كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

ثم إنّ طالوت ندم وأراد التوبة وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، فكان كلّ ليلة يخرج الى القبور فيبكي ويقول: أنشد الله عبداً علم لي توبة إلا أخبرني بها، فلما أكثر ناداه مناد من القبور: يا طالوت أما رضيت قتلتنا أحياء حتى تؤذينا أمواتاً فازداد بكاء وحزناً، فرحمه الرجل الذي أمره بقتل تلك المرأة فقال له: إن دللتك علي عالم لعلك تقتله قال: لا، فزخذ عليه العهود والمواثيق ثمّ أخبره بتلك المرأة فقال: سلها هل لي من توبة؟ فحضر عندها وسألها هل به من توبة؟ فقالت: ما أعلم له من توبة، ولكن هل تعلمون قبر نبيّ؟ قالوا: نعم، قبر يوشع بن نون، فانطلقت وهم معها فدعت، فخرج يوشع، فلمّا رآهم قال: مالكم؟ قالوا: جئنا نسألك هل لطالوت من توبة؟ قال: ما أعلم له توبة إلا أن يتخلى من ملكه ويخرج هو وولده فيقاتلوا في سبيل الله حتى تقتل أولاده ثمّ يقاتل هو حتي يقتل، فعسى أن يكون له توبة، ثم سقط ميتاً، ورجع طالوت أحزن مما كان يخاف أن لا يتابعه ولده، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه، فسأله بنوه عن حاله، فأخبرهم، فتجهزوا للغزو فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا، ثم قاتل هو بعدهم حتى قتل.
وقيل: إن النبيّ الذي بعث لطالوت حتى أخبره بتوبته أليسع، وقيل: اشمويل، والله أعلم.
وكانت مدّة ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة.
ذكر ملك داودهو داود بن إيشي بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمّي نوذب بن رام بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن اسحاق، وكان قصيراً أزرق قليل الشعر، فلما قتل طالوت أتى بنو إسرائيل داود فأعطوه خزائن طالوت وملّكوه عليهم، وقيل: إن داود ملك قبل أن يُقتل جالوت؛ وسبب ملكه حينئذٍ أن الله أوصى الى اشمويل ليأمر طالوت بغزو مدين وقتل من بها، فسار إليها وقتل من بها رلا ملكهم، فإنه أخذه أسيراً، فأوحى الله إلى اشمويل: قل لطالوت آمرك بأمر فتركته لأنزعن الملك منك ومن بنيك ثمّ لا يعود فيكم إلى يوم القيامة، وأمر اشمويل بتمليك داود، فملّكه وسار إلى جالوت فقتله، والله أعلم.
فلما ملك بني اسرائيل جعله الله نبيّاً وملكاً وأنزل عليه الزبور وعلمه صنعة الدروع، وهو أول من عملها، وألان له الحديد، وأمر الجبال والطير يسبحون معه إذا سبح، ولم يعط الله أحداً مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها وإنها لمصيخة تسمع صوته.
وكان شديد الاجتهاد كثير العبادة والبكاء، وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر، وكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف، وكان يزكل من كسب يده.
وفي ملكه مسخ أهل أيلة قردة؛ وسبب ذلك أنهم كانوا تزتيهم يوم السبت حيتان البحر كثيراً، فإذا كان غير يوم السبت لا يجيء إليهم منها شيء، فعملوا على جانب البحر حياضاً كبيرة وأجروا إليها الماء، فإذا كان آخر نهار يوم الجمعة فتحوا الماء إلى الحياض فتدخلها الحيتان ولا تقدر على الخروج عنها، فيأخذونها يوم الأحد، فنهاهم بعض أهلها فلم ينتهوا، فمسخهم الله قردة وبقوا ثلاثة أيام وهلكوا.
ذكر فتنته بزوجة أورياثم إن الله ابتلاه بزوجة أوريا، وكان سبب ذلك أنه قد قسم زمانه ثلاثة أيام، يوماً يقضي فيه بين الناس، ويوماً يخلوا فيه للعبادة، ويوماً يخلو فيه مع نسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان يحسد فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب: أي ربيّ أرى الخير قد ذهب به آبائي فأعطني مثل ما أعطيتهم فأوحى الله إليه: إن آباءك ابتلوا ببلاء فصبروا، ابتلي ابراهيم بذبح ابنه، وابتلي اسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف، فقال: ربّ ابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم، فأوحى الله إليه: إنك مبتلىً فاحترس.

وقيل: كان سبب البليّة أنه حدّث نفسه أنه يطيق أن يقطع يوماً بغير مقارفة سوء، فلما كان اليوم الذي يخلو فيه للعبادة عزم على أن يقطع ذلك اليوم بغير سوء وأغلق بابه وأقبل على العبادة، فإذا هو بحمامة من ذهب فيها كل لون حسن قد وقعت بين يديه، فأهوى ليأخذها، فطارت غير بعيد من غير أن ييأس من أخذها، فما زال يتبعها وهي تفرّ منه حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه حسنها، فلما رأت ظلّه في الأرض جلّلت نفسها بشعرها فاستترت به، فزاده ذلك رغبةً، فسأل عنها فأخبر أن زوجها بثغر كذا، فبعث الى صاحب الثغر بأن يقدّم أوريا بين يدي التابوت في الحرب، وكان كل من يتقدّم بين يدي التابوت لا ينهزم، إمّا أن يظفر أو يقتل، ففعل ذلك به فقُتل.
وقيل: إنّ داود لما نظر إلى المرأة فزعجبته فسأل عن زوجها، فقيل: إنّه في جيش كذا، فكتب إلى صاحب الجيش أن يبعثه في سريّة إلى عدوّ كذا ففعل ذلك، ففتح الله عليه، فكتب إلى داود فأمر داود أن يرسل أيضاً إلى عدوّ كذا أشدّ منه، ففعل، فظفر، فأمر داود أن يرسل إلى عدوّ ثالث، ففعل، فقتل أوريا في المرّة الثالثة، فلمّا قتل تزوج داود امرأته، وهي أم سليمان في قول قتادة.
وقيل: إن خطيئة داود كانت أنه لما بلغه حسن امرأة أوريا تمنّى أن تكون له حلالاً، فاتفق أن أوريا سار إلى الجهاد فقتل فلم يجد له من الهم ما وجده لغيره، فبينما داود في المحراب يوم عبادته وقد أغلق الباب إذ دخل عليه ملكان أرسلهما الله إليه من غير الباب، فراعه ذلك فقالا: (لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال: أكفلنيها وعزَّني في الخطاب) ص:22 : 32، أي قهرني، وأخذ نعجتي، فقال للآخر: ما تقول؟ قال: صدق، إني أردت أن أُكمل نعاجي مائة فزخذت نعجته، فقال داود: إذاً لا ندعك وذاك، فقال الملك: ما أنت بقادر عليه، قال داود: فإن لم تردّ عليه ماله ضربنا منك هذا وهذا، وأومأ إلى أنفه وجبهته، قال: يا داود أنت أحقّ أن يُضرب منك هذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلاّ امرأة واحدة فلم تزل به حتى قتل وتزوجت امرأته، ثمّ غابا عنه.
فعرف ما ابتلي به وما وقع فيه، فخرّ ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بدَّ منها، وأدام البكاء حتى نبت من دموعه عشب غطى رأسه، ثمّ نادى: ياربّ قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه في خطيئته بشيء، فودي: أجائع فتطعم أم مريض فتشفى أم مظلوم فتنصر؟ قال: فنحب نحبةً هاج ما كان نبت، فعند ذلك قبل الله توبته وأوحى إليه: ارفع رأسك فقد غفرتُ لك، قال: يا ربّ كيف أعلم أنك قد غفرت لي؟ وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء إذا جاء أوريا يوم القيامة آخذاً رأسه بيمينه تشخب أوداجه دماً قبل عرشك يقول: يا ربّ سلْ هذا فيم قتلني، فأوحى الله إليه: إذا كان ذلك دعوته وأستوهبك منه فيهبك لي فأهبه بذلك الجنة، قال: يا ربّ الآن علمت أنك قد غفرت لي.
قال: فما استطاع داود بعدها أن يملأ عينه من السماء حياء من ربه حتى قبض، ونقش خطيئته في يده، فكان إذا رأها اضطربت يده، وكان يؤتى بالشراب في الإناء ليشربه فكان يشرب نصفه أو ثلثيه فيذكر خطيئته فينتحب حتى تكاد مفاصله يزول بعضها من بعض ثمّ يملأ الإناء من دموعه، وكان يقال: إنّ دمعة داود تعدل دموع الخلائق، وهو يجيء يوم القيامة وخطيئته مكتوبة بكفّه فيقول: يا ربّ ذنبي ذنبي قدِّمني، فيقدَّم، فلا يأمن فيقول: يا ربّ أخرني، فلا يأمن.
وأزالت الخطيئة طاعة داود عن بني إسرائيل واستخفّوا بأمره، ووثب عليه ابن له يقال له إيشي وأمّه ابنة طالوت فدعا إلى نفسه، فكثر أتباعه من أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلمّا تاب الله على داود اجتمع إليه طائفة من الناس فحارب ابنه حتى هزمه ووجّه إليه بعض قوّاده وأمره بالرفق به والتلطف لعله يأسره ولا يقتله، وطلبه القائد وهو منهزم فاضطره إلى شجرة فقتله، فحزن عليه داود حزناً شديداً وتنكّر لذلك القائد.
ذكر بناء بيت المقدس ووفاة داود

عليه السلام

قيل: أصاب النّاس في زمان داود طاعون جارف، فخرج بهم الى موضع بيت المقدس، وكان يرى الملائكة تعرج منه إلى السماء، فلهذا قصده ليدعو فيه، فلمّا وقف موضع الصخرة دعا الله تعالى في كشف الطاعون عنهم، فاستجاب له ورفع الطاعون، فاتخذوا ذلك الموضع مسجداً، وكان الشروع في بنائه لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه، وتوفي قبل أن يستتمّ بناءه، وأوصى إلى سليمان بإتمامه وقتل القائد الذي قتل أخاه إيشي بن داود.
فلّما توفي داود ودفنه سليمان تقدّم بإنفاذ أمره فقتل القائد واستتم بناء المسجد، بناه بالرخام وزخرفه بالذهب ورصعه بالجواهر، وقوي على ذلك جميعه بالجنّ والشياطين، فلمّا فرغ اتخذ ذلك اليوم عيداً عظيماً وقرّب قرباناً، فتقبّله الله منه، وكان ابتداؤه أوّلاً ببناء المدينة، فلمّا فرغ منها ابتدأ بعمارة المسجد، وقد أكثر الناس في صفة البناء مما يستبعد ولا حاجة إلى ذكره.
وقيل: إنّ سليمان هو الذي ابتدأ بعمارة المسجد، وكان داود أراد أن يبنيه فأوحى الله إليه: إن هذا بيت مقدّس وإنك قد صبغت يدك في الدماء فلست ببانيه، ولكن ابنك سليمان يبنيه لسلامته من الدماء، فلمّا ملك سليمان بناه.
ثمّ إنّ داود توفي وكان له جارية تغلق الأبواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح فيقوم إلى عبادته، فأغلقتها ليلة فرأت في الدار رجلاً فقالت: من أدخلك الدار؟ فقال: أنا الذي أدخل على الملوك بغير إذن، فسمع داود قوله فقال: أنت ملك الموت؟ قال: نعم، قال: فهلاّ أرسلت إليّ لأستعدّ للموت؟ قال: قد أرسلتُ إليك كثيراً، قال: من كان رسولك؟ قال: أين أبوك وأخوك وجارك ومعارفك؟ قال: ماتوا، قال: فهم كانوا رسلي إليك لأنك تموت كما ماتوا ثمّ قبضه، فلمّا مات ورث سليمان ملكه وعلمه ونبوّته.
وكان له تسعة عشر ولداً، فورثه سليمان دونهم، وكان عمر داود لما توفي مائة سنة، صحّ ذلك عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وكانت مدّة ملكه أربعين سنة.
ذكر ملك سليمان بن داود عليه السلاملما توفي داود ملك بعده ابنه سليمان على بني إسرائيل، وكان ابن ثلاث عشرة سنة، وآتاه مع الملك النبوّة، وسأل الله أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب له وسخّر له الإنس والجنّ والشياطين والطير والريح، فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإنس والجنّ حتى يجلس.
وقيل: إنهما سخّر له الريح والجنّ والشياطين والطير وغير ذلك بعد أن زال ملكه وأعاده الله سبحانه إليه على ما نذكره.
وكان أبيض جسيماً كثير الشعر يلبس البياض، وكان أبوه يستشيره في حياته ويرجع إلى قوله، فمن ذلك ما قصّه الله في كتابه في قوله: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) الأنبياء: 21 : 78؛ الآية، وكان خبره: أنّ غنماً دخلت كرماً فزكلت عناقيده وأفسدته، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: أو غير ذلك، أن تسلّم الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها إلى أن يعود كرمه إلى حاله ثمّ يأخذ كرمه ويدفع الغنم إلى صاحبها، فأمضى داود قوله، وقال الله تعالى: (ففهّمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلما) الأنبياء:79.
قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنّ كلّ مجتهد في الأحكام الفرعيّة مصيب، فإن داود أخطأ الحكم الصحيح عند الله تعالى وأصابه سليمان، فقال الله تعالى: (وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً).
وكان سليمان يأكل من كسب يده، وكان كثير الغزو، وكان إذا أراد الغزو أمر بعمل بساط من خشب يسع عسكره ويركبون عليه هم ودوابهم وما يحتاجون إليه، ثمّ زمر الريح فحملته فسارت في غدوته مسيرة شهر وفي روحته كذلك، وكان له ثلاثمائة زوجة وسبعمائة سرّيّة، وأعطاه الله أجراً أنّه لا يتكلّم أحد بشيء إلاّ حملته الريح إليه فيعلم ما يقول.
ذكر ما جرى له مع بلقيسنذكر أولاً ما قيل في نسبها وملكها، ثمّ ما جرى له معها، فنقول: قد اختلف العلماء في اسم آبائها، فقيل: إنها هي بلقمة ابنة ليشرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: هي بلقمة ابنة هادد واسمه ليشرح بن تبّع ذي الأذعار بن تبّع ذي المنار بن تبّع الرايش، وقيل في نسبها غير ذلك لا حاجة إلى ذكره.

وقد اختلف النّاس في التبابعة وتقديم بعضهم على بعض وزيادة في عددهم ونقصان، اختلافاً لا يحصل الناظر فيه على طائل، وكذا أيضاً اختلفوا في نسبها اختلافاً كثيراً، وقال كثير من الرواة: إنّ أمّها جنّيّة ابنة ملك الجنّ واسمها رواحة بنت السكر، وقيل: اسم أمّها يلقمة بنت عمرو بن عمير الجنّيّ، وإنّما نكح أبوها إلى الجنّ لأنّه قال: ليس في الإنس لي كفوة، فخطب إلى الجنّ فزوّجوه.
واختلفوا في سبب وصوله إلى الجنّ حتى خطب إليهم فقيل: إنّه كان لهجاً بالصيد، فربّما اصطاد الجنّ على صور الظباء فيخلّي عنهنّ، فظهر له ملك الجنّ وشكره علي ذلك واتخذه صديقاً، فخطب ابنته فأنكحه على أن يعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن؛ وقيل: إنّ أباها خرج يوماً متصيّداً فرأي حديتين تقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء علي البيضاء فزمر بقتل السوداء وحمل البيضاء وصبّ عليها ماء، فأفاقت، فأطلقها وعاد إلى داره وجلس منفرداً، وإذا معه شابّ جميل، فذعر منه، فقال له: لا تخف أنا الحيّة التي أنجيتني، والأسود الذي قتلته غلامٌ لنا تمرّد علينا وقتل عدّة من أهل بيتي؛ وعرض عليه المال وعلم الطبّ، فقال: أمّا المال فلا حاجة لي به، وأمّا الطبّ فهو قبيح بالملك، ولكن إن كان لك بنت فزوّجنيها، فزوّجه على شرط أن لا يغيّر عليها شيئاً تعمله ومتى غيّر عليها فارقته، فأجابه إلى ذلك، فحملت منه فولدت له غلاماً فألقته في النّار، فجزع لذلك وسكت للشرط، ثمّ حملت منه فولدت جارية فألقتها إلى كلبة فأخذتها، فعظم ذلك عليه وصبر للشرط، ثمّ إنّه عصي عليه بعضُ أصحابه فجمع عسكره فسار إليه ليقاتله وهي معه، فانتهى إلي مفازة، فلمّا توسّطها رأى جميع ما معهم من الزاد يخلط بالتراب، وإذا الماء يُصبّ من القرب والمزاود، فأيقنوا بالهلاك وعلموا أنّه من فعال الجنّ عن أمر زوجته، فضاق ذرعاً عن حمل ذلك، فأتاها وجلس وأومأ إلى الأرض وقال: يا أرض صبرتُ لكِ على إحراق ابني وإطعام الكلبة إبنتي ثمّ أنتِ الآن قد فجعتنا بالزاد والماء وقد أشرفنا على الهلاك فقالت المرأة: لو صبرت لكان خيراً لك، وسأخبرك: إنّ عدوّك خدع وزيرك فجعل السمّ في الأزواد والمياه ليقتلك وأصحابك، فمر وزيرك ليشرب ما بقي من الماء ويأكل من الزاد، فأمره فامتنع، فقتله، ودلّتهم على الماء والميرة من قريب وقالت: أما ابنك فدفعته إلى حاضنة تربيّه وقد مات، وأمّا ابنتك فهي باقية، وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض، وهي بلقيس، وفارقته امرأته وسار إلى عدوّ فظفر به.
وقيل في سبب نكاحه إليهم غير ذلك، والجميع حديث خرافة لا أصل له ولا حقيقة.
وأمّا ملكها اليمن فقيل: إنّ أباها فوّض إليها الملك فملكت بعده، وقيل: بل مات عن غير وصيّة بالملك لأحد، فأقام النّاس ابن أخ له، وكان فاحشاً خبيثاً فاسقاً لا يبلغه عن بنت قيل ولا ملك ذات جمال إلاّ أحضرها وفضحها، حتى انتهى إلى بلقيس بنت عمّه، فأراد ذلك منها فوعدته أن يحضر عندها الى قصرها وأعدّت له رجلين من أقاربها وأمرتهما بقتله إذا دخل إليها وانفرد بها، فلما دخل إليها وثبا عليه فقتلاه، فلما قتل أحضرت وزراءه فقرّعتهم فقالت: أما كان فيكم من يزنف لكريمته وكرائم عشيرته ثمّ أرتهم إيّاه قتيلاً وقالت: اختاروا رجلاً تملّكونه، فقالوا: لا نرضى بغيرك؛ فملكوها.
وقيل: إنّ أباها لم يكن ملكاً وإنما كان وزير الملك، وكان الملك خبيثاً، قبيح السيرة يأخذ بنات الأقيال والأعيان والأشراف، وإنها قتلته، فملّكها الناس عليهم.
وكذلك أيضاً عظموا ملكها وكثرة جندها فقيل: كان تحت يدها أربعمائة ملك، كلّ ملك منهم على كورة، مع كلّ ملك منهم أربعة آلاف مقاتل، وكان لها ثلاثمائة وزير يدبّرون ملكها، وكان لا اثنا عشر قائداً يقود كلّ قائد منهم اثني عشر ألف مقاتل.

وبالغ آخرون مبالغة تدلّ على سخف عقولهم وجهلهم، قالوا: كان لها اثنا عشر ألف قَيْل، تحت يد كلّ قيل مائة ألف مقاتل، مع كل مقاتل سبعون ألف جيش، في كل جيش سبعون ألف مبارز، ليس فيهم إلا أبناء خمس وعشرين سنة، وما أظنّ الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب حتى يعلم مقدار جهله، ولو عرف مبلغ العدد لأقصر عن إقدامه على هذا القول السخيف، فإن أهل الزرض لا يبلغون جميعهم شبابهم وشيوخهم وصبيانهم ونساؤهم هذا العدد، فيكف أن يكونوا أبناء خمس وعشرين سنة فيا ليت شعري كم يكون غيرهم ممن ليس من أسنانهم، وكم تكون الرعيّة وأرباب الحرف والفلاحة وغير ذلك، وإنما الجند بعض أهل البلاد، وإن كان الحاصل من اليمن قد قلّ في زماننا فإنّ رقعة أرضه لم تصغر، وهي لا تسع هذا العدد قياماً كلّ واحد إلى جانب الآخر.
ثمّ إنهم قالوا: أنفقت على كوة بيتها التي تدخل الشمس منها فتسجد لها ثلاثمائة ألف أوقية من الذهب، وقالوا غير ذلك، وذكروا من أمر عرشها ما يناسب كثرة جيشها، فلا نطول بذكره، وقد تواطأوا على الكذب والتلاعب بعقول الجهّال واستهانوا بما يلحقهم من استجهال العقلاء لهم، وإنما ذكرنا هذا على قبحه ليقف بعض من كان يصدق به عليه فينتهي إلى الحقّ.
وأما سبب مجيئها الى سليمان وإسلامها فإنه طلب الهدهد فلم يره، وإنما طلبه لأنّ الهدهد يرى الماء من تحت الأرض فيعلم هل في تلك الأرض ماء أم لا، وهل هو قريب أم بعيد، فبينما سليمان في بعض مغازيه احتاج إلى الماء فلم يعلم أحد ممن معه بعده، فطلب الهدهد ليسأله عن ذلك فلم يره، وقيل: بل نزلت الشمس إلى سليمان، فنظر ليرى من أين نزلت لأنّ الطير كانت تظلّه، فرأى موضع الهدهد فارغاً، فقال: (لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) النمل: 21.
وكان الهدهد قد مرّ على قصر بلقيس فرأى بستاناً لها خلف قصرها، فمال إلى الخضرة، فرأى فيه هدهداً فقال له: أين أنت عن سليمان وما تصنع ها هنا؟ فقال له: ومن سليمان؟ فذكر له حاله وما سخّر له من الطير وغيره، فعجب من ذلك، فقال له هدهد سليمان: وأعجب من ذلك أنّ كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة (وأوتيت من كلّ شيء ولها عرش عظيم) النمل: 23، وجعلوا الشكر لله أن سجدوا للشمس من دونه، وكان عرشها سريراً من ذهب مكلّل بالجواهر النفيسة من اليواقيت والزبرجد واللؤلؤ.
ثمّ إنّ الهدهد عاد الى سليمان فأخبره بعذره في تأخيره، فقال له: اذهب بكتابي هذا فألقه إليها، فوافاها وهي في قصرها فألقاه في حجرها، فأخذته وقرأته وأحضرت قومها وقالت: (إني ألقي إليّ كتاب كريم، إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين يا أيها الملأ : ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون) النمل: 29 - 32.
(قالوا: نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين) النمل: 33، قالت: (إني مرسلة إليهم بهدية) النمل: 35 فإن قبلها فهو من ملوك الدنيا فنحن أعزّ منه وأقوى، وإن لم يقبلها فهو نبيّ من الله.
فلما جاءت الهدية إلى سليمان قال للرسل: (أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم) إلى قوله: (وهم صاغرون) النمل: 36 - 37، فلما رجع الرسل إليها سارت إليه وزخذت معها الأقيال من قومها، وهم القوّاد، وقدمت عليه، فلمّا قاربته وصارت منه على نحو فرسخ قال لأصحابه: (أيهكم يزتين بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ قال عفريت من الجنّ: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) النمل: 38 - 39، يعني قبل أن تقوم في الوقت الذي تقصد فيه بيتك للغداء، قال سليمان: أريد أسرع من ذلك، ف (قال الذي عنده علم من الكتاب) وهو آصف بن برخيّا، وكان يعرف اسم الله الأعظم: (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) النمل: 40، وقال له: انظر إلى السماء وأدم النظر فلا تردّ طرفك حتى أحضره عندك، وسجد ودعا، فرأى سليمان العرش قد نبع من تحت سيريره، فقال: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر) إذ أتاني به قبل أن يرتدّ إليّ طرفي (أم أكفر) إذ جعل تحت يدي من هو أقدر مني على إحضاره.
فلما جاءت قيل: (أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو) النمل: 42 ولقد تركته في حصون وعنده جنود تحفظه فكيف جاء الى ها هنا؟.

فقال سليمان للشياطين: ابنوا لي صرحاً تدخل عليّ فيه بلقيس، فقال بعضهم: إنّ سليمان قد سخّر له من سخّر وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد غلاماً فلا ننفك من العبودية أبداً، وكانت امرزة شعراء الساقين، فقال الشياطين: ابنوا له بنياناً يرى ذلك منها فلا يتزوجها، فبنوا له صرحاً من قوارير خضر وجعلوا له طوابيق من قوارير بيض، فبقي كأنّه الماء، وجعلوا تحت الوطابيق صور دوابّ البحر من السمك وغيره، وقعد سليمان على كرسيّ ثمّ أمر فأدخلت بلقيس عليه، فلمّا أرادت أن تدخله ورأت صور السمك ودواب الماء حسبته لجة ماء فكشفت عن ساقيها لتدخل، فلمّا رآها سليمان صرف نظره عنها و(قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت: رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) النمل: 44.
فاستشار سليمان في شيء يزيل الشعر ولا يضرّ الجسد، فعمل له الشياطين النّورة، فهي أول ما عملت النّورة، ونكحها سليمان وأحبها حبّاً شديداً وردّها إلى ملكها باليمن، فكان يزورها كل شهر مرة يقيم عندها ثلاثة أيام.
وقيل: إنّه أمرها أن تنكح رجلاً من قومها فامتنعت وأنفت من ذلك، فقال: لا يكون في الإسلام إلاّ ذلك، فقالت: إن كان لا بدّ من ذلك فزوجني ذا تبّع ملك همدان، فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبّع على الملك، وأمر الجن من أهل اليمن بطاعته، فاستعملهم ذو تبّع، فعملوا له عدّة حصون باليمن، منها سلحين ومراوح وفليون وهنيدة وغيرها، فلما مات سليمان لم يطيعوا ذا تبّع وانقضى ملك ذي تبّع وملك بلقيس مع ملك سليمان.
وقيل: إن بلقيس ماتت قبل سليمان بالشام وإنّه دفنها بتدمر وأخفى قبرها.
ذكر غزوته أبا زوجته جرادة ونكاحها

وعبادة الصنم في داره وأخذ خاتمه وعوده إليه
قيل: سمع سليمان بملك في جزيرة من جزائر البحر وشدّة ملكه وعظم شأنه، ولم يكن للنّاس إليه سبيل، فخرج سليمان الى تلك الجزيرة وحملته الريح حتى نزل بجنوده بها فقتل ملكها وغنم ما فيها غنم بنتاً للملك لم ير الناس مثلها حسناً وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت على قلّة رغبة فيه، وأحبها حباً شديداً، وكانت لا يذهب حزنها ولا تزال تبكي، فقال لها: ويحك ما هذا الحزن والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت: إنّي أذكر أبي وملكه وما أصابه فيحزنني ذلك، قال: فقد أبدلك الله ملكاً خيراً من ملكه وهداك إلى الاسلام، قالت: إنه كذلك ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى، فلو أمرت الشياطين فصوّروا صورته في داري أراها بُكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني.
فزمر الشياطين فعملوا لها مثل صورته لا ينكر منها شيئاً، وألبستها ثياباً مثل ثياب أبيها، وكانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عله في جواريها فتسجد له ويسجدن معها، وتروح عشيّة ويرحن، فتفعل مثل ذلك، ولا يعلم سليمان بشيء من أمرها أربعين صباحاً.
وبلغ الخبر آصف بن برخيّا، وكان صدّيقاً، وكان لا يُردّ من منازل سليمان أيّ وقت أراد من ليل أو نهار سواء كان سليمان حاضراً أو غائباً، فزتاه فقال: يا نبيّ الله قد كبر سني ودقّ عظمي وقد حان منّي ذهاب عمري وقد أحببت أن أقوم مقاماً أذكر فيه أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما يجهلون، قال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام آصف خطيباً فيهم فذكر من مضي من الأنبياء وأثنى عليهم حتى انتهى الى سليمان فقال: ما كان أحلمك في صغرك، وأبعدك من كلّ ما يكره في صغرك، ثم انصرف.
فملئ سليمان غضباً، فأرسل إليه وقال له: يا آصف لمّا ذكرتني جعلت تثني عليّ في صغري وسكتّ عمّا سوى ذلك، فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ قال: إن غير الله ليعبد في دارك أربعين يوماً في هوى امرأة، قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون) البقرة: 156، لقد علمت أنك ما قلت إلاّ عن شيء بلغك، ودخل داره وكسر الصنم وعاقب تلك المرأة وجواريها، ثمّ أمر بثياب الطهارة فأتى بها، وهي ثياب تغزلها الأبكار اللائي لم يحضن ولم تمسّها امرأة ذات دمٍ، فلبسها وخرج الى الصحراء وفرش الرماد ثمّ أقبل تائباً إلى الله وتمعك في الرماد بثيابه تذلّلاً لله تعالى وتضرعاً، وبكى واستغفر يومه ذلك ثم عاد الى داره.

وكانت أمّ ولد له لا يثق إلا بها يسلّم خاتمه إليها، وكان لا ينزعه إلا عند دخول الخلاء، وإذا أراد أن يصيب امرأة فيسلمه إليها حتى يتطهّر، وكان ملكه في خاتمه، فدخل في بعض تلك الأيام الخلاء وسلم خاتمه إليها، فأتاها شيطان اسمه صخر الجّنّي في صورة سليمان فأخذ الخاتم وخرج إلى كرسي سليمان، وهو في صورة سليمان، فجلس عليه، وعكفت عليه الإنس والجن والطير، وخرج سليمان وقد تغيّرت حاله وهيذته، فقال: خاتمي فقالت؛ ومن أنت؟ قال: أنا سليمان، قالت: كذبت لست بسليمان قد جاء سليمان وأخذ خاتمه مني وهو جالس على سريره فعرف سليمان خطيئته فخرج وجعل يقول لبني اسرائيل: أنا سليمان، فيحثون عليه التراب، فلمّا رأى ذلك قصد البحر وجعل ينقل سمك الصيادين ويعطونه كل يوم سمكتين يبيع إحداهما بخبز ويأكل الأخرى، فبقي كذلك أربعين يوماً.
ثمّ إنّ آصف وعظماء بني اسرائيل أنكروا حكم الشيطان المتشبّه بسليمان، فقال آصف: يا بني اسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم سليمان ما رأيت؟ قالوا: نعم، قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه وأسألهنّ هل أنكرن ما أنكرنا منه، فدخل عليهنّ وسألهنّ، فذكرن أشدّ مما عنده، فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، (إن هذا لهو البلاء المبين) الصافات: 106.
ثمّ خرج إلى بني اسرائيل فأخبرهم، فلما رأى الشيطان أنهم قد علموا به طار من مجلسه فمرّ بالبحر فألقى الخاتم فيه، فبلعته سمكة واصطادها صيّاد وحمل له سليمان يومه ذلك فأعطاه سمكتين، تلك السمكة إحداهما، فأخذها فشقّها ليصلحها ويأكلها فرأى خاتمه في جوفها، فأخذه وجعله في إصبعه وخرّ لله ساجداً، وعكفت عليه الإنس والجنّ والطير وأقبل عليه الناس ورجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وبث الشياطين في إحضار صخر الذي أخذ الخاتم، فأحضروه، فنقب له صخرة وجعله فيها وسدّ النقب بالحديد والرصاص وألقاه في البحر.
وكان مقامه في الملك أربعين يوماً، بمقدار عبادة الصنم في دار سليمان.
وقيل: كان السبب في ذهاب ملكه أنّ امرأة له كانت أبرّ نسائه عنده تسمّى جرادة ولا يأتمن على خاتمه سواها، فقالت له: إنّ أخي بينه وبين فلان حكومة وأنا أحبّ أن تقضي له، فقال: أفعل، ولم يفعل، فابتُلي، وأعطاها خاتمه ودخل الخلاء، فخرج الشيطان في صورته فأخذه، وخرج سليمان بعده فطلب الخاتم فقالت: ألم تأخذه؟ قال: لا، وخرج من مكانه تائهاً وبقي الشيطان أربعين يوماً يحكم بين النّاس، ففطنوا له وأحدقوا به ونشروا التوراة فقرأوها، فطار من بين أيديهم وألقى الخاتم في البحر، فابتعله حوت، ثمّ إن سليمان قصد صياداً وهو جائع فاستطعمه وقال: أنا سليمان، فكذبه وضربه فشجّه، فجعل يغسل الدّم، فلام الصيادون صاحبهم وأعطوه سمكتين إحداهما التي ابتلعت الخاتم، فشقّ بطنها وأخذ الخاتم، فردّ الله إليه ملكه، فاعتذروا إليه، فقال: لا أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم.
وسخر الله له الجن والشياطين والريح، ولم يكن سخّرها له قبل ذلك، وهو أشبه بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: (قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب، فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب والشياطين كلّ بناءٍ وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد) ص:37.
وقيل في سب زوال ملكه غير ذلك، والله أعلم.
ذكر وفاة سليمانلما ردّ الله إلى سليمان الملك لبث فيه مطاعاً والجنّ تعمل له (ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) سبأ: 13 وغير ذلك ويعذّب من الشياطين من شاء ويطلب من شاء، حتى إذا دنا أجله وكان عادته إذا صلى كل يوم رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول: ما اسمك؟ فتقول: كذا، فيقول: لأيّ شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو يصلّي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: الخرنوبة، فقال لها: لأيّ شيء أنتِ؟ قالت: لخراب هذا البيت، يعني بيت المقدس، فقال سليمان: ما كان الله ليخرّبه وأنا حيّ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب البيت وقلعها، ثم قال: اللهم عم على الجنّ موتي حتى يعلم النّاس أن الجنّ لا يعلمون الغيب.

وكان سليمان يتجرّد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين والشهروالشهرين وأقلّ وأكثر، يدخل معه طعامه وشرابه، فأدخله في المرّة التي توفي فيها، فبينما هو قائم يصلي متوكئاً على عصاه أدركه أجله فمات ولا تعلم به الشياطين ولا الجن، وهم في ذلك يعملون خوفاً منه، فأكلت الأرضة عصاه فانكسرت فسقط، فعلموا أنه قد مات، وعلم الناس أنّ الجن لا يعلمون الغيب ولو علموا (الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) سبأ: 14 ومقاساة الأعمال الشاقة.
ولما سقط أراد بنو اسرائيل أن يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا يوماً وليلة فأكلت منها، فحسبوا بنسبته فكان أكل تلك العصا في سنة، ثمّ إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب لأتيناك بأطيب الشراب، ولكنّا سننقل لك الماء والطين، فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت، ألم تر إلى الطين يكون في وسط الخشبة؟ فهو ما ينقلونه لها.
قيل: إن الجن والشياطين شكوا ما يحلقهم من التعب والنصب إلى بعض أولي التجربة منهم، وقيل: كان إبليس، فقال لهم: ألستم تنصرفون بأحمال وتعودون بغير أحمال؟ قالوا: بلى، قال: فلكم في كلّ ذلك راحة، فحملت الريح الكلام فألقته في أذن سليمان، فأمر الموكّلين بهم أنهم إذا جاءوا بالأحمال والآلات التي يبنى بها إلى موضع البناءوالعمل يحملهم من هناك في عودهم ما يلقونه من المواضع التي فيها الأعمال ليكون أشقّ عليهم وأسرع في العمل، فاجتازوا بذلك الذي شكوا إليه حالهم فأعلموه حالهم، فقال لهم: انتظروا الفرج فإنّ الأمور إذا تناهت تغيّرت، فلم تطل مدّة سليمان بعد ذلك حتى مات؛ وكان مدّة عمره ثلاثاً وخسمين سنة، وملكه أربعين سنة.
ذكر من ملك من الفرس بعد كيقباذلما توفي كيقباذ ملك بعده ابنه كيكاووس بن كينية بن كيقباذ، فلما ملك حمى بلاده وقتل جماعة من عظماء البلاد المجاورة له، وكان يسكن بنواحي بلخ، وولد له ولد سماه سياروخش وضمّه إلى رستم الشديد بن داستان بن نريمان بن جوذنك بن كرشاسب، وكان أصبهبذ سجستان وما يليها، وجعله عنده ليربّيه، فأحسن تربيته وعلّمه العلوم ولفروسيّة والآداب وما يحتاج الملوك إليه، فلمّا كمل ما أراد حمله إلى أبيه، فلمّا رآه سرّ به صورةً ومعنى.
وكان أبوه كيكاووس قد تزوج ابنة أفراسياب ملك الترك، وقيل: إنها ابنة ملك اليمن، فهويت سياوخش ودعته الى نفسها، فامتنع، فسعت به الى أبيه حتى أفسدته عليه، فسأل سياوخش رستم الشديد ليتوصل مع أبيه لينفذه الى محاربة أفراسياب بسبب منعه بعض ما كان قد استقرّ بينهما، وأراد البعد عن أبيه ليأمن كيد امرأته، ففعل ذلك رستم، فسيّره أبوه وضمّ إليه جيشاً كثيفاً، فسار الى بلاده الترك للقاء أفراسياب، فلمّا سار الى تلك الناحية جرى بينهما صلح، فكتب سياوخش الى أبيه يعرفه ما جري بينه وبين أفراسياب، فلمّا سار الى تلك الناحية جرى بينهما صلح، فكتب سياوخش الى أبيه يعرفه ما جرى بينه وبين أفرسياب من الصلح، فكتب إليه والده يأمره بمناهضة أفراسياب ومحاربته وفسخ الصلح، فاستقبح سياوخش الغدر وأنف منه، فلم ينفذ ما أمره به، ورأى أن ذلك من فعل زوجة والده ليقبّح فعله، فراسل أفراسياب في الأمان لنفسه لينتقل إليه، فأجابه أفراسياب إلى ذلك، وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان، ودخل سياوخش الى بلاد الترك، فزكرمه أفراسياب إلى ذلك، وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان، ودخل سياوخش الى بلاد الترك، فزكرمه أفراسياب وأنزله وأجرى عليه وزوّجه بنتاً له يقال لها وسفافريد، وهي أمّ كيخسرو، فظهر له من أدب سياوخش ومعرفته بالملك وشجاعته ما خاف على ملكه منه، وزاد الفساد بينهما بسعي ابني أفراسياب وأخيه كيدر حسداً منهم لسياوخش، فزمرهم أفراسياب بقتله، فقتلوه ومثلوا به، وكانت زوجته ابنة أفراسياب حاملة منه بابنه كيخسرو، فطلبوا الحيلة في إسقاط ما في بطنها، فلم يسقط، فأنكر قيران الذي كان أمان سياوخش إليه لتضع ما في بطنها ويقتله، فلمّا وضعت رقّ قيران لها وللمولود ولم يقتله وستر أمره حتى بلغ، فسيّر كيكاووس إلى بلاد الترك من كشف أمره وأخذه إليه.
وحين بلغ خبر قتله الى فارس لبس شادوس بن جودرز السواد حزناً، وهو أوّل من لبسه، ودخل على كيكاووس فقال له: ما هذا؟ فقال: إنّ هذا اليوم يوم ظلام وسواد.

ثم إنّ كيكاووس لما علم بقتل ابنه سيّر الجيوش مع رستم الشديد وطو أصبهبذ أصبهان لمحاربة أفراسياب، فدخلا بلاد الترك فقتلا وأسرا وأثخنا فيها، وجرى لهما مع أفراسياب حروب شديدة قُتل فيها ابنا أفراسياب وأخوه الذين أشاروا بقتل سياوخش.
وزعمت الفرس أن الشياطين كانت مسخرّة له، وأنها بنت له مدينة طولها في زعمهم ثلاثمائة فرسخ وبنوا عليها سوراً من صرف وسوراً من شبه وسوراً من فضة، وكانت الشياطين تنقلها بين السماء والأرض وما بينهما، وأن كيكاووس لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث، ثمّ إنّ الله أرسل إلى المدينة من يخرّبها فعجزت الشياطين عن المنع عنها، فقتل كيكاووس جماعة من رؤوسائهم.
وقال بعض العلماء بأخبار المتقدّمين: إنّما سخّر له فعل الشياطين بأمر سليمان بن داود، وكان مظفّراً لا يناوئه أحدٌ من الملوك إلا ظهر عليه، فلم يزل كذلك حتى حدّثته نفسه بالصعود الى السماء، فسار من خراسان الى بابل، وأعطاه الله تعالى قوّة ارتفع بها هو ومن معه حتى بلغوا السحاب، ثم سلبهم الله تلك القوة، فسقطوا وهلكوا وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ.
وهذا جميعه من أكاذيب الفرس الباردة.
ثمّ إنّ كيكاووس بعد هذه الحادثة تمزّق ملكه وكثرت الخوارج عليه وصاروا يغزونه، فيظفر مرّة ويظفرون أخرى، ثمّ غزا بلاد اليمن وملكها يومئذ ذو الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش، فلما ورد اليمن خرج إليه ذو الأذعار، وكان قد أصابه الفالج، فلم يكن يغزو، فلمّا وطئ كيكاووس بلاده خرج إليه بنفسه وعساكره وظفر بكيكاووس فأسره واستباح عسكره وحبسه في بئر وأطبق عليه، فسار رستم من سجستان الى اليمن وأخرج كيكاووس وأخذه، وأراد ذو الأذعار منعه فجمع العساكر وأراد القتال ثمّ خاف البوار فاصطلحا علي أخذ كيكاووس والعود الى بلاد الفرس، فأخذ وزعاده الى ملكه، فأقطعه كيكاووس سجستان وزابلستان، وهي من أعمال غزنة، وأزال عنه اسم العبودية، ثم توفي كيكاووس، وكان ملكه مائة وخمسين سنة.
ذكر ملك كيخسرو بن سياوخش بن كيكاووسلما مات كيكاووس ملك بعده ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيكاوس، وأمه وسفافريد ابنة أفراسياب ملك الترك، فلما ملك كتب الى الأصبهذين جميعهم أن يزتوا بعساكرهم جميعها، فلما اجتمعوا جهّز ثلاثين ألفاً مع طوس وأمره بدخول بلاد الترك، وأن لا يمرّ بقرية ولا مدينة لهم إلا قتل كل من فيها إلا مدينة من مدنهم كان بها أخ له اسمه فيروزد بن سياوخش، كان أبوه قد تزوج أمه في بعض مدائن الترك، فاجتاز طوس بها فجرى بينه وبين فيروزد حرب قتل فيها فيروزد، فبلغ خبره كيخسرو فعظم عليه وكتب إلى عمّ له كان مع طوس يأمره بالقبض على طوس وإرساله مقيّداً والقيام بأمر الجيش، ففعل ذلك وسار بالعسكر نحو أفراسياب، فسيّر أفراسياب العساكر إليه فاقتتلوا قتالاً شديداً كثرت فيه القتلى وانحازت الفرس الى رؤوس الجبال وعادوا الى كيخسرو، فوبّخ عمّه ولامه واهتمّ بغزو الترك، فأمر بجمع العساكر جميعها وأن لا يتخلّف أحدٌ، فلما اجتمعوا أعلمهم أنه يريد قصد بلاد الترك من أربعة وجوه، فسير جودرز في أعظم العساكر وزمره بالخدول الى بلاد الترك مما يلي بلخ وأعطاه درفش كابيان، وهو العلم الزكبر الذي لهم، وكانوا لا يرسلونه إلا مع بعض أولاد الملوك لزمر عظيم، وسيّر عسكراً آخر من ناحية الصين، وسيّر عسكراً آخر مما يلي الخزر، وعسكراً آخر بين هذين العسكرين، فدخلت العساكر بلاد الترك من كل جهاتها وأخربتها، لا سيما جودرز، فإنّه قتل وأخرب وسبى، وتبعه كيخسرو بنفسه في طريقه، فوصل إليه وقد قتل جماعة كثيرة من زهل أفراسياب وأثخن فيهم، ورآه قد قتل خمسمائة ألف ونيّفاً وستين ألفاً وأسر ثلاثين ألفاً وغنم ما لا يعدّ ولا يحصى، وعرض عليه من قتل من أهل أفراسياب طراحنته، فعظم جودرز عنده وشكره وأقطعه أصبهان وجرجان، ووردت عليه الكتب من عساكره الداخلة من تلك الوجوه الى الترك بما قتلوا وغنموا وأخربوا وأنهم هزموا لأفراسياب عسكراً بعد عسكر، فكتب إليهم أن يجدّوا في محاربتهم ويوافوه بموضع سمّاه لهم.

فلما بلغ أفراسياب قتل من قتل من طراخنته وأهله وعساكره عظم ذلك عليه فسقط في يديه ولم يكن بقي عنده من أولاده غير ولده شيده، فوجّهه في جيش نحو كيخسرو، فسار إليه واقتتلوا قتالاً شديداً أربعة أيام، ثم انهزمت الترك وتبعهم الفرس يقتلونهم ويأسرون، وأدركوا ابن أفراسياب فقتلوه، وسمع أفراسياب بالحادثة وقتل ابنه فأقبل فيمن عنده من العساكر فلقي كيخسرو فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع بمثله، واشتدّ الأمر، فانهزم أفراسياب وكثر القتل في الترك فقتل منهم مائة ألف، وجدّ كيخسرو في طلب أفراسياب، ولم يزل يهرب من بلد الى بلد حتى بلغ أذربيجان فاستتر، وظفر به وأتى به إلى كيخسرو، فلما حضر عنده سأله عن غدره بأبيه، فلم يكن له حجّة ولا عذر، فأمر بقتله، فذبح كما ذبح سياوخش، ثم انصرف من أذربيجان مظفّراً منصوراً فرحاً.
فلما قتل أفراسياب ملك الترك بعده أخوه كي سواسف، فلما توفي ملك بعده ابنه جرازسف، وكان جبّاراً عاتياً.
فلما فرغ كيخسرو من الأخذ بثأر أبيه واستقرّ في ملكه زهد في الدنيا وترك الملك وتنسّك، واجتهد أهله وأصحابه به ليلازم الملك فلم يفعل، فقالوا له: فاعهد إلى من يقوم بالملك بعدك، فعهد إلى لهراسب، وفارقهم كيخسرو وغاب عنهم، فلا يدري ما كان منه ولا أين مات، وبعض يقول غير ذلك.
وكان ملكه ستين سنة، وملك بعده لهراسب.
ذكر أمر بني إسرائيل بعد سليمانقيل: ثم ملك بعد سليمان على بني اسرائيل ابنه رحبعم بن سليمان، وكان ملكه سبع عشرة سنة، ثمّ افترقت ممالك بني اسرائيل بعد رحبعم، فملك أبيا بن رحبعم سبط يهوذا وبنيامين دون سائر الأسباط، وذلك أنّ سائر الأسباط ملّكوا عليهم يوربعم بن بايعا عبد سليمان بسبب القربان الذي كانت جرادة زوجة سليمان فيما زعموا قرّبته في دره للصنم، فتوعّده الله تعالي أن ينزع بعض الملك عن ولده، فكان ملك أبيا بن رحبعم ثلاث سنين، ثمّ ملك أسا بن أبيا أمر السبطين اللذين كان أبوه يملكهما إحدى وأربعين سنة؛ وكان رجلاً صالحاً، وكان أعرج.
ذكر محاربة آسا بن أفيا ورزح الهنديقيل: كان أسا بن أبيا رجلاً صالحاً، وكان أبوه قد عبد الأصنام ودعا الناس الى عبادتها، فلما ملك ابنه أسا أمر منادياً فنادى: ألا إنّ الكفر قد مات وأهله وعاش الإيمان وأهله، فليس كافر في بني اسرائيل يطلع رأسه بكفر إلا قتلته، فإن الطوفان لم يغرق الدنيا وأهلها ولم يخسف بالقرى ولم تطمر الحجارة والنار من السماء إلى الأرض إلا بترك طاعة الله والعمل بمعصيته وشدد في ذلك. فأتى بعضهم ممن كان يعبد الأصنام ويعمل بالمعاصي إلى أم أسا الملك، وكانت تعبد الأصنام، فشكوا إليها، فجاءت إليه ونهته عما كان يفعله وبالغت في زجره، فلم يصغ الى قولها بل تهددها على عبادة الأصنام وأظهر البراءة منها، فحينئذٍ أيس الناس منه وانتزح من كان يخافه وساروا إلى الهند.
وكان بالهند ملك يقال له رزح، وكان جبّاراً عاتياً عظيم السلطان قد أطاعه أكثر البلاد، وكان يدعو الناس الى عبادته، فوصل اليه أولذك النفر من بني اسرائيل وشكوا إليه ملكهم ووصفوا له البلاد وكثرتها وقلّة عسكرها وضعف ملكها وأطمعوه فيها. فأرسل الجواسيس فأتوه بأخبارها، فلما تيقن الخبر جمع العساكر وسار الى الشام في البحر، وقال له بنو اسرائيل: إن لأسا صديقاً ينصره ويعينه، قال: فأين أسا وصديقه من كثرة عساكري وجنودي وبلغ خبرُه إلى أسا، فتضرّع الى الله تعالي وأظهر الضعف والعجز عن الهنديّ وسأل الله النصرة عليه، فاستجاب الله له وأراه في المنام: إنّي سأظهر من قدرتي في رزح الهنديّ وعساكره ما أكفيك شرهم وأغنمكم أموالهم حتى يعلم أعداؤك أن صديقك لا يُطاق وليّه ولا ينهزم جنده.

ثمّ سار رزح حتى أرسى بالساحل، وسار الى بيت المقدس، فلما صار على مرحلتين منه فرق عساكره، فامتلأت منهم تلك الأرض وملئت قلوب بني إسرائيل رعباً، وبعث أسا العيون فعادوا وأخبروه من كثرتهم بما لم يُسمع بمثله، وسمع الخبر بنو اسرائيل فصاحوا وبكوا وودّع بعضهم بعضاً وعزموا على أن يخرجوا الى رزح ويستسلموا إليه وينقادوا له، فقال لهم ملكهم: إنّ ربي قد وعدني بالظفر ولا خلف لوعده، فعاودوا الدعاء والتضرّع، ففعلوا ودعوا جميعهم وتضرّعوا، فزعموا أن الله أوحى إليه: يا أسا إنّ الحبيب لا يُسلم حبيبه، وأنا الذي أكفيك عدوّك فإنّه لا يهون من توكل عليّ، ولا يضعف من تقوى بي، وقد كنت تذكرني في الرخاء فلا أسلمك في الشدّة، وسأرسل بعض الزبانية يقتلون أعدائي، فاستبشر وأخبر بني اسرائيل، فأما المؤمنون فاستبشروا وأما المنافقون فكذبوه. وزمره الله بالخروج إلى رزح في عساكره، فخرج في نفر يسير، فوقفوا على رابية من الأرض ينظرون الى عساكره، فلمّا رآهم رزح احتقرهم واستصغرهم وقال: إنما خرجت من بلادي وجمعت عساكري وأنفقت أموالي لهذه الطائفة ودعا النفر من بني اسرائيل الذين قصدوه والجواسيس الذين أرسلهم ليختبروا له وقال: كذبتموني وأخبرتموني بكثرة بني اسرائيل حتى جمعت العساكر وفرقت أموالي ثم أمر بهم فقتلوا، وأرسل إلى أسا يقول له: أين صديقك الذي ينصرك ويخلّصك من سطوتي؟ فأجابه أسا: يا شقيّ إنّك لا تعلم ما تقول أتريد أن تغالب الله بقوتك أم تكاثره بقلتك؟ وهو معي في موقفي هذا، ولن يغلب أحد كان الله معه، وستعلم ما يحل بك فغضب رزح من قوله وصفّ عساكره وخرج الى قتال أسا وأمر الرّماة فرموهم بالسهام، وبعث الله من الملائكة مدداً لبني اسرائيل، فأخذوا السهام ورموا بها الهنود، فقتلت كل إنسان منهم نشّابته، فقتل جميع الرماة، فضج بنو اسرائيل بالتسبيح والدّعاء، وتراءت الملائكة للهنود، فلمّا رآهم رزح ألقي الله الرعب في قلبه وسقط في يده ونادى في عساكره يأمرهم بالحملة عليهم، ففعلوا، فقتلتهم الملائكة ولم يبق منهم غير رزح وعبيده ونسائه، فلما رأى ذلك ولّى هارباً وهو يقول: قتلني صديق أسا.
فلما رآه أسا مدبراً قال: اللهم إنك إن لم تهلكه استنفر علينا نائبه، وبلغ رزح ومن معه الى البحر فركبوا السفن، فلما سارت بهم أرسل الله عليهم الرياح فعرّقتهم أجمعين. ثم ملك بعد أسا ابنه سافاط الى أن هلك خمساً وعشرين سنة، ثم ملكت عزليا بنت عمرم أخت أخزيا، وكانت قتلت أولاد ملوك بني اسرائيل ولم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا، وهو ابن ابنها، فإنه ستر عنها، ثم قتلها بواش وأصحابه، وكان ملكها سبع سنين؛ ثم ملك يواش أربعين سنة، ثم قتله أصحابه، وهو الذي قتل جدّته؛ ثم ملك عوزيا بن امصيا بن يواش، ويقال له غوزيا، الى أن توفي اثنتين وخمسين سنة؛ ثم ملك يوثام بن عوزيا الى أن توفّي ستّ عشرة سنة؛ ثم ملك حزقيا بن أحاز الى أن توفي، فيقال: إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره، فتضرّع الى ربّه فزاده، وأمر شعيا بإعلامه ذلك، وقيل: إن صاحب شعيا في هذه القصة اسمه صدقيا، على ما يرد ذكره.
ذكر شعيا والملك الذي معه من بني إسرائيل ومسير سنحاريب إلى بني إسرائيلقيل: كان الله تعالى قد أوحى الى موسى ما ذكر في القرآن: (وقضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً، فإذا جاء وعد أولادهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجلعناكم أكثر نفيراً، إن أحسنتم أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبّروا ما علوا تتبيراً عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً).

فكثر في بني اسرائي لالزحداث والذنوب، وكان الله يتجاوز عنهم متعطفاً عليهم، وكان من أول ما أنزل الله عليهم عقوبة لذنوبهم أنّ ملكاً منهم يقال له صدقية، وكانت عادتهم إذا ملك عليهم رجل بعث الله إليه نبياً يرشده ويوحي إليه ما يريد، ولم يكن لهم غير شريعة التوراة، فلما ملك صدقية بعث الله تعالى إليه شعيا، وهو الذي بشر بعيسى وبمحمد، عليهما السلام، فلما قارب أن ينقضي ملكه عظمت الأحداث في بني اسرائيل، فأرسل الله عليهم سنحاريب ملك بابل في عساكر يغصّ بها الفضاء، فسار حتى نزل بيت المقدس وزحاط به وملك بني اسرائيل مريض في ساقه قرحة، فأتاه النبيّ شعيا وقال له: إنّ الله يأمرك أن توصي وتعهد فإنك ميت، فأقبل الملك على الدعاء والتضرّع، فاستجاب الله له، فأوحى الله إلى شعيا أنه قد زاد في عمر الملك صدقية خمس عشرة سنة وأنجاه من عدّوه سنحاريب، فلما قال له ذلك زال عنه الألم وجاءته الصحة.
ثم إن الله أرسل على عساكر سنحاريب ملكاً صاح بهم فماتوا غير ستة نفر منهم: سنحاريب وخمسة من كتّابه، أحدهم بخت نصّر في قول بعضهم، فخرج صدقية وبنو اسرائيل الى معسكرهم فغنموا ما فيه والتمسوا سنحاريب فلم يجدوه، فأرسل الطلب في أثره فوجدوه ومعه أصحابه، فأخذوهم وقيدوهم وحملوهم إليه فقال لسنحاريب: كيف رأيت صنع ربّنا بك؟ فقال: قد أتاني خبر ربّكم ونصره إياكم فلم أسمع ذلك، فطاف بهم حول بيت المقدس ثم سجنهم.
فأوحى الله إلى شعيا يأمر الملك بإطلاق سنحاريب ومن معه، فأطلقهم، فعادوا الى بابل وأخبروا قومهم بما فعل الله بهم وبعساكرهم، وبقي بعد ذلك سبع سنين ثم مات.
وقد زعم بعض أهل الكتاب أن بني اسرائيل سار إليهم قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل يقال له كفرو، وكان بخت نصّر ابن عمّه وكاتبه، وأنّ الله أرسل عليهم ريحاً فأهلكت جيشه وأفلت هو وكاتبه، وأن هذا البابليّ قتله ابن له، وأن بخت نصر غضب لصاحبه فقتل ابنه الذي قتله، وأن سنحاريب سار بعد ذلك وكان ملكه بنينوي وغزا مع ملك أذربيجان يومئذٍ بني اسرائيل فأوقع بهم، ثم اختلف سنحاريب وملك أذربيجان وتحاربا حتى تفانى عسكراهما، فخرج بنو اسرائيل وغنموا ما معهم.
وقيل: كان ملك سنحاريب الى أن توفّي تسعاً وعشرين سنة، وكان ملك بني اسرائيل الذي حصره سنحاريب حزقياً، فلمّا توفّي حزقيا ملك بعده ابنه منشى خسماً وخمسين سنة، ثم ملك بعده آمون الى أن قتله أصحابه ثنتي عشرة سنة، ثم ملك ابنه يوشيا الي أن قتله فرعون مصر الزجدع إحدى وثلاثين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه ياهو أحاز بن يوشيا، فعزله فرعون الأجدع واستعمل بعده يوياقيم بن ياهو أحاز ووظف عليه خراجاً يحمله إليه، وكان ملكه اثنتي عشرة سنة، ثم ملك بعده ابنه يوياحين، فغزاه بخت نصّر وأشخصه الى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه، وملك بعده يقونيا ابن عمه، وسماه صدقية، وخالفه فغزاه وظفر به وحمله الى بابل وذبح ولده بين يديه وسمل عينيه وخرّب بيت المقدس والهيكل وسبى بني اسرائيل وحملهم الى بابل، فمكثوا الى أن عادوا إليه، على ما نذكره إن شاء الله؛ وكان جميع ملك صدقية إحدى عشرة سنة.
وقيل: إن شعيا أوحى الله إليه ليقوم في بني اسرائيل يذكرهم بما يوحي الله على لسانه لما كثرت فيهم الأحداث، ففعل، فعدوا عليه ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة فانفلقت له، فدخلها، وأخذ الشيطان بهدب ثوبه وأراه بني اسرائيل، فوضعوا المنشار على الشجرة فنشروها حتي قطعوه في وسطها.
وقيل في أسماء ملوكهم غير ذلك، ركناه كراهة التطويل ولعدم الثقة بصحة النقل به.
ذكر ملك لهراسب وابنه بشتاسب وظهور زرادشتقد ذكرنا أن كيخسرو لما حضرته الوفاة عهد الى ابن عمّه لهراسب بن كيوخى بن كيكاووس، فهو ابن ابن كيكاووس، فلمّا ملك اتخذ سريراً من ذهب وكلّله بأنواع الجواهر وبنيت له بزرض خراسان مدينة بلخ وسمّاها الحسناء، ودوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخابه الجنود، وعمر الأرض، وجبى الخراج لأرزاق الجند.
واشتدّت شوكة الترك في زمانه فنزل بلخ لقتالهم، وكان محموداً عند زهل مملكته شديد القمع لزعدائه المجاورين له، شديد التفقد لأصحابه، وبعيد الهمة، عظيم البنيان، وشقّ عدّة أنهار، وعمر البلاد، وحمل إليه ملوك الهند الروم والمغرب الخراج، وكاتبوه بالتمليك هيبةً له وحذراً منه.

ثم إنه تنسّك وفارق الملك واشتغل بالعبادة واستخلف ابنه بشتاسب في الملك، وكان ملكه مائة وعشرين سنة، وملك بعده ابنه بشتاسب، وفي أيامه ظهر زرادشت بن سقيمان الذي ادّعى النبوّة وتبعه المجوس، وكان زرادشت فيما يزعم أهل الكتاب من أهل فلسطين يخدم لبعض تلامذة إرميا النبيّ خاصّاً به، فخانه وكذب عليه، وفدعا الله عليه فبرص ولحق ببلاد أذربيجان وشرع بها دين المجوس.
وقيل: إنّه من العجم، وصنّف كتاباً وطاف به الأرض، فما عرف أحد معناه، وزعم أنها لغة سماوية خوطب بها، وسمّاه: اشتا، فسار من أذربيجان إلى فارس، فلم يعرفوا ما فيه ولم يقبلوه، فسار الى الهند وعرضه على ملوكهم، ثمّ أتى الصين والترك فلم يقبله أحد وأخرجوه من بلادهم، وقصد فرغانة، فأراد ملكها أن يقتله فهرب منها وقصد بشتاسب بن لهراسب، فأمر بحبسه، فحبس مدّة، وشرح زرادشت كتابه وسمّاه: زند، ومعناه: التفسير، ثم شرح الزند بكتاب سمّاه: بازند، يعني: تفسير التفسير، وفيه علوم مختلفة كالرياضات وأحكام النجوم والطبّ وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء، وفي كتابه: تمسّكوا بما جئتكم به الى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر، يعني محمّداً، صلى الله عليه وسلم، وذلك على رأس ألف سنة وستّ مائة سنة، وبسبب ذلك وقعت البغضاء بين المجوس والعرب، ثم يذكر عند أخبار سابور ذي الأكتاف أنّ من جملة الأسباب الموجبة لغزوة العرب هذا القول؛ والله أعلم.
ثمّ إنّ بشتاسب زحضر زرادشت، وهو ببلخ، فلمّا قدم عليه شرع له دينه، فأعجبه واتبعه وقهر الناس على اتباعه وقتل منهم خلقاً كثيراً حتى قبلوه ودانوا به.
وأمّا المجوس فيزعمون أن أصله من أذربيجان، وأنه نزل على الملك من سقف إيوانه وبيده كبّة من نار يلعب بها ولا تحرقه، وكلّ من أخذها من يده لم تحرقه، وأنه اتبعه الملك ودان بدينه وبنى بيوت النيران في البلاد وأشعل من تلك النار في بيوت النيران، فيزعمون أن النيران التي في بيوت عباداتهم من تلك إلى الآن.
وكذبوا فإنّ النار التي للمجوس طفئت في جميع البيوت لما بعث الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وكان هظور زرادشت بعد مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسب، وأتاه بكتاب زعم أنه وحي من الله تعالى، وكتب في جلد اثني عشر ألف بقرة حفراً ونقشاً بالذهب، فجعله بشتاسب في موضع بإصطخر ومنع من تعليمه العامة.
وكان بشتاسب وآباؤه قبله يدينون بدين الصابئة، وسيرد باقي أخباره.
ذكر مسير بختنصّر إلى بني إسرائيل
قد اختلف العلماء في الوقت الذي أرسل فيه بخت نصّر على بني اسرائيل، فقيل: كان في عهد إرميا النبيّ ودانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقيل: إنما أرسله الله على بني اسرائيل لما قتلوا يحيى بن زكرياء، والأول أكثر.
وكان ابتداء أمر بخت نصّر ما ذكره سعيد بن جبير قال: كان رجل من بني اسرائيل يقرأ الكتب، فلما بلغ الى قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) الاسراء:5، قال: أي ربّ أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني اسرائيل على يده، فزري في المنام مسكيناً يقال له بخت نصر ببابل، فسار على سبيل التجارة الى بابل وجعل يدعو المساكين ويسأل عنهم حتى دلّوه على بخت نصّر، فأرسل من يحضره، قرآه صعلوكاً مريضاً، فقام عليه في مرضه يعالجه حتى برأ، فلمّا برأ أعطاه نفقة وعزم على السفر، فقال له بخت نصّر وهو يبكي: فعلت معي ما فعلت ولا أقدر على مجازاتك قال الإسرائيلي: بلى تقدر عليه، تكتب لي كتاباً إن ملكت أطلقتني، فقال: أتستهزئ بي؟ فقال: إنما هذا أمر لا محالة كائن.

ثمّ إن ملك الفرس أحب أن يطلع على أحوال الشام، فأرسل إنساناً يثق به ليتعرّف له أخباره وحال من فيه، فسار إليه ومعه بخت نصّر فقير لم يخرج إلا للخدمة، فلما قدم الشام رأى أكبر بلاد الله خيلاً ورجالاً وسلاحاً، ففتّ ذلك في ذرعه، فلم يسأل عن شيء، وجعل بخت نصّر يجلس مجالس أهل الشام فيقول لهم: ما يمنعكم أن تغزوا بابل، فلو غزوتموها ما دون بيت ما لها شيء فكلّهم يقول له: لا نحسن القتال ولا نراه، فلما عادوا أخبر الطليعة بما رأوا من الرجال والسلاح والخيل، وأرسل بخت نصّر الى الملك يطلب إليه أن يحضره ليعرفه جليّة الحال، فأحضره، فأخبره بما كان جميعه، ثمّ إنّ الملك أراد أن يبعث عسكراً إلى الشام أربعة آلاف راكب جريدة، واستشار فيمن يكون عليهم، فأشاروا ببعض أصحابه، فقال: لا بل بخت نصّر، فجعله عليهم، فساروا فغنموا وأوقعوا ببعض البلاد وعادوا سالمين.
ثم إنّ لهراسب استعلمه أصبهبذ على ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربيّ دجلة؛ وكان السبب في مسيره إلى بني اسرائيل أنه لما استعمله لهراسب كما ذكرنا سار الى الشام فصالحه أهل دمشق وبيت المقدس، فعاد عنهم وأخذ رهائنهم، فلمّا عاد من القدس الى طبرية وثب بنو اسرائيل على ملكهم الذي صالح بخت نصّر فقتلوه وقالوا: داهنت أهل بابل وخذلتنا، فلمّا سمع بخت نصّر بذلك قتل الرهائن الذين معه وعاد الى القدس فأخبره.
وقيل: إن الذي استعمله إنما كان الملك بهمن بن بشتاسب بن لهراسب، وكان بخت نصّر قد خدم جدّه وأباه وخدمه وعمّر عمراً طويلاً، فأرسل بهمن رسلاً الى ملك بني اسرائيل ببيت المقدس فقتلهم الإسرائيليّ، فغضب بهمن من ذلك واستعمل بخت نصّر على أقاليم بابل وسيّره في الجنود الكثيرة، فعمل بهم ما نذكره.
هذه الأسباب الظاهرة وإنما السبب الكلّيّ الذي أحدث هذه الأسباب الموجبة للانتقام من بني اسرائيل هو معصية الله تعالى ومخالفة أواره، وكانت سنة الله تعالى في بني اسرائيل أنه إذا ملك عليهم ملكاً أرسل معه نبيّاً يرشده ويهديه الى أحكام التوراة، فلما كان قبل مسير بخت نصّر إليهم كثرت فيهم الأحداث والمعاصي، وكان الملك فيهم يقونيا بن يوياقيم، فبعث الله إليه إرميا، قيل: هو الخضر، عليه السلام، فأقام فيهم يعدوهم الى الله وينهاهم عن المعاصي ويذكر لهم نعمة الله عليهم بإهلاك سنحاريب، فلم يرعووا، فأمره الله أن يحذرهم عقوبته وأنه إن لم يراجعوا الطاعة سلّط عليهم من يقتلهم ويسبي ذراريّهم ويخرب مدينتهم ويستعبدهم ويأتيهم بجنود ينزع من قلوبهم الرأفة والرحمة، فلم يراجعوها فأرسل الله إليه: لأقيضنّ لهم فتنة تذر الحليم حيران ويضلّ فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم، ولأسلطن عليهم جبّاراً قاسياً عاتياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل، وعساكر مثل قطع السحاب، يهلك بني اسرائيل وينتقم منهم ويخرب بيت المقدس.
فلمّا سمع إرميا ذلك صاح وبكى وشقّ ثيابه، وجعل الرماد على رأسه وتضرّع إلى الله في رفع ذلك عنهم في أيّامه.
فأوحى الله إليه: وعزّتي لا أهلك بيت المقدس وبني اسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك، ففرح إرميا، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ لا آمر بهلاك بني اسرائيل أبداً.
وأتى ملك بني اسرائيل فأعلمه بما أوحي إليه، فاستبشر وفرح، ثمّ لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين ولم يزدادوا إلا معصيةً وتمادياً في الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حيث لم يكونوا هم يتذكّرون، فقال لهم ملكهم: يا بني اسرائيل انتهوا عمّا أنتم عليه قبل أن يأتيكم عذاب الله فلم ينتهوا، فألقى الله في قلب بخت نصّر أن يسير الى بني اسرائيل ببيت المقدس، فسار في العساكر الكثيرة التي تملأ الفضاء.
وبلغ ملك بني اسرائيل الخبر، فاستدعى إرميا النبيّ، فلمّا حضر عنده قال له: يا إرميا أين ما زعمت أنّ ربّك أوحي إليك أن لا يهلك بيت المقدس حتى يكون الأمر منك؟ فقال إرميا: إن ربي لا يخلف الميعاد وأنا به واثق.

فلما قرب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وأراد الله إهلاكهم أرسل الله ملكاً في صورة آدمي إلى إرميا وقال له: استفته، فأتاه وقال له: يا إرميا أنا رجل من بني اسرائيل أستفتيك في ذوي رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به وأتيت إليهم حسناً وكرامة فلا تزيدهم كرامتي إيّاهم إلا سخطاً لي وسوء سيرة معي فأفتني فيهم، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصل ما أمرك الله به أن تصله، فانصرف عنه الملك ثم عاد إليه بعد أيام ف يتلك الصورة، فقال له إرميا: أما طهرت أخلاقهم وما رأيت منهم ما تريد؟ فقال: والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس الى ذوي رحمه إلا وقد زتيتها إليهم وأفضل من ذلك فلم يزدادوا إلا سوء سيرة، فقال: ارجع الى أهلك وأحسن إليهم، فقام الملك من عنده فلبث أياماً، ونزل بخت نصّر على بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل وقال ملكهم لإرميا: أين ما وعدك ربك؟ فقال: إني بربي واثق.
ثمّ إن الملك الذي أرسله الله يستفتي إرميا عاد إليه وهو قاعد على جدار بيت المقدس فقال مثل قوله الأول وشكا أهله وجورهم وقال له: يا نبيّ الله كلّ شيء كنت أصبر عليه قبل اليوم لأنّ ذلك كان فيه سخطي، وقد رأيتهم اليوم على عمل عظيم من سخط الله تعالى، فلو كانوا على ما كانوا عليه اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي، وإنما غضبت اليوم لله وأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم أن يهلكوا، فقال إرميا: يا ملك السموات والأرض إن انوا على حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم، فلمّا خرجت الكلمة من فيه أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها.
فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض، يا أرحم الراحمين أين ميعادك، أيا ربّ، الذي وعدتني به؟ فأوحى الله إليه أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت رسولنا، فاستيقن أنها فتياه وأنّ السائل كان من عند الله، وخرج إرميا حتى خالط الوحش، ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام وقتل بني اسرائيل حتى أفناهم، وخرّب بيت المقدس وأمر جنوده، فحملوا التراب وألقوه فيه حتى ملأوه ثمّ انصرف راجعاً الى بابل وأخذ معه سبايا بني اسرائيل، وأمرهم، فجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم، فاجتمعوا واختار منهم مائة ألف صبيّ فقسمهم على الملوك والقوّاد الذين كانوا معه، وكان من أولئك الغلمان دانيال النبيّ وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقسّم بني اسرائيل ثلاث فرق، فقتل ثلثاً، وأقرّ بالشام ثلثاً، وسبى ثلثاً، ثمّ عمر الله بعد ذلك إرميا، فه الذي رئي بفلوات الأرض والبلدان.
ثم إنّ بخت نصّر عاد الى بابل وأقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثمّ رأى رؤيا، فبينما هو قد أعبجه ما رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها فأنسيتها، ولذن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعنّ أكتافكم فخرجوا من عنده ودعوا الله وتضرّعوا إليه وسألوه أن يعلمهم إيّاها، فأعلمهم الذي سألهم عنه، فجاءوا الى بخت نصّر فقالوا: رأيت تمثالاً، قال: صدقتم، قالوا: قدماه وساقاه من فخّار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضّة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد، فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك أرسل الله عليه صخرة من السماء فدقّته، وهي التي أنستك الرؤيا قال: صدقتم، فما تأويلها؟ قالوا: أريت ملك الملوك، وبعضهم كان ألين ملكاً من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكاً من بعض، وبعضهم أشدّ، وكان أوّل الملك الفخّار، وهو أضعفه وألينه، ثمّ كان فوقه النحاس، وهو أفضل منه وأشدّ، ثمّ كان فوق النحاس الفضّة، وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثمّ كان فوقها الذهب، وهو أحسن من الفضّة وأفضل، ثمّ كان الحديد، وهو ملكك، فهو أشد الملوك وأعزّ، وكانت الصخرة التي رأيت قد أرسل الله من السماء فدقّت ذلك جميعه نبيّاً يبعثه الله من السماء ويصير الأمر إليه.

فلما عبّر دانيال ومن معه رؤيا بخت نصّر قرّبهم وأدناهم واستشارهم في أمره، فحسدهم أصحابه وسعوا بهم إليه وقالوا عنهم ما أوحشه منهم، فأمر، فحفر لهم أخدود وألقاهم فيه، وهم ستّة رجال، وألقى معهم سبعاً ضارياً ليأكلهم، ثم قال أصحاب بخت نصّر: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثمّ راحوا فوجدوهم جلوساً والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحداً، ووجدوا معهم رجلاً سابعاً، فخرج إليهم السابع، وكان ملكاً من الملائكة، فلطم بخت نصّر لطمةً فمسخه وصار في الوحش في صورة أسد، وهو مع ذلك يعقل ما يعقله الإنسان، ثم رده الله الى صورة الإنس وأعاد عليه ملكه، فلما عاد الي ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه، فعاد الفرس وسعوا بهم الى بخت نصّر وقالوا له في سعايتهم: إنّ دانيال إذا شرب الخمر لا يملك نفسه من كثرة البول، وكان ذلك عندهم عاراً؛ فصنع لهم بخت نصّر طعاماً وأحضره عنده وقال للبواب: انظر أوّل من يخرج ليبول فاقتله، وإن قال لك: أنا بخت نصّر، فقل له: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك واقتله.
فحبس الله عن دانيال البول، وكان أول من قام من الجمع بخت نصّر فقام مدلاً أنه الملك، وكان ذلك ليلاً، فلما رآه البواب شد عليه ليقتله، فقال له: أنا بخت نصّر فقال: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك، وقتله.
وقيل في سبب قتله: إن الله أرسل عليه بعوضة فدخلت في منخره وصعدت الى رأسه، فكان لا يقرّ ولا يسكن حتى يدقّ رأسه، فلما حصره الموت قال لأهله: شقّوا رأسي فانظروا ما هذا الذي قتلني، فلما مات شقّوا رأسه فوجدوا البعوضة بزمّ رأسه، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه وضعف بخت نصّر، لما تجبّر قتله بأضعف مخلوقاته، تبارك الذي بيده ملكوت كلّ شيء، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وأما دانيال فإنه أقام بأرض بابل وانتقل عنها ومات ودفن بالسوس من أعمال خوزستان.
ولما أراد الله تعالى أن يردّ بني اسرائيل الى بيت المقدس كان بخت نصّر قد مات، فإنه عاش بعد تخريب بيت المقدس أربعين سنة، في قول بعض أهل العلم، وملك بعده ابن له يقال له أولمردج، فملك الناحية ثلاثاً وعشرين سنة، ثم هلك وملك ابن له بلتاصر سنة، فلما ملك تخلط في أمره، فعزله ملك الفرس حينئذٍ؛ وهو مختلف فيه علي ما ذكرناه؛ واستعمل بعده داريوش على بابل الشام، وبقي ثلاثين سنة، ثمّ عزله واستعمل مكانه أخشويرش، فبقي أربع عشرة سنة، ثمّ ملك ابنه كيرش العلميّ، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان قد تعلّم التوراة ودان باليهودية، وفهم عندانيال ومن معه مثل حنانيا وعزاريا وغيرهما، فسألوه أن يأذن لهم في الخروج الى بيت المقدس، فقال: لو كان بقي منكم منكم ألف نبيّ ما فارقتكم، وولّى دانيال القضاء وجعل إليه جميع أمره، وأره أن يقسم ما غنمه بخت نصّر من بني اسرائيل عليهم، وأمره بعمارة بيت المقدس، فعمّر في أيّامه، وعاد إليه بنو اسرائيل.
وهذه المدّة لهؤلاء الملوك معدودة من خراب بيت المقدس منسوبة الى بخت نصر، وكان ملك كيرش اثنتين وعشرين سنة.
وقيل: إنّ الذي أمر بعود بني اسرائيل الى الشام بشتاسب بن لهراسب، وكان قد بلغه خراب بلاد الشام، وزنها لم يبق بها من بني اسرائيل أحد، فنادى في أرض بابل: من شاء من بني اسرائيل أن يرجع الى الشام فليرجع، وملك عليهم رجلاً من ال داود وأمره أن يعمر بيت المقدس، فرجعوا وعمروه.

وكان إرميا بن خلقيا من سبط هارون بن عمران، فلمّا وطئ بخت نصّر الشام وخرّب بيت المقدس وقتل بني اسرائيل وسباهم، فارق البلاد واختلط بالوحش، فلما عاد بخت نصّر الى بابل أقبل إرميا على حمار له معه عصير عنب وفي يده سلّة تين فرأى بيت المقدس خراباً فقال: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام) البقرة: 259 ثم أمات حماره وأعمى عنه العيون، فلما انعمر بيت المقدس أحيا الله من إرميا عينيه، ثمّ أحيا جسده، وهو ينظر إليه، وقيل له: (كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم)، قيل: (بل لبثت مائة عام، فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه - يتغيّر - وانظر الى حمارك) فنظر الى عظام حماره وهي تجتمع بعضها الى بعض، ثم كسي لحماً، ثم قام حيّاً بإذن الله، ونظر الى المدينة وهي تبنى، وقد كثر فيها بنو إرسرائيل وتراجعوا إليها من البلاد، وكان عهدها خراباً، وأهلها ما بين قتيل وأسير، فلما رآها عامرة (قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير) البقرة: 259.
وقيل: إنّ الذي أماته الله مائة عام ثمّ أحياه كان عزيزاً، فلما عاش قصد منزله من بيت المقدس على وهم منه فرأى عنده عجوزاً عمياء زمنه كانت جارية له، ولها من العمر مائة وعشرون سنة، فقال لها: هذا منزل عزيز؟ قالت: نعم، وبكت وقالت: ما أرى أحداً يذكر عزيزاً غيرك فقال: أنا عزيز، فقالت: إنّ عزيزاً كان مجاب الدعوة، فادع الله لي بالعافية، فدعا لها فعاد بصرها وقامت ومشت، فلما رأته عرفته، وكان لعزيز ولد وله من العمر مائة وثلاث عشرة سنة، وله أولاد شيوخ، فذهبت إليهم الجارية وأخبرتهم به، فجاؤوا، فلما رأوه عرفه ابنه بشامة كانت في ظهره.
وقيل: إنّ عزيزاً كان مع بني اسرائيل بالعراق، فعاد الى بيت المقدس فجدّد لبني اسرائيل التوراة لأنهم عادوا الى بيت المقدس، ولم يكن معهم التوراة لأنها كانت قد أُخذت فيما أخذ وأحرقت وعدمت، وكان عزيز قد أخذ مع السبي، فلما عاد عزيز الى بيت المقدس مع بني اسرائيل جعل يبكي ليلاً ونهاراً وانفرد عن الناس، فبينما هو كلذكل في حزنه إذ أقبل إليه رجل، وهو جالس، فقال: يا عزيز ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأنّ كتاب الله وعهده كان بين أظهرنا فعدم، قال: فتريد أن يردّه الله عليكم؟ قال: نعم، قال: فارجع وصم وتطهر والميعاد بيننا غداً هذا المكان، ففعل عزيز ذلك وأتي المكان فانتظره، وأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء، وكان ملكاً بعثه الله في صورة رجل، فسقاه من ذلك الإناء، فتمثلت التوراة في صدره، فرجع الى بني اسرائيل فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وحدودها، فزحبّوه حبّاً شديداً لم يحبّوا شيئاً قطّ مثله، وأصلح أمرهم، وأقام عزيز بينهم، ثمّ قبضه الله إليه على ذلك، وحدثت فيهم الأحداث، حتى قال بعضهم: عزيز ابن الله ولم يزل بنو اسرائيل ببيت المقدس، وعادوا وكثروا حتى غلبت عليهم الروم زمن ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة.
وقد اختلف العلماء في أمر بخت نصّر وعمارة بيت المقدس اختلافاً كثيراً تركنا ذكره اختصاراً.
ذكر غزو بختنصّر العرب
قيل: أوحى الله إلى برخيا بن حنيا يأمره أن يقول لبخت نصّر ليغزو العرب فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم عقوبة لهم على كفرهم، فقال برخيا لبخت نصّر ما أمر به، فابتدأ بمن في بلاده من تجار العرب فأخذهم وبنى لهم حران بالنجف وحبسهم فيه ووكل بهم، وانتشر الخبر في العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مستأمنين، فقبلهم وعفا عنهم فأنزلهم السواد، فابتنوا الزنبار، وخلّى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلاً حياة بخت نصّر.

فلمّا مات انضمّوا الى أهل الأنبار، وهذا أول سكنى العرب السواد بالحيرة والأنبار، وسار الى العرب بنجد والحجاز، فأوحى الله إلى برخيا وإرميا يأمرهما أن يسير الى معدّ بن عدنان فيأخذاه ويحملاه الى حرّان، وأعلمهما أنه يخرج من نسله محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي يختم به الأنبياء؛ فسارا تطوى لهما المنازل والأرض حتى سبقا بخت نصّر الى معد، فحملاه الى حرّان في ساعتهما، ولمعدّ حينئذٍ اثنتا عشرة سنة، وسار بخت نصّر فلقي جموع العرب فقاتلهم فهزمهم وأكثر القتل فيهم، وسار الى الحجاز فجمع عدنان العرب والتقى هو وبخت نصّر بذات عرق قاتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عدنان وتبعه بخت نصّر الى حصون هناك، واجتمع عليه العرب وخندق كلّ واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه، فكمّن بخت نصّر كميناً، وهو أول كمين عمل، وأخذتهم السيوف، فنادوا بالويل، ونهي عدنان عن بخت نصّر، وبخت نصّر عن عدنان، فافترقا، فلما رجع بخت نصّر خرج معد بن عدنان مع الأنبياء حتى أتى مكّة فأقام أعلامها وحج ّوحجّ معه الأنبياء، وخرج معدّ حتى أتى ريشوب وسأل عمّن بقي منولد الحرث بن مضاض الجرهميّ، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معد ابنته معانة، فولدت له نزار بن معدّ.
ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه وقتل أبيه لهراسبلما ملك بشتاسب بن لهراسب ضبط الملك وقرّر قوانينه وابتنى بفارس مدينة فسا ورتّب سبعة من عظماء أهل مملكته مراتب وملك كلّ واحد منهم مملكة على قدر مرتبته، ثمّ إنّه أرسل إلى ملك الترك، واسمه خرزاسف، وهو أخو أفراسياب، وصالحه، واستقرّ الصلح على أن يكون لبشتاسب دابّة واقفة على باب ملك الترك لا تزال علي عادتها على أبواب الملوك، فلما جاء زرادشت الى بشتاسب واتبعه على ما ذكرناه أشار زرادشت على بشتاسب بنقض الصلح مع ملك الترك، وقال: أنا أعيّن لك طالعاً تسير فيه الى الحرب فتظفر؛ وهذا أول وقت وضعت فيه الاختيارات للملوك بالنجوم؛ وكان زرادشت عالماً بالنجوم جيّد المعرفة بها، فأجابه بشتاسب الى ذلك، فأرسل الى الدابّة التي بباب ملك الترك والى الموكّل بها فصرفهما، فغضب ملك الترك وأرسل اليه يتهدده وينكر عليه ذلك ويأمره بإنفاذ زرادشت إليه وإن لم يفعل غزاه وقتله وأهل بيته.
فكتب إليه بشتاسب كتاباً غليظاً يؤذنه فيه بالحرب، وسار كلّ واحد منهما الى صاحبه والتقيا واقتتلا قتالاً شديداً، فكانت الهزيمة على الترك، وقتلوا قتلاً ذريعاً، ومرّوا منهزمين، وعاد بشتاسب الى بلخ، وعظم أمر زرادشت عند الفرس، وعظم شأنه حيث كان هذا الظفر بقوله.
وكان أعظم الناس غناء في هذه الحرب إسفنديار بن بشتاسب، فلما انجلت الحرب سعى الناس بي بشتاسب وابنه اسفنديار وقالوا: ويريد الملك لنفسه، فندبه لحرب بعد حرب، ثمّ أخذه وحبسه مقيّداً.
ثم إنّ بشتاسب سار الى ناحية كرمان وسجستان وسار الى جبل يقال له طمبدر لدراسة دينه والتنسّك هناك، وخلف أباه لهراسب ببلخ شيخاً قد أبطله الكبر، وترك بها خزائنه وأولاده ونساءه، فبلغت الأخبار إلى ملك الترك خرزاسف، فلمّا تحققها جمع عساكره وحشد وسار الى بلخ وانتهز الفرصة بغيبة بشتاسب عن مملكته، ولما بلغ بلخ ملكها وقتل لهراسب وولدين لبشتاسب والهرابذة وأحرق الدواوين وهدم بيوت النيران وأرسل السرايا إلى البلاد، فقتلوا وسبوا وأخربوا، وسَبى ابنتين لبشتاسب إحداهما خُمانى والاخرى باذافره، وأخذ علمهم الأكبر المعروف بدرفش كابيان، وسار متبعاً لبشتاسب، وهرب بشتاسب من بين يديه فتحصّن بتلك الجبال مما يلي فارس، وضاق ذرعاً بما نزل به.
فلما اشتدّ عليه الأمر أرسل الى ابنه اسفنديار مع عالمهم جاماسب، فأخرجه من محبسه واعتذر إليه ووعده أن يعهد إليه بالملك من بعده، فلمّا سمع إسفنديار كلامه سجد له ونهض من عنده وجمع من عنده من الجند وبات ليلته مشغولاً بالتجهّز وسار من الغد نحو عسكر الترك وملكهم، والتقوا واقتتلوا والتحمت الحرب وحمي الوطيس، وحمل إسفنديار على جانب من العسكر فأثّر فيه ووّهنه، وتابع الحملات، وفشا في الترك أنّ إسفنديار هو المتولّي لحربهم، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع درفش كابيان.

فلمّا دخل على أبيه استبشر به وأمره باتباع الترك ووصّاه بقتل ملكهم ومن قدر عليه من أهله ويقتل من الترك من أمكنه قتله وأن يستنقذ السبايا والغنائم التي أُخذت من بلادهم، فسار إسفنديار ودخل بلاد الترك وقتل وسبى وأخرب وبلغ مدينتهم العظمى ودخلهم عنوة وقتل الملك وإخوته ومقاتلته واستباح أمواله وسبى نساءه واستنقذ أختيه ودوّخ البلاد وانتهى الى آخر حدود بلاد الترك والى التّبّت، وأقطع بلاد الترك، وجعل كلّ ناحية الى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم ووظف عليهم خراجاً يحملونه كلّ سنة الى أبيه بشتاسب، ثم عاد الى بلخ.
فحسده أبوه بما ظهر منه من حفظ الملك والظفر بالترك، وأسرّ ذلك في نفسه، وأمره بالتجهّز والمسير الى قتال رستم الشديد بسجستان، وقال له: هذا رستم متوسّط بلادنا ولا يعطينا الطاعة لأن الملك كيكاووس وأعتقه فأقطعه إيّاها؛ وقد ذكرنا ذلك في ملك كيكاوو؛ وكان عغرض بشتاسب أن يقتله رستمُ أو يقتل هو رستم، فإنه كان أيضاً شديد الكراهة لرستم، فجمع العساكر وسار الى رستم لينزع سجستان منه، فخرج إليه رستم وقاتله، فجمع العساكر وسار الى رستم لينزع سجستان منه، فخرج إليه رستم وقاتله، فقتل إسفنديار، قتله رستم.
ومات بشتاسب، وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وخمسين سنة.
وقيل: إنه جاءه رجل من بني اسرائيل زعم أنه نبيّ أرسل إليه واجتمع به ببلخ، فكان يتكلّم بالعبريّ وزرادشت نبيّ المجوس يعبّر عنه، وجاماسب العالم هو حاضر معهم يترجم أيضاً عن الاسرائيلي، وكان بشتاسب ومن قبله من آبائه وسائر الفرس يدينون بدين الصابئة قبل زرادشت.
ذكر الخبر عن ملوك بلاد اليمن

من أيام كيكاووس الى أيام بهمن بن اسفنديار
قد مضي ذكر الخبر عمّن زعم أنّ كيكاووس كان في عهد سليمان بن داود، وقد ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت ايلشرح، وصار الملك بعد بلقيس الى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له أنعم الانعامة، قال أهل اليمن: إنّه سار غازياً نحو المغرب حتى بلغ وادياً يقال له وادي الرمل، ولم يبلغه أحد قبله، فلمّا انتهى اليه لم يجد وراءه مجازاً لكثرة الرمل، فبينما هو مقيم عليه إذ انكشف الرمل فأمر رجلاً يقال له عمرو أن يعبر هو وأصحابه، فعبروا، فلم يرجعوا، فلمّا رأى ذلك أمر بنصب صنم نحاس، فصُنع ثمّ نُصب على صخرة على شفير الوادي وكتب على صدره بالمسند: هذا الصنم لياسر أنعم الحميريّ، ليس وراءه مذهب فلا يتكلّفنّ أحد ذلك فيعطب.
وقيل: إنّ وراء ذلك الرمل قوماً من أمّه موسى، وهم الذين عنى الله بقوله: (ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون) الاعراف: 951؛ والله أعلم.
ثمّ ملك بعده تُبّع، وهو تُبّان، وهو أسعد، وهو أبو كرب بن ملكيكرب تّبع بن زيد بن عمرو بن تبّع، وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبّع ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبأ، وكان يقال له الزايد، وكان تبّع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وإنه شخص متوجّهاً من اليمن في الطريق الذي سلكه الرايش حتى خرج على جبلي طيّء، ثمّ سار يريد الأنبار، فلمّا انتهى الى موضع الحيرة تحيّر، وكان ليلاً، فأقام بمكانه، فسمّي ذلك المكان بالحيرة، وخلّف به قوماً من الأزد ولخم وجُذام وعاملة وقُضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثمّ انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيّء وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد، ثم توجّه الى الموصل، ثم الى أذربيجان، فلقي الترك فهزمهم، فقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة، ثم عاد الى اليمن، فهابته الملوك وأهدوا إليه، وقدمت عليه هديّة ملك الهند، وفيها تحف كثيرة من الحرير والمسك والعود وسائر طرف الهند، فرأى ما لم يرَ مثله، فقال للرسول: كلّ هذا في بلدكم؟ فقال: أكثره من بلد الصين، ووصف له بلد الصين، فحلف ليغزونها، فسار بحمير حتى أتى الى الركائك وأصحاب القلانس السود، ووجّه رجلاً من أصحابه يقال له ثابت نحو الصين في جمع عظيم، فأصيب، فسار تبّع حتى دخل الصين، فقتل مقاتلتها واكتسح ما وجد فيها، وكان مسيره ومقامه ورجعته في سبع سنين.
ثمّ إنهّ خلّف بالتّبّت اثني عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التّبّت، ويزعمون أنهم عرب، وألوانهم ألوان العرب وخلقهم.

وهكذا ذكر، وقد خالف هذه الرواية كثير من أصحاب السير والتواريخ، وكل واحد منهم خالف الآخر، وقدّم بعضهم من أخره الآخر، فلم يحصل منهم كثير فائدة، ولكن ننقل ما وجدنا مختصراً.
ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خمانيثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن بن اسفنديار، وكان مظفراً في مغازيه، وملك أكثر من أبيه، وقيل: إنه ابتنى بالسواد مدينة وسمّاها أياوان أردشير، وهي القرية المعروفة بهمينيا بالزاب الأعلى، وابتنى بكور دجلة الأبلّة، وسار الى سجستان طالباً بثأر أبيه، فقتل رستم وأباه دستان وابنه فرامرز. وبهمن هو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأحرار أردشير ابن بابك وولده، وأمّ دارا خمانى ابنة بهمن، فهي أخته وأمّه.
وغزا بهمن رومية الداخلة في ألف ألف مقاتل، وكان ملوك الأرض يحملون إليه الإتاوة، وكان أعظم ملوك الفرس شأناً وأفضلهم تدبيراً. وكانت أمّ بهمن من نسل بنيامين بن يعقوب، وأم ابنه ساسان من نسل سليمان بن داود، وكان ملك بهمن مائة وعشرين سنة، وقيل: صمانين سنة، وكان متواضعاً مرضيّاً فيهم، وكانت كتبه تخرج: من عبد الله خادم الله السائس لأموركم.
ثمّ ملكت بعده ابنته خمانى، ملكوها حبّاً لأبيها ولعقلها وفروسيتها، وكانت تلقّب بشهرزاد، وقيل: إنما ملكت لأنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك، ففعل بهمن وعقد التاج عليه حملاً في بطنها، وساسان بن بهمن رجل يتصنع للملك، فلمّا رأى فعل أبيه لحق باصطخر وتزهّد ولحق برؤوس الجبال واتخذ غنماً، وكان يتولاها بنفسه، فاستبشعت العامّة ذلك منه.
وهلك بهمن وابنه دارا في بطن أمه، فملكوها، ووضعته بعد أشهر من ملكها، فأنفت من إظهار ذلك وجعلته في تابوت وجعلت معه جواهر وأجرته في نهر الكرّ من اصطخر، وقيل: بنهر بلخ، وسار التابوت الى طحّان من أهل اصطخر، ففرح لما فيه من الجوهر، فحضنته امرأته، ثم ظهر أمره حين شبّ، فأقرّت خمانى بإساءتها، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون أبناء الملوك، فحوّلت التاج إليه وسارت الى فارس وبنت مدينة اصطخر، وكانت قد أوتيت ظفراً وزغزت الروم وشغلت الأعداء عن تطرّق بلادها، وخفّفت عن رعيّتها الخراج؛ وكان ملكها ثلاثين سنة.
وقيل: إنّ خمانى أم دارا حضنته حتى كبر فسلّمت إليه وعزلت نفسها، فضبط الملك بشجاعة وحزم.
ونرجع إلى ذكر بني اسرائيل ومقابلة تاريخ أيّامهم إلى حين تصرّمها ومدّة من كان في أيامهم من ملوك الفرس.
قد ذكرنا فيما مضي سبب انصراف من انصرف الى بيت المقدس من سبايا بني اسرائيل الذي كان بخت نصّر سباهم، وكان ذلك في أيّام كيرش بن اخشويرش، وملكه ببابل من قبل بهمن وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خُمانى، وكانت مدّة خراب بيت المقدس من لدن خرّبّه بخت نصّر مائة سنة، كلّ ذلك في أيّام بهمن بعضه وفي أيّام ابنته خُمانى بعضه، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم ذكر الاختلاف.
وقد زعم بعضهم أنّ كيرش هو بشتاسب، وأنكر عليه قوله ولم يملك كيرش منفرداً قطّ.
ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله كان فيهم عزير، وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس إما رجل منهم وإما رجل من بني اسرائيل، إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم لسبب غلبة الإسكندر على الناحية حين قتل داراً بن دارا، وكان جملة مدّة ذلك فيما قيل ثمانياً وثمانين سنة.
ذكر خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنينوملك دارا بن بهمن بن إسفنديار، وكان يلقّب جهرازاد، يعني كريم الطبع، فنزل ببابل، وكان ضابطاً لملكه قاهراً لمن حوله من الملوك، يؤدّون إليه الخراج، وبنى بفارس مدينة سمّاها دارابجرد، وحذّف دوابّ البرد ورتّبها، وكان معجباً بابنه دارا ومن حبّه له سمّاه باسم نفسه وصيّر له الملك بعده. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك بعده ابنه دارا وبنى بأرض الجزيرة بالقرب من نصيبين مدينة دارا، وهي مشهورة إلى الآن، واستوزر إنساناً لا يصلح لها، فأفسد قلبه على أصحابه، فقتل رؤساء عسكره واستوحش منه الخاصّة والعامّة، وكان شابّاً غرّاً جميلاً حقوداً سيّء السيرة في رعيّته.
وكان ملكه أربع عشرة سنة.
ذكر الإسكندر ذي القرنين

كان فيلفوس أبو الاسكندر اليونانيّ من أهل بلدة يقال لها مقدونية، كان ملكاً عليها وعلى بلاد أخرى، فصالح دارا على خراج يحمله إليه في كلّ سنة، فلما هلك فيلفوس ملك بعده ابنه الاسكندر واستولى على بلاد الروم أجمع، فقوي على دارا فلم يحمل إليه من الخراج شيئاً، وكان الخراج الذي يحمله بيضاً من ذهب، فسخط عليه دارا وكتب إليه يؤنّبه بسوء صنيعه في ترك حمل الخراج، وبعث إليه بصولجان والرة ويترك الملك، وإن لم يفعل ذلك واستعصى عليه بعث إليه من يأتيه به في وثاق، وإنّ عدّة جنوده كعدّة حبّ السمسم الذي بعث به إليه.
فكتب إليه الاسكندر: إنه قد فهم ما كتب به، وقد نظر الى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة وتيمّن به لإلقاء الملقي الكرة الى الصولجان واحترازه إيّاها؛ وشبّه الأرض بالكرة، وأنّه يجرّ ملك دارا إلى ملكه، وتيمّنه بالسمسم الذي بعث كتيمّنه بالصولجان والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة، وبعث إليه بصرّة فيها خردل، وزعلمه في ذلك أنّ ما بعث به إليه قليل ولكنّه مرّ حرّيف، وأنّ جنوده مثله، فلمّا وصل كتباه إلى دارا تأهّب لمحاربته.
وقد زعم بعض العلماء بأخبار الأوّلين أنّ الإسكندر الذي حارب دارا بن دارا هو أخو دارا الأصغر الذي حربه، وأنّ أباه دارا الأكبر كان تزّوج أمّ الإسكندر، وهي ابنة ملك الروم، فلمّا حُملت إليه وجد نتن ريحها وسهكها، فأمر أن يحتال لذلك منها؛ فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسيّة سندر، فغسلت بمائها فأذهب ذلك كثيراً من نتنها ولم يذهب كلّه، وانتهت نفسه عنها، فردّها الى أهلها، وقد علقت منه فولدت في أهلها غلاماً فسمّته باسم الشجرة التي غُسلت بمائها مضافاً إلى اسمها، وقد هلك أبوها وملك الإسكندر بعده، فمنع الخراج الذي كان يؤديه جدّه، إلى دارا، فأرسل يطلبه، وكان بيضاً من ذهب، فأجابه: إنّي قد ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض وأكلت لحمها، فإن زحببت وادعناك، وإن أحببت ناجزناك.
ثم خاف الإسكندر من الحرب فطلب الصلح، فاستشار دارا أصحابه، فأشاروا عليه بالحرب لفساد قلوبهم عليه، فعند ذلك ناجزه دارا القتال، فكتب الإسكندر إلى حاجبي دارا وحكّمهما على الفتك بدارا، فاحتكما شيئاً، ولم يشترطا أنفسهما، فلمّا التقيا للحرب طعن دارا حاجباه في الوقعة، وكان الحرب بينهما سنة، فانهزم أصحاب دارا ولحقه الاسكندر وهو بآخر رمق.
وقيل: بل فتك به رجلان من حرسه من أهل همذان حبّاً للراحة من ظلمه، وكان فتكهما به لما رأيا عسكره قد انهزم عنه، ولم يكن ذلك بأمر الإسكندر، وكان قد أمر الإسكندر منادياً ينادي عند هزيمة عسكر دارا أن يؤسر دارا ولا يُقتل، فأخبر بقتله، فنزل إليه ومسح التراب عن وجهه وجعل رأسه في حجره وقال له: إنما قتلك أصحابك وإنني لم أهمّ بقتلك قطّ، ولقد كنتُ أرغب بك يا شريف الأشراف ويا ملك الملوك وحُرّ الأحرار عن هذا المصرع، فأوص بما أحببت، فأوصاه دارا أن يتزوّج ابنته روشنك ويرعى حقها ويعظّم قدرها ويستبقي أحرار فارس ويأخذ له بثزره ممّن قتله، ففعل الاسكندر ذلك أجمع وقتل حاجبي دارا، وقال لهما: إنكما لم تشترطا نفوسكما، فقتلهما بعد أن وفى لهما بما ضمن لهما، وقال: ليس ينبغي أن يُستبقى قاتل الملوك إلا بذمّة لا تخفر، وكان التقاؤهما بناحية خراسان مما يلي الخزر، وقيل: ببلاد الجزيرة عند دارا.
وكان ملك الرّوم قبل الإسكندر متفرّقاً فاجتمع، وملك فارس مجتمعاً فتفرّق، حمل الإسكندر كتباً وعلوماً لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة ونقله الى الرومية.
وقذ ذكرنا قول من قال إنّ الإسكندر أخو دارا لأبيه، وأمّا الروم وكثير من أهل الأنساب فيزعمون أنّه الإسكندر بن فيلفوس، وقيل فيلبوس بن مطريوس، وقيل: ابن مصريم بن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن ثوبة بن سرحون بن روميط بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز بن العيص بن اسحاق بن ابراهيم.

فجمع بعد هلك دارا مُلك دارا فملك العراق والشام والروم ومصر والجزيرة، وعرض جنده فوجدهم على ما قيل ألف ألف وأربعماذة ألف رجل، منهم من جنده ثمانمائة ألف رجل، ومن جند دارا ستّمائة ألف رجل، وتقدّم بهدم حصون فارس وبيوت النيران وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم، واستعمل على مملكة فارس رجالاً، وسار قدماً الى أرض الهند فقتل ملكها وفتح مدنها وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم، ثم سار منها الى الصين، فلمّا وصل إليها أتاه حاجبه في الليل وقال: هذا رسول ملك الصين، فزحضره فسلّم وطلب الخلوة، ففّتّشوه فلم يروا معه شيئاً، فخرج من كان عند الإسكندر، فقال: أنا ملك الصين جئت أسألك عن الذي تريده، فإن كان مما يمكن عمله عملته وتركت الحرب، فقال له الاسكندر: ما الذي آمنك مني؟ قال: علمت أنك عاقل حكيم ولم يكن بيني وبينك عداوة ولا دخل، وأنت تعلم أنك إن قتلتني لم يكن قتلي سبباً لتسليم أهل الصين مُلكي إليك، ثم إنّك تنسب إلى الغدر.
فعلم أنه عاقل فقال له: أريد منك ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلاً ونصف الارتفاع لكل سنة، قال: قد أجبتك ولكن أسألني كيف حالي، قال: قل كيف حالك؟ قال: أكون أوّل قتيل لمحارب وأول أكلة لمفترس، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين؟ قال: يكون حالي أصلح قليلاً، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة؟ قال: يبقى ملكي وتذهب لذّاتي، قال: وأنا أترك لك ما مضى وآخذ الثلث لكلّ سنة فكيف يكون حالك؟ قال: يكون السدس للفقراء والمساكين ومصالح البلاد، والسدس لي، والثلث للعسكر، والثالث لك، قال: قد قنعتُ منك بذلك، فشكره وعاد، وسمع العسكر بذلك ففرحوا بالصلح.
فلمّا كان الغد خرج ملك الصين بعسكر عظيم أحاط بعسكر الإسكندر، فركب الإسكندر والناس، فظهر ملك الصين على الفيل وعلى رأسه التاج، فقال له الإسكندر: أغدرت؟ قال: لا ولكنّي أردت أن تعلم أني لم أطعك من ضعف ولكني لما رأيت العالم العلويّ مقبلاً عليك أردت طاعته بطاعتك والقرب منه بالقرب منك، فقال له الإسكندر: لايسأم مثلك الجزية، فما رأيت بيني وبينك من يستحق الفضل والوصف بالعقل غيرك، وقد زعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك، فقال له ملك الصين: فلست تخسر، وبعث إليه بضعف ما كان قرّره معه، وسار الإسكندر عنه من يومه ودانت له عامّة الأرضين في الشرق والغرب وملك التّبّت وغيرها.
فلمّا فرغ من بلاد المغرب والمشرق وما بينهما قصد بلاد الشمال، وملك تلك البلاد ودان له من بها من الأمم المختلفة إلى أن اتّصل بديار يأجوج ومأجوج، وقد اختلفت الأقوال فيهم، والصحيح أنهم نوع من الترك لهم شوكة وفيهم شرّ، وهم كثيرون، وكانوا يفسدون فيما يجاورهم من الأرض ويخربون ما قدروا عليه من البلاد ويؤذون من يقرب منهم، فلمّا رأى أهلُ تلك البلاد الإسكندر شكوا إليه من شرّهم، كما أخبر اللّه عنهم في قوله: (ثمَّ زتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدّين) الكهف: 93 وهما جبلان متقابلان لا يرتقى فيهما وليس لهما مخرج إلا من الفرجة التي بينهما فلما بلغ إلى تلك وقارب السدين - (وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً؛ قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً؟ قال ما مكّنّي فيه ربيّ خيرٌ فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً) الكهف: 93 - 95، يقول: ما مكّنّي فيه ربيّ خير من خرجكم، ولكن أعينوني بالقوّة، والقوّة الفعلة والصُّناع والآلة التي يبنى بها، فقال: (آتوني زبر الحديد) الكهف: 96، أي قطع الحديد، فأتوه بها، فحفر الأساس حتى بلغ الماء، ثمّ جعل الحديد والحطب صفوفاً بعضها فوق بعض (حتى إذا ساوى بين الصّدفين)، وهما جبلان، أشعل النار في الحطب فحمي الحديد وأفرغ عليه القطر، وهو النحاس المذاب، فصار موضع الحطب وبين قطع الحديد، فبقي كأنّه برد محبّر من حمرة النحاس وسواد الحديد، وجعل أعلاه شرفاً من الحديد، فامتنعت يأجوج ومأجوج من الخروج الى البلاد المجاورة لهم، قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) الكهف: 97.

فلمّا فرغ من أمر السدّ دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي، والشمس جنوبية، فلهذا كانت ظلمة، وإلا فليس في الأرض موضع إلا تطلع الشمس عليه أبداً، فلمّا دخل الظلمات أخذ معه زربعمائة من أصحابه يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يوماً، ثم خرج ولم يظفر بها، وكان الخضر على مقدّمته، فظفر بها وسبح فيها وشرب منها، والله أعلم.
ورجع إلى العراق فمات في طريقه بشهر زور بعلّة الخوانيق، وكان عمره ستّاً وثلاثين سنة في قول، ودفن في تابوت من ذهب مرصّع بالجوهر وطلي بالصبر لئلا يتغيّر وحمل إلى أمه بالاسكندرية.
وكان ملكه أربع عشرة سنة، وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه، وبنى اثني عشرة مدينة، منها: أصبهان، وهي التي يقال لها جَبّي، ومدينة هراة، ومرو، وسمرقند، وبنى بالسواد مدينة لروشنك ابنة دارا، وبأرض اليونان مدينة، وبمصر الاسكندرية.
فلمّا مات الإسكندر أطاف به من معه من الحكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم، فكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم، فوقفوا عليه، فقال كبيرهم: ليتكلم كلّ واحد منكم بكلام يكون للخاصّة معزّياً وللعامّة واعظاً، ووضع يده على التابوت وقال: أصبح آسر الأسراء أسيراً، وقال آخر: هذا الملك كان يخبأ الذهب فقد صار الذهب يخبأه، وقال آخر: ما أزهد النّاس في هذا الجسد وما أرغبهم في التابوت، وقال آخر: من أعجب العجب أنّ القويّ قد غلب والضعفاء لا هون مغترّون، وقال آخر: هذا الذي جعل أجله ضماراً وجعل أمله عياناً، هلاّ باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك، بل هلاّ حقّقت من أملك بالامتناع من وفور أجلك، وقال آخر: أيّها الساعي المنتصب جمعت ما خذلك عند الاحتياج إليه فغودرت عليه أوزاره وقارفت آثامه فجمعت لغيرك وإثمه عليك، وقال آخر: قد كنت لنا واعظاً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك فمن كان له معقول فليعقل، ومن كان معتبراً فليعتبر، وقال آخر: رُبّ هائب لك يخافك من ورائك وهو اليوم بحضرتك ولا يخافك، وقال آخر: رُبّ حريص على سكوتك إذ لا تسكت، وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلّم، وقال آخر: كم أماتت هذه النفس لئلاّ تموت وقد ماتت، وقال آخر، وكان صاحب كتب الحكمة: قد كنت تزمرني أن لا أبعد عنك فاليوم لا أقدر على الدنّو منك، وقال آخر: هذا يوم عظيم أقبل من شرّه ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً، فمن كان باكياً على مَنْ زال ملكه فليبك، وقال آخر: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحلّ ظلّ السحاب، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب، وقال آخر: يا من ضاقت عليه الأرض طولاً وعرضاً ليت شعري كيف حالك بما احتوى عليك منها وقال آخر: اعجبوا مّمن كان هذا سبيله كيف شهر نفسه بجمع الأموال الحطام البائد والهشيم النافد، وقال آخر: أيّها الجمع الحافل والملقى الفاضل لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره وتنقطع لذّته، فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغيّ والفساد، وقال آخر: يا من كان غضبُه الموت هلاّ غضبت على الموت وقال آخر: قد رأيتم هذا الملك الماضي فليتعظ به هذا الملك الباقي، وقال آخر: إن الذي كانت الآذان تنصت له قد سكت فليتكلّم الآن كلّ ساكت، وقال آخر: سيلحق بك مَنْ سرّه موتك كما لحقت بمن سرّك موته، وقال آخر: ما لك لا تقلّ عضواً من أعضائك وقد كنت تستقلّ بملك الأرض بل ما لك لا ترغب عن ضيق المكان الذي أنت فيه وقد كنت ترغب عن رحب البلاد وقال آخر: إنّ دنيا يكون هذا في آخرها فالزهد أولى أن يكون في أولها.
وقال صاحب مائدته: قد فرشتُ النمارق ونضدت النضائد ولا أرى عميد القوم، وقال صاحب بيت ماله: قد كنت تأمرني بالادّخار فإلى من أدفع ذخائرك؟.
وقال آخر: هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طويت منها في سبعة أشبار ولو كنت بذلك موقناً لم تحمل على نفسك في الطلب.
وقالت زوجته روشنك: ما كنتُ أحسب أنّ غلاب دارا يُغلب، فإنّ الكلام الذي سمعت منكم فيه شماتة، فقد خلف الكأس الذي شرب به ليشربه الجماعة، وقالت أمّه حين بلغها موته: لئن فقدت من ابني أمرَه لم يُفقد من قلبي ذكره.
فهذا كلام الحكماء فيه مواعظ وحكم حسنة فلهذا أثبتّها.

ومن حيل الإسكندر في حروبه أنه لما حارب دارا خرج الى بين الصفّين وأمر منادياً فنادى: يا معشر الفرس قد علمتم ما كتبتم إلينا وما كتبنا إليكم من الأمان، فمن كان منكم على الوفاء فليعتزل فإنّه يرى منّا الوفاء، فاتّهمت الفرس بعضها بعضاً واضطربوا.
ومن حيله أنّه تلقّاه ملك الهند بالفيلة، فنفرت خيلُ أصحابه عنها، فعاد عنه وأمر باتخاذ فيلة من نحاس وألبسها السلاح وجعلها مع الخيل حتى ألفتها، ثمّ عاد الى الهند، فخرج إليهم ملك الهند، فأمر الإسكندر بتلك الفيلة فملئت بطونها من النفط والكبريت وجرّت على العجل إلى وسط المعركة ومعها جمع من أصحابه، فلما نشبت الحرب أمر بإشعال النار في تلك الفيلة، فلمّا حميت انكشف أصحابه عنها وغشيتها فيلة الهند، فضربتها بخراطيمها فاحترقت وولّت هاربة راجعة على الهند، فانهزموا بين يديها.
ومن حيله أنّه نزل على مدينة حصينة وكان بها كثير من الأقوات وبها عيون ماء، فعاد عنها فأرسل إليها قوماً على هيئة التجّار ومعهم أمتعة يبيعونها وأمرهم بمشترى الطعام والمغالاة في ثمنها، فإذا صار عندهم أحرقوه وهربوا، ففعلوا ذلك وهربوا إليه فأنفذ السرايا إلى سواد تلك المدينة وأمرهم بالغارة مرّة بعد أخرى، فهربوا ودخلوا البلد ليحتموا به، فسار الإسكندر إليهم، فلم يمتنعوا عليه.
وكتب إلى أرسطاطاليس يذكر له أنّ من خاصّة الروم جماعة لهم همم بعيدة ونفوس كبيرة وشجاعة، وأنّه يخافهم على نفسه ويكره قتلهم بالظنّة، فكتب إليه أرسطاطاليس: فهمتُ كتابك، فإنّ ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمّة وكبر النفس، والغدر من دناءة النفس وخسّتها، وأما شجاعتهم ونقص عقولهم فمن كانت هذه حاله فرفّهه في معيشتته واخصصه بحسان النساء، فإنّ رفاهية العيش تميت الشجاعة وتحبّب السلامة، وإيّاك والقتل فإنّه زلّة لا تستقال وذنب لا يغفر، وعاقب بدون القتل تكن قادراً على العفو، فما أحسن العفو من القادر، وليحسن خلقك تخلص لك النيّات بالمحبة، ولا تؤثر نفسك على أصحابك، فليس مع الاستئثار محبّة، ولا مع المؤاساة بغضة.
وكتب إلى أرسطاطاليس أيضاً لما ملك بلاد فارس يذكر له أنّه رأى بإيران شهر رجلاً ذوي رأي وصرامة وشجاعة وجمال وأنساب رفيعة، وأنّه إنّما ملكهم بالحظّ والإنفاق، وأنّه لا يأمن، إ سافر عنهم فأفرغهم، وثوبهم، وأنّه لا يُكفى شرّهم إلاّ ببوارهم، فكتب إليه: قد فهمت كتابك في رجال فارس، فأمّا قتلهم فهو من الفساد والبغي الذي لا يؤمن عاقبته، ولو قتلتهم لأثبت أهل البلد أمثالهم وصار جميع أهل البلد أعداءك بالطبع وأعداء عقبك لزنّك تكون قد وترتهم في غير حرب، وأمّا إخراجك إيّاهم من عسكرك فمخاطرة بنفسك وأصحابك، ولكنّي أشير عليك برأي هو أبلغ من القتل، وهو أن تستدعي منهم أولاد الملوك ومن يصلح للملك فتقلّدهم البلدان وتجعل كلّ واحد منهم ملكاً برأسه فتتفرّق كلمتهم ويقع بأسهم بينهم ويجتمعون على الطاعة والمحبّة لك ويرون أنفسهم صنيعتك، ففعل الإسكندر ذلك، فهم ملوك الطوائف، وقيل في ملوك الطوائف غير هذا السبب، ونحن نذكره إن شاء الله.
ذكر من ملك من قومه بعد الاسكندرلما مات الاسكندر عُرض الملك على ابنه الإسكندروس، فأبى واختار العبادة، فملكت اليونان فيما قيل بطلميوس بن لاغوس، وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس فيلوذفوس، وكان ملكه أربعين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس أوراغاطس أربعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس فيلافطر إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوش افيفانس اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس الاخشندر إحدى عشرة سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس الذي اختفى عن ملكه ثماني سنين، ثمّ ملكت بعده قالو بطرى سبع عشرة سنة، وكانت من الحكماء؛ وهؤلاء كلّهم من اليونان، وكلّ من كان بعد الإسكندر كان يدعى بطلميوس كما كانت تدعى ملوك الفرس أكاسرة وملوك الروم قياصرة.
وقد ذكر بعض العلماء أنّ بطلميوس صاحب المجسطي وغيره من الكتب لم يكن من هؤلاء الملوك، وإنّما كان أيّام ملوك الروم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ثمّ ملك الشام فيما بعد قالوبطرى ملوك الروم، فكان أوّل من ملك منهم جايوس يولوس خمس سنين، ثمّ ملك بعده أغسطوس ستّاً وخسمين سنة، فلمّا مضى من ملكه اثنتان وأربعون سنة وُلد عيسى بن مريم، عليه السلام، وقيل: كان بين مولده وقيام الإسكندر ثلاثمائة وثلاث سنين.
ذكر أخبار ملوك الفرس بعد الاسكندر

وهم ملوك الطوائف
لما مات الإسكندر ملك بلاد الفرس بعده ملوك الطوائف، وقد تقدّم ذكر السبب في تمليكهم، وقيل: كان السبب في ذلك أنّ الإسكندر لما ملك بلاد الفرس ووصل الى ما أراد كتب إلى أرسطاطاليس الحكيم: إنّي قد وترت جميع من في بلاد المشرق وقد خشيت أن يتّفقوا بعدي على قصد بلادنا وإيذاء قومنا، وقد هممتُ أن أقتل أولاد من قتلت من الملوك وألحقهم بآبائهم، فما ترى؟.
فكتب إليه: إنّك إن قتلت أبناء الملوك أفضى الملك إلى السفل والأنذال، والسّفل إذا ملكوا قذروا وإذا قدروا طغوا وبغوا وظلموا، وما يخشى من معرّتهم أكثر، والرأي أن تجمع أبناء الملوك فتملّك كلّ واحد منهم بلداً واحداً وكورة واحدة، فإنّ كلّ واحد منهم يقوم في وجه الآخر يمنعه عن بلوغ غرضه خوفاً على ما بيده فتتولّد العداوة بينهم فيشتغل بعضهم ببعض فلا يتفرّغون إلى من بعد عنهم.
فعندها قسّم الإسكندر بلاد المشرق على ملوك الطوائف ونقل عن بلدانهم النجوم والحكمة، وكان من حالهم بعد الإسكندر ما ذكره أرسطاطاليس، واشتغلوا عن قصد اليونان.
وكان أرسطاطاليس من أفضل الحكماء وأعلمهم، وكان الإسكندر يصدر عن رأيه، وأخذ الحكمة عن أفلاطون تلميذ سقراط، وسقراط تلميذ أوسيلاوس في الطبيعيات دون غيرها، ومعناه رأس السباع، وكان أوسيلاوس تلميذ انكساغورس، إلاّ أن أرسطاطاليس خالف أستاذه في عدّة مسائل، فلمّا قيل له في ذلك قال: أفلاطون صديق والحقّ صديق، إلاّ أنّ الحقّ أولى بالصداقة منه.
وقد اختلف العلماء في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الاسكندر وعدد ملوك الطوائف الذين ملكوا إقليم بابل، فقال هشام بن الكلبيّ وغيره: ملك بعد الاسكندر بلاقس سلبقس، ثمّ أنطيخس، وهو الذي بنى مدينة أنطاكية، وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة أربعاً وخمسين سنة، وكانوا يتطرّقون الجبال وناحية الأهواز وفارس.
ذكر ملك أشك بن أشكانثمّ خرج رجل يقال له أشك، وهو من ولد دارا الأكبر، وكان مولده ومنشأه بالريّ، فجمع جمعاً كبيراً وسار يريد أنطيخس، وزحف رليه أنطيخس والتقيا ببلاد الموصل، فقتل أنطيخس وملك أشك السواد وصار بيده من الموصل إلى الريّ أصبهان، وعظّمته سائر ملوك الطوائف لسنّه وشرفه وفعله، وبدأوا به كتبهم، وسمّوه ملكاً من غير أن يعزل أحداً منهم، ثمّ ملك بعده ابنه سابور بن أشك.
ذكر ملك جوذرزثم ملك بعد سابور جودرز بن أشكان، وهو الذي غزا بني اسرائيل في المرّة الثانية.
وسبب تسليط اللّه إيّاه عليهم قتلهم يحيى بن زكريّاء، فأكثر القتل فيهم، فلم يعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى، ورفع الله منهم النبوة ونزل بهم الذّلّ، وقيل: إنّ الذي غزا بني إسرائيل طيطوس بن اسفيانوس ملك الروم، فقتلهم وسباهم وخرّب بيت المقدس، وقد كانت الروم غزت بلاد فارس يطلبون ثأر أنطيخس، وملك بابل حينئذٍ بلاش أبو أردوان الذي قتله أردشير بن بابك، فكتب بلاش إلى ملوك الطوائف يعلمهم ما أجمعت عليه الروم من غزو بلادهم وما حشدوا وجمعوا وأنّه إن عجز عنهم ظفروا بهم جميعاً.
فوجّه كلّ ملك من ملوك الطوائف الى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوّته، فاجتمع عنده أربعمائة ألف رجل، فولّى عليهم صاحب الحضر، وكان له ما بين السواد والجزيرة، فلقي الروم وقتل ملكهم واستباح عسكرهم، وذلك الذي هيّج الروم على بناء القسطنطينيّة ونقل الملك من رومية إليها، وكان الذي أنشأها قسطنطين الملك، وهو أوّل من تنصّر من ملوك الرّوم وأجلى من بقي من بني اسرائيل عن فلسطين والشام لقتلهم عيسى بزعمهم، وأخذ الخشبة التي يزعمون أنّهم صلبوا المسيح عليها، فظّمها الروم وأدخلوها خزائنهم وهي عندهم إلى اليوم، ولم يزل مُلك فارس متفرّقاً حتى ملك أردشير بن بابك، ولم يبيّن هشام مدّة ملكهم.

وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس: ملك بلادهم بعد الإسكندر ملوك من غير الفرس كانوا يطيعون كلّ من ملك بلاد الجبل، وهم الأشغانيّون الذين يُدعون ملوك الطوائف، وكان ملكهم مائتي سنة، وقيل: كان ملكهم ثلاثمائة وأربعين سنة، ملك من هذه السنين أشك بن أشكان عشرين سنة، ثمّ ابنه سابور ستين سنة، وفي إحدى وأربعين سنة من ملكه ظهر المسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، وإنّ تيطوس بن اسفيانوس ملك رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع المسيح بنحو من أربعين سنة فملك المدينة وقتل وسبى وأخرب المدينة، ثمّ ملك جودرز بن أشغانان الأكبر عشر سنين، ثمّ ملك بيرن الأشغانيّ اربعين سنة ثم ملك هرمز الأشغاني سبع عشرة سنة، ثمّ ملك أردوان الأشغانيّ اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك كسرى الأشغانيّ أربعين سنة ثمّ ملك بلاش الأشغاني أربعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك أردوان الأصغر ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك أردشير بن بابك.
وقال بعضهم: ملك بلاد الفرس بعد الإسكندر ملوك الطوائف الذين فرّق الإسكندر المملكة بينهم، وتفرّد بكلّ ناحية من ملك عليها من حين ملّكه عليها ما خلا السواد، فإنّّ كان أربعاً وخسمين سنة بعد هلاك الإسكندر في يد الروم، وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك قد ملك الجبال وأصبهان، ثمّ غلب ولده بعد ذلك على السواد، وكانوا ملوكاً عليها، وعلى الماهات والجبال، وأصبهان كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، لأنّ العادة جرت بتقديمه وتقديم ولده، ولذلك قُصد لذكرهم في كتب سير الملوك، فاقتصرنا على ذكرهم دون غيرهم، فكانت مدة ملوك الطوائف مائتّي سنة وستين سنة، وقيل: ثلاثمائة وأربعاً وأربعين سنة، وقيل: خمسمائة وثلاثاً وعشرين سنة، والله أعلم.
فمن الملوك الذين ملكوا الجبال ثم تهيأت بعد أولادهم الغلبة على السواد أشك بن جزه، وهو من ولد إسفنديار بن بشتاسب في قول، وبعض الفرس زعم أنّ أشك بن دارا، قال بعضهم: أشك بن أشكان الكبير، هو من ولد كيكاووس، وكان ملكه عشرين سنة، ثمّ ملك بعده أشك ابنه إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك ابنه سابور ثلاثين سنة، ثمّ ملك ابنه جودرز عشر سنين، ثمّ ملك ابنه بيرن إحدى وعشرين سنة، ثم ملك ابنه جودرز الأصغر تسع عشرة سنة، ثم ابنه نرسي أربعين سنة، ثم هرمز بن بلاش بن أشكان سبع عشرة سنة، ثمّ أردوان الأكبر بن أشكان اثنتي عشرة سنة، ثمّ كسرى ابن أشكان أربعين سنة، ثم أردوان الأصغر بن بلاش ثلاث عشرة سنة، وكان أعظم ملوك الأشكانيّة وأظهرهم وأعزّهم قهراً للملوك، ثمّ ملك أردشير بن بابك وجمع مملكة الفرس على ما نذكره إن شاء الله.
وقد عدّ بعضهم في أسماء الملوك غير ما ذكرنا لا حاجة الى إلى الإطالة بذكره، وقد ذكرنا بعض ما قيل عند ملك أردشير بن بابك.
ذكر الأحداث أيام ملوك الطوائف

فمن ذلك ذكر المسيح عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهم السلام
إنّما جمعنا هذين الأمرين العظيمين في هذه الترجمة لتعلّق أحدهما بالآخر، فنقول: كان عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود، وكان آل ماثان رؤوس بني اسرائيل وأحبارهم، وكان متزوجاً بحنة بنت فاقوراء، وكان زكريّاء بن برخيا متزوّجاً بأختها إيشاع، وقيل: كانت إيشاع أخت مريم بنت عمران، وكانت حنّة قد كبرت وعجزت ولم تلد ولداً، فبينما هي في ظلّ شجرة أبصرت طائراً يزقّ فرخاً له فاشتهت الولد فدعت الله أن يهب لها ولداً، ونذرت إن يرزقها ولداً أن تجعله من سدنة بيت المقدس وخدمه، فحرّرت ما في بطنها، ولم تعلم ما هو، وكان النذر المحرّر عندهم أن يجعل للكنيسة يقوم بخدمتها ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم، فإذا بلغ خُيّر، فإن أحبّ أن يقيم فيها أقام، وإن أحبّ أن يذهب ذهب حيث شاء، ولم يكن يحرر إلاّ الغلمان، لأن الإناث لا يصلحن لذلك لما يصيبهنّ من الحيض والأذى.

ثمّ هلك عمران وحنّة حامل بمريم، فلمّا وضعتها إذا هي أنثى فقالت عند ذلك: (ربّ إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى) آل عمران: 36 في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها، (وإني سميّتها مريم)، وهي بلغتهم العبادة، ثمّ لفّتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم يلون من بيت المقدس ما يلي بنو شيبة من الكعبة، فقالت: دونكم هذه المنذورة، فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال زكريّاء: أنا أحقّ بها لأنّ خالتها عندي، فقالوا: لكنّا نقترع عليها، فألقوا أقلامهم في نهر جار، قيل هو نهر الأدن، فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، فارتفع قلمُ زكريّاء فوق الماء ورسبت أقلامهم، فأخذها وكفلها وضمّها إلى خالتها أمّ يحيى واسترضع لها حتى كبرت، فبنى لها غرفة في المسجد لا يُرقى إليها إلا بسلّم ولا يصعد إليها غيره، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فيقول: أنّيى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله، فلمّا رأى زكريّاء ذلك منها دعا الله تعالى ورجا الولد حيث رأى فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، فقال: إنّ الذي فعل هذا بمريم قادر على أن يصلح زوجتي حتى تلد، ف (قال: ربّ هب لي من لدنك ذرّيّةً طيبةً إنّك سميع الدعاء) آل عمران: 38.
فبينما هو يصلّي في المذبح الذي لهم إذا هو برجل شابّ، هو جبرائيل، ففزغ زكريّاء منه، فقال له: (إن الله يبشرك بيحيى مصدّقاً بكملة من الله) آل عمران: 39، يعني عيسى بن مريم، عليه السلام، ويحيى أوهل من آمن بعيسى وصدّقه، وذلك أنّ زمّه كانت حاملاً به فاستقبلت مريم وهي حامل بعيسى فقالت لها: يا مريم أحامل أنتِ؟ فقالت: لماذا تسأليني؟ قالت: إنّي أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك تصديقه.
وقيل: صدّق المسيح، عليه السلام، وله ثلاث سنين، وسمّاه الله تعالى يحيى ولم يكن قبله من تسمّى هذا الاسم، قال الله تعالى: (لم نجعل له من قبل سميّاً) مريم: 7، وقال تعالى: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويمو يبعث حيّاً) مريم: 15، قيل: أوحش ما يكون ابن آدم في هذه الأيام الثلاثة، فسلّمه الله تعالى من وحشتها، وإنّما ولد يحيى قبل المسيح بثلاث سنين، وقيل بستّة أشهر، وكان لا يأتي النساء، ولا يلعب مع الصبيان.
(قال: ربّ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) آل عمران: 40 وكان عمره اثنتين وتسعين سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، وكانت امرأته ابنة ثمان وتسعين سنة، فقيل له: (كذلك الله يفعل ما يشاء)، وإنما قال ذلك استخباراً هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم غيرها، لا إنكاراً لقدرة الله تعالى، (قال: ربّ اجعل لي آيةً، قال: آيتك ألا تكلّم الناس ثلاثة أيّامٍ إلاّ رمزاً) آل عمران: 41، قال: أمسك الله لسانه عقوبة لسؤاله الآية، والرمز الإشارة.
فلمّا ولد رآه أبوه حسن الصورة، قليل الشعر، قصير الأصابع، مقرون الحاجبين، دقيق الصوت، قويّاً في طاعة الله مذ كان صبيّاً، قال الله تعالى: (وآتيناه الحكم صبيّاً)، قيل: إنه قال له يوماً الصبيان أمثاله: يا يحيى اذهب بنا نلعب، فقال لهم: ما للعب خُلقت، وكان يأكل العشب وأوراق الشجر، وقيل: كان يأكل خبز الشعير، ومرّ به إبليس ومعه رغيف شعير فقال: أنت تزعم أنك زاهد وقد ادخرت رغيف شعير؟ فقال يحيى: يا ملعون هو القوت، فقال إبليس: إنّ الأقلّ من القوت يكفي لمن يموت، فأوحى الله الله إليه: اعقل ما يقول لك.

ونبّئ صغيراً فكان يدعو الناس إلى عبادة الله، ولبس الشعر، فلم يكن له دينار ولا درهم ولا مسكن يسكن إليه، أينما جنّه الليل أقام، ولم يكن له عبد ولا أمَة، واجتهد في العبادة، فنظر يوماً إلى بدنه وقد نحل فبكى، فأوحى الله إليه: يا يحيى أتبكي لما نحل من جسمك؟ وعزّتي وجلالي لو اطلعت في النار اطلاعة لتدرّعت الحديد عوض الشعر فبكى حتى أكلت الدموع لحم خدّيه وبدت أضراسه للناظرين، فبلغ ذلك أمه فدخلت عليه وأقبل زكرياء ومعه الأحبار فقال: يا بنيّ ما يدعوك إلى هذا؟ قال: أنت أمرتني بذلك حيث قلت: إنّ بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا الباكون من خشية الله، فقال: فابكِ واجتهد إذن، فصنعت له أمه قطعتي لبد على خدّيه تواريان أضراسه، فكان يبكي حتى يبلّهما، وكان زكريّاء إذا أراد يعظ أن الناس نظر فإن كان يحيى حاضراً لم يذكر جنّة ولاناراً.
وبعث الله عيسى رسولاً نسخ بعض أحكام التوراة، فكان ممّا نسخ أنه حرّم نكاح بنت الأخ، وكان لملكهم، واسمه هيرودس، بنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها، فنهاه يحيّى عنها، وكان لها كلّ يوم حاجة يقضيها لها، فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا سألك الملك ما حاجتك فقولي أن تذبح يحيى بن زكرياء، فلمّا دخلت عليه وسألها ما حاجتك قالت: أريد أن تذبح يحيى بن زكرياء، فقال: اسألي غير هذا، قالت: ما أسألك غيره، فلمّا أبت دعا بيحيى ودعا بطست فذبحه، فلما رأت الرأس قالت: اليوم قرّت عيني فصعدت الى سطح قصرها فسقطت منه إلى الأرض ولها كلاب ضارية تحته، فوثبت الكلاب عليها فأكلتها وهي تنظر، وكان آخر ما أُكل منها عيناها لتعتبر، فلمّا قتل بذرت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بخت نصّر عليهم، فجاءته امرأة فدلته على ذلك الدم، فألقى الله في قلبه أن يقتل منهم على ذلك الدم حتى يسكن، فقتل منهم سبعين ألفاً حتى سكن الدّم.
وقال السّدّيّ نحو هذا، غير أنّّ قال: أراد الملك أن يتزوّج بنت امرأة له، فنهاه يحيى عن ذلك، فطلبت المرأة من الملك قتل يحيى، فأرسل إليه فقتله وأحضر رأسه في طست وهو يقول له: لا تحلّ لك، فبقي دمه يغلي، فطرح عليه تراب حتى بلغ سور المدينة، فلم يسكن الدم، فسلّط الله عليهم بخت نصّر في جمع عظيم فحصرهم فلم يظفر بهم، فأراد الرجوع فأتته امرأة من بني اسرائيل فقالت: بلغني أنك تريد العود قال: نعم، قد طال المقام وجاع الناس وقلّت الميرة بهم وضاف عليهم، فقالت: إن فتحتُ لك المدينة أتقتل من آمرك بقتله وتكف إذا أمرتك؟ قال: نعم، قالت: اقسم جندك أربعة أقسام على نواحي المدينة، ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء وقولوا: اللهمّ إنّا نستفتحك على دم يحيى بن زكرياء، ففعلوا، فخرب سور المدينة، فدخلوها، فأمرتهم العجوز أن يقتلوا علي دم يحيى بن زكرياء حتى يسكن، فلم يزل يقتل حتى قتل سبعين ألفاً وسكن الدم، فأمرته بالكفّ، وكفّ.
وخرّب بيت المقدس، وزمر أن تُلقى فيه الجيف، وعاد ومعه دانيال وغيره من وجوه بني اسرائيل، منهم عزريا وميشائيل ورأس الجالوت، فكان دانيال أكرم النّاس عليه، فحسدهم المجوس وسعوا بهم الى بخت نصّر، وذكر نحو ما تقدّم من إلقائهم إلى السبع ونزول الملك عليهم ومسخ بخت نصّر ومقامه في الوحش سبع سنين.
وهذا القول وما لم نذكره من الروايات من أنّ بخت نصّر هو الذي خرّب بيت المقدس وقتل بني اسرائيل عدن قتلهم يحيى بن زكرياء باطل عند أهل السّير والتاريخ وأهل العلم بأمور الماضين، وذلك أنهم أجمعين مجمعون على أنّ بخت نصّر غزا بني اسرائيل عند قتلهم نبيّهم شعيا في عهد إرميا بن حلقيا، وبين عهد إرميا وقتل يحيى أربعمائة سنة وإحدى وستّون سنة عند اليهود والنصارى، ويذكرون أن ذلك في كتبهم وأسفارهم مبين، وتوافقهم المجوس في مدّة غزو بخت نصّر بني اسرائيل الى موت الإسكندر، وتخالفهم في مدّة ما بين موت الاسكندر ومولد يحيى، فيزعمون أنّ مدّة ذلك كانت إحدى وخمسين سنة.

وأما ابن اسحاق فإنّه قال: الحقّ أن بني اسرائيل عمروا بيت المقدس بعد مرجعهم من بابل وكثروا ثمّ عادوا يحدثون الأحداث ويعود الله سبحانه عليهم ويبعث فيهم الرسل، ففريقاً يكذبّون وفريقاً يقتلون، حتى كان آخر من بعث الله فيهم زكرياء وابنه يحيى وعيسى بن مريم، عليهم السلام، فتلوا يحيى وزكرياء، فابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له جودرس، فسار إليهم حتى دخل عليهم الشام، فلمّا دخل عليهم بيت المقدس قال لقائد عظيم من عسكره اسمه نبوزاذان، وهو صاحب الفيل: إني كنت حلفت لئن أنا ظفرت ببني إسرائيل لأقتلنّهم حتى يسيل دماؤهم في وسط عسكري إلى أن لا أجد من أقتله؛ وأمره أن يدخل المدينة ويقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل نبوزاذان المدينة فأقام في المدينة التي يقربون فيها فربانهم، فوجد فيها دماً يغلي، فقال: يا بني اسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟ فقالوا: هذا دم قربان لنا لم يُقبل فلذلك هو يغلي.
فقال: ما صدقتموني الخبر فقالوا: إنه قد انقطع منّا الملك والنبوة فلذلك لم يقبل منا، فذبح منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلاً من رؤوسهم، فلم يهدأ، فأمر بسبعمائة من علمائهم فذُبحوا على الدم، فلم يهدأ، فلمّا رأى الدّم لا يبرد قال لهم: يا بني اسرائيل اصدقوني واصبروا على أمر ربّكم، فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم، قبل أن لا أدع منكم نافخ نار أنثى ولا ذكراً إلا قتلته.
فلمّا رأوا الجهد وشدّة القتل صدقوه الخبر وقالوا: هذا دم نبي كان ينهانا عن كثير مما يسخط الله ويخبرنا بخبركم، فلم نصدّقه وقتلناه فهذا دمه، فقال: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكرياء، قال: الآن صدقتموني، لمثل هذا انتقم ربّكم منكم، وخرّ ساجداً وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من ها هنا من جيش جودرس، ففعلوا، وخلا في بني اسرائيل ثمّ قال للدّم: يا يحيى قد علم ربيّ وربّك ما قد أصاب قومك من زجلك وما قُتل منهم، فاهدأ بإذن الله قبل أن لا يبقى من قومك أحد، فسكن الدمُ، ورفع نبوزاذان القتل، وقال: آمنتُ بما آمنت به بنو اسرائيل وصدّقت به وأيقنت أنّه لا ربّ غيره، ثمّ قال لبني اسرائيل: إنّ جودرس أمرني أن أقتل فيكم حتى تسيل دماؤكم في عسكره، ولست أستطيع أن أعصيه، قالوا: افعل، فأمرهم أن يحفروا حفيرة، وأمر بالخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل فذبحها حتى كثر الدّم وأجرى عليه ماء، فسال الدّم في العسكر، فأمر الدم بالقتلى الذين كان قتلهم، فألقوا فوق المواشي، فلمّا نظر جودرس إلى الدم قد بغل عسكره أرسل إلى نبوزاذان: أن ارفع القتل عنهم فقد انتقمت منهم بما فعلوا.
وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني اسرائيل، يقول الله تعالى لنبيّه محمد، صلى الله عليه وسلم: (وقضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلنّ علوّاً كبيراً، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً، ثمَّ رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ وليتبروا ما علوا تتبيراً، عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنّم للكافرين حصيراً) الاسراء: 4 - 8، و: (عسى) وعدٌ من الله حقّ.
وكانت الوقعة الأولى بخت نصّر وجنوده، ثم ردّ الله سبحانه لهم الكرّة، ثم كانت الوقعة الأخيرة جودرس وجنوده، وكانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم وقتل رجالهم وسبْي ذراريهم ونسائهم، يقول الله تعالى: (وليتبِّروا ما علوا تتبيراً).
وزعم بعضُ أهل العلم أنّ قتل يحيى كان أيّام أردشير بن بابك، وقيل: كان قتله قبل رفع المسيح، عليه السلام، بسنة ونصف؛ والله أعلم.
ذكر قتل زكريا

لما قُتل يحيى وسمع أبوه بقتله فرّ هارباً فدخل بستاناً عند بيت المقدس فيه أشجار، فأرسل الملك في طلبه، فمرّ زكرياء بالشجرة، فنادته: هلمّ إليّ يا نبيّ الله فلمّا أتاها انشقّت فدخلها، فانطبقت عليه وبقي في وسطها، فأتى عدوّا الله إبليس فأخذ هدب ردائه فأخرجه من الشجرة ليصدّقوه إذا أخبرهم، ثمّ لقي الطلب فأخبرهم، فقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا: نلتمس زكرياء، فقال: إنّه سحر هذه الشجرة فانشقت له فدخلها، قالوا: لا نصدّقك قال: فإنّ لي علامة تصدّقوني بها؛ فأراهم طرف ردائه، فزخذوا الفؤوس وقطعوا الشجرة باثنتين وشقّوها بالمنشار، فمات زكرياء فيها، فسلّط الله عليهم أخبث أهل الأرض فانتقم به منهم.
وقيل: إنّ السبب في قتله أنّ إبليس جاء إلى مجالس بني اسرائيل فقذف زكريّاء بمريم وقال لهم: ما أحبلها غيره، وهو الذي كان يدخل عليها، فطلبوه فهرب، وذكر من دخوله الشجرة نحو ما تقدّم.
ذكر ولادة المسيح عليه السلام

ونبوته إلى آخر أمره
كانت ولادة المسيح أيّام ملوك الطوائف، قالت المجوس: كان ذلك بعد خمس وستّين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، وبعد إحدى وخمسين سنة مضت من ملك الأشكانيّين، وقالت النصارى: إنّ ولادته كانت لمضيّ ثلاثمائة وثلاث وستّين سنة من وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل، وزعموا أنّ مولد يحيى كان قبل مولد المسيح بستّة أشهر، وأنّ مريم، عليها السلام، حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: عشرون، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياماً، وأن مريم عشات بعده ستّ سنين، فكان جميع عمرها إحدى وخمسين سنة، وأن يحيى قُتل قبل أن يرفع المسيح، وأتت المسيح النبوّة والرسالة وعمره ثلاثون سنة.
وقد ذكرنا حال مريم في خدمة الكنيسة، وكانت هي وابن عمّها يوسف بن يعقوب بن ماثان النجّار يليان خدمة الكنيسة، وكان يوسف حكيماً نجّاراً يعمل بيديه ويتصدّق بذلك، وقالت النصارى: إنّ مريم كان قد تزوّجها يوسف ابن عمّها إلا أنّه لم يقربها إلاّ بعد رفع المسيح، والله أعلم.
وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف ابن عمّها أخذ كلّ واحد منهما قُلّته وانطلق إلى المغارة التي فيها الماء يستعذبان منه ثمّ يرجعان الى الكنيسة، فلمّا كان اليوم الذي لقيها فيه جبرائيل نفد ماؤها فقالت ليوسف ليذهب معها إلى الماء، فقال: عندي من الماء ما يكفيني إلى غد، فأخذت قلّتها وانطلقت وحدها حتى دخلت المغارة، فوجدت جبرائيل قد مثله الله (لها بشراً سويّاً) مريم: 17، فقال لها: يا مريم إنّ الله قد بعثني إليك (لأهب لك غُلاماً زكيّاً) مريم: 19، (قالت: إني أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّاً) مريم: 18 أي مطيعاً لله، وقيل: هو اسم رجل بعينه، وتحسبه رجلاً، (قال: إنما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً، قالت: أنّى يكون لي غلامٌ ولم يمسسني بشرٌ ولم أك بغيّاً - أي زانية - قال: كذلك قال ربّك)، إلى قوله: (أمراً مقضياً) مريم: 19 - 21.

فلمّا قال ذلك استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيب درعها ثمّ انصرف عنها وقد حملت بالمسيح، وملأت قلّتها وعادت، وكان لا يُعلم في أهل زمانها أعبد منها ومن ابن عمّها يوسف النجّار، وكان معها، وهو أوّل من أنكر حملها، فلمّا رأى الذي بها استعظمه ولم يدرِ على ماذا يضع ذلك منها، فإذا أراد يتّهمها ذكر صلاحها وأنّها لم تغبْ عنه ساعة قطّ، وإذا أراد يبرئها رأى الذي بها، فلمّا اشتدّ ذلك عليه كلّمها فكان أوّل كلامه لها أن قال لها: إنّه قد وقع من أمرك شيء قد حرصتُ على أن أميته وأكتمه فغلبني، فقالت: قلْ قولاً جميلاً، فقال: حدّثيني هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قال: فهل ينبت شجر بغير غيث يصيبه؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد بغير ذكر؟ قالت له: نعم، ألم تعلم أنّ الله أنبت الزّرع يوم خلقه بغير بذر ألم تعلم أن الله خلق الشجر من غير مطر وأنّّه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعدما خلق كلّ واحد منهما وحده أو تقول لن يقدر الله على أن ينبت حتى يستعين بالبذر والمطر قال يوسف: لا أقول هكذا ولكنّي أقول إنّ الله يقدر على ما يشاء، إنّما يقول لذلك كن فيكون، قالت له: ألم تعلم أنّ الله خلق آدم وحوّاء من غير ذكر ولا أنثى قال: بلى، فلمّا قالت له ذلك وقع في نفسه أنّ الذي بها شيء من الله لا يسعه أن يسألها عنه لما رأى من كتمانها له.
وقيل: إنها خرجت إلى جانب الحجرات لحيض أصابها فاتخذت من دونهم حجاباً من الجدران، فلمّا طهرت إذا برجل معها، وذكر الآيات، فلمّا حملت أتتها خالتُها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلمّا فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكرياء: إني حبلى، فقالت لها مريم: وأنا أيضاً حبلى، قالت امرأة زكرياء: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك.
وولدت امرأة زكرياء يحيى، وقد اختلف في مدّة حملها، فقيل: تسعة أشهر، وهو قول النصارى، وقيل: ثمانية أشهر، فكان ذلك آية أخرى لأنّه لم يعش مولود لثمانية أشهر غيره، وقيل: ستة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة، وهو أشبه بظاهر القرآن العزيز لقوله تعالى: (فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً) مريم: 22؛ عقبه بالفاء.
فلمّا أحست مريم خرجت الي جانب المحراب الشرقيّ فأتت أقصاه (فاجاءها المخاض إلى جذع النخلة، قالت) وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس - (يا ليتني متّ قبل هذا، وكنت نسياً منسياً)، مريم: 23 يعني نسي ذكري وأثري فلا يرى لي أثر ولا عين، قالت مريم: كنت إذا خلوت حدّثني عيسى وحدّثته، فإذا كان عندنا إنسان سمعت تسبيحه في بطني، (فناداها) جبرائيل (من تحتها) - أي من أسفل الجبل - (ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً) مريم: 24، وهو النهر الصغير، أجراه تحتها، فمن قرأ: من تحتها، بكسر الميم، جعل المنادي جبرائيل، ومن فتحها قال إنّه عيسى، أنطقه الله، (وهزّي إليك بجذع النخلة) مريم: 25، كان جذعاً مقطوعاً فهزّته فإذا هو نخلة، وقيل: كان مقطوعاً فلمّا أجهدها الطلق احتضنته فاستقام واخضرّ وأرطب، فقيل لها: (وهزي إليك بجذع النخلة)، فهزّته فتساقط الرطب فقال لها: (فكلي واشربي وقرّي عيناً، فإمّا ترينّ من البشر أحداً فقولي: إني نذرت للرّحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّاً) مريم: 26، وكان من صام في ذلك الزمان لا يتكلم حتى يمسي.
فلمّا ولدته ذهب إبليس فأخبر بني إسرائيل أنّ مريم قد ولدت، فأقبلوا يشتدون بدعوتها، (فأتت به قومها تحمله) مريم: 27.
وقيل: إنّ يوسف النجّار تركها في مغارة أربعين يوماً ثمّ جاء بها الى أهلها، فلمّا رأوها قالوا لها: (يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيّاً) مريم: 27 - 28 فما بالك أنت؟ وكانت من نسل هارون أخي موسى، كذا قيل.
قلت: إنها ليست من نسل هارون إنما هي من سبط يهوذا بن يعقوب من نسل سليمان بن داود، وإنما كانوا يدعون بالصالحين، وهارون من ولد لاوي بن يعقوب.

قالت لهم ما زمرها الله به، فلمّا أرادوها بعد ذلك على الكلام (أشارت إليه)، فغضبوا وقالوا: لسخريّتها بنا أشدّ علينا من زنائها، (قالوا: كيف نكلّم من كان في المهد صبياً) مريم: 29، فتكلّم عيسى فقال: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصاة والزكاة ما دمت حيّاً) مريم: 30 - 31، فكان أول ما تكلّم به العبودية ليكون أبلغ في الحجة على من يعتقد أنه إله.
وكان قومها قد أخذوا الحجارة ليرجموها، فلما تكلّم ابنها تركوها، ثمّ لم يتكلّم بعدها حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان، وقال بنو اسرائيل: ما زحبلها غير زكريّاء فإنّه هو الذي كان يدخل عليها ويخرج من عندها، فطلبوه ليقتلوه، ففرّ منه، ثمّ أدركوه فقتلوه.
وقيل في سبب قتله غير ذلك، وقد تقدّم ذكره.
وقيل: إنّه لما دنا نفاسها أوحى الله إليها: أن اخرجي من أرض قومك فإنهم إن ظفروا بك عيّروك وقتلوك وولدك، فاحتملها يوسف النجّار وسار بها إلى أرض مصر، فلمّا وصلا إلى تخوم مصر أدركها المخاض، فلمّا وعضت وهي محزونة قيل لها: (لا تحزني)، الآية إلى (إنسيّاً) فكان الرطب يتساقط عليها، وذلك في الشتاء، وأصبحت الأصنام منكوسة على رؤوسها، فوزعت الشياطين فجاؤوا إلى إبليس، فلمّا رأى جماعتهم سألهم فأخبروه، فقال: قد حدث في الأرض حادث، فطار عند ذلك وغاب عنهم فمرّ بالمكان الذي ولد فيه عيسى فرأى الملائكة محدقين به، فعلم أنّ الحدث فيه، ولم تمكنه الملائكة من الدنّو من عيسى، فعاد الى أصحابه وأعلمهم بذلك وقال لهم: ما ولدت امرأة إلاّ وأنا حاضر، وإنّي لأرجو أن أُضلّ به أكثر ممّن يهتدي.
واحتملته مريم الي أرض مصر فمكثت اثنتي عشرة سنة تكتمه من النّاس، فكانت تلتقط السنبل والمهد في منكبيها.
قلتُ: والقول الأوّل في ولادته بأرض قومها للقرآن أصحّ لقول الله تعالى: (فأتت به قومها تحمله) مريم: 27، وقوله: (كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً) مريم: 29.
وقيل إن مريم حملت المسيح الى مصر بعد ولادته ومعها يوسف النجّار، وهي الربوة التي ذكرها الله تعالى، وقيل: الربوة دمشق، وقيل: بيت المقدس، وقيل غير ذلك، فكان سبب ذلك الخوف من ملك بني اسرائيل، وكان من الروم، واسمه هيرودس، فإنّ اليهود أغروه بقتله، فساروا الى مصر وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة الى أن مات ذلك الملك، وعادوا الى الشام، وقيل: إنّ هيرودس لم يرد قتله ولم يسمع به إلاّ بعد رفعه، وإنما خافوا اليهود عليه، والله أعمل.
ذكر نبوّة المسيح وبعض معجزاته
لما كانت مريم بمصر نزلت على دهقان، وكانت داره يزوي إليها الفقراء والمساكين، فسرق له مال، فلم يتهم المساكين، فحزنت مريم، فلمّا رأى عيسى حزن أمّه قال: أتريدين أن أدلّه على ماله؟ قالت: نعم، قال: إنّه أخذه الأعمى والمقعد، اشتركا فيه، حمل الأعمى المقعد فأخذه، فقيل للأعمى ليحمل المقعد، فأظهر العجز، فقال له المسيح: كيف قويت على حمله البارحة لما أخذتما المال؟ فاعترفا وأعاداه.
ونزل بالدهقان أضياف ولم يكن عندهم شراب، فاهتمّ لذلك، فلمّا رآه عيسى دخل بيتاً للدهقان فيه صفّان من جرار فأمرّ عيسى يده على أفواهها وهو يمشي، فامتلأت شراباً، وعمره حينئذٍ اثنتا عشرة سنة.
وكان في الكتّاب يحدّث الصبيان بما يصنع أهلوهم وبما كانوا يأكلون.
قال وهب: بينما عيسى يلعب مع الصبيان إذ وثب غلام على صبّي فضربه برجله فقتله فألقاه بين رجلي المسيح متلطّخاً بالدم، فانطلقوا به الى الحاكم في ذلك البلد فقالوا: قتل صبيّاً، فسأله الحاكم، فقال: ما قتلته، فأرادوا أن يبطشوا به، فقال: إيتوني بالصبيّ حتى أسأله من قتله، فتعجبوا من قوله وأحضروا عنده القتيل، فدعا الله فأحياه، فقال: من قتلك؟ فقال: قتلني فلان، يعني الذي قتله، فقال بنو اسرائيل للقتيل: من هذا؟ قال: هذا عيسى بن مريم، ثمّ مات الغلام من ساعته.

وقال عطاء: سلّمت مريم الى صبّاغ يتعلّم عنده، فاجتمع عند الصبّاغ ثياب وعرض له حاجة، فقال المسيح: هذه ثياب مختلفة الألوان وقد جعلتُ في كلّ ثوب منها خيطاً على اللّون الذي يُصبغ به فاصبغها حتى أعود من حاجتي هذه، فأخذها المسيحُ وألقاها في حُبّ واحد، فلمّا عاد الصبّاغ سأله عن الثياب فقال: صبغتها، فقال: أين هي؟ قال: في هذا الحُبّ، قال: كلّها؟ قال: نعم، قال: لقد أفسدتها على أصحابها وتغيّظ عليه، فقال له المسيح: لا تعجل وانظر إليها، وقام وأخرجها كلّ ثوب منها على اللّون الذي أراد صاحبه فتعجّب الصبّاغُ منه وعلم أن ذلك من الله تعالى.
ولما عاد عيسى وأمّه الى الشام نزلا بقرية يقال لها ناصرة، وبها سميت النصارى، فأقام إلى أن بلغ ثلاثين سنة، فأوحى الله إليه أن يبرز للناس ويدعوهم إلى الله تعالى ويداوي المرضى والزمنى والأكمه والأبرص وغيرهم من المرضى، ففعل ما أمر به، وأحبّه الناس، وكثر أتباعه، وعلا ذكره.
وحضر يوماً طعام بعض الملوك كان دعا الناس إليه، فقعد على قصعة يزكل منها ولا تنقص، فقال الملك: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم، فنزل الملك عن ملكه وابتعه في نفر من أصحابه فكانوا الحواريّين.
وقيل: إنّ الحواريّين هم الصبّآغ الذي تقدّم ذكره وأصحابٌ له، وقيل: كانوا صيّادين، وقيل: قصّارين، وقيل: ملاّحين، والله أعلم، وكانت عدّتهم اثني عشر رجلاً، وكانوا إذا جاعوا أو عطشوا قالوا: يا روح الله قد جعنا وعطشنا، فيضرب يده إلى الأرض فيخرج لكل إنسان منهم رغيفين وما يشربون، فقالوا: من أفضل منّا، إذا شئنا أطعمتنا وسقيتنا فقال: أفضل منكم من يأكل من كسب يده، فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة.
ولما أرسله الله أظهر من المعجزات أنهّه صوّر من الطين صورة طائر ثمّ نفخ فيه فيصير طائراً بإذن الله، قيل هو الخفّاش.
وكان غالباً على زمانه الطبّ فأتاهم بما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى تعجيزاً لهم، فممّن أحياه عازر، وكان صديقاً لعيسى، فمرض، فأرسلت أختُه إلى عيسى أنّ عازر يموت، فسار إليه وبينهما ثلاثة أيّام، فوصل إليه وقد مات منذ ثلاثة أيام، فأتى قبره فدعا له فعاش، وبقي حتى ولد له، وأحيا امرأةً وعاشت وولد لها، وأحيا سام بن نوح، كان يوماً مع الحواريّين يذكر نوحاً والغرق والسفينة فقالوا: لوبعثت لنا من شهد ذلك فأتى تلاً وقال: هذا قبر سام بن نوح، ثمّ دعا الله فعاش، وقال: قد قامت القيامة؟ فقال المسيح: لا ولكن دعوت الله فأحياك، فسألوه فأخبرهم، ثمّ عاد ميتاً، وأحيا عزيراً النبيّ، قال له بنو اسرائيل، احي لنا عزيراً وإلاّ أحرقناك، فدعا الله فعاش، فقالوا: ما تشهد لهذا الرجل؟ قال: أشهد أنه عبد الله ورسوله، وأحيا يحيى بن زكرياء.
ذكر نزول المائدةوكان من المعجزات العظيمة نزول المائدة. وسبب ذلك: أنّ الحواريين قالوا له: يا عيسى (هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدةً من السماء؟) المائدة: 112 فدعا عيسى فقال: (اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدةً من السماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا) المائدة: 114، فأنزل الله المائدة عليها خبز ولحم يأكلون منها ولا تنفد، فقال لهم: إنّها مقيمة ما لم تذخروا منها، فما مضي يومهم حتى اذّخروا، وقيل: أقبلت الملائكة تحمل المائدة عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم، فأكل منها آخر النّاس كما أكل أوّلهم؛ وقيل: كان عليها منثمار الجنّة، وقيل: كانت تمدّ بكلّ طعام إلاّ اللّحم، وقيل: كانت سمكة فيها طعم كلّ شيء، فلمّا زكلوا منها، وهم خمسة آلاف، وزادت حتى بلغ الطعام ركبهم، قالوا: نشهد أنك رسول الله، ثمّ تفرّقوا فتحدّثوا بذلك، فكذَّب به من لم يشهده، وقالوا: سحر أعينكم، فافتتن بعضهم وكفر، فمسخوا خنازير ليس فيهم امرأة ولا صبيّ، فبقوا ثلاثة أيام ثمّ هلكوا ولم يتوالدوا.

وقيل: كانت المائدة سفرة حمراء تحتها غمامة وفوقها غمامة وهم ينظرون إليها تنزل حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمةً ولا تجعلها مُثلة ولا عقوبة واليهود ينطرون إلى شيء لم يروا مثله ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحها، فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنّة؟ فقال المسيح: لا من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، إنّما هو شيء خلقه الله بقدرته، فقال لهم: كُلوا مما سألتم، فقالوا له: كل أنت يا روح الله، فقال: معاذ الله أن آكل منها فلم يأكل ولم يأكلوا منها، فدعا المرضى والزمنى والفقراء، فأكلوا منها، وهم ألف وثلاثمائة، فشبعوا، وهي بحالها لم تنقص، فصحّ المرضى والزمنى، واستغنى الفقراء، ثمّ صعدت وهم ينظرون إليها حتى توارت، وندم الحواريّون حيث يأكلوا منها.
وقيل: إنّها نزلت أربعين يوماً، كانت تنزل يوماً وتنقطع يوماً، وأمر الله عيسى أن يعدو إليها الفقراء دون الأغنياء، ففعل ذلك، فاشتدّ على الأغنياء وجحدوا نزولها وشكّوا في ذلك وشكّكوا غيرهم فيها، فأوحى الله إلى عيسى: إنّي شرطت أن أعذّب المكذّبين عذاباً لا أعذّب به أحداً من العالمين، فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين رجلاً فأصبحوا خنازير، فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا الى عيسى وبكوا وبكى عيسى على الممسوخين، فلما أبصرت الخنازير عيسى بكوا وطافوا به وهو يعدوهم بأسمائهم ويشيرون برؤوسهم ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا.
ذكر رفع المسيح إلى السماءونزوله إلى أمّه وعوده إلى السماء
قيل: إنّ عيسى استقبله ناسٌ من اليهود، فلمّا رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساح الفاعل ابن الفاعلة وقذفوه وأمّه، فسمع ذلك ودعا عليهم، فاستجاب الله دعاءه ومسخهم خنازير، فلمّا رأى ذلك رأى بني اسرائيل فزع وخاف وجمع كلمة اليهود على قتله، فاجتمعوا عليه، فسألوه، فقال: يا معشر اليهود إنّ الله يبغضكم، فغضبوا من مقالته وثاروا إليه ليقتلوه، فبعث إليه جبرائيل فأدخله في خوخة إلى بيت فيها روزنة في سقفها فرعه إلى السماء من تلك الروزنة، فأمر رأس اليهود رجلاً من أصحابه اسمه قطيبانوس أن يدخل إليه فيقتله، فدخل فلم ير أحداً، وألقى الله عليه شبه المسيح، فخرج إليم فظنّوه عيسى، فقتلوه وصلبوه.
وقيل: إن عيسى قال لأصحابه: أيّكم يحبّ أن يُلقى عليه شبهي وهو مقتول؟ فقال رجل منهم: زنا يا روح الله، فألقي عليه شبهه، فقتل وصلب.
وقيل: إنّ الذي شبّه بعيسى وصلب رجل اسرائيلي اسمه يوشع أيضاً.
وقيل لما أعلم الله المسيح أنه خارج من الدنيا جزع منالموت فدعا الحواريّين فصنع لم طعاماً فقال: احضروني اللّيلة فإنّ لي إليكم حاجة، فلمّا اجتمعوا عشّاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا أخذ يغسل أيديهم بيده ويمسحها بثيابه، فتعاظموا ذلك وكرهوه، فقال: من يردّ عليّ الليّلة شيئاً مما أصنع فليس مني، فأقرّوه حتى فرغ من ذلك، ثمّ قال: أمّا ما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي فليكن لكم بي أسوة فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وأمّا حاجتي التي أستغيثكم عليها فتدعون الله لي وتجتهدون في الدعاء أن يؤخّر أجلي، فلمّا نصبوا أنفسهم للدّعاء أخذهم النومُ حتى ما يستطيعون الدعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله ما تصبرون لي ليلة قالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنّا نسمر فنكثر السمر ومانقدر عليه اللّيلة، وكلّما أردنا الدعاء حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي ويتفرّق الغنم؛ وجعل ينعى نفسه، ثمّ قال: ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديكُ ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلنّ ثمني.
فخرجوا وتفرّقوا، وكانت اليهود تطلبه، فزخذوا شمعون، أحد الحواريين، وقالوا: هذا صاحبه.

واختلف العلماء في موته قبل رفعه إلى السماء، فقيل: رُفع ولم يمت، وقيل: توفّاه الله ثلاث ساعات وقيل سبع ساعات، ثمّ أحياه ورفعه، ولما رُفع إلى السماء قال الله له: انزل: فلمّا قالوا لشمعون عن المسيح جحد وقال: ما أنا صاحبه فتركوه، فعلوا ذلك ثلاثاً، فلما سمع صياح الديك بكى وأحزنه ذلك، وأتى أحد الحواريين الى اليهود فدّلّهم على المسيح وأعطوه ثلاثين درهماً فأتى معهم إلى البيت الذي فيه المسيح، فدخله، فرفع الله المسيح وألقى شبهه على الذي دلهم عليه، فأخذوه وأوثقوه وقادوه وهم يقولون له: أنت كنت تحيي الموتى وتفعل كذا وكذا فهلاّ تنجي نفسك؟ وهو يقول: أنا الذي دلّكم عليه، فلم يصغوا إلى قوله ووصلوا به إلى الخشبة وصلبوه عليها.
وقيل: إنّ اليهود لما دلّهم عليه الحواريّ اتّبعوه وأخذوه من البيت الذي كان فيه ليصلبوه، فأظلمت الأرض، وأرسل الله ملائكة فحالوا بينهم وبينه، وألقى شبه المسيح على الذي دلّهم عليه، فأخذوه ليصلبوه، فقال: أنا الذي دلّكم عليه، فلم يلفتوا إليه فقتلوه وصلبوه عليها، ورفع الله المسيح إليه بعد أن توفّاه ثلاث ساعات، وقيل: سبع ساعات، ثمّ أحياه ورفعه، ثمّ قال له: انزل إلى مريم، فإنّه لم يبكِ عليك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها، فنزل عليها بعد سبعة أيام، فاشتعل الجبل حين هبط نوراً، وهي عند المصلوب تبكي ومعها امرأة كان أبرأها من الجنون، فقال: ما شأنكما تبكيان؟ قالتا: عليك قال: إني رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خير، وإنّ هذا شيء شُبّه لهم، وأمرها فجمعت له الحواريّين، فبثّهم في الأرض رسلاً عن الله وأمرهم أن يبلغوا عنه ما أمره الله به، ثمّ رفعه الله إليه وكساه الريش وألبسه النّور وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب، وطار مع الملائكة، فهو معهم، فصار إنسيّاً ملكيّاً أرضيّاً، فتفرّق الحواريّون حيث أمرهم، فتلك الليلة التي أهبطه الله فيها هي التي تدخن فيها النصارى، وتعدّى اليهود على بقيّة الحواريّين يعذّبونهم ويشتمونهم، فسمع بذلك ملك الروم، واسمه هيرودس، وكانوا تحت يده، وكان صاحب وثن، فقيل: له: إنّ رجلاً كان في بني اسرائيل وكان يفعل الآيات من إحياء الموتى وخلق الطير من الطين والإخبار عن الغيوب فعدوا عليه فقتلوه، وكان يخبرهم أنّه رسول الله، فقال الملك: ويحكم ما منعكم أن تذكروا هذا من زمره، فوالله لو علمتُ ما خلّيتُ بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيدي اليهود وسألهم عن دين عيسى، فزخبروه، وتابعهم على دينهم واستنزل المصلوب الذي شُبّه لهم فغيّبه، وأخذ الخشبة التي صُلب عليها فأكرمها وصانها، وعدا على بني اسرائيل فقتل منهم قتلى كثيرة، فمن هناك كان أصل النصرانيّة في الروم.
وقيل: كان هذا الملك هيرودس ينوب عن ملك الروم الأعظم الملقّب قيصر، واسمه طيباريوس، وكان هذا أيضاً يسمّى ملكاً، وكان ملك طيباريوس ثلاثاً وعشرين سنة، منها إلى ارتفاع المسيح ثماني عشرة سنة وأيام.
ذكر من ملك من الروم بعد رفع المسيحإلى عهد نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم

زعموا أن ملك الشام جميعه صار بعد طيباريوس إلى ولده جايوس، وكان ملكه أربع سنين، ثمّ ملك بعده ابن له آخر اسمه قلوديوس أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده نيرون الذي قتل بطرس وبولس فصلبهما منكّسين أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده بوطلايس أربعة أشهر، ثمّ ملك اسفسيانوس، وهذا الذي وجّه ابنه طيطوس الى البيت المقدس فهدمه وقتل من بني اسرائيل غضباً للمسيح، ثم ملك ابنه طيطوس، ثمّ ملك أخوه دومطيانوس ستّ عشرة سنة، ثم ملك بعده نارواس ستّ سنين، ثم ملك من بعده طرايانوس تسع عشرة سنة، ثم ملك بعده هدريانوس إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك من بعده أنطونينوس بن بطيانوس اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك مرقوس وأولاده تسع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده قومودوس ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك من بعده فرطيناجوس ستّة أشهر، ثمّ ملك بعده سيواروش أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده انطينانوس سبع سنين، ثم ملك من بعده مرقيانوس ستّ سنين، ثمّ ملك من بعده انطينانوس أربع سنين، وفي ملكه مات جالينوس الطبيب، ثمّ ملك الخسندروس ثلاث عشرة سنة، ثم ملك مكسيمانوس ثلاث سنين، ثمّ ملك جورديانوس ستّ سنين، ثمّ فيلفوس سبع سنين، ثم ملك داقيوس ستّ سنين، ثمّ ملك قالوس ستّ سنين، ثمّ ملك والرييانوس وقالينوس خمس عشرة سنة، ثمّ ملك قلوديوس سنة، ثمّ ملك قريطاليوس شهرين، ثمّ ملك أورليانوس خمس سنين، ثمّ ملك طيقطوس ستة أشهر، ثمّ ملك فولورنوس خمسة وعشرين يوماً، ثمّ ملك فروبوس ستّ سنين ثم قوروس وابناه سنتين، ثم ملك دقلطيانوس ستّ سنين، ثم ملك مخسيميانوس عشرين سنة، ثمّ قسطنطين ثلاثين سنة، ثمّ ملك يليانوس سنتين، ثم ملك يويانوس سنة، ثم ملك والنطيانوس وغرطيانوس عشر سنين، ثمّ ملك خرطيانوس ووالنطيانوس الصغير سنة، ثمّ ملك تيداسيس الأكبر سبع عشرة سنة، ثمّ ارقاديوس وانورويوس عشرين سنة، ثمّ ملك تياداسيس الأصغر ووالنطيانوس ستّ عشرة سنة، ثم ملك مرقيانوس سبع سنين، ثم لاو ستّ عشرة سنة، ثمّ ملك زانون ثماني عشرة سنة، ثمّ ملك انسطاس سبعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك يوسطينانوس تسع سنين، ثم ملك يوسطينانوس الشيخ عشرين سنة، ثمّ ملك يوسطينس اثنتي عشرة سنة، ثمّ ملك طيباريوس ستّ سنين، ثمّ مريقيش وتاداسيس ابنه عشرين سنة، ثمّ ملك فوقا الذي قتل سبع سنين وستّة أشهر، ثمّ هرقل الذي كتب إليه النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ثلاث سنين.
فمن لدن عُمر البيت المقدس بعد زن أخربه بخت نصّر إلى الهجرة، علي قولهم، ألف سنة ونيف، ومن ملك الإسكندر رليها تسعمائة ونيف وعشرون سنة، فمن ذلك من وقت ظهوره الى مولد عيسى، عليه السلام، ثلاثمائة سنة وثلاث سنين، ومن مولده الى ارتفاعه اثنتان وثلاثون سنة، ومن وقت ارتفاعه الى الهجرة خمسمائة وخسم وثمانون سنة وأشهر.
هذا الذي ذكره أبو جعفر من عدد ملوك الروم، وقد زخلى ذكرهم عن شيء من الحوادث التي كانت في أيّامهم، وقد سطرها غيره من العلماء بالتاريخ وخالفه في كثير منها ووافقه في الباقي مع مخالفة الاسم وضاف الى أسمائهم ذكر شيء من الحوادث في أيّامهم، وأنا أذكره مختصراً، إن شاء الله.
ذكر ملوك الروم وهم ثلاث طبقات

فالطبقة الأولى الصابئون

ذكر غير واحد من علماء التاريخ أن الروم غلبت الوينان، وهم ولد صوفير، والاسرائيليون يدعون أن صوفير، هو الأصفر بن نفر بن عيص بن اسحاق بن ابراهيم، وكانوا ينزلون رومية قبل غلبتهم على اليونان، وكانوا يدينون قبل النصرانيّة بمذهب الصابئين، ولهم أصنام يعبدونها على عادة الصابئين، فكان أول ملوكهم برومية غاليوس، وكان ملكه ثماني عشرة سنة، وقيل: كان ملك قبله روملس وارمانوس، وهما بنياها، وإليهما نُسبت، وأضيف الروم إليها، وإنما غاليوس أوّل من يعدّ في التاريخ لشهرته، ثمّ ملك بعده يوليوس أربع سنين وأربعة أشهر، ثم ملك أوغسطس، ومعناه الصباء، وهو أوّل من سمي قيصر، وتفسير ذلك أنّه شُقّ عنه بطن أمّه لأنّها ماتت وهي حامل به، فزخرج من بطنها، ثم صار ذلك لقباً لملوكهم، وكان ملكه ستّاً وخمسين سنة وخمسة أشهر، وأكثر المؤرخين يبتدئون باسمه لأنه أول من خرج من رومية وسيّر الجنود براً وبحراً، وغزا اليونانيين، واستولى على ملكهم، وقتل قلوبطرة آخر ملوكهم، واستولى على الاسكندرية ونقل ما فيها الى رومية، وملك الشام، واضمحلّ ملك اليونانيين، ودخلوا في الروم، واستخلف على البيت المقدس هيرودس بن أنطيقوس؛ ولاثنتين وأربعين سنة من ملكه كانت والدة المسيح، وهو الذي بنى قيصارية.
ثمّ ملك بعده طيباريوس ثلاثاً وعشرين سنة، وهو الذي بنى مدينة طبرية، فأضيفت إليه، وعرّبها العرب؛ وفي ملكه رفع المسيح، عليه السلام، وملك بعد رفعه ثلاث سنين.
ثم ملك بعده ابنه غايوس أبرع سنين، وهو الذي قتل اصطفنوس رئيس الشمامسة عند النصارى ويعقوب أخا يوحنّا بن زبدي، وهما من الحواريّين، وقتل خلقاً من النصارى، وهو أوّل الملوك من عبّاد الأصنام قتل النصارى.
ثم ملك قلوديوس بن طيباريوس أربع عشرة سنة، وفي ملكه حبس شمعون الصفا، ثم خلص شمعون من الحبس وسار الى انطاكية، فدعا الى النصرانية، ثم سار الى رومية فدعا أهلها أيضاً، فأجابته زوجة الملك وسارت إلى البيت المقدس وأخرجت الخشبة التي تزعم النصارى أن المسيح صلب عليها، وكانت في أيدي اليهود، فأخذتها وردتها الى النصارى.
ثمّ ملك نيرون ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وفي آخر ملكه قتل بطرس وبولس بمدينة رومية وصلبهما منكّسين، وفي أيّامه ظفرت اليهود بيعقوب بن يوسف، وهو أول الاساقفة بالبيت المقدس، فقتلوه وأخذوا خشبة الصليب فدفنوها، وفي أيّامه كان مارينوس الحكيم صاحب كتاب الجغرافيا في صورة الأرض.
ثمّ ملك بعده غلباس سبعة أشهر؛ ثم ملك أوثون ثلاثة أشهر؛ ثم ملك بيطاليس أحد عشر شهراً، ثمّ ملك اسباسيانوس سبع سنين وسبعة أشهر، وفي أيامه خالف أهل البيت المقدس قيصر فحصرهم وافتتح المدينة عنوةً وقتل كثيراً من زهلها من اليهود والنصارى وعمّهم الأذى في أيّامه.
ثمّ ملك بانه طيطوس سنتين وثلاثة أشهر، وفي أيّامه أظهر مرقيون مقالته بالاثنين، وهما: الخير والشرّ، وبعد ثالث بينهما، وإليه تنسب المرقونية؛ وهو من أهل حرّان.
ثمّ ملك ذومطيانش بن اسباسيانوس خمس عشرة سنة وعشرة أشهر، ولتسع سنين من ملكه بمدينة أفسيس، ثمّ ملك إيليا اندريانوس عشرين سنة، وقتل من اليهود والنصارى خلقاً كثيراً لخلاف كان منهم عليه، وأخرب البيت المقدس، وهو آخر خرابه، فلمّا مضى من ملكه ثماني سنين عمره أيضاً وسمّاه إيليا، فبقي الاسم عليه، فكان قبل ذلك يسمّى أورشلم، وأسكن المدينة جماعةً من الروم واليونان، وبنى هيكلاً عظيماً للزّهرة، وكان علاي البنيان، فهدم من أعلاه كثير، وهو باق الى يومنا هذا، وهو سنة ثلاث وستّمائة، وقد رأيته، وهو محكم البناء، ولا أدري كيف نُسب الى داود وقد بني بعده بدهر طويل، على أنني سمعت بالبيت المقدّس من جماعة يذكرون أنّ داود بناه وكان يتفرّغ فيه لعبادته.
وفي أيّام هذا الملك كان ساقيدس الفيلسوف الصامت.

ثمّ ملك أنطنينس بيوس اثنتين وعشرين سنة، وفي أيّامه كان بطلميوس صاحب المجسطي والجغرفايا وغيرهما؛ وقيل: إنّه من ولد قلوديوس، ولهذا قيل له القلوديّ نسبة إليه، وهو السادس من ملوك الروم، ودليل كونه في هذا الزمان وليس من ملوك اليونان أنّه ذكر في كتاب المجسطي أنه رصد الشمس بالإسكندرية سنة ثمانمائة وثمانين لبخت نصّر، وكان من ملك بخت نصّر الى قتل دارا أربعمائة وتسع وعشرون سنة وثلاثمائة وستّة عشر يوماً، ومن قتل دارا الى زوال ملك قلوبطرة لملكة آخر ملوك اليونان على يد أوغسطس مائتا سنة وستّ وثمانون سنة، ومذ غلبة أوغسطس الى انطنينوس مائة وسبع وستّون سنة، فمذ ملك بخت نصّر الى أدريانوس ثمانمائة وثلاث وثمانون سنة تقريباً، وهذا موافق لما حكاه بطلميوس.
قال: ومن زعم أنّ ابن قلوبطرة آخر ملوك اليونانيهين فقد أبطل ذكر هذا بعض العلماء بالتاريخ وعدّ موك اليونان وذكر مدّة ملكهم على ما قال، وأمّا أبو جعفر الطبريّ فإنّه ذكر في مدّة مُلكهم ماذتي سنة وسبعاً وعشرين سنة، على ما تقدّم ذكره.
ثمّ ملك بعده مرقس، ويسمّي أورليوس، تسع عشرة سنة، وفي ملكه أظهر ابنُ ديصان مقالته، وكان أسقفاً بالرّهاء، وهو من القائلين بالاثنين، ونسب الى نهر على باب الرّهاء يسمى ديصان وجد عليه منبوذاً، وبنى على هذا النهر كنيسة.
ثم ملك فومودوس اثنتي عشرة سنة، وفي أيّامه كان جالينوس قد أردك بطلميوس القلودي، وكان دين النصرانيّة قد ظهر في أيّامه وذكرهم في كتابه في : جوامع كتاب أفلاطون في السياسة.
ثمّ ملك برطينقش ثلاثة أشهر؛ ثمّ ملك يوليانوس شهرين، ثمّ ملك سيوارس سبع شعرة سنة، وشمل اليهود في أيّامه القتل والتشريد، وبنى بالاسكندرية هيكلاً عظيماً سمّاه هيكل الآلهة.
ثمّ ملك انطونيوس ستّ سنين، ثمّ ملك مقرونيوس سنة وشهرين، ثمّ ملك أنطونيوس الثاني زربع سنين، ثمّ ملك الاكصندروس، ويلقّب مامياس، ثلاث عشرة سنة، ثم مل مقسميانوس ثلاث سنين، ثم ملك مقسموس ثلاثة أشهر، ثم ملك غرديانوس ستّ سنين، ثم ملك فيلبوس ستّ سنين، وتنصّر وترك دين الصابئين وتبعه كثيرٌ من زهل مملكته واختلفوا لذلك، وكان فيمن خالفه بطريق يقال له داقيوس، قتل فيلبوس واستولى على الملك، ثم ملك بعد فيلبوس داقيوس ينتين وتتبّع النصارى، فهرب منه أصحاب الكهف الى غار في جبل شرقيّ مدينة أفسيس، وقد خربت المدينة، وكان لبثهم فيه مائة وخمسين سنة.
وهذا باطل لأنّه علي هذا السياق من حين رفع المسيح الى الآن نحو مائتي سنة وخمس عشرة سنة، وكان لبث أصحاب الكهف علي ما نطق به القرآن المجيد (ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً) الكهف: 25 فذلك خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، فعلى هذا يكون ظهورهم قبل الإسلام بنحو ستّين سنة، وقد ذكرنا من لدن ظهورهم الى الهجرة زيادة على مائتي سنة، فهذه الجملة أكثر من الفترة بين المسيح والنبيّ، عليهما الصلاة والسلام، إلا أنّ هذا الناقل قد ذكر أن غيبتهم كانت ماذة وخمسين سنة على ما نراه مذكوراً، وفيه مخالفة للقرآن، ولولا نصّ القرآن لكان استقام له ما يريد.
ثمّ ملك بعده غاليوس سنتين، وكان شريكه في الملك يوليانوس، ملك خمس عشرة سنة، ثم ملك قلوديوس، ثم ملك ابنه اورليانوس ستّ سنين، ثم ملك طافسطوس وأخوه فورس تسعة أشهر، ثمّ بروبس تسع سنين، ثمّ ملك قاروس سنتين وخمسة أشهر، ثمّ ملك دقلطيانوس سبع عشرة سنة، ثمّ ملك مقسيمانوس وشاركه مقسنطيوس، ثمّ اقتتلا فاقتسما الملك، فملك الأب علي الاشم وبلاد الجزيرة وبعض الروم، وملك الابن رومية وما اتصل بها من أرض الفرنج، وملكا تسع سنين، وتملك معهما قسطنس أبو قسطنطين بلاد بورنطيا وما يليها، وهي نواحي القسطنطينيّة، ولم تكن بنيت حينئذٍ، ثمّ مات قسطنس وملك بعده ابنه قسطنطين المعروف بزمّه هيلاني، وهو الذي تنصّر.

قال: ومن أول ملوك الروم الى ها هنا كانوا شبيهاً بملوك الطوائُ لا ينضبط عددهم، وقد اختلف الناس فيهم كاختلافهم في ملوك الطوائف، وإنّما الذي يعوَّل عليه من قسطنطين الى هرقل الذي بعث محمد، صلى الله عليه وسلم، في أيامه، ولقد صدق قائل هذا فإنّ فيه من الاختلاف والتناقض ما ذكرنا بعضه عند ذكر دقيوس وأصحاب الكهف، ولهذه العلّة لم يذكر الطبريّ أصحاب الكهف في زمان أيّ الملوك كانوا، وإنّما ذكرناه نحن لما في أيّام الملوك من الحوادث.
الطبقة الثانية من ملوك الروم المتنصّرة
ثم ملك قسطنطين المعروف بزمّه هيلانى في جميع بلاد الروم، وجرى بينهوبين مقسيمانوس وابنه حروب كثيرة، فلمّا ماتا استولى على الملك وتفرّد به، وكان ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، وهو الذي تنصّر من مولك الروم وقاتل عليها حتى قبلها النّاس ودانوا بها الى هذا الوقت.
وقد اختلفوا في سبب تنصّره، فقيل: إنّه كان به برص وأرادوا نزعه فأشار عليه بعض وزرائه ممن كان يكتم النصرانيّة بإحداث دين يقاتل عليه ثمّ حسن له النصرانيّة ليساعده من دان به، ففعل ذلك، فتبعه النصارى من الروم مع أصحابه وخاصّته، فقوي بهم وقفهر من خالفه، وقيل: إنّه سيّر عساكر على أسماء أصنامهم، فانهزمت العساكر، وكان لهم سبعة أصنام على أسماء الكواكب السبعة، على عادة الصابئين، فقال له وزير له يكتم النصرانيّة في هذا وأزرى بالأصنام وأشار عليه بالنصرانيّة، فأجابه، فظفر، ودام ملكه؛ وقيل غير ذلك.
ولعشرين سنة مضت من ملكه كان السنهودس الأول بمدينة نيقية من بلاد الروم، ومعناه الاجتماع، فيه ألفان وثمانية وأربعون أسقفاً فاختار منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً متّفقين غير مختلفين، فحرموا آريوس الإسكندراني الذي يضاف إليه الآريوسيّة من النصارى، ووضع شرائع النصرانيّة عبد أن لم تكن، وكان رئيس هذا المجمع بطرق الإسكندرية.
وفي السنة السابعة من ملكه سارت أمّه هيلانى الرُّهاوية، كان أبوه سباها من الرُّهاء، فأولدها هذا الملك، فسارت الى البيت المقدس وأخرجت الخشبة التي تزعم النصارى أنّ المسيح صلب عليها؛ وجعلت ذلك اليوم عيداً، فهو عيد الصليب، وبنت الكنيسة المعروفة بقمامة، وتسمّى القيامة، وهي الي وقتنا هذا يحجّها أنواع النصارى، وقيل: كان مسيرها بعد ذلك لأن ابنها دان بالنصرانية في قول بعضهم بعد عشرين سنة من ملكه، وفي النسة الحادية والعشرين من ملكه طبق جميع ممالكه بالبيع هو وأمّه، منها: كنيسة حمص، وكنيسة الرّهاء، وهي من العجائب.
ثم ملك بعده قسطنطين أنطاكية أربعاً وعشرين سنة بعهد من أبيه إليه وسلّم إليه القسطنطينيّة، والى أخيه قسطنس أنطاكية والشام ومصر والجزيرة، والى أخيه قسطوس رومية وما يليها من بلاد الفرنج والصقالبة، وأخذ عليهما المواثيق بالانقياد لأخيهما قسطنطين.
ثمّ ملك بعده يوليانوس ابن أخيه سنتين، وكان يدين بمذهب الصابئين ويخفي ذلك، فلمّا ملك أظهرها وخرهب البيع وقتل النصارى، وهو الذي سار الى العراق أيّام سابور بن أردشير فقتل بسهم غرب؛ وقد ذكر أبو جعفر خبر هذا الملك مع سابور ذي الأكتاف وهو بعد سابور بن أردشير.
ثمّ ملك بعده يونيانوس سنة فأظهر دين النصرانيّة ودان بها وعاد عن العراق.
ثمّ ملك بعده ولنطيوش اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر، ثم ملك والنس ثلاث سنين وثلاثة أشهر، ثمّ ملك والنطيانوس ثلاث سنين، ثمّ ملك تدوس الكبير، ومعناه عطيّة الله، تسع عشرة سنة، وفي ملكه كان السنهودس الثاني بمدينة القسطنطينيّة، اجتمع فيه مائة وخمسون أسقفاً لعنوا مقدونس وأشياعه، وكان فيه بطرق الإسكندرية وبطرق انطاكية وبطرق البيت المقدس، والمدن التي يكون فيها كراسي البطرق أربع: إحداها رومية، وهي لبطرس الحواريّ، والثانية الإسكندريّة، وهي لمرقس أحد أصحاب الأناجيل الأربعة، والثالثة القسطنطينية، والرابعة انطاكية، وهي لبطرس أيضاً، ولثماني سنين من ملكه ظهر أصحاب الكهف.

ثمّ ملك بعده أرقاديوس بن تدوس ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك تدوس الصغير بن تدوس الكبير اثنتين وأربعين سنة، ولإحدي وعشرين سنة من ملكه كان السنهودس الثالث بمدينة أفسس، وحضر هذا المجمع مائتا أسقف، وكان سببه ما ظهر من نسطورس بطرق القسطنطينيّة، وهو رأس النسطورية من النصارى، من مخالفة مذهبهم، فلعنوه ونفوه، فسار الى صعيد مصر فأقام ببلاد إخميم ومات بقرية يقال لها سيصلح، وكثر أتباعه، وصار بسبب ذلك بينهم وبين مخالفيهم حرب وقتال، ثمّ دثرت مقالته إلى أن أحياها برصوما مطران نصيبين قديماً.
ومن العجائب أن الشهرستاني مصنّف كتاب: نهاية الاقدام في الأصول، ومصنّف كتاب: الملل والنحل، في ذكر المذاهب والآراء القديمة والجديدة، ذكر فيه أنّ نسطور كان أيّام المأمون، وهذا تفرّد به، ولا أعلم له في ذلك موافقاً.
ثمّ ملك بعده مرقيان ستّ سنين، وفي أوّل سنة من ملكه كان السنهودس الرابع على قسقرس برطق القسطنطينية، اجتمع فيه ثلاثمائة وثلاثون أسقفاً، وفي هذا المجمع خالفت اليعقوبية سائر النصارى.
ثمّ ملك ليون الكبير ستّ عشرة سنة، ثمّ ملك ليون الصغير سنة، وكان يعقوبيّ المذهب، ثمّ ملك زينون سبع سنين، وكان يعقوبياً، فزهد في الملك فاستخلف ابناً له، فهلك، فعاد الى الملك، ثمّ ملك نسطاس سبعاً وعشرين سنة، وكان يعقوبيّ المذهب، وهو الذي بنى عمّورية، فلمّا حفر أساسها أصاب فيه مالاً وفي بالنفقة على بنائها وفضل منه شيء بنى به بيعاً وأديرة.
ثم ملك يوسطين سبع سنين، واكثر القتل في اليعقوبية.
ثمّ ملك يوسطانوس تسعاً وعشرين سنة، وبنى بالرّهاء كنيسة عجيبة، وفي أيّامه كان السنهودس الخامس بالقسطنطينية، فحرموا أدريحا أسقف منبج لقوله بتناسخ الأرواح في أجساد الحيوان، وإنّ الله يفعل ذلك جزاء لما ارتكبوه، وفي أيّامه كان بين اليعاقبة والملكيّة ببلاد مصر فتن؛ وفي أيّامه ثار اليهود بالبيت المقدس وجبل الخليل على النصارى فقتلوا منهم خلقاً كثيراً؛ وبنى الملك من البيع والأديرة شيئاً كثيراً؛ ثم ملك يوسطينوس ثلاث عشرة سنة وفي أيامه كان كسرى أنوشروان؛ ثمّ ملك طباريوس ثلاث سنين وثمانية أشهر، وكان بينه وبين أنوشروان مراسلات ومهاداة، وكان مغرىً بالبناء وتحسينه وتزويقه.
ثمّ ملك موريق عشرين سنة وأربعة أشهر، وفي أيّامه ظهر رجل من زهل مدينة حماه يُعرف بمارون إليه تنسب المارونيّة من النصارى، وأحدث رأياً يخالف من تقدّمه، وتبعه خلقٌ كثير بالشام، ثمّ إنهم انقرضوا ولم يعرف الآن منهم أحد.
وهذا موريق هو الذي قصده كسرى أبرويز حين انهزم من بهرام جوبين فزوّجه ابنته وأمدّه بعساكره وأعاده الى ملكه، على ما نذكره إن شاء الله.
ثمّ ملك بعده فوقاس، وكان من بطارقة موريق، فوثب به فاغتاله فقتله وملك الروم بعده، وكان ملكه ثماني سنين وأربعة أشهر، ولما ملك تتبّع ولد موريق وحاشيته بالقتل، فلمّا بلغ ذلك أبرويز غضب وسيّر الجنود الى الشام ومصر فاحتوى عليهما وقتلوا من النصارى خلقاً كثيراً، وسيرد ذلك عند ذكر أبرويز.
ثمّ ملك هرقل، وكان سبب ملكه أن عساكر الفرس لما فتكت في الروم ساروا حتى نزلوا على خليج القسطنطينية وحصروها، وكان هرقل يحمل الميرة في البحر الى أهلها، فحسن موقع ذكل من الروم وبانت شهامته وشجاعته وأحبّ الروم فحملهم على الفتك بفوقاس وذكرهم سوء آثاره، ففعلوا ذلك وقتلوه وملّكوا عليهم هرقل.
ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الروم بعد الهجرةفأولهم هرقل، قد ذكر سبب ملكه، وكان مدّة ملكه خمساً وعشرين سنة، وقيل: إحدي وثلاثين سنة؛ وفي أيّامه كان النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ومنه ملك المسلمون الشام.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطنطين، وقيل: هو ابن أخيه قسطنطين، وكان ملكه تسع سنين وستّة أشهر، وسيرد خبره عند ذكر غزاة الصواري، إن شاء الله.
وفي أيّامه كان السنهودس السادس على لعن رجل يقال له قورس الإسكندري خالف الملكية ووافق المارونية.

ثمّ ملك بعده ابنه قسطا خمس عشرة سنة في خلافة عليّ، عليه السلام، ومعاوية، ثمّ ملك هرقل الأصغر بن قسطنطين أربع سنين وثلاثة أشهر، ثمّ ملك قسطنطين بن قسطا ثلاث عشرة سنة بعض أيّام معاوية وأيّام يزيد وبانه معاوية ومروان بن الحكم وصدراً من أيّام عبد الملك، ثمّ ملك أسطنان، المعروف بالأخرم، تسع سنين أيّام عبد الملك، ثمّ خلعه الروم وخرموا أنفه وحمل إلى بعض الجزائر، فهرب ولحق بملك الخزر واستنجده فلم ينجده، فانتقل الى ملك برجان؛ ثم ملك بعده لونطش ثلاث سنين أيّام عبد الملك، ثمّ ترك الملك وترّهب؛ ثم ملك ابسمير، المعروف بالطرسوسي، سبع سنين، فقصده أسطينان ومعه برجان وجرى بينهما حروب كثيرة وظفر به أسطنان وخلعه وعاد الى ملكه، فكان ذلك أيّام الوليد بن عبد الملك، واستقرّ أسطينان، وكان قد شرط لملك برجان أن يحمل إليه خراجاً كل سنة، فعسف الروم وقتل بها خلقاً كثيراً، فاجتمعوا عليه وقتلوه، فكان ملكه الثاني سنتين ونصفاً، وكان قتله أول دولة سليمان بن عبد الملك؛ ثم ملك نسطاس بن فيلفوس، وكان في أيّامه اختلاف بين الروم فخلعوه ونفوه.
ثمّ ملك تيدوس المعروف بالأرمنيّ في أيّام سليمان بن عبد الملك أيضاً، وهو الذي حصره مسلمة بن عبد الملك؛ ثمّ ملك بعده اليون بن قسطنطين لضعفه عن الملك، وضمن أليون للروم ردّ المسلمين عن القسطنطينية، فملّكوه، فكان ملكه ستاً وعشرين سنة، ومات في السنة التي بويع فيها الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطنطين إحدى وعشرين سنة، وفي أيّامه انقرضت الدولة الزموية، وتوفي لعشر سنين مضت من أيام المنصور، ثم ملك بعده ابنه اليون تسع عشرة سنة وأربعة أشهر بقيّة أيّام المنصور، وتوفي في خلافة المهدي، ثمّ ملك بعده ريني امرأة اليون بن قسطنطين، ومعها ابنها قسطنطين بن اليون، وهي تدبّر الزمر بقية أيام المهديّ والهادي وصدراً من خلافة الرشيد، فلما كبر ابنها أفسد ما بينه وبين الرشيد، وكانت أمّه مهادنة له، فقصده الرشيد وجرى له معه وقعة، فانهزم وكاد يؤخذ، فكحلته أمّه وانفردت بالملك بعده خمس سنين وهادنت الرشيد.
ثمّ ملك بعدها نقفور، أخذ الملك منها، وكان ملكه سبع سنين وثلاثة أشهر، وهو نقفور أبو استبراق، وكنت قد رأيته مضبوطاً بكثير من الكتب بسكون القاف، حتى رأيت رجلاً زعم أن اسمه نقفور، بفتح القاف.
وعهد نقفور الى ابنه استبراق بالملك بعده، وهو أول من فعل ذلك في الروم، ولم يكن يعرف قبله، وكانت ملوك الروم قبل نقفور تحلق لحاها، وكذلك ملوك الفرس، فلم يفعله نقفور، وكانت ملوك الروم قبله تكتب: من فلان ملك النصرانيّة، فكتب نقفور: من فلان ملك الروم، وقال: لست ملك النصرانيّة كلها، وكانت الروم تسمّي العرب سارقيوس، يعني: عبيد سارة، بسبب هاجر أم اسماعيل، فنهاهم عن ذلك وجرى بين نقفور وبين برجان حرب سنة ثالث وتسعين ومائة فقتل فيها.
ثمّ ملك بعده ابنه استبراق بعهد من أبيه إليه، وكان ملكه شهرين، ثمّ ملك بعده ميخائيل بن جرجس، وهو ابن عمّ نقفور، وقيل: ابن استبراق، وكان ملكه سنتين في أيّام الأمين، وقيل أكثر من ذلك، فوثب به اليون المعروف بالبطريق وغلب على الأمر وحبسه، ثم ملك بعده اليون البطريق سبع سنين وثلاثة أشهر، فوثب به أصحابُ ميخائيل في خلاص صاحبهم وقتل اليون ثم فتح لم ذلك وعاد ميخائيل الى الملك، وقيل: إنه كان قد ترهب أيام اليون، وكان لمكه هذه الدفعة الثانية تسع سنين، وقيل أكثر من ذلك.
ثمّ ملك بعده ابنه توفيل بن ميخائيل أربع عشرة سنة، وهو الذي فتح زبطرة، وسار المعتصم بسبب ذلك وفتح عمّورية، وكان موته أيّام الواثق.
ثمّ ملك بعده ابنه ميخائيل ثمانياً وعشرين سنة، وكانت أمّه تدبر الملك معه، وزراد قتلها فترهبت، وخرج عليه رجل من أهل عمّورية من أبناء الملوك السالفة يعرف بابن بقراط، فلقيه ميخائيل فيمن عنده من أسارى المسلمين، فظفر به ميخائيل فمثل به، ثمّ خرج عليه بسيل الصقلبي فاستولى على الملك وقتل ميخائيل سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
ثمّ ملك بعده بسيل الصقلبيّ عشرين سنة أيّام المعتزّ والمهتدي وصدراً من أيام المعتمد، وكانت أمّه صقلبية فنسب إليها.

وقد غلط حمزة الأصفهاني فيه فقال عند ذكر ميخائيل: ثم انتقل الملك عن الروم وصار في الصقلب فقتله بسيل الصقلبيّ ظناً منه أنّ أباه كان صقلبياً.
ثمّ ملك بعده ابنه اليون بن بسيل ستاً وعشرين سنة أيّام المعتمد والمعتضد والمكتفي وصدراً من أيّام المقتدر، وقيل: إنّ وفاته كانت سنة سبع وتسعين ومائتين.
ثمّ ملك أخوه الأسكندروس سنة وشهرين ومات بالدبيلة، وقيل: إنه اغتيل لسوء سيرته، ثم ملك بعده قسطنطين بن اليون، وهو صبيّ، وتولى الأمر له بطريق البحر، واسمه ارمانوس، وشرط على نفسه شروطاً، منها أنه لا يطلب الملك ولا يلبس التاج لا هو ولا زحد من أولاده، فلم يمض غير سنتين حتى خوطب هو وأولاده بالملوك وجلس مع قسطنطين على السرير، وكان له ثلاثة من الولد، فخصى أحدهم وجعله بطرقاً ليأمن من المنازعة، فإنّ البطرق يحكم على الملك، فبقي على حاله إلى سنة ثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، فاتفق ابناه مع قسطنطين الملك على إزالة أبيهما، فدخلا عليه وقبضاه وسيّراه الى دير له في جزيرة بالقرب من القسطنطينية، وأقام ولداه مع قسطنطين نحو أربعين يوماً وأرادا الفتك به، فسبقهما إلى ذلك وقبض عليهما وسيرهما الى جزيرتين في البحر، فوثب أحدهما بالموكّل به فقتله، وأخذه أهل تلك الجزيرة فقتلوه وأرسلوا رأسه الى قسطنطين الملك، فجزع لقتله.
وأمّا ارمانوس فإنه مات بعد أربع سنين من ترهبّه، ودام ملك قسطنطين بقيّة أيّام المقتدر والقاهر والراضي والمستكفي وبعض أيّام المطيع، ثمّ خرج على قسطنطين هذا قسطنطين بن أندرونقس، وكان أبوه قد توجّه إلى المكتفي سنة أربع وتسعين ومائتين وأسلم على يده وتوفّي، فهرب ابنه هذا علي طريق أرمينية وأذربيجان الى بلاد الروم، فاجمع عليه خلق كثير وكثر أبتاعه، فسار الى القسطنطينية ونازع الملك قسطنطين في ملكه، وذلك سنة إحدى وثلاثمائة، فظفر به الملك فقتله.
وخرج عن طاعته أيضاً صاحب رومية، وهي كرسيّ ملك الإفرنج، وتسمى بالملك، ولبس ثياب الملوك، وكانوا قبل ذلك يطيعون ملوك الروم أصحاب القسطنطينية ويصدرون عن أمرهم، فلمّا كان سنة أربعين وثلاثمائة قوي ملك رومية، فخرج عن طاعته، فأرسل إليه قسنطين العساكر يقاتلونه ومن معه من الفرنج، فالتقوا واقتتلوا، فانهزمت الروم وعادت الى القسطنطينية منكوبة، فكفّ حينئذٍ قسطنطين عن معارضته ورضي بالمسالمة وجرى بينهما مصاهرة، فزوّج قسنطين ابنه أرمانوس بابنة ملك رومية، ولم يزل أمر الإفرنج بعد هذا يقوى ويزداد ويتسع ملكهم كالاستيلاء على بعض بلاد الأندلس، على ما نذكره، وكأخذهم جزيرة صقلية وبلاد ساحل الشام والبيت المقدس، وعلى ما نذكره، وفي آخر الأمر ملكوا القسطنطينيّة سنة إحدي وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله.
ومما ينبغي أن يلحق بهاذ أنّ الطوائف من الترك اجتمعت، منهم: البجناك والبختي وغيرهما، وقصدوا مدينة للروم قديمة تسمى وليدر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وحصروها، فبلغ خبرهم الى أرمانوس، فسيّر إليهم عسكراً كثيفاً فيهم من المتنصّرة اثنا عشر ألفاً، فاتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الروم، واستولى الترك على المدينة وخرّبوها بعد أن أكثروا القتل فيها والسبي والنهب، ثمّ ساروا الى القسطنطينية وحصروها أربعين يوماً وأغاروا على بلاد الروم واتّصلت غاراتهم الى بلاد الإفرنج، ثمّ عادوا راجعين.
ذكر وصول قبائل العرب الى العراق

ونزولهم الحيرة

قال ابن الكلبيّ: لما مات بخت نصّرانضمّ الذين أسكنهم الحيرة من العرب إلى أهل الأنبار وبقيت الحيرة خراباً دهراً طويلاً وأهلها بالأنبار لا يطلع عليهم قادم من العرب، فلمّا كثر أولد معدّ بن عدنان ومن كان معهم من قبائل العرب ومزّقتهم الحروب خرجوا يطلبون الريف فيما يليهم من اليمن ومشارف الشام، وأفلت منهم قبائل حتى نزلوا بالبحرين وبها جماعة من الأزد، وكان الذين أقبلوا من تهامة مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن قضاعة، ومالك بن زهير بن عمرو بن فهم في جماعة من قومهم، والحيقاد بن الحنق بن عمير بن قبيص بن معدّ بن عدنان في قبيص كلّها، ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى بن دُعمي بن إياد بن نزار بن معدّ بن عدنان وغيره من إياد، فاجتمع بالبحرين قبائل من العرب وتحالفوا على التنُّوخ، وهو المقام، وتعاقدوا علي التناصر والتساعد، فصاروا يداً واحدةً وضمّهم اسم تنوخ، وتنخ عليهم بطون من نمارة بن لخم، ودعا مالك بن زهير جديمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي الى التنوخ معه وزوجه أخته لميس، فتنخ جديمة، وكان اجتماعهم أيام ملوك الطوائف، وإنما سمّوا ملوك الطوائف لأن كل ملك منهم كان ملكه على طائفة قليلة من الأرض.
قال: ثم تطلّعت أنفس من كان بالبحرين إلى ريف العراق فطمعوا في أن يغلبوا الأعاجم في ما يلي بلاد العرب منه أو مشاركتهم فيه لاختلاف بين ملوك الطوائف، فأجمعوا علي المسير الى العراق، فكان أول من يطلع منهم الحيقاد بن الحنق في جماعة من قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا الأرمانيين، وهم الذين ملكوا أرض بابل وما يليها الى ناحية الموصل، يقاتلون الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف، وهو ما بين نفر، وهي قرية من سواد العراق إلى الأبلّة، فدفعوهم عن بلادهم، والأرمانيّون من بقايا إرم فلهذا سمّوا الأرمانيين، وهم نبط السواد.
ثم طلع مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله وغيرهما من تنوخ الى الأنبار على ملك الأرمانيين، وطلع نمارة ومن معه الى نفّر على ملك الأردوانيين، وكانوا لاي دينون للأعاجم حتى قدمها تُبّع وهو أسعد أبو كرب بن ملكيكرب في جيوشه، فخلف بها من لم يكن فيه قوّة من عسكره، وسار تُبّع ثم رجع إليهم فأقرّهم على حالهم، ورجع الى اليمن وفيهم من كلّ القبائل، ونزلت تنوخ من الأنبار الى الحيرة في الأخبية لا يسكنون بيوت المدر، وكان أول من ملك منهم مالك بن فهم، وكان منزله مما يلي الأنبار، ثم مات مالك فملك بعده أخوه عمرو بن فهم بن غانم بن دوس الأزديّ، ثمّ مات فملك بعده جديمة الأبرش بن مالك بن فهم، وقيل: إنّ جذيمة من العاربة الأولى من بني دمار بن أميم بن لوذ بن سام بن نوح، عليه السلام؛ والله أعلم.
ذكر جذيمة الأبرشقال: وان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأياً، وأبعدهم مغاراً، وأشدّهم نكاية، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وكان به برص فكنت العرب عنه، فقيل: الوضّاح، والأبرش، إعظاماً له، وكانت منازله ما بين الحيرة والأنبار وبقّة وهيت وعين التّمر وأطراف البّر الى العمير وخفية، تجبى إليه الأموال، وتفد إليه الوفود، وكان غزا طسماً وجديساً في منازلهم من اليمامة، فأصاب حسّان بن تبّع أسعد أبي كرب قد زغار عليهم فعاد بمن معه، وأصاب حسّان سريّة لجذيمة فاجتاحها، وكان له صنمان يقال لهما الضيزنان، وكانت إياد بعين أباغ، فذكر لجذيمة غلام من لخم في أخواله من إياد يقال له عديّ بن نصر بن ربيعة له جمال وظرف، فغزاهم جذيمة، فبعثت إياد من سرق صنميه وحملها الى إياد، فأرسلت إليه: إن صنميك أصبحا فينا زهداً فيك ورغبة فينا، فإن أوثقت لنا أن لا تغزونا دفعناهما رليك، قال: وتدفعون معهما عديّ بن نصر، فزجابوه الى ذلك وأرسلوه مع الصنمين، فضمه الى نفسه وولاه شرابه.
فأبصرته رقاض أخت جذيمة فعشقته وراسلته ليخطبها الى جذيمة، فقال: لا أجترئ على ذلك ولا أطمع فيه، قالت: إذا جلس على شرابه فاسقه صرفاً واسق القوم ممزوجاً، فإذا أخذت الخمر فيه فاخطبني إليه فلن يردّك، فإذا زوّجك فأشهد القوم.

ففعل عديّ ما أمرته، فزجابه جذيمة وأملكه إيّاها، فانصرف إليها فأعرس بها من ليلته وأصبح بالخلوق، فقال له جذيمة، وأنكر ما رأى به: ما هذه الآثار يا عديّ؟ قال: اثار العرس، قال: أيّ عسر؟ قال: عرس رقاش، قال: من زوّجكها ويحك قال: الملك، فندم جذيمة وأكبّ على الأرض متفكّراً، وهرب عدّي، فلم ير له أثر ولم يسمع له بذكر، فأرسل إليها جذيمة:
خبّريني وأنت لا تكذبيني ... أبحرّ زنيت أن بهجين
أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون
فقالت: لا بل أنت زوّجتني أمرأً عربياً حسيباً ولم تستأمرني في نفسي، فكفّ عنها وعذرها، ورجع عديّ إلى إياد فكان فيهم، فخرج يوماً مع فتية متصيدين، فرمى به فتى منهم في ما بن جبلين، فتنكس فمات.
فحملت رقاش فولدت غلاماً فسمته عمراً، فلمّا ترعرع وشبّ ألبسته وعطّرته وأزارته خاله، فلمّا رآه أحبّه وجلعه مع ولده، وخرج جذيمة متبديّاً بأهله وولده في سنة خصيبة، فأقام في روضة ذات زهر وغدر، فخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها، فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون، وعمرو يقول:
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده في فيه
فضمّه جذيمة إليه والتزمه وسرّ بقوله وفعله، وأمر فجعل له حلى من فضّة وطوق، فكان أوهل عربيّ ألبس طوقاً.
فبينا هو على أحسن حالة إذ استطارته الجنّ، فطلبه جذيمة في الآفاق زماناً فلم يقدر عليه، ثمّ أقبل رجلان من بلقين قضاعة يقال لهما مالك وعقيل ابنا فارج بن مالك من الشام يريدان جذيمة، وأهديا له طرفاً، فنزلا منزلاً ومعهما قينة لهما تسمى أم عمرو، فقدّمت طعاماً، فبينما هما يزكلان إذا أقبل فتى عريان قد تلبّد شعره وطالت أظفاره وساءت حاله فجلس ناحيةً عنهما ومدّ يده يطلب الطعام، فناولته القينة كراعاً، فزكلها، ثمّ مدّ يده ثانية، فقالت: لا تعط العبد كراعاً فيطمع في الذراع فذهبت مثلاً، ثمّ سقتهما من شراب معها وأوكت زقّها، فقال عمرو بن عدي:
صددت الكأس عنّا أمّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شرّ الثلاثة أمَّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا
فسألاه عن نفه، قال: إن تنكراني أو تنكرا نسبي، فإنني أنا عمرو بن عدي، بن تنوخيّة، اللخمي، وغداً ما ترياني في نمارة غير معصي.
فنهضا وغسلا رأسه وأصلحا حاله وألبساه ثياباً وقالا: ما كنّا لنهدي لجذيمة أنفس من ابن أخته فخرجا به إلى جذيمة، فسُرّ به سروراً شديداً وقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق، فما ذهب من عيني وقلبي الى الساعة، وأعادوا عليه الطوق، فنظر إليه وقال: شبّ عمرو عن الطوق، وأرسلها مثلاً، وقال لمالك وعقيل: حكمكما، قالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت؛ فهما ندمانا جذيمة اللذان يضربان مثلاً.
وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف الشام عمرو بن الظرب بن حسّان بن أذينة العمليقيّ من عاملة العمالقة، فتحارب هو وجذيمة، فقتل عمرو وانهزمت عساكره، وعاد جذيمة سالماً، وملكت بعد عمرو ابنته الزّبّاء، واسمها نائلة، وكان جنود الزبّاء بقايا العماليق وغيرهم، وكان لها من الفرات إلى تدمر، فلمّا استجمع لها أمرها واستحكم ملكها اجتمعت لغزو جذيمة تطلب بثأر أبيها، فقالت لها زختها ربيبة، وكانت عاقلة: إن غزوت جذيمة فإنّما هو يوم له ما بعده والحرب سجال، وأشارت بترك الحرب وإعمال الحيلة، فأجابتها إلى ذلك وكتبت إلى جذيمة تدعوه الى نفسها وملكها، وكتبت إليه أنها لم تجد ملك النساء إلاّ قبحاً في السماع وضعفاً في السلطان، وأنها لم تجد لملكها ولا لنفسها كفواً غيره.
فلمّا انتهى كتاب الزبّاء إليه استخفّ ما دعته إليه وجمع إليه ثقاته، وهو ببقّة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه واستشارهم؛ فأجمع رأيهم علي أن يسير إليها ويستولي على ملكها.
وكان فيهم رجلٌ يقال له قصير بن سعد من لخم، وكان سعد تزوّج أمة لجذيمة فولدت له قصيراً، وكان أديباً حازماً ناصحاً لجذيمة قريباً منه، فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال: رأي فاتر، وغدر حاضر؛ فذهبت مثلاً؛ وقال لجذيمة: اكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا لم تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها.

فلم يوافق جذيمة ما أشار به قصير وقال له: لا ولكنّك امرؤ رأيك في الكِنّ لا في الضحّ؛ فذهبت مثلاً.
ودعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عديّ فاستشاره، فشجعه على المسير وقال: إنّ نمارة قومي مع الزبّاء فلو رأوك صاروا معك، فأطاعه.
فقال قصير: لا يُطاع لقصير أمر، وقالت العرب: ببقّة أُبرم الأمر؛ فذهبتا مثلاً.
واستخلف جذيمة عمرو بن عديّ على ملكه، وعمرو بن عبد الجنّ على خيوله معه، وسار في وجوه أصحابه، فلمّا نزل الفرضة قال لقصير: ما الرأي؟ قال: ببقّة تركت الرأي؛ فذهبت مثلاً.
واستقبله رسل الزبّاء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير كيف ترى؟ قال: خطرٌ يسير، وخطب كبير؛ فذهبت مثلاً؛ وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإنهّ المرأة صادقة، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإنّ القوم غادرون، فاركب العصا، وكانت فرساً لجذيمة لا تُجارى، فإني راكبها ومساريك عليها.
فلقيته الكتائب فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير، ونظر اليه جذيمة مولياً على متنها، فقال: ويل أمّه حزماً على متن العصا فذهبت مثلاً، وقال: ما ضلّ من تجري به العصا؛ فذهبت مثلاً؛ وجرت به الى غروب الشمس، ثمّ نفقت وقد قطعت أرضاً بعيدة، فبنى عليها برجاً يقال له برج العصا، وقالت العرب: خيرٌ ما جاءت به العصا؛ مثل تضربه.
وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على الزبّاء، فلمّا رأته تكشّفت، فإذا هي مضفورة الاسب بالباء الموحدة هو شعر الاست، وقالت له: يا جذيمة أدأب عروس ترى؟ فذهبت مثلاً، فقال: بلغ المدى، وجفّ الثرى، وأمر غدر أرى؛ فذهبت مثلاً، فقالت له: أما وإلهي ما بنا من عدم مواس، ولا قلّة أواس، ولكنها شيمة من أناس؛ فذهبت مثلاً، وقالت له: أنبئت أنّ دماء الملوك شفاء من الكلب، ثمّ أجلسته على نطع وأمرت بطست من ذهب، فزعدّ له، وسقته الخمر حتى أخذت منه مأخذها ثمّ زمرت براهشيه فقطعا، وقدّمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه، وكانت الملوك لا تقتل بضرب الرقبة إلاّ في قتال تكرمةً للملك، فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك فقال جذيمة: دعوا دماً ضيّعه أهله فذهبت مثلاً.
فهلك جذيمة وخرج قصير من الحيّ الذين هلكت العصا بين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عديّ ، وهو بالحيرة، فوجده قد اختلف هو وعمرو بن عبد الجنّ فأصلح بينهما، وأطاع الناس عمرو بن عديّ، وقال له قصير: تهيّأ واستعدّ ولا تطلَّ دم خالك، فقال: كيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلاً.
وكانت الزبّاء سألت كهنةً عن أمرها وهلاكها، فقالوا لها: نرى هلاكك بسبب عمرو بن عديّ، ولكنّ حتفك بيدك، فحذرت عمراً واتخذت نفقاً من مجلسها إلى حصن لها داخل مدينتها، ثمّ قالت: إن فجأني أمر دخلت النفق الى حصني، ودعت رجلاً مصوّراً حاذقاً فأرسلته إلي عمرو بن عديّ متنكرّاً وقالت له: صوّره جالساً وقائماً ومتفضّلاً متنكرّاً ومتسلحاً بهيئته ولبسه ولونه ثم أقبل إليّ، ففعل المصوّر ما أوصته الزباء وعاد إليها، وأرادت أن تعرف عمروبن عديّ فلا تراه على حال إلاّ عرفته وحذرته.
وقال قصير لعمرو: اجدع أنفي واضرب ظهري ودعني وإياها، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، فقال قصير: خلّ عني إذاً وخلاك ذمّ؛ فذهبت مثلاً، فقال عمرو: فأنت أبصرُ، فجدع قصيرٌ زنفه ودقّ بظهره وخرج كزنه هارب وأظهر أنّ عمراً فعل ذلك به، وسار حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إنّ قصيراً بالباب؛ فأمرت به أفدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب، فقالت: لأمر ما جدع قصير أنفه؛ فذهبت مثلاً، قالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ قال: زعم عمرو أني غدرت خاله وزيّنت له المسير إليك ومالأتكِ عليه ففعل بي ما ترين فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك، فأكرمته، وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملك.

فلما عرف أنها قد استرسلت إليه ووثقت به، قال لها: إنّ لي بالعراق أموالاً كثيرة، ولي بها طرائف وعطر، فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليكِ من طرائفها وصنوف ما يكون بها من التجارات فتصيبين أرباحاً وبعض ما لا غناء للملوك عنه، فسرّحته ودفعت إليه أموالاً وجهّزت معه عيراً، فسار حتى قدم العراق وأتى عمرو بن عديّ متخفياً وأخبره الخبر وقال: جهزني بالبزّ والطّرف وغير ذلك لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك، فأعطاه حاجته، فرجع بذلك كله إلي الزباء فعرضه عليها، فأعجبها وسرها وازدادات به ثقة، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مماجهزته به في المرة الزولى، فسار حتى قدم العراق وحمل من عند عمرو حاجته ولم يدع طرفةً ولا متاعاً قدر عليه، ثم عاد الثالثة فأخبر عمراً الخبر وقال: اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيّد لهم الغرائز، وهو أوّل من عملها، واحمل كلّ رجلين على بعير في غرارتين واجعل معقد رؤوسهما من باطنهما، وقال له: إذا دخلت مدينة الزبّاء أقمتك على باب نفقها وخرجت الرجال من الغرائز فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قاتلوه، وإن أقبلت الزبّاء تريد نفقها قتلتها.
ففعل عمرو ذلك وساروا، فلمّا كانوا قريباً من الزباء تقدّم قصير إليها فبشّرها وأعلمها كثرة ماحمل من الثياب والطرائف وسألها أن تخرج وتنظر إلى الإبل وما عليها، وكان قصير يكمن النهار ويسري الليل، وهو أول من فعل ذلك، فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض، فقالت: يا قصير.
ما للجمال مشيها وثيدا ... أندلاً يحملن أم حديدا
أم صرفاناً بارداً شديدا ... أم الرجال جثّماً قعودا
ودخلت الإبلُ المدينة، فلما توسطتها أنيخت وخرج الرجال من الغرائر، ودلّ قصير عمراً على باب النفق وصاحوا بزهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو علي باب النفق، وأقبلت الزبّاء تريد الخروج من النفق، فلمّا أبصرت عمراً قائماً على باب النفق عرفته بالصورة التي عملها المصور، فمصّت سمّاً كان في خاتمها، فقالت: بيدي لا بيد عمرو فذهبت مثلاً، وتلقاها عمرو بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة ثم عاد الى العراق.
وصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث ابن سعود بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلاً من ملوك العرب، فلم يزل ملكاً حتى مات، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وصماني عشرة سنة، منها أيّام ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة، وأيام أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وأشهر، وأيّام ابنه سابور بن زردشير ثماني سنين وشهران، وكان منفرداً بملكه يغزو المغازي ولا يدين لملوك الطوائف الى أن ملك أردشير بن بابك أهل فارس، ولم يزل الملك في ولده إلى أن كان آخرهم النعمان بن المنذر، الى أيام ملوك كندة، على ما نذكره إن شاء الله.
وقيل في سبب مسير ولد نصر بن ربيعة الى العراق غير ما تقدّم، وهو رؤيا رآها ربيعة، وسيرد ذكرها عند أمر الحبشة، إن شاء الله تعالى.
ذكر طسم وجديس وكانوا أيّام ملوك الطوائف
كان طسم بن لوذ بن أذهر بن سام بن نوح، وجديس بن عامر بن أزهر بن سام ابني عمّ، وكانت مساكنهم موضع اليمامة، وكان اسمها حينئذٍ جوّاً، وكانت من أخصب البلاد وأكثرها خيراً، وكان ملكهم أيّام ملوك الطوائف عمليق، وكان ظالماً قد تمادى في الظلم والغشم والسيرة الكثيرة القبح، وإنّ امرأة من جديس يقال لها هزيلة طلّقها زوجها وأراد أخذ ولدها منها، فخاصمته الى عمليق وقالت: أيّها الملك حملته تسعاً، ووضعته دفعاً، وأرضعته شفعاً؛ حتى إذا تمت أوصاله، ودنا فصاله، أراد أن يأخذه مني كرهاً، ويتركين بعده ورها، فقال زوجها: أيها الملك إنها أعطيت مهرها كاملاً، ولم أصب منها طالاً، إلاّ وليداً خاملاً، فافعل ما كنت فاعلاً، فأمر الملك بالغلام فصار في غلمانه وأن تُباع المرأة وزوجها فيعطى زوجها خمس ثمنها وتعطى المرأة عشر ثمن زوجها، فقالت هزيلة:
أتينا أخا طسم ليحكم بيننا ... فأنفذ حكماً في هزيلة ظالما
لعمري لقد حكمت لا متورعاً ... ولا كنت فيمن يبرم الحكم عالما
ندمت ولم أندم وأنى بعترتي ... وأصبح بعلي في الحكومة نادما

فلمّا سمع عمليق قولها أمر أن لا تزوّج بكرٌ من جديس وتهدى إلى زوجها حتى يفترعها، فلقوا من ذلك بلاء وجهداً وذلاًّ، ولم يزل يفعل ذلك حتى زوّجت الشموس، وهي عفيرة بنت عباد زخت الأسود، فلمّا أرادوا حملها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله، ومعها الفتيان، فلمّا دخلت عليه افترعها وخلّى سبيلها، فخرجت الى قومها في دمائها وقد شقّت درعها من قبل ودبر والدم يبين وهي في أقبح منظر تقول:
لا أحد أذلّ من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بذا يا قوم بعل حرّ ... أهدى وقد أعطى وسيق المهر
وقالت أيضاً لتحرض قومها:
أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم، ... وأنتم رجال فيكم عدد النمل
وتصبح تمشي في الدماء عفيرة ... جهاراً وزفّت في النساء الى بعل
ولو أننا كنّا رجالاً وكنتم ... نساءً لكنا لا نقرُّ بذا الفعل
فموتوا كراماً أو أميتوا عدوّكم ... ودبّوا لنار الحرب بالحطب الجزل
وإلاّ فخلّوا بطنها وتحملوا ... إلى بلد قفر وموتوا من الهزل
فللبين خير من مقام على الأذى ... وللموت خير من مقام على الذل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
ودونكم طيب النساء فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللنسل
فبعداً وسحقاً للذي ليس دافعاً ... ويختال يمشي بيننا مشية الفحل
فلما سمع أخوها الأسود قولها، وكان سيداً مطاعاً، قال لقومه: يا معشر جديس إن هؤلاء القوم ليسوا بأعزّ منكم في داركم إلاّ بملك صاحبهم علينا وعليهم، ولوا عجزنا لما كان له فضل علينا، ولو امتنعنا لانتصفنا منه، فأطيعوني فيما آمركم فإنّه عز الدّهر.
وقد حمي جديس لما سمعوا من قولهم فقالوا: نطيعك ولكنّ القوم أكثر منا قال: فإني أصنع الملك طعاماً وأدعوه وأهله إليه، فإذا جاؤوا يرفلون في الحلل أخذنا سيوفنا وقتلناهم، فقالوا: افعل، فصنع طعاماً فأكثر وجعله بظاهر البلد ودفن هو وقومه سيوفهم ف يالرمل ودعا الملك وقومه، فجاؤوا يرفلون في حللهم، فلمّا أخذوا مجالسهم ومدّوا أيديهم يأكلون، أخذت جديس سيوفهم من الرمل وقتلوهم وقتلوا ملكهم وقتلوا بعد ذلك السفلة.
ثم إنّ بقيّة طسم قصدوا حسّان بن تُبّع ملك اليمن فاستنصروه، فسار الى اليمامة، فلما كان منها على مسيرة ثلاث قال له بعضهم: إنّ لي أختاً متزوجة في جديس يقال لها اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر القوم بك، فمر أصحابك فليقطع كلّ رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه.
فأمرهم حسان بذلك، فنظرت اليمامة فأبصرتهم فقالت لجديس: لقد سارت إليكم حمير، قالوا: وما ترين؟ قالت: أرى رجلاً في شجرة معه كتف يتعرّقها أو نعل يخصفها؛ وكان كذلك، فكذبوها، فصبحهم حسّان فأبادهم، وأتي حسان باليمامة ففقأ عينها، فإذا فيها عروق سود، فقال: ما هذا؟ قالت: حجر أسود كنت أكتحل به يقال له الإثمد، وكانت زوّل من اكتحل به، وبهذه اليمامة سميت الميامة، وقد أكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم.
ولما هلكت جديس هرب الأسود قاتل عمليق الى جبل طيّء فأقام بهما، ذلك قبل أن تنزلهما طيّء، وكانت طيّء تنزل الجرف من اليمن، وهو الآن لمراد وهمدان، وكان يأتي الى طيّء بعير أزمان الخيف عظيم السمن ويعود عنهم، ولم يعلموا من أين يأتي، ثمّ إنّهم اتّبعوه يسيرون بسيره حتي هبط بهم على أجأ وسلمى جبلي طيّء، وهما بقرب فيد، فرأوا فيهما النخل والمراعي الكثيرة ورأوا الأسود بن عفار، فقتلوه، وأقامت طيّء بالجبلين بعده، فهم هناك إلى الآن، وهذا أول مخرجهم إليهما.
ذكر أصحاب الكهف

وكانوا أيام ملوك الطوائف
كان أصحاب الكهف أيّام ملك اسمه دقيوس، ويقال دقيانوس، وكانوا بمدينة للروم اسمها أفسوس، وملكهم يعبد الأصنام، وكانوا فتية آمنوا بربّهم كما ذكر الله تعالى، فقال: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً) الكهف: 9؛ والرّقيم خبرهم كتب في لوح وجع على باب الكهف اذي أووا رليه، وقيل: كتبه بعض أهل زمانهم وجعله في البناءوفيه أسماؤهم وفي أيّام من كانوا وسبب وصولهم الى الكهف.

وكانت عدّتهم، فما ذكر ابن عبّاس، سبعة وثامنهم كلبهم، وقال: إنّا من القليل الذين تعلمونهم، وقال ابن اسحاق: كانوا ثمانية، فعلى قوله يكون تاسعهم كلبهم، وكانوا من الروم، وكانوا يعبدون الأوثان، فهداهم الله، وكانت شريعتهم شريعة عيسى، عليه السلام.
وزعم بعضهم أنهم كانوا قبل المسيح، وأنّ المسيح أعلم قومه بهم، وأن الله بعثهم من رقدتهم بعد رفع المسيح، والأول أصح.
وكان سبب إيمانهم أنه جاء حواريّ من أصحاب عيسى إلى مدينتهم فأراد أن يدخلها، فقيل له: إنّ على بابها صنماً لا يدخلها أحد حتى يسجد له، فلم يدخلها وأتى حمّاماً قريباً من المدينة، فكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمّام البركة وعلقه الفتية، فجعل يخبرهم خبر السماءوالأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدّقوه، فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمّام، فعيّره الحواريّ، فاستحيا، ثمّ رجع مرّة أخرى فعيّره فسبّه وانتهره ودخل الحمّام ومعه المرأة، فماتا في الحمّام، فقيل للملك: إنّ الذي بالحمّام قتلهما، فطلب فلم يوجد، فقيل: من كان يصحبه؟ فذكر الفتية، فطلبوا فهربوا فمرّوا بصاحب لهم على حالهم في زرع له فذكروا له أمرهم، فسار معهم وتبعهم الكلب الذي له حتى آواهم الليل الى الكهف، فقالوا: نبيت ههنا حتى نصبح ثمّ نرى رأينا، فدخلوه فرأوا عنده عين ماء وثماراً، فأكلوا من الثمار وشربوا من الماء، فلمّا جنّهم اللّيلُ ضرب الله على آذانهم ووكّل بهم ملائكة يقلّبّونهم ذات اليمن وذات الشمال لئلاّ تأكل الأرض أجسادهم، وكانت الشمس تطلع عليهم.
وسمع الملك دقيانوس خبرهم فخرج في أصحابه يتبعون أثرهم حتى وجدهم قد دخلوا الكهف، وأمر أصحابه بالدخول إليهم وإخراجهم، فكلّما أراد رجل أن يدخل أرعب فعاد، فقال بعضهم: أليس لو كنت ظفرت بهم قتلتهم؟ قال: بلى، قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعاً وعطشاً، ففعل، فبقوا زماناً بعد زمان.
ثمّ إنّ راعياً أدركه المطر فقال: لو فتحت باب هذا الكهف فأدخلت غنمي فيه، ففتحه، فردّ الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق ليشتري لهم طعاماً، واسمه تلميخا، فلّما أتى باب المدينة رأى ما زنكره حتى دخل علي رجل فقال: بعني بهذه الدراهم طعاماً، فقال: فمن أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس ثمّ أصبحوا فأرسلوني، فقال: هذه الدراهم كانت على عهد الملك الفلانيّ، فرفعه إلى الملك، وكان ملكاً صالحاً، فسأله عنها، فأعاد عليه حالهم، فقال الملك: وأين أصحابك؟ قال: انطلقوا معي، فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم لئلا يسمعوا أصواتكم فيخافوا ظنّاً منهم أنّ دقيانوس قد علم بهم، فدخل عليهم وأخبرهم الخبر، فسجدوا شكراً لله وسألوه أن يتوفّاهم، فاستجاب لهم، فضرب على أذنه وآذانهم، وأراد الملك الدخول عليهم فكانوا كلما دخل عليهم رجل أرعب، فلم يقدروا أن يدخلوا عليهم، فعاد عنهم، فبنوا عليهم كنيسة يصلّون فيها.
قال عكرمة: لما بعثهم الله كان الملك حينئذٍ مؤمناً، وكان قد اختلف أهل مملكته في الروح والجسد وبعثهما، فقال قائل: يبعث الله الروح دون الجسد، وقال قائل: يبعثان جميعاً؛ فشقّ ذلك على الملك فلبس المسوح وسأل الله أن يبين له الحقّ، فبعث لله أصحاب الكهف بكرةً، فلمّا بزغت الشمس قال بعضهم لبعض: قد غفلنا هذه الليّلة عن العبادة، فقاموا إلى الماء، وكان عند الكهف عين وشجرة، فإذا العين قد غارت والأشجار قد يبست، فقال بعضهم لبعض: إنّ أمرنا لعبج هذه العين غارت وهذه الأشجار يبست في ليلة واحدة وألقى الله عليهم الجوع، فقالوا: أيّكم يذهب (إلى المدينة فلينظر أيّها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً) الكهف: 19.

فدخل أحدهم يشتري الطعام، فلما رأى السوق عرف وأنكر الوجوه ورأى الإيمان ظاهراً بها، فأتى رجلاً يشتري منه، فأنكر الدراهم، فرفعه الى الملك، فقال الفتى: أليس ملككم فلان؟ فقال الرجل: لا بل فلان فعجب لذلك، فلمّا أحضر عند الملك أخبره بخبر أصحابه، فجمع الملك الناس وقال لهم: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله قد بعث لكم آية هذا الرجل من قوم فلان، يعني الملك الذي مضى، فقال الفتى: انطلقوا بي الى أصحابي، فركب الملك والناس معه، فلما انتهى إلى الكهف قال الفتى للملك: ذروني أسبقكم إلى أصحابي أعرفهم خبركم لئلا يخافوا إذا سمعوا وقع حوافر دوابّكم وأصواتكم فيظنّوكم دقيانوس، فقال: افعل، فسبقهم إلى أصحابه ودخل على أصحابه فأخبرهم الخبر، فعلموا حينئذٍ مقدار لبثهم في الكهف وبكوا فرحاً ودعوا الله أن يميتهم ولا يراهم أحد ممّن جاءهم، فماتوا لساعتهم، فضرب الله على أذنه وآذانهم معه، فلما استبطأوه دخلوا إلي الفتية فإذا أجسادهم لا ينركون منها شيئاً غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آية لكم، ورأى الملك تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم، ففتحه، فرأى فيه لوحاً من رصاص مكتوباً فيه أسماء الفتية وأنهم هربوا من دقيانوس الملك مخافة على نفوسهم ودينهم فدخلوا هذا الكهف، فلمّا علم دقيانوس بمكانهم بالكهف سدّه عليهم، فليعلم من قرأ كتابنا هذا شأنهم.
فلمّا قرأوه عجبوا وحمدوا الله تعالى الذي أراهم هذه الآية للبعث ورفعوا أصواتهم بالتحميد والتسبيح.
وقيل: إنّ الملك ومن معه دخلوا على الفتية فرأوهم أحياء مشرقة وجوههم وألوانهم لم تبل ثيابهم، وأخبرهم الفتية بما لقوا من ملكهم دقيانوس، واعتنقهم الملك، وقعدوا معه يسبّحون الله ويذكرونه، ثم قالوا: له: نستودعك الله، ورجعوا الى مضاجعهم كما كانوا، فعمل الملك لكل رجل منهم تابوتاً من الذهب، فلمّا نام رآهم في منامه وقالوا: إننا لم نخلق من الذهب إنّما خلقنا من التراب وإليه نصير، فعمل لهم حينئذٍ توابيت من خشب، فحجبهم الله بالرعب، وبنى الملك على باب الكهف مسجداً وجعل لهم عيداً عظيماً.
وأسماء الفتية: مكسلمينيا ويمليخا ومرطوس ونيرويس وكسطومس ودينموس وريطوفس وقالوس ومخسيلمينيا، وهذه تسعة أسماء، ويه أتمّ الروايات، والله أعلم، وكلبهم قطمير.
ذكر يونس بن متىوكان أمره من الأحداث أيام ملوك الطوائف. قيل: لم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه إلا عيسى بن مريم ويونس بن متى، وهي أمه، وكان من قرية من قرى الموصل يقال لها نينوى، وكان قومه يعبدون الأصنام، فبعثه الله إليهم بالنهي عن عبادتها والأمر بالتوحيد، فأقام فيهم ثلاثاً وثلاثين سنة يدعوهم، فلم يؤمن غير رجلين، فلما أيس من إيمانهم دعا عليهم، فقيل له: ما أسرع ما دعوت على عبادي ! ارجع إليهم فادعهم أربعين يوماً، فدعاهم سبعة وثلاثين يوماً، فلم يجيبوه، فقال لهم: إن العذاب يأتيكم إلى ثلاثة أيام، وآية ذلك أن ألوانكم تتغير، فلما أصبحوا تغيرت ألوانهم، فقالوا: قد نزل بكم ما قال يونس ولم نجرب عليه كذباً فانظروا فإن بات فيكم فأمنوا من العذاب، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب يصبحكم.
فلما كانت ليلة الأربعين أيقن يونس بنزول العذاب، فخرج من بين أظهرهم. فلما كان الغد تغشاهم العذاب فوق رؤوسهم، خرج عليهم غيم أسود هائل يدخن دخاناً شديداً، ثم نزل إلى المدينة فاسودت منه سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا يونس فلم يجدوه، فألهمهم الله التوبة، فأخلصوا النية في ذلك وقصدوا شيخاً وقالوا له: قد نزل بنا ما ترى فما نفعل ؟ فقال: آمنوا بالله وتوبوا وقولوا: يا حي يا قيوم، يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، يا حي لا إله إلا أنت. فخرجوا من القرية إلى مكان رفيع في براز من الأرض وفرقوا بين كل دابة وولدها ثم عجوا إلى الله واستقالوه وردوا المظالم جميعاً حتى إن كان أحدهم ليقلع الحجر من بنائه فيرده إلى صاحبه.

فكشف الله عنهم العذاب، وكان يوم عاشوراء يوم الأربعاء، وقيل: للنصف من شوال يوم الأربعاء، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال: ما فعل أهل القرية ؟ فقال: تابوا إلى الله فقبل منهم وأخر عنهم العذاب. فغضب يونس عند ذلك فقال: والله لا أرجع كذاباً ! ولم تكن قرية رد الله عنهم العذاب بعدما غشيهم إلا قوم يونس، ومضى مغاضباً لربه. وكان فيه حدة وعجلة وقلة صبر، ولذلك نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يكون مثله، فقال تعالى: (وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ) القلم: 48.
ولما مضى ظن أن الله لا يقدر عليه، أي يقضي عليه العقوبة، وقيل: يضيق عليه الحبس، فسار حتى ركب في سفينة فأصاب أهلها عاصف من الريح، وقيل: بل وقفت فلم تسر، فقال من فيها: هذه بخطيئة أحدكم ! فقال يونس: هذه بخطيئتي فألقوني في البحر، فأبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ) الصافات: 141، فلم يلقوه، وفعلوا ذلك ثلاثاً ولم يلقوه، فألقى نفسه في البحر، وذلك تحت الليل، فالتقمه الحوت، فأوحى الله إلى الحوت أن يأخذه ولا يخدش له لحماً ولا يكسر له عظماً، فأخذه وعاد إلى مسكنه من البحر، فلما انتهى إليه سمع يونس حساً فقال في نفسه: ما هذا ؟ فأوحى الله إليه في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر، فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة. فقال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد له كل يوم عمل صالح ؟ فشفعوا له عند ذلك، (فَنَادَى في الظُّلُمَات) - ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل - (أنْ لا إلَهَ إلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ) الأنبياء: 87 ! وكان قد سبق له من العمل الصالح، فأنزل الله فيه: (فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الصافات: 143، وذلك أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، (فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) الصافات: 145؛ ألقي على ساحل البحر وهو كالصبي المنفوس، ومكث في بطن الحوت أربعين يوماً، وقيل: عشرين يوماً، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، والله أعلم.
وأنبت (الله) عليه شجرة من يقطين، وهو القرع، يتقطر إليه منه اللبن، وقيل: هيأ الله له أروية وحشية، فكانت ترضعه بكرة وعشية حتى رجعت إليه قوته وصار يمشي، فرجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها قد يبست، فحزن وبكى عليها، فعاتبه الله، وقيل له: أتبكي وتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف وزيادة أردت أن تهلكهم ! ثم إن الله أمره أن يأتي قومه فيخبرهم أن الله قد تاب عليهم، فعمد إليهم، فلقي راعياً، فسأله عن قوم يونس، فأخبره أنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم، قال: فأخبرهم أنك قد لقيت يونس. قال: لا أستطيع إلا بشاهد، فسمى له عنزاً من غنمه والبقعة التي كانا فيها وشجرة هناك، وقال: كل هذه تشهد لك. فرجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه رأى يونس، فهموا به، فقال: لا تعجلوا حتى أصبح. فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقي فيها يونس فاستنطقها، فشهدت له، وكذلك الشاة والشجرة، وكان يونس قد اختفى هناك. فلما شهدت الشاة قالت لهم: إن أردتم نبي الله فهو بمكان كذا وكذا، فأتوه، فلما رأوه قبلوا يديه ورجليه وأدخلوه المدينة بعد امتناع، فمكث مع أهله وولده أربعين يوماً وخرج سائحاً، وخرج الملك معه يصحبه وسلم الملك إلى الراعي، فأقام يدبر أمرهم أربعين سنة بعد ذلك. ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك.

وقال ابن عباس وشهر بن حوشب: كانت رسالة يونس بعدما نبذه الحوت، وقالا: كذلك أخبر الله تعالى في سورة الصافات فإنه قال: (فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مَائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) الصافات: 145 - 147. وقال شهر: إن جبرائيل أتى يونس فقال له: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم العذاب فإنه قد حضرهم. قال: ألتمس دابة. قال: الأمر أعجل من ذلك. قال: ألتمس حذاء. قال: الأمر أعجل من ذلك. قال: فغضب وانطلق إلى السفينة فركب، فلما ركب احتبست، قال: فساهموا، فسهم، فجاءت الحوت، فنودي الحوت: إنا لم نجعل يونس من رزقك إنما جعلناك له حرزاً، فالتقمه الحوت وانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على الابلة، ثم انطلق به على دجلة حتى ألقاه بنينوى.
ومما كان من الاحداث أيام ملوك الطوائفإرسال الله تعالى الرسل الثلاثة إلى مدينة إنطاكية. وكانوا من الحواريين أصحاب المسيح، أرسل أولاً اثنين، وقد اختلف في أسمائهما، فقدما إنطاكية فرأيا عندها شيخاً يرعى غنماً، وهو حبيب النجار، فسلما عليه، فقال: من أنتما ؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم إلى عبادة الله تعالى. قال: معكما آية ؟ قالا: نعم، نحن نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله. قال حبيب: إن لي ابناً مريضاً مذ سنين، وأتى بهما منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت صحيحاً، ففشا الخبر في المدينة، وشفى الله على أيديهما كثيراً من المرض. وكان لهم ملك اسمه أنطيخس يعبد الأصنام، فبلغ إليه خبرهما، فدعاهما، فقال: من أنتما ؟ قالا: رسل عيسى ندعوك إلى الله تعالى. قال: فما آيتكما ؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص ونشفي المرضى بإذن الله. فقال: قوما حتى ننظر في أمركما، فقاما، فضربهما العامة.
وقيل: إنهما قدما المدينة فبقيا مدة لا يصلان إلى الملك، فخرج الملك يوماً، فكبرا وذكرا الله، فغضب وحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة، فلما كذبا وضربا بعث المسيح شمعون رأس الحواريين لينصرهما، فدخل البلد متنكراً وعاشر حاشية الملك، فرفعوا خبره إلى الملك، فأحضره ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، فقال له يوماً: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى دينهما فهل كلمتهما وسمعت قولهما ؟ فقال الملك: حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك أن يحضرهما حتى نسمع كلامهما، فدعاهما الملك، فقال لهما شمعون: من أرسلكما ؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء ولا شريك له. قال: فثفاه وأوجزا. قالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال شمعون: فما آيتكما ؟ قالا: ما تتمناه.
فأمر الملك، فجيء بغلام مطموس العينين موضعهما كاللحمة، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر، وأخذ بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما. فعجب الملك لذلك فقال: إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما. قالا: إن إلهنا قادر على كل شيء. فقال الملك: إن ها هنا ميتاً منذ سبعة أيام فلم ندفنه حتى يرجع أبوه وهو غائب، فأحضر الميت وقد تغيرت ريحه، فدعوا الله تعالى علانياً وشمعون يدعو سراً، فقام الميت فقال لقومه: إني مت مشركاً وأدخلت في أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه. ثم قال: فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة. فقال الملك: ومن هم ؟ فقال: هذا، وأومأ إلى شمعون، وهذان، وأشار إليهما، فعجب الملك، فحينئذٍ دعا شمعون الملك إلى دينه، فآمن قومه، وكان الملك فيمن آمن وكفر آخرون. وقيل: بل كفر الملك وأجمع هو وقومه على قتل الرسل، فبلغ ذلك حبيباً النجار، وهو على باب المدينة، فجاء يسعى إليهم فيذكرهم ويدعوهم إلى طاعة الله وطاعة المرسلين، فذلك قوله تعالى: (إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَينِ فَكّذَبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بثَالِثٍ) يس: 14، وهو شمعون، فأضاف الله تعالى الإرسال إلى نفسه، وإنما أرسلهم المسيح لأنه أرسلهم بإذن الله تعالى.

فلما كذبهم أهل المدينة، حبس الله عنهم المطر، فقال أهلها للرسل: (إنّا تَطَيّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنّكُمْ) - بالحجارة، وقيل: لنقتلنكم - وَلْيَمَسّنّكُمْ مِنّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) يس: 18، فلما حضر حبيب، وكان مؤمناً يكتم إيمانه، وكان يجمع كسبه كل يوم وينفق على عياله نصفه ويتصدق بنصفه، فقال: (يَا قَوْمِ اتّبِعُوا المُرْسَلِينَ) يس: 20. فقال قومه: وأنت مخال لربنا ومؤمن بإله هؤلاء ؟ فقال: (وَمَا ليَ لا أَعْبُدُ الّذِي فَطَرَني وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ ؟) يس: 22، فلما قال ذلك قتلوه، فأوجب الله له الجنة، فذلك قوله تعالى: (قِيلَ ادْخُلِ الجَنّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ رَبيّ وَجَعَلَني مِنَ المُكْرَمِينَ) يس: 27؛ وأرسل الله عليهم صيحة فماتوا.
ومما كان من الأحداث شمسونوكان من قرية من قرى الروم قد آمن، وكانوا يعبدون الأصنام، وكان على أميال من المدينة، وكان يغزوهم وحده ويقاتلهم بلحي جمل. فكان إذا عطش انفجر له من الحجر الذي فيه ماء عذب فيشرب منه، وكان قد أعطي قوة لا يوثقه حديد ولا غيره، وكان على ذلك يجاهدهم ويصيب منهم ولا يقدرون منه على شيء، فجعلوا لامرأته جعلاً لتوثقه لهم، فأجابتهم إلى ذلك، فاعطوها حبلاً وثيقاً، فتركته حتى نام وشدت يديه، فاستيقظ وجذبه، فسقط الحبل من يديه، فأرسلت إليهم فأعلمتهم، فأرسلوا إليها بجامعة من حديد، فتركتها في يديه وعنقه وهو نائم، فاستيقظ وجذبها فسقطت من عنقه ويديه، فقال لها في المرتين: ما حملك على ما صنعت ؟ فقالت: أريد أجرب قوتك وما رأيت مثلك في الدنيا فهل في الأرض شيء يغلبك ؟ قال: نعم بشعر رأسه، وكان كثيراً، فأرسلت إليهم، فجاؤوا فأخذوه فجدعوا أنفه وأذنيه وفقأوا عينيه وأقاموه للناس. وجاء الملك لينظر إليه، وكانت المدينة على أساطين، فدعا الله شمسون أن يسلطه عيهم، فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد المدينة فيجذبهما، ورد إليه بصره وما أصابوه من جسده، وجذب العمودين فوقعت المدينة بالملك والناس وهلك من فيها هدماً. وكان شمسون أيام ملوك الطوائف.
ومما كان من الأحداث أيضاً جرجيس
قيل: كان بالموصل ملك يقال له دازانه، وكان جباراً عاتياً، وكان جرجيس رجلاً صالحاً من أهل فلسطين يكتم إيمانه مع أصحاب له صالحين، وكانوا قد أدركوا بقايا من الحواريين فأخذوا عنهم، وكان جرجيس كثير التجارة عظيم الصدقة، وربما نفد ماله في الصدقة ثم يعود يكتسب مثله، ولولا الصدقة لكان الفقر أحب إليه من الغنى، وكان يخاف بالشام أن يفتتن عن دينه، فقصد الموصل ومعه هدية لملكها لئلا يجعل لأحد عليه سبيلاً، فجاءه حين جاءه وقد أحضر عظماء قومه وأوقد ناراً وأعد أصنافاً من العذاب وأمر بصنم له يقال له افلون فنصب، فمن لم يسجد له عذبه وألقي في النار.
فلما رأى جرجيس ما يصنع استعظمه وحدث نفسه بجهاده، فعمد إلى المال الذي معه فقسمه في أهل ملته وأقبل عليه وهو شديد الغضب فقال له: اعلم أنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئاً ولا لغيرك شيئاً، وأن فوقك رباً هو الذي خلقك ورزقك، فأخذ في ذكر عظمة الله تعالى وعيب صنمه. فأجابه الملك بأن سأله من هو ومن أين هو. فقال جرجيس: أنا عبد الله وابن أمته من التراب خلقت وإليه أعود. فدعاه الملك إلى عبادة صنمه وقال له: لو كان ربك ملك الملكوت لرؤي عليك أثره كما ترى على من حولي من ملوك قومي. فأجابه جرجيس بتعظيم أمر الله وتمجيده وقال له: تعبد افلون الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني من رب العالمين، أم تعبد الذي قامت بأمره السموات والأرض، أم تعبد طرقلينا عظيم قومك من الناس، عليه السلام، فإنه كان آدمياً يأكل ويشرب فأكرمه الله بأن جعله إنسياً ملكياً، أم تعبد عظيم قومك مخليطيس أيضاً وما نال بولايتك من عيسى، عليه السلام ! وذكر من معجزاته وما خصه الله من الكرامة.
فقال له الملك: إنك أتيتنا بأشياء لا نعلمها، ثم خيره بين العذاب والسجود للصنم. فقال جرجيس: إن كان صنمك هو الذي رفع السماء، وعدد أشياء من قدرة الله، عز وجل، فقد أصبت ونصحت، وإلا فاخسأ أيها الملعون.

فلما سمع الملك أمر بحبسه ومشط جسده بأمشاط الحديد حتى تقطع لحمه وعروقه، وينضح بالخل والخردل، فلم يمت. فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بستة مسامير من حديد فأحميت حتى صارت ناراً ثم سمر بها رأسه، فسال دماغه، فحفظه الله تعالى. فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بحوض من نحاس فأوقد عليه حتى جعله ناراً ثم أدخله فيه وأطبق عليه حتى برد. فلما رأى ذلك لم يقتله دعاه وقال له: ألم تجد ألم هذا العذاب ؟ قال: إن إلهي حمل عني عذابك وصبرني ليحتج عليك.
فأيقن الملك بالشر وخافه على نفسه وملكه فأجمع رأيه على أن يخلده في السجن، فقال الملأ من قومه: إنك إن تركته في السجن طليقاً يكلم الناس ويميل بهم عليك، ولكن يعذب بعذاب يمنعه من الكلام. فأمر به فبطح في السجن على وجهه ثم أوتد في يديه ورجليه أوتاداً من حديد، ثم أمر بأسطوان من رخام حمله ثمانية عشر رجلاً فوضع على ظهره، فظل يومه ذلك تحت الحجر، فلما أدركه الليل أرسل الله إليه ملكاً، وذلك أول ما أيد بالملائكة، فأول ما جاءه الوحي قلع عنه الحجر ونزع الأوتاد وأطعمه وسقاه وبره وعزاه، فلما أصبح أخرجه من السجن فقال له: الحق بعدوك فجاهده، فإني قد ابتليتك به سبع سنين يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرات في كل ذلك أرد إليك روحك، فإذا كانت القتلة الرابعة تقبلت روحك وأوفيتك أجرك.
فلم يشعر الملك إلا وقد وقف جرجيس على رأسه يدعوه إلى الله، فقال له: أجرجيس ؟ قال: نعم. من أخرجك من السجن ؟ قال: أخرجني من سلطانه فوق سلطانك ! فمليء غيظاً ودعا بأصناف العذاب ومدوه بين خشبتين ووضعوا على رأسه سيفاً ثم وشروه حتى سقط بين رجلييه وصار جزلتين، ثم قطعوهما قطعاً، وكان له سبعة أسد ضارية في جب فألقوا جسده إليها، فلما رأته خضعت برؤوسها وقامت على براثنها لا تألوا أن تقيه الأذى الذي تحتها، فظل يومه تحتها ميتاً، فكانت أول ميتة ذاقها. فلما أدركه الليل جمع الله جسده وسواه ورد فيه روحه وأخرجه من قعر الجب. فلما أصبحوا أقبل جرجيس، وهم في عيد لهم صنعوه فرحاً بموت جرجيس، فلما نظروا إليه مقبلاً قالوا: ما أشبه هذا بجرجيس ! قال الملك: هو هو! قال جرجيس: أنا هو حقاً، بئس القوم أنتم ! قتلتم ومثلتم فرد الله روحي إلي ! هلموا إلى هذا الرب العظيم الذي أراكم قدرته. فقالوا: ساحر سحر أعينكم وأيديكم عنه، فجمعوا من ببلادهم من السحرة، فلما جاؤوا قال الملك لكبيرهم: اعرض علي من سحرك ما يسرى به عني. فدعا بثور فنفخ في أذنيه فإذا هو ثوران، ودعا ببذر فحرث وزرع وحصد ودق وذرى وطحن وخبز وأكل في وطحن وخبز وأكل في ساعته. فقال له الملك: هل تقدر أن تمسخه كلباً ؟ قال: ادع لي بقدح من ماء، فأتي به، فنفث فيه الساحر ثم قال الملك لجرجيس: اشربه، فشربه جرجيس حتى أتى على آخره. فقال له الساحر: ماذا تجد ؟ قال: ما أجد إلا خيراً ! كنت عطشان فلطف الله بي فسقاني. وأقبل الساحر على الملك وقال: لو كنت تقاسي جباراً مثلك لغلته إنما تقاسي جبار السماء والأرض.
وكانت أتت جرجيس امرأةٌ من الشام، وهو في أشد العذاب، فقالت له: إنه لم يكن لي مال إلا ثوراً أعيش به من حرثه فمات، وجئتك لترحمني وتسأل الله أن يحيي ثوري. فأعطاها عصاً وقال: اذهبي إلى ثورك فاضربيه بهذه العصا وقولي له: احي بإذن الله. فأخذت العصا وأتت مصرع الثور فرأت روقيه وشعر وذنبه فجمعتها ثم قرعتها بالعصا وقالت ما أمرها به جرجيس، فعاش ثورها، وجاء الخبر بذلك.

فلما قال الساحر ما قال: قال رجل من أصحاب الملك، وكان أعظمهم بعد الملك: اسمعوا مني. قالوا: نعم. قال: إنكم قد وضعتم أمره على السحر، وإنه لم يعذب ولم يقتل، فهل رأيتم ساحراً قط قدر أن يدفع عن نفسه الموت أو أحيا ميتاً ؟ وذكر الثور وإحياءه. فقالوا له: إن كلامك كلام رجل قد أصغى إليه. فقال: قد آمنت به وأشهد الله أني بريء مما تعبدون ! فقام إليه الملك وأصحابه بالخناجر فقطعوا لسانه بالخناجر، فلم يلبث أن مات. وقيل: أصابه الطاعون فأعجله قبل أن يتكلم، وكتموا شأنه، فكشفه جرجيس للناس، فاتبعه أربعة آلاف وهو ميت، فقتلهم الملك بأنواع العذاب حتى أفناهم، وقال له رجل من عظماء أصحاب الملك: يا جرجيس إنك زعمت أن إلهك يبدأ الخلق ثم يعيده، وإني سائلك أمراً إن فعله إلهك آمنت به وصدقتك وكفيتك قومي. هذا تحتنا أربعة عشر منبراً ومائدة وأقداح وصحاف من خشب يابس وهو من أشجار شتى فادع ربك أن يعيدها خضراً كما بدأها يعرف كل عود بلونه وورقه وزهره وثمره. قال جرجيس: قد سألت أمراً عزيزاً علي وعليك، وإنه على الله يسير، ودعا الله فما برحوا حتى اخضرت وساخت عروقها وتشعبت ونبت ورقها وزهرها حتى عرفوا كل عود باسمه.
فقال الذي سأله هذا: أنا أتولى عذابه. فعمد إلى نحاس فصنع منه صورة ثور مجوف ثم حشاها نفطاً ورصاصاً وكبريتاً وزرنيخاً وأدخل جرجيس في وسطها ثم أوقد تحت الصورة النار حتى التهبت وذاب كل شيء فيها واختلط ومات جرجيس في جوفها. فلما مات أرسل الله ريحاً عاصفاً ورعداً وبرقاً وسحاباً مظلماً وأظلم ما بين السماء والأرض وبقوا أياماً متحيرين، فأرسل الله ميكائيل، فاحتمل تلك الصورة، فلما أقلها ضرب بها الأرض، ففزع من روعتها كل من سمعها وانكسرت وخرج منها جرجيس حياً، فلما وقف وكلمهم انكشفت الظلمة وأسفر ما بين السماء والأرض.
قال له عظيم من عظمائهم: ادع الله بأن يحيي موتانا من هذه القبور. فأمر جرجيس بالقبور فنبشت وهي عظام رفات، ثم دعا فلم يبرحوا حتى نظروا إلى سبعة عشر إنساناً، تسعة رجال وخمسة نسوة وثلاثة صبية وفيهم شيخ كبير. فقال له جرجيس: متى مت ؟ فقال: في زمان كذا وكذا، فإذا هو أربع مائة عام.
فلما رأى ذلك الملك قال: لم يبق من عذابكم شيء إلا وقد عذبتموه وأصحابه به إلا الجوع والعطش، فعذبوه به. فعمدوا إلى بيت عجوز فقيرة، وكان لها ابن أعمى أبكم مقعد، فحصروه فيه، فلا يصل إليه طعام ولا شراب. فلما جاع قال للعجوز: هل عندك طعام أو شراب ؟ قالت: لا والذي يحلف به ما لنا عهد بالطعام من كذا وكذا وسأخرج فألتمس لك شيئاً. فقال لها: هل تعبدين الله ؟ قالت: لا. فدعاها فآمنت، وانطلقت تطلب له شيئاً، وفي بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فدعا الله فاخضرت تلك الدعامة وأنبتت كل فاكهة تؤكل وتعرف، فظهر للدعامة فروع من فوق البيت تظله وما حوله، وعادت العجوز وهو يأكل رغداً. فلما رأت الذي حدث في بيتها قالت: آمنت بالذي أطعمك في بيت الجوع، فادع هذا الرب العظيم أن يشفي ابني. قال: أدنيه مني، فأدنته، فبصق في عينيه فأبصر، فنفث في أذنيه فسمع. قالت له: أطلق لسانه ورجليه. قال لها: أخريه فإن له يوماً عظيماً.
ورأى الملك الشجرة فقال: أرى شجرة ما كنت أعهدها ! قالوا: تلك الشجرة الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع وقد شبع منها وأشبعت العجوز، وشفى لها ابنها.

فأمر بالبيت فهدم، وبالشجرة أن تقطع، فملا هموا بقطعها أيبسها الله وتركوها. وأمر بجرجيس فبطح على وجهه، وأمر بعجل فأوقر أسطواناً وجعل في أسفل العجل خناجر وشفاراً ثم دعا بأربعين ثوراً فنهضت بالعجلٍ نهضة واحدة وجرجيس تحتها، فانقطع ثلاث قطع، ثم أمر بقطعه فأحرقت حتى صارت رمادا، وبعث بالمراد مع رجال فذروه في البحر، فلم يبرحوا حتى سمعوا صوتاً من السماء: يا بحر إن الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيب فإني أريد أن أعيده. فأرسل الرياح فجمعته كما كان قبل أن يذروه، والذين ذروه قيام لم يبرحوا، وخرج جرجيس حياً مغبراً، فرجعوا ورجع معهم وأخبروا الملك خبر الصوت والرياح. فقال له الملك: هل لك فيما هو خير لي ولك ؟ ولولا أن يقال إنك غلبتني لآمنت بك، ولكن اسجد لصنمي سجدة واحدة أو اذبح له شاة واحدة وأنا أفعل ما يسرك. فطمع جرجيس في إهلاك الصنم حين يراه وإيمان الملك عند ذلك، فقال له: أفعل - خديعة منه - وأدخلني على صنمك أسجد له وأذبح.
ففرح الملك بذلك وقبل يديه ورجليه وطلب منه أن يكون يومه وليلته عنده، ففعل، فأخلى له الملك بيتاً ودخله جرجيس، فلما جاء الليل قام يصلي ويقرأ الزبور، وكان حسن الصوت، فلما سمعته امرأة الملك استجابت له وآمنت به وكتمت إيمانها، فلما اصبح غدا به إلى بيت الأصنام ليسجد لها.
وقيل للعجوز: إن جرجيس قد افتتن وطمع في الملك بعد الملك. فخرجت تحمل ابنها على عاتقها في أعراضهم توبخ جرجيس، فلما دخل بيت الأصنام نظر فإذا العجوز وابنها أقرب الناس إليه، فدعا ابنها، فأجابه وما تكلم قبل ذلك قط، ثم نزل عن عاتق أمه يمشي على قدميه سويتين وما وطئ الأرض قط، فلما وقف بين يدي جرجيس قال له: ادع لي هذه الأصنام، وهي على منابر من ذهب واحد وسبعون صنماً، وهم يعبدون الشمس والقمر معها، فدعاها، فأقبلت تتدحرج إليه. فلما انتهت إليه ركض برجله الأرض فخسف بها وبمنابرها، فقال له الملك: يا جرجيس خدعتني وأهلكت أصنامي ! فقال له: فعلت ذلك عمداً لتعتبر وتعلم أنها لو كانت آلهة لامتنعت مني. فلما قال هذا قالت امرأة الملك وأظهرت إسلامها وعدت عليهم أفعال جرجيس وقالت: ما تنتظرون من هذا الرجل إلا دعوة فتهلكون كما هلكت أصنامكم. فقال الملك: ما أسرع ما أضلك هذا الساحر ! ثم أمر بها فعلقت على خشبة، ثم مشط لحمها بمشاط الحديد، فلما آلمها العذاب قالت لجرجيس: ادع الله أن يخفف عني الألم. فقال: انظري فوقك. فنظرت فضحكت. فقال لها الملك: ما يضحكك ؟ قالت: أرى على رأسي ملكين معهما تاج من حلي الجنة ينتظران خروج روحي ليزيناني به ويصعدا بها إلى الجنة. فلما مات أقبل جرجيس على الدعاء وقال: اللهم أكرمتني بهذا البلاء لتعطيني أفضل منازل الشهداء، وهذا آخر أيامي فأسألك أن تنزل بهؤلاء المنكرين من سطواتك وعقوبتك ما لا بل لهم به، فأمطر الله عليهم النار فأحرقتهم. فلما احترقوا بحرها عمدوا إليه فضربوه بالسيوف فقتلوه، وهي القتلة الرابعة. فلما احترقت المدينة بجميع ما فيها رفعت من الأرض وجعل عاليها سافلها، فلبثت زماناً يخرج من تحتها دخان منتن.
وكان جميع من آمن به وقتل معه أربعة وثلاثين ألفاً وامرأة الملك.
ذكر خالد بن سنان العبسيوممن كان في الفترة خالد بن سنان العبسي، قيل: كان نبياً، وكان من معجزاته أن ناراً ظهرت بأرض العرب فافتتنوا بها وكادوا يتمجسون، فأخذ خالد عصاه ودخلها حتى توسطها ففرقها، وهو يقول: بداً بداً، كل هدى مؤدى، لأدخلنها وهي تلظى ولأخرجن منها وثيابي تندى. ثم إنها طفئت وهو في وسطها.
فلما حضرته الوفاة قال لأهله: إذا دفنت فإنه ستجيء عانة من حمير يقدمها عير أبتر فيضرب قبري بحافره، فإذا رأيتم ذلك فانبشوا عني فإني سأخبركم بجميع ما هو كائن. فلما مات ودفنوه رأوا ما قال، فأرادوا نبشه، فكره ذلك بعضهم قالوا: نخاف إن نبشناه أن تسبنا العرب بأنا نبشنا ميتاً لنا. فتركوه.
فقيل إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال فيه: ذلك نبي ضيعه قومه، وأتت ابنته النبي، صلى الله عليه وسلم، فآمنت به.
كذا قيل إنه آخر الحوادث أقام ملوك الطوائف، ولا وجه له، فإن من أدركت ابنته النبي، صلى الله عليه وسلم، يكون بعد اجتماع الملك لأردشير بن بابك بدهر طويل.

ونرجع إلى أخبار ملوك الفرس لسياق التاريخ، ونقدم قبل ذكرهم عدد الملوك الأشغانية من ملوك الطوائف وطبقات ملوك الفرس، إن شاء الله تعالى.
ذكر طبقات ملوك الفرس

الطبقة الأولى الفيشداذية
ملوك الأرض بعد جيومرث أوشهنج؛ وملك فيشداذ أربعين سنة، ومعنى فيشداذ أول حاكم. ملك بعده طهمورث بن يوجهان ثلاثية سنة. ثم ملك أخوه جمشيد سبعمائة وست عشرة سنة. ثم ملك بيوراسف بن أرونداسف ألف سنة. ثم ملك أفريدون بن أثفيان خمسمائة سنة. ثم ملك منوجهر مائة وعشرين سنة. ثم ملك أفراسياب التركي اثنتي عشرة سنة. ثم ملك زوبن تهماسف ثلاث سنين. ثم ملك كرشاسب تسع سنين.
الطبقة الثانية الكيانيةثم ملك كيقباذ مائة وستاً وعشرين سنة. ثم ملك كيكاووس مائة وخمسين سنة. ثم ملك كيخسرو ثمانين سنة. ثم ملك كي لهراسب مائة وعشرين سنة. ثم ملك كي بشتاسب مائة وعشرين سنة. ثم ملك كي بهمن مائة واثنتي عشرة سنة. ثم ملك خمانى جهرازاد ثلاثين سنة. ثم ملك أخوها دارا بن بهمن اثنتي عشرة سنة. ثم ملك ابنه دارا بن دارا أربع عشرة سنة، وهو الذي أخذ الإسكندر الملك منه. وكان ملك الإسكندر بعده أربع عشرة سنة.
الطبقة الثالثة الأشغانيةوهم الذين استولوا على العراق والجبال، وكان سائر ملوك الطوائف يعظمونهم. فأول ملوك الأشغانيين أقام ملوك الطوائف أشك، ملك اثنتين وخمسين سنة. ثم ملك ابنه شابور بن أشك أربعاً وعشرين سنة. ثم ملك ابنه جوذرز بن شابور، وهو الذي غزا بني إسرائيل بعد قتل يحيى بن زكرياء، خمسين سنة. ثم ملك ابنه أخيه وبحن بن بلاش إحدى وعشرين سنة. ثم ملك جوذرز بن وبحن تسع عشرة سنة. ثم ملك أخوه نرسي ثلاثين سنة. ثم ملك عمه هرمزان بن بلاش بن شابور تسع عشرة سنة. ثم ملك ابنه فيروز بن هرمزان اثنتي عشرة سنة. ثم ملك ابنه خسرو أربعين سنة. ثم ملك أخوه بلاش بن فيروز أربعاً وعشرين سنة. ثم ملك ابنه أردوان بن بلاش خمساً وخمسين سنة. وقد ذكر بعضهم أنه ملك بعد هرمزان بن بلاش أردوان الأكبر اثنتي عشرة سنة.
وقيل في عدد ملوك الطوائف غير ذلك، والفرس تعترف باضطراب التاريخ عليهم في أيام ملوك الطوائف وملك بيوراسف وملك أفراسياب التركي لأنهم زال الملك عنهم ولم يمكن ضبطه.
الطبقة الرابعة الساسانيةفأولهم أردشير بن بابك.
ذكر أخبار أردشير بن بابك وملوك الفرسقيل: لما مضى من لدن ملك الإسكندر أرض بابل، في قول النصرى وأهل الكتب الأول، خمسمائة سنة وثلاث وعشرون سنة، وفي قول المجوس: مائتان وست وستون، وثب أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر بن بابك بن ساسان بن بابك بن مهرمس بن ساسان بن بهمن الملك ابن إسفنديار بن بشتاسب، وقيل في نسبته غير ذلك، يريد الأخذ بثأر الملك دارا بن دارا ورد الملك إلى أهله وإلى ما لم يزل عليه أيام سلفه الذين مضوا قبل ملوك الطوائف وجمعه لرئيس واحد.

وذكر أن ولده كان بقرية من قرى إصطخر يقال لها طيزودة من رستاق إصطخر، وكان جده ساسان شجاعاً مغرىً بالصيد، وتزوج امرأة من نسل ملوك فارس يعرفون بالبادرنجبين، وكان قيما على بيت نار بإصطخر يقال له بيت نار هيد، فولدت له بابك، فلما كبر قام بأمر الناس بعد أبيه، ثم ولد له ابنه أردشير، وكان ملك إصطخر يومئذ رجل من البادرنجيين يقال له جوزهر، وكان له خصي اسمه تيري قد صيره ارجيداً بدارابجرد. فلما أتى لأردشير سبع سنين قدمه أبوه إلى جوزهر وسأله أن يضمه إلى تيرى ليكون ربيباً له وارجيداً بعده في موضعه، فأجابه وأرسله إلى تيري، فقبله وتبناه. فلما هلك تيري تقلد أردشير الأمر وحسن قيماه به، وأعلمه قوم من المنجمين صلاح مولده وأنه يملك البلاد، فازداد في الخير، ورأى في منامه ملكاً جلس عند رأسه فقال له: إن الله يملكك البلاد؛ فقويت نفسه قوةً لم يعهدها؛ وكان أول ما فعل أنه سار إلى موضع من دارابجرد يسمى خوبابان فقتل ملكها، واسمه فاسين، ثم سار إلى موضع يقال له كوسن فقتل ملكها، واسمه منوجهر، ثم إلى موضع يقال له لزويز فقتل ملكها، واسمها دارا، وجعل في هذه المواضع قوماً من قبله، وكتب إلى أبيه بما كان منه، وأمره بالوثوب يجوزهر، وهو بالبيضاء، ففعل ذلك وقتل جوزهر وأخذ تاجه، وكتب إلى أردوان ملك الجبال وما يتصل بها يتضرع إليه ويسأله في تتويج ابنه سابور بتاج جوزهر، فمنعه من ذلك وهدده، فلم يحفل بابك بذلك وهلك في ثلاثة أيام، فتوج سابور بن بابك بالتاج وملك مكان أبيه، وكتب إلى أردشير يستدعيه، فامتنع، فغضب سابور وجمع جموعاً وسار بهم نحوه ليحاربه،وخرج من إصطخر وبها عدة من أصحابه وإخوانه وأقاربه وفيهم من هو أكبر سناً منه، فأخذوا التاج والسرير وسلموهما إلى أردشير، فتتوج وافتتح أمره بجد وقوة وجعل له وزيراً ورتب موبذان موبذ، وأحس من إخوته وقوم كانوا معه بالفتك به، فقتل جماعةً منهم، وعصى عليه أهل دارابجرد فعاد إليه فافتتحها وقتل جماعةً من أهلها، ثم سار إلى كرمان وبها ملك يقال له بلاش فاقتتلا قتالاً شديداً، وقاتل أردشير بنفسه وأسر بلاش، فاستولى على المدينة وجعل فيها ابناً له اسمه أردشير أيضاً.
وكان في سواحل بحر فارس ملك اسمه أسيون يعظم فسار إليه أردشير فقتله وقتل من معه واستخرج له أموالاً عظيمة.
وكتب إلى جماعة من الملوك، منهم: مهرك صاحب ابرساس من أردشير خره، يدعوهم إلى الطاعة، فلم يفعلوا، فسار إليهم فقتل مهرك ثم سار إلى جور فأسسها وبنى الجوسق المعروف بالطربال وبيت نار هناك.
فبينا هو كذلك إذ ورد عليه رسول أردوان بكتاب، فجمع الناس فقرأه عليهم، فإذا فيه: إنك عدوت قدرك واجتلبت حتفك أيها الكردي ! من أذن لك في التاج والبلاد ؟ ومن أمرك ببناء المدينة ؟ وأعلمه أنه قد وجه إليه ملك الأهواز ليأتيه به في وثاق.
فكتب إليه: إن الله حباني بالتاج وملكني البلاد، وأنا أرجو أن يمكنني منك فأبعث برأسك إلى بيت النار الذي أسسته.
وسار أردشير نحو إصطخر وخلف وزيره أبرسام بأردشير خره، فلم يلبث إلا قليلاً حتى ورد عليه كتاب أبرسام بموافاة ملك الأهواز وعوده منكوباً، ثم سار إلى أصبهان فملكها وقتل ملكها، وعاد إلى فارس وتوجه إلى محاربة نيروفر صاحب الأهواز، وسار إلى أرجان وإلى ميسان وطاسار، ثم إلى سرق، فوقف على شاطئ دجيل فظفر بالمدينة وابتنى مدينة سوق الأهواز وعاد إلى فارس بالغنائم، ثم عاد من فارس إلى الأهواز على طريق خرة وكازرون، وقتل ملك ميسان وبنى هناك كرخ ميسان وعاد إلى فارس.
فأرسل إلى أردوان يؤذنه بالحرب ويقول له ليعين موضعاً للقتال. فكتب إليه أردوان: إني أوافيك في صحراء هرمزجان لانسلاخ مهرماه. فوافاه أردشير قبل الوقت وخندق على نفسه واحتوى على الماء، ووافاه أردوان وملك الأرمانيين، وكانا يتحاربان على الملك فاصطلحا على أردشير وحارباه، وهما متساندان يقاتله هذا يوماً وهذا يوماً، فإذا كان يوم بابا ملك الأرمانيين لم يقم له أردشير، وإذا كان يوم أردوان لم يقم لأردشير، فصالح أردشير بابا ملك الأرمانيين على أن يكف ويفرغ أردشير لأردوان، فلم يلبث أن قتله واستولى على ما كان له، وأطاعه بابا وسمي أردشير: شاهنشاه.

ثم سار إلى همذان فافتتحها، وإلى الجبل وأذربيجان وأرمينية والموصل ففتحها عنوةً، وسار إلى السواد من الموصل فملكه وبنى على شاطئ دجلة قبالة طيسفون، وهي المدينة التي في شرق المدائن مدينة غربية، وسماها به أردشير، وعاد من السواد إلى إصطخر، وسار منها إلى سجستان، ثم إلى جرجان، ثم إلى نيسابور ومرو وبرخ وخوارزم، وعاد إلى فارس ونزل جور. فجاءه رسل ملك كوسان وملك طوران وملك مركان بالطاعة.
ثم سار من جور إلى البحرين، فاضطر ملكها إلى أن رمى نفسه من حصنه فهلك. وعاد إلى المدائن فتوج ابنه سابور بتاجه في حياته وبنى ثماني مدن، منها: مدينة الخط بالبحرين، ومدينة بهرسير مقابل المدائن. وكان اسمه به أردشير فعربت به سير، وأردشير خره، هي مدينة فيروزاباذ، سماها عضد الدولة بن بويه كذلك، وبنى بكرمان مدينة أردشير أيضاً فعربت بردشير، وبنى بهمن أردشير على دجلة عند البصرة، والبصريون يسمونها بهمن شير، وفرات ميسان أيضاً، وبنى رامهرمز بخوزستان، وبنى سوق الأهواز، وبالموصل بودر أردشير، وهي حزة.
ولم يزل محمود السيرة مظفراً منصوراً لا ترد له راية، ومدن المدن، وكور الكور، ورتب المراتب وعمر البلاد.
وكان ملكه من قتله أردوان إلى أن هلك أربع عشرة سنة، وقيل: أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، ولما استولى أردشير على العراق كره كثير من تنوخ المقام في مملكته فخرج من كان منهم من قضاعة إلى الشام، ودان له أهل الحيرة والأنبار، وقد كانت الحيرة والأنبار بنيتا زمن بخت نصر، فخربت الحيرة لتحول أهلها إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة إلى أن عمرت الحيرة زمن عمرو بن عدي، فعمرت خمسمائة وبضعاً وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة ونزلها أهل الإسلام.
ذكر ملك سابور بن أردشير بن بابكولما هلك أردشير بن بابك قام بالملك بعده ابنه سابور، وكان أردشير قد أسرف في قتل الأشكانية حتى أفناهم بسبب ألية آلاها جده ساسان بن أردشير بن بهمن، فإنه أقسم أنه إن ملك يوماً من الدهر لم يستبق من نسل أشك بن جزه أحداً، وأوجب ذلك على عقبه، فكان أول من ملك من عقبه أردشير، فقتلهم جميعاً نساءهم ورجالهم، غير أن جارية وجدها في دار المملكة فأعجبته، وكانت ابنة للملك المقتول، فسألها عن نسبها، فذكرت أنها خادم لبعض نساء الملك. فسألها أبكر أم ثيب، فأخبرته أنها بكر، فاتخذها لنفسه وواقعها، فعلقت منه، فلما أمنت منه بحبلها أخبرته أنها من ولد أشك، فنفر منها ودعا هرجد بن اسام، وكان شيخاً مسناً، فأخبره الخبر، وقال له ليقتلها ليبر قسم جده. فأخذها الشيخ ليقتلها، فأخبرته أنها حبلى، فأتى بالقوابل فشهدن بحبلها، فأودعها سرباً في الأرض ثم قطع مذاكيره ووضعها في حق وختم عليه، وحضر عند الملك فقال: ما فعلت ؟ فقال: استودعتها بطن الأرض، ودفع الحقف إليه، وسأله أن يختمه بخاتمه ويودعه بعض خزائنه، ففعل.
ثم وضعت الجارية غلاماً، فكره الشيخ أن يسمى ابن الملك دونه، وخاف يعلمه به وهو صغير، فأخذ له الطالع وسماه شابور، ومعناه: ابن الملك، فيكون اسماً وصفة، وهو أول من سمي بهذا الاسم.
وبقي أردشير لا يولد له، فدخل عليه الشيخ الذي عنده الصبي يوماً فوجده محزوناً، فقال له: ما يحزن الملك ؟ فقال: ضربت بسيفي ما بين المشرق والمغرب حتى ظفرت وصفا لي ملك آبائي ثم أهلك وليس لي عقب فيه. فقال له الشيخ: سرك الله أيها الملك وعمرك ! لك عندي ولد طيب نفيس، فادع لي بالحق الذي استودعتك أرك برهان ذلك. فدعا أردشير بالحق وفتحه، فوجد فيه مذاكير الشيخ وكتاباً فيه: لما أخبرتني ابنة أشك التي علقت من ملك الملوك حين أمر بقتلها لم أستحل إتلاف زرع الملك الطيب فأودعتها بطن الأرض كما أمر وتبرأنا إليه من أنفسنا لئلا يجد عاضهٌ إلى عضهها سبيلاً.
فأمره أردشير أن يجعل مع سابور مائة غلام، وقيل: ألف غلام من أشباهه في الهيئة والقامة، ثم يدخلهم عليه جميعاً لا يفرق بينهم زي، ففعل الشيخ. فلما نظر إليهم أردشير قبلت نفسه ابنه من بينهم، ثم أعطوا صوالجة وكرة، فلعبوا بالكرة وهو في الإيوان، فدخلت الكرة الإيوان، فهاب الغلمان أن يدخلوه، وأقدم سابور من بينهم ودخل، فاستدل بإقدامه مع ما كان من قبوله له حين رآه أنه ابنه، فقال له أردشير: ما اسمك ؟ قال: شاه بور.

فلما ثبت عنده أنه ابنه شهر أمره وعقد له التاج من بعده، وكان عاقلاً بليغاً فاضلاً، فلما ملك ووضع التاج على رأسه فرق الأموال على الناس من قرب ومن بعد، وأحسن إليهم، فبان فضل سيرته وفاق جميع الملوك، وبنى مدينة نيسابور، ومدينة سابور بفارس، وبنى فيروز سابور، وهي الأنبار، وبنى جنديسابور.
وقيل: إنه حاصر الروم بنصيبين وفيها جمع من الروم مدة ثم أتاه من ناحية خراسان من احتاج إلى مشاهدته، فسار إليها وأحكم أمرها، ثم عاد إلى نصيبين، فزعموا أن سورها تصدع وانفرجت منه فرجة دخل منها وقتل وسبى وغنم وتجاوزها إلى بلاد الشام فافتتح من مدائنها مدناً كثيرة، منها فالوقية وقدوقية، وحاصر ملكاً للروم بإنطاكية فأسره وحمله وجماعةً كثيرة معه فأسكنهم مدينة جنديسابور.
ذكر خبر مدينة الحضركانت بجبال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر، وكان بها ملك يقال له الساطرون، وكان من الجرامقة، والعرب تسميه الضيزن، وهو من قضاعة، وكان قد ملك الجزيرة وكثر جنده، وإنه تطرق بعض السواد إذ كان سابور بخراسان، فلما عاد سابور أخبر بما كان منه، فسار إليه وحاصره أربع سنين، وقيل: سنتين، لا يقدر على هدم حصنه ولا الوصول إليه.
وكان للضيزن بنت تسمى النضيرة، فحاضت، فأخرجت إلى ربض المدينة، وكذلك كان يفعل بالنساء، وكانت من أجمل النساء، وكان سابور من أجمل النساء، فرأى كل واحد منهما صاحبه فتعاشقا، فأرسلت إليه: ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به سور المدينة ؟ فقال: أحكمك وأرفعك على نسائي. فقالت: عليك بحمامة ورقاء مطوقة فاكتب على رجلها بحيض جارية بكر زرقاء ثم أرسلها فإنها تقع على سور المدينة فيخرب، وكان ذلك طلسم ذلك البلد. ففعل وتداعت المدينة، فدخلها عنوةً وقتل الضيزن وأصحابه، فلم يبق منهم أحد يعرف اليوم، وأخرب المدينة واحتمل النضيرة فأعرس بها بعين التمر فلم تزل ليلتها تتضور، فالتمس ما يؤذيها فإذا ورقة آس ملتزقة بعكنة من عكن بطنها، فقال لها: ما كان يغذوك به أبوك ؟ قالت: بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر. فقال: وأبيك لأنا أحدث عهداً بك وآثر لك من أبيك ! فأمر رجلاً فرساً جموحاً ثم عصب غدائرها بذنبه ثم استركضها فقطعها قطعاً، وقد أكثر الشعراء ذكر الضيزن في أشعارهم.
وفي أيام سابور ظهر ماني الزنديق وادعى النبوة، وتبعه خلقٌ كثير، وهم الذين يسمون المانوية.
وكان ملكه ثلاثين سنة وخمسة عشر يوماًن وقيل: إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر وتسعة أيام.
ذكر ملك ابنه هرمز بن سابور بن أردشير بن بابكوكان يشبه في خلقه بأردشير غير لاحق به في تدبيره، وكان في البطش والجرأة على أمر عظيم، وكانت أمه من بنات مهرك الملك الذي قتله أردشير وتتبع نسله فقتلهم، لأن المنجمين أخبروه أنه يكون من نسله من يملك، فهربت أمه إلى البادية وأقامت عند بعض الرعاء، وخرج سابور متصيداً، فاشتد به العطش وارتفعت له الأخبية التي فيها أمر هرمز، فقصدها وطلب الماء، فناولته المرأة، فرأى منها جمالاً فائقاً، فلم يلبث أن حضر الرعاء فسألهم سابور عنها، فقال بعضهم: إنها ابنته، فتزوجها وسار بها إلى منزله، وكسيت ونظفت، فأرادها فامتنعت عليه مدة، فلما طال عليه سألها عن سبب ذلك فأخبرته أنها ابنة مهرك وأنها تفعل ذلك إبقاء عليه من أردشير، فعاهدها على ستر أمرها، ووطئها فولدت له هرمز، فستر أمره حتى صار له سنون.
فركب أردشير يوماً إلى منزل ابنه سابور لشيء أراد ذكره له، فدخل منزله مفاجأة، فلما استقر خرج هرمز وبيده صولجان وهو يصيح في أثر الكرة، فلما رآه أردشير أنكره ووقف على المشابه التي فيه من حسن الوجه وعبالة الخلق وأمور غيرها، فاستدناه أردشير وسأل عنه سابور، فخرج مفكراً على سبيل الإقرار بالخطاء، وأخبر أباه أردشير الخبر، فسر، وأخبره أنه قد تحقق الذي ذكره المنجمون في ولد مهرك، وأن ذلك قد سلى ما كان في نفسه وأذهبه.

فلما ملك سابور ولى هرمز خراسان وسيره إليها، فقهر الأعداء واستقل بالأمر، فوشى به الوشاة إلى سابور أنه على عزم أن يأخذ الملك منه، وسمع هرمز بذلك فقيل إنه قطع يده وأرسلها إلى أبيه، فكتب إليه بما بلغه وأنه فعل ذلك إزالة للتهمة لأن رسمهم أنهم كانوا لا يملكون ذا عاهة، فلما وصلت يده إلى سابور تقطع أسفاً وأرسل إلى هرمز يعلمه ما ناله لذلك وعقد له على الملك وملكه، ولما ملك عدل في رعيته، وكان صادقاً، وسلك سبيل آبائه وكور كورة رامهرمز. وكان ملكه سنة وعشرة أيام.
ذكر ملك ابنه بهرام بن هرمز بن سابوروكان حليماً متأنياً حسن السيرة، وقتل ماني الزنديق وسلخه وحشا جلده تبناً وعلق على باب من أبواب جنديسابور يسمى باب ماني.
وكان ملكه ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. وكان عامل سابور بن أردشير وابنه هرمز وبهرام بن هرمز - بعد ملك عمرو بن عدي على ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة يومئذٍ - ابن لعمرو بن عدي، يقال له امرؤ القيس البدء، وهو أول من تنصر من آل نصر بن ربيعة وعمال الفرس، وعاش مملكاً فيعمله مائة سنة وأربع عشرة سنة، منها في زمن سابور بن أردشير ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً، وفي زمن هرمز بن سابور سنة وعشرة أيام، وفي زمن بهرام ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وفي زمن بهرام بن بهرام بن هرمز ثماني عشرة سنة.
ذكر ملك ابنه بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشيروكان ملكه حسناً، وكان عالماً بالأمور، فلما عقد له التاج وعدهم بحسن السية، واختلف في سني ملكه، فقيل ثماني عشرة سنة، وقيل سبع عشرة سنة، والله أعلم.
ذكر ملك ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابورفلما عقد التاج على رأسه دعا له العظماء فأحسن الرد، وكان قبل أن يفضي إليه الأمر مملكاً على سجستان. وكان ملكه أربع سنين.
ذكر ملك نرسي بن بهراموهو أخو بهرام الثالث، فلما عقد التاج على رأسه دخل عليه الأشراف والعظماء فدعوا له، فوعدهم خيراً وسار فيهم بأعدل السيرة، وقال: لن نضيع شكر ما أنعم الله به علينا. وكان ملكه تسع سنين.
ذكر ملك هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمزوكان الناس قد وجلوا منه لفظاظته، فأعلمهم أنه قد علم بما كانوا يخافون من شدة ولايته، وأن الله قد أبدل ما كان فيه من الفظاظة رقةً ورأفةً، وساسهم أرفق سياسة، وكان حريصاً على انتعاش الضعفاء وعمارة البلاد والعدل، ثم هلك ولا ولد له، فشق ذلك على الناس، فسألوا عن نسائه، فذكر لهم أن بعضهن حبلى، وقيل: عن هرمز كان أوصى بالملك لذلك الحمل.
وولدت المرأة سابور ذا الأكتاف.
وكان ملك هرمز ست سنين وخمسة أشهر، وقيل سبع سنين وخمسة أشهر.
وأسماء الملوك من سابور بن أردشير إلى هنا لم يحذف منها شيء.
ذكر ملك ابنه سابور ذي الأكتافوهو سابور بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ابن بابك، قيل: ملك بوصية أبيه له، فاستبشر الناس بولادته وبثوا خبره في الآفاق، وتقلدوا الوزراء والكتاب ما كانوا يعملونه في ملك أبيه.
وسمع الملوك أن ملك الفرس صغير في المهد، فطمعت في مملكتهم الترك والعرب والروم، وكانت العرب أقرب إلى بلاد فارس، فسار جمعٌ منهم في البحر من عبد القيس والبحرين إلى بلاد فارس وسواحل أردشير خره وغلبوا أهلها على مواشيهم ومعايشهم وأكثروا الفساد، وغلبت إياد على سواد العراق وأكثروا الفساد فيهم، فمكثوا حيناً لا يغزوهم أحد من الفرس لصغر ملكهم.

فلما ترعرع سابور وكبر كان أول ما عرف من حسن فهمه أنه سمع في البحر ضوضاء وأصواتاً فسأل عن ذلك فقيل: إن الناس يزدحمون في الجسر الذي على دجلة مقبلين ومدبرين، فأمر بعمل جسر آخر يكون أحدهما للمقبلين والآخمر للمدبرين، فاستبشر الناس بذلك. فلما بلغ ست عشرة سنة وقوي على حمل السلاح جمع رؤساء أصحابه فذكر لهم ما اختل من أمرهم وأنه يريد الذب عنهم ويشخص إلى بعض الأعداء. فدعا له الناس وسألوه أن يقيم بموضعه ويوجه القواد والجنود ليكفوه ما يريد، فأبى واختار من عسكره ألف رجل، فسألوه الازدياد، فلم يفعل، وسار بهم ونهاه عن الإبقاء على أحد من العرب، وقصد بلاد فارس فأوقع بالعرب وهم غارون فقتل وأسر وأكثر. ثم قطع البحر إلى الخط فقتل من بالبحرين لم يلتفت إلى غنيمة، وسار إلى هجر وبها ناس من تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فقتل منهم حتى سالت دماؤهم على الأرض، وأباد عبد القيس، وقصد اليمامة وأكثر في أهلها القتل، وغور مياه العرب، وقصد بكراً وتغلب فيما بين مناظر الشام والعراق فقتل وسبى وغور مياههم وسار إلى قرب المدينة ففعل كذلك، وكان ينزع أكتاف رؤسائهم ويقتلهم إلى أن هلك فسموه سابور ذا الأكتاف لهذا، وانتقلت إياد حينئذٍ إلى الجزيرة وصارت تغير على السواد، فجهز سابور إليهم الجيوش، وكان لقيط الإيادي معهم، فكتب إلى إياد:
؟سلامٌ في الصحيفة من لقيطٍ ... إلى من بالجزيرة من إياد
بأنّ اللّيث كسرى قد أتاكم ... فلا يشغلكم سوق النّقاد
أتاكم منهم سبعون ألفاً ... يزجّون لكتائب كالجراد
فلم يقبلوا منه وداموا على الغارة، فكتب إليهم أيضاً:
أبلغ إياداً وطوّل في سراتهم ... أنّي أرى الرّأي إن لم أعص قد نصعا
وهي قصيدة مشهورة من أجود ما قيل في صفة الحرب. فلم يحذروا، وأوقع بهم سابور وأبادهم قتلاً إلا من لحق بأرض الروم. فهذا فعله بالعرب.
وأما الروم فإن سابور كان هادن ملكهم، وهو قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم، ونحن نذكر سبب تنصره عند الفراغ من ذكر سابور إن شاء الله. ومات قسطنطين وفرق ملكه بين ثلاثة بنين كانوا له، فملكوا، وملكت الروم عليهم رجلاً من أهل بيت قسطنطين يقال له اليانوس، وكان على ملة الروم الأولى ويكتم ذلك، فلما ملك أظهر دينه وأعاد ملة الروم وأخرب البيع وقتل الأساقفة ثم جمع جموعاً من الروم والخزر وسار نحو سابور. واجتمعت العرب للانتقام من سابور، فاجتمع في عسكر اليانوس منهم خلق كثير. وعادت عيون سابور إليه فاختلفوا في الأخبار، فسار سابور بنفسه مع جماعة من ثقاته نحو الروم، فلما قرب من يوسانوس، وهو على مقدمة اليانوس، اختفى وأرسل بعض من معه إلى الروم، فأخذوا، وأقر بعضهم على سابور، فأرسل يوسانوس إليه سراً ينذره فارتحل سابور إلى عسكره وتحارب هو والعرب والروم، فانهزم عسكره وقتل منهم مقتلة عظيمة، وملكت الروم مدينة طيسفون، وهي المدائن الشرقية، وملكوا أيضاً أموال سابور وخزائنه.
وكتب سابور إلى جنوده وقواده يعلمهم ما لقي من الروم والعرب ويستحثهم على المسير إليه، فاجتمعوا إليه، وعاد واستنقذ مدينة طيسفون، ونزل اليانوس مدينة بهرسير، واختلف الرسل بينهما، فبينما اليانوس جالس أصابه سهم لا يعرف راميه فقتله، فسقط في أيدي الروم، ويئسوا من الخلاص من بلاد الفرس، فطلبوا من يوسانوس أن يملك عليهم، فلم يفعل وأبى إلا أن يعودوا إلى النصرانية، فأخبروه أنهم على ملته، وإنما كتموا ذلك خوفاً من اليانوس. فملك عليهم، وأرسل سابور إلى الروم يتهددهم ويطلب الذي ملك عليهم ليجتمع به. فسار إليه يوسانوس في ثمانين رجلاً، فتلقاه سابور وتساجدا وطعما، وقوى سابور أمر يوسانوس بجهده وقال للروم: إنكم أخربتم بلادنا وأفسدتم فيها، فإما أن تعطونا قيما ما أهلكتم وإما أن تعوضونا نصيبين، وكانت قديماً للفرس، فغلبت الروم عليها، فدفعوها إليهم، وتحول أهلها عنها، فحول إليها سابور اثني عشر ألف بيت من أهل إصطخر وأصبهان وغيرهما، وعادت الروم إلى بلادهم، وهلك ملكهم بعد ذلك بيسير.

وقيل: إن سابور سار إلى حد الروم وأعلم أصحابه أنه على قصد الروم مختفياً لمعرفة أحوالهم وأخبار مدنهم، وسار إليهم، فجال فيهم حيناً، وبلغه أن قيصر أولم وجمع الناس فحضر بزي سائل لينظر إلى قيصر على الطعام، ففطن به وأخذ وأدرج في جلد ثور، وسار قيصر بجنوده إلى أرض فارس ومعه سابور على تلك الحال، فقتل وأخرب حتى بلغ جند يسابور، فتحصن أهلها وحاصرها، فبينما هو يحاصرها إذ غفل الموكلون بحراسة سابور، وكان بقربه قوم من سبي الأهواز، فأمرهم أن يلقوا على القد الذي عليه زيتاً كان بقربهم، ففعلوا، ولان الجلد وانسل منه وسار إلى المدينة وأخبر حراسها فأدخلوه، فارتفعت أصوات أهلها، فاستيقظ الروم، وجمع سابور من بها وعباهم وخرج إلى الروم سحر لتك الليلة فقتلهم وأسر قيصر وغنم أمواله ونساءه واثقله بالحديد وأمره بعمارة ما أخرب وألزمه بنقل التراب من بلد الروم ليبني به ما هدم المنجنيق من جنديسابور وأن يغرس الزيتون مكان النخل، ثم قطع عقبه وبعث به إلى الروم على حمار وقال: هذا جزاؤك يبغيك علينا؛ فأقام مدة ثم غزا فقتل وسبى سبايا أسكنهم مدينة بناها بناحية السو سماها إيران شهر سابور، وبنى مدينة نيسابور بخراسان في قول، وبالعراق بزرج سابور.
وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة. وهلك في أيامه امرؤ القيس بن عمرو ابن عدي عامله على العرب، فاستعمل ابنه عمرو بن امرئ القيس، فبقي في عمله بقية ملك سابور وجميع أيام أخيه أردشير بن هرمز وبعض أيام سابور بن سابور.
وكانت ولايته ثلاثين سنة.
سبب تنصر قسطنطينوأما سبب تنصر قسطنطين فإنه كان قد كبر سنه وساء خلقه وظهر به وضح كبير، فأرادت الروم خلعه وترك ماله عليه، فشاور نصحاءه، فقالوا له: لا طاقة لك بهم فقد أجمعوا على خلعك وإنما تحتال عليهم بالدين. وكانت النصرانية قد ظهرت، وهي خفية، وقالوا له: استمهلهم حتى تزور البيت المقدس، فإذا زرته دخلت في دين النصرانية وحملت الناس عليه، فإنهم يعترفون، فتقاتل من عصاك بمن أطاعك، وما قاتل قوم على دين إلا نصروا. ففعل ذلك، فأطاعه عالم عظيم وخالفه خلق كثير وأقاموا على دين اليونانية، فقاتلهم وظفر بهم، فقتلهم فأحرق كتبهم وحكمتهم وبنى القسطنطينية ونقل الناس إليها، وكانت رومية دار ملكهم، وبقي ملكه عليه، وغلب على الشام، وكان الأكاسرة قبل سابور ذي الأكتاف ينزلون طيسفون، وهي المدينة الغربية من المدائن، فلما نشأ سابور بنى الإيوان بالمدائن الشرقية وانتقل إيه وصار هو دار الملك، وهو باقٍ إلى الآن، ونحن في سنة خمس وعشرين وستمائة.
ذكر ملك أردشير بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن سابور بن أردشير بن بابك أخي سابور
فلما ملك واستقر له الملك عطف على العظماء وذوي الرئاسة فقتل منهم خلقاً كثيراً، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه.
ذكر ملك سابور بن سابور ذي الأكتاففلما ملك بعد خلع عمه استبشر الناس بعود ملك أبيه إليه، وكتب إلى العمال بالعدل والرفق بالرعية وأمر بذلك وزراءه وحاشيته، وأطاعه عمه المخلوع وأحبته رعيته، ثم إن العظماء وأهل الشرف قطعوا أطناب خيمة كان فيها فسقطت عليه فقتلته.
وكان ملكه خمس سنين.
ذكر ملك أخيه بهرام بن سابور ذي الأكتافوكان يلقب كرمان شاه، لأن أباه ملكه كرمان في حياته، فكتب إلى القواد كتاباً يحثهم على الطاعة، وكان محموداً في أموره، وبنى بكرمان مدينة. وثار به ناس من الفتاك فقتله أحدهم بنشابة.
وكان ملكه إحدى عشرة سنة.
ذكر ملك يزدجرد الأثيم بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف

ومن أهل العلم من يقول إن يزدجرد هذا هو أخو بهرام كرمان شاه بن سابور لا ابنه، وكان فظاً غليظاً ذا عيوب كثيرة يضع الشيء في غير مواضعه، كثير الرؤية في الصغائر، واستعمال كل ما عنده في المواربة والدهاء والمخاتلة مع فطنة بجهات الشر وعجب به، وكان غلقاً سيئ الخلق لا يغفر الصغيرة من الزلات ولا يقبل شفاعة أحد من الناس وإن كان قريباً منه، كثير التهمة، ولا يأتمن أحداً على شيء، ولم يكن يكافئ أحداً على حسن البلاء وإن هو أولى الخسيس من العرف استعظمه، وإذا بلغه أن أحداً من أصحابه صافى أحداً من أهل صناعته نحاه عن خدمته. وكان فيه مع ذلك ذكاء ذهن وحسن أدب، وقد مهر في صنوف من العلم، واستوزر نرسي حكيم زمانه، وكان فاضلاً قد كمل أدبه ولقبه هزار بيده، فأمل الناس أن يصلح نرسي منه، فكان ما أملوه بعيداً.
فلما استوى له الملك واشتدت شوكته هابته الأشراف والعظماء، وحمل على الضعفاء فأكثر من سفك الدماء.
فلما ابتليت الرعية به شكوا ما نزل بهم منه إلى الله تعالى وسألوه تعجيل إنقاذهم منه، فزعموا أنه كان بجرجان فرأى ذات يوم في صره فرساً عائراً لم ير مثله، فأخبر به، فأمر أن يسرج ويلجم ويدخل عليه، فلم يقدر أحد على ذلك، فأعلم بذلك، فخرج إليه بنفسه وألجمه بيده وأسرجه، فلما رفع ذنبه ليثفره رمحه على فؤاده رمحة هلك منها مكانه وملأ الفرس فروجه جرياً ولم يعلم له خبر، وكان ذلك من صنع الله ورأفته بهم.
وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة عشر يوماً.
وأما العرب فقيل إنه لما هلك عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو ابن عدي في عهد سابور استخلف سابور على عمله أوس بن قلام، وهو من العماليق، فملك خمس سنين وقتل في عهد بهرام بن سابور، ساستخلف بعده في عمله امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس البدء، فبقي خمساً وعشرين سنة، وهلك أيام يزدجرد الأثيم، فاستخلف بعده في عمله ابنه النعمان وأمه شقيقة ابنة أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو صاحب الخورنق. وسبب بنائه له أن يزدجرد الأثيم كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل مريء صحيح، فدل على ظاهرة الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا وأمره ببناء الخورنق مسكناً له وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب، وكان الذي بنى الخورنق رجلاً اسمه سنمار. فلما فرغ من بنائه تعجبوا منه، فقال: لو علمت أنكم توفونني أجري لعملته يدور مع الشمس. فقال: وإنك لتقدر على ما هو أفضل منه ! ثم أمر به فألقي من رأس الخورنق فهلك، فضربت العرب بجزائه المثل، وهو مذكور في أشعارها.
وغزا النعمان هذا الشام مراراً وأكثر المصائب في أهلها وسبى وغنم وجعل معه ملك فارس كتيبتين يقال لإحداهما دوس وهي لتنوخ، وللأخرى الشهباء وهي لفارس، فكان يغزو بهما الشام ومن لم يطعه من العرب.
ثم إنه جلس يوماً في مجلسه من الخورنق فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والأنهار في يوم من أيام الربيع، فأعجبه ذلك، فقال لوزيره: هل رأيت مثل هذا المنظر قط ؟ قال: لا لو كان يدوم. قال: فما الذي يدوم ؟ قال: ما عند الله في الآخرة. قال: فبم ينال ذلك ؟ قال: بتركك الدنيا وعبادة الله. فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح وخرج هارباً لا يعلم به، فأصبح الناس فلم يروه.
وكان ملكه إلى أن تركه وساح تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر، من ذلك في أيام يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة.
وأما علماء الفرس فإنهم يقولون غير هذا، وسيرد ذكره.
ذكر ملك بهرام بن يزدجرد الأثيم

لما ولد يزدجرد بهرام جور اختار لحضانته العرب، فدعا بالمنذر بن النعمان واستحضنه بهرام وشرفه وكرمه وملكه على العرب، فسار به المنذر واختار لرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة وأذهان ذكية وآداب حسنة من بنات الأشراف، منهن عربيتان وعجمية، فأرضعنه ثلاث سنين. فلما بلغ خمس سنين أحضر له مؤدبين فعلموه الكتابة والرمي والفقه بطلب من بهرام بذلك، وأحضر حكيماً من حماء الفرس بتعلم ووعى كل ما علمه بأدنى تعليم. فلما بلغ اثنتي عشرة سنة تعلم كل ما أفيد وفاق معلميه، فأمرهم المنذر بالانصراف، وأحضر معلمي الفروسية فأخذ عنهم كل ما ينبغي له، ثم صرفهم. ثم أمر فأحضرت خيل العرب للسباق فسبقها فرس أشقر للمنذر، وأقبل باقي الخيل بداد بداد فقرب المنذر الفرس بيده إليه، فقبله وركبه يوماً للصيد، فبصر بعانة حمرٍ وحش، فرمى عليها وقصدها وإذا هو بأسد قد أخذ عيراً منها فتناول ظهره بفيه، فرماه بهرام بسهم فنفذ في الأسد والعير، ووصل إلى الأرض فساخ السهم إلى ثلثه، فرآه من معه فعجبوا منه، ثم أقبل على الصيد واللهو والتلذذ.
فمات أبوه وهو عند المنذر، فتعاهد العظماء وأهل الشرف على أن لا يملكوا أحداً من ذرية يزدجرد لسوء سيرته، فاجتمعت الكلمة على صرف الملك عن بهرام لنشوئه في العرب وتخلقه بأخلاقهم ولأنه من ولد يزدجرد، وملكوا رجلاً من عقب أردشير بن بابك يقال له كسرى. فانتهى هلاك يزدجرد وتمليك كسرى إلى بهرام، فدعا بالمنذر وابنه النعمان وناس من أشراف العرب وعرفهم إحسان والده إليهم وشدته على الفرس، وأخبرهم الخبر. فقال المنذر: لا يهولنك ذلك حتى ألطف الحيلة فيه، وجهز عشرة آلاف فارس ووجههم مع ابنه النعمان إلى طيسفون وبهرسير مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قرباً منهما ويرسل طلائعه إليهما وأن يقاتل من قاتله ويغير على البلاد، ففعل ذلك، وأرسل عظماء فارس حوابى صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر يعلمه أمر النعمان، فلما ورد حوابى قال له: الق الملك بهرام. فدخل عليه، فراعه ما رأى منه، فأغفل السجود دهشا، فعرف بهرام ذلك فكلمه ووعده أحسن الوعد ورده إلى المنذر وقال له: أجبه. فقال له: إ إن الملك بهرام أرسل النعمان إلى ناحيتكم حيث ملكه الله بعد أبيه. فلما سمع حوابى مقالة المنذر وتذكر ما رأى من بهرام علم أن جميع من تشاور في صرف الملك عن بهرام محجوج، فقال للمنذر: سر إلى مدينة الملوك فيجتمع إليك الأشراف والعظماء، وتشاوروا في ذلك فلن يخالفوا ما تشير به.
وسار المنذر بعد عود حوابي من عنده بيوم في ثلاثين ألفاً من فرسان العرب إلى مدينتي الملك بهرام، فجمع الناس، وصعد بهرام على منبر من ذهب مكلل بالجوهر وتكلم عظماء الفرس فذكروا فظاظة يزدجرد أبي بهرام وسوء سيرته وكثرة قتله وإخراب البلاد وأنهم لهذا السبب صرفوا الملك عن ولده.
فقال بهرام: لست أكذبكم وما زلت زارياً عليه ذلك ولم أزل أسأل الله أن يملكني لأصلح ما أفسد ومع هذا فإذا أتى على ملكي سنة ولم اف بما أعد تبرأت من الملك طائعاً وأنا راضٍ بأن تجعلوا التاج وزينة الملك بين أسدين ضاريين فمن تناولهما كان الملك له. فأجابوه إلى ذلك ووضعوا التاج والزينة بين أسدين، وحضر موبذان موبذ، فقال بهرام لكسرى: دونك التاج والزينة. فقال كسرى: أنت أولى لأنك تطلب الملك بوراثة وأنا فيه مغتصب. فحمل بهرام جرزاً وتوجه نحو التاج، فبدر إليه أحد الأسدين فوثب بهرام فعلاً ظهره وعصر جنبي الأسد بفخذيه وجعل يضرب رأسه بالجزر الذي معه، ثم وثب الأسد الآخر عليه، فقبض أذنيه بيده ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الآخر الذي تحته حتى دمغهما ثم قتلهما بالجزر الذي معه وتناول بعد ذلك التاج والزينة. فكان أول من أطاعه كسرى، وقال جميع من حضر: قد أذعنا لك ورضينا بك ملكاً، وإن العظماء والوزراء والأشراف سألوا المنذر ليكلم بهرام في العفو عنهم. فسأل المنذر الملك بهرام ذلك فأجابه.

وملك بهرام وهو ابن عشرين سنة وأمر أن يلزم رعيته راحة ودعة، وجلس للناس يعدهم بالخير ويأمرهم بتقوى الله، ولم يزل مدة ملكه يؤثر اللهو على ما سواه حتى طمع فيه من حوله من الملوك في بلاده، وكان أول من سبق إلى قصده خاقان ملك الترك، فإنه غزاه في مائتي ألف وخمسين ألفاً من الترك، فعظم ذلك على الفرس، ودخل العظماء على بهرام وحذروه، فتمادى في لهوه ثم تجز وسار إلى أذربيجان ليتنسك في بيت نارها، ويتصيد بأمنيته في سبعة رهط من العظماء وثلاثمائة من ذوي البأس والنجدة، واستخلف أخاه نرسي، فما شك الناس في أنه هرب من عدوه، فاتفق رأي جمهورهم على الانقياد إلى خاقان، وبذل الخراج له خوفاً على نفوسهم وبلادهم.
فبلغ ذلك خاقان فأمن ناحيتهم وسار بهرام من أذربيجان إلى خاقان في تلك العدة، فثبت للقتال وقتل خاقان بيده وقتل جنده وانهزم من سلم من القتل، وأمعن بهرام في طلبهم يقتل ويأسر ويغنم ويسبي، وعاد وجنده سالمين وظفر بتاج خاقان وإكليله وغلب على طرف من بلاده واستعمل عليها مرزباناً، وأتاه رسل الترك خاضعين مطيعين وجعلوا بينهم حداً لا يعدونه، وأرسل إلى ما وراء النهر قائداً من قواده فقتل وسبى وغنم، وعاد بهرام إلى العراق، وولى أخاه نرسي خراسان وأمره أن ينزل مدينة بلخ.
واتصل به أن بعض رؤساء الديلم جمع جمعاً كثيراً وأغار على الري وأعمالها فغنم وسبى وخرب البلاد وقد عجز أصحابه في الثغر عن دفعه، وقد قرروا عليهم إتاوة يدفعونها إليه، فعظم ذلك عليه وسير مرزباناً إلى الري في عسكر كثيف وأمره أن يضع على الديلمي من يطمعه في البلاد ويغريه بقصدها، ففعل ذلك، فجمع الديلمي جموعه وسار إلى الري، فأرسل المرزبان إلى بهرام جور يعلمه خبره، فكتب إليه يأمره بالمسير نحو الديلمي والمقام بموضع سماه له، ثم سار جريدة في نفر من خواصه فأدرك عسكره بذلك المكان والديلمي لا يعلم بوصوله، وهو قد قوي طمعه لذلك، فعبى بهرام أصحابه وسار نحو الديلم، فلقيهم وباشر القتال بنفسه، فأخذ رئيسهم أسيراً، وانهزم عسكره، فأمر بهرام بالنداء فيهم بالأمان لمن عاد إليه، فعاد الديلم جميعهم، فآمنهم ولم يقتل منهم أحداً وأحسن إليهم وعادوا إلى أحسن طاعة، وأبقى على رئيسهم وصار من خواصه.
وقيل: كانت هذه الحادثة قبل حرب الترك، والله أعلم.
ولما ظفر بالديلم أمر ببناء مدينة سماها فيروز بهرام، فبنيت له هي ورستاقها. واستوزر نرسي، فأعلمه أنه ماضٍ إلى الهند متخفياً، فسار إلى الهند وهو لا يعرفه أحد، غير أن الهند يرون شجاعته وقتله السباع. ثم إن فيلاً ظهر وقطع السبيل وقتل خلقاً كثيراً، فاستدل عليه، فسمع الملك خبره فأرسل معه من يأتيه بخبره. فانتهى بهرام والهندي معه إلا الأجمة، فصعد الهندي شجرة ومضى بهرام فاستخرج الفيل وخرج وله صوت شديد، فلما قرب منه رماه بسهم بين عينيه كاد يغيب، ووقذه بالنشاب وأخذ مشفره، ولم يزل يطعنه حتى أمكن من نفسه فاحتز رأسه وأخرجه.
وأعلم الهندي ملكهم بما رأى، فأكرمه وأحسن إليه وسأله عن حاله، فذكر أن ملك فارس سخط عليه فهرب إلى جواره، وكان لهذا الملك عدو فقصده، فاستسلم الملك وأراد أن يطيع ويبذل الخراج، فنهاه بهرام وأشار بمحاربته، فلما التقوا قال لأساورة الهندي: احفظوا لي ظهري، ثم حمل عليهم فجعل يضرب في أعراضهم ويرميهم بالنشاب حتى انهزموا، وغنم أصحاب بهرام ما كان في عسكر عدوه، فأعطى بهرام الدبيل ومكران وأنحكه ابنته، فأمر بتلك البلاد فضمت إلى مملكة الفرس.
وعاد بهرام مسروراً وأغزى نرسي بلاد الروم في أربعين ألفاً وأمره أن يطالب ملك الروم بالإتاوة، فسار إلى القسطنطينية، فهادنه ملك الروم، فانصرف بكل ما أراد إلى بهرام. وقيل: إنه لما فرغ من خاقان والروم سار بنفسه إلى بلاد اليمن ودخل بلاد(السودان فقتل مقاتلتهم وسبى لهم خلقاً كثيراً وعاد إلى مملكته.
ثم إنه في آخر ملكه خرج إلى الصيد فشد على عنز فأمعن في طلبه، فارتطم في جب فغرق، فبلغ والدته ذلك، فسارت إلى ذلك الموضع وأمرت بإخراجه، فنقلوا من الجب طيناً كثيراً حتى صار إكاماً عظاماً ولم يقدروا عليه.
وكان ملكه ثماني عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً، وقيل: ثلاثاً وعشرين سنة.

هكذا ذكر أبو جعفر في اسم بهرام جور أن أباه أسلمه إلى المنذر بن النعمان، كما تقدم، وذكر عند يزدجرد الأثيم أنه سلم ابنه بهرام إلى النعمان بن امرئ القيس، ولا شك أن بعض العلماء قال هذا وبعضهم قال ذلك، إلا أنه لم ينسب كل قول إلى قائله.
ذكر ملك ابنه يزدجرد بن بهرام جورلما لبس التاج جلس للناس ووعدهم وذكر أباه ومناقبه وأعلمهم أنهم إن فقدوا منه طول جلوسه لهم فإن خلوته في مصالحهم وكيد أعدائهم، وأنه قد استوزر نرسي صاحب أبيه. وعدل في رعيته وقمع أعداءه وأحسن إلى جنده، وكان له ابنان يقال لأحدهما هرمز وللآخر فيروز، وكان لهرمز سجستان، فغلب على الملك بعد هلاك أبيه يزدجرد، فهرب فيروز ولحق ببلاد الهياطلة واستنجد ملكهم، فأمده بعد أن دفع إليه الطالقان، فأقبل بهم فقتل أخاه بالري، وكانا من أم واحدة، وقيل لم يقتله وإنما أسره وأخذ الملك منه.
وكان الروم منعوا الخراج عن يزدجرد، فوجه إليهم نرسي في العدة التي أنفذه أبوه فيها فبلغ إرادته. وكان ملك يزدجرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر، وقيل تسع عشرة سنة.
ذكر ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام بعد أن قتل أخاه هرمز وثلاثة من أهل بيته
ولما ظفر فيروز بأخيه وملك أظهر العدل وأحسن السيرة، وكان يتدين، إلا أنه كان محدوداً مشؤوماً على رعيته، وقحطت البلاد في زمانه سبع سنين متوالية، وغارت الأنهار والقنى، وقل ماء دجلة، ومحلت الأشجار، وهاجت عام الزروع في السهل والجبل من بلاده، وماتت الطيور والوحوش، وعم أهل البلاد الجوع والجهد الشديد، فكتب إلى جميع رعيته يعلمهم أنه لا خراج عليهم ولا جزية ولا مؤونة، وتقدم إليهم بأن كل من عنده طعام مذخور يواسي به الناس وأن يكون حال الغني والفقير واحداً، وأخبرهم أنه إن بلغه أن إنساناً مات جوعاً بمدينة أو قرية عاقبهم ونكل بهم، وساس الناس سياسةً لم يعطب أحد جوعاً ما خلا رجلاً واحداً من رستاق أردشير خره، وابتهل فيروز إلى الله بالدعاء فأزال ذلك القحط وعادت بلاده إلى ما كانت عليه.
فلما حيي الناس والبلاد وأثخن في أعدائه سار مريداً حرب الهياطلة، فلما سمع إخشنوار ملكهم خافه، فقال له بعض أصحابه: اقطع يدي ورجلي وألقني على الطريق وأحسن إلى عيالي لأحتال على فيروز. ففعل ذلك، واجتاز به فيروز فسأله عن حاله فقال له: إني قلت لإخشنوار لا طاقة لك بفيروز ففعل بي هذا، وإني أدلك على طريق لم يسلكها ملك وهي أقرب. فاغتر فيروز بذلك وتبعه، فسار به وبجنده حتى قطع بهم مفازة بعد مفازة حتى إذا علم أنهم لا يقدرون على الخلاص وأعلمهم حاله. فقال أصحاب فيروز لفيروز: حذرناك فلم تحذر، فليس إلا التقدم على كل حال، فتقدموا أمامهم فوصلوا إلى عدوهم وهم هلكى عطشى وقتل العطش منهم كثيراً. فلما أشرفوا على تلك الحال صالحوا إخشنوار على أن يخلي سبيلهم إلى بلادهم على أن يحلف له فيروز أنه لا يغزو بلاده، فاصطلحا، وكتب فيروز كتاباً بالصلح وعاد.
فلما استقر في مملكته حملته الأنفة على معاودة إخشنوار، فنهاه وزراؤه عن نقض العهد، فلم يقبل وسار نحوه، فلما تقاربا أمر إخشنوار فحفر خلف عسكره خندقاً عرضه عشرة أذرع وعمقه عشرون ذراعاً وغطاه بخشب ضعيف وتراب، ثم عاد وراءه، فلما سمع فيروز بذلك اعتقده هزيمة فتبعه ولا يعلم عسكر فيروز بالخندق فسقط هو وأصحابه فيه فهلكوا، وعاد إخشنوار إلى عسكر فيروز وأخذ كل ما فيه وأسر نساءه وموبذان موبذ ثم استخرج جثة فيروز وجثة كل من سقط معه فجعلها في النواويس.

وقيل: إن فيروز لما انتهى إلى الخندق الذي حفره إخشنوار ولم يكن مغطى عقد عليه قناطر وجعل عليها أعلاماً له ولأصحابه يقصدونها في عودهم وجاء إلى القوم. فلما التقى العسكران احتج عليه إخشنوار بالعهود التي بينهما وحذره عاقبة الغدر، فلم يرجع، فنهاه أصحابه فلم ينته، فضعفت نياتهم في القتال. فلما أبى إلا القتال رفع إخشنوار نسخة العهد على رمح وقال: اللهم خذ بما في هذا الكتاب وقلده بغيه. فقاتله فانهزم فيروز وعسكره فضلوا عن مواضع القناطر فسقطوا في الخندق، فهلك فيروز وأكثر عسكره، وغنم إخشنوار أموالهم ودوابهم وجميع ما معهم، وغلب إخشنوار على عامة خراسان. فسار إليهم رجل من أهل فارس يقال له سوخرا، وكان فيهم عظيماً، وخرج كالمحتسب، وقيل: بل كان فيروز استخلفه على ملكه لما سار، وكان له سجستان، فلقي صاحب الهياطلة فأخرجه من خراسان واستعاد منه كل ما أخذ من عسكر فيروز مما هو في عسكره من السبي وغيره وعاد إلى بلاده، فعظمته الفرس إلى غاية لم يكن فوقه إلا الملك، وكانت مملكة الهياطلة طخارستان، فكان فيروز قد أعطى ملكهم لما ساعده على حرب أخيه الطالقان.
وكان ملك فيروز ستاً وعشرين سنة، وقيل: إحدى وعشرين سنة.
ذكر الأحداث في العرب أيام يزدجرد وفيروزكان يخدم ملوك حمير أبناء الأشراف من حمير وغيرهم، وكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر الكندي سيد كندة، فلما قتل عمرة ابن تبع أخاه حسان بن تبع اصطنع عمرة بن حجر وزوجه ابنة أخيه حسان، ولم يطمع في التزوج إلى ذلك البيت أحد من العرب، فولدت الحارث بن عمرو. وملك بعد عمرة بن تبع عبد كلال بن مثوب، وإنما مملكوه لأن أولاد عمرو كانوا صغاراً، وكان الجن قبل ذلك قد استهامت تبع بن حسان، وكان عبد كلال على دين النصرانية الأولى ويكتم ذلك. ورجع تبع بن حسان من استهامته وهو أعلم الناس بما كان قبله، فملك اليمن، وهابته حمير، فبعث ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر في جيش إلى الحيرة، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس، وهو ابن الشقيقة، فقاتله فقتل النعمان وعدةً من أهل بيته، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء امرأة من النمر ابن قاسط، فذهب ملك آل النعمان وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كانوا يملكون؛ قاله بعضهم.
وقال ابن الكلبي: ملك بعد النعمان المنذر بن النعمان بن المنذر بن النعمان أربعاً وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور ثماني سنين، وفي زمن يزدجرد ابن بهرام ثماني عشرة سنة، وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة، ثم ملك بعده الأسود بن المنذر عشرين سنة، منها في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن فيروز أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز ست سنين.
وهكذا ذكر أبو جعفر ها هنا أن الحارث بن عمرو قتل النعمان بن امرئ القيس وأخذ بلاده وانقرض ملك أهل بيته، وذكر فيما تقدم أن المنذر بن النعمان أو النعمان، على الاختلاف المذكور، هو الذي جمع العساكر وملك بهرام جور على الفرس، ثم ساق فيما بعد ملوك الحيرة من أولاد النعمان هذا إلى آخرهم ولم يقطع ملكهم بالحارث بن عمرو، وسبب هذا أن أخبار العرب لم تكن مضبوطة على الحقيقة، فقال كل واحد ما نقل إليه من غير تحقيق.
وقيل غير ذلك، وسنذكره في مقتل حجر بن عمرو والد امرئ القيس في أيام العرب إن شاء الله.
والصحيح أن ملوك كندة عمرو والحارث كانوا بنجد على العرب، وأما اللخميون ملوك الحيرة المناذرة فلم يزالوا عليها إلى أن ملك قباذ الفرس وأزالهم واستعمل الحارث بن عمرو الكندي على الحيرة. ثم أعاد أنوشروان الحيرة إلى اللخميين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك بلاش بن فيروز بن يزدجردثم ملك بعد فيروز ابنه بلاش وجرى بينه وبين أخيه قباذ منازعة استظهر فيها قباذ وملك، فلما ملك بلاش أكرم سوخرا وأحسن إليه لما كان منه، ولم يزل حسن السيرة حريصاً على العمارة، وكان لا يبلغه أن بيتاً خرب وجلا أهله إلا عاقب صاحب تلك القرية على تركه سد فاقتهم حتى لا يضطروا إلى مفارقة أوطانهم، وبنى مدينة ساباط بقرب المدائن، وكان ملكه أربع سنين.
ذكر ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد !

وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه قد سار إلى خاقان مستنصراً به على أخيه بلاش، فمر في طريقه بحدود نيسابور ومعه جماعة من أصحابه متنكرين وفيهم زرمهر بن سوخرا، فتاقت نفسه إلى النكاح، فشكا ذلك إلى زرمهر وطلب منه امرأة، فسار إلى امرأة صاحب المنزل، وكان من الأساورة، وكان لها بنت حسناء، فخطبها منها وأطمعها وزوجها، فزوجا فدخل بها من ليلته، فحملت بأنوشروان، وأمر لها بجائزةٍ سنية وردها، وسألتها أمها عن قباذ وحاله. فذكرت أنها لا تعرف من حاله شيئاً غير أن سراويله منسوجة بالذهب، فعلمت أنه من أبناء الملوك. ومضى قباذ إلى خاقان واستنصره على أخيه، فأقام عنده أربع سنين وهو يعده، ثم أرسل معه جيشاً. فلما صار بالقرب من الناحية التي بها زوجته سأل عنها فأحضرت ومعها أنوشروان وأعلمته أنه ابنه. وورد الخبر إليه بذلك المكان أن أخاه بلاش قد هلك، فتيمن بالمولود وحمله وأمه على مراكب نساء الملوك واستوثق له الملك وخص سوخرا وشكر لولده خدمته. وتولى سوخرا الأمر، فمال الناس إليه وتهاونوا بقباذ، فلم يحتمل ذلك. فكتب إلى سابور الرازي، وهو أصبهبذ ديار الجبل، ويقال للبيت الذي هو منه مهران، فاستقدمه ومعه جنده، فتقدم إليه فأعلمه عزمه على قتل سوخرا وأمره بكتمان ذلك، فأتاه يوماً سابور وسوخرا عند قباذ فألقى في عنقه وهقاً وأخذه وحبسه ثم خنقه قباذ وأرسله إلى أهله وقدم عوضه سابور الرازي.
وفي أيامه ظهر مزدك وابتدع ووافق زرادشت في بعض ما جاء به وزاد ونقص، وزعم أنه يدعو إلى شريعة إبراهيم الخليل حسب ما دعا إليه زرادشت، واستحل المحارم والمنكرات، وسوى بين الناس في الأموال والأملاك والنساء والعبيد والإماء حتى لا يكون لأحد على أحد فضل في شيء البتة، فكثر أتباعه من السفلة والأغتام فصاروا عشرات ألوف، فكان مزدك يأخذ امرأة هذا فيسلمها إلى الآخر، وكذا في الأموال والعبيد والإماء وغيرها من الضياع والعقار، فاستولى وعظم شأنه وتبعه الملك قباذ. فقال يوماً لقباذ: اليوم نوبتي من امرأتك أم أنوشروان. فأجابه إلى ذلك، فقام أنوشروان إليه ونزع خفيه بيده وقبل رجليه وشفع إليه حتى لا يتعرض لأمه وله حكمه في سائر ملكه، فتركها.
وحرم ذباحة الحيوان وقال: يكفي في طعام الإنسان ما تنبته الأرض وما يتولد من الحيوان كالبيض واللبن والسمن والجبن، فعظمت البلية به على الناس فصار الرجل لا يعرف ولده والولد لا يعرف أباه.
فلما مضى عشر سنين من ملك قباذ اجتمع موبذان موبذ والعظماء وخلعوه وملكوا عليهم أخاه جامسب وقالوا له: إنك قد أثمت باتباعك مزدك وبما عمل أصحابه بالناس وليس ينجيك إلا إباحة نفسك ونسائك، وأرادوه على أن يسلم نفسه إليهم ليذبحوه ويقربوه إلى النار، فامتنع من ذلك، فحبسوه وتركوه لا يصل إليه أحد. فخرج زرمهر بن سوخرا فقتل من المزدكية خلقاً، وأعاد قباذ إلى ملكه وأزال أخاه جامسب. ثم إن قباذ قتل بعد ذلك زرمهر.
وقيل: لما حبس قباذ وتولى أخوه دخلت أختٌ لقباذ عليه كأنها تزوره ثم لفته في بساط وحمله غلام، فلما خرج من السجن سأله السجان عما معه، فقالت: هو مرحل كنت أحيض فيه، فلم يمس البساط، فمضى الغلام بقباذ، وهرب قباذ فلحق بملك الهياطلة يستجيشه. فلما صار بإيران شهر، وهي نيسابور، نزل برجل من أهلها له ابنة بكر حسنة جميلة فنحكها، وهي أم كسرى أنوشروان، فكان نكاحه إياها في هذه السفرة لا في تلك، في قول بعضهم، وعاد ومعه أنوشروان، فغلب أخاه جامسب على الملك؛ وكان ملك جامسب ست سنين. وغزا قباذ بعد ذلك الروم ففتح مدينة آمد وبنى مدينة أرجان ومدينة حلوان ومات، فملك ابنه كسرى أنوشروان بعده، فكان ملك قباذ مع سني أخيه جامسب ثلاثاً وأربعين سنة، فتولى أنوشروان ما كان أبوه أمر له به.
وفي أيامه خربت الخزر فأغاربت على بلاده فبلغت الدينور، فوجه قباذ قائداً من عظماء قواده في اثني عشر ألفاً، فوطئ بلاد أران وفتح ما بين النهر المعروف بالرس إلى شروان، ثم إن قباذ لحق به فبنى بأران مدينة البيلقان ومدينة برذعة، وهي مدينة الثغر كله، وغيرهما، وبقي الخزر، ثم بنى سداً للآن فيما بين أرض شروان وباب اللان، وبنى على السد مدناً كثيرة خربت بعد بناء الباب والأبواب.
ذكر حوادث العرب أيام قباذ

لما ملك الحارث بن عمرو بن حجر الكندي العرب وقتل النعمان بن المنذر ابن امرئ القيس، كما ذكرناه، بعث إليه قباذ: إنه قد كان بيننا وبين الملك الذي كان قبلك عهد، وأحب لقاءك. وكان قباذ زنديقاً يظهر الخير ويكره الدماء ويداري أعداءه. فخرج إليه الحارث والتقيا واصطلحا على أن لا يجوز الفرات أحدٌ من العرب، فطمع الحارث الكندي فأمر أصحابه أن يقطعوا الفرات ويغيروا على السواد، فسمع قباذ فعلم أنه من تحت يد الحارث، فاستدعاه، فحضر، فقال له: إن لصوصاً من العرب صنعت كذا وكذا، فقال: ما علمت ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود. وطلب منه شيئاً من السواد، فأعطاه ستة طساسيج، وأرسل الحارث بن عمرو إلى تبع، وهو باليمن، يطمعه في بلاد العجم، فسار تبع حتى نزل الحيرة، وأرسل ابن أخيه شمراً ذا الجناح إلى قباذ، فحاربه فهزمه شمرٌ حتى لحق بالري، ثم أدركه بها فقتله، ثم وجه تبع شمراً إلى خراسان، ووجه ابنه حسان إلى السغد، وقال: أيكما سبق إلى الصين فهو عليه، وكان كل واحد منهما في جيش عظيم، يقال: كانا في ستمائة ألف وأربعين ألفاً؛ وأرسل ابن أخيه يعفر إلى الروم، فنزل على القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والإتاوة، ومضى إلى رومية فحاصرها فأصاب من معه طاعون، فوثب الروم عليهم فقتلوهم ولم يفلت منهم أحد.
وسار شمر ذو الجناح إلى سمرقند فحاصرها، فلم يظفر بها، وسمع أن ملكها أحمق وأن له ابنةً، وهي التي تقضي الأمور، فأرسل إليها هديةً عظيمةً، وقال لها: إنني إنما قدمت لأتزوج بك ومعي أربعة آلاف تابوت مملوءة ذهباً وفضة أنا أدفعها إليك وأمضي إلى الصين، فإن ملكت كنت امرأتي وإن هلكت كان المال لك.
فلما بلغتها الرسالة قالت: قد أجبته فليبعث المال؛ فأرسل أربعة آلاف تابوت في كل تابوت رجلان. ولسمرقند أربعة أبواب، ولكل باب ألفا رجل، وجعل العلامة بينهم أن يضرب بالجرس. فلما دخلوا البلد صاح شمر في الناس وضرب بالجرس، فخرجوا وملكوا الأبواب ودخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها وسار إلى الصين فهزم الترك ودخل بلادهم ولقي حسان بن تبع قد سبقه إليها بثلاث سنين، فأقاما بها حتى ماتا؛ وكان مقامهما فيما قيل إحدى وعشرين سنة، وقيل: عادا في طرقهما حتى قدما على تبع بالغنائم والسبي والجواهر، ثم انصرفوا جميعاً إلى بلادهم، ومات تبع باليمن فلم يخرج أحد من اليمن غازياً بعده.
وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة؛ وقيل تهودٌ.
قال ابن إسحاق: كان تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب حين أقبل من المشرق بعد أن ملك البلاد جعل طريقه على المدينة، وكان حين مر بها في بدايته لم يهج أهلها وخلف عندهم ابناً له فقتل غيلةً فقدمها عازماً على تخريبها واستئصال أهلها، فجمع له الأنصار حين سمعوا ذلك ورئيسهم عمرو ابن الطلة أحد بني عمرو بن مبذول من بني النجار وخرجوا لقتاله، وكانوا يقاتلونه نهاراً ويقرونه ليلاً. فبينما هو على ذلك إذ جاءه حبران من بني قريظة عالمان، فقالا له: قد سمعنا ما تريد أن تفعل، وإنك إن أبيت إلا ذلك حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة. فقال: ولم ذلك ؟ فقالا: إنها مهاجر نبي من قريش تكون داره. فانتهى عما كان يريد وأعجبه ما سمع منهما فاتبعهما على دينهما، واسمهما كعب وأسد، وكان تبع وقومه أصحاب أوثان. وسار من المدينة إلى مكة، وهي طريقه، فكسا الكعبة الوصائل والملاء، وكان أول من كساها، وجعل لها باباً ومفتاحاً، وخرج متوجهاً إلى اليمن فدعا قومه إلى اليهودية فأبوا عليه حتى حاكموه إلى النار، وكانت لهم نار تحكم بينهم فيما يزعمون تأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فقال لقومه: أنصفتم. فخرج قومه بأوثانهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا عند مخرج النار، فخرجت النار فغشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران تعرق جباههما لم تضرهما، فأصفقت حمير على ديته.

وكان قدم على تبع قبل ذلك شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهناً، فقال له تبع: هل تجد لقومٍ ملكاً يوازي ملكي ؟ قال: لا إلا لملك غسان. قال: فهل تجد ملكاً يزيد عليه ؟ قال: أجد لبار مبرور، أيد بالقهور، ووصف في الزبور، وفضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجي، أحد بني لؤي، ثم أحد بني قصي ! فنظر تبع في الزبور فإذا هو يجد صفة النبي، صلى الله عليه وسلم.
ثم ملك بعد تبع هذا، وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب، ربيعة بن نصر اللخمي، فلما هلك ربيعة رجع الملك باليمن إلى حسان بن تبان أسعد.
فلما ملك ربيعة رأى رؤيا هالته فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا عائفاً إلا أحضره وقال لهم: رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بتأويلها. فقالوا: اقصصها علينا. فقال: إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها، فلما قال ذلك قال له رجلٌ منهم: إن كان الملك يريد ذلك فليبعث إلى سطيح وشق فهما يخبرانك عما سألت. واسم سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن غسان، وكان يقال له الذئبي نسبةً إلى ذئب بن عدي، وشق بن مصعب بن يشكر بن أنمار.
فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق، فلما قدم عليه سطيح سأله عن رؤياه وتأويلها. فقال: رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض بهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة ؟ قال له الملك: ما أخطأت منها شيئاً، فما عندك في تأويلها ؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش ليهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش. قال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لغائظ موجع، فمتى يكون أفي زماني أم بعده ؟ قال: بل بعده بحين ستين سنة أو سبعين يمضين من السنين. قال: هل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع ؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعون ويخرجون منها هاربين. قال الملك: ومن الذي يلي ذلك ؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحداً منهم باليمن. قال: فيدوم ذلك من سلطانهن أو ينقطع ؟ قال: بل ينقطع، يقطعه نبي زكي، يأتيه الوحي من العلي، وهو رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر ؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرنا يا سطيح ؟ قال: نعم والشفق، والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.
ثم قدم عليه شق فقال: يا شق إني رأيت رؤيا هالتني فأخبرني عنها وعن تأويلها ! وكتمه ما قال سطيح لينظر هل يتفقان أم يختلفان. قال: نعم، رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.
فلما سمع الملك ذلك قال: ما أخطأت شيئاً، فما تأويلها ؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. قال الملك: وأبيك يا شق ! إن هذا لغائظ، فمتى هو كائن ؟ قال: بعدك بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان، وهو غلام ليس بدنيً ولا مزن، يخرج من بيت ذي يزن. فلا يترك أحداً منهم باليمن قال: فهل يدوم سلطانه أم ينقطع ؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال: وما يوم الفصل ؟ قال: يوم تجزى فيه الولاة، ويدعى من السماء بدعوات، ويسمع منها الأحياء والأموات، ويجتمع فيه الناس للميقات.
فلما فرغ من مسألتهما جهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، فمن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر ذلك الملك.
فلما هلك ربيعة بن نصر واجتمع ملك اليمن إلى حسان بن تبان بن أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، كان مما هيج أمر الحبشة وتحول الملك عن حمير أن حسان سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب والعجم، كما كانت التبابعة تفعل. فلما كان بالعراق كرهت قبائل العرب من اليمن المسير معه فكلموا أخاه عمراً في قتل حسان وتمليكه، فأجابهم إلى ذلك إلا ما كان من ذي رعين الحميري، فإنه نهاه عن ذلك، فلم يقبل منه، فعمد ذو رعين إلى صحيفة فكتب فيها.
ألا من يشتري سهراً بنومٍ ؟ ... سعيدٌ من يبيت قرير عينٍ

فإمّا حميرٌ غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
ثم ختمها وأتى بها عمراً فقال: ضع هذه عندك، ففعل. فلما بلغ حسان ما أجمع عليه أخوه وقبائل اليمن قال لعمرو:
يا عمرو لا تعجل عليّ منيتي ... فالملك تأخذه بغير حشود
فأبى إلا قتله، فقتله بموضع رحبة مالك، فكانت تسمى فرضة نعم فيما قيل، ثم عاد إلى اليمن فمنع النوم منه، فسأل الأطباء وغيرهم عما به وشكا إليهم السهر، فقال له قائل منهم: ما قتل أحدٌ أخاه أو ذا رحم بغياً إلا منع منه النوم. فلما سمع ذلك قتل كل من أشار عليه بقتل أخيه حتى خلص إلى ذي رعين، فلما أراد قتله قال: إن لي عندك براءة. قال: وما هي ؟ قال: أخرج الكتاب الذي استودعتك. فأخرجه فإذا فيه البيتان، فكف عن قتله، ولم يلبث عمرو أن هلك، فتفرقت حمير عند ذلك.
قلت: هذا الذي ذكره أبو جعفر من قتل قباذ بالري وملك تبع البلاد من بعد قتله من النقل القبيح والغلط الفاحش، وفساده أشهر من أن يذكر، فلولا أننا شرطنا أن لا نترك ترجمة من تاريخه إلا ونأتي بمعناها من غير إخلال بشيء لكان الإعراض عنه أولى. ووجه الغلط فيه أنه ذكر أن قباذ قتل بالري، ولا خلاف بين أهل النقل من الفرس وغيرهم أن قباذ مات حتف أنفه في زمان معلوم، وكان ملكه مدة معلومة، كما ذكرناه قبل، ولم ينقل أحد أنه قتل إلا في هذه الرواية. ولما مات ملك ابنه كسرى أنوشروان بعده، وهذا أشهر من: قفا نبك، ولو كان ملك الفرس انتقل بعد قباذ إلى حمير، كيف كان ملك ابنه بعده وتمكن في الملك حتى أطاعه ملوك الأمم وحملت الروم إليه الخراج ! ثم ذكر أيضاً أن تبعاً وجه ابنه حسان إلى الصين وشمراً إلى سمرقند وابن أخيه إلى الروم وأنه ملك القسطنطينية وسار إلى رومية فحاصرها، فيا ليت شعري ! ما هو اليمن وحضرموت حتى يكون بهما من الجنود ما يكون بعضهم في بلادهم لحفظها، وجيش مع تبع، وجيش مع حسان يسر بهم إلى مثل الصين في كثرة عساكره ومقاتلته، وجيش مع ابن أخيه تبع يلقى به مثل كسرى ويهزمه ويملك بلاده ويحاصر به مثل سمرقند في كبرها وعظمها وكثرة أهلها، وجيش مع يعفر يسير بهم إلى ملك الروم ويملك القسطنطينية ! والمسلمون مع كثرة ممالكهم واتساعها وكثرة عددهم قد اجتهدوا ليأخذوا القسطنطينية أو ما يجاورها واليمن من أقل بلادهم عدداً وجنوداً فلم يقدروا على ذلك، فكيف يقدر عليه بعض عساكر اليمن مع تبع ؟ هذا مما تأباه العقول، وتمجه الأسماع.
ثم إنه قال: إن ملك تبع بلاد الفرس والروم والصين وغيرها كان بعد قتل قباذ، يعني أيام ابنه أنوشروان، ولا خلاف أن مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، كان في زمن أنوشروان، وكان ملكه سبعاً وأربعين سنة، ولا خلاف أيضاً أن الحبشة لما ملكت اليمن انقرض ملك حمير منه، وكان آخر ملوكهم ذا نواس. وكان ملك حمير قد اختل قبل ذي نواس، وانقطع نظامهم حتى طمعت الحبشة فيه وملكته، وكان ملكهم اليمن أيام قباذ، وكيف يمكن أن يكون ملك الحبشة الذي هو مقطوع به أيام قباذ ويكون تبع هو الذي ملك اليمن قد قتل قباذ وملك بلاده قبل أن تملك الحبشة اليمن ؟ هذا مردود محال وقوعه، وكان ملك الحبشة اليمن سبعين سنة، وقيل أكثر من ذلك، وكان انقراض ملكهم في آخر ملك أنوشروان، والخبر في ذلك مشهور، وحديث سيف ذي يزن في ذلك ظاهر، ولم يزل اليمن بعد الحبشة في يد الفرس إلى أن ملكه المسلمون، فكيف يستقيم أن ينقضي ملك تبع الذي هو ملك بلاد فارس ومن بعده من ملوك حمير وملك الحبشة وهو سبعون سنة في ملك أنوشروان وكان ملكه نيفاً وأربعين سنة ؟ وهذا أعجب أن مدة بعضها سبعون سنة تنقضي قبل مضي نيف وأربعين سنة، ولو فكر أبو جعفر في ذلك لاستحيا من نقله.
وأعجب من هذا أنه قال: ثم ملك بعد تبع هذا ربيعة بن نصر اللخمي، وهذا ربيعة هو جد عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة، وكان ملك عمرو والحيرة بعد خاله جذيمة أيام ملوك الطوائف قبل ملك أردشير بن بابك بخمس وتسعين سنة، وبين أردشير وقباذ ما يقارب عشرين ملكاً، وكيف يكون جد عمرو وقد ملك بعد قباذ وهو قبله بهذا الدهر الطويل ؟ ولو لم يترجم أبو جعفر على هذه الحادثة بقوله: ذكر الحوادث أيام قباذ، لكان يحتمل تأويلاً فيه، ثم ما قنع بذلك حتى قال، بعد أن قص مسير تبع: وقتل قباذ وملك البلاد.

وأما ابن إسحاق فإنه قال: إن الذي سار إلى المشرق من التبابعة هو تبع الأخير، ويعني بقوله تبع الأخير أنه آخر من سار إلى المشرق وملك البلاد، فإن ابن إسحاق وغيره يقولون إن الذي ملك البلاد المشرقية لما توفي ملك بعده عدة تبابعة ثم اختل أمرهم زماناً طويلاً حتى طمعت الحبشة فيهم وخرجت إلى اليمن. فليت شعري إذا كان هذا تبع في أيام قباذ فلا شك أن تبعاً الأخير الذي أخذ منه اليمن يكون في زمن بني أمية ويكون ملك الحبشة اليمن بعد مدة من ملك بني العباس، ويكون أول الإسلام من ثلاثمائة سنة من ملكهم أيضاً مما بعدها حتى يستقيم هذا القول.
ثم إنه قال: إن عمر بن طلحة الأنصاري خرج إلى تبع، وعمر هذا قيل إنه أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، شيخاً كبيراً ومات عند مرجعه من غزوة بدر. ومن الدليل على بطلانه أيضاً أن المسلمين لما قصدوا بلاد الفرس ما زالت الفرس تقول لهم عند مراسلاتهم ومحاوراتهم في حروبهم: كنتم أقل الأمم وأذلها وأحقرها والعرب تقر لهم بذلك، فلو كان ملك تبع قريب العهد لقالت العرب: إننا بالأمس قتلنا ملككم وملكنا بلادكم واستبحنا حريمكم وأموالكم، فسكوت العرب عن ذلك وإقرارها للفرس دليل على بعد عهده أو عدمه، على أن الفرس لا تقر بذلك لا في قديم الزمان ولا في حديثه، فإنهم يزعمون أن ملكهم لم ينقطع من عهد جيومرث، الذي هو آدم في قول بعضهم، إلى أن جاء الإسلام، إلا أيام ملوك الطوائف، وكان لملوك الفرس طرف من البلاد في ذلك الزمان لم ينقطع انقطاعاً كلياً، على أن أصحاب السير قد اختلفوا في تبع الذي سار وملك البلاد اختلافاً كثيراً، شمر بن غش، وقيل: تبع أسعد، وإنه بعث إلى سمرقند شمراً ذا الجناح، إلى غير ذلك من الاختلافات التي لا طائل فيها. وهذا القدر كافٍ في كشف الخطأ فيه.
ذكر ملك لختيعةفلما هلك عمرو وتفرقت حمير وثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة يقال له لختيعة تنوف ذو شناتر فملكهم، في قول ابن إسحاق، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، وكان امرأ فاسقاً يزعمون أنه كان يعمل عمل قوط لوط، فكان إذا سمع بغلام من أبناء الملوك أنه قد بلغ أرسل إليه فوقع عليه في مشربة لئلا يملك بعد ذلك، ثم يطلع إلى حرسه وجنده قد أخذ سواكاً في فيه يعلمهم أنه قد فرغ منه، ثم يخلي سبيله فيفضحه.
ذكر ملك ذي نواس وقصة أصحاب الأخدودكان من أبناء الملوك زرعة ذو نواس بن تبان أسعد بن كرب، وكان صغيراً حين أصيب أخوه حسان، فشب غلاماً جميلاً ذا هيئة، فبعث إليه لختيعة ليفعل به ما كان يفعل بغيره، فأخذ سكيناً لطيفاً فجعله بين نعله وقدمه، ثم انطلق إليه مع رسوله، فلما خلا به في المشربة قتله ذو نواس بالسكين ثم احتز رأسه فجعله في كوة مشربته التي يطلع منها، ثم أخذ سواكه فجعله في فيه، ثم خرج، فقالوا: ذو نواس أرطب أم يباس؟ فقال: سل يحماس، استرطبان ذو نواس لا بأس.
فذهبوا ينظرون حين قال لهم ما قال، فإذا رأس لختيعة مقطوع، فخرجت حمير والحرس في أثر ذي نواس حتى أدركوه فملكوه حيث أراحهم من لختيعة، واجتمعوا عليه، وكان يهودياً، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم على استقامة لهم رئيس يقال له عبد الله بن الثامر، وكان أصل النصرانية بنجران.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34