كتاب : الجامع لأحكام القرآن
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

"لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن" أخرجه ابن ماجة. وأخرج الدارقطني من حديث سفيان عن مسعر، وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنبا. قال سفيان: قال لي شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه. وأخرجه ابن ماجة قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة؛ فذكره بمعناه، وهذا إسناد صحيح. وعن ابن عباس، عن عبدالله بن رواحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب؛ أخرجه الدارقطني. وروى عن عكرمة قال: كان ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها؛ وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه، فقامت فخرجت فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت، وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة فقال مهيم ؟ قالت: مهيم ! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة. قال: وأين رأيتني ؟ قالت: رأيتك على الجارية؛ فقال: ما رأيتني؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب. قالت: فأقرأ، وكانت لا تقرأ القرآن، فقال:
أتانا رسول الله يتلوا كتابه ... كما لاح مشهور من الفجر ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر. ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال؛ والاغتسال معنى معقول، ولفظه عند العرب معلوم، يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول؛ ولذلك فرقت العرب بين قولهم: غسلت الثوب، وبين قولهم:

أفضت عليه الماء وغمسته في الماء. إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء أو ينغمس فيه ولا يتدلك؛ فالمشهور من مذهب مالك أنه لا بجزئه حتى يتدلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر الجنب بالاغتسال، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه؛ ولم يكن للمتوضئ بد من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه. وهذا قول المزني واختياره. قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي: وهذا هو المعقول من لفظ الغسل؛ لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال، ومن لم يمر فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان غاسلا، بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه. قال: وعلى نحو هذا جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر واتقوا البشرة" قال: وإنقاؤه - والله أعلم - لا يكون إلا بتتبعه؛ على حد ما ذكرنا.
قلت: لا حجة فيما استدل به من الحديث لوجهين: أحدهما: أنه قد خولف في تأويله؛ قال سفيان بن عيينة: المراد بقوله عليه السلام "وأنقوا البشرة" أراد غسل الفرج وتنظيفه، وأنه كنى بالبشرة عن الفرج. قال ابن وهب: ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة.
الثاني: إن الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال فيه: وهذا الحديث ضعيف؛ كذا في رواية ابن داسة. وفي رواية اللؤلئي عنه: الحارث بن وجيه ضعيف، حديثه منكر؛ فسقط الاستدلال بالحديث، وبقي المعول على اللسان كما بينا. ويعضده ما ثبت في صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه بول ولم يغسله؛ روته عائشة، ونحوه عن أم قيس بنت محصن؛ أخرجهما مسلم. وقال الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء: يجزئ الجنب صب الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعم وإن لم يتدلك؛ على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم. رواهما الأئمة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض الماء على جسده؛ وبه قال محمد بن عبدالحكم،

وإليه رجع أبو الفرج ورواه عن مالك؛ قال: وإنما أمر بإمرار اليدين في الغسل لأنه لا يكاد من لم يمر يديه عليه يسلم من تنكب الماء عن بعض ما يجب عليه من جسده. وقال ابن العربي: وأعجب لأبي الفرج الذي روى وحكى عن صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزئ ! وما قاله قط مالك نصا ولا تخريجا، وإنما هي من أوهامه.
قلت: قد روي هذا عن مالك نصا؛ قال مروان بن محمد الظاهري وهو ثقة من ثقات الشاميين: سألت مالك بن أنس عن رجل انغمس في ماء وهو جنب ولم يتوضأ، قال: مضت صلاته. قال أبو عمر: فهذه الرواية فيها لم يتدلك ولا توضأ، وقد أجزأه عند مالك. والمشهور من مذهبه أنه لا يجزئه حتى يتدلك؛ قياسا عل غسل الوجه واليدين. وحجة الجماعة أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل. والعرب تقول: غسلتني السماء. وقد حكت عائشة وميمونة صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا تدلكا، ولو كان واجبا ما تركه؛ لأنه المبين عن الله مراده، ولو فعله لنقل عنه؛ كما نقل تخليل أصول شعره بالماء وغرفه على رأسه، وغير ذلك من صفة غسله ووضوئه عليه السلام. قال أبو عمر: وغير نكير أن يكون الغسل في لسان العرب مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة؛ وإذا كان هذا فلا يمتنع أن يكون الله جل وعز تعبد عباده في الوضوء بإمرار أيديهم على وجوههم مع الماء ويكون ذلك غسلا، وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض، ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة، ويكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه، لا يجب أن يرد أحدهما إلى صاحبه؛ لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا - وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء الأمة. وإنما ترد القروع قياسا على الأصول. وبالله التوفيق.
الرابعة عشرة: حديث ميمونة وعائشة يرد ما رواه شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعا وفرجه سبعا. وقد روي عن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل البول من الثوب سبع مرار؛

فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة. قال ابن عبدالبر: وإسناد هذا الحديث عن ابن عمر فيه ضعف ولين، وإن كان أبو داود قد خرجه والذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس، وشعبة هذا ليس بالقوي، ويرهما حديث عائشة وميمونة.
الخامسة عشرة: ومن لم يستطع إمرار يده على جسده فقد قال سحنون: يجعل من يلي ذلك منه، أو يعالجه بخرقه. وفي الواضحة: يمر يديه على ما يدركه من جسده، ثم يفيض الماء حتى يعم ما لم تبلغه يداه.
السادسة عشرة: واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته؛ فروى ابن القاسم عنه أنه قال: ليس عليه ذلك. وروى أشهب عنه أن عليه ذلك. قال ابن عبدالحكم: ذلك هو أحب إلينا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل شعره في غسل الجنابة، وذلك عام وإن كان الأظهر فيه شعر رأسه؛ وعلى هذين القولين العلماء. ومن جهة المعنى أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب، والبشرة التي تحت اللحية من جملته؛ فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها باليد. وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى لأنها مبنية على التخفيف، ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة؛ ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجز في الغسل.
قلت: ويعضد. هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "تحت كل شعرة جنابة".
السابعة عشرة: وقد بالغ قوم فأوجبوا المضمضة والاستنشاق؛ لقوله تعالى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} منهم أبو حنيفة؛ ولأنهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين، فمن تركهما أعاد كمن ترك لمعة، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه. وقال مالك: ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء؛ لأنهما باطنان فلا يجب كداخل الجسد. وبذلك قال محمد بن جرير الطبري والليث بن سعد والأوزاعي وجماعة من التابعين. وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان: هما فرض في الوضوء والغسل جميعا؛ وهو قول إسحاق

وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب داود. وروي عن الزهري وعطاء مثل هذا القول. وروي عن أحمد أيضا أن المضمضة سنة والاستنشاق فرض؛ وقال به بعض أصحاب داود. وحجة من لم يوجبهما أن الله سبحانه لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما رسوله ولا اتفق الجميع عليه؛ والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه. احتج من أوجبهما بالآية، وقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة؛ وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا. احتج من فرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل المضمضة ولم يأمر بها، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنشاق وأمر به؛ وأمره على الوجوب أبدا.
الثامنة عشرة: قال علماؤنا: ولا بد في غسل الجنابة من النية؛ لقوله تعالى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} وذلك يقتضي النية؛ وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وكذلك الوضوء والتيمم. وعضدوا هذا وبقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} والإخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى، والقصد له بأداء ما افترض على عباده المؤمنين، وقال عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" وهذا عمل. وقال الأوزاعي والحسن: يجزئ الوضوء والتيمم بغير نية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: كل طهارة بالماء فإنها تجزئ بغير نية، ولا يجزئ التيمم إلا بنية؛ قياسا على إزالة النجاسة بالإجماع من الأبدان والثياب بغير نية. ورواه الوليد بن مسلم عن مالك.
التاسعة عشرة: وأما قدر الماء الذي يغتسل به؛ فروى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة. "الفرق "تحرك راؤه وتسكن. قال ابن وهب: "الفرق "مكيال من الخشب، كان ابن شهاب يقول: إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية. وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى "الفرق "فقال: ثلاثة آصع، قال: وهي خمسة أقساط، قال:

وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم قال سفيان: "الفرق "ثلاثة آصع. وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد. وفي رواية: يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك. وهذه الأحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي ولا يكثر منه، فإن الإكثار منه سرف والسرف مذموم. ومذهب الأباضية الإكثار من الماء، وذلك من الشيطان.
الموفية عشرين: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} هذه آية التيمم، نزلت في عبدالرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح؛ فرخص له في أن يتيمم، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس. وقيل: نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة "المريسيع "حين انقطع العقد لعائشة. أخرج الحديث مالك من رواية عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة. وترجم البخاري هذه الآية في كتاب التفسير: حدثنا محمد قال: أخبرنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا، فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلوا وهم على غير وضوء؛ فأنزل الله تعالى آية التيمم.
قلت: وهذه الرواية ليس فيها ذكر للموضع، وفيها أن القلادة كانت لأسماء؛ خلاف حديث مالك. وذكر النسائي من رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة لها وهي في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنسلت منها وكان ذلك المكان يقال له الصلصل؛ وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن

هشام أن القلادة كانت لأسماء، وأن عائشة استعارتها من أسماء. وهذا بيان لحديث مالك إذا قال: انقطع عقد لعائشة، ولحديث البخاري إذ قال: هلكت قلادة لأسماء. وفيه أن المكان يقال له الصلصل. وأخرجه الترمذي حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أنها سقطت قلادتها ليلة الأبواء، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين في طلبها؛ وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن هشام أيضا إضافة القلادة إليها، لكن إضافة مستعير بدليل حديث النسائي. وقال في المكان: "الأبواء "كما قال مالك، إلا أنه من غير شك. وفي حديث مالك قال: وبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته. وجاء في البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده. وهذا كله صحيح المعنى، وليس اختلاف النقلة في العقد والقلادة ولا في الموضع ما يقدح في الحديث ولا يوهن شيئا منه؛ لأن المعنى المراد من الحديث والمقصود به إليه هو نزول التيمم، وقد ثبتت الروايات في أمر القلادة. وأما قوله في حديث الترمذي: فأرسل رجلين قيل: أحدهما أسيد بن حضير. ولعلهما المراد بالرجال في حديث البخاري فعبر عنهما بلفظ الجمع، إذ أقل الجمع اثنان، أو أردف في أثرهما غيرهما فصح إطلاق اللفظ والله أعلم. فبعثوا في طلبها فطلبوا فلم يجدوا شيئا في وجهتهم، فلما رجعوا أثاروا البعير فوجدوه تحته. وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وهذا أيضا ليس بخلاف لما ذكرنا؛ فإنهم ربما أصابتهم الجراحة في غزوتهم تلك التي قفلوا منها إذ كان فيها قتال فشكوا، وضاع العقد ونزلت الآية. وقد قيل: إن ضياع العقد كان في غزاة بني المصطلق. وهذا أيضا ليس بخلاف لقول من قال في غزاة المريسيع، إذ هي غزاة واحدة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، على ما قال خليفة بن خياط وأبو عمر بن عبدالبر، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري. وقيل: بل نميلة بن عبدالله

الليثي. وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد مما يلي الساحل فقتل من قتل وسبى من سبى من النساء والذرية وكان شعارهم يومئذ: أمت أمت. وقد قيل: إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوه، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء. فهذا ما جاء في بدء التيمم والسبب فيه. وقد قيل: إن آية المائدة آية التيمم، على ما يأتي بيانه هناك. قال أبو عمر: فأنزل الله تعالى آية التيمم، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة "المائدة"، أو الآية التي في سورة "النساء". ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين وهما مدنيتان.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: {مَرْضَى} المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد، إلى الاعوجاج والشذوذ. وهو على ضربين: كثير ويسير؛ فإذا كان كثيرا بحيث يخاف الموت لبرد الماء، أو للعلة التي به، أو يخاف فوت بعض الأعضاء، فهذا يتيمم بإجماع؛ إلا ما روي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات. وهذا مردود بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فخاف أن يموت إن اغتسل، تيمم. وعن سعد بن جبير أيضا عن ابن عباس قال: رخص للمريض في التيمم بالصعيد. وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسل ولا إعادة. فإن كان يسيرا إلا أنه يخاف معه حدوث علة أو زيادتها أو بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب. قال ابن عطية: فيما حفظت.
قلت: قد ذكر الباجي فيه خلافا؛ قال القاضي أبو الحسن: مثل أن يخاف الصحيح نزلة أو حمى، وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض؛ وبنحو ذلك قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف؛ ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك. قال ابن العربي: "قال الشافعي لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف؛

لأن زيادة المرض غير متحققة؛ لأنها قد تكون وقد لا تكون، ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك. قلنا: قد ناقضت؛ فإنك قلت إذا خاف التلف من البرد تيمم؛ فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك، يبيحه خوف المرض؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور. قال: وعجبا للشافعي يقول: لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم، وهو يخاف على بدنه المرض ! وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه".
قلت: الصحيح من قول الشافعي فيما قال القشيري أبو نصر عبدالرحيم في تفسيره: والمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء. فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعي: جواز التيمم. روى أبو داود والدارقطني، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبدالرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك؛ فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو: "صليت بأصحابك وأنت جنب" ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين، وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين؛ وهذا أحد القولين عندنا؛ وهو الصحيح وهو الذي أقرأه مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات. والقول الثاني: أنه لا يصلي؛ لأنه أنقص فضيلة من المتوضئ، وحكم الإمام أن يكون أعلى رتبة؛ وقد روى الدارقطني من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤم المتيمم المتوضئين" إسناده ضعيف. وروى أبو داود والدارقطني عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال:

"قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال وإنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" . قال الدارقطني: "قال أبو بكر هذه سنة تفرد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة، ولم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق، وليس بالقوي، وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب. واختلف عن الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء، وقيل عنه: بلغني عن عطاء، وأرسل الأوزاعي آخره عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عنه فقالا: رواه ابن أبي العشرين، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، وأسند الحديث". وقال داود: كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم؛ لقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى} قال ابن عطية: وهذا قول خلف، وإنما هو عند علماء الأمة لمن خاف من استعمال الماء أو تأذيه به كالمجدور والمحصوب، والعلل المخوف عليها من الماء؛ كما تقدم عن ابن عباس.
الثانية والعشرون: قوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} يجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة؛ هذا مذهب مالك وجمهور العلماء. وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة. واشترط آخرون أن يكون سفر طاعة. وهذا كله ضعيف. والله أعلم.
الثالثة والعشرون: أجمع العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا، واختلفوا فيه في الحضر؛ فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز؛ وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف؛ وهو قول الطبري. وقال الشافعي أيضا والليث والطبري: إذا عدم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيح والسقيم تيمم وصلى الله عليه وسلم ثم أعاد. وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت وقال الحسن وعطاء: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ولا غير

المريض. وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية؛ فقال مالك ومن تابعه: ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب فيمن لا يجد الماء، والحاضرون الأغلب عليهم وجوده فلذلك لم ينص عليهم. فكل من لم يجد الماء أو منعه منه مانع أو خاف فوات وقت الصلاة، تيمم المسافر بالنص، والحاضر بالمعنى. وكذلك المريض بالنص والصحيح بالمعنى. وأما من منعه في الحضر فقال: إن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر؛ كالفطر وقصر الصلاة، ولم يبح التيمم إلا بشرطين، وهما المرض والسفر؛ فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى. وأما قول الحسن وعطاء الذي منعه جملة مع وجود الماء فقال: إنما شرطه الله تعالى مع عدم الماء، لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فلم يبح التيمم لأحد إلا عند فقد الماء. وقال أبو عمر: ولولا قول الجمهور وما روي من الأثر لكان قول الحسن وعطاء صحيحا؛ والله أعلم. وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم التيمم لعمرو بن العاص وهو مسافر إذ خاف الهلاك إن اغتسل بالماء، فالمريض أحرى بذلك.
قلت: ومن الدليل على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء الكتاب والسنة:
أما الكتاب فقوله سبحانه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} يعني المقيم إذا عدم الماء تيمم. نص عليه القشيري عبدالرحيم قال: ثم يقطع النظر في وجوب القضاء؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر وفي القضاء قولان:
قلت: وهكذا نص أصحابنا فيمن تيمم في الحضر، فهل يعيد إذا وجد الماء أم لا؛ المشهور من مذهب مالك أنه لا يعيد وهو الصحيح. وقال ابن حبيب ومحمد بن عبدالحكم. يعيد أبدا؛ ورواه ابن المنذر عن مالك. وقال الوليد عنه: يغتسل وإن طلعت الشمس.
وأما السنة فما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو "بئر جمل" فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم

حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ "بئر". وأخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر وفيه "ثم رد على الرجل السلام وقال: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر" .
الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} الغائط أصله ما انخفض من الأرض، والجمع الغيطان أو الأغواط؛ وبه سمي غوطة دمشق. وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء حاجتها تسترا عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا للمقارنة. وغاط في الأرض يغوط إذا غاب.
وقرأ الزهري: "من الغيط" فيحتمل أن يكون أصله الغيط فخفف، كهين وميت وشبهه. ويحتمل أن يكون من الغوط؛ بدلالة قولهم تغوط إذا أتى الغائط، فقلبت واو الغوط ياء؛ كما قالوا في لا حول لا حيل. و"أو "بمعنى الواو، أي إن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحدث لا المرض والسفر؛ فدل على جواز التيمم في الحضر كما بيناه. والصحيح في "أو "أنها على بابها عند أهل النظر. فلأو معناها، وللواو معناها. وهذا عندهم على الحذف، والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مس الماء أو على سفر ولم تجدوا ماء واحتجتم إلى الماء. والله أعلم.
الخامسة والعشرون: لفظ "الغائط "يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى. وقد اختلف الناس في حصرها، وأنبل ما قيل في ذلك أنها ثلاثة أنواع، لا خلاف فيها في مذهبنا: زوال العقل، خارج معتاد، ملامسة. وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من الجسد من النجاسات، ولا يراعى المخرج ولا يعد اللمس. وعلى مذهب الشافعي ومحمد بن عبدالحكم ما خرج من السبيلين، ولا يراعى الاعتياد، ويعد اللمس. وإذا تقرر هذا فاعلم أن المسلمين أجمعوا على أن من زال عقله بإغماء أو جنون أو سكر فعليه الوضوء، واختلفوا

في النوم هل هو حدث كسائر الأحداث ؟ أو ليس بحدث أو مظنة حدث؛ ثلاثة أقوال: طرفان وواسطة.
الطرف الأول: ذهب المزني أبو إبراهيم إسماعيل إلى أنه حدث، وأن الوضوء يجب بقليله وكثيره كسائر الأحداث؛ وهو مقتضى قول مالك في الموطأ لقوله: ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم. ومقتضى حديث صفوان بن عسال أخرجه النسائي والدارقطني والترمذي وصححه. رووه جميعا من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش فقال: أتيت صفوان بن عسال المرادي فقلت: جئتك أسألك عن المسح على الخفين؛ قال: نعم كنت في الجيش الذي بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من بول ولا غائط ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة. ففي هذا الحديث وقول مالك التسوية بين الغائط والبول والنوم. قالوا: والقياس أنه لما كان كثيره وما غلب على العقل منه حدثا وجب أن يكون قليله كذلك. وقد روي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكاء السنه العينان فمن نام فليتوضأ" وهذا عام. أخرجه أبو داود، وأخرجه الدارقطني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الطرف الآخر: فروي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي حال كان، حتى يحدث النائم حدثا غير النوم؛ لأنه كان يوكل من يحرسه إذا نام. فإن لم يخرج منه حدث قام من نومه وصلى ، وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والأوزاعي في رواية محمود بن خالد. والجمهور على خلاف هذين الطرفين. فأما جملة مذهب مالك فإن كل نائم استثقل نوما، وطال نومه على أي حال كان، فقد وجب عليه الوضوء؛ وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم. قال أحمد بن حنبل: فإن كان النوم

خفيفا لا يخامر القلب ولا يغمره لم يضر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا. وقال الشافعي: من نام جالسا فلا وضوء عليه؛ ورواه ابن وهب عن مالك. والصحيح من هذه الأقوال مشهور مذهب مالك؛ لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة يعني العشاء فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم" رواه الأئمة واللفظ للبخاري؛ وهو أصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد والعمل. وأما ما قاله مالك في موطئه وصفوان بن عسال في حديثه فمعناه: ونوم ثقيل غالب على النفس؛ بدليل هذا الحديث وما كان في معناه. وأيضا فقد روى حديث صفوان وكيع عن مسعر عن عاصم بن أبي النجود فقال: "أو ريح" بدل "أو نوم"، فقال الدارقطني: لم يقل في هذا الحديث "أو ريح" غير وكيع عن مسعر.
قلت: وكيع ثقة إمام أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة؛ فسقط الاستدلال بحديث صفوان لمن تمسك به في أن النوم حدث. وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فضعيف؛ رواه الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام وهو ساجد حتى. غط أو نفخ ثم قام فصلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إنك قد نمت ! فقال: "إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله" . تفرد به أبو خالد عن قتادة ولا يصح؛ قال الدارقطني. وأخرجه أبو داود وقال: قوله: "الوضوء على من نام مضطجعا" هو حديث منكر لم يروه إلا أبو خالد يزيد الدالاني عن قتادة، وروى أوله جماعة عن ابن عباس لم يذكروا شيئا من هذا. وقال أبو عمر بن عبدالبر: هذا حديث منكر لم يروه أحد من أصحاب قتادة الثقات، وإنما انفرد به أبو خالد الدالاني، وأنكروه وليس بحجة فيما نقل. وأما قول الشافعي: على كل نائم الوضوء إلا على الجالس وحده، وإن كل من زال عن حد الاستواء ونام فعليه الوضوء؛ فهو قول الطبري وداود، وروي عن علي وابن مسعود وابن

عمر؛ لأن الجالس لا يكاد يستثقل، فهو في معنى النوم الخفيف. وقد روى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نام جالسا فلا وضوء عليه ومن وضع جنبه فعليه الوضوء" . وأما الخارج؛ فلنا ما رواه البخاري قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن خالد، عن عكرمة، عن عائشة قالت: اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي. فهذا خارج على غير المعتاد، وإنما هو عرق انقطع فهو مرض؛ وما كان هذا سبيله مما يخرج من السبيلين فلا وضوء فيه عندنا إيجابا، خلافا للشافعي كما ذكرنا. وبالله توفيقنا. ويرد على الحنفي حيث راعى الخارج النجس. فصح ووضح مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه ما تردد نفس، وعنهم أجمعين.
السادسة والعشرون: قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر "لامستم". وقرأ حمزة والكسائي: "لمستم "وفي معناه ثلاثة أقوال: الأول: أن يكون لمستم جامعتم. الثاني: لمستم باشرتم. الثالث: يجمع الأمرين جميعا. و"لامستم "بمعناه عند أكثر الناس، إلا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: الأولى في اللغة أن يكون "لامستم "بمعنى قبلتم أو نظيره؛ لأن لكل واحد منهما فعلا. قال: و"لمستم "بمعنى غشيتم ومسستم، وليس للمرأة في هذا فعل.
واختلف العلماء في حكم الآية على مذاهب خمسة؛ فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء؛ فلم يدخل في المعنى المراد بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} الآية، فلا سبيل له إلى التيمم، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء؛ روي هذا القول عن عمر وابن مسعود. قال أبو عمر: ولم يقل بقول عمر وعبدالله في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار؛ وذلك والله أعلم لحديث عمار وعمران بن حصين وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تيمم الجنب. وقال أبو حنيفة عكس هذا القول، فقال: الملامسة هنا مختصة باللمس الذي هو الجماع. فالجنب يتيمم واللامس

بيده لم يجر له ذكر؛ فليس بحدث ولا هو ناقص لوضوئه. فإذا قبل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه؛ وعضدوا هذا بما رواه الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قال عروة: فقلت لها من هي إلا أنت ؟ فضحكت. وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذ. فإذا لمسها بغير شهوة فلا وضوء؛ وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مقتضى الآية. وقال علي بن زياد: وإن كان عليها ثوب كثيف فلا شيء عليه، وإن كان خفيفا فعليه الوضوء. وقال عبدالملك بن الماجشون: من تعمد مس امرأته بيده لملاعبة فليتوضأ التذ أو لم يلتذ. قال القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى: والذي تحقق من مذهب مالك وأصحابه أن الوضوء إنما يجب لقصده اللذة دون وجودها؛ فمن قصد اللذة بلمسه فقد وجب عليه الوضوء، التذ بذلك أو لم يلتذ؛ وهذا معنى ما في العتبية من رواية عيسى عن ابن القاسم. وأما الإنعاظ بمجرده فقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يوجب وضوءا ولا غسل ذكر حتى يكون معه لمس أو مذي. وقال الشيخ أبو إسحاق: من أنعظ إنعاظا أنتقض وضوئه؛ وهذا قول مالك في المدونة. وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد معلق نقض الطهر به؛ وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة. وقال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه؛ لقوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} . فهذه خمسة مذاهب أسدها مذهب مالك؛ وهو مروي عن عمر وابنه عبدالله، وهو قول عبدالله بن مسعود أن الملامسة ما دون الجماع، وأن الوضوء يجب بذلك؛ وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء. قال ابن العربي: وهو الظاهر من معنى الآية؛ فإن قوله في أولها: "ولا جنبا "أفاد الجماع، وإن قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أفاد الحدث، وإن قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ} أفاد اللمس والقبل. فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام، وهذه غاية في العلم والإعلام. ولو كان المراد باللمس الجماع كان تكرارا في الكلام.

قلت: وأما ما استدل به أبو حنيفة من حديث عائشة فحديث مرسل؛ رواه وكيع، عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة. قال يحيى بن سعيد: وذكر حديث الأعمش عن حبيب عن عمرو فقال: أما إن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيبا لم يسمع من عروة شيئا؛ قال الدارقطني. فإن قيل: فأنتم تقولون بالمرسل فيلزمكم قبوله والعمل به. قلنا: تركناه لظاهر الآية وعمل الصحابة. فإن قيل: إن الملامسة هي الجماع وقد روي ذلك عن ابن عباس. قلنا: قد خالفه الفاروق وابنه وتابعهما عبدالله بن مسعود وهو كوفي، فما لكم خالفتموه ؟ ! فإن قيل: الملامسة من باب المفاعلة، ولا تكون إلا من اثنين، واللمس باليد إنما يكون من واحد؛ فثبت أن الملامسة هي الجماع. قلنا: الملامسة مقتضاها التقاء البشرتين، سواء كان ذلك من واحد أو من اثنين؛ لأن كل واحد منهما يوصف لامس وملموس.
جواب آخر: وهو أن الملامسة قد تكون من واحد؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، والثوب ملموس وليس بلامس، وقد قال ابن عمر مخبرا عن نفسه "وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام". وتقول العرب: عاقبت اللص وطارقت النعل، وهو كثير.
فإن قيل: لما ذكر الله سبحانه سبب الحدث، وهو المجيء من الغائط ذكر سبب الجنابة وهو الملامسة، فبين الحدث والجنابة عند عدم الماء، كما أفاد بيان حكمهما عند وجود الماء. قلنا: لا نمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس، ويفيد الحكمين كما بينا. وقد قرئ "لمستم" كما ذكرنا. وأما ما ذهب إليه الشافعي من لمس الرجل المرأة ببعض أعضائه لا حائل بينه وبينها لشهوة أو لغير شهوة وجب عليه الوضوء فهو ظاهر القرآن أيضا؛ وكذلك إن لمسته هي وجب عليه الوضوء، إلا الشعر؛ فإنه لا وضوء لمن مس شعر امرأته لشهوة كان أو لغير شهوة، وكذلك السن والظفر، فإن ذلك مخالف للبشرة. ولو احتلط فتوضأ إذا مس شعرها كان حسنا. ولو مسها بيده أو مسته بيدها من فوق الثوب فالتذ بذلك

أو لم يلتذ لم يكن عليهما شيء حتى يفضي إلى البشرة، وسواء في ذلك كان متعمدا أو ساهيا، كانت المرأة حية أو ميتة إذا كانت أجنبية. واختلف قوله إذا لمس صبية صغيرة أو عجوزا كبيرة بيده أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحل له نكاحها، فمرة قال: ينتقض الوضوء؛ لقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فلم يفرق. والثاني لا ينقض؛ لأنه لا مدخل للشهوة فيهن. قال المروزي: قول الشافعي أشبه بظاهر الكتاب؛ لأن الله عز وجل قال: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ولم يقل بشهوة ولا من غير شهوة؛ وكذلك الذين أوجبوا الوضوء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترطوا الشهوة. قال: وكذلك عامة التابعين. قال المروزي: فأما ما ذهب إليه مالك من مراعاة الشهوة واللذة من فوق الثوب يوجب الوضوء فقد وافقه على ذلك الليث بن سعد، ولا نعلم أحدا قال ذلك غيرهما. قال: ولا يصح ذلك في النظر؛ لأن من فعل ذلك فهو غير لامس لامرأته، وغير مماس لها في الحقيقة، إنما هو لامس لثوبها. وقد أجمعوا أنه لو تلذذ واشتهى أن يلمس لم يجب عليه وضوء؛ فكذلك من لمس فوق الثوب لأنه غير مماس للمرأة.
قلت: أما ما ذكر من أنه لم يوافق مالكا على قول إلا الليث بن سعد، فقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبدالبر أن ذلك قول إسحاق وأحمد، وروي ذلك عن الشعبي والنخعي كلهم قالوا: إذا لمس فالتذ وجب الوضوء، وإن لم يلتذ فلا وضوء. وأما قوله: "ولا يصح ذلك في النظر" فليس بصحيح؛ وقد جاء في صحيح الخبر عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما ثانيا، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. فهذا نص في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الملامس، وأنه غمز رجل عائشة؛ كما في رواية القاسم عن عائشة "فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما" أخرجه البخاري. فهذا يخص عموم قوله: "أو لامستم" فكان واجبا لظاهر الآية انتقاض وضوء كل ملامس كيف لامس. ودلت السنة التي هي البيان لكتاب الله تعالى أن الوضوء على بعض الملامسين دون بعض، وهو من لم يلتذ ولم يقصد.

ولا يقال: فلعله كان على قدمي عائشة ثوب، أو كان يضرب رجليها بكمه؛ فإنا نقول: حقيقة الغمز إنما هو باليد؛ ومنه غمزك الكبش أي تجسه لتنظر أهو سمين أم لا ؟ فأما أن يكون الغمز الضرب بالكم فلا. والرجل من النائم الغالب عليها ظهورها من النائم؛ لا سيما مع امتداده وضيق حاله. فهذه كانت الحال في ذلك الوقت؛ ألا ترى إلى قولها: "وإذا قام بسطتهما" وقولها: "والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح". وقد جاء صريحا عنها قالت: "كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزني فرفعتهما، فإذا قام مددتهما" أخرجه البخاري. فظهر أن الغمز كان على حقيقته مع المباشرة. ودليل آخر - وهو ما روته عائشة أيضا رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان؛ الحديث. فلما وضعت يدها على قدمه وهو ساجد وتمادى في سجوده كان دليلا على أن الوضوء لا ينتقض إلا على بعض الملامسين دون بعض.
فإن قيل: كان على قدمه حائل كما قال المزني. قيل له: القدم قدم بلا حائل حتى يثبت الحائل، والأصل الوقوف مع الظاهر؛ بل بمجموع ما ذكرنا يجتمع منه كالنص.
فإن قيل: فقد أجمعت الأمة على أن رجلا لو استكره امرأة فمس ختانه ختانها وهي لا تلتذ لذلك، أو كانت نائمة فلم تلتذ ولم تشته أن الغسل واجب عليها؛ فكذلك حكم من قبل أو لامس بشهوة أو لغير شهوة انتقضت طهارته ووجب عليه الوضوء؛ لأن المعنى في الجسة واللمسة والقبلة الفعل لا اللذة. قلنا: قد ذكرنا أن الأعمش وغيره قد خالف فيما ادعيتموه من الإجماع. سلمناه، لكن هذا استدلال بالإجماع في محل النزاع فلا يلزم؛ وقد استدللنا على صحة مذهبنا بأحاديث صحيحة. وقد قال الشافعي - فيما زعمتم إنه لم يسبق إليه، وقد سبقه إليه شيخه مالك؛ كما هو مشهور عندنا "إذا صح الحديث فخذوا به ودعوا قولي "وقد ثبت الحديث بذلك فلم لا تقولون به ؟ ! ويلزم على مذهبكم أن من ضرب امرأته فلطمها بيده تأديبا لها وإغلاظا عليها أن ينتقض وضوءه؛ إذ المقصود وجود

الفعل، وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم، والله أعلم. وروى الأئمة مالك وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى وأمامة بنت أبي العاص ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها. وهذا يرد ما قال الشافعي في أحد قوليه: لو لمس صغيرة لانتقض طهره تمسكا بلفظ النساء، وهذا ضعيف؛ فإن لمس الصغيرة كلمس الحائط. واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا يعتبر اللذة، ونحن اعتبرنا اللذة فحيث وجدت وجد الحكم، وهو وجوب الوضوء. وأما قول الأوزاعي في اعتباره اليد خاصة؛ فإن اللمس أكثر ما يستعمل باليد، فقصره عليه دون غيره من الأعضاء؛ حتى أنه لو أدخل الرجل رجليه في ثياب امرأته فمس فرجها أو بطنها لا ينتقض لذلك وضوءه. وقال في الرجل يقبل امرأته: إن جاء يسألني قلت يتوضأ، وإن لم يتوضأ لم أعبه. وقال أبو ثور: لا وضوء على من قبل امرأته أو باشرها أو لمسها. وهذا يخرج على مذهب أبي حنيفة، والله أعلم.
السابعة والعشرون: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} الأسباب التي لا يجد المسافر معها الماء هي إما عدمه جملة أو عدم بعضه، وإما أن يخاف فوات الرفيق، أو على الرحل بسبب طلبه، أو يخاف لصوصا أو سباعا، أو فوات الوقت، أو عطشا على نفسه أو على غيره؛ وكذلك لطبيخ يطبخه لمصلحة بدنه؛ فإذا كان أحد هذه الأشياء تيمم وصلى. ويترتب عدمه للمريض بألا يجد من يناوله، أو يخاف من ضرره. ويترتب أيضا عدمه للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف، أو بأن يسجن أو يربط. وقال الحسن: يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديما، وهذا ضعيف، لأن دين الله يسر. وقالت طائفة: يشتريه ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا. وقالت طائفة: يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاث ونحو هذا؛ وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله. وقيل لأشهب: أتشترى القربة بعشرة دراهم ؟ فقال: ما أرى ذلك على الناس. وقال الشافعي بعدم الزيادة.

الثامنة والعشرون: واختلف العلماء هل طلب الماء شرط في صحة التيمم أم لا؟ فظاهر مذهب مالك أن ذلك شرط، وهو قول الشافعي. وذهب القاضي أبو محمد بن نصر إلى أن ذلك ليس بشرط في صحة التيمم؛ وهو قول أبي حنيفة. وروي عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر على غلوتين من طريقه فلا يعدل إليه. قال إسحاق: لا يلزمه الطلب إلا في موضعه، وذكر حديث ابن عمر، والأول أصح وهو المشهور من مذهب مالك في الموطأ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وهذا يقتضي أن التيمم لا يستعمل إلا بعد طلب الماء. وأيضا من جهة القياس أن هذا بدل مأمور به عند العجز عن مبدله، فلا يجزئ فعله إلا مع تيقن عدم مبدله؛ كالصوم مع العتق في الكفارة.
التاسعة والعشرون: وإذا ثبت هذا وعدم الماء، فلا يخلو أن يغلب على ظن المكلف اليأس من وجوده في الوقت، أو يغلب على ظنه وجوده ويقوى رجاؤه له، أو يتساوى عنده الأمران، فهذه ثلاثة أحوال:
فالأول: يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت: لأنه إذا فاتته فضيلة الماء فإنه يستحب له أن يحرز فضيلة أول الوقت.
الثاني: يتيمم وسط الوقت؛ حكاه أصحاب مالك عنه، فيؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم تفته فضيلة أول الوقت، فإن فضيلة أول الوقت قد تدرك بوسطه لقربه منه. الثالث: يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء في آخر الوقت؛ لأن فضيلة الماء أعظم من فضيلة أول الوقت، لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها، وفضيلة الماء متفق عليها، وفضيلة أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة، والوقت في ذلك هو آخر الوقت المختار؛ قال ابن حبيب. ولو علم الماء في آخر الوقت فتيمم في أوله وصلى فقد قال ابن القاسم: يجزئه، فإن وجد الماء أعاد في الوقت خاصة. وقال عبدالملك بن الماجشون: إن وجد الماء بعد أعاد أبدا.

الموفية ثلاثين: والذي يراعى من وجود الماء أن يجد منه ما يكفيه لطهارته، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه. وهذا قول مالك وأصحابه؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن الله تعالى جعل فرضه أحد الشيئين، إما الماء وإما التراب.
فإن لم يكن الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا؛ لأن المطلوب من وجود الكفاية. وقال الشافعي في القول الآخر: يستعمل ما معه من الماء ويتيمم؛ لأنه واجد ماء فلم يتحقق شرط التيمم؛ فإذا استعمله وفقد الماء تيمم لما لم يجد. واختلف قول الشافعي أيضا فيما إذا نسي الماء في رحله فتيمم؛ والصحيح أنه يعيد؛ لأنه إذا كان الماء عنده فهو واجد وإنما فرط. والقول الآخر لا يعيد؛ وهو قول مالك؛ لأنه إذا لم يعلمه فلم يجده.
الحادية والثلاثون: وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فقال: هذا نفي في نكرة، وهو يعم لغة؛ فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير؛ لانطلاق اسم الماء عليه. قلنا: النفي في النكرة يعم كما قلتم، ولكن في الجنس، فهو عام في كل ماء كان من سماء أو نهر أو عين عذب أو ملح. فأما غير الجنس وهو المتغير فلا يدخل فيه؛ كما لا يدخل فيه ماء الباقلاء ولا ماء الورد، وسيأتي حكم المياه في "الفرقان"، إن شاء الله تعالى.
الثانية والثلاثون: وأجمعوا على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء؛ وقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} يرده. والحديث الذي فيه ذكر الوضوء بالنبيذ رواه ابن مسعود، وليس بثابت؛ لأن الذي رواه أبو زيد، وهو مجهول لا يعرف بصحبة عبدالله؛ قاله ابن المنذر وغيره. وسيأتي في "الفرقان "بيانه إن شاء الله تعالى.
الثالثة والثلاثون: الماء الذي يبيح عدمه التيمم هو الطاهر المطهر الباقي على أوصاف خلقته. وقال بعض من ألف في أحكام القرآن لما قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}

فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء؛ لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه؛ سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه. ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء؛ فلما كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده.
وهذا مذهب الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه؛ واستدلوا على ذلك بأخبار ضعيفة يأتي ذكرها في سورة "الفرقان"، وهناك يأتي القول في الماء إن شاء الله تعالى.
الرابعة والثلاثون: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا} التيمم مما خصت به هذه الأمة توسعة عليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا" وذكر الحديث، وقد تقدم ذكر نزوله، وذلك بسبب القلادة حسبما بيناه. وقد تقدم ذكر الأسباب التي تبيحه، والكلام ههنا في معناه لغة وشرعا، وفي صفته وكيفيته وما يتيمم به وله، ومن يجوز له التيمم، وشروط التيمم إلى غير ذلك من أحكامه.
فالتيمم لغة هو القصد. تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصعيد تعمدته، وتيممته برمحي وسهمي أي قصدته دون من سواه. وأنشد الخليل:
يممته الرمح شزرا ثم قلت له ... هذي البسالة لا لعب الزحاليق
قال الخليل: من قال في هذا البيت أممته فقد أخطأ؛ لأنه قال: "شزرا "ولا يكون الشزر إلا من ناحية ولم يقصد به أمامه. وقال امرؤ القيس:
تيممتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال

وقال أيضا:
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
آخر:
إني كذاك إذا ما ساءني بلد ... يممت بعيري غيره بلدا
وقال أعشى باهلة:
تيممت قيسا وكم دونه ... من الأرض من مهمة ذي شزن
وقال حميد بن ثور:
سل الربع أنى يممت أم طارق ... وهل عادة للربع أن يتكلما
وللشافعي رضي الله عنه :
علمي معي حيثما يممت أحمله ... بطني وعاء له لا بطن صندوق
قال ابن السكيت: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} أي اقصدوا؛ ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن الأنباري في قولهم: "قد تيمم الرجل "معناه قد مسح التراب على وجهه ويديه. قلت: وهذا هو التيمم الشرعي، إذا كان المقصود به القربة. ويممت المريض فتيمم للصلاة. ورجل ميمم يظفر بكل ما يطلب؛ عن الشيباني. وأنشد:
إنا وجدنا أعصر بن سعد ... ميمم البيت رفيع المجد
وقال آخر:
أزهر لم يولد بنجم الشح ... ميمم البيت كريم السنح

الخامسة والثلاثون: لفظ التيمم ذكره الله تعالى في كتابه في "البقرة "وفي هذه السورة و"المائدة "والتي في هذه السورة هي آية التيمم. والله أعلم. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد؛ هما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في "النساء" والأخرى في "المائدة". فلا نعلم أية آية عنت عائشة بقولها: "فأنزل الله آية التيمم". ثم قال: وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم.
قلت: أما قوله: "فلا نعلم أية آية عنت عائشة "فهي هذه الآية على ما ذكرنا. والله أعلم. وقوله: "وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم "في صحيح ولا خلاف فيه بين أهل السير؛ لأنه معلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ افترضت عليه الصلاة بمكة لم يصل إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم. فدل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل. وفي قوله: "فنزلت آية التيمم "ولم يقل آية الوضوء ما يبين أن الذي طرأ لهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء؛ وهذا بين لا إشكال فيه.
السادسة والثلاثون: التيمم يلزم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء ودخل، وقت الصلاة. وقال أبو حنيفة وصاحباه والمزني صاحب الشافعي: يجوز قبله؛ لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة؛ فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضا للفريضة. واستدلوا من السنة بقوله عليه السلام لأبي ذر: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج" . فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمى الماء؛ فحكمه إذا حكم الماء. والله أعلم. ودليلنا قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد. وقد تقدم هذا المعنى؛ ولأنها طهارة ضرورة كالمستحاضة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأينما أدركتك الصلاة تيممت وصليت". وهو قول الشافعي وأحمد، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس.

السابعة والثلاثون: وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء عاد جنبا كما كان أو محدثا؛ لقوله عليه السلام لأبي ذر: "إذا وجدت الماء فأمسه جلدك" إلا شيء روي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، رواه ابن جريج وعبدالحميد بن جبير بن شيبة عنه؛ ورواه ابن أبي ذئب عن عبدالرحمن بن حرملة عنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء وهو على طهارته: لا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث. وقد روي عنه فيمن تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد تلك الصلاة. قال ابن عبدالبر: وهذا تناقض وقلة روية. ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة.
الثامنة والثلاثون: وأجمعوا على أن من تيمم على ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه؛ وعليه استعمال الماء. والجمهور على أن من تيمم وصلى وفرغ من صلاته، وقد كان اجتهد في طلبه الماء ولم يكن في رحله أن صلاته تامة؛ لأنه أدى فرضه كما أمر. فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة. ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ واغتسل. وروي عن طاوس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة كلهم يقول: يعيد الصلاة. واستحب الأوزاعي ذلك وقال: ليس بواجب؛ لما رواه أبو سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وقال للذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين" . أخرجه أبو داود وقال: وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبي سعيد في هذا الإسناد ليس بمحفوظ. وأخرجه الدارقطني وقال فيه: ثم وجد الماء بعد [في] الوقت.

التاسعة والثلاثون: واختلف العلماء إذا وجد الماء بعد دخوله في الصلاة؛ فقال مالك: ليس عليه قطع الصلاة واستعمال الماء وليتم صلاته وليتوضأ لما يستقبل؛ وبهذا قال الشافعي واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة وجماعة منهم أحمد بن حنبل والمزني: يقطع ويتوضأ ويستأنف الصلاة لوجود الماء. وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة فكذلك يبطل ما بقي منها، وإذا بطل بعضها بطل كلها؛ لإجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض. قالوا: والذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة كذلك قياسا ونظرا. ودليلنا قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}. وقد اتفق الجميع على جواز الدخول في. الصلاة بالتيمم عند عدم الماء، واختلفوا في قطعها إذا رئي الماء؛ ولم تثبت سنة بقطعها ولا إجماع. ومن حجتهم أيضا أن من وجب عليه الصوم في ظهار أو قتل فصام منه أكثره ثم وجد رقبة لا يلغي صومه ولا يعود إلى الرقبة. وكذلك من دخل في الصلاة بالتيمم لا يقطعها ولا يعود إلى الوضوء بالماء.
الموفية أربعين: واختلفوا هل يصلى به صلوات أم يلزم التيمم لكل صلاة فرض ونفل؛ فقال شريك بن عبدالله القاضي: يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة. وقال مالك: لكل فريضة؛ لأن عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم. وقال أبو حنيفة والثوري والليث والحسن بن حي وداود: يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث؛ لأنه طاهر ما لم يجد الماء؛ وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه. وما قلناه أصح؛ لأن الله عز وجل أوجب على كل قائم إلى الصلاة طلب الماء، وأوجب عند عدمه التيمم لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت، فهي طهارة ضرورة ناقصة بدليل إجماع المسلمين على بطلانها بوجود الماء وإن لم يحدث؛ وليس كذلك الطهارة بالماء. وقد ينبني هذا الخلاف أيضا في جواز التيمم قبل دخول الوقت؛ فالشافعي وأهل المقالة الأولى لا يجوزونه؛ لأنه لما قال الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ظهر منه تعلق أجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت. وعلى هذا لا يصلى فرضين بتيمم واحد، وهذا بين. واختلف علماؤنا فيمن صلى صلاتي فرض

بتيمم واحد؛ فروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم: يعيد الثانية ما دام في الوقت. وروى أبو زيد بن أبي الغمر عنه: يعيد أبدا. وكذلك روي عن مطرف وابن الماجشون يعيد الثانية أبدا. وهذا الذي يناظر عليه أصحابنا؛ لأن طلب الماء شرط. وذكر ابن عبدوس أن ابن نافع روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة. وقال أبو الفرج فيمن ذكر صلوات: إن قضاهن بتيمم واحد فلا شيء عليه وذلك جائز له. وهذا على أن طلب الماء ليس بشرط. والأول أصح. والله أعلم.
الحادية والأربعون: قوله تعالى: {صَعِيداً طَيِّباً} الصعيد: وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن؛ قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج. قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة، قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا. وقال تعالى {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} . ومنه قول ذي الرمة:
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم
وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض. وجمع الصعيد صعدات؛ ومنه الحديث "إياكم والجلوس في الصعدات ". واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب؛ فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري والطبري. و"طيبا "معناه طاهرا. وقالت فرقة: "طيبا "حلالا؛ وهذا قلق. وقال الشافعي وأبو يوسف: الصعيد التراب المنبت وهو الطيب؛ قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} فلا يجوز التيمم عندهم على غيره. وقال الشافعي: لا يقع الصعيد إلا على تراب ذي غبار. وذكر عبدالرزاق عن ابن عباس أنه سئل أي الصعيد أطيب ؟ فقال: الحرث. قال أبو عمر: وفي قول ابن عباس هذا ما يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث. وقال علي رضي الله عنه: هو التراب

خاصة. وفي كتاب الخليل: تيمم بالصعيد، أي خذ من غباره؛ حكاه ابن فارس. وهو يقتضي التيمم بالتراب فإن الحجر الصلد لا غبار عليه. وقال الكيا الطبري: واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء. قال الكيا: ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصا فيما قال الشافعي، إلا أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا " بين ذلك.
قلت: فاستدل أصحاب هذه المقالة بقوله عليه السلام: "وجعلت تربتها لنا طهورا " وقالوا: هذا من باب المطلق والمقيد وليس كذلك، وإنما هو من باب النص على بعض أشخاص العموم، كما قال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وقد ذكرناه في "البقرة" عند قوله: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} . وقد حكى أهل اللغة أن الصعيد اسم لوجه الأرض كما ذكرنا، وهو نص القرآن كما بينا، وليس بعد بيان الله بيان. وقال صلى الله عليه وسلم للجنب: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك " وسيأتي. في "صعيدا "على هذا ظرف مكان. ومن جعله للتراب فهو مفعول به بتقدير حذف الباء أي بصعيد. و"طيبا "نعت له. ومن جعل "طيبا "بمعنى حلالا نصبه على الحال أو المصدر.
الثانية والأربعون: وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع مما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والزمرد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن؛ فأجيز وهو مذهب مالك وغيره. ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره. وقال ابن خويز منداد: ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، واختلف عنه في التيمم على الثلج ففي المدونة والمبسوط جوازه؛ وفي غيرهما منعه. واختلف المذهب في التيمم على العود؛ فالجمهور على المنع. وفي مختصر الوقار أنه جائز.

وقيل: بالفرق بين أن يكون منفصلا أو متصلا فأجيز على المتصل ومنع في المنفصل. وذكر الثعلبي أن مالكا قال: لو ضرب بيده على شجرة ثم مسح بها أجزأه. قال: وقال الأوزاعي والثوري: يجوز بالأرض وكل ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها، حتى قالا: لو ضرب بيده عاف الجمد والثلج أجزأه. قال ابن عطية: وأما التراب المنقول من طين أو غيره فجمهور المذهب على جواز التيمم به، وفي المذهب المنع وهو في غير المذهب أكثر، وأما ما طبخ كالجص والآجر ففيه في المذهب قولان: الإجازة والمنع؛ وفي التيمم على الجدار خلاف.
قلت: والصحيح الجواز لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. أخرجه البخاري. وهو دليل على صحة التيمم بغبر التراب كما يقول مالك ومن وافقه. ويرد على الشافعي ومن تابعه في أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار يعلق باليد. وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران. قال ابن عطية: وهذا خطأ بحت من جهات. قال أبو عمر: وجماعة العلماء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق بن راهويه. وروي عن ابن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين قال: يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده، فإذا جف تيمم به. وقال الثوري وأحمد: يجوز التيمم بغبار اللبد. قال الثعلبي: وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزرنيخ والنورة والجص والجوهر المسحوق. قال: فإذا تيمم بسحالة الذهب والفضة والصفر والنحاس والرصاص لم يجزه؛ لأنه ليس من جنس الأرض.
الثالثة والأربعون: قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} المسح لفظ مشترك يكون بمعنى الجماع، يقال: مسح الرجل المرأة إذا جامعها. والمسح: مسح الشيء بالسيف

وقطعه به. ومسحت الإبل يومها إذا سارت. والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا إست لها. وبفلان مسحة من جمال. والمراد هنا بالمسح عبارة عن جر اليد على الممسوح خاصة، فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة إلى اليد وجرها على الممسوح، وهو مقتضى قوله تعالى في آية المائدة: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}. فقوله "منه "يدل على أنه لا بد من نقل التراب إلى محل التيمم. وهو مذهب الشافعي ولا نشترطه نحن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع يديه على الأرض ورفعهما نفخ فيهما؛ وفي رواية: نفض. وذلك يدل على عدم اشتراط الآلة؛ يوضحه تيممه على الجدار. قال الشافعي: لما لم يكن بد في مسح الرأس بالماء من بلل ينقل إلى الرأس، فكذلك المسح بالتراب لا بد من النقل. ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء الاستيعاب وتتبع مواضعه؛ وأجاز بعضهم ألا يتتبع كالغضون في الخفين وما بين الأصابع في الرأس، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة؛ حكاه ابن عطية. وقال الله عز وجل: {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} فبدأ بالوجه قبل اليدين وبه قال الجمهور. ووقع في البخاري من حديث عمار في "باب التيمم ضربة "ذكر اليدين قبل الوجه. وقال بعض أهل العلم قياسا على تنكيس الوضوء.
الرابعة والأربعون: واختلف العلماء أين يبلغ بالتيمم في اليدين؛ فقال ابن شهاب: إلى المناكب. وروي عن أبي بكر الصديق. وفي مصنف أبي داود عن الأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح إلى أنصاف ذراعيه. قال ابن عطية: ولم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت. وقيل: يبلغ به إلى المرفقين قياسا على الوضوء. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث كلهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا. وبه قال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم وابن نافع، وإليه ذهب إسماعيل القاضي. قال ابن نافع: من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدا وقال مالك في المدونة: يعيد في الوقت. وروى التيمم إلى المرفقين عن النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن عبدالله وابن عمر

وبه كان يقول. قال الدارقطني: سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال: كان ابن عمر يقول إلى المرفقين. وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان إلى المرفقين. قال: وحدثني محدث عن الشعبي عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إلى المرفقين " . قال أبو إسحاق: فذكرته لأحمد بن حنبل فعجب منه وقال ما أحسنه !. وقالت طائفة: يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان. روي عن علي بن أبي طالب والأوزاعي وعطاء والشعبي في رواية، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي والطبري. وروي عن مالك وهو قول الشافعي في القديم. وقال مكحول: اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم فقال الزهري: المسح إلى الآباط. فقلت: عمن أخذت هذا ؟ فقال: عن كتاب الله عز وجل، إن الله تعالى يقول: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} فهي يد كلها. قلت له: فإن الله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فمن أين تقطع اليد ؟ قال: فخصمته. وحكي عن الدراوردي أن الكوعين فرض والآباط فضيلة. قال ابن عطية: هذا قول لا يعضده قياس ولا دليل، وإنما عمم قوم لفظ اليد فأوجبوه من المنكب: وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق وههنا جمهور الأمة، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين، وقيس أيضا على القطع إذ هو حكم شرعي وتطهير كما هذا تطهير، ووقف قوم مع حديث عمار في الكفين. وهو قول الشعبي.
الخامسة والأربعون: واختلف العلماء أيضا هل يكفي في التيمم ضربة واحدة أم لا ؟ فذهب مالك في المدونة أن التيمم بضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين؛ وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم، والثوري والليث وابن أبي سلمة. ورواه جابر بن عبدالله وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي الجهم: التيمم بضربة واحدة. وروي عن الأوزاعي في الأشهر عنه؛ وهو قول عطاء والشعبي في رواية. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري. وهو أثبت ما روي في ذلك من حديث عمار. قال مالك في كتاب محمد: إن تيمم بضربة واحدة أجزأه. وقال ابن نافع: يعيد أبدا. قال أبو عمر وقال ابن

أبي ليلى والحسن بن حي: ضربتان؛ يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه. ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما. قال أبو عمر: لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب، وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه، ولليدين أخرى إلى المرفقين، قياسا على الوضوء واتباعا لفعل ابن عمر؛ فإنه من لا يدفع علمه بكتاب الله. ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء وجب الوقوف عنده. وبالله التوفيق.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب.
44- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}
45- {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً}
46- {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً}
47- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}
48- {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}
49- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}

50- {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً}
51- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}
52- {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}
53- {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} الآية.
نزلت في يهود المدينة وما والاها. قال ابن إسحاق: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك؛ ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله {قَلِيلاً}. ومعنى {يَشْتَرُونَ} يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى؛ كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} قاله القتبي وغيره. {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} عطف عليه، والمعنى تضلوا طريق الحق. وقرأ الحسن: "تضلوا "بفتح الضاد أي عن السبيل.
قوله تعالى: {والله أعلم بأعدائكم} يريد منكم؛ فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم. ويجوز أن يكون "أعلم " بمعنى عليم؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي هين. {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً} الباء زائدة؛ زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم. و"وليا "و "نصيرا" نصب على البيان، وإن شئت على الحال.
قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} قال الزجاج: إن جعلت "من "متعلقة بما قبل فلا يوقف على قول "نصيرا"، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على "نصيرا "والتقدير

من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم؛ ثم حذف. وهذا مذهب سيبويه، وأنشد النحويون:
لو قلت ما في قومها لم تيثم ... يفضلها في حسب ومبسم
قالوا: المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها؛ ثم حذف. وقال الفراء: المحذوف "من" المعنى: من الذين هادوا من يحرفون. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أي من له. وقال ذو الرمة:
فظلوا ومنهم دمعه سابق له ... وآخر يذري عبرة العين بالهمل
يريد ومنهم من دمعه، فحذف الموصول. وأنكره المبرد والزجاج؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة. {يُحَرِّفُونَ} يتأولونه على غير تأويله. وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين. وقيل: {عَنْ مَوَاضِعِهِ} يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم. {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا قولك وعصينا أمرك. {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} قال ابن عباس: كانوا يقولون النبي صلى الله عليه وسلم: اسمع لا سمعت، هذا مرادهم - لعنهم الله - وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى. وقال الحسن ومجاهد. معناه غير مسمع منك، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول. قال النحاس: ولو كان كذلك لكان غير مسموع منك. وتقدم القول في {وَرَاعِنَا} . ومعنى {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي يلوون ألسنتهم عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم. وأصل اللي الفتل، وهو نصب على المصدر، وإن شئت كان مفعولا من أجله. وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء. "وطعنا" معطوف عليه أي يطعنون في الدين، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول. ومعنى {وَأَقْوَمَ} أصوب لهم

في الرأي. {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} أي إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان. وقيل: معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم؛ وهذا بعيد لأنه عز وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} قال ابن إسحاق: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبدالله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم: "يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق " قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر؛ فأنزل الله عز وجل فيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} إلى آخر الآية.
قوله تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} نصب على الحال. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} الطمس استئصال أثر الشيء؛ ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} . ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان. ويقال في الكلام: طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس؛ يقال: طمس الأثر وطسم أي أمحى، كله لغات؛ ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} أي أهلكها؛ عن ابن عرفة. ويقال: طمسته فطمس لازم ومتعد. وطمس الله بصره، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين؛ ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} يقول أعميناهم.
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين. أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ قولان. روي عن أبي بن كعب أنه قال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ} من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده. يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة. وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء. أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب؛ هذا معناه عند أهل اللغة. وروي عن ابن عباس وعطية العوفي: أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا؛ فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى. وقال مالك

رحمه الله: كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا} فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي. وكذلك فعل عبدالله بن سلام، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي. فإن قيل: كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؛ فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرد: الوعيد باق منتظر. وقال: لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة.
قوله تعالى: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} أي أصحاب الوجوه {كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} أي نمسخهم قردة وخنازير؛ عن الحسن وقتادة. وقيل: هو خروج من الخطاب إلى الغيبة {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أي كائنا موجودا. ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول؛ فالمعنى أنه متى أراده أوجده. وقيل: معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فقال له رجل: يا رسول الله والشرك ! فنزل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة. {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه. فقال محمد بن جرير الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى. وقال بعضهم: قد بين الله تعالى ذلك بقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر "الفرقان". قال زيد بن ثابت: نزلت سورة "النساء "بعد "الفرقان "بستة أشهر، والصحيح أن لا نسخ؛ لأن النسخ في الأخبار

يستحيل. وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي "الفرقان "إن شاء الله تعالى. وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} قال: هذا حديث حسن غريب.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود. واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم؛ فقال قتادة والحسن: ذلك قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، وقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} وقال الضحاك والسدي: قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب. وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة: تقديمهم الصغار للصلاة؛ لأنهم لا ذنوب عليهم. وهذا يبعد من مقصد الآية. وقال ابن عباس: ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا. وقال عبدالله بن مسعود: ذلك ثناء بعضهم على بعض. وهذا أحسن ما قيل؛ فإنه الظاهر من معنى الآية، والتزكية: التطهير والتبرية من الذنوب.
هذه الآية وقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له. وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " فقالوا: بم نسميها ؟ فقال: "سموها زينب " . فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية؛ كزكي الدين ومحي الدين وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا .

الثالثة: فأما تزكية الغير ومدحه له؛ ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا " فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "ويحك قطعت عنق صاحبك " . وفي الحديث الآخر "قطعتم ظهر الرجل " حين وصفوه بما ليس فيه. وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: "احثوا التراب في وجوه المداحين " إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النيات "والله يعلم المفسد من المصلح". وقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب، ولا أمر بذلك. كقول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكمدح العباس وحسان له في شعرهما، ومدحه كعب بن زهير، ومدح هو أيضا أصحابه فقال: "إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع " . وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا: عبدالله ورسوله " فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا. وهذا يقتضي أن من رفع أمرا فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم؛ لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الضمير في "يظلمون" عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل. وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية. والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة؛ قال ابن عباس وعطاء ومجاهد. وقيل: القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة. وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي: هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما؛ فهو فعيل بمعنى مفعول. وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه شيئا. ومثل هذا في التحقير قوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} وهو النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة، وسيأتي. قال الشاعر يذم بعض الملوك:
تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو ... ثم لا ترزأ العدو فتيلا
ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقيل: تزكيتهم لأنفسهم؛ عن ابن جريج. وروي أنهم قالوا: ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد. والافتراء الاختلاق؛ ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه. وفريت الشيء قطعته. {وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} نصب على البيان. والمعنى تعظيم الذنب وذمه. العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} يعني اليهود {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية: الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن. وقال الفاروق عمر رضي الله عنه: الجبت السحر والطاغوت الشيطان. ابن مسعود: الجبت والطاغوت ههنا كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب. عكرمة: الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف؛ دليله قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} . قتادة: الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن. وروى ابن وهب عن مالك بن أنس: الطاغوت ما عبد من دون الله. قال: وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان؛ ذكره النحاس. وقيل: هما كل

معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله؛ وهذا حسن. وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت التاء من السين؛ قاله قطرب. وقيل: الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه. وقول مالك في هذا الباب حسن؛ يدل عليه قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} . وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطرق والطيرة والعيافة من الجبت " . الطرق الزجر، والعيافة الخط؛ خرجه أبو داود في سننه. وقيل: الجبت كل ما حرم الله، الطاغوت كل ما يطغي الإنسان. والله أعلم.
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد. وذلك أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد؛ فقال أبو سفيان: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق. نحن أم محمد ؟ فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد.
قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ} أي ألهم ؟ والميم صلة. "نصيب" حظ "من الملك" وهذا على وجه الإنكار؛ يعني ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم. وقيل: المعنى بل ألهم نصيب؛ فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني. وقيل: هي عاطفة على محذوف؛ لأنهم أنفوا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. والتقدير: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ؟. {فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} أي يمنعون الحقوق. خبر الله عز وجل عنهم بما يعلمه منهم. والنقير: النكتة في ظهر النواة؛ عن ابن عباس وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس أيضا:

النقير: ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض. وقال أبو العالية: سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال: هذا النقير. والنقير: أصل خشبة ينقر وينبذ فيه؛ وفيه جاء النهي ثم نسخ. وفلان كريم النقير أي الأصل. و"إذا "هنا ملغاه غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز. قال سيبويه: "إذا "في عوامل الأفعال بمنزلة "أظن "في عوامل الأسماء، أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت؛ كقولك: أنا أزورك فيقول مجيبا لك: إذا أكرمك. قال عبدالله بن عنتمة الضبي:
اردد حمارك لا يرتع بروضتنا ... إذن يرد وقيد العير مكروب
نصب لأن الذي قبل "إذن "تام فوقعت ابتداء كلام. فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك. زيد إذا يزورك ألغيت؛ فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجور فيها الإعمال والإلغاء؛ أما الأعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا. وفي التنزيل {وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ} وفي مصحف أبي "وإذا لا يلبثوا". وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعه كلام يعطف عليه، والناصب للفعل عند سيبويه "إذا" لمضارعتها "أن"، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا. وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذاً بالألف؛ إنها مثل لن وإن، ولا يدخل التنوين في الحروف.
54- {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}
55- {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً}

فيه أربع مسائل:
الأولى:قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ} يعني اليهود. {النَّاسَ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. حسدوه على النبوة وأصحابه على الإيمان به. وقال قتادة: "الناس "العرب، حسدتهم اليهود على النبوة. الضحاك: حسدت اليهود قريشا؛ لأن النبوة فيهم. والحسد مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؛ رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد؛ نفس دائم، وحزن لازم، وعبرة لا تنفد. وقال عبدالله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله. قيل له: ومن يعادي نعم الله ؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول الله تعالى في بعض الكتب: الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي. ولمنصور الفقيه:
ألا قل لمن ظل لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه ... إذا أنت لم ترض لي ما وهب
ويقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض؛ فأما في السماء فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل. ولأبي العتاهية في الناس:
فيا رب إن الناس لا ينصفونني ... فكيف ولو أنصفتهم ظلموني
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه ... وإن شئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم ... وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن طرقتني نكبة فكهوا بها ... وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع قلبي أن يحن إليهمو ... وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وقيل: إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك. ولرجل من قريش:
حسدوا النعمة لما ظهرت ... رموها بأباطيل الكلم
فوإذا ما الله أسدى نعمة ... لم يضرها قول أعداء النعم

ولقد أحسن من قال:
أصبر على حسد الحسو ... د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله
وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} . إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الإنس قابيل؛ وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر، وقابيل كان أول من سن القتل، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد. وقال الشاعر:
إن الغراب وكان يمشي مشية ... فيما مضى من سالف الأحوال
حسد القطاة فرام يمشي مشيها ... فأصابه ضرب من التعقال
الثانية:قوله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا} ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما. قال همام بن الحارث: أيدوا بالملائكة. وقيل: يعني ملك سليمان؛ عن ابن عباس. وعنه أيضا: المعنى أم يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك. واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء. والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم: لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك؛ فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم، فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألف امرأة ؟ قالوا: نعم ثلاثمائة مهرية، وسبعمائة سرية، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة " ؟ فسكتوا. وكان له يومئذ تسع نسوة.
الثالثة: يقال: إن سليمان عليه السلام كان أكثر الأنبياء نساء. والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان له قوة أربعين نبيا، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا. ويقال: إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة؛ لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم؛

فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه. ويقال: إن كل من كان أتقى فشهوته أشد؛ لأن الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس، ألا ترى ما روى في الخبر: "العينان تزنيان واليدان تزنيان ". فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع، والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا. وقال أبو بكر الوراق: كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب؛ ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك.
الرابعة: قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} يعني بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم ذكره وهو المحسود. "ومنهم من صد عنه" أعرض فلم يؤمن به. وقيل: الضمير في "به "راجع إلى إبراهيم. والمعنى: فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من صد عنه. وقيل: يرجع إلى الكتاب. والله أعلم.
56 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً}
57– {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً}
قد تقدم معنى الإصلاء أول السورة. وقرأ حميد بن قيس "نصليهم "بفتح النون أي نشويهم. يقال: شاة مصلية. ونصب "نارا "على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار. {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} يقال: نضج الشيء نضجا ونضجا، وفلان نضيج الرأي محكمه. والمعنى في الآية: تبدل الجلود جلودا أخر. فإن قال من يطعن في القرآن من الزنادقة: كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه ؟ قيل له: ليس الجلد بمعذب ولا معاقب،

وإنما الألم واقع على النفوس؛ لأنها هي التي تحس وتعرف فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس. يدل عليه قوله تعالى: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} وقوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} . فالمقصود تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح. ولو أراد الجلود لقال: ليذقن العذاب. مقاتل: تأكله النار كل يوم سبع مرات. الحسن: سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا فعادوا كما كانوا. ابن عمر: إذا احترقوا بدلت لهم جلود بيض كالقراطيس. وقيل: عنى بالجلود السرابيل؛ كما قال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} سميت جلودا للزومها جلودهم على المجاورة؛ كما يقال للشيء الخاص بالإنسان: هو جلدة ما بين عينيه. وأنشد ابن عمر رضي الله عنه:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
فكلما احترقت السرابيل أعيدت. قال الشاعر:
كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها ... فويل لتيم من سرابيلها الخضر
فكنى عن الجلود بالسرابيل. وقيل: المعنى أعدنا الجلد الأول جديدا؛ كما تقول للصائغ: صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره؛ فيكسره ويصوغ لك منه خاتما. فالخاتم المصوغ هو الأول إلا أن الصياغة تغيرت والفضة واحدة. وهذا كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى. وكعهدك بأخ لك صحيح ثم تراه بعد ذلك سقيما مدنفا فتقول له: كيف أنت ؟ فيقول: أنا غير الذي عهدت. فهو هو، ولكن حاله تغيرت. فقول القائل: أنا غير الذي عهدت، وقوله تعالى: {غَيْرَهَا} مجاز. ونظيره قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} وهي تلك الأرض بعينها إلا أنها تغير آكامها وجبالها وأنهارها وأشجارها، ويزاد في سعتها ويسوى ذلك منها؛ على ما يأتي بيانه في سورة "إبراهيم "عليه السلام. ومن هذا المعنى قول الشاعر:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت أعرف

وقال الشعبي: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألا ترى ما صنعت عائشة. ذمت دهرها، وأنشدت بيتي لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتلذذون مجانة ومذلة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
فقالت: رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك زماننا هذا ! فقال ابن عباس: لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت "عاد" دهرها؛ لأنه وجد في خزانة "عاد" بعدما هلكوا بزمن طويل كأطول ما يكون من رماح ذلك الزمن عليه مكتوب:
بلاد بها كنا ونحن بأهلها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد
البلاد باقية كما هي إلا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت. {ِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً } أي لا يعجزه شيء ولا يفوته. {حَكِيماً} في إيعاده عباده. وقوله في صفة أهل الجنة: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلا} يعني كثيفا لا شمس فيه. الحسن: وصف بأنه ظليل؛ لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك. وقال الضحاك: يعني ظلال الأشجار وظلال قصورها الكلبي: {ظِلاًّ ظَلِيلاً} يعني دائما.
58- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع. وقد اختلف من المخاطب بها؛ فقال علي بن أبى طالب

وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب وابن زيد: هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة، فهي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه، ثم تتناول من بعدهم. وقال ابن جريج وغيره: ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري من بني عبدالدار ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وكانا كافرين وقت فتح مكة، فطلبه العباس بن عبدالمطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم ونزل عليه جبريل بهذه الآية. قال عمر بن الخطاب: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه، فدعا عثمان وشيبة فقال: "خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم " . وحكى مكي: أن شيبة أراد ألا يدفع المفتاح، ثم دفعه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: خذه بأمانة الله. وقال ابن عباس: الآية في الولاة خاصة في أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ويردوهن إلى الأزواج. والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات. وهذا اختيار الطبري. وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه؛ والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها " أو قال: "كل شيء إلا الأمانة - والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع " . ذكره أبو نعيم الحافظ في الحلية. وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب قالوا: الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة.
قلت: وهذا إجماع. وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار؛ قاله ابن المنذر. والأمانة مصدر بمعنى المفعول فلذلك جمع. ووجه النظم بما

تقدم أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقولهم: إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات؛ فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا. وأمهاتها في الأحكام: الوديعة واللقطة والرهن والعارية. وروى أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " . أخرجه الدارقطني. ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في "البقرة "معناه. وروى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: "العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم " . صحيح أخرجه الترمذي وغيره. وزاد الدارقطني: فقال رجل: فعهد الله ؟ قال: "عهد الله أحق ما أدي " . وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد الوديعة وأنها مضمونة على كل حال كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب تعدي فيها أو لم يتعد - عطاء والشافعي وأحمد وأشهب. وروي أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما ضمنا الوديعة. وروى ابن القاسم عن مالك أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب عليه فتلف عنده فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي. وهذا قول الحسن البصري والنخعي، وهو قول الكوفيين والأوزاعي قالوا: ومعنى قول عليه السلام: "العارية مؤداة" هو كمعنى قوله تعالى: {ِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } . فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها لأنه مصدق فكذلك العارية إذا تلفت من غير تعد؛ لأنه لم يأخذها على الضمان، فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها لجنايته عليها. وروي عن علي وعمر وابن مسعود أنه لا ضمان في العارية. وروى الدارقطني عن، عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضمان على مؤتمن " . واحتج الشافعي فيما استدل به بقول صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم لما استعار منه الأدراع: أعارية مضمونة أو عارية مؤداة ؟ فقال: "بل عارية مؤداة " .

قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} قال الضحاك: بالبينة على المدعي واليمين على من أنكر. وهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام، ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق كما ذكرنا في أداء الأمانات. قال صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " . وقال: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " . فجعل في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة: وحكاما على مراتبهم، وكذلك العالم الحاكم؛ لأنه إذا أفتى حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام، والفرض والندب، والصحة والفساد، فجميع ذلك أمانة تؤدى وحكم يرضى. وقد تقدم في "البقرة" القول في "نعما".
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} وصف الله تعالى نفسه بأنه سميع بصير يسمع ويرى؛ كما قال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} فهذا طريق السمع. والعقل يدل على ذلك؛ فإن انتفاء السمع والبصر يدل على نقيضهما من العمى والصمم، إذ المحل القابل للضدين لا يخلو من أحدهما، وهو تعالى مقدس عن النقائص ويستحيل صدور الأفعال الكاملة من المتصف، بالنقائص؛ كخلق السمع والبصر ممن ليس له سمع ولا بصر. وأجمعت الأمة على تنزيهه تعالى عن النقائص وهو أيضا دليل سمعي يكتفى به مع نص القرآن في مناظرة من تجمعهم كلمة الإسلام. جل الرب تبارك وتعالى عما يتوهمه المتوهمون ويختلقه المفترون الكاذبون {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}
59- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}

فيه ثلاث مسائل:
الأولى: لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته جل وعز أولا، وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا؛ على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. قال سهل بن عبدالله التستري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد. قال سهل: وإذا نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميرا جائرا. وقال ابن خويز منداد: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان له فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية؛ ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قولهم، وتولية الإمامة والحسبة؛ وإقامة ذلك على وجه الشريعة. وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فيصلي معهم تقية وتعاد الصلاة .
قلت: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة؛ فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه؛ لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته. وقال جابر بن عبدالله ومجاهد: {أُولُو الأَمْرِ} أهل القرآن والعلم؛ وهو اختيار مالك رحمه الله، ونحوه قول الضحاك قال: يعني الفقهاء والعلماء في الدين. وحكي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وحكى عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة. وروى سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال: هن حرائر. فقلت بأي شيء ؟ قال بالقرآن. قلت: بأي شيء في القرآن ؟ قال: قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وكان عمر من أولي الأم؛ قال: عتقت ولو بسقط. وسيأتي هذا المعنى مبينا

في سورة "الحشر "عند قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وقال ابن كيسان: هم أولو العقل، الرأي الذين يدبرون أمر الناس.
قلت: وأصح هذه الأقوال الأول والثاني؛ أما الأول فلأن أصل الأم منهم والحكم إليهم. وروى الصحيحان عن ابن عباس قال: نزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في عبدالله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية. قال أبو عمر: وكان في عبدالله بن حذافة دعابة معروفة؛ ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا؛ فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي ؟ ! وقال: " من أطاع أميري فقد أطاعني " . فقالوا: ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار ! فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ". وهو حدث صحيح الإسناد مشهور. وروى محمد بن عمرو بن علقمة عن عمر بن الحكم بن ثوبان أن أبا سعيد الخدري قال: كان عبدالله بن حذافة بن قيس، السهمي من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة. وذكر الزبير قال: حدثني عبدالجبار بن سعيد عن عبدالله بن وهب عن الليث بن سعد قال: بلغني أنه حل حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع. قال ابن وهب: فقلت لليث ليضحكه ؟ قال: نعم كانت فيه دعابة. قال ميمون بن مهران ومقاتل والكلبي: {أُولُواالأمر} أصحاب السرايا. وأما القول الثاني فيدل على صحته قوله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة؛ ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا، وامتثال فتواهم لازما. قال سهل بن عبدالله رحمه الله: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء؛ فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم

وأخراهم. وأما القول الثالث فخاص، وأخص منه القول الرابع. وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان المعنى صحيحا، فإن العقل لكل فضيلة أس، ولكل أدب ينبوع، وهو الذي جعله الله للدين أصلا وللدنيا عمادا، فأوجب الله التكليف بكمال، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه؛ والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل وروى هذا المعنى عن ابن عباس. وزعم قوم أن المراد بأولي الأمر علي والأئمة المعصومون. ولو كان كذلك ما كان لقوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } معنى، بل كان يقول فردوه إلى الإمام وأولي الأمر، فإن قوله عند هؤلاء هو المحكم على الكتاب والسنة. وهذا قول مهجور مخالف لما عليه الجمهور. وحقيقة الطاعة امتثال الأمر، كما أن المعصية ضدها وهي مخالفة الأمر. والطاعة مأخوذة من أطاع إذا انقاد، والمعصية مأخوذة من عصى إذا اشتد. و"أولو "واحدهم "ذو "على غير قياس كالنساء والإبل والخيل، كل واحد اسم الجمع ولا واحد له من لفظه. وقد قيل في واحد الخيل: خائل وقد تقدم.
الثانية: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أي تجادلتم واختلفتم؛ فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها. والنزع الجذب. والمنازعة مجاذبة الحجج؛ ومنه الحديث "وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن " . وقال الأعشى:
نازعتم قضب الريحان متكئا ... وقهوة مزة راووقها خضل
الخضل النبات الناعم والخضيلة الروضة {فِي شَيْءٍ} أي من أمر دينكم. {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} أي ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة، وهو الصحيح. ومن لم ير هذا أختل إيمانه؛ لقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . وقيل: المعنى قولوا الله ورسوله أعلم؛ فهذا هو الرد. وهذا

كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. والقول الأول أصح؛ لقول علي رضي الله عنه: ما عندنا إلا ما في كتاب الله وما في هذه الصحيفة، أو فهم أعطيه رجل مسلم. ولو كان كما قال هذا القائل لبطل الاجتهاد الذي خص به هذه الأمة والاستنباط الذي أعطيها، ولكن تضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب. قال أبو العالية: وذلك قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} . نعم، ما كان مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فذلك الذي يقال فيه: الله أعلم. وقد استنبط علي رضي الله عنه مدة أقل الحمل - وهو ستة أشهر - من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر؛ ومثله كثير. وفي قوله تعالى: {وَإِلَى الرَّسُولِ} دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها. قال صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " أخرجه مسلم. وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " . وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول: "أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر " . وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معديكرب بمعناه وقال: حديث حسن غريب. والقاطع قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} . وسيأتي.

الثالثة - قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير من التنازع. {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي مرجعا؛ من آل يؤول إلى كذا أي صار. وقيل: من ألت الشيء إذا جمعته وأصلحته. فالتأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ لا إشكال فيه؛ يقال: أول الله عليك أمرك أي جمعه. ويجوز أن يكون المعنى وأحسن من تأويلكم.
60- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}
61- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}
روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة. ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم؛ لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم؛ فلما اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة؛ فأنزل الله تعالى في ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يعني المنافق. {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني اليهودي. {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} إلى قوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال الضحاك: دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهو "الطاغوت" ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال: كان بين رجل من المنافقين يقال له بشر وبين يهودي خصومة؛ فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله "الطاغوت" أي ذو الطغيان فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي.

فلما خرجا قال المنافق: لا أرضى، انطلق بنا إلى أبي بكر؛ فحكم لليهودي فلم يرض ذكره الزجاج وقال: انطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي: إنا صرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر فلم يرض؛ فقال عمر للمنافق: أكذلك هو ؟ قال: نعم. قال: رويدكما حتى أخرج إليكما. فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله؛ وهرب اليهودي، ونزلت الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت الفاروق " . ونزل جبريل وقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل؛ فسمي الفاروق. وفي ذلك نزلت الآيات كلها إلى قوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وانتصب: {ضَلالاً} على المعنى، أي فيضلون ضلالا؛ ومثله قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} . وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. و {صُدُوداً} اسم للمصدر عند الخليل، والمصدر الصد. والكوفيون يقولون: هما مصدران.
62- { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}
63- {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}
أي {فَكَيْفَ} يكون حالهم، أو "فكيف" يصنعون {إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} أي ترك الاستعانة بهم، وما يلحقهم من الذل في قوله: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} . وقيل: يريد قتل صاحبهم {مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} وتم الكلام. ثم ابتدأ يخبر عن فعلهم؛ وذلك أن عمر لما قتل صاحبهم جاء قومه يطلبون ديته ويحلفون ما نريد بطلب ديته إلا الإحسان وموافقة الحق. وقيل: المعنى ما أردنا بالعدول عنك في المحاكمة إلا التوفيق بين الخصوم، والإحسان بالتقريب في الحكم. ابن كيسان: عدلا

وحقا؛ نظيرها {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى} . فقال الله تعالى مكذبا لهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} قال الزجاج: معناه قد علم الله أنهم منافقون. والفائدة لنا: اعلموا أنهم منافقون. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} قيل: عن عقابهم. وقيل: عن قبول اعتذارهم {وَعِظْهُمْ} أي خوفهم. قيل في الملأ. {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} أي ازجرهم بأبلغ الزجر في السر والخلاء. الحسن: قل لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم. وقد بلغ القول بلاغة؛ ورجل بليغ يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه. والعرب تقول: أحمق بلغ وبلغ، أي نهاية في الحماقة. وقيل: معناه يبلغ ما يريد وإن كان أحمق. ويقال: إن قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} نزل في شأن الذين بنوا مسجد الضرار؛ فلما أظهر الله نفاقهم، وأمرهم بهدم المسجد حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم: ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب.
64- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} "من "زائدة للتوكيد. {إِلَّا لِيُطَاعَ} فيما أمر به ونهى عنه. {بِإِذْنِ اللَّهِ} بعلم الله. وقيل: بتوفيق الله. {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} روى أبو صادق عن علي قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه؛ فقال: قلت يا رسول الله فسمعنا قولك، ووعيت عن الله فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية، وقد ظلمت نفسي وجئتك

تستغفر لي. فنودي من القبر أنه قد غفر لك. ومعنى {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} أي قابلا لتوبتهم، وهما مفعولان لا غير.
65- {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}
فيه خمس مسائل:
الأولى:قال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وفيهم نزلت. وقال الطبري: قوله "فلا "رد على ما تقدم ذكره؛ تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} . وقال غيره: إنما قدم "لا "على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا لقوته، ثم كرره بعد القسم تأكيدا للتهمم بالنفي، وكان يصح إسقاط "لا "الثانية ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ويذهب معنى الاهتمام. و"شجر "معناه اختلف واختلط؛ ومنه الشجر لاختلاف أغصانه. ويقال لعصي الهودج: شجار؛ لتداخل بعضها في بعض. قال الشاعر:
نفسي فداؤك والرماح شواجر ... والقوم ضنك للقاء قيام
وقال طرفة:
وهم الحكام أرباب الهدى ... وسعاة الناس في الأمر الشجر
وقالت طائفة: نزلت في الزبير مع الأنصاري، وكانت الخصومة في سقي بستان؛ فقال عليه السلام للزبير: "اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك " . فقال الخصم: أراك تحابي ابن عمتك؛ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير: "اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر " ونزل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} . الحديث ثابت صحيح رواه البخاري

عن علي بن عبدالله عن محمد بن جعفر عن معمر، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الزهري. واختلف أهل هذا القول في الرجل الأنصاري؛ فقال بعضهم: هو رجل من الأنصار من أهل بدر. وقال مكي والنحاس: هو حاطب بن أبي بلتعة. وقال الثعلبي والواحدي والمهدوي: هو حاطب. وقيل: ثعلبة بن حاطب. وقيل غيره: والصحيح القول الأول؛ لأنه غير معين ولا مسمى؛ وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الأنصار. واختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي. كما قال مجاهد؛ ثم تتناول بعمومها قصة الزبير. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ فكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر، لكن الأنصاري زل زله فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه، وأنها كانت فلتة وليست لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة يستتاب. "أما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه وسيأتي بيان هذا في آخر سورة "الأعراف" إن شاء الله تعالى.
الثانية: وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال: "اسق يا زبير " لقربه من الماء "ثم أرسل الماء إلى جارك " . أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك. فحضه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب؛ لأنه كان يربد ألا يمسك الماء أصلا، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال: أن كان ابن عمتك ؟ بمد همزة "أن "المفتوحة على جهة الإنكار؛ أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك ؟. فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له. وعليه لا يقال: كيف حكم في حال غضبه وقد قال: "لا يقضى القاضي وهو غضبان " ؟ فإنا نقول: لأنه معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام، بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام. وفي هذا الحديث

إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر الحق. ومنعه مالك، واختلف فيه قول الشافعي. وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز؛ فإن اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم.
الثالثة: واختلف أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل؛ فقال ابن حبيب: يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط. وهكذا فسره لي مطرف وابن الماجشون. وقاله ابن وهب. وقال ابن القاسم: إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئا في حائطه. قال ابن حبيب: وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك؛ لأن المدينة دارهما وبها كانت القضية وفيها جرى العمل.
الرابعة: روى مالك عن عبدالله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب: "يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل " . قال أبو عمر: "لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه، وأرفع أسانيده ما ذكره محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى. وذكر عبدالرزاق عن أبي حازم القرطبي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يحبس على كل حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل. وغيره من السيول كذلك. وسئل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب فقال: لست أحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت. قال أبو عمر: في هذا المعنى - وإن لم يكن بهذا اللفظ حديث ثابت مجتمع على صحته. رواه ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعا عن ابن شهاب

أن عروة بن الزبير حدثه أن عبدالله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل؛ فقال الأنصاري: سرح الماء؛ فأبى عليه، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم" وذكر الحديث. قال أبو عمر: وقوله في الحديث: "يرسل " وفي الحديث الآخر "إذا بلغ الماء الكعبين لم يحبس الأعلى " يشهد لقول ابن القاسم. ومن جهة النظر أن الأعلى لو لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة، ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع، وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعا فيما قد جعل الناس فيه شركاء؛ فقول ابن القاسم أولى على كل حال. هذا إذا لم يكن أصله ملكا للأسفل مختصا به، فإن ما استحق بعمل أو بملك صحيح أو استحقاق قديم وثبوت ملك فكل على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته. وبالله التوفيق.
الخامسة: قوله تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} أي ضيقا وشكا؛ ومنه قيل للشجر الملتف: حرج وحرجة، وجمعها حراج. وقال الضحاك: أي إثما بإنكارهم ما قضيت. {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} أي ينقادوا لأمرك في القضاء. وقال الزجاج: "تسليما "مصدر مؤكد؛ فإذا قلت: ضربت ضربا فكأنك قلت لا أشك فيه؛ وكذلك "ويسلموا تسليما "أي ويسلموا لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا.
66- {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}
67- {وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً}
68- {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}

سبب نزولها ما روى أن ثابت بن قيس بن شماس تفاخر هو ويهودي؛ فقال اليهودي: والله لقد كتب علينا أن نقتل أنفسنا فقتلنا، وبلغت القتلى سبعين ألفا؛ فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا. وقال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " . قال ابن وهب قال مالك: القائل ذلك هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ وهكذا ذكر مكي أنه أبو بكر. وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وذكر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي. وذكر أبو الليث السمرقندي: أن القائل منهم عمار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس، قالوا: لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي " . و"لو "حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره؛ فأخبر الله سبحانه أنه لم يكتب ذلك علينا رفقا بنا لئلا تظهر معصيتنا. فكم من أمر قصرنا عنه مع خفته فكيف بهذا الأمر مع ثقله ! لكن أما والله لقد ترك المهاجرون مساكنهم خاوية وخرجوا يطلبون بها عيشة راضية. {مَا فَعَلُوهُ} أي القتل والخروج {إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} "قليل "بدل من الواو، والتقدير ما فعله أحد إلا قليل. وأهل الكوفة يقولون: هو على التكرير ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم. وقرأ عبدالله بن عامر وعيسى بن عمر "إلا قليلا "على الاستثناء. وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. الباقون بالرفع، والرفع أجود عند جميع النحويين. وقيل: انتصب على إضمار فعل، تقديره إلا أن يكون قليلا منهم. وإنما صار الرفع أجود لأن اللفظ أولى من المعنى، وهو أيضا يشتمل على المعنى. وكان من القليل أبو بكر وعمر وثابت بن قيس كما ذكرنا. وزاد الحسن ومقاتل وعمار وابن مسعود وقد ذكرناهما. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أي في الدنيا والآخرة. {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} أي على الحق. {وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} أي ثوابا في الآخرة. وقيل: اللام لام الجواب، و"إذا "دالة على الجزاء، والمعنى لو فعلوا ما يوعظون به لآتيناهم.

69- {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}
70- {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً}
فيه ثلاث مسائل:
قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} لما ذكر تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله. وهذه الآية تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهي المراد في قوله عليه السلام عند موته "اللهم الرفيق الأعلى " . وفي البخاري عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة " كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: "مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " فعلمت أنه خير. وقالت طائفة: إنما نزلت هذه الآية لما قال عبدالله بن زيد بن عبدربه الأنصاري - الذي أري الأذان -: يا رسول الله، إذا مت ومتنا كنت في عليين لا نراك ولا نجتمع بك؛ وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية. وذكر مكي عن عبدالله هذا وأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعمني حتى لا أري شيئا بعده؛ فعمي مكانه. وحكاه القشري فقال: اللهم أعمني فلا أرى شيئا بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي؛ فعمي مكانه. وحكى الثعلبي: أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن؛ فقال له: "يا ثوبان ما غير لونك " فقال: يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا؛ فأنزل الله

تعالى هذه الآية. ذكره الواحدي عن الكلبي. وأسند عن مسروق قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا؛ فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} . وفي طاعة الله طاعة رسوله ولكنه ذكره تشريفا لقدره وتنويها باسمه صلى الله عليه وسلم وعلى آله. {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي هم معهم في دار واحدة ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم، لا أنهم يساوونهم في الدرجة؛ فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء. وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول. قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}. والصديق فعيل، المبالغ في الصدق أو في التصديق، والصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقول بلسانه. وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق كأبي بكر الصديق. وقد تقدم في البقرة اشتقاق الصديق ومعنى الشهيد. والمراد هنا بالشهداء عمر وعثمان وعلي، والصالحين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وقيل {الشُّهَدَاءِ} القتلى في سبيل الله. {وَالصَّالِحِينَ} صالحي أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشُّهَدَاءِ
قلت: واللفظ يعم كل صالح وشهيد، والله أعلم. والرفق لين الجانب. وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته؛ ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض. ويجوز "وحسن أولئك رفقاء". قال الأخفش: "رفيقا "منصوب على الحال وهو بمعنى رفقاء؛ وقال: انتصب على التمييز فوحد لذلك؛ فكأن المعنى وحسن كل واحد منهم رفيقا. كما قال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي نخرج كل واحد منكم طفلا. وقال تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} وينظر معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الرفقاء أربعة" ولم يذكر الله تعالى هنا إلا أربعة فتأمله.

الثانية: في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، ثم ثنى بالصديقين ولم يجعل بينهما واسطة. وأجمع المسلمون على تسمية أبى بكر الصديق رضي الله عنه صديقا، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يتقدم بعده أحد. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} أخبر تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة. بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه. خلافا لما قالت المعتزلة: إنما ينال العبد ذلك بفعله. فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله، وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله دل ذلك على بطلان قولهم. والله أعلم.
71- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} هذا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع. ووجه النظم والاتصال بما قبل أنه لما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله، أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته، وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم، ويعلموا كيف يردون عليهم، فذلك أثبت لهم فقال: "خذوا حذركم "فعلمهم مباشرة الحروب. ولا ينافي هذا التوكل بل هو مقام عين التوكل كما تقدم في "آل عمران "ويأتي. والحذر والحذر لغتان كالمثل والمثل. قال القراء: أكثر الكلام الحذر، والحذر مسموع أيضا؛ يقال: خذ حذرك، أي أحذر. وقيل: خذوا السلاح حذرا؛ لأنه به الحذر والحذر لا يدفع القدر. وهي:

الثانية: خلافا للقدرية في قولهم: إن الحذر يدفع ويمنع من مكائد الأعداء، ولو لم يكن كذلك ما كان لأمرهم بالحذر معنى. فيقال لهم: ليس في الآية دليل على أن الحذر ينفع من القدر شيئا؛ ولكنا تعبدنا بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة؛ ومنه الحديث "اعقلها وتوكل " . وإن كان القدر جاريا على ما قضى، ويفعل الله ما يشاء، فالمراد منه طمأنينة النفس، لا أن ذلك ينفع من القدر وكذلك أخذ الحذر. الدليل على ذلك أن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} فلو كان يصيبهم غير ما قضى عليهم لم يكن لهذا الكلام معنى.
الثالثة: قوله تعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} يقال: نفر ينفر "بكسر الفاء " نفيرا. ونفرت الدابة تنفر "بضم الفاء" نفورا؛ المعنى: انهضوا لقتال العدو. واستنفر الإمام الناس دعاهم إلى النفر، أي للخروج إلى قتال العدو. والنفير اسم للقوم الذين ينفرون، وأصله من النفار والنفور وهو الفزع؛ ومنه قوله تعالى: {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} أي نافرين. ومنه نفر الجلد أي ورم. وتخلل رجل بالقصب فنفر فمه أي ورم. قال أبو عبيد: إنما هو من نفار الشيء من الشيء وهو تجافيه عنه وتباعده منه. قال ابن فارس: النفر عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة. والنفير النفر أيضا، وكذلك النفر والنفرة، حكاها الفراء بالهاء. ويوم النفر: يوم ينفر الناس عن منى. "ثبات "معناه جماعات متفرقات. ويقال: ثبين يجمع جمع السلامة في التأنيث والتذكير. قال عمرو بن كلثوم:
فأما يوم خشيتنا عليهم ... فتصبح خيلنا عصبا ثبينا
فقوله تعالى: {ثُبَاتٍ} كناية عن السرايا، الواحدة ثبة وهي العصابة من الناس. وكانت في الأصل الثبية. وقد ثبيت الجيش جعلتهم ثبة ثبة. والثبة: وسط الحوض الذي يثوب إليه الماء أي يرجع قال النحاس: وربما توهم الضعيف في العربية أنهما واحد، وأن أحدهما من الآخر؛ وبينهما فرق، فثبة الحوض يقال في تصغيرها: ثويبة؛ لأنها من ثاب يثوب. ويقال في ثبة الجماعة: ثيبة. قال غير: فثبة الحوض محذوفة الواو وهو عين الفعل، وثبة الجماعة

معتل اللام من ثبا يثبو مثل خلا يخلو. ويجوز أن يكون الثبة بمعنى الجماعة من ثبة الحوض؛ لأن الماء إذا ثاب اجتمع؛ فعلى هذا تصغر به الجماعة ثوبية فتدخل إحدى الياءين في الأخرى. وقد قيل: إن ثبة الجماعة إنما اشتقت من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه في حياته وجمعت محاسن ذكره فيعود إلى الاجتماع.
الرابعة: قوله تعالى: {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} معناه الجيش الكثيف مع الرسول عليه السلام؛ قاله ابن عباس وغيره. ولا تخرج السرايا إلا بإذن الإمام ليكون متجسسا لهم، عضدا من ورائهم، وربما احتاجوا إلى درئه. وسيأتي حكم السرايا وغنائمهم وأحكام الجيوش ووجوب النفير في "الأنفال "و "براءة "[التوبة] إن شاء الله تعالى.
الخامسة: ذكر ابن خويز منداد: وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} وبقوله: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} ؛ ولأن يكون {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} منسوخا بقوله: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} و بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أولى؛ لأن فرض الجهاد تقرر على الكفاية، فمتى سد الثغور بعض المسلمين أسقط الفرض عن الباقين. والصحيح أن الآيتين جميعا محكمتان، إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعين الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها.
72- {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً}
73- {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً}
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} يعني المنافقين. والتبطئة والإبطاء التأخر، تقول: ما أبطأك عنا؛ فهو لازم. ويجوز بطأت فلانا عن كذا أي أخرته؛ فهو متعد.

والمعنيان مراد في الآية؛ فكانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم. والمعنى إن من دخلائكم وجنسكم وممن أظهر إيمانه لكم. فالمنافقون في ظاهر الحال من أعداد المسلمين بإجراء أحكام المسلمين عليهم. واللام في قوله "لمن "لام توكيد، والثانية لام قسم، و"من "في موضع نصب، وصلتها "ليبطئن "لأن فيه معنى اليمين، والخبر "منكم". وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَن} بالتخفيف، والمعنى واحد. وقيل: المراد بقوله {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} بعض المؤمنين؛ لأن الله خاطبهم بقوله: "وإن منكم "وقد فرق الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين بقوله: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} وهذا يأباه مساق الكلام وظاهره. وإنما جمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب كما بينا لا من جهة الإيمان. هذا قول الجمهور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، والله أعلم. يدل عليه قوله {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} أي قتل وهزيمة {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} يعني بالقعود، وهذا لا يصدر إلا من منافق؛ لا سيما في ذلك الزمان الكريم، بعيد أن يقول مؤمن. وينظر إلى هذه الآية ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عن المنافقين "إن أثقل صلاة عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا " الحديث. في رواية "ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها " يعني صلاة العشاء. يقول: لو لاح شيء من الدنيا يأخذونه وكانوا على يقين منه لبادروا إليه. وهو معنى قوله: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} أي غنيمة وفتح {لَيَقُولَنَّ} هذا المنافق قول نادم حاسد {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} فالكلام فيه تقديم وتأخير. وقيل: المعنى {لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} أي كأن لم يعاقدكم على الجهاد. وقيل: هو في موضع نصب على الحال. وقرأ الحسن "ليقولن" بضم اللام على معنى "من"؛ لأن معنى قوله "لمن ليبطئن" ليس يعني رجلا بعينه. ومن فتح اللام أعاد فوحد الضمير على لفظ "من". وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم "كأن لم تكن "بالتاء على لفظ المودة. ومن قرأ بالياء جعل مودة بمعنى الود. وقول المنافق {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} على وجه الحسد أو الأسف

على فوت الغنيمة مع الشك في الجزاء من الله. {فَأَفُوزَ} جواب التمني ولذلك نصب. وقرأ الحسن "فأفوز" بالرفع على أنه تمنى الفوز، فكأنه قال: يا ليتني أفوز فوزا عظيما. والنصب على الجواب؛ والمعنى إن أكن معهم أفز. والنصب فيه بإضمار "أن" لأنه محمول على تأويل المصدر؛ التقدير يا ليتني كان لي حضور ففوز.
74- {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الخطاب للمؤمنين؛ أي فليقاتل في سبيل الله الكفار {الَّذِينَ يَشْرُونَ} أي يبيعون، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عر وجل {بِالْآخِرَةِ} أي بثواب الآخرة.
الثانية: قوله تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} شرط. {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} عطف عليه، والمجازاة {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} . ومعنى "فيقتل "فيستشهد. {أَوْ يَغْلِبْ} يظفر فيغنم. وقرأت طائفة "ومن يقاتل ""فليقاتل "بسكون لام الأمر. وقرأت فرقة "فليقاتل "بكسر لام الأمر. فذكر تعالى غايتي حالة المقاتل واكتفى بالغايتين عما بينهما؛ ذكره ابن عطية.
الثالثة: ظاهر الآية يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة " وذكر الحديث. وفيه عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من غازية تغزو في سبيل

الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" . فقوله: "نائلا ما نال من أجر أو غنيمة" يقتضي أن لمن يستشهد من المجاهدين أحد الأمرين؛ إما الأجر إن لم يغنم، وإما الغنيمة ولا أجر، بخلاف حديث عبدالله بن عمرو، ولما كان هذا قال قوم: حديث عبدالله بن عمرو ليس بشيء؛ لأن في إسناده حميد بن هانئ وليس بمشهور، ورجحوا الحديث الأول عليه لشهرته. وقال آخرون: ليس بينهما تعارض ولا اختلاف. و"أو "في حديث أبي هريرة بمعنى الواو، كما يقول الكوفيون وقد دلت عليه رواية أبي داود فإنه قال فيه: "من أجر وغنيمة " بالواو الجامعة. وقد رواه بعض رواة مسلم بالواو الجامعة أيضا. وحميد بن هانئ مصري سمع أبا عبدالرحمن الحبلى وعمرو بن مالك، وروى عنه حيوة بن شريح وابن وهب؛ فالحديث الأول محمول على مجرد النية والإخلاص في الجهاد؛ فذلك الذي ضمن الله له إما الشهادة، وإما رده إلى أهله مأجورا غانما، ويحمل الثاني على ما إذا نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم، فلما انقسمت نيته انحط أجره؛ فقد دلت السنة على أن للغانم أجرا كما دل عليه الكتاب فلا تعارض. ثم قيل: إن نقص أجر الغانم على من يغنم إنما هو بما فتح الله عليه من الدنيا فتمتع به وأزال عن نفسه شظف عيشه؛ ومن أخفق فلم يصب شيئا بقي على شظف عيشه والصبر على حالته، فبقي أجره موفرا بخلاف الأول. ومثله قوله في الحديث الآخر: "فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا - منهم مصعب بن عمير - ومنا من أينعت له تمرته فهو يهدبها " .
75- {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً}

فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حض على الجهاد. وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين؛ فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس. وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال؛ وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه؛ لقوله عليه السلام "فكوا العاني " وقد مضى في "البقرة". وكذلك قالوا: عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة. فإن كان الأسير غنيا فهل يرجع عليه الفادي أم لا؛ قولان للعلماء، أصحهما الرجوع.
الثانية: قوله تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} عطف على اسم الله عز وجل، أي وفي سبيل المستضعفين، فإن خلاص المستضعفين من سبيل الله. وهذا اختيار الزجاج وقال الزهري. وقال محمد بن يزيد: أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفا على السبيل؛ أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم؛ فالسبيلان مختلفان. ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون بقوله عليه السلام: "اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين" . وقال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين. في البخاري عنه {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} فقال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله، أنا من الولدان وأمي من النساء.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} القرية هنا مكة بإجماع من المتأولين. ووصفها بالظلم وإن كان الفعل للأهل لعلقة الضمير. وهذا كما تقول: مررت بالرجل الواسعة داره، والكريم أبوه، والحسنة جاريته. وإنما وصف الرجل بها للعلقة اللفظية

بينهما وهو الضمير، فلو قلت: مررت بالرجل الكريم عمر ولم تجز المسألة؛ لأن الكرم لعمرو فلا يجوز أن يجعل صفة لرجل إلا بعلقة وهي الهاء. ولا تثنى هذه الصفة ولا تجمع، لأنها تقوم مقام الفعل، فالمعنى أي التي ظلم أهلها ولهذا لم يقل الظالمين. وتقول: مررت برجلين كريم أبواهما حسنة جاريتاهما، وبرجال كريم آباؤهم حسنة جواريهم. {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ} أي من عندك. {وَلِيّاً} أي من يستنقذنا {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} أي ينصرنا عليهم.
76- {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طاعته. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} قال أبو عبيدة والكسائي: الطاغوت يذكر ويؤنث. قال أبو عبيد: وإنما ذكر وأنث لأنهم كانوا يسمون الكاهن والكاهنة طاغوتا. قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله وسئل عن الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال: كانت في جهينة واحدة وفي أسلم واحدة، وفي كل حي واحدة. قال أبو إسحاق: الدليل على أنه الشيطان قوله عز وجل: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} أي مكره ومكر من اتبعه. ويقال: أراد به يوم بدر حين قال للمشركين {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} على ما يأتي.
77- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا

الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}
روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبدالرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة ؟ فقال: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " . فلما حول الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فنزلت الآية. أخرجه النسائي في سننه، وقاله الكلبي. وقال مجاهد: هم يهود. قال الحسن: هي في المؤمنين؛ لقوله: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ} أي مشركي مكة {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة. قال السدي: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه. وقيل: هو وصف للمنافقين؛ والمعنى يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله. {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} أي عندهم وفي اعتقادهم.
قلت: وهذا أشبه بسياق الآية، لقوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي هلا، ولا يليها إلا الفعل. ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة، على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم. اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه، ولا انشرح بالإسلام جنانه، فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة. والله أعلم.
قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} ابتداء وخبر. وكذا {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} أي المعاصي؛ وقد مضى القول في هذا في "البقرة" ومتاع الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها

وسماه قليلا لأنه لا بقاء له. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثم راح وتركها " وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة "مستوفى.
78- {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} شرط ومجازاة، و"ما" زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان المراد المنافقين أو ضعفة المؤمنين الذين قالوا: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي إلى أن نموت بآجالنا، وهو أشبه المنافقين كما ذكرنا، لقولهم لما أصيب أهل أحد، قالوا: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} فرد الله عليهم {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه. وواحد البروج برج، وهو البناء المرتفع والقصر العظيم. قال طرفة يصف ناقة:
كأنها برج رومي تكففها ... بان بشيد واجر وأحجار
وقرأ طلحة بن سليمان "يدرككم "برفع الكاف على إضمار الفاء، وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله:
من يفعل الحسنات اللهُ يشكرها
أراد فالله يشكرها.
واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج، فقال الأكثر وهو الأصح. إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، فمثل الله

لهم بها. وقال قتادة: في قصور محصنة. وقاله ابن جريج والجمهور، ومنه قول عامر بن الطفيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ وقال مجاهد: البروج القصور. ابن عباس: البروج الحصون والآطام والقلاع. ومعنى "مشيدة "مطولة، قال الزجاج والقتبي. عكرمة: المزينة بالشيد وهو الجص. قال قتادة: محصنة. والمشيد والمشيد سواء، ومنه {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} والتشديد للتكثير. وقيل المشيد المطول، والمشيد المطلي بالشيد. يقال: شاد البنيان وأشاد بذكره. وقال السدي: المراد بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية. وحكى هذا القول مكي عن مالك وأنه قال ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} و {جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} . وحكاه ابن العربي أيضا عن ابن القاسم عن مالك. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: "في بروج مشيدة" معناه في قصور من حديد. قال ابن عطية: وهذا لا يعطيه ظاهر اللفظ.
الثانية: هذه الآية ترد على القدرية في الآجال، لقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} فعرفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسد، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به. وقالت المعتزلة: إن المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش. وقد تقدم الرد عليهم في "آل عمران "ويأتي فوافقوا بقولهم هذا الكفار والمنافقين.
الثالثة: اتخاذ البلاد وبنائها ليمتنع بها في حفظ الأموال والنفوس، وهي سنة الله في عباده. وفي ذلك أدل دليل على رد قول من يقول: التوكل ترك الأسباب، فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها، واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدة وزيادة في التمنع. وقد قيل للأحنف: ما حكمة السور ؟ فقال: ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم فيحميه.

الرابعة: وإذا تنزلنا على قول مالك والسدي في أنها بروج السماء، فبروج الفلك اثنا عشر برجا مشيدة من الرفع، وهي الكواكب العظام. وقيل للكواكب بروج لظهورها، من برج يبرج إذا ظهر وارتفع؛ ومنه قوله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} وخلقها الله تعالى منازل للشمس والقمر وقدره فيها، ورتب الأزمنة عليها، وجعلها جنوبية وشمالية دليلا على المصالح وعلما على القبلة، وطريقا إلى تحصيل آناء الليل وآناء النهار لمعرفة أوقات التهجد غير ذلك من أحوال المعاش.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي إن يصب المنافقين خصب قالوا: هذا من عند الله. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي جدب ومحل قالوا: هذا من عندك، أي أصابنا ذلك بشؤمك وشؤم أصحابك. وقيل: الحسنة السلامة والأمن، والسيئة الأمراض والخوف. وقيل: الحسنة الغنى، والسيئة الفقر. وقيل: الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد. وقيل: الحسنة السراء، والسيئة الضراء. هذه أقوال المفسرين وعلماء التأويل - ابن عباس وغيره - في الآية. وأنها نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. قال ابن عباس: ومعنى {مِنْ عِنْدِكَ} أي بسوء تدبيرك. وقيل: {مِنْ عِنْدِكَ} بشؤمك، كما ذكرنا، أي بشؤمك الذي لحقنا، قالوه على جهة التطير. قال الله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي الشدة والرخاء والظفر والهزيمة من عند الله، أي بقضاء الله وقدره. {فمال هؤلاء القوم} يعني المنافقين {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله.
79- {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}

قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه إليك، وما أصابك من جدب وشدة فبذنب أتيته عوقبت عليه. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم؛ أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم. قال الحسن والسدي وغيرهما؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} . وقد قيل: الخطاب للإنسان والمراد به الجنس؛ كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أي إن الناس لفي خسر، ألا تراه استثنى منهم فقال {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ولا يستثنى إلا من جملة أو جماعة. وعلى هذا التأويل يكون قوله {مَا أَصَابَكَ} استئنافا. وقيل: في الكلام حذف تقديره يقولون؛ وعليه يكون الكلام متصلا؛ والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا حتى يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله. وقيل: إن ألف الاستفهام مضمرة؛ والمعنى أفمن نفسك ؟ ومثله قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} والمعنى أو تلك نعمة ؟ وكذا قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} أي أهذا ربي ؟ قال أبو خراش الهذلي:
رموني وقالوا يا خويلد لم تُرع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أراد "أهم "فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي. قال الأخفش "ما "بمعنى الذي. وقيل: هو شرط. قال النحاس: والصواب قول الأخفش؛ لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب، وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة. وروى عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي وابن مسعود "ما أصابك من حسنة فمن الله وما

أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك "فهذه قراءة على التفسير، وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن، والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع؛ لأن مجاهدا لم ير عبدالله ولا أبيا. وعلى قول من قال: الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة ما أصابهم يوم أحد؛ أنهم عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهره ولا يبرحوا من مكانهم، فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم، فنظر خالد بن الوليد وكان مع الكفار يومئذ ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرماة فأخذ سرية من الخيل ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم، ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرماة إلا صاحب الراية، حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى استشهد مكانه؛ على ما تقدم في "آل عمران "بيانه. فأنزل الله تعالى نظير هذه الآية وهو قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} يعني يوم أحد {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} يعني يوم بدر {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . ولا يجوز أن تكون الحسنة ههنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية؛ إذ لو كان كذلك لكان ما أصبت كما قدمنا، إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا، وإنما تكون الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} وأما في هذه الآية فهي كما تقدم شرحنا له من الخصب والجدب والرخاء والشدة على نحو ما جاء في آية "الأعراف "وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} . "بالسنين "بالجدب سنة بعد سنة؛ حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم. {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل أتباعنا لك وطاعتنا إياك؛ فرد الله عليهم بقوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} يعني أن طائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضر من الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق؛ فكذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبي صلى الله عليه وسلم

حيث قال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} كما قال: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} وكما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي بقضاء الله وقدره وعلمه، وآيات الكتاب يشهد بعضها لبعض. قال علماؤنا: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته؛ كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}
مسألة: وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها؛ كما تجاذبها القدرية واحتجوا بها، ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون: إن الحسنة ههنا الطاعة، والسيئة المعصية؛ قالوا: وقد نسب المعصية في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} إلى الإنسان دون الله تعالى؛ فهذا وجه تعلقهم بها. ووجه تعلق الآخرين منها قوله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} قالوا: فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه. وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا؛ لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية، وليست كذلك لما بيناه. والله أعلم. والقدرية إن قالوا "ما أصابك من حسنة "أي من طاعة "فمن الله "فليس هذا اعتقادهم؛ لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء. وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول: ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره. نص على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحز الغلاصم في إفحام المخاصم.
قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} مصدر مؤكد، ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} نصب على البيان والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا على صدق رسالة نبيه وأنه صادق.

80- {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}
قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} أعلم الله تعالى أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة له. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني " في رواية. "ومن أطاع أميري، ومن عصى أميري ".
قوله تعالى: {وَمَنْ تَوَلَّى} أي أعرض {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي حافظا ورقيبا لأعمالهم، إنما عليك البلاغ. وقال القتبي: محاسبا؛ فنسخ الله هذا بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله.
81- {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}
82- {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أي أمرنا طاعة، ويجوز "طاعة" بالنصب، أي نطيع طاعة، وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن والجحدري. وهذا في المنافقين في قول أكثر المفسرين؛ أي يقولون إذا كانوا عندك: أمرنا طاعة، أو نطيع طاعة، وقولهم هذا ليس بنافع؛ لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة، لأن الله تعالى لم يحقق طاعتهم بما أظهروه، فلو كانت الطاعة بلا اعتقاد حقيقة لحكم بها لهم؛ فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها. {فَإِذَا بَرَزُوا} أي خرجوا {مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} فذكر الطائفة لأنها في معنى

رجال. وأدغم الكوفيون التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، واستقبح ذلك الكسائي في الفعل وهو عند البصريين غير. قبيح. ومعنى "بيت "زور وموه. وقيل: غير وبدل وحرف؛ أي بدلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما عهده إليهم وأمرهم به.. والتبييت التبديل؛ ومنه قول الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
لأنكح أيمهم منذرا ... وهل ينكح العبد حر لحر
آخر:
بيت قولي عبدالمليـ ... ـك قاتله الله عبدا كفورا
وبيت الرجل الأمر إذا دبر ليلا؛ قال الله تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} . والعرب تقول: أمر بيت بليل إذا أحكم. وإنما خص الليل بذلك لأنه وقت يتفرغ فيه. قال الشاعر:
أجمعوا أمرهم بليل فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
ومن هذا بيت الصيام. والبيوت: الماء يبيت ليلا. والبيوت: الأمر يبيت عليه صاحبه مهتما به؛ قال الهذلي:
وأجعل فقرتها عدة ... إذا خفت بيوت أمر عضال
والتبييت والبيات أن يأتي العدو ليلا. وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا؛ كما يقال: ظل بالنهار. وبيت الشيء قدر. فإن قيل: فما وجه الحكمة في ابتدائه بذكر جملتهم ثم قال: "بيت طائفة منهم "؟ قيل: إنما عبر عن حال من علم أنه بقي على كفره ونفاقه، وصفح عمن علم أنه سيرجع عن ذلك. وقيل: إنما عبر عن حال من شهد وحار في أمره، وأما من سمع وسكت فلم يذكره. والله أعلم. {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أي يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه. وقال الزجاج: المعنى ينزله عليك في الكتاب. وفي هذه الآية دليل على أن

مجرد القول لا يفيد شيئا كما ذكرنا؛ فإنهم قالوا: طاعة، ولفظوا بها ولم يحقق الله طاعتهم ولا حكم لهم بصحتها؛ لأنهم لم يعتقدوها. فثبت أنه لا يكون المطيع مطيعا إلا باعتقادها مع وجودها.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي لا تخبر بأسمائهم؛ عن الضحاك، يعني المنافقين. وقيل: لا تعاقبهم. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} ثم أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه. ويقال: إن هذا منسوخ بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}
قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ثم عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه. تدبرت الشيء فكرت في عاقبته. وفي الحديث: " لا تدابروا " أي لا يولي بعضكم بعضا دبره. وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره. والتدبير أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته. ودلت هذه الآية وقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه. فكان في هذا رد على فساد قول من قال: لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب. وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد، وفيه دليل على إثبات القياس.
قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} أي تفاوتا وتناقضا؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ومقادير السور والآيات. وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت. وقيل: المعنى لو كان ما تخبرون به من عند غير الله لاختلف. وقيل: إنه ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير؛ إما في الوصف واللفظ؛ وإما في جودة المعنى، وإما في التناقض، وإما في الكذب. فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى، ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون.

83- {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً}
قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} في "إذا "معنى الشرط ولا يجازى بها وإن زيدت عليها "ما "وهي قليلة الاستعمال. قال سيبويه. والجيد ما قال كعب بن زهير:
وإذا ما تشاء تبعث منها ... مغرب الشمس ناشطا مذعورا
يعني أن الجيد لا يجزم بإذا ما كما لم يجزم في هذا البيت، وقد تقدم في أول "البقرة". والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم {أَوِ الْخَوْفِ} وهو ضد هذا {أَذَاعُوا بِهِ} أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته. فقيل: كان هذا من ضعفة المسلمين؛ عن الحسن؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك. وقال الضحاك وابن زيد: هو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف.
قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه. أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما. السدي وابن زيد: الولاة. وقيل: أمراء السرايا. {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي يستخرجونه، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر. وسمي النبط نبطا لأنهم

يستخرجون ما في الأرض. والاستنباط في اللغة الاستخراج، وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع كما تقدم.
قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} رفع بالابتداء عند سيبويه، ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده. والكوفيون يقولون: رفع بلولا. {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} في هذه الآية ثلاثة أقوال؛ قال ابن عباس وغيره: المعنى أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع ولم يفش. وقاله جماعة من النحويين: الكسائي والأخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري. وقيل: المعنى لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم؛ عن الحسن وغيره، واختاره الزجاج قال: لأن هذا الاستنباط الأكثر يعرفه؛ لأنه استعلام خبر. واختار الأول الفراء قال: لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة تكون في مضى دون بعض. قال الكلبي عنه: فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة. قال النحاس: فهذان قولان على المجاز، يريد أن في الكلام تقديما وتأخيرا. وقول ثالث بغير مجاز: يكون المعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم فإنه كان يوحد. وفيه قول رابع - قال الضحاك: المعنى لاتبعتم الشيطان إلا قليلا، أي إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوا أنفسهم بأمر من الشيطان إلا قليلا، يعني الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. وعلى هذا القول يكون قوله {إِلَّا قَلِيلاً} مستثنى من قوله {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} . قال المهدوي: وأنكر هذا القول أكثر العلماء، إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم الشيطان.
84- {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً}
قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} هذه الفاء متعلقة بقوله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي من أجل هذا فقاتل.

وقيل: هي متعلقة بقوله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَاتِلْ} . كأن هذا المعنى: لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك؛ لأنه وعده بالنصر. قال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده؛ لأنه قد ضمن له النصرة. قال ابن عطية: "هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما؛ فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه؛ أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له؛ {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} . ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده؛ ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي " . وقول أبي بكر وقت الردة: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي. وقيل: إن هذه الآية نزلت في موسم بدر الصغرى؛ فإن أبا سفيان لما انصرف من أحد واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدر الصغرى؛ فلما جاء الميعاد خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا فلم يحضر أبو سفيان ولم يتفق قتال. وهذا على معنى ما قاله مجاهد كما تقدم في "آل عمران". ووجه النظم على هذا والاتصال بما قبل أنه وصف المنافقين بالتخليط وإيقاع الأراجيف، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وبالجد في القتال في سبيل الله وإن لم يساعده أحد على ذلك.
قوله تعالى: {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} {تُكَلَّفُ} مرفوع لأنه مستقبل، ولم يجزم لأنه ليس علة للأول. وزعم الأخفش أنه يجوز جزمه. {إِلَّا نَفْسَكَ} خبر ما لم يسم فاعله؛ والمعنى لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به.
قوله تعالى: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} أي حضهم على الجهاد والقتال. يقال: حرضت فلانا على كذا إذا أمرته به. وحارض فلان على الأمر وأكب وواظب بمعنى واحد.

الثانية: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إطماع، والإطماع من الله عز وجل واجب. على أن الطمع قد جاء في كلام العرب على الوجوب؛ ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} . وقال ابن مقبل:
ظني بهم كعسى وهم بتنوفة ... يتنازعون جوائز الأمثال
قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً} أي صولة وأعظم سلطانا وأقدر بأسا على ما يريده. {وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} أي عقوبة؛ عن الحسن وغيره. قال ابن دريد: رماه الله بنكلة، أي رماه بما ينكله. قال: ونكلت بالرجل تنكيلا من النكال. والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان. قال:
وأرم على أقفائهم بمنكل
الثالثة: إن قال قائل: نحن نرى الكفار في بأس وشدة، وقلتم: إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد؟ قيل له: قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد؛ فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} وبالحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة، ففطن بهم المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، وهو المراد بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} على ما يأتي. وقد ألقى الله في قلوب الأحزاب الرعب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال؛ كما قال تعالى {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} . وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم، فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين، مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجم الغفير تحت الجزية صاغرين وتركوا المحاربة داخرين، فكف الله بأسهم عن المؤمنين. والحمد لله رب العالمين.

85- {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ} أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد؛ ومنه الشفيع؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا. ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة. وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع ضم واحد إلى واحد. والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك؛ فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له.
الثانية: واختلف المتأولون في هذه الآية؛ فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم؛ فمن يشفع لينفع فله نصبب، ومن يشفع ليضر فله كفل. وقيل: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي. فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم، وهذا قريب من الأول. وقيل: يعني بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين، والسيئة الدعاء عليهم. وفي صحيح الخبر: "من دعا بظهر الغيب استجيب له وقال الملك آمين ولك بمثل ". هذا هو النصيب، وكذلك في الشر؛ بل يرجع شؤم دعائه عليه. وكانت اليهود تدعو على المسلمين. وقيل: المعنى من يكن شفعا لصاحبه في الجهاد يكن له نصيبه من الأجر، ومن يكن شفعا لآخر في باطل يكن له نصيبه من الوزر. وعن الحسن أيضا: الحسنة ما يجوز في الدين، والسيئة ما لا يجوز فيه. وكأن هذا القول جامع. والكفل الوزر والإثم؛ عن الحسن وقتادة. السدي وابن زيد هو النصيب. واشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه

لئلا يسقط. يقال: اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه. ويقال له: اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيبا من الظهر. ويستعمل في النصيب من الخير والشر، وفي كتاب الله تعالى {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} . والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يشفع؛ لأنه تعالى قال: {مَنْ يَشْفَعْ} ولم يقل يشفع. وفي صحيح مسلم "اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب".
الثالثة: قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} "مقيتا "معناه مقتدرا؛ ومنه قول الزبير بن عبدالمطلب:
وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتا
أي قديرا. فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته؛ ومنه قوله عليه السلام: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت " . على من رواه هكذا، أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره؛ ذكره ابن عطية. يقول منه: قته أقوته قوتا، وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت. وحكى الكسائي: أقات يقيت. وأما قول الشاعر:
... إني على الحساب مقيت
فقال فيه الطبري: إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى الموقوف. وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ. وقال الكسائي: المقيت المقتدر. وقال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان. وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل رجل قوته. وجاء في الحديث: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " و "يقيت " ذكره الثعلبي: وحكى ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر، والمقيت الحافظ والشاهد، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة. والله أعلم.

86- {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً}
فيه اثنتا عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} التحية تفعلة من حييت؛ الأصل تحيية مثل ترضية وتسمية، فأدغموا الياء في الياء. والتحية السلام. وأصل التحية الدعاء بالحياة. والتحيات لله، أي السلام من الآفات. وقيل: الملك. قال عبدالله بن صالح العجلي: سألت الكسائي عن قوله "التحيات لله "ما معناه ؟ فقال: التحيات مثل البركات؛ فقلت: ما معنى البركات ؟ فقال: ما سمعت فيها شيئا. وسألت عنها محمد بن الحسن فقال: هو شيء تعبدالله به عباده. فقدمت الكوفة فلقيت عبدالله بن إدريس فقلت: إني سألت الكسائي ومحمدا عن قول "التحيات لله "فأجاباني بكذا وكذا؛ فقال عبدالله بن إدريس: إنهما لا علم لهما بالشعر وبهذه الأشياء ؟ ! التحية الملك؛ وأنشد:
أؤم بها أبا قابوس حتى ... أنيخ على تحية بجندي
وأنشد ابن خويز منداد:
أسير به إلى النعمان حتى ... أنيخ على تحيته بجندي
يريد على ملكه. وقال آخر:
ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية
وقال القتبي: إنما قال "التحيات لله "على الجمع؛ لأنه كان في الأرض ملوك يحيون بتحيات مختلفات؛ فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: اسلم وانعم، ولبعضهم: عش ألف سنة. فقيل لنا: قولوا التحيات لله؛ أي الألفاظ التي تدل على الملك، ويكنى بها عنه لله تعالى.

ووجه النظم بما قبل أنه قال: إذا خرجتم للجهاد كما سبق به الأمر فحييتم في سفركم بتحية الإسلام، فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، بل ردوا جواب السلام؛ فإن أحكام الإسلام تجري عليهم.
الثانية: واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها؛ فروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس والرد على المشمت. وهذا ضعيف؛ إذ ليس في الكلام دلالة على ذلك، أما الرد على المشمت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه. والله أعلم. وقال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب؛ فمن وهب له هبة على الثواب فهو بالخيار إن شاء ردها وإن شاء قبلها وأثاب عليها قيمتها.
قلت: ونحو هذا قال أصحاب أبي حنيفة، قالوا: التحية هنا الهدية؛ لقوله تعالى: {أَوْ رُدُّوهَا} ولا يمكن رد الإسلام بعينه. وظاهر الكلام يقتضي أداء التحية بعينها وهي الهدية، فأمر بالتعويض إن قبل أو الرد بعينه، وهذا لا يمكن في السلام. وسيأتي بيان حكم الهبة للثواب والهدية في سورة "الروم "عند قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً} إن شاء الله تعالى. والصحيح أن التحية ههنا السلام؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} . وقال النابغة الذبياني:
تحييهم بيض الولائد بينهم ... وأكسية الإضريج فوق المشاجب
أراد: ويسلم عليهم. وعلى هذا جماعة المفسرين. وإذا ثبت هذا وتقرر ففقه الآية أن يقال: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، ورده فريضة؛ لقوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزئ أو لا؛ فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء، وأن المسلم قد رد عليه مثل قوله. وذهب الكوفيون إلى أن رد السلام

من الفروض المتعينة؛ قالوا: والسلام خلاف الرد؛ لأن الابتداء به تطوع ورده فريضة. ولو رد غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك عنهم فرض الرد، فدل على أن رد السلام يلزم كل إنسان بعينه؛ حتى قال قتادة والحسن: إن المصلي يرد السلام كلاما إذا سلم عليه ولا يقطع ذلك عليه صلاته؛ لأنه فعل ما أمر به. والناس على خلافه. احتج الأولون بما رواه أبو داود عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجزئ من الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم " . وهذا نص في موضع الخلاف. قال أبو عمر: وهو حديث حسن لا معارض له، وفي إسناده سعيد بن خالد، وهو سعيد بن خالد الخزاعي مدني ليس به بأس عند بعضهم؛ وقد ضعفه بعضهم منهم أبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وجعلوا حديثه هذا منكرا؛ لأنه انفرد فيه بهذا الإسناد؛ على أن عبدالله بن الفضل لم يسمع من عبيدالله بن أبي رافع؛ بينهما الأعرج في غير ما حديث. والله أعلم. واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام: "يسلم القليل على الكثير" . ولما أجمعوا على أن الواحد يسلم على الجماعة ولا يحتاج إلى تكريره على عداد الجماعة، كذلك يرد الواحد عن الجماعة وينوب عن الباقين كفروض الكفاية. وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم " . قال علماؤنا: وهذا يدل على أن الواحد يكفي في الرد؛ لأنه لا يقال أجزأ عنهم إلا فيما قد وجب. والله أعلم.
قلت: هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد؛ وفيه قلق.
الثالثة: قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} رد الأحسن أن يزيد فيقول: عليك السلام ورحمة الله؛ لمن قال: سلام عليك. فإن قال: سلام عليك ورحمة الله؛ زدت في ردك: وبركاته. وهذا هو النهاية فلا مزيد. قال الله تعالى مخبرا عن البيت الكريم {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فإن انتهى بالسلام غايته، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. والرد بالمثل أن تقول لمن قال السلام عليك: عليك السلام، إلا أنه ينبغي أن يكون السلام كله بلفظ الجماعة، وإن كان

المسلم عليه واحدا. روى الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: إذا سلمت على الواحد فقل: السلام عليكم، فإن معه الملائكة. وكذلك الجواب يكون بلفظ الجمع؛ قال ابن أبي زيد: يقول المسلم السلام عليكم، ويقول الراد وعليكم السلام، أو يقول السلام عليكم كما قيل له؛ وهو معنى قوله "أو ردوها "ولا تقل في ردك: سلام عليك.
الرابعة: والاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق؛ قال الله تعالى: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} . وقال في قصة إبراهيم عليه السلام: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} . وقال مخبرا عن إبراهيم: {سَلامٌ عَلَيْكَ} . وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله عز وجل آدم على صورته طول ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك - قال - فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله - قال - فزادوه ورحمة الله - قال - فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن ".
قلت: فقد جمع هذا الحديث مع صحته فوائد سبعا: الأولى: الإخبار عن صفة خلق آدم. الثانية: أنا ندخل الجنة عليها بفضله. الثالثة: تسليم القليل على الكثير. الرابعة: تقديم اسم الله تعالى. الخامسة: الرد بالمثل لقولهم: السلام عليكم. السادسة: الزيادة في الرد. السابعة: إجابة الجميع بالرد كما يقول الكوفيون. والله أعلم.
الخامسة: فإن رد فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرما ولا مكروها؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال للرجل الذي لم يحسن الصلاة وقد سلم عليه: "وعليك السلام أرجع فصل فإنك لم تصل " . وقالت عائشة: وعليه السلام ورحمة الله؛ حين أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل يقرأ عليها السلام. أخرجه البخاري. وفي حديث عائشة

من الفقه أن الرجل إذا أرسل إلى رجل بسلامه فعليه أن يرد. كما يرد عليه إذا شافهه. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي يقرئك السلام؛ فقال: "عليك وعلى أبيك السلام " . وقد روى النسائي وأبو داود من حديث جابر بن سليم قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله؛ فقال: "لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ولكن قل السلام عليك" . وهذا الحديث لا يثبت؛ إلا أنه لما جرت عادة العرب بتقديم اسم المدعو عليه في الشر كقولهم: عليه لعنة الله وغضب الله. قال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} وكان ذلك أيضا دأب الشعراء وعادتهم في تحية الموتى؛ كقولهم:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
وقال آخر وهو الشماخ:
عليك سلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
نهاه عن ذلك، لا أن ذاك هو اللفظ المشروع في حق الموتى؛ لأنه عليه السلام ثبت عنه أنه سلم على الموتى كما سلم على الأحياء فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " . فقالت عائشة: قلت يا رسول الله، كيف أقول إذا دخلت المقابر ؟ قال: "قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين " الحديث؛ وسيأتي في سورة {أَلْهَاكُمُ} إن شاء الله تعالى.
قلت: وقد يحتمل أن يكون حديث عائشة وغيره في السلام على أهل القبور جميعهم إذا دخلها وأشرف عليها، وحديث جابر بن سليم خاص بالسلام على المرور المقصود بالزيارة. والله أعلم.
السادسة: من السنة تسليم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير؛ هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يسلم الراكب " فذكره فبدأ بالراكب لعلو مرتبته؛ ولأن ذلك أبعد له من الزهو،

وكذلك قيل في الماشي مثله. وقيل: لما كان القاعد على حال وقار وثبوت وسكون فله مزية بذلك على الماشي؛ لأن حاله على العكس من ذلك. وأما تسليم القليل على الكثير فمراعاة لشرفية جمع المسلمين وأكثريتهم. وقد زاد البخاري في هذا الحديث "ويسلم الصغير على الكبير " . وأما تسليم الكبير على الصغير فروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى التسليم على الصبيان؛ قال: لأن الرد فرض والصبي لا يلزمه الرد فلا ينبغي أن يسلم عليهم. وروي عن ابن سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولكن لا يسمعهم. وقال أكثر العلماء: التسليم عليهم أفضل من تركه. وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت فمر بصبيان فسلم عليهم، وذكر أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم، وحدث أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيان فسلم عليهم. لفظ مسلم. وهذا من خلقه العظيم صلى الله عليه وسلم، وفيه تدريب للصغير وحض على تعليم السنن ورياضة لهم على آداب الشريعة فيه؛ فلتقتد.
السابعة: وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين. وأما المتجالات والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه؛ هذا قول عطاء وقتادة، وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء. ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام فلا يسلم عليهن. والصحيح الأول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد قال: كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت ولم ؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة - قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة - فتأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله: وما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. تكركر أي تطحن؛ قاله القتبي.

الثامنة: والسنة في السلام والجواب الجهر؛ ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي، وعندنا تكفي إذا كان على بعد؛ روى ابن وهب عن ابن مسعود قال: السلام اسم من أسماء الله عز وجل وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم؛ فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب. وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن الحارث قال: إذا سلم الرجل على القوم كان له فضل درجة، فإن لم يردوا عليه ردت عليه الملائكة ولعنتهم. فإذا رد المسلم عليه أسمع جوابه؛ لأنه إذا لم يسمع المسلم لم يكن جوابا له؛ ألا ترى أن المسلم إذا سلم بسلام لم يسمعه المسلم عليه لم يكن ذلك منه سلاما، فكذلك إذا أجاب بجواب لم يسمع منه فليس بجواب. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلمتم فأسمعوا وإذا رددتم فأسمعوا وإذا قعدتم فأقعدوا بالأمانة ولا يرفعن بعضكم حديث بعض " . قال ابن وهب: وأخبرني أسامة بن زيد عن نافع قال: كنت أساير رجلا من فقهاء الشام يقال له عبدالله بن زكريا فحبستني دابتي تبول، ثم أدركته ولم أسلم عليه؛ فقال: ألا تسلم ؟ فقلت: إنما كنت معك آنفا؛ فقال: وإن صح؛ لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسايرون فيفرق بينهم الشجر فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض.
التاسعة: وأما الكافر فحكم الرد عليه أن يقال له: وعليكم. قال ابن عباس وغيره: المراد بالآية: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} فإذا كانت من مؤمن {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال لهم: "وعليكم " . وقال عطاء: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم قيل له: عليك؛ كما جاء في الحديث.
قلت: فقد جاء إثبات الواو وإسقاطها في صحيح مسلم "عليك " بغير واو وهي الرواية الواضحة المعنى، وأما مع إثبات الواو ففيها إشكال؛ لأن الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سامة ديننا؛ فاختلف المتأولون

لذلك على أقوال: أولاها أن يقال: إن الواو على بابها من العطف، غير أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي زائدة. وقيل: للاستئناف. والأولى أولى. ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها أصح رواية وأشهر، وعليها من العلماء الأكثر.
العاشرة: واختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين؛ وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة تمسكا بعموم الآية وبالأمر بالرد عليهم في صحيح السنة. وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب؛ فإن رددت فقل: عليك. واختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام. أي ارتفع عنك. واختار بعض علمائنا السلام "بكسر السين " يعني به الحجارة. وقول مالك وغيره في ذلك كاف شاف كما جاء في الحديث، وسيأتي في سورة "مريم "القول في ابتدائهم بالسلام عند قوله تعالى إخبارا عن إبراهيم في قوله لأبيه {سَلامٌ عَلَيْكَ} . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤدوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم " . وهذا يقتضي إفشاءه بين المسلمين دون المشركين. والله أعلم.
الحادية عشرة: ولا يسلم على المصلي فإن سلم عليه فهو بالخيار إن شاء رد بالإشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد. ولا ينبغي أن يسلم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه. دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحال فقال له: "إذا وجدتني أو رأيتني على هذه الحل فلا تسلم علي فإنك إن سلمت علي لم أرد عليك " . ولا يسلم على من يقرأ القرآن فيقطع عليه قراءته، وهو بالخيار إن شاء رد وإن شاء أمسك حتى يفرغ ثم يرد، ولا يسلم على من دخل الحمام وهو كاشف العورة، أو كان مشغولا بما له دخل بالحمام، ومن كان بخلاف ذلك سلم عليه.

الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} معناه حفيظا. وقيل: كافيا؛ من قولهم: أحسبني كذا أي كفاني، ومثله حسبك الله. وقال قتادة: محاسبا كما يقال: أكيل بمعنى مواكل. وقيل: هو فعيل من الحساب، وحسنت هذه الصفة هنا؛ لأن معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به. روى النسائي عن عمران بن حصين قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فسلم، فقال: السلام عليكم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "عشر " ثم جلس، ثم جاء آخر فسلم فقال: السلام عليكم ورحمة الله؛ فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "عشرون " ثم جلس وجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ثلاثون" . وقد جاء هذا الخبر مفسرا وهو أن من قال لأخيه المسلم: سلام عليكم كتب له عشر حسنات، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله كتب له عشرون حسنة. فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة، وكذلك لمن رد من الأجر. والله أعلم.
87- {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً}
قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ابتداء وخبر. واللام في قول {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} لام القسم؛ نزلت في الذين شكوا في البعث فأقسم الله تعالى بنفسه. وكل لام بعدها نون مشددة فهو لام القسم. ومعناه في الموت وتحت الأرض {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وقال بعضهم: "إلى" صلة في الكلام، معناه ليجمعنكم يوم القيامة. وسميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين جل وعز؛ قال الله تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقيل: سمي يوم القيامة لأن الناس يقومون من قبورهم إليها؛ قال الله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً} وأصل القيامة الواو. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} نصب على البيان، والمعنى لا أحد أصدق من الله. وقرأ حمزة

والكسائي "ومن أزدق" بالزاي. الباقون: بالصاد، وأصله الصاد إلا أن لقرب مخرجها جعل مكانها زاي.
88- {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}
قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} "فئتين " أي فرقتين مختلفتين. روى مسلم عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين؛ فقال بعضهم: نقتلهم. وقال بعضهم: لا؛ فنزلت {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} . وأخرجه الترمذي فزاد: وقال: "إنها طيبة " وقال: "إنها تنفي الخبيث كما تنفي النار خبث الحديد " قال: حديث حسن صحيح. وقال البخاري: "إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة " . والمعني بالمنافقين هنا عبدالله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا؛ كما تقدم في "آل عمران". وقال ابن عباس: هم فوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة، قال الضحاك: وقالوا إن ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا. فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولونهم وقوم يتبرؤون منهم؛ فقال الله عز وجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} . وذكر أبو سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام؛ فأصابهم وباء المدينة وحماها؛ فأركسوا فخرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لكم رجعتم ؟ فقالوا: أصابنا وباء المدينة فاجتويناها؛ فقالوا: ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون؛ فأنزل الله عز وجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} . حتى جاؤوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون؛ فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم.
قلت: وهذان القولان يعضدهما سياق آخر الآية من قوله تعالى: {حَتَّى يُهَاجِرُوا} ، والأول أصح نقلا، وهو اختيار البخاري ومسلم والترمذي. و"فئتين " نصب على الحال؛ كما يقال: مالك قائما ؟ عن الأخفش. وقال الكوفيون: هو خبر "ما لكم " كخبر كان وظننت، وأجازوا إدخال الألف واللام فيه وحكى الفراء: " أركسهم، وركسهم " أي ردهم إلى الكفر ونكسهم؛ وقال النضر بن شميل والكسائي: والركس والنكس قلب الشيء على رأسه، أو رد أوله على آخره، والمركوس المنكوس. وفي قراءة عبدالله وأبي رضي الله عنهما "والله ركسهم". وقال ابن رواحة:
أركسوا في فتنة مظلمة ... كسواد الليل يتلوها فتن
أي نكسوا. وارتكس فلان في أمر كان نجا منه. والركوسية قوم بين النصارى والصابئين. والراكس الثور وسط البدر والثيران حواليه حين الدياس. {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي ترشدوه إلى الثواب بأن يحكم لهم بحكم المؤمنين. {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي طريقا إلى الهدى والرشد وطلب الحجة. وفي هذا رد على القدرية وغيرهم القائلين بخلق هداهم وقد تقدم.
89- {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}
90- {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}

فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} أي تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفاق شرع سواء؛ فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا} ؛ كما قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} والهجرة أنواع: منها الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه واجبة أول الإسلام حتى قال: "لا هجرة بعد الفتح " . وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات، وهجره من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة. وهجرة المسلم ما حرم الله عليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه " . وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن. وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم فلا يكلمون ولا يخالطون حتى يتوبوا؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب وصاحبيه. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} يقول: إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم. {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} عام في الأماكن من حل وحرم. والله أعلم.ثم استثنى وهي:
الثانية: فقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ} استثناء أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف؛ المعنى: فلا تقتلوا قوما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا. هذا قول مجاهد وابن زيد وغيرهم، وهو أصح ما قيل في معنى الآية. قال أبو عبيد: يصلون ينتسبون؛ ومنه قول الأعشى:
إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم
يريد إذا انتسبت. قال المهدوي: وأنكره العلماء؛ لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم. وقال النحاس: وهذا غلط عظيم؛ لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب، والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأولين أنساب، وأشد من هذا الجهل بأنه كان ثم نسخ؛ لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له "براءة "وإنما نزلت "براءة" بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب. وقال معناه الطبري.

قلت: حمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان؛ أي إن المنتسب إلى أهل الأمان آمن إذا أمن الكل منهم، لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة. واختلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق؛ فقيل: بنو مدلج. عن الحسن: كان بينهم وبين قريش عقد، وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد. وقال عكرمة: نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد. وقيل: خزاعة. وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة، كانوا في الصلح والهدنة.
الثالثة: في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين، على ما يأتي بيانه في " الأنفال وبراءة "إن شاء الله تعالى.
الرابعة: قوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي ضاقت. وقال لبيد:
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة ... جرداء يحصر دونها جرامها
أي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة؛ ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم. والحصر الكتوم للسر؛ قال جرير:
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا ... حصرا بسرك يا أميم ضنينا
ومعنى "حصرت "قد حصرت فأضمرت قد؛ قال الفراء: وهو حال من المضمر المرفوع في "جاؤوكم "كما تقول: جاء فلان ذهب عقله، أي قد ذهب عقله. وقيل: هو خبر بعد خبر قاله الزجاج. أي جاؤوكم ثم أخبر فقال: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} فعلى هذا يكون "حصرت "بدلا من "جاؤوكم "كما قيل: "حصرت "في موضع خفض على النعت لقوم. وفي حرف أبي {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ليس فيه {أَوْ جَاءُوكُمْ} . وقيل: تقديره أو جاؤوكم رجالا أو قوما حصرت صدورهم؛ فهي صفة موصوف منصوب على الحال. وقرأ الحسن "أو جاؤوكم حصرة صدورهم "نصب على

الحال، ويجوز رفعه على الابتداء والخبر. وحكى "أو جاؤوكم حصرت صدورهم"، ويجوز الرفع. وقال محمد بن يزيد: "حصرت صدورهم "هو دعاء عليهم؛ كما تقول: لعن الله الكافر؛ وقال المبرد. وضعفه بعض المفسرين وقال: هذا يقتضي ألا يقاتلوا قومهم؛ وذلك فاسد؛ لأنهم كفار وقومهم كفار. وأجيب بأن معناه صحيح، فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزا لهم، وفي حق قومهم تحقيرا لهم. وقيل: "أو "بمعنى الواو؛ كأنه يقول: إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاؤوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين. ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك فهو نوع من العهد، أو قالوا نسلم ولا نقاتل؛ فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام. والأول أظهر. والله أعلم. "أو يقاتلوا "في موضع نصب؛ أي عن أن يقاتلوكم.
الخامسة: قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يقدرهم على ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} ، وإما تمحيصا للذنوب كما قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء. ووجه النظم والاتصال بما قبل أي اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا، وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم، وإلا الذين جاؤوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم.
91- {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً}

قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} معناها معنى الآية الأولى. قال قتادة: نزلت في قوم من تهامة طلبوا الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند قومهم. مجاهد: هي في قوم من أهل مكة. وقال السدي: نزلت في نعيم بن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين. وقال الحسن: هذا في قوم من المنافقين. وقيل: نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة فأسلموا ثم رجعوا إلى ديارهم فأظهروا الكفر.
قوله تعالى: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} قرأ يحيى بن وثاب والأعمش "ردوا "بكسر الراء؛ لأن الأصل "رددوا "فأدغم وقلبت الكسرة على الراء. {إِلَى الْفِتْنَةِ} أي الكفر {أُرْكِسُوا فِيهَا} . وقيل: أي ستجدون من يظهر لكم الصلح ليأمنوكم، وإذا سنحت لهم فتنة كان مع أهلها عليكم. ومعنى {أُرْكِسُوا فِيهَا} أي انتكسوا عن عهدهم الذين عاهدوا. وقيل: أي إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه.
92- {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
فيه عشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} هذه آية من أمهات الأحكام. والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ؛ فقوله: "وما كان "ليس على النفي وإنما هو على التحريم والنهي، كقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط؛ لأن ما نفاه الله فلا يجوز وجوده، كقوله

تعالى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} . فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا. وقال قتادة: المعنى ما كان له ذلك في عهد الله. وقيل: ما كان له ذلك فيما سلف، كما ليس له الآن ذلك بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول وهو الذي يكون فيه "إلا "بمعنى "لكن "والتقدير ما كان له أن يقتله البتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا؛ هذا قول سيبويه والزجاج رحمهما الله. ومن الاستثناء المنقطع قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} . وقال النابغة:
وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... عيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا الأواري لأيا ما أبينها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
فلما لم تكن "الأواري "من جنس أحد حقيقة لم تدخل في لفظه. ومثله قول الآخر:
أمسى سقام خلاء لا أنيس به ... إلا السباع ومر الريح بالغرف
وقال آخر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
وقال آخر:
وبعض الرجال نخلة لا جنى لها ... ولا ظل إلا أن تعذ من النخل
أنشده سيبويه؛ ومثله كثير، ومن أبدعه قول جرير:
من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ ... على الأرض إلا ذيل مرط مرحل

كأنه قال: لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد. ونزلت الآية بسبب قتل عياش بن أبي ربيعة الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري لحنة كانت بينهما، فلما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه، فلما أخبر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، ولم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية. وقيل: هو استثناء متصل، أي وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ولا يقتص منه إلا أن يكون خطأ؛ فلا يقتص منه؛ ولكن فيه كذا وكذا. ووجه آخر وهو أن يقدر كان بمعنى استقر ووجد؛ كأنه قال: وما وجد وما تقرر وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانا؛ فيجيء الاستثناء على هذين التأويلين غير منقطع. وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه؛ كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا ؟ إعظاما للعمد والقصد مع حظر الكلام به البتة. وقيل: المعنى ولا خطأ. قال النحاس: ولا يجوز أن تكون "إلا" بمعنى الواو، ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في المعنى؛ لأن الخطأ لا يحظر. ولا يفهم من دليل خطابه جواز قتل الكافر المسلم فإن المسلم محترم الدم، وإنما خص المؤمن بالذكر تأكيدا لحنانه وأخوته وشفقته وعقيدته. وقرأ الأعمش "خطاء "ممدودا في المواضع الثلاثة. ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى يربطها عدم القصد؛ مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلما. أو يسعى بين يديه من يستحق القتل من زان أو محارب أو مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ. أو يرمي إلى غرض فيصيب إنسانا أو ما جرى مجراه؛ وهذا مما لا خلاف فيه. والخطأ اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد؛ فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء. ويقال لمن أراد شيئا ففعل غير: أخطأ، ولمن فعل غير الصواب: أخطأ. قال ابن المنذر: قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} إلى قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} فحكم الله جل ثناؤه

في المؤمن يقتل خطأ بالدية، وثبتت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأجمع أهل العلم على القول به.
الثانية: ذهب داود إلى القصاص بين الحر والعبد في النفس، وفي كل ما يستطاع القصاص فيه من الأعضاء؛ تمسكا بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم " فلم يفرق بين حر وعبد؛ وهو قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في النفس فيقتل الحر بالعبد، كما يقتل العبد بالحر، ولا قصاص بينهما في شيء من الجراح والأعضاء. وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} أنه لم يدخل فيه العبيد، وإنما أريد به الأحرار دون العبيد؛ فكذلك قوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم " أريد به الأحرار خاصة. والجمهور على ذلك وإذا لم يكن قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فالنفس أحرى بذلك؛ وقد مضى هذا في "البقرة".
الثالثة: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي فعليه تحرير رقبة؛ هذه الكفارة التي أوجبها الله تعالى في كفارة القتل والظهار أيضا على ما يأتي. واختلف العلماء فيما يجزئ منها، فقال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم: الرقبة المؤمنة هي التي صلت وعقلت الإيمان، لا تجزئ في ذلك الصغيرة، وهو الصحيح في هذا الباب قال عطاء بن أبي رباح: يجزئ الصغير المولود بين مسلمين. وقال جماعة منهم مالك والشافعي: يجزئ كل من حكم له بحكم في الصلاة عليه إن مات ودفنه. وقال مالك: من صلى وصام أحب إلي. ولا يجزئ في قول كافة العلماء أعمى ولا مقعد ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ولا أشلهما، ويجزئ عند أكثرهم الأعرج والأعور. قال مالك: إلا أن يكون عرجا شديدا. ولا يجزئ عند مالك والشافعي وأكثر العلماء أقطع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين، ويجزئ عند أبي حنيفة وأصحابه. ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون المطبق ولا يجزئ

عند مالك الذي يجن ويفيق، ويجزئ عند الشافعي. ولا يجزئ عند مالك المعتق إلى سنين، ويجزئ عند الشافعي. ولا يجزئ المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي، ويجزئ في قول الشافعي وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وقال مالك: لا يصح من أعتق بعضه؛ لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} . ومن أعتق البعض لا يقال حرر رقبة وإنما حرر بعضها. واختلفوا أيضا في معناها فقيل: أوجبت تمحيصا وطهورا لذنب القاتل، وذنه ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم. وقيل: أوجبت بدلا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل، فإنه كان له في نفسه حق وهو التنعم بالحياة والتصرف فيما أحل له تصرف الأحياء. وكان لله سبحانه فيه حق، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من أمر العبودية صغيرا كان أو كبيرا حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا ما يتميز به عن البهائم والدواب، ويرتجى مع ذلك أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه، فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا، والمعنى الذي وصفنا، فلذلك ضمن الكفارة. وأي واحد من هذين المعنيين كان، ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ فالقاتل عمدا مثله، بل أولى بوجوب الكفارة عليه منه، على ما يأتي بيانه، والله أعلم.
الرابعة: قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} الدية ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه. {مُسَلَّمَةٌ} مدفوعة مؤداة، ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية، وإنما في الآية إيجاب الدية مطلقا، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السنة، ولا شك أن إيجاب المواساة على العاقلة خلاف قياس الأصول في الغرامات وضمان المتلفات، والذي وجب على العاقلة لم يجب تغليظا، ولا أن وزر القاتل عليهم ولكنه مواساة محضة. واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل ديوانه. وثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الإبل، ووداها صلى الله عليه وسلم في عبدالله بن سهل

المقتول بخيبر لحويصة ومحيصة وعبدالرحمن، فكان ذلك بيانا على لسان نبيه عليه السلام لمجمل كتابه. وأجمع أهل العلم عل أن على أهل الإبل مائة من الإبل واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل؛ فقالت طائفة: على أهل الذهب ألف دينار، وهم أهل الشام ومصر والمغرب؛ هذا قول مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه، في القديم. وروي هذا عن عمر وعروة بن الزبير وقتادة. وأما أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم، وهم أهل العراق وفارس وخراسان؛ هذا مذهب مالك على ما بلغه عن عمر أنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وقال المزني: قال الشافعي الدية الإبل؛ فإن أعوزت فقيمتها بالدراهم والدنانير على ما قومها عمر، ألف دينار على أهل الذهب واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق. وقال أبو حنيفة "أصحابه والثوري: الدية من الورق عشرة آلاف درهم. رواه الشعبي عن عبيدة عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألف شاة، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. قال أبو عمر: في هذا الحديث ما يدل على أن الدنانير والدراهم صنف من أصناف الدية لا على وجه البدل والقيمة؛ وهو الظاهر من الحديث عن عثمان وعلي وابن عباس. وخالف أبو حنيفة ما رواه عن عمر في البقر والشاء والحلل. وبه قال عطاء وطاوس وطائفة من التابعين، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين. قال ابن المنذر: وقالت طائفة: دية الحر المسلم مائة من الإبل لا دية غيرها كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا قول الشافعي وبه قال طاوس. قال ابن المنذر: دية الحر المسلم مائة من الإبل في كل زمان، كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفت الروايات عن عمر رضي الله عنه في أعداد الدراهم وما منها شيء يصح عنه لأنها مراسيل، وقد عرفتك مذهب الشافعي وبه ونقول.

الخامسة: واختلف الفقهاء في أسنان دية الإبل؛ فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشر بني لبون . قال الخطابي: هذا الحديث لا أعرف أحدا قال به من الفقهاء، وإنما قال أكثر العلماء: دية الخطأ أخماس. كذا قال أصحاب الرأي والثوري، وكذلك مالك وابن سيرين وأحمد بن حنبل إلا أنهم اختلفوا في الأصناف؛ قال أصحاب الرأي وأحمد: خمس بنو مخاض، وخمس بنات مخاض، وخمس بنات لبون، وخمس حقاق، وخمس جذاع. وروي هذا القول عن ابن مسعود. وقال مالك والشافعي: خمس حقاق، وخمس جذاع، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو لبون. وحكي هذا القول عن عمر بن عبدالعزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة والليث بن سعد. قال الخطابي: ولأصحاب الرأي فيه أثر، إلا أن راويه عبدالله بن خشف بن مالك وهو مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث. وعدل الشافعي عن القول به. لما ذكرنا من العلة في راويه، ولأن فيه بني مخاض ولا مدخل لبني مخاض في شيء من أسنان الصدقات. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة القسامة أنه ودى قتيل خيبر مائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض. قال أبو عمر: وقد روى زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا، إلا أن هذا لم يرفعه إلا خشف بن مالك الكوفي الطائي وهو مجهول؛ لأنه لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الطائي الجشمي من بني جشم بن معاوية أحد ثقات الكوفيين.
قلت: قد ذكر الدارقطني في سننه حديث خشف بن مالك من رواية حجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبدالله بن مسعود قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم

في دية الخطأ مائة من الإبل؛ منها عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو مخاض. قال الدارقطني: "هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث من وجوه عدة؛ أحدها: أنه مخالف لما رواه أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه، الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه، وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه وفتياه من خشف بن مالك ونظرائه، وعبدالله بن مسعود أتقى لربه وأشح على دينه من أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بقضاء ويفتي هو بخلافه؛ هذا لا يتوهم مثله على عبدالله بن مسعود وهو القائل في مسألة وردت عليه لم يسمع فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولم يبلغه عنه فيها قول: أقول فيها برأي فإن يكن صوابا فمن الله ورسوله، وإن يكن خطأ فمني؛ ثم بلغه بعه ذلك أن فتياه فيها وافق قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثلها، فرآه أصحابه عند ذلك فرح فرحا شديدا لم يروه فرح مثله، لموافقة فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن كانت هذه صفته وهذا حاله فكيف يصح عنه أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ويخالفه. ووجه آخر: وهو أن الخبر المرفوع الذي فيه ذكر بني المخاض لا نعلمه رواه إلا خشف بن مالك عن ابن مسعود وهو رجل مجهول لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلا مشهورا، أو رجلا قد ارتفع عنه اسم الجهالة، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدا؛ فإذا كانت هذه صفته ارتفع عنه حينئذ اسم الجهالة، وصار حينئذ معروفا. فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد وانفرد بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه عليه غيره. والله أعلم.
ووجه آخر: وهو أن حديث خشف بن مالك لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير عنه إلا الحجاج بن أرطأة، والحجاج رجل مشهور بالتدليس وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه؛ وترك الرواية عنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد

القطان وعيسى بن يونس بعد أن جالسوه وخبروه، وكفاك بهم علما بالرجل ونبلا. وقال يحيى بن معين: حجاج بن أرطأة لا يحتج بحديثه. وقال عبدالله بن إدريس: سمعت الحجاج يقول لا ينبل الرجل حتى يدع الصلاة في الجماعة. وقال عيسى بن يونس: سمعت الحجاج يقول: أخرج إلى الصلاة يزاحمني الحمالون والبقالون. وقال جرير: سمعت الحجاج يقول: أهلكني حب المال والشرف. وذكر أوجها أخر؛ منها أن جماعة من الثقات رووا هذا الحديث عن الحجاج بن أرطأة فاختلفوا عليه فيه. إلى غير ذلك مما يطول ذكره؛ وفيما ذكرناه مما ذكروه كفاية ودلالة على ضعف ما ذهب إليه الكوفيون في الدية، وإن كان ابن المنذر مع جلالته قد اختاره على ما يأتي. وروى حماد بن سلمة حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال: دية الخطأ خمسة أخماس عشرون حقة، وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون وعشرون بني لبون ذكور. قال الدارقطني: هذا إسناد حسن ورواته ثقات، وقد روي عن علقمة عن عبدالله نحو هذا.
قلت: وهذا هو مذهب مالك والشافعي أن الدية تكون مخمسة. قال الخطابي: وقد روي عن نفر من العلماء أنهم قالوا دية الخطأ أرباع؛ وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه؛ إلا أنهم قالوا: خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض. وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب. قال أبو عمر: أما قول مالك والشافعي فروي عن سليمان بن يسار وليس فيه عن صحابي شيء؛ ولكن عليه عمل أهل المدينة. وكذلك حكى ابن جريج عن ابن شهاب.
قلت: قد ذكرنا عن ابن مسعود ما يوافق ما صار إليه مالك والشافعي. قال أبو عمر: وأسنان الإبل في الدبات لم تؤخذ قياسا ولا نظرا، وإنما أخذت اتباعا وتسليما، وما أخذ من جهة الأثر فلا مدخل فيه للنظر؛ فكل يقول بما قد صح عنده من سلفه؛ رضي الله عنهم أجمعين.

قلت: وأما ما حكاه الخطابي من أنه لا يعلم من قال بحديث عمرو بن شعيب فقد حكاه ابن المنذر عن طاوس ومجاهد، إلا أن مجاهدا جعل مكان بنت مخاض ثلاثين جذعة. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. يريد قول عبدالله وأصحاب الرأي الذي ضعفه الدارقطني والخطابي، وابن عبدالبر قال: لأنه الأقل مما قيل؛ وبحديث. مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق هذا القول.
قلت: وعجبا لابن المنذر ؟ مع نقده واجتهاده كيف قال بحديث لم يوافقه أهل النقد على صحته ! لكن الذهول والنسيان قد يعتري الإنسان، وإنما الكمال لعزة ذي الجلال.
السادسة: ثبتت الأخبار عن النبي المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة، وأجمع أهل العلم على القول به. وفي إجماع أهل العلم أن الدية في الخطأ على العاقلة دليل على أن المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة حيث دخل عليه ومعه ابنه: "إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه " العمد دون الخطأ. وأجمعوا على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة. واختلفوا في الثلث؛ والذي عليه جمهور العلماء أن العاقلة لا تحمل عمدا ولا اعترافا ولا صلحا، ولا تحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث وما دون الثلث في مال الجاني. وقالت طائفة: عقل الخطأ على عاقلة الجاني، قلت الجناية أو كثرت؛ لأن من غرم الأكثر غرم الأقل. كما عقل العمد. في مال الجاني قل أو كثر؛ هذا قول الشافعي.
السابعة: وحكمها أن تكون منجمة على العاقلة، والعاقلة العصبة. وليس ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها من العاقلة. ولا الإخوة من الأم بعصبة لإخوتهم من الأب والأم، فلا يعقلون عنهم شيئا. وكذلك الديوان لا يكون عاقلة في قول جمهور أهل الحجاز. وقال الكوفيون: يكون عاقلة إن كان من أهل الديوان؛ فتنجم الدية على العاقلة في ثلاثة أعوام على ما قضاه عمر وعلي؛ لأن الإبل قد تكون حوامل فتضر به. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة لأغراض؛ منها أنه كان يعطيها صلحا وتسديدا. ومنها أنه كان يعجلها تأليفا. فلما تمهد الإسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام؛ قاله ابن العربي. وقال أبو عمر :

أجمع العلماء قديما وحديثا أن الدية على العاقلة لا تكون إلا في ثلاث سنين ولا تكون في أقل منها. وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال. وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وكانوا يتعاقلون بالنصرة؛ ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل الديوان. واتفق الفقهاء عل رواية ذلك والقول به. وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يدا، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو.
الثامنة: قلت: ومما ينخرط في سلك هذا الباب ويدخل في نظامه قتل الجنين في بطن أمه؛ وهو أن يضرب بطن أمه فتلقيه حيا ثم يموت؛ فقال كافة العلماء: فيه الدية كاملة في الخطأ وفي العمد بعد القسامة. وقيل: بغير قسامة. واختلفوا فيما به تعلم حياته بعد اتفاقهم على أنه إذا استهل صارخا أو ارتضع أو تنفس نفسا محققة حي، فيه الدية كاملة؛ فإن تحرك فقال الشافعي وأبو حنيفة: الحركة تدل على حياته. وقال مالك: لا، إلا أن يقارنها طول إقامة. والذكر والأنثى عند كافة العلماء في الحكم سواء. فإن ألقته ميتا ففيه غرة: عبد أو وليدة. فإن لم تلقه وماتت وهو في جوفها لم يخرج فلا شيء فيه. وهذا كله إجماع لا خلاف فيه. وروي عن الليث بن سعد وداود أنهما قالا في المرأة إذا ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتا بعد موتها: ففيه الغرة، وسواء رمته قبل موتها أو بعد موتها؛ المعتبر حياة أمه في وقت ضربها لا غير. وقال سائر الفقهاء: لا شيء فيه إذا خرج ميتا من بطنها بعد موتها. قال الطحاوي محتجا لجماعة الفقهاء بأن قال: قد أجمعوا والليث معهم على أنه لو ضرب بطنها وهي حية فماتت والجنين في بطنها ولم يسقط أنه لا شيء فيه؛ فكذلك إذا سقط بعد موتها.
التاسعة: ولا تكون الغرة إلا بيضاء. قال أبو عمرو بن العلاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الجنين غرة عبد أو أمة " - لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد

بالغرة معنى لقال: في الجنين عبد أو أمة، ولكنه عنى البياض؛ فلا يقبل في الدية إلا غلام أبيض أو جارية بيضاء، لا يقبل فيها أسود ولا سوداء. واختلف العلماء في قيمتها؛ فقال مالك: تقوم بخمسين دينارا أو ستمائة درهم؛ نصف عشر دية الحر المسلم، وعشر دية أمه الحرة؛ وهو قول ابن شهاب وربيعة وسائر أهل المدينة. وقال أصحاب الرأي: قيمتها خمسمائة درهم. وقال الشافعي: سن الغرة سبع سنين أو ثمان سنين؛ وليس عليه أن يقبلها معيبة. ومقتضى مذهب مالك أنه مخير بين إعطاء غرة أو عشر دية الأم، من الذهب عشرون دينارا إن كانوا أهل ذهب، ومن الورق - إن كانوا أهل ورق - ستمائة درهم، أو خمس فرائض من الإبل. قال مالك وأصحابه: هي في مال الجاني؛ وهو قول الحسن بن حي. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما، هي على العاقلة. وهو أصح؛ لحديث المغيرة بن شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجلين من الأنصار - في رواية فتغايرتا - فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها، فاختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلان فقالا: ندي من لا صاح ولا أكل، ولا شرب ولا استهل. فمثل ذلك يطل !، فقال: "أسجع كسجع الأعراب " ؟ فقضى فيه غرة وجعلها على عاقلة المرأة. وهو حديث ثابت صحيح، نص في موضع الخلاف يوجب الحكم. ولما كانت دية المرأة المضروبة على العاقلة كان الجنين كذلك في القياس والنظر. واحتج علماؤنا بقول الذي قضي عليه: كيف أغرم ؟ قالوا: وهذا يدل على أن الذي قضي عليه معين وهو الجاني. ولو أن دية الجنين قضى بها على العاقلة لقال: فقال الذي قضى عليهم. وفي القياس أن كل جان جنايته عليه، إلا ما قام بخلافه الدليل الذي لا معارض له؛ مثل إجماع لا يجوز خلافه، أو نص سنة من جهة نقل الآحاد العدول لا معارض لها، فيجب الحكم بها، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}

العاشرة: ولا خلاف بين العلماء أن الجنين إذا خرج حيا فيه الكفارة مع الدية. واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتا؛ فقال مالك: فيه الغرة والكفارة. وقال أبو حنيفة والشافعي: فيه الغرة ولا كفارة. واختلفوا في ميراث الغرة عن الجنين؛ فقال مالك والشافعي وأصحابهما: الغرة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله تعالى؛ لأنها دية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الغرة للأم وحدها؛ لأنها جناية جنى عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية. ومن الدليل على ذلك أنه لم يعتبر فيه الذكر والأنثى كما يلزم في الديات، فدل على أن ذلك كالعضو. وكان ابن هرمز يقول: ديته لأبويه خاصة؛ لأبيه ثلثاها ولأمه ثلثها، من كان منهما حيا كان ذلك له، فإن كان أحدهما قد مات كانت للباقي منهما أبا كان أو أما، ولا يرث الإخوة شيئا.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أصله "أن يتصدقوا "فأدغمت التاء في الصاد. والتصدق الإعطاء؛ يعني إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول القاتلين مما أوجب لهم من الدية عليهم. فهو استثناء ليس من الأول. وقرأ أبو عبدالرحمن ونبيح "إلا أن تصدقوا "بتخفيف الصاد والتاء. وكذلك قرأ أبو عمرو، إلا أنه شدد الصاد. ويجوز على هذه القراءة حذف التاء الثانية، ولا يجوز حذفها على قراءة الياء. وفي حرف أبي وابن مسعود "إلا أن يتصدقوا". وأما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم؛ لأنه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه، فعليه أن يخلص آخر لعبادة ربه وإنما تسقط الدية التي هي حق لهم. وتجب الكفارة في مال الجاني ولا تتحمل.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} هذه مسألة المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار. والمعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وعكرمة ومجاهد والنخعي: فإن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد أمن وبقي

في قومه وهم كفرة "عدو لكم "فلا دية فيه؛ وإنما كفارته تحرير. الرقبة. وهو المشهور من قول مالك، وبه قال أبو حنيفة. وسقطت الدية لوجهين: أحدهما: أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها. والثاني: أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} . وقالت طائفة: بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط؛ فسواء كان القتل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ولم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه كفارته التحرير ولا دية فيه، إذ لا يصح دفعها إلى الكفار، ولو وجبت الدية لوجبت لبيت المال على بيت المال؛ فلا تجب الدية في هذا الموضع وإن جرى القتل في بلاد الإسلام. هذا قول الشافعي وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو ثور. وعلى القول الأول إن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة.
قلت: ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله؛ فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال لا إله إلا الله وقتلته " ! قال: قلت يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح؛ قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ " . فلم يحكم عليه صلى الله عليه وسلم بقصاص ولا دية. وروي عن أسامة أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال: "أعتق رقبة " ولم يحكم بقصاص ولا دية. فقال علماؤنا: أما سقوط القصاص فواضح إذ لم يكن القتل عدوانا؛ وأما سقوط الدية فلأوجه ثلاثة: الأول: لأنه كان أذن له في أصل القتال فكان عنه إتلاف نفس محترمة غلطا كالخاتن والطبيب. الثاني: لكونه من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين تكون له ديته؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} كما ذكرنا. الثالث: أن أسامة اعترف بالقتل ولم تقم بذلك بينة ولا تعقل العاقلة اعترافا، ولعل أسامة لم يكن له مال تكون فيه الدية. والله أعلم.

الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة؛ قال ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي. واختاره الطبري قال: إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه ولم يقل وهو مؤمن، كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب. وإطلاقه ما قيد قبل يدل على أنه خلافه. وقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم أيضا: المعنى وإن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، فكفارته التحرير وأداء الدية. وقرأها الحسن: "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن". قال الحسن: إذا قتل المسلم الذمي فلا كفارة عليه. قال أبو عمر: وأما الآية فمعناها عند أهل الحجاز مردود على قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} ثم قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ} يريد ذلك المؤمن. والله أعلم. قال ابن العربي: والذي عندي أن الجملة محمولة حمل المطلق على المقيد.
قلت: وهذا معنى ما قال الحسن وحكاه أبو عمر عن أهل الحجاز. وقوله {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} على لفظ النكرة ليس يقتضي دية بعينها. وقيل: هذا في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين النبي عليه السلام عهد على أن يسلموا أو يؤذنوا بحرب إلى أجل معلوم: فمن قتل منهم وجبت فيه الدية والكفارة ثم نسخ بقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
الرابعة عشرة: وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل؛ قال أبو عمر: إنما صارت ديتها - والله أعلم - على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل، وشهادة امرأتين بشهادة رجل. وهذا إنما هو في دية الخطأ، وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. و {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} كما تقدم في "البقرة".

الخامسة عشرة: روى الدارقطني من حديث موسى بن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت أبي يقول إن أعمى كان ينشد في الموسم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول:
يا أيها الناس لقيت منكرا ... هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
خرا معاً كلاهما تكسرا
وذلك أن الأعمى كان يقوده بصير فوقعا في بئر، فوقع الأعمى على البصير فمات البصير؛ فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى. وقد اختلف العلماء في رجل يسقط على آخر فيموت أحدهما؛ فروي عن ابن الزبير: يضمن الأعلى الأسفل، ولا يضمن الأسفل الأعلى. وهذا قول شريح والنخعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك في رجلين جر أحدهما صاحبه. حتى سقطا وماتا: على عاقلة الذي جبذه الدية. قال أبو عمر: ما أظن في هذا خلافا - والله أعلم - إلا ما قال بعض المتأخرين من أصحابنا وأصحاب الشافعي: يضمن نصف الدية؛ لأنه مات من فعله، ومن سقوط الساقط عليه. وقال الحكم وابن شبرمة: إن سقط رجل على رجل من فوق بيت فمات أحدهما، قالا: يضمن الحي منهما. وقال الشافعي في رجلين يصدم أحدهما الآخر فماتا، قال: دية المصدوم على عاقلة الصادم، ودية الصادم هدر. وقال في الفارسين إذا اصطدما فماتا: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه؛ لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه؛ وقال عثمان البتي وزفر. وقال مالك والأوزاعي والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه في الفارسين يصطدمان فيموتان: على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته. قال ابن خويز منداد: وكذلك عندنا السفينتان تصطدمان إذا لم يكن النوتي صرف السفينة ولا الفارس صرف الفرس. وروي عن مالك في السفينتين والفارسين. على كل واحد منهما الضمان لقيمة ما أتلف لصاحبه كاملا.
السادسة عشرة: واختلف العلماء من هذا الباب في تفصيل دية أهل الكتاب؛ فقال مالك وأصحابه: هي على النصف من دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، ودية نسائهم

على النصف من ذلك. روي هذا القول عن عمر بن عبدالعزيز وعروة بن الزبير وعمرو بن شعيب وقال به أحمد بن حنبل. وهذا المعنى قد روى فيه سليمان بن بلال، عن عبدالرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية اليهودي والنصراني على النصف من دية المسلم. وعبدالرحمن هذا قد روى عنه الثوري أيضا. وقال ابن عباس والشعبي والنخعي: المقتول من أهل العهد خطأ لا تبالي مؤمنا كان أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم؛ وهو قول أبي حنيفة والثوري وعثمان البتي والحسن بن حي؛ جعلوا الديات كلها سواء، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي، وهو قول عطاء والزهري وسعيد بن المسيب. وحجتهم قوله تعالى: {فِدْيَةٌ} وذلك يقتضي الدية كاملة كدية المسلم. وعضدوا هذا بما رواه محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة بني قريظة والنضير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ديتهم سواء دية كاملة. قال أبو عمر: هذا حديث فيه لين وليس في مثله حجة. وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم؛ وحجته أن ذلك أقل ما قيل في ذلك، والذمة بريئة إلا بيقين أو حجة. وروي هذا القول عن عمر وعثمان، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وأبو ثور وإسحاق.
السابعة عشرة: قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها. {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} أي فعليه صيام شهرين. {مُتَتَابِعَيْنِ} حتى لو أفطر يوما استأنف؛ هذا قول الجمهور. وقال مكي عن الشعبي: إن صيام الشهرين يجزئ عن الدية والعتق لمن لم يجد. قال ابن عطية: وهذا القول وهم؛ لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل. والطبري حكى هذا القول عن مسروق.
الثامنة عشرة: والحيض لا يمنع التتابع من غير خلاف، وإنها إذا طهرت ولم تؤخر وصلت باقي صيامها بما سلف منه، لا شيء عليها غير ذلك إلا أن تكون طاهرا قبل الفجر

فتترك صيام ذلك اليوم عالمة بطهرها، فإن فعلت استأنفت عند جماعة من العلماء؛ قاله أبو عمر. واختلفوا في المريض الذي قد صام من شهري التتابع بعضها على قولين؛ فقال مالك: وليس لأحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله تعالى أن يفطر إلا من عذر أو مرض أو حيض، وليس له أن يسافر فيفطر. وممن قال يبني في المرض سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة وطاوس. وقال سعيد بن جبير والنخعي والحكم بن عيينة وعطاء الخراساني: يستأنف في المرض؛ وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حي؛ وأحد قولي الشافعي؛ وله قول آخر: أنه يبني كما قال مالك. وقال ابن شبرمة: يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب، كصوم رمضان. قال أبو عمر: حجة من قال يبني لأنه معذور في قطع التتابع لمرضه ولم يتعمد، وقد تجاوز الله عن غير المتعمد. وحجة من قال يستأنف لأن التتابع فرض لا يسقط لعذر، وإنما يسقط المأثم؛ قياسا على الصلاة؛ لأنها ركعات متتابعات فإذا قطعها عذر استأنف ولم يبن.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} نصب على المصدر، ومعناه رجوعا. وإنما مست حاجة المخطئ إلى التوبة لأنه لم يتحرز وكان من حقه أن يتحفظ. وقيل: أي فليأت بالصيام تخفيفا من الله تعالى عليه بقبول الصوم بدلا عن الرقبة؛ ومنه قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي خفف، وقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}.
الموفية عشرين: قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ} أي في أزله وأبده . {عَلِيماً} بجميع المعلومات {حَكِيماً} فيما حكم وأبرم.
93- {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}

فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ} "من "شرط، وجوابه {فَجَزَاؤُهُ} وسيأتي. واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل؛ فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو من قتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها. وقالت فرقة: المتعمد كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك؛ وهذا قول الجمهور.
الثانية: ذكر الله عز وجل في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد وقد اختلف العلماء في القول به؛ فقال ابن المنذر: أنكر ذلك مالك، وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ. وذكره الخطابي أيضا عن مالك وزاد: وأما شبه العمد فلا نعرفه. قال أبو عمر: أنكر مالك والليث بن سعد شبه العمد؛ فمن قتل عندهما بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة واللطمة وضربة السوط والقضيب وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود. قال أبو عمر: وقال بقولهما جماعة من الصحابة والتابعين. وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن هذا كله شبه العمد. وقد ذكر عن مالك وقال ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين. قال ابن المنذر: وشبه العمد يعمل به عندنا. وممن أثبت شبه العمد الشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة وسفيان الثري وأهل العراق والشافعي، وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
قلت: وهو الصحيح؛ فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أهبها، فلا تستباح إلا بأمرين لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال؛ لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد؛ فالضرب مقصود والقتل غير مقصود، وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود وتغلظ الدية. وبمثل هذا جاءت السنة؛ روى أبو داود من حديث عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها " . وروى الدارقطني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"العمد قود اليد والخطأ عقل لا قود فيه ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو سوط فهو دية مغلظة في أسنان الإبل " . وروي أيضا من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل شبه العمد مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه " . وهذا نص. وقال طاوس في الرجل يصاب في ماء الرميا في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة يودي ولا يقتل به من أجل أنه لا يدرك، من قاتله. وقال أحمد بن حنبل: العميا هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه. وقال إسحاق: هذا في تحارج القوم وقتل. بعضهم بعضا. فكأن أصله من التعمية وهو التلبيس؛ ذكره الدارقطني.
مسألة: واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة، فقال عطاء والشافعي: هي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة. وقد روي هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري؛ وهو مذهب مالك حيث يقول بشبه العمد، ومشهور مذهبه أنه لم يقل به إلا في مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه بالسيف. وقيل: هي مربعة ربع بنات لبون، وربع حقاق، وربع جذاع، وربع بنات مخاض. هذا قول النعمان ويعقوب؛ وذكره أبو داود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي. وقيل: هي مخمسة: عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة؛ هذا قول أبي ثور. وقيل: أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقة،

وثلاثون بنات لبون. وروي عن عثمان بن عفان وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري. وقيل: أربع وثلاثون خلفة إلى بازل عامها، وثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة؛ وبه قال الشعبي والنخعي، وذكره أبو داود عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي.
الثالثة: واختلفوا فيمن تلزمه دية شبه العمد؛ فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور: هو عليه في ماله. وقال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: هو على العاقلة. قال ابن المنذر: قول الشعبي أصح؛ لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة.
الرابعة: أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد وأنها في مال الجاني؛ وقد تقدم ذكرها في "البقرة". وقد أجمعوا على أن على القاتل خطأ الكفارة؛ واختلفوا فيها في قتل العمد؛ فكان مالك والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة كما في الخطأ. قال الشافعي: إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى. وقال: إذا شرع السجود في السهو فلأن يشرع في العمد أولى، وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ. وقد قيل: إن القاتل عمدا إنما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل، فأما إذا قتل قودا فلا كفارة عليه تؤخذ من ماله. وقيل تجب. ومن قتل نفسه فعليه الكفارة في ماله. وقال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي: لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى. قال ابن المنذر: وكذلك نقول؛ لأن الكفارات عبادات ولا يجوز التمثيل. وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضا يلزمه عباد الله إلا بكتاب أو سنة أو إجماع، وليس مع من فرض على القاتل عمدا كفارة حجة من حيث ذكرت.
الخامسة: واختلفوا في الجماعة يقتلون الرجل خطأ؛ فقالت طائفة: على كل واحد منهم الكفارة؛ كذلك قال الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي ومالك والثوري والشافعي

وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: عليهم كلهم كفارة واحدة؛ هكذا قال أبو ثور، وحكي ذلك عن الأوزاعي. وفرق الزهري بين العتق والصوم؛ فقال في الجماعة يرمون بالمنجنيق فيقتلون رجلا: عليهم كلهم عتق رقبة، وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم شهرين متتابعين.
السادسة: روى النسائي: أخبرنا الحسن بن إسحاق المروزي - ثقة قال: حدثنا خالد بن خداش قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بشير بن المهاجر عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " . وروي عن عبدالله قال: قال رسول الله: "أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء" . وروى إسماعيل بن إسحاق عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبدالله بن عباس أنه سأله سائل فقال: يا أبا العباس، هل للقاتل توبة ؟ فقال له ابن عباس كالمتعجب من مسألته: ماذا تقول ! مرتين أو ثلاثا. ثم قال ابن عباس: ويحك ! أنى له توبة ! سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به إلى النار ". وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نازلت ربي في شيء ما نازلته في قتل المؤمن فلم يجبني " .
السابعة: واختلف العلماء في قاتل العمد هل له من توبة ؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس، فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. وروى النسائي عنه قال: سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة ؟ قال: لا. وقرأت عليه الآية التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} قال: هذه آية مكية نسختها آية مدنية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ}. وروي

عن زيد بن ثابت نحوه، وإن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر، وفي رواية بثمانية أشهر؛ ذكرهما النسائي عن زيد بن ثابت. وإلى عموم هذه الآية مع هذه الأخبار عن زيد وابن عباس ذهبت المعتزلة وقالوا: هذا مخصص عموم قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ورأوا أن الوعيد نافذ حتما على كل قاتل؛ فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا: التقدير ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدا. وذهب جماعة من العلماء منهم. عبدالله بن عمر - وهو أيضا مروي عن زيد وابن عباس - إلى أن له توبة. روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ قال: لا، إلا النار؛ قال: فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا ؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة؛ قال: إني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا. قال: فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك. وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح، وإن هذه الآية مخصوصة، ودليل التخصيص آيات وأخبار. وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن ضبابة؛ وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن ضبابة؛ فوجد هشاما قتيلا في بني النجار فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه وأرسل معه رجلا من بني فهر؛ فقال بنو النجار: والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي الدية؛ فأعطوه مائة من الإبل؛ ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا؛ وجعل ينشد:
قتلت به فهرا وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به وتري وأدركت ثورتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أؤمنه في حل ولا حرم " . وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة. وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير وعلماء الدين فلا ينبغي أن يحمل على المسلمين، ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ

السَّيِّئَاتِ} وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} وقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . والأخذ بالظاهرين تناقض فلا بد من التخصيص. ثم إن الجمع بين آية "الفرقان "وهذه الآية ممكن فلا نسخ ولا تعارض، وذلك أن يحمل مطلق آية "النساء "على مقيد آية "الفرقان "فيكون معناه فجزاؤه كذا إلا من تاب؛ لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل والموجب وهو التواعد بالعقاب. وأما الأخبار فكثيرة كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه: "تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه " . رواه الأئمة أخرجه الصحيحان. وكحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي قتل مائة نفس. أخرجه مسلم في صحيحه وابن ماجة في سننه وغيرهما إلى غير ذلك من الأخبار الثابتة. ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل، ويقر بأنه قتل عمدا، ويأتي السلطان الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا، فهذا غير متبع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه إجماعا على مقتضى حديث عبادة؛ فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ودخله التخصيص بما ذكرنا، وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بينا، أو تكون محمولة على ما حكي عن ابن عباس أنه قال: متعمدا معناه مستحلا لقتله؛ فهذا أيضا يؤول إلى الكفر إجماعا. وقالت جماعة: إن القاتل في المشيئة تاب أو لم يتب؛ قال أبو حنيفة وأصحابه. فإن قيل: إن قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} دليل على كفره؛ لأن الله تعالى لا يغضب إلا على كافر خارج من الإيمان. قلنا: هذا وعيد، والخلف في الوعيد كرم؛ كما قال:
وإني متى أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقد تقدم. جواب ثان: إن جازاه بذلك؛ أي هو أهل لذلك ومستحقه لعظيم ذنبه. نص على هذا أبو مجلز لاحق بن حميد وأبو صالح وغيرهما. وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

أنه قال: "إذا وعد الله لعبد ثوابا فهو منجزه وإن أوعد له العقوبة فله المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه ". وفي هذين التأويلين دخل؛ أما الأول - فقال القشيري: وفي هذا نظر؛ لأن كلام الرب لا يقبل الخلف إلا أن يراد بهذا تخصيص العام؛ فهو إذا جائز في الكلام. وأما الثاني: وإن روي أنه مرفوع فقال النحاس: وهذا الوجه الغلط فيه بين، وقد قال الله عز وجل: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} ولم يقل أحد: إن جازاهم؛ وهو خطأ في العربية لأن بعده {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} وهو محمول على معنى جازاه. وجواب ثالث: فجزاؤه جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على الكفر بشؤم المعاصي. وذكر هبة الله في كتاب "الناسخ والمنسوخ "أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وقال: هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر فإنهما قالا هي محكمة. وفي هذا الذي قال نظر؛ لأنه موضع عموم وتخصيص لا موضع نسخ؛ قال ابن عطية. قلت: هذا حسن؛ لأن النسخ لا يدخل الأخبار إنما المعنى فهو يجزيه. وقال النحاس في "معاني القرآن "له: القول فيه عند العلماء أهل النظر أنه محكم وأنه يجازيه إذا لم يتب، فإن تاب فقد بين أمره بقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} فهذا لا يخرج عنه، والخلود لا يقتضي الدوام، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} . وقال تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} . وقال زهير:
ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا
وهذا كله يدل على أن الخلد يطلق على غير معنى التأبيد؛ فإن هذا يزول بزوال الدنيا. وكذلك العرب تقول: لأخلدن فلانا في السجن؛ والسجن ينقطع ويفنى، وكذلك المسجون. ومثله قولهم في الدعاء: خلد الله ملكه وأبد أيامه. وقد تقدم هذا كله لفظا ومعنى. والحمد لله.

94- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
فيه إحدى عشرة مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} هذا متصل بذكر القتل والجهاد. والضرب: السير في الأرض؛ تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره؛ مقترنة بفي. وتقول: ضربت الأرض دون "في" إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك " . وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فحمل عليه أحدهم فقتله. فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية. وأخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس قال: قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم؛ فقتلوه وأخذوا غنيمته؛ فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله: {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تلك الغنيمة. قال: قرأ ابن عباس "السلام". في غير البخاري: وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته.
واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داود والاستيعاب لابن عبدالبر أن القاتل محلم بن جثامة، والمقتول عامر بن الأضبط فدعا عليه السلام على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقبله الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم تقبله؛ فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب؛ وقال عليه السلام: "إن الأرض لتقبل من هو شر منه " . قال الحسن: أما إنها تحبس من هو

شر منه ولكنه وعظ القوم ألا يعودوا. وفي سنن ابن ماجة عن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا، فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ إني مسلم؛ فطعنه فقتله؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت ! قال: "وما الذي صنعت " ؟ مرة أو مرتين، فأخبره بالذي صنع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه " فقال: يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه ؟ قال: "لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه " . فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات فدفناه، فأصبح على وجه الأرض. فقلنا: لعل عدوا نبشه، فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه فأصبح على ظهر الأرض. فقلنا: لعل الغلمان نعسوا، فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض، فألقيناه في بعض تلك الشعاب. وقيل: إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني ثم الفزاري من بني مرة من أهل فدك. وقال ابن القاسم عن مالك. وقيل: كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله؛ ولما عظم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على أسامة حلف عند ذلك ألا يقاتل رجلا يقول: لا إله إلا الله. وقد تقدم القول فيه. وقيل: القاتل أبو قتادة. وقيل: أبو الدرداء. ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محرم الذي ذكرناه. ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أهل المسلم الغنم والجمل وحمل ديته على طريق الائتلاف والله أعلم. وذكر الثعلبي أن أمير تلك السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي. وقيل: المقداد حكاه السهيلي.
الثانية: قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} أي تأملوا. و"تبينوا "قراءة الجماعة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وقالا: من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبيت؛ يقال: تبينت الأمر وتبين الأمر بنفسه، فهو متعد ولازم. وقرأ حمزة "فتثبتوا "من التثبت بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة.

"وتبينوا "في هذا أوكد؛ لأن الإنسان قد يتثبت ولا يبين. وفي "إذا "معنى الشرط، فلذلك دخلت الفاء في قوله "فتبينوا". وقد يجازى بها كما قال:
وإذا تصبك خصاصة فتجمل
والجيد ألا يجازى بها كما قال الشاعر:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
والتبين التثبت في القتل واجب حضرا وسفرا ولا خلاف فيه، وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التي فيها نزلت الآية وقعت في السفر.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} السلم والسلم، والسلام واحد، قال البخاري. وقرئ بها كلها. واختار أبو عبيد القاسم بن سلام "السلام". وخالفه أهل النظر فقالوا: "السلم "ههنا أشبه؛ لأنه بمعنى الانقياد والتسليم، كما قال عز وجل: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} فالسلم الاستسلام والانقياد. أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم لست مؤمنا. وقيل: السلام قول السلام عليكم، وهو راجع إلى الأول؛ لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك. قال الأخفش: يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا. والسلم "بشد السين وكسرها وسكون اللام" الصلح.
الرابعة: وروي عن أبي جعفر أنه قرأ "لست مؤمَنا "بفتح الميم الثانية، من آمنته إذا أجرته فهو مؤمن.
الخامسة: والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله؛ فإن قال: لا إله إلا الله لم يجز قتله؛ لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله: فإن قتله بعد ذلك قتل به. وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا وخوفا من السلاح، وأن العاصم قولها مطمئنا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم

كيفما قالها؛ ولذلك قال لأسامة: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا " أخرجه مسلم. أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب ؟ وذلك لا يمكن فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه. وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر.
السادسة:فإن قال: سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا؛ لأنه موضع إشكال. وقد قال مالك في الكافر يوجد فيقول: جئت مستأمنا أطلب الأمان: هذه أمور مشكلة، وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام؛ لأن الكفر قد ثبت له فلا بد أن يظهر منه ما يدل على قوله، ولا يكفي أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بها عليه في قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ".
السابعة: فإن صلى أو فعل فعلا من خصائص الإسلام فقد اختلف فيه علماؤنا؛ فقال ابن العربي: نرى أنه لا يكون بذلك مسلما، أما أنه يقال له: ما وراء هذه الصلاة ؟ فإن قال: صلاة مسلم، قيل له: قل لا إله إلا الله؛ فإن قالها تبين صدقه، وإن أبى علمنا أن ذلك تلاعب، وكانت عند من يرى إسلامه ردة؛ والصحيح أنه كفر أصلي ليس بردة. وكذلك هذا الذي قال: سلام عليكم، يكلف الكلمة؛ فإن قالها تحقق رشاده، وإن أبى تبين عناده وقتل. وهذا معنى قوله: "فتبينوا "أي الأمر المشكل، أو "تثبتوا "ولا تعجلوا المعنيان سواء. فإن قتله أحد فقد أتى منهيا عنه. فإن قيل: فتغليظ النبي صلى الله عليه وسلم على محلم، ونبذه من قبره كيف مخرجه ؟ قلنا: لأنه علم من نيته أنه لم يبال بإسلامه فقتله متعمدا لأجل الحنة التي كانت بينهما في الجاهلية.
الثامنة: قوله تعالى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي تبتغون أخذ ماله: ويسمى متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت. قال أبو عبيدة: يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء؛ ومنه: "الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر ".

والعرض "بسكون الراء " ما سوى الدنانير والدراهم؛ فكل عرض عرض، وليس كل عرض عرضا. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس " . وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه:
تقنع بما يكفيك واستعمل الرضا ... فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال
إنما يكون الغنى والفقر من قبل النفس
وهذا يصحح قول أبي عبيدة: فإن المال يشمل كل ما يتمول. وفي كتاب العين: العرض ما نيل من الدنيا؛ ومنه قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} وجمعه عروض. وفي المجمل لابن فارس: والعرض ما يعترض الإنسان من مرض أو نحوه وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو كثر. والعرض من الأثاث ما كان غير نقد. وأعرض الشيء إذا ظهر وأمكن. والعرض خلاف الطول.
التاسعة: قوله تعالى: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} عدة من الله تعالى بما يأتي به على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور، أي فلا تتهافتوا. {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا منكم على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين، فهم الآن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم، فلا يصلح إذ وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره. وقال ابن زيد: المعنى كذلك كنتم كفرة {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بأن أسلمتم فلا تنكروا أن يكون هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره.
العاشرة: استدل بهذه الآية من قال: إن الإيمان هو القول، لقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} . قالوا: ولما منع أن يقال لمن قال لا إله إلا الله لست مؤمنا منع من قتلهم بمجرد القول. ولولا الإيمان الذي هو هذا القول لم يعب قولهم. قلنا: إنما شك القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوذا فقتلوه، والله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "

وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط؛ ألا ترى أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول وليسوا بمؤمنين حسب ما تقدم بيانه في "البقرة "وقد كشف البيان في هذا قوله عليه السلام: "أفلا شققت عن قلبه " ؟ فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره، وأن حقيقته التصديق بالقلب، ولكن ليس للعبد طريق إليه إلا ما سمع منه فقط. واستدل بهذا أيضا من قال: إن الزنديق تقبل توبته إذا أظهر الإسلام؛ قال: لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام. وقد مضى القول في هذا في أول البقرة. وفيها رد على القدرية، فإن الله تعالى أخبر أنه من على المؤمنين من بين جميع الخلق بأن خصهم بالتوفيق، والقدرية تقول: خلقهم كلهم للإيمان. ولو كان كما زعموا لما كان لاختصاص المؤمنين بالمنة من بين الخلق معنى.
الحادية عشرة:قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} أعاد الأمر بالتبيين للتأكيد. {ِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} تحذير عن مخالفة أمر الله؛ أي احفظوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم.
95- {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً}
96- {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. ثم قال: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} والضرر الزمانة. روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت ثقل شيء

أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه فقال: "اكتب " فكتبت في كتف {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى آخر الآية؛ فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين ؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اقرأ يا زيد " فقرأت {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الآية كلها. قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها؛ والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف. وفي البخاري عن مقسم مولى عبدالله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن بدر والخارجون إلى بدر. قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد. وصح وثبت في الخبر أنه عليه السلام قال - وقد قفل من بعض غزواته: "إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر " . فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي؛ فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل لا استحقاق؛ فيثيب على النية الصادقة مالا يثيب على الفعل. وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة. والله أعلم.
قلت: والقول الأول أصح - إن شاء الله - للحديث الصحيح في ذلك "إن بالمدينة رجالا " ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه السلام "إنما الدنيا لأربعة نفر " الحديث وقد تقدم في سورة "آل عمران". ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر "إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي ".

الثانية: وقد تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع؛ لأن أهل الديوان لما كانوا متملكين بالعطاء، ويصرفون في الشدائد، وتروعهم البعوث والأوامر، كانوا أعظم من المتطوع؛ لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها. قال ابن محيريز: أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يروعون. قال مكحول: روعات البعوث تنفي روعات القيامة.
الثالثة: وتعلق بها أيضا من قال: إن الغنى أفضل من الفقر؛ لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال. وقد اختلف الناس في هذه المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم؛ فذهب قوم إلى تفضيل الغني، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة. وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر، لأن الفقير تارك والغني ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة. وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، وليسلم من مذمة الحالين. قال الماوردي: وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال وأن "خير الأمور أوسطها ". ولقد أحسن الشاعر الحكيم حيث قال:
ألا عائذا بالله من عدم الغنى ... ومن رغبة يوما إلى غير مرغب
الرابعة: قوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} قراءة أهل الكوفة وأبو عمرو "غير "بالرفع؛ قال الأخفش: هو نعت للقاعدين؛ لأنهم لم يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير؛ والمعنى لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر؛ أي لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر. والمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء؛ قال الزجاج. وقرأ أبو حيوة "غير "جعله نعتا للمؤمنين؛ أي من المؤمنين الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء.

وقرأ أهل الحرمين "غير "بالنصب على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين؛ أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين. وإن شئت على الحال من القاعدين؛ أي لا يستوي القاعدون من الأصحاء أي في حال صحتهم؛ وجازت الحال منهم؛ لأن لفظهم لفظ المعرفة، وهو كما تقول: جاءني زيد غير مريض. وما ذكرناه من سبب النزول يدل على معنى النصب، والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} وقد قال بعد هذا: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات؛ قال ابن جريج والسدي وغيرهما. وقيل: إن معنى درجة علو، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ. فهذا معنى درجة، ودرجات يعني في الجنة. قال ابن محيريز: سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس الجواد سبعين سنة. و"درجات "بدل من أجر وتفسير له، ويجوز نصبه أيضا على تقدير الظرف؛ أي فضلهم بدرجات، ويجوز أن يكون توكيدا لقول {أَجْراً عَظِيماً} لأن الأجر العظيم هو الدرجات والمغفرة والرحمة، ويجوز الرفع؛ أي ذلك درجات. و"أجرا "نصب بـ "فضل "وإن شئت كان مصدرا وهو أحسن، ولا ينتصب بـ "فضل "لأنه قد استوفى مفعوليه وهما قوله: "المجاهدين "و "على القاعدين "؛ وكذا "درجة". فالدرجات منازل بعضها أعلى من بعض. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ". {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} "كلا "منصوب بـ "وعد "و "الحسنى "الجنة؛ أي وعد الله كلا الحسنى. ثم قيل: المراد "بكل " المجاهدون خاصة. وقيل: المجاهدون وأولو الضرر. والله أعلم.

97- { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}
98- {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}
99- {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}
المراد بها جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار؛ فنزلت الآية. وقيل: إنهم لما استحقروا عدد المسلمين دخلهم شك في دينهم فارتدوا فقتلوا على الردة؛ فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا على الخروج فاستغفروا لهم؛ فنزلت الآية. والأول أصح. روى البخاري عن محمد بن عبدالرحمن قال: قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}.
قوله تعالى: {تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} يحتمل أن يكون فعلا ماضيا لم يستند بعلامة تأنيث، إذ تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي، ويحتمل أن يكون فعلا مستقبلا على معنى تتوفاهم؛ فحذفت إحدى التاءين. وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار. وقيل: تقبض أرواحهم؛ وهو أظهر. وقيل: المراد بالملائكة ملك الموت؛ لقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ

مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} و {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} نصب على الحال؛ أي في حال ظلمهم أنفسهم، والمراد ظالمين أنفسهم فحذف النون استخفافا وأضاف؛ كما قال تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} . وقول الملائكة {فِيمَ كُنْتُمْ} سؤال تقريع وتوبيخ، أي أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين ! وقول هؤلاء: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} يعني مكة، اعتذار غير صحيح؛ إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل، ثم وقفتهم الملائكة على دينهم بقولهم {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} . ويفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا، وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه، ولعدم تعين أحدهم بالإيمان، واحتمال ردته. والله أعلم. ثم استثنى تعالى منهم من الضمير الذي هو الهاء والميم في "مأواهم "من كان مستضعفا حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان؛ كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام وغيرهم الذين دعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كنت أنا وأمي ممن عنى الله بهذه الآية؛ وذلك أنه كان من الولدان إذ ذاك، وأمه هي أم الفضل بنت الحارث واسمها لبابة، وهي أخت ميمونة، وأختها الأخرى لبابة الصغرى، وهن تسع أخوات قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهن: "الأخوات مؤمنات " ومنهن سلمى والعصماء وحفيدة ويقال في حفيدة: أم حفيد، واسمها هزيلة. هن ست شقائق وثلاث لأم؛ وهن سلمى، وسلامة، وأسماء. بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، ثم امرأة أبي بكر الصديق، ثم امرأة علي رضى الله عنهم أجمعين.
قوله تعالى: {فِيمَ كُنْتُمْ} سؤال توبيخ، وقد تقدم. والأصل "فيما "ثم حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر، والوقف عليها "فيمه " لئلا تحذف الألف والحركة. والمراد بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} المدينة؛ أي ألم تكونوا متمكنين قادرين على الهجرة والتباعد ممن كان يستضعفكم ! وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي.

وقال سعيد بن جبير: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها؛ وتلا {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام." {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مثواهم النار. وكانت الهجرة واجبة على كل من أسلم. {وَسَاءَتْ مَصِيراً} نصب على التفسير.
وقوله تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص. والسبيل سبيل المدينة؛ فيما ذكر مجاهد والسدي وغيرهما، والصواب أنه عام في جميع السبل. وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} هذا الذي لا حيلة له في الهجرة لا ذنب له حتى يعفى عنه؛ ولكن المعنى أنه قد يتوهم أنه يجب تحمل غاية المشقة في الهجرة، حتى أن من لم يتحمل تلك المشقة يعاقب فأزال الله ذلك الوهم؛ إذ لا يجب تحمل غاية المشقة، بل كان يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة. فمعنى الآية؛ فأولئك لا يستقصى عليهم في المحاسبة؛ ولهذا قال: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} والماضي والمستقبل في حقه تعالى واحد، وقد تقدم.
100- {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ} شرط وجوابه. {فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً} اختلف في تأويل المراغم؛ فقال مجاهد: المراغم المتزحزح. وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم: المراغم المتحول والمذهب. وقال ابن زيد: والمراغم المهاجر؛ وقاله أبو عبيدة. قال النحاس: فهذه الأقوال متفقة المعاني. فالمراغم المذهب والمتحول في حال هجرة، وهو اسم الموضع الذي يراغم فيه، وهو مشتق من الرغام. ورغم أنف فلان أي لصق بالتراب.

عكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديما، وأن الاعتناء به حسن والمعرفة به فضل؛ ونحو منه قول ابن عباس: مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يمنعني إلا مهابته. والذي ذكره عكرمة هو ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع؛ حكاه الطبري عن سعيد بن جبير. ويقال فيه: ضميرة أيضا. ويقال: جندع بن ضمرة من بني ليث، وكان من المستضعفين بمكة وكان مريضا، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني؛ فهيئ له فراش ثم وضع عليه وخرج به فمات في الطريق بالتنعيم، فأنزل الله فيه {ومَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً} .الآية وذكر أبو عمر أنه قد قيل فيه: خالد بن حزام بن خويلد ابن أخي خديجة، وأنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يبلغ أرض الحبشة؛ فنزلت فيه الآية، والله أعلم. وحكى أبو الفرج الجوزي أنه حبيب بن ضمرة. وقيل: ضمرة بن جندب الضمري؛ عن السدي. وحكي عن عكرمة أنه جندب بن ضمرة الجندعي. وحكي عن ابن جابر أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث. وحكى المهدوي أنه ضمرة بن ضمرة بن نعيم. وقيل: ضمرة بن خزاعة، والله أعلم. وروى معمر عن قتادة قال: لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية، قال رجل من المسلمين وهو مريض: والله ما لي من عذر ! إني لدليل في الطريق، وإني لموسر فاحملوني. فحملوه فأدركه الموت في الطريق؛ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو بلغ إلينا لتم أجره؛ وقد مات بالتنعيم. وجاء بنوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقصة، فنزلت هذه الآية {ومَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً} الآية. وكان اسمه ضمرة بن جندب، ويقال: جندب بن ضمرة على ما تقدم. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً} لما كان منه من الشرك. {رَحِيماً} حين قبل توبته.
الخامسة: قال ابن العربي: قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض قسمين: هربا وطلبا؛ فالأول ينقسم إلى ستة أقسام: الأول: الهجرة وهي الخروج من

دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان؛ فإن بقي في دار الحرب عصى؛ ويختلف في حاله. الثاني: الخروج من أرض البدعة؛ قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف. قال ابن العربي: وهذا صحيح؛ فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله {الظَّالِمِينَ} . الثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام: فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم. الرابع: الفرار من الأذية في البدن؛ وذلك فضل من الله أرخص فيه، فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور. وأول من فعله إبراهيم عليه السلام؛ فإنه لما خاف من قومه قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} ، وقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} . وقال مخبرا عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} الخامس: خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة. وقد أذن صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا. وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون؛ فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم بيانه في "البقرة". بيد أن علماءنا قالوا: هو مكروه. السادس: الفرار خوف الأذية في المال؛ فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله وأوكد. وأما قسم الطلب فينقسم قسمين: طلب دين وطلب دنيا.
فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام: الأول: سفر العبرة؛ قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وهو كثير. ويقال: إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها. وقيل: لينفذ الحق فيها. الثاني: سفر الحج. والأول وإن كان

ندبا فهذا فرض. الثالث: سفر الجهاد وله أحكامه. الرابع: سفر المعاش؛ فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه. من صيد أو احتطاب أو احتشاش؛ فهو فرض عليه. الخامس: سفر التجارة والكسب الزائد على القوت، وذلك جائز بفضل الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} يعني التجارة، وهي نعمة من الله بها في سفر الحج، فكيف إذا انفردت. السادس: في طلب العلم وهو مشهور. السابع: قصد البقاع؛ قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " . الثامن: الثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها. التاسع: زيارة الإخوان في الله تعالى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زار رجل أخا له في قرية فأرصد الله له ملكا على مدرجته فقال أين تريد فقال أريد أخا لي في هذه القرية قال: هل لك من نعمة تربها عليه قال لا غير أني أحببته في الله عز وجل قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه " . رواه مسلم وغيره.
101- {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً}
فيه عشر مسائل:
قوله تعالى: {ضَرَبْتُمْ} سافرتم، وقد تقدم. واختلف العلماء في حكم القصر في السفر؛ فروي عن جماعة أنه فرض. وهو قول عمر بن عبدالعزيز والكوفيين والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان؛ واحتجوا بحديث عائشة رضي الله عنها "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين الحديث ، ولا حجة فيه لمخالفتها له؛ فإنه كانت تتم في السفر وذلك يوهنه. وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم؛ وقد قال غيرها من

الصحابة كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم: "إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة " رواه مسلم عن ابن عباس. ثم إن حديث عائشة قد رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين. وقال فيه الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين؛ الحديث، وهذا اضطراب. ثم إن قولها: "فرضت الصلاة " ليس على ظاهره؛ فقد خرج عنه صلاة المغرب والصبح؛ فإن المغرب ما زيد فيها ولا نقص منها. وكذلك الصبح، وهذا كله يضعف متنه لا سنده. وحكى ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض، ومشهور مذهبه وجل أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة، وهو قول الشافعي، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه إن شاء الله. ومذهب عامة البغداديين من المالكيين أن الفرض التخيير؛ وهو قول أصحاب الشافعي. ثم اختلفوا في أيهما أفضل؛ فقال بعضهم: القصر أفضل؛ وهو قول الأبهري وغيره. وقيل: إن الإتمام أفضل؛ وحكي عن الشافعي. وحكى أبو سعيد الفروي المالكي أن الصحيح على ما يأتي مذهب مالك التخيير للمسافر في الإتمام والقصر.
قلت: وهو الذي يظهر من قوله سبحانه وتعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} إلا أن مالكا رحمه الله يستحب له القصر، وكذلك يرى عليه الإعادة في الوقت إن أتم. وحكى أبو مصعب في "مختصره "عن مالك وأهل المدينة قال: القصر في السفر للرجال والنساء سنة. قال أبو عمر: وحسبك بهذا في مذهب مالك، مع أنه لم يختلف قوله: أن من أتم في السفر يعيد ما دام في الوقت؛ وذلك استحباب عند من فهم، لا إيجاب. وقال الشافعي: القصر في غير الخوف بالسنة، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسنة؛ ومن صلى أربعا فلا شيء عليه، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة. وقال أبو بكر الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل للرجل أن يصلي في السفر أربعا ؟ قال: لا، ما يعجبني، السنة ركعتان. وفي موطأ مالك عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد، أنه سأل عبدالله بن عمر

فقال: يا أبا عبدالرحمن إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر ؟ فقال عبدالله بن عمر: يا ابن أخي إن الله تبارك وتعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، فإنا نفعل كما رأيناه يفعل. ففي هذا الخبر قصر الصلاة في السفر من غير خوف ستة لا فريضة؛ لأنها لا ذكر لها في القرآن، وإنما القصر المذكور في القرآن إذا كان سفرا وخوفا واجتمعا؛ فلم يبح القصر في كتابه إلا مع هذين الشرطين. ومثله في القرآن: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ} الآية، وقد تقدم. ثم قال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي فأتموها؛ وقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أربع إلى اثنتين إلا المغرب في أسفاره كلها آمنا لا يخاف إلا الله تعالى؛ فكان ذلك سنة مسنونة منه صلى الله عليه وسلم، زيادة في أحكام الله تعالى كسائر ما سنة وبينه، مما ليس له في القرآن ذكر. وقوله: " كما رأيناه يفعل " مع حديث عمر حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصر في السفر من غير خوف؛ فقال: " تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته " يدل على أن الله تعالى قد يبيح الشيء في كتابه بشرط ثم يبيح ذلك الشيء على لسان نبيه من غير ذلك الشرط. وسأل حنظلة ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان.
قلت: فأين قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ونحن آمنون؛ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا ابن عمر قد أطلق عليها سنة؛ وكذلك قال ابن عباس. فأين المذهب عنهما ؟ قال أبو عمر: ولم يقم مالك إسناد هذا الحديث؛ لأنه لم يسم الرجل الذي سأل ابن عمر، وأسقط من الإسناد رجلا، والرجل الذي لم يسمه هو أمية بن عبدالله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، والله أعلم.
الثانية: واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة؛ فقال داود: تقصر في كل سفر طويل أو قصير، ولو كان ثلاثة أميال من حيث تؤتى الجمعة؛ متمسكا بما رواه مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه مشكوك فيه، وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التي بدأ منها القصر، وكان سفرا طويلا زائدا على ذلك، والله أعلم. قال ابن العربي: وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر وأكل، وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب أو مستخف بالدين، ولولا أن العلماء ذكروه لها رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أفكر فيه بفضول قلبي. ولم يذكر حد السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة، وإنما كان كذلك لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين - خاطبهم الله تعالى بالقرآن؛ فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لغة ولا شرعا، وإن مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعا. كما أنا نحكم على أن من مشى يوما وليلة كان مسافرا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها " وهذا هو الصحيح، لأنه وسط بين الحالين وعليه عول مالك، ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقا عليه، وروي مرة "يوما وليلة " ومرة "ثلاثة أيام " فجاء إلى عبدالله بن عمر فعول على فعله، فإنه كان يقصر الصلاة إلى رئم، وهي أربعة برد؛ لأن ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال غيره: وكافة العلماء على أن القصر إنما شرع تخفيفا، وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبا، فراعى مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث أحمد وإسحاق وغيرهما يوما تاما. وقول مالك يوما وليلة راجع إلى اليوم التام، لأنه لم يرد بقول: مسيرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله، وإنما أراد أن يسير سيرا يبيت فيه بعيدا عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم. وفي البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخا، وهذا مذهب مالك. وقال الشافعي والطبري: ستة وأربعون ميلا. وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على خمسة وأربعين ميلا

قال: يقصر، وهو أمر متقارب. وعن مالك في الكتب المنثورة: أنه يقصر في ستة وثلاثين ميلا، وهي تقرب من يوم وليلة. وقال يحيى بن عمر: يعيد أبدا. ابن عبدالحكم: في الوقت !. وقال الكوفيون: لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام؛ وهو قول عثمان وابن مسعود وحذيفة. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم " . قال أبو حنيفة: ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام. وقال الحسن والزهري: تقصر الصلاة في مسيرة يومين؛ وروي هذا القول عن مالك، ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي محرم ". وقصر ابن عمر في ثلاثين ميلا، وأنس في خمسة عشر ميلا. وقال الأوزاعي: عامة العلماء في القصر على اليوم التام، وبه نأخذ. قال أبو عمر: اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب كما ترى في ألفاظها؛ ومجملها عندي - والله أعلم - أنها خرجت على أجوبة السائلين، فحدث كل واحد بمعنى ما سمع، كأنه قيل له صلى في وقت ما: هل تسافر المرأة مسيرة يوم بغير محرم ؟ فقال: لا. وقيل له في وقت آخر: هل تسافر المرأة يومين بغير محرم ؟ فقال: لا. وقال له آخر: هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم ؟ فقال: لا. وكذلك معنى الليلة والبريد على ما روي، فأدى كل واحد ما سمع على المعنى، والله أعلم. ويجمع معاني الآثار في هذا الباب - وإن اختلفت ظواهرها - الحظر على المرأة أن تسافر سفرا يخاف عليها فيه الفتنة بغير محرم، قصيرا كان أو طويلا. والله أعلم.
الثالثة: واختلفوا في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس. واختلفوا فيما سوى ذلك، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح كالتجارة ونحوها. وروي عن ابن مسعود أنه قال: لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد. وقال عطاء: لا تقصر إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير. وروي عنه أيضا: تقصر في كل السفر المباح مثل قول الجمهور. وقال مالك: إن خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزها، أو خرج لمشاهدة بلدة متنزها ومتلذذا

لم يقصر. والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية؛ كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما. وروي عن أبي حنيفة والأوزاعي إباحة القصر في جميع ذلك، وروي عن مالك. وقد تقدم في "البقرة "واختلفوا عن أحمد، فمرة قال بقول الجمهور، ومرة قال: لا يقصر إلا في حج أو عمرة. والصحيح ما قال الجمهور، لأن القصر إنما شرع تخفيفا عن المسافر للمشقات اللاحقة فيه، ومعونته على ما هو بصدده مما يجوز، وكل الأسفار في ذلك سواء؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي إثم {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} فعم. وقال عليه السلام "خير عباد الله الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا " . وقال الشعبي: إن الله يحب أن يعمل برخصه كما يحب أن يعمل بعزائمه. وأما سفر المعصية فلا يجوز القصر فيه؛ لأن ذلك يكون عونا له على معصية الله. والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
الرابعة: واختلفوا متى يقصر، فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الأرض، وهو قول مالك في المدونة. ولم يحد مالك في القرب حدا. وروي عنه إذا كانت قرية تجمع أهلها فلا يقصر أهلها حتى يجاوزوها بثلاثة أميال، وإلى ذلك في الرجوع. وإن كانت لا تجمع أهلها قصروا إذا جاوزوا بساتينها. وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى.
قلت: ويكون معنى الآية على هذا: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي إذا عزمتم على الضرب في الأرض. والله أعلم. وروي عن مجاهد أنه قال: لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل. وهذا شاذ؛ وقد ثبت من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين. أخرجه الأئمة، وبين ذي الحليفة والمدينة نحو من ستة أميال أو سبعة.

الخامسة: وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الإحرام؛ فإن افتتح الصلاة بنية القصر ثم عزم على المقام في أثناء صلاته جعلها نافلة، وإن كان ذلك بعد أن صلى منها ركعة أضاف إليها أخرى وسلم، ثم صلى صلاة مقيم. قال الزهري وابن الجلاب: هذا - والله أعلم - استحباب ولو بنى على صلاته وأتمها أجزأته صلاته. قال أبو عمر: هو عندي كما قالا؛ لأنها ظهر، سفرية كانت أو حضرية وكذلك سائر الصلوات الخمس.
السادسة: واختلف العلماء من هذا الباب في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتم؛ فقال مالك والشافعي والليث بن سعد والطبري وأبو ثور: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتم؛ وروي عن سعيد بن المسيب. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتم، وإن كان أقل قصر. وهو قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فيما ذكر الطحاوي، وروي عن سعيد أيضا. وقال أحمد: إذا جمع المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر، وإن زاد على ذلك أتم، وبه قال داود. والصحيح ما قاله مالك؛ لحديث ابن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام ثم يصدر. أخرجه الطحاوي وابن ماجة وغيرهما. ومعلوم أن الهجرة إذ كانت مفروضة قبل الفتح كان المقام بمكة لا يجوز؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر ثلاثة أيام لتقضية حوائجه وتهيئة أسبابه، ولم يحكم لها بحكم المقام ولا في حيز الإقامة، وأبقى عليه فيها حكم المسافر، ومنعه من مقام الرابع، فحكم له بحكم الحاضر القاطن؛ فكان ذلك أصلا معتمدا عليه. ومثله ما فعله عمر رضي الله عنه حين أجلى اليهود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجعل لهم مقام ثلاثة أيام في قضاء أمورهم. قال ابن العربي: وسمعت بعض أحبار المالكية يقول: إنما كانت الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة؛ لأن الله تعالى أرجأ فيها من أنزل به العذاب وتيقن الخروج عن الدنيا؛ فقال تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}.
وفي المسألة قول غير هذه الأقوال، وهو أن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه، أو ينزل وطنا له. روي عن أنس أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة. وقال أبو مجلز:

قلت لابن عمر: إني آتي المدينة فأقيم بها السبعة أشهر والثمانية طالبا حاجة؛ فقال: صل ركعتين. وقال أبو إسحاق السبيعي: أقمنا بسجستان ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود سنتين نصلي ركعتين. وأقام ابن عمر بأذربيجان يصلي ركعتين ركعتين؛ وكان الثلج حال بينهم وبين القفول: قال أبو عمر: محمل هذه الأحاديث عندنا على أن لا نية لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدة؛ وإنما مثل ذلك أن يقول: أخرج اليوم، أخرج غدا؛ وإذا كان هكذا فلا عزيمة ههنا على الإقامة.
السابعة: روى مسلم عن عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. قال الزهري: فقلت لعروة ما بال عائشة تتم في السفر ؟ قال: إنها تأولت ما تأول عثمان. وهذا جواب ليس بمستوعب. وقد اختلف الناس في تأويل إتمام عثمان وعائشة رضي الله عنهما على أقوال: فقال معمر عن الزهري: إن عثمان رضي الله عنه إنما صلى بمنى أربعا لأنه أجمع على الإقامة بعد الحج. وروى مغيرة عن إبراهيم أن عثمان صلى أربعا لأنه اتخذها وطنا. وقال يونس عن الزهري قال: لما اتخذ عثمان الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها صلى أربعا. قال: ثم أخذ به الأئمة بعده. وقال أيوب عن الزهري، إن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب؛ لأنهم كثروا عامئذ فصلى بالناس أربعا ليعلمهم أن الصلاة أربع. ذكر هذه الأقوال كلها أبو داود في مصنفه في كتاب المناسك في باب الصلاة بمنى. وذكر أبو عمر في "التمهيد " قال ابن جريج: وبلغني إنما أوفاها عثمان أربعا بمنى، من أجل أن أعرابيا ناداه في مسجد الخيف بمنى فقال: يا أمير المؤمنين، ما زلت أصليها ركعتين منذ رأيتك عام الأول؛ فخشي عثمان أن يظن جهال الناس أنما الصلاة ركعتان. قال ابن جريج: وإنما أوفاها بمنى فقط. قال أبو عمر: وأما التأويلات في إتمام عائشة فليس منها شيء يروى عنها، وإنما هي ظنون وتأويلات لا يصحبها دليل. وأضعف ما قيل في ذلك: إنها أم المؤمنين، وإن الناس حيث كانوا هم بنوها، وكان منازلهم منازلها، وهل كانت أم المؤمنين إلا أنها زوج النبي أبي المؤمنين صلى الله عليه وسلم

وهو الذي سن القصر في أسفاره وفي غزواته وحجه وعمره. وفي قراءة أبي بن كعب ومصحفه "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم". وقال مجاهد في قوله تعالى: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} . قال: لم يكن بناته ولكن كن نساء أمته، وكل نبي فهو أبو أمته.
قلت: وقد اعترض على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشرعا، وليست هي كذلك فانفصلا. وأضعف من هذا قول من قال: إنها حيث أتمت لم تكن في سفر جائز؛ وهذا باطل قطعا، فإنها كانت أخوف لله وأتقى من أن تخرج في سفر لا يرضاه. وهذا التأويل عليها من أكاذيب الشيعة المبتدعة وتشنيعاتهم؛ سبحانك هذا بهتان عظيم ! وإنما خرجت رضي الله عنها مجتهدة محتسبة تريد أن تطفئ نار الفتنة، إذ هي أحق أن يستحيا منها فخرجت الأمور عن الضبط. وسيأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى. وقيل: إنها أتمت لأنها لم تكن ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزوة. وهذا باطل؛ لأن ذلك لم ينقل عنها ولا عرف من مذهبها، ثم هي قد أتمت في سفرها إلى علي. وأحسن ما قيل في قصرها وإتمامها أنها أخذت برخصة الله؛ لتري الناس، أن الإتمام ليس فيه حرج وإن كان غيره أفضل. وقد قال عطاء: القصر سنة ورخصة، وهو الراوي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام وأفطر وأتم الصلاة وقصر في السفر، رواه طلحة بن عمر. وعنه قال: كل ذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، صام وأفطر وقصر الصلاة وأتم. وروى النسائي بإسناد صحيح أن عائشة اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي ! قصرت وأتممت وأفطرت وصمت ؟ فقال: "أحسنت يا عائشة " وما عاب علي. كذا هو مقيد بفتح التاء الأولى وضم الثانية في الكلمتين. وروى الدارقطني عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم؛ قال إسناده صحيح.

الثامنة: قوله تعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} " أن "في موضع نصب، أي في أن تقصروا. قال أبو عبيد: فيها ثلاث لغات: قصرت الصلاة وقصرتها وأقصرتها. واختلف العلماء في تأويله، فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنتين من أربع في الخوف وغيره؛ لحديث يعلى بن أمية على ما يأتي. وقال آخرون: إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة، والركعتان في السفر إنما هي تمام، كما قال عمر رضي الله عنه: تمام غير قصر، وقصرها أن تصير ركعة. قال السدي: إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحل إلا أن تخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا، ويكون للإمام ركعتان. وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبدالله وكعب، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا. وروى جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم محارب خصفة وبني ثعلبة. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان.
قلت: في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. وهذا يؤيد هذا القول ويعضده، إلا أن القاضي أبا بكر بن العربي ذكر في كتابه المسمى "بالقبس": قال علماؤنا رحمة الله عليهم هذا الحديث مردود بالإجماع.
قلت: وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع وبالله التوفيق. وحكى أبو بكر الرازي الحنفي في "أحكام القرآن " أن المراد بالقصر ههنا القصر

في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وبترك القيام إلى الركوع. وقال آخرون: هذه الآية مبيحة للقصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه، إلى تكبيرة؛ على ما تقدم في "البقرة". ورجح الطبري هذا القول وقال: إنه يعادل قوله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي بحدودها وهيئتها الكاملة.
قلت: هذه الأقوال الثلاثة في المعنى متقاربة، وهي مبنية على أن فرض المسافر القصر، وإن الصلاة في حقه ما نزلت إلا ركعتين، فلا قصر. ولا يقال في العزيمة لا جناح، ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك. وذكر الله تعالى القصر بشرطين والذي يعتبر فيه الشرطان صلاة الخوف؛ هذا ما ذكره أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن " واحتج به، ورد عليه بحديث يعلى بن أمية على ما يأتي آنفا إن شاء الله تعالى.
التاسعة: قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} خرج الكلام على الغالب، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار؛ ولهذا قال يعلى بن أمية قلت لعمر: ما لنا نقصر وقد أمنا. قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " .
قلت: وقد استدل أصحاب الشافعي وغيرهم على الحنفية بحديث يعلى بن أمية هذا فقالوا: إن قوله: "ما لنا نقصر وقد أمنا "دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات. قال الكيا الطبري: ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة على هذا تأويلا يساوي الذكر؛ ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان؛ فإنه لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السفر بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا فتجوز صلاة الخوف؛ فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قال. وفي قراءة أبي "أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا "بسقوط "إن خفتم". والمعنى على قراءته: كراهية أن يفتنكم الذين كفروا. وثبت في مصحف عثمان رضي الله عنه "إن

خفتم". وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو؛ فمن كان آمنا فلا قصر له. روي عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم؛ فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر، فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف، وهل أنتم تخافون ؟. وقال عطاء: كان يتم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص وأتم عثمان، ولكن ذلك معلل بعلل تقدم بعضها. وذهب جماعة إلى أن الله تعالى لم يبح القصر في كتابه إلا بشرطين: السفر والخوف، وفي غير الخوف بالسنة، منهم الشافعي وقد تقدم. وذهب آخرون إلى أن قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} ليس متصلا بما قبل، وإن الكلام تم عند قوله: {مِنَ الصَّلاةِ} ثم افتتح فقال: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف. وقوله: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} كلام معترض، قاله الجرجاني وذكره المهدوي وغيرهما. ورد هذا القول القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي. قال القشيري أبو نصر: وفي الحمل على هذا تكلف شديد، وإن أطنب الرجل - يريد الجرجاني - في التقدير وضرب الأمثلة. وقال ابن العربي: وهذا كله لم يفتقر إليه عمر ولا ابنه ولا يعلي بن أمية معهما.
قلت: قد جاء حديث بما قاله الجرجاني ذكره القاضي أبو الوليد بن رشد في مقدماته، وابن عطية أيضا في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} ثم انقطع الكلام، فلما كان بعد ذلك بحول غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى في أثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخر صلاة الخوف. فإن صح هذا الخبر فليس لأحد معه مقال، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن. وقد روى عن ابن عباس أيضا مثله، قال: إن قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ

فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} نزلت في الصلاة في السفر، ثم نزل {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في الخوف بعدها بعام. فالآية على هذا تضمنت قضيتين وحكمين. فقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} يعني به في السفر؛ وتم الكلام، ثم ابتدأ فريضة أخرى فقدم الشرط؛ والتقدير: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة. والواو زائدة، والجواب {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} . وقوله: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} اعتراض. وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة، وهو حديث عمر إذ روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " . قال النحاس: من جعل قصر النبي صلى الله عليه وسلم في غير خوف وفعله في ذلك ناسخا للآية فقد غلط؛ لأنه ليس في الآية منع للقصر في الأمن، وإنما فيها إباحة القصر في الخوف فقط.
العاشرة: قوله تعالى: {أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل. وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل. وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا: فتنته جعلت فيه فتنة مثل أكحلته، وافتنته جعلته مفتتنا. وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته. {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} "عدواً" ههنا بمعنى أعداء. والله أعلم.
102- {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}

فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} روى الدارقطني عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم؛ قال: ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم؛ قال: فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} . وذكر الحديث. وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى. وهذا كان سبب إسلام خالد رضي الله عنه. وقد اتصلت هذه الآية بما سبق من ذكر الجهاد. وبين الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ولا بعذر الجهاد وقتال العدو، ولكن فيها رخص على ما تقدم في "البقرة "وهذه السورة، بيانه من اختلاف العلماء. وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} هذا قول كافة العلماء. وشذ أبو يوسف وإسماعيل بن علية فقالا: لا نصلي صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الخطاب كان خاصا له بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} وإذا لم يكن فيهم لم يكن ذلك لهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في ذلك، وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه، والناس بعده تستوي أحوالهم وتتقارب؛ فلذلك يصلي الإمام بفريق ويأمر من يصلي بالفريق الآخر، وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا. وقال الجمهور: إنا قد أمرنا باتباعه والتأسي به في غير ما آية وغير حديث، فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} وقال صلى الله عليه وسلم: " صلوا كما رأيتموني أصلي " . فلزم اتباعه مطلقا حتى يدل دليل واضح على الخصوص؛ ولو كان ما ذكروه دليلا على الخصوص للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذ [كان] يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها؛ ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اطرحوا توهم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44