كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

لما ملك الروم إنطاكية أنفذوا جيشاً كثيفاً إلى حلب، وكان أبو المعالي شريف بن سيف الدولة محاصراً لها، وبها قرعويه السيفي متغلباً عليها. فلما سمع أبو المعالي خبرهم فارق حلب وقصد البرية ليبعد عنهم، وحصروا البلد، وفيه قرعويه وأهل البلد قد تحصنوا بالقلعة، فملك الروم المدينة، وحصروا القلعة، فخرج إليهم جماعة من أهل حلب، وتوسطوا بينهم وبين قرعويه، وترددت الرسل، فاستقر الأمر بينهم على هدنة مؤبدة على مال يحمله قرعويه إليهم، وأن يكون للروم إذا أرادوا الغزاة أن لا يمكن قرعويه أهل القرايا من الجلاء عنها ليبتاع الروم ما يحتاجون إليه منها.
وكان مع حلب حماة، وحمص، وكفر طاب، والمعرة، وأفامية، وشيزر، وما بين ذلك من الحصون والقرايا، وسلموا الرهائن إلى الروم، وعادوا عن حلب وتسلمها المسلمون.
ذكر ملك الروم ملازكردوفيها أرسل ملك الروم جيشاً إلى ملازكرد من أعمال أرمينية، فحصروها، وضيقوا على من بها من المسلمين، وملكوها عنوة وقهراً، وعظمت شوكتهم، وخافهم المسلمون في أقطار البلاد، وصار كلها سائبة لا تمتنع عليهم يقصدون أيها شاؤوا.
ذكر مسير ابن العميد إلى حسنويهوفي هذه السنة جهز ركن الدولة وزيره أبا الفضل بن العميد في جيش كثيف، وسيرهم إلى بلد حسنويه.
وكان سبب ذلك أن حسنويه بن الحسين الكردي كان قد قوي واستفحل أمره لاشتغال ركن الدولة بما هو أهم منه، ولأنه كان يعين الديلم على جيوش خراسان إذا قصدتهم، فكان ركن الدولة يراعيه لذلك، ويغضي على ما يبدو منه؛ وكان يتعرض إلى القوافل وغيرها بخفارة، فبلغ ذلك ركن الدولة، فسكت عنه.
فلما كان الآن وقع بينه وبين سهلان بن مسافر خلاف أدى إلى أن قصده سهلان وحاربه، وهزمه حسنويه، فانحاز هو وأصحابه إلى مكان اجتمعوا فيه، فقصدهم حسنويه وحصرهم فيه، ثم إنه جمع من الشوك والنبات وغيره شيئاً كثيراً، وفرقه في نواحي أصحاب سهلان وألقى فيه النار، وكان الزمان صيفاً، فاشتد عليهم الأمر حتى كادوا يهلكون، فلما عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأمنهم، فأخذهم عن آخرهم.
وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمله له، فحينئذ أمر ابن العميد بالمسير إليه، فتجهز وسار في المحرم ومعه ولده أبو الفتح، وكان شاباً مرحاً، قد أبطره الشباب والأمر والنهي، وكان يظهر منه ما يغضب بسببه والده، وازدادت علته، وكان به نقرس وغيره من الأمراض. فلما وصل إلى همذان توفي بها، وقام ولده مقامه، فصالح حسنويه على مالٍ أخذه منه، وعاد إلى الري إلى خدمة ركن الدولة.
وكان والده يقول عند موته: ما قتلني إلا ولدي، وما أخاف على بيت العميد أن يخرب ويهلكوا إلا منه. فكان على ما ظن.
وكان أبو الفضل بن العميد من محاسن الدنيا قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره من حسن التدبير، وسياسة الملك، والكتابة التي أتى فيها بكل بديع.
وكان عالماً في عدة فنون منها الأدب، فإنه كان من العلماء به، ومنها حفظ أشعار العرب، فإنه حفظ منها ما لم يحفظ غيره مثله؛ ومنها علوم الأوائل فإنه كان ماهراً فيها مع سلامة اعتقاد، إلى غير ذلك من الفضائل، ومع حسن خلق، ولين عشرة مع أصحابه وجلسائه، وشجاعة تامة، ومعرفة بأمور الحرب والمحاصرات، وبه تخرج عضد الدولة، ومنه تعلم سياسة الملك، ومحبة العلم والعلماء، وكان عمر ابن العميد قد زاد على ستين سنة يسيراً، وكانت وزارته أربعاً وعشرين سنة.
ذكر قتل تقفور ملك الرومفي هذه السنة قتل تقفور ملك الروم، ولم يكن من أهل بيت المملكة، وإنما كان دمستقاً، والدمستق عندهم الذي كان يلي بلاد الروم التي هي شرقي خليج القسطنطينية، وأكثرها اليوم بيد أولاد تلج أرسلان، وكان كل من يليها يلقب بالدمستق، وكان تقفور هذا شديداً على المسلمين، وهو الذي أخذ حلب أيام سيف الدولة فعظم شأنه عند الروم، وهو أيضاً الذي فتح طرسوس، والمصيصة، وأذنة، وعين زربة، وغيرها.
ولم يكن نصراني الأصل، وإنما هو من ولد رجل مسلم من أهل طرسوس يعرف بابن الفقاس تنصر، وكان ابنه هذا شهماً، شجاعاً، حسن التدبير لما يتولاه. فلما عظم أمره وقوي شأنه قتل الملك الذي كان قبله، وملك الروم بعده. وقد ذكرنا هذا جميعه.

فلما ملك تزوج امرأة الملك المقتول على كره منها، وكان لها من الملك المقتول ابنان، وجعل تقفور همته قصد بلاد الإسلام والاستيلاء عليها، وتم له ما أراد باشتغال ملوك الإسلام بعضهم ببعض، فدوخ البلاد، وكان قد بنى أمره على أن يقصد سواد البلاد فينهبه ويخربه، فيضعف البلاد فيملكها، وغلب على الثغور الجزرية والشامية وسبى، وأسر ما يخرج عن الحصر، وهابه المسلمون هيبة عظيمة، ولم يشكوا في أنه يملك جميع الشام، ومصر، والجزيرة وديار بكر لخلوا الجميع من مانع.
فلما استفحل أمره أتاه أمر الله من حيث لم يحتسب، وذلك أنه عزم على أن يخصي ابني الملك المقتول لينقطع نسلهما، ولا يعارض أحد أولاده في الملك، فلما علمت أمهما ذلك قلقت منه، واحتالت على قتله، فأرسلت إلى ابن الشمشقيق، وهو الدمستق حينئذ، ووافقته على أن يصير إليها في زي النساء ومعه جماعة، وقالت لزوجها إن نسوةً من أهلها قد زاروها، فلما صار إليها هو ومن معه جعلتهم في بيعة تتصل بدار الملك، وكان ابن الشمشقيق شديد الخوف منه لعظم هيبته، فاستجاب للمرأة إلى ما دعته إليه، فلما كان ليلة الميلاد من هذه السنة نام تقفور، فقتل منهم نيف وسبعون رجلاً، وأجلس في الملك الأكبر من ولدي الملك المقتول، وصار المدبر له ابن الشمشقيق، ويقال إن تقفور ما بات قط إلا بسلاح إلا تلك الليلة لما يريده الله تعالى من قتله وفناء أجله.
ذكر ملك أبي تغلب مدينة حرانفي هذه السنة، في الثاني والعشرين من جمادى الأولى، سار أبو تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان إلى حران، فرأى أهلها قد أغلقوا أبوابها، وامتنعوا منه، فنازلهم وحصرهم، فرعى أصحابه زروع تلك الأعمال، وكان الغلاء في العسكر كثيراً، فبقي كذلك إلى ثالث عشر جمادى الآخرة، فخرج إليه نفران من أعيان أهلها ليلاً وصالحاه، وأخذ الأمان لأهل البلد وعادا.
فلما أصبحا أعلما أهل حران ما فعلاه، فاضطربوا، وحملوا السلاح وأرادوا قتلهما، فسكنهم بعض أهلها، فسكنوا، واتفقوا على إتمام الصلح، وخرجوا جميعهم إلى أبي تغلب، وفتحوا أبواب البلد ودخله أبو تغلب وإخوته وجماعة من أصحابه، وصلوا به الجمعة، وخرجوا إلى معسكرهم، واستعمل عليهم سلامة البرقعيدي لأنه طلبه أهله لحسن سيرته، وكان إليه أيضاً عمل الرقة، وهو من أكابر أصحاب بني حمدان، وعاد أبو تغلب إلى الموصل ومعه جماعة من أحداث حران، وسبب سرعة عوده أن بني نمير عاثوا في بلد الموصل، وقتلوا العامل ببرقعيد، فعاد إليهم ليكفهم.
ذكر قتل سليمان بن أبي علي بن إلياسفي هذه السنة قتل سليمان بن أبي علي بن إلياس الذي كان والده صاحب كرمان.
وسبب ذلك أنه ذكر للأمير منصور بن نوح صاحب خراسان أن أهل كرمان من القفص والبلوص معه وفي طاعته، وأطعمه في كرمان، فسير معه عسكراً إليهما، فلما وصل إليها وافقه القفص والبلوص وغيرهما من الأمم المفارقة لطاعة عضد الدولة، فاستفحل أمره، وعظم جمعه، فلقيه كوركير ابن جستان، خليفة عضد الدولة بكرمان، وحاربه، فقتل سليمان وابنا أخيه إليسع، وهما بكر والحسين، وعدد كثير من القواد والخراسانية، وحملت رؤوسهم إلى عضد الدولة بشيراز، فسيرها إلى أبيه ركن الدولة، فأخذ منهم جماعة كثيرة أسرى.
ذكر الفتنة بصقليةوفي هذه السنة استعمل المعز لدين الله الخليفة العلوي، على جزيرة صقلية، يعيش مولى الحسن بن علي بن أبي الحسين، فجمع القبائل في دار الصناعة، فوقع الشر بين موالي كتامة والقبائل، فاقتتلوا، فقتل من موالي كتامة كثير، وقتل من الموالي بناحية سرقوسة جماعة.
وازداد الشر بينهم، وتمكنت العدواة، وسعى يعيش في الصلح، فلم يوافقوه، وتطاول أهل الشر من كل ناحية، ونهبوا وأفسدوا، واستطالوا على أهل المراعي، واستطالوا على أهل القلاع المستأمنة، فبلغ الخبر إلى المعز، فعزل يعيش، واستعمل أبا القاسم بن الحسن بن علي بن أبي الحسين نيابة عن أخيه أحمد، فسار إليها، فلما وصل فرح به الناس، وزال الشر من بينهم، واتفقوا على طاعته.
ذكر حصر عمران بن شاهين

في هذه السنة، في شوال، انحدر بختيار إلى البطيحة لمحاصرة عمران بن شاهين، فأقام بواسط يتصيد شهراً، ثم أمر وزيره أبا الفضل أن ينحدر إلى الجامدة، وطفوف البطيحة، وبنى أمره على أن يسد أفواه الأنهار ومجاري المياه إلى البطيحة، ويردها إلى دجلة والفاروث، وربع طير، فبنى المسنيات التي يمكن السلوك عليها إلى العراق، فطالت الأيام، وزادت دجلة فخرجت ما عملوه.
وانتقل عمران إلى معقل آخر من معاقل البطيحة، ونقل كل ماله إليه، فلما نقصت المياه، واستقامت الطرق، وجدوا مكان عمران بن شاهين فارغاً، فطالت الأيام، وضجر الناس من المقام، وكرهوا تلك الأرض من الحر، والبق والضفادع، وانقطاع المواد التي ألفوها، وشغب الجند على الوزير، وشتموه، وأبوا أن يقيموا، فاضطر بختيار إلى مصالحة عمران على مال يأخذه منه.
وكان عمران قد خافه في الأول، وبذل له خمسة آلاف ألف درهم، فلما رأى اضطراب أمر بختيار بذل ألفي ألف درهم في نجوم، ولم يسلم إليهم رهائن، ولا حلف لهم على تأدية المال، ولما رحل العسكر تخطف عمران أطراف الناس فغنم، وفسد عسكر بختيار، وزالت عنهم الطاعة والهيبة، ووصل بختيار إلى بغداد في رجب سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، اصطلح قرعويه، غلام سيف الدولة ابن حمدان، وأبو المعالي بن سيف الدولة، وخطب لأبي المعالي بحلب، وكان بحمص، وخطب هو وقرعويه في أعمالهما للمعز لدين الله العلوي، صاحب المغرب ومصر.
وفيها، في رمضان، وقع حريق عظيم ببغداد في سوق الثلاثاء، فاحترق جماعة رجال ونساء، وأما الرحال وغيرها فكثير، ووقع الحريق أيضاً في أربعة مواضع من الجانب الغربي فيها أيضاً.
وفيها كانت الخطبة بمكة للمطيع لله وللقرامطة الهجريين، وخطب بالمدينة للمعز لدين الله العلوي، وخطب أبو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي خارج المدينة للمطيع لله.
وفيها مات عبيد بن عمر بن أحمد أبو القاسم العبسي المقرئ الشافعي بقرطبة، وله تصانيف كثيرة، وكان مولده ببغداد سنة خمس وتسعين ومائتين؛ وأبو بكر محمد بن داود الدينوري الصوفي، المعروف بالرقي، وهو من مشاهير مشايخهم، وقيل مات سنة اثنتين وستين.
وفيها توفي القاضي أبو العلاء محارب بن محمد بن محارب الفقيه الشافعي في جمادى الآخرة، وكان عالماً بالفقه والكلام.
ثم دخلت سنة ستين وثلاثمائة

ذكر عصيان أهل كرمان على عضد الدولة
لما ملك عضد الدولة كرمان، كما ذكرناه، اجتمع القفص والبلوص، وفيهم أبو سعيد البلوصي وأولاده، على كلمة واحدة في الخلاف، وتحالفوا على الثبات والاجتهاد، فضم عضد الدولة إلى كوركير بن جستان عابد ابن علي فسارا إلى جيرفت فيمن معهما من العساكر، فالتقوا عاشر صفر، فاقتتلوا، وصبر الفريقان ثم انهزم القفص ومن معهم، فقتل منهم خمسة آلاف من شجعانهم ووجوههم، وقتل ابنان لأبي سعيد.
ثم سار عابد بن علي يقص آثارهم ليستأصلهم، فأوقع بهم عدة وقائع، وأثخن فيهم، وانتهى إلى هرموز فملكها، واستولى على بلاد التيز ومكران، وأسر ألفي أسير، وطلب الباقون الأمان، وبذلوا تسليم معاقلهم وجبالهم، على أن يدخلوا في السلم، وينزعوا شعار الحرب، ويقيموا حدود الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم.
ثم سار عابد إلى طوائف أخر يعرفون بالحرومية والحاسكية يخيفون السبيل في البحر والبر، وكانوا قد أعانوا سليمان بن أبي علي بن إلياس، وقد تقدم ذكرهم، فأوقع بهم، وقتل كثيراً منهم، وأنفذهم إلى عضد الدولة، فاستقامت تلك الأرض مدة من الزمان.
ثم لم يلبث البلوص أن عادوا إلى ما كانوا عليه من سفك الدم وقطع الطريق، فلما فعلوا ذلك تجهز عضد الدولة وسار إلى كرمان في ذي القعدة، فلما وصل إلى السيرجان رأى فسادهم وما فعلوه من قطع الطريق بكرمان وسجستان وخراسان، فجرد عابد بن علي في عسكر كثيف، وأمره باتباعهم، فلما أحسوا به وأوغلوا في الهرب إلى مضايق ظنوا أن العسكر لا يتوغلها، فأقاموا آمنين.

فسار في آثارهم، فلم يشعروا إلا وقد أطل عليهم، فلم يمكنهم الهرب، فصبروا يومهم، وهو تاسع عشر ربيع الأول من سنة إحدى وستين وثلاثمائة، ثم انهزموا آخر النهار، وقتل أكثر رجالهم المقاتلة، وسبى الذراري والنساء، وبقي القليل، وطلبوا الأمان فأجيبوا إليه، ونقلوا عن تلك الجبال، وأسكن عضد الدولة مكانهم الأكرة والزراعين، حتى طبقوا تلك الأرض بالعمل وتتبع عابد تلك الطوائف براً وبحراً حتى أتى عليهم وبدد شملهم.
ذكر ملك القرامطة دمشقفي هذه السنة، في ذي القعدة، وصل القرامطة إلى دمشق فملكوها، وقتلوا جعفر بن فلاح.
وسبب ذلك أنهم لما بلغهم استيلاء جعفر بن فلاح على الشام أهمهم وأزعجهم وقلقوا لأنه قد تقرر بينهم وبين ابن طغج أن يحمل إليهم كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، فلما ملها جعفر علموا أن المال يفوتهم، فعزموا على قصد الشام، وصاحبهم حينئذ الحسين بن أحمد بن بهرام القرمطي، فأرسل إلى عز الدولة بختيار يطلب منه المساعدة بالسلاح والمال، فأجابه إلى ذلك، واستقر الحال أنهم إذا وصلوا إلى الكوفة سائرين إلى الشام حمل الذي استقر، فلما وصلوا إلى الكوفة أوصل إليهم ذلك، وساروا إلى دمشق.
وبلغ خبرهم إلى جعفر بن فلاح، فاستهان بهم ولم يحترز منهم، فلم يشعر بهم حتى كبسوه بظاهر دمشق وقتلوه وأخذوا ماله وسلاحه ودوابه، وملكوا دمشق، وأمنوا أهلها، وساروا إلى الرملة، واستولوا على جميع ما بينهما.
فلما سمع من بها من المغاربة خبرهم ساروا عنها إلى يافا فتحصنوا بها، وملك القرامطة الرملة، وساروا إلى مصر، وتركوا على يافا من يحصرها، فلما وصلوا إلى مصر اجتمع معهم خلق كثير من العرب والجند والإخشيدية والكافورية، فاجتمعوا بعين شمس عند مصر، واجتمع عساكر جوهر وخرجوا إليهم، فاقتتلوا غير مرة، الظفر في جميع تلك الأيام للقرامطة، وحصروا المغاربة حصراً شديداً، ثم إن المغاربة خرجوا في بعض الأيام من مصر، وحملوا على ميمنة القرامطة، فانهزم من بها من العرب وغيرهم، وقصدوا سواد القرامطة فنهبوه، فاضطروا إلى الرحيل، فعادوا إلى الشام، فنزلوا الرملة.
ثم حصروا يافا حصراً شديداً، وضيقوا على من بها، فسير جوهر من مصر نجدة إلى أصحابه المحصورين بيافا، ومعهم ميرة في خمسة عشر مركباً، فأرسل القرامطة مراكبهم إليها، فأخذوا مراكب جوهر، ولم ينج منها غير مركبين، فغنمهما مراكب الروم.
وللحسين بن بهرام مقدم القرامطة شعر، فمنه في المغاربة أصحاب المعز لدين الله:
زعمت رجال الغرب أنّي هبتها ... فدمي إذاً ما بينهم مطلول
يا مصر إن لم أسق أرضك من دم ... يروي ثراك فلا سقاني النّيل
ذكر قتل محمد بن الحسين الزناتّي
في هذه السنة قتل يوسف بلكين بن زيري محمد بن الحسين بن خزر الزناتي وجماعةً من أهله وبني عمه، وكان قد عصى على المعز لدين الله بإفريقية، وكثر جمعه من زناتة والبربر، فأهم المعز أمره لأنه أراد الخروج إلى مصر، فخاف أن يخلف محمداً في البلاد عاصياً، وكان جباراً عاتياً طاغياً.
وأما كيفية قتله فإنه كان يشرب هو وجماعة من أهله وأصحابه، فعلم يوسف به، فسار إليه جريدة متخفياً، فلم يشعر به محمد حتى دخل عليه، فلما رآه محمد قتل نفسه بسيفه، وقتل يوسف الباقين وأسر منهم، فحل ذلك عند المعز محلاً عظيماً، وقعد للهناء به ثلاثة أيام.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض عضد الدولة على كوركير بن جستان قبضاً فيه إبقاء وموضع للصلح.
وفيها تزوج أبو تغلب بن حمدان ابنة عز الدولة بختيار، وعمرها ثلاث سنين، على صداق مائة ألف دينار؛ وكان الوكيل في قبول العقد أبا الحسن علي بن عمرو بن ميمون صاحب أبي تغلب بن حمدان، ووقع العقد في صفر.
وفيها قتل رجلان بمسجد دير مار ميخائيل بظاهر الموصل، فصادر أبو تغلب جماعة من النصارى.
وفيها استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أبا القاسم بن عباد، وأصلح أموره كلها.
وفيها مات أبو القاسم سليمان بن أيوب الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة بأصبهان وكان عمره مائة سنة، وأبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة، وهما من حفاظ المحدثين.
وفيها توفي السري بن أحمد بن السري أبو الحسن الكندي الرفا، الشاعر الموصلي، ببغداد.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة

ذكر ما فعله الروم بالجزيرة
في هذه السنة، في المحرم، أغار ملك الروم على الرها ونواحيها، وسار في ديار الجزيرة حتى بلغوا نصيبين، فغنموا، وسبوا، وأحرقوا وخربوا البلاد، وفعلوا مثل ذلك بديار بكر، ولم يكن من أبي تغلب بن حمدان في ذلك حركة، ولا سعي في دفعه، لكنه حمل إليه مالاً كفه به عن نفسه.
فسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين، وقاموا في الجوامع والمشاهد، واستنفروا المسلمين، وذكروا ما فعله الروم من النهب، والقتل، والأسر، والسبي، فاستعظمه الناس، وخوفهم أهل الجزيرة من انفتاح الطريق وطمع الروم، وأنهم لا مانع لهم عندهم، فاجتمع معهم أهل بغداد، وقصدوا دار الخليفة الطائع لله، وأرادوا الهجوم عليه، فمنعوا من ذلك، وأغلقت الأبواب، فأسمعوا ما يقبح ذكره.
وكان بختيار حينئذ يتصيد بنواحي الكوفة، فخرج إليه وجوه أهل بغداد مستغيثين، منكرين عليه اشتغاله بالصيد، وقتال عمران بن شاهين وهو مسلم، وترك جهاد الروم، ومنعهم عن بلاد الإسلام حتى توغلوها، فوعدهم التجهز للغزاة، وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره بالتجهز للغزو وأن يستنفر العامة، ففعل سبكتكين ذلك، فاجتمع من العامة عدد كثير لا يحصون كثرة، وكتب بختيار إلى أبي تغلب بن حمدان، صاحب الموصل، يأمره بإعداد الميرة والعلوفات، ويعرفه عزمه على الغزاة، فأجابه بإظهار الفرح، وإعداد ما طلب منه.
ذكر الفتنة ببغدادفي هذه السنة وقعت ببغداد فتنة عظيمة، وأظهروا العصبية الزائدة، وتحزب الناس، وظهر العيارون وأظهروا الفساد، وأخذوا أموال الناس.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من استنفار العامة للغزاة، فاجتمعوا وكثروا فتولد بينهم من أصناف البنوية، والفتيان، والسنة، والشيعة، والعيارين، فنهبت الأموال، وقتل الرجال، وأحرقت الدور، وفي جملة ما احترق محلة الكرخ، وكانت معدن التجار والشيعة، وجرى بسبب ذلك فتنة بين النقيب أبي أحمد الموسوي والوزير أبي الفضل الشيرازي وعداوة.
ثم إن بختيار أنفذ إلى المطيع لله يطلب منه مالاً يخرجه في الغزاة، فقال المطيع: إن الغزاة والنفقة عليها، وغيرها من مصالح المسلمين، تلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وتجبي إلي الأموال، وأما إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيء من ذلك، وإنما يلزم من البلاد في يده، وليس لي إلا الخطبة، فإن شئتم أن أعتزل فعلت.
وترددت الرسائل بينهما، حتى بلغوا إلى التهديد، فبذل المطيع لله أربعمائة ألف درهم، فاحتاج إلى بيع ثيابه، وأنقاض داره، وغير ذلك، وشاع بين الناس من العراقيين وحجاج خراسان وغيرهم أن الخليفة قد صودر. فلما قبض بختيار المال صرفه في مصالحه، وبطل حديث الغزاة.
ذكر مسير المعز لدين الله العلوي من الغرب إلى مصرفي هذه السنة سار المعز لدين الله العلوي من إفريقية يريد الديار المصرية، وكان أول مسيره أواخر شوال من سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وكان أول رحيله من المنصورية، فأقام بسردانية، وهي قرية قريبة من القيروان، ولحقه بها رجاله، وعماله، وأهل بيته، وجميع ما كان له في قصره من أموال وأمتعة وغير ذلك، حتى إن الدنانير سبكت وجعلت كهيئة الطواحين وحمل كل طاحونتين على جمل.
وسار عنها واستعمل على بلاد إفريقية يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي الحميري، إلا أنه لم يجعل له حكماً على جزيرة صقلية، ولا على مدينة طرابلس الغرب، ولا على أجدابية، وسرت، وجعل على صقلية حسن بن علي بن أبي الحسين، على ما قدمنا ذكره، وجعل على طرابلس عبدالله بن يخلف الكتامي، وكان أثيراً عنده، وجعل على جباية أموال إفريقية زيادة الله بن القديم، وعلى الخراج عبد الجبار الخراساني، وحسين بن خلف الموصدي، وأمرهم بالانقياد ليوسف بن زيري.
فأقام بسردانية أربعة أشهر حتى فرغ من جميع ما يريد، ثم رحل عنها، ومعه يوسف بلكين وهو يوصيه بما يفعله، ونحن نذكر من سلف يوسف بلكين وأهله ما تمس الحاجة إليه، ورد يوسف إلى أعماله، وسار إلى طرابلس ومعه جيوشه وحواشيه، فهرب منه بها جمع من عسكره إلى جبال نفوسة فطلبهم فلم يقدر عليهم.

ثم سار إلى مصر، فلما وصل إلى برقة ومعه محمد بن هانئ الشاعر الأندلسي، قتل غيلة، فرؤي ملقىً على جانب البحر قتيلاً لا يدرى من قتله، وكان قتله أواخر رجب من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وكان من الشعراء المجيدين إلا أنه غالى في مدح المعز حتى كفره العلماء، فمن ذلك قوله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهّار
وقوله:
ولطال ما ... زاحمت حول ركابه جبريلا
ومن ذلك ينسب إليه ولم أجدها في ديوانه قوله:
حلّ برقّادة المسيح ... حلّ بها آدمٌ ونوح
حلّ بها الله ذو المعالي ... فكلّ شيء سواه ريح
ورقادة اسم مدينة بالقرب من القيروان، إلى غير ذلك، وقد تأوّل ذلك من يتعصّب له، والله أعلم، وبالجملة فقد جاز حد المديح.
ثم سار المعز حتى وصل إلى الإسكندرية أواخر شعبان من السنة، وأتاه أهل مصر وأعيانها، فلقيهم، وأكرمهم، وأحسن إليهم، وسار فدخل القاهرة خامس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وأنزل عساكره مصر والقاهرة في الديار، وبقي كثير منهم في الخيام.
وأما يوسف بلكين فإنه لما عاد من وداع المعز أقام بالمنصورية يعقد الولايات للعمال على البلاد، ثم سار في البلاد، وباشر الأعمال، وطيب قلوب الناس، فوثب أهل باغاية على عامله فقاتلوه فهزموه، فسير إليهم يوسف جيشاً فقاتلهم فلم يقدر عليهم، فأرسل إلى يوسف يعرفه الحال، فتأهب يوسف، وجمع العساكر ليسير إليهم، فبينما هو في التجهز أتاه الخبر عن تاهرت أن أهلها قد عصوا، وخالفوا، وأخرجوا عامله، فرحل إلى تاهرت فقاتلها، فظفر بأهلها، وخرها، فأتاه الخبر بها أن زناتة قد نزلوا على تلمسان، فرحل إليهم، فهربوا منه، وأقام على تلمسان فحصرها مدة ثم نزلوا على حكمه فعفا عنهم، إلا أنه نقلهم إلى مدينة أشير، فبنوا عندها مدينة سموها تلمسان.
ثم إن زيادة الله بن القديم جرى بينه وبين عامل آخر كان معه، اسمه عبد الله بن محمد الكاتب، منافسة صارت إلى محاربة، واجتمع مع كل واحد منهما جماعة، وكان بينهما حروب عدة دفعات، وكان يوسف بلكين مائلاً مع عبدالله لصحبة قديمة بينهما، ثم إن أبا عبدالله قبض على ابن القديم وسجنه واستبد بالأمور بعده، وبقي ابن القديم محبوساً حتى توفي المعز بمصر، وقوي أمر يوسف بلكين.
وفي سنة أربع وستين طلع خلف بن حسين إلى قلعة منيعة، فاجتمع إليه خلق كثير من البربر وغيرهم، وكان من أصحاب ابن القديم المساعدين له، فسمع يوسف بذلك، فسار إليه ونازل القلعة وحاربه، فقتل بينهما عدة قتلى، وافتتحها، وهرب خلف بن حين، وقتل ممن كان بها خلق كثير، وبعث إلى القيروان من رؤوسهم سبعة آلاف رأس، ثم أخذ خلف وأمر به فطيف به على جمل، ثم صلب، وسير رأسه إلى مصر، فلما سمع أهل باغاية بذلك خافوا، فصالحوا يوسف ونزلوا على حكمه، فأخرجهم من باغاية وخرب سورها.
ذكر خبر يوسف بلكين بن زيري بن مناد وأهل بيتههو يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي الحميري، اجتمعت صنهاجة ومن والاها بالمغرب على طاعته، قبل أن يقدمه المنصور، وكان أبوه مناد كبيراً في قومه، كثير المال والولد، حسن الضيافة لمن يمر به، ويقدم ابنه زيري في أيامه، وقاد كثيراً من صنهاجة، وأغار بهم، وسبى، فحسدته زناتة، وجمعت له لتسير إليه وتحاربه، فسار إليهم مجداً، فكبسهم ليلاً وهم غارون بأرض مغيلة، فقتل منهم كثيراً، وغنم ما معهم، فكثر تبعه، فضاقت بهم أرضهم، فقالوا له: لو اتخذت لنا بلداً غير هذا؛ فسار بهم إلى موضع مدينة أشير، فرأى ما فيه من العيون، فاستحسنه، وبنى فيه مدينة أشير، وسكنها هو وأصحابه، وكان ذلك سنة أربع وستين وثلاثمائة.
وكانت زناتة تفسد في البلاد، فإذا طلبوا احتموا بالجبال والبراري، فلما بنيت أشير صارت صنهاجة بين البلاد وبين زناتة والبربر، فسر بذلك القائم.
وسمع زيري بغمارة وفسادهم، واستحلالهم المحرمات، وأنهم قد ظهر فيهم نبي، فسار إليهم، وغزاهم، وظفر بهم، وأخذ الذي كان يدعي النبوة أسيراً، وأحضر الفقهاء فقتله.
ثم كان له أثر حسن في حادثة أبي يزيد الخارجي، وحمل الميرة إلى القائم بالمهدية، فحسن موقعها منه.

ثم إن زناتة حصرت مدينة أشير، فجمع لهم زيري جموعاً كثيرة، وجرى بينهم عدة وقعات قتل فيها كثير من الفريقين، ثم ظفر بهم واستباحهم.
ثم ظهر بجبل أوراس رجل، وخالف على المنصور، وكثر جمعه، يقال له سعيد بن يوسف، فسير إليه زيري ولده بلكين في جيش كثيف، فلقيه عند باغاية، واقتتلوا، فقتل الخارجي ومن معه من هوارة وغيرهم، فزاد محله عند المنصور، وكان له في فتح مدينة فاس أثر عظيم، على ما ذكرناه.
ثم إن بلكين بن زيري قصد محمد بن الحسين بن خزر الزناتي، وقد خرج عن طاعة المعز، وكثر جمعه، وعظم شأنه، فظفر به يوسف بلكين، وأكثر القتل في أصحابه، فسر المعز بذلك سروراً عظيماً لأنه كان يريد أن يستخلف يوسف بلكين على الغرب لقوته، وكثرة أتباعه، وكان يخاف أن يتغلب على البلاد بعد مسيره عنها إلى مصر. فلما استحكمت الوحشة بينه وبين زناتة أمن تغلبه على البلاد.
ثم إن جعفر بن علي، صاحب مدينة مسيلة وأعمال الزاب، كان بينه وبين زيري محاسدة، فلما كثر تقدم زيري عند المعز ساء ذلك جعفراً، ففارق بلاده ولحق بزناتة فقبلوه قبولاً عظيماً، وملكوه عليهم عداوةً لزيري، وعصى على المعز، فسار زيري إليه في جمع كثير من صنهاجة وغيرهم فالتقوا في شهر رمضان، واشتد القتال بينهم، فكبا بزيري فرسه فوقع فقتل، ورأى جعفر من زناتة تغيرً عن طاعته، وندماً على قتل زيري، فقال لهم: إن ابنه يوسف بلكين لا يترك ثأر أبيه، ولا يرضى بمن قتل منكم، والرأي أن نتحصن بالجبال المنيعة، والأوعار؛ فأجابوه إلى ذلك، فحمل ماله وأهله في المراكب، وبقي هو مع الزناتيين، وأمر عبيده في المراكب أن يعملوا في المراكب فتنة، فعلوا وهو يشاهدهم من البر، فقال لزناتة: أريد أن أنظر ما سبب هذا الشر؛ فصعد المركب، ونجا معهم، وسار إلى الأندلس إلى الحاكم الأموي، فأكرمه، وأحسن إليه، وندمت زناتة كيف لم يقتلوه ويغنموا ما معه.
ذكر الصلح بين الأمير منصور بن نوح وبين ركن الدولة وعضد الدولةفي هذه السنة تم الصلح بين الأمير منصور بن نوح الساماني، صاحب خراسان وما وراء النهر، وبين ركن الدولة وابنه عضد الدولة، على أن يحمل ركن الدولة وعضد الدولة إليه كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وتزوج نوح بابنة عضد الدولة، وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لم يحمل مثله، وكتب بينهم كتاب صلح، وشهد فيه أعيان خراسان، وفارس، والعراق.
وكان الذي سعى في هذا الصلح وقرره محمد بن إبراهيم بن سيمجور، صاحب جيوش خراسان من جهة الأمير منصور.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، انقض كوكب عظيم، وله نور كثير، وسمع له عند انقضاضه صوت كالرعد، وبقي ضوءه.
وفي شوال منها ملك أبو تغلب بن حمدان قلعة ماردين، سلمها إليه نائب أخيه حمدان، فأخذ أبو تغلب كل ما كان لأخيه فيها من أهل ومال وأثاث وسلاح، وحمل الجميع إلى الموصل.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وثلاثمائة

ذكر انهزام الروم وأسر الدمستق
في هذه السنة كانت وقعة بين هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وبين الدمستق بناحية ميافارقين.
وكان سببها ما ذكرناه من غزو الدمستق بلاد الإسلام، ونهبه ديار ربيعة وديار بكر، فلما رأى الدمستق أنه لا مانع له عن مراده قوي طمعه على أخذ آمد، فسار إليها وبها هزارمرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان، فكتب إلى أبي تغلب يستصرخه ويستنجده، ويعلمه الحال، فسير إليه أخاه أبا القاسم هبة الله بن ناصر الدولة، واجتمعا على حرب الدمستق، وسار إليه فلقياه سلخ رمضان، وكان الدمستق في كثرة لكن لقياه في مضيق لا تجول فيه الخيل، والروم على غير أهبة، فانهزموا، وأخذ المسلمون الدمستق أسيراً، ولم يزل محبوساً إلى أن مرض سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، فبالغ أبو تغلب في علاجه، وجمع الأطباء له، فلم ينفعه ذلك ومات.
ذكر حريق الكرخفي هذه السنة، في شعبان، احترق الكرخ حريقاً عظيماً.

وسبب ذلك أن صاحب المعونة قتل عامياً، فثار به العامة والأتراك، فهرب ودخل دار بعض الأتراك، فأخرج من فيها، فركب الوزير أبو الفضل لأخذ الجناة، وأرسل حاجباً له يسمى صافياً في جمع لقتال العامة بالكرخ، وكان شديد العصبية للسنة، فألقى النار في عدة أماكن من الكرخ، فاحترق حريقاً عظيماً، وكان عدة من احترق فيه سبعة عشر ألف إنسان، وثلاثمائة دكان، وكثير من الدور، وثلاثة وثلاثين مسجداً، ومن الأموال ما لا يحصى.
ذكر عزل أبي الفضل من وزارة عز الدولة ووزارة ابن بقيةوفيها أيضاً عزل الوزير أبو الفضل العباس بن الحسين من وزارة عز الدولة بختيار في ذي الحجة، واستوزر محمد بن بقية، فعجب الناس لذلك لأنه كان وضيعاً في نفسه، من أهل أوانا، وكان أبوه أحد الزراعين، لكنه كان قريباً من بختيار، وكان يتولى له المطبخ، ويقدم إليه الطعام ومنديل الخوان على كتفه، إلى أن استوزر.
وحبس الوزير أبو الفضل، فمات عن قريب، فقيل إنه مات مسموماً، وكان في ولايته مضيعاً لجانب الله. فمن ذلك أنه أحرق الكرخ ببغداد، فهلك فيه من الناس والأموال ما لا يحصى؛ ومن ذلك أنه ظلم الرعية، وأخذ الأموال ليفرقها على الجند ليسلم، فما سلمه الله تعالى، ولا نفعه ذلك، وصدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس).
وكان ما فعله من ذلك أبلغ الطرق التي سلكها أعداؤه من الوقيعة فيه، والسعي به، وتمشى لهم ما أرادوا لما كان عليه من تفريطه في أمر دينه، وظلم رعيته، وعقب ذلك أن زوجته ماتت وهو محبوس وحاجبه وكاتبه، فخرجت داره، وعفي أثرها، نعوذ بالله من سوء الأقدار، ونسأله أن يختم بخير أعمالنا، فإن الدنيا إلى زوال ما هي.
وأما ابن بقية فإن استقامت أموره، ومشت الأحوال بين يديه بما أخذه من أموال أبي الفضل، وأموال أصحابه، فلما فني ذلك عاد إلى ظلم الرعية، فانتشرت الأمور على يده، وخربت النواحي، وظهر العيارون، وعملوا ما أرادوا، وزاد الاختلاف بين الأتراك وبين بختيار، فشرع ابن بقية في إصلاح الحال مع بختيار وسبكتكين، فاصطلحوا، وكانت هدنة على دخن وركب سبكتكين إلى بختيار ومعه الأتراك، فاجتمع به، ثم عاد الحال إلى ما كان عليه من الفساد.
وسبب ذلك أن ديلمياً اجتاز بدار سبكتكين وهو سكران، فرمى الروشن بزوبين في يده، فأثبته فيه، وأحس به سبكتكين، فصاح بغلمانه فأخذوه، وظن سبكتكين أنه قد وضع على قتله، فقرره فلم يعترف، وأنفذه إلى بختيار وعرفه الحال، فأمر به فقتل، فقوي ظن سبكتكين أنه كان وضعه عليه، وإنما قتله لئلا يفشي ذلك، وتحرك الديلم لقتله، وحملوا السلاح، ثم أرضاهم بختيار فرجعوا.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ذي الحجة، أرسل عز الدولة بختيار الشريف أبا أحمد الموسوي، والد الرضي والمرتضى، في رسالة إلى أبي تغلب بن حمدان بالموصل، فمضى إليه، وعاد في المحرم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
وفيها توفي أبو العباس محمد بن الحسن بن سعيد المخرمي الصوفي صاحب الشبلي بمكة.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة

ذكر استيلاء بختيار على الموصل
وما كان من ذلك
في هذه السنة، في ربيع الآخر، سار بختيار إلى الموصل ليستولي عليها وعلى أعمالها وما بيد أبي تغلب بن حمدان وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان وأخيه إبراهيم إلى بختيار، واستجارتهما به، وشكواهما إليه من أخيهما أبي تغلب، فوعدهما أن ينصرهما ويخلص أعمالهما وأموالهما منه، وينتقم لهما، واشتغل عن ذلك بما كان منه في البطيحة وغيرها، فلما فرغ من جميع أشغاله عاود حمدان وإبراهيم الحديث معه، وبذل له حمدان مالاً جزيلاً، وصغر عنده أمر أخيه أبي تغلب، وطلب أن يضمنه بلاده ليكون في طاعته، ويحمل إليه الأموال ويقيم له الخطبة.
ثم إن الوزير أبا الفضل حسن ذلك، وأشار به ظناً منه أن الأموال تكثر عليه فتمشي الأمور بين يديه، ثم إن إبراهيم بن ناصر الدولة هرب من عند بختيار، وعاد إلى أخيه أبي تغلب، فقوي عزم بختيار على قصد الموصل أيضاً، ثم عزل أبا الفضل الوزير واستوزر ابن بقية، فكاتبه أبو تغلب، فقصر في خطابه، فأغرى به بختيار، وحمله على قصده، فسار عن بغداد، ووصل إلى الموصل تاسع عشر ربيع الآخر ونزل بالدير الأعلى.

وكان أبو تغلب بن حمدان قد سار عن الموصل لما قرب منه بختيار، وقصد سنجار، وكسر العروب، وأخلى الموصل من كل ميرة، وكاتب الديوان، ثم سار من سنجار يطلب بغداد، ولم يعرض إلى أحد من سوادها بل كان هو وأصحابه يشترون الأشياء بأوفى الأثمان. فلما سمع بختيار بذلك أعاد وزيره ابن بقية، والحاجب سبكتكين إلى بغداد، فأما ابن بقية فدخل إلى بغداد، وأما سبكتكين فأقام بحربى، وكان أبو تغلب قد قارب بغداد، فثار العيارون بها، وأهل الشر بالجانب الغربي، ووقعت فتنة عظيمة بين السنة والشيعة، وحمل أهل سوق الطعام، وهم من السنة، امرأة على جمل وسموها عائشة، وسمى بعضهم نفسه طلحة، وبعضهم الزبير، وقاتلوا الفرقة الأخرى، وجعلوا يقولون: نقاتل أصحاب علي بن أبي طالب، وأمثال هذا من الشر.
وكان الجانب الشرقي آمناً، والجانب الغربي مفتوناً، فأخذ جماعة من رؤساء العيارين وقتلوا، فسكن الناس بعض السكون. وأما أبو تغلب فإنه لما بلغه دخول ابن بقية بغداد، ونزول سبكتكين الحاجب بحربى، عاد عن بغداد، ونزل بالقرب منه، وجرى بينهما مطاردة يسيرة، ثم اتفقا في السر على أن يظهرا الاختلاف إلى أن يتمكنا من القبض على الخليفة والوزير ووالدة بختيار وأهله، فإذا فعلوا ذلك انتقل سبكتكين إلى بغداد، وعاد أبو تغلب إلى الموصل، فيبلغ من بختيار ما أراد، ويملك دولته.
ثم إن سبكتكين خاف سوء الأحدوثة، فتوقف وسار الوزير ابن بقية إلى سبكتكين، فاجتمع به، وانفسخ ما كان بينهما، وتراسلوا في الصلح على أن أبا تغلب يضمن البلاد على ما كانت معه، وعلى أن يطلق لبختيار ثلاثة آلاف كر غلة عوضاً عن مؤونة سفره، وعلى أن يرد على أخيه حمدان أملاكه وإقطاعه، إلا ماردين.
ولما اصطلحوا أرسلوا إلى بختيار بذلك ليرحل عن الموصل، وعاد أبو تغلب إليها، ودخل سبكتكين بغداد، وأسلم بختيار. فلما سمع بختيار بقرب أبي تغلب منه خافه لأن عسكره كان قد عاد أكثره مع سبكتكين، وطلب الوزير ابن بقية من سبكتكين أن يسير نحو بختيار، فتثاقل، ثم فكر في العواقب، فسار على مضض، وكان أظهر للناس ما كان هم به.
وأما بختيار فإنه جمع أصحابه وهو بالدير الأعلى؛ ونزل أبو تغلب بالحصباء، تحت الموصل، وبينهما عرض البلد، وتعصب أهل الموصل لأبي تغلب، وأظهروا محبته لما نالهم من بختيار من المصادرات وأخذ الأموال، ودخل الناس بينهما في الصلح، فطلب أبو تغلب من بختيار أن يلقب لقباً سلطانياً، وأن يسلم إليه زوجته ابنة بختيار، وأن يحط عنه من ذلك القرار. فأجابه بختيار خوفاً منه، وتحالفا، وسار بختيار عن الموصل عائداً إلى بغداد، فأظهر أهل الموصل السرور برحيله، لأنه كان قد أساء معهم السيرة وظلمهم.
فلما وصل بختيار إلى الكحيل بلغه أن أبا تغلب قد قتل قوماً كانوا من أصحابه، وقد استأمنوا إلى بختيار، فعادوا إلى الموصل ليأخذوا ما لهم بها من أهل وما فقتلهم. فلما بلغه ذلك اشتد عليه، وأقام بمكانه، وأرسل إلى الوزير أبي طاهر بن بقية والحاجب سبكتكين يأمرهما بالإصعاد إليه، وكان قد أرسل إليهما يأمرهما بالتوقف، ويقول لهما إن الصلح قد استقر، فلما أرسل إليهما يطلبهما أصعدا إليه في العساكر، فعادوا جميعهم إلى الموصل، ونزلوا بالدير الأعلى أواخر جمادى الآخرة، وفارقها أبو تغلب إلى تل يعفر، وعزم عز الدولة على قصده وطلبه أين سلك، فأرسل أبو تغلب كاتبه وصاحبه أبا الحسن علي بن أبي عمرو إلى عز الدولة فاعتقله، واعتقل معه أبا الحسن ابن عرس، وأبا أحمد بن حوقل.
وما زالت المراسلات بينهما، وحلف أبو تغلب أنه لم يعلم بقتل أولئك، فعاد الصلح واستقر، وحمل إليه ما استقر من المال. فأرسل عز الدولة الشريف أبا أحمد الموسوي، والقاضي أبا بكر محمد بن عبد الرحمن، فحلفا أبا تغلب، وتجدد الصلح، وانحدر عز الدولة عن الموصل سابع عشر رجب، وعاد أبو تغلب إلى بلده.
ولما عاد بختيار عن الموصل جهز ابنته وسيرها إلى أبي تغلب، وبقيت معه إلى أن أخذت منه، ولم يعرف لها بعد ذلك خبر.
ذكر الفتنة بين بختيار وأصحابهفي هذه السنة ابتدأت الفتنة بين الأتراك والديلم بالأهواز، فعمت العراق جميعه، واشتدت.

وكان سبب ذلك أن عز الدولة بختيار قلت عنده الأموال، وكثر إدلال جنده عليه، واطراحهم لجانبه، وشغبهم عليه، فتعذر عليه القرار، ولم يجد ديوانه ووزيره جهة يحتال منها بشيء، وتوجهوا إلى الموصل لهذا السبب، فلم ينفتح عليهم، فرأوا أن يتوجهوا إلى الأهواز، ويتعرضوا لبختكين آزادرويه، وكان متوليها، ويعملوا له حجة يأخذون منه مالاً ومن غيره، فسار بختيار وعسكره، وتخلف عنه سبكتكين التركي، فلما وصلوا إلى الأهواز خدم بختيار وحمل له أموالاً جليلة المقدار، وبذل له من نفسه الطاعة، وبختيار يفكر في طريق يأخذه به.
فاتفق أنه جرى فتنة بين الأتراك والديلم، وكان سببها أن بعض الديلم نزل داراً بالأهواز، ونزل قريباً منه بعض الأتراك، وكان هناك لبن موضوع، فأراد غلام الديلمي أن يبني منه معلفاً للدواب، فمنعه غلام التركي، فتضاربا، وخرج كل واحد من التركي والديلمي إلى نصرة غلامه، فضعف التركي عنه، فركب واستنصر بالأتراك، فركبوا وركب الديلم، وأخذوا السلاح، فقتل بينهم بعض قواد الأتراك، وطلب الأتراك بثأر صاحبهم، وقتلوا به من الديلم قائداً أيضاً، وخرجوا إلى ظاهر البلد.
واجتهد بختيار في تسكين الفتنة، فلم يمكنه ذلك، فاستشار الديلم فيما يفعله، وكان أذناً يتبع كل قائل، فأشاروا عليه بقبض رؤساء الأتراك لتصفو له البلاد، فأحضروا آزادرويه وكاتبه سهل بن بشر، وسباشى الخوارزمي بكتيجور، وكان حماً لسبكتكين، فحضروا، فاعتقلهم وقيدهم، وأطلق الديلم في الأتراك، فنهبوا أموالهم ودوابهم وقتل بينهم قتلى، وهرب الأتراك، واستولى بختيار على إقطاع سبكتكين فأخذه، وأمر فنودي بالبصرة بإباحة دم الأتراك.
ذكر حيلة لبختيار عادت عليهكان بختيار قد واطأ والدته وإخوته أنه إذا كتب إليهم بالقبض على الأتراك يظهرون أن بختيار قد مات، ويجلسون للعزاء، فإذا حضر سبكتكين عندهم قبضوا عليه، فلما قبض بختيار على الأتراك كتب إليهم على أجنحة الطيور يعرفهم ذلك، فلما وقفوا على الكتب وقع الصراخ في داره، وأشاعوا موته، ظناً منهم أن سبكتكين يحضر عندهم ساعة يبلغه الخبر، فلما سمع الصراخ أرسل يسأل عن الخبر، فأعلموه، فأرسل يسأل عن الذي أخبرهم، وكيف أتاهم الخبر، فلم يجد نقلاً يثق القلب به، فارتاب بذلك.
ثم وصله رسله الأتراك بما جرى، فعلم أن ذلك كان مكيدة عليه، ودعاه الأتراك إلى أن يتأمر عليهم، فتوقف، وأرسل إلى أبي إسحاق بن معز الدولة يعلمه أن الحال قد انفسد بينه وبين أخيه، فلا يرجى صلاحه، وأنه لا يرى العدول عن طاعة مواليه وإن أساءوا إليه، ويدعوه إلى أن يعقد الأمر له. فعرض قوله على والدته، فمنعته.
فلما رأى سبكتكين ذلك ركب في الأتراك، وحصر دار بختيار يومين، ثم أحرقها ودخلها، وأخذ أبا إسحاق وأبا طاهر ابني معز الدولة ووالدتهما ومن كان معهما، فسألوه أن يمكنهم من الانحدار إلى واسط، ففعل، وانحدروا، وانحدر معهم المطيع لله في الماء، فأنفذ سبكتكين فأعاد ورده إلى داره، وذلك تاسع ذي القعدة، واستولى على ما كان لبختيار جميعه ببغداد، ونزل الأتراك في دور الديلم وتتبعوا أموالهم وأخذوها، وثارت العامة من أهل السنة ينصرون سبكتكين لأنه كان يتسنن، فخلع عليهم، وجعل لهم العرفاء والقواد، فثاروا بالشيعة وحاربوهم وسفكت بينهم الدماء، وأحرقت الكرخ حريقاً ثانياً، وظهرت السنة عليهم.
ذكر خلع المطيع وخلافة الطائع للهوفي هذه السنة، منتصف ذي القعدة، خلع المطيع لله، وكان به مرض الفالج، وقد ثقل لسانه، وتذرت الحركة عليه، وهو يستر ذلك، فانكشف حاله لسبكتكين هذه الدفعة، فدعاه إلى أن يخلع نفسه من الخلافة ويسلمها إلى ولده الطائع لله، واسمه أبو الفضل عبد الكريم، ففعل ذلك، وأشهد على نفسه بالخلع ثالث عشر ذي القعدة. وكانت مدة خلافته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر غير أيام، وبويع للطائع لله بالخلافة، واستقر أمره.
ذكر الحرب بين المعز لدين الله العلوي والقرامطةفي هذه السنة سار القرامطة، ومقدمهم الحسن بن أحمد، من الأحساء إلى ديار مصر فحصرها، ولما سمع المعز لدين الله صاحب مصر بأنه يريد قصد مصر كتب إليه كتاباً يذكر فيه فضل نفسه وأهل بيته وأن الدعوة واحدة، وأن القرامطة إنما كانت دعوتهم إليه، وإلى آبائه من قبله، ووعظه وبالغ، وتهدده، وسير الكتاب إليه.

فكتب جوابه: وصل كتابك الذي قل تحصيله وكثر تفضيله، ونحن سائرون إليك على أثره، والسلام.
وسار حتى وصل إلى مصر، فنزل على عين شمس بعسكره، وأنشب القتال، وبث السرايا في البلاد ينهبونها، فكثرت جموعه، وأتاه من العرب خلق كثير، وكان ممن أتاه حسان بن الجراح الطائي، أمير العرب بالشام، ومعه جمع عظيم.
فلما رأى المعز كثرة جموعه استعظم ذلك وأهمه، وتحير في أمره، ولم يقدم على إخراج عسكره لقتاله، فاستشار أهل الرأي من نصائحه، فقالوا: ليس حيلة غير السعي في تفريق كلمتهم، وإلقاء الخلف بينهم، ولا يتم ذلك إلا بابن الجراح؛ فراسله المعز واستماله، وبذل له مائة ألف دينار إن هو خالف على القرمطي، فأجابه ابن الجراح إلى ما طلب منه، فاستحلفوه، فحلف أنه إذا وصل إليه المال المقرر انهزم بالناس.
فاحضروا المال، فلما رأوه استكثروه، فضربوا أكثرها دنانير من صفر، وألبسوها الذهب، وجعلوها في أسافل الأكياس، وجعلوا الذهب الخالص على رؤوسها، وحمل إليه، فأرسل إلى المعز أن يخرج في عسكره يوم كذا ويقاتلوه وهو في الجهة الفلانية فإنه ينهزم، المعز ذلك فانهزم وتبعه العرب كافة، فلما رآه الحسن القرمطي منهزماً تحير في أمره، وثبت، وقاتل بعسكره، إلا أن عسكر المعز طمعوا فيه وتابعوا الحملات عليه من كل جانب، فأرهقوه، فولى منهزماً، واتبعوا أثره، وظفروا بمعسكره فأخذوا من فيه أسرى، وكانوا نحو ألف وخمسمائة أسير، فضربت أعناقهم، ونهب ما في المعسكر.
وجرد المعز القائد أبا محمد بن إبراهيم بن جعفر في عشرة آلاف رجل، وأمره باتباع القرامطة والإيقاع بهم، فاتبعهم، وتثاقل في سيره خوفاً أن ترجع القرامطة إليه؛ وأما هم فإنهم ساروا حتى نزلوا أذرعات، وساروا منها إلى بلدهم الأحساء، ويظهرون أنهم يعودون.
ذكر ملك المعز دمشق وما كان فيها من الفتنلما بلغ المعز انهزام القرمطي من الشام، وعوده إلى بلاده، أرسل القائد ظالم بن موهوب العقيلي والياً على دمشق، فدخلها، وعظم حاله، وكثرت جموعه وأمواله وعدته، لأن أبا المنجى وابنه صاحبي القرمطي كانا بدمشق، ومعهما جماعة من القرامطة، فأخذهم ظالم وحبسهم، وأخذ أموالهم وجميع ما يملكونه.
ثم إن القائد أبا محمود الذي سيره المعز يتبع القرامطة وصل إلى دمشق بعد وصول ظالم إليها بأيام قليلة، فخرج ظالم متلقياً له مسروراً بقدومه، لأنه كان مستشعراً من عود القرمطي إليه، فطلب منه أن ينزل بعسكره بظاهر دمشق، ففعل، وسلم إليه أبا المنجى وابنه ورجلاً آخر يعرف بالنابلسي، وكان هرب من الرملة، وتقرب إلى القرمطي، فأسر بدمشق أيضاً، فحملهم أبو محمد إلى مصر، فسجن أبو المنجى وابنه، وقيل للنابلسي: أنت الذي قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعة في المغاربة وواحداً في الروم ؟ فاعترف، فسلخ جلده وحشي تبناً وصلب.
ولما نزل أبو محمود بظاهر دمشق امتدت أيدي أصحابه بالعيث والفساد، وقطع الطريق، فاضطرب الناس وخافوا، ثم إن صاحب الشرطة أخذ إنساناً من أهل البلد فقتله، فثار به الغوغاء والأحداث، وقتلوا أصحابه، وأقام ظالم بين الرعية يداريهم، وانتزح أهل القرى منها لشدة نهب المغاربة أموالهم، وظلمهم لهم، ودخلوا البلد، فلما كان نصف شوال من السنة وقعت فتنة عظيمة بين عسكر أبي محمود وبين العامة، وجرى بين الطائفتين قتال شديد، وظالم مع العامة يظهر أنه يريد الإصلاح، ولم يكاشف أبا محمود، وانفصلوا.
ثم إن أصحاب أبي محمود أخذوا من الغوطة قفلاً من حوران، وقتلوا منه ثلاثة نفر، فأخذهم أهلوهم وألقوهم في الجامع، فأغلقت الأسواق، وخاف الناس، وأرادوا القتال، فسكنهم عقلاؤهم.
ثم إن المغاربة أرادوا نهب قينية واللؤلؤة، فوقع الصائح في أهل البلد، فنفروا، وقاتلوا المغاربة في السابع عشر ذي القعدة، وركب أبو محمود في جموعه وزحف الناس بعضهم إلى بعض، فقوي المغاربة، وانهزم العامة إلى سور البلد، فصبروا عنده، وخرج إليهم من تخلف عنهم، وكثر النشاب على المغاربة فأثخن فيهم، فعادوا، فتبعهم العامة، فاضطروهم إلى العود، فعادوا، وحملوا على العامة فانهزموا، وتبعوهم إلى البلد، وخرج ظالم من دار الإمارة.

وألقى المغاربة النار في البلد من ناحية باب الفراديس، وأحرقوا تلك الناحية فأخذت النار إلى القبلة فأحرقت من البلد كثيراً، وهلك فيه جماعة من الناس، وما لا يحد من الأثاث والرحال والأموال، وبات الناس على أقبح صورة، ثم إنهم اصطلحوا هم وأبو محمود، ثم انتقضوا، ولم يزالوا كذلك إلى ربيع الآخر سنة أربع وستين وثلاثمائة.
ذكر ولاية جيش بن الصمصامة دمشقثم عادت الفتنة في ربيع الآخر سنة أربع وستين وثلاثمائة، وترددوا في الصلح، فاستقر الأمر بين القائد أبي محمود والدمشقيين على إخراج ظالم من البلد، وأن يليه جيش بن الصمصامة، وهو ابن أخت أبي محمود، واتفقوا على ذلك، وخرج ظالم من البلد، ووليه جيش بن الصمصامة، وسكنت الفتنة واطمأن الناس.
ثم إن المغاربة بعد أيام عاثوا وأفسدوا باب الفراديس، فثار الناس عليهم وقاتلوهم، وقتلوا من لحقوه، وصاروا إلى القصر الذي فيه جيش، فهرب منه هو ومن معه من الجند المغاربة، ولحق بالعسكر، فلما كان من الغد، وهو أول جمادى الأولى من السنة، زحف جيش في العسكر إلى البلد، وقاتله أهله، فظفر بهم وهزمهم، وأحرق من البلد ما كان سلم، ودام القتال بينهم أياماً كثيرة، فاضطرب الناس وخافوا، وخربت المنازل وانقطعت المواد، وانسدت المسالك، وبطل البيع والشراء، وقطع الماء عن البلد، فبطلت القنوات والحمامات، ومات كثير من الفقراء على الطرقات من الجوع والبرد، فأتاهم الفرج بعزل أبي محمود.
ذكر ولاية ريان الخادم دمشقلما كان بدمشق ما ذكرناه من القتال، والتحريق، والتخريب، وصل الخبر بذلك إلى المعز صاحب مصر، فأنكر ذلك واستبشعه واستعظمه، فأرسل إلى القائد ريان الخادم، والي طرابلس، يأمره بالمسير إلى دمشق لمشاهدة حالها وكشف أمور أهلها، وتعريفه حقيقة الأمر، وأن يصرف القائد أبا محمود عنها، فامتثل ريان ذلك، سار إلى دمشق، وكشف الأمر فيها وكتب به إلى المعز، وتقدم إلى القائد أبي محمود بالانصراف عنها، فسار في جماعة قليلة من العسكر إلى الرملة، وبقي الأكثر منهم مع ريان. وبقي الأمر كذلك إلى أن ولي الفتكين، على ما نذكره.
ذكر حال بختيار بعد قبض الأتراكلما فعل بختيار ما ذكرناه من قبض الأتراك ظفر بذخيرة لآزادرويه بجنديسابور، فأخذها، ثم رأى ما فعله الأتراك مع سبكتكين، وأن بعضهم بسواد الأهواز قد عصوا عليه، واضطر عليه غلمانه الذين في داره، وأتاه مشايخ الأتراك من البصرة، فعاتبوه على ما فعل بهم، وقال له عقلاء الديلم: لا بد لنا في الحرب من الأتراك يدفعون عنا بالنشاب؛ فاضطرب رأي بختيار، ثم أطلق آزادرويه، وجعله صاحب الجيش موضع سبكتكين، وظن أن الأتراك يأنسون به، وأطلق المعتقلين وسار إلى والدته وإخوته بواسط، وكتب إلى عمه ركن الدولة وإلى ابن عمه عضد الدولة يسألهما أن ينجداه، ويكشفا ما نزل به، وكتب إلى أبي تغلب بن حمدان يطلب منه أن يساعده بنفسه، وأنه إذا فعل ذلك أسقط عنه المال الذي عليه، وأرسل إلى عمران بن شاهين بالبطيحة خلعاً، وأسقط عنه باقي المال الذي اصطلحا عليه، وخطب إليه إحدى بناته، وطلب منه أن يسير إليه عسكراً.
فأما ركن الدولة عمه فإنه جهز عسكراً مع وزيره أبي الفتح بن العميد، وكتب إلى ابنه عضد الدولة يأمره بالمسير إلى ابن عمه والاجتماع مع ابن العميد.
وأما عضد الدولة فإنه وعد بالمسير، وانتظر ببختيار الدوائر طمعاً في ملك العراق.
وأما عمران بن شاهين فإنه قال: أما إسقاط المال فنحن نعلم أنه لا أصل له، وقد قبلته، وأما الوصلة فإنني لا أتزوج أحداً إلا أن يكون الذكر من عندي، وقد خطب إلي العلويون، وهم موالينا، فما أجبتهم إلى ذلك، وأما الخلع والفرس فإنني لست ممن يلبس ملبوسكم، وقد قبلها ابني، وأما إنفاذ عسكر فإن رجالي لا يسكنون إليكم لكثرة ما قتلوا منكم.
ثم ذكر ما عامله به هو وأبوه مرة بعد أخرى، وقال: ومع هذا فلا بد أن يحتاج إلى أن يدخل بيتي مستجيراً بي، والله لأعمالنه بضد ما عاملني به هو وأبوه؛ فكان كذلك.

وأما أبو تغلب بن حمدان فإنه أجاب إلى المسارعة، وأنفذ أخاه أبا عبدالله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان إلى تكريت في عسكر، وانتظر انحدار الأتراك عن بغداد، فإن ظفروا ببختيار دخل بغداد مالكاً لها، فلما انحدر الأتراك عن بغداد سار أبو تغلب إليها ليوجب على بختيار الحجة في إسقاط المال الذي عليه، ووصل إلى بغداد والناس في بلاء عظيم مع العيارين، فحمى البلد، وكف أهل الفساد.
وأما الأتراك فإنهم انحدروا مع سبكتكين إلى واسط، وأخذوا معهم الخليفة الطائع لله، والمطيع أيضاً وهو مخلوع، فلما وصلوا إلى دير العاقول توفي بها المطيع، ومرض سبكتكين فمات بها أيضاً، فحملا إلى بغداد، وقدم الأتراك عليهم الفتكين، وهو من أكابر قوادهم وموالي معز الدولة، وفرح بختيار بموت سبكتكين، وظن أن أمر الأتراك ينحل وينتشر بموته، فلما رأى انتظام أمورهم ساءه ذلك.
ثم إن الأتراك ساروا إليه، وهو بواسط، فنزلوا قريباً منه، وصاروا يقاتلونه نوائب نحو خمسين يوماً، ولم تزل الحرب بين الأتراك وبختيار متصلة، والظفر للأتراك في كل ذلك، وحصروا بختيار، واشتد عليه الحصار، وأحدقوا به، وصار خائفاً يترقب، وتابع إنفاذ الرسل إلى عضد الدولة بالحث والإسراع وكتب إليه:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلاّ فأدركني ولّما أمزّق
فلما رأى عضد الدولة ذلك، وأن الأمر قد بلغ ببختيار ما كان يرجوه، سار نحو العراق نجدة له في الظاهر، وباطنه بضد ذلك.
ذكر ملك عضد الدولة عمانفي هذه السنة استولى الوزير أبو القاسم المطهر بن محمد وزير عضد الدولة على جبال عمان، ومن بها من الشراة، في ربيع الأول.
وسبب ذلك أن معز الدولة لما توفي، وبعمان أبو الفرج بن العباس، نائب معز الدولة، فارقها، فتولى أمرها عمر بن نهبان الطائي، وأقام الدعوة لعضد الدولة، ثم إن الزنج غلبت على البلد، ومعهم طوائف من الجند، وقتلوا ابن نهبان، وأمروا عليهم إنساناً يعرف بابن حلاج، فسير عضد الدولة جيشاً من كرمان، واستعمل عليهم أبا حرب طغان، فساروا في البحر إلى عمان، فخرج أبو حرب من المراكب إلى البر، وسارت المراكب في البحر من ذلك المكان، فتوافوا على صحار قصبة عمان فخرج إليهم الجند والزنج واقتتلوا قتالاً شديداً في البر والبحر، فظفر أبو حرب، واستولى على صحار، وانهزم أهلها، وكان ذلك سنة اثنتين وستين.
ثم إن الزنج اجتمعوا إلى بريم، وهو رستاق بينه وبين صحار مرحلتان، فسار إليهم أبو حرب، فأوقع بهم وقعة أتت عليهم قتلاً وأسراً، فاطمأنت البلاد.
ثم إن جبال عمان اجتمع بها خلق كثير من الشراة، وجعلوا لهم أميراً اسمه ورد بن زياد، وجعلوا لهم خليفة اسمه حفص بن راشد، فاشتدت شوكتهم، فسير عضد الدولة المطهر بن عبدالله في البحر أيضاً، فبلغ إلى نواحي حرفان من أعمال عمان، فأوقع بأهلها، وأثخن فيهم، وأسر، ثم سار إلى دما، وهي على أربعة أيام من صحار، فقاتل من بها، وأوقع بهم وقعة عظيمة قتل فيها وأسر كثيراً من رؤسائهم، وانهزم أميرهم ورد، وإمامهم حفص، واتبعهم المطهر إلى نزوى، وهي قصبة تلك الجبال، فانهزموا منه، فسير إليهم العساكر، فأوقعوا بهم وقعة أتت على باقيهم، وقتل ورد، وانهزم حفص إلى اليمن، فصار معلماً، وسار المطهر إلى مكان يعرف بالشرف به جمع كثير من العرب، نحو عشرة آلاف، فأوقع بهم، واستقامت البلاد، ودانت بالطاعة، ولم يبق فيها مخالف.
ذكر عدة حوادثوفيها خطب للمعز لدين الله العلوي، صاحب مصر، بمكة والمدينة، في الموسم.
وفيها خرج بنو هلال وجمع من العرب على الحاج، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وضاق الوقت، فبطل الحج، ولم يسلم إلا من مضى مع الشريف أبي أحمد الموسوي، والد الرضي، على طريق المدينة، فتم حجهم.
وفيها كانت بواسط زلزلة عظيمة في ذي الحجة.
وفيها توفي عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد الفقيه الحنبلي المعروف بغلام الخلال وعمره ثمان وسبعون سنة.
وإلى آخر هذه السنة انتهى تاريخ ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة، وأوله من خلافة المقتدر بالله سنة خمس وتسعين ومائتين.
ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة

ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق
وقبض بختيار
في هذه السنة وصل عضد الدولة واستولى على العراق، وقبض بختيار ثم عاد فأخرجه.

وسبب ذلك أن بختيار لما تابع كتبه إلى عضد الدولة يستنجده، ويستعين به على الأتراك، سار إليه في عساكر فارس، واجتمع به أبو الفتح بن العميد، وزير أبيه ركن الدولة، في عساكر الري بالأهواز، وساروا إلى واسط. فلما سمع الفتكين بخبر وصولهم رجع إلى بغداد، وعزم على أن يجعلها وراء ظهره، ويقاتل على ديالى.
ووصل عضد الدولة، فاجتمع به بختيار، وسار عضد الدولة إلى بغداد في الجانب الشرقي، وأمر بختيار أن يسير في الجانب الغربي.
ولما بلغ الخبر إلى أبي تغلب بقرب الفتكين منه عاد عن بغداد إلى الموصل لأن أصحابه شغبوا عليه، فلم يمكنه المقام، ووصل الفتكين إلى بغداد، فحصل محصوراً من جميع جهاته، وذلك أن بختيار كتب إلى ضبة بن محمد الأسدي، وهو من أهل عين التمر، وهو الذي هجاه المتنبي، فأمره بالإغارة على أطراف بغداد، وبقطع الميرة عنها، وكتب بمثل ذلك إلى بني شيبان.
وكان أبو تغلب بن حمدان من ناحية الموصل يمنع الميرة وينفذ سراياه، فغلا السعر ببغداد، وثار العيارون والمفسدون فنهبوا الناس ببغداد، وامتنع الناس من المعاش لخوف الفتنة، وعدم الطعام والقوت بها، وكبس الفتكين المنازل في طلب الطعام.
وسار عضد الدولة نحو بغداد، فلقيه الفتكين والأتراك بين ديالى والمدائن، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم الأتراك فقتل منهم خلق كثير، ووصلوا إلى ديالى فعبروا على جسور كانوا عملوها عليه، فغرق منهم أكثرهم من الزحمة، وكذلك قتل وغرق من العيارين الذين أعانوهم من بغداد، واستباحوا عسكرهم، وكانت الوقعة رابع عشر جمادى الأولى.
وسار الأتراك إلى تكريت، وسار عضد الدولة فنزل بظاهر بغداد، فلما علم وصول الأتراك إلى تكريت دخل بغداد ونزل بدار المملكة، وكان الأتراك قد أخذوا الخليفة معهم كارهاً، فسعى عضد الدولة حتى رده إلى بغداد، فوصلها ثامن رجب في الماء، وخرج عضد الدولة فلقيه في الماء أيضاً، وامتلأت دجلة بالسيمريات والزبازب، ولم يبق ببغداد أحد، ولو أراد إنسان أن يعبر دجلة على السميريات من واحدة إلى أخرى لأمكنه ذلك لكثرتها؛ وسار عضد الدولة مع الخليفة وأنزله بدار الخلافة.
وكان عضد الدولة قد طمع في العراق، واستضعف بختيار، وإنما خاف أباه ركن الدولة، فوضع جند بختيار على أن يثوروا به ويشغبوا عليه، ويطالبوه بأموالهم والإحسان لأجل صبرهم مقابل الأتراك، ففعلوا ذلك، وبالغوا. وكان بختيار لا يملك قليلاً ولا كثيراً، وقد نهب البعض، وأخرج هو الباقي، والبلاد خراب، فلا تصل يده إلى أخذ شيء منها.
وأشار عضد الدولة على بختيار بترك الالتفات إليهم، والغلظة لهم وعيهم، وأن لا يعدهم بما لا يقدر عليه، وأن يعرفهم أنه لا يريد الإمارة والرئاسة عليهم، ووعده أنه إذا فعل ذلك توسط الحال بينهم على ما يريده. فظن بختيار أنه ناصح له، مشفق عليه، ففعل ذلك، واستعفى من الإمارة، وأغلق باب داره، وصرف كتابه وحجابه، فراسله عضد الدولة ظاهراً بمحضر من مقدمي الجند يشير عليه بمقاربتهم، وتطييب قلوبهم، وكان أوصاه سراً أن لا يقبل منه ذلك. فعمل بختيار بما أوصاه، وقال: لست أميراً لهم، ولا بيني وبينهم معاملة، وقد برئت منهم. فترددت الرسل بينهم ثلاثة أيام، وعضد الدولة يغريهم به، والشغب يزيد، وأرسل بختيار إليه يطلب نجاز ما وعده به، ففرق الجند على عدة جميلة، واستدعى بختيار وإخوته إليه، فقبض عليهم، ووكل بهم، وجمع الناس وأعلمهم استعفاء بختيار عن الإمارة عجزاً عنها، ووعدهم الإحسان والنظر في أمورهم، فسكنوا إلى قوله. وكان قبضه على بختيار في السادس والعشرين من جمادى الآخرة.
وكان الخليفة الطائع لله نافراً عن بختيار لأنه كان مع الأتراك في حروبهم، فلما بلغه قبضه سره ذلك، وعاد إلى عضد الدولة، فأظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان قد نسي وترك، وأمر بعمارة الدار، والإكثار من الآلات، وعمارة ما يتعلق بالخليفة، وحماية إقطاعه؛ ولما دخل الخليفة إلى بغداد ودخل دار الخلافة أنفذ إليه عضد الدولة مالاً كثيراً، وغيره من الأمتعة والفرش وغير ذلك.
ذكر عود بختيار إلى ملكه

لما قبض بختيار كان ولده المرزبان بالبصرة متولياً لها، فلما بلغه قبض والده امتنع فيها على عضد الدولة، وكتب إلى ركن الدولة يشكو ما جرى على والده وعميه من عضد الدولة ومن أبي الفتح بن العميد، ويذكر له الحيلة التي تمت عليه، فلما سمع ركن الدولة ذلك ألقى نفسه عن سريره إلى الأرض وتمرغ عليها، وامتنع من الأكل والشرب عدة أيام، ومرض مرضاً لم يستقل منه باقي حياته.
وكان محمد بن بقية، بعد بختيار، قد خدم عضد الدولة، وضمن منه مدينة واسط وأعمالها، فلما صار إليها خلع طاعة عضد الدولة، وخالف عليه، وأظهر الامتعاض لقبض بختيار، وكاتب عمران بن شاهين، وطلب مساعدته، وحذره مكر عضد الدولة، فأجابه عمران إلى ما التمس.
وكان عضد الدولة قد ضمن سهل بن بشر، وزير الفتكين، بلد الأهواز، وأخرجه من حبس بختيار، فكاتبه محمد بن بقية واستماله، فأجابه، فلما عصى ابن بقية أنفذ إليه عضد الدولة جيشاً قوياً، فخرج إليهم ابن بقية في الماء ومعه عسكر قد سيره إليه عمران، فانهزم أصحاب عضد الدولة أقبح هزيمة، وكاتب ركن الدولة بحاله وحال بختيار، فكتب ركن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممن احتمى لبختيار، يأمرهم بالثبات والصبر، ويعرفهم أنه على المسير إلى العراق لإخراج عضد الدولة وإعادة بختيار.
فاضطربت النواحي على عضد الدولة، وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه، وانقطعت عنه مواد فارس والبحر، ولم يبق بيده إلا قصبة بغداد، وطمع فيه العامة، وأشرف على ما يكره، فرأى إنفاذ أبي الفتح بن العميد برسالة إلى أبيه يعرفه ما جرى له وما فرق من الأموال، وضعف بختيار عن حفظ البلاد، وإن أعيد إلى حاله خرجت المملكة والخلافة عنهم، وكان بوارهم، ويسأله ترك نصرة بختيار. وقال لأبي الفتح: فإن أجاب إلى ما تريد منه، وإلا فقل له: إنني أضمن منك أعمال العراق، وأحمل إليك منها كل سنة ثلاثين ألف ألف درهم، وأبعث بختيار وأخويه إليك لتجعلهم بالخيار، فإن اختاروا أقاموا عندك، وإن اختاروا بعض بلاد فارس سلمته إليهم، ووسعت عليهم، وإن أحببت أنت أن تحضر في العراق لتلي تدبير الخلافة، وتنفذ بختيار إلى الري وأعود أنا إلى فارس فالأمر إليك.
وقال لابن العميد: فإن أجاب إلى ما ذكرت له، وإلا فقل له: أيها السيد الوالد، أنت مقبول الحكم والقول، ولكن لا سبيل إلى إطلاق هؤلاء القوم بعد مكاشفتهم، وإظهار العداوة، وسيقاتلونني بغاية ما يقدرون عليه، فتنتشر الكلمة، ويختلف أهل هذا البيت أبداً، فإن قبلت ما ذكرته فأنا العبد الطائع، وإن أبيت، وحكمت بانصرافي، فإني سأقتل بختيار وأخويه، وأقبض على كل من أتهمه بالميل إليهم، وأخرج عن العراق، وأترك البلاد سائبة ليدبرها من اتفقت له.
فخاف ابن العميد أن يسير بهذه الرسالة، وأشار أن يسير بها غيره، ويسير هو بعد ذلك، ويكون كالمشير على ركن الدولة بإجابته إلى ما طلب، فأرسل عضد الدولة رسولاً بهذه الرسالة، وسير بعده ابن العميد على الجمازات، فلما حضر الرسول عند ركن الدولة، وذكر بعض الرسالة، وثب إليه ليقتله، فهرب من بين يديه، ثم رده بعد أن سكن غضبه، وقال: قل لفلان، يعني عضد الدولة، وسماه بغير اسمه، وشتمه، خرجت إلى نصرة ابن أخي وللطمع في مملكته، أما عرفت أني نصرت الحسن بن الفيرزان، وهو غريب مني، مراراً كثيرة أخاطر فيها بملكي ونفسي، فإذا ظفرت أعدت له بلاده، ولم أقبل منه ما قيمته درهم واحد. ثم نصرت إبراهيم بن المرزبان، وأعدته إلى أذربيجان، وأنفذت وزيري وعساكري في نصرته، ولم آخذ منه درهماً واحداً، كل ذلك طلباً لحسن الذكر، ومحافظة على الفتوة، تريد أن تمن أنت علي بدرهمين أنفقتهما أنت علي وعلى أولاد أخي، ثم تطمع في ممالكهم وتهددني بقتلهم ! فعاد الرسول ووصل ابن العميد، فحجبه عنه، ولم يسمع حديثه، وتهدده بالهلاك، وأنفذ إليه يقول له: لأتركنك وذلك الفاعل، يعني عضد الدولة، تجتهدان جهدكما، ثم لا أخرج إليكما إلا في ثلاثمائة جمازة وعليها الرجال، ثم اثبتوا إن شئتم، فوالله لا قاتلتكما إلا بأقرب الناس إليكما.
وكان ركن الدولة يقول: إنني أرى أخي معز الدولة كل ليلة في المنام يعض على أنامله ويقول: يا أخي هكذا ضمنت لي أن تخلفني في ولدي. وكان ركن الدولة يحب أخاه محبة شديدة لأنه رباه، فكان عنده بمنزلة الولد.

ثم إن الناس سعوا لابن العميد، وتوسطوا الحال بينه وبين ركن الدولة، وقالوا: إنما تحمل ابن العميد هذه الرسالة ليجعلها طريقاً للخلاص من عضد الدولة، والوصول إليك لتأمر بما تراه. فأذن له في الحضور عنده، فاجتمع به، وضمن له إعادة عضد الدولة إلى فارس، وتقرير بختيار بالعراق، فرده إلى عضد الدولة، وعرفه جلية الحال.
فلما رأى عضد الدولة انحراف الأمور عليه من كل ناحية أجاب إلى المسير إلى فارس وإعادة بختيار، فأخرجه من محبسه، وخلع عليه، وشرط عليه أن يكون نائباً عنه بالعراق، ويخطب له، ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لضعف بختيار، ورد عليهم عضد الدولة جميع ما كان لهم، وسار إلى فارس في شوال من هذه السنة، وأمر أبا الفتح بن العميد، وزير أبيه، أن يلحقه بعد ثلاثة أيام.
فلما سار عضد الدولة أقام ابن العميد عند بختيار متشاغلاً باللذات، وبما هو بختيار مغرى به من اللعب، واتفقا باطناً على أنه إذا مات ركن الدولة سار إليه ووزر له. واتصل ذلك بعضد الدولة، فكان سبب هلاك ابن العميد، على ما نذكره.
واستقر بختيار ببغداد، ولم يقف لعضد الدولة على العهود. فلما ثبت أمر بختيار أنفذ ابن بقية من خلفه له، وحضر عنده، وأكد الوحشة بين بختيار وعضد الدولة، وثارت الفتنة بعد مسير عضد الدولة، واستمال ابن بقية الأجناد، وجبى كثيراً من الأموال إلى خزانته، وكان إذا طالبه بختيار بالمال وضع الجند على مطالبته، فثقل على بختيار، فاستشار في مكروه يوقعه به، فبلغ ذلك ابن بقية، فعاتب بختيار عليه، فأنكره وحلف له، فاحترز ابن بقية منه.
ذكر اضطراب كرمان على عضد الدولة وعودها لهفي هذه السنة خالف أهل كرمان على عضد الدولة.
وسبب ذلك أن رجلاً من الجرومية، وهي البلاد الحارة، يقال له طاهر ابن الصمة، ضمن من عضد الدولة ضمانات، فاجتمع عليه أموال كثيرة، فطمع فيها، وكان عضد الدولة قد سار إلى العراق، وسير وزيره المطهر بن عبدالله إلى عمان ليستولي عليها، فخلت كرمان من العساكر، فجمع طاهر الرجال الجرومية وغيرهم، فاجتمع له خلق كثير.
واتفق أن بعض الأتراك السامانية، اسمه يوزتمر، كان قد استوحش من أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور، صاحب جيش خراسان للسامانية، فكاتبه طاهر، وأطعمه في أعمال كرمان، فسار إليه، واتفقا، وكان يوزتمر هو الأمير، فاتفق أن الرجال الجرومية شغبوا على يوزتمر، فظن أن طاهراً وضعهم، فاختلفا واقتتلا، فظفر يوزتمر بطاهر وأسره، وظفر بأصحابه.
وبلغ الخبر إلى الحسين بن أبي علي بن إلياس، وهو بخراسان، فطمع في البلاد، فجمع جمعاً وسار إليها، فاجتمع عليه بها جموع كثيرة. ثم إن المطهر بن عبدالله استولى على عمان وجبالها، وأوقع بالشراة فيها وعاد، فوصله كتاب عضد الدولة من بغداد يأمره بالمسير إلى كرمان، فسار إليها مجداً، وأوقع في طريقه بأهل العيث والفساد، وقتلهم، وصلبهم، ومثل بهم، ووصل إلى يوزتمر على حين غفلة منه، فاقتتلوا بنواحي مدينة بم، فانهزم يوزتمر ودخل المدينة، وحصره المطهر في حصن في وسط المدينة، فطلب الأمان فأمنه، فخرج إليه ومعه طاهر، فأمر المطهر بطاهر فشهر، ثم ضرب عنقه.
وأما يوزتمر فإنه رفعه إلى بعض القلاع، فكان آخر العهد به، وسار المطهر إلى الحسين بن إلياس، فرأى كثرة من معه، فخاف جانبهم، ولم يجد من اللقاء بداً، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الحسين على باب جيرفت، وانهزم عسكره فمنعهم سور المدينة من الهرب، فكثر فيهم القتل، وأخذ الحسين أسيراً، وأحضر عند المطهر، فلم يعرف له بعد خبر، وصلحت كرمان لعضد الدولة.
ذكر ولاية الفتكين دمشق وما كان منه إلى أن ماتقد ذكرنا ما كان من انهزام الفتكين التركي، مولى معز الدولة بن بويه، من مولاه بختيار بن معز الدولة، ومن عضد الدولة في فتنة الأتراك بالعراق، فلما انهزم منهم سار في طائفة صالحة من الجند الترك، فوصل إلى حمص، فنزل بالقرب منها، فقصده ظالم بن موهوب العقيلي الذي كان أمير دمشق للمعز لدين الله ليأخذه، فلم يتمكن من أخذه، فعاد عنه وسار الفتكين إلى دمشق فنزل بظاهرها.

وكان أميرها حينئذ ريان الخادم للمعز، وكان الأحداث قد غلبوا عليها، وليس للأعيان معهم حكم، ولا للسلطنة عليهم طاعة، فلما نزل خرج أشرافها شيوخها إليه، وأظهروا له السرور بقدومه، وسألوه أن يقيم عندهم، ويملك بلدهم، ويزيل عنهم سمة المصريين، فإنهم يكرهونها بمخالفة الاعتقاد، ولظلم عمالهم، ويكف عنهم شر الأحداث. فأجابهم إلى ذلك؛ واستحلفهم على الطاعة والمساعدة، وحلف لهم على الحماية وكف الأذى عنهم منه ومن غيره، ودخل البلد، وأخرج عنه ريان الخادم، وقطع خطبة المعز، وخطب للطائع لله في شعبان، وقمع أهل العيث والفساد، وهابه الناس كافة، وأصلح كثيراً من أمورهم.
فكانت العرب قد استولت على سواد البلد وما يتصل به، فقصدهم وأوقع بهم، وقتل كثيراً منهم، وأبان عن شجاعة، وقوة نفس، وحسن تدبير، فأذعنوا له، وأقطع البلاد، وكثر جمعه، وتوفرت أمواله، وثبت قدمه.
وكاتب المعز بمصر يداريه، ويظهر له الانقياد، فشكره، وطلب منه أن يحضر عنده ليخلع عليه، ويعيده والياً من جانبه، فلم يثق به، وامتنع من المسير، فتجهز المعز، وجمع العساكر لقصده، فمرض ومات، على ما نذكره سنة خمس وستين وثلاثمائة، وولي بعده ابنه العزيز بالله، فأمن الفتكين بموته جهة مصر، فقصد بلاد العزيز التي بساحل الشام، فعمد إلى صيدا فحصرها وبها ابن الشيخ، ومعه رؤوس المغاربة، ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي، فقاتلهم وكانوا في كثرة، فطمعوا فيه وخرجوا إليه فاستجرهم حتى أبعدوا، ثم عاد عليهم فقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل.
وطمع في أخذ عكا، فتوجه إليها، وقصد طبرية، ففعل فيها من القتل والنهب مثل صيدا، وعاد إلى دمشق.
فلما سمع العزيز بذلك استشار وزيره يعقوب بن كلس فيما يفعل، فأشار بإرسال جوهر في العساكر إلى الشام فجهزه وسيره. فلما سمع الفتكين بمسيره جمع أهل دمشق وقال: قد علمتم أنني ما وليت أمركم إلا عن رضىً منكم، وطلب من كبيركم وصغيركم لي، وإنما كنت مجتازاً وقد أظلكم هذا الأمر، وأنا سائر عنكم لئلا ينالكم أذىً بسببي. فقالوا: لا نمكنك من فراقنا، ونحن نبذل الأنفس والأموال في هواك، وننصرك، ونقو معك؛ فاستحلفهم على ذلك، فحلفوا له، فأقام عندهم. فوصل جوهر إلى البلد في ذي القعدة من سنة خمس وستين وثلاثمائة، فحصره، فرأى من قتال الفتكين ومن معه ما استعظمه، ودامت الحرب شهرين، قتل فيها عدد كثير من الطائفتين.
فلما رأى أهل دمشق طول مقام المغاربة عليهم أشاروا على الفتكين بمكاتبة الحسن بن أحمد القرمطي، واستنجاده، ففعل ذلك، فسار القرمطي إليه من الأحساء، فلما قرب منه رحل جوهر عن دمشق، خوفاً أن يبقى بين عدوين، وكان مقامه عليها سبعة أشهر، ووصل القرمطي واجتمع هو والفتكين، وسارا في أثر جوهر، فأدركاه وقد نزل بظاهر الرملة، وسير أثقاله إلى عسقلان، فاقتتلوا، فكان جمع الفتكين والقرمطي كثيراً من رجال الشام والعرب وغيرهم، فكانوا نحو خميسن ألف فارس وراجل، فنزلوا على نهر الطواحين، على ثلاثة فراسخ من البلد، ومنه ماء أهل البلد، فقطعوه عنهم، فاحتج جوهر ومن معه إلى ماء المطر في الصهاريج، وهو قليل لا يقوم بهم، فرحل إلى عسقلان، وتبعه الفتكين والقرمطي فحصراه بها، وطال الحصار، فقلت الميرة، وعدمت الأقوات، وكان الزمان شتاء، فلم يمكن حمل الذخائر في البحر من مصر وغيرها، فاضطروا إلى أكل الميتة، وبلغ الخبز كل خمسة أرطال، بالشامي، بدينار مصري.
وكان جوهر يراسل الفتكين، ويدعوه إلى الموافقة والطاعة، ويبذل له البذول الكثيرة، فيهم أن يفعل، فيمنعه القرمطي ويخوفه منه، فزادت الشدة على جوهر ومن معه، فعاينوا الهلاك، فأرسل إلى الفتكين يطلب منه أن يجتمع به، فتقدم إليه واجتمعا راكبين. فقال له جوهر: قد عرفت ما يجمعنا من عصمة الإسلام وحرمة الدين، وقد طالت هذه الفتنة، وأريقت فيها الدماء، ونهبت الأموال، ونحو المؤاخذون بها عند الله تعالى، وقد دعوتك إلى الصلح والطاعة والموافقة، وبذلت لك الرغائب، فأبيت إلا القبول ممن يشب نار الفتنة، فراقب الله تعالى، وراجع نفسك، وغلب رأيك على هوى غيرك.
فقال الفتكين: أنا والله واثق بك في صحة الرأي والمشورة منك، لكنني غير متمكن مما تدعوني إليه بسبب القرمطي الذي أحوجتني أنت إلى مداراته والقبول منه.

فقال جوهر: إذا كان الأمر على ما ذكرت فإنني أصدقك الحال تعويلاً على أمانتك، وما أجده من الفتوة عندك؛ وقد ضاق الأمر بنا، وأريد أن تمن علي بنفسي وبمن معي من المسلمين، وتذم لنا، وأعود إلى صاحبي شاكراً لك، وتكون قد جمعت بين حقن الدماء واصطناع المعروف.
فأجابه إلى ذلك، وحلف له على الوفاء به، وعاد واجتمع بالقرمطي وعرفه الحال فقال: لقد أخطأت، فإن جوهراً له رأي وحزم ومكيدة، وسيرجع إلى صاحبه فيحمله على قصدنا بما لا طاقة لنا به، والصواب أن ترجع عن ذلك ليموتوا جوعاً، ونأخذهم بالسيف؛ فامتنع الفتكين من ذلك وقال: لا أغدر به؛ وأذن لجوهر ولمن معه بالمسير إلى مصر، فسار إليه، واجتمع بالعزيز، وشرح له الحال وقال: إن كنت تريدهم فاخرج إليهم بنفسك، وإلا فهم واصلون على أثري؛ فبرز العزيز، وفرق الأموال، وجمع الرجال، وسار وجوهر على مقدمته.
وورد الخبر إلى الفتكين والقرمطي فعادا إلى الرملة، وجمعا العرب وغيرها، وحشدا، ووصل العزيز فنزل بظاهر الرملة، ونزلا بالقرب منه، ثم اصطفوا للحرب في المحرم سنة سبع وستين وثلاثمائة، فرأى العزيز من شجاعة الفتكين ما أعجبه، فأرسل إليه في تلك الحال يدعوه إلى طاعته، ويبذل له الرغائب والولايات، وأن يجعله مقدم عسكره، والمرجوع إليه في دولته، ويطلب أن يحضر عنده، ويسمع قوله، فترجل وقبل الأرض بين الصفين، وقال للرسول: قل لأمير المؤمنين: لو قدم هذا القول لسارعت وأطعت، وأما الآن فلا يمكن إلا ما ترى. وحمل على الميسرة فهزمها، وقتل كثيراً منها، فلما رأى العزيز ذلك حمل من القلب، وأمر الميمنة فحملت، فانهزم القرمطي والفتكين ومن معهما، ووضع المغاربة السيف، فأكثروا القتل، وقتلوا نحو عشرين ألفاً.
ونزل العزيز في خيامه، وجاءه الناس بالأسرى، فكل من أتاه بأسير خلع عليه، وبذل لمن أتاه بالفتكين أسيراً مائة ألف دينار، وكان الفتكين قد مضى منهزماً، فكظه العطش، فلقيه المفرج بن دغفل الطائي وكان بينهما أنس قديم، فطلب منه الفتكين ماء، فسقاه، وأخذه معه إلى بيته فأنزله وأكرمه، وسار إلى العزيز بالله فأعلمه بأسر الفتكين، وطلب منه المال، فأعطاه ما ضمنه، وسير معه من تسلم الفتكين منه، فلما وصل الفتكين إلى العزيز لم يشك أنه يقتله لوقته، فرأى من إكرام العزيز له والإحسان إليه ما أعجزه، وأمر له بالخيام فنصبت، وأعاد إليه جميع من كان يخدمه، فلم يفقد من حاله شيئاً، وحمل إليه من التحف والأموال ما لم ير مثله، وأخذه معه إلى مصر وجعله من أخص خدمه وحجابه.
وأما الحسن القرمطي فإنه وصل منهزماً إلى طبرية، فأدركه رسول العزيز يدعوه إلى العود إليه ليحسن إليه، ويفعل معه أكثر مما فعل مع الفتكين، فلم يرجع، فأرسل إليه العزيز عشرين ألف دينار، جعلها له كل سنة، فكان يرسلها إليه، وعاد إلى الأحساء.
ولما عاد العزيز إلى مصر أنزل الفتكين عند قصره، وزاد أمره، وتحكم، فتكبر على وزيره يعقوب بن كلس، وترك الركوب إليه، فصار بينهما عداوة متأكدة، فوضع عليه من سقاه سماً فمات، فحزن عليه العزيز واتهم الوزير فحبسه نيفاً وأربعين يوماً، وأخذ منه خمسمائة ألف دينار، ثم وقفت أمور دولة العزيز باعتزال الوزير، فخلع عليه، وأعاده إلى وزارته.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار الحجاج إلى سميراء فرأوا هلال ذي الحجة بها، والعادة جارية بأن يرى الهلال بأربعة أيام، وبلغهم أنهم لا يرون الماء إلى غمرة، وهو بها أيضاً قليل، وبينهما نحو عشرة أيام، فغدوا إلى المدينة فوقفوا بها وعادوا، فكانوا أول المحرم في الكوفة.
وفيها ظهر بإفريقية كوكب عظيم من جهة المشرق، وله ذؤابة وضوء عظيم، فبقي يطلع كذلك نحواً من شهر، ثم غاب فلم ير وفيها توفي أبو القاسم عبد السلام بن أبي موسى المخرمي الصوفي نزيل مكة، وكان قد صحب أبا علي الروذباري وطبقته وغيره.
ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة

ذكر وفاة المعز لدين الله العلوي
وولاية ابنه العزيز بالله

في هذه السنة توفي المعز لدين الله أبو تميم معد بن المنصور بالله إسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي أبي محمد عبيدالله العلوي الحسيني بمصر، وأمه أم ولد، وكان موته سابع عشر شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وولد بالمهدية من إفريقية حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريباً.
وكان سبب موته أن ملك الروم بالقسطنطينية أرسل إليه رسولاً كان يتردد إليه بإفريقية، فخلا به بعض الأيام، فقال له المعز: أتذكر إذ أتيتني رسولاً، وأنا بالمهدية، فقلت لك: لتدخلن علي وأنا بمصر مالكاً لها ؟ قال: نعم ! وأنا أقول لك: لتدخلن علي ببغداد وأنا خليفة.
فقال له الرسول: إن أمنتني على نفسي، ولم تغضب، قلت لك ما عندي. قال له المعز: قل وأنت آمن؛ قال: بعثني إليك الملك ذلك العام، فرأيت من عظمتك في عيني وكثرة أصحابك ما كدت أموت منه، ووصلت إلى قصرك، فرأيت عليه نوراً عظيماً غطى بصري، ثم دخلت عليك، فرأيتك على سريرك، فظننتك خالقاً، فلو قلت لي إنك تعرج إلى السماء لتحققت ذلك، ثم جئت إليك الآن، فما رأيت من ذلك شيئاً، وأشرفت على مدينتك، فكانت في عيني سوداء مظلمة، ثم دخلت عليك، فما وجدت من المهابة ما وجدته ذلك العام، فقلت إن ذلك كان أمراً مقبلاً وإنه الآن بضد ما كان عليه.
فأطرق المعز، وخرج الرسول من عنده، وأخذت المعز الحمى لشدة ما وجد، واتصل مرضه حتى مات.
وكانت ولايته ثلاثاً وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، منها: مقامه بمصر سنتان وتسعة أشهر، والباقي بإفريقية، وهو أول الخلفاء العلويين ملك مصر، وخرج إليها، وكان مغرىً بالنجوم، ويعمل بأقوال المنجمين. قال له منجمه: إن عليه قطعاً في وقت كذا، وأشار عليه بعمل سرداب يختفي فيه إلى أن يجوز ذلك الوقت، ففعل ما أمره وأحضر قواده، فقال لهم: إن بيني وبين الله عهداً أنا ماضٍ إليه، وقد استخلفت عليكم ابني نزارا، يعني العزيز، فاسمعوا له وأطيعوا.
ونزل السرداب، فكان أحد المغاربة إذا رأى سحاباً نزل وأومأ بالسلام إليه، ظناً منه أن العز فيه. فغاب سنة ثم ظهر، وبقي مديدة، ومرض وتوفي، فستر ابنه العزيز موته إلى عيد النحر من السنة، فصلى بالناس وخطبهم، ودعا لنفسه، وعزى بأبيه.
وكان المعز عالماً، فاضلاً، جواداً، شجاعاً، جارياً على منهاج أبيه من حسن السيرة، وإنصاف الرعية، وستر ما يدعون إليه، إلا عن الخاصة، ثم أظهره، وأمر الدعاة بإظهاره إلا أنه لم يخرج فيه إلى حد يذم به.
ولما استقر العزيز في الملك أطاعه العسكر، فاجتمعوا عليه، وكان هو يدبر الأمور منذ مات أبوه إلى أن أظهره، ثم سير إلى الغرب دنانير عليها اسمه، فرقت في الناس، وأقر يوسف بلكين على ولاية إفريقية، وأضاف إليه ما كان أبوه استعمل عليه غير يوسف، وهي طرابلس، وسرت، وأجدابية، فاستعمل عليها يوسف عماله، وعظم أمره حينئذ، وأمن ناحية العزيز، واستبد بالملك، وكان يظهر الطاعة مجاملة، ومراقبة لا طائل وراءها.
ذكر حرب يوسف بلكين مع زناتة

وغيرها بإفريقية
في هذه السنة جمع خزرون بن فلفول بن خزر الزناتي جمعاً كبيراً، وسار إلى سجلماسة، فلقيه صاحبها في رمضان فقتله خزرون، وملك سجلماسة، وأخذ منها، من الأموال والعدد، شيئاً كثيراً، وبعث برأس صاحبها إلى الأندلس، وعظم شأنه زناتة، واشتد ملكهم.
وكان بلكين عند سبتة، وكان قد رحل إلى فاس وسجلماسة وأرض الهبط، وملكه كله، وطرد عنه عمال بني أمية وهربت زناتة منه، فلجأ كثير منهم إلى سبتة، وهي للأموي صاحب الأنلدس، وكان في طريقه شعاري مشتبكة، ولا تسلك، فأمر بقطعها وإحراقها، فقطعت وأحرقت حتى صارت للعسكر طريقاً.
ثم مضى بنفسه حتى أشرف على سبتة من جبل مطل عليها، فوقف نصف نهار لينظر من أي جهة يحاصرها ويقاتلها، فرأى أنها لا تؤخذ إلا بأسطول، فخافه أهلها خوفاً عظيماً، ثم رجع عنها نحو البصرة، وهي مدينة حسنة تسمى بصرة في المغرب، فلما سمعت به زناتة رحلوا إلى أقاصي الغرب في الرمال والصحاري هاربين منه، فدخل يوسف البصرة، وكان قد عمرها صاحب الأندلس عمارة عظيمة، فأمر بهدمها ونهبها، ورحل إلى بلد برغواطة.

وكان ملكهم عبس بن أم الأنصار، وكان مشعبذاً، ساحراً، وادعى النبوة، فأطاعوه في كل ما أمرهم به، وجعل لهم شريعة، فغزاه بلكين، وكانت بينهم حروب عظيمة لا توصف، كان الظفر في آخرها لبلكين، وقتل الله عبس بن أم الأنصار، وهزم عساكره، وقتلوا قتلاً ذريعاً، وسبى من نسائهم وأبنائهم ما لا يحصى، وسيره إلى إفريقية، فقال أهل إفريقية: إنه لم يدخل إليهم من السبي مثله قط؛ وأقام يوسف بلكين بتلك الناحية قاهراً لأهلها، وأهل سبتة منه خائفون، وزناتة هاربون في الرمال إلى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
ذكر حصر كسنتة وغيرهافي هذه السنة سار أمي صقلية، وهو أبو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي الحسين، في عساكر المسلمين، ومعه جماعة من الصالحين والعلماء، فنازل مدينة مسيني في رمضان، فهرب العدو عنها، وعدا المسلمون إلى كسنتة فحصروها أياماً، فسأل أهلها الأمان، فأجابهم إليه، وأخذ منهم مالاً، ورحل عنها إلى قلعة جلوا، ففعل كذلك بها وبغيرها، وأمر أخاه القاسم أن يذهب بالأسطول إلى ناحية بربولة ويبث السرايا في جميع قلورية، ففعل ذلك فغنم غنائم كثيرة، وقتل وسبى، وعاد هو وأخوه إلى المدينة.
فلما كان سنة ست وستين وثلاثمائة أمر أبو القاسم بعمارة رمطة، وكانت قد خربت قبل ذلك، وعاود الغزو وجمع الجيوش، وسار فنازل قلعة إغاثة، فطلب أهلها الأمان فأمنهم، وسلموا إليه القلعة بجميع ما فيها، ورحل إلى مدينة طارنت، فرأى أهلها قد هربوا منها وأغلقوا أبوابها، فصعد الناس السور، وفتحوا الأبواب، ودخلها الناس، فأمر الأمير بهدمها فهدمت وأحرقت، وأرسل السرايا فبلغوا أذرنت وغيرها، ونزل هو على مدينة عردلية، فقاتلها، فبذل أهلها له مالاً صالحهم عليه وعاد إلى المدينة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خطب للعزيز العلوي بمكة، حرسها الله تعالى، بعد أن أرسل جيشاً إليها، فحصروها، وضيقوا على أهلها، ومنعوهم الميرة، فغلت الأسعار بها، ولقي أهلها شدة شديدة.
وفيها أقام بسلس بن أرمانوس ملك الروم ورداً، المعروف بسقلاروس، دمستقاً، فلما استقر في الولاية استوحش من الملك، فعصى عليه، واستظهر بأبي تغلب بن حمدان، وصاهره، ولبس التاج وطلب الملك.
وفيها توفي أبو أحمد بن عدي الجرجاني في جمادى الآخرة، وهو إمام مشهور؛ ومحمد بن بدر الكبير الحمامي، غلام ابن طولون، وكان قد ولي فارس بعد أبيه.
وفيها، في ذي القعدة، توفي ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الصابي، صاحب التاريخ.
ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة

ذكر وفاة ركن الدولة
وملك عضد الدولة
في هذه السنة، في المحرم، توفي ركن الدولة أبو علي الحسن بن بويه، واستخلف على ممالكه ابنه عضد الدولة، وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه معز الدولة، وكان ابنه عضد الدولة قد عاد من بغداد، بعد أن أطلق بختيار على الوجه الذي ذكرناه.
وظهر عند الخاص والعام غضب والده عليه، فخاف أن يموت أبوه وهو على حال غضبه فيختل ملكه، وتزول طاعته، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد، وزير والده، يطلب منه أن يتوصل مع أبيه وإحضاره عنده، وأن يعهد إليه بالملك بعده. فسعى أبو الفتح في ذلك، فأجابه إليه ركن الدولة، وكان قد وجد نفسه خفة، فسار من الري إلى أصبهان، فوصلها في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلاثمائة، وأحضر ولده عضد الدولة من فارس، وجمع عنده أيضاً سائر أولاده بأصبهان، فعمل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها ركن الدولة وأولاده، والقواد والأجناد.
فلما فرغوا من الطعام عهد ركن الدولة إلى ولده عضد الدولة بالملك بعده، وجعل لولده فخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل، ولولده مؤيد الدولة أصبهان وأعمالها، وجعلهما في هذه البلاد بحكم أخيهما عضد الدولة.
وخلع عضد الدولة على سائر الناس، ذلك اليوم، الأقبية والأكسية على زي الديلم، وحياه القواد وإخوته بالريحان على عادتهم مع ملوكهم، وأوصى ركن الدولة أولاده بالاتفاق وترك الاختلاف، وخلع عليهم.
ثم سار عن أصبهان في رجب نحو الري، فدام مرضه إلى أن توفي، فأصيب به الدين والدنيا جميعاً لاستكمال جميع خلال الخير فيه، وكان عمره قد زاد على سبعين سنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سنة.
ذكر بعض سيرته

كان حليماً، كريماً وصلى الله عليه وسلم اسع الكرم، كثير البذل، حسن السياسة لرعاياه وجنده، رؤوفاً بهم، عادلاً في الحكم بينهم، وكان بعيد الهمة، عظيم الجد والسعادة، متحرجاً من الظلم، مانعاً لأصحابه منه، عفيفاً عن الدماء، يرى حقنها واجباً إلا فيما لا بد منه؛ وكان يحامي على أهل البيوتات، وكان يجري عليهم الأرزاق، ويصونهم عن التبذل، وكان يقصد المساجد الجامعة، في أشهر الصيام، للصلاة، وينتصب لرد المظالم، ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة، ويتصدق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات، ويلين جانبه للخاص والعام.
قال له بعض أصحابه في ذلك، وذكر له شدة مرداويج على أصحابه، فقال: أنظر كيف احترم، ووثب عليه أخص أصحابه به، وأقربهم منه لعنفه وشدته، وكيف عمرت، وأحبني الناس للين جانبي.
وحكي عنه أنه سار في سفر، فنزل في خركاة قد ضربت له قبل أصحابه، وقدم إليه طعام، فقال لبعض أصحابه: لأي شيء قيل في المثل: خير الأشياء في القرية الإمارة ؟ فقال صاحبه: لقعودك في الخركاة، وهذا الطعام بين يديك، وأنا لا خركاة ولا طعام؛ فضحك وأعطاه الخركاة والطعام، فانظر إلى هذا الخلق ما أحسنه وما أجمله.
وفي فعله في حادثة بختيار ما يدل على كمال مروءته، وحسن عهده، وصلته لرحمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكان له حسن عهد ومودة وإقبال.
ذكر مسير عضد الدولة إلى العراقفي هذه السنة تجهز عضد الدولة وسار يطلب العراق لما كان يبلغه عن بختيار وابن بقية من استمالة أصحاب الأطراف كحسنويه الكردي، وفخر الدولة بن ركن الدولة، وأبي تغلب بن حمدان، وعمران بن شاهين، وغيرهم، والاتفاق على معاداته، ولما كانا يقولانه من الشتم القبيح له، ولما رأى من حسن العراق وعظم مملكته إلى غير ذلك.
وانحدر بختيار إلى واسط على عزم محاربة عضد الدولة، وكان حسنويه وعده أنه يحضر بنفسه لنصرته، وكذلك أبو تغلب بن حمدان، فلم يف له واحد مهما.
ثم سار بختيار إلى الأهواز، أشار بذلك ابن بقية، وسار عضد الدولة من فارس نحوهم، فالتقوا في ذي القعدة واقتتلوا، فخامر على بختيار بعض عسكره، وانتقلوا إلى عضد الدولة، فانهزم بختيار، وأخذ ماله ومال ابن بقية، ونهبت الأثقال وغيرها؛ ولما وصل بختيار إلى واسط حمل إليه ابن شاهين صاحب البطيحة مالاً، وسلاحاً، وغير ذلك من الهدايا النفيسة، ودخل بختيار إليه، فأكرمه، وحمل إليه مالاً جليلاً، وأعلاقاً نفيسة، وعجب الناس من قول عمران: إن بختيار سيدخل منزلي وسيستجير بي؛ فكان كما ذكر. ثم أصعد بختيار إلى واسط.
وأما عضد الدولة فإنه سير إلى البصرة جيشاً فملكوها. وسبب ذلك أن أهلها اختلفوا، وكانت مضر تهوى عضد الدولة، وتميل إليه لأسباب قررها معهم، وخالفتهم ربيعة، ومالت إلى بختيار، فلما انهزم ضعفوا، وقويت مضر، وكاتبوا عضد الدولة، وطلبوا منه إنفاذ جيش إليهم، فسير جيشاً تسلم البلد وأقام عندهم.
وأقام بختيار بواسط، وأحضر ما كان له ببغداد والبصرة من مال وغيره ففرقه في أصحابه، ثم إنه قبض على ابن بقية لأنه اطرحه واستبد بالأمور دونه، وجبى الأموال إلى نفسه، ولم يوصل إلى بختيار منها شيئاً، وأراد أيضاً التقرب إلى عضد الدولة بقبضه لأنه هو الذي كان يفسد الأحوال بينهم.
ولما قبض عليه أخذ أمواله ففرقها، وراسل عضد الدولة في الصلح، وترددت الرسل بذلك، وكان أصحاب بختيار يختلفون عليه، فبعضهم يشير به، وبعضهم ينهى عنه، ثم إنه أتاه عبد الرزاق وبدر ابنا حسنويه في نحو ألف فارس معونةً له، فلما وصلا إليه أظهر المقام بواسط ومحاربة عضد الدولة. فاتصل بعضد الدولة أنه نقض الشرط، ثم بدا لبختيار في المسير، فسار إلى بغداد، فعاد عنه ابنا حسنويه إلى أبيهما، وأقام بختيار ببغداد، وانقضت السنة وهو بها، وسار عضد الدولة إلى واسط، ثم سار منها إلى البصرة، فأصلح بين ربيعة ومضر، وكانوا في الحروب والاختلاف نحو مائة وعشرين سنة.

ومن عجيب ما جرى لبختيار في هذه الحادثة أنه كان له غلام تركي يميل إليه، فأخذ في جملة الأسرى، وانقطع خبره عن بختيار، فحزن لذلك، وامتنع من لذاته والاهتمام بما رفع إليه من زوال ملكه وذهاب نفسه، حتى قال على رؤوس الأشهاد: إن فجيعتي بهذا الغلام أعظم من فيجعتي بذهاب ملكي، ثم سمع أنه في جملة الأسرى، فأرسل إلى عضد الدولة يبذل له ما أحب في رده إليه، فأعاده عليه، وسارت هذه الحادثة عنه، فازداد فضيحة وهواناً عند الملوك وغيرهم.
ذكر وفاة منصور بن نوح وملك ابنه نوحفي هذه السنة مات الأمير منصور بن نوح صاحب خراسان، وما وراء النهر، منتصف شوال، وكان موته ببخارى، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وولي الأمر بعده ابنه أبو القاسم نوح، وكان عمره حين ولي الأمر ثلاث عشرة سنة، ولقب بالمنصور.
ذكر وفاة القاضي منذر البلوطيفي هذه السنة، في ذي القعدة، مات القاضي منذر بن سعيد البلوطي، أبو الحاكم قاضي قضاة الأندلس، وكان إماماً فقيهاً، خطيباً، شاعراً، فصيحاً، ذا دين متين، دخل يوماً على عبد الرحمن الناصر، صاحب الأندلس، بعد أن فرغ من بناء الزهراء وقصورها، وقد قعد في قبة مزخرفة بالذهب، والبناء البديع الذي لم يسبق إليه، ومعه جماعة من الأعيان، فقال عبد الرحمن الناصر: هل بلغكم أن أحداً بنى مثل هذا البناء ؟ فقال له الجماعة: لم نر، ولم نسمع بمثله؛ وأثنوا، وبالغوا، والقاضي مطرق، فاستنطقه عبد الرحمن، فبكى القاضي، وانحدرت دموعه على لحيته، وقال: والله ما كنت أظن أن الشيطان، أخزاه الله تعالى، يبلغ منك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين، مع ما آتاك الله، وفضلك به، حتى أنزلك منازل الكافرين.
فقال له عبد الرحمن: انظر ما تقول، وكيف أنزلني منزل الكافرين ؟ فقال: قال الله تعالى: (وَلَوْلاَ أنْ يَكُونَ النّاس أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَن لِبُيُوتِهمْ سُقُفاً مِنْ فِضّةٍ، وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُون، وَلِبُيُوتِهمْ أبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ، وَزُخْرُفاً)، إلى قوله: (وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) الزخرف: 33 - 35.
فوجم عبد الرحمن وبكى، وقال: جزاك الله خيراً، وأكثر في المسلمين مثلك وأخبار هذا القاضي كثيرة حسنة جداً، ومنها: أنه قحط الناس وأرادوا الخروج للاستسقاء، فأرسل إليه عبد الرحمن يأمره بالخروج، فقال القاضي للرسول: يا ليت شعري ما الذي يصنعه الأمير يومنا هذا ؟ فقال: ما رأيته قط أخشع منه الآن، قد لبس خشن الثياب، وافترش التراب، وجعله على رأسه ولحيته، وبكى، واعترف بذنوبه، ويقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تعذب هذا الخلق لأجلي ؟ فقال القاضي: يا غلام احمل الممطر معك، فقد أذن الله بسقيانا، إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء؛ فخرج واستسقى بالناس، فلما صعد المنبر ورأى الناس قد شخصوا إليه بأبصارهم قال: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أنَّهُ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأصْلَحَ) الأنعام: 54 الآية، وكررها، فضج الناس بالبكاء والتوبة، وتمم خطبته فسقي الناس.
ذكر القبض على أبي الفتح بن العميدفي هذه السنة قبض عضد الدولة على أبي الفتح بن العميد، وزير أبيه، وسمل عينه الواحدة وقطع أنفه.
وكان سبب ذلك أن أبا الفتح لما كان ببغداد مع عضد الدولة، على ما شرحناه، وسار عضد الدولة نحو فارس تقدم إلى أبي الفتح بتعجيل المسير عن بغداد إلى الري، فخالفه وأقام، وأعجبه المقام ببغداد، وشرب مع بختيار، ومال في هواه، واقتنى ببغداد أملاكاً ودوراً على عزم العود إليها إذا مات ركن الدولة، ثم صار يكاتب بختيار بأشياء يكرهها عضد الدولة.
وكان له نائب يعرضها على بختيار، فكان ذلك النائب يكاتب بها عضد الدولة ساعة فساعة، فلما ملك عضد الدولة، بعد موت أبيه، كتب إلى أخيه فخر الدولة بالري يأمره بالقبض عليه وعلى أهله وأصحابه، ففعل ذلك، وانقلع بيت العميد على يده كما ظنه أبوه أبو الفضل.
وكان أبو الفتح ليلة قبض قد أمسى مسروراً، فأحضر الندماء والمغنين، وأظهر من الآلات الذهبية، والزجاج المليح، وأنواع الطيب ما ليس لأحد مثله، وشربوا، وعمل شعراً وغني له فيه وهو:

دعوت المنى ودعوت العلى ... فلمّا أجابا دعوت القدح
وقلت لأيّام شرخ الشباب ... إليّ فهذا أوان الفرح
إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
فلما غني في الشعر استطابه، وشرب عليه إلى أن سكر، وقام وقال لغلمانه: اتركوا المجلس على ما هو عليه لنصطبح غداً؛ وقال لندمائه: بكروا إلي غداً لنصطبح، ولا تتأخروا. فانصرف الندماء، ودخل هو إلى بيت منامه، فلما كان السحر دعاه مؤيد الدولة فقبض عليه، وأرسل إلى داره فأخذ جميع ما فيها ومن جملته ذلك المجلس بما فيه.
ذكر وفاة الحاكم وولاية ابنه هشاموفي هذه السنة توفي الحاكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عبد الرحمن المستنصر بالله الأموي، صاحب الأندلس، وكانت إمارته خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وعمره ثلاثاً وستين سنة وسبعة أشهر، وكان أصهب أعين، أقنى، عظيم الصوت، ضخم الجسم، أفقم، وكان محباً لأهل العلم، عالماً، فقيهاً في المذاهب، عالماً بالأنساب والتواريخ، جماعاً للكتب والعلماء، مكرماً لهم، محسناً إليهم، أحضرهم من البلدان البعيدة ليستفيد منهم ويحسن إليهم.
ولما توفي ولي بعده انه هشام بعهد أبيه، وله عشر سنين، ولقب المؤيد بالله، واختلفت البلاد في أيامه، وأخذ وحبس، ثم عاد إلى الإمارة.
وسببه أنه لما ولي المؤيد تحجب له المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر المعافري، وابناه المظفر والناصر، فلما حجب له أبو عامر حجبه عن الناس، فلم يكن أحد يراه، ولا يصل إليه، وقام بأمر دولته القيام المرضي، وعدل في الرعية، وأقبلت الدنيا إليه، واشتغل بالغزو، وفتح من بلاد الأعداء كثيراً، وامتلأت بلاد الأندلس بالغنائم والرقيق، وجعل أكثر جنده منهم كواضح الفتى وغيره من المشهورين، وكانوا يعرفون بالعامريين.
وأدام الله له الحال ستاً وعشرين سنة، غزا فيها اثنتين وخمسين غزاة ما بين صائفة وشاتية، وتوفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وكان حازماً، قوي العزم، كثير العدل والإحسان، حسن السياسة.
فمن محاسن أعماله: أنه دخل بلاد الفرنج غازياً، فجاز الدرب إليها، وهو مضيق بين جبلين، وأوغل في بلاد الفرنج يسبي، ويخرب، ويغنم، فلما أراد الخروج رآهم قد سدوا الدرب، وهم عليه يحفظونه من المسلمين، فأظهر أنه يريد المقام في بلادهم، وشرع هو وعسكره في عمارة المساكن وزرع الغلات، وأحضروا الحطب، والتبن، والميرة، وما يحتاجون إليه، فلما رأوا عزمه على المقام مالوا إلى السلم، فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده، فقال: أنا عازم على المقام؛ فتركوا له الغنائم، فلم يجبهم إلى الصلح، فبذلوا له مالاً، ودواب تحمل له ما غنمه من بلادهم، فأجابهم إلى الصلح، وفتحوا له الدرب، فجاز إلى بلاده.
وكان أصله من الجزيرة الخضراء، وورد شاباً إلى قرطبة، طالباً للعلم والأدب وسماع الحديث، فبرع فيها وتميز، ثم تعلق بخدمة صبح والدة المؤيد، وعظم محله عندها، فلما مات الحاكم المستنصر كان المؤيد صغيراً، فخيف على الملك أن يختل، فضمن لصبح سكون البلاد، وزوال الخوف، وكان قوي النفس، وساعدته المقادير، وأمدته الأمراء بالأموال، فاستمال العساكر، وجرت الأمور على أحسن نظام.
وكانت أمه تميمية، وأبوه معافرياً، بطن من حمير، فلما توفي ولي بعده ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر، فسار كسيرة أبيه، وتوفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فكانت ولايته سبع سنين.
وكان سبب موته أن أخاه عبد الرحمن سمه في تفاحة قطعها بسكين كان قد سم أحد جانبيها، فناول أخاه ما يلي الجانب المسموم، وأخذ هو ما يلي الجانب الصحيح، فأكله بحضرته، فاطمأنه المظفر، وأكل ما بيده منها فمات.
فلما توفي ولي بعده أخوه عبد الرحمن الملقب بالناصر، فسلك غير طريق أبيه وأخيه، وأخذ في المجون، وشرب الخمور، وغير ذلك، ثم دس إلى المؤيد من خوفه منه إن لم يجعله ولي عهده، ففعل ذلك، فحقد الناس وبنو أمية عليه ذلك، وأبغضوه، وتحركوا في أمره إلى أن قتل.

وغزا شاتية، وأوغل في بلاد الجلالقة، فلم يقدم ملكها على لقائه، وتحصن منه في رؤوس الجبال، ولم يقدر عبد الرحمن على اتباعه لزيادة الأنهار، وكثرة الثلوج، فأثخن في البلاد التي وطئها، وخرج موفوراً، فبلغه في طريقه ظهور محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر لدين الله بقرطبة، واستيلاؤه عليها، وأخذه المؤيد أسيراً، فتفرق عنه عسكره، ولم يبق معه إلا خاصته، فسار إلى قرطبة ليتلافى ذلك الخطب، فخرج إليه عسكر محمد بن هشام فقتلوه وحملوا رأسه إلى قرطبة فطافوا به؛ وكان قتله سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، ثم صلبوه.
ذكر ظهور محمد بن هشام بقرطبةوفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ظهر بقرطبة محمد بن هشان بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر لدين الله الأموي، ومعه اثنا عشر رجلاً، فبايعه الناس، وكان ظهوره سلخ جمادى الآخرة، وتلقب بالمهدي بالله، وملك قرطبة، وأخذ المؤيد فحبسه معه في القصر، ثم أخرجه وأخفاه، وأظهر أنه مات.
وكان قد مات إنسان نصراني يشبه المؤيد، فأبرزه للناس في شعبان من هذه السنة، وذكر لهم أنه المؤيد، فلم يشكوا في موته، وصلوا عليه، ودفنوه في مقابر المسلمين، ثم إنه أظهره، على ما نذكره، وأكذب نفسه، فكانت مدة ولاية المؤيد هذه إلى أن حبس ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، ونقم الناس على ابن عبد الجبار أشياء منها أنه كان يعمل النبيذ في قصره، فسموه نباذاً، ومنها فعله بالمؤيد، وأنه كان كذاباً، متلوناً، مبغضاً للبربر، فانقلب الناس عليه.
ذكر خروج هشام بن سليمان عليهلما استوحش أهل الأندلس من ابن عبد الجبار، وأبغضوه، قصدوا هشام ابن سليمان بن عبد الرحمن الناصر لدين الله، فأخرجوه من داره وبايعوه، فتلقب بالرشيد، وذلك لأربع بقين من شوال سنة تسع وتسعين، واجتمعوا بظاهرة قرطبة، وحصروا ابن عبد الجبار، وترددت الرسل بينهم ليخلع ابن عبد الجبار من الملك على أن يؤمنه وأهله وجميع أصحابه.
ثم إن ابن عبد الجبار جمع أصحابه وخرج إليهم فقاتلهم، فانهزم هشام وأصحابه، وأخذ هشام أسيراً، فقتله ابن عبد الجبار، وقتل معه عدة من قواده، واستقر أمر ابن عبد الجبار، وكان عم هشام.
ذكر خروج سليمان عليه أيضاً
ولما قتل ابن عبد الجبار هشام بن سليمان بن الناصر وانهزم أصحابه انهزم معهم سليمان بن الحاكم بن سليمان بن الناصر، وهو ابن أخي هشام المقتول، فبايعه أصحاب عمه، وأكثرهم البربر، بعد الوقعة بيومين، ولقبوه المستعين بالله، ثم لقب بالظاهر بالله، وساروا إلى النصارى فصالحوهم واستنجدوهم وأنجدوهم وساروا معهم إلى قرطبة، فاقتتلوا هم وابن عبد الجبار بقنتيج، وهي الوقعة المشهورة غزوا فيها، وقتل ما لا يحصى، فانهزم ابن عبد الجبار، وتحصن بقصر قرطبة، ودخل سليمان البلد، وحصره في القصر.
فلما رأى ابن عبد الجبار ما نزل به أظهر المؤيد ظناً منه أنه يخلع هو وسليمان ويرجع الأمر إلى المؤيد، فلم يوافقه أحد ظناً منهم أن المؤيد قد مات. فلما أعياه الأمر احتار في الهرب، فهرب سراً واختفى، ودخل سليمان القصر، وبايعه الناس بالخلافة في شوال سنة أربعمائة، وبقي بقرطبة أياماً؛ وكان عدة القتلى بقنتيج نحو خمسة وثلاثين ألفاً، وأغار البربر والروم على قرطبة فنهبوا وسبوا وأسروا عدداً عظيماً.
ذكر عود ابن عبد الجبار وقتله وعود المؤيدلما اختفى ابن عبد الجبار سار سراً إلى طليطلة، وأتاه واضح الفتى العامري في أصحابه، وجمع له النصارى وسار بهم إلى قرطبة، فخرج إليهم سليمان فالتقوا بقرب عقبة البقر، واقتتلوا أشد قتال، فانهزم سليمان ومن معه منتصف شوال سنة أربعمائة، ومضى سليمان إلى شاطبة، ودخل ابن عبد الجبار قرطبة وجدد البيعة لنفسهن وجعل الحجابة لواضح وتصرف بالاختيار.

ثم إن جماعة من الفتيان العامريين، منهم عنبر، وخيرون، وغيرهما، كانوا مع سليمان، فأرسلوا إلى ابن عبد الجبار يطلبون قبول طاعتهم، وأن يجعلهم في جملة رجاله، فأجابهم إلى ذلك، وإنما فعلوا ذلك مكيدة به ليقتلوه، فلما دخلوا قرطبة استمالوا واضحاً فأجابهم إلى قتله، فلما كان تاسع ذي الحجة سنة أربعمائة اجتمعوا في القصر فملكوه، وأخذوا ابن عبد الجبار أسيراً، وأخرجوا المؤيد بالله فأجلسوه مجلس الخلافة وبايعوه، وأحضروا ابن عبد الجبار بين يديه، فعدد ذنوبه عليه، ثم قتل، وطيف برأسه في قرطبة، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وأمه أم ولد.
وكان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث متأخرة، وإنما قدمناها لتعلق بعضها ببعض، ولأن كل واحد منهم ليس له من طول المدة ما تؤخر أخباره وتفرق.
ذكر عود أبي المعالي بن سيف الدولة إلى ملك حلبفي هذه السنة عاد أبو المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان ملك حلب.
وكان سببه أن قرعويه لما تغلب عليها أخرج منها مولاه أبا المعالي، كما ذكرناه سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، فسار أبو المعالي إلى والدته بميافارقين، ثم أتى حماة، وهي له، فنزل بها، وكانت الروم قد خربت حمص وأعمالها، وقد ذكر أيضاً، فنزل إليه يا رقتاش مولى أبيه، وهو بحصن برزويه، وخدمه، وعمر له مدينة حمص، فكثر أهلها.
وكان قرعويه قد استناب بحلب مولىً له اسمه بكجور، فقوي بكجور، واستفحل أمره، وقبض على مولاه قرعويه، وحبسه في قلعة حلب، وأقام بها نحو ست سنين، فكتب من بحلب من أصحاب قرعويه إلى أبي المعالي بن سيف الدولة ليقصد حلب ويملكها، فسار إليها، وحصرها أربعة أشهر، وملكها.
وبقيت القلعة بيد بكجور، فترددت الرسل بينهما، فأجاب إلى التسليم على أن يؤمنه في نفسه وأهله وماله، ويوليه حمص، وطلب بكجور أن يحضر هذا الأمان والعهد وجوه بني كلاب، ففعل أبو المعالي ذلك، وأحضرهم الأمان والعهد، وسلم قلعة حلب إلى أبي المعالي، وسار بكجور إلى حمص فوليها لأبي المعالي، وصرف همته إلى عمارتها، وحفظ الطرق، فازدادت عمارتها، وكثر الخير بها، ثم انتقل منها إلى ولاية دمشق، على ما نذكره سنة ست وسبعين وثلاثمائة.
ذكر ابتداء دولة آل سبكتكينفي هذه السنة ملك سبكتكين مدينة غزنة وأعمالها، وكان ابتداء أمره أنه كان من غلمان أبي إسحاق بن البتكين، صاحب جيش غزنة للسامانية، وكان مقدماً عنده، وعليه مدار أمره، وقدم إلى بخارى، أيام الأمير منصور بن نوح، مع أبي إسحاق، فعرفه أرباب تلك الدولة بالعقل، والعفة، وجودة الرأي والصرامة، وعاد معه إلى غزنة، فلم يلبث أبو إسحاق أن توفي، ولم يخلف من أهله وأقاربه من يصلح للتقدم، فاجتمع عسكره ونظروا فيمن يلي أمرهم، ويجمع كلمتهم، فاختلفوا ثم اتفقوا على سبكتكين، لما عرفوه من عقله، ودينه، ومروءته، وكمال خلال الخير فيه، فقدموه عليهم، وولوه أمرهم، وحلفوا له، وأطاعوه، فوليهم، وأحسن السيرة فيهم، وساس أمورهم سياسةً حسنةً، وجعل نفسه كأحدهم في الحال والمال، وكان يذخر من إقطاعه ما يعمل منه طعاماً لهم في كل أسبوع مرتين.
ثم إنه جمع العساكر وسار نحو الهند مجاهداً، وجرى بينه وبين الهنود حروب يشيب لها الوليد، وكشف بلادهم، وشن الغارات عليها، وطمع فيها، وخافه الهنود، ففتح من بلادهم حصوناً ومعاقل، وقتل منهم ما لا يدخل تحت الإحصاء.
واتفق له في بعض غزواته أن الهنود اجتمعوا في خلق كثير، وطاولوه الأيام، وماطلوه القتال، فعدم الزاد عند المسلمين، وعجزوا عن الامتيار، فشكوا إليه ما هم فيه، فقال لهم: إني استصحبت لنفسي شيئاً من السويق استظهاراً، وأنا أقسمه بينكم قسمة عادلة على السواء إلى أن يمن الله بالفرج؛ فكان يعطي كل إنسان منهم ملء قدح معه، ويأخذ لنفسه مثل أحدهم، فيجتزئ به يوماً وليلة، وهم مع ذلك يقاتلون الكفار، فرزقهم الله النصر عليهم والظفر بهم، فقتلوا منهم وأسروا خلقاً كثيراً.
ذكر ولاية سبكتكين على قصدار وبستثم إن سبكتكين عظم شأنه، وارتفع قدره، وحسن بين الناس وذكره، وتعلقت الأطماع بالاستعانة به، فأتاه بعض الأمراء الكبار، وهو صاحب بست واسمه طغان، مستعيناً به مستنصراً.

وسبب ذلك أنه خرج عليه أمير يعرف ببابي تور، فملك مدينة بست عليه، وأجلاه عنها بعد حرب شديدة، فقصد سبكتكين مستنصراً به، وضمن له مالاً مقرراً، وطاعة يبذلها له، فتجهز وسار معه حتى نزل على بست، وخرج إليه بابي تور، فقاتله قتالاً شديداً، ثم انهزم بابي تور وتفرق هو وأصحابه وتسلم طغان البلد.
فلما استقر فيه طالبه بكتكين بما استقر عليه من المال، فأخذ في المطل، فأغلظ له في القول لكثرة مطله، فحمل طغان جهله على أن سل السيف فضرب يد سبكتكين فجرحها، فأخذ سبكتكين السيف وضربه أيضاً فجرحه، وحجز العسكر بينهما، وقامت الحرب على ساق، فانهزم طغان واستولى سبكتكين على بست.
ثم إنه سار إلى قصدار، وكان متوليها قد عصى عليه لصعوبة مسالكها، وحصانتها، وظن أن ذلك يمنعه، فسار إليه جريدة مجداً، فلم يشعر إلا والخيل معه، فأخذ من داره، ثم إنه من عليه ورده إلى ولايته، وقرر عليه مالاً يحمله إليه كل سنة.
ذكر مسير الهند إلى بلاد الإسلام

وما كان منهم مع سبكتكين
لما فرغ سبكتكين من بست وقصدار غزا الهند، فافتتح قلاعاً حصينة على شواهق الجبال، وعاد سالماً ظافراً.
ولما رأى جيبال ملك الهند ما دهاه، وأن بلاده تملك من أطرافها، أخذه ما قدم وحدث، فحشد وجمع واستكثر من الفيول، وسار حتى اتصل بولاية سبكتكين، وقد باض الشيطان في رأسه وفرخ، فسار سبكتكين عن غزنة إليه ومعه عساكره وخلق كثير من المتطوعة، فالتقوا واقتتلوا أياماً كثيرة، وصبر الفريقان.
وكان بالقرب منهم عقبة غورك، وفيها عين ماء لا تقبل نجساً ولا قذراً، وإذا لقي فيه شيء من ذلك اكفهرت السماء، وهبت الرياح، وكثر الرعد والبرق والأمطار، ولا تزال كذلك إلى أن تطهر من الذي ألقي فيها، فأمر سبكتكين بإلقاء نجاسة في تلك العين، فجاء الغيم والرعد والبرق، وقامت القيامة على الهنود لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وتوالت عليهم الصواعق والأمطار، واشتد البرد، حتى هلكوا، وعميت عليهم المذاهب، واستسلموا لشدة ما عاينوه.
وأرسل ملك الهند إلى سبكتكين يطلب الصلح، وترددت الرسل، فأجابهم إليه بعد امتناع من ولده محمود، على مال يؤديه، وبلاد يسلمها، وخمسين فيلاً يحملها إليه، فاستقر ذلك، ورهن عنده جماعة من أهله على تسليم البلاد، وسير معه سبكتكين من يتسلمها، فإن المال والفيلة كانت معجلة، فلما أبعد جيبال ملك الهند قبض على من معه من المسلمين وجعلهم عنده عوضاً عن رهائنه.
فلما سمع سبكتكين بذلك جمع العساكر وسار نحو الهند، فأخرب كل ما مر عليه من بلادهم، وقصد لمغان، وهي من أحصن قلاعهم، فافتتحها عنوةً وهدم بيوت الأصنام وأقام فيها شعار الإسلام، وسار عنها يفتح البلاد، ويقتل أهلها، فلما بلغ ما أراده عاد إلى غزنة.
فلما بلغ الخبر إلى جيبال سقط في يده، وجمع العساكر وسار في مائة ألف مقاتل، فلقيه سبكتكين، وأمر أصحابه أن يتناوبوا القتال مع الهنود، ففعلوا ذلك، فضجر الهنود من دوام القتال معهم، وحملوا حملة واحدة، فعند ذلك اشتد الأمر وعظم الخطب، وحمل أيضاً المسلمون جميعهم، واختلط بعضهم ببعض، فانهزم الهنود، وأخذهم السيف من كل جانب، وأسر منهم ما لا يعد، وغنم أموالهم وأثقالهم ودوابهم الكثيرة.
وذل الهنود بعد هذه الوقعة، ولم يكن لهم بعدها راية، ورضوا بأن لا يطلبوا في أقاصي بلادهم، ولما قوي سبكتكين، بعد هذه الوقعة، أطاعه الأفغانية والخلج وصاروا في طاعته.
ذكر ملك قابوس بن وشمكير جرجانفي هذه السنة توفي ظهير الدولة بيستون بن وشمكير بجرجان؛ وكان قابوس أخوه زائراً خاله رستم بجبل شهريار؛ وخلف بيستون ابناً صغيراً بطبرستان مع جده لأمه، فطمع جده أن يأخذ الملك، فبادر إلى جرجان، فرأى بها جماعة من القواد قد مالوا إلى قابوس، فقبض عليهم، وبلغ الخبر إلى قابوس فسار إلى جرجان، فلما قاربها خرج الجيش إليه، وأجمعوا عليه، وملكوه، وهرب من كان مع ابن بيستون، فأخذه عمه قابوس وكفله، وجعله أسوة أولاده، واستولى على جرجان وطبرستان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الأولى، نقلت ابنة عز الدولة بختيار إلى الطائع لله، وكان تزوجها.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبدالله بن زكرياء بن حيويه في رجب.

في صفر منها توفي أبو الحسن علي بن وصيف الناشئ المعروف بالخلال، صاحب المراثي الكثيرة في أهل البيت.
وفيها توفي أبو يعقوب بن الحسن الجنابي صاحب هجر، وكان مولده سنة ثمانين ومائتين، وتولى أمر القرامطة بعده ستة نفر شركة، وسموا السادة، وكانوا متفقين.
ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة

ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق
في هذه السنة سار عضد الدولة إلى بغداد، وأرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته، وأن يسير عن العراق إلى أي جهة أراد، وضمن مساعدته بما يحتاج إليه من مال وسلاح وغير ذلك.
فاختلف أصحاب بختيار عليه في الإجابة إلى ذلك، إلا أنه أجاب إليه لضعف نفسه، فأنفذ له عضد الدولة خلعة، فلبسها، وأرسل إليه يطلب منه ابن بقية، فقلع عينيه وأنفذه إليه.
وتجهز بختيار بما أنفذه إليه عضد الدولة، وخرج عن بغداد عازماً على قصد الشام، وسار عضد الدولة فدخل بغداد، وخطب له بها، ولم يكن قبل ذلك يخطب لأحد ببغداد، وضرب على بابه ثلاث نوب، ولم تجر بذلك عادة من تقدمه، وأمر بأن يلقى ابن بقية بين قوائم الفيلة لتقتله، ففعل به ذلك، وخبطته الفيلة حتى قتلته، وصلب على رأس الجسر في شوال من هذه السنة، فرثاه أبو الحسين الأنباري بأبيات حسنة في معناها وهي:
علوٌّ في الحياة وفي الممات ... لحقٌّ أنت إحدى المعجزات
كأنّ الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيّام الصّلات
كأنّك قائمٌ فيهم خطيباً، ... وكلّهم قيامٌ للصّلاة
مددت يديك نحوهم اقتفاءً، ... كمدّهما إليهم في الهبات
ولّما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات
أصاروا الجوّ قبرك، واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحرّاسٍ وحفّاظٍ ثقات
وتشعل عندك النيران ليلاً ... كذلك كنت أيّام الحياة
ولم أر قبل جذعك قطّ جذعاً ... تمكّن من عناق المكرمات
ركبت مطّيةً من قبل زيدٌ ... علاها في السّنين الذّاهبات
وهي كثيرة؛ قوله زيد علاها يعني زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، لما قتل وصلب أيام هشام بن عبد الملك، وقد ذكر؛ وبقي ابن بقية مصلوباً إلى أيام صمصام الدولة فأنزل من جذعه ودفن.
ذكر قتل بختيارلما سار بختيار عن بغداد عزم على قصد الشام ومعه حمدان بن ناصر الدولة ابن حمدان، فلما صار بختيار بعكبرا حسن له حمدان قصد الموصل، وكثرة أموالها، وأطمعه فيها، وقال إنها خير من الشام وأسهل.
فسار بختيار نحو الموصل، وكان عضد الدولة قد حلفه أنه لا يقصد ولاية أبي تغلب بن حمدان لمودة ومكاتبة كانت بينهما، فنكث وقصدها، فلما صار إلى تكريت أتته رسل أبي تغلب تسأله أن يقبض على أخيه حمدان ويسلمه إيه، وإذا فعل سار بنفسه وعساكره إليه، وقاتل معه عضد الدولة، وأعاده إلى ملكه بغداد، فقبض بختيار على حمدان وسلمه إلى نواب أبي تغلب، فحبسه في قلعة له، وسار بختيار إلى الحديثة، واجتمع مع أبي تغلب، وسارا جميعاً نحو العراق، وكان مع أبي تغلب نحو من عشرين ألف مقاتل.
وبلغ ذلك عضد الدولة، فسار عن بغداد نحوهما، فالقوا بقصر الجص بنواحي تكريت ثامن عشر شوال، فهزمهما، وأسر بختيار، وأحضر عند عضد الدولة، فلم يأذن بإدخاله إليه، وأمر بقتله فقتل، وذلك بمشورة أبي الوفاء طاهر بن إبراهيم، وقتل من أصحابه خلق كثير، واستقر ملك عضد الدولة بعد ذلك، وكان عمر بختيار ستاً وثلاثين سنة، وملك إحدى عشرة سنة وشهوراً.
ذكر استيلاء عضد الدولة على ملك بني حمدانلما انهزم أبو تغلب وبختيار سار عضد الدولة نحو الموصل، فملكها ثاني عشر ذي القعدة، وما يتصل بها، وظن أبو تغلب أنه يفعل كما كان غيره يفعل، يقيم يسيراً، ثم يضطر إلى المصالحة، ويعود.
وكان عضد الدولة أحزم من ذلك، فإنه لما قصد الموصل حمل معه الميرة والعلوفات، ومن يعرف ولاية الموصل وأعمالها، وأقام بالموصل مطمئناً، وبث السرايا في طلب أبي تغلب، فأرسل أبو تغلب يطلب أن يضمن البلاد، فلم يجبه عضد الدولة إلى ذلك، وقال: هذه البلاد أحب إلي من العراق.

وكان مع أبي تغلب المرزبان بن بختيار، وأبو إسحاق، وأبو طاهر ابنا معز الدولة، ووالدتهما، وهي أم بختيار، وأسبابهم، فسار أبو تغلب إلى نصيبين، فسير عضد الدولة سرية عليها حاجبه أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر، وسير في طلب أبي تغلب سرية، واستعمل عليها أبا الوفاء طاهر ابن محمد، على طريق سنجار، فسار أبو تغلب مجداً، فبلغ ميافارقين، وأقام بها ومعه أهله، فلما بلغه مسير أبي الوفاء إليه سار نحو بدليس ومعه النساء وغيرهم من أهله، ووصل أبو الوفاء إلى ميافارقين، فأغلقت دونه، وهي حصينة منيعة من حصون الروم القديمة، وتركها وطلب أبا تغلب.
وكان أبو تغلب قد عدل من أرزن الروم إلى الحسنية من أعمال الجزيرة وصعد إلى قلعة كواشى وغيرها من قلاعه، وأخذ ما له فيها من الأموال، وعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين وحصرها.
ولما اتصل بعضد الدولة مجيء أبي تغلب إلى قلاعه سار إليه بنفسه، فلم يدركه، ولكنه استأمن إليه أكثر أصحابه، وعاد إلى الموصل، وسير في أثر أبي تغلب عسكراً مع قائد من أصحابه يقال له طغان، فتعسف أبو تغلب إلى بدليس، وظن أنه لا يتبعه أحدٌ، فتبعه طغان، فهرب من بدليس وقصد بلاد الروم ليتصل بملكهم المعروف بورد الرومي، وليس من بيت الملك، وإنما تملك عليهم قهراً، واختلف الروم عليه، ونصبوا غيره من أولاد ملوكهم، فطالت الحرب بينهم، فصاهر ورد هذا أبا تغلب ليتقوى به، فقدر أن أبا تغلب احتاج إلى الأعتضاد به.
ولما سار أبو تغلب من بدليس أدركه عسكر عضد الدولة، وهم حريصون على أخذ ما معه من المال، فإنهم كانوا قد سمعوا بكثرته، فلما وقعوا عليه نادى أميرهم: لا تتعرضوا لهذا المال، فهو لعضد الدولة؛ ففتروا عن القتال.
فلما رآهم أبو تغلب فاترين حمل عليهم فانهزموا، فقتل منهم مقتلة عظيمة ونجا منهم، فنزل بحصن زياد، ويعرف الآن بخرتبرت، وأرسل ورد المذكور فعرفه ما هو بصدده من اجتماع الروم عليه، واستمده، وقال: إذا فرغت عدت إليك. فسير إليه أبو تغلب طائفة من عسكره، فاتفق أن ورداً انهزم، فلما علم أبو تغلب بذلك يئس من نصره، وعاد إلى بلاد الإسلام، فنزل بآمد، وأقام بها شهرين إلى أن فتحت ميافارقين.
ذكر عدة حوادثفيها ظهر بإفريقية في السماء حمرة بين المشرق والشمال، مثل لهب النار، فخرج الناس يدعون الله تعالى، ويتضرعون إليه، وكان بالمهدية زلازل وأهوال أقامت أربعين يوماً، حتى فارق أهلها منازلهم، وأسلموا أمتعتهم.
وفيها سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر وإفريقية أميراً على الموسم ليحج بالناس، وكانت الخطبة له بمكة، وكان الأمير على الموسم باديس بن زيري أخا يوسف بلكين، خليفته بإفريقية، فلما وصل إلى مكة أتاه اللصوص بها فقالوا له: نتقبل منك الموسم بخمسين ألف درهم، ولا تتعرض لنا؛ فقال لهم؛ أفعل ذلك، اجمعوا إلي أصحابكم حتى يكون العقد مع جميعكم، فاجتمعوا فكانوا نيفاً وثلاثين رجلاً، فقال: هل بقي منك أحد ؟ فحلفوا أنه لم يبق منهم أحد، فقطع أيديهم كلهم.
وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة، وغرقت كثيراً من الجانب الشرقي ببغداد، وغرقت أيضاً مقابر بباب التبن بالجانب الغربي منها، وبلغت السفينة أجرة وافرة، وأشرف الناس على الهلاك، ثم نقص الماء فأمنوا.
وفيها توفي القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة، وله نوادر مجموعة، وعمره خمس وستون سنة.
وفيها خلع على القاضي عبد الجبار بن أحمد بالري، وولي القضاء بها وبما تحت حكم مؤيد الدولة من البلاد، وهو من أئمة المعتزلة، ويرد في تراجم تصانيفه قاضي القضاة، ويعني به قاضي قضاة أعمال الري، وبعض من لا يعلم ذلك يظنه قاضي القضاة مطلقاً وليس كذلك.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة

ذكر فتح ميافارقين وآمد
وغيرهما من ديار بكر على يد عضد الدولة

لما عاد أبو الوفاء من طلب أبي تغلب نازل ميافارقين، وكان الوالي عليها هزارمرد، فضبط البلد، وبالغ في قتال أبي الوفاء ثلاثة أشهر، ثم مات هزارمرد، فكوتب أبو تغلب بذلك، فأمر أن يقام مقامه غلام من الحمدانية اسمه مؤنس فولي البلد، ولم يكن لأبي الوفاء فيه حيلة، فعدل عنه، وراسل رجلاً من أعيان البلد اسمه أحمد بن عبيدالله، واستماله فأجابه، وشرع في استمالة الرعية إلى أبي الوفاء، فأجابوه إلى ذلك، وعظم أمره، وأرسل إلى مؤنس يطلب منه المفاتيح، فلم يمكنه منعه لكثرة أتباعه، فأنفذها إليه، وسأله أن يطلب له الأمان، فأرسل أحمد بن عبيدالله إلى أبي الوفاء في ذلك فأمنه، وأمن سائر أهل البلد، ففتح له البلد وسلمه إليه.
وكان أبو الوفاء مدة مقامه على ميافارقين قد بث سراياه في تلك الحصون المجاورة لها، فافتتحها جميعها، فلما سمع أبو تغلب بذلك سار عن آمد نحو الرحبة، هو وأخته جميلة، وأمر بعض أهله بالاستئمان إلى أبي الوفاء، ففعلوا، ثم إن أبا الوفاء سار إلى آمد فحصرها، فلما رأى أهلها ذلك سلكوا مسلك أهل ميافارقين، فسلموا البلد بالأمان، فاستولى أبو الوفاء على سائر ديار بكر، وقصده أصحاب أبي تغلب وأهله مستأمنين إليه، فأمنهم، وأحسن إليهم، وعاد إلى الموصل.
وأما أبو تغلب فإنه لما قصد الرحبة أنفذ رسولاً إلى عضد الدولة يستعطفه، ويسأله الصفح، فأحسن جواب الرسل، وبذل له إقطاعاً يرضيه، على أن يطأ بساطه، فلم يجبه أبو تغلب إلى ذلك، وسار إلى الشام، إلى العزيز بالله صاحب مصر.
ذكر فتح ديار مضر على يد عضد الدولةكان متولي ديار مضر لأبي تغلب بن حمدان سلامة البرقعيدي، فأنفذ إليه سعد الدولة بن سيف الدولة من حلب جيشاً، فجرت بينهم حروب، وكان سعد الدولة قد كاتب عضد الدولة، وعرض نفسه عليه، فأنفذ عضد الدولة النقيب أبا أحمد، والد الرضي، إلى البلاد التي بيد سلامة، فتسلمها بعد حرب شديدة، ودخل أهلها في الطاعة، فأخذ عضد الدولة لنفسه الرقة حسب، ورد باقيها إلى سعد الدولة فصارت له.
ثم استولى عضد الدولة على الرحبة، وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه، وهي قلعة كواشى، وكانت فيها خزائنه وأمواله، وقلعة هرور والملاسي وبرقى والشعباني وغيرها من الحصون، فلما استولى على جميع أعمال أبي تغلب استخلف أبا الوفاء على الموصل، وعاد إلى بغداد في سلخ ذي القعدة، ولقيه الطائع لله، وجمع من الجند وغيرهم.
ذكر ولاية قسام دمشقلما فارق الفتكين دمشق، كما ذكرناه، تقدم على أهلها قسام، وكان سبب تقدم قسام أن الفتكين قربه ووثق إليه، وعول في كثير من أموره عليه، فعلا ذكره وصيته، وكثر أتباعه من الأحداث، فاستولى على البلد وحكم فيه.
وكان القائد أبو محمود قد عاد إلى البلد والياً عليه للعزيز، فلم يتم له مع قسام أمر، وكان لا حكم له، ولم يزل أمر قسام على دمشق نافذاً، وهو يدعو للعزيز بالله العلوي.
ووصل إليه أبو تغلب بن حمدان، صاحب الموصل، منهزماً، كما ذكرناه، فمنعه قسام من دخول دمشق، وخافه على البلد أن يتولاه، إما غلبةً، وإما بأمر العزيز، فاستوحش أبو تغلب وجرى بين أصحابه وأصحاب أبي تغلب شيء من قتال، فرحل أبو تغلب إلى طبرية.
وورد من عند العزيز قائد اسمه الفضل في جيش، فحصر قساماً بدمشق، فلم يظفر به، فعاد عنه، وبقي قسام كذلك إلى سنة تسع وستين وثلاثمائة، فسير من مصر أميراً إلى دمشق اسمه سلمان بن جعفر بن فلاح، فوصل إليها، فنزل بظاهرها، ولم يتمكن من دخولها، وأقام في غير شيء، فنهى الناس عن حمل السلاح، فلم يسمعوا منه، ووضع قسام أصحابه على سلمان، فقاتلوه وأخرجوه من الموضع الذي كان فيه. وكان قسام بالجامع، والناس عنده، فكتب محضراً وسيره إلى العزيز يذكر أنه كان بالجامع عند هذه الفتنة، ولم يشهدها، وبذل من نفسه أنه إن قصده عضد الدولة بن بويه أو عسكر له قاتله، ومنعه من البلد، فأغضى العزيز لقسام على هذه الحال لأنه كان يخاف أن يقصد عضد الدولة الشام، فلما فارق سلمان دمشق عاد إليها القائد أبو محمود، ولا حكم له، والحكم جميعه لقسام، فدام ذلك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كانت زلازل شديدة كثيرة، وكان أشدها بالعراق.

وفيها توفي القاضي أبو سعيد الحسن بن عبدالله السيرافي النحوي مصنف شرح كتاب سيبويه، وكان فقيهاً، فاضلاً، مهندساً، منطيقياً، فيه كل فضيلة، وعمره أربع وثمانون سنة، وولي بعده أبو محمد بن معروف الحاكم بالجانب الشرقي ببغداد.
ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة

ذكر قتل أبي تغلب بن حمدان
في هذه السنة، في صفر، قتل أبو تغلب فضل الله بن ناصر الدولة بن حمدان.
وكان سبب قتله أنه سار إلى الشام، على ما تقدم ذكره، ووصل إلى دمشق، وبها قسام قد تغلب عليها، كما ذكرناه، فلم يمكن أبا تغلب من دخولها، فنزل بظاهر البلد، وأرسل رسولاً إلى العزيز بمصر يستنجده ليفتح له دمشق، فوقع بين أصحابه وأصحاب قسام فتنة، فرحل إلى نوى، وهي من أعمال دمشق، فأتاه كتاب رسوله من مصر يذكر أن العزيز يريد أن يحضر هو عنده بمصر ليسير معه العساكر، فامتنع، وترددت الرسل، ورحل إلى بحيرة طبرية، وسير العزيز عسكراً إلى دمشق مع قائد اسمه الفضل، فاجتمع بأبي تغلب عند طبرية، ووعده، عن العزيز، بكل ما أحب، وأراد أبو تغلب المسير معه إلى دمشق، فمنعه بسبب الفتنة التي جرت بين أصحابه وأصحاب قسام، لئلا يستوحش قسام، وأراد أخذ البلد منه سلماً، ورحل الفضل إلى دمشق فلم يفتحها.
وكان بالرملة دغفل بن المفرج بن الجراح الطائي قد استولى على هذه الناحية، وأظهر طاعة العزيز من غير أن يتصرف بأحكامه، وكثر جمعه، وسار إلى أحياء عقيل المقيمة بالشام ليخرجها من الشام، فاجتمعت عقيل إلى أبي تغلب وسألته نصرتها، وكتب إليه دغفل يسأله أن لا يفعل، فتوسط أبو تغلب الحال، فرضوا بما يحكم به العزيز.
ورحل أبو تغلب، فنزل في جوار عقيل، فخافه دغفل، والفضل صاحب العزيز، وظنا أنه يريد أخذ تلك الأعمال. ثم إن أبا تغلب سار إلى الرملة في المحرم سنة تسع وستين، فلم يشك ابن الجراح والفضل أنه يريد حربهما، وكانا بالرملة، فجمع الفضل العساكر من السواحل، وكذلك جمع دغفل من أمنه جمعه، وتصاف الناس للحرب، فلما رأت عقيل كثرة الجمع انهزمت، ولم يبق مع أبي تغلب إلا نحو سبعمائة رجل من غلمانه وغلمان أبيه، فانهزم ولحقه الطلب، فوقف يحمي نفسه وأصحابه، فضرب على رأسه فسقط، وأخذ أسيراً، وحمل إلى دغفل فأسره وكتفه.
وأراد الفضل أخذه وحمله إلى العزيز بمصر، فخاف دغفل أن يصطنعه العزيز، كما فعل بالفتكين، ويجعله عنده، فقتله، فلامه الفضل على قتله، وأخذ رأسه وحمله إلى مصر، وكان مع أخته جميلة بنت ناصر الدولة وزوجته، وهي بنت عمه سيف الدولة، فلما قتل حملهما بنو عقيل إلى حلب إلى سعد الدولة بن سيف الدولة، فأخذ أخته، وسير جميلة إلى الموصل، فسلمت إلى أبي الوفاء نائب عضد الدولة، فأرسلها إلى بغداد، فاعتقلت في حجرة في دار عضد الدولة.
ذكر محاربة الحسن بن عمران بن شاهين مع جيوش عضد الدولةفي هذه السنة توفي عمران بن شاهين، فجأةً، في المحرم، وكانت ولايته، بعد أن طلبه الملوك والخلفاء وبذلوا الجهد في أخذه، وأعملوا الحيل، أربعين سنة، فلم يقدرهم الله عليه، ومات حتف أنفه.
فلما مات ولي مكانه ابنه الحسن، فتجدد لعضد الدولة طمع في أعمال البطيحة، فجهز العساكر مع وزيره المطهر بن عبدالله، فأمدهم بالأموال والسلاح والآلات، وسار المطهر في صفر، فلما وصل شرع في سد أفواه الأنهار الداخلة في البطائح، فضاع فيها الزمان والأموال، وجاءت المدود، وبثق الحسن بن عمران بعض تلك السدود، فأعانه الماء فقلعها.
وكان المطهر إذا سد جانباً انفتحت عدة جوانب، ثم جرت بينه وبين الحسن وقعة في الماء فاستظهر عليه الحسن، وكان المطهر سريعاً قد ألف المناجزة، ولم يألف المصابرة، فشق ذلك عليه.
وكان معه في عسكره أبو الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي، فاتهمه بمراسلة الحسن، وإطلاعه على أسراره، وخاف المطهر أن تنقص منزلته عند عضد الدولة، ويشمت به أعداؤه، كأبي الوفاء وغيره، فعزم على قتل نفسه، فأخذ سكيناً وقطع شرايين ذراعه، فخرج الدم منه، فدخل فراش له، فرأى الدم فصاح، فدخل الناس فرأوه، وظنوا أن أحداً فعل به ذلك، فتكلم، وكان بآخر رمق، وقال: إن محمد بن عمر أحوجني إلى هذا؛ ثم مات، وحمل إلى بلده كازرون، فدفن فيها.

وأرسل عضد الدولة من حفظ العسكر، وصالح الحسن بن عمران على مال يؤديه، وأخذ رهائنه، وانفرد نصر بن هارون بوزارة عضد الدولة، وكان مقيماً بفارس فاستخلف له عضد الدولة بحضرته أبا الريان حمد بن محمد.
ذكر الحرب بين بني شيبان وعسكر عضد الدولةفي هذه السنة، في رجب، سير عضد الدولة جيشاً إلى بني شيبان، وكانوا قد أكثروا الغارات على البلاد والفساد، وعجز الملوك عن طلبهم، وكانوا قد عقدوا بينهم وبين أكراد شهرزور مصاهرات، وكانت شهرزور ممتنعة على الملوك، فأمر عضد الدولة عسكره بمنازلة شهرزور لينقطع طمع بني شيبان عن التحصن بها، فاستولى أصحابه عليها وملكوها، فهرب بنو شيبان، وسار العسكر في طلبهم، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل من بني شيبان فيها خلق كثير، ونهبت أموالهم ونساؤهم، وأسر منهم ثمانمائة أسير وحملوا إلى بغداد.
ذكر وصول ورد الرومي إلى ديار بكر وما كان منهفي هذه السنة وصل ورد الرومي إلى ديار بكر مستجيراً بعضد الدولة، وأرسل إليه يستنصره على ملوك الروم، ويبذل له الطاعة إذا ملك وحمل الخراج.
وكان سبب قدومه أن أرمانوس ملك الروم لما توفي خلف ولدين له صغيرين، فملكا بعده، وكان نقفور، وهو حينئذ الدمستق، قد خرج إلى بلاد الإسلام فنكى فيها وعاد، فلما قارب القسطنطينية بلغه موت أرمانوس، فاجتمع إليه الجند وقالوا له: إنه لا يصلح للنيابة عن الملكين غيرك، فإنهما صغيران؛ فامتنع، فألحوا عليه فأجابهم، وخدم الملكين، وتزوج بوالدتهما، ولبس التاج.
ثم إنه جفا والدتهما، فراسلت ابن الشمشقيق في قتل نقفور وإقامته مقامه، فأجابها إلى ذلك، وسار إليها سراً هو وعشرة رجال، فاغتالوا الدمستق فقتلوه، واستولى ابن الشمشقيق على الأمر، وقبض على لاون أخي الدمستق، وعلى ورديس ابن لاون، واعتقله في بعض القلاع، وسار إلى أعمال الشام فأوغل فيها، ونال من المسلمين ما أراد، وبلغ إلى طرابلس فامتنع عليه أهلها فحصرهم.
وكان لوالدة الملكين أخ خصي، وهو حينئذ الوزير، فوضع على ابن الشمشقيق من سقاه سماً، فلما أحس به أسرع العود إلى القسطنطينية، فمات في طريقه.
وكان ورد بن منير من أكابر أصحاب الجيوش وعظماء البطارقة، فطمع في الأمر، وكاتب أبا تغلب بن حمدان وصاهره، واستجاش بالمسلمين من الثغور، فاجتمعوا عليه، فقصد الروم، فأخرج إليه الملكان جيشاً بعد جيش وهو يهزمهم، فقوي جنانه وعظم شأنه، وقصد القسطنطينية، فخافه الملكان، فأطلقا ورديس بن لاون، وقدماه على الجيوش، وسيراه لقتال ورد، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وطال الأمر بينهما، ثم انهزم ورد إلى بلاد الإسلام، فقصد ديار بكر، ونزل بظاهر ميافارقين، وراسل عضد الدولة، وأنفذ إليه أخاه يبذل الطاعة والاستنصار به، فأجابه إلى ذلك ووعده به.
ثم إن ملكي الروم راسلا عضد الدولة واستمالاه، فقوي في نفسه ترجيح جانب الملكين، وعاد عن نصرة ورد، وكاتب أبا علي التميمي، وهو حينئذ ينوب عنه بديار بكر، بالقبض على ورد وأصحابه، فشرع يدبر الحيلة عليه، واجتمع إلى ورد أصحابه وقالوا له: إن ملوك الروم قد كاتبوا عضد الدولة وراسلوه في أمرنا، ولا شك أنهم يرغبونه في المال وغيره فيسلمنا إليهم، والرأي أن نرجع إلى بلاد الروم على صلح إن أمكننا، أو على حرب نبذل فيها أنفسنا، فإما ظفرنا أو متنا كراماً.
فقال: ما هذا رأي، ولا رأينا من عضد الدولة إلا الجميل، ولا يجوز أن ننصرف عنه قبل أن نعلم ما عنده؛ ففارقه كثير من أصحابه، فطمع فيه أبو علي التميمي، وراسله في الاجتماع، فأجابه إلى ذلك، فلما اجتمع به قبض عليه، وعلى ولده وأخيه، وجماعة من أصحابه، واعتقلهم بميافارقين ثم حملهم إلى بغداد، فبقوا في الحبس إلى أن فرج الله عنهم، على ما نذكره، وكان قبضه سنة سبعين وثلاثمائة.
ذكر عمارة عضد الدولة بغداد

في هذه السنة شرع عضد الدولة في عمارة بغداد، وكانت قد خربت بتوالي الفتن فيها، وعمر مساجدها وأسواقها، وأدر الأموال على الأئمة، والمؤذنين، والعلماء، والقراء، والغرباء، والضعفاء، الذين يأوون إلى المساجد، وألزم أصحاب الأملاك الخراب بعمارتها، وجدد ما دثر من الأنهار، وأعاد حفرها وتسويتها، وأطلق مكوس الحجاج، وأصلح الطريق من العراق إلى مكة، شرفها الله تعالى، وأطلق الصلات لأهل البيوتات والشرف، والضعفاء المجاورين بمكة والمدينة، وفعل مثل ذلك بمشهدي على والحسين، عليهما السلام، وسكن الناس من الفتن، وأجرى الجرايات على الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين، والمفسرين، والنحاة، والشعراء، والنسابين، والأطباء، والحساب، والمهندسين، وأذن لوزيره نصر بن هارون، وكان نصرانياً، في عمارة البيع والديرة، وإطلاق الأموال لفقرائهم.
ذكر وفاة حسنويه الكرديفي هذه السنة توفي حسنويه بن الحسين الكردي البرزيكاني بسرماج، وكان أميراً على جيش من البرزيكان يسمون البرزينية، وكان خالاه ونداد وغانم ابنا أحمد أميرين على صنف آخر منهم يسمون العيشانية، وغلبا على أطراف نواحي الدينور، وهمذان، ونهاوند، والصامغان، وبعض أطراف أذربيجان إلى حد شهرزور نحو خمسين سنة.
وكان يقود كل واحد منهما عدة ألوف، فتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة، فكان ابنه أبو سالم ديسم بن غانم مكانه بقلعته قسان، إلى أن أزاله أبو الفتح بن العميد، واستصفى قلاعه المسماة قسنان، وغانم آباذ وغيرهما.
وتوفي ونداد بن أحمد سنة تسع وأربعين، فقام مقام ابنه أبو الغنائم عبد الوهاب إلى أن أسره الشاذنخان وسلموه إلى حسنويه، فأخذ قلاعه وأملاكه.
وكان حسنويه مجدوداً، حسن السياسة والسيرة، ضابطاً لأمره، ومنع أصحابه من التلصص، وبنى قلعة سرماج بالصخور المهندمة، وبنى بالدينور جامعاً على هذا البناء، وكان كثير الصدقة بالحرمين، إلى أن مات في هذه السنة، وافترق أولاده من بعده، فبعضهم انحاز إلى فخر الدولة، وبعضهم إلى عضد الدولة، وهم أبو العلاء، وعبد الرزاق، وأبو النجم بدرٌ، وعاصم، وأبو عدنان، وبختيار، وعبد الملك.
وكان بختيار بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر، فكاتب عضد الدولة ورغب في طاعته، ثم تلون عنه وتغير، فسير عضد الدولة إليه جيشاً فحصره وأخذ قلعته، وكذلك قلاع غيره من إخوته، واصطنع من بينهم أبا النجم بدر ابن حسنويه، وقواه بالرجال، فضبط تلك النواحي، وكف عادية من بها من الأكراد، واستقام أمره، وكان عاقلاً.
ذكر قصد عضد الدولة أخاه فخر الدولة وأخذ بلادهفي هذه السنة سار عضد الدولة إلى بلاد الجل، فاحتوى عليها.
وكان سبب ذلك أن بختيار بن معز الدولة كان يكاتب ابن عمه فخر الدولة، بعد موت ركن الدولة، ويدعوه إلى الاتفاق معه على عضد الدولة، فأجابه إلى ذلك واتفقا.
وعلم عضد الدولة به، فكتم ذلك إلى الآن، فلما فرغ من أعدائه كأبي تغلب، وبختيار، وغيرهما، ومات حسنويه بن الحسين، ظن عضد الدولة أن الأمر يصلح بينه وبين أخويه، فراسل أخويه فخر الدولة، ومؤيد الدولة، وقابوس بن وشمكير.
فأما رسالته إلى أخيه مؤيد الدولة، فيشكره على طاعته وموافقته، فإنه كان مطيعاً له غير مخالف.
وأما إلى فخر الدولة، فيعاتبه ويستميله، ويذكر له ما يلزمه به الحجة.
وأما إلى قابوس، فيشير عليه بحفظ العهود التي بينهما.
فأجاب فخر الدولة جواب المناظر المناوئ، ونسي كبر السن، وسعة الملك وعهد أبيه.
وأما قابوس فأجاب جواب المراقب. وكان الرسول خواشاده، وهو من أكابر أصحابه، فاستمال أصحاب فخر الدولة، فضمن لهم الإقطاعات، وأخذ عليهم العهود، فلما عاد الرسول برز عضد الدولة من بغداد على عزم المسير إلى الجبل وإصلاح تلك الأعمال، وابتدأ فقدم العساكر بين يديه يتلو بعضها بعضاً، منهم أبو الوفاء على عسكر، وخواشاده على عسكر، وأبو الفتح المظفر بن محمد في عسكر، فسارت هذه العساكر، وأقام هو بظاهر بغداد.

ثم سار عضد الدولة، فلقيته البشائر بدخول جيوشه همذان، واستئمان العدد الكثير من قواد فخر الدولة ورجال حسنويه، ووصل إليه أبو الحسن عبيدالله بن محمد بن حمدويه وزير فخر الدولة، ومعه جماهير أصحابه، فانحل أمر فخر الدولة، وكان بهمذان، فخاف من أخيه، وتذكر قتل ابن عمه بختيار، فخرج هارباً، وقصد بلد الديلم، ثم خرج منها إلى جرجان، فنزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير، والتجأ إليه فأمنه وآواه، وحمل إليه فوق ما حدث به نفسه، وشركه فيما تحت يده من ملك وغيره.
وملك عضد الدولة ما كان بيد فخر الدولة همذان، والري، وما بينهما من البلاد وسلمها إلى أخيه مؤيد الدولة بن بويه، وجعله خليفته ونائبه في تلك البلاد، ونزل الري، واستولى على تلك النواحي.
ثم عرج عضد الدولة إلى ولاية حسنويه الكردي، فقصد نهاوند، وكذلك الدينور، وقلعة سرماج، وأخذ ما فيها من ذخائر حسنويه، وكانت جليلة المقدار، وملك معها عدة من قلاع حسنويه، ولحقه في هذه السفرة صرع، وكان هذا قد أخذه بالموصل، وحدث به فيها، فكتمه، وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء إلا بعد جهدٍ، وكتم ذلك أيضاً، وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد.
وأتاه أولاد حسنويه، فقبض على عبد الرزاق، وأبي العلاء، وأبي عدنان، وأحسن إلى بدر بن حسنويه، وخلع عليه، وولاه رعاية الأكراد؛ هذا آخر ما في تجارب الأمم تأليف أبي علي بن مسكويه.
ذكر ملك عضد الدولة بلد الهكاريةفي هذه السنة سير عضد الدولة جيشاً إلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل، فأوقع بهم وحصر قلاعهم، وطال مقام الجند في حصرها.
وكان من بالحصون من الأكراد ينتظرون نزول الثلج لترحل العساكر عنهم، فقدر الله تعالى أن الثلج تأخر نزوله في تلك السنة، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأجيبوا إلى ذلك، وسلموا قلاعهم، ونزلوا مع العسكر إلى الموصل، فلم يفارقوا أعمالهم غير يوم واحد حتى نزل الثلج.
ثم إن مقدم الجيش غدر بهم، وصلبهم على جانبي الطريق من معلثايا إلى الموصل نحو خمسة فراسخ وكف الله شرهم عن الناس.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ورد رسول العزيز بالله صاحب مصر إلى عضد الدولة برسائل أداها.
وفيها قبض عضد الدولة على محمد بن عمر العلوي وأنفذه إلى فارس، وكان سبب قبضه ما تكلم به المطهر في حقه عند موته، وأرسل إلى الكوفة فقبض أمواله، فوجد له من المال والسلاح والذخائر ما لا يحصى، واصطنع عضد الدولة أخاه أبا الفتح أحمد، وولاه الحج بالناس.
وفيها تجددت وصلة بين الطائع لله وبين عضد الدولة، فتزوج الطائع ابنته، وكان غرض عضد الدولة أن تلد ابنته ولداً ذكراً فيجعله ولي عهده، فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب، وكان الصداق مائة ألف دينار.
وفيها كانت فتنة عظيمة ين عامة شيراز من المسلمين وبين المجوس، نهبت فيها دور المجوس، وضربوا، وقتل منهم جماعة، فسمع عضد الدولة الخبر، فسير إليهم من جمع كل من له أثر في ذلك، وضربهم، وبالغ في تأديبهم وزجرهم.
وفيها أرسل سرية إلى عين التمر، وبها ضبة بن محمد الأسدي، وكان يسلك سبيل اللصوص وقطاع الطريق، فلم يشعر إلا والعساكر معه، فترك أهله وماله ونجا بنفسه فريداً، وأخذ ماله وأهله، وملكت عين التمر، وكان قبل ذلك قد نهب مشهد الحين، صلوات الله عليه، فعوقب بهذا.
وفيها قبض عضد الدولة على النقيب أبي أحمد الحسين الموسوي، والد الشريف الرضي، وعلى أخيه أبي عبدالله، وعلى قاضي القضاة أبي محمد وسيرهم إلى فارس، واستعمل على قضاء القضاة أبا سعد بشر بن الحسين، وهو شيخ كبير، وكان مقيماً بفارس، واستناب على القضاء ببغداد.
وفيها توفي أبو عبدالله أحمد بن عطاء بن أحمد بن محمد بن عطاء الروذباري، الصوفي، بنواحي عكا، وكان قد انتقل من بغداد إلى الشام.
وفيها، في ذي الحجة، توفي محمد بن عيسى بن عمرويه أبو أحمد الجلودي الزاهد، راوي صحيح مسلم عن ابن سفيان، ودفن بالحيرة في نيسابور وله ثمانون سنة.
الجلودي بفتح الجيم، وقيل بضمها، وهو قليل، والحيرة بكسر الحاء المهملة وبالراء المهملة، وهي محلة بنيسابور.
وفيها توفي أبو الحسين أحمد بن زكرياء بن فارس اللغوي، صاحب كتاب المجمل وغيره. وله شعر، فمن ذلك قوله قبل وفاته بيومين:
يا ربّ إنّ ذنوبي قد أحطت بها ... علماً، وبي وبإعلاني وإسراري

أنا الموحّد لكنّي المقرّ بها، ... فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري
وفي شوال توفي أبو الحسن ثابت بن إبراهيم الحراني المتطبب، الصابي، ومولده بالرقة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وكان عارفاً حاذقاً في الطب.
ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة

ذكر إقطاع مؤيد الدولة همذان
في هذه السنة أرسل الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد إلى عضد الدولة بهمذان رسولاً من عند أخيه مؤيد الدولة يبذل له الطاعة والموافقة، فالتقاه عضد الدولة بنفسه، وأكرمه، وأقطع أخاه مؤيد الدولة همذان وغيرها، وأقام عند عضد الدولة إلى أن عاد إلى بغداد، فرده إلى مؤيد الدولة، فأقطعه إقطاعاً كثيراً، وسير معه عسكراً يكون عند مؤيد الدولة في خدمته.
ذكر قتل أولاد حسنويه سوى بدرلما خلع عضد الدولة على بدر وأخويه عاصم وعبد الملك، وفضل بدراً عليهما وولاه الأكراد حسده أخواه، فشقا العصا، وخرجا عن الطاعة، واستمال عاصم جماعة الأكراد المخالفين، فاجتمعوا عليه، فسير إليه عضد الدولة عسكراً، فأوقعوا بعاصم ومن معه، فانهزموا، وأسر عاصم، وأدخل همذان على جمل، ولم يعرف له خبر بعد ذلك اليوم، وقتل أولاد حسنويه، إلا بدراً فإنه ترك على حاله، وأقر على عمله، وكان عاقلاً، لبيباً، حازماً، كريماً، حليماً، وسيرد من أخباره ما يعلم به ذلك، إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك عضد الدولة قلعة سندةوفيها استولى عضد الدولة على قلاع أبي عبدالله المري بنواحي الجبل، وكان منزله بسندة، وله فيها مساكن نفيسة، وكان قديم البيت، فقبض عليه وعلى أولاده واعتقلهم، فبقوا كذلك إلى أن أطلقهم الصاحب بن عباد فيما بعد، واستخدم ابنه أبا طاهر، واستكتبه، وكان حسن الخط واللفظ.
ذكر الحرب بين عسكر العزيز وابن جراح وعزل قسام عن دمشقفي هذه السنة سيرت العساكر من مصر لقتال المفرج بن جراح.
وسبب ذلك أن ابن جراح عظم شأنه بأرض فلسطين، وكثر جمعه، وقويت شوكته، وبالغ هو في العيث والفساد، وتخريب البلاد، فجهز العزيز بالله العساكر وسيرها، وجعل عليها القائد يلتكين التركي، فسار إلى الرملة، واجتمع إليه من العرب، من قيس وغيرها، جمع كثير، وكان مع ابن جراح جمع يرمون بالنشاب، ويقاتلون قتال الترك، فالتقوا ونشبت الحرب بينهما، وجعل يلتكين كميناً، فخرج على عسكر ابن جراح، من وراء ظهورهم، عند اشتداد الحرب، فانهزموا وأخذتهم سيوف المصريين، ومضى ابن جراح منهزماً إلى إنطاكية، فاستجار بصاحبها فأجاره؛ وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية في عساكر عظيمة يريد بلاد الإسلام، فخاف ابن جراح، وكاتب بكجور بحمص والتجأ إليه.
وأما عسكر مصر فإنهم نازلوا دمشق، مخادعين لقسام، لم يظهروا له إلا أنهم جاؤوا لإصلاح البلد، وكف الأيدي المتطرقة إلى الأذى؛ وكان القائد أبو محمود قد مات سنة سبعين وهو والي البلد، ولا حكم له، وإنما الحكم لقسام، فلما مات قام بعده في الولاية جيش بن الصمصامة، وهو ابن أخت أبي محمود، فخرج إلى يلتكين وهو يظن أنه يريد إصلاح البلد، فأمره أن يخرج هو ومن معه وينزلوا بظاهر البلد، ففعلوا. وحذر قسام، وأمر من معه بمباشرة الحرب، فقاتلوا دفعات عدة؛ فقوي عسكر يلتكين، ودخلوا أطراف البلد، وملكوا الشاغور، وأحرقوا ونهبوا، فاجتمع مشايخ البلد عند قسام، وكلموه في أن يخرجوا إلى يلتكين، ويأخذوا أماناً لهم وله، فانخذل وذل، وخضع بعد تجبره وتكبره وقال: افعلوا ما شئتم.
وعاد أصحاب قسام إليه، فوجدوه خائفاً، ملقياً بيده، فأخذ كل لنفسه. وخرج شيوخ البلد إلى يلتكين، فطلبوا منه الأمان لهم ولقسام، فأجابهم إليه وقال: أريد أن أتسلم البلد اليوم؛ فقالوا: افعل ما تؤمر ! فأرسل والياً يقال له ابن خطلخ، ومعه خيل ورجل.
وكان مبدأ هذه الحرب والحصر في المحرم سنة سبعين لعشر بقين منه، والدخول إلى البلد لثلاث بقين منه، ولم يعرض لقسام ولا لأحد من أصحابه، وأقام قسام في البلد يومين ثم استتر، فأخذ كل ما في داره وما حولها من دور أصحابه وغيرهم، ثم خرج إلى الخيام، فقصد حاجب يلتكين وعرفه نفسه، فأخذه وحمله إلى يلتكين، فحمله يلتكين إلى مصر، فأطلقه العزيز، واستراح الناس من تحكمه عليهم، وتغلبه بمن تبعه من الأحداث من أهل العيث والفساد.
ذكر عدة حوادث

وفيها توفي علي بن محمد الأحدب المزور، وكان يكتب على خط كل واحد فلا يشك المكتوب عنه أنه خطه؛ وكان عضد الدولة إذا أراد الإيقاع بين الملوك أمره أن يكتب على خط بعضهم إليه في الموافقة على من يريد إفساد الحال بينهما، ثم يتوصل ليصل المكتوب إليه، فيفسد الحال. وكان هذا الأحدب ربما ختمت يده لهذا السبب.
وفيها زادت الفرات زيادة عظيمة جاوزت المألوف، وغرق كثير من الغلات، وتمردت الصراة، وخربت قناطرها العتيقة والجديدة، وأشفى أهل الجانب الغربي من بغداد على الغرق، وبقيت الزيادة بها وبدجلة ثلاثة أشهر ثم نقصت.
وفيها زفت ابنة عضد الدولة إلى الخليفة الطائع، ومعها من الجواهر شيء لا يحصى.
وفيها ورد على عضد الدولة هدية من صاحب اليمن فيها قطعة واحدة من عنبر وزنها ستة وخمسون رطلاً؛ وحج بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر بن يحيى العلوي، وخطب بمكة والمدينة للعزيز بالله صاحب مصر العلوي.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن علي الرازي، إمام الفقهاء الحنفية في زمانه، وطلب ليلي قضاء القضاة، فامتنع، وهو من أصحاب الكرخي.
وفيها توفي الزبير بن عبد الواحد بن موسى أبو يعلى البغدادي، سمع البغوي وابن صاعد، وسافر إلى أصبهان وخراسان وأذربيجان وغيرها، وسمع فيها الكثير، وتوفي بالموصل هذه السنة؛ ومحمد بن جعفر بن الحسين بن محمد أبو بكر المفيد، المعروف بغندر، توفي بمفازة بخارى؛ وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس؛ وأبو محمد علي بن الحسن الأصبهاني؛ والحسن ابن بشر الآمدي.
وفيها توفي القائد أبو محمود إبراهيم بن جعفر والي دمشق للعزيزي، وقام بعده جيش بن الصمصامة.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة

ذكر عزل ابن سيمجور عن خراسان
في هذه السنة عزل أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان، واستعمل عوضه حسام الدولة أبو العباس تاش.
وكان سبب ذلك أن الأمير نوح بن منصور لما ملك خراسان وما وراء النهر، وهو صبي، استوزر أبا الحسين العتبي، فقام في حفظ الدولة القيام المرضي؛ وكان محمد بن سيمجور قد استوطن خراسان، وطالت أيامه فيها، فلا يطيع إلا فيما يريد، فعزله أبو الحسين العتبي عنها، واستعمل مكانه حسام الدولة أبا العباس تاش، وسيره من بخارى إلى نيسابور في هذه السنة، فاستقر بها ودبر خراسان، ونظر في أمورها، وأطاعه جندها.
ذكر استيلاء عضد الدولة على جرجانفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، استولى عضد الدولة على بلاد جرجان وطبرستان، وأجلى عنها صاحبها قابوس بن وشمكير.
وسبب ذلك أن عضد الدولة لما استولى على بلاد أخيه فخر الدولة انهزم فخر الدولة، فلحق بقابوس، كما ذكرناه، وبلغ ذلك عضد الدولة، فأرسل إلى قابوس يبذل له الرغائب من البلاد، والأموال، والعهود، وغير ذلك، ليسلم إليه أخاه فخر الدولة، فامتنع قابوس من ذلك، ولم يجب إليه. فجهز عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة، وسيره، ومعه العساكر، والأموال، والعدد، إلى جرجان.
وبلغ الخبر قابوساً، فسار إليه، فلقيه بنواحي أستراباذ، فاقتتلوا من بكرة إلى الظهر، فانهزم قابوس وأصحابه في جمادى الأولى، وقصد قابوس بعض قلاعه التي فيها ذخائره وأمواله، فأخذ ما أراد وسار نحو نيسابور، فلما وردها لحق به فخر الدولة، وانضم إليهما من تفرق من أصحابهما.
وكان وصولهما إليها. عند ولاية حسام الدولة أبي العباس تاش خراسان، فكتب حسام الدولة إلى الأمير أبي القاسم نوح بن منصور يعرفه خبر وصولهما، وكتبا أيضاً إلى نوح يعرفانه حالهما، ويستنصرانه على مؤيد الدولة. فوردت كتب نوح على حسام الدولة يأمره بإجلال محلهما، وإكرامهما، وجمع العساكر والمسير معهما، وإعادتهما إلى ملكهما، وكتب وزيره أبو الحسين بذلك أيضاً.
ذكر مسير حسام الدولة وقابوس إلى جرجان

فلما وردت الكتب من الأمير نوح على حسام الدولة بالمسير بعساكر خراسان جميعها مع فخر الدولة وقابوس، جمع العساكر وحشد، فاجتمع بنيسابور عساكر سدت الفضاء، وساروا نحو جرجان فنازلوها وحصروها، وبها مؤيد الدولة، ومعه من عساكره وعساكر أخيه عضد الدولة جمع كثير، إلا أنهم لا يقاربون عساكر خراسان، فحصرهم حسام الدولة شهرين يغاديهم القتال ويراوحهم، وضاقت الميرة على أهل جرجان، حتى كانوا يأكلون نخالة الشعير معجونة بالطين، فلما اشتد عليهم الأمر خرجوا من جرجان، في شهر رمضان، على عزم صدق القتال إما لهم وإما عليهم. فلما رآهم أهل خراسان ظنوها كما تقدم من الدفعات، يكون قتال، ثم تحاجز، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فرأوا الأمر خلاف ما ظنوه.
وكان مؤيد الدولة قد كاتب بعض قواد خراسان، يسمى فائق الخاصة، وأطعمه ورغبه، فأجابه إلى الأنهزام عند اللقاء؛ وسيرد من أخبار فائق هذا ما يعرف به محله من الدولة.
فلما خرج مؤيد الدولة، هذا اليوم، حمل عسكره على فائق وأصحابه، فانهزم هو ومن معه، وتبعه الناس، وثبت فخر الدولة، وحسام الدولة في القلب، واشتد القتال إلى آخر النهار، فلما رأوا تلاحق الناس في الهزيمة لحقوا بهم، وغنم أصحاب مؤيد الدولة منهم ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وأخذوا من الأقوات شيئاً كثيراً.
وعاد حسام الدولة، وفخر الدولة، وقابوس إلى نيسابور، وكتبوا إلى بخارى بالخبر، فأتاهم الجواب يمنيهم، ويعدهم بانفاذ العساكر والعود إلى جرجان والري، وأمر الأمير نوح سائر العساكر بالمسير إلى نيسابور، فأتوها من كل حدبٍ ينسلون، فاجتمع بظاهر نيسابور من العساكر أكثر من المرة الأولى، وحسام الدولة ينتظر تلاحق الأمداد ليسير بهم، فأتاهم الخبر بقتل الوزير أبي الحسين العتبي، فتفرق ذلك الجمع، وبطل ذلك التدبير.
وكان سبب قتله أن أبا الحسن بن سيمجور وضع جماعة من المماليك على قتله، فوثبوا به فقتلوه، فلما قتل كتب الرضي نوح بن منصور إلى حسام الدولة يستدعيه إلى بخارى ليدبر دولته، ويجمع ما انتشر منها بقتل أبي الحسين، فسار عن نيسابور إليها، وقتل من ظفر به من قتلة أبي الحسين، وكان قتله سنة اثنتين وسبعين.
ذكر قتل الأمير أبي القاسم أمير صقلية وهزيمة الفرنجفي هذه السنة، في ذي القعدة، سار الأمير أبو القاسم، أمير صقلية، من المدينة يريد الجهاد.
وسبب ذلك أن ملكاً من ملوك الفرنج، يقال له بردويل، خرج في جموع كثيرة من الفرنج إلى صقلية، فحصر قلعة ملطة وملكها، وأصاب سريتين للمسلمين، فسار الأمير أبو القاسم بعساكره ليرحله عن القلعة، فلما قاربها خاف وجبن، فجمع وجوه أصحابه، وقال لهم: إني راجع من مكاني هذا فلا تكسروا علي رأيي. فرجع هو وعساكره.
وكان أسطول الكفار يساير المسلمين في البحر، فلما رأوا المسلمين راجعين أرسلوا إلى بردويل، ملك الروم، يعلمونه ويقولون له: إن المسلمين خائفون منك، فالحق بهم فإنك تظفر. فجرد الفرنجي عسكره من أثقالهم، وسار جريدة، وجد في السير، فأدركهم في العشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين، فتعبأ المسلمون للقتال، واقتتلوا، واشتدت الحرب بينهم، فحملت طائفة من الفرنج على القلب والأعلام، فشقوا العسكر ووصلوا إليها، وقد تفرق كثير من المسلمين عن أميرهم، واختل نظامهم، فوصل الفرنج إليه، فأصابته ضربة على أم رأسه فقتل، وقتل معه جماعة من أعيان الناس وشجعانهم.
ثم إن المنهزمين من المسلمين رجعوا مصممين على القتال ليظفروا أو يموتوا، واشتد حينئذ الأمر، وعظم الخطب على الطائفتين، فانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل، وأسر من بطارقتهم كثير وتبعوهم إلى أن أدركهم الليل، وغنموا من أموالهم كثيراً. وأفلت ملك الفرنج هارباً ومعه رجل يهوديٌ كان خصيصاً به، فوقف فرس الملك، فقال له إليهودي: اركب فرسي، فإن قتلت فأنت لولدي؛ فركبه الملك وقتل إليهودي، فنجا الملك إلى خيامه وبها زوجته وأصحابه فأخذهم وعاد إلى رومية.
ولما قتل الأمير أبو القاسم كان معه ابنه جابر، فقام مقام أبيه، ورحل بالمسلمين لوقتهم، ولم يمكنهم من إتمام الغنيمة، فتركوا كثيراً منها، وسأله أصحابه ليقيم إلى أن يجمع السلاح وغيره ويعمر به الخزائن، فلم يفعل.

وكانت ولاية أبي القاسم على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وكان عادلاً، حسن السيرة، كثير الشفقة على رعيته والإحسان إليهم، عظيم الصدقة، ولم يخلف ديناراً ولا درهماً ولا عقاراً، فإنه كان قد وقف جميع أملاكه على الفقراء وأبواب البر.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقع حريق بالكرخ ببغداد فاحترق فيها مواضع كثيرة هلك فيها خلق كثير من الناس، وبقي الحريق أسبوعاً.
وفيها قبض عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي، وألزمه منزله، وعزله عن أعماله التي كان يتولاها، وكان حنفي المذهب، شديد التعصب على الشافعي يطلق لسانه فيه، قاتله الله ! وفيها أفرج عضد الدولة عن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب، وكان القبض عليه سنة سبع وستين.
وكان سبب قبضه أنه كان يكتب عن بختيار كتباً في معنى الخلف الواقع بينه وبين عضد الدولة، فكان ينصح صاحبه، فمما كتبه عن الخليفة الطائع إلى عضد الدولة في المعنى، وقد لقب عز الدولة بشاهنشاه، فتزحزح له عن سنن المساواة، فنقم عليه عضد الدولة ذلك، وهذا من أعجب الأشياء، فإنه كان ينبغي أن يعظم في عينه لنصحه لصاحبه، فلما أطلقه أمره بعمل كتاب يتضمن أخبارهم ومحاسنها، فعمل التاجي في دولة الديلم.
وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني إلى ملك الروم في جواب رسالة وردت منه، فلما وصل إلى الملك قيل له ليقبل الأرض بين يديه، فلم يفعل، فقيل: لا سبيل إلى الدخول إلا مع تقبيل الأرض؛ فأصر على الامتناع، فعمل الملك باباً صغيراً يدخل منه القاضي منحنياً ليرهم الحاضرين أنه قبل الأرض، فلما رأى القاضي الباب علم ذلك، فاستدبره ودخل منه، فلما جازه استقبل الملك وهو قائم، فعظم عندهم محله.
وفيها فتح المارستان العضدي، غربي بغداد، ونقل إليه جميع ما يحتاج إليه من الأدوية.
وفي هذه السنة توفي الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الاسماعيلي الجرجاني، الفقيه الشافعي، وكان عالماً بالحديث وغيره من العلوم؛ والإمام محمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد أبو زيد المروزي الفقيه الشافعي الزاهد، يروي صحيح البخاري عن الفربري، وتوفي في رجب؛ وأبو عبدالله محمد بن خفيف الشرازي، شيخ الصوفية في وقته، صحب الجريري وابن عطاء وغيرهما.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن إبراهيم الصوفي المعروف بالحصري.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة

ذكر ولاية بكجور دمشق
قد ذكرنا سنة ست وستين ولاية بكجور حمص لأبي المعالي ابن سيف الدولة بن حمدان، فلما وليها عمرها؛ وكان بلد دمشق قد خربه العرب وأهل العيث والفساد مدة تحكم قسام عليها، وانتقل أهله إلى أعمال حمص، فعمرت، وكثر أهلها والغلات فيها، ووقع الغلاء والقحط بدمشق، فحمل بكجور الأقوات من حمص إليها وتردد الناس في حمل الغلات وحفظ الطرق وحماها.
وكاتب العزيز بالله بمصر، وتقرب إليه، فوعده ولاية دمشق، فبقي كذلك إلى هذه السنة.
ووقعت وحشة بين سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة وبين بكجور، فأرسل سعد الدولة يأمره بأن يفارق بلده، فأرسل بكجور إلى العزيز بالله يطلب نجاز ما وعده من إمارة دمشق. وكان الوزير ابن كلس يمنع العزيز من ولايته إلى هذه الغاية.
وكان القائد يلتكين قد ولي دمشق بعد قسام، كما ذكرناه، فهو مقيم بها. فاجتمع المغاربة بمصر على الوثوب بالوزير ابن كلس وقتله، فدعته الضرورة إلى أن يستحضر يلتكين من دمشق، فأمره العزيز بإحضاره وتسليم دمشق إلى بكجور. فقال: إن بكجور إن وليها عصى فيها. فلم يصغ إلى قوله، وأرسل إلى يلتكين يأمره بقصد مصر، وتسليم دمشق إلى بكجور، ففعل ذلك ودخلها في رجب من هذه السنة والياً عليها، فأساء السيرة إلى أصحاب الوزير ابن كلس والمتعلقين به، حتى إنه صلب بعضهم، وفعل مثل ذلك في أهل البلد، وظلم الناس، وكان لا يخلوا من أخذ مالٍ، وقتلٍ، وصلبٍ، وعقوبة، فبقي كذلك إلى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وسنذكر هناك عزله، إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة عضد الدولةفي هذه السنة، في شوال، اشتدت علة عضد الدولة، وهو ما كان يعتاده من الصرع، فضعفت قوته عن دفعه، فخنقه، فمات منه ثامن شوال ببغداد، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن به.

وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفاً. ولما توفي جلس ابنه صمصام الدولة أبو كاليجار للعزاء فأتاه الطائع لله معزياً، وكان عمر عضد الدولة سبعاً وأربعين سنة. وكان قد سير ولده شرف الدولة أبا الفوارس إلى كرمان مالكاً لها، قبل أن يشتد مرضه، وقيل إنه لما احتضر لم نطلق لسانه إلا بتلاوة (مَا أَغْنْى عَنِّي مَاليه هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) الحاقة: 28.
وكان عاقلاً، فاضلاً، حسن السياسة، كثير الإصابة، شديد الهيبة، بعيد الهمة، ثاقب الرأي، محباً للفضائل وأهلها، باذلاً في مواضع العطاء، مانعاً في أماكن الحزن، ناظراً في عواقب الأمور.
قيل: لما مات عضد الدولة بلغ خبره بعض العلماء، وعنده جماعة من أعيان الفضلاء، فتذاكروا الكلمات التي قالها الحماء عند موت الإسكندر، وقد ذكرتها في أخباره، فقال بعضهم: لو قلتم أنتم مثلها لكان ذلك يؤثر عنكم. فقال أحدهم: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها، وأعطاها فوق قيمتها، وطلب الربح فيها فخسر روحه فيها.
وقال الثاني: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم فيها فهذا انتباهه.
وقال الثالث: ما رأيت عاقلاً في عقله، ولا غافلاً في غفلته مثله، لقد كان ينقض جانباً وهو يظن أنه مبرم، ويغرم وهو يظن أنه غانم.
وقال الرابع: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغباً عنها جدت له.
وقال الخامس: ترك هذا الدنيا شاغرة، ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة.
وقال السادس: إن ماء أطفأ هذه النار لعظيم، وإن ريحاً زعزعت هذا الركن لعصوفٌ.
وقال السابع: إنما سلبك من قدر عليك.
وقال الثامن: أما إنه لو كان معتبراً في حياته لما صار عبرةً في مماته.
وقال التاسع: الصاعد في درجات الدنيا إلى استفال، والنازل في درجاتها إلى تعال.
وقال العاشر: كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جنةً تقيك، إن في ذلك لعبرة للمعتبرين، وإنك لآية للمستبصرين.
وبنى على مدينة النبي، صلى الله علية وسلم، سوراً. وله شعر حسن، فمن شعره لما أرسل إليه أبو تغلب بن حمدان يعتذر من مساعدته بختيار، ويطلب الأمان، فقال عضد الدولة:
أأفاق حين وطئت ضيق خناقه ... يبغي الأمان، وكان يبغي صارما
فلأركبنّ عزيمةً عضديّةً، ... تاجيّة، تدع الأنوف رواغما
وقال أبياتاً منها بيت لم يفلح بعده، وهي هذه:
ليس شرب الكأس إلاّ في المطر، ... وغناءٍ من جوارٍ في السّحر
غانياتٍ، سالباتٍ للنّهى، ... ناغماتٍ في تضاعيف الوتر
مبرزات الكاس من مطلعها، ... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها،، ... ملك الأملاك غلاّب القدر
وهذا البيت هو المشار إليه.
وحكي عنه أنه كان في قصره جماعة من الغلمان يحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة، فأمر أبا نصر خواشاذه أن يتقدم إلى الخازن بأن يسلم جامكية الغلمان إلى نقيبهم في شهر قد بقي منه ثلاثة أيام. قال أبو نصر: فأنسيت ذلك أربعة أيام، فسألني عضد الدولة عن ذلك فقلت: أنسيته؛ فأغلظ لي، فقلت: أمس استهل الشهر، والساعة نحمل المال، وما ها هنا ما يوجب شغل القلب.
فقال: المصيبة بما لا تعلمه من الغلط أكثر منها في التفريط، ألا تعلم أنا إذا أطلقنا لهم مالهم قبل محله كان الفضل لنا عليهم، فإذا أخرنا ذلك عنهم، حتى استهل الشهر الآخر، حضروا عند عارضهم وطالبوه، فيعدهم فيحضرونه في اليوم الثاني، فيعدهم، ثم يحضرونه في اليوم الثالث؛ ويبسطون ألسنتهم، فتضيع المنة، وتحصل الجرأة، ونكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح.
وكان لا يعول في الأمور إلا على الكفاة، ولا يجعل للشفاعات طريقاً إلى معارضة من ليس من جنس الشافع، ولا فيما يتعلق به.
حكي عنه أنه مقدم جيشه أسفار بن كردويه شفع في بعض أبناء العدول ليتقدم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله، فقال: ليس هذا من أشغالك، إنما الذي يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد، ونقل مرتبة جندي، وما يتعلق بهم، وأما الشهادة وقبولها فهو إلى القاضي وليس لنا ولا لك الكلام فيه، ومتى عرف القضاة من إنسان ما يجوز معه قبول شهادته، فعلوا ذلك بغير شفاعة.

وكان يخرج في ابتداء كل سنة شيئاً كثيراً من الأموال للصدقة والبر في سائر بلاده، ويأمر بتسليم ذلك إلى القضاة ووجوه الناس ليصرفوه إلى مستحقيه.
وكان يوصل إلى العمال المتعطلين ما يقوم بهم ويحاسبهم به إذا عملوا.
وكان محباً للعلوم وأهلها، مقرباً لهم، محسناً إليهم، وكان يجلس معهم يعارضهم في المسائل، فقصده العلماء من كل بلد، وصنفوا له الكتب منها الإيضاح في النحو، والحجة في القراءات، والملكي في الطب، والتاجي في التاريخ، إلى غير ذلك، وعمل المصالح في سائر البلاد كالبيمارستانات والقناطر غير ذلك من المصالح العامة، إلا أنه أحدث في آخر أيام رسوماً جائرة في المساحة، والضرائب على بيع الدواب، وغيرها من الأمتعة، وزاد على ما تقدم، ومنع من عمل الثلج، والقز، وجعلهما متجراً للخاص، وكان يتوصل إلى أخذ المال بكل طريق.
ولما توفي عضد الدولة قبض على نائبه أبي الريان من الغد، فأخذ من كمه رقعة فيها:
أيا واثقاً بالدهر عند انصرافه ! ... رويدك إنّي بالزمان أخو خبر
ويا شامتاً مهلاً، فكم ذي شماتةٍ ... تكون له العقبى بقاصمة الظّهر
ذكر ولاية صمصام الدولة العراق وملك أخيه شرف الدولة بلاد فارسلما توفي عضد الدولة اجتمع القواد والأمراء على ولده أبي كاليجار المرزبان، فبايعوه وولوه الإمارة، ولقبوه صمصام الدولة، فلما ولي خلع على أخويه أبي الحسين أحمد، وأبي طاهر فيروزشاه، وأقطعهما فارس، وأمرهما بالجد في السير ليسبقا أخاهما شرف الدولة أبا الفوارس شيرزيل إلى شيراز.
فلما وصلا إلى أرجان أتاهما خبر وصول شرف الدولة إلى شيراز، فعادا إلى الأهواز. وكان شرف الدولة بكرمان، فلما بلغه خبر وفاة أبيه سار مجداً إلى فارس فملكها، وقبض على نصر بن هارون النصراني، وزير أبيه، وقتله لأنه كان يسيء صحبته أيام أبيه، وأصلح أمر البلاد، وأطلق الشريف أبا الحسين محمد بن عمر العلوي، والنقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي، والقاضي أبا محمد بن معروف، وأبا نصر خواشاذه، وكان عضد الدولة حبسهم، وأظهر مشاقة أخيه صمصام الدولة، وقطع خطبته، وخطب لنفسه، وتلقب بتاج الدولة، وفرق الأموال، وجمع الرجال، وملك البصرة وأقطعها أخاه أبا الحسين، فبقي كذلك ثلاث سنين إلى أن قبض عليه شرف الدولة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
فلما سمع صمصام الدولة بما فعله شرف الدولة سير إليه جيشاً، واستعمل عليهم الأمير أبا الحسن بن دبعش، حاجب عضد الدولة، فجهز تاج الدولة عسكراً واستعمل عليهم الأمير أبا الأعز دبيس بن عفيف الأسدي، فالتقيا بظاهر قرقوب، واقتتلوا، فانهزم عسكر صمصام الدولة، وأسر دبعش فاستولى حينئذ أبو الحسين بن عضد الدولة على الأهواز، وأخذ ما فيها وفي رامهرمز، وطمع في الملك، وكانت الوقعة في ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
ذكر قتل الحسين بن عمران بن شاهينفي هذه السنة قتل الحسين بن عمران بن شاهين، صاحب البطيحة، قتله أخوه أبو الفرج واستولى على البطيحة.
وكان سبب قتله أنه حسده على ولايته ومحبة الناس له، فاتفق أن أختاً لهما مرضت، فقال أبو الفرج لأخيه الحسين: إن أختنا مشفية، فلو عدتها؛ ففعل وسار إليها، ورتب أبو الفرج في الدار نفراً يساعدونه على قتله، فلما دخل الحسين الدار تخلف عنه أصحابه، ودخل أبو الفرج معه وبيده سيفه، فلما خلا به قتله، ووقعت الصيحة، فصعد إلى السطح وأعلم العسكر بقتله، ووعدهم الإحسان فسكتوا، وبذل لهم المال، فأقروه في الأمر، وكتب إلى بغداد يظهر الطاعة، ويطلب تقليده الولاية، وكان متهوراً جاهلاً.
ذكر عود ابن سيمجور إلى خراسانلما عزل أبو الحسن بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان ووليها أبو العباس سار ابن سيمجور إلى سجستان فأقام بها، فلما انهزم أبو العباس عن جرجان، على ما ذكرناه، ورأى الفتنة قد رفعت رأسها، سار عن سجستان نحو خراسان، وأقام بقهستان. فلما سار أبو العباس إلى بخارى، وخلت منه خراسان، كاتب ابن سيمجور فائقاً يطلب موافقته على الاستيلاء على خراسان، فأجابه إلى ذلك، واجتمعا بنيسابور، واستوليا على تلك النواحي.

وبلغ الخبر إلى أبي العباس فسار عن بخارى في جمع كثير إلى مرو، وترددت الرسل بينهم، فاصطلحوا على أن تكون نيسابور وقيادة لأبي العباس، وتكون بلخ لفائق، وتكون هراة لأبي علي بن أبي الحسن بن سيمجور، وتفرقوا على ذلك، وقصد كل واحد منهم ولايته.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي نقيب النقباء أبو تمام الزينبي، وولي النقابة بعد ابنه أبو الحسن؛ وتوفي محمد بن جعفر المعروف بزوج الحرة في صفر ببغداد، وتوفي في جمادى الأولى منصور بن أحمد بن هارون الزاهد وهو ابن خمس وستين سنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة

ذكر موت مؤيد الدولة
وعود فخر الدولة إلى مملكته
في هذه السنة، في شعبان، توفي مؤيد الدولة أبو منصور بويه بن ركن الدولة بجرجان، وكانت علته الخوانيق، وقال له الصاحب بن عباد: لو عهدت إلى أحد؛ فقال: أنا في شغل عن هذا، ولم يعهد بالملك إلى أحد؛ وكان عمره ثلاثاً وأربعين سنة.
وجلس صمصام الدولة للعزاء ببغداد، فأتاه الطائع لله معزياً، فلقيه في طيارة. لما مات مؤيد الدولة تشاور أكابر دولته فيمن يقوم مقامه، فأشار الصاحب إسماعيل بن عباد بإعادة فخر الدولة إلى مملكته، إذ هو كبير البيت، ومالك تلك البلاد قبل مؤيد الدولة، ولما فيه من آيات الإمارة والملك. فكتب إليه واستدعاه، وهو بنيسابور، وأرسل الصاحب إليه من استخلفه لنفسه، وأقام في الوقت خسرو فيروز بن ركن الدولة ليسكن الناس إلى قدوم فخر الدولة.
فلما وصلت الأخبار إلى فخر الدولة سار إلى جرجان، فلقيه العسكر بالطاعة، وجلس في دست ملكي في رمضان بغير منةٍ لأحدٍ، فسبحان من إذا أراد أمراً كان.
ولما عاد إلى مملكته قال له الصاحب: يا مولانا قد بلغك الله، وبلغني فيك ما أملته، ومن حقوق خدمتي لك إجابتي إلى ترك الجندية، وملازمة داري والتوفر على أمر الله. فقال: لا تقل هذا، فما أريد الملك إلا لك، ولا يستقيم لي أمر إلا بك، وإذا كرهت ملابسة الأمور كرهتها أنا أيضاً وانصرفت.
فقبل الأرض، وقال الأمر لك؛ فاستوزره وأكرمه وعظمه، وصدر عن رأيه في جليل الأمور وصغيرها.
وسيرت الخلع من الخليفة إلى فخر الدولة، والعهد واتفق فخر الدولة وصمصام الدولة فصار يداً واحدةً.
ذكر عزل أبي العباس عن خراسان
وولاية ابن سيمجور
لما عاد أبو العباس عن بخارى إلى نيسابور، كما ذكرناه، استوزر الأمير نوح عبدالله بن عزيز، وكان ضداً لأبي الحسين العتبي، وأبي العباس، فلما ولي الوزارة بدأ بعزل أبي العباس عن خراسان، وإعادة أبي الحسن بن سيمجور إليها، فكتب من بخراسان من القواد إليه يسألونه أن يقر أبا العباس على عمله، فلم يجبهم إلى ذلك، فكتب أبو العباس إلى فخر الدولة بن بويه يستمده، فأمده بمال كثير وعسكر، فأقاموا بنيسابور، وأتاهم أبو محمد عبدالله بن عبد الرزاق معاضداً لهم على ابن سيمجور.
وكان أبو العباس حينئذ بمرو، فلما سمع أبو الحسن بن سيمجور وفائق بوصول عسكر فخر الدولة إلى نيسابور قصدوهم، فانحاز عسكر فخر الدولة عبد الرزاق، وأقاموا ينتظرون أبا العباس، ونزل ابن سيمجور ومن معه بظاهر نيسابور، ووصل أبو العباس فيمن معه واجتمع بعسكر الديلم، ونزل بالجانب الآخر، وجرى بينهم حروب عدة أيام، وتحصن ابن سيمجور بالبلد، وأنفذ فخر الدولة إلى أبي العباس عسكراً آخر، أكثر من ألفي فارس، فلما رأى ابن سيمجور قوة أبي العباس انحاز عن نيسابور، فسار عنها ليلاً، وتبعه عسكر أبي العباس، فغنموا كثيراً من أموالهم ودوابهم، واستولى أبو العباس على نيسابور، وراسل الأمير نوح بن منصور يستميله ويستعطفه، ولج ابن عزيز في عزله، ووافقه على ذلك والدة الأمير نوح، وكانت تحكم في دولة ولدها، وكانوا يصدرون عن رأيها، فقال بعض أهل العصر في ذلك:
شيئان يعجز ذو الرّياضة عنهما: ... رأي النّساء، وإمرة الصّبيان
أمّا النساء فميلهنّ إلى الهوى، ... وأخو الصّبا يجري بغير عنان
ذكر انهزام أبي العباس إلى جرجان
ووفاته

لما انهزم ابن سيمجور أقام أبو العباس بنيسابور يستعطف الأمير نوحاً ووزيره ابن عزيز، وترك اتباع ابن سيمجور وإخراجه من خراسان، فتراجع إلى ابن سيمجور أصحابه المنهزمون، وعادت قوته، وأتته الأمداد من بخارى، وكاتب شرف الدولة أبا الفوارس بن عضد الدولة، وهو بفارس، يستمده، فأمده بألفي فارس مراغمةً لعمه فخر الدولة، فلما كثف جمعه قصد أبا العباس، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً إلى آخر النهار، فانهزم أبو العباس وأصحابه، وأسر، منهم جماعة كثيرة.
وقصد أبو العباس جرجان، وبها فخر الدولة، فأكرمه وعظمه، وترك له جرجان ودهستان وأستراباذ صافية له ولمن معه، وسار عنها إلى الري، وأرسل إليه من الأموال والآلات ما يجل عن الوصف.
وأقام أبو العباس بجرجان هو وأصحابه، وجمع العساكر وسار نحو خراسان، فلم يصل إليها، وعاد إلى جرجان وأقام بها ثلاث سنين، ثم وقع بها وباء شديد مات فيه كثير من أصحابه، ثم مات هو أيضاً، وكان موته سنة سبع وسبعين، وقيل: إنه مات مسموماً.
وكان أصحابه قد أساؤوا السيرة مع أهل جرجان، فلما مات ثار بهم أهلها ونهبوهم، وجرت بينهم وقعة عظيمة أجلت عن هزيمة الجرجانية، وقتل منهم خلق كثير، وأحرقت دورهم، ونهبت أموالهم، وطلب مشايخهم الأمان، فكفوا عنهم، وتفرق أصحابه، فسار أكثرهم إلى خراسان، واتصلوا بأبي علي بن أبي الحسن بن سيمجور، وكان حينئذ صاحب الجيش مكان أبيه، وكان والده قد توفي فجأةً، وهو يجامع بعض حظاياه، فمات على صدرها، فلما مات قام بالأمر بعد ابنه أبو علي، واجتمع إخوته على طاعته، منهم أخوه أبو القاسم وغيره، فنازعه فائق الولاية، وسنذكر ذلك سنة ثلاث وثمانين عند ملك الترك بخارى، إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل أبي الفرج محمد بن عمران

وملك أبي المعالي ابن أخيه الحسن
في هذه السنة قتل أبو الفرج محمد بن عمران بن شاهين صاحب البطيحة، وولي أبو المعالي ابن أخيه الحسن.
وسبب قتله أن أبا الفرج قدم الجماعة الذين ساعدوه على قتل أخيه، ووضع من حال مقدمي القواد، فجمعهم المظفر بن علي الحاجب، وهو أكبر قواد أبيه عمران وأخيه الحسن، وحذرهم عاقبة أمرهم، فاجتمعوا على قتل أبي الفرج، فقتله المظفر وأجلس أبا المعالي مكانه، وتولى تدبيره بنفسه، وقتل كل من كان يخافه من القواد، ولم يترك معه إلا من يثق به، وكان أبو المعالي صغيراً.
ذكر استيلاء المظفر على البطيحةلما طالت أيام علي المظفر بن علي الحاجب، وقوي أمره، طمع في الاستقلال بأمر البطيحة، فوضع كتاباً عن لسان صمصام الدولة إليه يتضمن التعويل عليه في ولاية البطيحة، وسلمه إلى ركابي غريب، وأمره أن يأتيه إذا كان القواد والأجناد عنده، ففعل ذلك، وأتاه وعليه أثر الغبار، وسلم إليه الكتاب، فقبله وفتحه، وقرأه بمحضر من الأجناد، وأجاب بالسمع والطاعة، وعزل أبا المعالي، وجعله مع والدته، وأجرى عليهما جراية، ثم أخرجهما إلى واسط، وكان يصلهما بما ينفقانه، واستبد بالأمر، وأحسن السيرة، وعدل في الناس مدةً.
ثم إنه عهد إلى ابن أخته أبي الحسن علي بن نصر الملقب بمهذب الدولة، وكان يلقب حينئذ بالأمير المختار، وبعده إلى أبي الحسن علي بن جعفر، وهو ابن أخته الأخرى، وانقرض بيت عمران بن شاهين، وكذلك الدنيا دول، وما أشبه حاله بحال باذٍ، فإنه ملك، وانتقل الملك إلى ابن أخته ممهد الدولة ابن مروان.
ذكر عصيان محمد بن غانموفيها عصى محمد بن غانم البرزيكاني بناحية كوردر، من أعمال قم، على فخر الدولة، وأخذ بعض غلات السلطان، وامتنع بحصن الهفتجان، وجمع البرزيكاني إلى نفسه، فسارت إليه العساكر، في شوال، لقتاله، فهزمها، وأعيدت إليه من الري مرة أخرى فهزمها.
فأرسل فخر الدولة إلى أبي النجم بدر بن حسنويه ينكر ذلك عليه، ويأمره بإصلاح الحال معه، ففعل، وراسله، فاصطلحوا أول سنة أربع وسبعين وبقي إلى سنة خمس وسبعين، فسار إلى جيش لفخر الدولة، فقاتله، فأصابته طعنة، وأخذ أسيراً، فمات من طعنته.
ذكر انتقال بعض صنهاجة من إفريقية إلى الأندلس وما فعلوهفي هذه السنة انتقل أولاد زيري بن مناد، وهم زاوي وجلالة وماكسن إخوة بلكين، إلى الأندلس.

وسبب ذلك أنهم وقع بينهم وبين أخيهم حماد حروب وقتال على بلاد بينهم، فغلبهم حماد، فتوجهوا إلى طنجة ومنها إلى قرطبة، فأنزلهم محمد بن أبي عامر وسر بهم، وأجرى عليهم الوظائف وأكرمهم، وسألهم عن سبب انتقالهم، فأخبروه، وقالوا له: إنما اخترناك على غيرك، وأحببنا أن نكون معك نجاهد في سبيل الله. فاستحسن ذلك منهم، ووعدهم ووصلهم، فأقاموا أياماً.
ثم دخلوا عليه وسألوه إتمام ما وعدهم به من الغزو، فقال: انظروا ما أردتم من الجند نعطكم؛ فقالوا: ما يدخل معنا بلاد العدو غيرنا إلا الذين معنا من بني عمنا، وصنهاجة وموالينا؛ فأعطاهم الخيل والسلاح والأموال، وبعث معهم دليلاً، وكان الطريق ضيقاً، فأتوا أرض جليقية، فدخلوها ليلاً، وكمنوا في بستان بالقرب من المدينة، وقتلوا كل من به وقطعوا أشجاره. فلما أصبحوا خرج جماعة من البلد فضربوا عليهم وأخذوهم وقتلوهم جميعهم ورجعوا.
وتسامع العدو، فركبوا في أثرهم، فلما أحسوا بذلك كمنوا وراء ربوة، فلما جاوزهم العدو خرجوا عليهم من وراءهم، وضربوا في ساقتهم وكبروا، فلما سمع العدو تكبيرهم ظنوا أن العدد كثير، فانهزموا، وتبعهم صنهاجة، فقتلوا خلقاً كثيراً، وغنموا دوابهم وسلاحهم وعادوا إلى قرطبة، فعظم ذلك عند ابن أبي عامر، ورأى من شجاعتهم ما لم يره من جند الأندلس، فأحسن إليهم وجعلهم بطانته.
ذكر غزو ابن أبي عامر إلى الفرنج بالأندلسلما رأى أهل الأندلس فعل صنهاجة حسدوهم، ورغبوا في الجهاد، وقالوا للمنصور بن أبي عامر: لقد نشطنا هؤلاء للغزو. فجمع الجيوش الكثيرة من سائر الأقطار، وخرج إلى الجهاد، وكان رأى في منامه، تلك الليالي، كأن رجلاً أعطاه الأسبراج، فأخذه من يده وأكل منه، فعبره على ابن أبي جمعة، فقال له: اخرج إلى بلد إليون فإنك ستفتحها؛ فقال: من أين أخذت هذا ؟ فقال: لأن الأسبراج يقال له في المشرق الهليون، فملك الرؤيا قال لك: هاليون.
فخرج إليها ونازلها، وهي من أعظم مدائنهم، واستمد أهلها الفرنج، فأمدوهم بجيوش كثيرة، واقتتلوا ليلاً ونهاراً، فكثر القتل فيهم، وصبرت صنهاجة صبراً عظيماً، ثم خرج قومص كبير من الفرنج لم يكن لهم مثله، فجال بين الصفوف وطلب البراز، فبرز إليه جلالة بن زيري الصنهاجي فحمل كل واحد منهما على صاحبه، فطعنه الفرنجي فمال عن الطعنة وضربه بالسف على عاتقه فأبان عاتقه، فسقط الفرنجي إلى الأرض، وحمل المسلمون على النصارى، فانهزموا إلى بلادهم، وقتل منهم ما لا يحصى وملك المدينة.
وغنم ابن أبي عامر غنيمة عظيمة لم ير مثلها، واجتمع من السبي ثلاثون ألفاً، وأمر بالقتلى فنضدت بعضها على بعض، وأمر مؤذناً أذن فوق القتلى المغرب، وخرب مدينة قامونة، ورجع سالماً وهو وعساكره.
ذكر وفاة يوسف بلكين

وولاية ابنه المنصور
في هذه السنة، لسبع بقين من ذي الحجة، توفي يوسف بلكين بن زيري صاحب إفريقية بوارقلين.
وسبب مضيه إليها أن خزرون الزناتي دخل سجلماسة، وطرد عنها نائب يوسف بلكين، ونهب ما فيها من الأموال والعدد، وتغلب على فارس زيري ابن عطية الزناتي، فرحل يوسف إليها، فاعتل في الطريق بقولنج، وقيل خرج في يده بثرة فمات منها، فأوصى بولاية ابنه المنصور، وكان المنصور بمدينة أشير، فجلس للعزاء بأبيه، وأتاه أهل القيروان وسائر البلاد يعزونه بأبيه وينهونه بالولاية، فأحسن إلى الناس وقال لهم: إن أبي يوسف وجدي زيري كانا يأخذان الناس بالسيف، وأنا لا آخذهم إلا بالإحسان، ولست ممن يولى بكتاب ويعزل بكتاب، يعني أن الخليفة بمصر لا يقدر على عزله بكتاب.
ثم سار إلى القيروان، وسكن برقادة، وولي الأعمال، واستعمل الأمراء وأرسل هدية عظيمة إلى العزيز بالله بمصر، قيل: كانت قيمتها ألف ألف دينار، ثم عاد إلى أشير، واستخلف على جباية الأموال بالقيروان، والمهدية، وجميع إفريقية إنساناً يقال له عبدالله بن الكاتب.
ذكر أمر باذ الكردي بني مروان وملكه الموصل

في هذه السنة قوي أمر باذ الكردي، واسمه أبو عبدالله الحسين بن دوستك وهو من الأكراد الحميدية، وكان ابتداء أمره أنه كان يغزو بثغور ديار بكر كثيراً، وكان عظيم الخلقة، له بأس وشدة، فلما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده، فلما رأى عضد الدولة خافه وقال: ما أظنه يبقي علي؛ فهرب حين خرج من عنده، وطلبه عضد الدولة بعد خروجه ليقبض عليه، وقال: له بأسٌ وشدة، وفيه شر، ولا يجوز الإبقاء على مثله؛ فأخبر بهربه، فكف عن طلبه.
وحصل بثغور ديار بكر، وأقام بها إلى أن استفحل أمره وقوي، وملك ميافارقين وكثيراً من ديار بكر بعد موت عضد الدولة، ووصل بعض أصحابه إلى نصيبين، فاستولى عليها، فجهز صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعد بهرام بن أردشير، فواقعه، فانهزم بهرام وأسر جماعة من أصحابه، وقوي أمر باذ، فأرسل صمصام الدولة إليه أبا القاسم سعد بن محمد الحاجب في عسكر كثير، فالتقوا بباجلايا على خابور الحسينية، من بلد كواشى، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم سعد وأصحابه، واستولى باذ على كثير من الديلم، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم سعد وأصحابه، واستولى باذ على كثير من الديلم، فقتل وأسر، ثم قتل الأسرى صبراً. وفي هذه الوقعة يقول أبو الحسين البشنوي:
بباجلايا جلونا عنه غمّته، ... ونحن في الروع جلاّؤون للكرب
يعنى باذاً، وسنذكر سببه سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، إن شاء الله تعالى.
ولما هزم باذ الديلم وسعداً، وفعل بهم ما تقدم ذكره، سبقه سعد فدخل الموصل، وسار باذ في أثره، فثار العامة بسعد لسوء سيرة الديلم فيهم، فنجا منهم بنفسه، ودخل باذ إلى الموصل واستولى عليها، وقويت شوكته، وحدث نفسه بالتغلب على بغداد وإزالة الديلم عنها، وخرج من حد المتطرفين، وصار في عداد أصحاب الأطراف. فخافه صمصام الدولة، وأهمه أمره وشغله عن غيره، وجمع العساكر ليسيرها إليه، فانقضت السنة.
وقد حدثني بعض أصدقائنا من الأكراد الحميدية ممن يعتني بأخبار باذ أن باذاً كنيته أبو شجاع، واسمه باذ، وأن أبا عبدالله هو الحسين بن دوستك، وهو أخو باذ، وكان ابتداء أمره أنه كان يرعى الغنم، وكان كريماً جواداً، وكان يذبح الغنم التي له ويطعم الناس، فظهر عنه اسم الجود، فاجتمع عليه الناس، وصار يقطع الطريق، وكلما حصل له شيء أخرجه، فكثر جمعه، وصار يغزو، ثم إنه دخل أرمينية، فملك مدينة أرجيش، وهي أول مدينة ملكها، فقوي بها، وسار منها إلى ديار بكر، فملك مدينة آمد، ثم ملك مدينة ميافارقين وغيرها من ديار بكر، وسار إلى الموصل فملكها كما ذكرناه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استعمل العزيز بالله الخليفة العلوي على دمشق وأعمالها بكجور التركي مولى قرعويه أحد غلمان سيف الدولة بن حمدان، وكان له حمص، فسار منها إلى دمشق، وظلم أهلها، وعسفهم وأساء السيرة فيهم، وقد ذكرناه سنة اثنتين وسبعين مستقصىً.
وفيها وزر أبو محمد علي بن العباس بن فسانجس لشرف الدولة.
وفيها، في ربيع الأول، انقض كوكب عظيم أضاءت له الدنيا، وسمع له مثل دوي الرعد الشديد.
وفيها غلت الأسعار بالعراق وما يجاوره من البلاد، وعدمت الأقوات، فمات كثير من الناس جوعاً.
وفيها وزر أبو عبدالله الحسين بن أحمد بن سعدان لصمصام الدولة.
وفيها ورد القرامطة إلى قريب بغداد، وطمعوا بموت عضد الدولة، فصولحوا على مال أخذوه وعادوا.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي سعيد بن سلام أبو عثمان المغربي بنيسابور، ومولده بالقيروان، ودخل الشام، فصحب الشيوخ منهم أبو الخير الأقطع وغيره، وكان من أرباب الأحوال.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وثلاثمائة

ذكر عود الديلم إلى الموصل
وانهزام باذ
لما استولى باذ الكردي على الموصل اهتم صمصام الدولة ووزيره ابن سعدان بأمره، فوقع الاختيار على إنفاذ زيار بن شهراكويه، وهو أكبر قوادهم، فأمره بالمسير إلى قتاله، وجهزه، وبالغ في أمره، وأكثر معه الرجال والعدد والأموال، وسار إلى باذ، فخرج إليهم، ولقيهم في صفر من هذه السنة، فأجلت الوقعة عن هزيمة باذ وأصحابه وأسر كثير من عسكره وأهله، وحملوا إلى بغداد فشهروا بها، وملك الديلم الموصل.

وأرسل زيار عسكراً مع سعد الحاجب في طلب باذ، فسلكوا على جزيرة ابن عمر، وأرسل عسكراً آخر إلى نصيبين، فاختلفوا على مقدميهم، فلم يطاوعوهم على المسير إليه، وكان باذ بديار بكر قد جمع خلقاً كثيراً فكتب وزير صمصام الدولة إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، وبذل له تسليم ديار بكر إليه، فسير إليها جيشاً، فلم يكن لهم قوة بأصحاب باذ، فعادوا إلى حلب، وكانوا قد حصروا ميافارقين، فلما شاهد سعد ذلك من عسكره أعمل الحيلة في قتل باذ، فوضع رجلاً على ذلك، فدخل الرجل خيمة باذ ليلاً، وضربه بالسيف، وهو يظن أنه يضرب رأسه، فوقعت الضربة على ساقه، فصاح، وهرب ذلك الرجل، فمرض باذ من تلك الضربة، فأشفى على الموت، وكان قد جمع معه من الرجال خلقاً كثيراً، فراسل زياراً وسعداً يطلب الصلح، فاستقر الحال بينهم، واصطلحوا على أن تكون داير بكر لباذ، والنصف من طور عبدين أيضاً، وانحدر زيار إلى بغداد، وأقام سعد بالموصل.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قلد أبو طريف عليان بن ثمال الخفاجي حماية الكوفة، وهي أول إمارة بني ثمال.
وفيها خطب أبو الحسين بن عضد الدولة بالأهواز لفخر الدولة، وخطب له أبو طاهر بن عضد الدولة بالبصرة، ونقشا اسمه على السكة.
وفيها خطب لصمصام الدولة بعمان، وكانت لشرف الدولة، ونائبه بها أستاذ هرمز، فصار مع صمصام الدولة، فلما بلغ الخبر إلى شرف الدولة أرسل إليه جيشاً، فانهزم أستاذ هرمز وأخذ أسيراً، وعادت عمان إلى شرف الدولة، وحبس أستاذ هرمز في بعض القلاع وطولب بمال كثير.
وفيها توفي علي بن كامة، مقدم عسكر ركن الدولة.
وفيها أفرج شرف الدولة عن أبي منصور بن صالحان واستوزره، وقبض على وزيره أبي محمد بن فسانجس.
وفيها أرسل شرف الدولة رسولاً إلى القرامطة، فلما عاد قال: إن القرامطة سألوني عن الملك فأخبرتهم بحسن سيرته فقالوا: من ذلك أنه استوزر ثلاثة في سنة لغير سبب، فلم يغير شرف الدولة بعد هذا على وزيره أبي منصور بن صالحان.
وفي هذه السنة توفي أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي، الحافظ المشهور، وقيل في سنة تسع وستين، وكان ضعيفاً في الحديث.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة

ذكر الفتنة ببغداد
في هذه السنة جرت فتنة ببغداد بين الديلم، وكان سببها أن أسفار بن كردويه، وهو من أكابر القواد، استنفر من صمصام الدولة، واستمال كثيراً من العسكر إلى طاعة شرف الدولة، واتفق رأيهم على أن يولوا الأمير بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة العراق نيابةً عن أخيه شرف الدولة.
وكان صمصام الدولة مريضاً، فتمكن أسفار من الذي عزم عليه، وأظهر ذلك، وتأخر عن الدار، وراسله صمصام الدولة يستميله ويسكنه، فما زاده إلا تمادياً، فلما رأى ذلك من حاله راسل الطائع يطلب منه الركوب معه، وكان صمصام الدولة قد أبل من مرضه، فامتنع الطائع من ذلك، فشرع صمصام الدولة، واستمال فولاذ زماندار، وكان موافقاً لأسفار إلا أنه كان يأنف من متابعته لكبر شأنه. فلما راسله صمصام الدولة أجابه، واستحلفه على ما أراد، وخرج من عنده، وقاتل أسفار، فهزمه فولاذ، وأخذ الأمير أبو نصر أسيراً، وأحضر عند أخيه صمصام الدولة، فرق له، وعلم أنه لا ذنب له، فاعتقله مكرماً، وكان عمره حينئذ خمس عشرة سنة.
وثبت أمر صمصام الدولة، وسعي إليه بابن سعدان الذي كان وزيره، فعزله، وقيل إنه كان هواه معهم، فقتل ومضى أسفار إلى الأهواز، واتصل بالأمير أبي الحسين بن عضد الدولة، وخدمه، وسار باقي العسكر إلى شرف الدولة.
ذكر أخبار القرامطةفي هذه السنة ورد إسحاق وجعفر البحريان، وهما من الستة القرامطة الذين يلقبون بالسادة، فملكا الكوفة، وخطبا لشرف الدولة، فانزعج الناس لذلك لما في النفوس من هيبتهم وبأسهم، وكان لهم من الهيبة ما إن عضد الدولة وبختيار أقطعاهم الكثير.
وكان نائبهم ببغداد يعرف بأبي بكر بن شاهويه، يتحكم تحكم الوزراء، فقبض عليه صمصام الدولة، فلما ورد القرامطة الكوفة كتب إليهما صمصام الدولة يتلطفهما، ويسألهما عن سبب حركتهما، فذكرا أن قبض نائبهم هو السبب في قصدهم بلاده، وبثا أصحابهما، وجبيا المال.

ووصل أبو قيس الحسن بن المنذر إلى الجامعين، وهو من أكابرهم، فأرسل صمصام الدولة العساكر، ومعهم العرب، فعبروا الفرات إليه وقاتلوه، فانهزم عنهم، وأسر أبو قيس وجماعة من قوادهم، فقتلوا، فعاد القرامطة وسيروا جيشاً آخر في عدد كثير وعدة، فالتقوا هم وعساكر صمصام الدولة بالجامعين أيضاً، فأجلت الوقعة عن هزيمة القرامطة، وقتل مقدمهم وغيره، وأسر جماعة، ونهب سوادهم، فلما بلغ المنهزمون إلى الكوفة رحل القرامطة، وتبعهم العسكر إلى القادسية، فلم يدركوهم، وزال من حينئذ ناموسهم.
ذكر الإفراج عن ورد الرومي وما صار أمره إليه ودخول الروس في النصرانيةفي هذه السنة أفرج صمصام الدولة عن ورد الرومي، وقد تقدم ذكر حبسه. فلما كان الآن أفرج عنه وأطلقه، وشرط عليه إطلاق عدد كثير من أسرى المسلمين، وأن يسلم إليه سبعة حصون من بلد الروم برساتيقها، وأن لا يقصد بلاد الإسلام هو ولا أحد من أصحابه ما عاش، وجهزه بما يحتاج إليه من مال وغيره، فسار إلى بلاد الروم، واستمال في طريقه خلقاً كثيراً من البوادي وغيرهم، وأطمعهم في العطاء والغنيمة، وسار حتى نزل بملطية، فتسلمها، وقوي بها وبما فيها من مالٍ وغيره.
وقصد ورديس بن لاون، فتراسلا، واستقر الأمر بينهما على أن تكون القسطنطينية، وما جاورها من شمالي الخليج، لورديس، وهذا الجانب من الخليج لورد، وتحالفا واجتمعا، فقبض ورديس على ورد وحبسه، ثم إنه ندم فأطلقه عن قريب، وعبر ورديس الخليج، وحصر القسطنطينية وبها الملكان ابنا أرمانوس، وهما بسيل وقسطنطين وضيف عليهما، فراسلا ملك الروسية، واستنجداه وزوجاه بأخت لهما، فامتنعت من تسليم نفسها إلى من يخالفها في الدين، فتنصر، وكان هذا أول النصرانية بالروس، وتزوجها وسار إلى لقاء ورديس، فاقتتلوا وتحاربوا فقتل ورديس، واستقر الملكان في ملكهما، وراسلا ورداً وأقراه على ما بيده، فبقي مديدةً ومات، قيل إنه مات مسموماً.
وتقدم بسيل في الملك، وكان شجاعاً عادلاً، حسن الرأي، ودام ملكه، وحارب البلغار خمساً وثلاثين سنة، وظفر بهم، وأجلى كثيراً منهم من بلادهم، وأسكنها الروم، وكان كثير الإحسان إلى المسلمين والميل إليهم.
ذكر ملك شرف الدولة الأهوازفي هذه السنة شرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من فارس يطلب الأهواز، وأرسل إلى أخيه أبي الحسين وهو بها يطبب نفسه، ويعده الإحسان، وأن يقره على ما بيده من الأعمال، وأعلمه أن مقصده العراق، وتخليص أخيه الأمير أبي نصر من محبسه، فلم يصغ أبو الحسين إلى قوله، وعزم على منعه، وتجهز لذلك، فأتاه الخبر بوصول شرف الدولة إلى أرجان، ثم إلى رامهرمز، فتسلل أجناده إلى شرف الدولة ونادوا بشعاره، فهرب أبو الحسين نحو الري إلى عمه فخر الدولة، فبلغ أصبهان وأقام بها، واستنصر عمه فأطلق له مالاً ووعده بنصره.
فلما طال عليه الأمر قصد التغلب على أصبهان ونادى بشعار أخيه شرف الدولة، فثار به جندها وأخذوه أسيراً وسيروه إلى الري، فحبسه عمه، وبقي محبوساً إلى أن مرض عمه فخر الدولة مرض الموت، فلما اشتد مرضه أرسل إليه من قتله، وكان يقول شعراً، فمن قوله:
هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه، ... وأعقب بالحسنى، وفكّ من الأسر
فمن لي بأيّام الشباب التي مضت، ... ومن لي بما قد فات في الحبس من عمري
وأما شرف الدولة فإنه سار إلى الأهواز وملكها، وأرسل إلى البصرة فملكها، وقبض على أخيه أبي طاهر، وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة، فراسله في الصلح، فاستقر الأمر على أن يخطب لشرف الدولة بالعراق قبل صمصام الدولة، ويكون صمصام الدولة نائباً عنه، ويطلق أخاه الأمير بهاء الدولة أبا نصر، فأطلقه وسيره إليه، وصلح الحال واستقام.
وكان قواد شرف الدولة يحبون الصلح لأجل العود إلى أوطانهم، وخطب لشرف الدولة بالعراق، وسيرت إليه الخلع والألقاب من الطائع لله، فإلى أن عادت الرسل إلى شرف الدولة ليحلفوه ألقت إليه البلاد مقاليدها كواسط وغيرها، وكاتبه القواد بالطاعة، فعاد عن الصلح، وعزم على قصد بغداد والاستيلاء على الملك، ولم يحلف لأخيه.
وكان معه الشريف أبو الحسن محمد بن عمر يشير عليه بقصد العراق، ويحثه عليه، ويطمعه فيه، فوافقه على ذلك. وسنذكر باقي خبره سنة ست وسبعين، إن شاء الله تعالى.

ذكر انهزام عساكر المنصور من صاحب سجلماسة
قد ذكرنا استيلاء خزرون وزيري الزناتيين على سجلماسة وفاس، وموت يوسف بلكين لما قصدهما، فلما مات تمكنا من تلك البلاد؛ فلما استقر المنصور سير جيشاً كثيفاً إليهما ليردهما إلى طاعته، فلما صار الجيش قريب فاس خرج إليهم صاحبها زيري بن عطية الزناتي، المعروف بالقرطاس، في عساكره، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر المنصور، وقتل منهم خلق كثير، وأسر جماعة كثيرة، وثبت قدمه في ولايته.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج بعمان طائر من البحر كبير، أكبر من الفيل، ووقف على تل هناك، وصاح بصوت عالٍ، ولسان فصيح: قد قرب، قد قرب، قد قرب، ثلاثاً ثم غاص في البحر، ففعل ذلك ثلاثة أيام، ثم غاب ولم ير بعد ذلك.
وفيها جدد صمصام الدولة ببغداد على الثياب الإبرسيم والقطن المبيعة ضريبة مقدارها عشر الثمن، فاجتمع الناس في جامع المنصور، وعزموا على قطع الصلاة، وكاد البلد يفتتن، فأعفوا من ذلك.
وفيها توفي ابن مؤيد الدولة بن بويه، فجلس صمصام الدولة للعزاء، فأتاه الطائع لله معزياً.
وفيها توفي أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة الفقيه الشافعي المشهور؛ وأبو القاسم عبد العزيز بن عبدالله الداركي وكان رئيس أصحاب الشافعي بالعراق، وتوفي في شوال وله نيف وسبعون سنة؛ وأبو بكر محمد بن عبدالله بن محمد بن صالح الفقيه المالكي، ومولده سنة سبع وثمانين ومائتين، وسئل أن يلي قضاء القضاة فامتنع؛ والوليد بن أحمد بن محمد بن الوليد أبو العباس الزوزني الصوفي المحدث، كان من العلماء في الحقائق، وله تصانيف حسنة.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلاثمائة
ذكر ملك شرف الدولة العراق
وقبض صمصام الدولة
في هذه السنة سار شرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من الأهواز إلى واسط فملكها، فأرسل إليه صمصام الدولة أخاه أبا نصر يستعطفه بإطلاقه، وكان محبوساً عنده، فلم يتعطف له، واتسع الخرق على صمصام الدولة، وشغب عليه جنده، فاستشار أصحابه في قصد أخيه والدخول في طاعته، فنهوه عن ذلك، وقال بعضهم: الرأي أننا نصعد إلى عكبرا لنعلم بذلك من هو لنا ممن هو علينا، فإن رأينا عدتنا كثيرة قاتلناهم وأخرجنا الأموال، وإن عجزنا سرنا إلى الموصل، فهي وسائر بلاد الجبل لنا، فيقوى أمرنا، ولا بد أن الديلم والأتراك تجري بينهم منافسة ومحاسدة ويحدث اختلال فنبلغ الغرض.
وقال بعضهم: الرأي أننا نسير إلى قرميسين تكاتب عمك فخر الدولة وتستنجده، وتسير على طريق خراسان وأصبهان إلى فارس، فتتغلب عليها، على خزائن شرف الدولة وذخائره، فما هناك ممانع ولا مدافع، فإذا فعلنا ذلك لا يقدر شرف الدولة على المقام بالعراق، فيعود حينئذ فيقع الصلح.
فأعرض صمصام الدولة عن الجميع، وسار في طيار إلى أخيه شرف الدولة في خواصه، فوصل إلى أخيه شرف الدولة، فلقيه وطيب قلبه. فلما خرج من عنده قبض عليه، وأرسل إلى بغداد من يحتاط على دار المملكة، وسار فوصل إلى بغداد في شهر رمضان، فنزل بالشفيعي، وأخوه صمصام الدولة معه تحت الاعتقال، وكانت إمارته بالعراق ثلاث سنين وأحد عشر شهراً.
ذكر الفتنة بين الأتراك والديلمفي هذه السنة جرت فتنة بين الديلم والأتراك الذين مع شرف الدولة ببغداد. وسببها أن الديلم اجتمعوا مع شرف الدولة في خلق كثير بلغت عدتهم خمسة عشرة ألف رجل، وكان الأتراك في ثلاثة آلاف، فاستطال عليهم الديلم، فجرت منازعة بين بعضهم في دار وإصطبل، ثم صارت إلى المحاربة، فاستظهر الديلم لكثرتهم، وأرادوا إخراج صمصام الدولة وإعادته إلى ملكه.
وبلغ شرف الدولة الخبر، فوكل بصمصام الدولة من يقتله إن هم الديلم بإخراجه. ثم إن الديلم لما استظهروا على الأتراك تبعوهم، فتشوشت صفوفهم، فعادت الأتراك عليهم من أمامهم وخلفهم، فانهزموا وقتل منهم زيادة على ثلاثة آلاف، ودخل الأتراك البلد، فقتلوا من وجدوه منهم، ونهبوا أموالهم، وتفرق الديلم، فبعضهم اعتصم بشرف الدولة، وبعضهم سار عنه.
فلما كان الغد دخل شرف الدولة بغداد والديلم المعتصمون به معه، فخرج الطائع لله ولقيه وهنأه بالسلامة، وقبل شرف الدولة الأرض، وأخذ الديلم يذكرون صمصام الدولة، فقيل لشرف الدولة: اقتله، وإلا ملكوه الأمر.

ثم إن شرف الدولة أصلح بين الطائفتين، وحلف بعضهم لبعض، وحمل صمصام الدولة إلى فارس، فاعتقل في قلعةٍ هناك، فرد شرف الدولة على الشريف محمد بن عمر جميع أملاكه وزاده عليها، وكان خراج أملاكه كل سنة ألفي ألف وخمس مائة ألف درهم، ورد على النقيب أبي أحمد الموسوي أملاكه، وأقر الناس على مراتبهم، ومنع الناس من السعايات ولم يقبلها، فأمنوا وسكنوا. ووزر له أبو منصور بن صالحان.
ذكر ولاية مهذب الدولة البطيحةفي هذه السنة توفي المظفر بن علي، وولي بعده ابن أخته أبو الحسن علي ابن نصر بالعهد المذكور، وكتب إلى شرف الدولة يبذل له الطاعة، ويطلب التقليد، فأجيب إلى ذلك، ولقب بمهذب الدولة، فأحسن السيرة، وبذل الخير والإحسان، فقصده الناس، وأمن عنده الخائف.
وصارت البطيحة معقلاً لكل من قصدها، واتخذها الأكابر وطناً، وبنوا فيها الدور الحسنة، ووسعهم بره وإحسانه، وكاتب ملوك الأطراف وكاتبوه، وزجه بهاء الدولة ابنته، وعظم شأنه إلى أن قصده القادر بالله فحماه، وبقي عنده إلى أن أتته الخلافة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي، المنجم لعضد الدولة، وكان مولده بالري سنة إحدى وتسعين ومائتين.
وفيها كان بالموصل زلزلة شديدة تهدم بها كثير من المنازل، وهلك كثير من الناس.
وفيها قتل المنصور بن يوسف، صاحب إفريقية، عبدالله الكاتب، وقام على ولاية الأعمال بإفريقية عوضه يوسف بن أبي محمد، وكان والي قفصة قبل ذلك.
وفيها كان بالعراق غلاء شديد جلا لشدته أكثر أهله.
وفيها توفي أحمد بن يوسف بن يعقوب بن البهلول التنوخي الأزرق، الأنباري الكاتب.
وأحمد بن الحسين بن علي أبو حامد المروزي، ويعرف بابن الطبري الفقيه الحنفي، تفقه ببغداد على أبي الحسن الكرخي، وولي قضاء القضاة بخراسان، ومات في صفر، وكان عابداً محدثاً ثقة.
وإسحاق بن المقتدر بالله أو محمد والد القادر، ومولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وصلى عليه ابنه القادر وهو حينئذ أمير.
وأبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي، صاحب الإيضاح؛ قيل كان معتزلياً وقد جاوز تسعين سنة.
وأبو أحمد محمد بن أحمد بن الحسين بن الغطريف الجرجاني، توفي في رجب، وهو عالي الإسناد في الحديث.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة

الحرب بين ابن حسنويه وشرف الدولة
ذكر الحرب بين بدر بن حسنويه وعسكر شرف الدولة
في هذه السنة جهز شرف الدولة عسكراً كثيفاً مع قراتكين الجهشياري، وهو مقدم عسكره وكبيرهم، وأمرهم بالمسير إلى بدر بن حسنويه وقتاله.
وسبب ذلك أن شرف الدولة كان مغيظاً حنقاً على بدر لانحرافه عنه، وميله إلى عمه فخر الدولة، فلما استقر ملكه ببغداد وأطاعه الناس شرع في أمره بدر، وكان قراتكين قد جاوز الحد في التحكم والإدلال، وحماية الناس على نواب شرف الدولة، فرأى أن يخرجه في هذا الوجه، فإن ظفر ببدر شفى غيظه منه، وإن ظفر به بدر استراح منه.
فساروا نحو بدر، وتجهز بدر وجمع العساكر، وتلاقيا على الوادي بقرميسين، فلما اقتتلوا انهزم بدر حتى توارى عنه، وظن قراتكين وأصحابه أنه مضى على وجهه، فنزلوا عن خيولهم وتفرقوا في خيامهم، فلم يلبثوا إلا ساعة حتى كر بدر راجعاً إليهم، وأكب عليهم، وأعجلهم عن الركوب، وقتل منهم مقتلة عظيمة، واحتوى على جميع ما في عسكرهم، ونجا قراتكين في نفرٍ من غلمانه، فبلغ جسر النهروان، وأقام به حتى اجتمع إليه المنهزمون، ودخل بغداد.
واستولى بدر بعد ذلك على أعمال الجبل وما والاها، وقويت شوكته.
وأما قرتكين فإنه لما عاد من الهزيمة زاد إدلاله وتجنيه، وأغرى العسكر بالشغب، والتوثب على الوزير أبي منصور بن صالحان، فلقوه بما يكره، فلاطفهم ودفعهم، وأصلح شرف الدولة بين الوزير وبين قراتكين، وشرع في إعمال الحيلة على قراتكين، فلم تمض غير أيام حتى قبض عليه وعلى جماعة من أصحابه وكتابه، وأخذ أموالهم، وشغب الجند لأجله، فقتله شرف الدولة، فسكنوا، وقدم عليهم طغان الحاجب، فصلحت طاعته.
ذكر مسير المنصور بن يوسف لحرب كتامةفي هذه السنة جمع المنصور، صاحب إفريقية، عساكره وسار إلى كتامة قاصداً حربها.

وسبب ذلك أن العزيز بالله العلوي بمصر كان قد أرسل داعياً له إلى كتامه، يقال له أبو الفهم، واسمه حسن بن نصر، يدعوهم إلى طاعته، وغرضه أن تميل كتامة إليه وترسل إليه جنداً يقاتلون المنصور، ويأخذون إفريقية منه، لما رأى من قوته. فدعاهم أبو الفهم، فكثر تبعه، وقاد الجيوش، وعظم شأنه، وعزم المنصور على قصده، فأرسل إلى العزيز بمصر يعرفه الحال، فأرسل العزيز رسولين إلى المنصور ينهاه عن التعرض لأبي الفهم وكتامة، وأمرهما أن يسيرا إلى كتامة بعد الفراغ من رسالة المنصور.
فلما وصلا إلى المنصور وأبلغاه رسالة العزيز أغلظ القول لهما وللعزيز أيضاً، وأغلظا له، فأمرهما بالمقام عنده بقية شعبان ورمضان، ولم يتركهما يمضيان إلى كتامة، وتجهز لحرب كتامة وأبي الفهم، وسار بعد عيد الأضحى، فقصده مدينة ميلة، وأراد قتل أهلها وسبي نسائهم وذراريهم، فخرجوا إليه يتضرعون ويبكون فعفا عنهم، وخرب سورها، وسار منها إلى كتامة والرسولان معه.
فكان لا يمر بقصر ولا منزل إلا هدمه، حتى بلغ مدينة سطيف، وهي كرسي عزهم، فاقتتلوا عندها قتالاً عظيماً، فانهزمت كتامة، وهرب أبو الفهم إلى جبل وعرٍ فيه ناس من كتامة يقال لهم بنو إبراهيم، فأرسل إليهم المنصور يتهددهم إن لم يسلموه، فقالوا: هو ضيفنا ولا نسلمه، ولكن أرسل أنت إليه فخذه ونحن لا نمنعه. فأرسل فأخذه، وضربه ضرباً شديداً، ثم قتله وسلخه، وأكلت صنهاجة وعبيد المنصور لحمه، وقتل معه جماعة من الدعاة ووجوه كتامة، وعاد إلى أشير، ورد الرسولين إلى العزيز فأخبراه بما فعل بأبي الفهم، وقالا: جئنا من عند شياطين يأكلون الناس. فأرسل العزيز إلى المنصور يطيب قلبه، وأرسل إليه هدية، ولم يذكر له أبا الفهم.
ذكر معاودة باذ القتالفي هذه السنة تجدد لباذ الكردي طمع في بلاد الموصل وغيرها.
وسبب ذلك أن سعداً الحاجب الذي تقدم ذكره توفي بالموصل، فسير إليها شرف الدولة أبا نصر خواشاذه، وجهز إليه العساكر، وكتب يستمد من شرف الدولة العساكر والأموال، فتأخرت الأموال عنه، فأحضر العرب من بني عقيل وأقطعهم البلاد ليمنعوا عنها، وانحدر باذ فاستولى على طور عبدين، ولم يقدر على النزول إلى الصحراء، وأرسل أخاه في عسكر، فقاتلوا العرب، فقتل أخوه وانهزم عسكره، وأقام بعضهم مقابل بعض.
فبينما هم كذلك أتاهم الخبر بموت شرف الدولة، فعاد خواشاذه إلى الموصل وأظهر موته، وأقامت العرب بالصحراء تمنع باذاً من النزول إليها، وباذ بالجبل، وكان خواشاذه يصلح أمره ليعاود حرب باذ، فأتاه إبراهيم وأبو الحسين ابنا ناصر الدولة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جلس الطائع لله لشرف الدولة جلوساً عاماً وحضره أعيان الدولة، وخلع عليه، وحلف كل واحد منهما لصاحبه.
وفيها ولد الأمير أبو علي الحسن بن فخر الدولة في رجب.
وفيها سار الصاحب بن عباد إلى طبرستان فأصلحها، ونفى المتغلبين عنها، وفتح عدة حصون منها: حصن قريم، وعاد في سنته.
وفيها عصى الأمير أبو منصور بن كوريكنج، صاحب قزوين، على فخر الدولة، فلاطفه فخر الدولة، وبذل له الأمان والإحسان، فعاد إلى طاعته.
وفيها، في رمضان، حدثت فتنة شديدة بين الديلم والعامة بمدينة الموصل، قتل فيها مقتلة عظيمة، ثم أصلح الحال بين الطائفتين.
وفيها تأخر المطر حتى انتصف كانون الثاني، وغلت الأسعار بالعراق وما يجاوره من البلاد، واستسقى الناس مرتين فلم يسقوا، حتى جاء المطر سابع عشر كانون الثاني، وزال القنوط، وتتابعت الأمطار.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة

ذكر القبض على شكر الخادم
في هذه السنة قبض شرف الدولة على شكرٍ الخادم، وكان أخص الناس عند والده عضد الدولة وأقربهم إليه، يرجع إلى قوله ويعول عليه.
وكان سبب قبضه أنه كان أيام والده يقصد شرف الدولة ويؤذيه، وهو الذي تولى إبعاده إلى كرمان من بغداد، وقام بأمر صمصام الدولة، فحقد عليه شرف الدولة ذلك، فلما ملك شرف الدولة العراق اختفى شكر، فطلبه أشد الطلب فلم يوجد، وكان له جارية حبشية قد تزوجها، فطلبها إليه، فأقامت عنده مدة تخدمه.

وكان قد علق بقلبها غيره، فصارت تأخذ المأكول وغيره وتحمله إلى حيث شاءت، فأحس بها شكر، فلم يحتملها، فضربها، فخرجت غضبى إلى باب دار شرف الدولة، فأخبرت بحال شكرٍ، فأخذ وأحضر عند شرف الدولة، فأراد قتله، فشفع فيه نحرير الخادم، فوهبه له، وأستأذنه في الحج، فأذن له، فسار إلى مكة ثم منها إلى مصر، فنال هناك منزلةً كبيرةً، وسيرد خبره إن شاء الله تعالى.
ذكر عزل بكجور عن دمشقفي هذه السنة عزل بكجور عن دمشق.
وسبب ذلك أنه أساء السيرة في دمشق، وفعل الأعمال الذميمة، وكان الوزير يعقوب بن كلس منحرفاً عنه، يسيء الرأي فيه، وانضاف إلى ذلك ما فعله بأصحابه بدمشق على ما ذكرناه. فلما بلغه فعله بدمشق تحرك في عزله، وقبح ذكره عند العزيز بالله، فأجابه إلى ذلك، فجهزت العساكر من مصر مع القائد منير الخادم، فساروا إلى الشام.
فجمع بكجور العرب وغيرها وخرج، فلقي العسكر المصري عند داريا، وقاتلهم، فاشتد القتال بينهم، فانهزم بكجور وعسكره، وخاف من وصول نزال والي طرابلس، وكان قد كوتب من مصر بمعاضدة منير، فلما انهزم بكجور خاف أن يجيء نزال فيؤخذ، فأرسل يطلب الأمان ليسلم البلد إليهم، فأجابوه إلى ذلك، فجمع ماله جميعه وسار، وأخفى أثره لئلا يغدر المصريون به، وتوجه إلى الرقة فاستولى عليها، وتسلم منير البلد، ففرح به أهله وسرهم ولايته، وسنذكر سنة إحدى وثمانين باقي أخباره وقتله، إن شاء الله تعالى.
ذكر ظفر الأصفر بالقرامطةفي هذه السنة جمع إنسان يعرف بالأصفر من بني المنتفق جمعاً كثيراً، وكان بينه وبين جمع من القرامطة وقعة شديدة قتل فيها مقدم القرامطة، وانهزم أصحابه وقتل منهم، وأسر كثير.
وسار الأصفر إلى الأحساء، فتحصن منه القرامطة، فعدل إلى القطيف فأخذ ما كان فيها من عبيدهم وأموالهم ومواشيهم وسار بها إلى البصرة.
ذكر نكتة حسنةفي هذه السنة أهدى الصاحب بن عباد، أول المحرم، إلى فخر الدولة ديناراً وزنه ألف مثقال، وكان على أحد جانبيه مكتوب:
وأحمر يحكي الشمس شكلاً وصورةً ... فأوصافه مشتقّةٌ من صفاته
فإن قيل دينارٌ فقد صدق اسمه، ... وإن قيل ألفٌ كان بعض سماته
بديعٌ، ولم يطبع على الدهر مثله، ... ولا ضربت أضرابه لسراته
فقد أبرزته دولةٌ فلكيّةٌ ... أقام بها الإقبال صدر قناته
وصار إلى شاهانشاه انتسابه، ... على أنّه مستصغرٌ لعفاته
يخبّر أن يبقى سنين كوزنه ... لتستبشر الدنيا بطول حياته
تأنّق فيه عبده، وابن عبده، ... وغرس أياديه، وكافي كفاته
وكان على الجانب الآخر سورة الإخلاص، ولقب الخليفة الطائع لله، ولقب فخر الدولة، واسم جرجان لأنه ضر بها. قوله: دولة فكلية يعني أن لقب فخر الدولة كان فلك الأمة. وقوله: وكافي كفاته، فإن الصاحب كان لقبه كافي الكفاة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة تتابعت الأمطار، وكثرت البروق والرعود، والبرد الكبار، وسالت منه الأودية، وامتلأت الأنهار والآبار ببلاد الجبل، وخربت المساكن، وامتلأت الأقناء طيناً وحجارةً، وانقطعت الطرق.
وفيها عصى نصر بن الحسن بن الفيرزان بالدامغان على فخر الدولة، واجتاز به أحمد بن سعيد الشبيبي الخراساني مقبلاً من الري ومعه عسكر من الديلم لمحاربته، فلما رأى الجد في أمره راسل فخر الدولة، وعاود طاعته، فأجابه إلى قبول ذلك منه وأقره على حاله؛ وفيها توفي الأمير أبو علي بن فخر الدولة في رجب.
وفيها وقع الوباء بالبصرة والبطائح من شدة الحر، فمات خلق كثير حتى امتلأت منهم الشوارع.
وفي شعبان كثرت الرياح العواصف، وجاءت وقت العصر، خامس شعبان، ريح عظيمة بفم الصلح، فهدمت قطعة من الجامع، وأهلكت جماعة من الناس، وغرقت كثيراً من السفن الكبار المملوءة، واحتملت زورقاً منحدراً فيه دواب، وعدة من السفن، وألقت الجميع على مسافة من موضعها.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب المفيد، كان محدثاً مكثراً، ومولده سنة أربع وثمانين ومائتين.
وأبو حامد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق الحاكم النيسابوري، في ربيع الأول، وهو صاحب التصانيف المشهورة.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة
ذكر سمل صمصام الدولة
كان نحرير الخادم يشير على شرف الدولة بقتل أخيه صمصام الدولة، وشرف الدولة يعرض عن كلامه، فلما اعتقل شرف الدولة واشتدت علته ألح عليه نحرير وقال له: الدولة معه على خطرٍ، فإن لم تقتله فاسلمه. فأرسل في ذلك محمداً الشيرازي الفراش، فمات شرف الدولة قبل أن يصل الفراش إلى صمصام الدولة، فلما وصل الفراش إلى القلعة التي بها صمصام الدولة لم يقدم على سلمه، فاستشار أبا القاسم العلاء بن الحسن الناظر هناك، فأشار بذلك، فسلمه. وكان صمصام الدولة يقول: ما أعماني إلا العلاء لأنه أمضى في حكم سلطان قد مات.
ذكر وفاة شرف الدولة
وملك بهاء الدولة
في هذه السنة، مستهل جمادى الآخرة، توفي الملك شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيل بن عضد الدولة مستسقياً، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن به، وكانت إمارته بالعراق سنتين وثمانية أشهر، وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة وخمسة أشهر.
ولما اشتدت علته سير ولده أبا على إلى بلاد فارس، وأصحبه الخزائن والعدد وجماعة كثيرة من الأتراك، فلما أيس أصحابه منه اجتمع إليه أعيانهم وسألوه أن يملك أحداً، فقال: أنا في شغل عما تدعونني إليه. فقالوا له ليأمر أخاه بهاء الدولة أبا نصر أن ينوب عنه إلى أن يعافى ليحفظ الناس لئلا تثور فتنة، ففعل ذلك، وتوقف بهاء الدولة ثم أجاب إليه.
فلما مات جلس بهاء الدولة في المملكة، وقعد للعزاء، وركب الطائع لله أمير المؤمنين إلى العزاء في الزبزب، فتلقاه بهاء الدولة، وقبل الأرض بين يديه، وانحدر الطائع لله إلى داره، وخلع على بهاء الدولة خلع السلطنة، وأقر بهاء الدولة أبا منصور بن صالحان على وزارته.
ذكر مسير الأمير أبي علي بن شرف الدولة إلى فارس وما كان منه مع صمصام الدولة
لما اشتد مرض شرف الدولة جهز ولده الأمير أبا علي وسيره إلى فارس ومعه والدته وجواريه، وسير معه من الأموال والجواهر والسلاح أكثرها. فلما بلغ البصرة أتاهم الخبر بموت شرف الدولة، فسير ما معه في البحر إلى أرجان، وسار هو مجداً إلى أن وصل إليها، واجتمع معه من بها من الأتراك، وساروا نحو شيراز، وكاتبهم متوليها وهو أبو القاسم العلاء بن الحسن بالوصول إليها ليسلمها إليهم، وكان المرتبون في القلعة التي بها صمصام الدولة وأخوه أبو طاهر قد أطلقوهما ومعهما فولاذ وساروا إلى سيراف.
واجتمع على صمصام الدولة كثير من الديلم. وسار الأمير أبو علي إلى شيراز، ووقعت الفتنة بها بين الأتراك والديلم، وخرج الأمير أبو علي من داره إلى معسكر الأتراك، فنزل معهم، واجتمع الديلم وقصدوا ليأخذوه ويسلموه إلى صمصام الدولة، فرأوه قد انتقل إلى الأتراك، فكشفوا القناع، ونابذوا الأتراك، وجرى بينهم قتال عدة أيام.
ثم سار أبو علي والأتراك إلى فسا، فاستولوا عليها وأخذوا ما بها من مال، وقتلوا من بها من الديلم، وأخذوا أموالهم وسلاحهم فقووا بذلك.
وسار أبو علي إلى أرجان، وعاد الأتراك إلى شيراز، فقاتلوا صمصام الدولة ومن معه من الديلم، ونهبوا البلد، وعادوا إلى أبي علي بأرجان، وأقاموا معه مديدةً.
ثم وصل رسول من بهاء الدولة إلى أبي علي وأدى الرسالة، وطيب قلبه ووعده، ثم إنه راسل الأتراك سراً، واستمالهم إلى نفسه، وأطعمهم، فحسنوا لأبي علي المسير إلى بهاء الدولة، فسار إليه، فلقيه بواسط منتصف جمادى الآخرة سنة ثمانين وثلاثمائة، فأنزله وأكرمه، وتركه عدة أيام، وقبض عليه، ثم قتله بعد ذلك بيسير، وتجهز بهاء الدولة للمسير إلى الأهواز لقصد بلاد فارس.
ذكر الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلموفي هذه السنة أيضاً وقعت الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلم، واشتد الأمر، ودام القتال بينهم خمسة أيام، وبهاء الدولة في داره يراسلهم في الصلح، فلم يسمعوا قوله، وقتل بعض رسله.
ثم إنه خرج إلى الأتراك، وحضر القتال معهم، فاشتد حينئذ الأمر، وعظم الشر، ثم إنه شرع في الصلح، ورفق بالأتراك، وراسل الديلم، فاستقر الحال بينهم، وحلف بعضهم لبعض، وكانت مدة الحرب اثني عشر يوماً.
ثم إن الديلم تفرقوا، فمضى فريق بعد فريق، وأخرج بعضهم، وقبض على البعض، فضعف أمرهم، وقويت شوكة الأتراك، واشتدت حالهم.

ذكر مسير فخر الدولة إلى العراق وما كان منه
وفي هذه السنة سار فخر الدولة بن ركن الدولة من الري إلى همذان، عازماً على قصد العراق والاستيلاء عليها.
وكان سبب حركته أن الصاحب بن عباد كان يحب العراق لا سيما بغداد، ويؤثر التقدم بها، ويرصد أوقات الفرصة، فلما توفي شرف الدولة علم أن الفرصة قد أمنت، فوضع على فخر الدولة من يعظم عنده ملك العراق، ويسهل أمره عليه، ولم يباشر هو ذلك خوفاً من خطر العاقبة، إلى أن قال له فخر الدولة: ما عندك في هذا الأمر ؟ فأحال على أن سعادته تسهل كل صعب، وعظم البلاد؛ فتجهز وسار إلى همذان، وأتاه بدر بن حسنويه، وقصده دبيس بن عفيف الأسدي، فاستقر الأمر على أن يسير الصاحب بن عباد وبدر إلى العراق على الجادة، ويسير فخر الدولة على خوزستان. فلما سار الصاحب حذر فخر الدولة من ناحيته، وقيل له ربما استماله أولاد عضد الدولة، فاستعاده إليه، وأخذه معه إلى الأهواز فملكها، وأساء السيرة مع جندها، وضيق عليهم، ولم يبذل الماء، فخابت ظنون الناس فيه، واستشعر منه أيضاً عسكره، وقالوا: هكذا يفعل بنا إذا تمكن من إرادته، فتخاذلوا.
وكان الصاحب قد أمسك نفسه تأثراً بما قيل عنه من اتهامه، فالأمور بسكوته غير مستقيمة. فلما سمع بهاء الدولة بوصولهم إلى الأهواز سير إليهم العساكر، والتقوا هم وعساكر فخر الدولة.
فاتفق أن دجلة الأهواز زادت ذلك الوقت زيادة عظيمة وانفتحت البثوق منها، فظنها عسكر فخر الدولة مكيدة، فانهزموا، فقلق فخر الدولة من ذلك، وكان قد استبد برأيه، فعاد حينئذ إلى رأي الصاحب، فأشار ببذل المال، واستصلاح الجند، وقال له: إن الرأي في مثل هذه الأوقات إخراج المال وترك مضايقة الجند، فإن أطلقت المال ضمنت لك حصول أضعافه بعد سنة. فلم يفعل ذلك، وتفرق عنه كثير من عسكر الأهواز، واتسع الخرق عليه، وضاقت الأمور به، فعاد إلى الري، وقبض في طريقه على جماعة من القواد الرازيين، وملك أصحاب بهاء الدولة الأهواز.
ذكر هرب القادر بالله إلى البطيحةفي هذه السنة هرب القادر بالله من الطائع لله إلى البطيحة فاحتمى فيها.
وكان سبب ذلك أن إسحاق بن المقتدر والد القادر لما توفي جرى بين القادر وبين أخت له منازعة في ضيعة وطال الأمر بينهما. ثم إن الطائع لله مرض مرضاً أشفى منه، ثم أبل، فسعت إليه بأخيه القادر وقالت له: إنه شرع في طلب الخلافة عند مرضك؛ فتغير رأيه فيه، فأنفذ أبا الحسن بن النعمان وغيره للقبض عليه، وكان بالحريم الطاهري، فأصعدوا في الماء إليه.
وكان القادر قد رأى في منامه كأن رجلاً يقرأ عليه: (الَّذِينَ قَاَلَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمٍ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ) آل عمران: 173 فهو يحكي هذا المنام لأهله ويقول: أنا خائف من طالب يطلبني؛ ووصل أصحاب الطائع لله إليه واستدعوه، فأراد لبس ثيابه، فلم يمكنوه من مفارقتهم، فأخذه النساء منهم قهراً، وخرج عن داره واستتر، ثم سار إلى البطيحة، فنزل على مهذب الدولة، فأكرم نزله، ووسع عليه، وحفظه، وبالغ في خدمته، ولم يزل عنده إلى أن أتته الخلافة، فلما وليها جعل علامته: (حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ) آل عمران: 173.
ذكر عود بني حمدان إلى الموصلفي هذه السنة ملك أبو طاهر إبراهيم وأبو عبدالله الحسين ابنا ناصر الدولة ابن حمدان الموصل.
وسبب ذلك أنهما كانا في خدمة شرف الدولة ببغداد، فلما توفي وملك بهاء الدولة استأذنا في الإصعاد إلى الموصل، فأذن لهما، فأصعدا، ثم علم القواد الغلط في ذلك، فكتب بهاء الدولة إلى خواشاذه، وهو يتولى الموصل، يأمره بدفعهما عنها، فأرسل إليهما خواشاذه يأمرهما بالعود عنه، فأعادا جواباً جميلاً، وجدا في السير حتى نزلا بالدير الأعلى بظاهر الموصل.
وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك، فنهبوهم، وخرجوا إلى بني حمدان، وخرج الديلم إلى قتالهم، فهزمهم المواصلة وبنو حمدان، وقتل منهم خلق كثير، واعتصم الباقون بدار الإمارة، وعزم أهل الموصل على قتلهم والاستراحة منهم، فمنعهم بنو حمدان عن ذلك، وسيروا خواشاذه ومن معه إلى بغداد، وأقاموا بالموصل، وكثر العرب عندهم.
ذكر خلاف كتامة على المنصور

وفي هذه السنة خرج إنسان آخر من كتامة يقال له أبو الفرج، لا يعرف من أي موضعٍ هو، وزعم أن أباه ولد القائم العلوي، جد المعز لدين الله، فعمل أكثر مما عمله أبو الفهم، واجتمعت إليه كتامة، واتخذ البنود والطبول، وضرب السكة، وجرت بينه وبين نائب المنصور وعساكره بمدينة ميلة وسطيف حروب كثيرة ووقعات متعددة، فسار المنصور إليه في عساكره، وزحف هو إلى المنصور في عساكر كتامة، فكان بينهما حرب شديدة، فانهزم أبو الفرج وكتامة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، واختفى أبو الفرج في غارٍ في جبل، فوثب عليه غلامان كانا له فأخذاه وأتيا به المنصور، فسره ذلك وقتله شر قتلة.
وشحن المنصور بلاد كتامة بالعساكر، وبث عماله فيها، ولم يدخلها عامل قبل ذلك، فجبوا أموالها، وضيقوا على أهلها.
ورجع المنصور إلى مدينة أشير، فأتاه سعيد بن خزرون الزناتي، وكان أبوه قد تغلب على سجلماسة سنة خمس وستين وثلاثمائة، وصار في طاعة المنصور، واختص به، وعلت منزلته عنده، فقال له المنصور يوماً: يا سعيد هل تعرف أحداً أكرم مني ؟ وكان قد وصله بمال كثير، فقال: نعم ! أنا أكرم منك. فقال المنصور: وكيف ذلك ؟ قال: لأنك جدت علي بالمال، وأنا جدت عليك بنفسي. فاستعمله المنصور على طبنة، وزوج ابنه ببعض بنات سعيد. فلامه على ذلك بعض أهله، فقال: كان أبي وجدي يستتبعانهم بالسيف، وأما أنا فمن رماني برمح رميته بكيس، حتى تكون مودتهم طبعاً واختياراً.
ورجع سعيد إلى أهله، وبقي إلى سنة إحدى وثمانين، ثم عاد إلى المنصور زائراً، فاعتل سعيد أياماً، وتوفي أول رجب. ثم قدم فلفل بن سعيد على المنصور، فأحسن إليه، وحمل إليه مالاً كثيراً، فرده إلى طبنة ولاية أبيه.
ذكر خلاف عم المنصور عليهوفي هذه السنة أيضاً خالف أبو البهار عم المنصور بن يوسف بلكين، صاحب إفريقية، عليه لشيء جرى عليه من المنصور لم يحمله له لعزة نفسه، فسار المنصور إليه بتاهرت، ففارقها عمه إلى الغرب بمن معه من أهله وأصحابه، ودخل عسكر المنصور تاهرت فانتهبوها، ثم طلب أهلها الأمان فأمنهم، ثم سار في طلب عمه حتى جاوز تاهرت سبع عشرة مرحلة، ولقي العسكر شدة.
وقصد عمه زيري بن عطية، صاحب فاس، فأكرمه، وأعلى محله، وبقي جنده يغيرون على نواحي المنصور.
وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قصدوا النواحي المجاورة لفاس، فأوقعوا بأصحاب المنصور بها واستولوا عليها. ثم ندم أبو البهار، فسار إلى المنصور معتذراً مما جرى منه، فقبله المنصور، وأحسن إليه وأكرمه، وحمل إليه كل ما يحتاج إليه من مالٍ وغيره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض بهاء الدولة على أبي الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي، وكان قد عظم شأنه مع شرف الدولة، واتسع جاهه، وكثرت أمواله، فلما ولي بهاء الدولة سعى به أبو الحسن المعلم إليه، وأطمعه في أمواله وملكه، وعظم ذلك عنده وقبض عليه.
وفيها أسقط بهاء الدولة ما كان يؤخذ من المراعي من سائر السواد.
وفيها ولد الأمير أبو طالب رستم بن فخر الدولة.
وفيها خرج ابن الجراح الطائي على الحجاج بين سميراء وفيد ونازلهم، فصالحوه على ثلاثمائة ألف درهم، وشيء من الثياب، فأخذها وانصرف.
وفيها بني جامع القطيعة ببغداد.
وفيها توفي محمد بن أحمد بن العباس بن أحمد بن جلاد أبو العباس السلمي النقاش، كان من متكلمي الأشعرية، وعنه أخذ أبو علي بن شاذان الكلام، وكان ثقةً في الحديث.
ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة

ذكر قتل باذ
في هذه السنة قتل باذ الكردي، صاحب ديار بكر.
وكان سبب قتله أن أبا طاهر والحسين ابني حمدان لما ملكا الموصل طمع فيها باذ، وجمع الأكراد فأكثر، وممن أطاعه الأكراد البشنوية أصحاب قلعة فنك، وكانوا كثيراً، ففي ذلك يقول الحسين البشنوي الشاعر لبني مروان يعتد عليهم بنجدتهم خالهم باذاً من قصيدة:
البشنويّة أنصارٌ لدولتكم، ... وليس في ذا خفاً في العجم والعرب
أنصار باذٍ بأرجيشٍ وشيعته، ... بظاهر الموصل الحدباء في العطب
بباجلايا جلونا عنه غمته ... ونحن في الروع جلاؤون للكرب

وكاتب أهل الموصل فاستمالهم، فأجابه بعضهم فسار إليهم، ونزل بالجانب الشرقي، فضعفا عنه، وراسلا أبا الذواد محمد بن المسيب، أمير بني عقيل، واستنصراه، فطلب منهما جزيرة ابن عمر، ونصيبين، وبلداً، وغير ذلك، فأجاباه إلى ما طلب، واتفقوا، وسار إليه أبو عبدالله بن حمدان وأقام أبو طاهر بالموصل يحارب باذاً.
فلما اجتمع أبو عبدالله وأبو الذواد سارا إلى بلد، وعبرا دجلة، وصارا مع باذ على أرض واحدة وهو لا يعلم، فأتاه الخبر بعبورهما وقد قارباه، فأراد الانتقال إلى الجبل لئلا يأتيه هؤلاء من خلفه وأبو طاهر من أمامه، فاختلط أصحابه، وأدركه الحمدانية، فناوشوهم القتال، وأراد باذ الانتقال من فرس إلى آخر، فسقط واندقت ترقوته، فأتاه ابن أخته أبو علي ابن مروان، وأراده على الركوب فلم يقدر، فتركوه وانصرفوا واحتموا بالجبل.
ووقع باذ بين القتلى فعرفه بعض العرب فقتله وحمل رأسه إلى بني حمدان وأخذ جائزةً سنيةً، وصلبت جثته على دار الإمارة، فثار العامة وقالوا: رجل غازٍ، ولا يحل فعل هذا به؛ وظهر منهم محبة كثيرة له، وأنزلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه.
ذكر ابتداء دولة بني مروانلما قتل باذ سار ابن أخته أبو علي بن مروان في طائفة من الجيش إلى حصن كيفا، وهو على دجلة، وهو من أحصن المعاقل، وكان به امرأة باذ وأهله، فلما بلغ الحصن قال لزوجة خاله: قد أنفذني خالي إليك في مهم؛ فظنته حقاً، فلما صعد إليها أعلمها بهلاكه، وأطمعها في التزوج بها، فوافقته على ملك الحصن وغيره، ونزل وقصد حصناً حصناً، حتى ملك ما كان لخاله، وسار إلى ميافارقين؛ وسار إليه أبو طاهر وأبو عبدالله ابنا حمدان طمعاً فيه، ومعهما رأس باذ، فوجدا أبا علي قد أحكم أمره، فتصافوا واقتتلوا، وظفر أبو علي وأسر أبا عبدالله بن حمدان، فأكرمه وأحسن إليه، ثم أطلقه فسار إلى أخيه أبي طاهر، وهو بآمد يحصرها، فأشار عليه بمصالحة ابن مروان، فلم يفعل، واضطر أبو عبدالله إلى موافقته، وسارا إلى ابن مروان فواقعاه، فهزمها، وأسر أبا عبدالله أيضاً فأساء إليه وضيق عليه، إلى أن كاتبه صاحب مصر وشفع فيه فأطلقه، ومضى إلى مصر وتقلد منها ولاية حلب، وأقام بتلك الديار إلى أن توفي.
وأما أبو طاهر فإنه لما وصل إلى نصيبين قصده أبو الذواد فأسره وعلياً ابنه والمزعفر أمير بني نمير، وقتلهم صبراً.
وأقام ابن مروان بديار بكر وضبطها، وأحسن إلى أهلها، وألان جانبه لهم، فطمع فيه أهل ميافارقين، فاستطالوا على أصحابه، فأمسك عنهم إلى يوم العيد، وقد خرجوا إلى المصلى، فلما تكاملوا في الصحراء وافى إلى البلد، وأخذ أبا الصقر شيخ البلد فألقاه من على السور، وقبض على من كان معه، وأخذ الأكراد ثياب الناس خارج البلد، وأغلق أبواب البلد، وأمر أهله أن ينصرفوا حيث شاءوا، ولم يمكنهم من الدخول فذهبوا كل مذهب.
وكان قد تزوج ست الناس بنت سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، فأتته من حلب، فعزم على زفافها بآمد، فخاف شيخ البلد، واسمه عبد البر، أن يفعل بهم مثل فعله بأهل ميافارقين، فأحضر ثقاته وحلفهم على كتمان سره، وقال لهم: قد صح عزم الأمير على أن يفعل بكم مثل فعله بأهل ميافارقين، وهو يدخل من باب الماء ويخرج من باب الجهاد، فقفوا له في الدركاه، وانثروا عليه هذه الدراهم، ثم اعتمدوا بها وجهه، فإنه سيغطيه بكمه، فاضربوه بالسكاكين في مقتله؛ ففعلوا.
وجرت الحال كما وصف، وتولى قتله إنسان يقال له ابن دمنة كان فيه إقدام وجرأة، فاختبط الناس وماجوا، فرمى برأسه إليهم فأسرعوا السير إلى ميافارقين.
وحدث جماعة من الأكراد نفوسهم بملك البلد، فاستراب بهم مستحفظ ميافارقين لإسراعهم، وقال: إن كان الأمير حياً فادخلوا معه، وإن كان قتل فأخوه مستحق لموضعه فما كان بأسرع من أن وصل ممهد الدولة أبو منصور بن مروان أخو أبي علي إلى ميافارقين، ففتح له باب البلد فدخله وملكه، ولم يكن له فيه إلا السكة والخطبة لما نذكره.
وأما عبد البر فاستولى على آمد، وزوج ابن دمنة، الذي قتل أبا علي ابنته فعمل له ابن دمنة دعوة وقتله، وملك آمداً، وعمر البلد، وبنى لنفسه قصراً عند السور، وأصلح أمره مع ممهد الدولة، وهادى ملك الروم، وصاحب مصر، وغيرهما من الملوك وانتشر ذكره.

وأما ممهد الدولة فإنه كان معه إنسان من أصحابه يسمى شروة، حاكماً في مملكته، وكان لشروة غلام قد ولاه الشرطة، وكان ممهد الدولة يبغضه، ويريد قتله، ويتركه احتراماً لصاحبه، ففطن الغلام لذلك، فأفسد ما بينهما، فعمل شروة طعاماً بقلعة الهتاخ، وهي إقطاعه، ودعا إليها ممهد الدولة، فلما حضر عنده قتله، وذلك سنة اثنتين وأربعمائة، وخرج من الدار إلى بني عم ممهد الدولة، فقبض عليهم وقيدهم، وأظهر أن ممهد الدولة أمره بذلك، ومضى إلى ميافارقين وبين يديه المشاعل، ففتحوا له ظناً منهم أنه ممهد الدولة، فملكها، وكتب إلى أصحاب القلاع يستدعيهم، وأنفذ إنساناً إلى أرزن ليحضر متوليها، ويعرف بخواجه أبي القاسم، فسار خواجه نحو ميافارقين، ولم يسلم القلعة إلى القاصد إليه.
فلما توسط الطريق سمع بقتل ممهد الدولة، فعاد إلى أرزن، وأرسل إلى أسعرد، فأحضر أبا نصر بن مروان أخا ممهد الدولة، وكان أخوه قد أبعده عنه، وكان يبغضه لمنام رآه، وهو أنه رأى كأن الشمس سقطت في حجره، فنازعه أبو نصر عليها وأخذها، فأبعده لهذا، وتركه بأسعرد مضيقاً عليه، فلما استدعاه خواجه قال له دبير: تفلح ؟ قال: نعم.
وكان شروة قد أنفذ إلى أبي نصر، فوجدوه قد سار إلى ارزن، فعلم حينئذ انتقاض أمره. وكان مروان والد ممهد الدولة قد أضر، وهو بأرزن، عند قبر ابنه أبي علي، هو وزوجته، فأحضر خواجه أبا نصر عندهما، وحلفه على القبول منه، والعدل، وأحضر القاضي والشهود على اليمين وملكه أرزن، ثم ملك سائر بلاد ديار بكر، فدامت أيامه، وأحسن السيرة، وكان مقصداً للعلماء من سائر الآفاق، وكثروا ببلاده.
وممن قصده أبو عبدالله الكازروني، وعنه انتشر مذهب الشافعي بديار بكر، وقصده الشعراء وأكثروا مدحه وأجزل جوائزهم، وبقي كذلك من سنة اثنتين وأربعمائة إلى سنة ثلاث وخمسين، فتوفي فيها، وكان عمره نيفاً وثمانين سنة، وكانت الثغور معه آمنة، وسيرته في رعيته أحسن سيرةٍ، فلما مات ملك بلاده ولده.
ذكر ملك آل المسيب الموصللما انهزم أبو طاهر بن حمدان من أبي علي بن مروان، كما ذكرناه، سار إلى نصيبين في قلة من أصحابه، وكانوا قد تفرقوا، فطمع فيه أبو الذواد محمد ابن المسيب، أمير بني عقيل، وكان صاحب نصيبين حينئذ، كما ذكرناه، فثار بأبي طاهر، فأسره وأسر ولده وعدة من قوادهم، وقتلهم، وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وكاتب بهاء الدولة يسأله أن ينفذ إليه من يقيم عنده من أصحابه يتولى الأمور، فسير إليه قائداً من قواده.
وكان هاء الدولة قد سار من العراق إلى الأهواز، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأقام نائب بهاء الدولة، وليس له من الأمر شيء ولا يحكم إلا فيما يريده أبو الذواد، وسيرد من ذكره وذكر عقبه ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.
ذكر مسير بهاء الدولة إلى الأهواز وما كان منه ومن صمصام الدولةفي هذه السنة سار بهاء الدولة عن بغداد إلى خوزستان عازماً على قصد فارس، واستخلف ببغداد أبا نصر خواشاذه، ووصل إلى البصرة ودخلها، وسار عنها إلى خوزستان، فأتاه نعي أخيه أبي طاهر، فجلس للعزاء به، ودخل أرجان فاستولى عليها وأخذ ما فيها من الأموال، فكان ألف ألف دينار وثمانية آلاف ألف درهم، ومن الثياب والجواهر ما لا يحصى، فلما علم الجند بذلك شغبوا شغباً متتابعاً فأطلقت تلك الأموال كلها لهم ولم يبق منها إلا القليل. ثم سارت مقدمته وعليها أبو العلاء بن الفضل إلى النوبندجان، وبها عساكر صمصام الدولة، فهزمهم، وبث أصحابه في نواحي فارس، فسير إليهم صمصام الدولة عسكراً وعليهم فولاذ زماندار، فواقعهم، فانهزم أبو العلاء وعاد مهزوماً.
وكان سبب الهزيمة أنه كان بين العسكرين وادٍ وعليه قنطرة، وكان أصحاب أبي العلاء يعبرون القنطرة ويغيرون على أثقال الديلم، عسكر صمصام الدولة، فوضع فولاذ كميناً عند القنطرة، فلما عبر أصحاب بهاء الدولة خرجوا عليهم فقتلوهم جميعهم، وراسل فولاذ أبا العلاء وخدعه، ثم سار إليه وكبسه، فانهزم من بين يديه وعاد إلى أرجان مهزوماً، وغلت الأسعار بها.

ولما بلغ الخبر إلى صمصام الدولة سار عن شيراز إلى فولاذ، وترددت الرسل في الصلح، فتم على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس وأرجان، ولبهاء الدولة خوزستان والعراق، وأن يكون لكل واحدٍ منهما إقطاع في بلد صاحبه، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز.
ولما سار بهاء الدولة عن بغداد ثار العيارون بجانبي بغداد، ووقعت الفتن بين السنة والشيعة، وكثر القتل بينهم، وزالت الطاعة، وأحرق عدة محال، ونهبت الأموال، وأخربت المساكن، ودام ذلك عدة شهور إلى أن عاد بهاء الدولة إلى بغداد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض بهاء الدولة على وزيره أبي منصور بن صالحان، واستوزر أبا نصر سابور بن أردشير قبل ميره إلى خوزستان، وكان المدبر لدولة بهاء الدولة أبا الحسين المعلم، وإليه الحكم.
وفيها توفي أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس، وزير العزيز، صاحب مصر، وكان كامل الأوصاف، متمكناً من صاحبه، فلما مرض عاده العزيز صاحب مصر، وقال: وددت أنك تباع فأبتاعك بملك، فهل من حاجة ترضى بها ؟ فبكى، وقبل يده، ووضعها على عينه، وقال: أما فيما يخصني فإنك أرعى لحقي من أن أوصيك بمخلفي، ولكن فيما يتعلق بدولتك سالم الحمدانية ما سالموك، واقنع منهم بالدعة، وإن ظفرت بالمفرج فلا تبق عليه.
فلما مات حزن العزيز عليه، وحضر جنازته، وصلى عليه، وألحده بيده في قصره، وأغلق الدواوين عدة أيام، واستوزر بعده أبا عبدالله الموصلي، ثم صرفه، وقلد عيسى بن نسطورس النصراني، فمال إلى النصارى وولاهم، واستناب بالشام يهودياً يعرف بمنشا، ففعل مع إليهود مثل ما فعل عيسى بالنصارى، وجرى على المسلمين تحامل عظيم.
وفيها، في ربيع الأول، قلد الشريف أبو أحمد والد الرضي نقابة العلويين والمظالم، وإمارة الحج، وحج الناس أبو عبدالله أحمد بن محمد بن عبدالله العلوي نيابةً عن النقيب أبي أحمد الموسوي.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن الفقيه الحنفي، ومولده سنة عشرين وثلاثمائة.
وفيها توفي عبدالله محمد بن عبد البر النمري بالأندلس، والد الإمام أبي عمر بن عبد البر.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة

ذكر القبض على الطائع لله
في هذه السنة قبض الطائع لله، قبضه بهاء الدولة، وهو الطائع لله أبو كر عبد الكريم بن الفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله ابن أبي أحمد الموفق بن المتوكل.
وكان سبب ذلك أن الأمير بهاء الدولة قلت عنده الأموال، فكثر شغب الجند، فقبض على وزيره سابور، فلم يغن عنه ذلك شيئاً.
وكان أبو الحسن بن المعلم قد غلب على بهاء الدولة، وحكم في مملكته، فحسن له القبض على الطائع، وأطمعه في ماله، وهون عليه ذلك وسهله، فأقدم عليه بهاء الدولة، وأرسل إلى الطائع وسأله الإذن في الحضور في خدمته ليجدد العهد به، فأذن له في ذلك، وجلس له كما جرت العادة، فدخل بهاء الدولة ومعه جمع كثير، فلما دخل قبل الأرض، وأجلس على كرسي، فدخل بعض الديلم كأنه يريد أن يقبل يد الخليفة فجذبه، فأنزله عن سريره، والخليفة يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون)؟! وهو يستغيث ولا يلتفت إليه، وأخذ ما في دار الخليفة من الذخائر فمشوا به في الحال، ونهب الناس بعضهم بعضاً، وكان من جملتهم الشريف الرضي فبادر بالخروج فسلم وقال أبياتاً من جملتها:
من بعد ما كان ربّ الملك مبتسماً ... إليّ أدنوه في النجوى ويدنيني
أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه، ... لقد تقارب بين العزّ والهون
ومنظرٌ كان بالسّراء يضحكني؛ ... يا قرب ما عاد بالضّراء يبكيني
هيهات أغترّ بالسّلطان ثانيةً، ... قد ضلّ ولاّج أبواب السلاطين
ولما حمل الطائع إلى دار بهاء الدولة أشهد عليه بالخلع، وكان مدة خلافته سبع عشرة سنة وثمانية شهور وستة أيام، وحمل إلى القادر بالله لما ولي الخلافة، فبقي عنده إلى أن توفي سنة ثلاث وتسعين، ليلة الفطر، وصلى عليه القادر بالله، وكبر عليه خمساً.
وكان مولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان أبيض، مربوعاً، حسن الجسم؛ وكان أنفه كبيراً جداً، وكان شديد القوة، كثير الإقدام، اسم أمه عتب، وعاشت إلى أن أدركت أيامه، ولم يكن له من الحكم في ولايته ما يعرف به حال يستدل به على سيرته.

ذكر خلافة القادر بالله
لما قبض على الطائع لله ذكر بهاء الدولة من يصلح للخلافة، فاتفقوا على القادر بالله وهو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بن المعتضد، وأمه أم ولد اسمها دمنة، وقيل تمنى، وكان بالبطيحة، كما ذكرناه، فأرسل إليه بهاء الدولة خواص أصحابه ليحضروه إلى بغداد ليتولى الخلافة، فانحدروا إليه، وشغب الديلم ببغداد، ومنعوا من الخطبة، فقيل على المنبر: اللهم أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله، ولم يذكروا اسمه، وأرضاهم بهاء الدولة.
ولما وصل الرسل إلى القادر بالله كان تلك الساعة يحكي مناماً رآه تلك الليلة، وهو ما حكاه هبة الله بن عيسى كاتب مهذب الدولة قال: كنت أحضر عند القادر بالله كل أسبوع مرتين، فكان يكرمني، فدخلت عليه يوماً فوجدته قد تأهب تأهباً لم تجر به عادته، ولم أر منه ما ألفته من إكرامه، واختلفت بي الظنون، فسألته عن سبب ذلك، فإن كان لزلة مني اعتذرت عن نفسي. فقال: بل رأيت البارحة في منامي كأن نهركم هذا، نهر الصليق، قد اتسع، فصار مثل دجلة، دفعات، فسرت على حافته متعجباً منه، ورأيت قنطرة عظيمة، فقلت: من قد حدث نفسه بعمل هذه القنطرة على هذا البحر العظيم ؟ ثم صعدتها، وهي محكمة، فبينا أنا عليها أتعجب منها إذ رأيت شخصاً قد تأملني من ذلك الجانب، فقال: أتريد أن تعبر ؟ قلت نعم فمد يده حتى وصلت إلي، فأخذني وعبرني، فهالني وتعاظمني فعله، قلت: من أنت ؟ قال: علي بن أبي طالب، وهذا الأمر صائر إليك، ويطول عمرك فيه، فأحسن إلى ولدي وشيعتي.
فما انتهى القادر إلى هذا القول حتى سمعنا صياح الملاحين وغيرهم، وسألنا عن ذلك، وإذا هم الواردون إليه لإصعاده ليتولى الخلافة، فخاطبته بإمرة المؤمنين وبايعته، وقام مهذب الدولة بخدمته أحسن قيام، وحمل إليه من المال وغيره ما يحمله كبار الملوك للخلفاء وشيعه. فسار القادر بالله إلى بغداد، فلما دخل جبل انحدر بهاء الدولة وأعيان الناس لاستقباله، وساروا في خدمته، فدخل دار الخلافة ثاني عشر رمضان، وبايعه بهاء الدولة والناس، وخطب له ثالث عشر رمضان، وجدد أمر الخلافة، وعظم ناموسها، وسيرد من أخباره، إن شاء الله تعالى، وما يعلم به ذلك، وحمل إليه بعض ما نهب من دار الخلافة، وكانت مدة مقامه في البطيحة سنتين وأحد عشر شهراً ولم يخطب له في جميع خراسان، كانت الخطبة فيها للطائع لله.
ذكر ملك خلف بن أحمد كرمانفي هذه السنة أنفذ خلف بن أحمد، صاحب سجستان، وهو ابن بانوا بنت عمرو بن الليث الصفار، ابنه عمراً إلى كرمان فملكها.
وكان سبب ذلك أنه كان لما قوي أمره، وجمع الأموال الكثيرة، حدث نفسه بملك كرمان، ولم يتهيأ له ذلك لهدنة كانت بينه وبين عضد الدولة. فلما مات عضد الدولة، وملك شرف الدولة، واستقر أمره وانتظم، وأمن ملكه، لم يتحرك بشيء من ذلك. فلما توفي شرف الدولة، واضطرب ملوك بني بويه، ووقع الخلف بين صمصام الدولة وبهاء الدولة، قوي طمعه، وانتهز الفرصة، وجهز ولده عمراً، وسيره في عسكر كثير إلى كرمان، وبها قائد يقال له تمرتاش كان قد استعمله شرف الدولة، فلم يشعر تمرتاش إلا وعمرو قد قاربه، فلم يكن له ولمن معه حيلة إلا الدخول إلى بردسير، وحملوا ما أمكنهم حمله، وغنم عمروا الباقي، وملك كرمان ما عدا بردسير، وصادر الناس وجبى الأموال.
فلما وصل الخبر إلى صمصام الدولة، وهو صاحب فارس، جهز العساكر وسيرها إلى تمرتاش، وقدم عليهم قائداً يقال له أبو جعفر، وأمره بالقبض على تمرتاش عند الاجتماع به، لأنه اتهمه بالميل إلى أخيه بهاء الدولة. فسار أبو جعفر، فلما اجتمع بتمرتاش أنزله عنده بعلة الاجتماع على ما يفعلانه، ! وقبض عليه وحمله إلى شيراز، فسار أبو جعفر بالعسكر جميعه يقصد عمرو ابن خلف ليحاربه، فالتقوا بدارزين واقتتلوا، فانهزم أبو جعفر والديلم، وعادوا على طريق جيرفت.

وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة وأصحابه، فانزعجوا لذلك، ثم اجمعوا أمرهم على إنفاذ العباس بن أحمد في عسكر أكثر من الأول، فسيروه في عدد كثير وعدة ظاهرة، فسار حتى بلغ عمراً، فالتقوا بقرب السيرجان، واقتتلوا فكانت الهزيمة على عمرو بن خلف وأسر جماعة من قواده وأصحابه، وكان هذا في المحرم سنة اثنتين وثمانين، وعاد عمرو إلى أبيه بسجستان مهزوماً، فلما دخل عليه لامه ووبخه، ثم حبسه أياماً، ثم قتله بين يديه وتولى غسله والصلاة عليه، ودفنه في القلعة. فسبحان الله ما كان أقسى قلب هذا الرجل مع علمه ومعرفته ! ثم إن صمصام الدولة عزل العباس عن كرمان واستعمل عليها أستاذ هرمز، فلما وصل إلى كرمان خافه خلف بن أحمد، فكاتبه في تجديد الصلح، واعتذر عن فعله، فاستقر الصلح، وأنفذ خلف قاضياً كان بسجستان يعرف بأبي يوسف كان له قبول عند العامة والخاصة، ووضع عليه إنساناً يكون معه وأمره أن يسقيه سماً إذا صار عند أستاذ هرمز ويعود مسرعاً ويشيع بأن أستاذ هرمز قتله.
فسار أبو يوسف إلى كرمان، فصنع له أستاذ هرمز طعاماً، فحضره وأكل منه، فلما عاد إلى منزله سقاه ذلك الرجل سماً فمات منه، وركب جمازة وسار مجداً إلى خلف، فجمع له خلف وجوه الناس ليسمعوا له، فذكر أن أستاذ هرمز قتل القاضي أبا يوسف، وبكى خلف وأظهر الجزع عليه، ونادى في الناس بغزو كرمان والأخذ بثأر أبي يوسف، فاجتمع الناس واحتشدوا، فسيرهم مع ولده طاهر، فوصلوا إلى نرماسير، وبها عسكر الديلم، فهزموهم وأخذوا البلد منهم.
ولحق الديلم بجيرفت، فاجتمعوا بها، وجعلوا ببردسير من يحميها، وهي أصل بلاد كرمان ومصرها، فقصدها طاهر وحصرها ثلاثة أشهر، فضاق بأهلها، وكتبوا إلى أستاذ هرمز يعلمونه حالهم، وأنه إن لم يدركهم سلموا البلد. فركب الخطر وسار مجداً في مضايق وجبال وعرة، حتى أتى بردسير، فلما وصل إليها رحل طاهر ومن معه عنها، وعادوا إلى سجستان، واستقرت كرمان للديلم، وكان ذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
ذكر عصيان بكجور على سعد الدولة بن حمدان وقتلهلما وصل بكجور إلى الرقة منهزماً من عساكر مصر بدمشق وأقام، على ما ذكرناه، واستولى على الرحلة وما يجاور الرقة، راسل الملك بهاء الدولة ابن بويه بالانضمام إليه، وكاتب أيضاً باذاً الكردي المتغلب على ديار بكر والموصل بالمسير إليه، وراسل سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، صاحب حلب، بأن يعود إلى طاعته على قاعدته الأولى ويقطعه منه مدينة حمص كما كانت له، فليس فيهم من أجابه إلى شيء مما طلب، فبقي في الرقة يراسل جماعة رفقاء من مماليك سعد الدولة، ويستميلهم، فأجابوه إلى الموافقة على قصد بلد سعد الدولة، وأخبروه أنه مشغول بلذاته وشهواته عن تدبير الملك؛ فأرسل حينئذ بكجور إلى العزيز بالله، صاحب مصر، يطمعه في حلب، ويقول له إنها دهليز العراق، ومتى أخذت كان ما بعدها أسهل منها، ويطلب الإنجاد بالعساكر. فأجابه العزيز إلى ذلك وأرسل إلى نزال، والي طرابلس، وإلى ولاة غيرها من البلاد الشامية يأمرهم بتجهيز العساكر مع نزال إلى بكجور، والتصرف على ما يأمرهم به من قتال سعد الدولة وقصد بلاده.
وكتب عيسى بن نسطورس النصراني، وزير العزيز، إلى نزال يأمره بمدافعة بكجور، وإطماعه في المسير إليه، فإذا تورط في قصد سعد الدولة تخلى عنه.
وكان السبب في فعل عيسى هذا ببكجور أنه كان بينه وبين بكجور عداوة مستحكمة، وولي الوزارة بعد وفاة ابن كلس، فكتب إلى نزال ما ذكرناه. فلما وصل أمر العزيز إلى نزال بإنجاد بكجور كتب إليه يعرفه ما أمر به من نجدته بنفسه وبالعساكر معه، وقال له بكجور: مسيرك عن الرقة يوم كذا، ومسيري أنا عن طرابلس يوم كذا، ويكون اجتماعنا على حلب يوم كذا؛ وتابع رسله إليه بذلك، فسار مغتراً بقوله إلى بالس، فامتنعت عليه، فحصرها خمسة أيام فلم يظفر بها فسار عنها.
وبلغ الخبر بمسير بكجور إلى سعد الدولة، فسار عن حلب ومعه لؤلؤ الكبير، ومولى أبيه سيف الدولة، وكتب إلى بكجور يستميله ويدعوه إلى الموادعة، ورعاية حق الرق والعبودية، ويبذل له أن يقطعه من الرقة إلى حمص، فلم يقبل منه ذلك.

وكان سعد الدولة قد كاتب الوالي بأنطاكية لملك الروم يستنجده، فسير إليه جيشاً كثيراً من الروم، وكاتب أيضاً من مع بكجور من العرب يرغبهم في الإقطاع، والعطاء الكثير، والعفو عن مساعدتهم بكجور، فمالوا إليه، ووعدوه الهزيمة بين يديه، فلما التقى العسكران اقتتلوا، واشتد القتال، فلما اختلط الناس في الحرب وشغل بعضهم ببعض عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه، واستأمنوا إلى سعد الدولة، فلما رأى بكجور ذلك اختار من شجعان أصحابه أربعمائة رجل، وعزم على أ، يقصد موقف سعد الدولة ويلقي نفسه عليه، فإما له وإما عليه، فهرب واحد ممن حضر الحال إلى لؤلؤ الكبير وعرفه ذلك، فطلب لؤلؤ من سعد الدولة أن يتحرك من موقفه ويقف مكانه، فأجابه إلى ذلك بعد امتناع. فحمل بكجور ومن معه، فوصلوا إلى موقف لؤلؤ بعد قتال شديد عج الناس منه واستعظموه كلهم، فلما رأى لؤلؤاً ألقى نفسه عليه وهو يظنه سعد الدولة، فضربه على رأسه، فسقط إلى الأرض، فظهر حينئذ سعد الدولة وعاد إلى موقفه، ففرح به أصحابه وقويت نفوسهم، وأحاطوا ببكجور وصدقوه القتال، فمضى منهزماً هو وعامة أصحابه، وتفرقوا، وبقي منهم معه سبعة أنفس، وكثر القتل والأسر في الباقين.
ولما طال الشوط ببكجور ألقى سلاحه وسار، فوقف فرسه، فنزل عنه وسار راجلاً، فلحقه نفر من العرب، فأخذوا ما عليه، وقصد بعض العرب فنزل عليه وعرفه نفسه، وضمن له حمل بعير ذهباً ليوصله إلى الرقة، فلم يصدقه لبخله المشهور عنه، فتركه في بيته وتوجه إلى سعد الدولة فعرفه أن بكجور عنده، فحكمه سعد الدولة في مطالبه، فطلب مائتي فدان ملكاً، ومائة ألف درهم، ومائة جمل تحمل له حنطة، وخمسين قطعة ثياباً، فأعطاه ذلك أجمع وزيادة وسير معه سرية، فتسلموا بكجور وأحضروه عند سعد الدولة، فلما رآه أمر بقتله، فقتل، ولقي عاقبة بغيه وكفره. إحسان مولاه.
فلما قتله سعد الدولة سار إلى الرقة فنازلها، وبها سلامة الرشيقي، ومعه أولاد بكجور وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزير بكجور، فسلموا البلد إليه بأمان وعهود أكدوها وأخذوها عليه لأولاد بكجور وأموالهم، وللوزير المغربي، ولسلامة الرشيقي، ولأموالهم، فلما خرج أولاد بكجور بأموالهم رأى سعد الدولة ما معهم، فاستعظمه واستكثره.
وكان عند القاضي ابن أبي الحصين، فقال سعد الدولة: ما كنت أظن أن بكجور يملك هذا جميعه؛ فقال له القاضي: لم لا تأخذه ؟ فهو لكلأنه مملوك لا يملك شيئاً، ولا حرج عليك ولا حنث. فلما سمع هذا أخذ المال جميعه وقبض عليهم، وهرب الوزير المغربي إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، وكتب أولاد بكجور إلى العزيز يسألونه الشفاعة فيهم، فأرسل إليه يشفع فيهم، ويأمره أن يسيرهم إلى مصر ويتهدده إن لم يفعل. فأهان الرسول وقال له: قل لصاحبك أنا سائر إليك. وسير مقدمته إلى حمص ليلحقهم.
ذكر وفاة سعد الدولة بن حمدانفلما برز سعد الدولة ليسير إلى دمشق لحقه قولنج، فعاد إلى حلب ليتداوى، فزال ما به وعوفي، وعزم على العود إلى معسكره، وحضر عند إحدى سراريه فواقعها فسقط عنها وقد فلج وبطل نصفه، فاستدعى الطبيب، فقال له: أعطني يدك لآخذ محبسك؛ فأعطاه اليسرى، فقال: أعطني اليمين؛ فقال: لا تركت لي اليمين يميناً، يعني نكثه بأولاد بكجور هو الذي أهلكه، وقد ذكر ذلك، وندم عليه حيث لم تنفعه الندامة، وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام ومات بعد أن عهد إلى ولده أبي الفضائل، وصى إلى لؤلؤ به وبسائر أهله.
فلما توفي قام أبو الفضائل، وأخذ له لؤلؤ العهد على الأجناد، وتراجعت العساكر إلى حلب.
وكان الوزير أبو الحسن المغربي قد سار من مشهد علي، عليه السلام، إلى العزيز بمصر، وأطمعه في حلب، فسير جيشاً وعليهم منجوتكين أحد أمرائه إلى حلب، فسار إليها في جيش كثيف فحصرها، وبها أبو الفضائل ولؤلؤ، فكتبا إلى بسيل ملك الروم يستنجدانه، وهو يقاتل البلغار، فأرسل بسيل إلى نائبه بأنطاكية يأمره بإنجاد أبي الفضائل، فسار في خمسين ألفاً، حتى نزل على الجسر الجديد بالعاصي، فلما سمع منجوتكين الخبر سار إلى الروم ليلقاهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل، وعبر إليهم العاصي، وأوقعوا بالروم فهزموهم وولوا الأدبار إلى إنطاكية، وكثر القتل فيهم.

وسار منجوتكين إلى إنطاكية، فنهب بلدها وقراها وأحرقها، وأنفذ أبو الفضائل إلى بلد حلب، فنقل ما فيه من الغلال، وأحرق الباقي إضراراً بعساكر مصر، وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها، فأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي وغيرهم وبذل لهم مالاً ليردوا منجوتكين عنهم، هذه السنة، بعلة تعذر الأقوات، ففعلوا ذلك، وكان منجوتكين قد ضجر من الحرب، فأجابهم إليه وسار إلى دمشق.
ولما بلغ الخبر إلى العزيز غضب وكتب بعود العسكر إلى حلب، وإبعاد المغربي، وأنفذ الأقوات من مصر في البحر إلى طرابلس، ومنها إلى العسكر، فنازل العسكر حلب، وأقاموا عليها ثلاثة عشر شهراً، فقلت الأقوات بحلب.
وعاد إلى مراسلة ملك الروم والاعتضاد به، وقال له: متى أخذت حلب أخذت إنطاكية وعظم عليك الخطب. وكان قد توسط بلاد البلغار، فعاد وجد في السير، وكان الزمان ربيعاً، وعسكر مصر قد أرسل إلى منجوتكين يعرفه الحال، وأتته جواسيسه بمثل ذلك، فأخرب ما كان بناه من سوق وحمام وغير ذلك، وسار كالمنهزم عن حلب، ووصل ملك الروم فنزل على باب حلب، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ، وعاد إلى حلب، ورحل بسيل إلى الشام، ففتح حمص وشيزر ونهبهما، وسار إلى طرابلس فنازلها، فامتنعت عليه، وأقام عليها نيفاً وأربعين يوماً، فلما أيس منها عاد إلى بلاد الروم.
ولما بلغ الخبر إلى العزيز عظم عليه، ونادى في الناس بالنفير لغزو الروم، وبرز من القاهرة، وحدث به أمراض منعته، وأدركه الموت، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل المنصور، صاحب إفريقية، نائبه في البلاد يوسف، واستعمل بعده على البلاد أبا عبدالله محمد بن أبي العرب.
وفيها توفي القائد جوهر، بعد عزله، وجوهر هذا هو الذي فتح مصر للمعز العلوي.
وفيها قبض بهاء الدولة على وزيره أبي نصر سابور بالأهواز، واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف.
وفيها أيضاً قبض بهاء الدولة على أبي نصر خواشاذه وأبي عبدالله بن طاهر، بعد عوده من خوزستان، وكان سب قبضهما أن أبا نصر كان شحيحاً، فلم يواصل ابن المعلم بخدمه وهداياه، فشرع في القبض عليه.
وفيها هرب فولاذ زماندر من عند صمصام الدولة إلى الري، وكان سبب هربه أنه تحكم على صمصام الدولة تحكماً عظيماً أنف منه، فأراد القبض عليه، فعلم به فهرب منه.
وفيها كتب أهل الرحبة إلى بهاء الدولة يطلبون إنفاذ من يسلمون إليه الرحبة، فأنفذ خمارتكين الحفصي إلى الرحبة فتسلمها، وسار منها إلى الرقة، وبها بدر غلام سعد الدولة بن حمدان، فجرت بينهما وقعات، فلم يظفر بها، وبلغه اختلاف ببغداد، فعاد، فخرج عليه بعض العرب، فأخذوه أسيراً، ثم افتدى منهم بمال كثير.
وفيها حلف بهاء الدولة للقادر بالله على الطاعة، والقيام بشروط البيعة، وحلف له القادر بالوفاء والخلوص، وأشهد عليه أنه قلده ما وراء بابه.
وفيها كثرت الفتن بين العامة ببغداد، وزالت هيبة السلطنة، وتكرر الحريق في المحال، واستمر الفساد.
وفيها توفي قاضي القضاة عبيدالله بن أحمد بن معروف أبو محمد، ومولده سنة ست وثلاثمائة، وكان فاضلاً، عفيفاً، نزيهاً، وكان معتزلياً؛ ومحمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان أبو بكر المعروف بابن المقري الأصبهاني، وله ست وتسعون سنة، وهو راوي مسند أبي يعلى الموصلي عنه.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة

ذكر عود الديلم إلى الموصل
كان بهاء الدولة قد أنفذا أبا جعفر الحجاج بن هرمز في عسكر كثير إلى الموصل، فملكها آخر سنة إحدى وثمانين، فاجتمعت عقيل، وأميرهم أبو الذواد محمد بن المسيب، على حربه، فجرى بينهم عدة وقائع ظهر من أبي جعفر فيها بأس شديد، حتى إنه كان يضع له كرسياً بين الصفين ويجلس عليه، فهابه العرب، واستمد من بهاء الدولة عسكراً، فأمده بالوزير أبي القاسم علي بن أحمد، وكان مسيره أول هذه السنة، فلما وصل إلى العسكر كتب بهاء الدولة إلى أبي جعفر بالقبض عليه، فعلم أبو جعفر إنه إن قبض عليه اختلف العسكر، وظفر به العرب، فتراجع في أمره.

وكان سبب ذلك أن ابن المعلم كان عدواً له، فسعى به عند بهاء الدولة، فأمر بقبضه، وكان بهاء الدولة أذناً يسمع ما يقال له ويفعل به، وعلم الوزير الخبر، فشرع في صلح أبي الذواد وأخذ رهائنه والعود إلى بغداد، فأشار عليه أصحابه باللحاق بأبي الذواد، فلم يفعل أنفةً، وحسن عهدٍ، فلما وصل إلى بغداد رأى ابن المعلم قد قبض وقتل وكفي شره.
ولما أتاه خبر قبض ابن المعلم وقتله ظهر عليه الانكسار، فقال له خواصه: ما هذا الهم وقد كفيت شر عدوك ؟ فقال: إن ملكاً قرب رجلاً كما قرب بهاء الدولة ابن المعلم، ثم فعل به هذا، لحقيق بأن تخاف ملابسته.
وكان بهاء الدولة قد أرسل الشريف أبا أحمد الموسوي رسولاً إلى أبي الذواد، فأسره العرب، ثم أطلقوه فورد إلى الموصل وانحدر إلى بغداد.
ذكر تسليم الطائع إلى القادر

وما فعله معه
في هذه السنة، في رجب، سلم بهاء الدولة الطائع لله إلى القادر بالله، فأنزله حجرةً، من خاص حجره، ووكل به من ثقات خدمه من يقوم بخدمته، وأحسن ضيافته، وكان يطلب الزيادة في الخدمة كما كان أيام الخلافة، فيؤمر له بذلك.
حكي عنه أن القادر بالله أرسل إليه طيباً فقال: من هذا يتطيب أبو العباس ؟ يعني القادر، فقالوا: نعم ! فقال: قولوا له عني: في الموضع الفلاني كندوج أستعمله، فليرسل إلي بعضه ويأخذ الباقي لنفسه. ففعل ذلك. وأرسل إليه يوماً القادر بالله عدسية، فقال: ما هذا ؟ فقالوا: عدس وسلق، فقال: أوقد أكل أبو العباس من هذا ؟ نعم؛ قال: له عني: لما أردت أن تأكل عدسية لم اختفيت، فما كانت العدسية تعوزك، ولم تقلدت هذا الأمر ؟ فأمر حينئذ القادر أن يفرد له جارية من طباخاته تطبخ له ما يلتمسه كل يوم؛ فأقام على هذا إلى أن توفي.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض بهاء الدولة على أبي الحسن بن المعلم، وكان قد استولى على الأمور كلها، وخدمه الناس كلهم، حتى الوزراء، فأساء السيرة مع الناس، فشغب الجند في هذا الوقت، وشكوا منه، وطلبوا منه تسليمه إليهم، فراجعهم بهاء الدولة، ووعدهم كف يده عنهم، فلم يقبلوا منه، فقبض عليه وعلى جميع أصحابه، فظن أن الجند يرجعون، فلم يرجعوا، فسلمه إليهم، فسقوه السم مرتين، فلم يعمل فيه شيئاً، فخنقوه ودفنوه.
وفيها، في شوال، تجددت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم، واشتد الحال، فركب أبو الفتح محمد بن الحسن الحاجب، فقتل وصلب، فسكن البلد.
وفيها غلت الأسعار ببغداد، فبيع رطل الخبز بأربعين درهماً.
وفيها قبض بهاء الدولة على وزيره أبي القاسم علي بن أحمد المذكور، وكان سبب قبضه أن بهاء الدولة اتهمه بمكاتبة الجند في أمر ابن المعلم، واستوزر أبا نصر بن سابور، وأبا منصور بن صالحان، جمع بينهما في الوزارة.
وفيها قبض صمصام الدولة على وزيره أبي القاسم العلاء بن الحسن بشيراز، وكان غالباً على أمره، وبقي محبوساً إلى سنة ثلاث وثمانين، فأخرجه صمصام الدولة واستوزره، وكان يدبر الأمر مدة حبسه أبو القاسم المدلجي.
وفيها نزل ملك الروم بأرمينية، وحصر خلاط، وملازكرد، وأرجيش، فضعفت نفوس الناس عنه، ثم هادنه أبو علي الحسن بن مروان مدة عشر سنين، وعاد ملك الروم.
وفيها، في شوال، ولد الأمير أبو الفضل بن القادر بالله.
وفيها سار بغراخان ايلك، ملك الترك، بعساكره إلى بخارى، فسير الأمير نوح بن منصور جيشاً كثيراً، ولقيهم ايلك وهزمهم، فعادوا إلى بخارى مفلولين، وهو في أثرهم، فخرج نوح بنفسه وسائر عسكره، ولقيه فاقتتلوا قتالاً شديداً وأجلت المعركة عن هزيمة ايلك، فعاد منهزماً إلى بلاساغون، وهي كرسي مملكته.
وفيها توفي أبو عمرو محمد بن العباس بن حسنويه الخزار، ومولده سنة خمس وتسعين ومائتين.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة
ذكر خروج أولاد بختيار
في هذه السنة ظهر أولاد بختيار من محبسهم، واستولوا على القلعة التي كانوا معتقلين بها.
وكان سبب حبسهم أن شرف الدولة أحسن إليهم، بعد والده، وأطلقهم، وأنزلهم بشيراز، وأقطعهم، فلما مات شرف الدولة حبسوا في قلعة ببلاد فارس، فاستمالوا مستحفظها ومن معه من الديلم، فأفرجوا عنهم، وأنفذوا إلى أهل تلك النواحي، وأكثرهم رجالة، فجمعوهم تحت القلعة.

وعرف صمصام الدولة الحال، فسير أبا علي بن أستاذ هرمز في عسكر، فلما قاربهم تفرق من معهم من الرجالة، وتحصن بنو بختيار، وكانوا ستة، ومن معهم من الديلم بالقلعة، وحصرهم أبو علي، وراسل أحد وجوه الديلم وأطمعه في الإحسان، فأصعدهم إلى القلعة سراً، فملكوها، وأخذوا أولاد بختيار أسراء، فأمر صمصام الدولة بقتل اثنين منهم وحبس الباقين، ففعل ذلك بهم.
ذكر ملك صمصام الدولة خوزستانفي هذه السنة ملك صمصام الدولة خوزستان.
وكان سبب نقض الصلح أن بهاء الدولة سير أبا العلاء عبدالله بن الفضل إلى الأهواز، وتقدم إليه بأن يكون مستعداً لقصد بلاد فارس، وأعلمه أنه يسير إليه العساكر متفرقين، فإذا اجتمعوا عنده سار بهم إلى بلاد فارس بغتةً، فلا يشعر صمصام الدولة إلا وهم معه في بلاده.
فسار أبو العلاء، ولم يتهيأ لبهاء الدولة إمداده بالعساكر، وظهر الخبر، فجهز صمصام الدولة عسكره وسيرهم إلى خوزستان، وكتب أبو العلاء إلى بهاء الدولة بالخبر وبطلب إمداده بالعساكر، فسير إليه عسكراً كثيراً، ووصلت عساكر فارس، فلقيهم أبو العلاء، فانهزم هو وأصحابه وأخذ أسيراً وحمل إلى صمصام الدولة، فألبس ثياباً مصبغة وطيف به، وسألت فيه والدة صمصام الدولة، فلم يقتله، واعتقله.
ولما سمع بهاء الدولة بذلك أزعجه وأقلقه، وكانت خزانته قد خلت من الأموال، فأرسل وزيره أبا نصر بن سابور إلى واسط ليحصل ما أمنه، وأعطاه رهوناً من الجواهر والأعلاق النفسية ليقترض عليها من مهذب الدولة، صاحب البطيحة، فلما وصل إلى واسط تقرب منها إلى مهذب الدولة، وترك ما معه من الرهون بحاله، وأرسل بهاء الدولة ورهنها واقترض عليها.
ذكر ملك الترك بخارىفي هذه السنة ملك مدينة بخارى شهاب الدولة هارون بن سليمان ايلك المعروف ببغراخان التركي، وكان له كاشغر وبلاساغون إلى حد الصين.
وكان سبب ذلك أن أبا الحسن بن سيمجور لما مات وولي ابنه أبو علي خراسان بعده، كاتب الأمير الرضي نوح بن منصور يطلب أن يقره على ما كان أبوه يتولاه، فأجيب إلى ذلك، وحملت إليه الخلع، وهو لا يشك أنها له، فلما بلغ الرسول طريق هراة عدل إليها، وبها فائق، فأوصل الخلع والعهد بخراسان إليه، فعلم أبو علي أنهم مكروا به، وأن هذا دليل سوء يريدونه به، فلبس فائق الخلع وسار عن هراة نحو أبي علي فبلغه الخبر، فسار جريدة في نخبة أصحابه، وطوى المنازل حتى سبق خبره، فأوقع بفائق فيما بين بوشنج وهراة، فهزم فائقاً وأصحابه، وقصدوا مرو الروذ.
وكتب أبو علي إلى الأمير نوح يجدد طلب ولاية خراسان، فأجابه إلى ذلك، وجمع له ولاية خراسان جميعها بعد أن كانت هراة لفائق، فعاد أبو علي إلى نيسابور ظافراً وجبى أموال خراسان، فكتب إليه نوح يستنزله عن بعضها ليصرفه في أرزاق جنده، فاعتذر إليه ولم يفعل، وخاف عاقبة المنع، فكتب إلى بغراخان المذكور يدعوه إلى أن يقصد بخارى ويملكها على السامانية، وأطمعه فيهم، واستقر الحال بينهما على أن يملك بغراخان ما وراء النهر كله، ويملك أبو علي خراسان، فطمع بغراخان في البلاد، وتجدد له إليها حركة.
وأما فائق فإنه أقام بمرو الروذ حتى انجبر كسره واجتمع إليه أصحابه وسار نحو بخارى من غير إذن، فارتاب الأمير نوح به، فسير إليه الجيوش وأمرهم بمنعه، فلما لقوه قاتلوه، فانهزم فائق وأصحابه، وعاد على عقبيه، وقصد ترمذ. فكتب الأمير نوح إلى صاحب الجوزجان من قبله، وهو أبو الحرث أحمد بن محمد الفريغوني، وأمره بقصد فائق، فجمع جمعاً كثيراً وسار نحوه، فأوقع بهم فائق فهزمهم وغنم أموالهم.
وكاتب أيضاً بغراخان يطمعه في البلاد، فسار نحو بخارى، وقصد بلاد السامانية، فاستولى عليها شيئاً بعد شيء. فسير إليه نوح جيشاً كثيراً، واستعمل عليهم قائداً كبيراً من قواده اسمه انج، فلقيهم بغراخان، فهزمهم وأسر انج وجماعة من القواد، فلما ظفر بهم قوي طمعه في البلاد، وضعف نوح وأصحابه، وكاتب الأمير نوح أبا علي بن سيمجور يستنصره، ويأمره بالقدوم إليه بالعساكر، فلم يجبه إلى ذلك، ولا لبى دعوته، وقوي طمعه في الاستيلاء على خراسان.

وسار بغراخان نحو بخارى، فلقيه فائق، واختص به، وصار في جملته، ونازلوا بخارى، فاختفى الأمير نوح، وملكها بغراخان ونزلها، وخرج نوح منها مستخفياً فعبر النهر إلى آمل الشط، وأقام بها، ولحق به أصحابه، فاجتمع عنده منهم جمع كثير، وأقاموا هناك.
وتابع نوحٌ كتبه إلى أبي علي ورسله يستنجده ويخضع له، فلم يصغ إلى ذلك. وأما فائق فإنه استأذن بغراخان في قصد بلخ والاستيلاء عليها، فأمره بذلك، فسار نحوها ونزلها.
ذكر عود نوح إلى بخارى

وموت بغراخان
لما نزل بغراخان بخارى وأقام بها استوخمها، فلحقه مرض ثقيل، فانتقل عنها نحو بلاد الترك، فلما فارقها ثار أهلها بساقة عسكره ففتكوا بهم وغنموا أموالهم، ووافقهم الأتراك الغزية على النهب والقتل لعسكر بغراخان.
فلما سار بغراخان عن بخارى أدركه أجله فمات، ولما سمع الأمير نوح بمسيره عن بخارى بادر إليها فيمن معه من أصحابه، فدخلها، وعاد إلى دار ملكه وملك آبائه، وفرح أهلها به وتباشروا بقدومه.
وأما بغراخان فإنه لما مات عاد أصحابه إلى بلادهم، وكان ديناً، خيراً، عادلاً، حسن السيرة، محباً للعلماء وأهل الدين، مكرماً لهم، وكان يحب أن يكتب عنه: مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وولي أمر الترك بعده أيلك خان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كثر شغب الديلم على بهاء الدولة، ونهبوا دار الوزير أبي نصر ابن سابور، واختفى منهم، واستعفى ابن صالحان من الأنفراد بالوزارة فأعفي، واستوزر أبا القاسم علي بن أحمد، ثم هرب، وعاد سابور إلى الوزارة بعد أن أصلح الديلم.
وفيها جلس القادر بالله لأهل خراسان، بعد عودهم من الحج، وقال لهم في معنى الخطبة له، وحملوا رسالة وكتباً إلى صاحب خراسان في المعنى.
وفيها عقد النكاح للقادر على بنت بهاء الدولة بصداق مبلغه مائة ألف دينار، وكان العقد بحضرته، والولي النقيب أبو أحمد الحسين بن موسى، والد الرضي، وماتت قبل النقلة.
وفيها كان بالعراق غلاء شديد فبيعت كارة الدقيق بمائتين وستين درهماً، وكر الحنطة بستة آلاف وستمائة درهم غياتية. وفيها بنى أبو نصر سابور بن أردشير ببغداد داراً للعلم، ووقف فيها كتباً كثيرة على المسلمين المنتفعين بها.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد بن سهل الماسرجسي، الفقيه الشافعي، شيخ أبي الطيب الطبري بنيسابور، وأبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر.
وأبو طالب عبد السلام بن الحسن المأموني، وهو من أولاد المأمون، وكان فاضلاً حسن الشعر.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثلاثمائة
ذكر ولاية محمود بن سبكتكين خراسان
وإجلاء أبي علي عنها
في هذه السنة ولى الأمير نوح محمود بن سبكتكين خراسان وكان سبب ذلك أن نوحاً لما عاد إلى بخارى، على ما تقدم ذكره، سقط في يد أبي علي، وندم على ما فرط فيه من ترك معونته عند حاجته إليه.
وأما فائق فإنه لما استقر نوح ببخارى حدث نفسه بالمسير إليه، والاستيلاء عليه، والحكم في دولته، فسار عن بلخ إلى بخارى. فلما علم نوح بذلك سير إليه الجيوش لترده عن ذلك، فلقوه واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم فائق وأصحابه، ولحقوا بأبي علي، ففرح بهم، وقوي جنانه بقربهم، واتفقوا على مكاشفة الأمير نوح بالعصيان، فلما فعلوا ذلك كتب الأمير نوح إلى سبكتكين، وهو حينئذ بغزنة، يعرفه الحال، ويأمره بالمسير إليه لينجده، وولاه خراسان.
وكان سبكتكين في هذه الفتن مشغولاً بالغزو، غير ملتفت إلى ما هم فيه، فلما أتاه كتاب نوح ورسوله أجابه إلى ما أراد، وسار نحو جريدة، واجتمع به، وقررا بينهما ما يفعلانه، وعاد سبكتكين فجمع العساكر وحشد. فلما بلغ أبا علي وفائقاً الخبر جمعا، وراسلا فخر الدولة بن بويه يستنجدانه، ويطلبان منه عسكراً، فأجابهما إلى ذلك، وسير إليهما عسكراً كثيراً، وكان وزيره الصاحب بن عباد هو الذي قرر القاعدة في ذلك.

وسار سبكتكين من غزنة، ومعه ولده محمود، نحو خراسان، وسار نوح فاجتمع هو وسبكتكين، فقصدوا أبا علي وفائقاً، فالتقوا بنواحي هراة، واقتتلوا، فانحاز دارا بن قابوس بن وشمكير من عسكر أبي علي إلى نوح ومعه أصحابه، فانهزم أصحاب أبي علي، وركبهم أصحاب سبكتكين يأسرون، ويقتلون، ويغنمون، وعاد أبو علي وفائق نحو نيسابور، وأقام سبكتكين ونوح بظاهر هراة حتى استراحوا وساروا نحو نيسابور، فلما علم بهم أبو علي سار هو وفائق نحو جرجان، وكتبا إلى فخر الدولة بخبرهما، فأرسل إليهما الهدايا والتحف والأموال، وأنزلهما بجرجان.
واستولى نوح على نيسابور، واستعمل عليها وعلى جيوش خراسان محمود بن سبكتكين، ولقبه سيف الدولة، ولقب أباه سبكتكين ناصر الدولة، فأحسنا السيرة، وعاد نوح إلى بخارى وسبكتكين إلى هراة وأقام محمود بنيسابور.
ذكر عود الأهواز إلى بهاء الدولةفي هذه السنة ملك بهاء الدولة الأهواز.
وكان سببه أنه أنفذ عسكراً إليها، عدتهم سبع مائة رجل، وقدم عليهم طغان التركي، فلما بلغوا السوس رحل عنها أصحاب صمصام الدولة، فدخلها عسكر بهاء الدولة، وانتشروا في أعمال خوزستان، وكان أكثرهم من الترك، فعلت كلمتهم على الديلم، وتوجه صمصام الدولة إلى الأهواز ومعه عساكر الديلم وتميم وأسد. فلما بلغ تستر رحل ليلاً ليكبس الأتراك من عسكر بهاء الدولة، فضل الأدلاء في الطريق، فأصبح على بعدٍ منهم، ورأتهم طلائع الأتراك، فعادوا بالخبر، فحذروا، واجتمعوا، واصطفوا، وجعل مقدمهم، واسمه طغان، كميناً، فلما التقوا واقتتلوا خرج الكمين على الديلم، فكانت الهزيمة، وانهزم صمصام الدولة ومن معه من الديلم، وكانوا ألوفاً كثيرة، واستأمن منهم أكثر من ألفي رجل، وغنم الأتراك من أثقالهم شيئاً كثيراً.
وضرب طغان للمستأمنة خيماً يسكنونها، فلما نزلوا اجتمع الأتراك وتشاوروا وقالوا: هؤلاء أكثر من عدتنا، ونحن نخاف أن يثوروا بنا؛ واستقر رأيهم على قتلهم، فلم يشعر الديلم إلا وقد ألقيت الخيام عليهم، ووقع الأتراك فيهم بالعمد حتى أتوا عليهم فقتلوا كلهم.
وورد الخبر على بهاء الدولة، وهو بواسط، قد اقترض مالاً من مهذب الدولة، فلما سمع ذلك سار إلى الأهواز، وكان طغان والأتراك قد ملكوها قبل وصوله إليها.
وأما صمصام الدولة فإنه لبس السواد وسار إلى شيراز فدخلها، فغيرت والدته ما عليه من السواد، وأقام يتجهز للعود إلى أخيه بهاء الدولة بخوزستان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عقد النكاح لمهذب الدولة على ابنة بهاء الدولة، وللأمير أبي منصور بويه بن بهاء الدولة على ابنة مهذب الدولة، وكان الصداق من كل جانب مائة ألف دينار.
وفيها قبض بهاء الدولة على أبي نصر خواشاذه.
وفيها عاد الحجاج من الثعلبية، ولم يحج من العراق والشام أحد، وسبب عودهم أن الأصيفر، أمير العرب، اعترضهم وقال: إن الدراهم التي أرسلها السلطان عام أول كانت نقرة مطلية، وأريد العوض؛ فطالت المخاطبة والمراسلة وضاق الوقت على الحجاج فرجعوا.
وفيها توفي أبو القاسم النقيب الزينبي، وولي النقابة بعده ابنه أبو الحسن.
وفيها ولي نقابة الطالبيين أبو الحسن النهرسابسي، وعزل عنها أبو أحمد الموسوي، وكان ينوب عنه فيها ابناه المرتضى والرضي.
وفيها توفي عبدالله بن محمد بن نافع بن مكرم أبو العباس البستي الزاهد، وكان من الصالحين، حج من نيسابور ماشياً، وبقي سبعين سنة لا يستند إلى حائط ولا إلى مخدة؛ وعلي بن الحسين بن جموية بن زيد أبو الحسين الصوفي، سمع الحديث، وحدث وصحب أبا الخير الأقطع وغيره، وعلي ابن عيسى بن علي بن عبدالله أبو الحسن النحوي المعروف بالرماني، ومولده سنة ست وتسعين ومائتين، روى عن أبن دريد وغيره، وله تفسير كبير؛ ومحمد بن العباس بن أحمد بن القزاز أبو الحسن، سمع الكثير، وكتب الكثير، وخطه حجة في صحة النقل وجودة الضبط؛ وأبو عبيدالله محمد بن عمران المرزباني الكاتب؛ والمحسن بن علي بن علي بن محمد بن أبي الفهم أبو علي التنوخي القاضي، ومولده سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وكان فاضلاً.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، الكاتب المشهور، وكان عمره إحدى وتسعين سنة، وكان قد زمن، وضاقت به الأمور، وقلت عليه الأموال.

وفيها اشتد أمر العيارين ببغداد، ووقعت الفتنة بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة، واحترق كثير من المحال، ثم اصطلحوا.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثلاثمائة

ذكر عود أبي علي إلى خراسان
لما عاد الأمير نوح إلى بخارى، وسبكتكين إلى هراة، وبقي محمود بنيسابور، طمع أبو علي وفائق في خراسان، فسارا عن جرجان إلى نيسابور في ربيع الأول، فلما بلغ محموداً خبرهما كتب إلى أبيه بذلك، وبرز هو فنزل بظاهر نيسابور وأقام ينتظر المدد، فأعجلاه، فصبر لهما، فقاتلاه، وكان في قلة من الرجال، فانهزم عنهما نحو أبيه، وغنم أصحابهما منه شيئاً كثيراً، وأشار أصحاب أبي علي عليه باتباعه، وإعجاله ووالده عن الجميع والاحتشاد، فلم يفعل، وأقام بنيسابور، وكاتب الأمير نوحاً يستميله، ويستقيل من عثرته وزلته، وكذلك كاتب سبكتكين بمثل ذلك، وأحال بما جرى على فائق، فلم يجيباه إلى ما أراد.
وجمع سبكتكين العساكر، فأتوه على كل صعبٍ وذلولٍ، وسار نحو أبي علي، فالتقوا بطوس في جمادى الآخرة، فاقتتلوا عامة يومهم، وأتاهم محمود بن سبكتكين في عسكر ضخم من ورائهم، فانهزموا وقتل من أصحابهم خلق كثير، ونجا أبو علي وفائق، فقصدا أبيورد، فتبعهم سبكتكين، واستخلف ابنه محموداً بنيسابور، فقصدا مرو ثم آمل الشط، وراسلا الأمير نوحاً يستعطفانه، فأجاب أبا علي إلى ما طلب من قبول عذره إن فارق فائقاً ونزل بالجرجانية، ففعل ذلك، فحذره فائق، وخوفه من مكيدتهم به ومكرهم، فلم يلتفت لأمر يريده الله، عز وجل، ففارق فائقاً وسار نحو الجرجانية فنزل بقرية بقرب خوارزم تسمى هزار أس، فأرسل إليه أبو عبدالله خوارزمشاه من أقام له ضيافة، ووعده أنه يقصده ليجتمع به، فسكن إلى ذلك.
فلما كان الليل أرسل إليه خوارزمشاه جمعاً من عسكره فأحاطوا به وأخذوه أسيراً في رمضان من هذه السنة، فاعتقله في بعض دوره، وطلب أصحابه، فأسر أعيانهم وتفرق الباقون.
وأما فائق فإنه سار إلى ايلك خان بما وراء النهر، فأكرمه وعظمه، ووعده أن يعيده إلى قاعدته، وكتب إلى نوح يشفع في فائق وأن يولى سمرقند، فأجابه إلى ذلك، وأقام بها.
ذكر خلاص أبي علي
وقتل خوارزمشاه
لما أسر أبو علي بلغ خبره إلى مأمون بن محمد، والي الجرجانية، فقلق لذلك وعظم عليه، وجمع عساكره وسار نحو خوارزمشاه، وعبر إلى كاث، وهي مدينة خوارزمشاه، فحصروها وقاتلوها، وفتحوها عنوةً، وأسروا أبا عبدالله خورازمشاه، وأحضروا أبا علي ففكوا عنه قيده وأخذوه وعادوا إلى الجرجانية، واستخلف مأمون بخوارزم بعض أصحابه، وصارت في جملة ما بيده، وأحضر خوارزمشاه وقتله بين يدي أبي علي بن سيمجور.
ذكر قبض أبي علي بن سيمجور
وموته
لما حصل أبو علي عند مأمون بن محمد بالجرجانية كتب إلى الأمير نوح يشفع فيه، ويسأل الصفح عنه، فأجيب إلى ذلك، وأمر أبا علي بالمسير إلى بخارى، فسار إليها فيمن بقي معه من أهله وأصحابه، فلما بلغوا بخارى لقيهم الأمراء والعساكر، فلما دخلوا على الأمير نوح أمر بالقبض عليهم.
وبلغ سبكتكين أن ابن عزير، وزير الأمير نوح، يسعى في خلاص أبي علي، فأرسل إليه يطلب أبا علي إليه، فحبسه، فمات في حبسه سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وكان ذلك خاتمة أمره، وآخر حال بيت سيمجور جزاءً لكفران إحسان مولاهم، فتبارك الحي الدائم الباقي الذي لا يزول ملكه.
وكان ابنه أبو الحسن قد لحق بفخر الدولة بن بويه، فأحسن إليه وأكرمه، فسار عنه سراً إلى خراسان لهوىً كان له بها، وظن أن أمره يخفى، فظهر حاله، فأخذ أسيراً وسجن عند والده.
وأما أبو القاسم أخو أبي علي فإنه أقام في خدمة سبكتكين مدة يسيرة، ثم ظهر منه خلاف الطاعة، وقصد نيسابور، فلم يتم له ما أراد، وعاد محمود ابن سبكتكين إليه، فهرب منه وقصد فخر الدولة وبقي عنده، وسيرد باقي أخباره، إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة الصاحب بن عبادفي هذه السنة مات الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد، وزير فخر الدولة بالري، وكان واحد زمانه علماً، وفضلاً، وتدبيراً، وجودة رأي، وكرماً، عالماً بأنواع العلوم، عارفاً بالكتابة وموادها، ورسائله مشهورة مدونة، وجمع من الكتب ما لم يجمعه غيره، حتى إنه كان يحتاج في نقلها إلى أربع مائة جمل.

ولما مات وزر بعده لفخر الدولة أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي الملقب بالكافي.
ولما حضره الموت قال لفخر الدولة: قد خدمتك خدمةً استفرغت فيها وسعي، وسرت سيرةً جلبت لك حسن الذكر، فإن أجريت الأمور على ما كانت عليه نسب ذلك الجميل إليك وتركت أنا، وإن عدلت عنه كنت أنا المشكور ونسبت الطريقة الثانية إليك، وقدح ذلك في دولتك. فكان هذا نصحه له إلى أن مات.
فلما توفي أنفذ فخر الدولة من احتاط على ماله وداره، ونقل جميع ما فيها إليه، فقبح الله خدمة الملوك، هذا فعلهم مع من نصح لهم، فكيف مع غيره ! ونقل الصاحب بعد ذلك إلى أصبهان، وكثير ما بين فعل فخر الدولة مع ابن عباد وبين العزيز بالله العلوي مع وزيره يعقوب بن كلس وقد تقدم.
وكان الصاحب بن عباد قد أحسن إلى القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي، وقدمه، وولاه قضاء الري وأعمالها، فلما توفي قال عبد الجبار: لا أرى الترحم عليه، لأنه مات عن غير توبة ظهرت منه، فنسب عبد الجبار إلى قلة الوفاء.
ثم إن فخر الدولة قبض على عبد الجبار وصادره، فباع في جملة ما باع ألف طيلسان، وألف ثوب صوف رفيع، فلم لا نظر لنفسه، وتاب عن أخذ مثل هذا واذخاره من غير حله ؟ ثم إن فخر الدولة قبض على أصحاب ابن عباد وأبطل كل مسامحة كانت منه، وقرر هو ووزراؤه المصادرات في البلاد، فاجتمع له منها شيء كثير، ثم تمزق بعد وفاته في أقرب مدة، وحصل بالوزر وسوء الذكر.
ذكر إيقاع صمصام الدولة بالأتراكفي هذه السنة أمر صمصام الدولة بقتل من بفارس من الأتراك، فقتل منهم جماعة، وهرب الباقون فعاثوا في البلاد، وانصرفوا إلى كرمان، ثم منها إلى بلاد السند، واستأذنوا ملكها في دخول بلاده، فأذن لهم وخرج إلى تلقيهم ووافق أصحابه على الإيقاع بهم، فلما رآهم جعل أصحابه صفين، فلما حصل الأتراك في وسطهم أطبقوا عليهم وقتلوهم فلم يفلت منهم إلا نفر جرحى وقعوا بين القتلى وهربوا تحت الليل.
ذكر وفاة خواشاذهفي هذه السنة توفي أبو نصر خواشاذه بالبطائح، وكان قد هرب إليها بعد أن قبض، وكاتبه بهاء الدولة، وفخر الدولة، وصمصام الدولة، وبدر بن حسنويه، كل منهم يستدعيه، ويبذل له ما يريده وقال له فخر الدولة: لعلك تسيء الظن بما قدمته في خدمة عضد الدولة، وما كنا لنؤاخذك بطاعة من قدمك ومناصحته، وقد علمت ما عملته مع الصاحب بن عباد، وتركنا ما فعله معنا. فعزم على قصده، فأدركه أجله قبل ذلك، وتوفي، وكان من أعيان قواد عضد الدولة.
ذكر عود عسكر صمصام الدولة إلى الأهوازفي هذه السنة جهز صمصام الدولة عسكره من الديلم وردهم إلى الأهواز مع العلاء بن الحسن، واتفق أن طغان، نائب بهاء الدولة بالأهواز، توفي، وعزم من معه من الأتراك على العود إلى بغداد، وكتب من هناك إلى بهاء الدولة بالخبر، فأقلقه ذلك وأزعجه، فسير أبا كاليجار المرزبان بن شهفيروز إلى الأهواز نائباً عنه وأنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى الفتكين، وهو برامهرمز، قد عاد من بين يدي عسكر صمصام الدولة إليها، يأمره بالمقام بموضعه، فلم يفعل، وعاد إلى الأهواز، فكتب إلى أبي محمد بن مكرم بالنظر في الأعمال، وسار بعدهم بهاء الدولة نحو خوزستان، فكاتبه العلاء، وسلك طريق اللين والخداع.
ثم سار على نهر المسرقان إلى أن حصل بخان طوق، ووقعت الحرب بينه وبين أبي محمد بن مكرم والفتكين، وزحف الديلم بين البساتين، حتى دخلوا البلد، وانزاح عنه ابن مكرم والفتكين، وكتبا إلى بهاء الدولة يشيران عليه بالعبور إليها، فتوقف عن ذلك ووعدهما به، وسير إليهما ثمانين غلاماً من الأتراك، فعبروا وحملوا على الديلم من خلفهم، فأفرج لهم الديلم، فلما توسطوا بينهم أطبقوا عليهم فقتلوهم.
فلما عرف بهاء الدولة ذلك ضعفت نفسه، وعزم على العود، ولم يظهر ذلك، فأمر بإسراج الخيل وحمل السلاح، ففعل ذلك، وسار نحو الأهواز يسيراً، ثم عاد إلى البصرة فنزل بظاهرها. فلما عرف ابن مكرم خبر بهاء الدولة عاد إلى عسكر مكرم، وتبعهم العلاء والديلم فأجلوهم عنها، فنزلوا براملان بين عسكر مكرم وتستر، وتكررت الوقائع بين الفريقين مدةً.

وكان بيد الأتراك، أصحاب بهاء الدولة، من تستر إلى رامهرمز، ومع الديلم منها إلى أرجان، وأقاموا ستة أشهر، ثم رجعوا إلى الأهواز، ثم عبر بهم النهر إلى الديلم، واقتتلوا نحو شهرين، ثم رحل الأتراك وتبعهم العلاء، فوجدهم قد سلكوا طريق واسط، فكف عنهم، وأقام بعسكر مكرم.
ذكر حادثة غريبة بالأندلسفي هذه السنة سير المنصور محمد بن أبي عامر، أمير الأندلس لهشام المؤيد، عسكراً إلى بلاد الفرنج للغزاة، فنالوا منهم وغنموا، وأوغلوا في ديارهم، وأسروا غرسية، وهو ملك للفرنج ابن ملك من ملوكهم يقال له شانجة، وكان من أعظم ملوكهم وأمنعهم، وكان من القدر أن شاعراً للمنصور، يقال له أبو العلاء صاعد بن الحسن الربعي، قد قصده من بلاد الموصل، وأقام عنده، وامتدحه قبل هذا التاريخ، فلما كان الآن أهدى أبو العلاء إلى المنصور أيلاً، وكتب معه أبياتاً منها:
يا حرز كلّ مخوّفٍ، وأمان كلّ ... مشرّدٍ، ومعزّ كلّ مذلّل
جدواك إن تخصص به فلأهله، ... وتعمّ بالإحسان كلّ مؤمّل
يقول فيها:
مولاي مؤنس غربتي، متخطّفي ... من ظفر أيّامي، ممنّع معقلي
عبدٌ رفعت بضبعه، وغرسته ... في نعمةٍ أهدى إليك بأيّل
سمّيته غرسيّة، وبعثته ... في حبله ليتاح فيه تفاؤلي
فلئن قبلت، فتلك أسنى نعمةٍ ... أسدى بها ذو نعمةٍ وتطوّل
فسمى هذا الشاعر الأيل غرسية تفاؤلاً بأسر ذلك غرسية، فكان أسره في اليوم الذي أهدى فيه الأيل، فانظر إلى هذا الاتفاق ما أعجبه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ورد الوزير أبو القاسم علي بن أحمد الأبرقوهي من البطيحة إلى بهاء الدولة، بعد عوده من خوزستان، وكان قد التجأ إلى مهذب الدولة، فأرسل بهاء الدولة يطلبه ليستوزره، فحضر عنده، فلم يتم له ذلك، فعاد إلى البطيحة، وكان الفاضل، وزير بهاء الدولة، معه بواسط، فلما علم الحال استأذن في الإصعاد إلى بغداد، فأذن له فأصعد، فعاد بهاء الدولة وطلبه ليرجع إليه، فغالطه ولم يعد.
وفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي أبو حفص عمر بن أحمد بن محمد ابن أيوب المعروف بابن شاهين الواعظ، مولده في صفر سنة سبع وتسعين ومائتين، وكان مكثراً من الحديث ثقةً.
وفيها، في ذي القعدة، توفي الإمام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي المعروف بالدارقطني الإمام المشهور.
وفيها، في ربيع الأول، توفي محمد بن عبدالله بن سكرة الهاشمي من ولد علي بن المهدي بالله، وكان منحرفاً عن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وكان خبيث اللسان يتقى سفهه، ومن جيد شعره:
في وجه إنسانةٍ كلفت بها ... أربعةٌ ما اجتمعن في أحد
الوجه بدرٌ والصدغ غاليةٌ، ... والرّيق خمرٌ، والثّغر من برد
وفيها توفي يوسف بن عمر بن مسروق، أبو الفتح القواس، الزاهد، في ربيع الأول، وله خمس وخمسون سنة.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة

ذكر وفاة العزيز بالله
وولاية ابنه الحاكم وما كان من الحروب إلى أن استقر أمره
في هذه السنة توفي العزيز أبو منصور نزال بن المعز أبي تميم معد العلوي، صاحب مصر، لليلتين بقيتا من رمضان، وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر ونصف، بمدينة بلبيس، وكان برز إليها لغزو الروم، فلحقه عدة أمراض منها النقرس والحصا والقولنج، فاتصلت به إلى أن مات.
وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً، ومولده بالمهدية من إفريقية.
وكان أسمر طويلاً، أصهب الشعر، عريض المنكبين، عارفاً بالخيل والجوهر، قيل إنه ولى عيسى بن نسطورس النصراني كتابته، واستناب بالشام يهودياً اسمه منشا، فاعتز بهما النصارى وإليهود، وآذوا المسلمين، فعمد أهل مصر وكتبوا قصة وجعلوها في يد صورة عملوها من قراطيس، فيها: بالذي أعز إليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس، وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي؛ وأقعدوا تلك الصورة على طريق العزيز، والرقعة بيدها، فلما رآها أمر بأخذها، فلما قرأ ما فيها، ورأى الصورة من قراطيس، علم ما أريد بذلك، فقبض عليهما، وأخذ من عيسى ثلاثمائة ألف دينار، ومن إليهودي شيئاً كثيراً.

وكان يحب العفو ويستعمله، فمن حلمه أنه كان بمصر شاعر اسمه الحسن ابن بشر الدمشقي، وكان كثير الهجاء، فهجا يعقوب بن كلس، وزير العزيز، وكاتب الإنشاء من جهته أبا نصر عبدالله الحسين القيرواني، فقال:
قل لأبي نصرٍ صاحب القصر، ... والمتأتّي لنقض ذا الأمر
انقض عرى الملك للوزير تفز ... منه بحسن الثناء والذّكر
وأعط، وامنع، ولا تخف أحداً، ... فصاحب القصر ليس في القصر
وليس يدري ماذا يراد به، وهو إذا ما درى، فما يدري
فشكاه ابن كلس إلى العزيز، وأنشده الشعر، فقال له: هذا شيء اشتركنا فيه في الهجاء فشاركني في العفو عنه. ثم قال هذا الشاعر أيضاً وعرض بالفضل القائد:
تنصّر، فالتنصّر دين حقٍّ، ... عليه زماننا هذا يدلّ
وقل بثلاثةٍ عزّوا وجلّوا، ... وعطّل ما سواهم فهو عطل
فيعقوب الوزير أبٌ، وهذا ... العزيز ابنٌ، وروح القدس فضل
فشكاه أيضاً إلى العزيز، فامتعض منه إلا أنه قال: اعف عنه؛ فعفا عنه.
ثم دخل الوزير على العزيز، فقال: لم يبق للعفو عن هذا معنىً، وفيه غضٌّ من السياسة، ونقضٌ لهيبة الملك، فإنه قد ذكرك وذكرني وذكر ابن زبارج نديمك، وسبك بقوله:
زبارجيٌّ نديمٌ وكلّسيٌّ وزير، ... نعم على قدو الكلب يصلح الساجور
فغضب العزيز، وأمر بالقبض عليه، فقبض عليه، لوقته، ثم بدا العزيز إطلاقه، فأرسل إليه يستدعيه، وكان للوزير عين في القصر، فأخبره بذلك، فأمر بقتله فقتل.
فلما وصل رسول العزيز في طلبه أراه رأسه مقطوعاً، فعاد إليه فأخبره، فاغتم له.
ولما مات العزيز ولي بعده ابنه أبو علي المنصور، ولقب الحاكم بأمر الله، بعهد من أبيه، فولي وعمره إحدى عشرة سنة وستة أشهر، وأوصى العزيز إلى أرجوان الخادم، وكان يتولى أمر داره، وجعله مدبر دولة ابنه الحاكم، فقام بأمره، وبايع له، وأخذ له البيعة على الناس، وتقدم الحسن ابن عمار، شيخ كتامة وسيدها، وحكم في دولته، واستولى عليها، وتلقب بأمين الدولة، وهو أول من تلقب في دولة العلويين المصريين، فأشار عليه ثقاته بقتل الحاكم، وقالوا: لا حاجة بنا إلى من يتعبدنا؛ فلم يفعل احتقاراً له، واستصغاراً لسنه.
وانبسطت كتامة في البلاد، وحكموا فيها، ومدوا أيديهم إلى أموال الرعية وحريمهم، وأرجوان مقيم مع الحاكم في القصر يحرسه، واتفق معه شكر خادم عضد الدولة، وقد ذكرنا قبض شرف الدولة عليه ومسيره إلى مصر، فلما اتفقا، وصارت كلمتهما واحدة، كتب أرجوان إلى منجوتكين يشكو ما يتم عليه من ابن عمار، فتجهز وسار من دمشق نحو مصر، فوصل الخبر إلى ابن عمار، فأظهر أن منجوتكين قد عصى على الحاكم، وندب العساكر إلى قتاله، وسير إليه جيشاً كثيراً، وجعل عليهم أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي، فساروا إليه، فلقوه بعسقلان، فانهزم منجوتكين وأصحابه، وقتل منهم ألفا رجل، وأسر منجوتكين وحمل إلى مصر، فأبقى عليه ابن عمار، وأطلقه استمالةً للمشارقة بذلك.
واستعمل ابن عمار على الشام أبا تميم الكتامي، واسمه سليمان بن جعفر، فسار إلى طبرية، فاستعمل على دمشق أخاه علياً، فامتنع أهلها عليه، فكاتبهم أبو تميم يتهددهم فخافوا وأذعنوا بالطاعة، واعتذروا من فعل سفهائهم، وخرجوا إلى علي فلم يعبأ بهم وركب ودخل البلد فأحرق وقتل وعاد إلى عسكره.
وقدم عليهم أبو تميم فأحسن إليهم وأمنهم، وأطلق المحبسين، ونظر في أمر الساحل، واستعمل أخاه علياً على طرابلس، وعزل عنها جيش بن الصمصامة الكتامي، فمضى إلى مصر، واجتمع مع أرجوان على الحسن بن عمار، فانتهز أرجوان الفرصة ببعد كتامة عن مصر مع أبي تميم، فوضع المشارقة على الفتك بمن بقي بمصر منهم، وبابن عمار معهم.
فبلغ ذلك ابن عمار، فعمل على الإيقاع بأرجوان وشكر العضدي، فأخبرهما عيون لهما على ابن عمار بذلك، فاحتاطا ودخلا قصر الحاكم باكين، وثارت الفتنة، واجتمعت المشارقة، ففرق فيهم المال، وواقعوا ابن عمار ومن معه، فانهزم واختفى.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34