كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

- الآية: 15 {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}
قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} أي عدلا؛ عن قتادة. يعني ما عبد من دون الله عز وجل. الزجاج والمبرد: الجزء ها هنا البنات؛ عجب المؤمنين من جهلهم إذا أقروا بأن خالق السموات والأرض هو الله ثم جعلوا له شريكا أو ولدا، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو: يستأنس به؛ لأن هذا من صفات النقص. قال الماوردي: والجزء عند أهل العربية البنات؛ يقال: قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات؛ قال الشاعر:
إن أجزأت المرأة يوما فلا عجب ... قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا
الزمخشري: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث متحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتا، وبيتا:
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب ... زوجتها من بنات الأوس مجزئة
وإنما قوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} متصل بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به؛ وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءا فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى {مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} أن قالوا الملائكة بنات الله؛ فجعلوهم جزءا له وبعضا، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له. وقرئ {جزؤا} بضمتين. {إِنَّ الْأِنْسَانَ} يعني الكافر. {لَكَفُورٌ مُبِينٌ} قال الحسن: يعد المصائب وينسى النعم. {مُبِينٌ} مظهر الكفر.

الآية: 16 {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ}
قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} الميم صلة؛ تقديره أتخذ مما يخلق بنات كما زعمتم أن الملائكة بنات الله؛ فلفظه الاستفهام ومعناه التوبيخ. {وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} أي اختصكم وأخلصكم بالبنين؛ يقال: أصفيته بكذا؛أي آثرته به. وأصفيته الود أخلصته له. وتصافينا تخالصنا. عجب من إضافتهم إلى الله اختيار البنات مع اختيارهم لأنفسهم البنين، وهو مقدس عن أن يكون له ولد إن توهم جاهل أنه اتخذ لنفسه ولدا فهلا أضاف إليه أرفع الجنسين ! ولم جعل هؤلاء لأنفسهم أشرف الجنسين وله الأخس ؟ وهذا كما قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22].
الآية: 17 {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ}
قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} أي بأنه ولدت له بنت {ظَلَّ وَجْهُهُ} أي صار وجهه {مُسْوَدّاً} قيل ببطلان مثله الذي ضربه. وقيل: بما بشر به من الأنثى؛ دليله في سورة النحل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} [النحل: 58]. ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له قد ولدت له أنثى اغتم وأربد وجهه غيظا وتأسفا وهو مملوء من الكرب. وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا ... وإنما نأخذ ما أعطينا
وقرئ {مسودٌ} و {مسوادٌ}. وعلى قراءة الجماعة يكون وجهه اسم {ظل} و {مسودا} خبر {ظل} . ويجوز أن يكون في {ظل} ضمير عائد على أحد وهو اسمها، و {وجهه}

بدل من الضمير، و {مسودا} خبر {ظل}. ويجوز أن يكون رفع {وجهه} بالابتداء ويرفع {مُسْوَدّاً} على أنه خبره، وفي {ظل} اسمها والجملة خبرها. {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي حزين؛ قال قتادة. وقيل مكروب؛ قال عكرمة وقيل ساكت؛ قال ابن أبي حاتم؛ وذلك لفساد مثله وبطلان حجته. ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله فقد جعل الملائكة شبها لله؛ لأن الولد من جنس الوالد وشبهه. ومن أسود وجهه بما يضاف إليه مما لا يرضى، أولى من أن يسود وجهه بإضافة مثل ذلك إلى من هو أجل منه؛ فكيف إلى الله عز وجل ! وقد مضى في "النحل" في معنى هذه الآية ما فيه كفاية.
الآية: 18 - 19 {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ، وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ}
قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ} أي يربى ويشب. والنشوء: التربية؛ يقال: نشأت في بني فلان نشأ ونشوءا إذا شببت فيهم. ونشئ وأنشئ بمعنى. وقرأ ابن عباس والضحاك وابن وثاب وحفص وحمزة والكسائي وخلف {يُنَشَّأُ} بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين؛ أي يربى ويكبر في الحلية. واختاره أبو عبيد، لأن الإسناد أيها أعلى. وقرأ الباقون {يَنْشَأ} بفتح الياء وإسكان النون، واختاره أبو حاتم، أي يرسخ وينبت، وأصله من نشأ أي ارتفع، قال الهروي. فـ {يُنَشأ} متعد، و {يَنْشأ} لازم.
قوله تعالى: {فِي الْحِلْيَةِ} أي في الزينة. قال ابن عباس وغيره: هن الجواري زيهن غير زي الرجال. قال مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير؛ وقرأ هذه الآية. قال الكيا: فيه دلالة على إباحة الحلي للنساء، والإجماع منعقد عليه والأخبار فيه لا تحصى.

قلت: روي عن أبي هريرة أنه كان يقول لابنته: يا بنية، إياك والتحلي بالذهب ! فإني أخاف عليك اللهب.
قوله تعالى: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أي في المجادلة والإدلاء بالحجة. قال قتادة، ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتها على نفسها. وفي مصحف عبدالله {وهو في الكلام غير مبين}. ومعنى الآية: أيضاف إلى الله من هذا وصفه! أي لا يجوز ذلك. وقيل: المنشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة وحلوها؛ قال ابن زيد والضحاك. ويكون معنى {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} على هذا القول: أي ساكت عن الجواب. و {مَنْ} في محل نصب، أي اتخذوا لله من ينشأ في الحلية. ويجوز أن يكون رفعا على الابتداء والخبر مضمر؛ قال الفراء. وتقديره: أو من كان على هذه الحالة يستحق العبادة. وإن شئت قلت خفض ردا إلى أول الكلام وهو قوله: {بما ضرب} أو على {ما} في قوله: {مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} . وكون البدل في هذين الموضعين ضعيف لكون ألف الاستفهام حائلة بين البدل والمبدل منه. {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} قرأ الكوفيون "عباد" بالجمع. واختاره أبو عبيد؛ لأن الإسناد فيها أعلى، ولأن الله تعالى إنما كذبهم في قولهم إنهم بنات الله، فأخبرهم أنهم عبيد وأنهم ليسوا ببناته. وعن ابن عباس أنه قرأ {عباد الرحمن} ، فقال سعيد بن جبير: إن في مصحفي {عبد الرحمن} فقال: أمحها واكتبها {عباد الرحمن} . وتصديق هذه القراءة قوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. وقوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [الكهف: 102]. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] وقرأ الباقون {عند الرحمن} بنون ساكنة واختاره أبو حاتم. وتصديق هذه القراءة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} [الأنبياء: 19]. والمقصود إيضاح كذبهم وبيان جهلهم

في نسبة الأولاد إلى الله سبحانه، ثم في تحكمهم بأن الملائكة إناث وهم بنات الله. وذكر العباد مدج لهم؛ أي كيف عبدوا من هو نهاية العبادة، ثم كيف حكموا بأنهم إناث من غير دليل. والجعل هنا بمعنى القول والحكم؛ تقول: جعلت زيدا أعلم الناس؛ أي حكمت له بذلك. {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أي أحضروا حالة خلقهم حتى حكموا بأنهم إناث. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وقال: "فما يدريكم أنهم إناث" ؟ فقالوا: سمعنا بذلك من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا في أنهم إناث، فقال الله تعالى: { تُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} أي يسألون عنها في الآخرة. وقرأ نافع {أو شْهدوا} بهمزة استفهام داخلة على همزة مضمومة مسهلة، ولا يمد سوى ما روى المسيبي عنه أنه يمد. وروى المفضل عن عاصم مثل ذلك وتحقق الهمزتين. والباقون {أشهدوا} بهمزة واحدة للاستفهام.
وروي عن الزهري {أُشْهِدوا خلقهم} على الخبر، {سَتُكْتَبُ} قراءة العامة بضم التاء على الفعل المجهول {شَهَادَتُهُمْ} رفعا. وقرأ السلمى وابن السميقع وهبيرة عن حفص {سَنَكْتُبُ} بنون، {شَهَادَتَهُمْ} نصبا بتسمية الفاعل. وعن أبي رجاء {ستكتب شهاداتهم} بالجمع.
الآية: 20 {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ} يعني قال المشركون على طريق الاستهزاء والسخرية: لوشاء الرحمن على زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة. وهذا منهم كلمة حق أريد بها باطل. وكل شيء بإرادة الله، وإرادته تجب وكذا علمه فلا يمكن الاحتجاج بها؛ وخلاف المعلوم والمراد مقدور وإن لم يقع. ولو عبدوا الله بدل الأصنام لعلمنا أن الله أراد منهم ما حصل منهم. وقد مضى هذا المعنى في الأنعام عند قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] وفي "يس": {نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]. وقوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} مردود إلى

قوله {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: 19] أي ما لهم بقولهم: الملائكة بنات الله - من علم قال قتادة ومقاتل والكلبى. وقال مجاهد وابن جريج: يعني الأوثان؛ أي ما لهم بعبادة الأوثان من علم. {من} صلة. {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أي يحدسون ويكذبون؛ فلا عذر لهم في عبادة غير الله عز وجل. وكان من، ضمن كلامهم أن الله أمرنا لم بهذا أو أرضى ذلك منا، ولهذا لم ينهنا ولم يعاجلنا بالعقوبة.
الآية: 21 {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ}
هذا معادل لقوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}. والمعنى: أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتابا من قبله؛ أي من قبل القرآن بما ادعوه؛ فهم به متمسكون يعملون بما فيه.
الآية: 22 {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}
قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي على طريقة ومذهب؛ قال عمر بن عبدالعزيز. وكان يقرأ هو ومجاهد وقتادة {على إمة} بكسر الألف. والأمة الطريقة. وقال الجوهري: والإمة (بالكسر). النعمة. والإمة أيضا لغة في الأمة، وهي الطريقة والدين؛ عن أبي عبيدة. قال عدي بن زيد في النعمة:
ثم بعد الفلاح والملك والأ ... مة وارتهم هناك القبور
عن غير الجوهري. وقال قتادة وعطية: {على أمة} على دين؛ ومنه قول قيس بن الخطيم:
كنا على أمة أبائنا ... ويقتدي الآخر بالأول

قال الجوهري: والأمة الطريقة والدين، يقال: فلان لا أمة له؛ أي لا دين له ولا نحلة. قال الشاعر:
وهل يستوي ذو أمة وكفور
وقال مجاهد وقطرب: على دين على ملة. وفي بعض المصاحف {قالوا إنا وجدنا أباءنا على ملة} وهذه الأقوال متقاربة. وحكي عن الفراء على ملة على قبلة. الأخفش: على استقامة، وأنشد قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} أي نهتدي بهم. وفي الآية الأخرى {مُقْتَدُونَ} أي نقتدي بهم، والمعنى واحد. قال قتادة: مقتدون متبعون. وفي هذا دليل على إبطال التقليد؛ لذمه إياهم على تقليد آبائهم وتركهم النظر فيما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد مضى القول في هذا في "البقرة" مستوفى. وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة بني ربيعة من قريش؛ أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضا. يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ونظيره: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 43]. والمترف: المنعم، والمراد هنا الملوك والجبابرة.
الآية: 24 {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}
قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى} أي قل يا محمد لقومك: أوليس قد جئتكم من عند الله بأهدى؛ يريد بأرشد. {مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} يعني بكل ما أرسل به الرسل. فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولفظه لفظ الجمع؛ لأن تكذيبه تكذيب لمن سواه. وقرئ {قل وقال وجئتكم وجئناكم} يعني أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ؟ قالوا: إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما هو أهدى. وقد مضى في "البقرة" القول في التقليد وذمه فلا معنى لإعادته.

الآية: 25 {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بالقحط والقتل والسبي {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} آخر أمر من كذب الرسل." وقراءة العامة {قل أو لو جئتكم} وقرأ ابن عامر وحفص {قال أو لو} على الخبر عن النذير أنه قال لهم هذه المقالة. وقرأ أبو جعفر {قل أولو جئناكم} بنون وألف؛ على أن المخاطبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جميع الرسل"
الآية: 26 {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ} أي ذكرهم إذ قال. {إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} البراء يستعمل للواحد فما فوقه فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث؛ لأنه مصدر وضع موضع النعت؛ لا يقال: البراءان والبراؤون، لأن المعنى ذو البراء وذوو البراء. قال الجوهري: وتبرأت من كذا، وأنا منه براء، وخلاء منه لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر في الأصل؛ مثل: سمع سماعا. فإذا قلت: أنا بريء منه وخلي ثنيت وجمعت وأنثت، وقلت في الجمع: نحن منه براء مثل فقيه وفقهاء، وبراء أيضا مثل كريم وكرام، وأبراء مثل شريف وأشراف، وأبرياء مثل نصيب وأنصباء، وبريئون. وامرأة بريئة بريئتان وهن بريئات وبرايا. ورجل بريء وبراء مثل عجيب وعجاب.
والبراء (بالفتح) أول ليلة من الشهر، سميت بذلك لتبرؤ القمر من الشمس. {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} استئناء متصل، لأنهم عبدوا الله مع آلهتهم. قال قتادة: كانوا يقولون الله ربنا؛ مع عبادة الأوثان. ويجوز أن يكون منقطعا؛ أي لكن الذي فطرني فهو يهدين. قال ذلك ثقة بالله وتنبيها لقومه أن الهداية من ربه.
الآية: 28 {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}

فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} الضمير في {جعلها} عائد على قوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي}. وضمير الفاعل في {جعلها} لله عز وجل؛ أي وجعل الله هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبه، وهم ولده وولد ولده؛ أي إنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير الله، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب من يأتي بعده. وقال السدي: هم آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: قوله: {فِي عَقِبِهِ} أي في خلقه. وفي الكلام تقديم وتأخير؛ المعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها كلمة باقية في عقبه. أي قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. قال مجاهد وقتادة: الكلمة لا إله إلا الله. قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال الضحاك: الكلمة أن لا تعبدوا إلا الله. عكرمة: الإسلام؛ لقوله تعالى: {هو سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } [الحج: 78]. القرظي: وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه وهو قوله: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ}. [البقرة: 132] الآية المذكورة في البقرة - كلمة باقية في ذريته وبنيه. وقال ابن زيد: الكلمة قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] وقرأ {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}. وقيل: الكلمة النبوة. قال ابن العربي: ولم تزل النبوة باقية في ذرية إبراهيم. والتوحيد هم أصله وغيرهم فيه تبع لهم.
الثانية: قال ابن العربي: إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب بدعوتيه المجابتين؛ إحداهما في قوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] فقد قال نعم إلا من ظلم منهم فلا عهد. ثانيهما قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]. وقيل: بل الأولى قوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] فكل أمة تعظمه، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو نوح.
الثالثة: قال ابن العربي: جرى ذكر العقب ها هنا موصولا في المعنى، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى والتحبيس. قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"أيما رجل أعمر عمرى له واعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث". وهي ترد على أحد عشر لفظا:
اللفظ الأول : الولد، وهو عند الإطلاق عبارة عمن وجد من الرجل وامرأته في الإناث والذكور. وعن ولد الذكور دون الإناث لغة وشرعا؛ ولذلك وقع الميراث على الولد المعين وأولاد الذكور من المعين دون ولد الإناث لأنه من قوم آخرين، ولذلك لم يدخلوا في الحبس بهذا اللفظ، قاله مالك في المجموعة وغيرها.
قلت: هذا مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين، ومن حجتهم على ذلك الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11]. وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس؛ يقول المحبس: حبست على ولدي أو على عقبي. وهذا اختيار أبي عمر بن عبدالبر وغيره؛ واحتجوا بقول الله جل وعز: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]. قالوا: فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع علم أنها بنت ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أوعقبه. وقد مضى هذا المعنى في "الأنعام" مستوفى.
اللفظ الثاني: البنون؛ فإن قال: هذا حبس عل ابني؛ فلا يتعدى الولد المعين ولا يتعدد. ولو قال ولدي، لتعدى وتعدد في كل من ولد. وإن قال على بني، دخل فيه الذكور والإناث. قال مالك: من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك. روى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته فإن بنات بنته يدخلن في ذلك مع بنات صلبه. والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنات لا يدخلون في البنين. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". قلنا: هذا مجاز، وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه؛ ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه فيقول الرجل في ولد بنته ليس بابني؛ ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه؛

لأن الحقائق لا تنفى عن منتسباتها. ألا ترى أنه ينتسب إلى أبيه دون أمه؛ ولذلك قيل في عبدالله بن عباس: إنه هاشمي وليس بهلالي وإن كانت أمه هلالية.
قلت: هذا الاستدلال غير صحيح، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة لوجود معنى الولادة فيه، ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنت البنت من قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]. وقال تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله {مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: 84 - 85] فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته على ما تقدم بيانه هناك. فإن قيل فقد قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
قيل لهم: هذا لا دليل فيه؛ لأن معنى قوله: إنما هو ولد بنيه الذكران هم الذين لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب، وإن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك؛ إذ ينتسبون إلى غيره فأخبر بافتراقهم بالحكم مع اجتماعهم في التسمية ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد لأنه ابن؛ وقد يقول الرجل في ولده ليس هو بابني إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقا، ولا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه، وإنما يريد أن ينفي عنه حكمه. ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولدا فقد أفسد معناه وأبطل فائدته، وتأول على قائله ما لا يصح، إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ابنا، ولا يسمى ولد الابنة ابنا؛ من اجل أن معنى الولادة التي اشتق منها اسم الولد فيه أبين وأقوى لأن ولد الابنة هو ولدها بحقيقة الولادة، وولد الابن إنما هو ولده بمال مما كان سببا للولادة. ولم يخرج مالك رحمه الله أولاد البنات من حبس على ولده من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان، وإنما أخرجهم منه قياسا على الموارثة. وقد مضى هذا في "الأنعام" والحمد لله.
اللفظ الثالث: الذرية؛ وهي مأخوذة من ذرأ الله الخلق؛ فيدخل فيه ولد البنات لقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلى أن قال {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام: 84 - 85]. وإنما كان من ذريته من قبل أمه. وقد مضى في "البقرة" اشتقاق الذرية وفي "الأنعام" الكلام على {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} [الأنعام: 84] الآية؛ فلا معنى للإعادة.

اللفظ الرابع: العقب؛ وهو في اللغة عبارة عن شيء بعد شيء كان من جنسه أو من غير جنسه؛ يقال: أعقب الله بخير؛ أي جاء بعد الشدة بالرخاء. وأعقب الشيب السواد. وعقب يعقب عقوبا وعقبا إذا جاء شيئا بعد شيء؛ ولهذا قيل لولد الرجل: عقبه. والمعقاب من النساء: التي تلد ذكرا بعد أنثى، هكذا أبدا وعقب الرجل: ولده وولد ولده الباقون بعده. والعاقبة الولد؛ قال يعقوب: في القرآن {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} وقيل: بل الورثة كلهم عقب. والعاقبة الولد؛ ولذلك فسره مجاهد هنا. وقال ابن زيد: ها هنا هم الذرية. وقال ابن شهاب: هم الولد وولد الولد. وقيل غيره على ما تقدم عن السدي. وفي الصحاح والعقب (بكسر القاف) مؤخر القدم وهي مؤنثة. وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده. وفيه لغتان: عقب وعقب (بالتسكين) وهي أيضا مؤنثة، عن الأخفش. وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده. وعقب فلان مكان أبيه عاقبة أي خلفه؛ وهو اسم جاء بمعنى المصدر كقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2]. ولا فرق عند احد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى. واختلف في الذرية والنسل فقيل انهما بمنزلة الولد والعقب؛ لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك. وقيل: إنهم يدخلون فيهما. وقد مضى الكلام في الذرية هنا وفي "الأنعام".
اللفظ الخامس: نسلي؛ وهو عند علمائنا كقول: ولدي وولد ولدي؛ فإنه يدخل فيه ولد البنات. ويجب أن يدخلوا؛ لأن نسل به بمعنى خرج، وولد البنات قد خرجوا منه بوجه، ولم يقترن به ما يخصه كما أقترن بقول عقبي ما تناسلوا. وقال بعض علمائنا: إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه والد البنات؛ إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي، كما إذا قال: عقبي وعقب عقبي، وأما إذا قال ولدي أوعقبي مفردا فلا يدخل فيه البنات.
اللفظ السادس: الآل؛ وهم الأهل؛ وهو اللفظ السابع. قال ابن القاسم: هما سواء، وهم العصبة والإخوة والبنات والعمات؛ ولا يدخل فيه الخالات. وأصل أهل الاجتماع

يقال: مكان أهل إذا كان فيه جماعة، وذلك بالعصبة ومن دخل في القعدد من النساء والعصبة مشتقة منه وهي أخصى به. وفي حديث الإفك: يا رسول الله، أهلك ! ولا نعلم إلا خيرا؛ يعني عائشة. ولكن لا تدخل فيه الزوجة بإجماع وإن كانت أصل التأهل؛ لأن ثبوتها ليس بيقين إذ قد يتبدل ربطها وينحل بالطلاق. وقد. قال مالك: آل محمد كل تقي؛ وليس من هذا الباب. وإنما أراد أن الإيمان أخصى من القرابة فاشتملت عليه الدعوة وقصد بالرحمة. وقد قال أبو إسحاق التونسي: يدخل في لأهل كل من كان من جهة الأبوين، فوفى الاشتقاق حقه وغفل عن العرف ومطلق الاستعمال. وهذه المعاني إنما تبغى على الحقيقة أو على العرف المستعمل عند الإطلاق، فهذان لفظان.
اللفظ الثامن: قرابة، فيه أربعة أقوال: الأول: قال مالك في كتاب محمد بن عبدوس: إنهم الأقرب فالأقرب بالاجتهاد؛ ولا يدخل فيه ولد البنات ولا ولد الخالات. الثاني: يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه؛ قال علي بن زياد. الثالث: قال أشهب: يدخل فيه كل رحم من الرجال والنساء. الرابع: قال ابن كنانة: يدخل فيه الأعمام والعمات والأخوال والخالات وبنات الأخت. وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] قال: إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم. وقال: لم يكن بطن من قريش إلا كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة؛ فهذا يضبطه والله أعلم.
اللفظ التاسع: العشيرة؛ ويضبطه الحديث الصحيح: إن الله تعالى لما أنزل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] دعا النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وسماهم - كما تقدم ذكره - وهم العشيرة الأقربون؛ وسواهم عشيرة في الإطلاق. واللفظ يحمل على الأخص الأقرب بالاجتهاد، كما تقدم من قول علمائنا.

اللفظ العاشر: القوم؛ يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء. والقول يشمل الرجال والنساء؛ وإن كان الشاعر قد قال:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال، وإذا دعاهم للحرمة دخل فيهم الرجال والنساء؛ فتعممه الصفة وتخصصه القرينة.
اللفظ الحادي عشر: الموالي؛ قال مالك: يدخل فيه موالي أبيه وابنه مع مواليه. وقال ابن وهب: يدخل فيه أولاد مواليه. قال ابن العربي: والذي يتحصل منه أنه يدخل فيه من يرثه بالولاء؛ قال: وهذه فصول الكلام وأصول المرتبطة بظاهر القرآن والسنة المبينة له؛ والتفريع والتتميم في كتاب المسائل، والله أعلم.
الآية: 29 - 32 {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، َهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
قوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ} وقرئ {بل متعنا} . {هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} أي في الدنيا بالإمهال. {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} أي محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد والإسلام الذي هو اصل دين إبراهيم؛ وهو الكلمة التي بقاها الله في عقبه. {وَرَسُولٌ مُبِينٌ} أي يبين لهم ما بهم إليه حاجة. {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} يعني القرآن. {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} جاحدون. {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ} أي هلا نزل {هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ}

وقرئ {عَلَى رَجْلٍ} بسكون الجيم. {مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أي من إحدى القريتين؛ كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] أي من أحدهما. أو على أحد رجلين من القريتين. القريتان: مكة والطائف. والرجلان: الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم عم أبي جهل. والذي من الطائف أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي؛ قاله قتادة. وقيل: عمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف، وعتبة بن ربيعة من مكة؛ وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس: أن عظيم الطائف حبيب بن عمرو الثقفي. وقال السدي: كنانة بن عبد بن عمرو. روي أن الوليد بن المغيرة - وكان يسمى ريحانة قريش كان يقول: لو كان ما يقول محمد حقا لنزل علي أو على أبي مسعود؛ فقال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} يعني النبوة فيضعونها حيث شاؤوا. {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي أفقرنا قوما وأغنينا قوما؛ فإذا لم يكن أمر الدنيا إليهم فكيف يفوض أمر النبوة إليهم. قال قتادة: تلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له، ونلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن في رواية عنه "معايشهم". وقيل: أي نحن أعطينا عظيم القريتين ما أعطينا لا لكرامتهما علي وأنا قادر على نزع النعمة عنهما؛ فأي فضل وقدر لهما. {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي فاضلنا بينهم فمن فاضل ومفضول ورئيس ومرؤوس؛ قال مقاتل. وقيل: بالحرية والرق؛ فبعضهم مالك وبعضهم مملوك. وقيل: بالغنى والفقر؛ فبعضهم غني وبعضهم فقير. وقيل: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} قال السدي وابن زيد: خولا وخداما، يسخر الأغنياء الفقراء فيكون به بعضهم سببا لمعاش بعض. وقال قتادة والضحاك: يعني ليملك بعضهم بعضا. وقيل: هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء؛ أي ليستهزئ الغني بالفقير. قال الأخفش: سخرت به وسخرت منه، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وبه؛ كل يقال، والاسم السخرية (بالضم). والسخري والسخري (بالضم والكسر). وكل الناس ضموا {سخرِيا} إلا ابن محيصن ومجاهد فإنهما قرآ {سِخرِيا} {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ

خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي أفضل مما يجمعون من الدنيا. ثم قيل: الرحمة النبوة، وقيل الجنة. وقيل: تمام الفرائض خير مم كثير النوافل. وقيل: ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم.
الآية: 33 {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قال العلماء: ذكر حقارة الدنيا وقلة خطرها، وأنها عنده من الهوان بحيث كان يجعل بيوت الكفرة ودرجها ذهبا وفضة لولا غلبة حب الدنيا على القلوب؛ فيحمل ذلك على الكفر. قال الحسن: المعنى لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه؛ لهوان الدنيا عند الله عز وجل. وعلى هذا أكثر المفسرين ابن عباس والسدي وغيرهم. وقال ابن زيد: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في طلب الدنيا واختيارها على الآخرة {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} . وقال الكسائي: المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها.
الثانية: قرأ ابن كثير وأبو عمرو {سَقْفا} بفتح السين وإسكان القاف على الواحد ومعناه الجمع؛ اعتبارا بقوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]. وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع؛ مثل رهن ورهن. قال أبو عبيد: ولا ثالث لهما. وقيل: هو جمع سقيف؛ مثل كثيب وكثب، ورغيف ورغف؛ قاله الفراء. وقيل: هو جمع سقوف؛ فيصير جمع الجمع: سقف وسقوف، نحو فلس وفلوس. ثم جعلوا فعولا كأنه اسم واحد فجمعوه على فعل. وروي عن مجاهد {سقفا} بإسكان القاف. وقيل: اللام في {لبيوتهم} بمعنى على؛ أي على بيوتهم. وقيل: بدل؛ كما تقول: فعلت هذا لزيد لكرامته؛ قال الله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] كذلك قال هنا: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ}.

الثالثة: قوله تعالى: {وَمَعَارِجَ} يعني الدرج؛ قال ابن عباس وهو قول الجمهور. واحدها معراج، والمعراج السلم؛ ومنه ليلة المعراج. والجمع معارج ومعاريج؛ مثل مفاتح ومفاتيح؛ لغتان. {ومعاريج} قرأ أبو رجاء العطاردي وطلحة بن مصرف؛ وهي المراقي والسلاليم. قال الأخفش: إن شئت جعلت الواحد معرج ومعرج؛ مثل مرقاة ومرقاة. {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي على المعارج يرتقون ويصعدون؛ يقال: ظهرت على البيت أي علوت سطحه. وهذا لأن من علا شيئا وارتفع عليه ظهر للناظرين. ويقال: ظهرت على الشيء أي علمته. وظهرت على العدو أي غلبته.
وأنشد نابغة بني جعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:
علونا السماء عزة ومهابة ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
أي مصعدا؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [إلى أين] ؟ قال إلى الجنة؛ قال: [أجل إن شاء الله]. قال الحسن: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك ! فكيف لو فعل ؟!
الرابعة: استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن السقف لا حق فيه لرب العلو؛ لأن الله تعالى جعل السقوف للبيوت كما جعل الأبواب لها. وهذا مذهب مالك رحمه الله.
قال ابن العربي: وذلك لأن البيت عبارة عن قاعة وجدار وسقف وباب، فمن له البيت فله أركانه. ولا خلاف أن العلول إلى السماء. واختلفوا في السفل؛ فمنهم من قال هو له، ومنهم من قال ليس له في باطن الأرض شيء. وفي مذهبنا القولان.
وقد بين حديث الإسرائيلي الصحيح فيما تقدم: أن رجلا باع من رجل دارا فبناها فوجد فيها جرة من ذهب، فجاء بها إلى البائع فقال: إنما اشتريت الدار دون الجرة، وقال البائع: إنما بعت الدار بما فيها؛ وكلهم تدافعها فقضى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوج أحدهما ولده من بنت

الآخر ويكون المال لهما. والصحيح أن العلو والسفل له إلا أن يخرج عنهما بالبيع؛ فإذا باع أحدهما أحد الموضعين فله منه ما ينتفع به وباقيه للمبتاع منه.
الخامسة: من أحكام العلو والسفل. إذا كان العلو والسفل بين رجلين فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه؛ فذكر سحنون عن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، أو أراد صاحب العلو أن يبني علوه فليس لصاحب السفل أن يهدم إلا من ضرورة، ويكون هدمه له أرفق لصاحب العلو؛ لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لرب العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل. ولو انكسرت خشبة من سقف العلو لأدخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها ويخاف ضررها على صاحب السفل. قال أشهب: وباب الدار على صاحب السفل. قال: ولو أنهدم السفل أجبر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبني السفل؛ فإن أبى صاحب السفل من البناء قيل له بع ممن يبني. وروى ابن القاسم عن مالك في السفل لرجل والعلو لآخر فأعتل السفل، فإن صلاحه على رب السفل وعليه تعليق العلو حتى يصلع سفله؛ لأن عليه إما أن يحمله على بنيان أو على تعليق، وكذلك لو كان على العلو فتعليق العلو الثاني على صاحب الأوسط. وقد قيل: إن تعليق العلو الثاني على رب العلو حتى يبني الأسفل. وحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لوأنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" - أصل في هذا الباب. وهو حجة لمالك وأشهب. وفيه دليل على أن صاحب السفل ليس له أن يحدث على صاحب العلو ما يضربه، وأنه إن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه دون صاحب العلو، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر؛ لقوله عليه السلام: [فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا] ولا يجوز الأخذ إلا على يد الظالم أو من هو ممنوع من

إحداث ما لا يجوز له في السنة. وفيه دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وقد مضى في "الأنفال". وفيه دليل على جواز القرعة واستعمالها، وقد مضى في "آل عمران" فتأمل كلا في موضعه تجده مبينا، والحمد لله.
الآية: 34 {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ، وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}
قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً} {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً} أي ولجعلنا لبيوتهم. وقيل: {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من قوله: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ}. {أَبْوَاباً} أي من فضة. {وَسُرُراً} كذلك؛ وهو جمع السرير. وقيل: جمع الأسرة، والأسرة جمع السرير؛ فيكون جمع الجمع. {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} الاتكاء والتوكؤ: التحامل على الشيء؛ ومنه، {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}. ورجل تكأة؛ مثال همزة؛ كثير الاتكاء. والتكأة أيضا: ما يتكأ عليه. وأتكأ على الشيء فهو متكئ؛ والموضع متكأ. وطعنه حتى أتكأه (على أفعله) أي ألقاه على هيئة المتكئ. وتوكأت على العصا. وأصل التاء في جميع ذلك واو، ففعل به ما فعل باتزن واتعد. {وَزُخْرُفاً } الزخرف هنا الذهب؛ عن ابن عباس وغيره. نظيره: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء: 93] وقد تقدم. وقال ابن زيد: هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث. وقال الحسن: النقوش؛ وأصله الزينة. يقال: زخرفت الدار؛ أي زينتها. وتزخرف فلان؛ أي تزبن. واتصب {زخرفا} على معنى وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا. وقيل: ينزع الخافض؛ والمعنى فجعلنا لهم سقفا وأبوابا وسررا من فضة ومن ذهب؛ فلما حذف "من" قال: {وزخرفا} فنصب. {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بالتشديد. الباقون بالتخفيف؛ وقد ذكر هذا. وروي عن أبي رجاء كسر اللام من "لما"؛ فـ "ما" عنده بمنزلة الذي، والعائد عليها محذوف؛ والتقدير: وإن كل ذلك للذي

هو متاع الحياة الدنيا، وحذف الضمير ها هنا كحذفه في قراءة من قرأ {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة: 26] و {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154]. أبو الفتح: ينبغي أن يكون {كل} على هذه القراءة منصوبة؛ لأن "إن" مخففة من الثقيلة، وهي إذا خففت وبطل عملها لزمتها اللام في آخر الكلام للفرق بينها وبين "إن" النافية التي بمعنى ما؛ نحو إن زيد لقائم، ولا لام هنا سوى الجارة. {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} يريد الجنة لمن اتقى وخاف. وقال كعب: إني لأجد في بعض كتب الله المنزلة: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس عبدي الكافر بالإكليل، ولا يتصدع ولا ينبض منه عرق بوجع. وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء" . وفي الباب عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن غريب. وأنشدوا:
فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن ... إذاً لم يكن فيها معاش لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة ... وقد شبعت فيها بطون البهائم
وقال آخر:
تمتع من الأيام إن كنت حازما ... فإنك فيها بين ناه وآمر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
فلا تزن الدنيا جناح بعوضة ... ولا وزن رَقٌّ من جناح لطائر
فلم يرض بالدنيا ثوابا لمحسن ... ولا رضي الدنيا عقابا لكافر
الآية: 36 - 38 {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}

قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقرأ ابن عباس وعكرمة {ومن يعش} بفتح الشين، ومعناه يعمى؛ يقال منه عشي يعشى عشا إذا عمي. ورجل أعشى وامرأة عشواء إذا كان لا يبصر؛ ومنه قول الأعشى:
رأت رجلا غائب الوافدَيـ ... ـن مختلفَ الخلق أعشى ضريرا
وقوله:
أن رأت رجلا أعشى أضر به ... ريب المنون ودهر مفند خَبِلُ
الباقون بالضم؛ من عشا يعشو إذا لحقه ما لحق الأعشى. وقال الخليل: العشو هو النظر ببصر ضعيف؛ وأنشد:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
وقال آخر:
لنعم الفتى يعشو إلى ضوء ناره ... إذا الريح هبت والمكان جديب
الجوهري: والعشا (مقصور) مصدر الأعشى وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. والمرأة عشواء، وامرأتان عشواوان. وأعشاه الله فعشي (بالكسر) يعشى عشي، وهما يعشيان، ولم يقولوا يعشوان؛ لأن الواو لما صارت في الواحد ياء لكسرة ما قبلها تركت في التثنية على حالها. وتعاشى إذا أرى من نفسه أنه أعشى. والنسبة إلى أعشى أعشوي. وإلى العشية عشوى. والعشواء: الناقة التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيديها كل شيء. وركب فلان العشواء إذا خبط أمره على غير بصيرة. وفلان خابط خبط عشواء.
وهذه الآية تتصل بقول أول السورة: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} [الزخرف: 5] أي نواصل لكم الذكر؛ فمن يعش عن ذلك الذكر بالإعراض عنه إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} أي نسبب له شيطانا جزاء له على كفره { فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} قيل في الدنيا، يمنعه يمنعه من الحلال، ويبعثه على الحرام، وينهاه عن الطاعة، ويأمره بالمعصية؛ وهو معنى قول ابن عباس.

وقيل في الآخرة إذا قام من قبره؛ قال سعيد الجريري. وفي الخبر: أن الكافر إذا خرج من قبره يشفع بشيطان لا يزال معه حتى يدخل النار. وأن المؤمن يشفع بملك حتى يقضي الله بين خلقه؛ ذكره المهدوي. وقال القشيري: والصحيح فهو له قرين في الدنيا والآخرة. وقال أبو الهيثم والأزهري: عشوت إلى كذا أي قصدته. وعشوت عن كذا أي أعرضت عنه، فتفرق بين "إلى" و"عن"؛ مثل: ملت إليه وملت عنه. وكذا قال قتادة: يعش، يعرض؛ وهو قول الفراء. النحاس: وهو غير معروف في اللغة. وقال القرظي: يولي ظهره؛ والمعنى واحد. وقال أبو عبيدة والأخفش: تظلم عينه. وأنكر العتبي عشوت بمعنى أعرضت؛ قال: وإنما الصواب تعاشيت. والقول قول أبي الهيثم والأزهري. وكذلك قال جميع أهل المعرفة. وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق ويعقوب وعصمة عن عاصم وعن الأعمش {يقيض له شيطان فهو له قرين } "بالياء" لذكر {الرحمن} أولا؛ أي يقيض له الرحمن شيطانا. الباقون بالنون. وعن ابن عباس { يقيض له } أي ملازم ومصاحب. قيل: {فهو} كناية عن الشيطان؛ على ما تقدم. وقيل عن الإعراض عن القرآن؛ أي هو قرين للشيطان. {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي وإن الشياطين ليصدونهم عن سبيل الهدى؛ وذكر بلفظ الجمع لأن {من} في قوله: {وَمَنْ يَعْشُ} في معنى الجمع. {وَيَحْسَبُونَ} أي ويحسب الكفار {أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وقيل: ويحسب الكفار إن الشياطين مهتدون فيطيعونهم.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} على التوحيد قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص يعني الكافر يوم القيامة. الباقون {جاءانا} على التثنية، يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة؛ فيقول الكافر: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف، كما قال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] ونحوه قول مقاتل. وقراءة التوحيد وإن كان ظاهرها الإفراد فالمعنى لهما جميعا؛ لأنه قد عرف ذلك بما بعده؛ كما قال:
وعين لها حدرة بدرة ... شقت مآقيهما من أخر

قال مقاتل: يتمنى الكافر أن بينهما بعد المشرق أطول يوم في السنة إلى مشرق أقصر يوم في السنة، ولذلك قال: {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}. وقال الفراء: أراد المشرق والمغرب فغلب اسم أحدهما، كما يقال: القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر، والبصرتان للكوفة والبصرة، والعصران للغداة والعصر. وقال الشاعر:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
وأنشد أبو عبيدة لجرير:
ما كان يرضى رسول الله فعلهم ... والعمران أبو بكر ولا عمر
وأنشد سيبويه:
قَدْنيَ من نصر الخُبَيبين قَدِي
يريد عبد الله ومصعبا ابني الزبير،وإنما أبو خبيب عبد الله. {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} أي فبئس الصاحب أنت؛ لأنه يورده إلى النار. قال أبو سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار.
الآية: 39 {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}
قوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} {إذ} بدل من اليوم؛ أي يقول الله للكافر: لن ينفعكم اليوم إذ أشركتم في الدنيا هذا الكلام؛ وهو قول الكافر: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أي لا تنفع الندامة اليوم {إِنكم} بالكسر {فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وهي قراءة ابن عامر باختلاف عنه. الباقون بالفتح. وهي في موضع رفع تقديره: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب؛ لأن لكل واحد نصيبه الأوفر منه. أعلم الله تعالى أنه منع أهل النار التأسي كما يتأسى أهل المصائب في الدنيا، وذلك أن التأسي يستروحه أهل الدنيا فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة؛ فيسكن ذلك من حزنه؛ كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي

فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي، شيئا لشغلهم بالعذاب. وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم؛ لأن قرناءكم وأنتم في العذاب مشتركون كما اشتركتم في الكفر.
الآية: 40 {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} يا محمد {وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي ليس لك ذلك فلا يضيق صدرك إن كفروا؛ ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وفيه رد على القدرية وغيرهم، وأن الهدى والرشد والخذلان في القلب خلق الله تعالى، يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
الآية: 41 {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ}
قوله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} يريد نخرجنك من مكة من أذى قريش. {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ،أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} وهو الانتقام منهم في حياتك. {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} قال ابن عباس: قد أراه الله ذلك يوم بدر؛ وهو قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن وقتادة: هي في أهل الإسلام؛ يريد ما كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن. و {نذهبن بك} على هذا نتوفينك. وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نقمة شديدة فأكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذهب به فلم يره في أمته إلا التي تقر به عينه وأبقى النقمة بعده، وليس من نبي إلا وقد أري النقمة في أمته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أري ما لقيت أمته من بعده، فما زال منقبضا، ما انبسط ضاحكا حتى لقي، الله عز وجل. وعن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بأمة خيرا قبض نبيها قبلها فجعاه لها فرطا وسلفا. وإذا أراد الله بأمة عذابا عذبها ونبيها حي لتقر عينه لما كذبوه وعصوا أمره".

- الآية: 43 {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ}
قوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} يريد القرآن، يريد القرآن، وإن كذب به من كذب؛ فـ {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يوصلك إلى الله ورضاه وثوابه. {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني القرآن شرف لك ولقومك من قريش، إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم؛ نظيره: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] أي شرفكم. فالقرآن نزل بلسان قريش وإياهم خاطب؛ فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم كل من آمن بذك فصاروا عيالا عليهم؛ لأن أهل كل لغة احتاجوا إلى أن يأخذوه من لغتهم حتى يقفوا على المعنى الذي عنى به من الأمر. والنهي وجميع ما فيه من الأنباء، فشرفوا بذلك على سائر أهل اللغات ولذلك سمي عربيا.
وقيل: بيان لك ولأمتك فيما بكم إليه حاجة. وقيل: تذكرة تذكرون به أمر الدين وتعملون به. وقيل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني الخلافة فإنها في قريش لا تكون في غيرهم؛ قال النبي مصلى الله عليه وسلم: "الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم" . وقال مالك: هو قول الرجل حدثني أبي عن أبيه، حكاه ابن أبي سلمة عن أبيه عن مالك بن أنس فيما ذكر الماوردي والثعلبي وغيرهما. قال ابن العربي: ولم أجد في الإسلام هذه المرتبة لأحد إلا ببغداد فإن بني التميمي بها يقولون: حدثني أبي قال حدثني أبي، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبذلك شرفت أقدارهم، وعظم الناس شأنهم، وتهممت الخلافة بهم. ورأيت بمدينة السلام ابني أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب أبي الفرج بن عبد العزيز بن الحارث بن الأسد بن الليث آل سليمان بن أسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن عبد الله التميمي وكانا يقولان: سمعنا أبانا رزق الله يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت علي بن أبي طالب

يقول وقد سئل عن الحنان المنان فقال: الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال. والقائل سمعت عليا: أكينة بن عبدالله جدهم الأعلى. والأقوى أن يكون المراد بقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني القرآن؛ فعليه انبنى الكلام وإليه يرجع المصير، والله أعلم. قال الماوردي: {وَلِقَوْمِكَ} فيهم قولان: أحدهما: من اتبعك من أمتك؛ قاله قتادة وذكره الثعلبي عن الحسن. الثاني: لقومك من قريش؛ فيقال ممن هذا ؟ فيقال من العرب، فيقال من أي العرب ؟ فيقال من قريش؛ قال مجاهد.
قلت: والصحيح أنه شرف لمن عمل به، كان من قريش أومن غيرهم. روى ابن عباس قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم من سرية أو غزاة فدعا فاطمة فقال: "يا فاطمة اشتري نفسك من الله فإني لا أغني عنك من الله شيئا" وقال مثل ذلك لنسوته، وقال مثل ذلك لعترته، ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "ما بنو هاشم بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا قريش بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الأنصار بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الموالي بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون. إنما أنتم من رجل وامرأة وأنتم كجمام الصاع ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم أو يكونون شرا عند الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها، كلكم بنو آدم وآدم من تراب، إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء الناس مؤمن تقي وفاجر شقي". خرجهما الطبري. وسيأتي لهذا مزيد بيان في الحجرات إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} أي عن الشكر عليه؛ قال مقاتل والفراء. وقال ابن جريج: أي تسألون أنت ومن معك على ما أتاك. وقيل: تسألون عما عملتم فيه؛ والمعنى متقارب.
الآية: 45 {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}

قال ابن عباس وابن زيد: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى - وهو مسجد بيت المقدس - بعث الله له آدم ومن ولد من المرسلين، وجبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأذن جبريل صلى الله عليه وسلم ثم أقام الصلاة، ثم قال: يا محمد تقدم فصل بهم؛ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال جبريل صلى الله عليه وسلم: "سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أسأل قد اكتفيت" . قال ابن عباس: وكانوا سبعين نبيا منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؛ فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم. في غير رواية ابن عباس: فصلوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة صفوف، المرسلون ثلاثة صفوف والنبيون أربعة؛ وكان يلي ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم خليل الله، وعلى يمينه إسماعيل وعلى يساره إسحاق ثم موسى ثم سائر المرسلين فأمهم ركعتين؛ فلما انفتل قام فقال: "إن ربي أوحى إلي أن أسألكم هل أرسل أحد منكم يدعو إلى عبادة غير الله" ؟ فقالوا: يا محمد، إنا نشهد إنا أرسلنا أجمعين بدعوة واحدة أن لا إله إلا الله وأن ما يعبدون من دونه باطل، وأنك خاتم النبيين وسيد المرسلين، قد استبان ذلك لنا بإمامتك إيانا، وأن لا نبي بعدك إلى يوم القيامة إلا عيسى ابن مريم فإنه مأمور أن يتبع أثرك".
وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} قال: لقي الرسل ليلة أسري به. وقال الوليد بن مسلم في قوله تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} قال: سألت عن ذلك وليد بن دعلج فحدثني عن قتادة قال: سألهم ليلة أسري به، لقي الأنبياء ولقي آدم ومالك خازن النار.
قلت: هذا هو الصحيح في تفسير هذه الآية. و {من} التي قبل {رسلنا} على هذا القول غير زائدة. وقال المبرد وجماعة من العلماء: إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا. وروي أن في قراءة ابن مسعود: {واسال الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا} .

وهذه قراءة مفسرة؛ فـ {من} على هذا زائدة، وهو قول مجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن وابن عباس أيضا. أي واسأل مؤمني أهل الكتابين التوراة والإنجيل. وقيل: المعنى سلنا يا محسد عن الأنبياء الذين أرسلنا قبلك؛ فحذفت {عن} ، والوقف على {رسلنا} على هذا تام، ثم ابتدأ بالاستفهام على طريق الإنكار. وقيل: المعنى واسأل تباع من أرسلنا من قبلك من رسلنا، فحذف المضاف. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.
قوله تعالى: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} أخبر عن الآلهة كما أخبر عمن يعقل فقال: {يُعْبَدُونَ} ولم يقل تعبد ولا يعبدن، لأن الآلهة جرت عندهم مجرى من يعقل فأجرى الخبر عنهم مجرى الخبر عمن يعقل.
وسبب هذا الأمر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك؛ فأمره الله بسؤال الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير؛ لا لأنه كان في شك منه.
واختلف أهل التأويل في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين: أحدهما: أنه سألهم فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد؛ قاله الواقدي. الثاني: أنه لم يسألهم ليقينه بالله عز وجل؛ حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل: "هل سألك محمد عن ذلك ؟ فقال جبريل: هو أشد إيمانا وأعظم يقينا من أن يسأل عن ذلك". وقد تقدم هذا المعنى في الروايتين حسبما ذكرناه.
الآية: 46 - 52 {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ، وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ، وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ}

{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا} لما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه منتقم له من عدوه وأقام الحجة باستشهاد الأنبياء واتفاق الكل على التوحيد أكد ذلك قصة موسى وفرعون، وما كان من فرعون من التكذيب، وما نزل به وبقومه من الإغراق والتعذيب: أي أرسلنا موسى بالمعجزات وهي التسع الآيات فكذب؛ فجعلت العاقبة الجميلة له، فكذلك أنت. ومعنى: {يضحكون} استهزاء وسخرية؛ يوهمون أتباعهم أن تلك الآيات سحر وتخيل، وأنهم قادرون عليها. وقوله: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي كانت آيات موسى من أكبر الآيات، وكانت كل واحدة أعظم مما قبلها. وقيل: {إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} لأن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما، فتضم الثانية إلى الأولى فيزداد الوضوح، ومعنى الأخوة المشاكلة المناسبة؛ كما يقال: هذه صاحبة هذه؛ أي قريبتان في المعنى. {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي على تكذيبهم بتلك الآيات؛ وهو كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130]. والطوفان والجراد والقمل والضفادع. وكانت هذه الآيات الأخيرة عذابا لهم وآيات لموسى. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من كفرهم.
قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} لما عاينوا العذاب قالوا يا أيها الساحر؛ نادوه بما كانوا ينادونه به من قبل ذلك على حسب عادتهم. وقيل: كانوا يسمون العلماء سحرة فنادوه بذلك على سبيل التعظيم. قال ابن عباس: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما يوقرونه؛ ولم يكن السحر صفة ذم. وقيل: يا أيها الذي غلبنا بسحره؛ يقال: ساحرته فسحرته؛ أي غلبته بالسحر؛ كقول العرب: خاصمته فخصمته أي غلبته بالخصومة، وفاضلته ففضلته، ونحوها. ويحتمل أن يكون أرادوا به الساحر على الحقيقة على معنى الاستفهام، فلم يلمهم على ذلك رجاء أن يؤمنوا. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن ثابت {وأيهُ الساحر} بغير ألف والهاء مضمومة؛ وعلتها أن الهاء خلطت بما قبلها وألزمت ضم الياء الذي أوجبه النداء المفرد. وأنشد الفراء:
يأيه القلب اللجوج النفس ... أفق عن البيض الحسان اللعس

فضم الهاء حملا على ضم الياء؛ وقد مضى في "النور" معنى هذا. ووقف أبو عمرو وابن أبي إسحاق ويحيى والكسائي {أيها} بالألف على الأصل. الباقون بغير ألف؛ لأنها كذلك وقعت في المصحف. {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أي بما أخبرنا عن عهده إليك إنا إن آمنا كشف عنا؛ فسله يكشف عنا {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي فيما يستقبل. {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} أي فدعا فكشفنا. {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} أي ينقضون العهد على أنفسهم فلم يؤمنوا. وقيل:قولهم: {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} إخبار منهم عن أنفسهم بالإيمان؛ فلما كشف عنهم العذاب ارتدوا.
قوله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} قيل: لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إليه فجمع قومه فقال: فنادى بمعنى قال؛ قاله أبو مالك. فيجوز أن يكون عنده عظماء القبط فرفع صوته بذلك فيما بينهم ثم ينشر عنه في جموع القبط؛ وكأنه نودي بينهم. وقيل: إنه أمر من ينادي في قومه؛ قاله ابن جريج. {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} أي لا ينازعني فيه أحد. قيل: إنه ملك منها أربعين فرسخا في مثلها؛ حكاه النقاش. وقيل أراد بالملك هنا الإسكندرية. {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} يعني أنهار النيل، ومعظمها أربعة: نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس. وقال قتادة: كانت جنانا وأنهارا تجري من تحت قصوره. وقيل: من تحت سريره. وقيل: {مِنْ تَحْتِي} قال القشيري: ويجوز ظهور خوارق العادة على مدعي الربوبية؛ إذ لا حاجة في التمييز الإله من غير الإله إلى فعل خارق للعادة. وقيل معنى {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} أي القواد والرؤساء والجبابرة يسيرون من تحت لوائي؛ قاله الضحاك. وقيل: أراد بالأنهار الأموال، وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها. وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} أي أفرقها على من يتبعني؛ لأن الترغيب والقدرة في الأموال دون

الأنهار. {أَفَلا تُبْصِرُونَ} عظمتي وقوتي وضعف موسى. وقيل: قدرتي على نفقتكم وعجز موسى. والواو في {وهذه} يجوز أن تكون عاطفة للأنهار على {ملك مصر} و {تجري} نصب على الحال منها. ويجوز أن تكون واو الحال، واسم الإشارة مبتدأ، و{الأنهار} صفة لاسم الإشارة، و {تجري } خبر للمبتدأ. وفتح الياء من {تحتي} أهل المدينة والبزي وأبو عمرو، وأسكن الباقون. وعن الرشيد أنه لما قرأها قال: لأولينها أحسن عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه. وعن عبدالله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها شارفها ووقع عليها بصره قال: أهذه القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} ؟ ! والله لهي عندي أقل من أن أدخلها ! فثنى عنانه. ثم صرح بحاله فقال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} قال أبو عبيدة السدي: {أم} بمعنى "بل" وليست بحرف عطف؛ على قول أكثر المفسرين. والمعنى: قال فرعون لقومه بل أنا خير {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} أي لا عزله فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} يعني ما كان في لسانه من العقدة؛ على ما تقدم في "طه" وقال الفراء:في "أم" وجهان: إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وإن شئت جعلتها نسقا على قوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} وقيل: هي زائدة. وروى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون "أم" زائدة؛ والمعنى أنا خير من هذا الذي هو مهين. وقال الأخفش: في الكلام حذف، والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون؛ كما قال:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم
أي أنت أحسن أم أم سالم. ثم ابتداء فقال: {أَنَا خَيْرٌ}. وقال الخليل وسيبويه: المعنى {أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، أم أنتم بصراء، فعطف بـ {أم} على {أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، لأن معنى {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} أم أي تبصرون؛ وذلك أنهم إذا قالوا له أنت خير منه كانوا عنده بصراء. وروي عن عيسى

الثقفي ويعقوب الحضرمي أنهما وقفا على {أم} على أن يكون التقدير أفلا تبصرون أم تبصرون؛ فحذف تبصرون الثاني. وقيل من وقف على {أم} جعلها زائدة، وكأنه وقف على "تبصرون" من قوله: "{أَفَلا تُبْصِرُونَ}، ولا يتم الكلام على "تبصرون" عند الخليل وسيبويه؛ لأن {أم} تقتضي الاتصال بما قبلها. وقال قوم: الوقف على قوله: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، ثم ابتدأ {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} بمعنى بل أنا؛ وأنشد الفراء:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح
فمعناه: بل أنت أملح. وذكر الفراء أن بعض القراء قرأ {أما أنا خير} ؛ ومعنى هذا ألست خيرا. وروي عن مجاهد أنه وقف على {أم} ثم يبتدئ {أنا خير} وقد ذكر.
الآية: 53 {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}
قوله تعالى: {فَلَوْلا} أي هلا {أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} إنما قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف. وقرأ حفص {أسورة} جمع سوار، كخمار وأخمرة. وقرأ أبي {أساور} جمع إسوار. وابن مسعود {أساوير}. الباقون {أساورة} جمع الأسورة فهو جمع الجمع. ويجوز أن يكون {أساورة} جمع {إسوار} وألحقت الهاء في الجمع عوضا من الياء؛ فهو مثل زناديق وزنادقة، وبطاريق وبطارقة، وشبهه. وقال أبو عمرو بن العلاء: واحد الأساورة والأساور والأساوير إسوار، وهي لغة في سوار. قال مجاهد: كانوا إذا سوروا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسيادته، فقال فرعون: هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقا ! {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} يعني متتابعين؛ في قول قتادة. مجاهد: يمشون معا. ابن عباس: يعاونونه على من خالفه؛ والمعنى: هلا ضم إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه حتى يتكثر بهم ويصرفهم على أمره ونهيه؛ فيكون ذلك أهيب في القلوب. فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا

كرسل الملوك في الشاهد، ولم يعلم أن رسل الله إنما أيدوا بالجنود السماوية؛ وكل عاقل يعلم أن حفظ الله موسى مع تفرده ووحدته من فرعون مع كثرة أتباعه، وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء كان أبلغ من أن يكون له أسورة أو ملائكة يكونون معه أعوانا - في قول مقاتل - أو دليلا على صدقه - في قول الكلبي - وليس يلزم هذا لأن الإعجاز كان، وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما كذب مع ظهور الآيات. وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى؛ لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم.
الآية: 54 {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}
قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} قال ابن الأعرابي: المعنى فاستجهل قومه {فَأَطَاعُوهُ} لخفة أحلامهم وقلة عقولهم؛ يقال: استخفه الفرح أي أزعجه، واستخفه أي حمله على الجهل؛ ومنه: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]. وقيل: استفزهم بالقول فأطاعوه على، التكذيب. وقيل: استخف قومه أي وجدهم خفاف الأول. وهذا لا يدل على أنه يجب أن يطيعوه، فلا بد من إضمار بعيد تقديره وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية فأطاعوه. وقيل: استخف قومه وقهرهم حتى أتبعوه؛ يقال: استخفه خلاف استثقله، واستخف به أهانه. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}أي خارجين عن طاعة الله.
الآية: 55 {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} روى الضحاك عن ابن عباس: أي غاظونا وأغضبونا. وروى عنه علي بن أبي طلحة: أي أسخطونا. قال الماوردي: ومعناها مختلف، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة. والغضب إرادة الانتقام. القشيري: والأسف ها هنا بمعنى الغضب؛ والغضب من الله إما إرادة العقوبة فيكون من صفات الذات، وإما عين العقوبة فيكون من صفات الفعل؛ وهو معنى قول الماوردي.

وقال عمر بن ذر: يا أهل معاصي الله، لا تغتروا بطول حلم الله عنكم، واحذروا أسفه؛ فإنه قال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} . وقيل: {آسَفُونَا} أي أغضبوا رسلنا وأولياءنا المؤمنين؛ نحو السحرة وبني إسرائيل. وهو كقوله تعالى: {يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57] و {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33] أي أولياءه ورسله.
الآية: 56 {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ}
قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} أي جعلنا قوم فرعون سلفا. قال أبو مِجْلَز: {سلفا} لمن عمل عملهم، {وَمَثَلاً} لمن يعمل عملهم. وقال مجاهد: {سَلَفاً} إخبارا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، {وَمَثَلاً} أي عبرة لهم. وعنه أيضا {سَلَفاً} لكفار قومك يتقدمونهم إلى النار. قتادة: {سلفا} إلى النار، {وَمَثَلاً} عظة لمن يأتي بعدهم. والسلف المتقدم؛ يقال: سلف يسلف سلفا؛ مثل طلب طلبا؛ أي تقدم ومضى. وسلف له عمل صالح أي تقدم. والقوم السلاف المتقدمون. وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون؛ والجمع أسلاف وسلاف. وقراءة العامة {سَلَفاً} (بفتح السين واللام) جمع سالف؛ كخادم وخدم، وراصد ورصد، وحارس وحرس. وقرأ حمزة والكسائي {سَلْفاً} (بضم السين واللام). قال الفراء هو جمع سليف، نحو سرير وسرر. وقال أبو حاتم: هو جمع سلف؛ نحو خشب وخشب، وثمر وثمر؛ ومعناهما واحد. وقرأ علي وابن مسعود وعلقمة وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس {سُلَفاً} (بضم السين وفتح اللام) جمع سلفة، أي فرقة متقدمة. قال المؤرج والنضر بن شميل: {سُلَفاً} جمع سلفة، نحو غرفة وغرف، وطرفة وطرف، وظلمة وظلم.
الآية: 57 {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}
لما قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا: ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم الها؛ قال قتادة. ونحوه عن مجاهد قال: إن قريشا قالت إن محمدا

يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى؛ فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس: أراد به مناظرة عبدالله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى، وأن الضارب لهذا المثل هو عبدالله بن الزبعرى اسهمي حالة كفره لما قالت له قريش إن محمدا يتلو: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] الآية، فقال: لو حضرته لرددت عليه؛ قالوا: وما كنت تقول له ؟ قال: كنت أقول له هذا المسيح تعبده النصارى، واليهود تعبد عزيرا، أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنه قد خصم؛ وذلك معنى قوله: {يَصِدُّونَ} فما نزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. ولو تأمل ابن الزبعرى الآية ما أعترض عليها؛ لأنه قال: {وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل ومن تعبدون وإنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإن كانوا معبودين. وقد مضى هذا في آخر سورة "الأنبياء".
وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: "يا معشر قريش لا خير في أحد يعبد من دون الله". قالوا: أليس تزعم أن عيسى كان عبدا نبيا وعبدا صالحا، فإن كان كما تزعم فقد كان يعبد من دون الله !. فأنزل الله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أي يضجون كضجيج الإبل عند حمل الأثقال. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي {يَصُدُّونَ} (بضم الصاد) ومعناه يعرضون؛ قاله النخعي، وكسر الباقون. قال الكسائي: هما لغتان؛ مثل يعرشون ويعرشون وينمون وينمون، ومعناه يضجون. قال الجوهري: وصد يصد صديدا؛ أي ضج. وقيل: إنه بالضم من الصدود وهو الإعراض، وبالكسر من الضجيج؛ قال قطرب. قال أبو عبيد: لو كانت من الصدود عن الحق لكانت: إذا قومك عنه يصدون. الفراء: هما سواء؛ منه وعنه. ابن المسيب: يصدون يضجون. الضحاك يعجون. ابن عباس: يضحكون. أبو عبيدة: من ضم فمعناه يعدلون؛ فيكون المعنى: من أجل الميل يعدلون. ولا يعدى {يَصِدُّونَ} بمن، ومن كسر فمعناه يضجون؛ فـ {من} متصلة بـ {يصدون} والمعنى يضجون منه.

- الآية: 58 {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
قوله تعالى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} أي ألهتنا خير أم عيسى ؟ قال السدي. وقال: خاصموه وقالوا إن كل من عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى والملائكة وعزير، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] الآية. وقال قتادة: {أم هو} يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. وفي قراءة ابن مسعود {ألهتنا خير أم هذا }. وهو يقوي قول قتادة، فهو استفهام تقرير في أن آلهتهم خير. وقرأ الكوفيون ويعقوب {أألهتنا} بتحقيق الهمزتين، ولين الباقون. وقد تقدم. {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً} حال؛ أي جدلين. يعني ما ضربوا لك هذا المثل إلا إرادة الجدل؛ لأنهم علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوه من الموت {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} مجادلون بالباطل. وفي صحيح الترمذي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية – {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
الآية: 59 - 60 {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ، وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}
قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} أي ما عيسى إلا عبد أنعم الله عليه بالنبوة، وجعله مثلا لبني إسرائيل؛ أي آية وعبرة يستدل بها. على قدرة الله تعالى؛ فإن عيسى كان من غير أب، ثم جعل الله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والأسقام كلها ما لم يجعل لغيره في زمانه، مع أن بني إسرائيل كانوا يومئذ خير الخلق وأحبه إلى الله عز وجل، والناس دونهم، ليس أحد عند الله عز وجل مثلهم.
وقيل المراد بالعبد المنعم عليه محمد صلى الله عليه وسلم؛

والأول أظهر. {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ} أي بدلا منكم {مَلائِكَةً} يكونون خلفا عنكم؛ قال السدي. ونحوه عن مجاهد قال: ملائكة يعمرون الأرض بدلا منكم. وقال الأزهري: إن "من" قد تكون للبدل؛ بدليل هذه الآية.
قلت: قدم تقدم هذا المعنى في "التوبة" وغيرها. وقيل: لو نشاء لجعلنا من الإنس ملائكة وإن لم تجر العادة بذلك، والجواهر جنس واحد والاختلاف بالأوصاف؛ والمعنى: لو نشاء لأسكنا الأرض الملائكة، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا، أو يقال لهم بنات الله. ومعنى {يَخْلُفُونَ} يخلف بعضهم بعضا؛ قاله ابن عباس.
الآية: 61 {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قال الحسن وقتادة وسعيد بن جببر: يريد القرآن؛ لأنه يدل على قرب مجيء الساعة، أو به تعلم الساعة وأهوالها وأحوالها.
وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة أيضا: إنه خروج عيسى عليه السلام، وذلك من أعلام الساعة. لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة. وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن دينار والضحاك {وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ} (بفتح العين واللام) أي أمارة. وقد روي عن عكرمة {وإنه للعلم} (بلامين) وذلك خلاف للمصاحف. وعن عبدالله بن مسعود. قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا الساعة فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علم؛ فرد الحديث إلى عيسى ابن مريم قال: قد عهد إلي فيما دون وجبتها فأت وجبتها فلا يعلمها إلا الله عز وجل؛ فذكر خروج الدجال - قال: فأنزل فأقتله. وذكر الحديث، خرجه ابن ماجة في سننه. وفي صحيح مسلم "فبينما هو - يعني المسيح الدجال - إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي

دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله..." الحديث...
وذكر الثعلبي والزمخشري وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل عيسى بن مريم عليه السلام من السماء على ثنية من الأرض المقدسة يقال لها أفيق بين ممصرتين وشعر رأسه دهين وبيده حربة يقتل بها الدجال فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به". وروى خالد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم إنه ليس بيني وبينه نبي وإنه أول نازل فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقاتل الناس على الإسلام". قال الماوردي: وحكى ابن عيسى عن قوم أنهم قالوا إذا نزل عيسى رفع التكليف لئلا يكون رسولا إلى ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم. وهذا قول مردود لثلاثة أمور؛ منها الحديث، ولأن بقاء الدنيا يقتضي التكليف فيها، ولأنه ينزل آمرا بمعروف وناهيا عن منكر. وليس يستنكر أن يكون أمر الله تعالى له مقصورا على تأييد الإسلام والأمر به والدعاء إليه.
قلت: ثبت في صحيح مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لينزلن عيسى بن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد". وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل،ابن مريم فيكم وإمامكم منكم" وفي رواية "فأمكم منكم" قال ابن أبي ذئب: تدري "ما أمكم

منكم" ؟ قلت: تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فهذا نص على أنه ينزل مجددا لدين النبي صلى الله عليه وسلم للذي درس منه، لا بشرع مبتدأ والتكليف باق؛ على ما بيناه هنا وفي كتاب التذكرة.
وقيل: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي وإن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى؛ قال ابن إسحاق.
قلت: ويحتمل أن يكون المعنى {وإنه} وإن محمدا صلى الله عليه وسلم لعلم للساعة؛ بدليل قوله عليه السلام: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وضم السبابة والوسطى؛ خرجه البخاري ومسلم. وقال الحسن: أول أشراطها محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} فلا تشكون فيها؛ يعني في الساعة؛ قاله يحيى بن سلام. وقال السدي: فلا تكذبون بها، ولا تجادلون فيها فإنها كائنة لا محالة. {وَاتَّبِعُونِ} أي في التوحيد وفيما أبلغكم عن الله. {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي طريق قويم إلى الله، أي إلى جنته. وأثبت الياء يعقوب في قوله: {وَاتَّبِعُونِ} في الحالين، وكذلك {وأطيعون}. وأبو عمرو وإسماعيل عن نافع في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين. {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أي لا تغتروا بوساوسه وشبه الكفار. المجادلين؛ فإن شرائع الأنبياء لم تختلف في التوحيد ولا فيما أخبروا به من علم الساعة وغيرها بما تضمنته من جنه أو نار. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تقدم.
الآية: 63 - 64 {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} قال ابن عباس: يريد إحياء الموتى وإبراء الأسقام، وخلق الطير، والمائدة وغيرها، والإخبار بكثير من الغيوب. وقال قتادة: البينات

هنا الإنجيل. {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} أي النبوة؛ قاله السدي. ابن عباس: علم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح. وقيل الإنجيل؛ ذكره القشيري والماوردي. {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} قال مجاهد: من تبديل التوراة. الزجاج: المعنى لأبين لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه من تبديل التوراة.
قال مجاهد: وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. وقيل: بين لهم بعض الذي اختلفوا فيه من أحكام التوراة على قدر ما سألوه. ويجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك لم يسألوه عنها. وقيل: إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم وأشياء من أمر دنياهم فبين لهم أمر دينهم. ومذهب أبي عبيدة أن البعض بمعنى الكل؛ ومنه قوله تعالى: {يصبكم بعض الذي يعدكم} [غافر: 28]. وأنشد الأخفش قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أوتعتلق بعض النفوس حمامها
والموت لا يعتلق بعض النفوس دون بعض. ويقال للمنية: علوق وعلاقة. قال المفضل البكري:
وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علقت بثعلبة العلوق
وقال مقاتل: هو كقوله: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]. يعني ما أحل في الإنجيل مما كان محرما في التوراة؛ كلحم الإبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أي اتقوا الشرك ولا تعبدوا إلا الله وحده؛ وإذا كان هذا قول عيسى فكيف يجوز أن يكون إلها أو ابن إله. {وَأَطِيعُونِ} فيما أدعوكم إليه من التوحيد وغيره. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي عبادة الله صراط مستقيم، وما سواه معوج لا يؤدي سالكه إلى الحق.
الآية: 65 {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}

قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} قال قتادة: يعني ما بينهم، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، خالف بعضهم بعضا، قال مجاهد والسدي. الثاني: فرق النصارى من النسطورية والملكية واليعاقبة، اختلفوا في عيسى؛ فقال النسطورية: هو ابن الله. وقالت اليعاقبة: هو الله. وقالت الملكية: ثالث ثلاثة أحدهم الله؛ قال الكلبي ومقاتل، وقد مضى هذا في سورة "مريم". {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي كفروا وأشركوا؛ كما في سورة "مريم". {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي أليم عذابه؛ مثله: ليل نائم؛ أي ينام فيه. {هَلْ يَنْظُرُونَ} يريد الأحزاب لا ينتظرون. {إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} {إِلَّا السَّاعَةَ} يريد القيامة. {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي فجأة. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} يفطنون. وقد مضى في غير موضع. وقيل: المعنى لا ينتظر مشركو العرب إلا الساعة. ويكون "الأحزاب" على هذا، الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. ويتصل هذا بقوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً} [الزخرف: 58].
الآية: 67 {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}
قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ} يريد يوم القيامة. {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي أعداء، يعادي بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا. {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة؛ قال معناه ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط، كانا خليلين؛ وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: قد صبأ عقبة بن أبي معيط؛ فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ولم تتفل في وجهه؛ ففعل عقبة ذلك؛ فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله فقتله يوم بدر صبرا، وقتل أمية في المعركة؛ وفيهم نزلت هذه الآية. وذكر الثعلبي رضي الله عنه في هذه الآية قال: كان خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب،

إن فلانا كان يأمرني بطاعتك، وطاعة رسولك، وكان يأمرني بالخير وينهاني عن الشر. ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي، وأهده كما هديتني، وأكرمه كما أكرمتني. فإذا مات خليله المؤمن جمع الله ببنهما، فيقول الله تعالى: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب، إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، فيقول الله تعالى: نعم الخليل ونعم الأخ ونعم الصاحب كان. قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا رب، إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك يا رب ألا تهده بعدي، وأن تضله كما أضللتني، وأن تهينه كما أهنتني؛ فإذا مات خليله الكافر قال الله تعالى لهما: لثين كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب، إنه كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك أن تضاعف عليه العذاب؛ فيقول الله تعالى: بئس الصاحب والأخ والخليل كنت. فيلعن كل واحد منهما صاحبه.
قلت: والآية عامة في كل مؤمن ومتق وكافر ومضل.
الآية: 68 {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}
قال مقاتل ورواه المعتمر بن سليمان عن أببه: ينادي مناد في العرصات {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} ، فيرفع أهل العرصة رؤوسهم، فيقول المنادي: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فينكس أهل الأديان رؤوسهم غير المسلمين.
وذكر المحاسبي في الرعاية: وقد روي في هذا الحديث أن المنادي ينادي يوم القيامة: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} فيرفع الخلائق رؤوسهم، يقولون: نحن عباد الله. ثم ينادي الثانية: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فينكس الكفار رؤوسهم ويبقى الموحدون رافعي رؤوسهم. ثم ينادي الثالث: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63] فينكس أهل الكبائر رؤوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعي رؤوسهم، قد أزال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم؛ لأنه أكرم الأكرمين، لا يخذل وليه ولا يسلمه عند الهلكة. وقرئ {يا عباد}.

- الآية: 69 {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}
قال الزجاج: {الذين} نصب على النعت لـ {عبادي} لأن {عبادي} منادى مضاف. وقيل: {الَّذِينَ آمَنُوا} خبر لمبتدأ محذوف أو ابتداء وخبره محذوف؛ تقديره هم الذين آمنوا، يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} أو يا عبادي الذين آمنوا ادخلوا الجنة. {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} المسلمات في الدنيا. وقيل: قرناؤكم من المؤمنين. وقيل: زوجاتكم من الحور العين. {تُحْبَرُونَ} تكرمون؛ قاله ابن عباس؛ والكرامة في المنزلة. الحسن: تفرحون. والفرح في القلب. قتادة: ينعمون؛ والنعيم في البدن. مجاهد؛ تسرون؛ والسرور في العين. ابن أبي نجيح: تعجبون؛ والعجب ها هنا درك ما يستطرف يحي بن أبي كثير: هو التلذذ بالسماع. وقد مضى.
الآية: 71 {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في صحاف من ذهب وأكواب. ولم يذكر الأطعمة والأشربة؛ لأنه يعلم أنه لا معنى للإطافة بالصحاف والأكواب عليهم من غير أن يكون فيها شيء. وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب؛ كقوله تعالى:

{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35]. وفي الصحيحين عن حذيفة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". وقد مضى في سورة "الحج" أن من أكل فيهما في الدنيا أو لبس الحرير في الدنيا ولم يتب حرم ذلك في الآخرة تحريما مؤيدا. والله أعلم. وقال المفسرون: يطوف على أدناهم في الجنة منزلة سبعون ألف غلام بسبعين ألف صحفة من ذهب، يغدى عليها بها، في كل واحدة منها لون ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا، ويراح عليه بمثلها. ويطوف على أرفعهم درجة كل يوم سبعمائة ألف غلام، مع كل غلام صحفة من ذهب، فيها لون من الطعام ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا.
{وَأَكْوَابٍ} أي ويطاف عليهم بأكواب؛ كما قال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} [الإنسان: 15].
وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن رجل عن أبي قلابة قال: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك أوتوا بالشراب الطهور فتضمر لذلك بطونهم، ويفيض عرقا من جلودهم أطيب من ريح المسك؛ ثم قرأ {شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21]. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون قالوا فما بال الطعام ؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير - في رواية - كما يلهمون النفس".
الثانية: روى الأئمة من حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وقال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها" وهذا يقتضي التحريم، ولا خلاف في ذلك.

واختلف الناس في استعمالها في غير ذلك. قال ابن العربي: والصحيح أنه لا يجوز للرجال استعمالها في شي لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذهب والحرير: "هذان حرام لذكور أمتي حل لإناثها" . والنهي عن الأكل والشرب فيها يدل علن تحريم استعمالها؛ لأنه نوع من المتاع فلم يجز. أصله الأكل والشرب، ولأن العلة في ذلك استعجال أمر الآخرة، وذلك يستوي فيه الأكل والشرب وسائر أجزاء الانتفاع؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: "هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة" فلم يجعل لنا فيها حظا في الدنيا.
الثالثة: إذا كان الإناء مضببا بهما أو فيه حلقة منهما؛ فقال مالك: لا يعجبني أن يشرب فيه، وكذلك المرأة تكون فيها الحلقة من الفضة ولا يعجبني أن ينظر فيها وجهه.
وقد كان عند أنس إناء مضبب بفضة وقال: لقد سقيت فيه النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن سيرين: كانت فيه حلقة حديد فأراد أنس أن يجعل فيه حلقة فضة؛ فقال أبو طلحة: لا أغير شيئا مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتركه.
الرابعة: إذا لم يجز استعمالها لم يجز اقتناؤها؛ لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطنبور. وفي كتب علمائنا أنه يلزم الغرم في قيمتها لمن كسرها، وهو معنى فاسد، فإن كسره واجب فلا ثمن لقيمتها. ولا يجوز تقويمها في الزكاة بحال. وغير هذا لا يلتفت إليه.
قوله تعالى: {بِصِحَافٍ} قال الجوهري: الصحفة كالقصعة والجمع صحاف. قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة طيها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف. {وَأَكْوَابٍ} قال الجوهري: الكوب كوز لا عروة له، والجمع أكواب قال الأعشى يصف الخمر:

صريفية طيب طعمها ... لها زبد بين كوب ودن
وقال آخر:
متكئا تصفق أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب
وقال قتادة: الكوب المدور القصير العنق القصير العروة. والإبريق: المستطيل العنق الطويل العروة. وقال الأخفش: الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها. وهي الأباريق التي ليست لها عرى. وقال مجاهد: إنها الآنية المدورة الأفواه. السدي: هي التي لا آذان لها. ابن عزيز: {أكواب} أباريق لا عرى لها ولا خراطيم؛ واحدها كوب.
قلت: وهو معنى قول مجاهد والسدي، وهو مذهب أهل اللغة أنها التي لا آذان لها ولا عرى.
قوله تعالى: {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله،هل في الجنة من خيل ؟ قال: "إن الله أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت". قال: وسأله رجلا فقال يا رسول الله، هل في الجنة من إبل ؟ قال: فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه قال: "إن أدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك". وقرأ أهل المدينة، ابن عامر وأهل الشام {وفيها ما تشتهيه الأنفس} ، الباقون {تشتهي الأنفس} أي تشتهيه الأنفس؛ تقول الذي ضربت زيد، أي الذي ضربته زيد. {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} تقول: لذ الشيء يلذ لذاذا، ولذاذة. ولذذت. بالشيء ألذ (بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل" لذاذا ولذاذة؛ أي وجدته لذيذا. والتذذت به وتلذذت به بمعنى. أي في الجنة ما تستلذه العين فكان حسن المنظر. وقال سعيد بن جبير: {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} النظر إلى الله عز وجل؛ كما في الخبر: "أسألك لذة النظر إلى وجهك". {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} باقون دائمون؛ لأنها لو انقطعت لتبغضت.

الآية: 72 {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ} أي يقال لهم هذه تلك الجنة التي كانت توصف لكم في الدنيا. وقال ابن خالَويه: أشار تعالى إلى الجنة بتلك وإلى جهنم بهذه؛ ليخوف بجهنم ويؤكد التحذير منها. وجعلها بالإشارة القريبة كالحاضرة التي ينظر إليها. {الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قال ابن عباس: خلق الله لكل نفس جنة ونارا؛ فالكافر يرث نار المسلم، والمسلم يرث جنة الكافر؛ وقد تقدم هذا مرفوعا في {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] من حديث أبي هريرة، وفي "الأعراف" أيضا.
الآية: 73 {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ}
الفاكهة معروفة، وأجناسها الفواكه، والفاكِهاني الذي يبيعها. وقال ابن عباس: هي الثمار كلها، رطبها وطيبا؛ أي لهم في الجنة سوى الطعام والشراب فاكهة كثيرة يأكلون منها.
الآية: 74 - 76 {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} لما ذكر أحوال أهل الجنة ذكر أحوال أهل النار أيضا ليبين فضل المطيع على العاصي. {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي لا يخفف عنهم ذلك العذاب. {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي آيسون من الرحمة. وقيل: ساكتون سكوت يأس؛ وقد مضى. {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بالعذاب {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} أنفسهم بالشرك. ويجوز "ولكن كانوا هم الظالمون" بالرفع على الابتداء والخبر والجملة خبر كان.
الآية: 77 {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}

قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} وهو خازن جهنم، خلقه لغضبه؛ إذا زجر النار زجرة أكل بعضها بعضا. وقرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما {ونادوا يا مالِ} وذلك خلاف المصحف. وقال أبو الدرداء وابن مسعود: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {ونادوا يا مال} باللام خاصة؛ يعني رخم الاسم وحذف الكاف. والترخيم الحذف، ومنه ترخيم الاسم في النداء، وهو أن يحذف من آخره حرف أوكثر، فتقول في مالك: يا مال، وفي حارث: يا حار، وفي فاطمة: يا فاطم، وفي عائشة يا عائش وفي مروان: يا مرو، وهكذا. قال:
يا حار لا أرمين منكم به بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك
وقال امرؤ القيس:
أحار ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل
وقال أيضا:
أفاطم مهلا بعض هذا التدليل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وقال آخر:
يا مرو إن مطيتي محبوسة ... ترجو الحباء وربها لم ييأس
وفي صحيح الحديث "أي فل، هلم". ولك في آخر الاسم المرخم وجهان: أحدهما: أن تبقيه على ما كان عليه قبل الحذف. والآخر: أن تبقيه على الضم؛ مثل: يا زيد؛ كأنك أنزلته منزلته ولم تراع المحذوف. وذكر أبو بكر الأنباري قال: حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد - وهو ابن سعدان - قال حدثنا حجاج عن شعبة عن الحكم بن

عيينة عن مجاهد قال: كنا لا ندري ما الزخرف حتى وجدناه في قراءة عبدالله {بيت من ذهب} ، وكنا لا ندري {ونادوا يا مالك} أو يا ملك (بفتح اللام وكسرها) حتى وجدناه في قراءة عبدالله {ونادوا يا مال} على الترخيم. قال أبو بكر: لا يعمل على هذا الحديث لأنه مقطوع لا يقبل مثله في الرواية عن الرسول عليه السلام؛ وكتاب الله أحق بأن يحتاط له وينفى عنه الباطل.
قلت: وفي صحيح البخاري عنه صفوان بن يعلى عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} بإثبات الكاف.
وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني - أو ذكر لي - أن أهل النار استغاثوا بالخزنة فقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] فسألوا يوما واحدا يخفف عنهم فيه العذاب؛ فردت عليهم: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50] قال: فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا مالكا؛ وهو عليهم وله مجلس في وسطها، وجسور تمر عليها ملائكة العذاب؛ فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها فقالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} سألوا الموت، قال: فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة، قال: والسنة ستون وثلاثمائة يوم، والشهر ثلاثون يوما، واليوم كألف سنة مما تعدون، ثم لحظ إليهم بعد الثمانين فقال: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} وذكر الحديث؛ ذكره ابن المبارك. وفي حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيقولون ادعوا مالكا فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون". قال الأعمش: نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام؛ خرجه الترمذي. وقال ابن عباس: يقولون ذلك فلا يجيبهم ألف سنة، ثم يقول إنكم ماكثون. وقال مجاهد ونوف البكالي: بين ندائهم وإجابته إياهم مائة سنة. وقال عبدالله بن عمرو: أربعون سنة؛ ذكره ابن المبارك.

- الآية: 78 {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}
يحتمل أن يكون هذا من قول مالك لهم؛ أي إنكم ماكثون في النار لأنا جئناكم في الدنيا بالحق فلم تقبلوا. ويحتمل أن يكون من كلام الله لهم اليوم؛ أي بينا لكم الأدلة وأرسلنا إليكم الرسل. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ} قال ابن عباس: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ} أي ولكن كلكم. وقيل: أراد بالكثرة الرؤساء والقادة منهم؛ وأما الأتباع فما كان لهم أثر {لِلْحَقِّ} أي للإسلام ودين الله {كَارِهُونَ} .
الآية: 79 {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}
قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه؛ فنزلت هذه الآية، وقتل الله جميعهم ببدر.
{أَبْرَمُوا} أحكموا. والإبرام الإحكام. أبرمت الشيء أحكمته. وأبرم القتال إذا أحكم القتل، وهو القتل الثاني، والأول سحيل؛ كما قال:
... من سحيل ومبرم
فالمعنى: أم أحكموا كيدا فإنا محكمون لهم كيدا؛ قال ابن زيد ومجاهد. قتادة: أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث. الكلبي: أم قضوا أمرا فإنا قاضون عليهم بالعذاب. وأم بمعنى بل. وقيل: {أَمْ أَبْرَمُوا} عطف على قوله: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]. وقيل: أي ولقد جئناكم بالحق فلم تسمعوا، أم سمعوا فأعرضوا لأنهم في أنفسهم أبرموا أمرا أمنوا به العقاب.
الآية: 80 {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}

قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} أي ما يسرونه في أنفسهم ويتناجون به بينهم. {بَلَى} نسمع ونعلم. {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} أي الحفظة عندهم يكتبون عليهم. وروي أن هذا نزل في ثلاثة نفر كانوا بين الكعبة وأستارها؛ فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا ؟ وقال الثاني: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع. وقال الثالث: إن كان يسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسررتم؛ قاله محمد بن كعب القرظي، وقد مضى هذا المعنى عن ابن مسعود في سورة "فصلت".
الآية: 81 {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} اختلف في معناه؛ فقال ابن عباس والحسن والسدي: المعنى ما كان للرحمن ولد، فـ "إن" بمعنى ما، ويكون الكلام على هذا تاما، ثم تبتدئ: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي الموحدين من أهل مكة على أنه لا ولد له. والوقف على {الْعَابِدِينَ} تام. وقيل: المعنى قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد ولده، ولكن يستحيل أن يكون له ولد؛ وهو كما تقول لمن تناظره: إن ثبت بالدليل فأنا أول من يعتقده؛ وهذا مبالغة في الاستبعاد؛ أي لا سبيل إلى اعتقاده. وهذا ترقيق في الكلام؛ كقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. والمعنى على هذا: ترقيق في الكلام؛ كقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. والمعنى على هذا: فأنا أول العابدين لذلك الولد، لأن تعظيم الولد تعظيم للوالد. وقال مجاهد: المعنى إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده وحده، على أنه لا ولد له. وقال السدي أيضا: المعنى لو كان له ولد كنت أول من عبده على أن له ولدا؛ ولكن لا ينبغي ذلك. قال المهدوي: فـ {إن} على هذه الأقوال للشرط، وهو الأجود، وهو اختيار الطبري، لأن كونها بمعنى ما يتوهم معه أن المعنى لم يكن له فيما مضى. وقيل: إن معنى {العابدين} الآنفين. وقال بعض العلماء: لو كان كذلك لكان العبدين.

وكذلك قرأ أبو عبدالرحمن واليماني {فأنا أول العبدين} بغير ألف، يقال: عبد يعبد عبدا (بالتحريك) إذا أنف وغضب فهو عبد، والاسم العبدة مثل الأنفة، عن أبي زيد. قال الفرزدق:
أولئك أجلاسي فجئني بمثلهم ... واعبد أن أهجو كلبا بدارم
وينشد أيضا:
أولئك ناس إن هجوني هجوتهم ... وأعبد أن يهجى كليب بدارم
قال الجوهري: وقال أبو عمرو وقوله تعالى: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} من الأنف والغضب، وقال الكسائي والقتبي، حكاه الماوردي عنهما. وقال الهروي: وقوله تعالى: {فأنا أول العابدين} قيل هو من عبد يعبد؛ أي من الآنفين. وقال ابن عرفة: إنما يقال عبد يعبد فهو عبد؛ وقلما يقال عابد، والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ، ولكن المعنى فأنا أول من يعبد الله عز وجل على أنه واحد لا ولد له.
وروي أن امرأة دخلت على زوجها فولدت منه لستة أشهر، فذكر ذلك لعثمان رضي الله عنه فأمر برجمها؛ فقال له علي: قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15] وقال في آية أخرى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فوالله ما عَبِد عثمان أن بعث إليها تُرَدُّ. قال عبدالله بن وهب: يعني ما استنكف ولا أنف. وقال ابن الأعرابي {فأنا أول العابدين} أي الغضاب الآنفين وقيل: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي أنا أول من يعبده على الوحدانية مخالفا لكم. أبو عبيدة: معناه الجاحدين؛ وحكى: عبدني حقي أي جحدني. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما {ولد} بضم الواو وإسكان اللام. الباقون وعاصم {ولد} وقد تقدم. {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي تنزيها له وتقديسا. نزه نفسه عن كل ما يقتضي الحدوث، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتنزيه. {رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي عما يقولون من، الكذب.
الآية: 83 {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}

قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} يعني كفار مكة حين كذبوا بعذاب الآخرة. أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} إما العذاب في الدنيا أو في الآخرة. وقيل: إن هذا منسوخ بآية السيف. وقيل: هو محكم، وإنما أخرج مخرج التهديد. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد وابن القعقاع وابن السميقع {حتى يلقوا} بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف؛ وفتح القاف هنا وفي"الطور" و"المعارج". الباقون "يلاقوا".
الآية: 84 {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} هذا تكذيب لهم في أن لله شريكا وولدا؛ أي هو المستحق للعبادة في السماء والأرض. وقال عمر رضي الله عنه وغيره: المعنى وهو الذي في السماء إله في الأرض؛ وكذلك قرأ. والمعنى أنه يعبد فيهما. وروي أنه قرأ هو وابن مسعود وغيرهما {وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله} وهذا خلاف المصحف. و {إله} رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي وهو الذي في السماء هو إله؛ قاله أبو علي. وحسن حذفه لطول الكلام. وقيل: "في" بمعنى على؛ كقوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي على جذوع النخل؛ أي هو القادر على السماء والأرض. {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} تقدم.
الآية: 85 {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
قوله تعالى: {وَتَبَارَكَ} تفاعل من البركة؛ وقد تقدم. {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي وقت قيامها. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالياء. الباقون بالتاء. وكان ابن محيصن وحميد ويعقوب وابن أبي إسحاق يفتحون أوله على أصولهم. وضم الباقون.

الآية: 86 {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} في موضع الخفض. وأراد بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} عيسى وعزيرا والملائكة. والمعنى ولا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة؛ قال سعيد بن جبير وغيره. قال: وشهادة الحق لا إله إلا الله. وقيل: {من} في محل رفع؛ أي ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة؛ يعني الآلهة - في قول قتادة - أي لا يشفعون لعابديها إلا من شهد بالحق؛ يعني عزيرا وعيسى والملائكة فإنهم يشهدون بالحق والوحدانية لله. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حقيقة ما شهدوا به. قيل: إنها نزلت بسبب أن النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة لنا منه؛ فأنزل الله: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} أي اعتقدوا أن الملائكة أو الأصنام أو الجن أو الشياطين تشفع لهم ولا شفاعة لأحد يوم القيامة.
{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} يعني المؤمنين إذا أذن لهم. قال ابن عباس: "إن من شهد بالحق" أي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقيل: أي لا يملك هؤلاء العابدون من دون الله أن يشفع لهم أحد إلا من شهد بالحق؛ فإن من شهد بالحق يشفع له ولا يشفع لمشرك. و"إلا" بمعنى لكن؛ أي لا ينال المشركون الشفاعة لكن ينال الشفاعة من شهد بالحق؛ فهو استئناء منقطع. ويجوز أن يكون متصلا؛ لأن في جملة {الذين يدعون من دونِهِ} الملائكة. ويقال: شفعته وشفعت له؛ مثل كاته وكلت له.
وقيل: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} إلا من تشهد له الملائكة بأنه كان على الحق في الدنيا، مع علمهم بذلك منه بأن يكون الله أخبرهم به، أو بأن شاهدوه على الإيمان.

قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يدل على معنيين: أحدهما: أن الشفاعة بالحق غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني: أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها. ونحوه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع". وقد مضى.
الآية: 87 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي لأقروا بأن الله خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا. {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف ينقلبون عن عبادته وينصرفون حتى أشركوا به غيره رجاء شفاعتهم له. يقال: أفكه يأفكه أفكا؛ أي قلبه وصرفه عن الشيء. ومنه قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف: 22]. وقيل: أي ولئن سألت الملائكة وعيسى {مَنْ خَلَقَهُمْ} لقالوا الله. {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي فأنى يؤفك هؤلاء في ادعائهم إياهم آلهة.
الآية: 88 {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى: {وَقِيلِهِ} فيه ثلاث قراءات: النصب، والجر، والرفع. فأما الجر فهي قراءة عاصم وحمزة. وبقية السبعة بالنصب. وأما الرفع فهي قراءة الأعرج وقتادة وابن هرمز ومسلم بن جندب. فمن جر حمله على معنى: وعنده علم الساعة وعلم قيله. ومن نصب فعلى معنى: وعنده علم الساعة ويعلم قيله؛ وهذا اختيار الزجاج.
وقال الفراء والأخفش: يجوز أن يكون {قيله} عطفا على قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف: 80]. قال ابن الأنباري: سألت أبا العباس محمد بن يزيد المبرد بأي شيء تنصب القيل ؟ فقال: أنصبه على "وعنده علم الساعة ويعلم قيله". فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على {ترجعون} ، ولا على {يعلمون}. ويحسن الوقف على {يكتبون} . وأجاز الفراء والأخفش أن ينصب القيل على معنى: لا نسمع سرهم ونجواهم

وقيله؛ كما ذكرنا عنهما فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على {يكتبون}. وأجاز الفراء والأخفش أيضا: أن ينصب على المصدر؛ كأنه قال: وقال قيله، وشكا شكواه إلى الله عز وجل، كما قال كعب بن زهير:
تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم ... إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
أراد: ويقولون قيلهم. ومن رفع {قيله} فالتقدير: وعنده قيله، أوقيله مسموع، أوقيله هذا القول. الزمخشري: والذي قالوه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه. والرفع على قولهم: ايمن الله وأمانة الله ويمين الله ولعمرك، ويكون قوله: {إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} جواب القسم؛ كأنه قال: وأقسم بقيله يا رب، أو قيله يا رب قسمي، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. وقال ابن الأنباري: ويجوز في العربية {وقيله} بالرفع، على أن ترفعه بإن هؤلاء قوم لا يؤمنون. المهدوي: أويكون على تقدير وقيله قيله يا رب؛ فحذف قيله الثاني الذي هو خبر، وموضع {يا رب} نصب بالخبر المضمر، ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع حذف بعض الموصول وبقي بعضه؛ لأن حذف القول قد كثر حتى صار بمنزلة المذكور. والهاء في {قيله} لعيسى، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد جرى ذكره إذ قال: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81]. وقرأ أبو قلابة {يا رب} بفتح الباء. والقيل مصدر كالقول؛ ومنه الخبر (نهى عن قيل وقال). ويقال: قلت قولا وقيلا وقالا. وفي النساء {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122].
الآية: 89 {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
قال قتادة: أمر بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم؛ فصار الصفح منسوخا بالسيف. ونحوه عن ابن عباس قال: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} أعرض عنهم. {وَقُلْ سَلامٌ} أي معروفا؛ أي قل المشركين أهل مكة {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ثم نسخ هذا في سورة "التوبة" بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] الآية. وقيل: هي محكمة لم تنسخ. وقراءة العامة {فَسَوْفَ

يَعْلَمُونَ} (بالباء) على أنه خبر من الله تعالى لنبيه بالتهديد. وقرأ نافع وابن عامر {تعلمون} (بالتاء) على أنه من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بالتهديد. و {سلام} رفع بإضمار عليكم؛ قاله الفراء. ومعناه الأمر بتوديعهم بالسلام، ولم يجعله تحية لهم؛ حكاه النقاش. وروى شعيب بن الحبحاب أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم؛ والله أعلم.

تفسير سورة الدخان
سورة الدخان
المقدمة
سورة الدخان مكية باتفاق، إلا قوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً} [الدخان: 15]. وهي سبع وخمسون آية. وقيل تسع. وفي مسند الدارمي عن أبي رافع قال: "من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له وزوج من الحور العين" رفعه الثعلبي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له". وفي لفظ آخر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك". وعن أبي أمامة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة".
الآية: 1 {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}
إن جعلت {حم} جواب القسم تم الكلام عند قوله: {المبين} ثم تبتدئ {إنا أنزلناه} . وإن جعلت {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} جواب القسم الذي هو {الكتاب} وقفت على {منذرين} وابتدأت {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. وقيل: الجواب {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} ، وأنكره بعض النحويين من حيث كان صفة للمقسم به، ولا تكون صفة المقسم به جوابا للقسم، والهاء في {أنزلناه}

للقرآن. ومن قال: أقسم بسائر الكتب فقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} كنى به عن غير القرآن، على ما تقدم بيانه في أول "الزخرف" والليلة المباركة ليلة القدر. ويقال: ليلة النصف من شعبان، ولها أربعة أسماء الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة القدر. ووصفها بالبركة لما ينزل الله فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب. وروى قتادة عن واثلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان وأنزلت الزبور لاثنتي عشرة من رمضان وأنزل الإنجيل لثمان عشرة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان". ثم قيل: أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا في هذه الليلة. ثم أنزل نجما نجما في سائر الأيام على حسب اتفاق الأسباب. وقيل: كان ينزل في كل ليلة القدر ما ينزل في سائر السنة. وقيل: كان ابتداء الإنزال في هذه الليلة. وقال عكرمة: الليلة المباركة ها هنا ليلة النصف من شعبان. والأول أصح لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]. قال قتادة وابن زيد: أنزل الله القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة. وهذا المعنى قد مضى في "البقرة" عند قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، ويأتي آنفا إن شاء الله تعالى.
الآية: 4 {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}
قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أوموت أورزق. وقاله قتادة ومجاهد والحسن وغيرهم. وقيل: إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران، قاله ابن عمر. قال المهدوي: ومعنى هذا القول أمر الله عز وجل الملائكة بما يكون في ذلك العام ولم يزل ذلك في علمه عز وجل. وقال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. وروى عثمان بن المغيرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تقطع الآجال من شعبان

إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى". وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلتها وصوموا نهارها فإن الله ينزل لغروب الشمس إلى سماء الدنيا يقول ألا مستغفر فأغفر له ألا مبتلى فأعافيه ألا مسترزق فأرزقه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر" ذكره الثعلبي. وخرج الترمذي بمعناه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب". وفي الباب عن أبي بكر الصديق قال أبو عيسى: حديث عائشة لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحجاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثيرة عن عروة عن عائشة، وسمعت محمدا يضعف هذا الحديث، وقال: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة، والحجاج بن أرطاة لم يسمع من يحيى بن أبي كثير.
قلت: وقد ذكر حديث عائشة مطولا صاحب كتاب العروس، واختار أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ليلة النصف من شعبان، وأنها تسمى ليلة البراءة. وقد ذكرنا قوله والرد عليه في غير هذا الموضع، وأن الصحيح إنما هي ليلة القدر على ما بيناه. روى حماد بن سلمة قال أخبرنا ربيعة بن كلثوم قال: سأل رجل الحسن وأنا عنده فقال: يا أبا سعيد، أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي ؟ قال: أي والله الذي لا إله إلا هو، إنها في كل رمضان، إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها. وقال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج؛ يقال: يحج فلان ويحج فلان. وقال في هذه الآية: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى. وهزه الإبانة لإحكام السنة إنما هي للملائكة الموكلين بأسباب الخلق. وقد ذكرنا هذا المعنى آنفا. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر. ومنهم من قال: إنها ليلة النصف من شعبان؛ وهو باطل لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فنص على أن ميقات نزوله رمضان، ثم عين من زمانه الليل ها هنا بقوله: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}

فمن زعم أنه في غيره فقد أعظم الفرية على الله، وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها. الزمخشري: "وقيل يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر؛ فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف؛ ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم؛ ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وعن بعضهم: يعطى كل عامل بركات أعماله؛ فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، وعلى قلوبهم هيبته. وقرئ {نفَرَّق} بالتشديد، و {يَفْرق} كل على بنائه للفاعل ونصب {كل} ، والفارق الله عز وجل. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه {نفرق} بالنون. و {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} كل شأن ذي حكمة؛ أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة ".
الآية: 5 {أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
قوله تعالى: {أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا} قال النقاش: الأمر هو القرآن أنزله الله من عنده. وقال ابن عيسى: هو ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده. وهو مصدر في موضع الحال. وكذلك {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} وهما عند الأخفش حالان؛ تقديرهما: أنزلناه آمرين به وراحمين. المبرد: {أَمْراً} في موضع المصدر، والتقدير: أنزلناه إنزالا. الفراء والزجاج: {أَمْراً} نصب بـ {يفرق} ، مثل قولك "يفرق فرقا" فأمر بمعنى فرق فهو مصدر، مثل قولك: يضرب ضربا. وقيل: {يفرق} يدل على يؤمر، فهو مصدر عمل فيه ما قبله.{ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } قال الفراء {رحمة} مفعول بـ {مرسلين}. والرحمة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الزجاج: {رحمة} مفعول من أجله؛ أي أرسلناه للرحمة. وقيل: هي بدل من قول. {أمرا} وقيل: هي مصدر. الزمخشري: {أمرا} نصب على الاختصاص، جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وكسبه

فخامة بأن قال: أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا، كائنا من لدنا، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا. وفي قراءة زيد بن علي {أَمْرٌ مِنْ عِنْدِنَا} على هو أمر، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص. وقرأ الحسن {رحمةٌ} على تلك هي رحمة، وهي تنصر انتصابها بأنه مفعول له.
الآية: 7 - 9 {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}
قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قرأ الكوفيون {رب} بالجر. الباقون بالرفع؛ ردا على قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. وإن شئت على الابتداء، والخبر لا إله إلا هو. أو يكون خبر ابتداء محذوف؛ تقديره: هو رب السماوات والأرض. والجر على البدل من {ربك} وكذلك: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} بالجر فيهما؛ رواه الشيزري عن الكسائي. الباقون بالرفع على الاستئناف. ثم يحتمل أن يكون هذا الخطاب مع المعترف بأن الله خلق السماوات والأرض؛ أي إن كنتم موقنين به فاعلموا أن له أن يرسل الرسل، ويجوز الكتب. ويجوز أن يكون الخطاب مع من لا يعترف أنه الخالق؛ أي ينبغي أن يعرفوا أنه الخالق؛ وأنه الذي يحيي ويميت. وقيل: الموقن ها هنا هو الذي يريد اليقين ويطلبه؛ كما تقول: فلان ينجد؛ أي يريد نجدا. ويتهم؛ أي يريد تهامة. {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو خالق العالم؛ فلا يجوز أن يشرك به غيره ممن لا يقدر على خلق شيء. و {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي يحيي الأموات ويميت الأحياء. {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} أي مالككم ومالك من تقدم منكم. واتقوا تكذيب محمد لئلا ينزل بكم العذاب. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} أي ليسوا على يقين فيما يظهرونه من الإيمان والإقرار في قولهم: إن الله خالقهم؛ وإنما

يقولونه لتقليد آبائهم من غير علم فهم في شك. وإن توهموا أنهم مؤمنون فهم يلعبون في دينهم بما يعن لهم من غير حجة. وقيل: {يَلْعَبُونَ} يضيفون إلى النبي صلى الله عليه وسلم الافتراء استهزاء. ويقال لمن أعرض عن المواعظ: لاعب؛ وهو كالصبي الذي يلعب فيفعل ما لا يدري عاقبته.
الآية: 10 {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ارتقب معناه انتظر يا محمد بهؤلاء الكفار يوم تأتي السماء بدخان مبين؛ قال قتادة. وقيل: معناه أحفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتى السماء بدخان مبين؛ ولذلك سمي الحافظ رقيبا. وفي الدخان أقوال ثلاثة: الأول: أنه من أشراط الساعة لم يجيء بعد، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما يملأ ما بين السماء والأرض؛ فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام، وأما الكافر والفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم، ويضيق أنفاسهم؛ وهو من آثار جهنم يوم القيامة. وممن قال إن الدخان لم يأت بعد: علي وابن عباس وابن عمرو وأبو هريرة وزيد بن علي والحسن وابن أبي مليكة وغيرهم. وروى أبو سعيد الخدري مرفوعا أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة؛ يأخذ المؤمن منه كالزكمة. ومنفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه؛ ذكره الماوردي. وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: "ما تذكرون" ؟ قالوا: نذكر الساعة؛ قال: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات - فذكر - الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم". في رواية عن حذيفة "إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال

ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس". وخرجه الثعلبي أيضا عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول الآيات خروجا الدجال ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم إذا قالوا وتصبح معهم إذا أصبحوا وتمسي معهم إذا أمسوا" . قلت: يا نبي الله، وما الدخان ؟ قال هذه الآية: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه منه شبه الزكام والكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج الدخان من فمه ومنخره وعينيه وأذنه ودبره". فهذا قول. القول الثاني: أن الدخان هو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم. حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخانا؛ قاله ابن مسعود. قال وقد كشفه الله عنهم، ولو كان يوم القيامة لم يكشفه عنهم. والحديث عنه بهذا في صحيح البخاري ومسلم والترمذي. قال البخاري: حدثني يحيى قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال: قال عبدالله: إنما كان هذا لأن قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد؛ فأنزل الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قال: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت. قال: "لمضر! إنك لجريء" فاستسقى فسقوا؛ فنزلت {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]. فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية؛ فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} قال: يعني يوم بدر. قال أبو عبيدة: والدخان الجدب. القتبي سمي دخانا ليبس الأرض منه حين يرتفع منها كالدخان. القول الثالث: إنه يوم. فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة؛ قاله عبدالرحمن الأعرج.
قوله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ} في موضع الصفة للدخان، فإن كان قد مضى على ما قال ابن مسعود فهو خاص بالمشركين من أهل مكة، وإن كان من

أشراط الساعة فهو عام على ما تقدم. {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي يقول الله لهم: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . فمن قال: إن الدخان قد مضى فقوله: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} حكاية حال ماضية، ومن جعله مستقبلا. فهو حكاية حال آتية. وقيل: {هذا} بمعنى ذلك. وقيل: أي يقول الناس لذلك الدخان: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقيل: هو إخبار عن دنو الأمر؛ كما تقول: هذا الشتاء فأعد له.
الآية: 12 {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ }
أي يقولون ذلك: اكشف عنا العذاب فـ {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ؛ أي نؤمن بك إن كشفته عنا. قيل: إن قريشا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا، ثم نقضوا هذا القول. قال قتادة: "العذاب" هنا الدخان. وقيل: الجوع؛ حكاه النقاش.
قلت: ولا تناقض؛ فإن الدخان لم يكن، إلا من الجوع الذي أصابهم؛ على ما تقدم. وقد يقال للجوع والقحط: الدخان؛ ليبس الأرض في سنة الجدب وارتفاع الغبار بسبب قلة الأمطار؛ ولهذا يقال لسنة الجدب: الغبراء. وقيل: إن العذاب هنا الثلج. قال الماوردي: وهذا لا وجه له؛ لأن هذا إنما يكون في الآخرة أو في أهل مكة، ولم تكن مكة من بلاد الثلج؛ غير أنه مقول فحكيناه.
الآية: 13 {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}
قوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} أي من أين يكون لهم التذكر والاتعاظ عند حلول العذاب. {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} يبين لهم الحق، والذكرى والذكر واحد؛ قاله البخاري. {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي أعرضوا. قال ابن عباس: أي متى يتعظون والله أبعدهم من الاتعاظ والتذكر بعد توليهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه. وقيل: أي أنى ينفعهم

قولهم: {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ؛ بعد ظهور العذاب غدا أو بعد ظهور أعلام الساعة، فقد صارت المعارف ضرورية. وهذا إذا جعلت الدخان آية مرتقبة. {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} أي علمه بشر أو علمه الكهنة والشياطين، ثم هو مجنون وليس برسول.
الآية: 15 {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}
قوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً} أي وقتا قليلا، وعد أن يكشف عنهم ذلك العذاب قليلا؛ أي في زمان قليل ليعلم أنهم لا يفون بقولهم، بل يعودون إلى الكفر بعد كشفه؛ قال ابن مسعود. فلما كشف ذلك عنهم باستسقاء النبي صلى لهم الله عليه وسلم عادوا إلى تكذيبه. ومن قال: إن الدخان منتظر قال: أشار بهذا إلى ما يكون من الفرجة بين آية وآية من آيات قيام الساعة. ثم من قضي عليه بالكفر يستمر على كفره. ومن قال هذا في القيامة قال: أي لو كشفنا عنكم العذاب لعدتم إلى الكفر. وقيل: معنى {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} إلينا؛ أي مبعوثون بعد الموت. وقيل: المعنى {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} إلى نار جهنم إن لم تؤمنوا.
الآية: 16 {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
قوله تعالى: {يوم} محمول على ما دل عليه {مُنْتَقِمُونَ} ؛ أي ننتقم منهم يوم نبطش. وأبعده بعض النحويين بسبب أن ما بعد "إن" لا يفسر ما قبلها. وقيل: إن العامل فيه {مُنْتَقِمُونَ} وهو بعيد أيضا؛ لأن ما بعد "إن" لا يعمل فيما قبلها. ولا يحسن تعلقه بقوله: {عَائِدُونَ} ولا بقوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ ً} ؛ إذ ليس المعنى عليه. ويجوز نصبه بإضمار فعل؛ كأنه قال: ذكرهم أو أذكر. ويجوز أن يكون المعنى فإنهم عائدون، فإذا عدتم أنتقم منكم يوم نبطش البطشة الكبرى. ولهذا وصل هذا بقصة فرعون، فإنهم وعدوا موسى الإيمان إن كشف عنهم العذاب، ثم لم يؤمنوا حتى غرقوا. وقيل: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} كلام تام. ثم ابتدأ: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} أي ننتقم من جميع الكفار. وقيل: المعنى وارتقب الدخان وارتقب يوم نبطش، فحذف واو العطف؛

كما تقول: اتق النار اتق العذاب. و {الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} في قول ابن مسعود: يوم بدر. وهو قول ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد والضحاك. وقيل: عذاب جهنم يوم القيامة؛ قال الحسن وعكرمة وابن عباس أيضا، واختاره الزجاج. وقيل: دخان يقع في الدنيا، أوجوع أو قحط يقع قبل يوم القيامة. الماوردي: ويحتمل أنها قيام الساعة؛ لأنها خاتمة: بطشاته في الدنيا. ويقال: انتقم الله منه؛ أي عاقبه. والاسم منه النقمة والجمع النقمات. وقيل بالفرق بين النقمة والعقوبة؛ فالعقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة. والنقمة قد تكون قبلها؛ قال ابن عباس. وقيل: العقوبة ما تقدرت والانتقام غير مقدر.
الآية: 17 {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ}
أي ابتليناهم. ومعنى هذه الفتنة والابتلاء الأمر بالطاعة. والمعنى عاملناهم معاملة المختبر ببعثة موسى إليهم فكذبوا فأهلكوا؛ فهكذا أفعل بأعدائك يا محمد إن لم يؤمنوا. وقيل: فتناهم عذبناهم بالغرق. وفي الكلام تقديم وتأخير؛ والتقدير: ولقد جاء آل فرعون رسول كريم وفتناهم، أي أغرقناهم؛ لأن الفتنة كانت بعد مجيء الرسول. والواو لا ترتب. ومعنى {كريم} أي كريم في قومه. وقيل: كريم الأخلاق بالتجاوز والصفح. وقال الفراء: كريم على ربه إذ اختصه بالنبوة وإسماع الكلام.
الآية: 18 {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
قوله تعالى: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} قال ابن عباس: المعنى جاءهم فقال: اتبعوني. فـ {عباد الله} منادى. وقال مجاهد: المعنى أرسلوا معي عباد الله وأطلقوهم من العذاب. فـ {عباد الله} على هذا مفعول. وقيل: المعنى أدوا إلي سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربي. {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي أمين على الوحي فأقبلوا نصحي. وقيل: أمين على ما أستأديه

منكم فلا أخون فيه. {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} أي لا تتكبروا عليه ولا ترتفعوا عن طاعته. وقال قتادة: لا تبغوا على الله. ابن عباس: لا تفتروا على الله. والفرق بين البغي والافتراء: أن البغي بالفعل والافتراء بالقول. وقال ابن جريج: لا تعظموا على الله. يحيى بن سلام: لا تستكبروا على عبادة الله. والفرق بين التعظيم والاستكبار: أن التعظيم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحقر؛ ذكره الماوردي {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} قال قتادة: بعذر بين. وقال يحيى بن سلام بحجة بينة. والمعنى واحد؛ أي برهان بين.
الآية: 20 {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ}
كأنهم توعدوه بالقتل فاستجار بالله. قال قتادة: {تَرْجُمُونِ} بالحجارة. وقال ابن عباس: تشتمون؛ فتقولوا ساحر كذاب. وأظهر الذال من {عُذْتُ} نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم ويعقوب. وأدغم الباقون. والإدغام طلبا للتخفيف، والإظهار على الأصل. ثم قيل: إني عذت بالله فيما مضى؛ لأن الله وعده فقال: {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص: 35]. وقيل: إني أعوذ؛ كما تقول نشدتك بالله، وأقسمت عليك بالله؛ أي أقسم.
الآية: 21 {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}
قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي} أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني؛ فاللام في {لي} لام أجل. وقيل: أي وإن لم تؤمنوا بي؛ كقوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] أي به. {فَاعْتَزِلُونِ} أي دعوني كفافا لا لي ولا علي؛ قال مقاتل. وقيل: أي كونوا بمعزل مني وأنا به معزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا. وقيل: فخلوا سبيلي وكفوا عن أذاي. والمعنى متقارب، والله أعلم.
الآية: 22 {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ}

قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ} فيه حذف؛ أي فكفروا فدعا ربه. {أَنَّ هَؤُلاءِ} بفتح "أن" أي بأن هؤلاء. {قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} أي مشركون، قد امتنعوا من إطلاق بنى إسرائيل ومن الإيمان.
الآية: 23 {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}
قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} أي فأجبنا دعاءه وأوحينا إليه أن أسر بعبادي؛ أي بمن آمن بالله من بني إسرائيل. {لَيْلاً} أي قبل الصباح {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} وقرأ أهل الحجاز {فأسر}بوصل الألف. وكذلك ابن كثير؛ من سرى. الباقون {فأسر} بالقطع؛ من أسرى. وقد تقدم. وتقدم خروج فرعون وراء موسى في "البقرة والأعراف وطه والشعراء ويونس" وإغراقه وإنجاء موسى"؛ فلا معنى للإعادة.
أمر موسى عليه السلام بالخروج ليلا. وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف، والخوف يكون بوجهين: إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا؛ فهو من أستار الله تعالى. وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بحر أو جدب، فيتخذ السرى مصلحة من ذلك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسري ويدلج ومترفق ويستعجل، بحسب الحاجة وما تقتضيه المصلحة. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها". وقد مضى في أول "النحل"؛ والحمد لله.
الآية: 24 {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ}

قال ابن عباس: {رَهْواً} أي طريقا. وقال كعب والحسن. وعن ابن عباس أيضا سمتا. الضحاك والربيع: سهلا. عكرمة: يبسا، لقوله: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً} وقيل: مفترقا. مجاهد: منفرجا. وعنه يابسا. وعنه ساكنا، وهو المعروف في اللغة. وقاله قتادة والهروي. وقال غيرهما: منفرجا. وقال ابن عرفة: وهما يرجعان إلى معنى واحد وإن اختلف لفظاهما، لأنه إذا سكن جريه انفرج. وكذلك كان البحر يسكن جريه وانفرج لموسى عليه السلام. والرهو عند العرب: الساكن، يقال: جاءت الخيل رهوا، أي ساكنة. قال:
والخيل تنزع رهوا في أعنتها ... كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البرد
الجوهري: ويقال أفعل ذلك رهوا، أي ساكنا على هينتك. وعيش راه، أي ساكن رافه. وخمس راه، إذا كان سهلا. ورها البحر أي سكن. وقال أبو عبيد: رها بين رجليه يرهو رهوا أي فتح، ومنه قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} : السير السهل، يقال: جاءت الخيل رهوا. قال ابن الأعرابي: رها يرهو في السير أي رفق. قال القطامي في نعت الركاب:
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل
والرهو والرهوة: المكان المرتفع، والمنخفض أيضا يجتمع فيه الماء، وهو من الأضداد. وقال أبو عبيد: الرهو: الجوبة تكون في محلة القوم يسيل فيها ماء المطر وغيره. وفي الحديث أنه قضى أن "لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة ولا ركح ولا رهو". والجمع رهاء. والرهو: المرأة الواسعة الهن. حكاه النضير بن شميل. والرهو: ضرب من الطير، ويقال:

هو الكركي. قال الهروي: ويجوز أن يكون {رهوا} من نعت موسى - وقال القشيري - أي سر ساكنا على هينتك؛ فالرهو من نعت موسى وقومه لا من نعت البحر، وعلى الأول هو من نعت البحر؛ أي اتركه ساكنا كما هو قد انفرق فلا تأمره بالانضمام. حتى يدخل فرعون وقومه. قال قتادة: أراد موسى أن يضرب البحر لما قطعه بعصاه حتى يلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون فقيل له هذا. وقيل: ليس الرهو من السكون بل هو الفرجة بين الشيئين؛ يقال: رها ما بين الرجلين أي فرج. فقوله: {رهوا} أي منفرجا. وقال الليث: الرهو ومشي في سكون، يقال: رها يرهو رهوا فهو راه. وعيش راه: وادع خافض. وافعل ذلك سهوا رهوا؛ أي ساكنا بغير شدة. وقد ذكرناه آنفا. {إِنَّهُمْ} أي إن فرعون وقومه. {جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} أخبر موسى بذلك ليسكن قلبه.
الآية: 25 - 27 {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}
قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} {كم} للكثير. وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية. {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} النعمة (بالفتح) : التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم. وامرأة منعمة ومناعمة، بمعنى. والنعمة (بالكسر): اليد والصنيعة والمنة وما أنعم به عليك. وكذلك النعمى. فإن فتحت النون مددت وقلت: النعماء. والنعيم مثله. وفلان واسع النعمة، أي واسع المال؛ جميعه عن الجوهري. وقال ابن عمر: المراد بالنعمة نيل مصر. ابن لهيعة: الفيوم. ابن زياد: أرض مصر لكثرة خيرها. وقيل: ما كانوا فيه من السعة والدعة. وقد يقال: نعمة ونعمة (بفتح النون وكسرها)، حكاه الماوردي. قال: وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أنها بكسر النون في الملك، وبفتحها في البدن والدين، قاله النضير بن شميل. الثاني: أنها بالكسر من المنة وهو الإفضال والعطية؛ وبالفتح من التنعيم وهو سعة العيش والراحة؛ قال ابن زياد.

قلت: هذا الفرق هو الذي وقع في الصحاح وقد ذكرناه. وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو الأشهب والأعرج وأبو جعفر وشيبة {فكهين} بغير ألف، ومعناه أشرين بطرين. قال الجوهري: فكة الرجل (بالكسر) فهو فكه إذا كان طب النفس مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر. وقرئ {ونعمة كانوا فيها فكهين} أي أشرين بطرين. و {فاكهين} أي ناعمين. القشيري: {فاكهين} لاهين مازحين، يقال: إنه لفاكه أي مزاج. وفيه فكاهة أي مزح. الثعلبي: وهما لغتان كالحاذر والحذر، والفاره والفره. وقيل: إن الفاكه هو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة. والفاكهة: فضل عن القوت الذي لا بد منه.
الآية: 28 {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}
قال الزجاج: أي الأمر كذلك؛ فيوقف على {كَذَلِكَ} . وقيل: إن الكاف في موضع نصب، على تقدير نفعل فعلا كذلك بمن نريد إهلاكه. وقال الكلبي: {كَذَلِكَ} أفعل بمن عصاني. وقيل: {كَذَلِكَ} كان أمرهم فأهلكوا. {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} يعني بنى إسرائيل، ملكهم الله تعالى أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين؛ لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث. ونظيره: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137].
الآية: 29 {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}
قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} أي لكفرهم. {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} أي مؤخرين بالغرق. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض؛ أي عمت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق، وبكته الليالي الشاتيات. قال الشاعر:

فالريح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في الغمامة
وقال آخر:
والشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه. والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد. وقيل: في الكلام إضمار، أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة؛ كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] بل سروا بهلاكهم، قاله الحسن. وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه - ثم تلا – {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ}. يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم لأجله، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك. وقال مجاهد: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحا. قال أبو يحيى: فعجبت من قوله فقال: أتعجب ! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود ! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل !. وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء. وتقدير الآية على هذا: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض. وهو معنى قول سعيد بن جبير. وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه: أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان. ويشبه أن يكون قول مجاهد. وقال شريح الحضرمي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة

قيل: من هم يا رسول الله؟ قال - هم الذين إذا فسد الناس صلحوا - ثم قال - ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - {فما بكت عليهم السماء والأرض} ثم قال: ألا إنهما لا يبكيان على الكافر.
قلت: وذكر أبو نعيم محمد بن معمر قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال حدثنا يحيى بن عبدالله قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني عطاء الخراساني قال: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت. وقيل: بكاؤهما حمرة أطرافهما؛ قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعطاء والسدي والترمذي محمد بن علي وحكاه عن الحسن. قال السدي: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء؛ وبكاؤها حمرتها. وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر. قال يزيد: واحمرارها بكاؤها. وقال محمد بن سيرين: أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما. وقال سليمان القاضي: مطرنا دما يوم قتل الحسين.
قلت: روى الدارقطني من حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشفق الحمرة". وعن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالا: الشفق شفقان: الحمرة والبياض؛ فإذا غابت الحمرة حلت الصلاة. وعن أبي هريرة قال: الشفق الحمرة. وهذا يرد ما حكاه ابن سيرين. وقد تقدم في "الإسراء" عن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي، وحمرتها بكاؤها. وقال محمد بن علي الترمذي: البكاء إدرار الشيء فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت، وإذا أدرت الأرض بغبرتها قيل بكت؛ لأن المؤمن نور ومعه نور الله؛ فالأرض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك، فان فقدت نور المؤمن اغبرت فدرت

باغبرارها؛ لأنها كانت غبراء بخطايا أهل الشرك،وإنما صارت مضيئة بنور المؤمن؛ فإذا قبض المؤمن منها درت بغبرتها. وقال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء كل شيء، فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شيء، وإنا لفي دفنه ما نفضنا الأيدي منه حتى أنكرنا قلوبنا. وأما بكاء السماء فحمرتها كما قال الحسن. وقال نصر بن عاصم: إن أول الآيات حمرة تظهر، وإنما ذلك لدنو الساعة، فتدر بالبكاء لخلائها من أنوار المؤمنين. وقيل: بكاؤها أمارة تظهر منها تدل على أسف وحزن.
قلت: والقول الأول أظهر؛ إذ لا استحالة في ذلك. وإذا كانت السماوات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم كما بيناه في "الإسراء ومريم وحم فصلت" فكذلك تبكي، مع ما جاء من الخبر في ذلك والله أعلم بصواب هذه الأقوال.
الآية: 30 - 31 {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ}
يعني ما كانت القبط تفعل بهم بأمر فرعون، من قتل الأبناء واستخدام النساء، واستعبادهم إياهم وتكلفهم الأعمال الشاقة. {من فرعون} بدل من {الْعَذَابِ الْمُهِينِ} فلا تتعلق {من} بقوله: {مِنَ الْعَذَابِ} لأنه قد وصف، وهو لا يعمل بعد الوصف عمل الفعل. وقيل: أي أنجيناهم من العذاب ومن فرعون. {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} أي جبارا من المشركين. وليس هذا علو مدح بل هو علو في الإسراف. كقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4]. وقيل: هذا العلو هو الترفع عن عبادة الله.
الآية: 32 {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} يعني بني إسرائيل. {عَلَى عِلْمٍ} أي على علم منا بهم لكثرة الأنبياء منهم. {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي عالمي زمانهم، بدليل قوله لهذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ

ُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. وهذا قول قتادة وغيره. وقيل: على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم؛ حكاه ابن عيسى والزمخشري وغيرهما. ويكون قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أي بعد بني إسرائيل. والله أعلم. وقيل: يرجع هذا الاختيار إلى تخليصهم من الغرق وإيراثهم الأرض بعد فرعون.
الآية: 33 {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ}
قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآياتِ} أي من المعجزات لموسى. {مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} قال قتادة: الآيات إنجاؤهم من فرعون وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم وإنزال المن والسلوى. ويكون هذا الخطاب متوجها إلى بني إسرائيل. وقيل: إنها العصا واليد. ويشبه أن يكون قول الفراء. ويكون الخطاب متوجها إلى قوم فرعون. وقول ثالث: إنه الشر الذي كفهم عنه والخبر الذي أمرهم به؛ قال عبدالرحمن بن زيد. ويكون الخطاب متوجها إلى الفريقين معا من قوم فرعون وبني إسرائيل. وفي قوله: {بَلاءٌ مُبِينٌ} أربعة أوجه: أحدها: نعمة ظاهرة؛ قال الحسن وقتادة. كما قال الله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [الأنفال: 17]. وقال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
الثاني: عذاب شديد؛ قاله الفراء. الثالث: اختبار يتميز به المؤمن من الكافر؛ قاله عبدالرحمن بن زيد. وعنه أيضا: ابتلاؤهم بالرخاء والشدة؛ ثم قرأ {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
الآية: 34 {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ، فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} يعني، كفار قريش {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} ابتداء وخبر؛ مثل: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155]، {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37] {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} أي بمبعوثين. أنشر الله الموتى فنشروا. وقد تقدم. والمنشورون المبعوثون. قيل: إن قائل هذا من كفار قريش أبو جهل، قال: يا محمد، إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا: أحدهما: قصي بن كلاب فإنه كان رجلا صادقا؛ لنسأله عما يكون بعد الموت. وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات؛ لأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف؛ فكأنه قال: إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف. وهو كقول قائل: لو قال إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء؛ فلم لا يرجع من مضى من الآباء؛ حكاه الماوردي. ثم قيل: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا} مخاطبة ولنبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ كقوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] قاله الفراء. وقيل: مخاطبة له ولأتباعه.
الآية: 37 {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} هذا استفهام إنكار؛ أي إنهم مستحقون في هذا القول العذاب؛ إذ ليسوا خيرا من قوم تبع والأمم المهلكة، وإذا أهلكنا أولئك فكذا هؤلاء. وقيل: المعنى أهم أظهر نعمة وأكثر أموالا أم قوم تبع. وقيل: أهم أعز وأشد وأمنع أم قوم تبع. وليس المراد بتبع رجلا واحدا بل المراد به ملوك اليمن؛ فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة. فتبع لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين، وكسرى للفرس، وقيصر للروم. وقال أبو عبيدة: سمي كل واحد منهم تباعا لأنه يتبع صاحب. قال الجوهري: والتبابعة ملوك اليمن، واحدهم تبع. والتبع أيضا الظل؛ وقال:

يرد المياه حضيرة ونفيضة ... ورد القطاة إذا اسمأل التبع
والتبع أيضا ضرب من الطير. وقال السهيلي: تبع اسم لكل ملك ملك اليمن والشحر وحضرموت. وإن ملك اليمن وحدها لم يقل له تبع؛ قاله المسعودي. فمن التبابعة: الحارث الرائش وهو ابن همال ذي سدد. وأبرهة ذو المنار. وعمرو ذو الأذعار. وشمر بن مالك، الذي تنسب إليه سمرقند. وأفريقيس بن قيس، الذي ساق البربر إلى أفريقية من أرض كنعان، وبه سميت إفريقية. والظاهر من الآيات: أن الله سبحانه إنما أراد واحدا من هؤلاء، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم أشد من معرفة غيره؛ ولذلك قال عليه السلام: "ولا أدري أتبع لعين أم لا". ثم قد روي عنه أنه قال: "لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا" فهذا يدلك على أنه كان واحدا بعينه؛ وهو - والله أعلم - أبو كرب الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها، ثم انصرف عنها لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد. وقال شعرا أودعه عند أهلها؛ فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فأدوه إليه. ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد. وفيه:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا والزمخشري وغيرهم أنه حفر قبر له بصنعاء - ويقال بناحية حمير - في الإسلام، فوجد فيه امرأتان صحيحتان، وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب "هذا قبر حُبَّى ولميس" ويروى أيضا: "حبي وتماضر" ويروى أيضا: "هذا قبر رضوي وقبر حب ابنتا تبع، ماتتا وهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به شيئا؛ وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.

قلت: وروى ابن إسحاق وغيره أنه كان في الكتاب الذي كتبه: "أما بعد، فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام؛ فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الأولين وبايعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام". ثم ختم الكتاب ونقش عليه: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 4]. وكتب على عنوانه (إلى محمد بن عبدالله نبي الله ورسوله، خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم. من تبع الأول. وقد ذكرنا بقية خبره وأوله في "اللمع اللؤلؤية شرح العشر بينات النبوية" للفارابي رحمه الله. وكان من اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة لا يزيد ولا ينقص.
واختلف هل كان نبيا أو ملكا؛ فقال ابن عباس: كان تبع نبيا. وقال كعب: كان تبع ملكا من الملوك، وكان قومه كهانا وكان معهم قوم من أهل الكتاب، فأمر الفريقين أن يقرب كل فريق منهم قربانا ففعلوا، فتقبل قربان أهل الكتاب فأسلم، وقالت عائشة رضي الله عنها: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا. وحكى قتادة أن تبعا كان رجلا من حمير، سار بالجنود حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها؛ حكاه الماوردي. وحكى الثعلبي عن قتادة أنه تبع الحميري، وكان سار بالجنود حتى عبر الحيرة. وبنى سمرقند وقتل وهدم البلاد. وقال الكلبي: تبع هو أبو كرب أسعد بن ملكيكرب، وإنما سمي تبعا لأنه تبع من قبله. وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت الحبرات. وقال كعب: ذم الله قومه ولم يذمه، وضرب بهم لقريش مثلا لقربهم من دارهم وعظمهم في نفوسهم؛ فلما أهلكهم الله تعالى ومن قبلهم - لأنهم كانوا مجرمين - كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك. وافتخر أهل اليمن بهذه الآية، إذ جعل الله قوم تبع خيرا من قريش. وقيل: سمي أولهم تبعا لأنه أتبع قرن الشمس وسافر في الشرق مع العساكر.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} {الذين} في موضع رفع عطف على {قَوْمُ تُبَّعٍ}. {أَهْلَكْنَاهُمْ} صلته. ويكون {مِنْ قَبْلِهِمْ} متعلقا به. ويجوز أن يكون {مِنْ قَبْلِهِمْ} صلة {الذين} ويكون في الظرف عائد إلى الموصول. وإذا كان كذلك كان {أَهْلَكْنَاهُمْ} على أحد أمرين: إما أن يقدر معه "قد" فيكون في موضع الحال. أو يقدر حذف موصوف؛ كأنه قال: قوم أهلكناهم. والتقدير أفلا تعتبرون أنا إذا قدرنا على إهلاك هؤلاء المذكورين قدرنا على إهلاك المشركين. ويجوز أن يكون {والذين من قبلهم} ابتداء خبره {أهلكناهم}. ويجوز أن يكون {الذين} في موضع جر عطفا على {تبع} كأنه قال: قوم تبع المهلكين من قبلهم. ويجوز أن يكون {الذين} في موضع نصب بإضمار فعل دل عليه {أهلكناهم} . والله أعلم.
قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} أي غافلين، قاله مقاتل. وقيل: لاهين؛ وهو قول الكلبي. {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} أي إلا بالأمر الحق؛ قاله مقاتل. وقيل: إلا للحق؛ قال الكلبي والحسن. وقيل: إلا لإقامة الحق لإظهاره من توحيد الله والتزام طاعته. وقد مضى هذا المعنى في "الأنبياء". {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} يعني أكثر الناس {لا يَعْلَمُونَ} ذلك.
الآية: 40 {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}
قوله تعالى: {يَوْمَ الْفَصْلِ} هو يوم القيامة؛ وسمي بذلك لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه دليله قوله {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3]. ونظيره قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14]. فـ "يوم الفصل" ميقات الكل؛ كما قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ: 17] أي الوقت المجهول لتمييز المسيء من المحسن، والفصل بينهما: فريق في الجنة وفريق في السعير. وهذا غاية في التحذير والوعيد. ولا خلاف بين القراء في رفع

{ميقاتهم} على أنه خبر "إن" واسمها { يَوْمُ الْفَصْلِ }. وأجاز الكسائي، والفراء نصب {ميقاتهم}. بـ {إن} و {يوم الفصل} ظرف في موضع خبر {إن} ؛ أي إن ميقاتهم يوم الفصل.
الآية: 41 - 42 {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً} {يَوْمَ } بدل من {يوم} الأول. والمولى: الولي وهو ابن العم والناصر. أي لا يدفع ابن عم عن ابن عمه، ولا قريب عن قريبه، ولا صديق عن صديقه. {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي لا ينصر المؤمن الكافر لقرابته. ونظير هذه الآية: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] الآية. {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} {من} رفع على البدل من المضمر في {يُنْصَرُونَ} ؛ كأنك قلت: لا يقوم أحد إلا فلان. أو على الابتداء والخبر مضمر؛ كأنه قال: إلا من رحم الله فمغفور له؛ أو فيغني عنه ويشفع وينصر. أو على البدل من "مولى" الأول؛ كأنه قال: لا يغني إلا من رحم الله. وهو عند الكسائي والفراء نصب على الاستثناء المنقطع؛ أي لكن من رحم الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه إلى من يغنيهم من المخلوقين. ويجوز أن يكون استثناء متصل؛ أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض. {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه؛ كما قال: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] فقرن الوعد بالوعيد.
الآية: 43 {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}
قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر الشجرة فالوقف عليه بالهاء؛ إلا حرفا واحدا في سورة الدخان {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ} قاله

ابن الأنباري. {الأثيم} الفاجر؛ قاله أبو الدرداء. وكذلك قرأ هو وابن مسعود. وقال همام بن الحارث: كان أبو الدرداء يقرئ رجلا {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ} والرجل يقول: طعام اليتيم، فلما لم يفهم قال له: "طعام الفاجر". قال أبو بكر الأنباري: حدثني أبي قال حدثنا نصر قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا نعيم بن حماد عن عبدالعزيز بن محمد عن ابن عجلان عن عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود قال: علم عبدالله بن مسعود رجلا {أن شجرة الزقوم. طعام الأثيم} فقال الرجل: طعام اليتيم، فأعاد عليه عبدالله الصواب وأعاد الرجل الخطأ، فلما رأى عبدالله أن لسان الرجل لا يستقيم على الصواب قال له: أما تحسن أن تقول طعام الفاجر ؟ قال بلى، قال فافعل. ولا حجة في هذا للجهال من أهل الزيغ، أنه يجوز إبدال الحرف من القرآن بغيره، لأن ذلك إنما كان من عبدالله تقريبا للمتعلم، وتوطئة منه له للرجوع إلى الصواب، واستعمال الحق والتكلم بالحرف على إنزال الله وحكاية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الزمخشري: "وبهذا يستدل على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها. ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة، وهي أن يؤدي القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئا. قالوا: وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة؛ لأن في كلام العرب خصوصا في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه، من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها، وما كان أبو حنيفة رحمه الله يحسن الفارسية، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر. وروى علي بن الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية". وشجرة الزقوم: الشجرة التي خلقها الله في جهنم وسماها الشجرة الملعونة، فإذا جاع أهل النار التجؤوا إليها فأكلوا منها، فغليت في بطونهم كما يغلي الماء الحار. وشبه ما يصير منها إلى بطونهم بالمهل، وهو النحاس المذاب. وقراءة العامة {تغلي} بالتاء حملا على الشجرة. وقرأ ابن كثير وحفص وابن محيصن ورويس عن يعقوب {يغلي} بالياء حملا على الطعام؛ وهو في معنى الشجرة. ولا يحمل على المهل لأنه

ذكر للتشبيه. و {الأثيم} الآثم؛ من أثم يأثم إثما؛ قال القشيري وابن عيسى. وقيل هو المشرك المكتسب للإثم؛ قاله يحيى بن سلام. وفي الصحاح: قد أثم الرجل (بالكسر) إثما ومأثما إذا وقع في الإثم، فهو آثم وأثيم وأثوم أيضا. فمعنى {طَعَامُ الْأَثِيمِ} أي ذي الإثم الفاجر، وهو أبو جهل. وذلك أنه قال: يعدنا محمد أن في جهنم الزقوم، وإنما هو الثريد بالزبد والتمر، فبين الله خلاف ما قاله. وحكى النقاش عن مجاهد أن شجرة الزقوم أبو جهل.
قلت: وهذا لا يصح عن مجاهد. وهو مردود بما ذكرناه في هذه الشجرة في سورة "الصافات والإسراء" أيضا
الآية: 47 - 48 {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}
قوله تعالى: {خُذُوهُ} أي يقال للزبانية خذوه؛ يعني الأثيم. {فَاعْتِلُوهُ} أي جروه وسوقوه. والعتل: أن تأخذ بتلابيب الرجل فتعتله، أي تجره إليك لتذهب به إلى حبس أو بلية. عتلت الرجل أعتله وأعتله عتلا إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل، معتل (بالكسر). وقال يصف فرسا:
نفرعه فرعا ولسانا نعتله
وفيه لغتان؛ عتله وعتنه (باللام والنون جميعا)، قاله ابن السكيت. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو {فَاعْتِلُوهُ} بالكسر. وضم الباقون. {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} وسط الجحيم. {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} قال مقاتل: يضرب مالك خازن النار ضربة. على رأس أبي جهل بمقمع من حديد، فيتفتت رأسه عن دماغه، فيجري دماغه عل جسده،

ثم يصب الملك فيه ماء حميما قد انتهى حره فيقع في بطنه؛ فيقول الملك: ذق العذاب. ونظيره {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19].
الآية: 49 - 50 {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}
قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} قال ابن الأنباري: أجمعت العوام على كسر "إن" وروي عن الحسن عن علي رحمه الله {ذق أنك} بفتح {أن} ، وبها قرأ الكسائي. فمن كسر {إن} وقف على {ذق} . ومن فتحها لم يقف على {ذق} ؛ لأن المعنى ذق لأنك وبأنك أنت العزيز الكريم. قال قتادة: نزلت في أبي جهل وكان قد قال: ما فيها أعز مني ولا أكرم؛ فلذلك قيل له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}. وقال عكرمة: التقى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو جهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى" فقال: بأي شيء تهددني ! والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه على قومه؛ فقتله الله يوم بدر وأذله ونزلت هذه الآية. أي يقول له الملك: ذق إن أنت العزيز الكريم بزعمك. وقيل: هو على معنى الاستخفاف والتوبيخ والاستهزاء والإهانة والتنقيص؛ أي قال له: إنك أنت الذليل المهان. وهو كما قال قوم شعيب لشعيب: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] يعنون السفيه الجاهل في أحد التأويلات على ما تقدم. وهذا قول سعيد بن جبير. {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي تقول لهم الملائكة: إن هذا ما كنتم تشكون فيه في الدنيا.
الآية: 51 - 53 {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ}

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} لما ذكر مستقر الكافرين وعذابهم ذكر نزل المؤمنين ونعيمهم. وقرأ نافع وابن عامر {في مقام} بضم الميم. الباقون بالفتح. قال الكسائي: المقام المكان، والمقام الإقامة، كما قال:
عفت الديار محلها فمقامها
قال الجوهري: وأما المقام والمقام فقد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام؛ لأنك إذا جعلته من قام يقوم فمفتوح، وإن جعلته من أقام يقيم فمضموم، لأن الفعل إذا جاوز الثلاث فالموضع مضموم الميم، لأنه مشبه ببنات الأربعة، نحو دحرج وهذا مدحرجنا. وقيل: المقام (بالفتح) المشهد والمجلس، و(بالضم) يمكن أن يراد به المكان، ويمكن أن يكون مصدرا ومقدر فيه المضاف، أي في موضع إقامة. {أمين} يؤمن فيه من الآفات {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} بدل من {مَقَامٍ أَمِينٍ}. {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} لا يرى بعضهم قفا بعض، متواجهين يدور بهم مجلسهم حيث داروا. والسندس: ما رق من الديباج. والإستبرق: ما غلظ منه. وقد مضى في"الكهف".
الآية: 54 {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}
قوله تعالى: {كَذَلِكَ} أي الأمر كذلك الذي ذكرناه. فيوقف على "كذلك". وقيل: أي كما أدخلناهم الجنة وفعلنا بهم ما تقدم ذكره، كذلك أكرمناهم بأن
قوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} وقد مضى الكلام في العين في "والصافات". والحور: البيض؛ في قول قتادة والعامة، جمع حوراء. والحوراء: البيضاء التي يرى ساقها من وراء ثيابها، ويرى الناظر وجهه في كعبها؛ كالمرآة من دقة الجلد وبضاضة البشرة وصفاء اللون. ودليل، هذا التأويل أنها في حرف ابن مسعود {بعيس عين}. وذكر أبو بكر الأنباري أخبرنا أحمد بن الحسين قال حدثنا حسين

قال حدثنا عمار بن محمد قال: صليت خلف منصور بن المعتمر فقرأ في {حم} الدخان {بعيس عين. لا يذوقون طعم الموت إلا الموتة الأولى } . والعيس: البيض؛ ومنه قيل للإبل البيض: عيس، واحدها بعير أعيس وناقة عيساء. قال امرؤ القيس:
يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه ... كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا
فمعنى الحور هنا: الحسان الثاقبات البياض بحسن. وذكر ابن المبارك أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي عن ابن مسعود قال: إن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم، ومن تحت سبعين حلة، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. وقال مجاهد: إنما سميت الحور حورا لأنهن يحار الطرف في حسنهن وبياضهن وصفاء لونهن. وقيل: إنما قيل لهن حور لحور أعينهن. والحور: شدة بياض العين في شدة سوادها. امرأة حوراء بينة الحور. يقال: أحورت عينه أحورارا. والحور الشيء ابيض. قال الأصمعي: ما أدري ما الحور في العين ؟ وقال أبو عمرو: الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر. قال: وليس في بني آدم حور؛ وإنما قيل للنساء: حور العين لأنهن يشبهن بالظباء والبقر. وقال العجاج:
بأعين محورات حور
يعني الأعين النقيات البياض الشديدات سواد. الحدق. والعين جمع عيناء؛ وهي الواسعة العظيمة العينين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز". وعن أبي قرصافة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين". وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: "كنس المساجد مهور الحور" ذكره الثعلبي رحمه الله. وقد أفردنا لهذا المعنى بابا مفردا في (كتاب التذكرة) والحمد لله.
واختلف أيما أفضل في الجنة؛ نساء الآدميات أم الحور ؟ فذكر ابن المبارك قال: وأخبرنا رشدين عن ابن أنعم عن حبان بن أبي جبلة قال: إن نساء الآدميات من دخل منهن الجنة فضلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وروي مرفوعا إن " الآدميات أفضل من الحور العين سبعين ألف ضعف" . وقيل: إن الحور العين أفضل؛ لقوله عليه السلام في دعائه: "وأبدله زوجا خيرا من زوجه". والله أعلم. وقرأ عكرمة {بحور عين} مضاف. والإضافة والتنوين في {بحور عين} سواء.
الآية: 55 {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}
قال قتادة: {آمِنِينَ} من الموت والوصب والشيطان. وقيل: آمنين من انقطاع ما هم فيه من النعيم، أو من أن ينالهم من أكلها أذى أو مكروه.
الآية: 56 - 57 {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} أي لا يذوقون فيها الموت البتة لأنهم خالدون فيها. ثم قال: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} على الاستثناء المنقطع؛ أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا. وأنشد سيبويه:
من كان أسرع في تفرق فالج ... فلبونه جربت معا وأغدت

ثم استثنى بما ليس من الأول فقال:
إلا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المتنبت
وقيل: إن {إلا} بمعنى بعد؛ كقولك: ما كلمت رجلا اليوم إلا رجلا عندك، أي بعد رجل عندك. وقيل: {إلا} بمعنى سوى، أي سوى الموتة التي ماتوها في الدنيا، كقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]. وهو كما تقول: ما ذقت اليوم طعاما سوى ما أكلت أمس. وقال القتبي: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} معناه أن المؤمن إذا أشرف على الموت استقبلته ملائكة الرحمة ويلقى الروح والريحان، وكان موته في الجنة لاتصافه بأسبابها، فهو استثناء صحيح. والموت عرض لا يذاق، ولكن جعل كالطعام الذي يكره ذوقه، فاستعير فيه لفظ الذوق. {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ.، فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ} أي فعل ذلك بهم تفضلا منه عليهم. فـ {فضلا} مصدر عمل فيه {يدعون} . وقيل: العامل فيه {ووقاهم} وقيل: فعل مضمر. وقيل: معنى الكلام الذي قبله، لأنه تفضل منه عليهم، إذ وفقهم في الدنيا إلى أعمال يدخلون بها الجنة. "ذلك هو الفوز العظيم" أي السعادة والربح العظيم والنجاة العظيمة. وقيل: هو من قولك فاز بكذا، أي ناله وظفر به.
الآية: 58 {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}
قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} يعني القرآن، أي سهلناه بلغتك عليك وعلى من يقرؤه {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي يتعظون وينزجرون. ونظيره: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] فختم السورة بالحث على آتباع القرآن وإن لم يكن مذكورا، كما قال في مفتتح السورة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] على ما تقدم. {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}
أي انتظر ما وعدتك من النصر عليهم إنهم منتظرون لك الموت؛ حكاه

النقاش. وقيل: انتظر الفتح من ربك إنهم منتظرون بزعمهم قهرك. وقيل: انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم فإنهم ينتظرون بك ريب الحدثان. والمعنى متقارب. وقيل: ارتقب ما وعدتك من الثواب فإنهم كالمنتظرين لما وعدتهم من العقاب. وقيل: ارتقب يوم القيامة فإنه يوم الفصل، وإن لم يعتقدوا وقوع القيامة، جعلوا كالمرتقبين لأن عاقبتهم ذلك. والله تعالى أعلم.

تفسير سورة الجاثية
سورة الجاثية
مقدمة السورة
سورة الجاثية مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية، هي {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّه} [الجاثية: 14] نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ذكره الماوردي. وقال المهدوي والنحاس عن ابن عباس: إنها نزلت في عمر رضي الله عنه، شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة. فأراد أن يبطش به، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّه} [الجاثية: 14] ثم نسخت بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. فالسورة كلها مكية على هذا من غير خلاف. وهي سبع وثلاثون آية. وقيل ست.
الآية: 1 {حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
قوله تعالى: {حم} مبتدأ و {تنزيل} خبره. وقال بعضهم: {حم} اسم السورة. و {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} مبتدأ. وخبره {مِنَ اللَّهِ} . والكتاب القرآن. {الْعَزِيزِ} المنيع. {الْحَكِيمِ} في فعله. وقد تقدم جميعه.
الآية: 3 - 5 {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي في خلقهما {لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ.وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} تقدم جميعه. وقراءة العامة {وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ} {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ} بالرفع فيهما. وقرأ حمزة والكسائي بكسر التاء فيهما. ولا خلاف في الأول أنه بالنصب على اسم {إن} وخبرها {فِي السَّمَاوَاتِ}. ووجه الكسر في {آيات} الثاني العطف على ما عملت فيه؛ التقدير: إن في خلقكم وما يبث من دابة آيات. فأما الثالث فقيل: إن وجه النصب فيه تكرير {آيات} لما طال الكلام؛ كما تقول: ضرب زيدا زيدا. وقيل: إنه على الحمل على ما عملت فيه {إن} على تقدير حذف {في} ؛ التقدير: وفي اختلاف الليل والنهار آيات. فحذفت {في} لتقدم ذكرها. وأنشد سيبويه في الحذف:
كل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا
فحذف {كل} المضاف إلى نار المجرورة لتقدم ذكرها. وقيل: هو من باب العطف على عاملين. ولم يجزه سيبوبه، وأجازه الأخفش وجماعة من الكوفيين؛ فعطف {واختلاف} على قوله: {وفي خلقكم} ثم قال: {وتصريف الرياح آيات} فيحتاج إلى العطف على عاملين، والعطف على عاملين قبيح من أجل أن حروف العطف تنوب مناب العامل، فلم تقو أن تنوب مناب عاملين مختلفين؛ إذ لو ناب مناب رافع وناصب لكان رافعا ناصبا في حال. وأما قراءة الرفع فحملا على موضع {إن} مع ما عملت فيه. وقد ألزم النحويون في ذلك أيضا العطف على عاملين؛ لأنه عطف {واختلاف} على {وفي خلقكم} ، وعطف {آيات} على موضع {آيات} الأول، ولكنه يقدر على تكرير { في} . ويجوز أن يرفع

على القطع مما قبله فيرفع بالابتداء، وما قبله خبره، ويكون عطف جملة على جملة. وحكى الفراء رفع {واختلاف} و {آيات} جميعا، وجعل الاختلاف هو الآيات.
الآية: 6 {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} أي هذه آيات الله أي حججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وقدرته. {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أي بالصدق الذي لا باطل ولا كذب فيه. وقرئ {يتلوها} بالياء. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ} أي بعد حديث الله وقيل بعد قرآنه {وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} وقراءة العامة بالياء على الخبر. وقرأ ابن محيصن وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي {تؤمنون} بالتاء على الخطاب.
الآية: 7 - 8 {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {ويل} واد في جهنم. توعد من ترك الاستدلال بآياته. والأفاك: الكذاب. والإفك الكذب. {أَثِيمٍ} أي مرتكب للإثم. والمراد فيما روي: النضر بن الحارث وعن ابن عباس أنه الحارث بن كلدة. وحكى الثعلبي أنه أبو جهل وأصحابه. {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} يعني آيات القرآن. {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} أي يتمادى على كفره متعظما في نفسه عن الانقياد مأخوذ من صر الصرة إذا شدها. قال معناه ابن عباس وغيره. وقيل: أصله من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحني عليها صارا أذنيه. و {أن} من {كأن} مخففة من الثقيلة؛ كأنه لم يسمعها، والضمير ضمير الشأن؛ كما في قوله:
كأن ظبية تعطو إلى ناضر السلم

ومحل الجملة النصب، أي يصر مثل غير السامع. وقد تقدم في أول "لقمان" القول في هذه الآية. وتقدم معنى {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في "البقرة".
الآية: 9 - 10 {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
قوله تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} نحو قوله في الزقوم: إنه الزبد والتمر وقوله في خزنة جهنم: إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي. {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} مذل مخز. {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} أي من وراء ما هم فيه من التعزز في الدنيا والتكبر عن الحق جهنم. وقال ابن عباس: {من ورائهم جهنم} أي أمامهم، نظيره: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] أي من أمامه. قال:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... أدب مع الولدان أزحف كالنسر
{وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً} أي من المال والولد؛ نظيره: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [آل عمران: 10] أي من المال والولد. {شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} يعني الأصنام. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي دائم مؤلم.
الآية: 11 {هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}
قوله تعالى: {هَذَا هُدىً} ابتداء وخبر؛ يعني القرآن. وقال ابن عباس: يعني كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} أي جحدوا دلائله.

{لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} الرجز العذاب؛ أي لهم عذاب من عذاب أليم دليله قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59] أي عذابا. وقيل: الرجز القذر مثل الرجس؛ وهو كقوله تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] أي لهم عذاب من تجرع الشراب القذر. وضم الراء من الرجز ابن محيصن حيث وقع. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحفص {أليم} بالرفع؛ على معنى لهم عذاب أليم من رجز. الباقون بالخفض نعتا للرجز.
الآية: 12 - 13 {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ذكر كمال قدرته وتمام نعمته على عباده، وبين أنه خلق ما خلق لمنافعهم. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} يعني أن ذلك فعله وخلقه وإحسان منه وإنعام. وقرأ ابن عباس والجحدري وغيرهما {جميعا مِنُّهُ} بكسر الميم وتشديد النون وتنوين الهاء، منصوبا على المصدر. قال أبو عمرو: وكذلك سمعت مسلمة يقرؤها {مِنَّةً} أي تفضلا وكرما. وعن مسلمة بن محارب أيضا "جميعا منه" على إضافة المن إلى هاء الكناية. وهو عند أبي حاتم خبر ابتداء محذوف، أي ذلك، أو هو منه. وقراءة الجماعة ظاهرة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
الآية: 14 {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} جزم على جواب {قل} تشبيها بالشرط والجزاء كقولك: قم تصب خيرا. وقيل: هو على حذف اللام. وقيل: على معنى قل

لهم اغفروا يغفروا؛ فهو جواب أمر محذوف دل الكلام عليه؛ قال علي بن عيسى واختاره ابن العربي. ونزلت الآية بسبب أن رجلا من قريش شتم عمر بن الخطاب فهم أن يبطش به. قال ابن العربي: وهذا لم يصح. وذكر الواحدي والقشيري وغيرهما عن ابن عباس أن الآية نزلت في عمر مع عبدالله بن أبي في غزوة بني المصطلق، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها "المريسيع" فأرسل عبدالله غلامه ليستقي، وأبطأ عليه فقال: ما حبسك؟ قال: غلام عمر بن الخطاب قعد على فم البئر، فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر، وملأ لمولاه. فقال عبدالله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك. فبلغ عمر رضي الله عنه قول، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله؛ فأنزل الله هذه الآية. هذه رواية عطاء عن ابن عباس. وروى عنه ميمون بن مهران قال: لما نزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج رب محمد! قال: فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه؛ فجاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن ربك يقول لك {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ}. وأعلم أن عمر قد أشتمل عل سيفه وخرج في طلب اليهودي، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، فلما جاء قال: "يا عمر، ضع سيفك" قال: يا رسول الله، صدقت. أشهد أنك أرسلت بالحق. قال: "فإن ربك يقول : {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ}. قال: لا جرم! والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهي.
قلت: وما ذكره المهدوي والنحاس فهو رواية الضحاك عن ابن عباس، وهو قول القرظي والسدي، وعليه يتوجه النسخ في الآية. وعلى أن الآية نزلت بالمدينة أو في غزوة بني المصطلق فليست بمنسوخة. ومعنى {يَغْفِرُوا} يعفوا ويتجاوزوا. ومعنى: {لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} أي لا يرجون ثوابه. وقيل: أي لا يخافون بأس الله ونقمه. وقيل: الرجاء بمعنى الخوف؛ كقوله: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] أي لا تخافون له عظمة. والمعنى: لا تخشون

مثل عذاب الأمم الخالية. والأيام يعبر بها عن الوقائع. وقيل: لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه. وقيل: المعنى لا يخافون البعث. {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قراءة العامة {لِيَجْزِيَ} بالياء على معنى ليجزي الله. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر {لِنَجْزِيَ} بالنون على التعظيم. وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة {لِيُجْزَى} بياء مضمومة وفتح الزاي على الفعل المجهول، {قوما} بالنصب. قال أبو عمرو: وهذا لحن ظاهر. وقال الكسائي: معناه ليجزي الجزاء قوما، نظيره: {وَكَذَلِكَ نُجِِّي الْمُؤْمِنِينَ} على قراءة ابن عامر وأبي بكر في سورة "الأنبياء". قال الشاعر:
ولو وَلَدت قُفيرة جرو كلب ... لَسُبَّ بذلك الجروِ الكلابا
أي لَسُبَّ السب.
الآية: 15 {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}
تقدم.
الآية: 16 - 17 {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ} يعني التوراة. {وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الحكم: الفهم في الكتاب. وقيل: الحكم على الناس والقضاء. {والنبوة} يعني الأنبياء من وقت يوسف عليه السلام إلى زمن عيسى عليه السلام. {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي الحلال

من الأقوات والثمار والأطعمة التي كانت بالشام. وقيل: يعني المن والسلوى في التيه. {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي على عالمي زمانهم. {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} قال ابن عباس: يعني أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وشواهد نبوته بأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، وينصره أهل يثرب. وقيل: بينات الأم شرائع واضحات في الحلال والحرام ومعجزات. {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} يريد يوشع بن نون؛ فآمن بعضهم وكفر بعضهم؛ حكاه النقاش. وقيل: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا فيها. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي حسدا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال معناه الضحاك. قيل: معنى {بَغْياً} أي بغى بعضهم على بعض يطلب الفضل والرياسة، وقتلوا الأنبياء؛ فكذا مشركو عصرك يا محمد، قد جاءتهم البينات ولكن أعرضوا عنها للمنافسة في الرياسة. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} أي يحكم ويفصل. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} في الدنيا.
الآية: 18 {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} الشريعة في اللغة: المذهب والملة. ويقال لمشرعة الماء - وهي مورد الشاربة -: شريعة. ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد. فالشريعة: ما شرع الله لعباده من الدين؛ والجمع الشرائع. والشرائع في الدين: المذاهب التي شرعها الله لخلقه. فمعنى: {جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} أي على منهاج واضح من أمر الدين يشرع بك إلى الحق. وقال ابن عباس: {عَلَى شَرِيعَةٍ} أي على هدى من الأمر. قتادة: الشريعة الأم والنهي والحدود والفرائض. مقاتل: البينة؛ لأنها

طريق إلى الحق. الكلبي: السنة؛ لأنه يستن بطريقة من قبله من الأنبياء. ابن زيد: الدين؛ لأنه طريق النجاة. قال ابن العربي: والأمر يرد في اللغة بمعنيين: أحدهما: بمعنى الشأن كقوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]. والثاني: أحد أقسام الكلام الذي يقابله الذي يقابله النهي. وكلاهما يصح أن يكون مرادا هاهنا؛ وتقديره: ثم جعلناك على طريقة من الدين وهي ملة الإسلام؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].
ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينهما في الفروع حسبما علمه سبحانه.
قال ابن العربي: ظن بعض من يتكلم في العلم أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا؛ لأن الله تعالى أفرد النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا ننكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء هل يلزم اتباعه أم لا. {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} يعني المشركين. وقال ابن عباس: قريظة والنضير. وعنه: نزلت لما دعته قريش إلى دين آبائه.
الآية: 19 {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي إن اتبعت أهواءهم لا يدفعون عنك من عذاب الله شيئا. {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي أصدقاء وأنصار وأحباب. قال ابن عباس: يريد أن المنافقين أولياء اليهود. {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} أي ناصرهم ومعينهم. والمتقون هنا: الذين أتقوا الشرك والمعاصي.

الآية: 20 {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
قوله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} ابتداء وخبر؛ أي هذا الذي أنزلت عليك براهين ودلائل ومعالم للناس في الحدود والأحكام. وقرئ {هذه بصائر} أي هذه الآيات. {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي رشد وطريق يؤدي إلى الجنة لمن أخذ به. {وَرَحْمَةٌ} في الآخرة {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
الآية: 21 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} أن اكتسبوها. والاجتراح: الاكتساب؛ ومنه الجوارح، وقد تقدم. {أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال الكلبي: {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا} عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. و {الَّذِينَ آمَنُوا} علي وحمزة وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم - حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم. وقيل: نزلت في قوم من المشركين قالوا: إنهم يعطون في الآخرة خيرا مما يعطاه المؤمن؛ كما أخبر الرب عنهم في قوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50]. وقوله: {أم حسب} استفهام معطوف معناه الإنكار. وأهل العربية يجوزون ذلك من غير عطف إذا كان متوسطا للخطاب. وقوم يقولون: فيه إضمار؛ أي والله ولي المتقين أفيعلم المشركون ذلك أم حسبوا أنا نسوي بينهم. وقيل: هي أم المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان. وقراءة العامة {سواء} بالرفع على أنه خبر ابتداء مقدم، أي محياهم ومماتهم سواء. والضمير في {محياهم ومماتهم} يعود على الكفار، أي محياهم محيا سوء ومماتهم كذلك. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش {سواءً} بالنصب، واختاره أبو عبيد قال: معناه

نجعلهم سواء. وقرأ الأعمش أيضا وعيسى بن عمر {ومماتَهم} بالنصب؛ على معنى سواء في محياهم ومماتهم؛ فلما أسقط الخافض انتصب. ويجوز أن يكون بد لا من الهاء والميم في نجعلهم؛ المعنى: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا الذين آمنوا ومماتهم. ويجوز أن يكون الضمير في {محياهم ومماتهم} للكفار والمؤمنين جميعا. قال مجاهد: المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا. وذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحا عن مسروق قال: قال رجل من أهل مكة: هذا مقام تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية كلها. وقال بشير: بت عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعدها ببكاء شديد. وقال إبراهيم بن الأشعث: كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها، ثم يقول: ليت، شعري! من أي الفريقين أنت؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين لأنها محكمة.
الآية: 22 {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
قوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي بالأمر الحق.{وَلِتُجْزَى} أي ولكي تجزى. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي في الآخرة. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
الآية: 23 {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} قال ابن عباس والحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه؛ فلا يهوى شيئا إلا ركبه. وقال عكرمة: أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه أو يستحسنه؛ فإذا استحسن

شيئا وهويه اتخذه إلها. قال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر؛ فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه. وقال سفيان بن عيينة: إنما عبدوا الحجارة لأن البيت حجارة. وقيل: المعنى أفرأيت من ينقاد لهواه ومعبوده تعجيبا لذوي العقول من هذا الجهل. وقال الحسن بن الفضل: في هذه الآية تقديم وتأخير، مجازه: أفرأيت من اتخذ هواه إلهه. وقال الشعبي: إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار. وقال ابن عباس: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه، قال الله تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176]. وقال تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28]. وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم: 29]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. وقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. وقال عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". وقال أبو أمامة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى". وقال شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله". وقال عليه السلام: "إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة" . وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث مهلكات وثلاث منجيات فالمهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. والمنجيات خشية الله في السر والعلانية والقصد في الغنى والفقر والعدل في الرضا والغضب". وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه؛ فإن كان عمله

تبعا لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح. وقال الأصمعي سمعت رجلا يقول:
إن الهوان هو الهوى قلب اسمه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوان سرقت نونه، فأخذه شام فنظمه وقال:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقال آخر:
إن الهوى لهو الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد كسبت هوانا
وإذا هويت فقد تعبّدك الهوى ... فاخضع لحبك كائنا من كانا
ولعبدالله بن المبارك:
ومن البلايا للبلاء علامة ... ألا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع تارة ويجوع
ولابن دريد:
إذا طالبتك النفس يوما بشهوه ... وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما ... هواك عدو والخلاف صديق
ولأبي عبيد الطوسي:
والنفس إن أعطيتها مناها ... فاغرة نحو هواها فاها
وقال أحمد بن أبي الحوارى: مررت براهب فوجدته نحيفا فقلت له: أنت عليل. قال نعم. قلت: مذ كم؟ قال: مذ عرفت نفسي! قلت فتداوى؟ قال: قد أعياني الدواء وقد عزمت على الكي. قلت وما الكي؟ قال: مخالفة الهوى. وقال سهل بن عبدالله التري: هواك داؤك. فان خالفته فدواؤك. وقال وهب: إذا شككت في أمرين ولم تدر خيرهما فانظر أبعدهما من هواك فأته.

وللعلماء في هذا الباب في ذم الهوى ومخالفته كتب وأبواب أشرنا إلى ما فيه كفاية منه؛ وحسبك بقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41].
قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} أي على علم قد علمه منه. وقيل: أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه. وقال ابن عباس: أي على علم قد سبق عنده أنه سيضل. مقاتل: على علم منه أنه ضال؛ والمعنى متقارب. وقيل: على علم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر. ثم قيل: {على علم} يجوز أن يكون حالا من الفاعل؛ المعنى: أضله على علم منه به، أي أضله عالما بأنه من أهل الضلال في سابق علمه. ويجوز أن يكون حالا من المفعول؛ فيكون المعنى: أضله في حال علم الكافر بأنه ضال. {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ، وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى. {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أي غطاء حتى لا يبصر الرشد. وقرأ حمزه والكسائي "غشوة" بفتح الغين من غير ألف وقال الشاعر:
أما والذي أنا عبد له ... يمينا ومالك أبدى اليمينا
لئن كنت ألبستني غشوة ... لقد كنت أصفيتك الود حينا
{مَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} أي من بعد أن أضله. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} تتعظون وتعرفون أنه قادر على ما يشاء.
وهذه الآية ترد على القدرية والإمامية وسلك سبيلهم في الاعتقاد؛ إذ هي مصرحة بمنعهم من الهداية. ثم قيل: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} إنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم. وقيل: إنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم؛ كما تقدم في أول "البقرة". وحكى ابن جريج أنها نزلت

في الحارث بن قيس من الغياطلة. وحكى النقاش أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم إنه لصادق! فقال له مه! وما دلك على ذلك!؟ قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين؛ فلما تم عقله وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن!! والله إني لأعلم إنه لصادق! قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إن اتبعته أبدا. فنزلت: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ}.
الآية: 24 {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}
قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} هذا إنكار منهم للآخرة وتكذيب للبعث وإبطال للجزاء. ومعنى: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي نموت نحن وتحيا أولادنا؛ قال الكلبي. وقرئ {ونحيا} بضم النون. وقيل: يموت بعضنا ويحيا بعضنا. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي نحيا ونموت؛ وهي قراءة ابن مسعود. {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} قال مجاهد: يعني السنين والأيام. وقال قتادة: إلا العمر، والمعنى واحد. وقرئ {إلا دهر يمر}. وقال ابن عيينة: كان أهل الجاهلية يقولون: الدهر هو الذي يهلكنا وهو الذي يحيينا ويميتنا؛ فنزلت هذه الآية. وقال قطرب: وما يهلكنا إلا الموت؛ وأنشد قول أبي ذؤيب:
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع

وقال عكرمة: أي وما يهلكنا إلا الله. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان أهل الجاهلية يقولون ما يهلكنا إلا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا فيسبون الدهر قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار".
قلت: قوله "قال الله" إلى آخره نص البخاري ولفظه. وخرجه مسلم أيضا وأبو داود. وفي الموطأ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر". وقد استدل بهذا الحديث من قال: إن الدهر من أسماء الله. وقال: من لم يجعله من العلماء اسما إنما خرج ردا على العرب في جاهليتها؛ فإنهم كانوا يعتقدون أن الدهر هو الفاعل كما أخبر الله عنهم في هذه الآية؛ فكانوا إذا أصابهم ضر أو ضيم أو مكروه نسبوا ذلك إلى الدهر فقيل لهم على ذلك: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر؛ أي إن الله هو الفاعل لهذه الأمور التي تضيفونها إلى الدهر فيرجع السب إليه سبحانه؛ فنهوا عن ذلك. ودل على صحة هذا ما ذكره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم..." الحديث. ولقد أحسن من قال، وهو أبو علي الثقفي:
يا عاتب الدهر إذا نابه ... لا تلم الدهر على غدره
الدهر مأمور، له آمر ... وينتهي الدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جمة ... تزداد أضعافا على كفره
ومؤمن ليس له درهم ... يزداد إيمانا على فقره
وروي أن سالم بن عبدالله بن عمر كان كثيرا ما يذكر الدهر فزجره أبوه وقال: إياك يا بني وذكر الدهر! وأنشد:
فما الدهر بالجاني لشيء لحينة ... ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا
ولكن متى ما يبعث الله باعثا ... على معشر يجعل مياسيرهم عسرا

وقال أبو عبيد: ناظرت بعض الملحدة فقال: ألا تراه يقول: "فإن الله هو الدهر" ؟ فقلت: وهل كان أحد يسب الله في آباد الدهر، بل كانوا يقولون كما قال الأعشى:
إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذ مضوا مهلا
استأثر الله بالوفاء وبالعد ... ل وولى الملامة الرجلا
قال أبو عبيد: ومن شأن العرب أن يذموا الدهر عند المصائب والنوائب؛ حتى ذكروه في أشعارهم، ونسبوا الأحداث إليه. قال عمرو بن قميئة:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برام
فلو أنها نبل إذاً لاتقيتها ... ولكنني أرمى بغير سهام
على الراحتين مرة وعلى العصا ... أنوء ثلاثا بعدهن قيامي
ومثله كثير في الشعر. ينسبون ذلك إلى الدهر ويضيفونه إليه، والله سبحانه الفاعل لا رب سواه. {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إ} أي علم. و {من} زائدة؛ أي قالوا ما قالوا شاكين. {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} أي ما هم إلا يتكلمون بالظن. وكان المشركون أصنافا، منهم هؤلاء، ومنهم من كان يثبت الصانع وينكر البعث، ومنهم من كان يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره. وحدث في الإسلام أقوام ليس يمكنهم إنكار البعث خوفا من المسلمين؛ فيتأولون ويرون القيامة موت البدن، ويرون الثواب والعقاب إلى خيالات تقع للأرواح بزعمهم؛ فشر هؤلاء أضر من شر جميع الكفار؛ لأن هؤلاء يلبسون على الحق، ويغتر بتلبيسهم الظاهر. والمشرك المجاهر بشركه يحذره المسلم. وقيل: نموت وتحيا آثارنا؛ فهذه حياة الذكر. وقيل: أشاروا إلى التناسخ؛ أي يموت الرجل فتجعل روحه. في موات فتحيا به.
الآية: 25 - 26 {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}

قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإذ تقرأ على هؤلاء المشركين آياتنا المنزلة في جواز البعث لم يكن ثم دفع {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {حُجَّتَهُمْ} خبر كان والاسم {إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا} الموتى نسألهم عن صدق ما تقولون، فرد الله عليهم بقوله {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} يعني بعد كونكم نطفا أمواتا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} كما أحياكم في الدنيا. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أن الله يعيدهم كما بدأهم. الزمخشري: فإن قلت لم سمي قولهم حجة وليس بحجة؟ قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها فسميت حجة على سبيل التهكم. أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة. أو لأنه في أسلوب قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع
كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة. والمراد نفي أن تكون لهم حجة البتة. فإن قلت: كيف وقع قوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} جواب {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ؟ قلت: لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل، وحسبوا أن ما قالوه قول مبكت ألزموا ما هم مقرون به من أن الله عز وجل وهو الذي يحييهم ثم يميتهم، وضم إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعى الحق وهو جمعهم يوم القيامة، ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه.
الآية: 27 {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خلقا وملكا. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} {يوم} الأول منصوب بـ {يخسر} و {يومئذ} تكرير للتأكيد

أو بدل. وقيل: إن التقدير وله الملك يوم تقوم الساعة. والعامل في {يومئذ} {يخسر} ، ومفعول {يخسر} محذوف، والمعنى يخسرون منازلهم في الجنة.
- الآية: 28 {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} أي من هول ذلك اليوم. والأمة هنا: أهل كل ملة. وفي الجاثية تأويلات خمس: الأول: قال مجاهد: مستوفزة. وقال سفيان: المستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله. الضحاك: ذلك عند الحساب. الثاني: مجتمعة قاله ابن عباس. الفراء: المعنى وترى أهل كل دين مجتمعين. الثالث: متميزة، قاله عكرمة. الرابع: خاضعة بلغة قريش، قال مؤرج. الخامس: باركة على الركب قاله الحسن. والجثو: الجلوس على الركب. جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جُثُوّا وجُثِيا، على فعول؟؟ منها، وقد مضى في "مريم": وأصل الجثوة: الجماعة من كل شيء. قال طرفه يصف قبرين:
ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح منضد
ثم قيل: هو خاص بالكفار، قاله يحي بن سلام. وقيل: إنه عام للمؤمن والكافر انتظارا للحساب. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبدالله بن باباه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كأني أراكم بالكوم جاثين دون جهنم" ذكره الماوردي. وقال سلمان: إن في يوم القيامة لساعة هي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إن إبراهيم عليه السلام لينادي "لا أسألك اليوم إلا نفسي". {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} قال يحي بن سلام: إلى حسابها. وقيل: إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر،

قال مقاتل. وهو معنى قول مجاهد. وقيل: {كتابها} ما كتبت الملائكة عليها. وقيل كتابها المنزل عليها لينظر هل عملوا بما فيه. وقيل: الكتاب ها هنا اللوح المحفوظ. وقرأ يعقوب الحضرمي {كُلَّ أُمَّةٍ} بالنصب على البدل من {كل} الأولى لما في الثانية من الإيضاح الذي ليس في الأولى، إذ ليس في جثوها شيء من حال شرح الجثو كما في الثانية من ذكر السبب الداعي إليه وهو استدعاؤها إلى كتابها. وقيل: انتصب بإعمال "ترى" مضمرا. والرفع على الابتداء. {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من خير أو شر.
الآية: 29 {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا} قيل من قول الله لهم. وقيل من قول الملائكة. {يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} أي يشهد. وهو استعارة يقال: نطق الكتاب بكذا أي بين. وقيل: إنهم يقرؤونه فيذكرهم الكتاب ما عملوا، فكأنه ينطق عليهم، دليله قوله: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]. وفي المؤمنين: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وقد تقدم. و"ينطق" في، موضع الحال من الكتاب، أو من ذا، أو خبر ثان لذا، أو يكون {كتابنا} بدلا من {هذا} و {ينطق} الخبر. {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي نأمر بنسخ ما كنتم تعملون. قال علي رضي الله عنه: إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم. وقال ابن عباس: إن الله وكل ملائكة مطهرين فينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما يكون من أعمال بني آدم فيعارضون حفظة الله على العباد كل خميس، فيجدون ما جاء به الحفظة من أعمال العباد موافقا لما في كتابهم الذي استنسخوا من ذلك الكتاب لا زيادة فيه ولا نقصان. قال ابن عباس: وهل يكون النسخ إلا من كتاب. الحسن: نستنسخ ما كتبته الحفظة

على بني آدم، لأن الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال. وقيل: تحمل الحفظة كل يوم ما كتبوا على العبد، ثم إذا عادوا إلى مكانهم نسخ منه الحسنات والسيئات، ولا تحول المباحات إلى النسخة الثانية. وقيل: إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله عز وجل أمر بأن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب، ويسقط من جملتها ما لا ثواب فيه ولا عقاب.
الآية: 30 - 31 {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ}
قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} أي الجنة {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي فيقال لهم ذلك. وهو استفهام توبيخ. {فَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن قبولها. {وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ} أي مشركين تكسبون المعاصي. يقال: فلان جريمة أهله إذا كان كاسبهم، فالمجرم من أكسب نفسه المعاصي. وقد قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35] فالمجرم ضد المسلم فهو المذنب بالكفر إذا.
الآية: 32 {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي البعث كائن. {وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا} وقرأ حمزة {وَالسَّاعَةَ} بالنصب عطفا على {وَعْدَ}. الباقون بالرفع على الابتداء، أو العطف

على موضع {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ}. ولا يحسن على الضمير الذي في المصدر، لأنه غير مؤكد، والضمير المرفوع إنما يعطف عليه بغير تأكيد في الشعر. {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} هل هي حق أم باطل. {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} تقديره عند المبرد: إن نحن إلا نظن ظنا. وقيل: التقدير: إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا. وقيل: أي وقلتم إن نظن إلا ظنا {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} أن الساعة آتية.
الآية: 33 {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} أي ظهر لهم جزاء سيئات ما عملوا. {وَحَاقَ بِهِمْ} أي نزل بهم وأحاط. {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من عذاب الله.
الآية: 34 {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
قوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي نترككم في النار كما تركتم لقاء يومكم هذا أي تركتم العمل له. {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} أي مسكنكم ومستقركم. {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} من ينصركم.
الآية: 35 {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} يعني القرآن. {هُزُواً} لعبا. {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي خدعتكم بأباطيلها وزخارفها، فظننتم أن ليس ثم غيرها، وأن لا بعث. {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} أي من النار. {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يسترضون. وقرأ حمزة والكسائي {فَالْيَوْمَ لا يَخْرُجُونَ} بفتح الياء وضم الراء لقوله تعالى:

{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] الباقون بضم الياء وفتح الراء، لقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} [فاطر: 37] ونحوه.
الآية: 36 {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قرأ مجاهد وحميد وابن محيصن {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَالَمِينَ} بالرفع فيها كلها على معنى هو رب. {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} أي العظمة والجلال والبقاء والسلطان والقدرة والكمال. {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} والله أعلم.

تفسير سورة الأحقاف
سورة الأحقاف
الآية: 1 {حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}
قوله تعالى: {حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} تقدم. {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} تقدم أيضا. {وَأَجَلٍ مُسَمّىً}{وَأَجَلٍ مُسَمّىً} يعني القيامة، في قول ابن عباس وغيره. وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض. وقيل: إنه هو الأجل

المقدور لكل مخلوق. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا} خُوفوه {مُعْرِضُونَ} مولون لا هون غير مستعدين له. يجوز أن تكون {ما} مصدرية، أي عن إنذارهم ذلك اليوم.
الآية: 4 {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ما تعبدون من الأصنام والأنداد من دون الله. {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} أي هل خلقوا شيئا من الأرض {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} أي نصيب {فِي السَّمَاوَاتِ} أي في خلق السموات مع الله. {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} أي من قبل هذا القرآن.
الثانية: قوله تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قراءة العامة {أَوْ أَثَارَةٍ} بألف بعد الثاء. قال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "هو خط كانت تخطه العرب في الأرض" ، ذكره المهدوي والثعلبي. وقال ابن العربي: ولم يصح. وفي مشهور الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك" ولم يصح أيضا.
قلت: هو ثابت من حديث معاوية بن الحكم السلمي، خرجه مسلم. وأسند النحاس: حدثنا محمد بن أحمد (يعرف بالجرايجي) قال حدثنا محمد بن بندار قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان الثوري عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قال: "الخط" وهذا صحيح أيضا. قال ابن العربي: واختلفوا في تأويله، فمنهم من قال: جاء لإباحة الضرب، لأن بعض الأنبياء كان يفعله.

ومنهم من قال جاء للنهي عنه، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "فمن وافق خطه فذاك". ولا سبيل إلى معرفة طريق النهي المتقدم فيه، فإذا لا سبيل إلى العمل به. قال:
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصا ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وحقيقته عند أربابه ترجع إلى صور الكواكب، فيدل ما يخرج منها على ما تدل عليه تلك الكواكب من سعد أو نحس يحل بهم، فصار ظنا مبنيا على ظن، وتعلقا بأمر غائب قد درست طريقه وفات تحقيقه، وقد نهت الشريعة عنه، وأخبرت أن ذلك مما اختص الله به، وقطعه عن الخلق، وإن كانت لهم قبل ذلك أسباب يتعلقون بها في درك الأشياء المغيبة، فإن الله قد رفع تلك الأسباب وطمس تلك الأبواب وأفرد نفسه بعلم الغيب، فلا يجوز مزاحمته في ذلك، ولا يحل لأحد دعواه. وطلبه عناء لو لم يكن فيه نهي. فإذ وقد ورد النهي فطلبه معصية أو كفر بحسب قصد الطالب.
قلت: ما اختاره هو قول الخطابي. قال الخطابي: قوله عليه السلام: "فمن وافق خطه فذاك" هذا يحتمل الزجر إذ كان ذلك علما لنبوته وقد انقطعت، فنهينا عن التعاطي لذلك. قال القاضي عياض: الأظهر من اللفظ خلاف هذا، وتصويب خط من يوافق خطه، لكن من أين تعلم الموافقة والشرع منع من التخرص وادعاء الغيب جملة - فإنما معناه أن من وافق خطه فذاك الذي يجدون إصابته، لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوله بعضهم. وحكى مكي في تفسير قوله: [كان نبي من الأنبياء يخط] أنه كان يخط بأصبعه السبابة والوسطى في الرمل ثم يزجر. وقال ابن عباس في تفسير قوله [ومنا رجال يخطون]: هو الخط الذي يخطه الحازي فيعطى حلوانا فيقول: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازي غلام معه ميل ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط الأستاذ خطوطا معجلة لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو على مهل خطين خطين، فإن بقي خطان فهو علامة النجح، وإن بقي خط فهو علامة الخيبة. والعرب تسميه الأسحم وهو مشؤوم عندهم.

الثالثة: قال ابن العربي: إن الله تعالى لم يبق من الأسباب الدالة على الغيب التي أذن في التعلق بها والاستدلال منها إلا الرؤيا، فإنه أذن فيها، وأخبر أنها جزء من النبوة وكذلك الفأل، وأما الطيرة والزجر فإنه نهى عنهما. والفأل: هو الاستدلال بما يسمع من الكلام على ما يريد من الأمر إذا كان حسنا، فإذا سمع مكروها فهو تطير، أمره الشرع بأن يفرح بالفأل ويمضى على أمره مسرورا. وإذا سمع المكروه أعرض عنه ولم يرجع لأجله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك". وقد روى بعض الأدباء:
الفأل والزجر والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال
وهذا كلام صحيح، إلا في الفأل فإن الشرع استثناه وأمر به، فلا يقبل من هذا الشاعر ما نظمه فيه، فإنه تكلم بجهل، وصاحب الشرع أصدق وأعلم وأحكم.
قلت: قد مضى في الطيرة والفأل وفي الفرق بينهما ما يكفي في (المائدة) وغيرها. ومضى في (الأنعام) أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب، وأن أحدا لا يعلم ذلك إلا ما أعلمه الله، أو يجعل على ذلك دلالة عادية يعلم بها ما يكون على جري العادة، وقد يختلف. مثال إذا رأى نخلة قد أطلعت فإنه يعلم أنها ستثمر، وإذا رآها قد تناثر طلعها علم أنها لا تثمر. وقد يجوز أن يأتي عليها آفة تهلك ثمرها فلا تثمر، كما أنه جائز أن تكون النخلة التي تناثر طلعها يطلع الله فيها طلعا ثانيا فتثمر. وكما أنه جائز أيضا ألا يلي شهره شهر ولا يومه يوم إذا أراد الله إفناء العالم ذلك الوقت. إلى غير ذلك مما تقدم في (الأنعام) بيانه.
الرابعة: قال ابن خويز منداد: قوله تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} يريد الخط. وقد كان مالك رحمه الله يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه. وإذا عرف الحاكم خطه أو خط من كتب إليه حكم به، ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل والتزوير. وقد روي عنه أنه قال: "يُحدِث الناس فجورا فتحدث لهم أقضية". فأما إذا شهد الشهود على الخط المحكوم به، مثل أن يشهدوا أن هذا الحاكم وكتابه، أشهدنا على

ما فيه وإن لم يعلموا ما في الكتاب. وكذلك الوصية أو خط الرجل باعترافه بمال لغيره يشهدون أنه خطه ونحو ذلك - فلا يختلف مذهبه أن يحكم به. وقيل: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أو بقية من علم، قبل ابن عباس والكلبي وأبو بكر بن عياش وغيرهم. وفي الصحاح {أو أثارة من علم} بقية منه. وكذلك الأثرة (بالتحريك) . ويقال: سمنت الإبل على أثارة، أي بقية شحم كان قبل ذلك. وأنشد الماوردي والثعلبي قول الراعي:
وذات أثارة أكلت عليها ... نباتا في أكمته ففارا
وقال الهروي: والأثارة والأثر: البقية، يقال: ما ثم عين ولا أثر. وقال ميمون بن مهران وأبو سلمة بن عبدالرحمن وقتادة: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} خاصة من علم. وقال مجاهد: رواية تأثرونها عمن كان قبلكم. وقال عكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء. وقال القرظي: هو الإسناد. الحسن: المعنى شيء يثار أو يستخرج. وقال الزجاج: {أَوْ أَثَارَةٍ} أي علامة. والأثارة مصدر كالسماحة والشجاعة. وأصل الكلمة من الأثر، وهي الرواية، يقال: أثرت الحديث آثره أثرا وأثارة وأثرة فأنا آثر، إذا ذكرته عن غيرك. ومنه قيل: حديث مأثور، أي نقله خلف عن سلف. قال الأعشى:
إن الذي فيه تماريتما ... بُيِّن للسامع والآثر
ويروى {بَيَّن} وقرئ {أو أُثْرَة} بضم الهمزة وسكون الثاء. ويجوز أن يكون معناه بقية من علم. ويجوز أن يكون معناه شيئا مأثورا من كتب الأولين. والمأثور: ما يتحدث به مما صح سنده عمن تحدث به عنه. وقرأ السلمي والحسن وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف، أي خاصة من علم أوتيتموها أو أوثرتم بها على غيركم. وروي عن الحسن أيضا وطائفة {أَثْرةٍ} مفتوحة الألف ساكنة الثاء، ذكر الأولى الثعلبي والثانية الماوردي. وحكى الثعلبي عن عكرمة: أو ميراث علم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} فيه بيان مسالك الأدلة بأسرها، فأولها المعقول، وهو قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ

اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} وهو احتجاج بدليل العقل في أن الجماد لا يصح أن يدعى من دون الله فإنه لا يضر ولا ينفع. ثم قال: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} فيه بيان أدلة السمع {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}.
الآية: 5 {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}
قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ} أي لا أحد أضل وأجهل {مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهي الأوثان. { وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} يعني لا يسمعون ولا يفهمون، فأخرجها وهي جماد مخرج ذكور بني آدم، إذ قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تُخدم.
الآية: 6 {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}
قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} يريد يوم القيامة. {كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} أي هؤلاء المعبودون أعداء الكفار يوم القيامة. فالملائكة أعداء الكفار، والجن والشياطين يتبرؤون غدا من عبدتهم، ويلعن بعضهم بعضا.
ويجوز أن تكون الأصنام للكفار الذين عبدوها أعداء، على تقدير خلق الحياة لها، دليله قوله تعالى: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63]. وقيل: عادوا معبوداتهم لأنهم كانوا سبب هلاكهم، وجحد المعبودون عبادتهم، وهو قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.
الآية: 7 {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}

قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني القرآن. {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
الآية: 8 {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} الميم صلة، التقدير: أيقولون افتراه، أي تقوله محمد. وهو إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا. ومعنى الهمزة في {أم} الإنكار والتعجب، كأنه قال: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضي منه العجب. وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله، ولو قدر عليه دون أمة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدق الكاذب فلا يكون مفتريا، والضمير للحق، والمراد به الآيات. {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} على سبيل الفرض. {فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي لا تقدرون على أن تردوا عني عذاب الله، فكيف أفتري على الله لأجلكم. {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تقولونه، عن مجاهد. وقيل: تخوضون فيه من التكذيب. والإفاضة في الشيء: الخوض فيه والاندفاع. أفاضوا في الحديث أي أندفعوا فيه. وأفاض البعير أي دفع جرته من كرشه فأخرجها، ومنه قول الشاعر:
وأفضن بعد كظومهن بجرة

وأفاض الناس من عرفات إلى منى أي دفعوا، وكل دفعة إفاضة. {كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} {كَفَى بِهِ شَهِيداً} نصب على التمييز. {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي هو يعلم صدقي وأنكم مبطلون. {وَهُوَ الْغَفُورُ} لمن تاب {الرَّحِيمُ} بعباده المؤمنين.
الآية: 9 {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} أي أول من أرسل، قد كان قبلي رسل، عن ابن عباس وغيره. والبدع: الأول. وقرأ عكرمة وغيره {بِدَعاً} بفتح الدال، على تقدير حذف المضاف، والمعنى: ما كنت صاحب بدع. وقيل: بدع وبديع بمعنى، مثل نصف ونصيف. وأبدع الشاعر: جاء بالبديع. وشيء بدع (بالكسر) أي مبتدع. وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع. وقوم أبداع، عن الأخفش. وأنشد قطرب قول عدي بن زيد:
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالا غدت من بعد بؤسى بأسعد
{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} يريد يوم القيامة. ولما نزلت فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا، ولو لا أنه ابتدع الذي يقول من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزلت: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] فنسخت هذه الآية، وأرغم الله أنف الكفار. وقالت الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله، لقد بين الله لك ما يفعل بك يا رسول الله، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا؟ فنزلت: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الفتح: 5] الآية. ونزلت: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب: 47]. قاله أنس وابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة والضحاك. وقالت أم العلاء امرأة من الأنصار: اقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان

ابن مظعون بن حذافة بن جمح، فأنزلناه أبياتنا فتوفي، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب إن الله أكرمك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله أكرمه" ؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله فمن؟ قال: "أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيرا فوالله إني لأرجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" . قالت: فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا. ذكره الثعلبي، وقال: وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه، وإنما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بأربع سنين.
قلت: حديث أم العلاء خرجه البخاري، وروايتي فيه: "وما أدري ما يفعل به" ليس فيه "بي ولا بكم" وهو الصحيح إن شاء الله، على ما يأتي بيانه. والآية ليست منسوخة، لأنها خبر. قال النحاس: محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتين: أحدهما أنه خبر، والآخر أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم، فوجب أن يكون هذا أيضا خطابا للمشركين كما كان قبله وما بعده، ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين "ما أدري ما يفعل بي ولا بكم" في الآخرة، ولم يزل صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار، ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة، فقد رأى صلى الله عليه وسلم ما يفعل به وبهم في الآخرة. وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودعة أم إلى عذاب وعقاب.
والصحيح في الآية قول الحسن، كما قرأ علي بن محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا وكيع قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن الحسن: "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا" قال أبو جعفر: وهذا أصح قول وأحسنه، لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ورخص وغلاء وغنى وفقر. ومثله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [الأعراف: 188]. وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح عن

ابن عباس: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصها على أصحابه به فاستبشروا بذلك، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا: يا رسول الله، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا. ثم قال: "إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي" أي لم يوح إلي ما أخبرتكم به. قال القشيري: فعلى هذا لا نسخ في الآية. وقيل: المعنى لا أدري ما يفرض علي وعليكم من الفرائض. واختار الطبري أن يكون المعنى: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، أتؤمنون أم تكفرون، أم تعاجلون بالعذاب أم تؤخرون.
قلت: وهو معنى قول الحسن والسدي وغيرهما. قال الحسن: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أما في الآخرة فمعاذ الله قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي، أو أقتل كما قتلت الأنبياء قبلي، ولا أدري ما يفعل بكم، أأمتي المصدقة أم المكذبة، أم أمتى المرمية بالحجارة من السماء قذفا، أو مخسوف بها خسفا، ثم نزلت: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]. يقول: سيظهر دينه على الأديان. ثم قال في أمته: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] فأخبره تعالى بما يصنع به وبأمته، ولا نسخ على هذا كله، والحمد لله. وقال الضحاك أيضا: {مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} أي ما تؤمرون به وتنهون عنه. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للمؤمنين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في القيامة، ثم بين الله تعالى ذلك في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وبين فيما بعد ذلك حال المؤمنين ثم بين حال الكافرين.
قلت: وهذا معنى القول الأول، إلا أنه أطلق فيه النسخ بمعنى البيان، وأنه أمر أن يقول ذلك للمؤمنين، والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره. و {ما} في {ما يفعل} يجوز أن

تكون موصولة، وأن تكون استفهامية مرفوعة.
قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} وقرئ {يوحي} أي الله عز وجل. تقدم في غير موضع.
الآية: 10 {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يعني القرآن. {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} وقال الشعبي: المراد محمد صلى الله عليه وسلم. {بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} قال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد: هو عبدالله بن سلام، شهد على اليهود أن رسول الله صلى الله مذكور في التوراة، وأنه نبي من عند الله. وفي الترمذي عنه: ونزلت في آيات من كتاب الله، نزلت في: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. وقد تقدم في آخر سورة "الرعد". وقال مسروق: هو موسى والتوراة، لا ابن سلام؛ لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية. وقال: وقول: {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} مخاطبة لقريش. الشعبي: هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة، لأن ابن سلام إنما أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين، والسورة مكية. قال القشيري: ومن قال الشاهد موسى قال السورة مكية، وأسلم ابن سلام قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعامين. ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وتوضع في سورة مكية، فإن الآية كانت تنزل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم ضعوها في سورة كذا. والآية في محاجة المشركين، ووجه الحجة أنهم كانوا يراجعون اليهود في أشياء، أي شهادتهم لهم وشهادة نبيهم لي من أوضح الحجج. ولا يبعد أن تكون السورة في محاجة اليهود، ولما جاء ابن سلام مسلما من قبل أن تعلم اليهود بإسلامه قال: يا رسول الله، اجعلني حكما بينك وبين اليهود، فسألهم عنه: "أي رجل هو فيكم؟" قالوا: سيدنا وعالمنا. فقال: "إنه قد آمن بي" فأساؤوا القول فيه... الحديث،

وقد تقدم. قال ابن عباس: رضيت اليهود بحكم ابن سلام، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن يشهد لك آمنا بك، فسئل فشهد ثم أسلم. {عَلَى مِثْلِهِ} أي على مثل ما جئتكم به، فشهد موسى على التوراة ومحمد على القرآن. وقال الجرجاني. {مثل} صلة، أي وشهد شاهد عليه أنه من عند الله. {فَآمَنَ} أي هذا الشاهد. {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أنتم عن الإيمان. وجواب "إن كان" محذوف تقديره: فآمن أتؤمنون، قال الزجاج. وقيل: {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أليس قد ظلمتم، يبينه {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقيل: {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أفتأمنون عذاب الله. و {أرأيتم} لفظ موضوع للسؤال والاستفهام، ولذلك لا يقتضي مفعولا. وحكى النقاش وغيره: أن في الآية تقديما وتأخيرا، وتقديره: قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن هو وكفرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
الآية: 11 {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} اختلف في سبب نزولها على ستة أقوال: الأول: أن أبا ذر الغفاري دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة فأجاب، واستجار به قومه فأتاه زعيمهم فأسلم، ثم دعاهم الزعيم فأسلموا، فبلغ ذلك قريشا فقالوا: غفار الحلفاء لو كان هذا خيرا ما سبقونا إليه، فنزلت هذه الآية، قال أبو المتوكل. الثاني: أن زنيرة أسلمت فأصيب بصرها فقالوا لها: أصابك اللات والعزى، فرد الله عليها بصرها. فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله عروة بن الزبير.

الثالث: أن الذين كفروا هم بنو عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه رعاة البهم إذ نحن أعز منهم، قاله الكلبي والزجاج، وحكاه القشيري عن ابن عباس. الرابع: وقال قتادة: نزلت في مشركي قريش، قالوا: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه بلال وصهيب وعمار وفلان وفلان.
الخامس: أن الذين كفروا من اليهود قالوا للذين آمنوا يعني عبدالله بن سلام وأصحابه: لو كان دين محمد حقا ما سبقونا إليه، قال أكثر المفسرين، حكاه الثعلبي.
وقال مسروق: إن الكفار قالوا لو كان خيرا ما سبقتنا إليه اليهود، فنزلت هذه الآية. وهذه المعارضة من الكفار في قولهم: لو كان خيرا ما سبقونا إليه من أكبر المعارضات بانقلابها عليهم لكل من خالفهم، حتى يقال لهم: لو كان ما أنتم عليه خيرا ما عدلنا عنه، ولو كان تكذيبكم للرسول خيرا ما سبقتمونا إليه، ذكره الماوردي. ثم قيل: قوله: {مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} يجوز أن يكون من قول الكفار لبعض المؤمنين، ويجوز أن يكون على الخروج من الخطاب إلي الغبة، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22]. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} يعني الإيمان. وقيل القرآن. وقيل محمد صلى الله عليه وسلم. {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي لما لم يصيبوا الهدى بالقرآن ولا بمن جاء به عادوه ونسبوه إلى الكذب، وقالوا هذا إفك قديم، كما قالوا: أساطير الأولين وقيل لبعضهم: هل في القرآن: من جهل شيئا عاداه؟ فقال نعم، قال الله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} ومثله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39].
الآية: 12 {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}

قوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ} أي ومن قبل القرآن {كِتَابُ مُوسَى} أي التوراة {إِمَاماً} يقتدى بما فيه. و {إِمَاماً} نصب على الحال، لأن المعنى: وتقدمه كتاب موسى إماما. {وَرَحْمَةً} معطوف عليه. وقيل: انتصب بإضمار فعل، أي أنزلناه إماما ورحمة. وقال الأخفش: على القطع، لأن كتاب موسى معرفة بالإضافة، لأن النكرة إذا أعيدت أو أضيفت أو أدخل عليها ألف ولام صارت معرفة. {وَرَحْمَةً} من الله. وفي الكلام حذف، أي فلم تهتدوا به. وذلك أنه كان في التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به فتركوا ذلك. و {إِمَاماً} نصب على الحال، لأن المعنى: وتقدمه كتاب موسى إماما. {وَرَحْمَةً} معطوف عليه. وقيل: انتصب بإضمار فعل، أي أنزلناه إماما ورحمة. وقال الأخفش: على القطع، لأن كتاب موسى معرفة بالإضافة، لأن النكرة إذا أعيدت أو أضيفت أو أدخل عليها ألف ولام صارت معرفة. {وَهَذَا كِتَابٌ} يعني القرآن {مُصَدِّقٌ} يعني للتوراة ولما قبله من الكتب. وقيل: مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم. {لِسَاناً عَرَبِيّاً} منصوب على الحال، أي مصدق لما قبله عربيا، و {لِسَانا} توطئة للحال أي تأكيد، كقولهم: جاءني زيد رجلا صالحا، فتذكر رجلا توكيدا.
وقيل: نصب بإضمار فعل تقديره: وهذا كتاب مصدق أعني لسانا عربيا. وقيل: نصب بإسقاط حرف الخفض تقديره: بلسان عربي. وقيل: إن لسانا مفعول والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم، أي وهذا كتاب مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه معجزته، والتقدير: مصدق ذا لسان عربي. فاللسان منصوب بمصدق، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ويبعد أن يكون اللسان القرآن، لأن المعنى يكون يصدق نفسه. {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} قراءة العامة {لِيُنْذِرَ} بالياء خبر عن الكتاب، أي لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية. وقيل: هو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقرأ نافع وابن عامر والبزي بالتاء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]. {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} {وَبُشْرَى} في موضع رفع، أي وهو بشرى. وقيل: عطفا على الكتاب، أي وهذا كتاب مصدق وبشرى. ويجوز أن يكون منصوبا بإسقاط حرف الخفض، أي لينذر الذين ظلموا وللبشرى، فلما حذف الخافض نصب. وقيل: على المصدر، أي وتبشر المحسنين بشرى، فلما جعل مكان وتبشر بشرى أو بشارة نصب، كما تقول: أتيتك لأزورك، وكرامة لك وقضاء لحقك، يعني لأزورك وأكرمك وأقضي حقك، فنصب الكرامة بفعل مضمر.

الآية: 13 {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الآية تقدم معناها. وقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر الصديق. والآية تعم. {جَزَاءً} نصب على المصدر.
الآية: 15 {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} بين اختلاف حال الإنسان مع أبويه، فقد يطيعهما وقد يخالفهما، أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض. فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض، قاله القشيري.
الثانية: {حسنا} قراءة العامة {حُسناً} وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقرأ ابن عباس والكوفيون {إحسانا} وحجتهم قوله تعالى في سورة (الأنعام وبني إسرائيل): {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام: 151] وكذا هو في مصاحف الكوفة. وحجة القراءة الأولى قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8]

ولم يختلفوا فيها. والحسن خلاف القبح. والإحسان خلاف الإساءة. والتوصية الأمر. وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت.
الثالثة: قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي بكره ومشقة. وقراءة العامة بفتح الكاف. واختاره أبو عبيد، قال: وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] لأن ذلك اسم وهذه كلها مصادر. وقرأ الكوفيون {كرها} بالضم. قيل: هما لغتان مثل الضعف والضعف والشهد والشهد، قاله الكسائي، وكذلك هو عند جميع البصريين. وقال الكسائي أيضا والفراء في الفرق بينهما: إن الكره (بالضم) ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره، أي قهرا وغضبا، ولهذا قال بعض أهل العربية إن كرها (بفتح الكاف) لحن.
الرابعة: قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا. وروي أن عثمان قد أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها بالحد، فقال له علي رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قول ولم يحدها. وقد مضى في "البقرة". وقيل: لم يعد ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل، لأن الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به، وهو معنى قوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف: 189]. والفصال الفطام. وقد تقدم في "لقمان" الكلام فيه. وقرأ الحسن ويعقوب وغيرهما {وفَصْلِه} بفتح الفاء وسكون الصاد. وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق؛ وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا، حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا. وفي الكلام إضمار،

أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا، ولو لا هذا الإضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغير المعنى.
الخامسة: قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال ابن عباس: {أَشُدَّهُ} ثماني عشرة سنة. وقال في رواية عطاء عنه: إن أبا بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام للتجارة، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك فسأله عن الدين. فقال الراهب: من الرجل الذي في ظل الشجرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب. فقال: هذا والله نبي، وما استظل أحد تحتها بعد عيسى. فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يكاد يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره. فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة، صدق أبو بكر رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة. فلما بلغ أربعين سنة قال: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} الآية. وقال الشعبي وابن زيد: الأشد الحلم. وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين. وعنه قيام الحجة عليه. وقد مضى في "الأنعام" الكلام في الآية. وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص. وقد تقدم. وقال الحسن: هي مرسلة نزلت على العموم. والله أعلم.
السادسة: قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي ألهمني. {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} في موضع نصب على المصدر، أي شكر نعمتك {عَلَيَّ} أي ما أنعمت به علي من الهداية {وَعَلَى وَالِدَيَّ} بالتحنن والشفقة حتى ربياني صغيرا. وقيل: أنعمت علي بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة. وقال علي رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده. ووالده هو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمه

أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وأم أبيه أبي قحافة "قيلة" "بالياء المعجمة باثنتين من تحتها". وامرأة أبي بكر الصديق اسمها "قتيلة" "بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها" بنت عبد العزى. {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } قال ابن عباس: فأجابه الله فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائما" ؟ قال أبو بكر أنا. قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة" ؟ قال أبو بكر أنا. قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا" ؟ قال أبو بكر أنا. قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضا" ؟ قال أبو بكر أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" .
السابعة: قوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي اجعل ذريتي صالحين. قال ابن عباس: فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا امنوا بالله وحده. ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر. وقال سهل بن عبدالله: المعنى اجعلهم لي خلف صدق، ولك عبيد حق. وقال أبو عثمان: اجعلهم أبرارا لي مطيعين لك. وقال ابن عطاء: وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم. وقال محمد بن علي: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلا. وقال مالك بن مقول: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية، وتلا: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} قال ابن عباس: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه. {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي المخلصين بالتوحيد.
الآية: 16 {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}

قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} قراءة العامة بضم الياء فيهما. وقرئ {يَتَقَبَّلُ} و {يَتَجَاوَزُ} بفتح الياء، والضمير فيهما يرجع لله عز وجل. وقرأ حفص وحمزة والكسائي {نَتَقَبَّلُ، وَنَتَجَاوَزُ } النون فيهما، أي نغفرها ونصفح عنها. والتجاوز أصله من جزت الشيء إذا لم تقف عليه. وهذه الآية تدل على أن الآية التي قبلها {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ} إلى آخرها مرسلة نزلت على العموم. وهو قول الحسن. ومعنى {نتقبل عنهم} أي نتقبل منهم الحسنات ونتجاوز عن السيئات. قال زيد بن أسلم - ويحكيه مرفوعا -: إنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم. وقيل: الأحسن ما يقتضى الثواب من الطاعات، وليس في الحسن المباح ثواب ولا عقاب، حكاه ابن عيسى. {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} {في} بمعنى مع، أي مع أصحاب الجنة، تقول: أكرمك وأحسن إليك في جميع أهل البلد، أي مع جميعهم. {وعد الصدق} نصب لأنه مصدر مؤكد لما قبله، أي وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق. وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، لأن الصدق هو ذلك الوعد الذي وعده الله، وهو كقوله تعالى: {حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95]. وهذا عند الكوفيين، فأما عند البصريين فتقديره: وعد الكلام الصدق أو الكتاب الصدق، فحذف الموصوف. وقد مضى هذا في غير موضع. {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} في الدنيا على ألسنة الرسل، وذلك الجنة.
الآية: 17 - 18 {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}

قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} أي أن أبعث. {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} قراءة نافع وحفص وغيرهما {أُفٍّ} مكسور منون. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وابن عامر والمفضل عن عاصم {أُفَّ} بالفتح من غير تنوين. الباقون بالكسر غير منون، وكلها لغات، وقد مضى في "بني إسرائيل". وقراءة العامة {أَتَعِدَانِنِي} بنونين مخففتين. وفتح ياءه أهل المدينة ومكة. وأسكن الباقون. وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام {أَتَعِدَانِّي} بنون واحدة مشددة، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. والعامة على ضم الألف وفتح الراء من {أَنْ أُخْرَجَ}. وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الألف وضم الراء. قال ابن عباس والسدي وأبو العالية ومجاهد: نزلت في عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله عز وجل.
وقال قتادة والسدي أيضا: هو عبدالرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وكان أبوه وأمه أم رومان يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث، فيرد عليهما بما حكاه الله عز وجل عنه، وكان هذا منه قبل إسلامه. وروي أن عائشة رضي الله عنها أنكرت أن تكون نزلت في عبدالرحمن. وقال الحسن وقتادة أيضا: هي نعت عبد كافر عاق لوالديه. وقال الزجاج: كيف يقال نزلت في عبدالرحمن قبل إسلامه والله عز وجل يقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} أي العذاب، ومن ضرورته عدم الإيمان، وعبدالرحمن من أفاضل المؤمنين، فالصحيح أنها نزلت في عبد كافر عاق لوالديه. وقال محمد بن زياد: كتب معاوية إلى مروان بن الحكم حتى يبايع الناس ليزيد، فقال عبدالرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم فقال مروان: هو الذي يقول الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} الآية. فقال: والله ما هو به. ولو شئت لسميت، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله. قال المهدوي: ومن جعل الآية في عبدالرحمن كان قوله بعد ذلك {أُولَئِكَ الَّذِينَ

حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يراد به من اعتقد ما تقدم ذكره، فأول الآية خاص وآخرها عام. وقيل إن عبدالرحمن لما قال: {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} قال مع ذلك: فأين عبدالله بن جدعان، وأين عثمان بن عمرو، وأين عامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقولون. فقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يرجع إلى أولئك الأقوام.
قلت: قد مضى من خبر عبدالرحمن بن أبي بكر في سورة (الأنعام) عند قوله: {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام: 71] ما يدل على نزول هذه الآية فيه، إذ كان كافرا وعند إسلامه وفضله تعين أنه ليس المراد بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}. {وَهُمَا} يعني والديه. {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} أي يدعوان الله له بالهداية. أو يستغيثان بالله من كفره، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب. وقيل: الاستغاثة الدعاء، فلا حاجة إلى الباء. قال الفراء: أجاب الله دعاءه وغواثه. {وَيْلَكَ آمِنْ} أي صدق بالبعث. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي صدق لا خلف فيه. {فَيَقُولُ مَا هَذَا} أي ما يقوله والداه. {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له. {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يعني الذين أشار إليهم ابن أبي بكر في قوله أحيوا لي مشايخ قريش، وهم المعنيون بقوله: {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} . فأما ابن أبي بكر عبدالله أو عبدالرحمن فقد أجاب الله فيه دعاء أبيه في قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15] على ما تقدم. ومعنى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي وجب عليهم العذاب، وهي كلمة الله: "هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي". {فِي أُمَمٍ} أي مع أمم {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} تقدمت ومضت. {مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} الكافرين {إِنَّهُمْ} أي تلك الأمم الكافرة {كَانُوا خَاسِرِينَ} لأعمالهم، أي ضاع سعيهم وخسروا الجنة.
الآية: 19 {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}

قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفالا، ودرج أهل الجنة علوا. {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} قرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بالياء لذكر الله قبله، وهو قوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} واختاره أبو حاتم. الباقون بالنون ردا على قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} وهو اختيار أبي عبيد. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يزاد على مسيء ولا ينقص من محسن.
الآية: 20 {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ} أي ذكرهم يا محمد يوم يعرض. {عَلَى النَّارِ} أي يكشف الغطاء فيقربون من النار وينظرون إليها. {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} أي يقال لهم أذهبتم، فالقول مضمر. وقرأ الحسن ونصر وأبو العال ويعقوب وابن كثير {أأذهبتم} بهمزتين مخففتين، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو حيوة وهشام {آذهبتم} بهمزة واحدة مطولة على الاستفهام. الباقون بهمزة واحدة من غير مد على الخبر، وكلها لغات فصيحة ومعناها التوبيخ، والعرب توبخ بالاستفهام وبغير الاستفهام، وقد تقدم. واختار أبو عبيد ترك الاستفهام لأنه قراءة أكثر أئمة السبعة نافع وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، مع من وافقهم شيبة والزهري وابن محيصن والمغيرة بن أبي شهاب ويحيى بن الحارث والأعمش ويحيى بن وثاب وغيرهم، فهذه عليها جلة الناس. وترك الاستفهام أحسن، لأن إثباته يوهم أنهم لم يفعلوا ذلك، كما تقول: أنا ظلمتك؟ تريد أنا لم أظلمك. وإثباته حسن أيضا، يقول القائل: ذهبت فعلت كذا، يوبخ ويقول: أذهبت فعلت كل ذلك جائز. ومعنى

{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} أي تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي. {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي عذاب الخزي والفضيحة. قال مجاهد: الهون الهوان. قتادة: بلغة قريش. {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي تستعلون على أهلها بغير استحقاق. {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} في أفعالكم بغيا وظلما. وقيل: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} أي أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي. قال ابن بحر: الطيبات الشباب والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه، أي شبابه وقوته. قال الماوردي: ووجدت الضحاك قاله أيضا.
قلت: القول الأول أظهر، روى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصنابا وصلائق، ولكني أستبقي حسناتي، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} وقال أبو عبيد في حديث عمر: لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسنمة. وفي بعض الحديث: وأفلاذ. قال أبو عمرو وغيره: الصلاء (بالمد والكسر): الشواء، سمي بذلك لأنه يصلى بالنار. والصلاء أيضا: صلاء النار، فإن فتحت الصاد قصرت وقلت: صلى النار. والصناب: الأصبغة المتخذة من الخردل والزبيب. قال أبو عمرو: ولهذا قيل للبرذون: صنابي، وإنما شبه لونه بذلك. قال: والسلائق (بالسين" هو ما يسلق من البقول وغيرها. وقال غيره: هي الصلائق بالصاد، قال جرير:
تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالصلائق والصناب
والصلائق: الخبز الرقاق العريض. وقد مضى هذا المعنى في (الأعراف). وأما الكراكر فكراكر الإبل، واحدتها كركرة وهي معروفة، هذا قول أبي عبيد.
وفي الصحاح: والكركرة رحى زور البعير، وهي إحدى النفثات الخمس. والكركرة أيضا الجماعة من

الناس. وأبو مالك عمرو بن كركرة رجل من علماء اللغة. قال أبو عبيد: وأما الأفلاذ فإن واحدها فلذ، وهي القطعة من الكبد. قال أعشى باهلة:
تكفيه حزة فلذ إن ألم بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر
وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة. ولما قدم عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله قال: هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر بالدموع وقال: لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حظهم بالجنة فلقد باينونا بونا بعيدا.
وفي صحيح مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربته حين هجر نساءه قال: فالتفت فلم أر شيئا يرد البصر إلا أهبا جلودا معطونة قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول الله، أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟ قال: فاستوى جالسا وقال: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب. أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" فقلت: استغفر لي فقال: "اللهم اغفر له" . وقال حفص بن أبي العاص: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبز والزيت، والخبز والخل، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغريض. وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله، فجيء بخبز متفلع غليظ، فجعل يأكل ويقول: كلوا، فجعلنا لا نأكل، فقال: ما لكم لا تأكلون؟ فقلنا: والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا، فقال: يا بن أبي العاص أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بعناق سمينة فيلقى عنها شعرها ثم تخرج مصلية كأنها كذا وكذا،

أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أشن عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال، فقلت: يا أمير المؤمنين، أجل ما تنعت العيش، قال: أجل والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم في العيش ولكني سمعت الله تعالى يقول لأقوام: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}. {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي الهوان. {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي تتعظمون عن طاعة الله وعلى عباد الله. {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} تخرجون عن طاعة الله. وقال جابر: اشتهى أهلي لحما فاشتريته لهم فمررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا يا جابر؟ فأخبرته، فقال: أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: {أذهبتم طيباتكم} الآية.
قال ابن العربي: وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء. فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله. والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان أو قفارا، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلا، ولا يجعله ديدنا. ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة، وطريقة الصحابة منقولة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص، ويعين على الخلاص برحمته. وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن، فإن

تناول الطيب الحلال مأذون فيه، فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل له فقد أذهبه. والله أعلم.
الآية: 21 {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} هو هود بن عبدالله بن رباح عليه السلام، كان أخاهم في النسب لا في الدين. {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} أي اذكر لهؤلاء المشركين قصة عاد ليعتبروا بها. وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصة هود ليقتدي به، ويهون عليه تكذيب قومه له. والأحقاف: ديار عاد. وهي الرمال العظام، في قول الخليل وغيره. وكانوا قهروا أهل الأرض بفضل قوتهم. والأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم وأعوج ولم يبلغ أن يكون جبلا، والجمع حقاف وأحقاف وحقوف. واحقوقف الرمل والهلال أي اعوج. وقيل: الحقف جمع حقاف. والأحقاف جمع الجمع. ويقال: حِقف أحقف. قال الأعشى:
بات إلى أرطاة حقف أحقفا
أي رمل مستطيل مشرف. والفعل منه احقوقف. قال العجاج:
طي الليالي زلفا فزلفا ... سماوة الهلال حتى احقوقفا
أي انحنى واستدار. وقال امرؤ القيس:
كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه ... بما احتسبا من لين مس وتسهال
وفيما أريد بالأحقاف ها هنا مختلف فيه. فقال ابن زيد: هي رمال مشرفة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالا، وشاهده ما ذكرناه. وقال قتادة: هي جبال

مشرفة بالشحر، والشحر قريب من عدن، يقال: شحر عمان وشحر عمان، وهو ساحل البحر بين عمان وعدن. وعنه أيضا: ذكر لنا أن عادا كانوا أحياء باليمن، أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشحر. وقال مجاهد: هي أرض من حسمى تسمى بالأحقاف. وحسمى (بكسر الحاء) اسم أرض بالبادية فيها جبال شواهق ملس الجوانب لا يكاد القتام يفارقها. قال النابغة:
فأصبح عاقلا بجبال حسمى ... دقاق الترب محتزم القتام
قاله الجوهري. وقال ابن عباس والضحاك: الأحقاف جبل بالشام. وعن ابن عباس أيضا: واد بين عمان ومهرة. وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضر موت بواد يقال له مهرة، وإليه تنسب الإبل المهرية، فيقال: إبل مهرية ومهاري. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم. وقال الكلبي: أحقاف الجبل ما نضب عنه الماء زمان الغرف، كان ينضب الماء من الأرض ويبقى أثره. وروى الطفيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فال: خير واديين في الناس واد بمكة وواد نزل به آدم بأرض الهند. وشر واديين في الناس واد بالأحقاف وواد بحضر موت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار. وخير بئر في الناس بئر زمزم. وشر بئر في الناس بئر برهوت، وهو في ذلك الوادي الذي بحضر موت. {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} أي مضت الرسل. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي من قبل هود. {وَمِنْ خَلْفِهِ} أي ومن بعده، قال الفراء. وفي قراءة ابن مسعود {من بين يديه ومن بعده}. {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} هذا من قول المرسل، فهو كلام معترض. ثم قال هود: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وقيل: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} من كلام هود، والله أعلم.
الآية: 22 - 25 {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}

{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}
قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} فيه وجهان: أحدهما: لتزيلنا عن عبادتها بالإفك. الثاني: لتصرفنا عن آلهتنا بالمنع، قال الضحاك. قال عروة بن أذينة:
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا
يقول: إن لم توفق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} هذا يدل على أن الوعد قد يوضع موضع الوعيد. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أنك نبي {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ} بوقت مجيء العذاب. {عِنْدَ اللَّهِ} لا عندي {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} عن ربكم. {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} في سؤالكم استعجال العذاب. {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً} قال المبرد: الضمير في {رَأَوْهُ} يعود إلى غير مذكور، وبينه قوله: {عَارِضاً} فالضمير يعود إلى السحاب، أي فلما رأوا السحاب عارضا. فـ {عَارِضاً} نصب على التكرير، سمي بذلك لأنه يبدو في عرض السماء. وقيل: نصب على الحال. وقيل: يرجع الضمير إلى قوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} فلما رأوه حسبوه سحابا يمطرهم، وكان المطر قد أبطأ عنهم، فلما رأوه {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} استبشروا. وكان قد جاءهم من واد جرت العادة أن ما جاء منه يكون غيثا، قاله ابن عباس وغيره. قال الجوهري: والعارض السحاب يعترض في الأفق، ومنه قوله تعالى: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} أي ممطر لنا، لأنه معرفة لا يجوز أن يكون صفة لعارض وهو نكرة. والعرب إنما تفعل مثل هذا في الأسماء المشتقة من الأفعال دون غيرها. قال جرير:
يا رب غابطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مباعدة منكم وحرمانا
ولا يجوز أن يقال: هذا رجل غلامنا. وقال أعرابي بعد الفطر: رب صائمة لن تصومه، وقائمة لن تقومه، فجعله نعتا للنكرة وأضافه إلى المعرفة.

قلت: قوله: "لا يجوز أن يكون صفة لعارض" خلاف قول النحويين، والإضافة في تقدير الانفصال، فهي إضافة لفظية لا حقيقية، لأنها لم تفد الأول تعريفا، بل الاسم نكرة على حاله، فلذلك جرى نعتا على النكرة. هذا قول النحويين في الآية والبيت. ونعت النكرة نكرة. و"رب" لا تدخل إلا على النكرة. {بَلْ هُوَ} أي قال هود لهم. والدليل عليه قراءة من قرأ {قال هود بل هو} وقرئ {قل بل ما استعجلتم به هي ريح} أي قال الله: قل بل هو ما استعجلتم به، ويعني قولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} ثم بين ما هو فقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت تحمل الفساطيط وتحمل الظعينة فترفعها كأنها جرادة، ثم تضرب بها الصخور. قال ابن عباس: أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسوما، ولهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشف عنهم الرمال واحتملتهم فرمتهم في البحر، فهي التي قال الله تعالى فيها: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} أي كل شيء مرت عليه من رجال عاد وأموالها. قال ابن عباس: أي كل شيء بعثت إليه.
والتدمير: الهلاك. وكذلك الدمار. وقرئ {يدمر كل شيء} من دمر دمارا. يقال: دمره تدميرا ودمارا ودمر عليه بمعنى. ودمر يدمر دمورا دخل بغير إذن. وفي الحديث: "من سبق طرفه استئذانه فقد دمر" مخفف الميم. وتدمر: بلد بالشام. ويربوع تدمري إذا كان صغيرا قصيرا. {بِأَمْرِ رَبِّهَا} بإذن ربها. وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم. قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا

عرف في وجهه. قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال: "يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا" خرجه مسلم والترمذي، وقال فيه: حديث حسن. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور". وذكر الماوردي أن القائل {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} من قوم عاد: بكر بن معاوية، ولما رأى السحاب قال: إني لأرى سحابا مرمدا، لا تدع من عاد أحدا. فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم. قال ابن إسحاق: واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه منها إلا ما يلين أعلى ثيابهم. وتلتذ الأنفس به، لأنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا. وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك:
فدعا هود عليهم ... دعوة أضحوا همودا
عصفت ريح عليهم ... تركت عادا خمودا
سخرت سبع ليال ... لم تدع في الأرض عودا
وعمر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة. {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}
قرأ عاصم وحمزة {لا يرى إلا مساكنهم} بالياء غير مسمى الفاعل. وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إلا أنه قرأ {ترى} بالتاء. وقد روى ذلك عن أبي بكر عن عاصم. الباقون {ترى} بتاء مفتوحة. {مساكنهم} بالنصب، أي لا ترى يا محمد إلا مساكنهم. قال المهدوي: ومن قرأ بالتاء غير مسمى الفاعل فعلى لفظ الظاهر الذي هو المساكن المؤنثة، وهو قليل لا يستعمل إلا في الشعر. وقال أبو حاتم: لا يستقيم هذا في اللغة إلا أن يكون فيها إضمار، كما تقول في الكلام ألا ترى النساء إلا زينب.

وقال سيبويه: معناه لا ترى أشخاصهم إلا مساكنهم. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة عاصم وحمزة. قال الكسائي: معناه لا يرى شيء إلا مساكنهم، فهو محمول على المعنى، كما تقول: ما قام إلا هند، والمعنى ما قام أحد إلا هند. وقال الفراء: لا يرى الناس لأنهم كانوا تحت الرمل، وإنما ترى مساكنهم لأنها قائمة. {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي مثل هذه العقوبة نعاقب بها المشركين.
الآية: 26 {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} قيل: إن {إن} زائدة، تقديره ولقد مكناكم فيما مكناكم فيه. وهذا قول القتبي. وأنشد الأخفش:
يرجي المرء ما إن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب
وقال آخر:
فما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
وقيل: إن {ما} بمعنى الذي. و {إن} بمعنى ما، والتقدير ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه، قاله المبرد. وقيل: شرطية وجوابها مضمر محذوف، والتقدير ولقد مكناهم في ما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد، وتم الكلام.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} يعني قلوبا يفقهون بها. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} ما أغنت عنهم من عذاب الله. {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ} يكفرون {بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ} أحاط بهم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.

الآية: 27 {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} يريد حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم. {وَصَرَّفْنَا الْآياتِ} يعني الحجج والدلالات وأنواع البينات والعظات، أي بيناها لأهل تلك القرى. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فلم يرجعوا. وقيل: أي صرفنا آيات القرآن في الوعد والوعيد والقصص والإعجاز لعل هؤلاء المشركين يرجعون.
الآية: 28 {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
قوله تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ} {لولا} بمعنى هلا، أي هلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين. وأحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين المحذوف، والثاني {آلِهَةً} . و {قُرْبَاناً} حال، ولا يصح أن يكون {قربانا} مفعولا ثانيا. و {آلِهَةً} بدل منه لفساد المعنى، قال الزمخشري. وقرئ {قُرْبَاناً} بضم الراء. {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي هلكوا عنهم. وقيل: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي ضلت عنهم آلهتهم لأنها لم يصبها ما أصابهم، إذ هي جماد. وقيل: {ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي تركوا الأصنام وتبرؤوا منها. {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} أي والآلهة التي ضلت عنهم هي إفكهم في قولهم: إنها تقربهم إلى الله زلفى. وقراءة العامة {إِفْكُهُمْ} بكسر الهمزة وسكون الفاء، أي كذبهم. والإفك: الكذب، وكذلك الأفيكة، والجمع الأفائك. ورجل أفاك أي كذاب. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن الزبير {وذلك أَفَكَهُم} بفتح الهمزة

والفاء والكاف، على الفعل، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. والأفك "بالفتح" مصدر قولك: أفكه يأفكه أفكا، أي قلبه وصرفه عن الشيء. وقرأ عكرمة {أَفَّكهم} بتشديد الفاء على التأكيد والتكثير. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم. وذكر المهدوي عن ابن عباس أيضا {آفِكهم} بالمد وكسر الفاء، بمعنى صارفهم. وعن عبدالله بن الزبير باختلاف عنه {آفَكهم} بالمد، فجاز أن يكون أفعلهم، أي أصارهم إلى الإفك. وجاز أن يكون فاعلهم كخادعهم. ودليل قراءة العامة {إفكهم} قوله: {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي يكذبون. وقيل {أفكهم} مثل {أفكهم} . الإفك والأفك كالحذر والحذر، قاله المهدوي.
الآية: 29 {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} هذا توبيخ لمشركي قريش، أي إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر. ومعنى: {صرفنا} وجهنا إليك وبعثنا. وذلك أنهم صرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب - على ما يأتي - ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. قال المفسرون ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم: لما مات أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة فقصد عبد ياليل ومسعودا وحبيبا وهم إخوة - بنو عمرو بن عمير - وعندهم امرأة من قريش من بني جمح، فدعاهم إلى الإيمان وسألهم أن ينصروه على قومه فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك وقال الآخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدا، إن كان الله أرسلك كما تقول فأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلمك. ثم أغروا به سفهاءهم

وعبيدهم يسبونه ويضحكون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة. فقال للجمحية: "ماذا لقينا من أحمائك" ؟ ثم قال: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني إلى عبد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" . فرحمه ابنا ربيعة وقالا لغلام لهما نصراني يقال له عداس: خذ قطفا من العنب وضعه في هذا الطبق ثم ضعه بين يدي هذا الرجل، فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم "باسم الله" ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك" قال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى" ؟ فقال: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال: "ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي" فانكب عداس حتى قبل رأس النبي صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه. فقال له ابنا ربيعة: لم فعلت هكذا؟ فقال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا، أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي.
ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين. وكان سبب ذلك أن الجن كانوا يسترقون السمع، فلما حرست السماء ورموا بالشهب قال إبليس: إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض، فبعث سراياه ليعرف الخبر، أولهم ركب نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة، فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ويتلو القرآن، فاستمعوا له وقالوا: أنصتوا. وقالت طائفة: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر

الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله عز عز وجل إليه نفرا من الجن من نينوى وجمعهم له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أريد أن أقرأ القرآن على الجن الليلة فأيكم يتبعني" ؟ فأطرقوا، ثم قال الثانية فأطرقوا، ثم قال الثالثة فأطرقوا، فقال ابن مسعود: أنا يا رسول الله، قال ابن مسعود: ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل النبي صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له (شعب الحجون) وخط لي خطا وأمرني أن أجلس فيه وقال: "لا تخرج منه حتى أعود إليك" . ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي في رفرفها، وسمعت لغطا وغمغمة حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ النبي صلى الله عليه وسلم مع الفجر فقال: "أنمت" ؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول اجلسوا، فقال: "لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم" ثم قال: "هل رأيت شيئا" ؟ قلت: نعم يا رسول الله، رأيت رجالا سودا مستثفري ثيابا بيضا، فقال: "أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة" . فقالوا: يا رسول الله يقذرها الناس علينا. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث. قلت: يا نبي الله، وما يغني ذلك عنهم قال: "إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكل" فقلت: يا رسول الله، لقد سمعت لغطا شديدا؟ فقال: "إن الجن تدارأت في قتيل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق". ثم تبرز النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاني فقال: "هل معك ماء" ؟ فقلت يا نبي الله، معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر فصببت على يديه فتوضأ فقال: "تمرة طيبة وماء طهور" . روى معناه معمر عن قتادة وشعبة أيضا عن ابن مسعود. وليس

في حديث معمر ذكر نبيذ التمر. روي عن أبي عثمان النهدي أن ابن مسعود أبصر زطا فقال: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزط. قال: ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن فكانوا مستفزين يتبع بعضهم بعضا. وذكر الدارقطني عن عبدالله بن لهيعة حدثني قيس بن الحجاج عن حنش عن ابن عباس عن ابن مسعود أنه وضأ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن بنبيذ فتوضأ به وقال: "شراب وطهور" . ابن لهيعة لا يحتج به. وبهذا السند عن ابن مسعود: أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمعك ماء يا ابن مسعود" ؟ فقال: معي نبيذ في إداوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صب علي منه". فتوضأ وقال: "هو شراب وطهور" تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. قال الدارقطني: وقيل إن ابن مسعود لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن. كذلك رواه علقمة بن قيس وأبو عبيدة بن عبدالله وغيرهما عنه أنه قال: ما شهدت ليلة الجن. حدثنا أبو محمد بن صاعد حدثنا أبو الأشعث حدثنا بشر بن المفضل حدثنا داود بن أبي هند عن عامر عن علقمة بن قيس قال قلت لعبدالله بن مسعود: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعى الجن؟ قال لا. قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة راويه. وعن عمرو بن مرة قال قلت لأبي عبيدة: حضر عبدالله بن مسعود ليلة الجن؟ فقال لا. قال ابن عباس: كان الجن سبعة نفر من جن نصيبين فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم. وقال زر بن حبيش: كانوا تسعة أحدهم زوبعة. وقال قتادة: إنهم من أهل نينوى. وقال مجاهد: من أهل حران. وقال عكرمة: من جزيرة الموصل. وقيل: إنهم كانوا سبعة، ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين. وروى ابن أبي الدنيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث وذكر فيه نصيبين فقال: "رفعت إلي حتى رأيتها فدعوت الله أن يكثر مطرها وينضر شجرها وأن يغزو نهرها" . وقال السهيلي: ويقال كانوا سبعة، وكانوا يهودا فأسلموا، ولذلك قالوا: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} . وقيل في أسمائهم: شاصر وماصر ومنشي

وماشي والأحقب، ذكر هؤلاء الخمسة ابن دريد. ومنهم عمرو بن جابر، ذكره ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه فإذا حية قتيل، فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها، فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان: أيكم دفن عمرو بن جابر؟ فقلنا: ما ندري من عمرو بن جابر فقالتا: إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه، إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم، وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين. وذكر ابن سلام رواية أخرى: أن الذي كفنه هو صفوان بن المعطل.
قلت: وذكر هذا الخبر الثعلبي بنحوه فقال: وقال ثابت بن قطبة جاء أناس إلى ابن مسعود فقالوا: إنا كنا في سقر فرأينا حية متشحطة في دمائها، فأخذها رجل منا فواريناها، فجاء أناس فقالوا: أيكم دفن عمرا؟ قلنا وما عمرو؟ قالوا الحية التي دفنتم في مكان كذا، أما إنه كان من النفر الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وكان بين حيين من الجن مسلمين وكافرين قتال فقتل. ففي هذا الخبر أن ابن مسعود لم يكن في سفر ولا حضر الدفن، والله أعلم. وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين سماه: أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشا فسقاها ثم أنها ماتت فدفنها، فأتي من الليل فسلم عليه وشكر، وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا عن جن نصيبين اسمه زوبعة. قال السهيلي: وبلغنا في فضائل عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه مما حدثنا به أبو بكر بن طاهر الأشبيلي أن عمر بن عبدالعزيز كان يمشي بأرض فلاة، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها، فإذا قائل يقول: يا سرق، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستموت بأرض فلاة فيكفنك رجل صالح" . فقال: ومن أنت يرحمك الله؟ فقال: رجل من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق منهم إلا أنا وسرق، وهذا سرق قد مات. وقد قتلت

عائشة رضي الله عنها حية رأتها في حجرتها تستمع وعائشة تقرأ، فأتيت في المنام فقيل لها: إنك قتلت رجلا مؤمنا من الجن الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لو كان مؤمنا ما دخل على حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: ما دخل عليك إلا وأنت متقنعة، وما جاء إلا ليستمع الذكر. فأصبحت عائشة فزعة، واشترت رقابا فأعتقتهم. قال السهيلي: وقد ذكرنا من أسماء هؤلاء الجن ما حضرنا، فإن كانوا سبعة فالأحقب منهم وصف لأحدهم، وليس باسم علم، فإن الأسماء التي ذكرناها آنفا ثمانية بالأحقب. والله أعلم.
قلت: وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه: هامة بن الهيم بن الأقيس بن إبليس، قيل: إنه من مؤمني الجن وممن لقي النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه سورة {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: 1] و {المرسلات} [المرسلات: 1] و {عم يتساءلون} [النبأ: 1] و {إذا الشمس كورت} [التكوير: 1] و {الحمد} [الفاتحة: 1] و"المعوذتين وذكر أنه حضر قتل هابيل وشرك في دمه وهو غلام ابن أعوام، وأنه لقي نوحا وتاب على يديه، وهودا وصالحا ويعقوب ويوسف وإلياس وموسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهم السلام. وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن مجاهد فقال: حسى ومسى ومنشى وشاصر وماصر والأرد وأنيان والأحقم. وذكرها أبو عمرو عثمان بن أحمد المعروف بابن السماك قال: حدثنا محمد بن البراء قال حدثنا الزبير بن بكار قال: كان حمزة بن عتبة بن أبي لهب يسمي جن نصيبين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: حسى ومسى وشاصر وماصر والأفخر والأرد وأنيال.
قوله تعالى: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي حضروا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من باب تلوين الخطاب. وقيل: لما حضروا القرآن واستماعه. {قَالُوا أَنْصِتُوا} أي قال بعضهم لبعض اسكتوا لاستماع القرآن. قال ابن مسعود: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم

وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه {قالوا أنصتوا} قالوا صه. وكانوا سبعة: أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} الآية إلى قوله: {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 32]. وقيل: {أَنْصِتُوا} لسماع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى متقارب. {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} وقرأ لاحق بن حميد وخبيب بن عبدالله بن الزبير {فَلَمَّا قُضِيَ} بفتح القاف والضاد، يعني النبي صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة. وذلك أنهم خرجوا حين حرست السماء من استراق السمع ليستخبروا ما أوجب ذلك؟ فجاؤوا وادي نخلة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر، وكانوا سبعة، فسمعوه وانصرفوا إلى قومهم منذرين، ولم يعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرا من الجن ليستمعوا منه وينذروا قومهم، فلما تلا عليهم القرآن وفرغ انصرفوا بأمره قاصدين من وراءهم من قومهم من الجن، منذرين لهم مخالفة القرآن ومحذرين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا. وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أرسلهم. ويدل على هذا قولهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] ولولا ذلك لما أنذروا قومهم. وقد تقدم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم رسلا إلى قومهم، فعلى هذا ليلة الجن ليلتان، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وفي صحيح مسلم ما يدل على ذلك على ما يأتي بيانه في {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1]. وفي صحيح مسلم عن معن قال: سمعت أبي قال سألت مسروقا: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك - يعني ابن مسعود - أنه آذنته بهم شجرة.
الآية: 30 {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}

[31 ] {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
قوله تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} أي القرآن، وكانوا مؤمنين بموسى. قال عطاء: كانوا يهودا فأسلموا، ولذلك قالوا: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}. وعن ابن عباس: أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى، فلذلك قالت: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} . {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني ما قبله من التوراة. {هْدِي إِلَى الْحَقِّ} دين الحق. {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} دين الله القويم. {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه كان مبعوثا إلى الجن والإنس. قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت: يدل على قوله ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة". قال مجاهد: الأحمر والأسود: الجن والإنس. وفي رواية من حديث أبي هريرة "وبعثت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون".
قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِهِ} أي بالداعي، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: {به} أي بالله، لقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}. قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم سبعون رجلا، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم.
مسألة: هذه الآي تدل على أن الجن كالإنس في الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقال الحسن: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، يدل عليه قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. وبه قال أبو حنيفة قال: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم. وقال آخرون: إنهم كما يعاقبون

في الإساءة يجازون في الإحسان مثل الإنس. وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلي. وقد قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. قال القشيري: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند الله.
قلت: قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة، لأنه قال في أول الآية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} إلى أن قال {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:130]. والله أعلم، وسيأتي لهذا في سورة "الرحمن" مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
الآية: 32 {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
قوله تعالى: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} أي لا يفوت الله ولا يسبقه {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} أي أنصار يمنعونه من عذاب الله. {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
الآية: 33 {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الرؤية هنا بمعنى العلم. و {أن} واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} احتجاج على منكري البعث. ومعنى {لَمْ يَعْيَ} يعجز ويضعف عن إبداعهن. يقال: عي بأمره وعيي إذا لم يهتد لوجهه، والإدغام أكثر. وتقول في الجمع عيوا، مخففا، وعيوا أيضا بالتشديد. قال

عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة
وعييت بأمري إذا لم تهتد لوجهه. وأعياني هو. وقرأ الحسن {وَلَمْ يَعِي} بكسر العين وإسكان الياء، وهو قليل شاذ، لم يأت إعلال العين وتصحيح اللام إلا في أسماء قليلة، نحو غاية وآية. ولم يأت في الفعل سوى بيت أنشده الفراء، وهو قول الشاعر:
فكأنها بين النساء سبيكة ... تمشى بسدة بيتها فتعي
{بِقَادِرٍ} قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء: 166]، وقوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]. وقال الكسائي والفراء والزجاج: الباء فيه خلف الاستفهام والجحد في أول الكلام. قال الزجاج: والعرب تدخلها مع الجحد تقول: ما ظننت أن زيدا بقائم. ولا تقول: ظننت أن زيدا بقائم. وهو لدخول "ما" ودخول "أن" للتوكيد. والتقدير: أليس الله بقادر، كقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ} [يس: 81]. وقرأ ابن مسعود والأعرج والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب "يقدر" واختاره أبو حاتم، لأن دخول الباء في خبر "أن" قبيح. واختار أبو عبيد قراءة العامة، لأنها في قراءة عبدالله {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ} بغير باء. والله أعلم.
الآية: 34 {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} أي ذكرهم يوم يعرضون فيقال لهم: {النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} فيقول لهم المقرر: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بكفركم.

الآية: 35 {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}
قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وقال ابن عباس: ذوو الحزم والصبر، قال مجاهد: هم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وهم أصحاب الشرائع. وقال أبو العالية: إن أولي العزم: نوح، وهود، وإبراهيم. فأمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يكون رابعهم. وقال السدي: هم ستة: إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلوات الله عليهم أجمعين. وقيل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورة "الأعراف والشعراء". وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه مدة. وإبراهيم صبر على النار. وإسحاق صبر على الذبح. ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر. ويوسف صبر على البئر والسجن. وأيوب صبر على الضر. وقال ابن جريج: إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم. وقال الشعبي والكلبي ومجاهد أيضا: هم الذين أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة. وقيل: هم نجباء الرسل المذكورون في سورة "الأنعام" وهم ثمانية عشر: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهرون، وزكرياء، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط. واختاره الحسن بن الفضل لقوله في عقبه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقال ابن عباس أيضا: كل الرسل كانوا أولي عزم. واختاره علي بن مهدي الطبري، قال: وإنما دخلت {من} للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: اشتريت أردية من البز وأكسية من الخز. أي اصبر كما صبر الرسل. وقيل: كل الأنبياء أولو عزم إلا يونس بن متى، ألا ترى أن

النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يكون مثله، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولى مغاضبا لقومه، فابتلاه الله بثلاث: سلط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله، وسلط الذئب على ولده فأكله، وسلط عليه الحوت فابتلعه، قال أبو القاسم الحكيم.
وقال بعض العلماء: أولو العزم اثنا عشر نبيا أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم، فأوحى الله إليهم الأنبياء أني مرسل عذابي إلى عصاة بني إسرائيل؛ فشق ذلك على المرسلين فأوحى الله إليهم اختاروا لأنفسكم، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل، لان شئتم نجيتكم وأنزلت العذاب ببني إسرائيل، فتشاوروا بينهم فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي الله بني إسرائيل، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب. وذلك أنه سلط عليهم ملوك الأرض، فمنهم من نشر بالمناشير، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه، ومنهم من صلب على الخشب حتى مات، ومنهم من حرق بالنار. والله أعلم. وقال الحسن: أولو العزم أربعة: إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى، فأما إبراهيم فقيل له: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه، فوجد صادقا وافيا في جميع ما ابتلي به. وأما موسى فعزمه حين قال له قومه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61]. وأما داود فأخطأ خطيئته فنبه عليها، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة، فقعد تحت ظلها. وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة وقال: "إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها". فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اصبر، أي كن صادقا فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم، واثقا بنصرة مولاك مثل ثقة موسى، مهتما بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى. ثم قيل هي: منسوخة بآية السيف. وقيل: محكمة، والأظهر أنها منسوخة، لأن السورة مكية. وذكر مقاتل: أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل، تسهيلا عليه وتثبيتا له. والله أعلم.
قوله تعالى: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} قال مقاتل: بالدعاء

عليهم. وقيل: في إحلال العذاب بهم، فإن أبعد غاياتهم يوم القيامة. ومفعول الاستعجال محذوف، وهو العذاب. {أَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} قال يحيى: من العذاب. النقاش: من الآخرة. {لَمْ يَلْبَثُوا} أي في الدنيا حتى جاءهم العذاب، وهو مقتضى قول يحيى. وقال النقاش: في قبورهم حتى بعثوا للحساب. {إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} يعني في جنب يوم القيامة. وقيل: نساهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا. {بَلاغٌ} أي هذا القرآن بلاغ، قاله الحسن. فـ "بلاغ" رفع على إضمار مبتدأ، دليله قوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم: 52]، وقوله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 106]. والبلاغ بمعنى التبليغ. وقيل: أي إن ذلك اللبث بلاغ، قاله ابن عيسى، فيوقف على هذا على {بلاغ} وعلى {نهار}. وذكر أبو حاتم أن بعضهم وقف على {وَلا تَسْتَعْجِلْ} ثم ابتدأ {لهم} على معنى لهم بلاغ. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ، لأنك قد فصلت بين البلاغ وبين اللام، - وهي رافعة - بشيء ليس منهما. ويجوز في العربية: بلاغا وبلاغ، النصب على معنى إلا ساعة بلاغا، على المصدر أو على النعت للساعة. والخفض على معنى من نهار بلاغ. وبالنصب قرأ عيسى بن عمو والحسن. وروي عن بعض القراء {بلغ} على الأمر، فعلى هذه القراءة يكون الوقف على {من نهار} ثم يبتدئ {بلغ} . {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أي الخارجون عن أمر الله، قاله ابن عباس وغيره. وقرأ ابن محيصن {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ} على إسناد الفعل إلى القوم. وقال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ثم تغسل وتسقى منها، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله العظيم الحليم الكريم، سبحان الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46]. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} صدق الله العظيم. وعن قتادة: لا يهلك الله إلا هالكا مشركا. وقيل: هذه أقوى آية في الرجاء. والله أعلم.

تفسير سورة القتال، وهي سورة محمد
سورة القتال وهي سورة محمد صلى الله عليه وسلم
مدنية في قول ابن عباس، ذكره النحاس. وقال الماوردي: في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت عليه بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه، فنزل عليه {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} [محمد: 13]. وقال الثعلبي: إنها مكية، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير. وهي تسع وثلاثون آية. وقيل ثمان.
الآية: 1 {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}
قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل مكة كفروا بتوحيد الله، وصدوا أنفسهم والمؤمنين عن دين الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه، وقال السدي. وقال الضحاك: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن بيت الله بمنع قاصديه. ومعنى {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم، قال الضحاك. وقيل: أبطل ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم، من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وحفظ الجوار. وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين ببدر، وهم اثنا عشر رجلا: أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبي وأمية ابنا خلف، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل.
الآية: 2 {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن عباس ومجاهد: هم الأنصار. وقال مقاتل: إنها نزلت خاصة في ناس من قريش. وقيل: هما عامتان فيمن كفروا وآمن. ومعنى {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} : أبطلها. وقيل: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق. {وعملوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} من قال إنهم الأنصار فهي المواساة في مساكنهم وأموالهم. ومن قال إنهم من قريش فهي الهجرة. ومن قال بالعموم فالصالحات جميع الأعمال التي ترضي الله تعالى. {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} لم يخالفوه في شيء، قال سفيان الثوري. وقيل: صدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به. {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم. وقيل: أي إن القرآن هو الحق من ربهم، نسخ به ما قبله {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي ما مضى من سيئاتهم قبل الإيمان. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي شأنهم، عن مجاهد وغيره. وقال قتادة: حالهم. ابن عباس: أمورهم. والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم. وحكى النقاش أن المعنى أصلح نياتهم، ومنه قول الشاعر:
فإن تقبلي بالود أقبل بمثله ... وإن تدبري أذهب إلى حال باليا
وهو على هذا التأول محمول على صلاح دينهم. {والبال} كالمصدر، ولا يعرف منه فعل، ولا تجمعه العرب إلا في ضرورة الشعر فيقولون فيه: بالات. المبرد: قد يكون البال في موضع آخر بمعنى القلب، يقال: ما يخطر فلان على بالي، أي على قلبي. الجوهري: والبال رخاء النفس، يقال فلان رخي البال. والبال: الحال؛ يقال ما بالك. وقولهم: ليس هذا من بالي، أي مما أباليه. والبال: الحوت العظيم من حيتان البحر، وليس بعربي. والبالة: وعاء الطيب، فارسي معرب، وأصله بالفارسية بيلة. قال أبو ذؤيب:
كأن عليها بالة لطمية ... لها من خلال الدأيتين أريج

الآية: 3 {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} {ذَلِكَ} في موضع رفع، أي الأم ذلك، أو ذلك الإضلال والهدى المتقدم ذكرهما سببه هذا. فالكافر اتبع الباطل، والمؤمن اتبع الحق. والباطل: الشرك. والحق: التوحيد والإيمان. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي كهذا البيان الذي بين يبين الله للناس أمر الحسنات والسيئات. والضمير في {أمثالهم} يرجع إلى الذين كفروا والذين آمنوا.
الآية: 4 {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} لما ميز بين الفريقين أمر بجهاد الكفار. قال ابن عباس: الكفار المشركون عبدة الأوثان. وقيل: كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردي. واختاره ابن العربي وقال: وهو الصحيح لعموم الآية فيه. {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} مصدر. قال الزجاج: أي فاضربوا الرقاب ضربا. وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بها. وقيل: نصب على الإغراء. قال أبو عبيدة: هو كقولك يا نفس صبرا. وقيل: التقدير

اقصدوا ضرب الرقاب. وقال: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} ولم يقل فاقتلوهم، لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه.
الثانية: قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} أي أكثرتم القتل. وقد مضى في "الأنفال" عند قوله تعالى: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]. {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} أي إذا أسرتموهم. والوثاق اسم من الإيثاق، وقد يكون مصدرا، يقال: أوثقته إيثاقا ووثاقا. وأما الوثاق (بالكسر) فهو اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط؛ قاله القشيري. وقال الجوهري: وأوثقه في الوثاق أي شده، وقال تعالى: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} . والوثاق (بكسر الواو) لغة فيه. وإنما أمر بشد الوثاق لئلا يفلتوا. {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} {فَإِمَّا مَنّاً} عليهم بالإطلاق من غير فدية {وَإِمَّا فِدَاءً}. ولم يذكر القتل ها هنا اكتفاء بما تقدم من القتل في صدر الكلام، و {مَنّاً} و {فِدَاءً} نصب بإضمار فعل. وقرئ {فَدًى} بالقصر مع فتح الفاء، أي فإما أن تمنوا عليهم منا، وإما أن تفادوهم فداء.
روي عن بعضهم أنه قال: كنت واقفا على رأس الحجاج حين أتي بالأسرى من أصحاب عبدالرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة فقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من كندة فقال: يا حجاج، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا قال: ولم ذلك؟ قال: لأن الله تعالى قال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} في حق الذين كفروا، فوالله ما مننت ولا فديت؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
فقال الحجاج: أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام؟ خلوا سبيل من بقي. فخلي يومئذ عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين، بقول ذلك الرجل.

الثالثة: واختلف العلماء في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال:
الأول: أنها منسوخة، وهي في أهل الأوثان، لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم. والناسخ لها عندهم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] الآية، قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس، وقاله كثير من الكوفيين. وقال عبدالكريم الجوزي: كتب إلى أبي بكر في أسير أسر، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال اقتلوه، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا. الثاني: أنها في الكفار جميعا. وهي منسوخة على قول جماعة من العلماء وأهل النظر، منهم قتادة ومجاهد. قالوا: إذ أسر المشرك لم يجز أن يمن عليه، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة، لأنها لا تقتل. والناسخ لها: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن يؤخذ منه الجزية. وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين. ذكر عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة { فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قال: نسخها { فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ }. وقال مجاهد: نسخها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وهو قول الحكم.
الثالث: أنها ناسخة، قال الضحاك وغيره. روى الثوري عن جويبر عن الضحاك: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] قال: نسخها {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . وقال ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء: "فإما منا بعد وإما فداء فلا يقتل المشرك ولكن يمن عليه ويفادى، كما قال الله عز وجل. وقال أشعث: كان الحسن يكره أن يقتل الأسير، ويتلو {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . وقال الحسن أيضا: في الآية تقديم وتأخير، فكأنه قال: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها. ثم قال: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44