كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

المؤمنين: {أَتَصْبِرُونَ} على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر؛ فالتوقيف بـ {ـأَتَصْبِرُونَ} خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي اختبارا لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم :{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون: 111].
قوله تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي. وقيل: {أَتَصْبِرُونَ} أي اصبروا. مثل {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي انتهوا؛ فهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر.
الآية: [21] {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} .
الآية: [22 ]{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً}
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} يريد لا يخافون البعث ولقاء الله، أي لا يؤمنون بذلك. قال:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعتها ... وخالفها في بيت نوب عوامل
وقيل: {لا يَرْجُونَ} لا يبالون. قال:
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي
ابن شجرة: لا يأملون؛ قال:
أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب
{وْلا أُنْزِلَ} أي هلا أنزل. {عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} فيخبروا أن محمدا صادق. {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} عيانا فيخبرنا برسالته. نظيره قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ

يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90]إلى قوله: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: 92]. قال الله تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} حيث سألوا الله الشطط؛ لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت أو عند نزول العذاب، والله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، فلا عين تراه. وقال مقاتل: {عَتَوْا} علوا في الأرض. والعتو: أشد الكفر وأفحش الظلم. وإذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة؟ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين، ولا بد لهم من معجزة يقيمها من يدعى أنه ملك، وليس للقوم طلب معجزة بعد أن شاهدوا معجزة، وأن {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} يريد أن الملائكة لا يراها أحد إلا عند الموت: فتبشر المؤمنين بالجنة، وتضرب المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم. {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} يريد تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله، وأقام شرائعها؛ عن ابن عباس وغيره. وقيل: إن ذلك يوم القيامة؛ قال مجاهد وعطية العوفي. قال عطية: إذا كان يوم القيامة تلقى المؤمن بالبشرى: فإذا رأى ذلك الكافر تمناه فلم يره من الملائكة. وانتصب "يوم يرون" بتقدير لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة. {يومئذ} تأكيد لـ {يَوْمَ يَرَوْنَ}. قال النحاس: لا يجوز أن يكون {يَوْمَ يَرَوْنَ} منصوبا بـ {بُشْرَى} لأن ما في حيز النفي لا يعمل فيما قبله، ولكن فيه تقدير أن يكون المعنى يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة؛ ودل على هذا الحذف ما بعده، ويجوز أن يكون التقدير: لا بشرى تكون يوم يرون الملائكة، و {يَوْمَئِذٍ} مؤكد. ويجوز أن يكون المعنى: اذكر يوم يرون الملائكة: ثم ابتدأ فقال: {لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} أي وتقول الملائكة حراما محرما أن تكون لهم البشرى إلا للمؤمنين. قال الشاعر:
ألا أصبحت أسماء حجرا محرما ... وأصبحت من أدنى حموتها حما
أرادألا أصبحت أسماء محرما

وقال آخر:
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس
وروي عن الحسن أنه قال: {وَيَقُولُونَ حِجْراً} وقف من قول المجرمين؛ فقال الله. عز وجل: {مَحْجُوراً} عليهم أن يعاذوا أو يجاروا؛ فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة. والأول قول ابن عباس. وبه قال الفراء؛ قاله ابن الأنباري. وقرأ الحسن وأبو رجاء: {حِجْراً} بضم الحاء والناس على كسرها. وقيل: إن ذلك من قول الكفار قالوه لأنفسهم؛ قاله قتادة فيما ذكر الماوردي. وقيل: هو قول الكفار للملائكة. وهي كلمة استعاذة وكانت معروفة في الجاهلية؛ فكان إذا لقي الرجل من يخافه قال: حجرا محجورا؛ أي حراما عليك التعرض لي. وانتصابه على معنى: حجرت عليك، أو حجر الله عليك؛ كما تقول: سقيا ورعيا. أي إن المحرمين إذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار قالوا: نعوذ بالله منكم؛ ذكره القشيري، وحكى معناه المهدوي عن مجاهد. وقيل: {حِجْراً} من قول المجرمين. {مَحْجُوراً} من قول الملائكة؛ أي قالوا للملائكة نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا. فتقول الملائكة: {مَحْجُوراً} أن تعاذوا من شر هذا اليوم؛ قاله الحسن.
الآية: [23] {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} .
الآية: [24] {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}
قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة؛ أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل بر عند أنفسهم. يقال: قدم فلان إلى أمر كذا أي قصده. وقال مجاهد: {قَدِمْنَا} أي عمدنا. وقال الراجز:
وقدم الخوارج الضلال ... إلى عباد ربهم فقالوا
إن دماءكم لنا حلال ...

وقيل: هو قدوم الملائكة، أخبر به نفسه تعالى فاعله. {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} أي لا ينتفع به؛ أي أبطلناه بالكفر. وليس {هَبَاءً} من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين. والتصغير هبي في موضع الرفع، ومن النحويين من يقول: هبي في موضع الرفع؛ حكاه النحاس. وواحده هباة والجمع أهباء. قال الحارث بن حلزة يصف ناقة:
فترى خلفها من الرجع والوقـ ... ـع منينا كأنه أهباء
وروى الحرث عن علي قال: الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوة. وقال الأزهري: الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه بالغبار. تأويله: إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور. فأما الهباء المنبث. فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار. والمنبث المتفرق. وقال ابن عرفة: الهبوة والهباء التراب الدقيق. الجوهري: ويقال له إذا ارتفع هبوا وأهبيته أنا. والهبوة الغبرة. قال رؤبة.
تبدو لنا أعلامه بعد الغرق ... في قطع الآل وهبوات الدقق
وموضع هابي التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة. وقيل: إنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر؛ قاله قتادة وابن عباس. وقال ابن عباس أيضا: إنه الماء المهراق. وقيل: إنه الرماد؛ قاله عبيد بن يعلى.
قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} تقدم القول فيه عند قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان: 15]. قال النحاس: والكوفيون يجيزون "العسل أحلى من الخل" وهذا قول مردود؛ لأن معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيرا منه ولا حلاوة في الخل. ولا يجوز أن يقال: النصراني خير من اليهودي؛ لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير. لكن يقال: اليهودي شر

من النصراني؛ فعلى هذا كلام العرب. و {مُسْتَقَرّاً} نصب على الظرف إذا قدر على غير باب "أفعل منك" والمعنى لهم خير في مستقر. وإذا كان من باب "أفعل منك" فانتصابه على البيان؛ قال النحاس والمهدوي. قال قتادة: {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} منزلا ومأوى. وقيل: هو على ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار. ومنه الحديث المرفوع: "إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار" ذكره المهدوي. وقال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، ثم قرأ: {ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم} كذا هي في قراءة ابن مسعود. وقال ابن عباس: الحساب من ذلك اليوم في أوله، فلا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. ومنه ما روي: "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل". وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" فقلت: ما أطول هذا اليوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا" .
الآية: [25] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} .
الآية: [26] {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي واذكر يوم تشقق السماء بالغمام. وقرأه عاصم والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وأبو عمرو: {تَشَقَّقُ} بتخفيف الشين وأصله تتشقق بتاءين فحذفوا الأولى تخفيفا، واختاره أبو عبيد. الباقون {تَشَقَّقُ} بتشديد الشين على الإدغام، واختاره أبو حاتم. وكذلك في {ق} . {بِالْغَمَام} أي عن الغمام. والباء وعن يتعاقبان؛ كما تقول: رميت بالقوس وعن القوس. روي أن السماء تتشقق عن سحاب

أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه؛ وهو الذي قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]. {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} من السماوات، ويأتي الرب جل وعز في الثمانية الذين يحملون العرش لفصل القضاء، على ما يجوز أن يحمل عليه إتيانه؛ لا على ما تحمل عليه صفات المخلوقين من الحركة والانتقال. وقال ابن عباس: تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش؛ وهو معنى قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} أي من السماء إلى الأرض لحساب الثقلين. وقيل: إن السماء تنشق بالغمام الذي بينها وبين الناس؛ فبتشقق الغمام تتشقق السماء؛ فإذا انشقت السماء انتقض تركيبها وطويت ونزلت الملائكة إلى مكان سواها. وقرأ ابن كثير: {ونُنْزِلُ اْلمَلاَئِكَةَ} بالنصب من الإنزال. الباقون. {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً } بالرفع. دليله {تَنْزِيلاً} ولو كان على الأول لقال إنزالا. وقد قيل: إن نزل وأنزل بمعنى؛ فجاء {تنزيلا} على {نَزَّلَ} وقد قرأ عبدالوهاب عن أبي عمرو: {ونُزِلَ الملائكة تَنْزِيلاً} . وقرأ ابن مسعود: {وأَنْزَلَ الملائكة} . أبي بن كعب: {ونُزِّلَتِ الملائكة} . وعنه {وتنزلت الملائكة} .
قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} {الملك} مبتدأ و {الحق} صفة له و {للرحمن} الخبر؛ لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك؛ فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم، وزال كل ملك وملكه. وبقي الملك الحق لله وحده. {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة؛ على ما تقدم في الحديث. وهذه الآية دال عليه؛ لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا فهو على المؤمنين يسير. يقال: عسِر يعسَر، وعسُر يعسُر.

الآية: [27] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}
الآية: [28] {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً}
الآية: [29] {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الماضي عضضت. وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الأولى. وجاء التوقيف عن أهل التفسير، منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب أن الظالم ههنا يراد به عقبة بن أبي معيط، وأن خليله أمية بن خلف؛ فعقبة قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وذلك أنه كان في الأسارى يوم بدر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله؛ فقال: أأقتل دونهم؟ فقال. نعم، بكفرك وعتوك. فقال: من للصبية؟ فقال: النار. فقام علي رضي الله عنه فقتله. وأمية قتله النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خبر عنهما بهذا فقتلا على الكفر. ولم يسميا في الآية لأنه أبلغ في الفائدة، ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم قبل من غيره في معصية الله عز وجل: قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: وكان عقبة قد هم بالإسلام فمنعه منه أبي بن خلف وكانا خدنين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهما جميعا: قتل عقبة يوم بدر صبرا، وأبي بن خلف في المبارزة يوم أحد؛ ذكره القشيري والثعلبي، والأول ذكره النحاس. وقال السهيلي: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} هو عقبة بن أبي معيط، وكان صديقا لأمية بن خلف الجمحي ويروى لأبي بن خلف أخ أمية، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم. وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل من طعامه، فعاتبه خليله أمية بن خلف، أو أبي بن خلف وكان غائبا. فقال عقبة: رأيت عظيما ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش. فقال له خليله: لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت. ففعل

عدو الله ما أمره به خليله؛ فأنزل الله عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} قال الضحاك: لما بصق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل. وعضه يديه فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله. {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} في الدنيا، يعني طريقا إلى الجنة .{يَا لَيْتَنِي} دعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر ومتابعته. {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} يعني أمية، وكني عنه ولم يصرح باسمه لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به ولا مقصورا، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما. وقال مجاهد وأبو رجاء: الظالم عام في كل ظالم، وفلان: الشيطان. واحتج لصاحب هذا القول بأن بعده {كَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} وقرأ الحسن: {يا وَيْلَتِي}. والخليل: الصاحب والصديق {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} أي يقول هذا النادم: لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والإيمان به. وقيل: {نِ الذِّكْرِ} أي عن الرسول. {وََكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} قيل: هذا من قول الله لا من قول الظالم. وتمام الكلام على هذا عند قوله: {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} . والخذل الترك من الإعانة؛ ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم. وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان، خذولا عند نزول العذاب والبلاء. ولقد أحسن من قال:
تجنب قرين السوء وأصرم حباله ... فإن لم تجد عنه محيصا فداره
وأحبب حبيب الصدق وأحذر مراءه ... تنل منه صفو الود ما لم تماره
وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا ... إذا اشتعلت نيرانه في عذاره
آخر:
اصحب خيار الناس حيث لقيتهم ... خير الصحابة من يكون عفيفا
والناس مثل دراهم ميزتها ... فوجدت منها فضة وزيوفا

وفي الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة" لفظ مسلم. وأخرجه أبو داود من حديث أنس. وذكر أبو بكر البزار عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله؛ أي جلسائنا خير؟ قال: "من ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله" . وقال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار. وأنشد:
وصاحب خيار الناس تنج مسلما ... وصاحب شرار الناس يوما فتندما
الآية: [30] {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}
الآية: [31] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً}
قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ} يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، يشكوهم إلى الله تعالى. {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} أي قالوا فيه غير الحق من أنه سحر وشعر؛ عن مجاهد والنخعي. وقيل: معنى {مَهْجُوراً} أي متروكا؛ فعزاه الله تبارك وتعالى وسلاه بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} أي كما جعلنا لك يا محمد عدوا من مشركي قومك - وهو أبو جهل في قول ابن عباس - فكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من مشركي قومه، فاصبر، لأمري كما صبروا، فإني هاديك وناصرك على كل من ناوأك. وقد قيل: إن قول الرسول {يَا رَبِّ} إنما يقوله يوم القيامة؛ أي هجروا القرآن وهجروني وكذبوني. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء

يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورا فاقض بيني وبينه". ذكره الثعلبي. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} نصب على الحال أو التمييز، أي يهديك وينصرك فلا تبال بمن عاداك. وقال ابن عباس: عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل لعنه الله.
الآية: [32] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} .
الآية: [33] {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} .
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} اختلف في قائل ذلك على قولين: أحدهما: أنهم كفار قريش؛ قاله ابن عباس. والثاني: انهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا قالوا: هلا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود. فقال الله تعالى: {كَذَلِكَ} أي فعلنا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} نقوي به قلبك فتعيه وتحمله؛ لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، والقرآن أنزل على نبي أمي؛ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقناه ليكون أوعى للنبي صلى الله عليه وسلم، وأيسر على العامل به؛ فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب.
قلت: فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته؟. قيل: في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه، وقد بينا وجه الحكمة في ذلك. وقد قيل: إن قوله {كَذَلِكَ } من كلام المشركين، أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك، أي كالتوراة والإنجيل، فيتم الوقف على {كَذَلِكَ} ثم يبتدئ {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} . ويجوز أن يكون الوقف على قوله: {جُمْلَةً وَاحِدَةً} ثم يبتدئ {ذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك. قال

ابن الأنباري: والوجه الأول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير، حدثنا محمد بن عثمان الشيبي قال حدثنا منجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] قال: أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء، فنجمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل عليه السلام على محمد عشرين سنة. قال: فهو قوله {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] يعني نجوم القرآن {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 76 - 77 ]. قال: فلما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة، قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة؛ فقال الله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} يا محمد. {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} يقول: ورسلناه ترسيلا؛ يقول: شيئا بعد شيء.
قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت. قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة، لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم، ويدل على هذا {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، وعلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا، لأنهم ينبهون به مرة بعد مرة، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ ومنسوخ، فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح، ثم ينزل النسخ بعد ذلك؛ فمحال أن ينزل جملة واحدة: افعلوا كذا ولا تفعلوا. قال النحاس: والأولى أن يكون التمام {جملة واحدة} لأنه إذا وقف على {كَذَلِكَ} صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر. قال الضحاك: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي تفصيلا. والمعنى: أحسن من مثلهم تفصيلا؛ فحذف لعلم السامع. وقيل: كان المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف

والتبديل، فكان ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تفسيرا مما عندهم؛ لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل، ولهذا قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42]. وقيل: {لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب إلا جئناك بالحق أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وأم.
الآية: [34] {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} تقدم في {سبحان}. {جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً} لأنهم في جهنم. وقال مقاتل: قال الكفار لأصحاب محمد. صلى الله عليه وسلم هو شر الخلق. {وأضل سبيلا} أي دينا وطريقا. ونظم الآية: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة، وهم محشورون على وجوههم.
الآية: [35] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً}
الآية: [36] {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يريد التوراة. {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً}تقدم في {طه}. {فَقُلْنَا اذْهَبَا} الخطاب لهما. وقيل: إنما أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالذهاب وحده في المعنى. وهذا بمنزلة قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61]. وقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما. قال النحاس: وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ به على كتاب الله تعالى، وقد قال جل وعز: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى. قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى. فَأْتِيَاهُ فَقُولا

إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه: 44 - 47]. ونظير هذا: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62]. وقد قال جل ثناؤه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا} [المومنون: 45] قال القشيري: وقوله في موضع آخر: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24] لا ينافي هذا؛ لأنهما إذا كان مأمورين فكل واحد مأمور. ويجوز أن يقال: أمر موسى أولا، ثم لما قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي} [طه: 29] قال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43]. {إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} يريد فرعون وهامان والقبط. {فدمرناهم تدميرا} في الكلام إضمار؛ أي فكذبوهما {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} أي أهلكناهم إهلاكا.
الآية: [37] {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً}
قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ} في نصب "قوم" أربعة أقوال: العطف على الهاء والميم في {دمرناهم}. الثاني: بمعنى اذكر. الثالث: بإضمار فعل يفسره ما بعده؛ والتقدير: وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم. الرابع: إنه منصوب بـ {أَغْرَقْنَاهُمْ} قاله الفراء. ورده النحاس قال: لأن {أَغْرَقْنَا} ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي {قَوْمِ نُوحٍ} . {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} ذكر الجنس والمراد نوح وحده؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده؛ فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله، وبالإيمان بما ينزل الله، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة. وقيل: إن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل؛ لأنهم لا يفرق بينهم في الإيمان، ولأنه ما من نبي إلا يصدق سائر أنبياء الله، فمن كذب منهم نبيا فقد كذب كل من صدقه من النبيين. {أَغْرَقْنَاهُمْ} أي بالطوفان على ما تقدم في {هُودُ} . {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أي علامة ظاهرة على قدرتنا {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} أي للمشركين من قوم نوح {عَذَاباً أَلِيماً} أي في الآخرة. وقيل: أي هذه سبيلي في كل ظالم.
الآية: [38] {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً}

قوله تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} كله معطوف على {قَوْمَ نُوحٍ} إذا كان {قَوْمَ نُوحٍ} منصوبا على العطف، أو بمعنى اذكر. ويجوز أن يكون كله منصوبا على أنه معطوف على المضمر في {دَمَّرْنَاهُمْ} أو على المضمر في {مَا جَعَلْنَاهُمْ} وهو اختيار النحاس؛ لأنه أقرب إليه. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل؛ أي اذكر عادا الذين كذبوا هودا فأهلكهم الله بالريح العقيم، وثمودا كذبوا صالحا فأهلكوا بالرجفة. و {أَصْحَابَ الرَّسِّ} والرس في كلام العرب البئر التي تكون غير مطوية، والجمع رساس. قال:
تنابلة يحفرون الرساسا
يعني آبار المعادن. قال ابن عباس: سألت كعبا عن أصحاب الرس قال: صاحب {يس} الذي قال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20] قتله قومه ورسوه في بئر لهم يقال لها الرس طرحوه فيها، وكذا قال مقاتل. السدي: هم أصحاب قصة {يس} أهل أنطاكية، والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار مؤمن آل {يس} فنسبوا إليها. وقال علي رضي الله عنه: هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر فدعا عليهم نبيهم؛ وكان من ولد يهوذا، فيبست الشجرة فقتلوه ورسوه في بئر، فأظلتهم سحابة سوداء فأحرقتهم. وقال ابن عباس: هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياء فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعا وعطشا. وقال وهب بن منبه: كانوا أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شعيبا فكذبوه وآذوه، وتمادوا على كفرهم وطغيانهم، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت بهم وبديارهم؛ فخسف الله بهم فهلكوا جميعا. وقال قتادة: أصحاب الرس وأصحاب الأيكة أمتان أرسل الله إليهما شعيبا فكذبوه فعذبهما الله بعذابين. قال قتادة: والرس قرية بفلج اليمامة. وقال عكرمة: هم قوم رسوا نبيهم في بئر حيا. دليله ما روى محمد ابن كعب القرظي عمن حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة عبد أسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى قومه فلم يؤمن به إلا ذلك الأسود فحفر أهل القرية بئرا وألقوا فيها نبيهم حيا وأطبقوا عليه حجرا ضخما

وكان العبد الأسود يحتطب على ظهره ويبيعه ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع تلك الصخرة حتى يدليه إليه فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم هب من نومه فتمطى واتكأ على شقه الآخر فضرب الله على أذنه سبع سنين ثم هب فاحتمل حزمة الحطب فباعها وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده وكان قومه قد أراهم الله تعالى آية فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ومات ذلك النبي". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة" وذكر هذا الخبر المهدوي والثعلبي، واللفظ للثعلبي، وقال: هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس؛ لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه دمرهم، إلا أن يدمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم. وقال الكلبي: أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبيا فأكلوه. وهم أول من عمل نساؤهم السحق؛ ذكره الماوردي. وقيل: هم أصحاب الأخدود الذين حفروا الأخاديد وحرقوا فيها المؤمنين، وسيأتي. وقيل: هم بقايا من قوم ثمود، وأن الرس البئر المذكورة في {الْحَجَّ} في قوله: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج: 45] على ما تقدم. وفي الصحاح: والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود. وقال جعفر بن محمد عن أبيه: أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم السحق، وكان نساؤهم كلهم سحاقات. وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أشراط الساعة أن يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق" . وقيل: الرس ماء ونخل لبني أسد. وقيل: الثلج المتراكم في الجبال؛ ذكره القشيري. وما ذكرناه أولا هو المعروف، وهو كل حفر احتفر كالقبر والمعدن والبئر. قال أبو عبيدة: الرس كل ركية لم تطو؛ وجمعها رساس. قال الشاعر:
وهم سائرون إلى أرضهم ... فيا ليتهم يحفرون الرساسا
والرس اسم واد في قول زهير:
بكرن بكورا واستحرن بسحرة ... فهن لوادي الرس كاليد للفم
ورسست رسا: حفرت بئرا. ورس الميت أي قبر. والرس: الإصلاح بين الناس، والإفساد أيضا وقد رسست بينهم؛ فهو من الأضداد. وقد قيل في أصحاب الرس غير ما ذكرنا، ذكره

الثعلبي وغيره. {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} أي أمما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد. وثمود وأصحاب الرس. وعن الربيع بن خيثم اشتكى فقيل له: ألا تتداوى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر به؟ قال: لقد هممت بذلك ثم فكرت فيما بيني وبين نفسي فإذا عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا كانوا أكثر وأشد حرصا على جمع المال، فكان فيهم أطباء، فلا الناعت منهم بقي ولا المنعوت؛ فأبى أن يتداوى فما مكث إلا خمسة أيام حتى مات، رحمه الله.
الآية: [39] {وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً}
قوله تعالى: {وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ} قال الزجاج. أي وأنذرنا كلا ضربنا له الأمثال وبينا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة. وقيل: انتصب على تقدير ذكرنا كلا ونحوه؛ لأن ضرب الأمثال تذكير ووعظ؛ ذكره المهدوي. والمعنى واحد. {وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أي أهلكنا بالعذاب. وتبرت الشيء كسرته. وقال المؤرج والأخفش: دمرناهم تدميرا. تبدل التاء والباء من الدال والميم.
الآية: [40] {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} يعني مشركي مكة. والقرية قرية قوم لوط. والحجارة التي أمطروا بها. {مَطَرَ السَّوْءِ} الحجارة التي أمطروا بها. {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} أي في أسفارهم ليعتبروا. قال ابن عباس: كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} [الصافات: 137] وقال: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 79]. {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} أي لا يصدقون بالبعث. ويجوز أن يكون معنى {يَرْجُونَ} يخافون. ويجوز أن يكون على بابه ويكون معناه: بل كانوا لا يرجون ثواب الآخرة.

الآية: [41] {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}
الآية: [42 ]{إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً}
قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} جواب {إذا} {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} لأن معناه يتخذونك. وقيل: الجواب محذوف وهو قالوا أو يقولون: {أَهَذَا الَّذِي} وقوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} كلام معترض. ونزلت في أبي جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم مستهزئا: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} والعائد محذوف، أي بعثه الله. {رَسُولاً} نصب على الحال والتقدير: أهذا الذي بعثه الله مرسلا. {أَهَذَا} رفع بالابتداء و {الَّذِي} خبره. {رَسُولاً} نصب على الحال. و {بَعَثَ} في صلة {الَّذِي} واسم الله عز وجل رفع بـ {بَعَثَ}. ويجوز أن يكون مصدرا؛ لأن معنى {بَعَثَ} أرسل ويكون معنى {رَسُولاً} رسالة على هذا. والألف للاستفهام على معنى التقرير والاحتقار .{إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} أي قالوا قد كاد أن يصرفنا. {عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} أي حبسنا أنفسنا على عبادتها. {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} يريد من أضل دينا أهم أم محمد، وقد رأوه في يوم بدر.
الآية: 43 {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}
قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من إضمارهم على الشرك وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه خالقهم ورازقهم، ثم يعمد إلى حجر يعبده من غير حجة. قال الكلبي وغيره: كانت العرب إذا هوي الرجل منهم شيئا عبده من دون الله، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن؛ فعلى هذا يعني: أرأيت من اتخذ إلهه بهواه؛ فحذف الجار. وقال ابن عباس: الهوى إله يعبد من دون الله، ثم تلا هذه الآية.

قال الشاعر:
لعمر أبيها لو تبدت لناسك ... قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك
لصلى لها قبل الصلاة لربه ... ولارتد في الدنيا بأعمال فاتك
وقيل: {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي أطاع هواه. وعن الحسن لا يهوى شيئا إلا أتبعه، والمعنى واحد. {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد. أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئك، وإنما عليك التبليغ. وهذا رد على القدرية. ثم قيل: إنها منسوخة بآية القتال. وقيل: لم تنسخ؛ لأن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
الآية: 44 {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}
قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} ولم يقل أنهم لأن منهم من قد علم أنه يؤمن. وذمهم جل وعز بهذا. {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} سماع قبول أو يفكرون فيما تقول فيعقلونه؛ أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع. وقيل: المعنى أنهم لما لم ينتفعوا بما يسمعون فكأنهم لم يسمعوا؛ والمراد أهل مكة. وقيل: {أَمْ} بمعنى بل في مثل هذا الموضع. {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ} أي في الأكل والشرب لا يفكرون في الآخرة. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام. وقال مقاتل: البهائم تعرف ربها وتهتدي إلى مراعيها وتنقاد لأربابها التي تعقلها، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم. وقيل: لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضا.
الآية: [45] {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً،}
الآية: [46] {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ومجوز أن تكون من العلم. وقال الحسن وقتادة وغيرهما: مد الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وقيل: هو من غيوبة الشمس إلى طلوعها. والأول أصح؛ والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة؛ فإن فيها يجد المريض راحة والمسافر وكل ذي علة: وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد، وتطيب نفوس الأحياء فيها. وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب. وقال أبو العالية: نهار الجنة هكذا؛ وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. أبو عبيدة: الظل بالغداة والفيء بالعشي؛ لأنه يرجع بعد زوال الشمس؛ سمي فيئا لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب. قال الشاعر، وهو حميد بن ثور يصف سرحة وكني بها عن امرأة:
فلا الظل من برد الضحا تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق
وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس. وحكى أبو عبيدة عن رؤية قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل. {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أي دائما مستقرا لا تنسخه الشمس. ابن عباس: يريد إلى يوم القيامة، وقيل: المعنى لو شاء لمنع الشمس الطلوع. {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شيء ومعنى؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة. فالدليل فعيل بمعنى الفاعل. وقيل: بمعنى المفعول كالقتيل والدهين والخضيب. أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به؛ أي أتبعناها إياه. فالشمس دليل أي حجة وبرهان، وهو الذي يكشف المشكل ويوضحه. ولم يؤنث الدليل وهو صفة الشمس لأنه في معنى الاسم؛ كما يقال: الشمس برهان والشمس حق. {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} يريد ذلك الظل الممدود. {إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} أي يسيرا قبضه علينا. وكل أمر ربنا عليه يسير. فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع

الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضا، وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس فأشرق على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت فليس هناك ظل، إنما ذلك بقية نور النهار. وقال قوم: قبضه بغروب الشمس؛ لأنها ما لم تغرب فالظل فيه بقية، وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه. وقيل: إن هذا القبض وقع بالشمس؛ لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئا فشيئا؛ قاله أبو مالك وإبراهيم التيمي. وقيل: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} أي قبضنا ضياء الشمس بالفيء {قَبْضاً يَسِيراً}. وقيل: {يَسِيراً} أي سريعا، قاله الضحاك. قتادة: خفيا؛ أي إذا غابت الشمس قبض الظل قبضا خفيا؛ كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة، وليس يزول دفعة واحدة. فهذا معنى قول قتادة؛ وهو قول مجاهد.
الآية: [47] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً}
فيه أربع مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} يعني سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن. قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها.
الثانية- قال ابن العربي: ظن بعض الغفلة أن من صلى عريانا في الظلام أنه يجزئه؛ لأن الليل لباس. وهذا يوجب أن يصلي في بيته عريانا إذا أغلق عليه بابه. والستر في الصلاة عبادة تختص بها ليست لأجل نظر الناس. ولا حاجة إلى الإطناب في هذا.
الثالثة- قوله تعالى: {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال. وأصل السبات من التمدد. يقال: سبتت المرأة شعرها أي نقضته وأرسلته. ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة. وقيل: للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة. وقيل:

السبت القطع؛ فالنوم انقطاع عن الاشتغال؛ ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الأعمال فيه. وقيل: السبت الإقامة في المكان؛ فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه؛ فالنوم سبات على معنى أنه سكون عن الاضطراب والحركة. وقال الخليل: السبات نوم ثقيل؛ أي جعلنا نومكم ثقيلا ليكمل الإجمام والراحة.
الرابعة- قوله تعالى: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} من الانتشار للمعاش؛ أي النهار سبب الإحياء للانتشار. شبه اليقظة فيه بتطابق الإحياء مع الإماتة. وكان عليه السلام إذا أصبح قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" .
الآية: [48] {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} تقدم في {الأعراف} مستوفي.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}
فيه خمس عشرة مسألة:
الأولى- قوله تعالى: {مَاءً طَهُوراً} يتطهر به؛ كما يقال: وضوء للماء الذي يتوضأ به. وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهورا. فالطهور: "بفتح الطاء" الاسم. وكذلك الوضوء والوقود. وبالضم المصدر، وهذا هو المعروف في اللغة؛ قاله ابن الأنباري. فبين أو الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهر لغيره؛ فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهرا مطهرا. وإلى هذا مذهب الجمهور. وقيل: إن {طَهُوراً} بمعنى طاهر؛ وهو قول أبي حنيفة؛ وتعلق بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] يعني طاهرا.

ويقول الشاعر:
خليلي هل في نظرة بعد توبة ... أداوي بها قلبي علي فجور
إلى رجح الأكفال غيد من الظبا ... عذاب الثنايا ريقهن طهور
فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر. وتقول العرب: رجل نؤوم وليس ذلك بمعنى أنه. منيم لغيره، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه. ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا: وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب وعن خسائس الصفات كالغل والحسد، فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب وأوضار الاعتقادات الذميمة، فجاؤوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته في الآخرة. وأما قول الشاعر:
ريقهن طهور
فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية لعذوبته وتعلقه بالقلوب، وطيبه في النفوس، وسكون غليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية؛ فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون. ألا ترى إلى قول بعضهم:
ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها
لما كنت أدري علة للتيمم
وهذا كفر صراح، نعوذ بالله منه. قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا منتهى لباب كلام العلماء، وهو بالغ في فنه؛ إلا أني تأملت من طريق العربية فوجدت فيه

مطلعا مشرقا، وهو أن بناء فعول للمبالغة، إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل. المتعدي كما قال الشاعر:
ضروب بنصل السيف سوق سمانها
وقد تكون في الفعل القاصر كما قال الشاعر:
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ومن الشرع طهارة؛ كقوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور". وأجمعت الأمة لغة وشريعة على أن وصف طهور يختص بالماء فلا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة؛ فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا كله وهو العبارة به الآلة للفعل لا عن الفعل كقولنا: وقود وسحور بفتح الفاء، فإنها عبارة عن الحطب الطعم المتسحر به؛ فوصف الماء بأنه طهور: "بفتح الطاء" أيضا يكون خبرا عن الآلة التي يتطهر بها. فإذا ضمت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبرا عنه. فثبت بهذا أن اسم الفعول: "بفتح الفاء" يكون بناء للمبالغة ويكون خبرا عن الآلة، وهو الذي خطر ببال الحنفية، ولكن قصرت أشداقها عن لوكه، وبعد هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} . وقوله عليه السلام: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" يحتمل المبالغة ويحتمل العبارة به عن الآلة؛ فلا حجة فيه لعلمائنا، لكن يبقى قول {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] نص في أن فعله يتعدى إلى غيره.
الثانية: المياه المنزلة من السماء المودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها، والمخالط للماء على ثلاثة اضرب: ضرب يوافقه

في صفتيه جميعا، فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفا منهما لموافقته لهما وهو التراب. والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فاذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير؛ كماء الورد وسائر الطاهرات. والضرب الثالث يخالفه في الصفتين جميعا، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعا لمخالفته له فيهما وهو النجس.
الثالثة- ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات. ولم يحدوا بين القليل والكثير حدا يوقف عنده، إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في، الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب، ولم يكن غسل ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء؛ وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبدالحكم ومن اتبعهم من المصريين. إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك. وقولهم ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه: أن الماء لا تفسده النجاسة الحالة فيه قليلا كان أو كثيرا إلا أن تظهر فيه النجاسة الحالة فيه وتغير منه طعما أو ريحا أو لونا. وذكر أحمد بن المعدل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء. وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير وأبو الفرج الأبهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك، من البغداديين؛ وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن علي. وهو مذهب أهل البصرة، وهو الصحيح في النظر وجيد الأثر. وقال أبو حنيفة: إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت عموم النجاسة فيه. ووجه تحققها عنده أن تقع مثلا نقطة بول في بركة، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس. وفي المجموعة نحو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي بحديث القلتين، وهو حديث مطعون فيه؛ اختلف في إسناده ومتنه؛ أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدارقطني، فإنه صدر به كتابه وجمع طرقه. قال ابن العربي: وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحح حديث القلتين فلم يقدر. وقال أبو عمر بن عبدالبر: وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين فمذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت

في الأثر؛ لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، ولأن القلتين لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، فلو كان ذلك حدا لازما لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حد ما حده النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من أصل دينهم وفرضهم، ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه، فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك وألطف.
قلت: وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدل على عدم التوقيف فيهما والتحديد. وفي سنن الدارقطني عن حماد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال: القلال الخوابي العظام. وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين. ويظهر من قول الدارقطني أنها مثل قلال هجر؛ لسياقه حديث الإسراء عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة" . وذكر الحديث. قال ابن العربي: وتعلق علماؤنا بحديث أبي سعيد الخدري في بئر بضاعة، رواه النسائي والترمذي وأبو داود وغيرهم. وهو أيضا حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه. وقد فاوضت الطوسي الأكبر في هذه المسألة فقال: إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك، فإن الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه؛ إذ لا حديث في الباب يعول عليه، وإنما المعول على ظاهر القرآن وهو قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وهو ما دام بصفاته، فإذا تغير عن شيء منها خرج عن الاسم لخروجه عن الصفة، ولذلك لما لم يجد البخاري إمام الحديث والفقه في الباب خبرا يعول عليه قال: "باب إذا تغير وصف الماء" وأدخل الحديث الصحيح: "ما من أحد يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك" . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدم بحاله وعليه رائحة المسك، ولم تخرجه الرائحة عن صفة الدموية. ولذلك قال علماؤنا: إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفه وساحله لم يمنع ذلك الوضوء منه. ولو تغير بها وقد وضعت فيه لكان ذلك تنجيسا له للمخالطة والأول مجاورة لا تعويل عليها.

قلت: وقد استدل به أيضا على نقيض ذلك، وهو أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله. ووجه هذا الاستدلال أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثا نجسا، وأنه صار مسكا؛ وإن المسك بعض دم الغزال.
فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته. وإلى هذا التأويل ذهب الجمهور في الماء. وإلى الأول ذهب عبدالملك. قال أبو عمر: جعلوا الحكم للرائحة دون اللون، فكان الحكم لها فاستدلوا عليها في زعمهم بهذا الحديث. وهذا لا يفهم منه معنى تسكن إليه النفس، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه، ولا يشتغل بمثل هذا الفقهاء، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله؛ وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، ولذلك أخذ الميثاق عليهم ليبيننه. للناس ولا يكتمونه، والماء لا يخلو تغيره بنجاسة أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسة وتغير فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله. وقال الجمهور. إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربة ومأة. وما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا إشكال فيه، ولا التباس معه.
الرابعة- الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به، لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه؛ وقد روى ابن وهب عن مالك أن غيره أولى منه.
الخامسة- قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ويكره سؤر النصراني وسائر الكفار والمدمن الخمر، وما أكل الجيف؛ كالكلاب وغيرها. ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه حتى يستيقن النجاسة. قال البخاري: وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصرانية. ذكر سفيان بن عيينة قال: حدثونا عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب بماء فتوضأ منه فقال: من أين جئت بهذا الماء؟ ما رأيت ماء عذبا ولا ماء سماء أطيب منه. قال قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية؛ فلما توضأ أتاها فقال: "أيتها العجوز أسلمي تسلمي، بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق. قال: فكشفت عن رأسها؛ فإذا

مثل الثغامة، فقالت: عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن! فقال عمر رضى الله عنه: اللهم اشهد". خرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا أحمد بن إبراهيم البوشنجي قال حدثنا سفيان.. فذكره. ورواه أيضا عن الحسين بن إسماعيل قال حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توضأ من بيت نصرانية أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي.. ؛ وذكر الحديث بمثل ما تقدم.
السادسة- فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك: يغسل الإناء سبعا ولا يتوضأ منه وهو طاهر. وقال الثوري: يتوضأ بذلك الماء ويتمم معه. وهو قول عبدالملك بن عبدالعزيز ومحمد بن مسلمة. وقال أبو حنيفة: الكلب نجس ويغسل الإناء منه لأنه نجس. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وقد كان مالك يفرق بين ما يجوز اتخاذه من الكلاب وبين ما لا يجوز اتخاذه منها في غسل الإناء من ولوغه. وتحصيل مذهبه أنه طاهر عنده لا ينجس ولوغه شيئا ولغ فيه طعاما ولا غيره؛ إلا أنه استحب هراقة ما ولغ فيه من الماء ليسارة مؤنته. وكلب البادية والحاضرة سواء. ويغسل الإناء منه على كل حال سبعا تعبدا. هذا ما استقر عليه مذهبه عند المناظرين من أصحابه. ذكر ابن وهب وقال: حدثنا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة، فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها. فقال: "لا ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور" أخرجه الدارقطني. وهذا نص في طهارة الكلاب وطهارة ما تلغ فيه. وفي البخاري عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرشون شيئا من ذلك. وقال عمر بحضرة الصحابة لصاحب الحوض الذي سأله عمرو بن العاص: هل ترد حوضك السباع. فقال عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. أخرجه مالك والدارقطني. ولم يفرق بين السباع، والكلب من جملتها، ولا حجة للمخالف

في الأمر بإراقة ما ولغ فيه وأن ذلك للنجاسة، وإنما أمر بإراقته لأن النفس تعافه لا لنجاسته؛ لأن التنزه من الأقذار مندوب إليه، أو تغليظا عليهم لأنهم نهوا عن اقتنائها كما قال ابن عمر والحسن؛ فلما لم ينتهوا عن ذلك غلظ عليهم في الماء لقلته عندهم في البادية، حتى يشتد عليهم فيمتنعوا من اقتنائها. وأما الأمر بغسل الإناء فعبادة لا لنجاسته كما ذكرناه بدليلين: أحدهما: أن الغسل قد دخله العدد. الثاني: أنه جعل للتراب فيه مدخل لقول عليه السلام: "وعفروه الثامنة بالتراب" . ولو كان للنجاسة لما كان للعدد ولا للتراب في مدخل كالبول. وقد جعل صلى الله عليه وسلم الهر وما ولغ فيه طاهرا، والهر سبع لا خلاف في ذلك؛ لأنه يفترس ويأكل الميتة؛ فكذلك الكلب وما كان مثله من السباع؛ لأنه إذا جاء نص ذلك في أحدهما كان نصا في الآخر. وهذا من أقوى أنواع القياس. هذا لو لم يكن هناك دليل؛ وقد ذكرنا النص على طهارته فسقط قول المخالف. والحمد لله.
السابعة- ما مات في الماء مما لا دم له فلا يضر الماء إن لم يغير ريحه؛ فإن أنتن لم يتوضأ به. وكذلك ما كان ل دم سائل من دواب الماء كالحوت والضفدع لم يفسد ذلك الماء موته فيه؛ إلا أن تتغير رائحته، فإن تغيرت رائحته وأنتن لم يجز التطهر به ولا الوضوء منه، وليس بنجس عند مالك. وأما ما له نفس سائلة فمات في الماء ونزح مكانه ولم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر سواء كان الماء قليلا أو كثيرا عند المدنيين. واستحب بعضهم. أن ينزح من ذلك الماء دلاء لتطيب النفس به، ولا يحدون في ذلك حدا لا يتعدى. ويكرهون استعمال ذلك الماء قبل نزح الدلاء، فإن استعمله أحد في غسل أو وضوء جاز إذا كانت حاله ما وصفنا. وقد كان بعض أصحاب مالك يرى لمن توضأ بهذا الماء وإن لم يتغير أن يتيمم، فيجمع بين الطهارتين احتياطا، فإن لم يفعل وصلى بذلك الماء أجزأه. وروى الدارقطني عن محمد بن سيرين أن زنجيا وقع في زمزم - يعني فمات - فأمر به ابن عباس رضي الله عنه فأخرج فأمر بها أن تنزح. قال: فغلبتهم عين جاءتهم من

الركن فأمر بها فدسمت بالقباطي والمطارف حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم. وأخرجه عن أبي الطفيل أن غلاما وقع في بئر زمزم فنزحت. وهذا يحتمل أن يكون الماء تغير، والله أعلم. وروى. شعبة عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول: كل نفس سائلة لا يتوضأ منها، ولكن رخص في الخنفساء والعقرب والجراد والجدجد إذا وقعن في الركاء فلا بأس به. قال شعبة: وأظنه قد ذكر الوزغة. أخرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن الوليد قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة...؛ فذكره.
الثامنة- ذهب الجمهور من الصحابة وفقهاء الأمصار وسائر التابعين بالحجاز والعراق أن ما ولغ فيه الهر من الماء طاهر، وأنه لا بأس بالوضوء بسؤره؛ لحديث أبي قتادة، أخرجه مالك وغيره. وقد روي عن أبي هريرة فيه خلاف. وروي عن عطاء بن أبي رباج وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ماء ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه. واختلف في ذلك عن الحسن. ويحتمل أن كون الحسن رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج الروايتين عنه. قال الترمذي لما ذكر حديث مالك: "وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة، هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم؛ مثل الشافعي وأحمد وإسحاق، لم يروا بسؤر الهرة بأسا". وهذا أحسن شيء في الباب، وقد جود مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، ولم يأت به أحد أتم من مالك. قال الحافظ أبو عمر: الحجة عند التنازع والاختلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح من حديث أبي قتادة أنه أصغى لها الإناء حتى شربت. الحديث. وعليه اعتماد الفقهاء في كل مصر إلا أبا حنيفة ومن قال بقول؛ فإنه كان يكره سؤره. وقال: إن توضأ به أحد أجزأه، ولا أعلم حجة لمن كره الوضوء بسؤر الهرة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة، وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر عليه، وقد فرقت السنة بينهما في باب

التعبد في غسل الإناء، ومن حجته السنة خاصمته، وما خالفها مطرح. وبالله التوفيق. ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين" شك قرة. وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة بن خالد، وقرة ثقة ثبت.
قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني، ومتنه: "طهور الإناء إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات الأولى بالتراب والهر مرة أو مرتين". قرة شك. قال أبو بكر: كذا رواه أبو عاصم مرفوعا، ورواه غيره عن قرة: "ولوغ الكلب" مرفعا و"ولوغ الهر" موقوفا. وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب" قال الدارقطني: لا يثبت هذا مرفوعا والمحفوظ من قول أبي هريرة واختلف عنه. وذكر معمر وابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يجعل الهر مثل الكلب. وعن مجاهد أنه قال في الإناء يلغ فيه السنور قال: اغسله سبع مرات. قال الدارقطني.
التاسعة- الماء المستعمل طاهر إذا كانت أعضاء المتوضئ به طاهرة؛ إلا أن مالكا وجماعة من الفقهاء الجلة كانوا يكرهون الوضوء به. وقال مالك: لا خير فيه، ولا أحب لأحد أن يتوضأ به، فإن فعل وصلى لم أر عليه إعادة الصلاة ويتوضأ لما يستقبل. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: لا يجوز استعماله في رفع الحدث، ومن توضأ به أعاد؛ لأنه ليس بماء مطلق؛ ويتيمم واجده لأنه ليس بواجد ماء. وقال بقولهم في ذلك اصبغ بن الفرج، وهو قول الأوزاعي. واحتجوا بحديث الصنابحي خرجه مالك وحديث عمرو بن عنبسة أخرجه مسلم، وغير ذلك من الآثار. وقالوا: الماء إذا توضئ به خرجت الخطايا معه؛ فوجب التنزه عنه لأنه ماء الذنوب. قال أبو عمر: وهذا عندي لا وجه له؛ لأن الذنوب لا تنجس الماء لأنها لا أشخاص لها ولا أجسام تمازج الماء فتفسده، وإنما معنى قوله: "خرجت الخطايا مع الماء" إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده

المؤمنين رحمة منه بهم وتفضلا عليهم. وقال أبو ثور وداود مثل قول مالك، وأن الوضوء بالماء المستعمل جائز؛ لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء وهو ماء مطلق. واحتجوا بإجماع الأمة على طهارته إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ نجاسة. وإلى هذا ذهب أبو عبدالله المروزي محمد بن نصر. وروي عن علي بن أبى طالب وابن عمر وأبي أمامة وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري والنخعي ومكحول والزهري أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا: إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه؛ فهؤلاء كلهم أجازوا الوضوء بالماء المستعمل. روي عبدالسلام بن صالح حدثنا إسحاق بن سويد عن العلاء بن زياد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرضي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم ذات يوم وقد اغتسل وقد بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء، فقلنا: يا رسول الله، هذه لمعة لم يصبها الماء؛ فكان له شعر وارد، فقال بشعره هكذا على المكان فبله" . أخرجه الدارقطني، وقال: عبدالسلام بن صالح هذا بصري وليس بقوي وغيره من الثقات يرويه عن إسحاق عن العلاء مرسلا، وهو الصواب.
قلت: الراوي الثقة عن إسحاق بن سويد العدوي عن العلاء بن زياد العدوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل...؛ الحديث فيما ذكره هشيم. قال ابن العربي: "مسألة الماء المستعمل إنما تنبني على أصل آخر، وهو أن الآلة إذا أدي بها فرض هل يؤدى بها فرض آخر أم لا؛ فمنع ذلك المخالف قياسا على الرقبة إذا أدى بها فرض عتق لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر؛ وهذا باطل من القول، فإن العتق إذا أتى على الرق أتلفه فلا يبقى محل لأداء الفرض بعتق آخر. ونظيره من الماء ما تلف على الأعضاء فإنه لا يصح أن يؤدى به فرض آخر لتلف عينه حسا كما تلف الرق في الرقبة بالعتق حكما، وهذا نفيس فتأملوه".

العاشرة- لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليه الماء، راكدا كان الماء أو غير راكد؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو لونه أو ريحه" . وفرقت الشافعية فقالوا: إذا وردت النجاسة: على الماء تنجس؛ واختاره ابن العربي. وقال: من أصول الشريعة في أحكام الماء أن ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على النجاسة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده". فمنع من ورود اليد على الماء وأمر بإيراد الماء عليها، وهذا أصل بديع في الباب، ولولا وروده على النجاسة - قليلا كان أو كثيرا - لما طهرت. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بول الأعرابي في المسجد: " صبوا عليه ذنوبا من ماء". قال شيخنا أبو العباس: واستدلوا أيضا بحديث القلتين، فقالوا: إذا كان الماء دون القلتين فحلته نجاسة تنجس وإن لم تغيره، وإن ورد ذلك القدر فأقل على النجاسة فأذهب عينها بقي الماء على طهارته وأزال النجاسة. وهذه مناقضة، إذ المخالطة قد حصلت في الصورتين، وتفريقهم بورود الماء على النجاسة وورودها عليه فرق صوري ليس فيه من الفقه شيء، فليس الباب باب التعبدات بل من باب عقلية المعاني، فإنه من باب إزالة النجاسة وأحكامها. ثم هذا كله منهم يرده قوله عليه الصلاة والسلام: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" .
قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني عن رشدين بن سعد أبي الحجاج عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ذكر اللون. وقال: لم يرفعه غير رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح وليس بالقوي، وأحسن منه في الاستدلال ما رواه أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيدالله بن عبدالله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري قال قيل: يا رسول الله،

أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني كلهم بهذا الإسناد. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقد جود أبو أسامة. هذا الحديث ولم يرو أحد حديث أبى سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة. فهذا الحديث نصي في ورود النجاسة على الماء، وقد حكم صلى الله عليه وسلم بطهارته وطهوره. قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها؛ قلت: أكثر ما يكون الماء فيها؟ قال: إلى العانة. قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة. قال أبو داود: وقدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غير بناؤها عما كانت عليه؟ فقال لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون. فكان هذا دليلا لنا على ما ذكرناه، غير أن ابن العربي قال: إنها في وسط السبخة، فماؤها متغيرا من قرارها؛ والله أعلم.
الحادية عشرة- الماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات هو الماء القراح الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شيء خالطه كما خلقه الله عز وجل صافيا ولا يضره لون أرضه على ما بيناه. وخالف في هذه الجملة. أبو حنيفة وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عمر فأما أبو حنيفة فأجاز الوضوء بالنبيذ في السفر، وجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر. فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به. إلا أن أصحابه يقولون: إذا زالت النجاسة به جاز. وكذلك عنده النار والشمس؛ حتى أن جلد الميتة إذا جف في الشمس طهر من غير دباغ. وكذلك النجاسة على الأرض إذا جفت بالشمس فإنه يطهر ذلك الموضع، بحيث تجوز الصلاة عليه، ولكن لا يجوز التيمم بذلك التراب. قال ابن العربي: لما وصف الله سبحانه الماء بأنه طهور وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك؛ وكذلك قال عليه الصلاة

والسلام لأسماء بنت الصديق حين سألته عن دم الحيض يصيب الثوب: "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء" . فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لما في ذلك من إبطال الامتنان، وليست النجاسة معنى محسوسا حتى يقال كل ما أزالها فقد قام به الغرض، وإنما النجاسة حكم شرعي عين له صاحب الشرع الماء فلا يلحق به غيره؛ إذ ليس في معناه، ولأنه لو لحق به لأسقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل في إسقاطه سقط في نفسه. وقد كان تاج السنة ذو العز بن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنى.
قلت: وأما ما استدل به على استعمال النبيذ فأحاديث واهية، ضعاف لا يقوم شيء منها على. ساق؛ ذكرها الدارقطني وضعفها ونص عليها. وكذلك ضعف ما روي عن ابن عباس موقوفا: "النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء". في طريقه ابن محرز متروك الحديث. وكذلك ما روي عن علي أنه قال: لا بأس بالوضوء بالنبيذ. الحجاج وأبو ليلى ضعيفان. وضعف حديث ابن مسعود وقال: تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. وذكر عن علقمة بن قيس قال: قلت لعبدالله بن مسعود: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن؟ فقال لا.
قلت: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته. وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود قال: سألني النبي صلى الله عليه وسلم: "ما في إداوتك" فقلت: نبيذ. فقال: "ثمرة طيبة وماء طهور" قال: فتوضأ منه. قال أبو عيسى: وإنما روي هذا الحديث، عن أبي زيد عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا نعرف له رواية. غير هذا الحديث، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ، منهم سفيان وغيره، وقال بعض أهل العلم: لا يتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال إسحاق: إن ابتلي رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحب إلي. قال أبو عيسى: وقول من يقول لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب والسنة وأشبه؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا

صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6]. وهذه المسألة مطولة في كتب الخلاف؛ وعمدتهم التمسك بلفظ الماء حسبما تقدم في "المائدة" بيانه والله أعلم.
الثانية عشرة- لما قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وقال: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] توقف جماعة في ماء البحر؛ لأنه ليس بمنزل من السماء؛ حتى رووا عن عبدالله بن عمر وابن عمرو معا أنه لا يتوضأ به؛ لأنه نار ولأنه طبق جهنم. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكمه حين قال لن سأله: "هو الطهور ماؤه الجل ميتته" أخرجه مالك. وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر وعمر وابن عباس، لم يروا بأسا بماء البحر، وقد كره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء بماء البحر؛ منهم ابن عمر وعبدالله بن عمرو، وقال عبدالله بن عمرو: هو نار. قال أبو عمر؛ وقد سئل أبو عيسى الترمذي عن حديث مالك هذا عن صفوان بن سليم فقال: هو عندي حديث صحيح. قال أبو عيسى فقلت للبخاري: هشيم يقول فيه أبي ابن برزة. فقال: وهم فيه، إنما هو المغيرة بن أبي بردة. قال أبو عمر: لا أدري ما هذا من البخاري رحمه الله، ولو كان صحيحا لأخرجه في مصنفه الصحيح عنده، ولم يفعل لأنه لا يعول في الصحيح إلا على الإسناد. وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء، وإنما الخلاف بينهم في بعض معانيه. وقد أجمع جمهور من العلماء وجماعة أئمة الفتوى بالأمصار من الفقهاء: أن البحر طهور ماؤه، وأن الوضوء به جائز؛ إلا ما روي عن عبدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عمرو بن العاص أنهما كرها الوضوء بماء البحر، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك ولا عرج عليه، ولا التفت إليه لحديث هذا الباب. وهذا يدلك على اشتهار الحديث عندهم، وعملهم به وقبولهم له، وهو أولى عندهم من الإسناد الظاهر الصحة لمعنى ترده الأصول. وبالله التوفيق.

قال أبو عمر: وصفوان بن سليم مولى حميد بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، من عباد أهل المدينة وأتقاهم لله، ناسكا، كثير الصدقة بما وجد من قليل وكثير، كثير العمل، خائفا لله، يكنى أبا عبدالله، سكن المدينة لم ينتقل عنها، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ذكر عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يسأل عن صفوان بن سليم فقال: ثقة من خيار عباد الله وفضلاء المسلمين. وأما سعيد بن سلمة. فلم يرو عنه فيما علمت إلا صفوان - والله أعلم - ومن كانت هذه حاله فهو مجهول لا تقوم به حجة عند جميعهم. وأما المغيرة بن أبي بردة فقيل عنه إنه غير معروف في حملة العلم كسعيد بن سلمة. وقيل: ليس بمجهول. قال أبو عمر: المغيرة بن أبي بردة وجدت ذكره في مغازي موسى بن نصير بالمغرب، وكان موسى يستعمله على الخيل، وفتح الله له في بلاد البربر فتوحات في البر والبحر. وروى الدارقطني من غير طريق مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يطهره ماء البجر فلا طهره الله" . قال إسناده حسن.
الثالثةعشرة- قال ابن العربي: توهم قوم أن الماء إذا فضلت للجنب منه فضله لا يتوضأ به، وهو مذهب باطل، فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت: أجنبت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلت من جفنة وفضلت فضلة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتسل منه فقلت: إني قد اغتسلت منه. فقال: "إن الماء ليس عليه نجاسة - أو - إن الماء لا يجنب" . قال أبو عمر: وردت آثار في هذا الباب مرفوعة في النهي عن أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة. وزاد بعضهم في بعضها: ولكن ليغترفا جميعا. فقالت طائفة: لا يجوز أن يغترف الرجل مع المرأة في إناء واحد؛ لأن كل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه. وقال آخرون: إنما كره من ذلك أن تنفرد المرأة بالإناء ثم يتوضأ الرجل بعدها بفضلها. وكل واحد منهم روى بما ذهب إليه أثرا. والذي ذهب إليه الجمهور من العلماء وجماعة فقهاء الأمصار أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة وتتوضأ المرأة من فضله، انفردت المرأة بالإناء أو لم تنفرد. وفي مثل هذا آثار كثيرة صحاح. والذي نذهب إليه أن

الماء لا ينجسه شيء إلا ما ظهر فيه من النجاسات أو غلب عليه منها؛ فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال. والله المستعان.
روى الترمذي عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة قالت: كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة. قال هذا حديث حسن صحيح. وروى البخاري عن عائشة قالت: كنت اغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يقال له الفرق. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في جفنة فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه فقالت: يا رسول الله، إني كنت جنبا. قال: "إن الماء لا يجنب" . قال: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول سفيان الثوري ومالك والشافعي. وروى الدارقطني عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أتوضأ أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك. قال: هذا حديث حسن صحيح. وروي أيضا عن رجل من بني غفار قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل طهور المرأة" . وفي الباب عن عبدالله بن سرجس، وكره بعض الفقهاء فضل طهور المرأة، وهو قول أحمد وإسحاق.
الرابعة عشرة- روى الدارقطني عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب كان يسخن له الماء في قمقمة ويغتسل به. قال: وهذا إسناد صحيح. وروي عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سخنت ماء في الشمس. فقال: "لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص" . رواه خالد بن إسماعيل المخزومي، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وهو متروك. ورواه عمرو بن محمد الأعشم عن فليح عن الزهري عن عروة عن عائشة. وهو منكر الحديث، ولم يروه غيره عن فليح، ولا يصح عن الزهري؛ قاله الدارقطني.

الخامسة عشرة- كل إناء طاهر فجائز الوضوء منه إلا إناء الذهب والفضة؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذهما. وذلك - والله أعلم - للتشبه بالأعاجم والجبابرة لا لنجاسة فيهما. ومن توضأ فيهما أجزاه وضوءه وكان عاصيا باستعمالهما. وقد قيل: لا يجزئ الوضوء في أحدهما. والأول أكثر؛ قال أبو عمر. وكل جلد ذكي فجائز استعماله للوضوء وغير ذلك. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ؛ على اختلاف من قوله. وقد تقدم في {النحل}.
الآية: 49 { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً}
قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ} أي بالمطر. {بَلْدَةً مَيْتاً} بالجدوبة والمحل وعدم النبات. قال كعب: المطر روح الأرض يحييها الله به. وقال: {مَيْتاً} ولم يقل ميتة لأن معنى البلدة والبلد واحد؛ قاله الزجاج. وقيل: أراد بالبلد المكان. "ونسقيه" قراءة العامة بضم النون. وقرأ عمر بن الخطاب وعاصم والأعمش فيما روى المفضل عنهما {وَنُسْقِيَه} : "بفتح" النون. {مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} أي بشرا كثيرا وأناسي واحده إنسي نحو جمع القرقور قراقير وقراقر في قول الأخفش والمبرد وأحد قولي الفراء؛ وله قول آخر وهو أن يكون واحده إنسانا ثم تبدل من النون ياء؛ فتقول: أناسي، والأصل أناسين، مثل سرحان وسراحين، وبستان وبساتين؛ فجعلوا الياء عوضا من النون، وعلى هذا يجوز سراحي وبساتي، لا فرق بينهما. قال الفراء: ويجوز {أَنَاسِيَّ} بتخفيف الياء التي فيما بين لام الفعل وعينه؛ مثل قراقير وقراقر. وقال {كَثِيراً} ولم يقل كثيرين؛ لأن فعيلا قد يراد به الكثرة؛ نحو {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69].

الآية: [50] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} يعني القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة: قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان: 1]. وقوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان: 29] وقوله: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان: 30]. {لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} أي جحودا له وتكذيبا به. وقيل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} هو المطر. روي عن ابن عباس وابن مسعود: وأنه ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء، فما زيد لبعض نقص من غيرهم. فهذا معنى التصريف. وقيل: "صرفناه بينهم" وابلا وطشا وطلا ورهاما - الجوهري: الرهام الأمطار اللينة - ورذاذا. وقيل: تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات وسقي البساتين والغسل وشبهه. {لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} قال عكرمة: هو قولهم في الأنواء: مطرنا بنوء كذا. قال النحاس: ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر ها هنا قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا؛ وأن نظيره فعل النجم كذا، وأن كل من نسب إليه فعلا فهو كافر. وروى الربيع بن صبيح قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح الناس فيها رجلين شاكر وكافر فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه وأما الكافر فيقول مطرنا بنوء كذا وكذا". وهذا متفق على صحته بمعناه وسيأتي في الواقعة إن شاء الله وروي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار". وقيل: التصريف راجع إلى الريح، وقد ممضى في {البقرة} بيانه. وقرأ حمزة والكسائي: {لِيَذَّكَّرُوا} مخففة الذال من الذكر. الباقون مثقلا من التذكر؟ أي ليذكروا نعم الله ويعلموا أن من أنعم بها لا يجوز الإشراك به؛ فالتذكر قريب من الذكر غير أن التذكر يطلق فيما بعد عن القلب فيحتاج إلى تكلف في التذكر.

الآية: [51] {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً}،
الآية: [52] {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}
قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} أي رسولا ينذرهم كما قسمنا. المطر ليخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نفعل بل جعلناك نذيرا للكل لترتفع درجتك فاشكر نعمة الله عليك. {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} أي فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم. {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} قال ابن عباس بالقرآن. ابن زيد: بالإسلام. وقيل: بالسيف؛ وهذا فيه بعد؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال. {جِهَاداً كَبِيراً } لا يخالطه فتور.
الآية: [53] {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} عاد الكلام إلى ذكر النعم. و{مَرَجَ} خلى وخلط وأرسل. قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر. قال ابن عرفة: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي خلطهما فهما يلتقيان؛ يقال: مرجته إذا خلطته. ومرج الدين والأمر اختلط واضطرب؛ ومنه قوله تعالى: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعبدالله بن عمرو بن العاصي: "إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وهكذا" وشبك بين أصابعه فقلت له: كيف أصنع عند ذلك، جعلني الله فداك! قال: "الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة" خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما. وقال الأزهري: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} خلى بينهما؛ يقال مرجت الدابة إذا خليتها ترعى. وقال ثعلب: المرج الإجراء؛ فقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي أجراهما. وقال الأخفش: يقول قوم أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي حلو شديد العذوبة.

{وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي فيه ملوحة ومرارة. وروي عن طلحة أنه قرئ: {وَهَذَا مَلْحٌ} بفتح الميم وكسر اللام. {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} أي حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه؛ كما قال في سورة الرحمن {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بينهما بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19 - 20]. {وَحِجْراً مَحْجُوراً} أي سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر. فالبرزخ الحاجز، والحجر المانع. وقال الحسن: يعني بحر فارس وبحر الروم. وقال ابن عباس وابن جبير: يعني بحر السماء وبحر الأرض. قال ابن عباس: يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه. {وَحِجْراً مَحْجُوراً} حراما محرما أن يعذب هذا الملح بالعذب، أو يصلح هذا العذب بالملح.
الآية: [54] { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً} أي خلق من النطفة إنسانا. {فَجَعَلَهُ} أي جعل الإنسان {نَسَباً وَصِهْراً} . وقيل: {مِنَ الْمَاءِ} إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء. وفي هذه الآية تعديد النعمة على الناس في، إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك.
قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين. قال ابن العربي: النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع؛ فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا، ولذلك لم يدخل تحت قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] بنته من الزنى؛ لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين؛ وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا فلا يحرم الزنى بنت أم ولا أم بنت، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام؛ لأن الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما.

قلت: اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته أو بنت ابنه من زنى؛ فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون منهم عبدالملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي، وقد مضى هذا في {النِّسَاءَ} مجودا. قال الفراء: النسب الذي لا يحل نكاحه، والصهر الذي يحل نكاحه. وقاله الزجاج: وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته؛ فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها. وقيل: الصهر قرابة النكاح؛ فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء. والأصهار يقع عاما لذلك كله؛ قاله الأصمعي. وقال ابن الأعرابي: الأختان أبو المرأة وأخوهما وعمها - كما قال الأصمعي - والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه. وقال محمد بن الحسن في رواية أبي سليمان الجوزجاني: أختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته، وكل ذات محرم منه، وأصهاره كل ذي رحم محرم من زوجته. قال النحاس: الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي، وأن يكون من قبلهما جميعا. يقال: صهرت الشيء أي خلطته؛ فكل واحد منهما قد خلط صاحبه. والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن لجهتين: إحداهما الحديث المرفوع، روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبدالله بن قسيط عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك" . فهذا على أن زوج البنت ختن. والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه؛ وكان الزوج قد انقطع عن أهله، وقطع زوجته عن أهلها. وقال الضحاك: الصهر قرابة الرضاع. قال ابن عطية: وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر خمس. وفي رواية أخرى من الصهر سبع؛ يريد قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] فهذا هو النسب. ثم يريد بالصهر قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}. ثم ذكر المحصنات. ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه، فقد أشار

بما ذكر إلى عظمه وهو الصهر، لا أن الرضاع صهر، وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه. ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات؛ وهن ذوات الأزواج.
قلت: فابن عطية جعل الرضاع مع ما تقدم نسبا، وهو قول الزجاج. قال أبو إسحاق: النسب الذي ليس بصهر من قوله جل ثناؤه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله {تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] والصهر من له التزويج. قال ابن عطية: وحكى الزهراوي قولا أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات.
قلت: وذكر هذا القول النحاس، وقال: لأن المصاهرة من جهتين تكون. وقال ابن سيرين: نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه؛ لأنه جمعه معه نسب وصهر. قال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} على خلق ما يريده.
الآية: [55] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً}
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} لما عدد النعم وبين كمال قدرته عجب من المشركين في إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضر؛ أي إن الله هو الذي خلق ما ذكره، ثم هؤلاء لجهلهم يعبدون من دونه أمواتا جمادات لا تنفع ولا تضر. {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} روي عن ابن عباس {الْكَافِرُ} هنا أبو جهل لعنه الله؛ وشرحه أنه يستظهر بعبادة الأوثان على أوليائه. وقال عكرمة: {الْكَافِرُ} إبليس، ظهر على عداوة ربه. وقال مطرف: {الْكَافِرُ} هنا الشيطان. وقال الحسن: {ظَهِيراً} أي معينا للشيطان على المعاصي. وقيل: المعنى؛ وكان الكافر على ربه هينا ذليلا لا قدر له ولا وزن عنده؛ من قول العرب: ظهرت به أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه. ومنه قوله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود: 92] أي هينا.

ومنه قول الفرزدق:
تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ... بظهر فلا يعيا علي جوابها
هذا معنى قول أبي عبيدة. وظهير بمعنى مظهور. أي كفر الكافرين هين على الله تعالى، والله مستهين به لأن كفره لا يضره. وقيل: وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويا غالبا يعمل به ما يشاء؛ لأن الجماد لا قدرة له على دفع ضر ونفع.
الآية: [56] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً}
الآية: [57] {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} يريد بالجنة مبشرا ونذيرا من النار؛ وما أرسلناك وكيلا ولا مسيطرا. {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} يريد على ما جئتكم به من القرآن والوحي. و {مَنْ} للتأكيد. {إِلاَّ مَنْ شَاءَ} لكن من شاء؛ فهو استثناء منقطع، والمعنى: لكن من شاء {أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} بإنفاقه من ماله في سبيل الله فلينفق. ويجوز أن يكون متصلا ويقدر حذف المضاف؛ التقدير: إلا أجر {مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} باتباع ديني حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة.
الآية: [58] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}
قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} تقدم معنى التوكل في {آل عمران} وهذه السورة وأنه اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزه الله تعالى عما يصفه هؤلاء الكفار به من الشركاء. والتسبيح التنزيه، وقد تقدم. وقيل: {وَسَبِّحْ} أي وصل له؛ وتسمى الصلاة تسبيحا. { وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} أي عليما فيجازيهم بها.

الآية: [59] {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}
قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم في {الأعراف} و {ا الَّذِي} في موضع خفض نعتا للحي. وقال: {بَيْنَهُمَا} ولم يقل بينهن؛ لأنه أراد الصنفين والنوعين والشيئين؛ كقول القطامي:
ألم يحزنك أن حبال قيس ... وتغلب قد تباينتا انقطاعا
أراد وحبال تغلب فثنى، والحبال جمع؛ لأنه أراد الشيئين والنوعين. {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} قال الزجاج: المعنى فاسأل عنه. وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة أن الباء تكون بمعنى عن؛ كما قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] وقال الشاعر:
هلا سألت الخيل يا بنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
وقال علقمة بن عبدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء وعما لم تعلمي. وأنكره علي بن سليمان وقال: أهل النظر ينكرون أن تكون الباء بمعنى عن؛ لأن في هذا إفسادا لمعاني قول العرب: لو لقيت فلانا للقيك به الأسد؛ أي للقيك بلقائك إياه الأسد. المعنى فاسأل بسؤالك إياه خبيرا. وكذلك قال ابن جبير: الخبير هو الله تعالى. فـ {خَبِيراً} نصب على المفعول به بالسؤال.
قلت: قول الزجاج يخرج على وجه حسن، وهو أن يكون الخبير غير الله، أي فاسأل عنه خبيرا، أي عالما به، أي بصفاته وأسمائه. وقيل: المعنى فاسأل له خبيرا، فهو نصب

على الحال من الهاء المضمرة. قال المهدوي: ولا يحسن حالا إذ لا يخلو أن تكون الحال من السائل أو المسؤول، ولا يصح كونها حالا من الفاعل؛ لأن الخبير لا يحتاج أن يسأل غيره. ولا يكون من المفعول؛ لأن المسؤول عنه وهو الرحمن خبير أبدا، والحال في أغلب الأمر يتغير وينتقل؛ إلا أن يحمل على أنها حال مؤكدة؛ مثل: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} [البقرة: 91] فيجوز. وأما {الرَّحْمَنِ} ففي رفعه ثلاثة أوجه: يكون بدلا من المضمر الذي في {اسْتَوَى}. ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هو الرحمن. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} . ويجوز الخفض بمعنى وتوكل على الحي الذي لا يموت الرحمن؛ يكون نعتا. ويجوز النصب على المدح.
الآية: [60] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً}
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} أي لله تعالى. {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} على جهة الإنكار والتعجب، أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب. وزعم القاضي أبو بكر بن العربي أنهم إنما جهلوا الصفة لا الموصوف، واستدل على ذلك، بقوله: {وَمَا الرَّحْمَنُ} ولم يقولوا ومن الرحمن. قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30]. {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} هذه قراءة المدنيين والبصريين؛ أي لما تأمرنا أنت يا محمد. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: {يأمرنا } بالياء. يعنون الرحمن؛ كذا تأوله أبو عبيد، قال: ولو أقروا بأن الرحمن أمرهم ما كانوا كفارا. فقال النحاس: وليس يجب أن يتأول عن الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين وأقرب تناولا. {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} أي زادهم قول القائل لهم اسجدوا للرحمن نفورا عن الدين. وكان سفيان الثوري يقول في هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعا ما زاد أعداك نفورا.

الآية: [61] {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً}
قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} أي منازل. وقد تقدم ذكرها. {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} قال ابن عباس: يعني الشمس؛ نظيره؛ {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} [نوح: 16]. وقراءة العامة: {سِرَاجا} بالتوحيد. وقرأ حمزة والكسائي: { سِرَاجاً } يريدون النجوم العظام الوقادة. والقراءة الأولى عند أبي عبيد أولى؛ لأنه تأول أن السرج النجوم، وأن البروج النجوم؛ فيجيء المعنى نجوما ونجوما. النحاس: ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب قال: السرج النجوم الدراري. الثعلبي: كالزهرة والمشترى وزحل والسماكين ونحوها. { وَقَمَراً مُنِيراً} ينير الأرض إذا طلع. وروى عصمة عن الأعمش {وَقَمَراً} بضم القاف لع وإسكان الميم. وهذه قراءة شاذة، ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال: لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذي يروي القراءات، وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا.
الآية: [62] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}
فيه أربع مسائل:
قوله تعالى: {خِلْفَةً} قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء. وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه. ومقال للمبطون: أصابته خلفة؛ أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك. ومنه خلفه النبات، وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف. ومن هذا المعنى قول زهير بن أبي سلمى:
بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

الرئم ولد الظبي وجمعه آرام؛ يقول: إذا ذهب فوج جاء فوج. ومنه قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا.
ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من حلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا
الأولي- قال مجاهد: {خِلْفَةً} من الخلاف؛ هذا أبيض وهذا أسود؛ والأول أقوى. وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان. وقيل: هو من باب حذف المضاف؛ أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة، أي اختلاف. {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} أي يتذكر، فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن: معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل. وفي الصحيح: "ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة". وروى مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل" .
الثانية- قال ابن العربي: سمعت ذا الشهيد الأكبر يقول: إن الله تعالى خلق العبد حيا عالما، وبذلك كماله، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة؛ إذ الكمال للأول الخالق، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل. ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية، ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم.

اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] يعني في عدم الاعتبار؛ كما تقدم في {الْأَعْرَافِ}. وكأنه قال: وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض، فحذف هم؛ كقولك: زيد الأمير، أي زيد هو الأمير. فـ {الَّذِينَ} خبر مبتدأ محذوف؛ قاله الأخفش. وقيل: الخبر قوله في آخر السورة: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها؛ قاله الزجاج. قال: ويجوز أن يكون الخبر { الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ }. و {يَمْشُونَ } عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك العظم، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض؛ وهو معاشرة الناس وخلطتهم.
قوله تعالى: {هَوْناً} الهون مصدر الهين وهو من السكينة والوقار. وفي التفسير: يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد. والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة. وقال صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع" وروي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا زال زال تقلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب. التقلع، رفع الرجل بقوة والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي وقصده. والهون الرفق والوقار. والذريع الواسع الخطا؛ أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه؛ خلاف مشية المختال، ويقصد سمته؛ وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة. كما قال: كأنما ينحط مكن صبب، قاله القاضي عياض. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع جبلة لا تكلفا. قال الزهري: سرعة المشي تذهب بهاء الوجه. قال ابن عطية: يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار؛ والخير في التوسط. وقال زيد بن أسلم: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} فما وجدت من ذلك شفاء، فرأيت في المنام من جاءني فقال لى: هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض. قال القشيري؛ وقيل لا يمشون لإفساد ومعصية، بل في طاعة الله والأمور المباحة من غير هوك. وقد قال الله تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ

كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. وقال ابن عباس: بالطاعة والمعروف والتواضع. الحسن: حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقيل: لا يتكبرون على الناس.
قلت: وهذه كلها معان متقاربة، ويجمعها العلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه؛ جعلنا الله منهم بفضله ومنه. وذهبت فرقة إلى أن {هَوْناً} مرتبط بقوله: {مْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} ، أن المشي هو هون. قال ابن عطية: ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشيه، فيرجع القول إلى نحو ما بيناه. وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل؛ لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما ينحط في صبب. وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الأمة. وقوله عليه الصلاة والسلام: "من مشى منكم في طمع فليمش رويدا" إنما أراد في عقد نفسه، ولم يرد المشي وحده. ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط؛ حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم:
كلهم يمشي رويد ... كلهم يطلب صيد
قلت: وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه.
تواضعت في العلياء والأصل كابر ... وحزت قصاب السبق بالهون في الأمر
سكون فلا خبث السريرة أصله ... وجل سكون الناس من عظم الكبر
قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} قال النحاس: ليس {سَلاماً} من التسليم إنما هو من التسلم؛ تقول العرب: سلاما، أي تسلما منك، أي براءة منك. منصوب على أحد أمرين: يجوز أن يكون منصوبا بـ {قَالُوا} ، ويجوز أن يكون مصدرا؛ وهذا قول سيبويه. قال ابن عطية: والذي أقوله: إن {قَالُوا} هو العامل في {سَلاماً} لأن المعنى قالوا هذا اللفظ. وقال مجاهد: معنى {سَلاماً} سدادا. أي يقول للجاهل كلاما

يدفعه به برفق ولين. فـ {قَالُوا} على هذا التأويل عامل في قوله: {سَلاماً} على طريقة النحويين؛ وذلك أنه بمعنى قولا. وقالت فرقة: ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما؛ بهذا اللفظ. أي سلمنا سلاما أو تسليما، ونحو هذا؛ فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين.
مسألة: هذه الآية كانت قبل آية السيف، نسخ منها ما يخص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة. وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه، وما تكلم فيه على نسخ سواه؛ رجح به أن المراد السلامة لا التسليم؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة. والآية مكية فنسختها آية السيف. قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية. قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على معنى قوله: تسلما منكم، ولا خير ولا شر بيننا وبينكم. المبرد: كان ينبغي أن يقال: لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم. محمد بن يزيد. أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة. ابن العربي: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم. وقد أتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك.
قلت: هذا القول أشبه بدلائل السنة. وقد بينا في سورة {مَرْيَمَ} اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفار، فلا حاجة إلى دعوى النسخ؛ والله أعلم. وقد ذكر النضر بن شميل قال حدثني الخليل قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فلما سلمنا رد علينا السلام وقال لنا: استووا. وبقينا متحيرين ولم ندر ما قال. فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟ فقلنا: الساعة فارقنا. فقال: سلاما. فلم ندر ما قال. قال. قال: الأعرابي: إنه

سألكم متاركة لا خير فيها ولا شر. فقال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} قال ابن عطية: ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي - وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه - قال يوما بحضرة المأمون وعنده جماعة: كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له من أنت؟ فكان يقول: علي بن أبي طالب. فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها. فكنت أقول: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك. فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه. قال المأمون: وبماذا جاوبك؟ قال: فكان يقول لي سلاما. قال الراوي: فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت. فنبه المأمون على الآية من حضره وقال: هو والله يا عم علي بن أبي طالب، وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخزي إبراهيم واستحيا. وكانت رؤيا لا محالة صحيحة.
الآية: [64] {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } قال الزجاج: بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل، نام أو لم ينم. قال زهير:
فبتنا قياما عند رأس جوادنا ... يزاولنا عن نفسه ونزاوله
وأنشدوا في صفة الأولياء:
امنع جفونك أن تذوق مناما ... واذر الدموع على الخدود سجاما
واعلم بأنك ميت ومحاسب ... يا من على سخط الجليل أقاما
لله قوم أخلصوا في حبه ... فرضي بهم واختصهم خداما
قوم إذا جن الظلام عليهم ... باتوا هنالك سجدا وقياما
خمص البطون من التعفف ضمرا ... لا يعرفون سوى الحلال طعاما

وقال ابن عباس: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما. وقال الكلبي: من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا وقائما.
الآية: [65] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}
الآية: [66] {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أي هم مع طاعتهم مشفقون خائفون وجلون من عذاب الله. ابن عباس: يقولون ذلك في سجودهم وقيامهم. {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي لازما دائما غير مفارق. ومنه سمي الغريم لملازمته. ويقال: فلان مغرم بكذا أي لازم له مولع به. وهذا معناه في كلام العرب فيما ذكر ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما. وقال الأعشى:
إن يعاقب يكن غراما وإن يعـ ... ــط جزيلا فإنه لا يبالي
وقال الحسن: قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم. وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب. وقال ابن زيد: الغرام الشر. وقال أبو عبيدة: الهلاك. والمعنى واحد. وقال محمد بن كعب: طالبهم الله تعالى بثمن النعيم في الدنيا فلم يأتوا به، فأغرمهم ثمنها بإدخالهم النار .{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أي بئس المستقر وبئس المقام. أي إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النجح.
الآية: 67 {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية. فقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معناه أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو الإقتار، ومن أنفق، في طاعة الله تعالى فهو القوام.

وقال ابن عاس: من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو سرف، ومن منع من حق عليه فقد قتر. وقاله مجاهد وابن زيد وغيرهما. وقال عون بن عبدالله: الإسراف أن تنفق مال غيرك. قال ابن عطية: وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية، والوجه أن يقال. إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوساطها؛ ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك. ونعم ما قال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعرى ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال، ولا يأكلون طعاما للذة. وقال يزيد أيضا في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعيم واللذة، ولا يلبسون ثيابا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والبر. وقال عبدالملك بن مروان لعمر بن عبدالعزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية. وقال عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله. وفي سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت" وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف ولم يبخلوا. كقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] وقال الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقال آخر:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال عمر لابنه عاصم: يا بني، كل في نصف بطنك؛ ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم. ولحاتم طي:
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
{وَلَمْ يَقْتُرُوا} قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف عنهما {يَقْتُرُوا} بفتح الياء وضم التاء، وهي قراءة حسنة؛ من قتر يقتر. وهذا القياس في اللازم، مثل قعد يقعد. وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير بفتح الياء وكسر التاء، وهي لغة معروفة حسنة. وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم الياء وكسر - التاء. قال الثعلبي: كلها لغات صحيحة. النحاس: وتعجب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه؛ لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ، وإنما يقال: اقتر إذا افتقر، كما قال عز وجل: {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وتأول أبو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعا. وهذا تأويل بعيد، ولكن التأويل لهم أن أبا عمر الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيق: قتر يقتر ويقتر، وأقتر يقتر. فعلى هذا تصح القراءة، وإن كان فتح الياء أصح وأقرب متناولا، وأشهر وأعرف. وقرأ أبو عمرو والناس {قَوَاماً} بفتح القاف؛ يعني عدلا. وقرأ حسان بن عبدالرحمن: {قواما} بكسر القاف؛ أي مبلغا وسدادا وملاك حال. والقوام بكسر القاف، ما يدوم عليه الأمر ويستقر. وقيل: هما لغتان بمعنى. و {قَوَاماً} خبر كان، واسمها مقدر فيها، أي كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواما؛ قال الفراء. وله قول آخر يجعل {بَيْنَ} اسم كان وينصبها؛ لأن هذه الألفاظ كثير استعمالها فتركت على حالها في موضع الرفع. قال النحاس: ما أدري ما وجه هذا؛ لأن "بينا" إذا كانت في موضع رفع رفعت؛ كما يقال: بين عينيه أحمر.

الآية: [68] {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}
الآية: [69] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان، وقتلهم النفس بوأد البنات؛ وغير ذلك من الظلم والاغتيال، والغارات، ومن الزنى الذي كان عندهم مباحا. وقال من صرف هذه الآية عن ظاهرها من أهل المعاني: لا يليق بمن أضافهم الرحمن إليه إضافة الاختصاص، وذكرهم ووصفهم من صفات المعرفة والتشريف وقوع هذه الأمور القبيحة منهم حتى يمدحوا بنفيها عنهم لأنهم أعلى وأشرف، فقال: معناها لا يدعون الهوى إلها، ولا يذلون أنفسهم بالمعاصي فيكون قتلا لها. ومعنى {إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي إلا بسكين الصبر وسيف المجاهدة فلا ينظرون إلى نساء ليست لهم بمحرم بشهوة فيكون سفاحا؛ بل بالضرورة فيكون كالنكاح. قال شيخنا أبو العباس: وهذا كلام رائق غير أنه عند السبر مائق. وهي نبعة باطنية ونزعة باطلية وإنما صح تشريف عباد الله باختصاص الإضافة بعد أن تحلوا بتلك الصفات الحميدة وتخلوا عن نقائض ذلك من الأوصاف الذميمة، فبدأ في صدر هذه الآيات بصفات التحلي تشريفا لهم، ثم أعقبها بصفات التخلي تبعيدا لها؛ والله أعلم.
قلت: ومما يدل على بطلان ما ادعاه هذا القائل من أن تلك الأمور ليست على ظاهرها ما روى مسلم من حديث عبدالله بن مسعود قال قلت: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: "أن تدعو لله ندا وهو خلقك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم" قال: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" فأنزل الله تعالى تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} . والأثام في كلام العرب العقاب، وبه قرأ ابن زيد وقتادة هذه الآية.

ومنه قول الشاعر:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام
أي جزاء وعقوبة. وقال عبدالله بن عمرو وعكرمة ومجاهد: إن {أثاما} واد في جهنم جعله الله عقابا للكفرة. قال الشاعر:
لقيت المهالك في حربنا ... وبعد المهالك تلقى أثاما
وقال السدي: جبل فيها. قال:
وكان مقامنا ندعو عليهم ... بأبطح ذي المجاز له أثام
وفي "صحيح مسلم" أيضا عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا؛ فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، وهو يخبرنا بأن لما عملنا كفارة، فنزلت: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} . ونزل: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية. وقد قيل: إن هذه الآية، {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} نزلت في وحشي قاتل حمزة؛ قاله سعيد بن جبير وابن عباس. وسيأتي في {الزمر} بيانه. قوله تعالى: {إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا} أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان؛ على ما تقدم بيانه في{الْأَنْعَامِ}. {وَلا يَزْنُونَ} فيستحلون الفروج بغير نكاح ولا ملك يمين. ودلت هذه الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق ثم الزنى؛ ولهذا ثبت في حد الزنا القتل لمن كان محصنا أو أقصى الجلد لمن كان غير محصن.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {يُضَعَفْ. وَيَخْلُدْ} جزما. وقرأ ابن كثير: {يُضَعَفْ} بشد العين وطرح الألف وبالجزم في {يُضَاعَفْ. وَيَخْلُدْ} وقرأ طلحة بن سليمان: {نُضَعَفْ} بضم النون وكسر العين المشددة .{الْعَذَابِ} نصب {وَيَخْلُدْ} جزم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة.

وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: {يُضَاعَفْ. وَيَخْلُدْ} بالرفع فيهما على العطف والاستئناف. وقرأ طلحة بن سليمان: {وَيَخْلُدْ} بالتاء على معنى مخاطبة الكافر. وروي عن أبي عمرو {وَيَخْلُدْ} بضم الياء من تحت وفتح اللام. قال أبو علي: وهي غلط من جهة الرواية. و {يُضَاعَفْ} بالجزم بدل من {يَلْقَ} الذي هو جزاء الشرط. قال سيبويه: مضاعفة العذاب لقي الأثام. قال الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
وقال آخر:
إن علي الله أن تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعا
وأما الرفع ففيه قولان: أحدهما أن تقطعه مما قبله. والآخر أن يكون محمولا على المعنى؛ كأن قائلا قال: ما لقي الأثام؟ فقيل له: يضاعف له العذاب. {مُهَاناً} معناه ذليلا خاسئا مبعدا مطرودا.
الآية: [70] {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني. واختلفوا في القاتل من المسلمين على ما تقدم بيانه في {النساء} ومضى في {المائدة} القول في جواز التراخي في الاستثناء في اليمين، وهو مذهب ابن عباس مستدلا بهذه الآية.
قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قال النحاس: من أحسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع. وقال مجاهد والضحاك: أن يبدلهم

الله من الشرك الإيمان وروي نحوه عن الحسن. قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك، إنما التبديل في الدنيا؛ يبدلهم الله إيمانا من الشرك، وإخلاصا من الشك، وإحصانا من الفجور. وقال الزجاج: ليس بجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن بجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن السيئات تبدل بحسنات" . وروي معناه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وغيرهما. وقال أبو هريرة: ذلك في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته، فيبدل الله السيئات حسنات. وفي الخبر: "ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات" فقيل: ومن هم؟ قال: "الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات" . رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل: التبديل عبارة عن الغفران؛ أي يغفر الله لهم تلك السيئات لا أن يبدلها حسنات.
قلت: فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "اتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق في كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا" فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. وقال أبو طويل: يا رسول الله، أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة؟ قال: "هل أسلمت" ؟ قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبد الله ورسوله. قال: "نعم .

تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن خيرات" . قال: وغدراتي وفجراتي يا نبي الله؟ قال: "نعم" . قال: الله أكبر! فما زال يكررها حتى توارى. ذكره الثعلبي. قال مبشر بن عبيد، وكان عالما بالنحو والعربية: الحاجة التي تقطع على الحاج إذا توجهوا. والداجة التي تقطع عليهم إذا قفلوا. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
الآية: 71 {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}
قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} لا يقال: من قام فإنه يقوم؛ فكيف قال من تاب فإنه يتوب؟ فقال ابن عباس: المعنى من آمن من أهل مكة وهاجر ولم يكن قتل وزنى بل عمل صالحا وأدى الفرائض فإنه يتوب إلى الله متابا؛ أي فإني قدمتهم وفضلتهم على من قاتل النبي صلى الله عليه وسلم واستحل المحارم. وقال القفال: يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذا قال: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [مريم: 60] ثم عطف عليه من تاب من المسلمين واتبع توبته عملا صالحا فله حكم التائبين أيضا. وقيل: أي من تاب بلسانه ولم يحقق ذلك بفعله، فليست تلك التوبة نافعة؛ بل من تاب وعمل صالحا فحقق توبته بالأعمال الصالحة فهو الذي تاب إلى الله متابا، أي تاب حق التوبة وهي النصوح ولذا أكد بالمصدر. فـ {مَتَاباً} مصدر معناه التأكيد، كقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] أي فإنه يتوب إلى الله حقا فيقبل الله توبته حقا.
الآية: [72] {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}
فيه مسألتان
الأولي- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه. والزور كل باطل زور وزخرف، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد. وبه فسر الضحاك وابن زيد وابن عباس وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين. عكرمة: لعب

كان في الجاهلية يسمى بالزور. مجاهد: الغناء؛ وقاله محمد ابن الحنفية أيضا. ابن جريج: الكذب؛ وروي عن مجاهد. وقال علي بن أبي طلحة ومحمد بن علي: المعنى لا يشهدون بالزور، من الشهادة لا من المشاهدة. قال ابن العربي: أما القول بأنه الكذب فصحيح، لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع، وأما من قال إنه لعب كان في الجاهلية فإنه يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة، أو أمر يعود إلى الكفر، وأما القول بأنه الغناء فليس ينتهي إلى هذا الحد.
قلت: من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم، وذلك كالأشعار التي توصف فيها الصور المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ومخرجها عن الاعتدال، أو يثير كامنا من حب اللهو؛ مثل قول بعضهم:
ذهبي اللون تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح
خوفوني من فضيحته ... ليته وافي وافتضح
لا سيما إذا اقترن بذلك شبابات وطارات مثل ما يفعل اليوم في هذه الأزمان، على ما بيناه في غير هذا الموضع. وأما من قال إنه شهادة الزور، وهي:
الثانية- فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويحلق رأسه، ويطوف به في السوق. وقال أكثر أهل العلم: ولا تقبل له شهادة أبدا وإن تاب وحسنت حاله فأمره إلى الله. وقد قيل: إنه إذا كان غير مبرز فحسنت حال قبلت شهادته حسبما تقدم بيانه في سورة {الْحَجَّ} فتأمله هناك.
قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} اللغو، وهو كل سقط من قول أو فعل؛ فيدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك مما قاربه، وتدخل فيه سفه المشركين وأذاهم المؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر. وقال مجاهد: إذا أوذوا صفحوا. وروي عنه: إذا ذكر النكاح كنوا عنه. وقال الحسن: اللغو المعاصي كلها. وهذا جامع. و {كِرَاماً} معناه معرضين منكرين لا يرضونه، ولا يمالئون عليه، ولا يجالسون أهله.

أي مروا مر الكرام الذين لا يدخلون في الباطل. يقال تكرم فلان عما يشينه، أي تنزه وأكرم نفسه عنه. وروي أن عبدالله بن مسعود سمع غناء فأسرع وذهب، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد أصبح ابن أم عبد كريما" . وقيل: من المرور باللغو كريما أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
الآية: [73] {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً}
فيه مسألتان:
الأولي- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} أي إذا قرئ عليهم القرآن ذكروا آخرتهم ومعادهم ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع. {لَمْ يَخِرُّوا} وليس ثم خرور؛ كما يقال: قعد يبكي لسان وإن كان غير قاعد؛ قاله الطبري واختاره؛ قال ابن عطية: وهو أن يخروا صما وعميانا هي صفة الكفار، وهي عبارة عن إعراضهم؛ وقرن ذلك بقولك: قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام، وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة. قال ابن عطية: فكأن المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر، فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورا، وهو السقوط على غير نظام وترتيب؛ وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدا لكن أصله على غير ترتيب. وقيل: أي إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم فخروا سجدا وبكيا، ولم يخروا عليها صما وعميانا. وقال الفراء: أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا.
الثانية- قال بعضهم: إن من سمع رجلا يقرأ سجدة يسجد معه؛ لأنه قد سمع آيات الله تتلى عليه. قال ابن العربي: وهذا لا يلزم إلا القارئ وحده، وأما غيره فلا يلزمه ذلك إلا في مسألة واحدة؛ وهو أن الرجل إذا تلا القرآن وقرأ السجدة فإن كان الذي جلس معه جلس ليسمعه فليسجد معه، وإن لم يلتزم السماع معه فلا سجود عليه. وقد مضى هذا في {الأَعْرَافِ}.

الآية: [74] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}
الآية: [75] {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً}
الآية: [76] {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}
الآية: [77] {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قال الضحاك: أي مطيعين لك. وفيه جواز الدعاء بالولد. والذرية تكون واحدا وجمعا. فكونها للواحد قوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5] وكونها للجمع {ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} [النساء: 9] وقد مضى في {البقرة} اشتقاقها مستوفى. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن: {وَذُرِّيَّاتِنَا} وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى: {وَذُرِّيَّاتِنَا} بالإفراد. {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} نصب على المفعول، أي قرة أعين لنا. وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام لأنس: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه" . {وَآلَ عِمْرَانَ}و {مَرْيَمَ} وذلك أن الإنسان إذا بورك له في مال وولده قرت عينه بأهله وعياله، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة، معاونون له على وظائف الدين والدنيا، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، فتسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى؛ فذلك حين قرة العين، وسكون النفس. ووحد {قُرَّةَ} لأنه مصدر؛ تقول: قرت عينك قرة. وقرة العين يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر وهو الأشهر. والقر البرد؛ لأن العرب تتأذى بالحر وتستريح إلى البرد. وأيضا فإن دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال: أقر الله عينك، وأسخن الله عين العدو. وقال الشاعر:
فكم سخنت بالأمس عين قريرة ... وقرت عيون دمعها اليوم ساكب

قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة؛ وهذا هو قصد الداعي. وفي الموطأ: "إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم" فكان ابن عمر يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المتقين. وقال: {إِمَاماً} ولم يقل أئمة على الجمع؛ لأن الإمام مصدر. يقال: أم القوم فلان إماما؛ مثل الصيام والقيام. وقال بعضهم: أراد أئمة، كما يقول القائل أميرنا هؤلاء، يعني أمراءنا. وقال الشاعر:
يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي ... إن العواذل لسن لي بأمير
أي أمراء. وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول: الإمامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه. وقال إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدين. وقال ابن عباس: اجعلنا أئمة هدى، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة: 24] وقال مكحول: اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون. وقيل: هذا من المقلوب؛ مجازه: واجعل المتقين لنا إماما؛ وقال مجاهد. والقول الأول أظهر وإليه يرجع قول ابن عباس ومكحول، ويكون فيه دليل. على أن طلب الرياسة في الدين ندب. وإمام واحد يدل على جمع؛ لأنه مصدر كالقيام. قال الأخفش: الإمام جمع آم من أم يؤم جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} {أُولَئِكَ} خبر {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} في قول الزجاج على ما تقدم، وهو أحسن ما قيل فيه. وما تخلل بين المبتدأ وخبره أوصافهم من التحلي والتخلي؛ وهي إحدى عشرة: التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله. و {الْغُرْفَةَ} الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا. حكاه ابن شجره. وقال الضحاك: الغرفة الجنة. {بِمَا صَبَرُوا} أي بصبرهم على أمر ربهم: وطاعة نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام. وقال محمد بن علي بن الحسين: {بِمَا صَبَرُوا} على الفقر والفاقة في الدنيا. وقال الضحاك: {بِمَا صَبَرُوا } عن الشهوات. {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى

وحمزة والكسائي وخلف: {وَيُلَقَّوْنَ} مخففة، واختاره الفراء؛ قال لأن العرب تقول: فلان يتلقى بالسلام وبالتحية وبالخير بالتاء، وقلما يقولون فلان يلقى السلامة. وقرأ الباقون: {وَيُلَقَّوْنَ} واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 11]. قال أبو جعفر النحاس: وما ذهب إليه الفراء واختاره غلط؛ لأنه يزعم أنها لو كانت {وَيُلَقَّوْنَ} كانت في العربية بتحية وسلام، وقال كما يقال: فلان يتلقى بالسلام وبالخير؛ فمن عجيب ما في هذا الباب أنه قال يتلقى والآية {وَيُلَقَّوْنَ} والفرق بينهما بين: لأنه يقال فلان يتلقى بالخير ولا يجوز حذف الباء، فكيف يشبه هذا ذاك! وأعجب من هذا أن في القرآن {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} ولا يجوز أن يقرأ بغيره. وهذا يبين أن الأولى على خلاف ما قال. والتحية من الله والسلام من الملائكة. وقيل: التحية البقاء الدائم والملك العظيم؛ والأظهر أنهما بمعنى واحد، وأنهما من قبل الله تعالى؛ دليله قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44] وسيأتي. {خَالِدِينَ} نصب على الحال {فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}.
قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} هذه آية مشكلة تعلقت بها الملحدة. يقال: ما عبأت بفلان أي ما باليت به؛ أي ما كان له عندي وزن ولا قدر. وأصل يعبأ من العبء وهو الثقل. وقول الشاعر:
كأن بصدره وبجانبيه ... عبيرا بات يعبؤه عروس
أي يجعل بعضه على بعض. فالعبء الحمل الثقيل، والجمع أعباء. والعبء المصدر. وما استفهامية؛ ظهر في أثناء كلام الزجاج، وصرح به الفراء. وليس يبعد أن تكون نافية؛ لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفي خرج مخرج الاستفهام؛ كما قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلاَّ الأِحْسَانُ} [الرحمن: 60] قال ابن الشجري: وحقيقة القول عندي أن موضع {ما} نصب؛ والتقدير: أي عبء يعبأ بكم؛ أي أي مبالاة يبالي ربي بكم لولا دعاؤكم؛ أي لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه، فالمصدر الذي هو الدعاء على هذا القول مضاف إلى مفعوله؛ وهو اختيار

الفراء. وفاعله محذوف وجوابه لولا محذوف كما حذف في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد: 31] تقديره: لم يعبأ بكم. ودليل هذا القول قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فالخطاب لجميع الناس؛ فكأنه قال لقريش منهم: أي ما يبال الله بكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت؛ وذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله. ويؤيد هذا قراءة ابن الزبير وغيره. {فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ} فالخطاب بما يعبأ لجميع الناس، ثم يقول لقريش: فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون التكذيب هو سبب العذاب لزاما. وقال النقاش وغيره: المعنى؛ لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك. بيانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [العنكبوت: 65] ونحو هذا. وقيل: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ} أي بمغفرة ذنوبكم ولا هو عنده عظيم {لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} معه الآلهة والشركاء. بيانه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]. قال الضحاك. وقال الوليد بن أبي الوليد: بلغني فيها أي ما خلقتكم ولي حاجة إليكم إلا تسألوني فأغفر لكم وأعطيكم. وروى وهب بن منبه أنه كان في التوراة: "يا ابن آدم وعزتي ما خلقتك لأربح عليك إنما خلقتك لتربح علي فاتخذني بدلا من كل شيء فأنا خير لك من كل شيء". قال ابن جني: قرأ ابن الزبير وابن عباس {فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ} . قال الزهراوي والنحاس: وهي قراءة ابن مسعود وهي على التفسير؛ للتاء والميم في {كَذَّبْتُمْ} . وذهب القتبي والفارسي إلى أن الدعاء مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف. الأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه؛ وجواب {لَوْلا} محذوف تقديره في هذا الوجه: لم يعذبكم. ونظير قوله: لولا دعاؤكم آلهة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]. {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} أي كذبتم بما دعيتم إليه؛ هذا على القول الأول؛ وكذبتم بتوحيد الله على الثاني. {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي يكون تكذيبكم ملازما لكم. والمعنى: فسوف يكون جزاء التكذيب كما قال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف: 49] أي جزاء ما عملوا وقوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 30] أي جزاء ما كنتم تكفرون. وحسن إضمار التكذيب لتقدم ذكر فعله؛ لأنك إذا ذكرت الفعل دل بلفظه على مصدره، كما قال: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [آل عمران: 110] أي لكان الإيمان. وقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] أي يرضى الشكر. ومثله كثير. وجمهور المفسرين

على أن المراد باللزام هنا ما نزل بهم يوم بدر، وهو قول عبدالله ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل وغيرهم. وفي صحيح مسلم عن عبدالله: وقد مضت البطشة والدخان واللزام. وسيأتي مبينا في سورة {الدخان} إن شاء الله تعالى. وقالت فرقة: هو توعد بعذاب الآخرة. وعن ابن مسعود أيضا: اللزام التكذيب نفسه؛ أي لا يعطون التوبة منه؛ ذكره الزهراوي؛ فدخل في هذا يوم بدر وغيره من العذاب الذي يلزمونه. وقال أبو عبيدة: لزاما فيصلا أي فسوف يكون فيصلا بينكم وبين المؤمنين. والجمهور من القراء على كسر اللام؛ وأنشد أبو عبيدة لصخر:
فإما ينجوا من خسف أرض ... فقد لقيا حتوفهما لزاما
ولزاما وملازمة واحد. وقال الطبري: {لِزَاماً} يعني عذابا دائما لازما، وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم ببعض؛ كقول أبي ذؤيب:
ففاجأه بعادية لزام ... كما يتفجر الحوض اللقيف
يعني باللزام الذي يتبع بعضه بعضا، وباللقيف المتساقط الحجارة المتهدم. النحاس: وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال سمعت قعنبا أبا السمال يقرأ: {لَزاما} بفتح اللام. قال أبو جعفر: يكون مصدر لزم والكسر أولى، يكون مثل قتال ومقاتلة، كما أجمعوا على الكسر في قوله عز وجل: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} [طه: 129]. قال غيره: اللزام بالكسر مصدر لازم لزاما مثل خاصم خصاما، واللزام بالفتح مصدر لزم مثل سلم سلاما أي سلامة؛ فاللزام بالفتح اللزوم، واللزام الملازمة، والمصدر في القراءتين وقع موقع اسم الفاعل. فاللزام وقع موقع ملازم، واللزام وقع موقع لازم. كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] أي غائرا. قال النحاس: وللفراء قول في اسم يكون؛ قال: يكون مجهولا وهذا غلط؛ لأن المجهول لا يكون خبره إلا جملة، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] وكما حكى النحويون كان زيد منطلق يكون في كان مجهول ويكون المبتدأ وخبره خبر المجهول، التقدير: كان الحديث؛ فأما أن يقال كان منطلقا، ويكون في كان مجهول فلا يجوز عند أحد علمناه. وبالله التوفيق وهو المستعان والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة الشعراء
سورة الشعراء
3 - مقدمة السورة
هي مكية في قول الجمهور. وقال مقاتل: منها مدني؛ الآية التي يذكر فيها الشعراء، وقوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء: 197]. وقال ابن عباس وقتادة: مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة من قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] إلى آخرها. وهي مائتان وسبع وعشرون آية. وفي رواية: ست وعشرون. وعن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه وطسم من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة" . وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المبين مكان الإنجيل وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي" .
الآية: [1] {طسم}
الآية: [2] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}
الآية: [3] {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}
الآية: [4] {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}
الآية: [5] {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}
الآية: [6] {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
الآية: [7] {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}
الآية: [8] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية: [9] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

قوله تعالى: {طسم} قرأ الأعمش ويحيى وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي وخلف: بإمالة الطاء مشبعا في هذه السورة وفي أختيها. وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري: بين اللفظين؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الباقون بالفتح مشبعا. قال الثعلبي: وهي كلها لغات فصيحة. وقد مضى في {طه} قول النحاس في هذا. قال النحاس: وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي: {طسم} بإدغام النون في الميم، والفراء يقول بإخفاء النون. وقرأ الأعمش: وحمزة: {طسين ميم} بإظهار النون. قال النحاس: للنون الساكنة والتنوين أربعة أقسام عند سيبويه: يبينان عند حروف الحلق، ويدغمان عند الراء واللام والميم والواو والياء، ويقلبان ميما عند الباء ويكونان من الخياشيم؛ أي لا يبينان؛ فعلى هذه الأربعة الأقسام التي نصها سيبويه لا تجوز هذه القراءة؛ لأنه ليس ها هنا حرف من حروف الحلق فتبين النون عنده، ولكن في ذلك وجيه: وهو أن حروف المعجم حكمها أن يوقف عليها، فإذا وقف عليها تبينت النون. قال الثعلبي: الإدغام اختيار أبي عبيد وأبي حاتم قياسا على كل القرآن، وإنما أظهرها أولئك للتبيين والتمكين، وأدغمها هؤلاء لمجاورتها حروف الفم. قال النحاس: وحكى أبو إسحاق في كتابه "فيما يجرى وفيما لا يجرى" أنه يجوز أن يقال: {طسين ميم} بفتح النون وضم الميم، كما يقال هذا معدي كرب. وقال أبو حاتم: قرأ خالد: {طسين ميم} . ابن عباس: {طسم} قسم وهو اسم من أسماء الله تعالى، والمقسم عليه: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} . وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن أقسم الله به. مجاهد: هو اسم السورة؛ ويحسن افتتاح السورة. الربيع: حساب مدة قوم. وقيل: قارعة تحل بقوم. {طسم} و {طس} واحد. قال:
وفاؤكما كالربع أشجاةُ طاسمهُ ... بأن تسعدا والدمع أشقاهُ ساجمهُ

وقال القرظي: أقسم الله بطول وسنائه وملكه. وقال عبدالله بن محمد بن عقيل: الطاء طور سيناء والسين إسكندرية والميم مكة. وقال جعفر بن محمد بن علي: الطاء شجرة طوبى، والسين سدرة المنتهى، والميم محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الطاء من الطاهر والسين من القدوس - وقيل: من السميع وقيل: من السلام - والميم من المجيد. وقيل: من الرحيم. وقيل: من الملك. وقد مضى هذا المعنى في أول سورة {البقرة} والطواسيم والطواسين سور في القرآن جمعت على غير قياس. وأنشد أبو عبيدة:
وبالطواسيم التي قد ثلثت ... وبالحواميم التي قد سبعت
قال الجوهري: والصواب أن تجمع بذوات وتضاف إلى واحد، فيقال: ذوات طسم وذوات حم.
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} رفع على إضمار مبتدأ أي هذه {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} التي كنتم وعدتم بها؛ لأنهم قد وعدوا في التوراة والإنجيل بإنزال القرآن. وقيل: {تِلْكَ} بمعنى هذه. {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي قاتل نفسك ومهلكها. وقد مضى في {الكهف} بيانه. {أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي لتركهم الإيمان. قال الفراء: "أن" في موضع نصب؛ لأنها جزاء. قال النحاس: وإنما يقال: بإن مكسورة لأنها جزاء؛ كذا المتعارف. والقول في هذا ما قاله أبو إسحاق في كتابه في القرآن ؛ قال: {أَنَّ} في موضع نصب مفعول من أجله؛ والمعنى لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان. {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} أي معجزة ظاهرة وقدرة باهرة فتصير معارفهم ضرورية، ولكن سبق القضاء بأن تكون المعارف نظرية. وقال أبو حمزة الثمالي في هذه الآية: بلغني أن لهذه الآية صوتا يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان؛ تخرج به العواتق من البيوت وتضج له الأرض. وهذا فيه بعد؛ لأن المراد قريش لا غيرهم. {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي فتظل أعناقهم {لَهَا خَاضِعِينَ} قال مجاهد: أعناقهم كبراؤهم؛ وقال النحاس: ومعروف في اللغة؛ يقال: جاءني عنق من الناس أي رؤساء منهم. أبو زيد والأخفش: {أَعْنَاقُهُمْ} جماعاتهم؛

يقال: جاءني عنق من الناس أي جماعة. وقيل: إنما أراد أصحاب الأعناق، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قتادة: المعنى لو شاء لأنزل آية يذلون بها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية. ابن عباس: نزلت فينا وفي بني أمية ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد معاوية؛ ذكره الثعلبي والغزنوي فالله أعلم. وخاضعين وخاضعة هنا سواء؛ قاله عيسى بن عمر واختاره المبرد. والمعنى: إنهم إذا ذلت رقابهم ذلوا؛ فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها. ويسوغ في كلام العرب أن تترك الخبر عن الأول وتخبر عن الثاني؛ قال الراجز:
طول الليالي أسرعت في نقضي ... طوين طولي وطوين عرضي
فأخبر عن الليالي وترك الطول. وقال جرير:
أرى مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال
وإنما جاز ذلك لأنه لو أسقط مر وطول من الكلام لم يفسد معناه؛ فكذلك رد الفعل إلى، الكناية في قوله: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ} لأنه لو أسقط الأعناق لما فسد الكلام، ولأدى ما بقي من الكلام عنه حتى يقول: فظلوا لها خاضعين. وعلى هذا اعتمد الفراء وأبو عبيدة. والكسائي يذهب إلى، أن المعنى خاضعيها هم، وهذا خطأ عند البصريين والفراء. ومثل هذا الحذف لا يقع في شيء من الكلام؛ قاله النحاس.
قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} تقدم. {فَقَدْ كَذَّبُوا} أي أعرضوا ومن أعرض عن شيء ولم يقبله فهو تكذيب له. {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وعيد لهم؛ أي فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا والذي استهزؤوا به.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} نبه على عظمته وقدرته وأنهم لو رأوا بقلوبهم ونظروا ببصائرهم لعلموا أنه الذي يستحق أن يعبد؛ إذ هو القادر على كل شيء. والزوج هو اللون؛ قال الفراء. و {كَرِيمٍ} حسن شريف، وأصل

الكرم في اللغة الشرف والفضل، فنخلة كريمة أي فاضلة كثيرة الثمر، ورجل كريم شريف، فاضل صفوح. ونبتت الأرض وأنبتت بمعنى. وقد تقدم في سورة {البقرة} والله سبحانه هو المخرج والمنبت له. وروي عن الشعبي أنه قال: الناس من نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم، ومن صار إلى النار فهو لئيم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالته على أن الله قادر، لا يعجزه شيء. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي مصدقين لما سبق من علمي فيهم. و {كَانَ} هنا صلة في قول سيبويه؛ تقديره: وما أكثرهم مؤمنين. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} يريد المنيع المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.
الآية: [10] {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
الآية: [11] {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ}
الآية: [12] {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}
الآية: [13] {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}
الآية: [14] {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}
الآية: [15] {قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} {إِذْ} في موضع نصب؛ المعنى: واتل عليهم {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} ويدل على هذا أن بعده. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء: 69] ذكره النحاس. وقيل: المعنى؛ واذكر إذا نادى كما صرح به في قوله: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} [الأحقاف: 21] وقوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ} [ص: 45] وقوله: "واذكر في الكتاب مريم} [مريم: 16]. وقيل: المعنى؛ {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} كان كذا وكذا. والنداء الدعاء بيا فلان، أي قال ربك يا موسى: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ثم أخبر من هم فقال، {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} "فـ {قَوْمَ} بدل؛ ومعنى {أَلا يَتَّقُونَ} ألا يخافون عقاب الله؟ وقيل: هذا من الإيماء إلى الشيء لأنه أمره أن يأتي القوم الظالمين، ودل قوله: {يَتَّقُونَ} على أنهم لا يتقون، وعلى أنه أمرهم بالتقوى. وقيل: المعنى؛ قل لهم {أَلا يَتَّقُونَ} وجاء بالياء لأنهم غيب وقت الخطاب، ولو جاء بالتاء

لجاز. ومثله {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] بالتاء والياء. وقد قرأ عبيد بن عمير وأبو حازم {أَلا يَتَّقُونَ} بتاءين أي قل لهم {أَلا يَتَّقُونَ} . {قَالَ رَبِّ} أي قال موسى: {نِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} أي في الرسالة والنبوة. {وَيَضِيقُ صَدْرِي} لتكذيبهم إياي. وقراءة العامة {وَيَضِيقُ} {وَلا يَنْطَلِقُ} بالرفع على الاستئناف. وقرأ يعقوب وعيسى بن عمرو أبو حيوة: {وَيَضِيقُ - وَلا يَنْطَلِقُ} بالنصب فيهما ردا على قوله: {أَنْ يُكَذِّبُونِ} قال الكسائي: القراءة بالرفع؛ يعني في {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} من وجهين: أحدهما الابتداء والآخر بمعنى وإني يضيق صدري ولا ينطلق لساني يعني نسقا على {إِنِّي أَخَافُ} قال الفراء: ويقرأ بالنصب. حكي ذلك عن الأعرج وطلحة وعيسى بن عمر وكلاهما له وجه. قال النحاس: الوجه لرفع؛ لأن النصب عطف على "يكذبون" وهذا بعيد يدل على ذلك قوله عز وجل: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27 - 28] فهذا يدل على أن هذه كذا. {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} في المحاجة على ما أحب؛ وكان في لسانه عقدة على ما تقدم في {طه}. {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} أرسل إليه جبريل بالوحي، واجعله رسولا معي ليؤازرني ويظاهرني ويعاونني. ولم يذكر هنا ليعينني؛ لأن المعنى كان معلوما، وقد صرح به في سورة {طه}: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً} [طه: 29] وفي القصص: {أَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص: 34] وكأن موسى أذن له في هذا السؤال، ولم يكن ذلك استعفاء من الرسالة بل طلب من يعينه. ففي هذا دليل على أن من لا يستقل بأمر، ويخاف من نفسه تقصيرا، أن يأخذ من يستعين به عليه، ولا يلحقه في ذلك لوم.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} الذنب هنا قتل القبطي واسمه فاثور على ما يأتي في {القصص} بيانه، وقد مضى في {طه} ذكره. وخاف موسى أن يقتلوه به، ودل على أن الخوف قد يصحب الأنبياء والفضلاء والأولياء مع معرفتهم بالله وأن لا فاعل إلا هو؛ إذ قد يسلط من شاء على من شاء {قَالَ كَلاَّ} أي كلا لن يقتلوك. فهو ردع وزجر عن هذا الظن، وأمر بالثقة بالله تعالى؛ أي ثق بالله وانزجر عن خوفك منهم؛ فإنهم لا يقدرون على قتلك،

ولا يقوون عليه. {فَاذْهَبَا} أي أنت وأخوك فقد جعلته رسولا معك. {بِآيَاتِنَا} أي ببراهيننا وبالمعجزات. وقيل: أي مع آياتنا. {إِنَّا مَعَكُمْ} يريد نفسه سبحانه وتعالى. {مُسْتَمِعُونَ} أي سامعون ما يقولون وما يجاوبون. وإنما أراد بذلك تقوية قلبيهما وأنه يعينهما ويحفظهما. والاستماع إنما يكون بالإصغاء، ولا يوصف الباري سبحانه بذلك. وقد وصف سبحانه نفسه بأنه السميع البصير. وقال في {طه}: {أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] وقال: {مَعَكُمْ} فأجراهما مجرى الجمع؛ لأن الاثنين جماعة. ويجوز أن يكون لهما ولمن أرسلا إليه. ويجوز أن يكون لجميع بني إسرائيل.
الآية: [16] {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [17] {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ}
الآية: [18] {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}
الآية: [19] {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
الآية: [20] {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}
الآية: [21] {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}
الآية: [22 ]{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ}
قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال أبو عبيدة: رسول بمعنى رسالة والتقدير على هذا؛ إنا ذوو رسالة رب العالمين. قال الهذلي:
ألكني إليها وخير الرسول ... أعلمهم بنواحي الخبر
ألكني إليها معناه أرسلني. وقال آخر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول

آخر:
ألا أبلغ بني عمرو رسولا ...
بأني عن فتاحتكم غني
وقال العباس بن مرداس:
ألا من مبلغ عنى خفافا ... رسولا بيت أهلك منتهاها
يعني رسالة فلذلك أنثها. قال أبو عبيد: ويجوز أن يكون الرسول في معنى الاثنين والجمع؛ فتقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي. ومنه قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77]. وقيل: معناه إن كل واحد منا رسول رب العالمين. {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يسيروا معنا إلى فلسطين ولا تستعبدهم؛ وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا. فانطلقا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البواب على فرعون فقال: ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال فرعون: ايذن له لعلنا نضحك منه؛ فدخلا عليه وأديا الرسالة. وروى وهب وغيره: أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعا من أسد ونمور وفهود يتفرج عليها، فخاف سواسها أن تبطش بموسى وهارون، فأسرعوا إليها، وأسرعت السباع إلى موسى وهارون، فأقبلت تلحس أقدامهما، وتبصبص إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك فقال: ما أنتما؟ قالا: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فعرف موسى لأنه نشأ في بيته؛ فـ {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} على جهة المن عليه والاحتقار. أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} فمتى كان هذا الذي تدعيه. ثم قرره بقتل القبطي بقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} والفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل. وقرأ الشعبي: "فعلتك" بكسر الفاء والفتح أولى؛ لأنها المرة الواحدة، والكسر بمعنى الهيئة والحال، أي فعلتك التي تعرف فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأن الله أرسلك. وقال الشاعر:
كأن مشيتها من بيت جارت ... هامر السحابة لا ريث ولا عجل

ويقال: كان ذلك أيام الردة والردة. {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قال الضحاك: أي في قتلك القبطي إذ هو نفس لا يحل قتله. وقيل: أي بنعمتي التي كانت لنا عليك من التربية والإحسان إليك؛ قاله ابن زيد. الحسن: {مِنَ الْكَافِرِينَ} في أني إلهك. السدي: {مِنَ الْكَافِرِينَ} بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه. وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا أحد عشر عاما غير أشهر. فـ {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً} أي فعلت تلك الفعلة يريد قتل القبطي {وَأَنَا} إذ ذاك {مِنَ الضَّالِّينَ} أي من الجاهلين؛ فنفى عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل. وكذا قال مجاهد؛ {مِنَ الضَّالِّينَ} من الجاهلين. ابن زيد: من الجاهلين بأن الوكزة تبلغ القتل. وفي مصحف عبدالله "من الجاهلين" ويقال لمن جهل شيئا ضل عنه. وقيل: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} من الناسين؛ قاله أبو عبيدة. وقيل: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} عن النبوة ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس علي فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. وبين بهذا أن التربية فيهم لا تنافي النبوة والحلم على الناس، وأن القتل خطأ أو في وقت لم يكن فيه شرع لا ينافي النبوة.
قوله تعالى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة "القصص": {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] وذلك حين القتل. {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} يعني النبوة؛ عن السدي وغيره. الزجاج: تعليم التوراة التي فيها حكم الله. وقيل: علما وفهما. {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} اختلف الناس في معنى هذا الكلام؛ فقال السدي والطبري والفراء: هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة؛ كأنه يقول: نعم؟ وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي. وقيل: هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار؛ أي أتمن علي بأن ربيتني وليدا وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم؟! أي ليست بنعمة؟ لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومي؛ فكيف تذكر إحسانك إلي على

الخصوص؟! قال معناه قتادة وغيره. وقيل: فيه تقدير استفهام؛ أي أو تلك نعمة؟ قاله الأخفش والفراء أيضا وأنكره النحاس وغيره. قال النحاس: وهذا لا يجوز لأن ألف الاستفهام تحدث معنى، وحذفها محال إلا أن يكون في الكلام أم؛ كما قال الشاعر:
تروح من الحي أم تبتكر
ولا أعلم بين النحويين اختلافا في هذا إلا شيئا قاله الفراء. قال: يجوز ألف الاستفهام في أفعال الشك، وحكي ترى زيدا منطلقا؟ بمعنى أترى. وكان علي بن سليمان يقول في هذا: إنما أخذه من ألفاظ العامة. قال الثعلبي: قال الفراء ومن قال إنها إنكار قال معناه أو تلك نعمة؟ على طريق الاستفهام؛ كقوله: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]. قال الشاعر:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وأنشد الغزنوي شاهدا على ترك الألف قولهم:
لم أنس يوم الرحيل وقفتها ... وجفنها من دموعها شرق
وقولها والركاب واقفة ... تركتني هكذا وتنطلق
قلت: ففي هذا حذف ألف الاستفهام مع عدم أم خلاف قول النحاس. وقال الضحاك: إن الكلام خرج مخرج التبكيت والتبكيت يكون، باستفهام وبغير استفهام؛ والمعنى: لو. لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي؛ فأي نعمة لك علي! فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به. وقيل: معناه كيف تمن بالتربية وقد أهنت قومي؟ ومن أهين قومه ذل. و {أَنْ عَبَّدْتَ} في موضع رفع على البدل من {نِعْمَةَ} ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى: لأن عبدت بني إسرائيل؛ أي اتخذتهم عبيدا. يقال: عبدته وأعبدته بمعنى؛ قال الفراء وأنشد:
علام يُعْبِدُني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاؤوا وعِبدان

الآية: [23] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [24] {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}
الآية: [25] {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ}
الآية: [26] {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}
الآية: [27] {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}
الآية: [28] {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}
الآية: [29] {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}
الآية: [30] {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}
الآية: [31] {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
الآية: [32] {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين}
الآية: [33] {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}
الآية: [34] {قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}
الآية: [35] {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}
الآية: [36] {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}
الآية: [37] {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ}
الآية: [38] {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}
الآية: [39] {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}
الآية: [40] {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}
الآية: [41] {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}
الآية: [42] {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}
الآية: [43] {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}
الآية: [44] {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}
الآية: [45] {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}
الآية: [46] {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}
الآية: [47] {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [48] {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}

الآية: [49] {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}
الآية: [50] {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}
الآية: [51] {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} لما غلب موسى فرعون بالحجة ولم يجد اللعين من تقريره على التربية وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله: رسول رب العالمين؛ فاستفهمه استفهاما عن مجهول من الأشياء. قال مكي وغيره: كما يستفهم عن الأجناس فلذلك استفهم بـ {مَا} . قال مكي: وقد ورد له استفهام بـ {مِنْ} في موضع آخر ويشبه أنها مواطن؛ فأتى موسى بالصفات الدالة على الله من مخلوقاته التي لا يشاركه فيها مخلوق، وقد سأل فرعون عن الجنس ولا جنس لله تعالى؛ لأن الأجناس محدثة، فعلم موسى جهله فأضرب عن سؤاله وأعلمه بعظيم قدرة الله التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها. فقال فرعون: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} على معنى الإغراء والتعجب من سفه المقالة إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك. فزاد موسى في البيان بقوله: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} فجاء بدليل يفهمونه عنه؛ لأنهم يعلمون أنه قد كان لهم آباء وأنهم قد فنوا وأنه لا بد لهم من مغير، وأنهم قد كانوا بعد أن لم يكونوا، وأنهم لا بد لهم من مكون. فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أي ليس يجيبني عما أسأل؛ فأجابه موسى عليه السلام عن هذا بأن قال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أي ليس ملكه كملكك؛ لأنك إنما تملك بلدا واحدا لا يجوز أمرك في غيره، ويموت من لا تحب أن يموت، والذي أرسلني يملك المشرق والمغرب؛ {وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} وقيل علم موسى عليه السلام أن قصده في السؤال معرفة من سأل عنه، فأجاب بما هو الطريق إلى معرفة الرب اليوم. ثم لما انقطع فرعون لعنه الله في باب الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فتوعد موسى بالسجن، ولم يقل ما دليلك على أن هذا الإله أرسلك؛ لأن فيه الاعتراف بأن ثم إلها غيره. وفي توعده بالسجن ضعف. وكان فيما يروى

أنه يفزع منه فزعا شديدا حتى كان اللعين لا يمسك بوله. وروي أن سجنه كان أشد من القتل. وكان إذا سجن أحدا لم يخرجه من سجنه حتى يموت، فكان مخوفا. ثم لما كان عند موسى عليه السلام من أمر الله تعالى ما لا يرعه توعد فرعون {قَالَ} له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} فيتضح لك به صدقي، فلما سمع فرعون ذلك طمع في أن يجد أثناءه موضع معارضة {فَقَالَ} له {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . ولم يحتج الشرط إلى جواب عند سيبويه؛ لأن ما تقدم يكفي منه. {فألقى عصاه } من يده فكان ما أخبر الله من قصته. وقد تقدم بيان ذلك وشرحه في {الأعراف} إلى آخر القصة. وقال السحرة لما توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل {لا ضَيْرَ} أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا؛ أي إنما عذابك ساعة فنصبر لها وقد لقينا الله مؤمنين. وهذا يدل على شدة استبصارهم وقوة إيمانهم. قال مالك: دعا موسى عليه السلام فرعون أربعين سنة إلى الإسلام، وأن السحرة آمنوا به في يوم واحد. يقال: لا ضير ولا ضَور ولا ضر ولا ضرر ولا ضارورة بمعنى واحد؛ قال الهروي. وأنشد أبو عبيده:
فإنك لا يضورك بعد حول ... أظبي كان أمك أم حمار
وقال الجوهري: ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا أي ضره. قال الكسائي: سمعت بعضهم يقول لا ينفعني ذلك ولا يضورني. والتضور الصياح والتلوي عند الضرب أو الجوع. والضورة بالضم الرجل الحقير الصغير الشأن. {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} يريد نتقلب إلى رب كريم رحيم {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} . {أَنْ} في موضع نصب، أي لأن كنا. وأجاز الفراء كسرها على أن تكون مجازاة. ومعنى {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي عند ظهور الآية ممن كان في جانب فرعون. الفراء: أول مؤمني زماننا. وأنكره الزجاج وقال: قد روي أنه آمن معه ستمائة ألف وسبعون ألفا، وهم الشرذمة القليلون الذين قال فيهم فرعون: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} روي ذلك عن ابن مسعود وغيره.

الآية: [52] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}
الآية: [53] {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}
الآية: [54] {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}
الآية: [55] {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ}
الآية: [56] {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}
الآية: [57] {فأخرجناهم من جنات وعيون}
الآية: [58] {وكنوز ومقام كريم}
الآية: [59] {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ}
الآية: [60] {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ}
الآية: [61] {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}
الآية: [62] {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}
الآية: [63] {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}
الآية: [64] {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ}
الآية: [65] {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}
الآية: [66 ] { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}
الآية: [67] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية: [68] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} لما كان من سنته تعالى في عباده إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلا وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى. ومعنى {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أي يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم. وفي ضمن هذا الكلام تعريفهم أن الله ينجيهم منهم؛ فخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سحرا، فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول: هكذا أمرت. فلما أصبح فرعون وعلم بسرى موسى ببني إسرائيل، خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، فروي أنه لحقه ومعه مائة ألف أدهم من الخيل سوى سائر الألوان. وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا. والله أعلم بصحته. وإنما اللازم من الآية الذي يقطع به أن موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم من

بني إسرائيل وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك. قال ابن عباس: كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم أمير خيل. والشرذمة الجمع القليل المحتقر والجمع الشراذم. قال الجوهري: الشرذمة الطائفة من الناس والقطعة من الشيء. وثوب شراذم أي قطع. وأنشد الثعلبي قول الراجز:
جاء الشتاء وثيابي أخلاق ... شراذم يضحك منها النواق
النواق من الرجال الذي يروض الأمور ويصلحها؛ قاله في الصحاح. واللام في قوله {لَشِرْذِمَةٌ} لام توكيد وكثيرا ما تدخل في خبر إن، إلا أن الكوفيين لا يجيزون إن زيدا لسوف يقوم. والدليل على أنه جائز قوله تعالى: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وهذه لام التوكيد بعينها وقد دخلت على سوف؛ قاله النحاس. {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} أي أعداء لنا لمخالفتهم ديننا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها على ما تقدم. وماتت أبكارهم تلك الليلة. وقد مضى هذا في {الأعراف} و{طه} مستوفى. يقال: غاظني كذا وأغاظني. والغيظ الغضب ومنه التغيظ والاغتياظ. أي غاظونا بخروجهم من غير إذن. {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ} أي مجتمع مستعد أخذنا حذرنا وأسلحتنا. وقرئ: {حَاذِرُونَ} ومعناه معنى {حَذِرُونَ} أي فرقون خائفون. قال الجوهري: وقرئ {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} و {حَذِرُونَ} و {حَذُرون} بضم الذال حكاه الأخفش؛ ومعنى: {حَاذِرُونَ} متأهبون، ومعنى: {حَذِرُونَ} خائفون. قال النحاس: {حَذِرُونَ} قراءة المدنيين وأبي عمرو، وقراءة أهل الكوفة: {حَاذِرُونَ} وهي معروفة عن عبدالله بن مسعود وابن عباس؛ و {حَادِرُونَ} بالدال غير المعجمة قراءة أبي عباد وحكاها المهدوي عن ابن أبي عمار، والماوردي والثعلبي عن سميط بن عجلان. قال النحاس: أبو عبيدة يذهب إلى أن معنى {حَذُرون} {حَاذِرُونَ} واحد. وهو قول سيبويه وأجاز: هو حذر زيدا؛ كما يقال: حاذر زيدا، وأنشد:
حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار

وزعم أبو عمر الجرمي أنه يجوز هو حذر زيدا على حذف من. فأما أكثر النحويين فيفرقون بين حذر وحاذر؛ منهم الكسائي والفراء ومحمد بن يزيد؛ فيذهبون إلى أن معنى حذر في خلقته الحذر، أي متيقظ متنبه، فإذا كان هكذا لم يتعد، ومعنى حاذر مستعد وبهذا جاء التفسير عن المتقدمين. قال عبدالله بن مسعود في قول الله عز وجل: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} قال: مؤدون في السلاح والكراع مقوون، فهذا ذاك بعينه. وقوله: مؤدون معهم أداة. وقد قيل: إن المعنى: معنا سلاح وليس معهم سلاح يحرضهم على القتال؛ فأما {حَادِرُونَ} بالدال المهملة فمشتق من قولهم عين حدرة أي ممتلئة؛ أي نحن ممتلئون غيظا عليهم؛ ومنه قول الشاعر:
وعين لها حدرة بدرة ... شقت مآقيهما من أخر
وحكى أهل اللغة أنه يقال: رجل حادر إذا كان ممتلئ اللحم؛ فيجوز أن يكون المعنى الامتلاء من السلاح. المهدوي: الحادر القوي الشديد.
قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} يعني من أرض مصر. وعن عبدالله بن عمرو قال: كانت الجنات بحافتي النيل في الشقتين جميعا من أسوان إلى رشيد، وبين الجنات زروع. والنيل سبعة خلجان: خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، والزروع ما بين الخلجان كلها. وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا بما دبروا وقدروا من قناطرها وجسورها وخلجانها؛ ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشر ذراعا نيل السلطان، ويخلع على ابن أبي الرداد؛ وهذه الحال مستمرة إلى الآن. وإنما قيل نيل السلطان لأنه حينئذ يجب الخراج على الناس. وكانت أرض مصر جميعها تروى

من إصبع واحدة من سبعة عشر ذراعا، وكانت إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعا ونودي عليه إصبع واحد من ثمانية عشر ذراعا، ازداد في خراجها ألف ألف دينار. فإذا خرج. عن ذلك ونودي عليه إصبعا واحدا من تسعة عشر ذراعا نقص خراجها ألف ألف دينار. وسبب هذا ما كان ينصرف في المصالح والخلجان والجسور والاهتمام بعمارتها. فأما الآن فإن أكثرها لا يروى حتى ينادى إصبع من تسعة عشر ذراعا بمقياس مصر. وأما أعمال الصعيد الأعلى، فإن بها ما لا يتكامل ريه إلا بعد دخول الماء في الذراع الثاني والعشرين بالصعيد الأعلى.
قلت: أما أرض مصر فلا تروى جميعها الآن إلا من عشرين ذراعا وأصابع؛ لعلو الأرض وعدم الاهتمام بعمارة جسورها، وهو من عجائب الدنيا؛ وذلك أنه يزيد إذا انصبت المياه في جميع الأرض حتى يسيح على جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب والقياسات. وروي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلل الله له الأنهار؛ فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له عيونا، فإذا انتهى إلى ما أراد الله عز وجل، أوحى الله تبارك وتعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. وقال قيس بن الحجاج: لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤنة من أشهر القبط فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ فقالوا: إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها؛ أرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل؛ فقال لهم عمرو: هذا لا يكون في الإسلام؛ وإن الإسلام ليهدم ما قبله. فأقاموا أبيب ومسرى لا يجري قليل ولا كثير، وهموا بالجلاء. فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فأعلمه بالقصة، فكتب إليه عمر بن الخطاب: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وأن الإسلام يهدم ما قبله ولا يكون هذا. وبعث إليه ببطاقة في داخل كتابه. وكتب إلى عمرو: إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل

إذا أتاك كتابي. فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر - أما بعد - فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. قال: فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل. فلما ألقى البطاقة في النيل، أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشر ذراعا، وقطع الله تلك السيرة عن أهل مصر من تلك السنة. قال كعب الأحبار: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا سيحان وجيحان والنيل والفرات، فسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة، والنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة. وقال ابن لهيعة: الدجلة نهر اللبن في الجنة.
قلت: الذي في الصحيح من هذا حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيحان وجيجان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة" لفظ مسلم وفي حديث الإسراء من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رجل من قومه قال: "وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار قال أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات" لفظ مسلم. وقال البخاري من طريق شريك عن أنس: "فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال ما هذان النهران يا جبريل قال هذا النيل والفرات عنصرهما ثم مضى في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا هو الكوثر الذي خبأ لك ربك." وذكر الحديث. والجمهور على أن المراد بالعيون عيون الماء. وقال سعيد بن جبير: المراد عيون الذهب. وفي الدخان {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ} [الدخان: 26 - 27]. قيل: إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها. وليس في الدخان {وَكُنُوزٍ} . {وَكُنُوزٍ} جمع كنز؛ وقد مضى هذا

في سورة {براءة}. والمراد بها ها هنا الخزائن. وقيل: الدفائن. وقال الضحاك: الأنهار؛ وفيه نظر؛ لأن العيون تشملها. {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} قال ابن عمر ابن عباس ومجاهد: المقام الكريم المنابر؛ وكانت ألف منبر لألف جبار يعظمون عليها فرعون وملكه. وقيل: مجالس الرؤساء والأمراء؛ حكاه ابن عيسى وهو قريب من الأول. وقال سعيد بن جبير: المساكن الحسان. وقال ابن لهيعة: سمعت أن المقام الكريم الفيوم. وقيل: كان يوسف عليه السلام قد كتب على مجلس من مجالسه: "لا إله إلا الله إبراهيم خليل الله" فسماها الله كريمة بهذا. وقيل: مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عدة وزينة؛ فصار مقامها أكرم منزل بهذا؛ ذكره الماوردي. والأظهر أنها المساكن الحسان كانت تكرم عليهم. والمقام في اللغة يكون الموضع ويكون مصدرا. قال النحاس: المقام في اللغة الموضع؛ من قولك قام يقوم، وكذا المقامات واحدها مقامة؛ كما قال:
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
والمقام أيضا المصدر من قام يقوم. والمقام: "بالضم" الموضع من أقام. والمصدر أيضا من أقام يقيم.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} يريد أن جميع ما ذكره الله تعالى من الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم أورثه الله بني إسرائيل. قال الحسن وغيره: رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه. وقيل: أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حلي آل فرعون بأمر الله تعالى.
قلت: وكلا الأمرين حصل لهم. والحمد لله.قوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي فتبع فرعون وقومه بني إسرائيل. قال السدي: حين أشرقت الشمس بالشعاع. وقال قتادة: حين أشرقت الأرض بالضياء. قال الزجاج: يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت. واختلف في تأخر فرعون وقومه عن موسى وبني إسرائيل على قولين: أحدهما-

لاشتغالهم بدفن أبكارهم في تلك الليلة؛ لأن الوباء في تلك الليلة وقع فيهم؛ فقوله: {مُشْرِقِينَ} حال لقوم فرعون. الثاني: إن سحابة أظلتهم وظلمة فقالوا: نحن بعد في الليل فما تقشعت عنهم حتى أصبحوا. وقال أبو عبيدة: معنى {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} ناحية المشرق. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون: {فاتبعوهم مشرقين} بالتشديد وألف الوصل؛ أي نحو المشرق؛ مأخوذ من قولهم: شرق وغرب إذا سار نحو المشرق والمغرب. ومعنى الكلام قدرنا أن يرثها بنو إسرائيل فاتبع قوم فرعون بني إسرائيل مشرقين فهلكوا، وورث بنو إسرائيل بلادهم.
قوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي تقابلا الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه؛ وهو تفاعل من الرؤية. {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي قرب منا العدو ولا طاقة لنا به. وقراءة الجماعة: {لَمُدْرَكُونَ} بالتخفيف من أدرك. ومنه: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس: 90]. وقرأ عبيد بن عمير والأعرج والزهري: {لَمُدَّرَكُونَ} بتشديد الدال من أدرك. قال الفراء: حفر واحتقر بمعنى واحد، وكذلك {لَمُدْرَكُونَ} و {لَمُدْرَكُونَ} بمعنى واحد. النحاس: وليس كذلك يقول النحويون الحذاق؛ إنما يقولون: مدركون ملحقون، ومدركون مجتهد في لحاقهم، كما يقال: كسبت بمعنى أصبت وظفرت، واكتسبت بمعنى اجتهدت وطلبت وهذا معنى قول سيبويه.
قوله تعالى: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} لما لحق فرعون بجمعه جمع موسى وقرب منهم، ورأت بنو إسرائيل العدو القوي والبحر أمامهم ساءت ظنونهم، وقالوا لموسى، على جهة التوبيخ والجفاء: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكرهم وعد الله سبحانه له بالهداية والظفر {كُلاًَّ} أي لم يدركوكم {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} أي بالنصر على العدو. {سَيَهْدِينِ} أي سيدلني على طريق النجاة؛ فلما عظم البلاء على بني إسرائيل؛ ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه؛ وذلك أنه

عز وجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل يفعله؛ وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى واختراعه. وقد مضى في "البقرة" قصة هذا البحر. ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل، ووقف الماء بينها كالطود العظيم، أي الجبل العظيم. والطود الجبل؛ ومنه قول امرئ القيس:
فبينا المرء في الأحياء طود ... رماه الناس عن كثب فمالا
وقال الأسود بن يعفر:
حلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
جمع طود أي جبل. فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا؛ فلما خرج أصحاب موسى وتكامل آخر أصحاب فرعون على ما تقدم في {يونس} انصب عليهم وغرق فرعون، فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعون؛ فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه. وروى ابن القاسم عن مالك قال: خرج مع موسى عليه السلام رجلان من التجار إلى البحر فلما أتوا إليه قالا له بم أمرك الله؟ قال: أمرت أن أضرب البحر بعصاي هذه فينفلق؛ فقالا له افعل ما أمرك الله فلن يخلفك؛ ثم ألقيا أنفسهما في البحر تصديقا له؛ فما زال كذلك البحر حتى دخل فرعون ومن معه، ثم ارتد كما كان. وقد مضى هذا المعنى في سورة {البقرة}.
قوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ ثَمَّ الْآخَرِينَ} أي قربناهم إلى البحر؛ يعني فرعون وقومه. قاله ابن عباس وغيره؛ قال الشاعر:
وكل يوم مضى أو ليلة سلفت ... فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
أبو عبيدة: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} جمعنا ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع. وقرأ أبو عبدالله بن الحرث وأبي بن كعب وابن عباس: {وَأَزْلَفْنَا} بالقاف على معنى أهلكناهم؛ من قوله: أزلقت الناقة وأزلقت الفرس فهي مزلق إذا أزلقت ولدها. {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} يعني فرعون وقومه. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي علامة على قدرة الله تعالى .

{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} لأنه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وابنته آسية امرأة فرعون، ومريم بنت ذا موسى العجوز التي دلت على قبر يوسف الصديق عليه السلام. وذلك أن موسى عليه السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر أظلم عليهم القمر فقال لقومه: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا. قال موسى: فأيكم يدري قبره؟ قال: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل؛ فأرسل إليها؛ فقال: دليني على قبر يوسف، قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة؛ فثقل عليه، فقيل له: أعطها حكمها؛ فدلتهم عليه، فاحتفروه واستخرجوا عظامه، فلما أقلوها، فإذا الطريق مثل ضوء النهار في رواية: فأوحى الله إليه أن أعطها ففعل، فأتت بهم إلى بحيرة، فقالت لهم: أنضبوا هذا الماء فأنضبوه واستخرجوا عظام يوسف عليه السلام؛ فتبينت لهم الطريق مثل ضوء النهار. وقد مضى في {يوسف}. وروى أبو بردة عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حاجتك" قال: ناقة أرحلها وأعنزا أحبلها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلم عجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل" فقال أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل؟ فذكر لهم حال هذه العجوز التي احتكمت على موسى أن تكون معه الجنة.
الآية: [69] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}
الآية: [70] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}
الآية: [71] {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}
الآية: [72] {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}
الآية: [73] {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}
الآية: [74] {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}
الآية: [75] {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}
الآية: [76] {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ}
الآية: [77] {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}

قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} نبه المشركين على فرط جهلهم إذ رغبوا عن اعتقاد إبراهيم ودينه وهو أبوهم. والنبأ الخبر؛ أي أقصص عليهم يا محمد خبره وحديثه وعيبه على قومه ما يعبدون. وإنما قال ذلك ملزما لهم الحجة. والجمهور من القراء على تخفيف الهمزة الثانية وهو أحسن الوجوه؛ لأنهم قد أجمعوا على تخفيف الثانية من كلمة واحدة نحم آدم. وإن شئت حققتهما فقلت: {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} . وإن شئت خففتهما فقلت: {نَبَا إِبْرَاهِيمَ}. وإن شئت خففت الأولى. وثم وجه خامس إلا أنه بعيد في العربية وهو أن يدغم الهمزة في الهمزة كما يقال رأَّاس للذي يبيع الرؤوس. وإنما بعد لأنك تجمع بين همزتين كأنهما في كلمة واحدة، وحسن في فعال لأنه لا يأتي إلا مدغما. {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} أي أي شيء تعبدون {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً} وكانت أصنامهم من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب. {فنظل لها عاكفين} أي فنقيم على عبادتها. وليس المراد وقتا معينا بل هو إخبار عما هم فيه. وقيل: كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل، وكانوا في الليل يعبدون الكواكب. فيقال: ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا. {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} قال الأخفش: فيه حذف؛ والمعنى: هل يسمعون منكم؟ أو هل يسمعون دعاءكم؛ قال الشاعر:
القائد الخيل منكوبا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا
قال: والأبق الكتان فحذف. والمعنى؛ وأحكمت حكمات الأبق. وفي الصحاح: والأبق بالتحريك القنب. وروي عن قتادة أنه قرأ: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} بضم الياء؛ أي أهل يسمعونكم أصواتهم. {إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} أي هل تنفعكم هذه الأصنام وترزقكم، أو تملك لكم خيرا أو ضرا إن عصيتم؟! وهذا استفهام لتقرير الحجة؛ فإذا لم ينفعوكم ولم يضروا فما معنى عبادتكم لها. {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فنزعوا إلى التقليد

من غير حجة ولا دليل. وقد مضى القول فيه. {قَالَ} إبراهيم {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} من هذه الأصنام {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} الأولون {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} واحد يؤدي عن جماعة، وكذلك يقال للمرأة هي عدو الله وعدوة الله؟ حكاهما الفراء. قال علي بن سليمان: من قال عدوة الله وأثبت الهاء قال هي بمعنى معادية، ومن قال عدو للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب. ووصف الجماد بالعداوة بمعنى أنهم عدو لي إن عبدتهم يوم القيامة؛ كما قال: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82]. وقال الفراء: هو من المقلوب؛ مجازه فإنى عدو لهم لأن من عاديته عاداك. {إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} قال الكلبي: أي إلا من عبد رب العالمين؛ إلا عابد رب العالمين؛ فحذف المضاف. قال أبو إسحاق الزجاج: قال النحويون هو استئناء ليس من الأول؛ وأجاز أبو إسحاق أن يكون من الأول على أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله. وتأوله الفراء على الأصنام وحدها والمعنى عنده: فإنهم لو عبدتهم عدو لي يوم القيامة؛ على ما ذكرنا. وقال الجرجاني: تقديره: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين فإنهم عدو لي. وإلا بمعنى دون وسوى؛ كقوله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] أي دون الموتة الأولى. الآية: [78] {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}
الآية: [79] {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}
الآية: [80] {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}
الآية: [81] {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}
الآية: [82] {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}
قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي يرشدني إلى الدين. {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي يرزقني. ودخول {هُوَ} تنبيه على أن غيره لا يطعم ولا يسقي؛ كما تقول: زيد هو الذي فعل كذا؛ أي لم يفعله غيره. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} قال: {مَرِضْتُ} رعاية للأدب وإلا فالمرض والشفاء من الله عز وجل جميعا. ونظيره قول

فتى موسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]. {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} يريد البعث وكانوا ينسبون الموت إلى الأسباب؛ فبين أن الله هو الذي يميت ويحيي. وكله بغير ياء: {يَهْدِينِ} {يَشْفِينِ} لأن الحذف في رؤوس الآي حسن لتتفق كلها. وقرأ ابن أبي إسحاق على جلالته ومحله من العربية هذه كلها بالياء؛ لأن الياء اسم وإنما دخلت النون لعلة. فإن قيل: هذه صفة لجميع الخلق فكيف جعلها إبراهيم دليلا على هدايته ولم يهتد بها غيره؟ قيل: إنما ذكرها احتجاجا على وجوب الطاعة؛ لأن من أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى ليلتزم غيره من الطاعة ما قد التزمها؛ وهذا إلزام صحيح.
قلت: وتجوز بعض أهل الإشارات في غوامض المعاني فعدل عن ظاهر ما ذكرناه إلى ما تدفعه بدائه العقول من أنه ليس المراد من إبراهيم. فقال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي يطعمني لذة الإيمان ويسقين حلاوة القبول. ولهم في قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وجهان: أحدهما: إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته. الثاني: إذا مرضت بمقاساة الخلق، شفاني بمشاهدة الحق. وقال جعفر بن محمد الصادق: إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة. وتأولوا قوله: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} على ثلاثة أوجه: فالذي يميتني بالمعاصي يحييني بالطاعات. الثاني: يميتني بالخوف ويحييني بالرجاء. الثالث: يميتني، بالطمع ويحييني بالقناعة. وقول رابع: يميتني بالعدل ويحييني بالفضل. وقول خامس: يميتني بالفراق ويحييني بالتلاق. وقول سادس: يميتني بالجهل ويحييني بالعقل؛ إلى غير ذلك مما ليس بشيء منه مراد من الآية؛ فإن هذه التأويلات الغامضة، والأمور الباطنة، إنما تكون لمن حذق وعرف الحق، وأما من كان في عمى عن الحق ولا يعرف الحق فكيف ترمز له الأمور الباطنة، وتترك الأمور الظاهرة؟ هذا محال. والله أعلم.
قوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} {أَطْمَعُ} أي أرجو. وقيل: هو بمعنى اليقين في حقه، وبمعنى الرجاء في حق المؤمنين سواه. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: {خَطَايَايَ} وقال: ليست خطيئة واحدة. قال النحاس: خطيئة بمعنى

خطايا معروف في كلام العرب، وقد أجمعوا على التوحيد في قوله عز وجل {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك: 11] ومعناه بذنوبهم. وكذا {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] معناه الصلوات. وكذا {خَطِيئَتِي} إن كانت خطايا. والله أعلم. قال مجاهد: يعني بخطيئته قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: إن سارة أخته. زاد الحسن وقوله للكوكب: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] وقد مضى بيان هذا مستوفى. وقال الزجاج: الأنبياء بشر فيجوز أن تقع منهم الخطية؛ نعم لا تجوز عليهم الكبائر لأنهم معصومون عنها. {يَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم. وهذا من إبراهيم إظهار للعبودية وإن كان يعلم أنه مغفور له. وفي صحيح مسلم عن عائشة؛ قلت يا رسول الله: ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه إنه لم يقل يوما {رَبِّ اَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} " .
الآية: [83] {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}
الآية: [84] {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}
الآية: [85] {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}
الآية: [86] {وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}
الآية: [87] {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}
الآية: [88] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}
الآية: [89] {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} {حُكْماً} معرفة بك وبحدودك وأحكامك؛ قال ابن عباس. وقال مقاتل: فهما وعلما؛ وهو راجع إلى الأول. وقال الكلبي: نبوة ورسالة إلى الخلق. {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أي بالنبيين من قبلي في الدرجة. وقال ابن عباس: بأهل الجنة؛ وهو تأكيد قوله: {هَبْ لِي حُكْماً} .
قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} قال ابن عباس: هو اجتماع الأمم عليه. وقال مجاهد: هو الثناء الحسن. قال ابن عطية: هو الثناء وخلد المكانة بإجماع المفسرين؛ وكذلك أجاب الله دعوته، وكل أمة تتمسك به وتعظمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مكي: وقيل معناه سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان

من يقوم بالحق؛ فأجيبت الدعوة في محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عطية: وهذا معنى حسن إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ. وقال القشيري: أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة؛ فإن زيادة الثواب مطلوبة في حق كل أحد.
قلت: وقد فعل الله ذلك إذ ليس أحد يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو يصلي على إبراهيم وخاصة في الصلوات، وعلى المنابر التي هي أفضل الحالات وأفضل الدرجات. والصلاة دعاء بالرحمة: والمراد باللسان القول، وأصله جارحة الكلام. قال القتبي: وموضع اللسان موضع القول على الاستعارة، وقد تكني العرب بها عن الكلمة. قال الأعشى:
إني أتتني لسان لا أسر بها ... من علو لا عجب منها ولا سخر
قال الجوهري: يروى من علو بضم الواو وفتحها وكسرها. أي أتاني خبر من أعلى، والتأنيث للكلمة. وكان قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر. روى أشهب عن مالك قال قال الله عز وجل: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا ويرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله تعالى؛ وقد قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم: 96] أي حبا في قلوب عباده وثناء حسنا، فنبه تعالى بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل. الليث بن سليمان: إذ هي الحياة الثانية. قيل:
قد مات قوم وهم في الناس أحياء
قال ابن العربي: قال المحققون من شيوخ. الزهد في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث وفي رواية إنه كذلك في الغرس والزرع وكذلك فيمن مات مرابطا يكتب له عمله إلى يوم القيامة. وقد بيناه في آخر {آل عمران} والحمد لله.

قوله تعالى: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} دعاء بالجنة وبمن يرثها، وهو يرد قول بعضهم: لا أسأل جنة ولا نارا. {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} كان أبوه وعده في الظاهر أن يؤمن به فاستغفر له لهذا، فلما بان أنه لا يفي بما قال تبرأ منه. وقد تقدم هذا المعنى. {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} أي المشركين. {وكان} زائدة. {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد، أو لا تعذبني يوم القيامة. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة" والغبرة هي القترة. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى إبراهيم أباه فيقول يا رب إنك وعدتني إلا تخزيني يوم يبعثون فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين" انفرد بهما البخاري رحمه الله.
قوله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} {يَوْمِ} بدل من {يَوْمِ} الأول. أي يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدا. والمراد بقوله: {وَلا بَنُونَ} الأعوان؛ لأن الابن إذا لم ينفع فغيره متى ينفع؟ وقيل: ذكر البنين لأنه جرى ذكر والد إبراهيم، أي لم ينفعه إبراهيم. {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} هو استثناء من الكافرين؛ أي لا ينفعه ماله ولا بنوه. وقيل: هو استثناء من غير الجنس، أي لكن {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ينفعه لسلامة قلبه. وخص القلب بالذكر؛ لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت سائر الجوارح. وقد تقدم في أول {البقرة}. واختلف في القلب السليم فقيل: من الشك والشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد؛ قال قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض؛ قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] وقال أبو عثمان السياري: هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة. وقال الحسن: سليم من آفة المال والبنين. وقال الجنيد: السليم في اللغة اللديغ؛ فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله. وقال الضحاك: السليم الخالص.

قلت: وهذا القول يجمع شتات الأقوال بعمومه وهو حسن، أي الخالص من الأوصاف الذميمة، والمتصف بالأوصاف الجميلة؛ والله أعلم. وقد روي عن عروة أنه قال: يا بني لا تكونوا لعانين فإن إبراهيم لم يلعن شيئا قط، قال الله تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84]. وقال محمد بن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير" يريد - والله أعلم - أنها مثلها في أنها خالية من ذنب، سليمة من كل عيب، لا خبرة لهم بأمور الدنيا؛ كما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر أهل الجنة البله" وهو حديث صحيح. أي البله عن معاصي الله. قال الأزهري: الأبله هنا هو الذي طبع على الخير وهو غافل عن الشر لا يعرفه. وقال القتبي: البله هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس.
الآية: [90] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}
الآية: [91] {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}
الآية: [92] {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}
الآية: [93] {مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ }
الآية: [94] {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}
الآية: [95] {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}
الآية: [96] {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}
الآية: [97] {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
الآية: [98] {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [99] {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}
الآية: [100] {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}
الآية: [101] {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}
الآية: [102] {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية: [103] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية: [104] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي قربت وأدنيت ليدخلوها. وقال الزجاج: قرب دخولهم إياها. {وَبُرِّزَتِ} أي أظهرت {الْجَحِيمُ } يعني جهنم. {لِلْغَاوِينَ}

أي الكافرين الذين ضلوا عن الهدى. أي تظهر جهنم لأهلها قبل أن يدخولها حتى يستشعروا الروع والحزن، كما يستشعر أهل الجنة الفرح لعلمهم أنهم يدخلون الجنة. {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الأصنام والأنداد {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} من عذاب الله {يَنْتَصِرُونَ} لأنفسهم. وهذا كله توبيخ. {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} أي قلبوا على رؤوسهم. وقيل: دهوروا وألقي بعضهم على بعض. وقيل: جمعوا. مأخوذ من الكبكبة وهي الجماعة؛ قاله الهروي. وقال النحاس: هو مشتق من كوكب الشيء أي معظمه. والجماعة من الخيل كوكب وكبكبة. وقال ابن عباس: جمعوا فطرحوا في النار. وقال مجاهد: دهوروا. وقال مقاتل: قذفوا. والمعنى واحد. تقول: دهورت الشيء إذا جمعته ثم قذفته في مهواة. يقال: هو يدهور اللقم إذا كبرها. ويقال: في الدعاء كب الله عدو المسلمين ولا يقال أكبه. وكبكبه، أي كبه وقلبه. ومنه قوله تعالى: {كُبْكِبُوا فِيهَا} والأصل كببوا فأبدل من الباء الوسطى كاف استثقالا لاجتماع الباءات. قال السدي: الضمير في {كُبْكِبُوا} لمشركي العرب {هُمْ وَالْغَاوُونَ} الآلهة. {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} من كان من ذريته. وقيل: كل من دعاه إلى عبادة الأصنام فاتبعه. وقال قتادة والكلبي ومقاتل: {وَالْغَاوُونَ} هم الشياطين. وقيل: إنما تلقي الأصنام في النار وهي حديد ونحاس ليعذب بها غيرهم.
{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} يعني الإنس والشياطين والغاوين والمعبودين اختصموا حينئذ. {تَاللَّهِ} حلفوا بالله {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في خسارة وتبار وحيرة عن الحق بينة إذا اتخذنا مع الله آلهة فعبدناها كما يعبد؛ وهذا معنى قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي في العبادة وأنتم لا تستطيعون الآن نصرنا ولا نصر أنفسكم .{وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} يعني الشياطين الذين زينوا لنا عبادة الأصنام. وقيل: أسلافنا الذين قلدناهم. قال أبو العالية وعكرمة: {الْمُجْرِمُونَ} إبليس وابن آدم القاتل هما أول من سن الكفر والقتل وأنواع المعاصي. {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} أي شفعاء يشفعون لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين. {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي صديق مشفق؛ وكان علي رضي الله عنه يقول: عليكم بالإخوان فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة؛

ألا تسمع إلى قول أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} الزمخشري: وجمع الشافع لكثرة الشافعين ووحد الصديق لقتله؛ ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم مضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته؛ رحمة له وحسبة وإن لمم تسبق له بأكثرهم معرفة؛ وأما الصديق فهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فأعز من بيض الأنوق؛ وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال: اسم لا معنى له. ويجوز أن يريد بالصديق الجمع والحميم القريب والخاص؛ ومنه حامة الرجل أي أقرباؤه. وأصل هذا من الحميم وهو الماء الحار؛ ومنه الحمام والحمى؛ فحامة الرجل الذين يحرقهم ما أحرقه؛ يقال: وهم حزانته أي يحزنهم ما يحزنه. ويقال: حم الشيء وأحم إذا قرب، ومنه الحمى؛ لأنها تقرب من الأجل. وقال علي بن عيسى: إنما سمي القريب حميما؛ لأنه يحمي لغضب صاحبه، فجعله مأخوذا من الحمية. وقال قتادة: يذهب الله عز وجل يوم القيامة مودة الصديق ورقة الحميم. ويجوز: "ولا صديق حميم" بالرفع على موضع {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} ؛ لأن {مِنْ شَافِعِينَ} في موضع رفع. وجمع صديق أصدقاء وصدقاء وصداق. ولا يقال صدق للفرق بين النعت وغيره. وحكى الكوفيون: أنه يقال في جمعه صدقان. النحاس: وهذا بعيد؛ لأن هذا جمع ما ليس بنعت نحو رغيف ورغفان. وحكموا أيضا صديق وأصادق. وأفاعل إنما هو جمع أفعل إذا لم يكن نعتا نحو أشجع وأشاجع. ويقال: صديق للواحد والجماعة وللمرأة؛ قال الشاعر:
نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأعين أعداء وهن صديق
ويقال: فلان صديقي أي أخص أصدقائي، وإنما يصغر على جهة المدح؛ كقول حباب بن المنذر: "أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب" ذكر الجوهري. النحاس: وجمع حميم أحماء وأحمة وكرهوا أفعلاء للتضعيف. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} {أَنَّ} في موضع رفع، المعنى ولو وقع لنا رجوع إلى الدنيا لآمنا حتى يكون لنا شفعاء. تمنوا حين لا ينفعهم التمني.

وإنما قالوا ذلك حين شفع الملائكة والمؤمنون. قال جابر بن عبدالله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل فلان وصديقه في الجحيم فلا يزال يشفع له حتى يشفعه الله فيه فإذا نجا قال المشركون: {مَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} . وقال الحسن: ما اجتمع ملأ على ذكر الله، فيهم عبد من أهل الجنة إلا شفعه الله فيهم، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض وهم عند الله شافعون مشفعون. وقال كعب: إن الرجلين كانا صديقين في الدنيا، فيمر أحدهما بصاحبه وهو يجر إلى النار، فيقول له أخوه: والله ما بقي لي إلا حسنة واحدة أنجو بها، خذها أنت يا أخي فتنجو بها مما أرى، وأبقى أنا وإياك من أصحاب الأعراف. قال: فيأمر الله بهما جميعا فيدخلان الجنة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم والحمد الله.
الآية: [105] {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}
الآية: [106] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية: [107] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}
الآية: [108] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية: [109] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [110] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية: [111] {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}
الآية: [112] {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
الآية: [113] {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ}
الآية: [114] {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية: [115] {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
الآية: [116] {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}
الآية: [117] {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ}
الآية: [118] {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية: [119] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
الآية: [120] {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ}
الآية: [121] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية: [122] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} قال {كَذَّبَتْ} والقوم مذكر؛ لأن المعنى كذبت جماعة قوم نوح، وقال: {الْمُرْسَلِينَ} لأن من كذب رسولا فقد كذب الرسل؛ لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل. وقيل: كذبوا نوحا في النبوة وفيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده. وقيل: ذكر الجنس والمراد نوح عليه السلام. وقد مضى هذا في {الفرقان} . {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أي ابن أبيهم وهي أخوة نسب لا أخوة دين. وقيل: هي أخوة المجانسة. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وقد مضى هذا في {الأعراف}. وقيل: هو من قول العرب يا أخا بني تميم. يريدون يا واحدا منهم. الزمخشري: ومنه بيت الحماسة:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
{أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تتقون الله في عبادة الأصنام. { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي صادق فيما أبلغكم عن وقيل: {أَمِينٌ} فيما بينكم؛ فإنهم كانوا عرفوا أمانته وصدقه من قبل كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أي فاستتروا بطاعة الله تعالى من عقابه. {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به من الإيمان. {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي لا طمع لي في مالكم. {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ما جزائي {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} . كرر تأكيدا.
قوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} فيه مسألتان:
الأولي- قوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} أي نصدق قولك. {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} الواو للحال وفيه إضمار قد، أي وقد اتبعك. {الأَرْذَلُونَ} جمع الأرذل، المكسر الأراذل والأنثى الرذلي والجمع الرذل. قال النحاس: ولا يجوز حذف الألف واللام في شيء من هذا عند أحد من النحويين علمناه. وقرأ ابن مسعود والضحاك ويعقوب الحضرمي وغيرهم،

{وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} . النحاس: وهي قراءة حسنة؛ وهذه الواو أكثرها تتبعها الأسماء والأفعال بقد. وأتباع جمع تبع وتبيع يكون للواحد والجمع. قال الشاعر:
له تبع قد يعلم الناس أنه ... على من يداني صيف وربيع
ارتفاع {اتْباعُكَ} يجوز أن يكون بالابتداء و {الأَرْذَلُونَ} الخبر؛ التقدير أنؤمن لك وإنما أتباعك الأرذلون. ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير في قوله: {أَنُؤْمِنُ لَكَ} والتقدير: أنؤمن لك نحن وأتباعك الأرذلون فنعد منهم؛ وحسن ذلك الفصل بقوله: {لَكَ} وقد مضى القول في الأراذل في سورة {هود} مستوفى. ونزيده هنا بيانا وهي المسألة:
الثانية- فقيل: إن الذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكناته وبنو بنيه. واختلف هل كان معهم غيرهم أم لا. وعلى أن الوجهين كان فالكل صالحون؛ وقد قال نوح: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} والذين معه هم الذين أتبعوه، ولا يلحقهم من قول الكفرة شين ولا ذم بل الأرذلون هم المكذبون لهم. قال السهيلي: وقد أغري كثير من العوام بمقالة رويت في تفسير هذه الآية: هم الحاكة والحجامون. ولو كانوا حاكة كما زعموا لكان إيمانهم بنبي الله واتباعهم له مشرفا كما تشرف بلال وسلمان بسبقهما للإسلام؛ فهما من وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فلا ذرية نوح كانوا حاكة ولا حجامين، ولا قول الكفرة في الحاكة والحجامين إن كانوا آمنوا بهم أرذلون ما يلحق اليوم بحاكتنا ذما ولا نقصا؛ لأن هذه حكاية عن قول الكفرة إلا أن يجعل الكفرة حجة ومقالتهم أصلا؛ وهذا جهل عظيم وقد أعلم الله تعالى أن الصناعات ليست بضائرة في الدين.
قوله تعالى: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {كَانَ} زائدة؛ والمعنى: وما علمي بما يعملون؛ أي لم أكلف العلم بأعمالهم إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان، والاعتبار بالإيمان لا بالحرف والصنائع؛ وكأنهم قالوا: إنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعا في العزة والمال. فقال: إني لم أقف على باطن أمرهم وإنما إلي ظاهرهم. وقيل: المعنى إني

لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويرشدهم ويغويكم ويوفقهم ويخذلكم. {إِنْ حِسَابُهُمْ} أي في أعمالهم وإيمانهم {إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} وجواب {لَوْ} محذوف؛ أي لو شعرتم أن حسابهم على ربهم لما عبتموهم بصنائعهم. وقراءة العامة: {تَشْعُرُونَ} بالتاء على المخاطبة للكفار وهو الظاهر وقرأ ابن أبي عبلة ومحمد بن السميقع: {لَوْ تَشْعُرُونَ} بالياء كأنه خبر عن الكفار وترك الخطاب لهم؛ نحو قوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22]. وروي أن رجلا سأل سفيان عن امرأة زنت وقتلت ولدها وهي مسلمة هل يقطع لها بالنار ؟ فقال: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} . {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} أي لخساسة أحوالهم وأشغالهم. وكأنهم طلبوا منه طرد الضعفاء كما طلبته قريش. {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} يعني: إن الله ما أرسلني أخص ذوي الغني دون الفقراء، إنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله وإن كان فقيرا.
قوله تعالى: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ} أي عن سب آلهتنا وعيب ديننا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أي بالحجارة؛ قال قتادة. وقال ابن عباس ومقاتل: من المقتولين. قال الثمالي: كل مرجومين في القرآن فهو القتل إلا في مريم: {لئن لم تنته لأرجمنك} [مريم: 46] أي لأسبنك. وقيل: {من المرجومين} من المشتومين؛ قاله السدي. ومنه قول أبي دؤاد. {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال ذلك لما يئس من إيمانهم. والفتح الحكم وقد تقدم. {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} يريد السفينة وقد مضى ذكرها. والمشحون المملوء، والشحن ملء السفينة بالناس والدواب وغيرهم. ولم يؤنث الفلك ها هنا؛ لأن الفلك ها هنا واحد لا جمع {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} أي بعد إنجائنا نوحا ومن آمن. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً. وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

الآية: [123] {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}
الآية: [124] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية: [125] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}
الآية: [126] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية: [127] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [128] {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}
الآية: [129] {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}
الآية: [130] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}
الآية: [131] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية: [132] {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ}
الآية: [133] {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}
الآية: [134] {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}
الآية: [135] {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
الآية: [136] {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}
الآية: [137] {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ}
الآية: [138] {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}
الآية: [139] {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية: [140] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} التأنيث بمعنى القبيلة والجماعة. وتكذيبهم المرسلين كما تقدم. {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} تقدم.
قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} الريع ما ارتفع من الأرض في قول ابن عباس وغيره، جمع ريعة. وكم ريع أرضك أي كم ارتفاعها. وقال قتادة: الريع الطريق. وهو قول الضحاك والكلبي ومقاتل والسدي. وقال ابن عباس أيضا. ومنه قول السيب بن علس:
في الآل يخفضها ويرفعها ... ريع يلوح كأنه سحل

شبه الطريق بثوب أبيض. النحاس: ومعروف في اللغة أن يقال لما ارتفع من الأرض ريع وللطريق ريع. قال الشاعر:
طراق الخوافي مشرق فوق ريعة ... ندى ليله في ريشه يترقرق
وقال عمارة: الريع الجبل الواحد ريعة والجمع رياع. وقال مجاهد: هو الفج بين الجبلين. وعنه: الثنية الصغيرة. وعنه: المنظرة. وقال عكرمة ومقاتل: كانوا يهتدون بالنجوم إذا سافروا، فبنوا على الطريق أمثالا طوالا ليهتدوا بها: يدل عليه قوله تعالى: {آيَةً} أي علامة. وعن مجاهد: الريع بنيان الحمام دليله {تَعْبَثُونَ} أي تلعبون؛ أي تبنون بكل مكان مرتفع آية. علما تلعبون بها على معنى أبنية الحمام وبروجها. وقيل: تعبثون بمن يمر في الطريق. أي تبنون بكل موضع مرتفع لتشرفوا على السابلة فتسخروا منهم. وقال الكلبي: إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم؛ ذكره الماوردي. وقال ابن الأعرابي: الربع الصومعة، والريع البرج من الحمام يكون في الصحراء. والريع التل العالي. وفي الريع لغتان: كسر الراء وفتحها وجمعها أرياع، ذكره الثعلبي.
قوله تعالى: {وتتخذون مصانع} أي منازل؛ قاله الكلبي. وقيل: حصونا مشيدة؛ قال ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشاعر:
تركنا ديارهم منهم قفارا ... وهدمنا المصانع والبروجا
وقيل: قصورا مشيدة؛ وقاله مجاهد أيضا. وعنه: بروج الحمام؛ وقاله السدي. قلت: وفيه بعد عن مجاهد؛ لأنه تقدم عنه في الريع أنه بنيان الحمام فيكون تكرارا في الكلام. وقال قتادة: مآجل للماء تحت الأرض. وكذا قال الزجاج: إنها مصانع الماء، واحدتها مصنعة ومصنع. ومنه قول لبيد:
بلينا وما تبلي النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

الجوهري: المصنعة كالحوض يجتمع فيها ماء المطر، وكذلك المصنعة بضم النون. والمصانع الحصون. وقال أبو عبيدة: يقال لكل بناء مصنعة. حكاه المهدوي. وقال عبدالرزاق: المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العادية. {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي كي تخلدوا. وقيل: لعل استفهام بمعنى التوبيخ أي فهل {تَخْلُدُونَ} كقولك: لعلك تشتمني أي هل تشتمني. روي معناه عن ابن زيد. وقال الفراء: كيما تخلدون لا تتفكرون في الموت. وقال ابن عباس وقتادة: كأنكم خالدون باقون فيها. وفي بعض القراءات {كأنكم تَخْلُدُونَ} ذكره النحاس. وحكى قتادة: أنها كانت في بعض القراءات {كأنكم خْالُدُونَ} .
قوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} البطش السطوة والأخذ بالعنف وقد بطش به يبطش ويبطش بطشا. وباطشه مباطشة. وقال ابن عباس ومجاهد: البطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط. ومعنى ذلك فعلتم ذلك ظلما. وقال مجاهد أيضا: هو ضرب بالسياط ؛ ورواه مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر فيما ذكر ابن العربي. وقيل: هو القتل بالسيف في غير حق. حكاه يحيى بن سلام. وقال الكلبي والحسن: هو القتل على الغصب من غير تثبت. وكله يرجع إلى قول ابن عباس. وقيل: إنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير عفو ولا إبقاء. قال ابن العربي: ويؤيد ما قال مالك قول الله تعالى عن موسى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ} [القصص: 19] وذلك أن موسى عليه السلام لم يسل عليه سيفا ولا طعنه برمح، وإنما وكزه وكانت منيته في وكزته. والبطش يكون باليد وأقله الوكز والدفع، ويليه السوط والعصا، ويليه الحديد، والكل مذموم إلا بحق. والآية نزلت خبرا عمن تقدم من الأمم، ووعظا من الله عز وجل لنا في مجانبة ذلك الفعل الذي ذمهم به وأنكره عليهم.
قلت: وهذه الأوصاف المذمومة قد صارت في كثير من هذه الأمة، لا سيما بالديار المصرية منذ وليتها البحرية؛ فيبطشون بالناس بالسوط والعصا في غير حق. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم

أن ذلك يكون. كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" . وخرج أبو دواد من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" . {جَبَّارِينَ} قتالين. والجبار القتال في غير حق. وكذلك قوله تعالى: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ} [القصص: 19] قاله الهروي. وقيل: الجبار المتسلط العاتي؛ ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] أي بمسلط. وقال الشاعر:
سلبنا من الجبار بالسيف ملكه ... عشيا وأطراف الرماح شوارع
قوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} تقدم. {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أي من الخيرات؛ ثم فسرها بقوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي سخر ذلك لكم وتفضل بها عليكم، فهو الذي يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر. {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إن كفرتم به وأصررتم على ذلك. {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} كل ذلك عندنا سواء لا نسمع منك ولا نلوي على ما تقوله. وروى العباس عن أبي عمرو وبشر عن الكسائي: " أَوَعَظْتَ " مدغمة الظاء في التاء وهو بعيد؛ لأن الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدا وكان مثله ومخرجه. {إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ} أي دينهم؛ عن ابن عباس وغيره. وقال الفراء: عادة الأولين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} . الباقون {خُلُقُ} . قال الهروي: وقول عز وجل: {إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ} أي اختلافهم وكذبهم، ومن قرأ: {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} فمعناه عادتهم، والعرب تقول: حدثنا فلان بأحاديث الخلق أي بالخرافات والأحاديث المفتعلة. وقال ابن الأعرابي:

الخلق الدين والخلق الطبع والخلق المروءة. قال النحاس: {خَلُقُ الأَوَّلِينَ} عند الفراء يعني عادة الأولين. وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال: {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} مذهبهم وما جرى عليه أمرهم؛ قال أبو جعفر: والقولان متقاربان، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" أي أحسنهم مذهبا وعادة وما يجري عليه الأمر في طاعة الله عز وجل، ولا يجوز أن يكون من كان حسن الخلق فاجرا فاضلا، ولا أن يكون أكمل إيمانا من السيئ الحلق الذي ليس بفاجر. قال أبو جعفر: حكي لنا عن محمد بن يزيد أن معنى {خَلُقُ الأَوَّلِينَ} تكذيبهم وتخرصهم غير أنه كان يميل إلى القراءة الأولى؛ لأن فيها مدح آبائهم، وأكثر ما جاء القرآن في صفتهم مدحهم لآبائهم، وقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 23]. وعن أبي قلابة: أنه قرأ: {خُلْقُ} بضم الخاء وإسكان اللام تخفيف {خُلُقُ} . ورواها ابن جبير عن أصحاب نافع عن نافع. وقد قيل: إن معنى {خلق الأولين} دين الأولين. ومنه قوله تعالى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] أي دين الله. و {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} عادة الأولين: حياة ثم موت ولا بعث. وقيل: ما هذا الذي أنكرت علينا من البنيان والبطش إلا عادة من قبلنا فنحن نقتدي بهم. {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نفعل. وقيل: المعنى خلق أجسام الأولين؛ أي ما خلقنا إلا كخلق الأولين الذين خلقوا قبلنا وماتوا، ولم ينزل بهم شيء مما تحذرنا به من العذاب. {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أي بريح صرصر عاتية على ما يأتي في {الْحَاقَّةُ} . {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} قال بعضهم: أسلم معه ثلاثمائة ألف ومئون وهلك باقيهم. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
الآية: [141] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ}
الآية: [142] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية: [143] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}
الآية: [144] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية: [145] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [146] {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ}
الآية: [147] {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}

الآية: [148] {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}
الآية: [149] {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ}
الآية: [150] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية: [151] {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}
الآية: [152] {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}
الآية: [153] {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}
الآية: [154] {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
الآية: [155] {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}
الآية: [156] {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
الآية: [157] {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}
الآية: [158] {أَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية: [159] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} ذكر قصة صالح وقومه وهم ثمود؛ وكانوا يسكنون الحجر كما تقدم في {الحجر} وهي ذوات نخل وزروع ومياه. {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} يعني في الدنيا آمنين من الموت والعذاب. قال ابن عباس: كانوا معمرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم. ودل على هذا قوله: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] فقرعهم صالح ووبخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}. الزمخشري: فإن قلت لم قال: {وَنَخْلٍ} بعد قوله: و {جَنَّاتٍ} والجنات تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخل كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل قال زهير:
كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا
يعني النخل؛ والنخلة السحوق البعيدة الطول.
قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيها على انفراده عنها بفضله عنها. والقاني: أن يريد بالجنات غيرها من الشجر؛ لأن اللفظ

يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل. والطلعة هي التي تطلع من النخلة كنصل السيف؛ في جوفه شماريخ القنو، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. و {هَضِيمٌ} قال ابن عباس: لطيف ما دام في كفراه. والهضيم اللطيف الدقيق؛ ومنه قول امرئ القيس:
علي هضيم الكشح ريا المخلخل
الجوهري: ويقال للطلع هضيم ما لم يخرج من كفراه؛ لدخول بعضه في بعض. والهضيم من النساء اللطيفة الكشحين. ونحوه حكى الهروي؛ قال: هو المنضم في وعائه قبل أن يظهر؛ ومنه رجل هضيم الجنبين أي منضمهما؛ هذا قول أهل اللغة. وحكى الماوردي وغيره في ذلك اثني عشر قولا: أحدها: أنه الرطب اللين؛ قال عكرمة. الثاني: هو المذنب من الرطب؛ قاله سعيد بن جبير. قال النحاس: وروى أبو إسحاق عن يزيد - هو ابن أبي زياد كوفي ويزيد بن أبي مريم شامي – {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: منه ما قد أرطب ومن ه مذنب. الثالث: أنه الذي ليس فيه نوى؛ قاله الحسن. الرابع: أنه المتهشم المتفتت إذا مس تفتت؛ قال مجاهد. وقال أبو العالية: يتهشم في الفم. الخامس: هو الذي قد ضمر بركوب بعضه بعضا؛ قاله الضحاك ومقاتل. السادس: أنه المتلاصق بعضه ببعض؛ قال أبو صخر. السابع: أنه الطلع حين يتفرق ويخضر؛ قاله الضحاك أيضا. الثامن: أنه اليانع النضيج؛ قاله ابن عباس.
التاسع: أنه المكتنز قبل أن ينشق عنه القشر؛ حكاه ابن شجرة؛ قال:
كأن حمولة تجلى عليه ... هضيم ما يحس له شقوق
العاشر: أنه الرخو؛ قال الحسن. الحادي عشر: أنه الرخص اللطيف أول ما يخرج وهو الطلع النضيد؛ قاله الهروي. الثاني عشر: أنه البرني؛ قاله ابن الأعرابي؛ فعيل بمعنى فاعل أي هنيء مريء من انهضام الطعام. والطلع اسم مشتق من الطلوع وهو الظهور؛ ومنه طلوع الشمس والقمر والنبات.

قوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} النحت النجر والبري؛ نحته ينحته "بالكسر" نحتا إذا براه والنحاتة البراية. والمنحت ما ينحت به. وفي {وَالصَّافَّاتِ} قال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95]. وكانوا ينحتونها من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: {فَرِهِينَ} بغير ألف. الباقون: {فَارِهِينَ} بألف وهما بمعنى واحد في قول أبي عبيدة وغيره؛ مثل: {عِظَاماً نَخِرَةً} [النازعات: 11] و {نَاخِرَةً}. وحكاه قطرب. وحكى فره يفره فهو فاره وفره يفره فهو فره وفاره إذا كان نشيطا. وهو نصب على الحال. وفرق بينهما قوم فقالوا: {فَارِهِينَ} حاذقين بنحتها؛ قاله أبو عبيدة ؛ وروي عن ابن عباس وأبي صالح وغيرهما. وقال عبدالله بن شداد: {فَارِهِينَ} متجبرين. وروي عن ابن عباس أيضا أن معنى: {فَرِهِينَ} بغير ألف أشرين بطرين؛ وقاله مجاهد. وروى عنه شرهين. الضحاك: كيسين. قتادة: معجبين؛ قاله الكلبي؛ وعنه: ناعمين. وعنه أيضا آمنين؛ وهو قول الحسن. وقيل: متخيرين؛ قاله الكلبي والسدي. ومنه قال الشاعر:
إلى فره يماجد كل أمر ... قصدت له لأختبر الطباعا
وقيل: متعجبين؛ قال خصيف. وقال ابن زيد: أقوياء. وقيل: فرهين فرحين؛ قاله الأخفش. والعرب تعاقب بين الهاء والحاء؛ تقول: مدهته ومدحته؛ فالفره الأشر الفرح ثم الفرح بمعنى المرح مذموم؛ قال الله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء: 37] وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} قيل: المراد الذين عقروا الناقة. وقيل: التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. قال السدي وغيره: أوحى الله تعالى إلى صالح: إن قومك سيعقرون ناقتك؛ فقال لهم ذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل. فقال لهم صالح: إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون هلاككم على يديه؛ فقالوا: لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه. فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم، ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه وكان لم يولد له قبل ذلك. وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا؛ وكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا.

وغضب التسعة على صالح؛ لأنه كان سبب قتلهم أبناءهم فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. قالوا: نخرج إلى سفر فترى الناس سفرنا فنكون في غار، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه، ثم قلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون؛ فيصدقوننا ويعلمون أنا قد خرجنا إلى سفر. وكان صالح لا ينام معهم في القرية وكان يأوي إلى مسجده، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم، فلما دخلوا الغار أرادوا أن يخرجوا فسقط عليهم الغار فقتلهم، فرأى ذلك ناس ممن كان قد أطلع على ذلك، فصاحوا في القرية: يا عباد الله! أما رضي صالح أن أمر بقتل أولادهم حتى قتلهم؛ فأجمع أهل القرية على قتل الناقة. وقال ابن إسحاق: إنما اجتمع التسعة على سب صالح بعد عقرهم الناقة وإنذارهم بالعذاب على ما يأتي بيانه في سورة {النمل} إن شاء الله تعالى. {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} هو من السحر في قول مجاهد وقتادة على ما قال المهدوي. أي أصبت بالسحر فبطل عقلك ؛ لأنك بشر مثلنا فلم تدع الرسالة دوننا. وقيل: من المعللين بالطعام والشراب؛ قاله ابن عباس والكلبي وقتادة ومجاهد أيضا فيما ذكر الثعلبي. وهو على هذا القول من السحر وهو الرئة أي بشر لك سحر أي رئة تأكل وتشرب مثلنا كما قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال امرؤ القيس:
ونسحر بالطعام وبالشراب
{فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في قولك. {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} قال ابن عباس: قالوا إن كنت صادقا فادع الله يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عشراء فتضع ونحن ننظر، وترد هذا الماء فتشرب وتغدو علينا بمثله لبنا. فدعا الله

وفعل الله ذلك فـ {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ} أي حظ من الماء؛ أي لكم شرب يوم ولها شرب يوم؛ فكانت إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله أول النهار وتسقيهم اللبن آخر النهار، وإذا كان يوم شربهم كان لأنفسهم ومواشيهم وأرضهم، ليس لهم في يوم ورودها أن يشربوا من شربها شيئا، ولا لها أن تشرب في يومهم من مائهم شيئا. قال الفراء: الشرب الحظ من الماء. قال النحاس: فأما المصدر فيقال فيه شرب شربا وشربا وشربا وأكثرها المضمومة؛ لأن المكسورة والمفتوحة يشتركان مع شيء آخر فيكون الشرب الحظ من الماء، ويكون الشرب جمع شارب كما قال:
فقلت للشَّرب في دُرْنا وقد ثملوا
إلا أن أبا عمرو بن العلاء والكسائي يختاران الشَّرب بالفتح في الصدر، ويحتجان برواية بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنها أيام أكل وشَرب" . {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} لا يجوز إظهار التضعيف ها هنا؛ لأنهما حرفان متحركان من جنس واحد. {فَيَأْخُذَكُمْ} جواب النهي، ولا يجوز حذف الفاء منه، والجزم كما جاء في الأمر إلا شيئا روي عن الكسائي أنه يجيزه. {فعقروها فأصبحوا نادمين} أي على عقرها لما أيقنوا بالعذاب. وذلك أنه أنظرهم ثلاثا فظهرت عليهم العلامة في كل يوم، وندموا ولم ينفعهم الندم عند معاينة العذاب. وقيل: لم ينفعهم الندم لأنهم لم يتوبوا، بل طلبوا صالحا عليه السلام ليقتلوه لما أيقنوا بالعذاب. وقيل: كانت ندامتهم على ترك الولد إذ لم يقتلوه معها. وهو بعيد. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} إلى آخره تقدم. ويقال: إنه ما آمن به من تلك الأمم إلا ألفان وثمانمائة رجل وامرأة. وقيل: كانوا أربعة آلاف. وقال كعب: كان قوم صالح اثني عشر ألف قبيل كل قبيل نحو اثني عشر ألفا من سوى النساء والذرية، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات.

الآية: [160] {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}
الآية: [161] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية: [162] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}
الآية: [163] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية: [164] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [165] {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ}
الآية: [166] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}
الآية: [167] {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}
الآية: [168] {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ}
الآية: [169] {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}
الآية: [170]{ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ}
الآية: [171] {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ }
الآية: [172] {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ}
الآية: [173] {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}
الآية: [174] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية: [175] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} مضى معناه وقصته في الأعراف وهود مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} كانوا ينكحونهم في أدبارهم وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدم {في الْأَعْرَافِ}. {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} يعني فروج النساء فإن الله خلقها للنكاح. قال إبراهيم بن مهاجر: قال لي مجاهد كيف يقرأ عبد الله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قلت: {وَتَذَرُونَ مَا أصلح لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قال: الفرج؛ كما قال: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي متجاوزون لحدود الله. {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ} عن قولك هذا. {لَتَكُونَنَّ

مِنَ الْمُخْرَجِينَ} أي من بلدنا وقريتنا. {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ} يعني اللواط {مِنَ الْقَالِينَ} أي المبغضين والقلى البغض؛ قليته أقليه قلى وقلاء. قال:
فلست بمقلي الخلال ولا قالي
وقال آخر:
عليك السلام لا مللت قريبة ... ومالك عندي إن نأيت قلاء
{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} من عذاب عملهم. دعا الله لما أيس من إيمانهم ألا يصيبه من عذابهم.
قال تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} ولم يكن إلا ابنتاه على ما تقدم في {هود}. {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} روى سعيد عن قتادة قال: غبرت في عذاب الله عز وجل أي بقيت. وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت. قال النحاس: يقال للذاهب غابر والباقي غابر كما قال:
لا تكسع الشَّول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
وكما قال:
فما ونى محمد مذ أن غفر ... له الإله ما مضى وما غبر
أي ما بقي. والأغبار بقيات الألبان. {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} أي أهلكناهم بالخسف والحصب؛ قال مقاتل: خسف الله بقوم لوط وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً} يعني الحجارة {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} وقيل: إن جبريل خسف بقريتهم وجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها الله بالحجارة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} لم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط وابنتاه.

الآية: [176] {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}
الآية: [177] {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ}
الآية: [178] {إني لكم رسول أمين}
الآية: [179] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
الآية: [180] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [181] {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ}
الآية: [182] {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}
الآية: [183] {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
الآية: [184] {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}
الآية: [185] {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}
الآية: [186] {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}
الآية: [187] {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
الآية: [188] {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}
الآية: [189] {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
الآية: [190] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
الآية: [191] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} الأيك الشجر المتلف الكثير الواحدة أيكة. ومن قرأ: {أَصْحَابُ لأَيْكَةِ} فهي الغيضة. ومن قرأ: {لَيْكَةِ} فهو اسم القرية. ويقال: هما مثل بكة ومكة؛ قاله الجوهري. وقال النحاس: وقرأ أبو جعفر ونافع: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} وكذا قرأ: في {ص}. وأجمع القراء على الخفض في التي في سورة {الحجر} والتي في سورة {ق} فيجب أن يرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحدا. وأما ما حكاه أبو عبيد من أن {لَيْكَةِ} هي اسم القرية التي كانوا فيها وأن {الأَيْكَةِ} اسم البلد فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله فيثبت علمه، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر؛ لأن أهل العلم جميعا من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه.

وروى عبد الله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال: أرسل شعيب عليه السلام إلى أمتين: إلى قومه من أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة؛ قال: والأيكة غيضة من شجر متلف. وروى سعيد عن قتادة قال: كان أصحاب الأيكة أهل غيضة وشجر وكانت عامة شجرهم الدوم وهو شجر المقل. وروى ابن جبير عن الضحاك قال: خرج أصحاب الأيكة - يعني حين أصابهم الحر - فانضموا إلى الغيضة والشجر، فأرسل الله عليهم سحابة فاستظلوا تحتها، فلما تكاملوا تحتها أحرقوا. ولو لم يكن هذا إلا ما روي عن ابن عباس قال: و {الْأَيْكَةِ} الشجر. ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافا أن الأيكة الشجر الملتف، فأما احتجاج بعض من احتج بقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح أنه في السواد {لَيْكَةِ} فلا حجة له؛ والقول فيه: إن أصله الأيكة ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل؛ لأن اللام قد تحركت فلا يجوز عل هذا إلا الخفض؛ كما تقول بالأحمر تحقق الهمزة ثم تخفضها بلحمر؛ فإن شئت كتبته في الخط على ما كتبته أولا، وإن شئت كتبته بالحذف؛ ولم يجز إلا الخفض؛ قال سيبويه: وأعلم أن ما لا ينصرف إذا دخلت عليه الألف واللام أو أضيف أنصرف؛ ولا نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا. وقال الخليل: {الأَيْكَةِ} غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر. {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} ولم يقل أخوهم شعيب؛ لأنه لم يكن أخا لأصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال: {أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: 85] ؛ لأنه كان منهم. وقد مضى في {الأعراف} القول في نسبه. قال ابن زيد: أرسل الله شعيبا رسولا إلى قومه أهل مدين، وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة؛ وقال قتادة. وقد ذكرناه. {أَلا تَتَّقُونَ} تخافون الله {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} الآية. وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحدا على صيغة واحدة؛ لأنهم متفقون على الأمر بالتقوى، والطاعة والإخلاص في العبادة، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة. {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} الناقصين للكيل

والوزن. {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي أعطوا الحق. وقد مضى في {سُبْحَانَ} وغيرها. {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} تقدم في {سُبْحَانَ} وغيرها.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} قال مجاهد: الجبلة هي الخليقة. وجبل فلان على كذا أي خلق؛ فالخُلُق جِبِلَّة وجُبُلَّة وجِبْلة وجُبْلة وجَبْلة ذكره النحاس في "معاني القرآن". {وَالْجِبِلَّةَ} عطف على الكاف والميم. قال الهروي: الجِبِلَّة والجُبْلَة والجِبِلّ والجُبُلّ والجَبْلُ لغات؛ وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس؛ ومنه قوله تعالى: {جِبِلاً كَثِيراً} [يس: 62]. قال النحاس في كتاب "إعراب القرآن" له: ويقال جُبُلَّة والجمع فيهما جَبَّال، وتحذف الضمة والكسرة من الباء، وكذلك التشديد من اللام؛ فيقال: جُبْلة وجُبَل، ويقال: جِبْلة وجِبال؛ وتحذف الهاء من هذا كله. وقرأ الحسن باختلاف عنه: {والجُبُلَّة الأولين} بضم الجيم والباء؛ وروي عن شيبة والأعرج. الباقون بالكسر. قال:
والموت أعظم حادث ... فيما يمر على الجِبِلّه
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} الذين يأكلون الطعام والشراب على ما تقدم. {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} أي ما نظنك إلا من الكاذبين في أنك رسول الله تعالى. {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} أي جانبا من السماء وقطعة منه، فننظر إليه؛ كما قال: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44]. وقيل: أرادوا أنزل علينا العذاب. وهو مبالغة في التكذيب. قال أبو عبيدة: الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة. وقرأ السلمي وحفص: {كِسْفاً} جمع كسْفة أيضا وهي القطعة والجانب تقديره كِسْرة وكسَر. قال الجوهري: الكسفة القطعة من الشيء، يقال أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسَف وكسْف. ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش: من قرأ: {كِسْفاً} جعله واحدا ومن قرأ: {كِسْفاً} جعله جمعا. وقد مضى هذا في سورة {سُبْحَانَ} وقال الهروي: ومن قرأ: {كسفا} على التوحيد فجمعه أكساف وكسوف، كأنه قال أو تسقطه علينا طبقا واحدا،

وهو من كسفت الشيء كسفا إذا غطيته. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} تهديد؛ أي إنما علي التبليغ وليس العذاب الذي سألتم وهو يجازيكم. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} قال ابن عباس: أصابهم حر شديد، فأرسل الله سبحانه سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا. وقيل: أقامها الله فوق رؤوسهم، وألهبها حرا حتى ماتوا من الرمد. وكان من أعظم يوم في الدنيا عذابا. وقيل: بعث الله عليهم سموما فخرجوا إلى الأيكة يستظلون بها فأضرمها الله عليهم نارا فاحترقوا. وعن ابن عباس أيضا وغيره: إن الله تعالى فتح عليهم بابا من أبواب جهنم، وأرسل عليهم هدة وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر، فخرجوا هربا إلى البرية، فبعث الله عز وجل سحابة فأظلتهم فوجدوا لها بردا وروحا وريحا طيبة، فنادى بعضهم بعضا، فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله تعالى عليهم نارا، ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى، فصاروا رمادا؛ فذلك قوله: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود: 68] وقوله: {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم } . وقيل: إن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام، وسلط عليهم الحر حتى أخذ بأنفاسهم، ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب، ليتبردوا فيها فيجدوها أشد حرا من الظاهر. فهربوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة وهي الظلة، فوجدوا لها بردا ونسيما، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وقال يزيد الجريري: سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم رفع لهم جبل من بعيد" فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون وشجر وماء بارد، فاجتمعوا كلهم تحته، فوقع عليهم الجبل وهو الظلة. وقال قتادة: بعث الله شعيبا إلى أمتين: أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلك الله أصحاب الأيكة بالظلة، وأما أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين .{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} قيل: آمن بشعيب من الفئتين تسعمائة نفر.

الآية: [192] {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [193] {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}
الآية: [194] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}
الآية: [195] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
الآية: [196] {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} عاد إلى ما تقدم بيانه في أول السورة من إعراض المشركين عن القرآن. {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} مخففا قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو. الباقون: {نَزَلَ} مشددا {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} نصبا وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد لقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ} وهو مصدر نزل، والحجة لمن قرأ بالتخفيف أن يقول ليس هذا بمقدر، لأن المعنى وإن القرآن لتنزيل رب العالمين نزل به جبريل إليك؛ كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97] أي يتلوه عليك فيعيه قلبك. وقيل: ليثبت قلبك. "أي يتلوه عليك فيعيه قلبك. وقيل: ليثبت قلبك. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي لئلا يقولوا لسنا نفهم ما تقول. {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني الأنبياء. وقيل: أي إن ذكر محمد عليه السلام في كتب الأولين؛ كما قال تعالى: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] والزبر الكتب الواحد زبور كرسول ورسل؛ وقد تقدم.
الآية: [197] {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ}
الآية: [198] {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ}
الآية: [199] {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}
الآية: [200] {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}
الآية: [201] {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}
الآية: [202] {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
الآية: [203] {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ}
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} قال مجاهد: يعني عبدالله بن سلام وسلمان وغيرهما ممن أسلم. وقال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة

يسألونهم عن محمد عليه السلام، فقالوا: إن هذا لزمانه، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته. فيرجع لفظ العلماء إلى كل من كان له علم بكتبهم أسلم أو لم يسلم على هذ القول. وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين؛ لأنهم كانوا يرجعون في أشياء من أمور الدين إلى أهل الكتاب؛ لأنهم مظنون بهم علم. وقرأ ابن عامر: {أَوَلَمْ تكُنْ لَهُمْ آيَةً} . الباقون {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} بالنصب على الخبر واسم يكن {أَنْ يَعْلَمَهُ} والتقدير أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل الذين أسلموا آية واضحة. وعلى القراءة الأولى اسم كان {آيَةً} والخبر {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} . وقرأ عاصم الجحدري: {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} . {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} أي على رجل ليس بعربي اللسان {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ} بغير لغة العرب لما أمنوا ولقالوا لا نفقه. نظيره: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} [فصلت: 44] الآية. وقيل: معناه ولو نزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة وكبرا. يقال: رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح وإن كان عربيا، ورجل عجمي وإن كان فصيحا ينسب إلى أصله؛ إلا أن الفراء أجاز أن يقال رجل عجمي بمعنى أعجمي. وقرأ الحسن {عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِيَّينَ} مشددة بياءين جعله نسبة. ومن قرأ: {الأَعْجَمِينَ} فقيل: إنه جمع أعجم. وفيه بعد؛ لأن ما كان من الصفات الذي مؤنثه فعلاء لا يجمع بالواو والنون، ولا بالألف والتاء؛ لا يقال أحمرون ولا حمراوات. وقيل: إن أصله الأعجمين كقراءة الجحدوي ثم حذفت ياء النسب، وجعل جمعه بالياء والنون دليلا عليها. قاله أبو الفتح عثمان بن جني. وهو مذهب سيبويه.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} يعني القرآن أي الكفر به {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} وقيل: سلكنا التكذيب في قلوبهم؛ فذلك الذي منعهم من الإيمان، قاله يحيى بن سلام وقال عكرمة: القسوة. والمعنى متقارب وقد مضى في {الحجر} وأجاز الفراء الجزم في {لا يُؤْمِنُونَ} ؛ لأن فيه معنى الشرط والمجازاة. وزعم أن من شأن العرب إذا وضعت لا موضع كي لا في مثل هذا ربما جزمت ما بعدها وربما رفعت؛ فتقول: ربطت

الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم، لأن معناه إن لم أربطه ينفلت، والرفع بمعنى كيلا ينفلت. وأنشد لبعض بني عقيل:
وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا ... مساكنه لا يقرف الشر قارف
بالرفع لما حذف كي. ومن الجزم قول الآخر:
لطالما حلأتماها لا ترد ... فخلياها والسجال تبترد
قال النحاس: وهذا كله في {يُؤْمِنُونَ} خطأ عند البصريين، ولا يجوز الجزم بلا جازم، ولا يكون شيء يعمل عملا فإذا حذف عمل عملا أقوي، من عمله وهو موجود، فهذا احتجاج بيِّن {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي العذاب. وقرأ الحسن: {فَتَأْتِيَهُمْ} بالتاء، والمعني: فتأتيهم الساعة بغتة فأضمرت لدلالة العذاب الواقع فيها، ولكثرة ما في القرآن من ذكرها. وقال رجل للحسن وقد قرأ: {فَتَأْتِيَهُمْ} : يا أبا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة. فانتهره وقال: إنما هي الساعة تأتيهم بغتة أي فجأة. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بإتيانها. {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} أي مؤخرون وممهلون. يطلبون الرجعة هنالك فلا يجابون إليها. قال القشيري: وقوله: {فَيَأْتِيَهُمْ} ليس عطفا على قوله: {حَتَّى يَرَوُا} بل هو جواب قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} فلما كان جوابا للنفي انتصب، وكذلك قوله: {فَيَقُولُوا}.
الآية: [204] {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}
الآية: [205] {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}
الآية: [206] {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}
الآية: [207] {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}
الآية: [208] {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ}
الآية: [209] {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}
قوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} قال مقاتل: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتي به! فنزلت: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} . {أَفَرَأَيْتَ

إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} يعني في الدنيا والمراد أهل مكة في قول الضحاك وغيره. {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} من العذاب والهلاك {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} {مَا} الأولى استفهام معناه التقرير، وهو في موضع نصب بـ {أَغْنَى} و {مَا} الثانية في موضع رفع، ويجوز أن تكون الثانية نفيا لا موضع لها. وقيل: {مَا} الأولى حرف نفي، و {مَا} الثانية في موضع رفع بـ {أَغْنَى} والهاء العائدة محذوفة. والتقدير: ما أغنى عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه. وعن الزهري: إن عمر بن عبدالعزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} ثم يبكي ويقول:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم ... ولا أنت في النوام ناج فسالم
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى ... كما سر باللذات في النوم حالم
وتسعى إلى ما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} {مِنْ} صلة؛ المعنى: وما أهلكنا قرية. {إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ} أي رسل. {ذِكْرَى} قال الكسائي: {ذِكْرَى} في موضع نصب على الحال. النحاس: وهذا لا يحصل، والقول فيه قول الفراء وأبي إسحاق أنها في موضع نصب على المصدر؛ قال الفراء: أي يذكرون ذكرى؛ وهذا قول صحيح؛ لأن معنى {لاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ} إلا لها مذكرون. و {ذِكْرَى} لا يتبين فيه الإعراب؛ لأن فيها ألفا مقصورة. ويجوز {ذِكْرَى} بالتنوين، ويجوز أن يكون {ذِكْرَى} في موضع رفع على إضمار مبتدأ. قال أبو إسحاق: أي إنذارنا ذكرى. وقال الفراء: أي ذلك ذكرى، وتلك ذكرى. وقال ابن الأنباري قال بعض المفسرين: ليس في {الشعراء} وقف تام إلا قوله {إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ} وهذا عندنا وقف حسن؛ ثم يبتدئ {ذِكْرَى} على معنى هي ذكرى أي يذكرهم ذكرى، والوقف على {ذِكْرَى} أجود. {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم:

الآية: [210] {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}
الآية: [211] {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}
الآية: [212] {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}
الآية: [213] {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}
قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} يعني القرآن بل ينزل به الروح الأمين. {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} أي برمي الشهب كما مضى في سورة {الحجر} بيانه. وقرأ الحسن ومحمد بن السميقع: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِونُ} قال المهدوي: وهو غير جائز في العربية ومخالف للخط. وقال النحاس: وهذا غلط عند جميع النحويين؛ وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: هذا غلط عند العلماء، إنما يكون بدخول شبهة؛ لما رأى الحسن في آخره ياء ونونا وهو في موضع رفع اشتبه عليه بالجمع المسلم فغلط، وفي الحديث: "احذروا زلة العالم" وقد قرأ هو مع الناس: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] ولو كان هذا بالواو في موضع رفع لوجب حذف النون للإضافة. وقال الثعلبي: قال الفراء: غلط الشيخ - يعني الحسن - فقيل ذلك للنضر بن شميل فقال: إن جاز أن يحتج بقول رؤبة والعجاج وذويهما، جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه. مع أنا نعلم أنهما لم يقرأ بذلك إلا وقد سمعا في ذلك شيئا؛ وقال المؤرج: إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه. وقال يونس بن حبيب: سمعت أعرابيا يقول دخلنا بساتين من ورائها بساتون؛ فقلت: ما أشبه هذا بقراءة الحسن.
قوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} قيل: المعنى قل لمن كفر هذا. وقيل: هو مخاطبة له عليه السلام وإن كان لا يفعل هذا؛ لأنه معصوم مختار ولكنه خوطب بهذا والمقصود غيره. ودل على هذا قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} أي لا يتكلون على نسبهم وقرابتهم فيدعون ما يجب عليهم.

الآية: [214] {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
الآية: [215] {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية: [216] {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}
الآية: [217] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}
الآية: [218] {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}
الآية: [219] {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}
الآية: [22] {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} خص عشيرته الأقربين بالإنذار؛ لتنحسم أطماع سائر عشيرته وأطماع الأجانب في مفارقته إياهم على الشرك. وعشيرته الأقربون قريش. وقيل: بنو عبد مناف. ووقع في صحيح مسلم: " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين". وظاهر هذا أنه كان قرآنا يتلى وأنه نسخ؛ إذ لم يثبت نقله في المصحف ولا تواتر. ويلزم على ثبوته إشكال؛ وهو أنه كان يلزم عليه ألا ينذر إلا من آمن من عشيرته؛ فإن المؤمنين هم الذين يوصفون بالإخلاص في دين الإسلام وفي حب النبي صلى الله عليه وسلم لا المشركون؛ لأنهم ليسوا على شيء من ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا عشيرته كلهم مؤمنهم وكافرهم، وأنذر جميعهم ومن معهم ومن يأتي بعدهم صلي الله عليه وسلم؛ فلم يثبت ذلك نقلا ولا معنى. وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال: "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبدالمطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها".

الثانية- في هذا الحديث والآية دليل على أن القرب في الأنساب لا ينفع مع البعد في الأسباب، ودليل على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته؛ لقوله: "إن لكم رحما سأبلها ببلالها" وقوله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الآية، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله.
قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} تقدم في سورة {الحجر} و{سبحان} يقال: خفض جناحه إذا لان. {فَإِنْ عَصَوْكَ} أي خالفوا أمرك. {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي بريء من معصيتكم إياي؛ لأن عصيانهم إياه عصيان لله عز وجل، لأنه عليه السلام لا يأمر إلا بما يرضاه، ومن تبرأ منه فقد تبرأ الله منه.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي فوض أمرك إليه فإنه العزيز الذي لا يغالب، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه. وقرأ العامة: {وَتَوَكَّلْ} بالواو وكذلك هو في مصاحفهم.
وقرأ نافع وابن عامر: {فَتَوَكَّلْ كل} بالفاء وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام. {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي حين تقوم إلى الصلاة في قول أكثر المفسرين: ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: يعني حين تقوم حيثما كنت. {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قال مجاهد وقتادة: في المصلين. وقال ابن عباس: أي في أصلاب الآباء، آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيا. وقال عكرمة: يراك قائما وراكعا وساجدا؛ وقاله ابن عباس أيضا. وقيل: المعني؛ إنك ترى بقلبك في صلاتك من خلفك كما ترى بعينك من قدامك. وروي عن مجاهد، ذكره الماوردي والثعلبي. وكان عليه السلام يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، وذلك ثابت في الصحيح وفي تأويل الآية بعيد {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تقدم.
الآية: [221] {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}
الآية: [222] {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}
الآية: [223] {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}

قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}
إنما قال: {تَنَزَّلُ} لأنها أكثر ما تكون في الهواء، وأنها تمر في الريح. {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} تقدم في {الحجر}.فـ {ـيُلْقُونَ السَّمْعَ} صفة الشياطين {وأكثرهم} يرجع إلى الكهنة. وقيل: إلى الشياطين.
الآية: [224] {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}
الآية: [225] {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}
الآية: [226] {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}
الآية: [227] {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}
قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فيه ست مسائل:
الأولي- قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ} جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء؛ قال ابن عباس: هم الكفار {يَتَّبِعُهُمُ} ضلال الجن والإنس. وقيل {الْغَاوُونَ} الزائلون عن الحق، ودل بهذا أن الشعراء أيضا غاوون؛ لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك. وقد قدمنا في سورة {النور} أن من الشعر ما يجوز إنشاده، ويكره، ويحرم. روي مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء" قلت: نعم. قال: "هيه" فأنشدته بيتا. فقال: "هيه" ثم أنشدته بيتا. فقال: "هيه" حتى أنشدته مائة بيت. هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته. وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم: عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه؛ وهو وهم؛ لأن الشريد هو الذي أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم. واسم أبي الشريد سويد. وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية؛ لأنه

كان حكيما؛ ألا ترى قوله عليه السلام: "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه، كقول القائل:
الحمد لله العلي المنان ... صار الثريد في رؤوس العيدان
أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مدحه كقول العباس:
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ألجم ... نسرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يفضض الله فاك". أو الذب عنه كقول حسان:
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
وهي أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهي في السير أتم. أو الصلاة عليه؛ كما روى زيد بن أسلم؛ خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت، وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول:
على محمد صلاة الأبرار ... صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بكا بالأسحار ... يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل يجمعني وحبيبي الدار
يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجلس عمر يبكي. وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضي الله عنهم؛ ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال:
إني رضيت عليا للهادي علما ... كما رضيت عتيقا صاحب الغار
وقد رضيت أبا حفص وشيعته ... وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة عندي قدوة علم ... فهل علي بهذا القول من عار
إن كنت تعلم إني لا أحبهم ... إلا من أجلك فاعتقني من النار

وقال آخر فأحسن:
حب النبي رسول الله مفترض ... وحب أصحابه نور ببرهان
من كان يعلم أن الله خالقه ... لا يرمين أبا بكر ببهتان
ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ... ولا الخليفة عثمان بن عفان
أما علي فمشهور فضائله ... والبيت لا يستوي إلا بأركان
قال ابن العربي: أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد؛ فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح. وأنشد أبو بكر رضي الله عنه:
فقدنا الوحى إذ وليت عنا ... وودعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهينا ... توارثه القراطيس الكرام
فقد أورثتنا ميراث صدق ... عليك به التحية والسلام
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعه وأبو بكر ينشده، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا. قال أبو عمر: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهي، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله؛ وروي أبو هريرة قال

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: "أصدق كلمة - أو أشعر كلمة - قالتها العرب قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أخرجه مسلم وزاد: "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر. فقال: ويلك يا لكع! وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي، فحسنه حسن وقبيحه قبيح! قال: وقد كانوا يتذاكرون الشعر. قال: وسمعت ابن عمر ينشد:
يحب الخمر من مال الندامى ... ويكره أن يفارقه الغلوس
وكان عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعرا مجيدا مقدما فيه. وللزبير بن بكار القاضي في أشعاره كتاب، وكانت له زوجة حسنة تسمى عثمة فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها، وله فيها أشعار كثيرة؛ منها قوله:
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها ... أطير لوان إنسانا يطير
وقال ابن شهاب: قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلك! فقال: إن المصدور إذا نفث برأ.
الثانية- وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحهم على حاتم، وإن يبهتوا البريء ويفسقوا التقي، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء؛ رغبة في تسلية النفس وتحسين القول؛ كما روي عن الفرزدق أن سليمان بن عبدالملك سمع قوله:
فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام

فقال: قد وجب عليك الحد. فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} . وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
من مبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقي في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... ورقاصة تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر أسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه. وقال: إي والله إني ليسوءني ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت؛ وإنما كانت فضلة من القول، وقد قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} فقال له عمر: أما عذرك فقد درأ عنك الحد؛ ولكن لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت. وذكر الزبير بن بكار قال: حدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص فكتب إلى عامله على المدينة: إني قد عرفت عمر والأحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا فاشدد عليهما وأحملهما إلي. فلما أتاه الكتاب حملهما إليه، فأقبل على عمر، فقال: هيه!
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى
وكم مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك؛ فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون! ثم أمر بنفيه. فقال: يا أمير المؤمنين! أو خير من ذلك ؟ فقال: ما هو ؟ قال: أعاهد الله أني لا أعود إلى مثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في شعر أبدا، وأجدد توبة، فقال: أو تفعل ؟ قال: نعم، فعاهد الله على توبته وخلاه؛ ثم دعا بالأحوص، فقال هيه!
الله بيني وبين قيمها ... يفر مني بها وأتَّبع

بل الله بين قيمها وبينك! ثم أمر بنفيه؛ فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى، وقال: والله لا أرده ما كان لي سلطان، فإنه فاسق مجاهر. فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه، فلا يحل سماعه ولا إنشاده في مسجد ولا غيره، كمنثور الكلام القبيح ونحوه. وروي إسماعيل بن عياش عن عبدالله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام" رواه إسماعيل عن عبدالله الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره. وروى عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام" .
الثالثة- روي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا" وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشطان - لان يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا" قال علماؤنا: وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقا للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ولا خلاف في أن من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام. وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه؛ فإن لم يكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعا تعين عليه أن يداريه بما استطاع، ويدافعه بما أمكن، ولا يحل له أن يعطي شيئا ابتداء، لأن ذلك عون على المعصية؛ فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه بنية وقاية العرض؛ فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة. قلت: قوله: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه" القيح المدة يخالطها دم. يقال منه: قاح الجرح يقيح وتقيح وقيح. و"يريه" قال الأصمعي: هو من الوري على

مثال الرمي وهو أن يدوي جوفه، يقال منه: رجل موري مشدد غير مهموز. وفي الصحاح: وروي القيح جوفه يريه وريا إذا أكله. وأنشد اليزيدي:
قالت له وريا إذا تنحنحا
وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله: إنه الذي قد غلب عليه الشعر، وامتلأ صدره منه دون علم سواه ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول. ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية، لحكم العادة الأدبية. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوب على هذا الحديث "باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر". وقد قيل في تأويله: إن المراد بذلك الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره. وهذا ليس بشيء؛ لأن القليل من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم، وكذلك هجو غير النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين محرم قليله وكثيره، وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معني.
الرابعة- قال الشافعي: الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيح كقبيح الكلام، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمناته، وقد كان عند العرب عظيم الموقع. قال الأول منهم:
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين: "إنه لأسرع فيهم من رشق النبل" أخرجه مسلم. وروى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبدالله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يا ابن رواحة! في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل" .

الخامسة- قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} لم يختلف القراء في رفع {وَالشُّعَرَاءُ} فيما علمت. ويجوز النصب على إضمار فعل يفسره {يَتَّبِعُهُمُ} وبه قرأ عيسى بن عمر؛ قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حب النصب؛ قرأ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] و {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] و {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور: 1]. وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمي: {يَتَّبِعُهُمُ} مخففا. الباقون {يَتَّبِعُهُمُ} . وقال الضحاك: تهاجى رجلان أحدهما أنصاري والآخر مهاجري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل واحد غواة قومه وهم السفهاء فنزلت؛ وقاله ابن عباس. وعنه هم الرواة للشعر. وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس؛ وقد ذكرناه. وروى غضيف عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه" وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة رن إبليس رنة وجمع إليه ذريته؛ فقال ايئسوا أن تريدوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ولكن أفشوا فيهما - يعني مكة والمدينة - الشعر.
السادسة- قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} يقول: في كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق؛ لأن من اتبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبت، ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالي ما قال. نزلت في عبدالله بن الزبعرى ومسافع بن عبد مناف وأمية بن أبي الصلت. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} يقول: أكثرهم يكذبون؛ أي يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه. وقيل: إنها نزلت في أبي عزة الجمحي حيث قال:
ألا أبلغا عني النبي محمدا ... بأنك حق والمليك حميد
ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله ... تأوه مني أعظم وجلود
ثم استثنى شعر المؤمنين: حسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك وكعب بن زهير ومن كان على طريقهم من القول الحق؛ فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} في كلامهم {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وإنما يكون الانتصار بالحق،

وبما حده الله عز وجل، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. وقال أبو الحسن المبرد. لما نزلت: {والشعراء} جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: يا نبي الله! أنزل الله تعالى هذه الآية، وهو تعالى يعلم أنا شعراء ؟ فقال: "اقرؤوا ما بعدها {إِلاِّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} - الآية - أنتم { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } أنتم" أي بالرد على المشركين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ولا تذكروا الآباء والأمهات" فقال حسان لأبي سفيان:
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
وإن أبي ووالدتي وعرضي ... عرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء
وقال كعب يا رسول الله! إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل". وقال كعب:
جاءت سخينة كي تغالب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا" . وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} منسوخ بقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . قال المهدوي: وفي الصحيح عن ابن عباس أنه استثناء. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} في هذا تهديد لمن انتصر بظلم قال شريح سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل؛ فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة. وقرأ ابن عباس: {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} بالفاء والتاء ومعناهما واحد ذكره الثعلبي. ومعنى: {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} أي مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون؛ لأن مصيرهم إلى

النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع. والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه، والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها فصار كل مرجع منقلبا، وليس كل منقلب مرجعا؛ والله أعلم؛ ذكره الماوردي. و {أَيُّ} منصوب بـ {يَنْقَلِبُونَ} وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبا بـ {سيعلم} لأن أيا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكر النحويون؛ قال النحاس: وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.

تفسير سورة النمل
سورة النمل
مكية كلها في قول الجميع، وهي ثلاث وتسعون آية وقيل أربع وتسعون آية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية: [1] {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ}
الآية: [2] {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}
الآية: [3] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}
الآية: [4] {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}
الآية: [5] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}
الآية: [6] {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم}
قوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} مضى الكلام في الحروف المقطعة في {البقرة} وغيرها. و {تِلْكَ} بمعنى هذه؛ أي هذه السورة آيات القرآن وآيات كتاب مبين. وذكر القرآن بلفظ المعرفة، وقال: {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} بلفظ النكرة وهما في معنى المعرفة؛ كما تقول: فلان رجل عاقل وفلان الرجل العاقل. والكتاب هو القرآن، فجمع له بين الصفتين: بأنه قرآن وأنه كتاب؛ لأنه ما يظهر بالكتابة، ويظهر بالقراءة. وقد مضى

اشتقاقهما في {البقرة}. وقال في سورة الحجر: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1] فأخرج الكتاب بلفظ المعرفة والقرآن بلفظ النكرة؛ وذلك لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة، وأن يجعل صفة. ووصفه بالمبين لأنه بين فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده؛ وقد تقدم.
قوله تعالى: {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} {هُدىً} في موضع نصب على الحال من الكتاب؛ أي تلك آيات الكتاب هادية ومبشرة. ويجوز فيه الرفع على الابتداء؛ أي هو هدى. وإن شئت على حذف حرف الصفة؛ أي فيه هدى. ويجوز أن يكون الخبر {لِلْمُؤْمِنِينَ} ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وقد مضى بيانه.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي لا يصدقون بالبعث. {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} قيل: أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة. وقيل: زينا لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها. وقال الزجاج: جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه. {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي يترددون في أعمالهم الخبيثة، وفي ضلالتهم. عن ابن عباس. أبو العالية: يتمادون. قتادة: يلعبون. الحسن: يتحيرون؛ قال الراجز:
ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى بالحائرين العمه
قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} وهو جهنم. {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} {فِي الآخِرَةِ} تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة، وهؤلاء خسروا الآخرة بكفرهم فهم أخسر كل خاسر.
قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} أي يلقى عليك فتلقاه وتعلمه وتأخذه. {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} {لَدُنْ} بمعنى عند إلا أنها مبنية غير معربة، لأنها لا تتمكن، وفيها لغات ذكرت في {الكهف}. وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه.

الآية: [7] {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}
الآية: [8] {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية: [9] {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
الآية: [10] {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}
الآية: [11] {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}
الآية: [12] {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}
الآية: [13] {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}
الآية: [14] {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ} {إِذْ} منصوب بمضمر وهو أذكر؛ كأنه قال على أثر قوله. {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} : خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله. {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أي أبصرتها من بعد. قال الحرث بن حلزة:
آنست نبأة وأفزعها القناص ... عصرا وقد دنا الإمساء
{سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} قرأ عاصم وحمزة والكسائي: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوين {بِشِهَابٍ} . والباقون بغير تنوين على الإضافة؛ أي بشعلة نار؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم: ولدار الآخرة، ومسجد الجامع، وصلاة الأولى؛ يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه. قال النحاس: إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين، لأن معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء

فمحال أن يضم الشيء إلى نفسه، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليتبين به معنى الملك أو النوع، فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من نوعها. و {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} إضافة النوع والجنس، كما تقول: هذا ثوب خز، وخاتم حديد وشبهه. والشهاب كل ذي نور؛ نحو الكوكب والعود الموقد. والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه؛ فالمعنى بشهاب من قبس. يقال. أقبست قبسا؛ والاسم قبس. كما تقول: قبضت قبضا. والاسم القبض. ومن قرأ: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} جعله بدلا منه. المهدوي: أو صفة له؛ لأن القبس يجوز أن يكون اسما غير صفة، ويجوز أن يكون صفة؛ فأما كونه غير صفة فلأنهم قالوا قبسته أقبسه قبسا والقبس المقبوس؛ وإذا كان صفة فالأحسن أن يكون نعتا. والإضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن. وهي إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه. ولو قرئ بنصب قبس على البيان أو الحال كان أحسن. ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا على أنه مصدر أو بيان أو حال. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء؛ لأن الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا، ومعناه يستدفئون من البرد. يقال: اصطلى يصطلي إذا استدفأ. قال الشاعر:
النار فاكهة الشتاء فمن يرد ... أكل الفواكه شاتيا فليصطل
الزجاج: كل أبيض ذي نور فهو شهاب. أبو عبيدة: الشهاب النار. قال أبو النجم:
كأنما كان شهابا واقدا ... أضاء ضوءا ثم صار خامدا
أحمد بن يحيى: أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه؛ وقول النحاس فيه حسن، والشهاب الشعاع المضيء ومنه الكوكب الذي يمد ضوءه في السماء. وقال الشاعر:
في كفه صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبس
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا} أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور؛ قال وهب بن منبه. فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما، ولا تزداد الشجرة

إلا خضرة وحسنا؛ فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها؛ فمالت إليه؛ فخافها فتأخر عنها؛ ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها، إلى أن {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقد مضى هذا المعنى في {طه}. {نُودِيَ} أي ناداه الله؛ كما قال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم: 52]. {أَنْ بُورِكَ} قال الزجاج: {أَنْ} في موضع نصب؛ أي بأنه. قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله. وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبي وابن عباس ومجاهد {أَنْ بُورِكَت مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} . قال النحاس: ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صح لكان على التفسير، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى. وحكى الكسائي عن العرب: باركك الله، وبارك فيك. الثعلبي: العرب تقول باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، أربع لغات. قال الشاعر:
فبوركت مولودا وبوركت ناشئا ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
الطبري: قال { أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} ولم يقل بورك في من في النار على لغة من يقول باركك الله. ويقال باركه الله، وبارك له، وبارك عليه، وبارك فيه بمعنى؛ أي بورك على من في النار وهو موسى، أو على من في قرب النار؛ لا أنه كان في وسطها. وقال السدي: كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة؛ أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه؛ قال: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]. وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير: قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى، عنى به نفسه تقدس وتعالى. قال ابن عباس ومحمد بن كعب: النار نور الله عز وجل؛ نادى الله موسى وهو في النور؛ وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا؛ وهذا لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]

لا أنه يتحيز فيهما، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل. وقيل على هذا: أي بورك من في النار سلطانه وقدرته. وقيل: أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة.
قلت: ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه، وابن ماجة في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لأحرقت سحبات وجهه كل شيء أدركه بصره" ثم قرأ أبو عبيدة: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أخرجه البيهقي أيضا. ولفظ مسلم عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات؛ فقال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - وفي رواية أبي بكر النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أنتهى إليه بصره من خلقه" قال أبو عبيد: يقال السبحات إنها جلال وجهه، ومنها قيل: سبحان الله إنما هو تعظيم له وتنزيه. وقوله: "لو كشفها" يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها. قال ابن جريج: النار حجاب من الحجب وهي سبعة حجب؛ حجاب العزة، وحجاب الملك، وحجاب السلطان، وحجاب النار، وحجاب النور، وحجاب الغمام، وحجاب الماء. وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء؛ فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار؛ لأن موسى حسبه نارا، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. وقال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها، وأظهر له ربوبيته من جهتها. وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة: "جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران". فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلي الله عليه وسلم، وفاران مكة. وسيأتي في {القصص} بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تنزيها وتقديسا لله رب العالمين. وقد تقدم في غير موضع، والمعنى: أي يقول من حولها: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} فحذف. وقيل: إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء؛ استعانة بالله تعالى وتنزيها له؛ قال السدي. وقيل: هو من قول الله تعالى. ومعناه: وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين؛ حكاه ابن شجرة.
قوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين. والصحيح أنها كناية عن الأمر والشأن. {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الغالب الذي ليس كمثله شيء {الْحَكِيمُ} في أمره وفعله. وقيل: قال موسى يا رب من الذي نادى؟ فقال له: {إِنَّهُ} أي إني أنا المنادي لك {أَنَا اللَّهُ} .
قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} قال وهب بن منبه: ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها وقيل: إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن المكلم له هو الله، وأن موسى رسوله؛ وكل نبي لابد له من آية في نفسه يعلم بها نبوته. وفي الآية حذف: أي وألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية تهتز كأنها جان، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم. وقال الكلبي: لا صغيرة ولا كبيرة. وقيل: إنها قلبت له أولا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة. وقيل: انقلبت مرة حية صغيرة، ومرة حية تسعى وهي الأنثى، ومرة ثعبانا وهو الذكر الكبير من الحيات. وقيل: المعنى انقلبت ثعبانا تهتز كأنها جان لها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه وهي حية تسعى. وجمع الجان جنان؛ ومنه الحديث: "نهي عن قتل الجنان التي في البيوت". {وَلَّى مُدْبِراً} خائفا على عادة البشر {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يرجع؛ قاله مجاهد. وقال قتادة: لم يلتفت. {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} أي من الحية وضررها. {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} وتم الكلام ثم استثنى استثناء منقطعا فقال: {إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} وقيل: إنه استثناء من محذوف؛ والمعنى: إني لا يخاف لدي المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه لا يخاف؛ قاله الفراء.

قال النحاس: استثناء من محذوف محال؛ لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيدا بمعنى إني لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا؛ وهذا ضد البيان، والمجيء بما لا يعرف معناه. وزعم الفراء أيضا أن بعض النحويين يجعل إلا بمعنى الواو أي ولا من ظلم؛ قال:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال النحاس: وكون {إِلاَّ} بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام، ومعنى {إِلاَّ} خلاف الواو؛ لأنك إذا قلت: جاءني إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب. وفي الآية قول آخر: وهو أ يكون الاستثناء متصلا؛ والمعنى إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد، سوى ما روي عن يحيى بن زكريا عليه السلام، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ذكره المهدوي واختاره النحاس؛ وقال: علم الله من عصى منهم يسر الخيفة فاستثناه فقال: {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له. الضحاك: يعني آدم وداود عليهما السلام الزمخشري. كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي. فإن قال قائل: فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة؟ قيل له: هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به، فهم يخافون من المطالبة به. وقال الحسن وابن جريج: قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس. قال الحسن: وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب. قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم: فالاستثناء على هذا صحيح؛ أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة. وكان موسى خاف من قتل القبطي وتاب منه. وقد قيل: إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر. وقد مضى هذا في {البقرة}.

قلت: والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة. وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه، ثم غفر له، ثم قال بعد المغفرة: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17] ثم ابتلى من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به، فصار حدثا آخر بهذه الإرادة. وإنما ابتلي من الغد لقوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره؛ لأن الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده، فأفشى عليه فـ {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ} [القصص: 19] فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بذلك أفشى الإسرائيلي على موسى، وكان القتيل بالأمس مكتوما أمره لا يدري من قتله، فلما علم فرعون بذلك، وجه في طلب موسى ليقتله، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق؛ جاء رجل يسعى فـ {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] الآية. فخرج كما أخبر الله. فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث؛ فهو وإن قربه وبه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب.
قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} تقدم في {طه}. {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى: هذه الآية داخلة في تسع آيات. المهدوي: المعنى: {أَلْقِ عَصَاكَ} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} فهما آيتان من تسع آيات. وقال القشيري معناه: كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم. أي خرجت عاشر عشرة. فـ {ـفِي} بمعنى {مِنْ} لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها. وقال الأصمعي في قول امرئ القيس:
وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال

في بمعنى من. وقيل: في بمعنى مع؛ فالآيات عشرة منها اليد، والتسع: الفلق والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنين والطمس. وقد تقدم بيان جميعه. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} قال الفراء: في الكلام إضمار لدلالة الكلام عليه، أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعة الله؛ وقد تقدم.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أي واضحة بينة. قال الأخفش: ويجوز مبصرة وهو مصدر كما يقال: الولد مجبنة. {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} جروا على عادتهم في التكذيب فلهذا قال: {بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي تيقنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا، ولكنهم كفروا بها وتكبروا أن يؤمنوا بموسى. وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين. و {ظُلْماً} و {عُلُوّاً} منصوبان على نعت مصدر محذوف، أي وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا. والباء زائدة أي وجحدوها؛ قال أبو عبيدة. {فَانْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي آخر أمر الكافرين الطاغين، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه. الخطاب له والمراد غيره.
الآية: [15] {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية: [16] {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} أي فهما؛ قاله قتادة. وقيل: علما بالدين والحكم وغيرهما كما قال: {وَ عَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80]. وقيل: صنعة الكيمياء. وهو شاذ. وإنما الذي آتاهما الله النبوة والخلافة في الأرض والزبور. {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ

الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين. {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. وقد تقدم هذا في غير موضع.
قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} قال الكلبي: كان لداود صلى الله عليه وسلم تسعة عشر ولدا فورث سليمان من بينهم نبوته وملكه، ولو كان وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء؛ وقال ابن العربي؛ قال: فلو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد؛ فخص الله سليمان بما كان لداود من الحكمة والنبوة، وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. قال ابن عطية: داود من بني إسرائيل وكان ملكا وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوة، بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثا تجوزا؛ وهذا نحو قوله: "العلماء ورثة الأنبياء" ويحتمل قوله عليه السلام: "إنا معشر الأنبياء لا نورث" أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم، وإن كان فيهم من ورث ماله كـ "زكريا" على أشهر الأقوال فيه؛ وهذا كما تقول: إنا معشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة، والمراد أن ذلك فعل الأكثر. ومنه ما حكى سيبويه: إنا معشر العرب أقرى الناس للضيف.
قلت: قد تقدم هذا المعنى في {مَرْيَمَ} وأن الصحيح القول الأول لقوله عليه السلام: "إنا معشر الأنبياء لا نورث" فهو عام ولا يخرج منه شيء إلا بدليل. قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان. قال غيره: ولم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه؛ فإن الله سبحانه وتعالى سخر له الإنس والجن والطير والوحش، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، وورث أباه في الملك والنبوة، وقام بعده بشريعته، وكل نبي جاء بعه موسى ممن بعث أو لم يبعث فإنما كان بشريعة موسى، إلى أن بعث المسيح عليه السلام فنسخها. وبينه وبين الهجرة نحو من ألف وثمانمائة سنة. واليهود تقول ألف

وثلاثمائة واثنتان وستون سنة. وقيل: إن بين موته وبين مولد النبي صلى الله عليه سلم نحوا من ألف وسبعمائة. واليهود تنقص منها ثلاثمائة سنة، وعاش نيفا وخمسين سنة.
قوله تعالى: {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله {علمنا منطق الطير} أي تفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أن فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها. قال مقاتل في الآية: كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف، فقال لجلسائه: أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ إنها قالت لي: السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل! أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية؛ وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع؛ فقال إنه يقول: السلام عليك أيها الملك المسلط، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت. فأخبرهم سليمان بما قال؛ وأذن له فانطلق. وقال فرقد السبخي: مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا لا يا نبي الله. قال إنه يقول: أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء. ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له سليمان: احذر يا هدهد! فقال: يا نبي الله! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به. ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده، فقال: هدهد ما هذا؟ قال: ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله. قال: ويحك! فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ! قال: يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر. وقال كعب. صاح ورشان عند سليمان بن داود فقال: أتدرون ما يقول؟

قالوا: لا. قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا. وصاح عنده طاوس، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: كما تدين تدان. وصاح عنده هدهد فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: فإنه يقول: من لا يرحم لا يرحم. وصاح صرد عنده، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله. وقيل: إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت. وهو أول من صام؛ ولذلك يقال للصرد الصوام؛ روي عن أبي هريرة. وصاحت عنده طيطوى فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: كل حي ميت وكل جديد بال. وصاحت خطافة عنده، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: قدموا خيرا تجدوه؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقيل: إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم. قال: ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ} [الحشر: 21] إلى آخرها وتمد صوتها بقوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]. وهدرت حمامة عند سليمان فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وأرضه. وصاح قمري عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال إنه يقول: سبحان ربي العظيم المهيمن. وقال كعب: وحدثهم سليمان، فقال: الغراب يقول: اللهم العن العشار؛ والحدأة تقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه. والضفدع يقول: سبحان ربي القدوس. والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده. والسرطان يقول: سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان.
وقال مكحول: صاح دراج عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين" . وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم: "النسر إذا صاح قال يا ابن آدم عش ما شئت فآخرك الموت وإذا صاح العقاب قال في البعد من الناس الراحة وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد وإذا صاح الخطاف قرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] إلى آخرها فيقول: {الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ويمد بها صوته كما يمد القارئ. قال قتادة والشعبي: إنما هذا الأمر في الطير خاصة، لقوله: {عُلِّمْنَا

مَنْطِقَ الطَّيْرِ } والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة. قال الشعبي: وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين. وقالت فرقة: بل كان في جميع الحيوان، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته؛ ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير. وقال أبو جعفر النحاس: والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام، والله جل وعز أعلم بما أراد. قال ابن العربي: من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم، وقد آتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات، فكان كل نبت يقول له: أنا شجر كذا، أنفع من كذا وأضر من كذا؛ فما ظنك بالحيوان.
الآية: [17] {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ} {وَحُشِرَ} جمع والحشر الجمع ومنه قوله عز وجل: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: 47] واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام؛ فيقال: كان معسكره مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية. ابن عطية: واختلف في معسكره ومقدار جنده اختلافا شديدا غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيما ملأ الأرض، وانقادت له المعمورة كلها. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون. قال قتادة: كان لكل صنف وزعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها. يقال: وزعته أوزعه وزعا أي كففته. والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم. روى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما وقف وسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى - تعني

يوم الفتح - قال أبو قحافة وقد كف بصره يومئذ لابنته: اظهري بي على أبي قبيس. قالت: فأشرفت به عليه فقال: ما ترين؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا. قال: تلك الخيل. قالت: وأرى رجلا من السواد مقبلا ومدبرا. قال: ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر. وذكر تمام الخبر. ومن هذا قوله عليه السلام: "ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزيل الرحمة وتجاوز الله عنه الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر" قيل: وما رأى يا رسول الله؟ قال: "أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة" خرجه الموطأ. ومن هذا المعنى قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع
آخر:
ولما تلاقينا جرت من جفوننا ... دموع وزعنا غربها بالأصابع
آخر:
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلا وافر العقل كامله
وقيل: هو من التوزيع بمعنى التفريق. والقوم أوزاع أي طوائف. وفي القصة: إن الشياطين نسجت له بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم، وكان يوضع له كرسي من ذهب وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة.
الثانية- في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض؛ إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم. وقال ابن عون: سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال: والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة. وقال الحسن أيضا: لابد للناس من وازع؛ أي من سلطان يكفهم. وذكر ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن؛ أي من الناس. قال ابن القاسم: قلت لمالك ما يزع؟ قال: يكف. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع

الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته. قال: فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق، لا زيادة عليها، ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها، وقصروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها، فلم يرتدع الخلق بها، ولو حكموا بالعدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور.
الآية: [18] {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
الآية: [19] {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}
فيه ست مسائل:
الأولى- قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} قال قتادة: ذكر لنا أنه واد بأرض الشام. وقال كعب: هو بالطائف {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} قال الشعبي: كان للنملة جناحان فصارت من الطير، فلذلك علم منطقها ولولا ذلك لما علمه. وقد مضى هذا ويأتي. وقرأ سليمان التيمي بمكة: {نَمْلَةٌ} و{النَّمْلِ} بفتح النون وضم الميم. وعنه أيضا ضمهما جميعا. وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها. قال كعب: مر سليمان عليه السلام بوادي السدير من أودية الطائف، فأتى على وادي النمل، فقامت نملة تمشي وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم؛ فنادت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} الآية. الزمخشري: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال، وكانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس؛ وقيل: كان اسمها طاخية. وقال السهيلي: ذكروا اسم النملة المكلمة لسليمان عليه السلام، وقالوا اسمها حرميا، ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم والنمل لا يسمي بعضهم بعضا، ولا الآدميون يمكنهم تسمية

واحدة منهم باسم علم، لأنه لا يتميز للآدميين بعضهم من بعض، ولا هم أيضا واقعون تحت ملكة بني آدم كالخيل والكلاب ونحوها، فإن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب. فإن قلت: إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار وقثام في الضبع ونحو هذا كثير؛ فليس اسم النملة من هذا؛ لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل، وثعالة ونحوه لا يختص بواحد من الجنس، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك. فإن صح ما قالوه فله وجه، وهو أن تكون هذه النملة الناطقة قد سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الزبور أو في بعض الصحف سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به الأنبياء قبل سليمان أو بعضهم. وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها فهذا وجه. ومعنى قولنا بإيمانها أنها قالت للنمل: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فقولها: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} التفاتة مؤمن. أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا. وقد قيل: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها؛ ولذلك أكد التبسم بقوله: {ضَاحِكاً} إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئين. وتبسم الضحك إنما هو عن سرور، ولا يسر نبي بأمر دنيا؛ وإنما سر بما كان من أمر الآخرة والدين. وقولها: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} إشارة إلى الدين والعدل والرأفة. ونظير قول النملة في جند سليمان: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قول الله تعالى في جند محمد صلى الله عليه وسلم: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25]. التفاتا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن. إلا أن المثني على جند سليمان هي النملة بإذن الله تعالى، والمثني على جند محمد صلى الله عليه وسلم هو الله عز وجل بنفسه؛ لما لجنود محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل على جند غيره من الأنبياء؛ كما لمحمد صلى الله عليه وسلم فضل على جميع النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وقرأ شهر بن حوشب: {مَسَكِنَكُمْ} بسكون السين على الإفراد. وفي مصحف أبي {مَسَكِنَكُنَّ لا يَحْطِمَنَّكُمْ} . وقرأ سليمان التيمي: {مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُنَّ} ذكره النحاس؛ أي لا يكسرنكم بوطئهم عليكم وهم لا يعلمون بكم

قال المهدوي: وأفهم الله تعالى النملة هذا لتكون معجزة لسليمان. وقال وهب: أمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد بشيء إلا طرحته في سمع سليمان؛ بسبب أن الشياطين أرادت كيده. وقد قيل: إن هذا الوادي كان ببلاد اليمن وأنها كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد قاله الكلبي. وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة: كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم. وقال بريدة الأسلمي: كهيئة النعاج. قال محمد بن على الترمذي: فإن كان على هذه الخلقة فلها صوت، وإنما افتقد صوت النمل لصغر خلقها، وإلا فالأصوات في الطيور والبهائم كائنة، وذلك منطقهم، وفي تلك المناطق معاني التسبيح وغير ذلك، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
قلت: وقوله: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} يدل على صحة قول الكلبي؛ إذ لو كانت كهيئة الذئاب والنعاج لما حطمت بالوطء؛ والله أعلم. وقال: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} فجاء على خطاب الآدميين لأن النمل ههنا أجري مجرى الآدميين حين نطق كما ينطق الآدميون. قال أبو إسحاق الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها لم حذرت النمل؟ أخفت ظلمي ؟ أما علمت أني نبي عدل؟ فلم قلت: {حْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} فقالت النملة: أما سمعت قولي: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} مع أني لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت، أو يفتتن بالدنيا، ويشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر. فقال لها سليمان: عظيني. فقالت النملة: أما علمت لم سمي أبوك داود؟ قال: لا. قالت: لأنه داوى جراحة فؤاده؛ هل علمت لم سميت سليمان؟ قال: لا. قالت: لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك، وإن لك أن تلحق بأبيك. ثم قالت: أتدري لم سخر الله لك الريح؟ قال: لا. قالت: أخبرك أن الدنيا كلها ريح. {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها، فقالت: هل عندكم من شيء نهديه إلى

نبي الله؟ قالوا: وما قدر ما نهدي له! والله ما عندنا إلا نبقة واحدة. قالت: حسنة؛ ايتوني بها. فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها، فأمر الله الريح فحملتها، وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط، حتى وقعت بين يديه، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه، وأنشأت تقول:
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غني فهو قابله
ولو كان يهدي للجليل بقدره ... لقصر عنه البحر يوما وساحله
ولكننا نهدي إلى من نحبه ... فيرضى به عنا ويشكر فاعله
وما ذاك إلا من كريم فعاله ... وإلا فما في ملكنا ما يشاكله
فقال لها: بارك الله فيكم؛ فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله وأكثر خلق الله. وقال ابن عباس: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: الهدهد والصرد والنملة والنحلة؛ خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبدالحق وروي من حديث أبي هريرة. وقد مضى في {الأعراف}. فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم، فنفت عنهم الجور؛ ولذلك نهى عن قتلها، وعن قتل الهدهد؛ لأنه كان دليل سليمان على الماء ورسوله إلى بلقيس. وقال عكرمة: إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه. والصرد يقال له الصوام. وروي عن أبي هريرة قال: أول من صام الصرد ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشام إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة معه والصرد، فكان الصرد دليله على الموضع والسكينة مقداره، فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت وقالت: ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي. وقد تقدم في {الأعراف} سبب النهي عن قتل الضفدع وفي {النحل} النهي عن قتل النحل. والحمد لله.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44