؛ لقوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقال أبو بكر الرازي: لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فهما متنافيان وقال ابن القاسم: ينفسخ قبل البناء ويثبت بعده.

وقال أصبغ: إن نقد معه شيئا ففيه اختلاف، وإن لم ينقد فهو أشد، فإن ترك مضى على كل حال بدليل قصة شعيب؛ قال مالك وابن المواز وأشهب وعول على هذه الآية جماعة من المتأخرين والمتقدمين في هذه النازلة؛ قال ابن خويز منداد تضمنت هذه الآية النكاح على الإجارة والعقد صحيح، ويكره أن تجعل الإجارة مهرا، وينبغي أن يكون المهر مالا كما قال عز وجل: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} هذا قول أصحابنا جميعا.
الرابعة: وأما قوله: ودخل ولم ينقد فقد اختلف الناس في هذا؛ هل دخل حين عقد أم حين سافر، فإن كان حين عقد فماذا نقد ؟ وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار؛ قال ابن القاسم فإن دخل قبل أن ينقد مضى، لأن المتأخرين من أصحابنا قالوا: تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب على أنه إن كان الصداق رعية الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة؛ وإن كان دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز إن كان مدى العمر بغير شرط وأما إن كان بشرط فلا يجوز إلا أن يكون الغرض صحيحا مثل التأهب للبناء أو انتظار صلاحية الزوجة للدخول إن كانت صغيرة؛ نص عليه علماؤنا
في هذه الآية اجتماع إجارة ونكاح، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: قال في ثمانية أبي زيد: يكره ابتداء فإن وقع مضى. الثاني: قال مالك وابن القاسم في المشهور: لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده؛ لاختلاف مقاصدهما كسائر العقود المتباينة. الثالث: أجازه أشهب وأصبغ قال ابن العربي: وهذا هو الصحيح وعليه تدل الآية؛ وقد قال مالك النكاح أشبه شيء بالبيوع، فأي فرق بين إجارة وبيع أو بين بيع ونكاح فرع: وإن أصدقها تعليم شعر مباح صح؛ قال المزني: وذلك مثل قول الشاعر:
يقول العبد فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا
وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش كان كما لو أصدقها خمرا أو خنزيرا

الثالثة عشرة- قوله تعالى: {أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} جرى ذكر الخدمة مطلقا وقال مالك: إنه جائز ويحمل على العرف، فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة وهو ظاهر قصة موسى، فإنه ذكر إجارة مطلقة وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز حتى يسمى لأنه مجهول وقد ترجم البخاري: "باب من استأجر أجيرا فبين له الأجل ولم يبين له العمل" لقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} . قال المهلب: ليس كما ترجم؛ لأن العمل عندهم كان معلوما من سقي وحرث ورعي وما شاكل أعمال البادية في مهنة أهلها، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها؛ مثل أن يقول له: إنك تحرث كذا من السنة، وترعى كذا من السنة، فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية، وإنما الذي لا يجوز عند الجميع أن تكون المدة مجهولة، والعمل مجهول غير معهود لا يجوز حتى يعلم قال ابن العربي: وقد ذكر أهل التفسير أنه عين له رعية الغنم، ولم يرو من طريق صحيحة، ولكن قالوا: إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم، فكان ما علم من حاله قائما مقام التعيين للخدمة فيه.
الرابعة عشرة- أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهورا معلومة، بأجرة معلومة، لرعاية غنم معدودة؛ فإن كانت معدودة معينة، ففيها تفصيل لعلمائنا؛ قال ابن القاسم: لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت، وهي رواية ضعيفة جدا؛ وقد استأجر صالح مدين موسى على غنمه، وقد رآها ولم يشترط خلفا؛ وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز لجهالتها؛ وعول علماؤنا على العرف حسبما ذكرناه آنفا؛ وأنه يعطى بقدر ما تحتمل قوته وزاد بعض علمائنا أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدر قوته، وهو صحيح فإن صالح مدين علم قدر قوة موسى برفع الحجر.
الخامسة عشرة- قال مالك: وليس على الراعي ضمان وهو مصدق فيما هلك أو سرق، لأنه أمين كالوكيل وقد ترجم البخاري: "باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئا يفسد فأصلح ما يخاف الفساد" وساق حديث كعب بن مالك عن أبيه أنه كانت

لهم غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي ـ أو أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله ـ وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أو أرسل إليه ـ فأمره بأكلها؛ قال عبدالله: فيعجبني أنها أمة وأنها ذبحت قال المهلب: فيه من الفقه تصديق الراعي والوكيل فيما اؤتمنا عليه حتى يظهر عليهما دليل الخيانة والكذب؛ وهذا قول مالك وجماعة وقال ابن القاسم: إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة وقال غيره: يضمن حتى يبين ما قال.
السادسة عشرة- واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى الراعي على إناث الماشية بغير إذن أربابها فهلكت؛ فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه؛ لأن الإنزاء من إصلاح المال ونمائه وقال أشهب: عليه الضمان؛ وقول ابن القاسم أشبه بدليل حديث كعب، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده، إن كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال؛ وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل؛ لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتا لما عرف من فسقه.
السابعة عشرة- لم ينقل ما كانت أجرة موسى عليه السلام؛ ولكن روى يحيى بن سلام أن صالح مدين جعل لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها، فأوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك بينهن يلدن خلاف شبههن كلهن وقال غير يحيى: بل جعل له كل بلقاء تولد له، فولدن له كلهن بلقا وذكر القشيري أن شعيبا لما استأجر موسى قال له: أدخل بيت كذا وخذ عصا من العصي التي في البيت، فأخرج موسى عصا، وكان أخرجها آدم من الجنة، وتوارثها الأنبياء حتى صارت إلى شعيب، فأمره شعيب أن يلقيها في البيت ويأخذ عصا أخرى، فدخل وأخرج تلك العصا؛ وكذلك سبع مرات كل ذلك لا تقع بيده غير تلك، فعلم شعيب أن له شأنا؛ فلما أصبح قال له: سق الأغنام إلي مفرق الطريق، فخذ عن يمينك

وليس بها عشب كثير، ولا تأخذ عن يسارك فإن بها عشبا كثيرا وتنينا كبيرا لا يقبل المواشي، فساق المواشي إلى مفرق الطريق، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ضبطها، فنام موسى وخرج التنين، فقامت العصا وصارت شعبتاها حديدا وحاربت التنين حتى قتلته، وعادت إلى موسى عليه السلام، فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم، والتنين مقتولا؛ فعاد إلى شعيب عشاء، وكان شعيب ضريرا فمس الأغنام، فإذا أثر الخصب باد عليها، فسأله عن القصة فأخبره بها، ففرح شعيب وقال: كل ما تلد هذه المواشي هذه السنة قالب لون ـ أي ذات لونين ـ فهو لك؛ فجاءت جميع السخال تلك السنة ذات لونين، فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة. وروى عيينة بن حصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفة فرجه" فقال له شعيب لك منها ـ يعني من نتاج غنمها ما جاءت به قالب لون ليس فيها عزوز ولا فشوش ولا كموش ولا ضبوب ولا ثعول قال الهروي: العزوز البكيئة؛ مأخوذ من العزاز وهي الأرض الصلبة، وقد تعززت الشاة والفشوش التي ينفش لبنها من غير حلب وذلك لسعة الإحليل، ومثله الفتوح والثرور ومن أمثالهم: لأُفشّنّك فَشّ الوطب أي لأخرجن غضبك وكبرك من رأسك ويقال: فش السقاء إذا أخرج منه الريح ومنه الحديث: "إن الشيطان يفش بين أليتي أحدكم حتى يخيل إليه أنه أحدث" أي ينفخ نفخا ضعيفا والكموش: الصغيرة الضرع، وهي الكميشة أيضا؛ سميت بذلك لانكماش ضرعها وهو تقلصه؛ ومنه يقال: رجل كميش الإزار والكشود مثل الكموش والضبوب الضيقة ثقب الإحليل والضب الحلب بشدة العصر والثعول الشاة التي لها زيادة حلمة وهي الثعل والثعل زيادة السن، وتلك الزيادة هي الراؤول ورجل أثعل والثعل ضيق مخرج اللبن قال الهروي: وتفسير قالب لون في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها

الثامنة عشرة- الإجارة بالعوض المجهول لا تجوز؛ فإن ولادة الغنم غير معلومة، وإن من البلاد الخصبة ما يعلم ولاد الغنم فيها قطعا وعدتها وسلامة سخالها كديار مصر وغيرها، بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر، ونهى عن المضامين والملاقيح والمضامين ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في أصلاب الفحول وعلى خلاف ذلك قال الشاعر:
ملقوحة في بطن ناب حامل
وقد مضى في سورة {الحجر} بيانه على أن راشد بن معمر أجاز الإجارة على الغنم بالثلث والربع وقال ابن سيرين وعطاء: ينسج الثوب بنصيب منه؛ وبه قال أحمد
التاسعة عشرة- الكفاءة في النكاح معتبرة؛ واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب، أو في بعض ذلك والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والفرشيات؛ لقوله تعالى :{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبا طريدا خائفا وحيدا جائعا عريانا فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه ورأى من حاله، وأعرض عما سوى ذلك وقد تقدمت هذه المسألة مستوعبة والحمد لله
الموفية عشرين- قال بعضهم: هذا الذي جرى من شعيب لم يكن ذكرا لصداق المرأة، وأنما كان اشتراطا لنفسه على ما يفعله الأعراب؛ فإنها تشترط صداق بناتها، وتقول لي كذا في خاصة نفسي، وترك المهر مفوضا؛ ونكاح التفويض جائز قال ابن العربي: هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر، وهو حرام لا يليق بالأنبياء؛ فأما إذا اشترط الولي شيئا لنفسه، فقد اختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين: أحدهما: أنه جائز والآخر: لا يجوز والذي يصح عندي التقسيم؛ فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا؛ فإن كانت ثيبا جاز؛ لأن نكاحها

بيدها، وإنما يكون للولي مباشرة العقد، ولا يمتنع أخذ العوض عليه كما يأخذه الوكيل على عقد البيع، وإن كانت بكرا كان العقد بيده، وكأنه عوض في النكاح لغير الزوج وذلك باطل؛ فإن وقع فُسِخ قبل البناء، وثبت بعده على مشهور الرواية والحمد الله.
الحادية والعشرون- لما ذكر الشرط وأعقبه بالطوع في العشر خرج كل واحد منهما على حكمه، ولم يلحق الآخر بالأول، ولا أشترك الفرض والطوع؛ ولذلك يكتب في العقود الشروط المتفق عليها،ثم يقال وتطوع بكذا، فيجري الشرط على سبيله، والطوع على حكمه، وانفصل الواجب من التطوع وقيل: ومن لفظ شعيب حسن في لفظ العقود في النكاح أنكحه إياها أولى من أنكحها إياه على ما يأتي بيانه في {الأحزاب} وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطا، ووكل العاشرة إلي المروءة
الثانية والعشرون- قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} لما فرغ كلام شعيب قرره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج و {أَيَّمَا} استفهام منصوب بـ {قَضَيْتُ} و {الأَجَلَيْنِ} مخفوض بإضافة {أَيُّ} إليهما و {مَا} صلة للتأكيد وفيه معنى الشرط وجوابه {فَلا عُدْوَانَ} وأن {عُدْوَانَ} منصوب بـ {لا} وقال ابن كيسان: {مَا} في موضع خفض بإضافة {أَيُّ} إليها وهي نكرة و {الأَجَلَيْنِ} بدل منها وكذلك في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي رحمة بدل من ما؛ قال مكي: وكان يتلطف في ألا يجعل شيئا زائدا في القرآن ويخرج له وجها يخرجه من الزيادة وقرأ الحسن: {أَيْمَا} بسكون الياء وقرأ ابن مسعود: {أَيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} وقرأ الجمهور: {عُدْوَانَ} بضم العين وأبو حيوة بكسرها؛ والمعنى: لا تبعة علي ولا طلب في الزيادة عليه والعدوان التجاوز في غير الواجب، والحجج السنون قال الشعر:
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر

الواحدة حجة بكسر الحاء {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} قيل: هو من قول موسى وقيل: هو من قول والد المرأة فاكتفى الصالحان صلوات الله عليهما في الإشهاد عليهما بالله ولم يشهدا أحدا من الخلق، وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح؛وهي:
الثالثة والعشرون- على قولين: أحدهما أنه لا ينعقد إلا بشاهدين وبه قال أبو حنيفة والشافعي "وقال مالك": إنه ينعقد دون شهود؛ لأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الإشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح، وفرق ما بقن النكاح والسفاح الدف وقد مضت هذه المسألة في {البقرة} مستوفاة وفي "البخاري" عن أبي هريرة: أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ايتني بالشهداء أشهدهم، فقال كفى بالله شهيدا؛ فقال أيتني بكفيل؛ فقال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه؛ وذكر الحديث.
الآية: [29] {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولي: قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى} قال سعيد بن جبير: سألني رجل من النصارى أي الأجلين قضى موسى فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله - يعني ابن عباس - فقدمت عليه فسألته؛ فقال: قضى أكملهما وأوفاهما فأعلمت النصراني فقال: صدق والله هذا العالم وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل في ذلك جبريل فأخبره أنه قضى عشر سنين وحكى الطبري عن مجاهد أنه قضى عشرا وعشرا بعدها؛ وواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال ابن عطية: وهذا ضعيف.

الثانية- {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} قيل: فيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء، لما له عليها من فضل القوامية وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمرا فالمؤمنون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج
الثالثة- قوله تعالى- {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} الآية. تقدم القول في ذلك في{طه} والجذوة بكسر الجيم قراءة العامة، وضمها حمزة ويحيى، وفتحها عاصم والسلمي وزور بن حبيش قال الجوهري: الجذوة والجذوة والجذوة الجمرة الملتهبة والجمع جذا وجذا وجذا قال مجاهد في قوله تعالى: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} أي قطعة من الجمر؛ قال: وهي بلغة جميع العرب وقال أبو عبيدة: والجذوة مثل الجذمة وهي القطعة الغليظة من الخشب كان في طرفها نار أو لم يكن قال ابن مقبل:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوار ولا دعر
وقال:
وألقى على قيس من النار جذوة ... شديدا عليها حميها ولهيبها
الآية: [30] {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا} يعني الشجرة قدم ضميرها عليها {أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ} {من} الأولى والثانية لابتداء الغاية، أي أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة و {مِنَ الشَّجَرَةِ} بدل من قوله: {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ} بدل الاشتمال، لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، وشاطئ الوادي وشطه جانبه، والجمع شطان وشواطئ، وذكره القشيري، وقال الجوهري: ويقال شاطئ الأودية ولا يجمع وشاطأت الرجل إذا مشيت علي شاطئ

ومشى هو على شاطئ آخر {الأَيْمَنِ} أي عن يمين موسى وقيل: عن يمين الجبل {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} وقرأ الأشهب العقيلي: {فِي الْبُقْعَةِ} بفتح الباء وقولهم بقاع يدل علي بقعة، كما يقال جفنة وجفان ومن قال بقعة قال بقع مثل غرفة وغرف {مِنَ الشَّجَرَةِ} أي من ناحية الشجرة قيل: كانت شجرة العليق وقيل: سمرة وقيل: عوسج ومنها كانت عصاه، ذكره الزمخشري وقيل: عناب، والعوسج إذا عظم يقال له الغرقد وفي الحديث: "إنه من شجر اليهود فإذا نزل عيسى وقتل اليهود الذين مع الدجال فلا يختفي أحد منهم خلف شجرة إلا نطقت وقالت يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فأقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود فلا ينطق" خرجه مسلم قال المهدوي: وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء ولا يجوز أن يوصف الحق تعالى بالانتقال والزوال وشبه ذلك من صفات المخلوقين قال أبو المعالي: وأهل المعاني وأهل الحق يقولون من كلمه الله تعالى وخصه بالرتبة العليا والغاية القصوى، فيدرك كلامه القديم المتقدس عن مشابهة الحروف والأصوات والعبارات والنغمات وضروب اللغات، كما أن من خصه الله بمنازل الكرامات وأكمل عليه نعمته، ورزقه رؤيته يرى الله سبحانه منزها عن مماثلة الأجسام وأحكام الحوادث، ولا مثل له سبحانه في ذاته وصفاته، وأجمعت الأمة على أن الرب تعالى خصص موسى عليه السلام وغيره من المصطفين من الملائكة بكلامه قال الأستاذ أبو إسحاق: اتفق أهل الحق على أن الله تعالى خلق في موسى عليه السلام معنى من المعاني أدرك به كلامه كان اختصاصه في سماعه، وأنه قادر على مثله في جميع خلقه واختلفوا في نبينا عليه السلام هل سمع ليلة الإسراء كلام الله، وهل سمع جبريل كلامه على قولين؛ وطريق أحدهما النقل المقطوع به وذلك مفقود، واتفقوا على أن سماع الخلق له عند قراءة القرآن على معنى أنهم سمعوا العبارة التي عرفوا بها معناه دون سماعه له في عينه وقال عبدالله بن سعد بن كلاب: إن موسى عليه السلام فهم كلام الله القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام قال أبو المعالي: وهذا مردود؛ بل يجب اختصاص موسى

عليه السلام بإدراك كلام الله تعالى خرقا للعادة، ولو لم يقل ذلك لم يكن لموسى عليه السلام اختصاص بتكليم الله إياه والرب تعالى أسمعه كلامه العزيز، وخلق له علما ضروريا، حتى علم أن ما سمعه كلام الله، وأن الذي كلمه وناداه هو الله رب العالمين، وقد ورد في الأقاصيص أن موسى عليه السلام قال: سمعت كلام ربي بجميع جوارحي، ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي وقد مضى هذا المعنى في "البقرة" مستوفى. {أَنْ يَا مُوسَى} {أَنْ} في موضع نصب بحذف حرف الجر أي بـ{أَنْ يَا مُوسَى} {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} نفي لربوبية غيره سبحانه وصار بهذا الكلام من أصفياء الله عز وجل لا من رسله؛ لأنه لا يصير رسولا إلا بعد أمره بالرسالة، والأمر بها إنما كان بعد هذا الكلام.
الآية: [31] {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}
قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} عطف على {أَنْ يَا مُوسَى} تقدمت.الكلام في {النمل}و {طه} و {مُدْبِراً} نصب على الحال وكذلك موضع قوله: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} نصب على الحال.أيضا {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ} أي من الحية وضررها. قال وهب: قيل له أرجع إلى حيث كنت فرجع فلف دراعته على يده، فقال له الملك: أرأيت إن أراد الله أن يصيبك بما تحاذر أينفعك لفك يدك ؟ قال: لا ولكني ضعيف خلقت من ضعف وكشف يده فأدخلها في فم الحية فعادت عصا {خَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} أي مما تحاذر
الآية: [32] {اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ سقين}
الآية: [33] {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}

الآية: [34] {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}
الآية: [34] {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}
قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} الآية. تقدمت. {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} {وَمَنِ} متعلقة بـ {وَلَّى} أي ولى مدبرا من الرهب وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق: {مِنَ الرَّهْبِ} بفتح الراء وإسكان الهاء وقرأ ابن عامر والكوفيون إلا حفص بضم الراء وجزم الهاء الباقون بفتح الراء والهاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله تعالي: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} وكلها لغات وهو بمعنى الخوف والمعنى إذا هالك أمر يدك وشعاعها فأدخلها في جيبك وارددها إليه تعد كما كانت وقيل: أمره الله أن يضم يده إلي صدره فيذهب عنه خوف الحية عن مجاهد وغيره ورواه الضحاك عن ابن عباس؛ قال فقال ابن عباس: ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى عليه السلام، ثم يدخل يده فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب ويحكي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: أن كاتبا كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر، فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر: خذ قلمك وأضمم إليك جناحك، وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي، وقيل: المعنى أضمم يدك إلي صدرك ليذهب الله ما في صدرك من الخوف وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون وإما من الثعبان وضم الجناح هو السكون؛ كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} يريد الرفق وكذلك قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي أرفق بهم وقال الفراء: أراد بالجناح عصاه وقال بعض أهل المعاني: الرهب الكم بلغة حمير وبني حنيفة قال مقاتل: سألتني أعرابية شيئا وأنا آكل فملأت الكف وأومأت إليها

فقالت: ها هنا في رهبي تريد في كمي وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول لأخر أعطني رهبك فسألته عن الرهب فقال: الكم؛ فعلى هذا يكون معناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم؛ لأنه تناول العصا ويده في كمه وقوله: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} يدل على أنها اليد اليمني، لأن الجيب على اليسار. ذكره القشيري.
قلت: وما فسروه من ضم اليد إلى الصدر يدل على أن الجيب موضعه الصدر وقد مضى في سورة {النور} بيانه الزمخشري: ومن بدع التفاسير أن الرهب الكم بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني مما في رهبك، وليت شعري كيف صحته في اللغة ! وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم، ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية، وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل، على أن موسى صلوات عليه ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها قال القشيري: وقوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} يريد اليدين إن قلنا أراد الأمن من فزع الثعبان وقيل: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أي شمر واستعد لتحمل أعباء الرسالة.
قلت: فعلى هذا قيل: {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} أي من المرسلين؛ لقوله تعالى {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} قال ابن بحر: فصار على هذا التأويل رسولا بهذا القول وقيل: إنما صار رسولا بقوله: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ} والبرهانان اليد والعصا وقرأ ابن كثير: بتشديد النون وخففها الباقون وروى أبو عمارة عن أبي الفضل عن أبي بكر عن ابن كثير، {فَذَانِيكَ} بالتشديد والياء وعن أبي عمرو أيضا قال لغة هذيل: {فَذَانِيكَ} بالتخفيف والياء ولغة قريش {فذانك} كما قرأ أبو عمرو وابن كثير وفي تعليله خمسة أقوال: قيل شدد النون عوضا من الألف الساقطة في ذانك الذي هو تثنية ذا المرفوع، وهو رفع بالابتداء، وألف ذا محذوفة لدخول ألف التثنية عليها، ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين؛ لأن أصله فذانك فحذف الألف الأولى عوضا من النون الشديدة وقيل:

التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك مكي: وقيل إن من شدد إنما بناه على لغة من قال في الواحد ذلك؛ فلما بنى أثبت اللام بعد نون التثنية، ثم أدغم اللام في النون على حكم إدغام الثاني في الأول، والأصل أن يدغم الأول أبدا في الثاني، إلا أن يمنع من ذلك علة فيدغم الثاني في الأول، والعلة التي منعت في هذا أن يدغم الأول في الثاني أنه لو فعل ذلك لصار في موضع النون التي تدل على التثنية لام مشددة فيتغير لفظ التثنية فأدغم الثاني في الأول لذلك؛ فصار نونا مشددة وقد قيل: إنه لما تنافي ذلك أثبت اللام قبل النون ثم أدغم الأول في الثاني على أصول الإدغام فصار نونا مشددة وقيل: شددت فرقا بينها وبين الظاهر التي تسقط الإضافة نونه، لأن ذان لا يضاف وقيل: للفرق بين الاسم المتمكن وبينها وكذلك العلة في تشديد النون في {اللذان} و{هذان} قال أبو عمرو: إنما اختص أبو عمرو هذا الحرف بالتشديد دون كل تثنية من جنسه لقلة حروفه فقرأ بالتثقيل ومن قرأ: {فَذَانِيكَ} بياء مع تخفيف النون فالأصل عنده {فَذَانِّك} بالتشديد فأبدل من النون الثانية ياء كراهية التضعيف، كما قالوا: لا أملاه في لا أمله فأبدلوا اللام الثانية ألفا. ومن قرأ بياء بعد النون الشديدة فوجهه أنه أشبع كسرة النون فتولدت عنها الياء.
قوله تعالى: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً} يعني معينا مشتق من أردأته أي أعنته والردء العون قال الشاعر:
ألم تر أن أصرم كان ردئي ... وخير الناس في قل ومال
النحاس: وقد أردأه ورداه أي أعانه؛ وترك همزه تخفيفا وبه قرأ نافع: وهو بمعنى المهموز قال المهدوي: ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم أردى على المائة أي زاد عليها، وكأن المعنى أرسله معي زيادة في تصديقي قاله مسلم بن جندب وأنشد قول الشاعر:
وأسمر خطيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أردى ذراعا على العشر
كذا أنشد الماوردي هذا البيت: قد أردى وأنشده الغزنوي والجوهري في الصحاح قد أرمى؛ قال: والقسب الصلب، والقسب تمر يابس يتفتت في الفم صلب النواة قال

يصف رمحا: وأسمر البيت قال الجوهري: ردؤ الشيء يردؤ وداءة فهو رديء أي فاسد، وأردأته أفسدته، وأردأته أيضا يعني أعنته؛ تقول: أردأته بنفسي أي كنت له ردءا وهو العون قال الله تعالى: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} . قال النحاس: وقد حكى ردأته: ردءا وجمع ردء أرداة وقرأ عاصم وحمزة: {يُصَدِّقُنِي} بالرفع وجزم الباقون؛ وهو اختيار أبي حاتم على جواب الدعاء واختار الرفع أبو عبيد على الحال من الهاء في {أَرْسِلْهُ} أي أرسله ردءا مصدقا حالة التصديق؛ كقوله: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ} [المائدة: 114] أي كائنة؛ حال صرف إلى الاستقبال ويجوز أن يكون صفة لقوله: {رِدْءاً} {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} إذا لم يكن لي وزير ولا معين؛ لأنهم لا يكادون يفقهون عني، فـ {قَالَ} الله جل وعز له {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي نقويك به؛ وهذا تمثيل؛ لأن قوة اليد بالعضد قال طرفة:
بني لبيني لستم بيد ... إلا يدا ليست لها عضد
ويقال في دعاء الخير: شد الله عضدك وفي ضده: فت الله في عضدك {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} أي حجه وبرهانا {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} بالأذى {بِآياتِنَا } أي تمتنعان منهم {بِآياتِنَا} فيجوز أن يوقف على {إِلَيْكُمَا} ويكون في الكلام تقديم وتأخير وقيل: التقدير {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} بآياتنا قال الأخفش والطبري قال المهدوي: وفي هذا تقديم الصلة على الموصول، إلا أن يقدر أنتما غالبان بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون وعنى بالآيات سائر معجزاته.
الآية: [36] {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}
الآية: [37] {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}

الآية: [38] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}
الآية: [39] {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ}
الآية: [40] {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}
الآية: [41] {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ}
الآية: [42] {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ} أي ظاهرات واضحات {قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً} مكذوب مختلق {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} وقيل: إن هذه الآيات وما احتج به موسى في إثبات التوحيد من الحجج العقلية وقيل: هي معجزاته.
قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى} قراءة العامة بالواو وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن: {قال} بلا واو؛ وكذلك هو في مصحف أهل مكة {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} أي بالرشاد. {مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ} قرأ الكوفيون إلا عاصما: {يكون} بالياء والباقون بالتاء وقد تقدم هذا {عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي دار الجزاء {إنه} الهاء ضمير الأمر والشأن {لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}
قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} قال ابن عباس: كان بينها وبين قوله: {نَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} أربعون سنة، وكذب عدو الله بل علم أن له ثم ربا هو خالقه وخالق قومه {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} أي أطبخ لي الآجر؛ عن ابن عباس رضي الله عنه وقال قتادة: هو أول من صنع الآجر وبنى به ولما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال - قيل خمسين ألف بناء سوى الأتباع والأجراء - وأمر بطبخ الآجر والجص،

ونشر الخشب وضرب المسامير، فبنوا ورفعوا البناء وشيدوه بحيث لم يبلغه بنيان منذ خلق الله السموات والأرض، فكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه، حتى أراد الله أن يفتنهم فيه فحكى السدي: أن فرعون صعد السطح ورمى بنشابة نحو السماء، فرجعت متلطخة بدماء، فقال قد قتلت إله موسى فروي أن جبريل عليه السلام بعثه الله تعالى عند مقالته، فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع؛ قطعة على عسكر فرعون قتلت منهم ألف ألف، وقطعة في البحر، وقطعة في الغرب، وهلك كل من عمل فيه شيئا والله أعلم بصحة ذلك. {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} الظن هنا شك، فكفر على الشك؛ لأنه قد رأى من البراهين ما لا يخيل على ذي فطرة.
قوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ} أي تعظم {هُوَ وَجُنُودُهُ} أي تعظموا عن الإيمان بموسى {بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي بالعدوان، أي لم تكن له حجة تدفع ما جاء به موسى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} أي توهموا أنه لا معاد ولا بعث. وقرأ نافع وابن محيصن وشيبة وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي: {لا يُرْجَعُونَ} بفتح الياء وكسر الجيم على أنه مسمى الفاعل الباقون: {لا يَرْجِعُونَ} على الفعل المجهول وهو اختيار أبي عبيد، والأول اختيار أبي حاتم. {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} وكانوا ألفي ألف وستمائة ألف {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي طرحناهم في البحر المالح. قال قتادة: بحر من وراء مصر يقال له إساف أغرقهم الله فيه وقال وهب والسدي: المكان الذي أغرقهم الله فيه بناحية القلزم يقال له بطن مريرة، وهو إلى اليوم غضبان وقال مقاتل، يعني نهر النيل وهذا ضعف والمشهور الأول. {فَانْظُرْ } يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي آخر أمرهم .{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} أي جعلناهم زعماء يتبعون على الكفر، فيكون عليهم وزرهم ووزر من اتبعهم حتى يكون عقابهم أكثر وقيل: جعل الله الملأ من قومه رؤساء السفلة منهم، فهم يدعون إلى جهنم وقيل: أئمة يأتم بهم ذوو العبر ويتعظ بهم أهل البصائر {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي إلى عمل أهل

النار {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} . {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي أمرنا العباد بلعنهم فمن ذكرهم لعنهم وقيل: أي ألزمناهم اللعن أي البعد عن الخير {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي من المهلكين الممقوتين قاله ابن كيسان وأبو عبيدة وقال ابن عباس: المشوهين الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل: من المبعدين يقال: قبحه الله أي نحاه من كل خير، وقبَحَه وقبّحه إذا جعله قبيحا وقال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف معناه قبحت قال الشاعر:
ألا قبح الله البراجم كلها ... وقبح يربوعا وقبح دارما
وانتصب يوما على الحمل على موضع {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ل} واستغنى عن حرف العطف في قوله: {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} كما استغنى عنه في قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} ويجوز أن يكون العامل في {يوم} مضمرا يدل عليه قوله: {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} فيكون كقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} ويجوز أن يكون العامل في {يوم} قوله {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} وإن كان الظرف متقدما ويجوز أن يكون مفعولا على السعة، كأنه قال: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة الآية: [43] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني التوراة؛ قاله قتادة قال يحيى بن سلام: هو أول كتاب - يعني التوراة - نزلت فيه الفرائض والحدود والأحكام وقيل: الكتاب هنا ست من المثاني السبع التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس، ورواه مرفوعا. {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} قال أبو سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التوراة على موسى غير القرية التي مسخت قردة ألم تر إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى}

أي من بعد قوم نوح وعاد وثمود وقيل: أي من بعد ما أغرقنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون. {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي آتيناه الكتاب بصائر أي ليتبصروا {وَهُدىً} أي من الضلالة لمن عمل بها {وَرَحْمَةً} لمن آمن بها. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي ليذكروا هذه النعمة فيقموا على إيمانهم في الدنيا، ويثقوا بثوابهم في الآخرة.
الآية: [44] {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}
الآية: [45] {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}
قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ} أي ما كنت يا محمد {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أي بجانب الجبل الغربي قال الشاعر:
أعطاك من أعطى الهدى النبيا ... نورا يزين المنبر الغربيا
{إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} إذ كلفناه أمرنا ونهينا، وألزمناه عهدنا وقيل: أي إذ قضينا إلى موسى أمرك وذكرناك بخير ذكر وقال ابن عباس: {إِذْ قَضَيْنَا} أي أخبرنا أن أمة محمد خير الأمم {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي من الحاضرين.
قوله تعالى: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً} أي من بعد موسى {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} حتى نسوا ذكر الله أي عهده وأمره نظيره: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وظاهر هذا يوجب أن يكون جرى لنبينا عليه السلام ذكر في ذلك الوقت، وأن الله سيبعثه، ولكن طالت المدة، وغلبت القسوة، فنسي القوم ذلك وقيل: آتينا موسى الكتاب وأخذنا على قومه العهود، ثم تطاول العهد فكفروا، فأرسلنا محمدا مجددا للدين وداعيا الخلق إليه. وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} أي مقيما كمقام موسى وشعيب بينهم قال العجاج:
فبات حيث يدخل الثوي
أي الضيف المقيم. وقوله: {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي تذكرهم بالوعد والوعيد. {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي أرسلناك في أهل مكة، وأتيناك كتابا فيه هذه الأخبار: ولولا ذلك لما علمتها.

الآية: [46] {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} أي كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، فكذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين وروى عمرو بن دينار يرفعه قال: "نودي يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني" فذلك قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} وقال أبو هريرة - وفي رواية عن ابن عباس - إن الله قال: "يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ورحمتكم قبل أن تسترحموني" قال وهب: وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد وأمته قال: يا رب أرنيهم فقال الله: "إنك لن تدركهم لإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم" قال: بلى يا رب فقال الله تعالى: "يا أمة محمد" فأجابوا من أصلاب أبائهم فقال: "قد أجبتكم قبل أن تدعوني" ومعنى الآية على هذا ما كنت بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك وأخبرناه بما كتبناه لك ولأمتك من الرحمة إلى آخر الدنيا. {وَلَكِنْ} فعلنا ذلك {رَحْمَةً} منا بكم قال الأخفش: {رَحْمَةً} نصب على المصدر أي ولكن رحمناك رحمة وقال الزجاج: هو مفعول من أجله أي فعل ذلك بك لأجل الرحمة النحاس: أي لم تشهد قصص الأنبياء، ولا تليت عليك، ولكنا بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة وقال الكسائي: على خبر كان؛ التقدير: ولكن كان رحمة. قال: ويجوز الرفع بمعنى هي رحمة الزجاج: الرفع بمعنى ولكن فعل ذلك رحمة {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} يعني العرب أي لم تشاهد تلك الأخبار، ولكن أوحيناها إليك رحمة بمن أرسلت إليهم لتنذرهم بها {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}

الآية: [47] {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية: [48] {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}
قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ} يريد قريشا. وقيل: اليهود {مُصِيبَةٌ} أي عقوبة ونقمة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر والمعاصي وخص الأيدي بالذكر؛ لأن الغالب من الكسب إنما يقع بها وجواب {لَوْلا} محذوف أي لولا أن يصيبهم عذاب بسبب معاصيهم المتقدمة {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا} أي هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} لما بعثنا الرسل وقيل: لعاجلناهم بالعقوبة وبعث الرسل إزاحة لعذر الكفار كما تقدم في {سبحان} وآخر {طه}. {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} نصب على جواب التخصيص {وَنَكُونَ} عطف عليه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من المصدقين وقد احتج بهذه الآية من قال: إن العقل يوجب الإيمان والشكر؛ لأنه قال: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} وذلك موجب للعقاب إذا تقرر الوجوب قبل بعثه الرسل، وإنما يكون ذلك بالعقل قال القشيري: والصحيح أن المحذوف لو لا كذا لما احتيج إلى تجديد الرسل أي هؤلاء الكفار غير معذورين إذ بلغتهم الشرائع السابقة والدعاء إلى التوحيد، ولكن تطاول العهد، فلو عذبناهم فقد يقول قائل منهم طال العهد بالرسل، ويظن أن ذلك عذر ولا عذر لهم بعد أن بلغهم خبر الرسل، ولكن أكملنا إزاحة العذر، وأكملنا البيان فبعثناك يا محمد إليهم وقد حكم الله بأنه لا يعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} يعني محمدا صلي الله عليه وسلم {وَقَالُوا} يعني كفار مكة {لَوْلا} أي هلا {أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} من العصا واليد البيضاء،

وأنزل عليه القرآن جملة واحد كالتوراة، وكان بلغهم ذلك من أمر موسى قبل محمد؛ {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أي موسى ومحمد تعاونا على السحر وقال الكلبي: بعثت قريش إلى اليهود وسألوهم عن بعث محمد وشأنه فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الجواب إليهم {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} وقال قوم: إن اليهود علموا المشركين، وقالوا قولوا لمحمد لولا أوتيت مثل ما أوتي موسى، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة فهذا الاحتجاج وارد على اليهود، أي أو لم يكفر هؤلاء اليهود بما أوتي موسى حين قالوا في موسى وهارون هما ساحران. وقرأ الكوفيون: {سِحْرَانِ} بغير ألف، أي الإنجيل والقرآن وقيل: التوراة والفرقان؛ قاله الفراء وقيل: التوراة والإنجيل، قاله أبو رزين الباقون {سَاحِرَانِ} بألف وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: موسى ومحمد عليهما السلام، وهذا قول مشركي العرب وبه قال ابن عباس والحسن. الثاني: موسى وهارون وهذا قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة. وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد فيكون الكلام احتجاجا عليهم وهذا يدل على أن المحذوف في قوله: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} لما جددنا بعثة الرسل، لأن اليهود اعترفوا بالنبوات ولكنهم حرفوا وغيروا واستحقوا العقاب، فقال: قد أكملنا إزاحة عذرهم ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم الثالث: عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وهذا قول اليهود اليوم وبه قال قتادة. وقيل: أو لم يكفر جميع اليهود بما أوتي موسى في التوراة من ذكر المسيح، وذكر الإنجيل والقرآن، فرأوا موسى ومحمدا ساحرين والكتابين سحرين.
الآية: [49] {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
الآية: [50] {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
الآية: [51] {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}

قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} أي قل يا محمد إذا كفرتم معاشر المشركين بهذين الكتابين {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} ليكون ذلك عذرا لكم في الكفر {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أنهما سحران أو فأتوا بكتاب هو أهدى من كتابي موسى ومحمد عليهما السلام وهذا يغوي قراءة الكوفيين {سِحْرَانِ} . {أَتَّبِعْهُ} قال الفراء: بالرفع؛ لأنه صفة للكتاب وكتاب نكرة قال: وبذا جزمت - هو الوجه - فعلى الشرط.
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} يا محمد بأن يأتوا بكتاب من عند الله {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} أي آراء قلوبهم وما يستحسنونه ويحببه لهم الشيطان، وإنه لا حجة لهم {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} أي لا أحد أضل منه {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} أي أتبعنا بعضه بعضا، وبعثنا رسولا بعد رسول وقرأ الحسن {وَصَّلْنَا} مخففا وقال أبو عبيدة والأخفش: معنى {وصَّلْنَا} أتممنا كصلتك الشيء وقال ابن عيينه والسدي: بيّنا وقاله ابن عباس وقال مجاهد: فصلنا وكذلك كان يقرؤها. وقال ابن زيد: وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم في الآخرة في الدنيا وقال أهل المعاني: وَاَلينا وتابعنا وأنزلنا القرآن تبع بعضه بعضا: وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ونصائح ومواعظ إرادة أن يتذكروا فيفلحوا وأصلها من وصل الحبال بعضها ببعض قال الشاعر:
فقل لبني مروان ما بال ذمة ... وحبل ضعيف ما يزال يوصل
وقال امرؤ القيس:
درير كخذروف الوليد أمره ... تقلب كفيه بخيط موصل

والضمير في {لهم} لقريش؛ عن مجاهد وقيل: هو لليهود وقيل: هو لهم جميعا. والآية رد على من قال هلا أوتي محمد القرآن جملة واحدة {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} قال ابن عباس: يتذكرون محمدا فيؤمنوا به. وقيل: يتذكرون فيخافوا أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم؛ قاله علي بن عيسى وقيل: لعلهم يتعظون بالقرآن عن عبادة الأصنام. حكاه النقاش.
الآية: [52] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ}
الآية: [53] {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}
قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} أخبر أن قوما ممن أوتوا الكتاب من بني إسرائيل من قبل القرآن يؤمنون بالقرآن، كعبدالله بن سلام وسلمان ويدخل فيه من أسلم من علماء النصارى، وهم أربعون رجلا، قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية نفرا أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصاري: منهم بحيرا الراهب وأبرهه والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع كذا سماهم الماوردي، وأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية والتي بعدها {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} قاله قتادة وعنه أيضا نزلت في عبدالله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي، أسلموا فنزلت فيهم هذه الآية وعن رفاعة القرظي: نزلت في عشرة أنا أحدهم وقال عروة بن الزبير: نزلت في النجاشي وأصحابه ووجه باثني عشر رجلا فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه، فقال لهم: خيبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد، ولم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركبا أحمق منكم ولا أجهل، فقالوا: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} لم نأل أنفسنا رشدا {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وقد تقدم هذا في {المائدة}

عند قوله {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} مستوفى وقال أبو العالية: هؤلاء قوم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وقد أدركه بعضهم. {مِنْ قَبْلِهِ} أي من قبل القرآن وقيل: من قبل محمد عليه السلام {هُمْ بِهِ} أي بالقرآن أو بمحمد عليه السلام {يُؤْمِنُونَ} {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} أي إذا قرئ عليهم القرآن قالوا بما فيه {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} أي من قبل نزوله، أو من قبل بعثه محمد عليه السلام {مُسْلِمِينَ} أي موحدين، أو مؤمنين بأنه سيبعث محمد وينزل عليه القرآن.
الآية: [54] {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
الآية:[55] {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}
فيه أربع مسائل:
الأولي- قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ـ فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران وعبد مملوك أدي حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" قال الشعبي للخراساني: خذا هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة وخرجه البخاري أيضا قال علماؤنا: لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين؛ فالكتابي كان مخاطبا من جهة نبيه، ثم إنه خوطب من جهة نبينا فأجابه واتبعه فله أجر الملتين، وكذلك العبد هو مأمور من جهة الله تعالى ومن جهة سيده، ورب الأمة لما قام بما خوطب به من تربيته أمته وأدبها فقد أحياها إحياء التربية، ثم إنه لما أعتقها وتزوجها أحياها إحياء الحرية التي ألحقها فيه بمنصبه، فقد قام

بما أمر فيها، فأجر كل واحد منهم أجرين ثم إن كل واحد من الأجرين مضاعف في نفسه، الحسنة بعشر أمثالها فتتضاعف الأجور ولذلك قيل: إن العبد الذي يقوم بحق سيده وحق الله تعالى أفضل من الحر، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر وغيره وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للعبد المملوك المصلح أجران" والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك قال سعيد بن المسيب: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها. وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعما للمملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعما له" .
الثانية- قوله تعالي: {بِمَا صَبَرُوا} عام في صبرهم على ملتهم، ثم على هذه وعلى الأذى الذي يلقونه من الكفار وغير ذلك.
الثالثة- قوله تعالي: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي يدفعون درأت إذا دفعت، والدرء الدفع وفي الحديث: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" قيل: يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الأذى وقيل: يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب؛ وعلى الأول فهو وصف لمكارم الأخلاق؛ أي من قال لهم سوءا لاينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه فهذه آية مهادنة، وهي من صدر الإسلام، وهي مما نسختها آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاه أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ومنه قوله عليه السلام لمعاذ: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" ومن الخلق الحسن دفع المكروه والأذى، والصبر على الجفا بالإعراض عنه ولين الحديث
الرابعة- قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أثني عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم في الطاعات وفي رسم الشرع، وفي ذلك حض على الصدقات وقد يكون الإنفاق من الأبدان بالصوم والصلاة؛ ثم مدحهم أيضا على إعراضهم عن اللغو كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} أي إذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم أعرضوا

عنه؛ أي لم يشتغلوا به {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي متاركة؛ مثل قوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} أي لنا ديننا ولكم دينكم {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي أمنا لكم منا فإنا لا نحاربكم، ولا نسابكم، وليس من التحية في شيء مال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة
الآية: [56] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب.
قلت: والصواب أن يقال أجمع جل المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نص حديث البخاري ومسلم، وقد تقدم الكلام في ذلك في {براءة}. قال أبو روق قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} إشارة إلى العباس. وقاله قتادة. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} قال مجاهد: لمن قدر له أن يهتدي. وقيل: معنى {مَنْ أَحْبَبْتَ} أي من أحببت أن يهتدي وقال جبير بن مطعم: لم يسمع أحد الوحى يلقى على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر الصديق فإنه سمع جبريل وهو يقول: يا محمد اقرأ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
الآية: [57] {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
الآية: [58] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}

قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} هذا قول مشركي مكة قال ابن عباس: قائل ذلك من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك، ونؤمن بك، مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا - يعني مكة - لاجتماعهم على خلافنا، ولا طاقة لنا بهم وكان هذا من تعللاتهم فأجاب الله تعالى عما اعتل به فقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} أي ذا أمن وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم، فأخبر أنه قد أمنهم بحرمة البيت، ومنع عنهم عدوهم، فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم. والتخطف الانتزاع بسرعة؛ وقد تقدم. قال يحيى بن سلام يقول: كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غيري، أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي. {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي يجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد؛ عن ابن عباس وغيره يقال: جبى الماء في الحوض أي جمعه. والجابية الحوض العظيم وقرأ نافع: {تُجْبَى} بالتاء؛ لأجل الثمرات والياقوت بالياء، لقوله: {كُلِّ شَيْءٍ} واختاره أبو عبيد قال: لأنه حال بين الاسم المؤنث وبين فعله حائل وأيضا فإن الثمرات جمع، وليس بتأنيث حقيقي. {رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} أي من عندنا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعقلون؛ أي هم غافلون عن الاستدلال وأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم. و {رِزْقاً} نصب على المفعول من أجله. ويجوز نصبه على المصدر بالمعنى؛ لأن معنى {تُجْبَى} ترزق. وقرئ {يُجْنىَ} بالنون من الجنا، وتعديته بإلى كقولك يجنى إلى فيه ويجنى إلى الخافة.
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} بين لمن توهم أنه لو آمن لقاتلته العرب أن الخوف في ترك الإيمان أكثر، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار، والبطر

والطغيان بالنعمة؛ قاله الزجاج {مَعِيشَتَهَا} أي في معيشتها فلما حذف {في} تعدى الفعل؛ قاله المازني الزجاج كقوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} الفراء: هو منصوب على التفسير. قال كما تقول: أبطرت مالك وبطرته ونظيره عنده: {إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} وكذا عنده. {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} ونصب المعارف على التفسير محال عند البصريين؛ لأنمعنى التفسير والتمييز أن يكون واحدا نكرة يدل على الجنس وقيل: أنتصب بـ {بَطِرَتْ} ومعنى: {بَطِرَتْ} جهلت؛ فالمعنى: جهلت شكر معيشتها. {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي لم تسكن بعد إهلاك أهلها إلا قليلا من المساكن وأكثرها خراب والاستثناء يرجع إلى المساكن أي بعضها يسكن؛ قاله الزجاج واعترض عليه؛ فقيل: لو كان الاستثناء يرجع إلى المساكن لقال إلا قليل؛ لأنك تقول: القوم لم تضرب إلا قليل، ترفع إذا كان المضروب قليلا، وإذا نصبت كان القليل صفة للضرب؛ أي لم تضرب إلا ضربا قليلا، فالمعنى إذا: فتلك مساكنهم لم يسكنها إلا المسافرون ومن مر بالطريق يوما أو بعض يوم أي لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا. وكذا قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافر أو مار الطريق يوما أو ساعة {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أي لما خلفوا بعد هلاكهم.
[59] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}
الآية: [60] {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ}
الآية: [61] {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} أي القرى الكافر أهلها. {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} قرئ بضم الهمزة وكسرها لإتباع الجر يعني مكة. و {رَسُولاً} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم.

وقيل: {فِي أُمِّهَا} يعني في أعظمها {رَسُولاً} ينذرهم. وقال الحسن: في أوائلها.
قلت: ومكة أعظم القرى لحرمتها وأولها، لقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} وخصت بالأعظم لبعثة الرسول فيها؛ لأن الرسل تبعث إلى الأشراف وهم يسكنون المدائن وهي أم ما حولها. وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة {يوسف}. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} {يَتْلُو} في موضع الصفة أي تاليا أي يخبرهم أن العذاب ينزل بهم إن لم يؤمنوا {آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى} سقطت النون للإضافة مثل {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} {إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} أي لم أهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم وفي هذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين، كما قال عز من قائل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} فنص في قوله {بِظُلْمٍ} على أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما لهم منه، وإن حاله في غناه وحكمته منافية للظلم، دل على ذلك بحرف النفي مع لامه كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} يا أهل مكة {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} أي تتمتعون بها مدة حياتكم، أو مدةً في حياتكم، فإما أن تزولوا عنها أو تزول عنكم. {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي أفضل وأدوم، يريد الدار الآخرة وهي الجنة. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أن الباقي أفضل من الفاني قرأ أبو عمرو: {يعقلون} بالياء الباقون بالتاء على الخطاب وهو الاختيار لقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ} . قوله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ} يعني الجنة وما فيها من الثواب. {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فأعطي منها بعض ما أراد. {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي في النار ونظيره قوله: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ

مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قال ابن عباس: نزلت في حمزة بن عبدالمطلب، وفي أبي جهل بن هشام وقال مجاهد: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وقال محمد بن كعب. نزلت في حمزة وعلي، وفي أبي جهل وعمارة بن الوليد وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة؛ قاله السدي قال القشيري: والصحيح أنها نزلت في المؤمن والكافر على التعميم الثعلبي: وبالجملة فإنها نزلت في كل كافر متع في الدنيا بالعافية والغنى وله في الآخرة النار، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله في الآخرة الجنة.
الآية: [62] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}
الآية: [63] {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}
الآية: [64] {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}
الآية: [65] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}
الآية: [66] {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ}
الآية: [67] {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} أي ينادي الله يوم القيامة هؤلاء المشركين {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} بزعمكم أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي حقت عليهم كلمة العذاب وهم الرؤساء؛ قاله الكلبى وقال قتادة: هم الشياطين. {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} أي دعوناهم إلى الغي فقيل لهم: أغويتموهم ؟ قالوا: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} يعنون أضللناهم كما كنا ضالين. {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} أي تبرأ بعضنا من بعض، والشياطين يتبرؤون ممن أطاعهم، والرؤساء يتبرؤون ممن قبل منهم؛ كما قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}

قوله تعالى: {وَقِيلَ} أي للكفار {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} أي استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم {فَدَعَوْهُمْ} أي استغاثوا بهم {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} أي فلم يجيبوهم ولم ينتفعوا بهم {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} قال الزجاج: جواب {لَوْ} محذوف؛ والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم الهدى، ولما صاروا إلى العذاب وقيل: أي لو أنهم كانوا يهتدون ما دعوهم وقيل المعنى: ودوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا إذا رأوا العذاب يوم القيامة. {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} أي يقول الله لهم ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي. {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} أي خفيت عليهم الحجج؛ قاله مجاهد؛ لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر ولا حجة يوم القيامة و {الأَنْبَاءُ} الأخبار؛ سمى حججهم أنباء لأنها أخبار يخبرونها {فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج؛ لأن الله تعالى أدحض حججهم؛ قاله الضحاك وقال ابن عباس: {لا يَتَسَاءَلُونَ} أي لا ينطقون بحجة وقيل: {لا يَتَسَاءَلُونَ} في تلك الساعة، ولا يدرون ما يجيبون به من هول تلك الساعة، ثم يجيبون بعد ذلك كما أخبر عن قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقال مجاهد: لا يتساءلون بالأنساب وقيل: لا يسأل بعضهم بعضا أن يحمل من ذنوبه شيئا؛ حكاه ابن عيسى
قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ} أي من الشرك {وَآمَنَ} أي صدق {وَعَمِلَ صَالِحاً} أدى الفرائض وأكثر من النوافل {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أي من الفائزين بالسعادة. وعسى من الله واجبة
الآيةى: [68] {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
الآيةى: [69] {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}
الآيةى: [70] {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} هذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم واختاروهم للشفاعة؛ أي الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء لا إلى المشركين وقيل: هو جواب الوليد بن المغيرة حين قال: {وْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يعني نفسه زعم، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف وقيل: هو جواب اليهود إذ قالوا لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به. قال ابن عباس: والمعنى؛ وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار منهم من يشاء لطاعته وقال يحيى بن سلام: والمعنى؛ وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار من يشاء لنبوته وحكى النقاش: إن المعنى وربك يخلق ما يشاء من خلقه يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، ويختار الأنصار لدينه.
قلت: وفي كتاب البزار مرفوعا صحيحا عن جابر: "إن الله تعالى اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي وفي أصحابي كلهم خير واختار أمتي - على سائر الأمم واختار لي من أمتي أربعة قرون" وذكر سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه عن أبيه في قوله عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} قال: من النعم الضأن، ومن الطير الحمام والوقف التام {وَيَخْتَارُ} وقال علي بن سليمان: هذا وقف التمام ولا يجوز أن تكون {مَا} في موضع نصب بـ {يَخْتَارُ} لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء قال وفي هذا رد على القدرية قال النحاس: التمام {وَيَخْتَارُ} أي ويختار الرسل.
قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي ليس يرسل من اختاروه هم قال أبو إسحاق: {وَيَخْتَارُ} هذا الوقف التام المختار ويجوز أن تكون {مَا} في موضع نصب بـ {يَخْتَارُ} ويكون المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة قال القشيري: الصحيح الأول لإطباقهم على الوقف على قوله {وَيَخْتَار} قال المهدوي: وهو أشبه بمذهب أهل السنة و{مَا} من قوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نفي عام لجميع الأشياء أن يكون للعبد فيها شيء سوى اكتسابه بقدرة الله عز وجل. الزمخشري: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} بيان لقوله: {وَيَخْتَارُ} لأن معناه يختار ما يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف، والمعني، وإن الخيرة الله تعالى في أفعاله وهو أعلم بوجوده الحكمة فيها أي ليس لأحد

من خلقه أن يختار عليه وأجاز الزجاج وغيره أن تكون {ما} منضى منصوبة بـ {يَخْتَار} وأنكر الطبري أن تكون {ما} نافيه، لئلا يكون المعنى إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، ولأنه لم يتقدم كلام بنفي قال المهدي:ولا يلزم ذلك؛ لأن {ما} تنفي الحال والاستقبال كليس ولذلك عملت عملها، ولأن الآي كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم على ما يسأل عنه، وعلى ما هم مصرون عليه من الأعمال وإن لم يكن ذلك في النص وتقدير الآية عند الطبري: ويختار من خلقه، لأن المشركين كانوا يختارون خيار أموالهم فيجعلونها لآلهتهم، فقال الله تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} للهداية ومن خلقه من سبقت له السعادة في علمه، كما اختار المشركون خيار أموالهم لآلهتهم فـ {ما} على هذا لمن يعقل وهي بمعنى الذي {الْخِيَرَةُ} رفع بالابتداء {وَلَهُمْ} الخبر والجملة خبر {كَانَ} وشبهه بقولك: كان زيد أبوه منطلق وفيه ضعف، إذا ليس في الكلام عائد يعود على اسم كان إلا أن يقدر فيه حذف فيجوز على بعد وقد روي معنى ما قاله الطبري عن ابن عباس قال الثعلبي: {ما} نفي أي ليس لهم الاختيار على الله وهذا أصوب كقوله تعالي: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} قال محمود الوراق:
توكل على الرحمن في كل حاجةٍ ... أردت فإن الله يقضي ويقدِر
إذا ما يرد ذو العرش أمرا بعبده ... يصبه وما للعبد ما يتخير
وقد يهلك الإنسان ومن وجه حذره ... وينجو بحمد الله من حيث يحذر
وقال آخر:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر ... والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا ... وفي اختيار سواه اللوم والشوم
قال بعض العلماء: لا ينبغي لأحد أن يقدر على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة في ذلك بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة يقرأ في الركعة ألأولي بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا

الْكَافِرُونَ} في الركعة الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} واختار بعض المشايخ أن يقرأ في الركعة الأولى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} الآية، وفي الركعة الثانية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وكل حسن ثم يدعو بهذا الدعاء بعد السلام، وهو ما رواه البخاري من صحيحه عن جابر بن عبدالله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة في القرآن؛ يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه اللهم وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به" . قال: ويسمي حاجته. وروت عائشة عن أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمرا قال: "اللهم خر لي واختر لي" وروى أنس أن النبي صلى الله عليه قال: "يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى ما يسبق قلبك فإن الخير فيه" قال العلماء: وينبغي له أن يفرغ قلبه من جميع الخواطر حتى لا يكون مائلا إلى أمر من الأمور، فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه، فإن الخير فيه إن شاء الله وإن عزم على سفر فيتوخى بسفره يوم الخميس أو يوم الاثنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نزه نفسه سبحانه فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ} أي تنزيها. {وَتَعَالَى} أي تقدس وتمجد {عَمَّا يُشْرِكُونَ}. {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} يظهرون وقرأ ابن محيصن وحميد: {تَكُنُّ} بفتح التاء وضم الكاف وقد تقدم هذا في {النمل} تمدح سبحانه بأنه عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء. {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تقدم معناه، وأنه المنفرد بالوحدانية، لإن جميع المحامد إنما تجب له وأن لا حكم إلا له وإليه المصير.

الآية: [71] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ}
الآية: [72] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُون}
الآية: [73] {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً} أي دائما؛ ومنه قول طرفة:
لعمرك ما أمري علي بغمة ... نهاري ولا ليلي علي بسرمد
بين سبحانه أنه مهد أسباب المعيشة ليقوموا بشكر نعمه. {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} أي بنور تطلبون فيه المعيشة وقيل: بنهار تبصرون فيه معايشكم وتصلح فيه الثمار والنبات. {أَفَلا تَسْمَعُونَ} سماع فهم وقبول. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أي تستقرون فيه من النصب. {أَفَلا تُبْصِرُون} ما أنتم فيه من الخطأ في عبادة غيره؛ فإذا أقررتم بأنه لا يقدر على إيتاء الليل والنهار غيره فلم تشركون به. {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي فيهما وقيل: الضمير للزمان وهو الليل والنهار {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتطلبوا من رزقه فيه أي في النهار فحذف .{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله علي ذلك
الآية: [74] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}
الآية: [75] {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ }

قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أعاد هذا الضمير لاختلاف الحالين، ينادون مرة فيقال لهم: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} فيدعون الأصنام فلا يستجيبون، فتظهر حيرتهم، ثم ينادون مرة أخرى فيسكتون وهو توبيخ وزيادة خزي والمناداة هنا ليست من الله ؟ لأن الله تعالى لا يكلم الكفار لقوله تعالى {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكتهم، ويقيم الحجه عليهم في مقام الحساب وقيل: يحتمل أن يكون من الله، وقوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} حين يقال لهم: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} وقال: {شُرَكَائِيَ} لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم،
قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} أي نبيا؛ عن مجاهد وقيل: هم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم في الدنيا والأول أظهر؛ لقوله تعالي: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} وشهيد كل أمة رسولها الذي يشهد عليها والشهيد الحاضر أي أحضرنا رسولهم المبعوث إليهم. {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا} أي حجتكم. {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أي علموا صدق ما جاءت به الأنبياء. "وضل عنهم" أي ذهب عنهم وبطل. {ما كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي يختلقونه من الكذب على الله تعالى من أن معه آلهة تعبد.
الآية: [76] {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ }
الآية: [77] {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}

قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} لما قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} بين أن قارون أوتيها واغتر بها ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون، ولستم أيها المشركون بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى لحا؛ وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب؛ وموسى بن عمران بن قاهث وقال ابن إسحاق: كان عم موسى لأب وأم وقيل: كان ابن خالته ولم ينصرف للعجمة والتعريف وما كان على وزن فاعول أعجميا لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة، فإن حسنت فيه الألف واللام انصرف إن كان اسما لمذكر نحو طاوس وراقود قال الزجاج: ولو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف.
قوله تعالى: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} بغيه أنه زاد في طول ثوبه شبرا؛ قاله شهر بن حوشب وفي الحديث: "لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا" وقيل: بغيه كفره بالله عز وجل؛ قاله الضحاك وقيل: بغيه استخفافه بهم بكثرة مال وولده؛ قاله قتادة وقيل: بغيه نسبته ما آتاه الله من الكنوز إلى نفسه بعلمه وحيلته؛ قاله ابن بحر وقيل: بغيه قوله إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان في هارون فمالي ! فروى أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة لموسى والحبورة لهارون؛ يقرب القربان ويكون رأسا فيهم، وكان القربان لموسى فجعله موسى إلى أخيه، وجد قاوون في نفسه وحسدهما فقال لموسى: الأمر لكما وليس لي شيء إلى متى أصبر قال موسى؛ هذا صنع الله قال: والله لا أصدقنك حتى تأتي بآية؛ فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد منهم بعصاه، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر - وكانت من شجر اللوز - فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} من البغي وهو الظلم وقال يحيى بن سلام وابن المسيب: كان قارون غنيا عاملا لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم وكان منهم وقول سابع: روي عن ابن عباس قال: لما أمر الله

تعالى برجم الزاني عمد قارون إلى امرأة بغي وأعطاها مالا، وحملها على أن ادعت على موسى أنه زنى بها وأنه أحبلها؛ فعظم على موسى ذلك وأحلفها بالله الذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت فتداركها الله فقالت: أشهد أنك بريء، وأن قارون أعطاني مالا، وحملني على أن قلت ما قلت، وأنت الصادق وقارون الكاذب فجعل الله أمر قارون إلى موسى وأمر الأرض أن تطيعه فجاءه وهو يقول للأرض: يا أرض خذيه؛ يا أرض خذيه وهي تأخذه شيئا فشيئا وهو يستغيث يا موسى إلى أن ساخ في الأرض هو وداره وجلساؤه الذين كانوا على مذهبه وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى: استغاث بك عبادي فلم ترحمهم، أما أنهم لو دعوني لو جدوني قريبا مجيبا ابن جريج: بلغنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة، فلا يبلغون إلى أسفل الأرض إلى يوم القيامة، وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج: حدثني إبراهيم بن راشد قال حدثني داود بن مهران عن الوليد بن مسلم عن مروان بن جناح عن يونس بن ميسرة بن حلبس قال: لقي قارون يونس في ظلمات البحر، فنادى قارون يونس، فقال: يا يونس تب إلى الله فإنك تجده عند أول قدم ترجع بها إليه فقال يونس: ما منعك من التوبة فقال: إن توبتي جعلت إلى ابن عمي فأبى أن يقبل مني وفي الخبر: إذا وصل قارون إلى قرار الأرض السابعة نفخ إسرافيل في الصور والله أعلم قال السدي: وكان اسم البغي سبرتا، وبذل لها قارون ألفي درهم قتادة: وكان قطع البحر مع موسى وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري.
قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} قال عطاء: أصاب كثيرا من كنوز يوسف عليه السلاموقال الوليد بن مروان: إنه كان يعمل الكيمياء {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } {إن} واسمها وخبرها في صلة {ما}و{ما} مفعولة {آتَيْنَاهُ} قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلات؛ إنه لا يجوز أن تكون صلة الذي وأخواته {إن} وما عملت فيه، وفي القرآن {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح

به ومن قال مفتاح قال مفاتيح ومن قال هي الخزائن فواحدها مفتح بالفتح {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أحسن ما قيل فيه أن المعنى لتنيء العصبة أي تميلهم بثقلها، فلما انفتحت التاء دخلت الباء كما قالوا هو يذهب بالبؤس ومذهب البؤس فصار {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} فجعل العصبة تنوء أي تنهض متثاقلة؛ كقولك قم بنا أي أجعلنا نقوم يقال: ناء ينوء نوءا إذا نهض بثقل قال الشاعر:
تنوء بأخراها فلايا قيامها ... وتمشي الهوينى عن قريب فتبهر
وقال آخر:
أخذت فلم أملك ونوت فلم أقم ... كأني من طول الزمان مقيد
وأناءني إذا أثقلني؛ عن أبي زيد وقال أبو عبيدة: قوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} مقلوب، والمعنى لتنوء بها العصبة أي تنهض بها أبو زيد: نؤت بالحمل إذا نهضت قال الشاعر:
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف ... عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
والأول معنى قول ابن عباس وأبي صالح والسدي وهو قول الفراء واختاره النحاس كما يقال: ذهبت به وأذهبته وجئت به وأجأته ونؤت به وأنأته؛ فأما قولهم: له عندي ما ساءه وناءه فهو إتباع كان يجب أن يقال وأناءه ومثله هنأني الطعام ومرأني، وأخذه ما قدم وما حدث وقيل: هو مأخوذ من النأي وهو البعد ومنه قول الشاعر:
ينأون عنا وما تنأى مودتهم ... فالقلب فيهم رهين حيثما كانوا
وقرأ بديل بن ميسرة: "لينوء" بالياء؛ أي لينوء الواحد منها أو المذكور فحمل على المعنى وقال أبو عبيدة: قلت لرؤبة بن العجاج في قوله:
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق
إن كنت أردت الخطوط فقل كأنها، وإن كنت أردت السواد والبلق فقل كأنهما فقال: أردت كل ذلك واختلف في العصبة وهي الجماعة التي يتعصب بعضهم لبعض على أحد عشر قولا: الأول: ثلاثة رجال؛ قاله ابن عباس وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة

وقال مجاهد: العصبة هنا ما بين العشرين إلى خمسة عشر وعنه أيضا: ما بين العشرة إلى الخمسة عشر وعنه أيضا: من عشرة إلى خمسة ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري والماوردي، والثالث المهدوي وقال أبو صالح والحكم بن عتيبة وقتادة والضحاك: أربعون رجلا. السدي ما بين العشرة إلى الأربعين وقاله قتادة أيضا وقال عكرمة: منهم من يقول أربعون، ومنهم من يقول سبعون وهو قول أبي صالح إن العصبة سبعون رجلا؛ ذكره الماوردي والأول ذكره عنه الثعلبي وقيل: ستون رجلا وقال سعيد بن جبير: ست أو سبع وقال عبدالرحمن بن زيد: ما بين الثلاثة والتسعة وهو النفر وقال الكلبي: عشرة لقول إخوة يوسف {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} وقاله مقاتل وقال خيثمة: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة، وأنها لتنوء بها ثقلها، وما يزيد مفتح منها على إصبع، لكل مفتح منها كنز مال، لو قسم ذلك الكنز على أهل البصرة لكفاهم قال مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الإبل وقيل: من جلود البقر لتخف عليه، وكانت تحمل معه إذا ركب على سبعين بغلا فيما ذكره القشيري وقيل: على أربعين بغلا وهو قول الضحاك وعنه أيضا: إن مفاتحه أوعيته وكذا قال أبو صالح: إن المراد بالمفاتح الخزائن؛ فالله أعلم {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} أي المؤمنون من بني إسرائيل، قاله السدي وقال يحيى بن سلام: القوم هنا موسى وقال الفراء وهو جمع أريد به واحد كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} وإنما هو نعيم ابن مسعود على ما تقدم. {لا تَفْرَحْ} أي لا تأشر ولا تبطر {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي البطرين؛ قاله مجاهد والسدي قال الشاعر:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا ضارع في صرفه المتقلب
وقال الزجاج: المعنى لا تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه وقال مبشر بن عبدالله: لا تفرح لا تفسد قال الشاعر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أفرحتك الودائع

أي أفسدتك وقال أبو عمرو: أفرحه الدين أثقله وأنشده: إذا أنت..... البيت وأفرحه سره فهو مشترك قال الزجاج: والفرحين والفارحين سواء وفرق بينهما الفراء فقال: معنى الفرحين الذين هم في حال فرح، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل وزعم أن مثله طمع وطامع وميت ومائت ويدل على خلاف ما قال قول الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ولم يقل مائت وقال مجاهد أيضا: معنى { لا تَفْرَحْ} لا تبغ. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي الباغين وقال ابن بحر: لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين
قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} أي أطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة؛ فإن من حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي
قوله تعالي: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} اختلف فيه؛ فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك؛ إذ الآخرة إنما يعمل لها، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة وقال الحسن وقتادة: معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة؛ قاله ابن عطية
قلت: وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله: احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وعن الحسن: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغ وقال مالك: هو الأكل والشرب بلا سرف وقيل: أراد بنصيبه الكفن فهذا وعظ متصل؛ كأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن ونحو هذا قول الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداءان تلوى فيهما وحنوط
وقال آخر:
وهي القناعة لا تبغي بها بدلا ... فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن
قال ابن العربي: وأبدع ما فيه عندي قول قتادة: ولا تنس نصيبك الحلال، فهو نصيبك من الدنيا ويا ما أحسن هذا. "وأحسن كما أحسن الله إليك" أي أطع الله وأعبده كما أنعم عليك

ومنه الحديث: ما الإحسان ؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه" وقيل: هو أمر بصلة المساكين قال ابن العربي: فيه أقوال كثيرة جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله وقال مالك: الأكل والشرب من غير سرف قال ابن العربي: أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء، ويشرب العسل، ويستعمل الشواء، ويشرب الماء البارد وقد مضى هذا المعنى في غير موضع. {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} أي لا تعمل بالمعاصي {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .
الآية: [78 ]{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}
قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} يعني علم التوراة وكان فيما روي من أقرأ الناس لها، ومن أعلمهم بها وكان أحد العلماء السبعين الذي اختارهم موسى للميقات وقال ابن زيد: أي إنما أوتيته لعلمه بفضلي ورضاه عني فقوله: {عِنْدِي} معناه إن عندي أن الله تعالى آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل في وقيل: أوتيته على علم من عندي بوجوه التجارة والمكاسب؛ قاله علي بن عيسى ولم يعلم أن الله لو لم يسهل له اكتسابها لما اجتمعت عنده وقال ابن عباس: على علم عندي بصنعة الذهب وأشار إلى علم الكيمياء وحكى النقاش: أن موسى عليه السلام علمه الثلث من صنعة الكيمياء، ويوشع الثلث، وهارون الثلث، فخدعهما قارون - وكان على إيمانه - حتى علم ما عندهما وعمل الكيمياء، فكثرت أمواله وقيل: إن موسى علم الكيمياء ثلاثة؛ يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا، وقارون، واختار الزجاج القول الأول، وأنكر قول من قال إنه يعمل الكيمياء قال: لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له وقيل: إن موسى علم أخته علم الكيمياء، وكانت زوجة قارون وعلمت أخت موسى قارون؛ والله أعلم.

قوله تعالى: {أولم أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ} أي بالعذاب {مِنَ الْقُرُونِ} أي الأمم الخالية الكافرة {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} أي للمال، ولو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم وقيل: القوة الآلات، والجمع الأعوان والأنصار، والكلام خرج مخرج التقريع من الله تعال لقارون؛ أي {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} قارون {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} . {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} أي لا يسألون سؤال استعتاب كما قال: ولا هم يستعتبون} {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ لقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قاله الحسن وقال مجاهد: لا تسأل الملائكة غدا عن المجرمين، فإنهم يعرفون بسيماهم، فإنهم يحشرون سود الوجوه زرق العيون وقال قتادة: لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها، بل يدخلون النار بلا حساب وقيل: لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية الذين عذبوا في الدنيا وقيل: أهلك من أهلك من القرون عن علم منه بذنوبهم فلم يحتج إلى مسألتهم عن ذنوبهم.
الآية: [79] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
الآية: [80] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}
قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} أي على بني إسرائيل فيما رآه زينة من متاع الحياة الدنيا؛ من الثياب والدواب والتجمل في يوم عيد قال الغزنوي: في يوم السبت {فِي زِينَتِهِ} أي مع زينته قال الشاعر:
إذا ما قلوب القوم طارت مخافة ... من الموت أرسوا بالنفوس المواجد
أي مع النفوس كان خرج في سبعين ألفا من تبعه، عليهم المعصفرات، وكان أول من صبغ له الثياب المعصفرة قال السدي: مع ألف جوار بيض على بغال بيض بسروج من

ذهب على قطف الأرجوان قال ابن عباس: خرج على البغال الشهب مجاهد: على براذين بيض عليها سروج الأرجوان، وعليهم المعصفرات، وكان ذلك أول يوم رئي فيه المعصفر قال قتادة: خرج على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر، منها ألف بغل أبيض عليها قطف حمر قال ابن جريج: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان، ومعه ثلاثمائة جارية على البغال الشهب عليهن الثياب الحمر وقال ابن زيد: خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات الكلبي: خرج في ثوب أخضر كان الله أنزله على موسى من الجنة فسرقه منه قارون وقال جابر بن عبدالله رضي الله عنه: كانت زينته القرمز
قلت: القرمز صبغ أحمر مثل الأرجوان، والأرجوان في اللغة صبغ أحمر؛ ذكره القشيري. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي نصيب وافر من الدنيا ثم قيل: هذا من قول مؤمني ذلك الوقت، تمنوا مثل ماله رغبة في الدنيا وقيل: هو من قول أقوام لم يؤمنوا بالآخرة ولا رغبوا فيها، وهم الكفار.
قوله تعالي: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهم أحبار بني إسرائيل قالوا للذين تمنوا مكانه {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} يعني الجنة. {لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ} أي لا يؤتى الأعمال الصالحة أو لا يؤتى الجنة في الآخرة إلا الصابرون على طاعة الله وجاز ضميرها لأنها المعنية بقوله: {ثَوَابُ اللَّهِ} .
الآية: [81] {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}
الآية: [82] {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} قال مقاتل: لما أمر موسى الأرض فابتلعته قالت بنو إسرائيل: إنما أهلكه ليرث ماله؛ لأنه كان ابن عمه؛ أخي أبيه، فخسف

الله تعالى به وبداره الأرض وبجميع أموال بعد ثلاثة أيام، فأوحى الله إلى موسى إني لا أعيد طاعة الأرض إلى أحد بعدك أبدا يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض وخسف الله به الأرض خسفا أي غاب به فيها ومنه قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} وخسف هو في الأرض وخسف به وخسوف القمر كسوفه قال ثعلب: كسفت الشمس وخسف القمر؛ هذا أجود الكلام والخسف النقصان؛ يقال: رضي فلان بالخسف أي بالنقيصة. {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي جماعة وعصابة {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} لنفسه أي الممتنعين فيما نزل به من الخسففيروى أن قارون يسفل كل يوم بقدر قامة، حتى إذا بلغ قعر الأرض السفلى نفخ إسرافيل في الصور؛ وقد تقدم؛ والله أعلم
قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} أي صاروا يتندمون على ذلك التمني و {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} وي حرف تندم قال النحاس: أحسن ما قيل في هذا قول الخليل وسيبويه ويونس والكسائي إن القوم تنبهوا أو نبهوا؛ فقالوا وي، والمتندم من العرب يقول في خلال تندمه وي قال الجوهري: وي كلمة تعجب، ويقال: ويك ووي لعبدالله وقد تدخل وي على كأن المخففة والمشددة تقول: ويكأن الله قال الخليل: هي مفصولة؛ تقول: {وي} ثم تبتدئ فتقول: {كَأَنَّ} قال الثعلبي: وقال الفراء هي كلمة تقرير؛ كقولك: أما ترى إلى صنع الله وإحسانه؛ وذكر أن أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك ويك ؟ فقال: وي كأنه وراء البيت؛ أي أما ترينه وقال ابن عباس والحسن: ويك كلمة ابتداء وتحقيق تقديره: إن الله يبسط الرزق وقيل: هو تنبيه بمنزلة ألا في قولك ألا تفعل وأما في قولك أما بعد قال الشاعر:
سألتاني الطلاق إذ رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر
وي كأن من يكن له نشب يحبـ ... ـب ومن يفتقر يعش ضر

وقال قطرب: إنما هو ويلك وأسقطت لامه وضمت الكاف التي هي للخطاب إلى وي قال عنترة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قول الفوارس ويك عنتر أقدم
وأنكوه النحاس وغيره، وقالوا: إن المعنى لا يصح عليه؛ لأن القوم لم يخاطبوا أحدا فيقولوا له ويك، ولو كان كذلك لكان إنه بالكسر وأيضا فإن حذف اللام من ويلك لا يجوز وقال بعضهم: التقدير ويلك اعلم أنه؛ فأضمر اعلم ابن الأعرابي: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} أي اعلم وقيل: معناه ألم تر أن الله وقال القتبي: معناه رحمة لك بلغة حمير وقال الكسائي: وي فيه معنى التعجب ويروى عنه أيضا الوقف على وي وقال كلمة تفجع ومن قال: ويك فوقف على الكاف فمعناه أعجب لأن الله يبسط الرزق وأعجب لأنه لا يفلح الكافرون وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب لا اسما؛ لأن وي ليست مما يضاف وإنما كتبت متصلة؛ لأنها لما كثر استعمالها جعلت مع ما بعدها كشيء واحد {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالإيمان والرحمة وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البغي والبطر {عَلَيْنَا لَخَسَفَ} وقرأ الأعمش: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} وقرأ حفص: {لَخَسَفَ بِنَا} مسمى الفاعل الباقون: على ما لم يسم فاعله وهو اختيار أبي عبيد وفي حرف عبدالله {لاخَسَفَ بِنَا} كما تقول انطلق بنا وكذلك قرأ الأعمش وطلحة بن مصرف واختار قراءه الجماعة أبو حاتم لوجهين: أحدهما قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} والثاني قوله: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} فهو بأن يضاف إلى الله تعالى لقرب اسمه منه أولى {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} عند الله.
الآية: [83] {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
الآية: [84] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} يعني الجنة وقال ذلك على جهة التعظيم لها والتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها، وبلغك وصفها {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ} أي رفعة وتكبرا على الإيمان والمؤمنين {وَلا فَسَاداً} عملا بالمعاصي قاله ابن جريج ومقاتل وقال عكرمة ومسلم البطين: الفساد أخذ المال بغير حق وقال الكلبي الدعاء إلي غير عبادة الله وقال يحيى بن سلام: هو قتل الأنبياء والمؤمنين. {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} قال الضحاك: الجنة. وقال أبو معاوية: الذي لا يريد علوا هو من لم يجزع من ذلها، ولم ينافس في عزها، وأرفعهم عند الله أشدهم تواضعا، وأعزهم غدا ألزمهم لذل اليوم وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال: مر علي بن الحسين وهو راكب على مساكين يأكلون كسرا لهم، فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم، فتلا هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} ثم نزل وأكل معهم ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني فحملهم إلي منزلة فأطعمهم وكساهم وصرفهم خرجه أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد قال: حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي، قال حدثنا سفيان بن عيينة فذكره وقيل: لفظ الدار الآخرة يشمل الثواب والعقاب والمراد إنما ينتفع بتلك الدار من اتقى، ومن لم يتق فتلك الدار عليه لا له، لأنها تضره ولا تنفعه.
قوله تعالى: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } تقدم في {النمل} وقال عكرمة: ليس شيء خيرا من لا إله إلا الله وإنما المعنى من جاء بلا إله إلا الله فله منها خير. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} أي بالشرك {فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي يعاقب بما يليق بعلمه.
الآية: [85] {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
الآية: [86] {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ}

الآية: [87] {ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين}
الآية: [88] {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ختم السورة ببشارة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم برده إلى مكة قاهرا لأعدائه وقيل: هو بشارة له بالجنة والأول أكثر وهو قول جابر بن عبدالله وابن عباس ومجاهد وغيرهم قال القتبي: معاد الرجل بلده لأنه ينصرف ثم يعود وقال مقاتل: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير طريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها فقال له جبريل إن الله يقول: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي إلى مكة ظاهرا عليها قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالجحفة ليست مكية ولا مدنية وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس {إِلَى مَعَادٍ} قال: إلي الموت وعن مجاهد أيضا وعكرمة والزهري والحسن: إن المعنى لرداك إلي يوم القيامة، وهو اختيار الزجاج يقال: بيني وبينك المعاد؛ أي يوم القيامة؛ لأن الناس يعودون فيه أحياء {فَرَضَ} معناه أنزل وعن مجاهد أيضا وأبي مالك وأبي صالح: {إِلَى مَعَادٍ} إلي الجنة وهو قول أبي سعيد الخدري وابن عباس أيضا؛ لأنه دخلها ليلة الإسراء وقيل: لأن أباه آدم خرج منها. {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ} أي قل لكفار مكة إذا قالوا إنك لفي ضلال مبين {رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أنا أم أنتم.
قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أي ما علمت أننا نرسلك إلي الخلق وننزل عليك القرآن. {إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} قال الكسائي: هو استثناء منقطع بمعنى لكن. {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} أي عونا لهم ومساعدا. وقد تقدم في هذه السورة.

قوله تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} يعني أقوالهم وكذبهم وأذاهم، ولا تلتفت نحوهم وامض لأمرك وشأنك وقرأ يعقوب: {يَصُدُّنَّكَ} مجزوم النون وقرئ: {يُصُِدُّنَّكَ} من أصده بمعنى صدره وهى لغة في كلب قال الشاعر:
أناس أصدرا الناس بالسيف عنهم ... صدود السواقي عن أنوف الحوائم
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي إلى التوحيد وهذا يتضمن المهادنة والموادعة وهذا كله منسوخ بآية السيف وسبب هذه الآية ما كانت قريش تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تعظيم أوثانهم، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته أم الغرانيق على ما تقدم والله أعلم. {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أي لا تعبد معه غيره فإنه لا إله إلا هو نفي لكل معبود وإثبات لعبادته. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال مجاهد: معناه إلا هو وقال الصادق: دينه وقال أبو العالية وسفيان: أي إلا ما أريد به وجهه؛ أي ما يقصد إليه بالقربة قال:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
وقال محمد بن يزيد: حدثني الثوري قال سألت أبا عبيدة عن قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فقال: إلا جاهه، كما تقول لفلان وجه في الناس أي جاه. {لَهُ الْحُكْمُ} في الأولى والآخرة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. قال الزجاج: {وَجْهَهُ} منصوب على الاستثناء، ولو كان في غير القرآن كان إلا وجهه بالرفع، بمعنى كل شيء غير وجهه هالك كما قال:
وكل أخ مفارقة أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
والمعنى كل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بمعنى ترجعون إليه.
تمت سورة القصص والحمد لله

تفسير سورة العنكبوت
أبي سعيد الخدري قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك قال: "إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر" قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء" وقلت: ثم من قال: "ثم الصالحون إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها وأن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء" وروى سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا أشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة أبتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة" وروى عبدالرحمن بن زيد أن عيسى عليه السلام كان له وزير فركب يوما فأخذه السبع فأكله فقال عيسى: يا رب وزيري في دينك وعوني على بني إسرائيل وخليفتي فيهم سلطت عليه كلبا فأكله قال: "نعم كانت له عندي منزلة رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة" وقال وهب: قرأت في كتاب رجل من الحواريين: إذ سلك بك سبيل البلاء فقر عينا فإنه سلك بك سبيل الأنبياء والصالحين وإذا سلك بك سبيل الرخاء فابك على نفسك فقد خولف بك عن سبيلهم
قوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ} أي فليرين الله الذين صدقوا في إيمانهم وقد مضى هذا المعنى في {البقرة} وغيرها قال الزجاج: ليعلم صدق الصادق بوقوع صدقه منه وقد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازى عليه وإنما يعلم صدق الصادق واقعا كائنا وقوعه وقد علم أنه سيقع وقال النحاس: فيه قولان - أحدهما - أن يكون {صَدَقُوا} مشتقا من الصدق و {الْكَاذِبِينَ} مشتقا من الكذب الذي هو ضد الصدق ويكون المعنى؛ فليبينن الله والذين صدقوا فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا مثل ذلك والذين كذبوا حين اعتقدوا

المجلد الرابع عشر
تفسير سورة الرومالجزء 14 من الطبعة
تفسير سورة الروم
سورة الروم مكية كلها من غير خلاف وهي ستون آية
الآية: [1] {الم}
الآية: [2] {غُلِبَتِ الرُّومُ}
الآية: [3] {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}
الآية: [4] {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}
الآية: [5] {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ} روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ - إلى قول - يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} . قال: ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس. قال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. هكذا قرأ نصر بن علي الجهضمي {غََلَبَتِ الرُّومُ} . ورواه أيضا من حديث ابن عباس بأتم منه. قال ابن عباس في قول الله عز وجل: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ} قال: غَلبت وغُلبت، قال: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب؛ فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما إنهم سيغلبون" فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا، فإن ظهرنا كان لنا كذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل أجل خمس سنين، فلم يظهروا؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا جعلته

إلى دون" - أراه قال العشر - قال قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشرة. قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله { الم. غُلِبَتِ الرُّومُ - إلى قوله - وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} . قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. ورواه أيضا عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ} وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ} . قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى. وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان. وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع؟ ثلاث سنين أو تسع سنين؟ فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه؛ قال فسموا بينهم ست سنين؛ قال: فمضت الست سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين، قال: لأن الله تعالى قال {فِي بِضْعِ سِنِينَ} قال: وأسلم عند ذلك ناس كثير. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. وروى القشيري وابن عطية وغيرهما: أنه لما نزلت الآيات خرج أبو بكر بها إلى المشركين فقال: أسركم أن غَلبت الروم؟ فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون في بضع سنين. فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه - وقيل أبو سفيان بن حرب -: يا أبا فصيل - يعرضون بكنيته يا أبا بكر - فلنتناحب - أي نتراهن

في ذلك فراهنهم أبو بكر. قال قتادة: وذلك قبل أن يحرم القمار، وجعلوا الرهان خمس قلائص والأجل ثلاث سنين. وقيل: جعلوا الرهان ثلاث قلائص. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "فهلا احتطت، فإن البضع ما بين الثلاث والتسع والعشر ولكن ارجع فزدهم في الرهان واستزدهم في الأجل" ففعل أبو بكر، فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام؛ فغلبت الروم في أثناء الأجل. وقال الشعبي: فظهروا في تسع سنين. القشيري: المشهور في الروايات أن ظهور الروم كان في السابعة من غلبة فارس للروم، ولعل رواية الشعبي تصحيف من السبع إلى التسع من بعض النقلة. وفي بعض الروايات: أنه جعل القلائص سبعا إلى تسع سنين. ويقال: إنه آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار؛ فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين. وحكى النقاش وغيره: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به أبي بن خلف وقال له: أعطني كفيلا بالخطر إن غلبت؛ فكفل به ابنه عبد الرحمن، فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا، ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية على رأس تسع سنين من مناحبتهم. وقال الشعبي: لم تمض تلك المدة حتى غلبت الروم فارس؛ وربطوا خيلهم بالمدائن، وبنوا رومية؛ فقمر أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدق به" فتصدق به. وقال المفسرون: إن سبب غلبة الروم فارس امرأة كانت في فارس لا تلد إلا الملوك والأبطال، فقال لها كسرى: أريد أن أستعمل أحد بنيك على جيش أجهزه إلى الروم؛ فقالت: هذا هرمز أروع من ثعلب وأحذر من صقر، وهذا فرخان أحد من سنان وأنفذ من نبل، وهذا شهر بزان أحلم من كذا، فاختر؛ قال فاختار الحليم وولاه، فسار إلى الروم بأهل فارس فظهر على

لروم. قال عكرمة وغيره: إن شهر بزان لما غلب الروم خرب ديارها حتى بلغ الخليج، فقال أخوه فرخان: لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى؛ فكتب كسرى إلى شهر بزان أرسل إلي برأس فرخان فلم يفعل؛ فكتب كسرى إلى فارس: إني قد استعملت عليكم فرخان وعزلت شهر بزان، وكتب إلى فرخان إذا ولي أن يقتل شهر بزان؛ فأراد فرَّخان قتل شهر بزان فأخرج له شهر بزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل فرخان، فقال شهر بزان لفرخان: إن كسرى كتب إلي أن أقتلك ثلاث صحائف وراجعته أبدا في أمرك، أفتقتلني أنت بكتاب واحد؟ فرد الملك إلى أخيه، وكتب شهر بزان إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى، فغلبت الروم فارس ومات كسرى. وجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ففرح من معه من المسلمين؛ فذلك قوله تعالى: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ} يعني أرض الشام. عكرمة: بأذرعات، وهي ما بين بلاد العرب والشام. وقيل: إن قيصر كان بعث رجلا يدعى يحنس وبعث كسرى شهر بزان فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى بلاد الشام إلى أرض العرب والعجم. مجاهد: بالجزيرة، وهو موضع بين العراق والشام. مقاتل: بالأردن وفلسطين. و {أدنى} معناه أقرب. قال ابن عطية: فإن كانت الواقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله:
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
وإن كانت الواقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم. فلما طرأ ذلك وغُلبت الروم سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم سيغلبون وتكون الدولة لهم في الحرب.
وقد مضى الكلام في فواتح السور. وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة {غَلَبت الرُّومُ} بفتح الغين واللام. وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كانت الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر بذلك المسلمون، فبشر الله تعالى عباده أنهم سيغلبون أيضا في بضع سنين؛ ذكر هذا التأويل أبو حاتم. قال أبو جعفر النحاس:

قراءة أكثر الناس {غُلِبَتِ الرُّومُ} بضم العين وكسر اللام. وروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري أنهما قرأ {غَلَبت الرُّومُ} وقرأ {سيُغلبون} . وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون: أن هذه قراءة أهل الشام؛ وأحمد بن حنبل يقول: إن عصمة هذا ضعيف، وأبو حاتم كثير الحكاية عنه، والحديث يدل على أن القراءة {غُلبت} بضم الغين، وكان في هذا الإخبار دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الروم غلبتها فارس، فأخبر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، وأن المؤمنين يفرحون بذلك، لأن الروم أهل كتاب، فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله عز وجل به مما لم يكن علموه، وأمر أبا بكر أن يراهنهم على ذلك وأن يبالغ في الرهان، ثم حرم الرهان بعد ونسخ بتحريم القمار. قال ابن عطية: والقراءة بضم الغين أصح، وأجمع الناس على {سيغلبون} أنه بفتح الياء، يراد به الروم. ويروى عن ابن عمر أنه قرأ أيضا بضم الياء في {سيغلبون} ، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به. قال أبو جعفر النحاس: ومن قر {سيُغلبون } فالمعنى عنده: وفارس من بعد غلبهم، أي من بعد أن غلبوا، سيغلبون. وروي أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري حديث الترمذي، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية، وأن الخبر وصل يوم بيعة الرضوان؛ قاله عكرمة وقتادة. قال ابن عطية: وفي كلا اليومين كان نصر من الله للمؤمنين. وقد ذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين، وفارس من أهل الأوثان؛ كما تقدم بيانه في الحديث. قال النحاس: وقول آخر وهو أولى - أن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى؛ إذ كان فيه دليل على النبوة لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه. قال ابن عطية: ويشبه أن يعلل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤونة، ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه؛ فتأمل هذا المعنى، مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

رجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه. وقيل: سرورهم إنما كان بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين؛ لأن جبريل أخبر بذلك النبي عليه السلام يوم بدر؛ حكاه القشيري.
قلت: ويحتمل أن يكون سرورهم بالمجموع من ذلك، فسروا بظهورهم على عدوهم وبظهور الروم أيضا وبإنجاز وعد الله. وقرأ أبو حيوة الشامي ومحمد بن السميقع {من بعد غَلْبهم} بسكون اللام، وهما لغتان؛ مثل الظعن والظعن. وزعم الفراء أن الأصل {من بعد غلبتهم} فحذفت التاء كما حذفت في قوله عز وجل {وَإِقَامَ الصَّلاةِ} وأصله وإقامة الصلاة. قال النحاس: وهذا غلط لا يخيل على كثير من أهل النحو؛ لأن {إقام الصلاة} مصدر قد حذف منه لاعتلال فعله، فجعلت التاء عوضا من المحذوف، و {غلب} ليس بمعتل ولا حذف منه شيء. وقد حكى الأصمعي: طرد طردا، وجلب جلبا، وحلب حلبا، وغلب غلبا؛ فأي حذف في هذا، وهل يجوز أن يقال في أكل أكلا وما أشبهه -: حذف منه" ؟. {فِي بِضْعِ سِنِينَ} حذفت الهاء من {بِضع} فرقا بين المذكر والمؤنث، وقد مضى الكلام فيه في {يوسف}. وفتحت النون من {سِنِينَ} لأنه جمع مسلم. ومن العرب من يقول {في بضع سنين} كما يقول في {غِسِلين} . وجاز أن يجمع سنة جمع من يعقل بالواو والنون والياء والنون، لأنه قد حذف منها شيء فجعل هذا الجمع عوضا من النقص الذي في واحده؛ لأن أصل {سنة} سنهة أو سنوة، وكسرت السين منه دلالة على أن جمعه. خارج عن قياسه ونمطه؛ هذا قول البصريين. ويلزم الفراء أن يضمها لأنه يقول: الضمة دليل على الواو وقد حذف من سنة واو في أحد القولين، ولا يضمها أحد علمناه.
قوله تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أخبر تعالى بانفراده بالقدرة وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدرته فقال {لِلَّهِ الأَمْرُ} أي إنفاذ الأحكام.

{من قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أي من قبل هذه الغلبة ومن بعدها. وقيل: من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء. و {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ظرفان بنيا على الضم؛ لأنهما تعرفا بحذف ما أضيفا إليهما وصارا متضمنين ما حذف فخالفا تعريف الأسماء وأشبها الحروف في التضمين فبنِيا، وخصا بالضم لشبههما بالمنادى المفرد في أنه إذا نكر وأضيف زال بناؤه، وكذلك هما فضما. ويقال: {مِنْ قبلِ وَمِن بعدِ} . وحكى الكسائي عن بعض بني أسد {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} الأول مخفوض منون، والثاني مضموم بلا تنوين. وحكى الفراء "من قبل ومن بعد" مخفوضين بغير تنوين. وأنكره النحاس ورده. وقال الفراء في كتابه: في القرآن أشياء كثيرة، الغلط فيها بين، منها أنه زعم أنه يجوز {مِنْ قبلِ وَمِن بعدِ} وإنما يجوز {مِنْ قبلِ وَمِن بعدِ} على أنهما نكرتان. قال الزجاج: المعنى من متقدم ومن متأخر. {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} تقدم ذكره. {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} يعني من أوليائه؛ لأن نصره مختص بغلبة أوليائه لأعدائه، فأما غلبة أعدائه لأوليائه فليس بنصره، وإنما هو ابتلاء وقد يسمى ظفرا. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في نقمته {الرَّحِيمُ} لأهل طاعته.
الآية: [6] {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
الآية: [7] {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}
قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} لأن كلامه صدق. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وهم الكفار وهم أكثر. وقيل: المراد مشركو مكة. وانتصب {وَعْدَ اللَّهِ} على المصدر؛ أي وعد ذلك وعدا. ثم بين تعالى مقدار ما يعلمون فقال : {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني أمر معايشهم ودنياهم: متى يزرعون ومتى يحصدون، وكيف يغرسون وكيف يبنون؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. وقال الضحاك: هو بنيان قصورها، وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها؛ والمعنى واحد. وقيل: هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا

عند استراقهم السمع من سماء الدنيا؛ قاله سعيد بن جبير. وقيل: الظاهر والباطن؛ كما قال في موضع آخر {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}
قلت: وقول ابن عباس أشبه بظاهر الحياة الدنيا، حتى لقد قال الحسن: بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي. وقال أبو العباس المبرد: قسم كسرى أيامه فقال: يصلح يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب واللهو، ويوم الشمس للحوائج. قال ابن خالويه: ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا. {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ} أي عن العلم بها والعمل لها {هُمْ غَافِلُونَ} قال بعضهم:
ومن البلية أن ترى لك صاحبا ... في صورة الرجل السميع المبصر
فطنٍ بكل مصيبة في ماله ... وإذا يصاب بدينه لم يشعر
الآية: [8] {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}
قوله تعالى: {فِي أَنْفُسِهِمْ} ظرف للتفكير وليس بمفعول، تعدى إليه {يَتَفَكَّرُوا} بحرف جر؛ لأنهم لم يؤمروا أن يتفكروا في خلق أنفسهم، إنما أمروا أن يستعملوا التفكر في خلق السموات والأرض وأنفسهم، حتى يعلموا أن الله لم يخلق السموات وغيرها إلا بالحق. قال الزجاج: في الكلام حذف، أي فيعلموا؛ لأن في الكلام دليلا عليه. {إِلاَّ بِالْحَقِّ} قال الفراء: معناه إلا للحق؛ يعني الثواب والعقاب. وقيل: إلا لإقامة الحق. وقيل: {بِالْحَقِّ} بالعدل. وقيل: بالحكمة؛ والمعنى متقارب. وقيل: {بِالْحَقِّ} أي أنه هو الحق وللحق خلقها، وهو الدلالة على توحيده وقدرته. {وَأَجَلٍ مُسَمّىً} أي للسموات والأرض أجل

ينتهيان إليه وهو يوم القيامة. وفي هذا تنبيه على الفناء، وعلى أن لكل مخلوق أجلا، وعلى ثواب المحسن وعقاب المسيء. وقيل: {وَأَجَلٍ مُسَمّىً} أي خلق ما خلق في وقت سماه لأن يخلق ذلك الشيء فيه. {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} اللام للتوكيد، والتقدير: لكافرون بلقاء ربهم، على التقديم والتأخير؛ أي لكافرون بالبعث بعد الموت. وتقول: إن زيدا في الدار لجالس. ولو قلت: إن زيدا لفي الدار لجالس جاز. فإن قلت: إن زيدا جالس لفي الدار لم يجز؛ لأن اللام إنما يؤتى بها توكيدا لاسم إن وخبرها، وإذا جئت بهما لم يجز أن تأتي بها. وكذا إن قلت: إن زيدا لجالس لفي الدار لم يجز.
الآية: [9] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} ببصائرهم وقلوبهم. {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ} أي قلبوها للزراعة؛ لأن أهل مكة لم يكونوا أهل حرث؛ قال الله تعالى: {تُثِيرُ الْأَرْضَ} {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي وعمروها أولئك أكثر مما عمروها هؤلاء فلم تنفعهم عمارتهم ولا طول مدتهم. {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالمعجزات. وقيل: بالأحكام فكفروا ولم يؤمنوا. {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بأن أهلكهم بغير ذنب ولا رسل ولا حجة. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالشرك والعصيان.
الآية: [10] {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}

قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} السوأى فعلى من السوء تأنيث الأسوأ وهو الأقبح، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن، وقيل: يعني بها ها هنا النار؛ قاله ابن عباس. ومعنى {أَسَاءُوا} أشركوا؛ دل عليه {أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} . {السُّوأَى} : اسم جهنم؛ كما أن الحسنى اسم الجنة. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ} بالرفع اسم كان، وذكرت لأن تأنيثها غير حقيقي. و {السُّوءى} خبر كان. والباقون بالنصب على خبر كان. {السُّوءَى} بالرفع اسم كان. ويجوز أن يكون اسمها التكذيب؛ فيكون التقدير: ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا ويكون السوأى مصدرا لأساؤوا، أو صفة لمحذوف؛ أي الخلة السوأى. وروي عن الأعمش أنه قرأ {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءُ} برفع السوء. قال النحاس: السوء أشد الشر؛ والسوأى الفعلى منه. {أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} أي لأن كذبوا؛ قاله الكسائي. وقيل: بأن كذبوا. وقيل بمحمد والقرآن؛ قاله الكلبي. مقاتل: بالعذاب أن ينزل بهم. الضحاك: بمعجزات محمد صلى الله عليه وسلم {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} .
الآية: [11] {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
الآية: [12] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ}
الآية: [13] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ}
قرأ أبو عمرو وأبو بكر {يرجعون} بالياء. الباقون بالتاء. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي {يُبْلِسُ} بفتح اللام؛ والمعروف في اللغة: أبلس الرجل إذا سكت وانقطعت حجته، ولم يؤمل أن يكون له حجة. وقريب منه: تحير؛ كما قال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ... قال نعم أعرفه وأبلسا

وقد زعم بعض النحويين أن إبليس مشتق من هذا، وأنه أبلس لأنه انقطعت حجته. النحاس: ولو كان كما قال لوجب أن ينصرف، وهو في القرآن غير منصرف. الزجاج: المبلس الساكت المنقطع في حجته، اليائس من أن يهتدي إليها. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ} أي ما عبدوه من دون الله {شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} قالوا ليسوا بآلهة فتبرؤوا منها وتبرأت منهم؛ حسبما تقدم في غير موضع.
الآية: [14] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}
الآية: [15] {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} يعني المؤمنين من الكافرين؛ ثم بين كيف تفريقهم فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: معنى {أمّا} دع ما كنا فيه وخذ في غيره. وكذا قال سيبويه: إن معناها مهما كنا في شيء فخذ في غير ما كنا فيه. {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال الضحاك: الروضة الجنة، والرياض الجنان. وقال أبو عبيد: الروضة ما كان في تسفل، فإذا كانت مرتفعة فهي ترعة. وقال غيره: أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في موضع مرتفع غليظ؛ كما قال الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
إلا أنه لا يقال لها روضة إلا إذا كان فيها نبت، فإن لم يكن فيها نبت وكانت مرتفعة فهي ترعة. وقد قيل في الترعة غير هذا. وقال القشيري: والروضة عند العرب ما ينبت حول

الغدير من البقول؛ ولم يكن عند العرب شيء أحسن منه. الجوهري: والجمع روض ورياض، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها. والروض: نحو من نصف القربة ماء. وفي الحوض روضة من ماء إذا غطى أسفله. وأنشد أبو عمرو:
وروضة سقيت منها نِضوتي
{يُحْبَرُونَ} قال الضحاك وابن عباس: يكرمون. وقيل ينعمون؛ وقاله مجاهد وقتادة. وقيل يسرون. السدي: يفرحون. والحبرة عند العرب: السرور والفرح؛ ذكره الماوردي. وقال الجوهري: الحبر: الحبور وهو السرور؛ ويقال: حبره يحبره "بالضم" حبرا وحبرة؛ قال تعالى: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي ينعمون ويكرمون ويسرون. ورجل يحبور يفعول من الحبور. النحاس: وحكى الكسائي حبرته أي أكرمته ونعمته. وسمعت علي بن سليمان يقول: هو مشتق من قولهم: على أسنانه حبرة أي أثر؛ فـ {يحبرون} يتبين عليهم أثر النعيم. والحبر مشتق من هذا. قال الشاعر:
لا تملأ الدلو وعرق فيها ... أما ترى حبار من يسقيها
وقيل: أصله من التحبير وهو التحسين؛ فـ {يُحْبَرُونَ} يحسنون. يقال: فلان حسن الحبر والسبر إذا كان جميلا حسن الهيئة. ويقال أيضا: فلان حسن الحبر والسبر "بالفتح"؛ وهذا كأنه مصدر قولك: حبرته حبرا إذا حسنته. والأول اسم؛ ومنه الحديث: "يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره" وقال يحيى بن أبي كثير {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال: السماع في الجنة؛ وقاله الأوزاعي، قال: إذا أخذ أهل الجنة في السماع لم تبق شجرة في الجنة إلا رددت الغناء بالتسبيح والتقديس. وقال الأوزاعي: ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم. زاد غير الأوزاعي: ولم تبق شجرة في الجنة إلا رددت، ولم يبق ستر ولا باب إلا ارتج وانفتح، ولم تبق حلقة

إلا طنت بألوان طنينها، ولم تبق أجمة من أجام الذهب إلا وقع أهبوب الصوت في مقاصبها فزمرت تلك المقاصب بفنون الزمر، ولم تبق جارية من جوار الحور العين إلا غنت بأغانيها، والطير بألحانها، ويوحي الله تبارك وتعالى إلى الملائكة أن جاوبوهم وأسمعوا عبادي الذين نزهوا أسماعهم عن مزامير الشيطان فيجاوبون بألحان وأصوات روحانيين فتختلط هذه الأصوات فتصير رجة واحدة، ثم يقول الله جل ذكره: يا داود قم عند ساق عرشي فمجدني؛ فيندفع داود بتمجيد ربه بصوت يغمر الأصوات ويجليها وتتضاعف اللذة؛ فذلك قوله تعالى: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ}. ذكره الترمذي الحكيم رحمه الله. وذكر الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر الناس؛ فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم؛ وفي أخريات القوم أعرابي فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من سماع؟ فقال: "نعم يا أعرابي، إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خمصانية يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة" فسأل رجل أبا الدرداء: بماذا يتغنين؟ فقال: بالتسبيح. والخمصانية: المرهفة الأعلى، الخمصانة البطن، الضخمة الأسفل.
قلت: وهذا كله من النعيم والسرور والإكرام؛ فلا تعارض بين تلك الأقوال. وأين هذا من قوله الحق: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} على ما يأتي. وقوله عليه السلام: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". وقد روي: "إن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا". ذكره الزمخشري.

الآية: [16] {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}
قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا} تقدم الكلام فيه. {وَلِقَاءِ الآخِرَةِ} أي بالبعث. {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي مقيمون. وقيل: مجموعون. وقيل: معذبون. وقيل: نازلون؛ ومنه قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي نزل به؛ قاله ابن شجرة، والمعنى متقارب.
الآية: [17] {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}
الآية: [18] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولي- قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} الآية فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة في هذه الأوقات. قال ابن عباس: الصلوات الخمس في القرآن؛ قيل له: أين؟ فقال: قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} صلاة المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صلاة الفجر {وَعَشِيّاً} العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظهر؛ وقاله الضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن الآية تنبيه على أربع صلوات: المغرب والصبح والعصر والظهر؛ قالوا: والعشاء الآخرة هي في آية أخرى في {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} وفي ذكر أوقات العورة. وقال النحاس: أهل التفسير على أن هذه الآية {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} في الصلوات. وسمعت على بن سليمان يقول: حقيقته عندي: فسبحوا الله في الصلوات، لأن التسبيح في الصلاة؛ وهو القول الثاني. والقول الثالث: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون؛ ذكره الماوردي. وذكر القول

الأول، ولفظه فيه: فصلوا لله حين تمسون وحين تصبحون. وفي تسمية الصلاة بالتسبيح وجهان: أحدهما: لما تضمنها من ذكر التسبيح في الركوع والسجود. الثاني: مأخوذ من السبحة والسبحة الصلاة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تكون لهم سبحة يوم القيامة" أي صلاة.
الثانية- قوله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} اعتراض بين الكلام بدؤوب الحمد على نعمه وألائه. وقيل: معنى {وَلَهُ الْحَمْدُ} أي الصلاة له لاختصاصها بقراءة الحمد. والأول أظهر؛ فإن الحمد لله من نوع تعظيم الله تعالى والحض على عبادته ودوام نعمته؛ فيكون نوعا آخر خلاف الصلاة، والله أعلم. وبدأ بصلاة المغرب لأن الليل يتقدم النهار. وفي سورة {سبحان} بدأ بصلاة الظهر إذ هي أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم. الماوردي: وخص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن للإنسان في النهار متقلبا في أحوال توجب حمد الله تعالى عليها، وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها؛ فلذلك صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل.
الثالثة- قرأ عكرمة {حِينَا تُمْسُونَ وَحِينَا تُصْبِحُونَ} والمعنى: حينا تمسون فيه وحينا تصبحون فيه؛ فحذف فيه تخفيفا، والقول فيه كالقول في {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} {وَعَشِيّاً} قال الجوهري: العشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة؛ تقول: أتيته عشية أمس وعشي أمس. وتصغير العشي: عشيان، على غير قياس مكبره؛ كأنهم صغروا عشيانا، والجمع عشيانات. وقيل أيضا في تصغيره: عشيشيان، والجمع عشيشيات. وتصغير العشية عشيشية، والجمع عشيشيات. والعشاء "بالكسر والمد" مثل العشي. والعشاء إن المغرب والعتمة. وزعم قوم أن العشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، وأنشدوا:
غدونا غدوة سحرا بليل ... عشاء بعدما انتصف النهار

الماوردي: والفرق بين المساء والعشاء: أن المساء بدو الظلام بعد المغيب، والعشاء آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب، وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس.
الآية: [19] {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}
بين كمال قدرته؛ أي كما أحيا الأرض بإخراج النبات بعد همودها، كذلك يحييكم بالبعث. وفي هذا دليل على صحة القياس؛ وقد مضى في {آل عمران} بيان {وَيُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}
الآية: [20] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}
الآية: [21] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
الآية: [22] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ}
الآية: [23] {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}
الآية: [24] {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
الآية: [25] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}
الآية: [26] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}

قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي من علامات ربوبيته ووحدانيته أن خلقكم من تراب؛ أي خلق أباكم منه والفرع كالأصل، وقد مضى بيان هذا في {الأنعام}. و {أنْ} في موضع رفع بالابتداء وكذا {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} .
قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} ثم أنتم عقلاء ناطقون تتصرفون فيما هو قوام معايشكم، فلم يكن ليخلقكم عبثا؛ ومن قدر على هذا فهو أهل للعبادة والتسبيح. ومعنى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} لتسكنوا أي نساء تسكنون إليها. {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي من نطف الرجال ومن جنسكم. وقيل: المراد حواء، خلقها من ضلع آدم؛ قاله قتادة. {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} قال ابن عباس ومجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد؛ وقاله الحسن. وقيل: المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. وقال السدي: المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة؛ وروي معناه عن ابن عباس قال: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء. ويقال: إن الرجل أصله من الأرض، وفيه قوة الأرض، وفيه الفرج الذي منه بدئ خلقه فيحتاج إلى سكن، وخلقت المرأة سكنا للرجل؛ قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الآية. وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، وذلك أن الفرج إذا تحمل فيه هيج ماء الصلب إليه، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج، وللرجال خلق البضع منهن، قال الله تعالى: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} فأعلم الله عز وجل الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج؛ فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم؛ ويكفيك من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها". وفي لفظ آخر: " إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح" . {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} تقدم

في {البقرة}. وكانوا يعترفون بأن الله هو الخالق. {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} اللسان في الفم؛ وفيه اختلاف اللغات: من العربية والعجمية والتركية والرومية. واختلاف الألوان في الصور: من البياض والسواد والحمرة؛ فلا تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر. وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين؛ فلا بد من فاعل، فعلم أن الفاعل هو الله تعالى؛ فهذا من أدل دليل على المدبر البارئ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} أي للبر والفاجر. وقرأ حفص: {للعالِمين} بكسر اللام جمع عالم. {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار؛ فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل وعطفه عليه، والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة؛ فجعل النوم بالليل دليلا على الموت، والتصرف بالنهار دليلا على البعث. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} يريد سماع تفهم وتدبر. وقيل: يسمعون الحق فيتبعونه. وقيل: يسمعون الوعظ فيخافونه. وقيل: يسمعون القرآن فيصدقونه؛ والمعنى متقارب. وقيل: كان منهم من إذا تلي القرآن وهو حاضر سد أذنيه حتى لا يسمع؛ فبين الله عز وجل هذه الدلائل عليه. {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} قيل: المعنى أن يريكم، فحذف {أن} لدلالة الكلام عليه؛ قال طرفة:
ألا أيهذا اللائمي أحضُرُ الوغى ... وأن أشهدَ اللذات هل أنت مخلدي
وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ أي ويريكم البرق من آياته. وقيل: أي ومن آياته آية يريكم بها البرق؛ كما قال الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقيل: أي من آياته أنه يريكم البرق خوفا وطمعا من آياته؛ قاله الزجاج، فيكون عطف جملة على جملة. {خَوْفاً} أي للمسافر. {وَطَمَعاً} للمقيم؛ قاله قتادة. الضحاك:

{خَوْفاً} من الصواعق، {وَطَمَعاً} في الغيث. يحيى بن سلام: {خَوْفاً} من البرد أن يهلك الزرع، {وَطَمَعاً} في المطر أن يحيي الزرع. ابن بحر: {خَوْفاً} أن يكون البرق برقا خُلَّبا لا يمطر، {وطمعا} أن يكون ممطرا؛ وأنشد قول الشاعر:
لا يكن برقك برقا خلّبا ... إن خير البرق ما الغيث معه
وقال آخر:
فقد أرد المياه بغير زاد ... سوى عدي لها برق الغمام
والبرق الخلّب: الذي لا غيث فيه كأنه خادع؛ ومنه قيل لمن يعد ولا ينجز: إنما أنت كبرق خلب. والخلب أيضا: السحاب الذي لا مطر فيه. ويقال: برق خلب، بالإضافة.
قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} تقدم. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} {أَنْ} في محل رفع كما تقدم؛ أي قيامها واستمساكها بقدرته بلا عمد. وقيل: بتدبيره وحكمته؛ أي يمسكها بغير عمد لمنافع الخلق. وقيل: {بِأَمْرِهِ} بإذنه؛ والمعنى واحد. {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم من قبوركم؛ والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث؛ كما يجيب الداعي المطاع مدعوه؛ كما قال القائل:
دعوت كليبا باسمه فكأنما ... دعوت برأس الطود أو هو أسرع
يريد برأس الطود: الصدى أو الحجر إذا تدهده. وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بـ {ثم} لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يأهل القبور قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} و{إذا} الأولى في قوله تعالى:

{إِذَا دَعَاكُمْ} للشرط، والثانية في قوله تعالى: {إِذَا أَنْتُمْ} للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وأجمع القراء على فتح التاء هنا في {تَخْرُجُونَ}. واختلفوا في التي في {الأعراف} فقرأ أهل المدينة: {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} بضم التاء، وقرأ أهل العراق: بالفتح، وإليه يميل أبو عبيد. والمعنيان متقاربان، إلا أن أهل المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام، فنسق الكلام في التي في {الأعراف} بالضم أشبه؛ إذ كان الموت ليس من فعلهم، وكذا الإخراج. والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام؛ أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم؛ فالفعل بهم أشبه. وهذا الخروج إنما هو عند نفخة إسرافيل النفخة الآخرة؛ على ما تقدم ويأتي. وقرئ {تخرجون} بضم التاء وفتحها، ذكره الزمخشري ولم يزد على هذا شيئا، ولم يذكر ما ذكرناه من الفرق، والله أعلم. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خلقا وملكا وعبدا. {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل قنوت في القرآن فهو طاعة". قال النحاس: مطيعون طاعة انقياد. وقيل: {قَانِتُونَ} مقرون بالعبودية، إما قالة وإما دلالة؛ قاله عكرمة وأبو مالك والسدي. وقال ابن عباس: {قَانِتُونَ} مصلون. الربيع بن أنس: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي قائم يوم القيامة؛ كما قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي للحساب. الحسن: كل له قائم بالشهادة أنه عبد له. سعيد بن جبير {قَانِتُونَ قانتون} مخلصون.
الآية: [27] {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث؛ فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلا على ما يخفى من إعادته؛ استدلالا بالشاهد على الغائب، ثم أكد ذلك بقوله

{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقرأ ابن مسعود وابن عمر: {يَبْدئُ الْخَلْقَ} من أبدأ يبدئ؛ دليله قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} ودليل قراءة العامة قوله سبحانه: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} و{أهْوَنُ} بمعنى هين؛ أي الإعادة هين عليه؛ قاله الربيع بن خثيم والحسن. فأهون بمعنى هين؛ لأنه ليس شيء أهون على الله من شيء. قال أبو عبيدة: ومن جعل أهون يعبر عن تفضيل شيء على شيء فقوله مردود بقوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} وبقوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}
والعرب تحمل أفعل على فاعل، ومنه قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
أي دعائمه عزيزة طويلة. وقال آخر:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول
أراد: إني لوجل. وأنشد أبو عبيدة أيضا:
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسما إليك مع الصدود لأميل
أراد لمائل. وأنشد أحمد بن يحيى:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أراد بواحد. وقال آخر:
لعمرك إن الزبرقان لباذل ... لمعروفه عند السنين وأفضل
أي وفاضل. ومنه قولهم: الله أكبر؛ إنما معناه الله الكبير. وروى معمر عن قتادة قال: في قراءة عبدالله بن مسعود {وهو عليه هين} . وقال مجاهد وعكرمة والضحاك: إن المعنى أن الإعادة أهون عليه - أي على الله - من البداية؛ أي أيسر، وإن كان جميعه على الله تعالى هينا؛ وقاله ابن عباس. ووجهه أن هذا مثل ضربه الله تعالى لعباده؛ يقول: إعادة الشيء على الخلائق أهون من ابتدائه؛ فينبغي أن يكون البعث لمن قدر على البداية عندكم وفيما بينكم

أهون عليه من الإنشاء. وقيل: الضمير في {عَلَيهِ} للمخلوقين؛ أي وهو أهون عليه، أي على الخلق، يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ويقال لهم: كونوا فيكونون؛ فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنة ثم أطفالا ثم غلمانا ثم شبانا ثم رجالا أو نساء. وقاله ابن عباس وقطرب. وقيل أهون أسهل؛ قال:
وهان على أسماء أن شطت النوى ... يحن إليها واله ويتوق
أي سهل عليها، وقال الربيع بن خثيم في قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال: ما شيء على الله بعزيز. عكرمة: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت هذه الآية. {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} أي ما أراده جل وعز كان. وقال الخليل: المثل الصفة؛ أي وله الوصف الأعلى {فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} كما قال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي صفتها. وقد مضى الكلام في ذلك. وعن مجاهد: {الْمَثَلُ الأَعْلَى} قول لا إله إلا الله؛ ومعناه: أي الذي له الوصف الأعلى، أي الأرفع الذي هو الوصف بالوحدانية. وكذا قال قتادة: إن المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ ويعضده قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى. وقال الزجاج: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل؛ يريد التفسير الأول. وقال ابن عباس: أي ليس كمثله شيء {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم.
الآية: [38] {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

فيه مسألتان:
الأولي- قوله تعالى: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ثم قال: {مِنْ شُرَكَاءَ} ؛ ثم قال: {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فـ {من} الأولى للابتداء؛ كأنه قال: أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم. والثانية للتبعيض، والثالثة زائدة لتأكيد الاستفهام. والآية نزلت في كفار قريش، كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك؛ قال سعيد بن جبير. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمشركين؛ والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله، فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء.
الثانية- قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ونفيها عن الله سبحانه، وذلك أنه لما قال جل وعز: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية، فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا، فيقال لهم: فكيف يتصور أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي؛ فهذا حكم فاسد وقلة نظر وعمى قلب، فإذا بطلت الشركة بين العبيد وسادتهم فيما يملكه السادة والخلق كلهم عبيد لله تعالى فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله؛ فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك، إذ الشركة تقتضي المعاونة، ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضا بالمال والعمل؛ والقديم الأزلي منزه عن ذلك جل وعز.
وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه؛ لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك.
الآية: [29] {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
قوله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} لما قامت عليهم الحجة ذكر أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم في عبادتها وتقليد الأسلاف في ذلك. {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي لا هادي لمن أضله الله تعالى. وفي هذا رد على القدرية. {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} .

آية: [30] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ} فيه ثلاث مسائل:
الأولي- قال الزجاج: {فِطْرَتَ} منصوب بمعنى اتبع فطرة الله. قال: لأن معنى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} اتبع الدين الحنيف واتبع فطرة الله. وقال الطبري: {فِطْرَتَ اللَّهِ} مصدر من معنى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} لأن معنى ذلك: فطر الله الناس ذلك فطرة. وقيل: معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناس له؛ وعلى هذا القول يكون الوقف على {حَنِيفاً} تاما. وعلى القولين الأولين يكون متصلا، فلا يوقف على {حَنِيفاً} . وسميت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له، قال جل وعز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ويقال: {عَلَيْهَا} بمعنى لها؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} . والخطاب بـ {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره بإقامة وجهه للدين المستقيم؛ كما قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} وهو دين الإسلام. وإقامة الوجه هو تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين؛ وخص الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. ودخل في هذا الخطاب أمته باتفاق من أهل التأويل. و {حَنِيفاً} معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة.
الثانية- في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية على هذه الملة - أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم؛ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ، في رواية: "حتى

تكونوا أنتم تجدعونها" قالوا:يا رسول الله؛ أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" . لفظ مسلم.
الثالثة- واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعددة؛ منها الإسلام؛ قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما؛ قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل؛ واحتجوا بالآية وحديث أبي هريرة، وعضدوا ذلك بحديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما: "ألا أحدثكم بما حدثني الله في كتابه، أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا مما أعطاهم الله حلالا وحراما.." الحديث. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة" فذكر منها قص الشارب، وهو من سنن الإسلام، وعلى هذا التأويل فيكون معنى الحديث: أن الطفل خلق سليما من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يدركوا في الجنة؛ أولاد مسلمين كانوا أو أولاد كفار. وقال آخرون: الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها؛ أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ. قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة. والفاطر: المبتدئ؛ واحتجوا بما روي عن ابن عباس أنه قال: لم أكن أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي ابتدأتها. قال المروزي: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه. قال أبو عمر في كتاب التمهيد له: ما رسمه مالك في موطئه وذكر في باب القدر فيه من الآثار - يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم. ومما احتجوا به ما روي عن كعب القرظي في قول الله تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة وإن عمل بأعمال الهدى، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال الضلالة، ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه، قال: وكان من الكافرين.

قلت: قد مضى قول كعب هذا في {الأعراف} وجاء معناه مرفوعا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، قال: "أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم" خرجه ابن ماجة في السنن. وخرج أبو عيسى الترمذي عن عبدالله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان"؟ فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا؛ فقال للذي في يده اليمنى: "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا - ثم قال للذي في شماله - هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا." وذكر الحديث، وقال فيه: حديث حسن. وقالت فرقة: ليس المراد بقوله تعالى: {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ولا قوله عليه السلام: "كل مولود يولد على الفطرة" العموم، وإنما المراد بالناس المؤمنون؛ إذا لو فطر الجميع على الإسلام لما كفر أحد، وقد ثبت أنه خلق أقواما للنار؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} وأخرج الذرية من صلب آدم سوداء وبيضاء. وقال في الغلام الذي قتله الخضر: طبع يوم طبع كافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار؛ وفيه: وكان فيما حفظنا أن قال: "ألا إن بني آدم خلقوا طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا، ومنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت كافرا، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت مؤمنا، ومنهم حسن القضاء حسن الطلب" . ذكره حماد بن زيد بن سلمة في مسند الطيالسي قال: حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد. قالوا: والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب؛ ألا ترى إلى قوله

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44