كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

قال وهب بن منبه: إن رجلاً من بقايا أهل دين عيسى يقال له فيميون، وكان رجلاً صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحاً لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى غيرها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان يعمل الطين ويعظم الأحد لا يعمل فيه شيئاً ويخرج إلى الصحراء يصلي جميع نهاره، فنزل قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفياً، ففطن به رجل اسمه صالح فأحبه حباً شديداً، وكان يتبعه حيث ذهب لا يفطن به فيميون، حتى خرج مرة يوم الأحد إلى الصحراء واتبعه صالح وفيميمون لا يعلم. فجلس صالح منه منظر العين مستخفياً، وقام فيميون يصلي، فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه تنين، فلما رآه فيميون دعا عليه فمات، ورآه صالح ولم يدر ما أصاهب فخاف على فيميون، فصاح: يا فيميون التنين قد أقبل نحوك ! فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى أمسى، وعرف أن صالحاً عرفه، فكلمه صالح وقال له: يعلم الله أنني ما أحببت شيئاً حبك قط وقد أردت صحبتك حيثما كنت. قال: افعل. فلزمه صالح، وكان إذا ما جاءه العبد به ضرٌ شفي إذا دعا له، وإذا دعي إلس أحد به ضر لم يأته. وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير فجعل ابنه في حجرة ألقى عليه ثوباً ثم قال لفيميون: قد أردت أن تعمل في بيتي عملاً، فانطلق إليه لأشارطك عليه؛ فانطلق معه، فلما دخل الحجرة ألقى الرجل الثوب عن ابنه وطلب إليه أن يدعو له، فدعا له فأبصر.
وعرف فيميون أنه قد عرف بالقرية فخرج هو وصالح ومر بشجرة عظيمة بالشام. فناداه رجل وقال: ما زلت أنتظرك، لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت، قال: فمات، فواراه فيميمون وانصرف ومعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب، وأخذهما بعض العرب فباعوهما بنجران، وأهل نجران على دين العرب تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم، لها عيد كل سنة؛ إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وحلي جميل، فعكفوا عليها يوماً، فابتاع رجل من أشرافهم فيميون، وابتاع رجل آخر صالحاً، فكان فيميون إذا قام من الليل يصلي في بيته استسرج له البيت حتى يصبح من غير مصباح. فلما رأى سيده ذلك أعجبه، فسأله عن دينه فأخبره، وعاب دين سيده. وقال له: لو دعوت إلهي الذي أعبد لأهلك النخلة. فقال: افعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه. فصلى فيميون ودعا الله تعالى، فأرسل الله عليها ريحاً فجففتها وألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على شريعة من دين عيسى ودخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض. فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران.
وقال محمد بن كعب القرظي: كان أهل نجران يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها ساحر كان أهل نجران يرسلون أولادهم إليه يعلمهم السحر. فلما نزلها فيميون وهو رجل كان يعبد الله على دين عيسى بن مريم، عليه السلام، فإذا عرف في قرية خرج منها إلى غيرها، وكان مجاب الدعوة يبرئ المرضى، وله كرامات، فوصل نجران فسكن خيمة بين نجران وبين الساحر، فأرسل الثامر ابنه عبد الله مع الغلمان إلى الساحر، فاجتاز بفيميون فرأى ما أعجبه من صلاته، فجعل يجلس إليه ويستمع منه، فأسلم معه ووحد الله تعالى وعبده، وجعل يسأله عن الاسم الأعظم - وكان يعلمه - فكتمه إياه وقال: لن تحتمله، والثامر يعتقد أن ابنه يختلف إلى الساحر مع الغلمان. فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن عليه بالاسم الأعظم عمد إلى قداح فكتب عليها أسماء الله جميعها ثم ألقاها في النار واحداً واحداً حتى إذا ألقى القدح الذي عليه الاسم الأعظم وثب منها فلم تضره شيئاً، فأخذه وعاد إلى صاحبه فأخبره الخبر، فقال له: امسك على نفسك، وما أظن أن تفعل، فكان عبد الله لا يلقى أحداً إذا أتى نجران به ضر إلا قال: يا عبد الله أتدخل في ديني حتى أدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، ويدعو له عبد الله فيشفى، حتى لم يبق أحد من أهل نجران ممن به ضر إلا أتاه واتبعه ودعا له فعوفي.

فرفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني، لأمثلن بك ! فقال: لا تقدر على ذلك. فجعل يرسله إلى الجبل الطويل فيلقى من رأسه فيقع على الأرض ليس به بأسٌ، فأرسله إلى مياه نجران، وهي بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأسٌ. فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر: إنك لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن كما آمنت، فإنك إذا فعلت قتلتني. فوحد الله الملك ثم ضربه بعصاً بيده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، فهلك الملك مكانه، واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر.
قال: فسار إليهم ذو نواس بجنوده فجمعهم ثم دعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف حتى قتل قريباً من عشرين ألفاً. وهم الذين أنزل الله فيهم: (قتل أصحاب الاخدود) البروج: 4.
وقال ابن عباس: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له ذو نواس واسمه يوسف بن شرحبيل، وكان قبل مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، بسبعين سنة، وكان له ساحر حاذق. فلما كبر قال للملك: إني كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً اسمه عبد الله بن الثامر ليعلمه، فجعل يختلف إلى الساحر، وكان في طريقه راهب حسن القراءة، فقعد إليه الغلام، فأعجبه أمره، فكان إذا جاء إلى المعلم يدخل إلى الراهب فيقعد عنده، فإذا جاء من عنده إلى المعلم ضربه وقال له: ما الذي حبسك ؟ وإذا انقلب إلى أبيه دخل إلى الراهب فيضربه أبوه ويقول: ما الذي أبطأ بك ؟ فشكا الغلام ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي، وإذا أتيت أباك فقل حبسني المعلم. وكان في ذلك البلد حية عظيمة قطعت طريق الناس، فمر بها الغلام فرماها بحجر فقتلها، وأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: إن لك لشأناً، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلن علي. وصار الغلام يبرئ الأكمة والأبرص ويشفي الناس. وكان للملك ابن عم أعمى، فسمع بالغلام وقتل الحية فقال: ادع الله أن يرد علي بصري. فقال الغلام: إن رد الله عليك بصرك تؤمن به ؟ قال: نعم. قال: اللهم إن كان صادقاً فأردد عليه بصره، فعاد بصره، ثم دخل على الملك، فلما رآه تعجب منه وسأله، فلم يخبره، وألح عليه فدله على الغلام، فجيء به، فقال له: لقد بلغ من سحرك ما أرى. فقال: أنا لا أشفي أحداً إنما يشفي الله من يشاء، فلم يزل يعذبه حتى دله على الراهب، فجيء به، فقال له: ارجع عن دينك، فأبى، فأمر به فوضع المنشار على رأسه فشق بنصفين، ثم جيء بابن عم الملك، فقال: ارجع عن دينك، فأبى، فشقه قطعتين، ثم قال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا فان رجع وإلا فاطرحوه من رأسه، فذهبوا به إلى الجبل فقال اللهم اكفنيهم ! فرجف بهم الجبل وهلكوا، ورجع الغلام إلى الملك، فسأله عن أصحابه، فقال: كفانيهم الله. فغاظه ذلك وأرسله في سفينة إلى البحر ليلقوه فيه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم ! فغرقوا ونجا، وجاء إلى الملك فقال: اقتلوه بالسيف، فضربوه فنبا عنه. وفشا خبره في اليمن، فأعظمه الناس وعلموا أنه على الحق، فقال الغلام للملك: إنك لن تقدر على قتلي إلا أن تجمع أهل مملكتك وترميني بسهم وتقول: بسم الله رب الغلام. ففعل ذلك فقتله. فقال الناس: آمنا برب الغلام ! فقيل للملك: قد نزل بك ما تحذر. فأغلق أبواب المدينة وخد أخدوداً وملأه ناراً وعرض الناس، فمن رجع عن دينه تركه، ومن لم يرجع ألقاه في الأخدود فأحرقه.
وكانت امرأة مؤمنة، وكان لها ثلاثة بنين، أحدهم رضيع، فقال لها الملك: ارجعي وإلا قتلتك أنت وأولادك، فأبت، فألقى ابنيها الكبيرين، فأبت، ثم أخذ الصغير ليلقيه فهمت بالرجوع. قال لها الصغير: يا أماه لا ترجعي عن دينك، لا بأس عليك ! فألقاه وألقاها في أثره، وهذا الطفل أحد من تكلم صغيراً.
قيل: حفر رجل خربة بنجران في زمن عمر بن الخطاب، فرأى عبد الله ابن الثامر واضعاً يده على ضربة في رأسه، فإذا رفعت عنها يده جرت دماً، وإذا أرسلت يده ردها إليها وهو قاعد، فكتب فيه إلى عمر، فأمر بتركه على حاله.
ذكر ملك الحبشة اليمن

قيل: لما قتل ذو نواس من قتل من أهل اليمن في الأخدود لأجل العود عن النصرانية أفلت منهم رجل يقال له دوس ذو ثعلبان حتى أعجز القوم، فقدم على قيصر فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما فعل بهم. فقال له قيصر: بعدت بلادك عنا، ولكن سأكتب إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم. فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره، فأرسل معه ملك الحبشة سبعين ألفاً وأمر عليهم رجلاً يقال له أرياط، وفي جنوده أبرهة الأشرم، فساروا في البحر حتى نزلوا بساحل اليمن، وجمع ذو نواس جنوده فاجتمعوا، ولم يكن له حرب غير أنه ناوش شيئاً من قتال ثم انهزموا، وخلها أرياط. فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه اقتحم البحر بفرسه فغرق، ووطئ أرياط اليمن فقتل ثلث رجالهم، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياهم، ثم أقام بها وأذل أهلها.
وقيل: إن الحبشة لما خرجوا إلى المندب من أرض اليمن كتب ذو نواس إلى أقيال اليمن يدعوهم إلى الاجتماع على عدوهم، فلم يجيبوه وقالوا: يقاتل كل رجل عن بلاده. فصنع مفاتيح وحملها على عدة من الإبل ولقي الحبشة وقال: هذه مفاتيح خزائن الأموال باليمن، فهي لكم ولا تقتلوا الرجال والذرية، فأجابوه إلى ذلك وساروا معه إلى صنعاء، فقال لكبيرهم: وجه أصحابك لقبض الخزائن. فتفرق أصحابه ودفع إليهم المفاتيح، وكتب إلى الأقيال بقتل كل ثور أسود، فقتلت الحبشة ولم ينج منهم إلا الشريد.
فلما سمع النجاشي جهز إليهم سبعين ألفاً مع أرياط والأشرم، فملك البلاد وأقام بها سنين، ونازعه أبرهة الأشرم، وكان في جنده، فمال إليه طائفة منهم، وبقي أرياط في طائفة، وسار أحدهما إلى الآخر، وأرسل أبرهة: إنك لن تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها على بعض شيئاً، فيهلكوا، ولكن ابرز إلي فأينا قهر صاحبه استولى على جنده. فتبارزا، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة، فوقعت على رأسه فشرمت أنفه وعينه، فسمي الأشرم. وحمل غلام لأبرهة يقال له عتودة، كان قد تركه كميناً من خلف أرياط، على أرياط فقتله، واستولى أبرهة على الجند والبلاد وقال لعتودة: احتكم. فقال: لا تدخل عروس على زوجها من اليمن حتى أصيبها قبله، فأجابه إلى ذلك، فبقي يفعل بهم هذا الفعل حيناً، ثم عدا عليه إنسان من اليمن فقتله، فسر أبرهة بقتله وقال: لو علمت أنه يحتكم هكذا لم أحكمه. ولما بلغ النجاشي قتل أرياط غضب غضباً شديداً وحلف ألا يدع أبرهة حتى يطأ أرضه ويجز ناصيته، فبلغ ذلك أبرهة، فأرسل إلى النجاشي من تراب اليمن وجز ناصيته فبلغ ذلك أبرهة، فأرسل إلى النجاشي من تراب اليمن وجز ناصيته وأرسلها أيضاً، وكتب إليه بالطاعة وإرسال شعره وترابه ليبر قسمه بوضع التراب تحت قدميه، فرضي عنه وأقره على عمله. فلما استقر باليمن بعث إلى أبي مرة ذي يزن، فأخذ زوجته ريحانة بنت ذي جدن ونكحها، فولدت له مسروقاً، وكانت قد ولدت لذي يزن ولداً اسمه معدي كرب، وهو سيف، فخرج ذو يزن من اليمن فقدم الحيرة على عمرو بن هند وسأله أن يكتب له إلى كسرى كتاباً يعلمه محله وشرفه وحاجته، فقال: إني أفد إلى الملك كل سنة وهذا وقتها، فأقام عنده حتى وفد معه ودخل إلى كسرى معه، فأكرمه وعظمه وذكر حاجته وشكا ما يلقون من الحبشة، واستنصره عليهم، وأطمعه في اليمن وكثرة مالها، فقال له كسر أنوشروان: إني لأحب أن أسعفك بحاجتك ولكن المسالك إليها صعبة وسأنظر، وأمر بإنزاله، فأقام عنده حتى هلك. ونشأ ابنه معدي كرب بن ذي يزن في حجرة أبرهة، وهو يحسب أنه أبوه، فسبه انب لأبرهة وسب أباه، فسأل أمه عن أبيه، فصدقته، وأقام حتى مات أبرهة وابنه يكسوم وسار عن اليمن، ففعل ما نذكره إن شاء الله.
ذكر ملك كسرى أنوشروان بن قباذابن فيروز بن يزدجرد بن بهرام بن يزدجرد الأثيم لما لبس التاج خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما ابتلوا به من فساد أمورهم ودينهم وأولادهم، وأعلمهم أنه يصلح ذلك، ثم أمر برؤوس المزدكية فقتلوا وقسمت أموالهم في أهل الحاجة.

وكان سبب قتلهم أن قباذ كان، كما ذكرنا، قد اتبع مزدك على دينه وما دعاه إليه وأطاعه في كل ما يأمره به من الزندقة وغيرها مما ذكرنا أيام قباذ، وكان المنذر بن ماء السماء يومئذٍ عاملاً على الحيرة ونواحيها، فدعاه قباذ إلى ذلك، فأبى، فدعا الحارث بن عمرو الكندي، فأجابه، فسدد له ملكه وطرد المنذر عن مملكته، وكانت أم أنوشروان يوماً بين يدي قباذ، فدخل عليه مزدك. فلما رأى أم أنوشروان قال لقباذ: ادفعها إلي لأقضي حاجتي منها. فقال: دونكها. فوثب إليه أنوشروان، ولم يزل يسأله ويتضرع إليه أن يهب له أمه حتى قبل رجله، فتركها، فحاك ذلك في نفسه.
فهلك قباذ على تلك الحال وملك أنوشروان، فجلس للملك، ولما بلغ المنذر هلاك قباذ أقبل إلى أنوشروان، وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه واتباع مزدك، فإن أنوشروان كان منكراً لهذا المذهب كارهاً له، ثم إن أنوشروان أذن للناس إذناً عاماً، ودخل عليه مزدك، ثم دخل عليه المنذر، فقال أنوشروان: إني كنت تمنيت أمنيتين، أرجو أن يكون الله عز وجل قد جمعهما إلي. فقال مزدك: وما هما أيها الملك ؟ قال: تمنيت أن أملك وأستعمل هذا الرجل الشريف، يعني المنذر، وأن أقتل هذه الزنادقة. فقال مزدك: أوتستطيع أن تقتل الناس كلهم ؟ فقال: وإنك ها هنا يا ابن الزانية ؟! والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا. وأمر به فقتل وصلب. وقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان وإلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم، وسمي يومئذٍ أنوشروان.
وطلب أنوشروان الحارث بن عمرو، فبلغه ذلك وهو بالأنبار، فخرج هارباً في صحابته وماله وولده، فمر بالثوية، فتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء، فلحق بأرض كلب ونجا وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفساً من بني آكل المرار فقدموا بهم على المنذر، فضرب رقابهم بحفر الأميال في ديار بني مرين العباديين بين دير بني هند والكوفة، فذلك قول عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنّهاب وبالسبّايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا
وفيهم يقول امرؤ القيس:
ملوكٌ من بني حجر بن عمرو ... يساقون العشيّة يقتلونا
فلو في يوم معركةٍ أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا
ولم تغسل جماجمهم بغسلٍ ... ولكن في الدماء ومرمّلينا
تظلّ الطّير عاطفةً عليهم ... وتنتزع الحواجب والعيونا
ولما قتل أنوشروان مزدك وأصحابه أمر بقتل جماعة ممن دخل على الناس في أموالهم ورد الأموال إلى أهلها، وأمر بكل مولود اختلفوا فيه أن يلحق بمن هو منهم إذا لم يعرف أبوه وأن يعطى نصيباً من ملك الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل، وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ مهرها من الغالب، ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين فراقه إلا أن يكون لها زوج فترد إليه.
وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فأنكح بناتهم الأكفاء، وجهزهن من بيت المال، وأنكح نساءهم من الأشراف، واستعان بأبنائهم في أعماله، وعمر الجسور والقناطر، وأصلح الخراب، وتفقد الأساورة وأعطاهم، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخير الولاة والعمال والحكام، واقتدى بسيرة أردشير، وارتجع بلاداً كانت مملكة الفرس، منها: السند وسندوست والرخج وزابلستان وطخارستان، وأعظم القتل في النازور وأجلى بقيتهم عن بلاده.
واجتمع أبخز وبنجر وبلنجر واللان على قصد بلاده، فقصدوا أرمينية للغارة على أهلها، وكان الطريق سهلاً، فأمهلهم كسرى حتى توغلوا في البلاد وأرسل إليهم جنوداً، فقاتلوهم فأهلكوهم ما خلا عشرة آلاف رجل أسروا فأسكنوا أذربيجان.

وكان لكسرى أنوشروان ولد هو أكبر أولاده اسمه أنوشزاد، فبلغه عنه أنه زنديق، فسيره إلى جنديسابور وجعله معه جماعة يثق بدينهم ليصلحوا دينه وأدبه. فبينما هم عنده غذ بلغه خبر مرض والده لما دخل بلاد الروم، فوثب بمن عنده فقتلهم وأخرج أهل السجون فاستعان بهم وجمع عنده جموعاً من الأشرار، فأرسل إليهم نائب أبيه بالمدائن عسكراً، فحصروه بجنديسابور، وأرسل الخبر إلى كسرى، فكتب إليه يأمره بالجد في أمره وأخذه أسيراً، فاشتد الحصار حينئذٍ عليه ودخل العساكر المدينة عنوةً فقتلوا بها خلقاً كثيراً وأسروا أنوشزاد، فبلغه خبر جده لأمه الداور الرازي، فوثب بعامل سجستان وقاتله، فهزمه العامل، فالتجأ إلى مدينة الرخج وامتنع بها، ثم كتب إلى كسرى يعتذر ويسأله أن ينفذ إليه من يسلم له البلد، ففعل وآمنه.
وكان الملك فيروز قد بنى بناحية صول واللان بناء يحصن به بلاده، وبنى عليه ابنه قباذ زيادة فلما ملك كسرى أنوشروان بنى في ناحية صول وجرجان بناء كثيراً وحصوناً حصن بها بلاده جميعها.
وإن سيجيور خاقان قصد بلاده، وكان أعظم الترك، واستمال الخزر وأبخز وبلنجر، فأطاعوه، فأقبل في عدد كثير وكتب إلى كسرى يطلب منه الإتاوة ويتهدده إن لم يفعل، فلم يجبه كسرى إلى شيء مما طلب لتحصينه بلاده، وإن ثغر أرمينية قد حصنه، فصار يكتفي بالعدد اليسير، فقصده خاقان فلم يقدر على شيء منه، وعاد خائباً، وهذا خاقان هو الذي قتل ورد ملك الهياطلة وأخذ كثيراً من بلادهم.
ذكر ملك كسرى بلاد الرومكان بين كسرى أنوشروان وبين غطيانوس ملك الروم هدنة، فوقع بين رجل من العرب، كان ملكه غطيانوس على عرب الشام يقال له خالد بن جبلة، وبين رجل من لخم كان ملكه كسرى على عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز يقال له المنذر بن النعمان، فتنةٌ، فأغار خالد على ابن النعمان فقتل من أصحابه مقتلةً عظيمةً وغنم أمواله، فكتب كسرى إلى غطيانوس يذكره ما بينهما من العهد والصلح ويعلمه ما لقي المنذر من خالد، وسأله أن يأمر خالد برد ما غنم إلى المنذر ويدفع له دية من قتل من أصحابه وينصفه من خالد، وإنه إن لم يفعل ينقض الصلح. ووالى الكتب إلى غطيانوس في إنصاف المنذر، فلم يحفل به.
فاستعد كسرى وغزا بلاد غطيانوس في بضعة وسبعين ألفاً، وكان طريقه على الجزيرة، فأخذ مدينة دارا ومدينة الرهاء وعبر إلى الشام فملك منبج وحلب وإنطاكية، وكانت أفضل مدائن الشام، وفامية وحميص ومدناً كثيرة متاخمة لهذه المدائن عنوةً واحتوى على ما فيها من الموال والعروض، وسبى أهل مدينة إنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد، وأمر فبنيت لهم مدينة إلى جانب مدينة طيسفون على بناء مدينة إنطاكية وأسكنهم إياها، وهي التي تسمى الرومية، وكور لها خمسة طساسيج: طسوج النهروان الأعلى، وطسوج النهروان الأوسط، وطسوج النهروان الأسفل، وطسوج بادرايا، وطسوج باكسايا، وأجرى على السبي الذين نقلهم إليها من إنطاكية الأرزاق، وولى القيام بأمرهم رجلاً من نصارى الأهواز ليستأنسوا به لموافقته في الدين؛ وأما سائر مدن الشام ومضر فإن غطيانوس ابتاعها من كسرى بأموال عظيمة حملها إليه وضمن له فدية يحملها إليه كل سنة على أن لا يغزو بلاده، فكانوا يحملونها كل عام.
وسار أنوشروان من الروم إلى الخزر فقتل منهم وغنم وأخذ منهم بثأر رعيته. ثم قصد اليمن فقتل فيها وغنم وعاد إلى المدائن وقد ملك ما دون هرقلة وما بينه وبين البحرين وعمان. وملك النعمان بن المنذر على الحيرة وأكرمه، وسار نحو الهياطلة ليأخذ بثأر جده فيروز، وكان أنوشروان قد صاهر خاقان قبل ذلك، ودخل كسرى بلادهم فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته، وتجاوز بلخ وما وراء النهر وأنزل جنوده فرغانة، ثم عاد إلى المدائن. وغزا البرجان ثم رجع وأرسل جنده إلى اليمن، فقتلوا الحبشة وملكوا البلاد. وكان ملكه ثمانياً وأربعين سنة، وقيل: سبعاً وأربعين سنة.
وكان مولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في آخر ملكه، وقيل: ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأربع وعشرين سنة مضت من ملك أنوشروان، وولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سنة اثنتين وأربعين من ملكه.

قال هشام بن الكلبي: ملك العرب من قبل ملوك الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان سبع سنين، ثم ملك بعده النعمان بن الأسود أربع سنين، ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي اللخمي ثلاث سنين، ثم ملك المنذر بن امرئ القيس البدء ولقب ذو القرنين لضفيرتين كانتا له، وأمه ماء السماء، وهي ماوية ابنة عمرو بن جشم ابن النمر بن قاسط، تسعاً وأربعين سنة، ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر ست عشرة سنة. قال: ولثماني سنين وثمانية أشهر من ولايته ولد النبي، صلى الله عليه وسلم، وذلك أيام أنوشروان عام الفيل.
فلما دانت لكسرى بلاد اليمن وجه إلى سرنديب من بلاد الهند، وهي أرض الجوهر، قائداً من قواده في جند كثيف، فقاتل ملكها، فقتله واستولى عليها، وحمل إلى كسرى منها أموالاً عظيمة وجواهر كثيرة. ولم يكن ببلاد الفرس بنات اوى، فجاءت إليها من بلاد الترك في ملك كسرى أنوشروان، فشق عليه ذلك وأحضر موبذان موبذ وقال له: قد بلغنا تساقط هذه السباح إلى بلادنا وقد تعاظمنا ذلك، فأخبرنا برأيك فيها. فقال: سمعت فقهاءنا يقولون: متى لم يغلب العدل الجور في البلاد بل جار أهلها غزاهم أعداؤهم وأتاهم ما يكرهون. فلم يلبث كسرى أن أتاه أن فتياناً من الترك قد غزوا أقصى بلاده، فأمر وزراءه وعماله أن لا يتعدوا فيما هم بسبيله العدل ولا يعملوا في شيء منها إلا به، ففعلوا ما أمرهم، فصرف الله ذلك العدو عنهم من غير حرب.
؟

ذكر ما فعله أنوشروان بأرمينية وأذربيجان
كانت أرمينية وأذربيجان بعضها للروح وبعضها للخزر، فبنى قباذ سوراً مما يلي بعض تلك الناحية، فلما توفي وملك ابنه أنوشروان وقوي أمره وغزا فرغانة والبرجان وعاد بنى مدينة الشابران ومدينة مسقط ومدينة الباب والأبواب، وإنما سميت أبواباً لأنها بنيت على طريق في الجبل، وأسكن المدن قوماً سماهم السياسجين، وبنى غير هذه المدن، وبنى لكل باب قصراً من حجارة، وبنى بأرض جرزان مدينة سغدبيل وأنزلها السغد وأبناء فارس، وبنى باب اللان، وفتح جميع ما كان بأيدي الروم من أرمينية، وعمر مدينة أردبيل وعدة حصون، وكتب إلى ملك الترك يسأله الموادعة والاتفاق ويخطب إليه ابنته، ورغب في صهره، وتزوج كل واحد بابنة الآخر.
فأما كسرى فإنه أرسل إلى خاقان ملك الترك بنتاً كانت قد تبنتها بعض نسائه وذكر أنها ابنته، وأرسل ملك الترك ابنته، واجتمعا، فأمر أنوشروان جماعةً من ثقاته أن يكبسوا طرفاً من عسكر الترك ويحرقوا فيه، ففعلوا، فلما أصبحوا شكا ملك الترك ذلك، فأنكر أن يكون له علم به، ثم أمر بمثل ذلك بعد ليال، فضج التركي، فرفق به أنوشروان، فاعتذر إليه، ثم أمر أنوشروان أن تلقى النار في ناحية من عسكره فيها أكواخ من حشيش، فلما اصبح شكا إلى التركي، قال: كافأتني بالتهمة ! فحلف التركي أنه لم يعلم بشيء من ذلك، فقال أنوشروان له: إن جندنا قد كرهوا صلحنا لانقطاع العطاء والغارات، ولا أمن أن يحدثوا حدثاً يفسد قلوبنا فنعود إلى العدواة، والرأي أن تأذن لي في بناء سور يكون بيني وبينك نجعل عليه أبواباً فلا يدخل إليك إلا من تريده ولا يدخل إلينا إلا من نريده. فأجابه إلى ذلك.
وبنى أنوشروان السور من البحر وألحقه برؤوس الجبال، وعمل عليه أبواب الحديد ووكل به من يحرسه. فقيل لملك الترك: إنه خدعك وزوجك غير ابنته وتحصن منك فلم تقدر له على حيلة.
وملك أنوشروان ملوكاً رتبهم على النواحي، فمنهم صاحب السرير وفيلان شاه واللكز ومسقط وغيرها، ولم تزل أرمينية بأيدي الفرس حتى ظهر الإسلام، فرفض كثير من السياسجين حصونهم ومدائنهم حتى خربت واستولى عليها الخزر والروم، وجاء الإسلام وهي كذلك.
ذكر أمر الفيللما دام ملك أبرهة باليمن وتمكن به بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حاج العرب.
فلما تحدثت العرب بذلك غضب رجل من النسأة من بني فقيم، فخرج حتى أتاها فقعد فيها وتغوط، ثم لحق بأهله، فأخبر بذلك أبرهة، وقيل له: إنه فعل رجل من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة غضب لما سمع أنك تريد صرف الحجاج عنه ففعل هذا.

فغضب أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه، وأمر الحبشة فتجهزت، وخرج معه بالفيل واسمه محمود، وقيل: كان معه ثلاثة عشر فيلاً وهي تتبع محموداً، وإنما وحد الله سبحانه الفيل لأنه عنى كبيرها محموداً، وقيل في عددهم غير ذلك.
فلما سار سمعت العرب به فأعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم، فخرج عليه رجل من أشراف اليمن يقال له ذو نفر وقاتله، فهزم ذو نفر وأخذ أسيراً فأراد قتله ثم تركه محبوساً عنده، ثم مضى على وجهه، فخرج عليه نفيل ابن حبيب الجثعمي فقاتله، فانهزم نفيل وأخذ أسيراً، فضمن لأبرهة أن يدله على الطريق، فتركه وسار حتى إذا مر على الطائف بعثت معه ثقيف أبا رغالٍ يدله على الطريق حتى أنزله بالمغمس، فلما نزله مات أبو رغالٍ، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم.
وبعث أبرهة الأسود بن مقصود إلى مكة، فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، ثم أرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة فقال: سل عن سيد قريش وقل له إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تمنعوا عنه فلا حاجة لي بقتالكم.
فلما بلغ عبد المطلب ما أمره قال له: والله ما نريد حربه، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه فهو يمنع بيته وحرمه وإن يخل بيته وبينه فوالله ما عندنا من دفع، فقال له: انطلق معي إلى الملك. فانطلق معه عبد المطلب حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نفر، وكان له صديقاً، فدل عليه، وهو في محبسه، فقال له: هل عندك غناء فيما نزل بنا ؟ فقال: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله ؟ ولكن أنيس سائس الفيل صديق لي فأوصيه بك وأعظم حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما تريد ويشفع لك عنده إن قدر. قال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس، فحضره وأوصاه بعبد المطلب وأعلمه أنه سيد قريش. فكلم أنيس أبرهة وقال: هذا سيد قريش يستأذن، فأذن له.
وكان عبد المطلب رجلاً عظيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه ونزل عن سريره إليه وجلس معه على بساط وأجلسه إلى جنبه وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك ؟ فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في إبلك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ؟ قال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب يمنعه. قال: ما كان ليمنع مني. وأمر برد إبله، فلما أخذها قلدها وجعلها هدياً وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب الله. وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج معه من مكة والتحرز في رؤوس الجبال خوفاً من معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقه باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة، فقال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
يا ربّ لا أرجو لهم سواكا ... يا ربّ فامنع منهم حماكا
إنّ عدوّ البيت من عاداكا ... إمنعهم أن يخربوا فناكا
وقال أيضاً:
لا همّ إنّ العبد يم ... نع رحله فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم غدراً محالك
ولئن فعلت فإنّه ... أمرٌ تتمّ به فعالك
أنت الذي إن جاء با ... غٍ نرتجيك له كذلك
ولّوا ولم يحووا سوى ... خزيٍ وتهلكهم هنالك
لم أستمع يوماً بأر ... جس منهم يبغوا قتالك
جرّوا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم ... جهلاً وما رقبوا جلالك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف والجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخل.

فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله، وكان اسمه محموداً، وأبرهة مجمعٌ لهدم البيت والعود إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي فمسك بأذنه وقال: ارجع محمود، ارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ؟! ثم أرسل أذنه، فألقى الفيل نفسه إلى الأرض واشتد نفيل فصعد الجبل، فضربوا الفيل، فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض. وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه، فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحداً منهم إلا هلك، ليس كلهم أصابت، وأرسل الله سيلاً ألقاهم في البحر وخرج من سلم مع أبرهة هارباً يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفير حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفرّ والإله الطّالب ... والأشرم المغلوب غير الغالب
وقال أيضاً:
ألا حيّيت عنّا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا
أتانا قابسٌ منكم عشاء ... فلم يقدر لقابسكم لدينا
ردينة لو رأيت ولم تريه ... لدى جنب المحصّب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت رأيي ... ولم تأسي لما قد فات بينا
حمدت الله إذ عاينت طيراً ... وخفت حجارةً تلقى علينا
وكلّ القوم يسأل عن نفيلٍ ... كأنّ عليّ للحبشان دينا
وأصيب أبرهة في جسده فسقطت أعضاؤه عضواً عضواً حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه.
فلما هلك ملك ابنه يكسوم بن أبرهة، وبه كان يكنى، وذلت حمير واليمن له، ونكحت الحبشة نساءهم وقتلوا رجالهم واتخذوا أبناءهم تراجمة بينهم وبين العرب.
ولما أهلك الله الحبشة وعاد ملكهم ومعه من سلم منهم ونزل عبد المطلب من الغد إليهم لينظر ما يصنعون ومعه أبو مسعود الثقفي لم يسمعا حساً، فدخلا معسكرهم فرأيا القوم هلكى، فاحتفر عبد المطلب حفرتين ملأهما ذهباً وجوهراً له ولأبي مسعود ونادى في الناس، فتراجعوا، فأصابوا من فضلهما شيئاً كثيراً، فبقي عبد المطلب في غنىً من ذلك المال حتى مات.
ويبعث الله السيل فألقى الحبشة في البحر وقال كثير من أهل السير إن الحصبة والجدري أول ما رؤيا في العرب بعد الفيل وكذلك قالوا إن العشر والحرمل والشجر لم تعرف بأرض العرب إلا بعد الفيل. وهذا مما لا ينبغي أن يعرض عليه فإن هذه الأمراض والأشجار قبل الفيل مذ خلق الله العالم. ولما رد الله الحبشة عن الكعبة وأصابهم ما أصابهم عظمت العرب قريشاً وقالوا: أهل الله قاتل عنهم. ثم مات يكسوم وملك بعده أخوه مسروق.
ذكر عود اليمن إلى حمير وإخراج الحبشة عنهلما هلك يكسوم ملك اليمن أخوه مسروق بن أبرهة، وهو الذي قتله وهرز، فلما تشد البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن، وكنيته أبو مرة، وقيل: كنية ذي يزن أبو مرة، حتى قدم على قيصر، وتنكب كسرى لإبطائه عن نصر أبيه، فإنه كان قصد كسرى أنوشروان لما أخذت زوجته يستنصره على الحبشة، فوعده، فأقام ذو يزن عنده، فمات على بابه. وكان ابنه سيف مع أمه في حجر أبرهة، وهو يحسب أنه ابنه، فسبه ولد لأبرهة وسب أباه، فسأل أمه عن أبيه فأعلمته خبره بعد مراجعة بينهما، فأقام حتى مات أبرهة وابنه يكسوم، ثم سار إلى الروم فلم يجد عند ملكهم ما يحب لموافقته الحبشة في الدين، فعاد إلى كسرى، فاعترضه يوماً وقد ركب فقال له: إن لي عندك ميراثاً، فدعا به كسرى لما نزل فقال له: من أنت وما ميراثك ؟ قال: أنا ابن الشيخ اليماني الذي وعدته النصرة فمات ببابك، فتلك العدة حق لي وميراث. فرق كسرى له وقال له: بعدت بلادك عنا وقل خيرها والمسلك إليها وعرٌ ولست أغرر بجيشي. وأمر له بمال، فخرج وجعل ينثر الدراهم، فانتهبها الناس، فسمع كسرى فسأله ما حمله على ذلك، فقال: لم آتك للمال وإنما جئتك للرجال ولتمنعني من الذل والهوان، وإن جبال بلادنا ذهب وفضة.

فأعجب كسرى بقوله وقال: يظن المسكين أنه أعرف ببلاده مني؛ واستشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال له موبذان موبذ: أيها الملك إن لهذا الغلام حقاً بنزوعه إليك وموت أبيه ببابك وما تقدم من عدته بالنصرة، وفي سجونك رجال ذوو نجدة وبأس فلو أن الملك وجههم معه فإن أصابوا ظفراً كان للملك، وإن هلكوا فقد استراح وأراح أهل مملكته منهم.
فقال كسرى: هذا الرأي. فأمر بمن في السجون، فأحضروا، فكانوا ثمانمائة، فقود عليهم قائداً من أساورته يقال له وهرز، وقيل: بل كان من أهل السجون سخط عليه كسرى لحدث فحبسه، وكان يعدله بألف أسوار، وأمر بحملهم في ثماني سفن، فركبوا البحر، فغرق سفينتان وخرجوا بساحل حضرموت، ولحق بابن ذي يزن بشرٌ كثير، وسار إليهم مسروق في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب، وجعل وهرز البحر وراء ظهره وأحرق السفن لئلا يطمع أصحابه في النجاة، وأحرق كل ما معهم من زاد وكسوة إلا ما أكلوا وما على أبدانهم، وقال لأصحابه: إنما أحرقت ذلك لئلا يأخذه الحبشة إن ظفروا بكم، وإن نحن ظفرنا بهم فسنأخذ أضعافه، فإن كنتم تقاتلون معي وتصبروني أعلمتموني ذلك، وإن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي حتى يخرج من ظهري، فانظروا ما حالكم إذا فعل رئيسكم هذا بنفسه. قالوا: بل نقاتل معك حتى نموت أو نظفر. وقال لسيف بن ذي يزن: ما عندك ؟ قال: ما شئت من رجل عربي وسيف عربي، ثم اجعل رجلي مع رجلك حتى نموت جميعاً أو نظفر جميعاً. قال: أنصفت.
فجمع إليه سيف من استطاع من قومه، فكان أول من لحقه السكاسك من كندة. وسمع بهم مسروق بن أبرهة فجمع إليه جنده، فعبأ وهرز أصحابه وأمرهم أن يوتروا قسيهم، وقال: إذا أمرتكم بالرمي فارموا رشقاً.
وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه، وهو على فيل وعلى رأسه تاج وبين عينيه ياقوتة حمراء مثل البيضة لا يرى دون الظفر شيئاً. وكان وهرز كل بصره، فقال: أروني عظيمهم. فقالوا: هذا صاحب الفيل، ثم ركب فرساً، فقالوا: ركب فرساً، ثم انتقل إلى بلغة، فقالوا: ركب بغلة. فقال وهرز: ذل وذل ملكه ! وقال وهرز: ارفعوا لي حاجبي، وكانا قد سقطا على عينيه من الكبر، فرفعوهما له بعصابة، ثم جعل نشابة في كبد قوسه وقال: أشيروا إلى مسروق، فأشاروا إليه، فقال لهم: سأرميه فإن رأيتم أصحابه وقوفاً لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوؤذنكم، فإني قد أخطأت الرجل، وإن رأيتموهم قد استداروا ولاثوا به فقد أصبته فاحملوا عليهم. ثم رماه فأصاب السهم بين عينيه، ورمى أصحابه، فقتل مسروق وجماعة من اصحابه، فاستدارت الحبشة بمسروق وقد سقط عن دابته، وحملت الفرس عليهم فلم يكن دون الهزيمة شيء، وغنم الفرس من عسكرهم ما لا يحد ولا يحصى.
وقال وهرز: كفوا عن العرب واقتلوا السودان ولا تبقوا منهم أحداً. وهرب رجل من الأعراب يوماً وليلة ثم التفت فرأى في جعبته نشابة فقال: لأمك الويل ! أبعدٌ أم طول مسير ! وسار وهرز حتى دخل صنعاء وغلب على بلاد اليمن وأرسل عماله في المخاليف.
وكان مدة ملك الحبشة اليمن اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة ملوك: أرياط ثم أبرهة ثم ابنه يكسوم ثم مسروق بن أبرهة، وقيل: كان ملكهم نحواً من مائتي سنة، وقيل غير ذلك، والأول أصح.

فلما ملك وهرز اليمن أرسل إلى كسرى يعلمه بذلك وبعث إليه بأموال، وكتب إليه كسرى يأمره أن يملك سيف بن ذي يزن، وبعضهم يقول معدي كرب بن سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها، وفرض عليه كسرى جزية وخراجاً معلوماً في كل عام، فملكه وهرز وانصرف إلى كسرى وأقام سيف على اليمن ملكاً يقتل الحبشة ويبقر بطون الحبال عن الحمل، ولم يترك منهم إلا القليل جعلهم خولاً فاتخذ منهم جمازين يسعون بين يديه بالحراب، فمكث غير كثير، ثم إنه خرج يوماً والحبشة يسعون بين يديه بحرابهم فضربوه بالحراب حتى قتلوه، فكان ملكه خمس عشرة سنة، ووثب بهم رجل من الحبشة فقتل باليمن وأفسد، فلما بلغ ذاك كسرى بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف فارس وأمره أن لا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود إلا قتله، صغيراً أو كبيراً، ولا يدع رجلاً جعداً قططاً قد شرك فيه السودان إلا قتله، وأقبل حتى دخل اليمن ففعل ما أمره، وكتب إلى كسرى يخبره، فأقره على ملك اليمن، فكان يجيبها لكسرى حتى هلك، وأمر بعده كسرى ابنه المرزبان بن وهرز حتى هلك، ثم أمر بعده كسرى التينجان بن المرزبان، ثم أمر بعده خر خسرة بن التينجان بن المرزبان.
ثم إن كسرى أبرويز غضب عليه فأحضره من اليمن، فلما قدم تلقاه رجل من عظماء الفرس فألقى عليه سيفاً كان لأبي كسرى، فأجاره كسرى بذلك من القتل وعزله عن اليمن، وبعث باذان إلى اليمن، فلم يزل ليها حتى بعث الله نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن أنوشروان استعمل بعد وهرز زرين، وكان مسرفاً، إذا أراد أن يركب قتل قتيلاً ثم سار بين أصواله، فمات أنوشروان وهو على اليمن، فعزله ابنه هرمز. وقد اختلفوا في ولاة اليمن للأكسارة اختلافاً كثيراً لم أر لذكره فائدة.
ذكر ما أحدثه قريش بعد الفيللما كان من أمر أصحاب الفيل ما ذكرناه عظمت قريش عند العرب فقالوا لهم أهل الله وقطنه يحامي عنهم، فاجتمعت قريش بينها وقالوا: نحن بنو إبراهيم، عليه السلام، وأهل الحرم وولاة البيت وقاطنوا مكة، فليس لأحد من العرب مثل منزلتنا، ولا يعرف العرب لأحد مثل ما يعرف لنا، فهلموا فلنتفق على ائتلاف أننا لا نعظم شيئاً من الحل كما يعظم الحرم، فإننا إذا فعلنا ذلك استخفت العرب بنا وبحرمنا وقالوا: قد عظمت قريش من الحل مثل ما عظمت من الحرم، فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويروى سائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها، وقالوا: نحن أهل الحرم فلا نعظم غيره، ونحن الحمس، وأصل الحماسة الشدة أنهم تشددوا في دينهم وجعلوا لمن ولد واحدة من نسائهم من العرب ساكني الحل مثل ما لهم بولادتهم، ودخل معهم في ذلك كنانة وخزاعة وعامر لولادة لهم، ثم ابتدعوا فقالوا: لا ينبغي للحمس أن يعملوا الأقط ولا يسلأوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر، ولا يستظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرماً. وقالوا: ولا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤوا به معهم من الحل في الحرم إذا جاؤوا حجاجاً أو عماراً. ولا يطوفون بالبيت طوافهم إذا قدموا إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا طافوا بالبيت عراة، فإن أنف أحد من عظمائهم أن يطوف عرياناً إذا لم يجد ثياب الحمس فطاف في ثيابه ألقاها إذا فرغ من الطواف ولا يمسها هو، ولا أحد غيره، وكانوا يسمونها اللقى. فدانت العرب لهم بذلك، فكانوا يطوفون كما شرعوا لهم ويتركون أزوادهم التي جاؤوا بها من الحل ويشترون من طعام الحرم ويأكلونه. هذا في الرجال، وأما النساء فكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلا درعها مفرجاً ثم تطوف فيه وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... وما بدا منه فلا أحلّه

فكانوا كذلك حتى بعث الله محمّداً، صلى الله عليه وسلم، فنسخه، فأفاض من عرفاتٍ، وطاف الحجاج بالثياب التي معهم من الحل، وأكلوا من طعام الحل، في الحرم أيام الحج، وأنزل الله تعالى في ذلك: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ أَفَاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا الله إنّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة: 199؛ أراد بالناس العرب، أمر قريشاً أن يفيضوا من عرفات، وأنزل الله تعالى في اللباس والطعام الذي من الحل وتركهم إياه في الحرم: (يَا بَني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، إلى قوله: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
ذكر حلف المطيبين والأحلافقد ذكرنا ما كان قصي أعطى ولده عبد الدار من الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، ثم إن هاشماً وعبد شمس والمطلب ونوفلاً بني عبد مناف ابن قصي رأوا أنهم أحق بذلك من بني عبد الدار لشرفهم عليهم ولفضلهم في قومهم، وأرادوا أخذ ذلك منهم، فتفرقت عند ذلك قريش، كانت طائفة مع بني عبد مناف، وطائفة مع بني عبد الدار يرون أنه لا يجوز أن يؤخذ منهم ما كان قصي جعله لهم إذ كان أمر قصي فيهم شرعاً متبعاً معرفة منهم لفضله تيمناً بأمره، وكان صاحب أمر بني عبد مناف بن قصي عبد شمس لأنه كان أكبرهم، وكان صاحب بني عبد الدار الذي قام في المنع عنهم عامر بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار، فاجتمع بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر بن مالك ابن النضر مع بني عبد مناف، واجتمع بنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي بن كعب مع بني عبد الدار، وخرجت عامر بن لؤي ومحارب ابن فهر من ذلك، فلم يكونوا مع أحد الفريقين، وعقد كل طائفة بينهم حلفاً مؤكداً على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً ما بل بحرٌ صوفةً، فأخرجت بنو عبد مناف بن قصي جفنة مملوءة طيباً، قيل: إن بعض نساء بني عبد مناف أخرجتها لهم، فوضعوها في المسجد وغمسوا أيديهم فيها وتعاهدوا وتعاقدوا ومسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً على أنفسهم، فسموا بذلك المطيبين.
وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم من القبائل عند الكعبة على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً فسموا لأحلاف، ثم تصافوا للقتال وأجمعوا على الحرب، فبينما هم على ذلك إذ تداعوا للصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، فاصطلحوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك وتحاجزوا عن الحرب، وثبت كل قوم مع من حالفوا حتى جاء الإسلام وهم على ذلك، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدةً ولا حلف في الإسلام.
فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف لأن عبد شمس كان كثير الأسفار قليل المال كثير العيال، وكان هاشم موسراً جواداً.
وكان ينبغي أن نذكر هذا قبل الفيل وما أحدثه قريش، وإنما أخرناه للزوم تلك حوادث بعضها ببعض.
ذكر ما فعله كسرى في أمر الخراج والجندكان ملوك الفرس يأخذون من غلات كورهم قبل ملك كسرى أنوشروان في خراجها من بعضها الثلث ومن بعضها الربع، وكذلك الخمس والسدس على قدر شربها وعمارتها، ومن الجزية شيئاً معلوماً، فأمر الملك قباذ بمسح الأرضين ليصح الخراج عليها، فمات قبل الفراغ من ذلك، فلما ملك أنوشروان أمر باستتمام ذلك ووضع الخراج على الحنطة والشعير ون والكرم والرطب والنخل والزيتون والأرز على كل نوع من هذه الأنواع شيئاً معلوماً، ويؤخذ في السنة في ثلاثة أنجم، وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب، وكتب كسرى إلى القضاة في البلاد نسخة بالخراج ليمتنع العمال من الزيادة عليه، وأمر أن يوضع عمن أصابت غلته جائحة بقدر جائحته، وألزموا الناس الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والهرابذة والكتاب ومن في خدمة الملك كل إنسان على قدره من اثني عشر درهماً وثمانية دراهم وستة دراهم وأربعة دراهم، وأسقطها عمر عمن لم يبلغ عشرين سنة أو جاوز خمسين سنة.

ثم إن كسرى ولى رجلاً من الكتاب من الكفاة والنبلاء اسمه بابك عرض جيشه، فطلب من كسرى التمكن من شغله إلى ذلك، فتقدم ببناء مصطبة موضع عرض الجيش وفرشها، ثم نادى أن يحضر الجند بسلاحهم وكراعهم للعرض، فحضروا، فحيث لم ير معهم كسرى أمرهم بالانصراف، فعل ذلك يومين، ثم أمر فنودي في اليوم الثالث أن لا يتخلف أحد ولا من أكرم بتاج، فسمع كسرى فحضر وقد لبس التاج والسلاح، ثم أتى بابك ليعرض عليه، فرأى سلاحه تاماً ما عدا وترين للقوس كان عادتهم أن يستظهروا بهما، فلم يرهما بابك معه فلم يجز على اسمه وقال له: هلم كل ما يلزمك. فذكر كسرى الوترين فتعلقهما، ثم نادى منادي بابك وقال: للكمي السيد، سيد الكماة، أربعة آلاف درهم، وأجاز على اسمه. فلما قام عن مجلسه حضر عند كسرى يعتذر إليه من غلظته عليه، وذكر له أن أمره لا يتم إلا بما فعل. فقال كسرى: ما غلظ علينا أمرٌ نريد به إصلاح دولتنا.
ومن كلام كسرى: الشكر والنعمة كفتان ككفتي الميزان أيهما رجح بصاحبه احتاج الأخف إلى أن يزاد فيه حتى يعادل صاحبه، فإذا كانت النعم كثيرة والشكر قليلاً انقطع الحمد، فكثير النعم يحتاج إلى كثير من الشكر، وكلما زيد في الشكر ازدادت النعم وجاوزته، ونظرت في الشكر فوجدت بعضه بالقول وبعضه بالفعل، ونظرت أحب الأعمال إلى الله فوجدته الشيء الذي أقام به السموات والأرض وأرسى به الجبال وأجرى به الأنهار وبرأ به البرية، وهو الحق والعدل، فلزمته، ورأيت ثمرة لحق والعدل عمارة البلدان التي بها قوام الحياة للناس والدواب والطير وجميع الحيوانات. ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة، وأهل العمارة أجراء للمقاتلة، فأما المقاتلة فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم من ورائهم، فحق على أهل العمارة أن يوفرهم أجورهم، فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم، ورأيت أن المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل الخراج والعمارة، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم وتركت على أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤونتهم وعمارتهم ولم أجحف بواحد من الجانبين، ورأيت المقاتلة وأهل الخراج كالعينين المبصرتين واليدين المتساعدتين والرجلين على أيهما دخل الضرر تعدى إلى الأخرى.
ونظرنا في سير آبائنا فلم نترك منها شيئاً يقترن بالثواب من الله والذكر الجميل بين الناس والمصلحة الشاملة للجند والرعية إلا اعتمدناه، ولا فساداً إلا أعرضنا عنه، ولم يدعنا إلى حب ما لا خير فيه حب الآبا. ونظرت في سير أهل الهند والروم وأخذنا محمودها، ولم تنازعنا أنفسنا إلى ما تميل إليه أهواؤنا، وكتبنا بذلك إلى جميع أصحابنا ونوابنا في سائر البلدان. فانظر إلى هذا الكلام الذي يدل على زيادة العلم وتوفر العقل والقدرة على منع النفس، ومن كان هذا حاله استحق أن يضرب به المثل في العدل إلى أن تقوم الساعة. وكان لكسرى أولاد متأدبون، فجعل الملك من بعده لابنه هرمز. وكان مولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عام الفيل، وذلك لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملكه، وفي هذا العام كان يوم ذي جبلة، وهو يوم من أيام العرب المذكورة.
ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلمقال قيس بن مخرمة وقباث بن أشيم وابن عباس وابن إسحاق: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولد عام الفيل. قال ابن الكلبي: ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأربع وعشرين مضت من سلطان كسرى أنوشروان، وولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سنة اثنتين وأربعين من سلطانه، وأرسله الله تعالى لمضي اثنتين وعشرين من ملك كسرى أبرويز بن كسرى هرمز بن كسرى أنوشروان، فهاجر لاثنتين وثلاثين سنة مضت من ملك أبرويز.

قال ابن إسحاق: ولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، وكان مولده بالدار التي تعرف بدار ابن يوسف. قيل: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهبها عقيل بن أبي طالب، فلم تزل في يده حتى توفي، فباعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج، فبنى داره التي يقال لها دار ابن يوسف وأدخل ذلك البيت في الدار حتى أخرجته الخيزران فجعلته مسجداً يصلي فيه. وقي: ولد لعشر خلون منه، وقيل: لليلتين خلتا منه.
قال ابن إسحاق: إن آمنة ابنة وهب أم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كانت تحدث أنها أتيت في منامها لما حملت برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع بالأرض قولي أعيده بالواحد، من شر كل حاسد، ثم سميه محمداً. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نورٌ رأت به قصور بصرى من أرض الشام. فلما وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب: إنه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه؛ فنظر إليه، وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه.
وقال عثمان بن أبي العاص: حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة ابنة وهب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما شيء أن أنظر إليه من البيت إلا نور وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي.
وأول من أرضع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن له يقال له مسروح، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، فكانت ثويبة تأتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة قبل أن يهاجر فيكرمها وتكريمها خديجة، فأرسلت إلى أبي لهب أن يبيعها إياها لتعتقها، فأبى، فلما هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة أعقتها أبو لهب، فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يبعث إليها بالصلة إلى أن بلغه خبر وفاتها منصرفه من خيبر، فسأل عن ابنها مسروح، فقيل: توفي قبلها، فسأل: هل لها من قرابة ؟ فقيل: لم يبق لها أحد.
ثم أرضعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد ثويبة حليمة بنت أي ذؤيب، واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة من بني سعد بن بكر بن هوازن، واسم زوجها الذي أرضعته بلبنه الحارث بن عبد العزى، واسم إخوته من الرضاعة عبد الله وأنيسة وجذامة، وهي الشيماء، عرفت بذلك، وكانت الشيماء تحضنه مع أمها حليمة.
وقدمت حليمة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد أن تزوج خديجة، فأكرمها ووصلها، وتوفيت قبل فتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة، فلما فتح مكة قدمت عليه أختٌ لها فسألها عنها، فأخبرته بموتها، فذرفت عيناه، فسألها عمن خلفت، فأخبرته، فسألته نحلةً وحاجةً فوصلها.

وقال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: كانت حليمة السعدية تحدث أنها خرجت من بلدها مع نسوة يلتمسن الرضعاء، وذلك في سنة شهباء لم تبق شيئاً. قالت: فخرجت على أتان لنا قمراء معنا شارفٌ لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معي من بكائه من الجوع وما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذوه، ولكنا نرجو الغيث والفرج، فلقد أذمت أتاني بالركب حتى شق عليهم ضعفاً وعجفاً، حتى قدمنا مكة فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا إنما نرجو المعروف من أبي الصبي. فكنا نقول: يتيم فما عسى أن تصنع أمه وجده ! فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعاً غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي، وكان معي: إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه ! قال: افعلي فعسى أن الله يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت فأخذته، فلما أخذته ووضعته في حجري أقبل عليه ثدياي مما شاء من لبن، فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما، وما كان ابني ينام قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا أنها حافل، فحلب منها ثم شرب حتى روي، ثم سقاني فشربت حتى شبعنا. قالت: يقول لي صاحبي: تعلمين والله يا حليمة لقد أخذت نسمةً مباركة ! قلت: والله لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا، فركبت أتاني وحملته عليها فلم يلحقني شيء من حمرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب اربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها ؟ فأقول: بلى والله لهي هي، فيقلن: إن لها شأناً، ثم قدمنا منازلنا من بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا شباعاً لبناً فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة ولا يجدها في ضرع حتى إن كان الحاضر من قومنا ليقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي ابنة أبي ذؤيب ! فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة من لبن، وتروح غنمي شباعاً لبناً.
فلم نزل نتعرف البركة من الله والزيادة في الخير حتى مضت سنتان وفصلته، وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً، فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه عندنا لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه في تركه عندنا، فأجابت. قالت: فرجعنا به، فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مر مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه: ذلك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه وهما يسوطانه ! قالت: فخرجنا نشتد فوجدناه قائماً منتقعاً وجهه. قالت: فالتزمته أنا وأبوه وقلنا له: مالك يا بني ؟ قال: جاءني رجلان فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا به شيئاً لا أدري ما هو. قالت: فرجعنا إلى خبائنا، وقال لي أبوه: والله لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك.
قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه. فقالت: ما أقدمك يا ظئر به وقد كنت حريصة على مكثه عندك ؟ قالت: قلت: قد بلغ الله بابن وقضيت الذي علي وتخوفت عليه الأحداث فأديته إليك كما تحبين. قالت: ما هذا بشأنك فاصدقيني ! ولم تدعني حتى أخبرتها. قالت: فتخوفت عليه الشيطان ؟ قلت: نعم. قالت: كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإن لابني لشأناً، أفلا أخبرك ؟ قلت: بلى. قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من الشام، ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف منه ولا أيسر، ثم وقع حين وضعته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء. دعيه عنك وانطلقي راشدة.
وكانت مدة رضاع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سنتين، وردته حليمة إلى أمه وجده عبد المطلب وهو ابن خمس سنين في قول.
وقال شداد بن أوس: بينما نحن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل شيخ من بني عامر وهو ملك قومه وسيدهم شيخ كبير متوكئاً على عصاً فمثل قائماً وقال: يا ابن عبد المطلب إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله، أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، ألا وإنك فهت بعظيم، ألا وقد كانت الأنبياء من بني إسرائيل وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان وما لك وللنبوة، وإن لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولك وبدء شأنك ؟

فأعجب النبي؛ صلى الله عليه وسلم، بمساءلته ثم قال: يا أخا بني عامر اجلس. فجلس، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: إن حقيقة قولي وبدء شأني أني دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى، وكنت بكر أمي، وحملتني كأثقل ما تحمل النساء، ثم رأت في منامها أن الذي في بطنها نور، قالت: فجعلت أتبع بصري النور وهو يسبق بصري حتى أضاءت لي مشارق الأرض ومغاربها؛ ثم إنها ولدتني فنشأت، فلما نشأت بغضت إلي الأوثان والشعر، فكنت مستضعفاً في بني سعد بن بكر، فبينا أنا ذات يوم منتبذاً من أهلي مع أتراب من الصبيان إذ أتانا ثلاثة رهط معهم طست من ذهب مملوء ثلجاً فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هراباً حتى انتهوا إلى شفير الوادي ثم أقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم إلى هذا الغلام فإنه ليس له أب وما يرد عليكم قتله ؟ فلما رأى الصبيان الرهط لا يردون جواباً انطلقوا مسرعين إلى الحي يؤذنونهم بي ويستصرخونهم على القوم، فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعاً لطيفاً، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مساً، ثم أخرج أحشاء بطني فغسلها بالثلج فأنعم غسلها، ثم أخرج قلبي فصدعه ثم أخرج منه مضغةً سوداء فرمى بها، قال بيده يمنة منه وكأنه يتناول شيئاً، فإذا أنا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه، فختم به قلبي، فامتلأ نوراً، وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه، فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهراً، ثم قال الثالث لصاحبه: تنح، فتنحى عني، فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدي فأنهضني إنهاضاً لطيفاً ثم قال للأول الذي شق بطني زنه عشرة من أمته. فوزنوني بهم فرجحتهم. ثم قال: زنه مائة من أمته. فوزنوني بهم فرجحتهم. ثم قال زنه بألف من أمته. فوزنوني بهم فرجحتهم. فقال: دعوه فلو وزنته بأمته كلهم لرجح بهم. ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا: يا حبيب، لم ترع؛ إنك لو تدري ما يراد بكن من الخير لقرت عينك.
قال: فبينا نحن كذلك إذ أنا بالحي قد جاؤوا بحذافيرهم، وإذ ظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وهي تقول: يا ضعيفاه ؟! قال: فانكبوا علي وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا: حبذا أنت من ضعيف ! ثم قالت ظئري: يا وحيداه ! فانكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا ما بين عيني وقالوا: حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد ! إن الله معك ! ثم قالت ظئري: يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك ! فانكبوا علي وضموني إلى صدورهم وقبلوا ما بين عيني وقالوا: حبذا أنت من يتيم ! ما أكرمك على الله ! لو تعلم ما يراد بك من الخير ! قال: فوصلوا بي إلى شفير الوادي. فلما بصرت بي ظئري قالت: يا بني ألا أراك حياً بعد ! فجاءت حتى انكبت علي وضمتني إلى صدرها، فوالذي نفسي بيده إني لفي حجرها وقد ضمتني إليها، وإن بدي في يد بعضهم، فجعلت ألتفت إليهم، وظننت أن القوم يبصرونهم، يقول بعض القوم: إن هذا الغلام أصابه لممٌ أو طائف من الجن، انطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه. فقلت: ما هذا ! ليس بي شيء مما يذكر، إن إرادتي سليمة، وفؤادي صحيح ليس في قلبةٌ. فقال أبي من الرضاع: ألا ترون كلامه صحيحاً ؟ إني لأرجو أن لا يكون بابني بأس. فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن، فذهبوا بي إليه. فلما قصوا عليه قصتي قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره منكم. فقصصت عليه أمري من أوله إلى آخره، فلما سمع قولي وثب إلي وضمني إلى صدره، ثم نادى بأعلى صوته: يا للعرب اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه! فواللات والعزى لئن تركتموه فأدرك ليبدلن دينكم وليخالفن أمركم وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله قط.
فانتزعتني ظئري منه وقالت: لأنت أجن وأعته من ابني هذا، فاطلب لنفسك من يقتلك، فإنا غير قاتليه ! ثم ردوني إلى أهلي فأصبحت مفزعاً مما فعل بي وأثر الشق مما بين صدري إلى عانتي كأنه الشراك، فذلك حقيقة قولي وبدء شأني يا أخا بني عامر.

فقال العامري: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أن أمرك حق، فأنبئني بأشياء أسألك عنها. قال: سل. قال: أخبرني ما يزيد في العلم ؟ قال: التعلم. قال: فما يدل على العلم ؟ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: السؤال. قال: فأخبرني ماذا يزيد في الشيء ؟ قال: التمادي. قال: فأخبرني هل ينفع البر مع الفجور ؟ قال: نعم، التوبة تغسل الحوبة، والحسنات يذهبن السيئات، وإذا ذكر العبد الله عند الرخاء أعانه عند البلاء. فقال العامري: فكيف ذلك ؟ قال: ذلك بأن الله، عز وجل، يقول: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا أجمع له خوفين، إن خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي في حظيرة القدس فيدوم له أمنه ولا أمحقه فيمن أمحق، وإن هو أمنني في الدنيا خافني يوم أجمع عبادي لميقات يوم معلوم فيدوم له خوفه.
قال: يا ابن عبد المطلب أخبرني إلى م تدعو ؟ قال: أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأن تخلع الأنداد وتكفر بالات والعزى وتقر بما جاء من عند الله من كتاب ورسول، وتصلي الصلوات الخمس بحقائقهن، وتصوم شهراً من السنة، وتؤدي زكاة مالك يطهرك الله تعالى بها ويطيب لك مالك، وتحج البيت إذا وجدت إليه سبيلاً، وتغتسل من الجنابة، وتؤمن بالموت والبعث بعد الموت، وبالجنة والنار. قال: يا ابن عبد المطلب فإذا فعلت ذلك فما لي ؟ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فيهَا، وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكّى) طه: 76.
فقال: هل مع هذا من الدنيا شيء ؟ فإنه يعجبني الوطأة من العيش. قال النبي: صلى الله عليه وسلم: نعم النصر والتمكين في البلاد. فأجاب وأناب.
قال ابن إسحاق: هلك عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، آمنة بنت وهب ابن عبد مناف بن زهرة حامل به.
قال هشام بن محمد: توفي عبد الله أبو رسول الله بعدما أتى على رسول الله ثمانية وعشرون يوماً.
وقال الواقدي: الثبت عندنا أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشام في عير لقريش ونزل بالمدينة وهو مريض فأقام بها حتى توفي ودفن بدار النابغة، الدار الصغرى.
قال ابن إسحاق: وتوفيت أمه آمنة وله ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قدمت به المدينة على أخواله من بني النجار تزيره إياهم. فماتت وهي راجعة، وقيل: إنها أتت المدينة تزور قبر زوجها عبد الله ومعها رسول الله وأم أيمن حاضنة رسول الله، فلما عادت ماتت بالأبواء. وقيل: إن عبد المطلب زار أخواله من بني النجار وحمل معه آمنة ورسول الله، فلما رجع توفيت بمكة ودفنت في شعب أبي ذر؛ والأول أصح.
ولما سارت قريش إلى أحد هموا باستخراجها من قبرها، فقال بعضهم: إن النساء عورة وربما أصاب محمد من نسائكم، فكفهم الله بهذا القوم إكراماً لأم النبي، صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وتوفي عبد المطلب ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابن ثماني سنين، وقيل: ابن عشر سنين، ولما مات عبد المطلب صار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حجر عمه أبي طالب بوصية من عبد المطلب إليه بذلك لما كان يرى من بره به وشفقته وحنوه عليه، فيصبح ولد أبي طالب غمصاً رمصاً، ويصبح رسول الله صقيلاً دهيناً.
ذكر قتل تميم بالمشقر

قال هشام: أرسل وهرز بأموال وطرف من اليمن إلى كسرى، فلما كانت ببلاد تميم دعا صعصعة بن ناجية المجاشعي، جد الفرزدق الشاعر، بنى تميم إلى الوثوب عليها، فأبوا، فقال: كأني ببني بكر بن وائل وقد انتهبوا فاستعانوا بها على حربكم، فلما سمعوا ذلك وثبوا عليها وأخذوها، وأخذ رجل من بني سليط يقال له النطف خرجاً فيه جوهر، فكان يقال: أصاب كنز النطف، فصار مثلاً، وصار أصحاب العي إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة، فكساهم وحملهم وسار معهم حتى دخل على كسرى، فأعجب به كسرى ودعا بعقد من در فعقد على رأسه، فمن ثم سمي هوذة ذا التاج، وسأله كسرى عن تميم هل من قومه أو بينه وبينهم سلم، فقال: لا بيننا إلا الموت. قال: قد أدركت ثأرك، وأراد إرسال الجنود إلى تيم، فقيل له: إن ماءهم قليل وبلادهم بلاد سوء، وأشير عليه أن يرسل إلى عامله بالبحرين، وهو ازاد فيروز بن جشيش الذي سمته العرب المكعبر، وإنما سمي بذلك لأنه كان يقطع الأيدي والأرجل، فأمره بقتل بني تميم، ففعل، ووجه إليه رسولاً، ودعا هوذة وجدد له كرامة وصلة وأمره بالمسير مع رسوله، فأقبلا إلى المكعبرة أيام اللقاط، وكانت تيمم تصير إلى هجر للميرة واللقاط، فأمر المكعبر منادياً ينادي: ليحضر من كان ها هنا من بني تميم فإن الملك قد أمر لهم بميرة وطعام. فحضروا ودخلوا المشقر، وهو حصن، فلما دخلوا قتل المكعبر رجالهم واستبقى غلمانهم، وقتل يومئذ قعنب الرياحي، وكان فارس يربوع، وجعل الغلمان في السفن وعبر بهم إلى فارس.
قال هبيرة بن حدير العدوي: رجع إلينا بعدما فتحت إصطخر عدة منهم، وشد رجل من بني تميم يقال له عبيد بن وهب على سلسلة الباب فقطعها وخرج، واستوهب هوذة من المكعبر مائة أسير منهم فأطلقهم.
حدير بضم الحاء المهملة، وفتح الدال.
ذكر ملك ابنه هرمز بن أنوشروانوكانت أمه ابنة خاقان الأكبر، وكان هرمز بن كسرى أديباً ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، وكان في نفسه مثل ذلك، وكان عادلاً بلغ من عدله أنه ركب ذات يوم إلى ساباط المدائن فاجتاز بكروم، فاطلع أسوار من أساورته في كرم وأخذ منه عناقيد حصرم، فلزمه حافظ الكروم وصنع، فبلغ من خوف الأسوار من عقوبة كسرى هرمز أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلاة بذهب عوضاً من الحصرم فتركه.
وقيل: كان مظفراً منصوراً لا يمد يده إلى شيء إلا ناله، وكان داهياً ردي النية قد نزع إلى أخواله الترك، وإنه قتل من العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل، ولم يكن له رأي إلا في تالف السفلة. وحبس كثيراً من العظماء وأسقهم وحط مراتبهم وحرم الجنود، ففسد عليه كثير ممن كان حوله، وخرج عليه شاية ملك الترك في ثلاثمائة ألف مقاتل في سنة ست عشرة من ملكه، فوصل هراة وباذغيس، وأرسل إلى هرمز والفرس يأمرهم بإصلاح الطرق ليجوز إلى بلاد الروم. ووصل ملك الروم في ثمانين ألفاً إلى الضواحي قاصداً له، ووصل ملك الخزر إلى الباب والأبواب في جمع عظيم، فإن جمعاً من العرب شنوا الغارة على السواد. فأرسل هرمز بهرام خشنش، ويعرف بجوبين، في اثني عشر ألفاً من المقاتلة اختارهم من عسكره، فسار مجداً وواقع شايه ملك الترك فقتله برمية رماها واستباح عسكره، ثم وافاه برموده بن شايه فهزمه أيضاً وحصره في بعض الحصون حتى استسلم، فأرسله إلى هرمز أسيراً وغنم ما في الحصن، فكان عظيماً.
ثم خاف بهرام ومن معه هرمز فخلعوه وساروا نحو المدائن وأظهروا أن ابنه أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز، وكان غرض بهرام أن يستوحش هرمز من ابنه أبرويز ويستوحش ابنه منه فيختلفا، فإن ظفر أبرويز بأبيه كان أمره على بهرام سهلاً، وإن ظفر أبوه نجا بهرام والكلمة مختلفة فينال من هرمز غرضه، وكان يحدث نفسه بالاستقلال بالملك. فلما علم أبرويز ذلك خاف أباه فهرب إلى أذربيجان، فاجتمع عليه عدة من المرازبة والأصبهبذين، ووثب العظماء بالمدائن، وفيهم بندويه وبسطام خالا أبرويز، فخلعوا هرمز وسلموا عينيه وتركوه تحرجاً من قتله، وبلغ أبرويز الخبر فأقبل من أذربيجان إلى دار الملك.
وكان ملك هرمز إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر، وقيل: اثنتي عشرة سنة، ولم يسلم من ملوك الفرس غيره لا قبله ولا بعده.

ومن محاسن السير ما حكي عنه أنه لما فرغ من بناء داره التي تشرف على دجلة مقابلة المدائن عمل وليمة عظيمة وأحضر الناس من الأطراف، فأكلوا، ثم قال لهم: هل رأيتم في هذه الدار عيباً ؟ فكلهم قال: لا عيب فيها. فقام رجل وقال: فيها ثلاثة عيوب فاحشة، أحدها: أن الناس يجعلون دورهم في الدنيا وأنت جعلت الدنيا في دارك، فقد أفرطت في توسيع صحونها وبيوتها فتتمكن الشمس في الصيف والسموم فيؤذي ذلك أهلها ويكثر فيها في الشتاء البرد، والثاني أن الملوك يتوصلون في البناء على الأنهار لتزول همومهم وأفكارهم بالنظر إلى المياه ويترطب الهواء وتضيء أبصارهم، وأنت قد تركت دجلة وبنيتها في القفر، والثالث أنك جعلت حجرة النساء مما يلي الشمال من مساكن الرجال، وهو أدوم هبوباً، فلا يزال الهواء يجيء بأصوات النساء وريح طيبهن، وهذا ما تمنعه الغيرة والحمية.
فقال هرمز: أما سعة الصحون والمجالس فخير المساكن ما سافر فيه البصر، وشدة الحر والبرد يدفعان بالخيش والملابس والنيران، وأما مجاورة الماء فكنت عند أبي وهو يشرف على دجلة فغرقت سفينة تحته فاستغاث من بها إليه وأبي يتأسف عليهم ويصيح بالسفن التي تحت داره ليلحقوهم، فإلى أن لحقهم غرق جميعهم، فجعلت في نفسي أنني لا أجاور سلطاناً هو أقوى مني، وأما عمل حجرة النساء في جهة الشمال فقصدنا به أن الشمال أرق هواء وأقل وخامة، والنساء يلازمن البيوت، فعمل لذلك، وأما الغيرة فإن الرجال لا يخلون بالنساء، وكل من يدخل هذه الدار إنما هو مملوك وعبد لقيم، وأما أنت فما أخرج هذا منك إلا بغض لي، فأخبرني عن سببه.
فقال الرجل: لي قرية ملك كنت أنفق حاصلها على عيالي فغلبني المرزبان فأخذها مني فقصدتك أتظلم منذ سنتين فلم أصل إليك، فقصدت وزيرك وتظلمت إليه فلم ينصفني، وأنا أؤدي خراج القرية حتى لا يزول اسمي عنها، وهذا غاية الظلم أن يكون غيري يأخذ دخلها وأنا أؤدي خراجها.
فسأل هرمز وزيره فصدقه وقال: خفت أعلمك فيؤذيني المرزبان. فأمر هرمز أن يؤخذ من المرزبان ضعف ما أخذ وأن يستخدمه صاحب القرية في أي شغل شاء سنتين، وعزل وزيره، وقال في نفسه: إذا كان الوزير يراقب الظالم فالأحرى أن غيره يراقبه، فأمر باتخاذ صندوق، وكان يقفله ويختمه بخاتم ويترك على باب داره وفيه خرقٌ يلقى فيه رقاع المتظلمين، وكان يفتحه كل أسبوع ويكشف المظالم، فأفكر وقال: أريد أعرف ظلم الرعية ساعة فساعة، فاتخذ سلسلة طرفها في مجلسه في السقف والطرف الآخر خارج الدار في روزنة وفيها جرس، وكان المتظلم يحرك السلسلة فيحرك الجرس فيحضره ويكشف ظلامته.
ذكر ملك كسرى أبرويز بن هرمزوكان من أشد ملوكهم بطشاً وأنفذهم رأياً، وبلغ من البأس والنجدة وجمع الأموال ومساعدة الأقدار ما يبلغه ملك قبله، ولذلك لقب أبرويز، ومعناه المظفر، وكان في حياة أبيه قد سعى به بهرام جوبين إلى أبيه أنه يريد الملك لنفسه، فلما علم ذلك سار إلى أذربيجان سراً، وقيل غير ذلك، وقد تقدم، فلما وصلها بايعه من كان بها من العظماء واجتمع من بالمدائن على خلع أبيه، فلما سمع أبرويز بادر الوصول إلى المدائن قبل بهرام جوبين فدخلها قبله ولبس التاج وجلس على السرير، ثم دخل على أبيه، وكان قد سلم، فأعلمه أنه بريء مما فعل به، وإنما كان هربه للخوف منه، فصدقه وسأله أن يرسل إليه كل يوم من يؤنسه وأن ينتقم ممن خلعه وسلم عينيه، فاعتذر بقرب بهرام منه في العساكر وأنه لا يقدر على أن ينتقم ممن فعل به ذلك إلا بعد الظفر ببهرام.

وسار بهرام إلى النهروان وسار أبرويز إليه، فالتقيا هناك، ورأى أبرويز من أصحابه فتوراً في القتال فانهزم ودخل على أبيه وعرفه الحال فاستشاره، فأشار عليه بقصد موريق ملك الروم، وجهز ثانياً وسار في عدة يسير فيهم خالاه بندويه وبسطام وكردي أخو بهرام، فلما خرجوا من المدائن خاف من معه أن بهرام يرد هرمز إلى الملك ويرسل إلى ملك الروم في ردهم فيردهم إليه، فاستأذنوا أبرويز في قتل أبيه هرمز فلم يحر جواباً، فانصرف بندويه وبسطام وبعض من معهم إلى هرمز فقتلوه خنقاً، ثم رجعوا إلى أبرويز وساروا مجدين إلى أن جاوزوا الفرات ودخلوا ديراً يستريحون فيه، فلما دخلوا غشيتهم خيل بهرام جوبين ومقدمها رجل اسمه بهرام بن سياوش، فقال بندويه لأبرويز: احتل لنفسك. قال: ما عندي حيلة ! قال بنديوه: أنا أبذل نفسي دونك، وطلب منه بزته فلبسها، وخرج أبرويز ومن معه من الدير وتواروا بالجبل، ووافى بهرام الدير فرأى بندويه فوق الدير عليه بزة أبرويز، فاعتقده هو وسأله أن ينظره إلى غد ليصير إليه سلماً، ففعل، ثم ظهر من الغد على حيلته فحمله إلى بهرام جوبين فحبسه. ودخل بهرام جوبين دار الملك وقعد على السرير ولبس التاج، فانصرفت الوجوه عنه، ولكن الناس أطاعوه خوفاً، وواطأ بهرام بن سياوش بندويه على الفتك ببهرام جوبين، فعلم بهرام جوبين بذلك فقتل بهرام وأفلت بندويه فلحق بأذربيجان. وسار أبرويز إلى إنطاكية وأرسل أصحابه إلى الملك، فوعده النصرة وتزوج أبرويز ابنة الملك موريق، واسمها مريم، وجهز معه العساكر الكثيرة، فبلغت عدتهم سبعين ألفاً فيهم رجل يعد بألف مقاتل، فرتبهم أبرويز وسار بهم إلى أذربيجان، فوافاه بندويه وغيره من المقدمين والأساورة في أربعين ألف فارس من أصبهان وفارس وخراسان، وسار إلى المدائن. وخرج بهرام جوبين نحوه، فجرى بينهما حرب شديدة، فقتل فيها الفارس الرومي الذي يعد بألف فارس، ثم انهزم بهرام جوبين وسار إلى الترك، وسار أبرويز من المعركة ودخل المدائن وفرق الأموال في الروم، فبلغت جملتها عشرين ألف ألف فأعادهم إلى بلادهم.
وأقام بهرام جوبين عند الترك مكرماً، فأرسل أبرويز إلى زوجة الملك وأجزل لها الهدية من الجواهر وغيرها، وطلب منها قتل بهرام، فوضعت عليه من قتله، فاشتد قتله على ملك الترك، ثم علم أن زوجته قتلته فطلقها. ثم إن أبرويز قتل بندويه، وأراد قتل بسطام فهرب منه إلى طبرستان لحصانتها، فوضع أبرويز عليه فقتله.
وأما الروم فإنهم خلعوا ملكهم موريق بعد أربع عشرة سنة من ملك أبرويز وقتلوه وملكوا عليهم بطريقاً اسمه فوقاس، فأباد ذرية موريق سوى ابن له هرب إلى كسرى أبرويز، فأرسل معه العساكر وتوجه وملكه على الروم وجعل على عساكره ثلاثة نفر من قواده وأساورته، وأما أحدهم فكان يقال له بوران، وجهه في جيش منها إلى الشام، فدخلها حتى انتهى إلى البيت المقدس فأخذ خشبة الصليب التي تزعم النصارى أن المسيح، عليه السلام، صلب عليها فأرسلها إلى كسرى أبرويز، وأما القائد الثاني فكان يقال له شاهين، فسيره في جيش آخر إلى مصر، فافتتحها وأرسل مفاتيح الإسكندرية إلى أبرويز، وأما القائد الثالث، وهو أعظمهم، فكان يقال له فرخان، وتدعى مرتبته شهربراز، وجعل مرجع القائدين الأولين إليه، وكانت والدته منجبة لا تلد إلا نجيباً، فأحضرها أبرويز وقال لها: إني أريد أن أوجه جيشاً إلى الروم استعمل عليه بعض بنيك فأشيري علي أيهم أستعمل. فقالت: أما فلان فأروغ من ثعلب وأحذر من صقر، وأما فرخان فهو أنفذ من سنان، وأما شهربراز فهو أحلم من كذا. فقال: قد استعملت الحليم، فولاه أمر الجيش، فسار إلى الروم فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع أشجارهم وسار في بلادهم إلى القسطنطينية حتى نزل على خليجها القريب منها ينهب ويغير ويخرب، فلم يخضع لابن موريق أحد ولا أطاعه، غير أن الروم قتلوا فوقاس لفساده وملكوا عليهم بعده هرقل، وهو الذي أخذ المسلمون الشام منه.

فلما رأى هرقل ما أهم الروم من النهب والقتل والبلاء تضرع إلى الله تعالى ودعاه، فرأى في منامه رجلاً كث اللحية رفيع المجلس عليه بزة حسنة، فدخل عليهما داخل فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل: إني قد أسلمته في يدك؛ فاستيقظ، فلم يقص رؤياه، فرأى في الليلة الثانية ذلك الرجل جالساً في مجلسه وقد دخل الرجل الثالث وبيده سلسلة، فألقاها في عنق ذلك الرجل وسلمه إلى هرقل وقال: قد دفعت إليك كسرى برمته فاغزه فإنك دمالٌ عليه وبالغ أمنيتك في أدعائك. فقص حينئذٍ هذه الرؤيا على عظماء الروم، فأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعد هرقل واستخلف ابناً له على القسطنطينية وسلك غير الطريق الذي عليه شهربراز وسار حتى أوغل في بلاد أرمينية وقصد الجزيرة فنزل نصيبين، فأرسل إليه كسرى جنداً وأمرهم بالمقام بالموصل، وأرسل إلى شهربراز يستحثه على القدوم ليتضافرا على قتال هرقل.
وقيل في مسيره غير هذا، وهو أن شهربراز سار إلى بلاد الروم فوطئ الشام حتى وصل إلى أذرعات ولقي جيوش الروم فهزمها وظفر بها وسبى وغنم وعظم شأنه.
ثم إن فرخان أخا شهربراز شرب الخمر يوماً وقال: لقد رأيت في المنام كأني جالس في سرير كسرى، فبلغ الخبر كسرى فكتب إلى أخيه شهربراز يأمره بقتله، فعاوده وأعلمه شجاعته ونكايته في العدو، فعاد كسرى وكتب إليه بقتله، فراجعه، فكتب إليه الثالثة، فلم يفعل، فكتب كسرى بعزل شهربراز وولاية فرخان العسكر، فأطاع شهربراز فلما جلس على سرير الإمارة ألقى إليه القاصد بولايته كتاباً صغيراً من كسرى يأمره بقتل شهربراز فعزم على قتله، فقال له شهربراز: أمهلني حتى أكتب وصيتي، فأمهله، فأحضر درجاً وأخرج منه كتب كسرى الثلاثة وأطلعه عليها وقال: أنا راجعت فيك ثلاث مرات ولم أقتلك، وأنت تقتلني في مرة واحدة، فاعتذر أخوه إليه وأعاده إلى الإمارة واتفقا على موافقة ملك الروم على كسرى، فأرسل شهربراز إلى هرقل: إن لي إليك حاجةً لا يبلغها البريد ولا تسعها الصحف، فالقني في خمسين رومياً، فإني ألقاك في خمسين فارسياً. فأقبل قيصر في جيوشه جميعها ووضع عيونه تأتيه بخبر شهربراز، وخاف أن يكون مكيدة، فأتته عيونه فأخبروه أنه في خمسين فارسياً، فحضر عنده في مثلها واجتمعا وبينهما ترجمان فقال له: أنا وأخي خربنا بلادك وفعلنا ما علمت وقد حسدنا كسرى وأراد قتلنا وقد خلعناه ونحن نقاتل معك. ففرح هرقل بذلك واتفقا عليه وقتلا الترجمان لئلا يفشي سرهما، وسار هرقل في جيشه إلى نصيبين.
وبلغ كسرى أبرويز الخبر وأرسل هرقل قائداً من قواده اسمه راهزار في اثني عشر ألفاً، وأمره أن يقيم بنينوى من أرض الموصل على دجلة يمنع هرقل من أن يجوزها، وأقام هو بدسكرة الملك، فأرسل راهزار العيون، فأخبروه أن هرقل في سبعين ألف مقاتل، فأرسل إلى كسرى يعرفه ذلك وأنه يعجز عن قتال هذا الجمع الكثير، فلم يعذره وأمره بقتاله، فأطاع وعبى جنده، وسار هرقل نحو جنود كسرى وقطع دجلة من غير الموضع الذي فيه راهزرا، فقصده راهزار ولقيه فاقتتلوا راهزار وستة آلاف من أصحابه وانهزم الباقون.
وبلغ الخبر أبرويز وهو بدسكرة الملك، فهده ذلك وعاد إلى المدائن وتحصن بها لعجزه عن محاربة هرقل، وكتب إلى قواد الجند الذين انهزموا يتهددهم بالعقوبة فأحوجهم إلى الخلاف عليه، على ما نذكره إن شاء الله. وسار هرقل حتى قارب المدائن ثم عاد إلى بلاده.

وكان سبب عوده أن كسرى لما عجز عن هرقل أعمل الحيلة فكتب كتاباً إلى شهربراز يشكره ويثني عليه ويقول له: أحسنت في فعل ما أمرتك به من مواصلة ملك الروم وتمكينه من البلاد، والآن فقد أوغل وأمكن من نفسه فتجيء أنت من خلفه وأنا من بين يديه ويكون اجتماعنا عليه يوم كذا فلا يفلت منهم أحد. ثم جعل الكتاب في عكاز ابنوس وأحضر راهباً كان في دير عند المدائن وقال له: لي إليك حاجة. فقال الراهب: الملك أكبر من أن يكون له إلي حاجة ولكنني عبده. قال: إن الروم قد نزلوا قريباً منا وقد حفظوا الطرق عنا، ولي إلي أصحابي الذين بالشام حاجة وأنت نصراني إذا جزت على الروم لا ينكرونك، وقد كتبت كتاباً وهو في هذه العكازة فتوصله إلى شهربراز، وأعطاه مائتي دينار. فأخذ الكتاب وفتحه وقرأه ثم أعاده وسار، فلما صار بالعسكر ورأى الروم والرهبان والنواقيس رق قلبه وقال: أنا شر الناس إن أهلكت النصرانية ! فأقبل إلى سرادق الملك وأنهى حاله وأوصل الكتاب إليه. فقرأه ثم أحضر أصحابه رجلاً قد أخذوه من طريق الشام قد واطأه كسرى ومعه كتاب قد افتعله على لسان شهربراز إلى كسرى يقول: إنني ما زلت أخادع ملك الروم حتى اطمأن إلي وجاز إلى البلاد كما أمرتني فيعرفني الملك في أي يوم يكون لقاؤه حتى أهجم أنا عليه من ورائه والملك من بين يديه فلا يسلم هو ولا أصحابه، وآمره أن يتعمد طريقاً يؤخذ فيها.
فلما قرأ ملك الروم الكتاب الثاني تحقق الخبر فعاد شبه المنهزم مبادراً إلى بلاده، ووصل خبر عودة ملك الروم إلى شهربراز فأراد أن يستدرك ما فرط منه فعارض الروم فقتل منهم قتلاً ذريعاً وكتب إلى كسرى: إنني عملت الحيلة على الروم حتى صاروا في العراق، وأنفذ من رؤوسهم شيئاً كثيراً. وفي هذه الحادثة أنزل الله تعالى: (آلم غُلِبَتِ الرُّومُ في آَدْنى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) الروم: 1 - 3؛ يعني بأدنى الأرض أذرعات، وهي أدنى أرض الروم إلى العرب، وكانت الروم قد هزمت بها في بعض حروبها، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون قد ساءهم ظفر الفرس أولاً بالروم لأن الروم أهل كتاب، وفرح الكفار لأن المجوس أميون مثلهم، فلما نزلت هذه الآيات راهن أبو بكر الصديق أبي بن خلف على أن الظفر يكون للروم إلى تسع سنين، والرهن مائة بعير، فغلبه أبو بكر، ولم يكن الرهن ذلك الوقت حراماً، فلما ظفرت الروم أتى الخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية.
ذكر ما رأى كسرى من الآيات

بسبب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمن ذلك أن كسرى أبرويز سكر دجلة العوراء وأنفق عليها من الأموال ما لا يحصى كثرةً، وكان طاق مجلسه قد بني بنياناً لم ير مثله، وكان عنده ثلاثمائة وستون رجلا من الحزاة من بين كاهن وساحر ومنجم، وكان فيهم رجل من العرب اسمه السايب، بعث به باذان من اليمن، وكان كسرى إذا أحزنه أمر جمعهم فقال: انظروا في هذا الأمر ما هو.
فلما بعث الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، أصبح كسرى وقد انقصم طاق ملكه من غير ثقل، وانخرقت عليه دجلة العوراء، فلما رأى ذلك أحزنه فقال: انقصم طاق ملكي من غير ثقل، وانخرقت دجلة العوراء شاه بشكست، يقول: الملك انكسر. ثم دعا كهانه وسحاره ومنجميه، وفيهم السايب، فقال لهم: انظروا في هذا الأمر. فنظروا في أمره فأخذت عليهم أقطار السماء وأظلمت الأرض، فلم يمض لهم ما راموه، وبات السايب في ليلة ظلماء على ربوة من الأرض ينظر، فرأى برقاً من قبل الحجاز استطار فبلغ المشرق، فلما أصبح رأى تحت قدميه روضة خضراء، فقال فيما يعتاف: إن صدق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق تخصب عليه الأرض كأفضل ما أخصبت على ملك.

فلما خلص الكهان والمنجمون والسحار بعضهم إلى بعض ورأوا ما أصابهم، ورأى السايب ما رأى، قال بعضهم لبعض: والله ما حيل بينكم وبين علمكم إلا لأمرٍ جاء من السماء، وإنه لنبي بعث أو هو مبعوث يسلب هذا الملك ويكسره، ولئن نعيتم لكسرى ملكه ليقتلنكم، فاتفقوا على أن يكتموه الأمر وقالوا له: قد نظرنا فوجدنا أن وضع دجلة العوراء وطاق الملك قد وضع على النحوس، فلما اختلف الليل والنهار وقعت النحوس مواقعها فزال كل ما وضع عليها، وإنا نحسب لك حساباً تضع عليه بنيانك فلا يزول، فحسبوا وأمروه بالبناء، فبنى دجلة العوراء في ثمانية أشهر فأنفق عليها أموالاً جليلة حتى إذا فرغ منها قال لهم: اجلس على سورها ؟ قالوا: نعم، فجلس في أساورته، فبينما هو هنالك انتسفت دجلة البنيان من تحته فلم يخرج إلا بآخر رمق. فلما أخرجوه جمع كهانه وسحاره ومنجميه فقتل منهم قريباً من مائة وقال: قربتكم وأجريت عليكم الأرزاق ثم أنتم تلعبون بي ! فقالوا: أيها الملك أخطأنا كما أخطأ من قبلنا. ثم حسبوا له وبناه وفرغ منه وأمروه بالجلوس عليه، فخاف فركب فرساً وسار على البناء، فبينما هو يسير انتسفته دجلة فلم يدرك إلا بآخر رمق، فدعاهم وقال: لأقتلنكم أجمعين أو لتصدقونني. فصدقوه الأمر، فقال: ويحكم هلا بينتم لي فأرى فيه رأيي ؟ قالوا: منعنا الخوف. فتركهم ولها عن دجلة حين غلبته، وكان ذلك سبب البطائح، ولم تكن قبل ذلك، وكانت الأرض كلها عامرة.
فلما كانت سنة ست من الهجرة أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، فزادت الفرات والدجلة زيادة عظيمة لم ير قبلها ولا بعدها مثلها، فانبثقت البثوق وانتسفت ما كان بناه كسرى، واجتهد أن يسكرها فغلبه الماء، كما بينا، ومال إلى موضع البطائح فطما الماء على الزروع وغرق عدة طساسيج، ثم دخلت العرب أرض الفرس وشغلتهم عن عملها بالحروب واتسع الخرق. فلما كان زمن الحجاج تفجرت بثوق أخر فلم يسدها مضارة للدهاقين لأنه اتهمهم بممالأة ابن الأشعث، فعظم الخطب فيها وعجز الناس عن عملها، فبقيت على ذلك إلى الآن.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: بعث الله إلى كسرى ملكاً وهو في بيت إيوانه الذي لا يدخل عليه فلم يرعه إلا به قائماً على رأسه في يده عصاً بالهاجرة في ساعته التي يقيل فيها، فقال: يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا ؟ فقال: بهل بهل ! وانصرف عنه، فدعا بحراسه وحجابه فتغيظ عليهم وقال: من أدخل هذا الرجل ؟ فقالوا: ما دخل علينا أحد ولا رأيناه ! حتى إذا كان العام المقبل أتاه في تلك الساعة وقال له: أتسلم أو أكسر العصا ؟ فقال: بهل بهل ! وتغيظ على حجابه وحراسه. فلما كان العام الثالث أتاه فقال: أتسلم أو أكسر العصا؟ فقال: بهل بهل ! فكسر العصا ثم خرج. فلم يكن إلا تهور ملكه وانبعاث ابنه والفرس حتى قتوله.
وقال الحسن البصري: قال أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله ما حجة الله على كسرى فيك ؟ قال: بعث إليه ملكاً فأخرج يده إليه من جدار تلألأ نوراً، فلما رآها فزع فقال له: لا ترع يا كسرى ! إن الله قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً فاتبعه تسلم دنياك وآخرتك. قال: سأنظر.
ذكر وقعة ذي قار وسببهاذكروا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال لما بلغه ما كان من ظفر ربيعة بجيش كسرى: هذا أول يوم انتصف العرب فيه من العجو وبي نصروا. فحفظ ذلك منه، وكان يوم الوقعة.
قال هشام بن محمد: كان عدي بن زيد التميمي وأخواه عمار، وهو أبي، وعمرو، وهو سمي، يكونون مع الأكاسرة ولهم إليهم انقطاع، وكان المنذر ابن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي بن زيد، وكان له غير النعمان أحد عشر ولداً، وكانوا يسمون الأشاهب لجمالهم. فلما مات المنذر بن المنذر وخلف أولاده أراد كسرى بن هرمز أن يملك على العرب من يختاره، فأحضر عدي بن زيد وسأله عن أولاد المنذر، فقال: هم رجال، فأمره بإحضارهم. فكتب عدي فأحضرهم وأنزلهم، وكان يفضل إخوة النعمان عليه ويريهم أنه لا يرجو النعمان ويخلو بواحد واحد ويقول له: إذا سألك الملك أتكفونني العرب ؟ فقولوا: نكفيكهم إلا النعمان. وقال للنعمان: إذا سألك الملك عن إخوتك فقل له: إذا عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز.

وكان من بنيمرينا رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا، وكان داهياً شاعراً، وكان يقول للأسود بن المنذر: قد عرفت أني أرجوك وعيني إليك، وإنني أريد أن تخالف عدي بن زيد، فإنه والله لا ينصح لك أبداً ! فلم يلتفت إلى قوله.
فلما أمر كسرى عدي بنزيد أن يحضرهم، أحضرهم رجلاً رجلاً وسألهم كسرى: أتكفونني العرب ؟ فقالوا: نعم إلا النعمان. فلما دخل عليه النعمان رأى رجلاً دميماً أحمر أبرش قصيراً فقال له: أتكفيني إخوتك والعرب ؟ قال: نعم، وإن عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز. فملكه وكساه وألبسه تاجاً قيمته ستون ألف درهم، فقال عدي بن مرينا للأسود: دونك فقد خالفت الرأي.
ثم صنع عدي بن زيد طعاماً ودعا عدي بن مرينا إليه وقال: إني عرفت أن صاحبك الأسود كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وإني أحب أن لا تحقد علي وإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك، وحلف لابن مرينا أن لا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبداً، فقام ابن مرينا وحلف أنه لا يزال يهجوه ويبغيه الغوائل. وسار النعمان حتى نزل الحيرة، وقال ابن مرينا للأسود: إذا فاتك الملك فلا تعجز أن تطلب بثأرك من عدي فإن معداً لا ينام مكرهاً، وأمرتك بمعصيته فخالفتني، وأريد أن لا يأتيك من مالك شيء إلا عرضته علي. ففعل.
وكان ابن مرينا كثير المال، وكان لا يخلي النعمان يوماً من هدية وطرفة، فصار من أكرم الناس عليه، وكان إذا ذكر عدي بن زيد وصفه وقال: إلا أنه في مكر وخديعة، واستمال أصحاب النعمال، فمالوا إليه، وواضعهم على أن قالوا للنعمان: إن عدي بن زيد يقول إنك عامله، ولم يزالوا بالنعمان حتى اضغنوه عليه، فأرسل إلى عدي يستزيره، فاستأذن عدي كسرى في ذلك، فأذن له، فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه ومنع من الدخول عليه، فجعل عدي يقول الشعر وهو في السجن، وبلغ النعمان قوله فندم على حبسه إياه وخاف منه إذا أطلقه.
فكتب عدي إلى أخيه أبي أبياتاً يعلمه بحاله، فلما قرأ أبياته وكتابه كلم كسرى فيه، فكتب إلى النعمان وأرسل رجلاً في إطلاق عدي، وتقدم أخو عدي إلى الرسول بالدخول إلى عدي قبل النعمان، ففعل ودخل على عدي وأعلمه أنه أرسل لإطلاقه، فقال له عدي: لا تخرج من عندي وأعطني الكتاب حتى أرسله، فإنك إن خرجت من عندي قتلني، فلم يفعل، ودخل أعداء عدي على النعمان فأعلموه الحال وخوفوه من إطلاقه، فأرسلهم إليه فخنقوه ثم دفنوه.
وجاء الرسول فدخل على النعمان بالكتاب فقال: نعم وكرامةً، وبعث إليه بأربعة آلاف مثقال وجارية وقال: إذا أصبحت ادخل إليه فخذه. فلما أصبح الرسول غدا إلى السجن فلم ير عدياً، وقال له الحرس: إنه مات منذ أيام. فرجع إلى النعمان وأخبره أنه رآه بالأمس ولم يره اليوم، فقال: كذبت ! وزاده رشوة واستوثق منه أن لا يخبر كسرى، إلا أنه مات قبل وصوله إلى النعمان. قال: وندم النعمان على قتله، واجترأ أعداء عدي على النعمان وهابهم هيبة شديدة. فخرج النعمان في بعض صيده، فرأى ابناً لعدي يقال له زيد فكلمه وفرح به فرحاً شديداً واعتذر إليه من أمر أبيه وسيره إلى كسرى ووصفه له وطلب إليه أن يجعله مكان أبيه، ففعل كسرى، وكان يلي ما يكتب إلى العرب خاصة، وسأله كسرى عن النعمان فأحسن الثناء عليه وأقام عند الملك سنوات بمنزلة أبيه، وكان يكثر الدخول على كسرى.
وكان لملوك الأعاجم صفة للنساء مكتوبة عندهم، وكان يبعثون في طلب من يكون على هذه الصفة من النساء ولا يقصدون العرب، فقال له زيد بن عدي: إني أعرف عند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. قال: فتكتب فيهن. قال: أيها الملك إن شر شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرمون بأنفسهم عن العجم، فأنا أكره أن تعنتهن، وإن قدمت أنا عليه لم يقدر على ذلك، فابعثني وابعث معي رجلاً يفقه العربية، فبعث معه رجلاً جلداً، فخرجا حتى بلغا الحيرة ودخلا على النعمان. قال له زيدك إن الملك احتاج إلى نساء لأهله وولده وأراد كرامتك فبعث إليك. قال: وما هؤلاء النسوة ؟ قال: هذه صفتهن قد جئنا بها.

وكانت الصفة أن المنذر أهدى إلى أنوشروان جارية أصابها عند الغارة على الحارث بن أبي شمر الغساني، وكتب يصفها أنها معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء، وطفاء، قمراء، دعجاء، حوراء، عيناء، قنواء، شماء، شمراء، زجاء، برجاء، أسيلة الخد، شهية القد، جثيلة الشعر، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، لطيفة طي البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المنكبين، عظيمة الركبة، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموع للسيد، ليست بحلساء ولا سفعاء، ذليلة الأنف، عزيزة النفر، لم تغذ في بؤس، حييه، رزينة، زكية، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صنا الكفيين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، ويحمر خداها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة.
فقبلها كسرى وأمر بإثبات هذه الصفة، فبقيت إلى أيام كسرى بن هرمز. فقرأ زيد هذه الصفة على النعمان، فشق ذلك عليه وقال لزيد، والرسول يسمع: أما في عين السواد وفارس ما تبلغون حاجتكم ؟! قال الرسول لزيد: ما العين ؟ قال: البقر.
وأنزلهما يومين وكتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي. وقال لزيد: اعذرني عنده.
فلما عاد إلى كسرى قال لزيد: أين ما كنت أخبرتني ؟ قال: قد قلت للملك وعرفته بخلهم بنسائهم على غيرهم وأن ذلك لشقائهم وسوء اختيارهم، وسل هذا الرسول عن الذي قال، فإني أكرم الملك عن ذلك. فسأل الرسول، فقال: إنه قال: أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا ؟ فعرف الغضب في وجهه ووقع في قلبه وقال: رب عبدٍ أراد ما هو أشد من هذا فصار مره إلى التباب.
وبلغ هذا الكلام النعمان، وسكت كسرى على ذلك أشهراً والنعمان يستعد، حتى أتاه كتاب كسرى يستدعيه. فحين وصل الكتاب أخذ سلاحه وما قوي عليه ثم لحق بجبلي طيء، وكان متزوجاً إليهم، وطلب منهم أن يمنعوه. فأبوا عليه خوفاً من كسرى، فأقبل وليس أحد من العرب يقبله حتى نزل في ذي قار في بني شيبان سراً، فلقي هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو الشيباني وكان سيداً منيعاً، والبيت من ربيعة في آل ذي الجدين لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين، وكان كسرى قد أطعمه الأبلة، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك، وعلم أن هانئاً يمنعه مما يمنع منه أهله، فأودعه أهله وماله، وفيه أربعمائة درع، وقيل ثمانمائة درع.
وتوجه النعمان إلى كسرى فلقي زيد بن عدي على قنطرة ساباط، فقال: انج نعيم. فقال: أنت يا زيد فعلت هذا ! أما والله لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك. فقال به زيدك امض نعيم فقد والله وضعت لك عنده أخية لا يقطعها المهر الأرن.
فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه فقيده وبعث به إلى خانقين حتى وقع الطاعون فمات فيه، قال: والناس يظنون أنه مات بساباط ببيت الأعشى وهو يقول:
فذاك وما أنجى من الموت ربّه ... بساباط حتى مات وهو محرزق
وكان موته قبل الإسلام.

فلما مات استعمل كسرى إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان عليه النعمان، وكان كسرى اجتاز به لماء سار إلى ملك الروم فأهدى له هدية، فشكر ذلك له وأرسل إليه، فبعث كسرى بأن يجمع ما خلفه النعمان ويرسله إليه، فبعث إياس إلى هانئ بن مسعود الشيباني يأمره بإرساله ما استودعه النعمان، فأبى هانئ أن يسلم ما عنده. فلما أبى هانئ غضب كسرى، وعنده النعمان بن زرعة التغلبي، وهو يحب هلاك بكر بن وائل، فقال لكسرى: أمهلهم حتى يقيظوا ويتساقطوا على ذي قار تساقط الفراش في النار فتأخذهم كيف شئت. فصبر كسرى حتى جاؤوا حنو ذي قار، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيرهم واحدة من ثلاث: إما أن يعطوا بأيديهم، وإما أن يتركوا ديارهم، وإما أن يحاربوا. فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة العجلي، فاشار بالحرب، فآذنوا الملك بالحرب، فأرسل كسرى إياس بن قبيصة الطائي أمير الجيش ومعه مرازبة الفرس والهامرز النسوي وغيره من العرب تغلب وإياد وقيس بن مسعود بن قيس بن ذي الجدين، وكان على طف سفوان، فأرسل الفيول، وكان قد بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، فقسم هانئ ابن مسعود دروع النعمان وسلاحه.
فلما دنت الفرس من بني شيبان قال هانئ بن مسعود: يا معشر بكر، إنه لا طاقة لكم في قتال كسرى فاركنوا إلى الفلاة، فسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة العجلي وقال: يا هانئ أردت نجاءنا فألقيتنا في الهلكة، ورد الناس وقطع وضن الهوادج، وهي الحزم للرحال، فسمي مقطع الوضن، وضرب على نفسه قبة، وأقسم أن لا يفر حتى تقر القبة، فرجع الناس واستقوا ماء لنصف شهر. فأتتهم العجم فقاتلتهم بالحنو، فانهزمت العجم خوفاً من العطش إلى الجبابات، فتبعتهم بكرٌ وعجلٌ وأبلت يومئذٍ بلاء حسناً، واضطمت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل، ثم حملت بكر فوجدت عجلاً تقاتل وامرأة منهم تقول:
إن يظفروا يحرّزوا فينا الغرل ... إيهاً فداءٌ لكم بني عجل
فقاتلوهم ذلك اليوم، ومالت العجم إلى بطحاء ذي قار خوفاً من العطش، فأرسلت إياد إلى بكر، وكانوا مع الفرس، وقالوا لهم: إن شئتم هربنا الليلة وإن شئتم أقمنا ونفر حين تلاقون الناس. فقالوا: بل تقيمون وتنهزمون إذا التقينا. وقال زيد بن حسان السكوني، وكان حليفاً لبني شيبان: أطيعوني واكنوا لهم، ففعلوا ثم تقاتلوا وحرض بعضهم بعضاً، وقالت ابنة القرين الشيبانية:
ويهاً بني شيبان صفّاً بعد صفّ ... إن تهزموا يصبّغوا فينا القلف
فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من مناكبهم لتخف أيديهم لضرب السيوف، فجالدوهم وبارز الهامرز، فبرز إليه برد بن حارثة اليشكري فقتله برد، ثم حملت مسيرة بكر وميمنتها وخرج الكمين فشدوا على قلب الجيش وفيهم إياس بن قبيصة الطائي، وولت إياد منهزمة كما وعدتهم، فانهزمت الفرس واتبعتهم بكر تقتل ولا تلتفت إلى سلب وغنيمة. وقال الشعراء في وقعة ذي قار فأكثروا.
ذكر ملوك الحيرة بعد عمرو بن هندقد ذكرنا من ملك من آل نصر بن ربيعة إلا هلاك عمرة بن هند. فلما هلك عمرو ملك موضعه أخوه قابوس بن المنذر أربع سنين، من ذلك أيام أنوشروان ثمانية أشهر، وفي أيام هرمز ثلاث سنين وأربعة أشهر، ثم ولي بعد قابوس السهرب، ثم ملك بعده المنذر بن النعمان أربع سنين، ثم ولي بعده النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة، من ذلك في زمان هرمز سبع سنين وثمانين أشهر، وفي زمانه ابنه أبرويز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر، ثم ولي إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخيرخان في زمان كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة، ولثمانية أشهر من ولاية إياس بعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم ولي ازادبه بن مابيان الهمداني سبع عشرة سنة، من ذلك في زمان كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن بوران دخت ابنة كسرى شهراً.
ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر، وهو الذي يسميه العرب المغرور الذي قتل بالبحرين يوم جواثاء. وكانت ولايته إلى أن قدم عليه خالد بن الوليد الحيرة ثمانية أشهر، وكان آخر من بقي من آل نصر وانقرض ملكهم مع انقراض ملك فارس؛ فجميع ملوك آل نصر فيما زعم هشام عشرون ملكاً، ملكوا خمسمائة سنة واثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر.
ذكر المروزان وولايته اليمن من قبل هرمز

قال هشام: استعمل كسرى هرمز المروزان بعد عزل زرين عن اليمن، وأقام باليمن حتى ولد له فيها، ثم إن أهل جبل يقال له المضايع منعوه الخراج، فقصدهم فرأس جبلهم لا يقدر عليه لحصانته وله طريق واحد يحميه رجل واحد، وكان يحاذي ذلك الجبل جبل آخر، وقد قارب هذا الجبل، فأجرى فرسه فعبر به ذلك المضيق، فلما رأته حمير قالوا: هذا شيطان ! وملك حصنهم وأدوا الخراج، وأرسل إلى كسرى يعلمه، فاستدعاه إليه فاستخلف ابنه خرخسره على اليمن وسار إليه فمات في الطريق، وعزل كسرى خرخسره عن اليمن وولى باذان، وهو آخر من قدم اليمن من ولاة العجم.
ذكر قتل كسرى أبرويزكان كسرى قد طغى لكثرة ماله وما فتحه من بلاد العدو ومساعدة الأقدار وشره على أموال الناس، ففسدت قلوبهم، وقيل: كانت له اثنا عشر ألف امرأة، وقيل ثلاثة آلاف امرأة، يطؤهن، وألوف جوارٍ، وكان له خمسون ألف دابة، وكان أرغب الناس في الجوهر والأواني وغير ذلك، وقيل: إنه أمر أن يحصي ما جبي من خراج بلاده في سنة ثماني عشرة من ملكه، فكان من الورقة مائة ألف ألف مثقال وعشرون ألف ألف مثقال، وإنه احتقر الناس وأمر رجلاً اسمه زاذان بقتل كل مقيد في سجونه، فبلغوا ستة وثلاثين ألفاً، فلم يقدم زاذان على قتلهم، فصاروا أعداءه له، وكان أمر بقتل المنهزمين من الروم فصاروا أيضاً أعداء له، واستعمل رجلاً على استخلاص بواقي الخراج، فعسف الناس وظلمهم، ففسدت نياتهم، ومضى ناس من العظماء إلى بابل، فأحضروا ولده شيرويه بن أبرويز، فإن كسرى كان قد ترك أولاده بها ومنعهم من التصرف وجعل عندهم من يؤدبهم، فوصل إلى بهرسير فدخلها ليلاً فأخرج من كان في سجونها، واجتمع إليه أيضاً الذين كان كسرى أمر بقتلهم، فنادوا قباذ شاهنشاه وساروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى، فهرب حرسه، وخرج كسرى إلى بستان قريب من قصره هارباً فأخذ أسيراً، وملكوا ابنه، فأرسل إلى أبيه يقرعه بما كان منه، ثم قتلته الفرس وساعدهم ابنه، وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة.
ولمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوماً هاجر النبي، صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة.
قيل: وكان لكسرى أبرويز ثمانية عشر ولداً، وكان أكبرهم شهريار، وكانت شيرين قد تبنته، فقال المنجمون لكسرى: إنه سيولد لبعض ولدك غلام يكون خراب هذا المجلس وذهاب الملك على يديه، وعلامته نقص في بعض بدنه، فمنع ولده عن النساء لذلك حتى شكا شهريار إلى شيرين الشنبق، فأرسلت إليه جاريةً كانت تحجمها، وكانت تظن أنها لا تلد، فلما وطئها علقت بيزدجرد فكتمته خمس سنين، ثم إنها رأت من كسرى رقة للصبيان حين كبر فقالت: أيسرك أن ترى لبعض بنيك ولداً ؟ قال: نعم، فأتته بيزدجرد، فأحبه وقربه، فبينما هو يلعب ذات يوم ذكر ما قيل، فأمر به، فجرد من ثيابه، فرأى النقص في أحد وركيه فأراد قتله، فمنعته شيرين وقالت: إن كان الأمر في الملك قد حضر فلا مرد له، فأمرت به فحمل إلى سجستان، وقيل: بل تركته في السواد في قرية يقال لها خمانية. ولما قتل كسرى أبرويز بن هرمز ملك ابنه شيرويه.
ذكر ملك كسرى شيروية بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروانلما ملك شيرويه بن أبرويز وأمه مريم ابنة موريق ملك الروم واسمه قباذ، دخل عليه العظماء والأشراف فقالوا: لا يستقيم أن يكون لنا ملكان، فإما أن تقتل كسرى ونحن عبيدك، وإما أن نخلعك ونطيعه.

فانكسر شيرويه ونقل أباه من دار الملك إلى موضع آخر حبسه فيه، ثم جمع العظماء وقال: قد رأينا الإرسال إلى كسرى بما كان من إساءته ونوقفه على أشياء منها. فأرسل إليها رجلاً يقال له اسفاذ خشنش كان يلي تدبير المملكة، وقال له: قل لأبينا الملك عن رسالتنا: إن سوء أعمالك فعل بك ما ترى، منها جرأتك على أبيك وسملك عينيه وقتلك إياه، ومنها سوء صنيعك إلينا معشر أبنائك في منعنا من مجالسة الناس وكل ما لنا فيه دعةٌ، ومنها إساءتك إلى من خلدت في السجون، ومنها إساءتك إلى النساء تأخذهن لنفسك وتركك العطف عليهن ومنعهن ممن يعاشروهن ويرزقن منه الولد، ومنها ما أتيت إلى رعيتك عامة من العنف والغلظة والفظاظة، ومنها جمع الأموال في شدة وعنف من أربابها، ومنها تجميرك الجنود في ثغور الروم وغيرها وتفريقك بينهم وبين أهليهم، ومنها غدرك بموريق ملك الروم مع إحسانه إليك وحسن بلائه عندك وتزويجه إياك بابنته، ومنعك إياه خشبة الصليب التي لم يكن بك ولا بأهل بلادك إليها حاجة، فإن كان لك حجة تذكرها فافعل، وإن لم يكن لك حجة فتب إلى الله تعالى حتى يأمر فيك بأمره.
قال: فجاء الرسول إلى كسرى أبرويز فأدى إليه الرسالة، فقال أبرويز: قل عني لشيرويه القصير العمر لا ينبغي لأحد أن يتوب من أجل الصغير من الذنب إلا بعد أن يتيقنه فضلاً عن عظيمه ما ذكرت وكثرت منا، ولو كنا كما تقول لم يكن لك أيها الجاهل أن تنشر عنا مثل هذا العظيم الذي يوجب علينا القتل لما يلزمك في ذلك من العيوب، فإن قضاة أهل ملتك ينفون ولد المستوجب للقتل من أبيه وينفونه من مضامة أهل الأخيار ومجالستهم فضلاً عن أن يملك، مع أنه قد بلغ منا بحمد الله من إصلاحنا أنفسنا وأبناءنا ورعيتنا ما ليس في شيء منه تقصير، ونحن نشرح الحال فيما لزمنا من الذنوب لتزداد علماً بجهلك. فمن جوابنا: أن الأشرار أغروا كسرى هرمز والدنا بنا حتى اتهمنا فرأينا من سوء رأيه فينا ما يخوفنا منه فاعتزلنا بابه إلى أذربيجان، وقد استفاض ذلك، فلما انتهك منه ما انتهك شخصنا إلى بابه فهجم المنافق بهرام علينا فأجلانا عن المملكة، فسرنا إلى الروم وعدنا إلى ملكنا واستحكم أمرنا فبدأنا بأخذ الثأر ممن قتل أبانا أو شرك في دمه.
وأما ما ذكرت من أمر أبنائنا فإننا وكلنا بكم من يكفكم عن الانتشار فيما لا يعنيكم فتتأذى بكم الرعية والبلاد، وكنا أقمنا لكم النفقات الواسعة وجميع ما تحتاجون إليه، وأما أنت خاصة فإن المنجمين قضوا في مولدك أنك مثرب علينا، وأن يكون ذلك بسببك، وإن ملك الهند كتب إليك كتاباً وأهدى لك هدية، فقرأنا الكتاب فإذا هو يبشرك بالملك بعد ثمان وثلاثين سنة من ملكنا، وقد ختمنا على الكتاب وعلى مولدك وهما عند شيرين، فإن أحببت أن تقرأهما فافعل، فلم يمنعنا ذلك عن برك والإحسان إليك فضلاً عن قتلك.
وأما ما ذكرت عمن خلدناه في السجون، فجوابنا: إننا لم نحبس إلا من وجب عليه القتل أو قطع بعض الأطراف، وقد كان الموكلون بهم والوزراء يأمروننا بقتل من وجب قتله قبل أن يحتالوا لأنفسهم، فكنا بحبنا الاستبقاء وكراهتنا لسفك الدماء نتأنى بهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى، فإن أخرجتهم من محبسهم عصيت ربك، ولتجدن غب ذلك.
وأما قولك: إنا جمعنا الأموال، وأنواع الجواهر والأمتعة بأعنف جمع وأشد إلحاح، فاعلم أيها الجاهل أنه إنما يقيم الملك بعد الله تعالى الأموال والجنود، وخاصة ملك فارس الذي قد اكتنفه الأعداء ولا يقدر على كفهم وردعهم عما يريدونه إلا بالجنود والأسلحة والعدد، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمال، وقد كان أسلافنا جمعوا الأموال والسلاح وغير ذلك فأغار المنافق بهرام ومن معه على ذلك إلا اليسير، فلما ارتجعنا ملكنا وأذعن لنا الرعية بالطاعة أرسلنا إلى نواحي بلادنا أصبهبذين وقامروسانين فكفوا الأعداء وأغاروا على بلادهم، ووصل إلينا غنائم بلادهم من أصناف الأموال والأمتعة ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد بلغنا أنك هممت بتفريق هذه الأموال على رأي الأشرار المستوجبين للقتل، ونحن نعلمك أن هذه الأموال لم تجتمع إلا بعد الكد والتعب والمخاطرة بالنفوس، فلا تفعل ذلك فإنها كهف ملكك وبلادك وقوة على عدوك.

فلما انصرف أستاذ خشنش إلى شيرويه قص عليه جواب أبيه، ثم إن عظماء الفرس عادوا إلى شيرويه فقالوا: إما أن تأمر بقتل أبيك وإما أن نطيعه ونخلعك، فأمر بقتله على كره منه وانتدب لقتله رجالاً ممن وترهم كسرى أبرويز، وكان الذي باشر قتله شاب يقال له مهر هرمز بن مردانشاه من ناحية نيمروذ.
فلما قتل شق شيرويه ثيابه وبكى ولطم وجهه وحملت جنازته وتبعها العظماء وأشراف الناس، فلما دفن أمر شيرويه بقتل مهرهرمز قاتل أبيه. وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة.
ثم إن شيرويه قتل إخوته، فهلك منهم سبعة عشر أخاً ذوو شجاعة وأدب، بمشورة وزيره فيروز.
وابتلي شيرويه بامراض، ولم يلتذ بشيء من الدنيا، وكان هلاكه بدسكرة الملك، وجزع بعد قتل إخوته جزعاً شديداً، ويقال: إنه لما كان اليوم الثاني من قتل إخوته دخلت عليه بوران وازرميدخت أختاه فأغلظتا له وقالتا: حملك الحرص على الملك الذي لا يتم لك على قتل أبيك وإخوتك. فلما سمع ذلك بكى بكاء شديداً ورمى التاج عن رأسه ولم يزل مهموماً مدنفاً. ويقال: إنه اباد من قدر عليه من أهل بيته. وفشا الطاعون في أيامه فهلك من الفرس أكثرهم، ثم هلك هو. وكان ملكه ثمانية أشهر.
ذكر ملك أردشيروكان عمره سبع سنين. فلما توفي شيرويه ملك الفرس عليهم ابنه أردشير وحضنه رجل يقال له بهادر جسنس، مرتبته رئاسة أصحاب المائدة، فأحسن سياسة الملك، فبلغ من إحكامه ذلك ما لم يحس معه بحداثة سن أردشير. وكان شهربراز بثغر الروم في جند ضمهم إليه كسرى أبرويز، وكان قد صلح له بعده ما فعل بالروم مما ذكرناه، وكان ينفذ له الخلع والهداية، وكان أبرويز وشيرويه يكاتبانه ويستشيرانه، فلما لم يشاوره عظماء الفرس في تمليك أردشير اتخذ ذلك ذريعة إلى التعنت وبسط يده في القتل وجعله سبباً للطمع في الملك احتقاراً لأردشير لصغر سنه، فأقبل بجنده نحو المدائن، فتحول أردشير وبهادر جسنس ومن بقي من نسل الملك إلى مدينة طيسفون، فحاصرهم شهربراز ونصب عليهم المجانيق فلم يظفر بشيء، فأتاها من قبل المكيدة، فلم يزل يخدع رئيس الحرس وأصبهبذ نيمروذ حتى فتحا له باب المدينة فدخلها وقتل جماعةً من الرؤساء وأخذ أموالهم وقتل بعض أصحابه أردشير في إيوان خسروشاه قباذ بأمر شهربراز.
وكان ملكه سنة وستة أشهر.
ذكر ملك شهريرازولم يكن من بيت الملك. لما قتل أردشير جلس شهربراز، واسمه فرخان، على تخت المملكة، فحين جلس عليه ضرب عليه بطنه فاشتد ذلك. ثم عوفي. وتعاهد ثلاثة إخوه من أهل إصطخر على قتله غضباً لقتل أردشير، وكانوا في حرسه، وكان الحرس يقفون سماطين إذا ركب الملك عليهم السلاح وبأيديهم السيوف والرماح، فإذا حاذى الملك بعضهم وضع جبهته على ترسه فوق الترس كهيئة السجود. فركب شهربراز يوماً فوقف الإخوة الثلاثة بعضهم قريب من بعض، فلما حاذاهم طعنوه فسقط ميتاً، فشدوا في رجله حبلاً وجروه، وساعدهم بعض العظماء وتساعدوا على قتل جماعة قتلوا أردشير، وكان جميع ملكه أربعين يوماً.
ذكر ملك بوران ابنة أبرويز بن هرمز بن أنوشروانلما قتل شهربراز ملكت الفرس بوران لأنهم لم يجدوا من بيت المملكة رجلاً يملكونه. فلما ملكت أحسنت السيرة في رعيتها وعدلت فيهم فأصلحت القناطر ووضعت ما بقي من الخراج وردت خشبة الصليب على ملك الروم، وكانت مملكتها سنة وأربعة أشهر، ثم ملك بعدها رجل يقال له خشنشبنده من بني عم ابرويز الأبعدين وكان ملكه أقل من شهر وقتله الجند لأنهم أنكروا سيرته.
ذكر ملك آزرميدخت ابنة أبرويز

لما قتل خشنشبنده ملكت الفرس آزرميدخت ابنة أبرويز، وكانت من أجمل النساء، وكان عظيم الفرس يومئذٍ فرخهرمز أصبهبذ خراسان، فأرسل إليها يختطبها، فقالت: إن التزوج للملكة غير جائز وغرضك قضاء حاجتك مني فصر إلي وقت كذا. ففعل وسار إليها تلك الليلة، فتقدمت إلى صاحب حرسها أن يقتله، فقتله وطرح في رحبة دار المملكة، فلما أصبحوا رأوه قتيلاً فغيبوه. وكان ابنه رستم، وهو الذي قاتل المسلمين بالقادسية، خليفة أبيه بخراسان، فسار في عسكر حتى نزل بالمدائن وسمل عيني آزرميدخت وقتلها، وقيل: بل سمت. وكان ملكها ستة أشهر. قيل: ثم أتى رجل يقال له كسرى بن مهرجسنس من عقب أردشير بن باك كان ينزل الأهواز، فملكه العظماء ولبس التاج وقتل بعد أيام، وقيل: إن الذي ملك بعد آزرميدخت خرزاد خسرو من ولد أبرويز وأمه كردية أخت بسطام، قيل: وجد بحصن الحجارة بقرب نصيبين، فمكث أياماً يسيرة ثم خلعوه وقتلوه. وكان ملكه ستة أشهر.
وقال الذين قالوا ملك كسرى بن مهرجسنس: إنه لما قتل طلب عظماء الفرس من له نسب ببيت المملكة ولو من النساء، فأتوا برجل كان يسكن ميسان يقال له فيروز بن مهران جسنس، ويسمى أيضاً جسنسنده، أمه صهار بخت ابنة يزدانزان بن أنوشروان فملكوه، وكان ضخم الرأس. فلما توج قال: ما أضيق هذا التاج ! فتطيروا من كلامه فقتلوه في الحال، وقيل: كان قتله بعد أيام.
ذكر ملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويزثم إن الفرس اضطرب أمرهم ودخل المسلمون بلادهم فطلبوا أحداً من بيت المملكة ليملكوه ويقاتلوا بين يديه ويحفظوا بلادهم، فظفروا بيزدجرد ابن شهريار بن أبرويز بإصطخر، فأخذوه وساروا به إلى المدائن فملكوه واستقر في الملك، غير أن ملكه كان كالخيال عند ملك أهل بيته. وكان الوزراء والعظماء يدبرون ملكه لحداثة سنه وضعف أمر مملكة فارس، واجترأ عليهم الأعداء وتطرقوا بلادهم، وغزت العرب بلادهم بعد أن مضى من ملكه سنتان. وكان عمره كله إلى أن قتل ثمانياً وعشرين سنة، وبقي من أخباره ما نذكره إن شاء الله في موضعه من فتوح المسلمين.
هذا آخر ملوك الفرس ونذكر بعده التواريخ الإسلامية على سياقة سني الهجرة، ونقدم قبل ذلك الأيام المشهورة للعرب في الجاهلية، ثم نأتي بعدها بالحوادث الإسلامية إن شاء الله تعالى.
ذكر أيام العرب في الجاهليةلم يذكر أبو جعفر من أيامها غير يوم ذي قار وجذيمة الأبرش والزباء وطسم وجديس، وما ذكر ذلك إلا حيث أنهم ملوك، فأغفل ما سوى ذلك. ونحن نذكر الأيام المشهورة والوقائع المذكورة التي اشتملت على جمع كثيرة وقتال شديد، ولم أعرج على ذكر غارات تشتمل على النفر اليسير لأنه يكثر ويخرج عن الحصر، فنقول، وبالله التوفيق.
ذكر حرب زهير بن جناب الكلبي

مع غطفان وبكر وتغلب وبني القين
كان زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف ابن عذرة الكلبي أحد من اجتمعت عليه قضاعة، وكان يدعى الكاهن لصحة رأيه، وعاش مائتين وخمسين سنة، أوقع فيها مائتي وقعة؛ وقيل: عاش أربعمائة وخمسين سنة، وكان شجاعاً مظفراً ميمون النقيبة.
وكان سبب غزاته غطفان أن بني بغيض بن ريث بن غطفان حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم، فتعرضت لهم صداء، وهي قبيلة من مذحج، فقاتلوهم، وبنو بغيض سائرون بأهليهم وأموالهم، فقاتلوهم عن حريمهم فظهروا على صداء وفتكوا فيهم، فعزت بغيض بذلك وأثرت وكثرت أموالها. فلما رأوا ذلك قالوا: والله لنتخذن حرماً مثل مكة لا يقتل صيده ولا يهاج عائده، فبنوا حرماً ووليه بنو مرة بن عوف، فلما بلغ فعلهم وما أجمعوا عليه زهير بن جناب قال: والله لا يكون ذلك أبداً وأنا حي، ولا أخلي غطفان تتخذ حرماً أبداً. فنادى في قومه فاجتمعوا إليه، فقام فيهم فذكر حال غطفان وما بلغه عنهم وقال: إن أعظم مأثرة يدخرها هو وقومه أن يمنعوهم من ذلك، فأجابوه، فغزا بهم غطفان وقاتلهم أبرح قتالٍ وأشده، وظفر بهم زهير وأصاب حاجته منهم وأخذ فارساً منهم في حرمهم فقتله وعطل ذلك الحرم. ثم من على غطفان ورد النساء وأخذ الأموال؛ وقال زهير في ذلك:
فلم تصبر لنا غطفان لمّا ... تلاقينا وأحرزت النساء
فلولا الفضل منّا ما رجعتم ... إلى عذراء شيمتها الحياء

فدونكم ديوناً فاطلبوها ... وأوتاراً ودونكم اللّقاء
فإنّا حيث لا يخفى عليكم ... ليوثٌ حين يحتضر اللواء
فقد أضحى لحيّ بني جناب ... فضاء الأرض والماء الرّواء
نفينا نخوة الأعداء عنّاً ... بأرماحٍ أسنّتها ظماء
ولولا صبرنا يوم التقينا ... لقينا مثل ما لقيت صداء
غداة تضرّعوا لبني بغيض ... وصدق الطعن للنّوكى شفاء
وأما حربه مع بكر وتغلب ابني وائل فكان سببها أن أبرهة حين طلع إلى نجد أتاه زهير، فأكرمه وفضله على من أتاه من العرب، ثم أمره على بكر وتغلب ابني وائل، فوليهم حتى أصابتهم سنةٌ فاشتد عليهم ما يطلب منهم من الخراج، فأقام بهم زهير في الحرب ومنعهم من النجعة حتى يؤدوا ما عليهم، فكانت مواشيهم تهلك. فلما رأى ذلك ابن زيابة أحد بني تيم الله بن ثعلبة، وكان فاتكاً، أتى زهيراً وهو نائم، فاعتمد التيمي بالسيف على بطن زهير فمر فيها حتى خرج من ظهره مارقاً بين الصفاق، وسلمت أمعاؤه وما في بطنه، وظن التيمي أنه قد قتله، وعلم زهير أنه قد سلم فلم يتحرك لئلا يجهز عليه، فسكت. فانصرف التيمي إلى قومه فأعلمهم أنه قتل زهيراً، فسرهم ذلك.
ولم يكن مع زهير إلا نفر من قومه، فأمرهم أن يظهروا أنه ميت وأن يستأذنوا بكراً وتغلب في دفنه فإذا أذنوا دفنوا ثياباً ملفوفة وساروا به مجدين إلى قومهم، ففعلوا ذلك. فأذنت لهم بكر وتغلب في دفنه، فحفروا وعمقوا ودفنوا ثياباً ملفوفة لم يشك من رآها أن فيها ميتاً، ثم ساروا مجدين إلى قومهم، فجمع لهم زهير الجموع، وبلغهم الخبر، فقال بن زيابة:
طعنةً ما طعنت في غلس اللي ... ل زهيراً وقد توافى الخصوم
حين يحمي له المواسم بكرٌ ... أين بكرٌ وأين منها الحلوم
خانني السيف إذ طعنت زهيراً ... وهو سيف مضلّل مشؤوم
وجمع زهير من قدر عليه من أهل اليمن، وغزا بكراً وتغلب، وكانوا علموا به، فقاتلهم قتالاً شديداً انهزمت به بكر، وقاتلت تغلب بعدها فانهزمت أيضاً، وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة وأخذت الأموال وكثرت القتلى في بني تغلب وأسر جماعة من فرسانهم ووجوههم، فقال زهير في ذلك من قصيدته:
أين أين الفرار من حذر الموت ... ت إذا يتّقون بالأسلاب
إذ أسرنا مهلهلاً وأخاه ... وابن عمروٍ في القيد وابن شهاب
وسبينا من تغلب كلّ بيضا ... ء رقود الضحى برود الرّضاب
حين تدعو مهلهلاً يال بكرٍ ... ها أهذي حفيظة الأحساب
ويحكم ويحكم أبيح حماكم ... يا بني تغلب أنا بن رضاب
وهم هاربون في كلّ فجٍّ ... كشريد النعام فوق الرّوابي
واستدارت رحى المنايا عليهم ... بليوثٍ من عامرٍ وجناب
فهم بين هاربٍ ليس يألو ... وقتيل معفّر في التراب
فضل العزّ عزّنا حين نسمو ... مثل فضل السماء فوق السحاب
وأما حربه مع بني القين بن جسر فكان سببها أن أختاً لزهير كانت متزوجة فيهم. فجاء رسولها إلى زهير ومعه صرة فيها رمل وصرة فيها شوك قتاد، فقال زهير: إنها تخبركم أنه يأتيكم عدو كثير ذو شوكة شديدة، فاحتملوا. فقال الجلاح بن عوف السحمي: لا نحتمل لقول امرأة، فظعن زهير وأقام الجلاح، وصبحه الجيش فقتلوا عامة قوم الجلاح وذهبوا بأموالهم وماله. ومضى زهير فاجتمع مع عشيرته من بني جناب، وبلغ الجيش خبره فقصدوه، فقاتلهم وصبر لهم فهزمهم وقتل رئيسهم، فانصرفوا عنه خائبين.
ولما طال عمر زهير وكبرت سنه استخلف ابنه أخيه عبد الله بن عليم، فقال زهير يوماً: ألا إن الحي ظاعنٌ. فقال عبد الله: ألا إن الحي مقيمٌ. فقال زهير: من هذا المخالف عليّ ؟ فقالوا: ابن أخيك عبد الله بن عليم. فقال: أعدى الناس للمرء ابن أخيه. ثم شرب الخمر صرفاً حتى مات.
وممن شرب الخمر صرفاً حتى مات عمرو بن كلثوم التغلبي، وأبو عامر ملاعب الأسنة العامري.
ذكر يوم البردان

فكان من حديثه أن زياد بن الهبولة ملك الشام، وكان من سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. فأغار على حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث الكندي ملك عرب بنجد ونواحي العراق وهو يلقب آكل المرار، وكان حجر قد أغار في كندة وربيعة على البحرين، فبلغ زياداً خبرهم فسار إلى أهل حجر وربيعة وأموالهم وهم خلوف ورجالهم في غزاتهم المذكورة، فأخذ الحريم والأموال وسبى فيهم هنداً بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية.
وسمع حجر وكندة وربيع بغارة زيادة فعادوا عن غزوهم في طلب ابن الهبولة، ومع حجر أشراف ربيعة عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان. وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وغيرهما، فأدركوا عمراً بالبردان دون عين أباغ وقد أمن الطلب، فنزل حجر في سفح جبل، ونزلت بكر وتغلب وكندة مع حجر دون الجبل بالصحصحان على ماء يقال له حفير. فتعجل عوف بن محلم وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وقالا لحجر: إنا متعجلان إلى زياد لعلنا نأخذ منه بعض ما أصاب منا. فسارا إليه، وكان بينه وبين عوف إخاء، فدخل عليه وقال له: يا خير الفتيان اردد علي امرأتي أمامة. فردها عليه وهي حامل، فولدت له بنتاً أراد عوف أن يئدها فاستوهبها منه عمرو بن أبي ربيعة وقال: لعلها تلد أناساً، فسميت أم أناس، فتزوجها الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، فولدت عمراً، ويعرف بابن أم أناس.
ثم إن عمرو بن أبي ربيعة قال لزياد: يا خير الفتيان اردد علي ما أخذت من إبلي. فردها عليه وفيها فحلها، فنازعه الفحل إلى الإبل، فصرعه عمرو. فقال له زياد: يا عمرو لو صرعتم يا بني شيبان الرجال كما تصرعون الإبل لكنتم أنتم أنتم ! فقال له عمرو: لقد أعطيت قليلاً، وسميت جليلاً، وجررت على نفسك ويلاً طويلاً ! ولتجدن منه، ولا والله لا تبرح حتى أروي سناني من دمك ! ثم ركض فرسه حتى صار إلى حجر، فلم يوضح له الخبر، فأرسل سدوس بن شيبان بن ذهل وصليع بن عبد غنم يتجسسان له الخبر ويعلمان علم العسكر، فخرجنا حتى هجما على عسكره ليلاً وقد قسم الغنيمة وجيء بالشمع فأطعم الناس تمراً وسمناً، فلما أكل الناس نادى: من جاء بحزمة حطب فله قدرة نمر. فجاء سدوس وصليع بحطب وأخذا قدرتين من تمر وجلسا قريباً من قبته. ثم انصرف صليع إلى حجر فأخبره بعسكر زياد وأراه التمر.
وأما سدوس فقال: لا أبرح حتى آتيه بأمرٍ جلي. وجلس مع القوم يتسمع ما يقولون، وهند امرأة حجر خلف زياد، فقالت لزياد: إن هذا التمر أهدي إلى حجر من هجر، والسمن من دومة الجندل. ثم تفرق أصحاب زياد عنه، فضرب سدوس يده إلى جليس له وقال له: من أنت؟ مخافة أن يستنكره الرجل. فقال: أنا فلان بن فلان. ودنا سدوس من قبة زياد بحيث يسمع كلامه، ودنا زياد من امرأة حجر فقبلها وداعبها وقال لها: ما ظنك الآن بحجر ؟ فقالت: ما هو ظن ولكنه يقين، إنه والله لن يدع طلبك حتى تعاين القصور الحمر، يعني قصور الشام، وكأني به في فوارس من بني شيبان يذمرهم ويذمرونه وهو شديد الكلب تزبد شفتاه كأنه بعير أكل مراراً، فالنجاء النجاء ! فإن وراءك طالباً حثيثاً، وجمعاً كثيفاً، وكيداً متيناً، ورأياً صليباً. فرفع يده فلطمها ثم قال لها: ما قلت هذا إلا من عجبك به وحبك له ! فقالت: والله ما أبغضت أحداً بغضي له ولا رأيت رجلا أحزم منه نائماً ومستيقظاً، إن كان لتنام عيناه فبعض اعضائه مستيقظ ! وكان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عساً من لبن، فبينا هو ذات ليلة نائم وأنا قريب منه أنظر إليه، إذ أقبل أسود سالخ إلى رأسه فنحى رأسه، فمال إلى يده فقبضها، فمال إلى رجله فقبضها، فمال إلى العس فشربه ثم مجه. فقتل: يستيقظ فيشربه فيموت فأستريح منه. فانتبه من نومه فقال: علي بالإناء، فناولته فشمه ثم ألقاه فهريق. فقال: أين ذهب الأسود ؟ فقلت: ما رأيته. فقال: كذبت والله ! وذلك كله يسمعه سدوس، فسار حتى أتى حجراً، فلما دخل عليه قال:
أتاك المرجفون بأمر غيبٍ ... على دهشٍ وجئتك باليقين
فمن يك قد أتاك بأمر لبسٍ ... فقد آتي بأمرٍ مستبينٍ
ثم قص عليه ما سمع، فجعل حجر يعبث بالمرار ويأكل منه غضباً وأسفاً، ولا يشعر أنه يأكله من شدة الغضب، فلما فرغ سدوس من حديثه وجد حجر المرار فسمي يومئذ آكل المرار، والمرار نبت شديد المرارة لا تأكله دابة إلا قتلها.

ثم أمر حجر فنودي في الناس وركب وسار إلى زياد فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم زياد وأهل الشام وقتلوا قتلاً ذريعاً، واستنقذت بكر وكندة ما كان بأيديهم من الغنائم والسبي، وعرف سدوس زياداً فحمل عليه فاعتنقه وصرعه وأخذه أسيراً، فلما رآه عمرو بن أبي ربيعة حسده فطعن زياداً فقتله. فغضب سدوس وقال: قتلت أسيري وديته دية ملكٍ، فتحاكما إلى حجر، فحكم على عمرو وقومه لسدوس بدية ملك وأعانهم من ماله. وأخذ حجر زوجته هنداً فربطها في فرسين ثم ركضهما حتى قطعاها، ويقال: بل أحرقها، وقال فيها:
إنّ من غرّه النساء بشيء ... بعد هندٍ لجاهلٌ مغرور
حلوة العين والحديث ومرٌّ ... كلّ شيء أجنّ منها الضمير
كلّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الحبّ حبّها خيتعور
ثم عاد إلى الحيرة.
قلت: هكذا قال بعض العلماء إن زياد بن هبولة السليحي ملك الشام غزا حجراً، وهذا غير صحيح لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشام مما يلي البر من فلسطين إلى قنسرين والبلاد للروم، ومنهم أخذت غسان هذه البلاد، وكلهم كانوا عمالاً لملوك الروم كما كان ملوك الحيرة عمالاً لملوك الفرس على البر والعرب، ولم يكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشام، ولا بشبر واحد على سبيل التفرد والاستقلال.
وقولهم: ملك الشام، غير صحيح، وزياد بن هبولة السليحي ملك مشارف الشام أقدم من حجر آكل المراز بزمان طويل، لأن حجراً هو جد الحارث ابن عمرو بن حجر الذي ملك الحيرة والعرب بالعراق أيام قباذ أبي أنوشروان. وبين ملك قباذ والهجرة نحو مائة وثلاثين سنة، وقد ملكت غسان أطراف الشام بعد سليح ستمائة سنة، وقيل: خمسمائة سنة، وأقل ما سمعت فيه ثلاثمائة سنة وست عشرة سنة، وكانوا بعد سليح، ولم يكن زياد آخر ملوك سليح، فتزيد المدة زيادة أخرى، وهذا تفاوتٌ كثير فكيف يستقيم أن يكون ابن هبولة الملك ايام حجر حتى يغير عليه ! وحيث أطبقت رواة العرب على هذه الغزاة فلا بد من توجيهها، وأصلح ما قيل فيه: إن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيساً على قوم أو متغلباً على بعض أطراف الشام حتى يستقيم هذا القول، والله أعلم.
وقولهم أيضاً: إن حجراً. عاد إلى الحيرة، لا يستقيم أيضاً لأن ملوك الحيرة من ولد عدي بن نصر اللخمي لم ينقطع ملكهم لها إلا أيام قباذ، فإنه استعمل الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار كما ذكرناه قبل. فلما ولي أنوشروان عزل الحارث وأعاد اللخميين، ويشبه أن يكون بعض الكنديين قد ذكر هذا تعصباً، والله أعلم.
إن أبا عبيدة ذكر هذا اليوم ولم يذكر أن ابن هبولة من سليح بل قال: هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان، ولم يذكر عوده إلى الحيرة؛ فزال هذا الوهم.
وسليح بفتح السين المهملة، وكسر اللام، وآخره حاء مهملة.
ذكر مقتل حجر أبي امرئ القيس

والحروب الحادثة بمقتله إلى أن مات امرؤ القيس
نذكر أولاً سبب ملكهم العرب بنجد ونسوق الحادث إلى قتله وما يتصل به فنقول: كان سفهاء بكر قد غلبوا على عقلائها وغلبوهم على الأمر وأكل القوي الضعيف، فنظر العقلاء في أمرهم فرأوا أن يملكوا عليهم ملكاً يأخذ للضعيف من القوي. فنهاهم العرب وعلموا أن هذا لا يستقيم بأن يكون الملك منهم لأنه يطيعه قوم ويخالفه آخرون، فساروا إلى بعض تبايعة اليمن، وكانوا للعرب بمنزلة الخلفاء للمسلمين، وطبوا منه أن يملك عليهم ملكاً، فملك عليهم حجر بن عمرو آكل المرار، فقدم عليهم ونزل ببطن عاقل وأغار ببكر فانتزع عامة ما كان بأيدي اللخميين من أرض بكر وبقي كذلك إلى أن مات فدفن ببطن عاقل.
فلما مات صار عمرو بن حجر آكل المرار، وهو المقصور، ملكاً بعد أبيه، وإنما قيل له المقصور لأنه قصر على ملك أبيه، وكان أخوه معاوية، وهو الجون، على اليمامة، فلما مات عمرو ملك بعده ابنه الحارث، وكان شديد الملك بعيد الصوت، فلما ملك قباذ بن فيروز الفرس خرج في أيامه مزدك فدعا الناس إلى الزندقة، كما ذكرناه، فأجابه قباذ إلى ذلك، وكان المنذر بن ماء السماء عاملاً للأكاسرة على الحيرة ونواحيها، فدعاه قباذ إلى الدخول معه، فامتنع، فدعا الحارث بن عمرو إلى ذلك فأجابه، فاستعمله على الحيرة وطرد المنذر عن مملكته.
وقيل في تمليكه غير ذلك، وقد ذكرناه أيام قباذ.

فبقوا كذلك إلى أن ملك كسرى أنوشروان بن قباذ بعد أبيه فقتل مزدك وأصحابه وأعاد المنذر بن ماء السماء إلى ولاية الحيرة وطلب الحارث بن عمرو، وكان بالأنباء، وبها منزله، فهرب بأولاده وماله وهجانته، وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء فلحق بأرض كلب فنجا وانتهبوا ماله وهجانته، وأخذت تغلب ثمانية وأربعين نفساً من بني آكل المرار، فيهم عمرو ومالك ابنا الحارث، فقدموا بهم على المنذر، فقتلهم في ديار بني مرينا، وفيهم يقول عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنّهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا
وفيهم يقول امرؤ القيس:
ملوكٌ من بني حجر بن عمروٍ ... يساقون العشيّة يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا
ولم تغسل جماجمهم بغسلٍ ... ولكن في الدماء مرمّلينا
تظلّ الطّير عاكفة عليهم ... وتنتزع الحواجب والعيونا
وأقام الحارث بديار كلب، فتزعم كلب أنهم قتلوه، وعلماء كندة تزعم أنه خرج يتصيد فتبع تيساً من الظباء فأعجزه فأقسم أن لا يأكل شيئاً إلا من كبده، فطلبته الخيل، فأتى به بعد ثلاثة، وقد كاد يهلك جوعاً، فشوي له بطنه فأكل فلذةً من كبده حارة فمات.
ولما كان الحارث بالحيرة أتاه أشراف عدة قبائل من نزار فقالوا: إنا في طاعتك وقد وقع بيننا من الشر بالقتل ما تعلم وتخاف الفناء فوجه معنا بنيك ينزلون فينا فيكفون بعضنا عن بعض. ففرق أولاده في قبائل العرب، فملك ابنه حجراً على بني أسد بن خزيمة وغطفان، ومد لك ابنه شرحبيل، وهو الذي قتل يوم الكلاب، على بكر بن وائل بأسرها وعلى غيرها، وملك ابنه معدي كرب، وهو غلفاء، وإنما قيل له غلفاء لأنه كان يغلف رأسه بالطيب، على قييس عيلان وطوائف غيرهم، وملك ابنه سلمة على تغلب والنمر بن قاسط وبني سعد بن زيد مناة من تميم.
فبقي حجر في بني أسد وله عليهم جائزة وإتاوة كل سنة لما يحتاج إليه، فبقي كذلك دهراً، ثم بعثإليهم من يجبي ذلك منهم، وكانوا بتهامة، وطردوا رسله وضربوهم، فبلغ ذلك حجراً، فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من قيس وكنانة، فأتاهم فأخذ سرواتهم وخيارهم وجعل يقتلهم بالعصا وأباح الأموال وسيره إلى تهامة وحبس منهم جماعة من أشرافهم، منهم عبيد بن الأبرص الشاعر، فقال شعراً يستعطفه لهم، فرق لهم وأرسل من يردهم، فلما صاروا على يوم منه تكهن كاهنهم، وهو عوف بن ربيعة ابن عامر الأسدي، فقال لهم: من الملك الصلهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، هذا دمه يتثعب، وهو غداً أول من يستلب ؟ قالوا: ومن هو ؟ قال: لولا تجيش نفسٍ خاشيه، لأخبرتكم أنه حجر ضاحيه، فركبوا كل صعب وذلول حتى بلغوا إلى عسكر حجر فهجموا عليه في قبته فقتلوه، طعنه علياء بن الحارث الكاهلي فقتله، وكان حجر قتل أباه، فلما قتل قالت بنو أسد: يا معشر كنانة وقيس أنتم إخواننا وبنو عمنا والرجل بعيد النسب منا ومنكم وقد رأيتم سيرته وما كان يصنع بكم هو وقومه فانتهبوهم. فشدوا على هجانته فانتهبوها ولفوه في ريطة بيضاء وألقوه على الطريق، فلما رأته قيس وكنانة انتهبوا أسلابه وأجار عمرو بن مسعود عياله.
وقيل:إن حجراً لما رأى اجتماع بني أسد عليه خافهم فاستجار عويمر ابن شجنة أحد بني عطارد بن كعب بن زيد مناة بن تميم لبنته هند بنت حجر وعياله، وقال لبني أسد: إن كان هذا شأنكم فإني مرتحلٍ عنكم ومخليكم وشأنكم. فوادعوه على ذلك وسار عنهم وأقام في قومه مدةً ثم جمع لهم جمعاً عظيماً وأقبل إليهم مدلاً بمن معه، فتآمرت بنو أسد وقالوا: والله لئن قهركم ليحكمن عليكم حكم الصبي فما خير العيش حينئذ فموتوا كراماً. فاجتمعوا وساروا إلى حجر فلقوه فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان صاحب أمرهم علباء ابن الحارث، فحمل على حجر فطعنه فقتله، وانهزمت كندة ومن معهم، وأسر بنو أسد من أهل بيت حجر وغنموا حتى ملأوا أيديهم من الغنائم، وأخذوا جواريه ونساءه وما معهم فاقتسموه بينهم.

وقيل: إن حجراً أخذ أسيراً في المعركة وجعل في قبة، فوثب عليه ابن أخت علباء فضربه بحديدة كانت معه لأن حجراً كان قتل أباه، فلما جرحه لم يقض عليه، فأوصى حجر ودفع كتابه إلى رجل وقال له: انطلق إلى ابني نافع، وكان أكبر أولاده، فإن بكى وجزع فاتركه واستقرهم واحداً واحداً حتى تأتي امرأ القيس، وكان أصغرهم، فأيهم لم يجزع فادفع إليه خيلي وسلاحي ووصيتي. وقد كان بين في وصيته من قتله وكيف كان خبره.
فانطلق الرجل بوصيته إلى ابنه نافع فوضع التراب على رأسه ثم أتاهم كلهم، ففعلوا مثله حتى أتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلعب معه بالنرد، فقال: قتل حجر، فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب، فضرب حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد دستك، ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فأخبره، فقال له: الخمر والنساء علي حرام حتى أقتل من بني أسد مائة وأطلق مائة.
وكان حجر قد طرد امرأ القيس لقوله الشعر، وكان يأنف منه، وكانت أم امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة بن الحارث أخت كليب بن وائل، وكان يسير في أحياء العرب يشرب الخمر على الغدران ويتصيد، فأتاه خبر قتل أبيه وهو بدمون من أرض اليمن، فلما سمع الخبر قال:
تطاول الليل علينا دمّون ... دمّون إنّا معشرٌ يمانون
وإنّنا لقومنا محبّون
ثم قال: ضيعني صغيراً وحمّلني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ. فذهبت مثلاً. ثم ارتحل حتى نزل ببكر وتغلب فسألهم النصر على بني أسد، فأجابوه. فبعث العيون إلى بني أسد، فنذروا به، فلجأوا إلى بني كنانة، وعيون امرئ القيس معهم، فقال لهم علباء بن الحارث: اعلموا أن عيون امرئ القيس قد عادوا إليه بخبركم وأنكم عند بني كنانة، فارحلوا بليل ولا تعلموا بني كنانة. فارتحلوا. وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب وغيرهم حتى انتهى إلى بني كنانة، وهو يظنهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم وقال: يا لثارات الملك يا لثارات الهمام ! فقيل له: أبيت اللعن ! لسنا لك بثأر، نحن بنو كنانة فدونك ثأرك فاطلبهم فإن القوم قد ساروا بالأمس. فتبع بني أسد، ففاتوه ليلتهم، فقال في ذلك:
ألا يا لهف هندٍ إثر قوم ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدّهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهّنّ علباءٌ جريضاً ... ولو أدركته صفر الوطاب
يعني ببني أبيهم كنانة، فإن أسداً وكنانة ابني خزيمة هما أخوان. وقوله: ولو أدركته صفر الوطاب، قيل: كانوا قتلوه واستاقوا إبله فصفرت وطابه من اللبن، أي خلت، وقيل: كانوا قتلوه فخلا جلده، وهو وطابه، من دمه بقتله.
فسار امرؤ القيس في آثار بني أسد فأدركهم ظهراً وقد تقطعت خيله وهلكوا عطشاً وبنو أسد نازلون على الماء، فقاتلهم حتى كثرت القتلى بينهم وهربت بنو أسد. فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوهم وقالوا: قد أصبت ثأرك. فقال: لا والله. فقالوا: بلى ولكنك رجل مشؤوم، وكرهوا قتلهم بني كنانة فانصرفوا عنه، ومضى إلى أزد شنوءة يستنصرهم، فأبوا أن ينصروه وقالوا: إخواننا وجيراننا. فسار عنهم ونزل بقيل يدعى مرثد الخير بن ذي جدن الحميري، وكان بينهما قرابة، فاستنصره على بني أسد، فأمده بخمسمائة رجل من حمير، ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس، وملك بعده رجل من حمير يقال له قرمل، فزود امرأ القيس ثم سير معه ذلك الجيش وتبعه شذاذ من العرب واستأجر غيرهم من قبائل اليمن، فسار بهم إلى بني أسد وظفر بهم.
ثم إن المنذر طلب امرأ القيس ولج في طلبه ووجه الجيوش إليه، فلم يكن لامرئ القيس بهم طاقة وتفرق عنهم من كان معه من حمير وغيرهم، فنجا في جماعة من أهله ونزل بالحارث بن شهاب اليبروعي، وهو أبو عتيبة ابن الحارث، فأرسل إليه المنذر يتوعده بالقتال إن لم يسلمهم إليه، فسلمهم، ونجا امرؤ القيس ومعه يزيد بن معاوية بن الحارث وابنته هند ابنة امرئ القيس وأدراعه وسلاحه وماله، فخرج ونزل على سعد بن الضباب الإيادي سيد قومه، فأجاره، ومدحه امرؤ القيس ثم تحول عنه ونزل على المعلى بن تيم الطائي فأقام عنده واتخذ إبلاً هناك، فعدا قوم من جديلة يقال لهم بنو زيد عليها فأخذوها، فأعطاه بنو نبهان معزىً يحلبها فقال:

إذا ما لم يكن إبلٌ فمعزىً ... كأنّ قرون جلّتها العصيّ
الأبيات.
ثم رحل عنهم ونزل بعامر بن جوين، فأراد أن يغلب امرأ القيس على ماله وأهله، فعلم امرؤ القيس بذلك فانتقل إلى رجل من بني ثعلٍ يقال له حارثة بن مر فاستجاره، فأجاره. فوقعت بين عامر بن جوين والثعلي حرب، وكانت أمور كبيرة، فلما رأى امرؤ القيس أن الحرب قد وقعت بين طيئ بسببه خرج من عندهم فقصد السموأل بن عادياء اليهودي، فأكرمه وأنزله، فأقام عنده امرؤ القيس ما شاء الله ثم طلب منه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ليوصله إلى قيصر، ففعل ذلك، وسار إلى الحارث وأودع أهله وأدراعه عند السموأل، فلما وصل إلى قيصر أكرمه.
فبلغ ذلك بني أسد فأرسلوا رجلاً منهم يقال له الطماح، كان امرؤ القيس قتل أخاً له، فوصل الأسدي، وقد سير قيصر مع امرئ القيس جيشاً كثيفاً فيهم جماعة من أبناء الملوك. فلما سار امرؤ القيس، قال الطماح لقيصر: إن امرأو القيس غوي عاهر، وقد ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها وقال فيها أشعاراً أشهرها بها في العرب، فبعث إليه قيصر بحلة وشي منسوجة بالذهب، مسمومة، وكتب إليه: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمةً لك فالبسها واكتب إلي بخبرك من منزل منزل. فلبسها امرؤ القيس وسر بذلك، فأسرع فيه السم وسقط جلده، فلذلك سمي ذا القروح؛ فقال امرؤ القيس في ذلك:
لقد طمح الطمّاح من نحو أرضه ... ليلبسني ممّا يلبّس ابؤسا
فلو أنّها نفس تموت سويّةً ... ولكنّها نفس تساقط أنفسا
فلما وصل إلى موضع من بلاد الروم يقال له أنقرة احتضر بها، فقال: رب خطبة مسحنفره، وطعنة مثعنجره، وجفنة متحيره، حلت بأرض أنقره.
ربّ خطبة مسحنفره، ... وطعنةٍ مثعنجره
وجفنةٍ متحيّره ... حلّت بأرض أنقره
ورأى قبر أمراةً من بنات ملوك الروم وقد دفنت بجنب عسيب، وهو جبل، فقال:
أجارتنا إنّ الخطوب تنوب ... وإنّي مقيمٌ ما أقام عسيب
أجارتنا إنّا غريبان ها هنا ... وكلّ غريبٍ للغريب نسيب
ثم مات فدفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك.
ولما مات امرؤ القيس سار الحارث بن أبي شمر الغساني إلى السموأل بن عادياء وطالبه بأدراع امرئ القيس، وكانت مائة درع، وبما له عنده، فلم يعطه، فأخذ الحارث ابناً للسموأل، فقال: إما أن تسلم الأدراع وإما قتلت ابنك. فأبى السموأل أن يسلم إليه شيئاً، فقتل ابنه، فقال السموأل في ذلك:
وفيت بأدرع الكنديّ إنّي ... إذا ما ذمّ أقوامٌ وفيت
وأوصى عاديا يوماً بأن لا ... تهدّم يا سموأل ما بنيت
بنى لي عاديا حصناً حصيناً ... وماءً كلّما شئت استقيت
وقد ذكر الأعشى هذه الحادثة، فقال:
كن كالسموأل إذا طاف الهمام به ... في جحفلٍ كسواد اللّيل جرّار
إذ سامه خطّتي خسفٍ فقال له: ... قل ما تشاء فإنّي سامعٌ حار
فقال: غدرٌ وثكلٌ أنت بينهما ... فاختر فما فيهما حظّ لمختار
فشك غير طويلٍ ثم قال له: اقتل أسيرك إني مانعٌ جاري وهي أكثر من هذا.
يوم خزازوكان من حديثه أن ملكاً من ملوك اليمن كان في يديه أسرى من مضر وربيعة وقضاعة، فوفد عليه وفدٌ من وجوه بني معدّ، منهم: سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وعوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وعوف ابن عمرو بن جشم بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر اضحيان، وجشم بن ذهل بن هلال بن ربيعة بن زيد ابن عامر الضحيان، فلقيهم رجل من بهراء يقال له عبيد بن قراد، وكان في الأسرى، وكان شاعراً، فسألهم أن يدخلوه في عدة من يسألون فيه، فكلموا الملك فيه وفي الأسرى، فوهبهم لهم، فقال عبيد بن قراد البهراوي:
نفسي الفداء لعوف الفعال ... وعوف ولاّبن هلالٍ جشم
تداركني بعدما قد هوي ... ت مستمسكاً بعراقي الوذم
ولولا سدوسٌ وقد شمّرت ... بي الحرب زلّت بنعلي القدم
وناديت بهراء كي يسمعوا ... وليس بآذانهم من صمم
ومن قبلا عصمت قاسطٌ ... معدّاً إذا ما عزيزٌ أزم

فاحتبس الملك عنده بعض الوفد رهينةً وقال للباقين: ايتوني برؤساء قومكم لآخذ عليهم المواثيق بالطاعة لي وإلا قتلت أصحابكم. فرجعوا إلى قومهم فأخروهم الخبر، فبعث كليب وائلإلى ربيعة فجمعهم، واجتمعت عليه معد، وهو أحد النفر الذين اجتمعت عليهم معد، على ما نذكره في مقتل كليب. فلما اجتمعوا عليه سار بهم وجعل على مقدمته السفاح التغلبي، وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر ابن حبيب بن تغلب، وأمرهم أن يوقدوا على خزاز ناراً ليهتدوا بها، وخزاز جبل بطخفة ما بين البصرة إلى مكة، وهو قريب من سالع، وهو جبل أيضاً؛ وقال له: إن غشيك العدو فأوقد نارين. فبلغ مذحجاً اجتماع ربيعة ومسيرها فأقبلوا بجموعهم واستنفروا من يليهم من قبائل اليمن وساروا إليهم، فلما سمع أهل تهامة بمسير مذحج انضموا إلى ربيعة، ووصلت مذحج إلى خزام ليلاً، فرفع السفاح نارين. فلما رأى كليب النارين اقبل إليهم بالجموع فصبحهم، فالتقوا بخراز فاقتتلوا قتالاً شديداً أكثروا فيه القتل، فانهزمت مذحج وانفضت جموعها، فقال السفاح في ذلك:
وليلة بتّ أقود في خزاز ... هديت كتائباً متحيّرات
ضللن من السّهاد وكنّ لولا ... سهاد القوم أحسب هاديات
وقال الفرزدق يخاطب جريراً ويهجوه:
لولا فوارس تغلب ابنة وائل ... دخل العدوّ عليك كلّ مكانٍ
ضربوا الصنائع والملوك وأوقدوا ... نارين أشرفتا على النيران
وقيل: إنه لم يعلم أحد من كان الرئيس يوم خزاز لأن عمرو بن كلثوم، وهو ابن ابنة كليب، يقول:
ونحن غداة أوقد في خزاز ... رفدنا فوق رفد الرافدينا
فلو كان جده الرئيس لذكره ولم يفتخر بأنه رفد، ثم جعل من شهد خزازاً متساندين فقال:
فكنّا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا
فصالوا صولةً فيمن يليهم ... وصلنا صولةً فيمن يلينا
فقالوا له: استأثرت على إخوتك، يعني مضر، ولما ذكر جده في القصيدة قال:
ومنّا قبله الساعي كليبٌ ... فأيّ المجد إلاّ وقد ولينا
فلم يدع له الرياسة يوم خزاز، وهي أشرف ما كان يفتخر له به.
حبيب بضم الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء تحتها نقطتان، وآخره باء أخرى موحدة.
ذكر مقتل كليب

والأيام بين بكر وتغلب
وكان من حديث الحرب التي وقعت بين بكر وتغلب ابني وائل بن هنب ابن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بسبب قتل كليب، واسمه وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، وإنما لقب كليباً لأنه كان إذا سار أخذ معه جرو كلب، فإذا مر بروضة أو موضع يعجبه ضربه ثم ألقاه في ذلك المكان وهو يصيح ويعوي فلا يسمع عواءه أحد إلا تجنبه ولم يقربه، وكان يقال له كليب وائل، ثم اختصروا فقالوا كليب، فغلب عليه. وكان لواء ربيعة بن نزال للأكبر فالأكبر من ولده، فكان اللواء في عنزة بن أسد بن ربيعة، وكانت سنتهم أنهم يصفرون لحاهم ويقصون شواربهم، فلا يفعل ذلك من ربيعة إلا من يخالفهم ويريد حربهم، ثم تحول اللواء في عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن اسد بن ربيعة بن نزال، وكانت سنتهم إذا شتموا لطموا من شتمهم، وإذا لطموا قتلوا من لطمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من تقدمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من تقدمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من لطمهم. ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب، وكان لهم غير سنة من تقدمهم. ثم تحول اللواء إلى بكر بن وائل فساءوا غيرهم في فرخ طائر، كانوا يوثقون الفرخ بقارعة الطريق، فإذا علم بمكانه لم يسلك أحد ذلك الطريق ويسلك من يريد الذهاب والمجيء عن يمينه ويساره، ثم تحول اللواء إلى تغلب، فوليه وائل بن ربيعة، وكانت سنته ما ذكرناه من جرو الكلب.

ولم تجتمع معد إلا على ثلاثة نفر، وهم: عامر بن الظرب بن عمرو ابن بكر بن يشكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، وهو الناس بن مضر، بالنون، وهو أخو إليا بن مضر، وكان قائد معد حين تمذحجت مذحج وسارت إلى تهامة، وهي أول وقعة كانت بين تهامة واليمن؛ والثاني ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر ابن حبيب بن كلب، وكان قائد معد يوم السلان بين أهل اليمامة واليمن؛ والثالث وائل بن ربيعة، وكان قائد معد يوم خزاز ففض جموع اليمن وهزمهم وجعلت له معد قسم الملك وتاجه وطاعته وبقي زماناً من الدهر، ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، وكان يقول: وحش أرض كذا في جواري، فلا يصاد، ولا يورد أحد مع إبله ولا يوقد ناراً مع ناره، ولا يمر أحد بين بيوته ولا يجتبي في مجلسه.
وكانت بنو جشم وبنو شيبان أخلاطاً في دار واحدة إرادة الجماعة ومخافة الفرقة، وتزوج كليب جليلة بنت مرة بن شيبان بن ثعلبة، وهي أخت جساس بن مرة، وحمى كليب أرضاً من العالية في أو الربيع، وكان لا يقربها إلا محارب، ثم إن رجلاً يقال له سعد بن شميسٍ بن طوق الجرمي نزل بالبسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة. وكان للجرمي ناقة اسمها سراب ترعى مع نوق جساس، وهي التي ضربت العرب بها المثل فقالوا: أشأم من سراب وأشأ من البسوس.
فخرج كليب يوماً يتعهد الإبل ومراعيها فأتاها وتردد فيها، وكانت إبله وإبل جساس مختلطة، فنظر كليب إلى سراب فأنكرها، فقال له جساس، وهو معه: هذه ناقة جارنا الجرمي. فقال: لا تعد هذه الناقة إلى هذا الحمى. فقال جساس: لا ترعى إبلي مرعىً إلا وهذه معها، معها فقال كليب: لئن عادت لأضعن سهمي في ضرعها. فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها لأضعن سنان رمحي في لبتك ! ثم تفرقا، وقال كليب لأمرأته: أترين أن في العرب رجلاً مانعاً مني جاره ؟ قالت: لا أعلمه إلا جساساً، فحدثها الحديث. وكان بعدذ لك إذا أراد الخروج إلى الحمى منعته وناشتدته الله أن لا يقطع رحمه، وكانت تنهى أخاها جساساً أن يسرح إبله.
ثم إن كليباً خرج إلى الحمى وجعل يتصفح الإبل، فرأى ناقة الجرمي فرمى ضرعها فأنقذه، ولها عجيج حتى بركت بفناء صاحبها. فلما رأى ما بها صرخ بالذل، وسمعت البسوس صراخ جارها، فخرجت إليه. فلما رأت ما بناقته وضعت يدها على رأسها ثم صاحت: واذلاه ؟! وجساس يراها ويسمع، فخرج إليها فقال لها: اسكتي ولا تراعي، وسكن الجرمي، وقال لهما: إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة، سأقتل غلالاً، وكان غلال فحل إبل كليب لم ير في زمانه مثله، وإنما أراد جساس بمقالته كليباً. وكان لكليب عين يسمع ما يقولون، فأعاد الكلام على كليب، فقال: لقد اقتصر من يمينه على غلال. ولم يزل جساس يطلب غرة كليب، فخرج كليب يوماً آمناً فلما بعد عن البيوت ركب جساس فرسه وأخذ رمحه وأدرك كليباً، فوقف كليب. فقال له جساس: يا كليب الرمح وراءك ؟! فقال: إن كنت صادقاً فأقبل إلي من أمامي، ولم يلتفت إليه، فطعنه فأرداه عن فرسه، فقال: يا جساس أغثني بشربة من ماء، فلم يأته بشيء، وقضى كليب نحبه. فأمر جساس رجلاً كان معه اسمه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان فجعل عليه أحجاراً لئلا تأكله السباع. وفي ذلك يقول مهلهل بن ربيعة، أخو كليب:
قتيلٌ ما قتيل المرء عمروٍ ... وجسّاس بن مرّة ذي صريم
أصاب فؤاده بأصمّ لدنٍ ... فلم يعطف هناك على حميم
فإنّ غداً وبع غدٍ لرهنٌ ... لأمر ما يقام له عظيم
جسيماً ما بكيت به كليباً ... إذا ذكر الفعال من الجسيم
سأشرب كأسها صرفاً وأسقى ... بكأسٍ غير منطقة مليم
ولما قتل جساس كليباً انصرف على فرسه يركضه وقد بدت ركبتاه، فلما نظر أبوه مرة إلى ذلك قال: لقد أتاكم جساس بداهيةٍ، ما رأيته قط بادي الركبتين إلى اليوم ! فلما وقف على أبيه قال: ما لك يا جساس ؟ قال: طعنت طعنة يجتمع بنو وائل غداً لها رقصاً. قال: ومن طعنت ؟ لأمك الثكل ! قال: قتلت كليباً. قال: أفعلت ؟ قال: نعم. قال: بئس والله ما جئت به قومك ! فقال جساس:
تأهّب عنك أهبة ذي امتناع ... فإنّ الأمر جلّ عن التلاحي

فإنّي قد جنيت عليك حرباً ... تغصّ الشيخ بالماء القراح
فلما سمع أبوه قوله خاف خذلان قومه لما كان من لائمته إياه، فقال يجيبه:
فإن تك قد جنيت عليّ حرباً ... تغصّ الشيخ بالماء القراح
جمعت بها يديك على كليبٍ ... فلا وكلٌ ولا رثّ السلاح
سألبس ثوبها وأذود عني ... بها عار المذلة والفضاح
ثم إن مرة دعا قومه إلى نصرته، فأجابوه وجلوا الأسنة وشحذوا السيوف وقوموا الرماح وتيأوا للرحلة إلى جماعة قومهم.
وكان همام بن مرة أخو جساس، ومهلهل أخو كليب في ذلك الوقت يشربان، فبعث جساس إلى همام جارية لهم تخبره الخير، فانتهت إليهما وأشارت إلى همام، فقام إليها، فأخبرته، فقال له مهلهل: ما قالت لك الجارية ؟ وكان بينهما عهد أن لا يكتم أحدهما صاحبه شيئاً، فذكر له ما قالت الجارية، وأحب أن يعلمه ذلك في مداعبة وهزل، فقال له مهلهل: است أخيك أضيق من ذلك ! فأقبلا على شربهما، فقال له مهلهل: اشرب، فاليوم خمرٌ وغداً أمرٌز فشرب همام وهو حذر خائف، فلما سكر مهلهل عاد همام إلى أهله، فساروا من ساعتهم إلى جماعة قومهم، وظهر أمر كليب، فذهبوا إليه فدفنوه، فلما دفن شقت الجيوب وخمشت الوجوه وخرج الأبكار وذوات الخدور العواتق إليه وفمن للمأتم، فقال النساء لأخت كليب: أخرجي جليلة أخت جساس عنا فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا، وكانت امرأة كليب، كما ذكرنا، فقالت لها أخت كليب: اخرجي عن مأتمنا فأنت أخت قاتلنا وشقيقة واترنا، فخرجت تجر عطافها، فلقيها أبوها مرة فقال لها: ما وراءك يا جليلة ؟ فقالت: ثكل العدد، وحزن الأبد؛ وفقد خليل، وقتل أخ عن قليل؛ وبين هذين غرس الأحقاد، وتفتت الأكباد. فقال لها: أويكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات ؟ فقالت أمنية مخدوع ورب الكعبة ! ألبدنٍ تدع لك تغلب دم ربّها ! ولما رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدي وفراق الشامت، ويلٌ غداً لآل مرة من الكرة بعد الكرة. فبلغ قولها جليلة، فقالت: وكيف تشمت الحرة بهتك سترها وترقب وترها ! أسعد الله أختي ألا قالت: نفرة الحياء وخوف الأعداء ! ثم أنشأت تقول:
يا ابنة الأقوام إن لمت فلا ... تعجلي باللوم حتّى تسألي
فإذا أنت تبيّنت الذي ... يوجب اللوم، فلومي واعذلي
إن تكن أخت امرئٍ ليمت على ... شفقٍ منها عليه فافعلي
جلّ عندي فعل جسّاسٍ فيا ... حسرتا عمّا انجلى أو ينجلي
فعل جسّاسٍ على وجدي به ... قاطعٌ ظهري ومدنٍ أجلي
لو بعينٍ فقئت عينٌ سوى ... أختها فانفقأت لم أحفل
تحمل العين قذى العين كما ... تحمل الأمّ أذى ما تفتلي
يا قتيلاً قوّض الدهر به ... سقف بيتّي جميعاً من عل
هدم البيت الذي استحدثته ... وسعى في هدم بيتي الأوّل
ورماني قتله من كثبٍ ... رمية المصمى به المستأصل
يا نسائي دونكنّ اليوم قد ... خصّني الدهر برزءٍ معضلٍ
خصّني قتل كليبٍ بلظىً ... من ورائي ولظىً مستقبل
ليس من يبكي ليوميه كمن ... إنّما يبكي ليومٍ مقبل
يشتفي المدرك بالثأر وفي ... دركي ثأري ثكل المثكل
ليته كان دماً فاحتلبوا ... درراً منه دمي من أكحلي
إنّني قاتلةٌ مقتولةٌ ... ولعلّ الله أن يرتاح لي
وأما مهلهل، واسمه عدي، وقيل: امرؤ القيس، وهو خال امرؤ القيس بن حجر الكندي، وإنما لقب مهلهلاً لأنه أول من هلهل الشعر وقصد القصائد، وأول من كذب في شعره، فإنه لما صحا لم يرعه إلا النساء يصرخن: ألا إن كليباً قتل، فقال، وهو أول شعر قيل في هذه الحادثة:
كنّا نغار على العواتق أن ترى ... بالأمس خارجةً عن الأوطان
فخرجن حين ثوى كليبٌ جسّراً ... مستيقناتٍ بعده بهوان
فترى الكواعب كالظّباء عواطلاً ... إذ حان مصرعه من الأكفان
يخمشن من أدم الوجوه حواسراً ... من بعده ويعدن بالأزمان

متسلّباتٍ نكدهنّ وقد ورى ... أجوافهنّ بحرقة ووراني
ويقلن من للمستضيف إذا دعا ... أم من لخضب عوالي المرّان
أم لاتّسارٍ بالجزور إذا غدا ... ريحٌ يقطع معقد الأشطان
أمّن لإسباق الديات وجمعها ... ولفادحات نوائب الحدثان
كان الذخيرة للزمان فقد أتى ... فقدانه وأخلّ ركن مكاني
يا لهف نفسي من زمانٍ فاجعٍ ... ألقى عليّ بكلكلٍ وجران
بمصيبةٍ لا تستقال جليلةٍ ... غلبت عزاء القوم والنّسوان
هدّت حصوناً كنّ قبل ملاوذاً ... لذوي الكهول معاً وللشّبان
أضحت وأضحى سورها من بعده ... متهدّم الأركان والبنيان
فابكين سيّد قومه واندبنه ... شدّت عليه قباطي الأكفان
وأبكين للأيتام لّما أقحطوا ... وابكين عند تخاذل الجيران
وابكين مصرع جيده متزمّلاً ... بدمائه فلذاك ما أبكاني
فلأتركنّ به قبائل تغلبٍ ... قتلى بكلّ قرارة ومكان
قتلى تعاورها النّسور أكفّهاً ... ينهشها وحواجل الغربان
ثم انطلق إلى المكان الذي قتل فيه كليب فرأى دمه، وأتى قبره فوقف عليه ثم قال:
إنّ تحت التراب حزماً وعزماً ... وخصيماً ألدّ ذا معلاق
حيّةً في الوجار أربد لا ين ... فع منه السليم نفث الراقي
ثم جز شعره وقصر ثوبه وهجر النساء وترك الغزل وحرم القمار والشراب وجمع إليه قومه وأرسل رجالاً منهم إلى بني شيبان، فأتوا مرة بن ذهل ابن شيبان وهو في نادي قومه فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناقة وقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا نعرض عليك خلالا أربعاً لكم فيها مخرج ولنا فيها مقنع، إما أن تحيي لنا كليباً أو تدفع إلينا قاتله جساساً فنقتله به، أو هماماً فإنه كفؤ له، أو تمكننا من نفسك، فإن فيك وفاء لدمه.
فقال لهم: أما إحيائي كليباً فلست قادراً عليه، وأما دفعي جساساً إليكم فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه فلا أدري أي بلاد قصد، وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره، وأما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل فما أتعجل الموت، ولكن لكم عندي خصلتان: أما إحداها فهؤلاء أبنائي الباقون، فخذوا أيهم شئتم فاقتلوه بصاحبكم، وأما الأخرى فإني أدفع إليكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر.
فغضب القوم وقالوا: قد أسأت ببذل هؤلاء وتسومنا اللبن من دم كليب ؟ ونشبت الحرب بينهم. ولحقت جليلة زوجة كليب بأبيها وقومها، واعتزلت قبائل بكر الحرب وكرهوا مساعدة بني شيبان على القتال وأعظموا قتل كليب، فتحولت لجيم ويشكر، وكف الحارث بن عباد عن نصرهم ومعه أهل بيته، وقال مهلهل عدة قصائد يرثي كليباً منها:
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها ... إذ أنت خلّيتها فيمن يخلّيها
كليب أيّ فتى عزٍّ ومكرمة ... تحت السقائف إذ يعلوك سافيها
نعى النّعاة كليباً لي فقلت لهم: ... مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائد الخيل تردي في أعنّتها ... رهوداً إذا الخيل لجّت في تعاديها
من خيل تغلب ما تلقى أسنّتها ... إلاّ وقد خضبوها من أعاديها
يهزهزون من الخطّيّ مدمجةً ... صماً أنابيبها زرقاً عواليها
ليت السماء على من تحتها وقعت ... وانشقّت الأرض فانجابت بمن فيها
لا أصلح الله منّا من يصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها
فالتقوا أول قتال كان بينهم في قولٍ يوم عنيزة، وهي عند فلجة، وكانا على السواء، فقال مهلهل:
كأنّا غدوةً وبني أبينا ... بجنب عنيزةٍ رحيا مدير
ولولا الريح أسمع أهل حجر ... صليل البيض تقرع بالذكور

فتفرقوا ثم بقوا زماناً، ثم إنهم التقوا بماء يقال له النهي، كانت بنو شيبان نازلة عليه، ويروى أنها أول وقعة كانت بينهم، وكان رئيس تغلب مهلهل، ورئيس شيبان الحارث بن مرة، وكانت الدائة لبني تغلب، وكانت الشوكة في بني شيبان، واستحر القتال فيهم إلا أنه لم يقتل ذلك اليوم أحد من بني مرة.
ثم التقوا بالذنائب، وهي أعظم وقعة كانت لهم، فظفرت بنو تغلب وقتلت بكراً مقتلة عظيمة، وقتل فيها شراحيل بن مرة بن همان بن ذهل ابن شيبان، وهو جد الحوفزان وجد معن بن زائدة، وقتل الحارث بن مرة بن ذهل بن شيبان، وقتل من بني ذهل بن ثعلبة عمرة بن سدوس ابن شيبان بن ذهل وغيرهم من رؤساء بكر.
ثم التقوا يوم واردات فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظفرت تغلب أيضاً، وكثر القتل في بكر، فقتل همام بن مرة بن ذهل بن شيبان أخو جساس لأبيه وأمه، فمر مهلهل، فلما رآه قتيلاً قال: والله ما قتل بعد كليب أعز علي منك، وتالله لا تجتمع بكر بعدكما على خير أبداً. وقيل: إنما قتل يوم القصيبات، قبل يوم قضة، قتله ناشرة، وكان همام قد التقطه ورباه وسماه ناشرة، وكان عنده. فلما شب علم أنه تغلبي، فلما كان هذا اليوم جعل همام يقاتل فإذا عطش جاء إلى قربة له يشرب منها فتغفله ناشرة فقتله ولحق بقومه تغلب، وكاد جساس يؤخذ فسلم، فقال مهلهل:
لو أنّ خيلي أدركتك وجدتهم ... مثل الليوث بسترغبّ عرين
ويقول فيها:
ولأوردنّ الخيل بطن أراكة ... ولأقضينّ بفعل ذاك ديوني
ولأقتلنّ جحاجحاً من بكركم ... ولأبكينّ بها جفون عيون
حتّى تظلّ الحاملات مخافةً ... من وقعنا يقذفن كلّ جنين
وقيل في ترتيب الأيام غير ما ذكرنا، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
وكان أبو نويرة التغلبي وغيره طلائع قومه، وكان جساس وغيره طلائع قومهم، والتقى بعض الليالي جساس وأبو نويرة، فقال له أبو نويرة: اختر إما الصراع أو الطعان أو المسايفة. فاختار جساس الصراع، فاصطرعا وأبطأ كل واحد منهما على أصحاب حيه، وطلبوهما فأصابوهما وهما يصطرعان، وقد كاد جساس يصرعه، ففرقوا بينهما.
وجعلت تغلب تطلب جساساً أشد الطلب، فقال له أبوه مرة: الحق بأخوالك بالشام، فامتنع، فألح عليه أبو فسيره سراً في خمسة نفر. وبلغ الخبر إلى مهلهل، فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون رجلاً من شجعان أصحابه فساروا مجدين، فأدركوا جساساً، فقاتلهم فقتل أبو نويرة وأصحابه ولم يبق منهم غير رجلين، وجرح جساس جرحاً شديداً مات منه، وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضاً، فعاد كل واحد من السالمين إلى أصحابه. فلما سمع مرة قتل ابنه جساس قال: إنما يحزنني أن كان لم يقتل منهم أحداً. فقيل له: إنه قتل بيده أبا نويرة رئيس القوم وقتل معه خمسة عشر رجلاً ما شركه منا أحد في قتلهم وقتلنا نحن الباقين، فقال: ذلك مما يسكن قلبي عن جساس.

وقيل: إن جساساً آخر من قتل في حرب بكر وتغلب، وكان سبب قتله أن أخته جليلة كانت تحت كليب وائل. فلما قتل كليب عادت إلى أبيها وهي حامل ووقعت الحرب، وكان من الفريقين ما كان، ثم عادوا إلى الموادعة بعدما كادت الفئتان تتفانيان، فولدت أخت جساس غلاماً فسمته هجرساً، ورباه جساس، وكان لا يعرف أباً غيره، فزوجه ابنته، فوقع بين هجرس وبين رجل من بكر كلام، فقال له البكري: ما أنت بمنتهٍ حتى نلحقك بأبيك. فأمسك عنه ودخل إلى أمه كثيباً حزيناً فأخبرها الخبر. فلما نام إلى جنب امرأته رأت من همه وفكره ما أنكرته، فقصت على أبيها جساس قصته، فقال: ثائر ورب الكعبة ! وبات على مثل الرضف حتى أصبح، فأحضر الهجرس فقال له: إنما أنت ولدي وأنت مني بالمكان الذي تعلم، وزوجتك ابنتي، وقد كانت الحرب في أبيك زماناً طويلاً، وقد اصطلحنا وتحاجزنا، وقد رأيت أن تدخل في ما دخل فيه الناس من الصلح وأن تنطلق معي حتى نأخذ عليك مثل ما أخذ علينا. فقال الهجرس: أنا فاعلٌ. فحمله جساس على فرس فركبه ولبس لأمته وقال: مثلي لا يأتي أهله بغير سلاحه، فخرجا حتى أتيا جماعةً من قومهما، فقص عليهم جساس القصة وأعلمهم أن الهجرس يدخل في الذي دخل فيه جماعتهم وقد حضر ليعقد ما عقدتم. فلما قربوا الدم وقاموا إلى العقد أخذ الهجرس بوسط رمحه ثم قال: وفرسي وأذنيه، ورمحي ونصليه، وسيفي وغراريه لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه، ثم طعن جساساً فقتله ولحق بقومه، وكان آخر قتيل في بكر. والأول أكثر.
ونرجع إلى سياقه الحديث.
فلما قتل جساس أرسل أبوه مرة إلى مهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً، فاكفف عن الحرب ودع اللجاج والإسراف وأصلح ذات البين فهو أصلح للحيين وأنكأ لعدوهم، فلم يجب إلى ذلك. وكان الحارث ابن عباد قد اعتزل الحرب، فلم يشهدها، فلما قتل جساس وهمام ابنا مرة حمل ابنه بجيراً، وهو ابن عمرو بن عباد أخي الحارث بن عباد، فلما حمله على الناقة كتب معه إلى مهلهل: إنك قد أسرفت في القتل وأدركت ثأرك سوى ما قتلت من بكر، وقد أرسلت ابني إليك فإما قتلته بأخيك وأصلحت بين الحيين وإما أطلقته وأصلحت ذات البين، فقد مضى من الحيين في هذه الحروب من كان بقاؤه خيراً لنا ولكم. فلما وقف على كتابه أخذ بجيراً فقتله وقال: بؤبشسع نعل كليب. فلما سمع أبوه بقتله ظن أنه قد قتله بأخيه ليصلح بين الحيين، فقال: نعم القتيل قتيلاً أصلح بين ابني وائل ! فقيل: إنه قال: بؤبشسع نعل كليب، فغضب عند ذلك الحارث بن عباد وقال:
قرّبا مربط النعامة منّي ... لقحت حرب وائل عن حيال
قرّبا مربط النعامة منّي ... شاب رأسي وأنكرتني رجالي
لم أكن من جناتها علم الل ... ه وإنّي بحرّها اليوم صالي
فأتوه بفرسه النعامة، ولم يكن في زمانها مثلها، فركبها وولي أمر بكر وشهد حربهم، وكان أول يوم شهده يوم قضة، وهو يوم تحلاق اللمم، وإنما قيل له تحلاق اللمم لأن بكراً حلقوا رؤوسهم ليعرف بعضهم بعضاً إلا جحدر بن ضبيعة بن قيس أبو المسامعة فقال لهم: أنا قصير فلا تشينوني، وأنا اشتري لمتي منكم بأول فارس يطلع عليكم. فطلع ابن عناق فشد عليه فقتله، وكان يرتجز ذلك اليوم ويقول:
ردّوا عليّ الخيل إن ألّمت ... إن لم أقاتلهم فجزّوا لّمتي
وقاتل يومئذ الحارث بن عباد قتالاً شديداً، فقتل في تغلب مقتلة عظيمة، وفيه يقول طرفة:
سائلوا عنّا الذي يعرفنا ... بقوانا يوم تحلاق اللمم
يوم تبدي البيض عن أسوقها ... وتلفّ الخيل أفواج النّعم
وفي هذا اليوم أسر الحارث بن عباد مهلهلاً، واسمه عدي، وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على عدي وأنا أخلي عنك. فقال له المهلهل: عليك عهد الله بذلك إن دللتك عليه ؟ قال: نعم. قال: فأنا عدي؛ فجز ناصيته وتركه، وقال في ذلك:
لهف نفسي على عديٍّ ... ولم أعرف عديّاً إذ أمكنتني اليدان

وكانت الأيام التي اشتدت فيها الحرب بين الطائفتين خمسة أيام: يوم عنيزة تكافأوا فيه وتناصفوا؛ ثم اليوم الثاني يوم واردات، كان لتغلب على بكر؛ ثم اليوم الثالث الحنو، كان لبكر على تغلب؛ ثم اليوم الرابع يوم القصيبات، أصيب بكر حتى ظنوا أنهم لن يستقيلوا؛ ثم اليوم الخامس يوم قضة، وهو يوم التحالق، وشهده الحارث بن عباد؛ ثم كان بعد ذلك أيام دون هذه، منها: يوم النقية، ويوم الفصيل لبكر على تغلب، ثم لم يكن بينهما مزاحفة إنما كان مغاورات، ودامت الحرب بينهما أربعين سنة.
ثم إن مهلهلاً قال لقومه: قد رأيت أن تبقوا على قومكم فإنهم يحبون صلاحكم، وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم بوتركم، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ونائحة لا تزال تصرخ في النواحي، ودموع لا ترفأ، وأجسادٌ لا تدفن، وسيوف مشهورة، ورماح مشرعة ؟! وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم وتتعطف الأرحام حتى تتواسوا في قبال النعل، فكان كما قال: ثم قال مهلهل: أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب وأخاف أن أحملكم على الاستئصال وأنا سائر إلى اليمن، وفارقهم وسار إلى اليمن ونزل في جنب، وهي حي من مذحج، فخطبوا إليه ابنته، فمنعهم، فاجبروه على تزويجها وساقوا إليه صداقها جلوداً من أدم، فقال في ذلك:
أعزز على تغلب بما لقيت ... أخت بني الأكرمين من جشّم
أنكحها فقدها الأراقم في ... جنبٍ وكان الحباء من أدم
لو بأبانين جاء يخطبها ... ضرّج ما أنف خاطبٍ بدم
الأراقم بطن من جشم بن تغلب، يعني حيث فقدت الأراقم، وهم عشيرتها، تزوجها رجل من جنب بأدم.
ثم إن مهلهلاً عاد إلى ديار قومه، فأخذه عمرو بن مالك بن ضبيعة البكري أسيراً بنواحي هجر فأحسن إساره، فمر عليه تاجر يبيع الخمر قدم بها من هجر، وكان صديقاً لمهلهل، فأهدى إليه وهو أسير زقاً من خمر، فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكراً وشربوا عند مهلهل في بيته الذي أفرد له عمرو. فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل بما كان يقوله من الشعر وينوح به على أخيه كليب، فسمع منه عمرو ذلك فقال: إنه لريان، والله لا يشرب عندي ماء حتى يرد زبيب، وهو فحل كان له لا يرد إلا خمساً في حمارة القيظ، فطلب بنو مالك زبيباً وهو حراصٌ على أن لا يهلك مهلهل، فلم يقدروا عليه حتى مات مهلهل عطشاً.
وقي: إن ابنة خال المهلهل، وهي ابنة المجلل التغلبي، كانت امرأة عمرو، وأرادت أن تأتي مهلهلاً وهو أسير، فقال يذكرها:
طفلةٌ ما ابنة المجلّل بيضا ... ء لعوبٌ لذيذةٌ في العناق
فاذهبي ما إليك غير بعيدٍ ... لا يؤاتي العناق من في الوثاق
ضربت نحرها إليّ وقالت: ... يا عديّ لقد وقتك الأواقي
وهي أبيات ذوات عدد، فنقل شعره إلى عمرو بن مالك، فحلف عمرو أن لا يسقيه الماء حتى يرد زبيب، فسأله الناس أن يورد زبيباً قبل وروده، ففعل وأورده وسقاه حتى يتحلل من يمينه، ثم إنه سقى مهلهلاً من ماء هناك هو أوخم المياه، فمات مهلهل.
عباد بضم العين، وفتح الباء الموحدة وتخفيفها.
ذكر الحرب بين الحارث والأعرج

وبني تغلب
قال أبو عبيدة: إن بكراً وتغلب ابني وائل اجتمعت للمنذر بن ماء السماء، وذلك بعد حربهم، وكان الذي أصلح بينهم قيس بن شراحيل ابن مرة بن همام، فغزا بهم المنذر بني آكل المرار، وجعل على بني بكر وتغلب ابنه عمرو بن هند، وقال: أغز أخوالك. فغزاهم، فاقتتلوا، فانهزم بنو آكل المرار وأسروا، وجاءوا بهم إلى المنذر فقتلهم.

ثم انتقضت تغلب على المنذر ولحقت بالشام، ونحن نذكر سبب ذلك في أخبار شيبان إن شاء الله، وعادت الحرب بينهم وبين بكر، فخرج ملك غسان بالشام، وهو الحارث بن أبي شمر الغساني، فمر بأفاريق من تغلب، فلم يستقبلوه. وركب عمرو بن كلثوم التغلبي فلقيه، فقال له: ما منع قومك أن يتلقوني ؟ فقال: لم يعلموا بمرورك، فقال: لئن رجعت لأغزونهم غزوة تتركهم ايقاظاً لقدومي، فقال عمرو: ما استيقظ قومٌ قط إلا نبل رأيهم وعزت جماعتهم، فلا توقظن نائمهم. فقال: كأنك تتوعدني بهم، أما والله لتعلمن إذا أجالت غطاريف غسان الخيل في دياركم أن أيقاظ قومك سينامون نومة لا حلم فيها، تجتث أصولهم وينفى فلهم إلى اليابس الجدد والنازح الثمد. ثم رجع عمرو بن كلثوم عنه وجمع قومه وقال:
ألا فاعلم أبيت اللعن أنّا ... أبيت اللعن نأبى ما تريد
تعلّم أن محملنا ثقيل ... وأنّ دبار كبّتنا شديد
وأنّا ليس حيٌّ من معدٍّ ... يقاومنا إذا لبس الحديد
فلما عاد الحارث الأعرج غزا بني تغلب، فاقتتلوا واشتد القتال بينهم، ثم انهزم الحارث وبنو غسان وقتل أخو الحارث في عدد كثير، فقال عمرو بن كلثوم:
هلاّ عطفت على أخيك إذا دعا ... بالثكل ويل أبيك يا ابن أبي شمر
فذق الذي جشّمت نفسك واعترف ... فيها أخاك وعامر بن أبي حجر
يوم عين أباغوهو بين المنذر بن ماء السماء وبين الحارث الأعرج بن أبي شمر جبلة، وقيل: أبو شمر عمرو بن جبلة بن الحارث بن حجر بن النعمان بن الحارث الأيهم بن الحارث بن مارية الغساني، وقيل في نسبه غير هذا، وقيل: هو أزدي تغلب على غسان؛ والأول أكثر وأصح، وهو الذي طلب أدراع امرئ القيس من السموأل بن عادياء وقتل ابنه، وقيل غيره، والله أعلم.
وسبب ذلك أن المنذر بن ماء السماء ملك العرب سار من الحيرة في معد كلها حتى نزل بعين أباغ بذات الخيار وأرسل إلى الحارث الأعرج بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بنجفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر الغساني ملك العرب بالشام: أما أن تعطيني الفدية فأنصرف عنك بجنودي، وإما أن تأذن بحربٍ.
فأرسل إليه الحارث: أنظرنا ننظر في أمرنا. فجمع عساكره وسار نحو المنذر وأرسل إليه يقول له: إنا شيخان فلا نهلك جنودي وجنودك ولكن يخرج رجل من ولدي ويخرج رجل من ولدي ويخرج رجل من ولدك فمن قتل خرج عوضه آخر، وإذا فني أولادنا خرجت أنا إليك فمن قتل صاحبه ذهب بالملك. فتعاهدا على ذلك، فعمد المنذر إلى رجل من شجعان أصحابه فأمره أن يخرج فيقف بين الصفين ويظهر أنه ابن المنذر، فلما خرج أخرج إليه الحارث ابنه أبا كرب، فلما رآه رجع إلى أبيه وقال: إن هذا ليس بابن المنذر إنما هو عبده أو بعض شجعان أصحابه، فقال: يا بني أجزعت من الموت ؟ ما كان الشيخ ليغدر. فعاد إليه وقاتله فقتله الفارس وألقى رأسه بين يدي المنذر، وعاد فأمر الحارث ابناً له آخر بقتاله والطلب بثأر أخيه، فخرج إليه، فلما واقفه رجع إلى أبيه وقال: يا أبت هذا والله عبد المنذر. فقال: يا بني ما كان الشيخ ليغدر. فعاد إليه فشد عليه فقتله.
فلما رأى ذلك شمر بن عمرو الحنفي، وكانت أمه غسانية، وهو مع المنذر، قال: أيها الملك إن الغدر ليس من شيم الملوك ولا الكرام، وقد غدرت بابن عمك دفعتين. فغضب المنذر وأمر بإخراجه، فلحق بعسكر الحارث فأخبره، فقال له: سل حاجتك. فقال له: حلتك وخلتك. فلما كان الغد عبى الحارث أصحابه وحرضهم، وكان في أربعين ألفاً، واصطفوا للقتال، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل المنذر وهزمت جيوشه، فأمر الحارث بابنيه القتيلين فحملا على بعير بمنزلة العدلين، وجعل المنذر فوقهما فوداً وقال: يا لعلاوةٍ دون العدلين ! فذهبت مثلاً؛ وسار إلى الحيرة فأنهبها وأحرقها ودفن ابنيه بها وبني الغريين عليهما في قول بعضهم، وفي ذلك اليوم يقول ابن أبي الرعلاء الضبياني:
كم تركنا بالعين عين أباغ ... من ملوكٍ وسوقةٍ أكفاء
أمطرتهم سحائب الموت تترى ... إنّ في الموت راحة الأشقياء
ليس من مات فاستراح بميت ... إنّما الميت ميّت الأحياء
يوم مرج حليمة

وقتل المنذر بن المنذر بن ماء السماء

لما قتل المنذر بن ماء السماء، على ما تقدم، ملك بعده ابنه المنذر وتلقب الأسود، فلما استقر وثبت قدمه جمع عساكره وسار إلى الحارث الأعرج طالباً بثأر أبيه عنده، وبعث إليه: إنني قد أعددت لك الكهول، على الفحول. فأجابه الحارث: قد أعددت لك المرد على الجرد. فسار المنذر حتى نزل بمرج حليمة، فتركه من به من غسان للأسود، وإنما سمي مرج حليمة بحليمة ابنة الحارث الغساني، وسنذكر خبرها عند الفراغ من هذا اليوم.
ثم إن الحارث سار فنزل بالمرج أيضاً، فأمر أهل القرى التي في المرج أن يصنعوا الطعام لعسكره، ففعلوا ذلك وحملوه في الجفان وتركوه في العسكر، فكان الرجل يقاتل فإذا أراد الطعام جاء إلى تلك الجفان فأكل منها. فأقامت الحرب بين الأسود والحارث أياماً ينتصف بعضهم من بعض. فلما رأى الحارث ذلك قعد في قصره ودعا ابنته هنداً وأمرها فاتخذت طيباً كثيراً في الجفان وطبت به أصحابه، ثم نادى: يا فتيان غسان من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هنداً. فقال لبيد بن عمرو الغساني لأبيه: يا أبت أنا قاتل ملك الحيرة أو مقتول جونه لا محالة، ولست أرضى فرسي فأعطني فرسك الزيتية. فأعطاه فرسه. فلما زحف الناس واقتتلوا ساعةً شد لبيد على الٍود فضربه ضربة فألقاه عن فرسه وانهزم أصحابه في كل وجه، ونزل فاحتز رأسه وأقبل به إلى الحارث وهو على قصره ينظر إليهم، فألقى الرأس بين يديه. فقال له الحارث: شأنك بابنة عمك فقد زوجتكها. فقال: بل أنصرف فأواسي أصحابي بنفسي فإذا انصرف الناس انصرفت. فرجع فصادف أخاه الأسود قد رجع إليه الناس وهو يقاتل وقد اشتدت نكايته، فتقدم لبيد فقاتل فقتل، ولم يقتل في هذه الحرب بعد تلك الهزيمة غيره، وانهزمت لخم هزيمةً ثانيةً وقتلوا في كل وجه، وانصرفت غسان بأحسن ظفر.
وذكر أن الغبار في هذا اليوم اشتد وكثر حتى ستر الشمس وحتى ظهرت الكواكب المتباعدة عن مطالع الشمس لكثرة العساكر، لأن الأسود سار بعرب العراق أجمع، وسار الحارث بعرب الشام أجمع، وهذا اليوم من أشهر أيام العرب، وقد فخر به بعض شعراء غسان فقال:
يوم وادي حليمةٍ وازدلفنا ... بالعناجيج والرماح الظماء
إذ شحنّا أكفّنا من رقاقٍ ... رقّ من وقعها سنا السّحناء
وأتت هند بالخلوق إلى من ... كان ذا نجدةٍ وفضل غناء
ونصبنا الجفان في ساحة المر ... ج فملنا إلى جفانٍ ملاء
وقيل في قتله غير ما تقدم، ونحن نذكره.
قال بعض العلماء: وكان سببه أن الحارث بن أبي شمر جبلة بن الحارث الأعرج الغساني خطب إلى المنذر اللخمي ابنته وقصد انقطاع الحرب بين لخم وغسان، فزوجه المنذر ابنته هنداً، وكانت لا تريد الرجال، فصنعت بجلدها شبيهاً بالبرص وقالت لأبيها: أنا على هذه الحالة وتهديني لملك غسان ؟ فندم على تزويجها فأمسكها. ثم إن الحارث أرسل يطلبها فمنعها أبوها واعتل عليه.
ثم إن المنذر خرج غازياً، فبعث الحارث بن أبي شمر جيشاً إلى الحيرة فانتهبها وأحرقها. فانصرف المنذر من غزاته لما بلغه من الخبر، فسار يريد غسان، وبلغ الخبر الحارث فجمع أصحابه وقومه فسار بهم فتوافقوا بعين أباغ فاصطفوا للقتال فاقتتلوا واشتد الأمر بين الطائفتين، فحملت ميمنة المنذر على ميسرة الحارث، وفيها ابنه فقتلوه، وانهزمت الميسرة، وحملت ميمنة الحارث على ميسرة المنذر فانهزم من بها وقتل مقدمها فروة بن مسعود ابن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وحملت غسان من القلب على المنذر فقتلوه وانهزم أصحابه في كل وجه، فقتل منهم بشر كثير وأسر خلق كثير. منهم من بني تميم ثم من بني حنظلة مائة أسير، منهم شأس ابن عبدة، فوفد أخوه علقمة بن عبدة الشاعر على الحارث يطلب إليه أن يطلق أخاه، ومدحه بقصيدته المشهورة التي أولها:
طحا بك قلبٌ في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
تكلّفني ليلى وقد شطّ أهلها ... وعادت عوادٍ بيننا وخطوب
يقول فيها:
فإن تسألوني بالنساء فإنّني ... بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودّهنّ نصيب
يردن ثراء المال حيث وجدنه ... وشرخ الشباب عندهنّ عجيب

وقاتل من غسّان أهل حفاظها ... وهنبٌ وفاسٌ جالدت وشبيب
تخشخش أبدان الحديد عليهم ... كما خشخشت يبس الحصاد جنوب
فلم تنج إلا شطبةٌ بلجامها ... وإلاّ طمرٌّ كالقناة نجب
وإلاّ كميٌّ ذو حفاظٍ كأنّه ... بما ابتلّ من حدّ الظّبات خضيب
وفي كلّ حيٍّ قد خبطت بنعمةٍ ... فحقّ لشأسٍ من نداك ذنوب
فلا تحرمني نائلاً عن جنابةٍ ... فإنّي امرؤٌ وسط القباب غريب
فلما بلغ إلى قوله: فحق لشأس من نداك ذنوب، قال الملك: إي والله وأذنبةٌ، ثم أطلق شأساً وقال له: إن شئت الحباء وإن شئت أسراء قومك ؟ وقال لجلسائه: إن اختار الحباء على قومه فلا خير فيه. فقال: أيها الملك ما كنت لأختار على قومي شيئاً. فأطلق له الأسرى من تميم وكساه وحباه، وفعل ذلك بالأسرى جميعهم وزودهم زاداً كثيراً. فلما بلغوا بلادهم أعطوا جميع ذلك لشأس وقالوا: أنت كنت السبب في إطلاقنا فاستعن بهذا على دهرك، فحصل له مال كثير من إبل وكسوة وغير ذلك.
عبدة بفتح العين والباء الموحدة.
وقيل في قتله: إنه جمع عسكراً ضخماً وسار حتى نزل الشام، وسار ملك الشام، وهو عند الأكثر الحارث بن أبي شمر، فنزل مرج حليمة، وهو ينسب إلى حليمة بنت الملك، ونزل الملك اللخمي في مرج الصفر، فسير الحارث فارسين طليعةً، أحدهما فارس خصاف، وكانت فرسه تجري على ثلاث فلا تلحق، فسارا حتى خالطا القوم وقربا من الملك وأمامه شمعة فقتلا حاملها. ففزع القوم فاضطربوا بأسيافهم فقتل بعضهم بعضاً حتى أصبحوا، وأتاهم رسل الحارث ملك غسان ببذل الصلح والإتاوة وقال: إني باعث رؤوس القبائل لتقرير الحال، وندب أصحابه، فانتدب له مائة غلام، وقي: ثمانون غلاماً، فألبسهم السلاح وأمر ابنته حليمة أن تطيبهم وتلبسهم، ففعلت. فلما مر بها لبيد بن عمرو فارس الزيتية قبلها، فأتت أباها باكيةً، فقال: هو أسد القوم ولئن سلم لأنكحنه إياك، وأمره على القوم وساروا، فلما قاربوا العسكر العراقي جمع الملك رؤوس أصحابه. وجاء الغسانيون وعليهم السلاح قد لبسوا فوقها الثياب والبرانس، فلما تتاموا عند الملك أبدوا السلاح فقتلوا من وجدوا، وقتل لبيد بن عمرو ملك العراقيين وأحيط بالغسانيين فقتلوا إلا لبيد بن عمرو، فإن فرسه لم تبرح، فاستوى عليها، وعاد فأخبر الملك، فقال له: قد أنكحتك ابنتي حليمة. فقال: لا يتحدث الناس أني فل مائة، ثم عاد إلى القوم فقاتل فقتل. وتفقد أهل العراق أشرافهم وإذا بهم قد قتلوا فضعفت نفوسهم لذلك وزحفت إليهم غسان فانهزموا.
قلت: قد اختلف النسابون وأهل السير في مدة الأيام وتقديم بعضها على بعض، واختلفوا أيضاً في المقتول فيها، فمنهم من يقول: إن يوم حليمة هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن ماء السماء، ويوم أباغ هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن المنذر، ومنهم من يقول بضد ذلك، ومنهم من يجعل اليومين واحداً فيقول: لم يقتل إلا المنذر بن ماء السماء. وأما ابنه المنذر فمات بالحيرة، وقيل: إن المقتول من ملوك الحيرة غيرهما، فالصحيح أن المقتول هو المنذر بن ماء السماء لا شك فيه، وأما ابنه ففيه خلاف كثير، والأصح أنه لم يقتل، ومن أثبت قتله اختلفوا في سببه، على ما ذكرناه.
وإنما ذكرت اختلافهم والحادثة واحدة لأن كل سبب منها قد ذكره بعض العلماء، فمتى تركنا أحدهما ظن من ليس له معرفة أن كل سبب منها حادث مستقل. وقد أهملناه، فأتينا بها جميعاً لذلك ونبهنا عليه.
ذكر قتل مضرط الحجارةوهو عمرو بن المنذر بن ماء السماء اللخمي صاحب الحيرة، وكان يلقب مضرط الحجارة لشدة ملكه وقوة سياسته، وأمه هند بنت الحارث بن عمرو المقصور بن آكل المرار، وهي عمة امرئ القيس بن حجر بن الحارث.

وكان سبب قتله أنه قال يوماً لجلسائه: هل تعلمون أن أحداً من العرب من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي ؟ قالوا: ما نعرفه إلا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي، فإن أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة، وعملها كليب وائل، وزوجها كلثوم، وابنها عمرو. فسكت مضرط الحجارة على ما في نفسه وبعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويأمره أن تزور أمه ليلى أم نفسه هنداً بنت الحارث. فقدم عمرو بن كلثوم في فرسان من بني تغلب ومعه أمه ليلى، فنزل على شاطئ الفرات، وبلغ عمرو بن هند قدومه فأمر فضربت خيامه بين الحيرة والفرات وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فصنع لهم طعاماً ثم دعا الناس إليه فقرب إليهم الطعام على باب السرادق، وجلس هو وعمرو بن كلثوم معها في القبة، وقد قال مضرط الحجارة لأمه: إذا فرغ الناس من الطعام ولم يبق إلا الطرف فنحي خدمك عنك، فإذا دنا الطرف فاستخدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء.
ففعلت هند ما أمرها به ابنها، فلما استدعي الطرف قالت هند لليلى: ناوليني ذلك الطبق. فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. فألحت عليها. فقالت ليلى: واذلاه يا آل تغلب ! فسمعها ولدها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه والقوم يشربون، فعرف عمرو بن هند الشر في وجهه، وثار ابن كلثوم إلى سيف ابن هند وهو معلق في السرادق، وليس هناك سيف غيره، فأخذه ثم ضرب به رأس مضرط الحجارة فقتله، وخرج فنادى: يا آل تغلب ! فانتهبوا ماله وخيله وسبوا النساء وساروا فلحقوا بالحيرة، فقال أفنون التغلبي.
لعمرك ما عمرو بن هندٍ وقد دعا ... لتخدم ليلى أمّه بموفّق
فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتاً ... وأمسك من ندمانه بالمخنّق
يوم الكلاب الأول
قال ابن الكلبي: أول من اشتد ملكه من كندة حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية بن الحارث الكندي، فلما هلك ملك بعده ابنه عمور مثل ملك أبيه فسمي المقصور لأنه قصر على ملك أبيه، فتزوج عمرو أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني، فولدت له الحارث، فملك بعد أبيه أربعين سنة، وقيل: ستين سنة، فخرج يتصيد فرأى عانة وهي حمر الوحش، فشد عليها، فانفرد منها حمار، فتتبعه وأقسم أن لا يأكل شيئاً قبل كبده، وهو بمسحلان، فطلبته الخيل ثلاثة أيام حتى أدركته، فأتي به وقد كادي موت من الجوع، فشوي على النار وأطعم من كبده وهي حارة، فمات، وكان الحارث فرق بنيه في قبائل معد، فجعل حجراً في بني أسد وكنانة، وهو أكبر ولده؛ وجعل شرحبيل في بكر بن وائل وبني حنظلة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم وبني أسيد بن عمرو بن تيمم، والرباب؛ وجعل سلمة، وهو أصغرهم، في بني تغلب والنمر بن قاسط وبني سعد بن زيد مناة بن تميم؛ وجعل ابنه معدي كرب، ويعرف بغلفاء، في قيس عيلان، وقد تقدم هذا في قتل حجر أبي امرئ القيس، وإنما أعدناه ها هنا للحاجة إليه.

فلما هلك الحارث تشتت أمر أولاده وتفرقت كلمتهم ومشى بينهم الرجال، وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش، فسار شرحبيل فيمن معه من الجيوش فنزل الكلاب، وهو ماء بين البصرة والكوفة. وأقبل سلمة فيمن معه وفي الصنائع أيضاً، وهم قوم كانوا مع الملوك من شذاذ العرب، فأقبلوا إلى الكلاب وعلى تغلب السفاح بن خالد بن كعب ابن زهير، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وثبت بعضهم لبعض. فلما كان آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل وانهزموا، وثبتت بكر وانصرفت بنو سعد ومن معها عن تغلب وصبرت تغلب، ونادى منادي شرحبيل: من أتاني برأس سلمة فله مائة من الإبل، ونادى منادي سلمة: من أتاني برأس شرحبيل فله مائة من الإبل. فاشتد القتال حينئذ كل يطلب أن يظفر لعله يصل إلى قتل أحد الرجلين ليأخذ مائة من الإبل. فكانت الغلبة آخر النهار لتغلب وسلمة، ومضى شرحبيل منهزماً، فتبعه ذو السنينة التغلبي، فالتفت إليه شرحبيل فضربه على ركبته فأطن رجله، وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه، فقال لأخيه: قتلني الرجل ! وهلك ذو السنينة ! فقال أبو حنش لشرحبيل: قتلني الله إن لم أقتلك ! وحمل عليه فأدركه،فقال: يا أبا حنش اللبن اللبن ! يعني الدية. فقال: قد هرقت لبناً كثيراً ! فقال: يا أبا حنش املكاً بسوقة ؟ فقال: إن أخي ملكي. فطعنه فأقاه عن فرسه ونزل إليه فأخذ رأسه وبعث به إلى سلمة مع ابن عم له، فأتاه به وألقان بين يديه، فقال سلمة: لو كنت ألقيته أرفق من هذا ! وعرفت الندامة في وجه سلمة والجزع عليه. فهرب أبو حنش منه، فقال سلمة:
ألا أبلغ أبا حنشٍ رسولاً ... فما لك لا تجيء إلى الثّواب
لتعلم أنّ خير الناس طرّاً ... قتيلٌ بين أحجار الكلاب
تداعت حوله جشم بن بكر ... وأسلمه جعاسيس الرّباب
فأجابه أبو حنش فقال:
أحاذر أن أجيئك ثم تحبو ... حباء أبيك يوم صنيبعات
وكانت غدرةٌ شنعاء تهفو ... تقلّدها أبوك إلى الممات
وكان سبب يوم صنيبعات أن ابناً للحارث كان مسترضعاً في تميم وبكر ولدغته حية فمات، فأخذ خمسين رجلاً من تميم وخمسين رجلاً من بكر فقتلهم به. ولما قتل شرحبيل قام بنو زيد مناة بن تميم دون أهله وعياله فمنعوهم وحالوا بين الناس وبينهم حتى ألحقوهم بقومهم ومأمنهم؛ ولما بلغ خبر قتله أخاه معدي كرب، وهو غلفاء، قال يرثيه:
إنّ جنبي عن الفراش لنابي ... كتجافي الأسرّ فوق الظّراب
من حديثٍ نمى إليّ فما تر ... قأ عيني ولا أسيغ شرابي
مرّة كالذّعاف أكتمها النا ... س على حرّملّة كالشهاب
من شرحبيل إذ تعاوره الأر ... ماح من بعد لذّةٍ وشباب
يا ابن أمي ولو شهدتك إذ تد ... عو تميماً وأنت غير مجاب
ثمّ طاعنت من ورائك حتّى ... يبلغ الرحب أو تبزّ ثيابي
أحسنت وائلٌ وعادتها الإح ... سان بالحنو يوم ضرب الرقاب
يوم فرّت بنو تميم وولّت ... خيلهم يكتسعن بالأذناب
وهي طويلة؛ ثم إن تغلب أخرجوا سلمة من بينهم فلجأ إلى بكر بن وائل وانضم إليهم، ولحقت تغلب بالمنذر بن امرئ القيس اللخمي.
الكلاب بضم الكاف. أسيد بن عمرو بضم الهمزة، وفتح السين المهملة، وتشديد الياء المثناة من تحت. وذو السنينة بضم السين المهملة، تصغير سن. والرباب بكسر الراء، وتخفيف الباء الأولى الموحدة.
يوم أوارة الأولوهو يوم كان بين المنذر بن امرئ القيس وبين بكر بن وائل. وكان سببه أن تغلب لما أخرجت سلمة بن الحارث عنها التجأ إلى بكر ابن وائل، كما ذكرناه آنفاً، فلما صار عند بكر أذعنت له وحشدت عليه وقالوا: لا يملكنا غيرك، فبعث إليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته، فأبوا ذلك، فحلف المنذر ليسيرن إليهم فإن ظفر بهم فليذبحنهم على قلة جبل أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض.

وسار إليهم في جموعه، فالتقوا بأوارة فاقتتلوا قتالاً شديداً وأجلت الواقعة عن هزيمة بكر وأسر يزيد بن شرحبيل الكندي، فأمر المنذر بقتله، فقتل، وقتل في المعركة بشرٌ كثير، وأسر المنذر من بكر أسرى كثيراً فأمر بهم فذبحوا على جبل أوارة، فجعل الدم يجمد. فقيل له: أبيت اللعن لو ذبحت كل بكري على وجه الأرض لم تبلغ دماؤهم الحضيض ! ولكن لو صببت عليه الماء ! ففعل فسال الدم إلى الحضيض، وأمر بالنساء أن يحرقن بالنار.
وكان رجل من قيس بن ثعلبة منقطعاً إلى المنذر، فكلمه في سبي بكر ابن وائل، فأطلقهن المنذر، فقال الأعشى يفتخر بشفاعة القيسي إلى المنذر في بكر:
ومنّا الذي أعطاه بالجمع ربّه ... على فاقةٍ وللملوك هباتها
سبايا بني شيبان يوم أوارةٍ ... على النار إذ تجلى له فتياتها
يوم أوارة الثانيكان عمرو بن المنذر اللخمي قد ترك ابناً له اسمه أسعد عند زراة بن عدس التميمي؛ فلما ترعرع مرت به ناقةٌ سمينة فعبث بها فرمى ضرعها، فشد عليه ربها سويدٌ أحد بني عبد الله بن دارم التميمي فقتله. وهرب فلحق بمكة فحالف قريشاً. وكان عمرو بن المنذر غزا قبل ذلك ومعه زرارة فأخفق، فلما كان حيال جبلي طيء قال له زرارة: أي ملكٍ إذا غزا لم يرجع ولم يصب، فمل على طيء فإن بحيالها، فمال إليهم فأسر وقتل وغنم، فكانت في صدور طيء على زرارة، فلما قتل سويد أسعد، وزرارة يومئذ عند عمرو، قال له عمرو بن ثعلبة بن ملقط الطائي يحرض عمراً على زرارة:
من مبلغٌ عمراً بأن ال ... مرء لم يخلق صباره
ها إنّ عجزة أمّة ... بالسفح أسفل من أواره
فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زراره
فقال عمرو: يا زرارة ما تقول ؟ قال كذبت، قد علمت عداوتهم فيك. قال: صدقت. فلما جن الليل سار مجداً إلى قومه ولم يلبث أن مرض. فلما حضرته الوفاة قال لابنه: يا حاجب ضم إليك غلمتي في بني نهشل. وقال لابن أخيه عمرو بن عمرو: عليك بعمرو بن ملقط فإنه حرض علي الملك. فقال له: يا عماه لقد أسندت إلي أبعدهما شقةً وأشدهما شوكة.
فلما مات زرارة تهيأ عمرو بن عمرو في جمع وغزا طيئاً فأصاب الطريفين: طريف بن مالك، وطريف بن عمرو، وقتل الملاقط؛ فقال علقمة بن عبدة في ذلك:
ونحن جلبنا من ضريّة خيلنا ... نجنّبها حدّ الإكام قطاقطا
أصبنا الطريف والطريف بن مالك ... وكان شفاء الواصبين الملاقطا
فلما بلغ عمرو بن المنذر وفاة زرارة غزا بني دارم، وقد كان حلف ليقتلن منهم مائة، فسار بطلبهم حتى بلغ أوارة، وقد نذروا به فتفرقوا. فأقام مكانه وبث سراياه فيهم، فأتوه بتسعة وتسعين رجلاً سوى من قتلوه في غاراتهم فقتلهم، فجاء رجل من البراجم شاعر ليمدحه فأخذه ليقتله ليتم مائة، ثم قال: إن الشقي وافد البراجم ! فذهبت مثلاً.
وقيل: إنه نذر أن يحرقهم فلذلك سمي محرقاً، فأحرق منهم تسعة وتسعين رجلاً واجتاز رجل من البراجم فشم قتار اللحم فظن أن الملك يتخذ طعاماً فقصده. فقال: من أنت ؟ فقال: أبيت اللعن أنا وافد البراجم. فقال: إن الشقي وافد البراجم؛ ثم أمر به فقذف في النار، فقال جرير للفرزدق:
أين الذين بنار عمروٍ أحرقوا ... أم أين أسعد فيكم المسترضع
وصارت تميم بعد ذلك يعيرون بحب الأكل لطمع البرجمي في الأكل، فقال بعضهم:
إذا ما مات ميتٌ من تميم ... فسرّك أن يعيش فجيء بزاد
بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ... أو الشيء الملفّف في البجاد
تراه ينقّب البطحاء حولاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
قيل: دخل الأحنف بن قيس على معاوية بن أبي سفيان فقال له معاوية: ما الشيء الملفف في البجاد يا أبا بحر ؟ قال: السخينة يا أمير المؤمنين. والسخينة طعام تعير به قريش كما كانت تعير تميم بالملفف في البجاد. قال: فلم ير متمازحان أوقر منهما.
ذكر قتل زهير بن جذيمة

وخالد بن جعفر بن كلاب والحارث بن ظالم المري وذكر يوم الرحرحان

كان زهي بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس العبسي، وهو والد قيس بن زهير صاحب حرب دحس والغبراء، سيد قيس عيلان، فتزوج إليه ملك الحيرة، وهو النعمان بن امرئ القيس جد النعمان بن المنذر لشرفه وسؤدده، فأرسل النعمان إلى زهير يستزيره بعض أولاده، فأرسل ابنه شأساً فكان أصغر ولده، فأكرمه وحباه، فلما انصرف إلى أبيه كساه حللاً وأعطاه مالاً طيباً. فخرج شأس يريد قومه فبلغ ماءً من مياه غني بن أعصر فقتله رباح بن الأشل الغنوي وأخذ ما كان معه وهو لا يعرفه، وقيل لزهير: إن شأساً أقبل من عند الملك وكان آخر العهد به بماء من مياه غني. فسار زهير إلى ديار غني، وهم حلفاء في بني عامر ابن صعصعة، فاجتمعوا عنده، فسألهم عن ابنه، فحلفوا أنهم لم يعلموا خبره، قال: لكني أعلمه، فقال له أبو عامر: فما الذي يرضيك منا ؟ قال: واحدة من ثلاث: إما تحيون ولدى، وإما تسلمون إلي غنياً حتى أقتلهم بولدي، وإما الحرب بيننا وبينكم ما بقينا وبقيتم. فقالوا: ما جعلت لنا في هذه مخرجاً، أما إحياء ولدك فلا يقدر عليه إلا الله، وأما تسليم غني إليك فهم يمتنعون مما يمتنع منه الأحرار، وأما الحرب بيننا فوالله إننا لنحب رضاك ونكره سخطك، ولكن إن شئت الدية، وإن شئت تطلب قاتل ابنك فنسلمه إليك أو تهب دمه فإنه لا يضيع في القرابة والجوار. فقال: ما أفعل إلا ما ذكرت. فلما رأى خالد بن جعفر بن كلاب تعدي زهير على أخواله من غني قال: والله ما رأينا كاليوم تعدي رجل على قومه. فقال له زهير: فهل لك أن تكون طلبتي عندك وأترك غنياً ؟ قال: نعم؛ فانصرف زهير وهو يقول:
فلولا كلاب قد أخذت قرينتي ... بردّ غنيٍّ أعبداً ومواليا
ولكن حمتهم عصبة عامريّة ... يهزّون في الأرض القصار العواليا
مساعير في الهيجا مصاليت في الوغى ... أخوهم عزيز لا يخاف الأعاديا
يقيمون في دار الحفاظ تكرّماً ... إذا ما فنيّ القوم أضحت خواليا
ثم إنه أرسل امرأةً وأمرها أن تكتم نسبها وأعطاها لحم جزور سمينة وسيرها إلى غني لتبيع اللحم بطيب وتسأل عن حال ولده. فانطلقت المرأة إلى غني وفعلت ما أمرها، فانتهت إلى امرأة رباح بن الأشل وقالت لها: قد زوجت بنتاً لي وأبغي الطيب بهذا اللحم، فأعطتها طيباً وحدثتها بقتل زوجها شأساً. فعادت المرأة إلى زهير وأخبرته، فجمع خيله وجعل يغير على غني حتى قتل منهم مقتلة عظيمة، ووقعت الحرب بين بني عبس وبني عامر وعظم الشر.
ثم إن زهيراً خرج في أهل بيته في الشهر الحرام إلى عكاظ، فالتقى هو وخالد بن جعفر بن كلاب. فقال له خالد: لقد طال شرنا منك يا زهير ! فقال زهير: أما والله ما دامت لي قوة أدرك بها ثأراُ فلا انصرام له. وكانت هوازن تؤتي زهير بن جذيمة الإتاوة كل سنة بعكاظ، وهو يسومها الخسف، وفي أنفسها منه غيظ وحقدٌ، ثم عاد خالد وزهير إلى قومهما، فسبق خالد إلى بلاد هوازن فجمع إليه قومه وندبهم إلى قتال زهير، فأجابوه وتأهبوا للحرب وخرجوا يريدون زهيراً وهم على طريقه، وسار زهير حتى نزل على أطراف بلاد هوازن، فقال له ابنه قيس: انج بنا من هذه الأرض فإنا قريب من عدونا. فقال له: يا عاجز وما الذي تخوفني به من هوازن وتتقي شرها ؟ فأنا أعلم الناس بها. فقال ابنه: دع عنك اللجاج وأطعني وسر بنا فإني خائف عاديتهم.
وكانت تماضر بنت الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية السلمية أم ولد زهير وقد أصاب بعض إخوتها دماً فلحق ببني عامر، وكان فيهم، فأرسله خالد عيناً ليأتيه بخبر زهير، فخرج حتى أتاهم في منزلهم، فعلم قيس ابن زهير حاله وأراد هو وأبوه أن يوثقوه ويأخذوه معهم إلى أن يخرجوا من أرض هوازن، فمنعت أخته، فأخذوا عليه العهود ألا يخبرهم وأطلقوه فسار إلى خالد ووقف إلى شجرة يخبرها الخبر، فركب خالد ومن معه إلى زهير، وهو غير بعيد منهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، والتقى خالد وزهير فاقتتلا طويلاً ثم تعانقا فسقطا على الأرض، وشد ورقاء بن زهير على خالد وضربه بسيفه فلم يصنع شيئاً لأنه قد ظاهر بين درعين، وحمل جندح ابن البكاء، وهو ابن امرأة خالد، على زهير فقتله، وهو خالد يعتركان، فثار خالد عنه وعادت هوازن إلى منازلها، وحمل بنو زهير أباهم إلى بلادهم، فقال ورقاء بن زهير في ذلك:

رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
إلى بطلين يعتران كلاهما ... يريد رياش السيف والسيف نادر
فشلّت يميني يوم أضرب خالداً ... ويمنعه منّي الحديد المظاهر
فيا ليت أنّي قبل أيّام خالدٍ ... وقبل زهير لم تلدني تماضر
لعمري لقد بشّرت بي إذ ولدتني ... فماذا الذي ردّت عليك البشائر ؟
فلا يدعني قومي صريحاً بحرّةٍ ... لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر
فطر خالدٌ إن كنت تستطيع طيرةً ... ولا تقعن إلاّ وقلبك حاذر
أتتك المنايا إن بقيت بضربة ... تفارق منها العيش والموت حاضر
وقال خالد يمن على هوازن بقتله زهيراً:
أبلغ هوازن كيف تكفر بعدما ... أعتقتهم فتوالدوا أحرارا
وقتلت ربّهم زهيراً بعدما ... جدع الأنوف وأكثر الأوتارا
وجعلت مهر نسائهم ودياتهم ... عقل الملوك هجائناً وبكارا
وكان زهير سيد غطفان، فعلم خالد أن غطفان ستطلبه بسيدها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس بالحيرة فاستجاره، فأجاره. فضرب له قبةً، وجمع بنو زهير لهوازن، فقال الحارث بن ظالم المري: اكفوني حرب هوازن فأنا أكفيكم خالد بن جعفر.
وسار الحارث حتى قدم على النعمان فدخل عليه وعنده خالد، وهما يأكلان تمراً، فأقبل النعمان يسائله، فحسده خالد، فقال للنعمان: أبيت اللعن ! هذا رجل لي عنده يد عظيمة، قتلت زهيراً وهو سيد غطفان فصار هو سيدها. فقال الحارث: سأجزيك على يدك عندي، وجعل الحارث يتناول التمر ليأكله فيقع من بين أصابعه من الغضب، فقال عروة لأخيه خالد: ما أردت بكلامه وقد عرفته فتاكاً ؟ فقال خالد: وما يخوفني منه ؟ فوالله لو رآني نائماً ما أيقظني.
ثم خرج خالد وأخوه إلى قبتهما فشرجاها عليهما، ونام خالد وعروة عند رأسه يحرسه، فلما أظلم الليل انطلق الحارث إلى خالد فقطع شرج القبة ودخلها وقال لعروة: لئن تكلمت قتلتك ! ثم أيقظ خالداً، فلما استيقظ قال: أتعرفني ؟ قال: أنت الحارث. قال: خذ جزاء يدك عندي ! وضربه بسيفه المعلوب فقتله، ثم خرج من القبة وركب راحلته وسار.
وخرج عروة من القبة يستغيث وأتى باب النعمان فدخل عليه وأخبره الخبر، فبث الرجال في طلب الحارث.
قال الحارث: فلما سرت قليلاً خفت أن أكون لم أقتله فعدت متنكراً واختلطت بالناس ودخلت عليه فضربته بالسيف حتى تيقنت أنه مقتول وعدت فلحقت بقومي؛ فقال عبد الله بن جعدة الكلابي:
يا حار لو نبّهته لوجدته ... لا طائشاً رعشاً ولا معزالا
شقّت عليه الجعفرية جيبها ... جزعاً وما تبكي هناك ضلالا
فانعوا أبا بحر مجرّبٍ ... حرّان يحسب في القناة هلال
فليقتلنّ بخالد سرواتكم ... وليجعلن لظالمٍ تمثالا
تالله قد نبّهته فوجدته ... رخو اليدين مواكلاً عسقالا
فعلوته بالسيف أضرب رأسه ... حتّى أضلّ بسلحه السربالا
فجعل النعمان يطلبه ليقتله بجاره، وهوازن تطلبه لتقتله بسيدها خالد، فلحق بتميم فاستجار بضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم، فأجاره على النعمان وهوازن، فلما علم النعمان ذلك جهز جيشاً إلى بني دارم عليهم ابن الخمس التغلبي، وكان يطلب الحارث بدم أبيه لأنه كان قتله . .

ثم إن الأحوص بن جعفر أخا خالد جمع بني عامر وسار بهم، فاجتمعوا هم وعسكر النعمان على بني دارم وساروا، فلما صاروا بأدنى مياه بني دارم رأوا امرأةً تجني الكمأة ومعها جمل لها، فأخذها رجلٌ من غني وتركها عنده. فلما كان الليل نام فقامت إلى جملها فركبته وسارت حتى صبحت بني دارم وقصدت سيدهم زرارة بن عدس فأخبرته الخبر وقالت: أخذني أمس قوم لا يريدون غيرك ولا أعرفهم. قال: فصفيهم لي. قالت: رأيت رجلاً قد سقط حاجباه فهو يرفعهما بخرقة، صغير العينين، وعن أمره يصدرون. قال: ذاك الأحوص وهو سيد القوم. قالت: ورأيت رجلاً قليل المنطق إذا تكلم اجتمع القوم كما تجتمع الإبل لفحلها، أحسن الناس وجهاً، ومعه ابنان له يلازمانه. قال: ذلك مالك بن جعفر وابناه عامر وطفيل. قالت: ورأيت رجلاً جسيماً كأن لحيته محمرةٌ معصفرةٌ. قال: ذاك عوف بن الأحوص. قالت: ورأيت رجلاً هلقاماً جسيماً. قال: ذاك ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب. قالت: ورأيت رجلاً أسود أخنس قصيراً إذا تكلم عذم القوم عذم المخوس. قال: ذاك ربيعة بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر. قالت: ورأيت رجلاً أقرن الحاجبين، كثير شعر السبلة، يسيل لعابه على لحيته إذا تكلم. قال: ذاك جندح بن البكاء. قالت: ورأيت رجلاً صغير العينين ضيق الجبهة يقود فرساً له معه جفيرٌ لا يفارق يده. قال: ذاك ربيعة بن عقيل بن كعب. قالت: ورأيت رجلاً معه ابنان أصبهان إذا أقبلا رماهما الناس بأبصارهم، فإذا أدبرا كانا كذلك. قال: ذاك الصعق بن عمرو بن خويلد بن نفيل وابناه يزيد وزرعة. قالت: ورأيت رجلاً لا يقول كلمة إلا وهي أحد من شفرة. قال: ذاك عبد الله بن جعدة بن كعب.
وأمرها زرارة فدخلت بيتها وأرسل زرارة إلى الرعاء يأمرهم بإحضار الإبل، ففعلوا. وأمرهم فحملوا الأهل والأثقال وساروا نحو بلاد بغيض، وفرق الرسل في بني مالك بن حنظلة فأتوه، فأخبرهم الخبر وأمرهم، فوجهوا أثقالهم إلى بلاد بغيض، ففعلوا وباتوا معدين.
وأصبح بنو عامر وأخبرهم الغنوي حال الظعينة وهربها فسقط في أيديهم واجتمعوا يديرون الرأي، فقال بعضهم: كأني بالظعينة قد أتت قومها فأخبرتهم الخبر، فحذروا وأرسلوا أهليهم وأموالهم إلى بلاد بغيض وباتوا معدين لكم في السلاح فاركبوا بنا في طلب نعمهم وأموالهم فإنهم لا يشعرون حتى نصيب حاجتنا وننصرف. فركبوا يطلبون ظعن بني دارم، فلما أبطأ القوم عن زرارة قال لقومه: إن القوم قد توجهوا إلى ظعنكم وأموالكم فسيروا إليهم. فساروا مجدين فلحقوهم قبل أن يصلوا إلى الظعن والنعم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتلت بنو مالك بن حنظلة ابن الخمس التغلبي رئيس جيش النعمان، وأسرت بنو عامر معبد بن زرارة، وصبر بنو دارم حتى انتصف النهار، وأقبل قيس بن زهير فيمن معه من ناحية أخرى، فانهزمت بنو عامر وجيش النعمان وعادوا إلى بلادهم ومعبد أسير مع بني عامر، فبقي معهم حتى مات.
وفي تلك الأيام أيضاً مات زرارة بن عدس.
وقيل في استجارة الحارث ببني تميم غير ذلك، وهو أن النعمان طلب شيئاً يغيظ به الحارث بعد قتل خالد وهربه، فقيل له: كان قصد الحيرة ونزل على عياض بن ديهث التميمي وهو صديق له، فبعث إليه النعمان فأخذ إبلاً له، فركب الحارث وأتى الحيرة متخفياً واستنقذ ماله من الرعاء، ورده عليه وطلب شيئاً يغيظ به النعمان، فرأى ابنه غضبان فضرب رأسه بالسيف فقتله، وبلغ النعمان الخبر فبعث في طلبه فلم يدرك، فقال الحارث في ذلك:
أخصيي حمار بات يكدم نجمةً ... أتؤكل جاراتي وجارك سالم
فإن تك أذواداً أصبت ونسوةً ... فهذا ابن سلمى رأسه متفاقم
علوت بذي الحيّات مفرق رأسه ... ولا يركب المكروه إلاّ الأكارم
فتكت بهن كما فتكت بخالدٍ ... وكان سلاحي تحتويه الجماجم
بدأت بتلك وانثنيت بهذه ... وثالثة تبيضّ منها المقادم
حسبت أبا قابوس أنك مخفري ... ولّما تذق ثكلاً وأنفك راغم

كذا قال بعضهم، وقيل: إن المقتول كان شرحبيل بن الأسود بن المنذر، وكان الأسود قد ترك ابنه شرحبيل عند سنان بن أبي حارثة المري ترضعه زوجته. فمن هناك كان لسنان مال كثير، وكان ابنه هرم يعطى منه، فجاء الحارث متخفياً فاستعار سرج سنان ولا يعلم سنان، ثم أتى امرأة سنان فقال: يقول بعلك ابعثي بشرحبيل ابن الملك مع الحارث بن ظالم حتى يستأمن به ويتخفر به وهذا سرجه علامة. فزينته ودفعته إليه، فأخذه وقتله وهرب.
فغزا الأسود بني ذبيان وبني أسد بشط أربك فقتل فيهم قتلاً ذريعاً وسبى واستأصل الأموال وأقسم ليقتلن الحارث، فسار الحارث متخفياً إلى الحيرة ليفتك بالأسود، فبينما هو في منزله إذ سمع صارخةً تقول: أنا في جوار الحارث بن ظالم، وعرف حالها، وكان الأسود قد أخذ لها صرمةً من الإبل، فقال لها: انطلقي غداً إلى مكان كذا، وأتاه الحارث. فلما وردت إبل النعمان أخذ مالها فسلمه إليها وفيها ناقة تسمى اللقاع، فقال الحارث في ذلك:
إذا سمعت حنّة اللقاع ... فادعي أبا ليلى فنعم الداعي
يمشي بعضبٍ صارمٍ قطّاعٍ ... يفري به مجامع الصّداع
ثم أقبل يطلب مجيراً فلم يجره أحد من الناس وقالوا: من يجيرك على هوازن والنعمان وقد قتلت ولده ؟ فأتى زرارة بن عدس وضمرة بن ضمرة فأجاراه على جميع الناس.
خبر الحارث وعمرو بن الاطنابة.
ثم إن عمرو بن الإطنابة الخزرجي لما بلغه قتل خالد بن جعفر، وكان صديقاً له، قال: والله لو وجده يقظان ما أقدم عليه، ولوددت أني لقيته. وبلغ الحارث قوله وقال: والله لآتينه في رحله ولا ألقاه إلا ومعه سلاحه، فبلغ ذلك ابن الإطنابة فقال أبياتاً، منها:
أبلغ الحارث بن ظالمٍ المو ... عد والناذر النّذور عليّا
إنّما تقتل النيام ولا تق ... تل يقظان ذا سلاح كميّا
فبلغ الحارث شعره فسار إلى المدينة وسأل عن منزل ابن الإطنابة، فلما دنا منه نادى: يا ابن الإطنابة أغثني ! فأتاه عمرو فقال: من أنت ؟ قال: رجل من بني فلان خرجت أريد بني فلان فعرض لي قوم قريباً منك فأخذوا ما كان معي فاركب معي حتى نستنقذه. فركب معه ولبس سلاحه ومضى معه، فلما أبعد عن منزله عطف عليه وقال: أنائمٌ أنت أم يقظان ؟ فقال: يقظان. فقال: أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب، فألقس ابن الإطنابة سيفه، وقيل: رمحه، وقال: قد أعجلتني فأمهلني حتى آخذ سيفي. فقال: خذه. قال: أخاف أن تعجلني عن أخذه. قال: لك ذمة ظالم لا أعجلك عن أخذه. قال: فوذمة الإطنابة لا آخذه ولا أقاتلك ! فانصرف الحارث وهو يقول أبياتاً، منها:
بلغتنا مقالة المرء عمروٍ ... فالتقينا وكان ذاك بديا
فهممنا بقتله إذ برزنا ... ووجدناه ذا سلاح كميّا
غير ما نائمٍ يروّع بالفت ... ك ولكن مقلّداً مشرفيّا
فمننّا عليه بعد علوّ ... بوفاء وكنت قدماً وفيّا
ثم إن الحارث لما علم أن النعمان قد جد في طلبه وهوازن لا تقعد عن الطلب بثأر خالد خرج متنكراً إلى الشام واستجار بيزيد بن عمرو، فأكرمه وأجاره. وكان ليزيد ناقة محماة في عنقها مديةٌ وزناد وملح ليمتحن بذلك رعيته، فوحمت زوجة الحارث واشتهت شحمها ولحمها ورفع منه. وفقدت الناقة فطلبت فوجدت عقيرة بالوادي، فأرسل الملك إلى كاهن فسأله عنها، فذكر له أن الحارث نحرها، فأرسل امرأةً بطيب تشتري من لحمها من امرأة الحارث، فأدركها الحارث وقد اشترت اللحم فقتلها ودفنها في البيت. فسأل الملك الكاهن عن المرأة، فقال: قتلها من نحر الناقة، وإذا كرهت أن تفتش بيته فتأمر الرجل بالرحيل، فإذا رحل فتشت بيته. ففعل ذلك، فلما رحل الحارث فتش الكاهن بيته فوجد المرأة، وأحس بيته. ففعل ذلك، فلما رحل الحارث فتش الكاهن بيته فوجد المرأة، وأحس الحارث بالشر فعاد إلى الكاهن فقتله، فأخذ الحارث وأحضر عند الملك، فأمر بقتله، فقال: إنك قد أجرتني فلا تغدر بي. فقال: إن غدرت بك مرة واحدة فقد غدرت بي مراراً. فقتله.
أيّام داحس والغبراء
وهي بين عبس وذبيان

وكان سبب ذلك أن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي سار إلى المدينة ليتجهز لقتال عامر والأخذ بثأر أبيه، فأتى أحيحة بن الجلاح يشتري منه درعاً موصوفةً. فقال له: لا أبيعها ولولا أن تذمني بنو عامر لوهبتها منك ولكن اشترها بابن لبون. ففعل ذلك وأخذ الدرع، وتسمى ذات الحواشي، ووهبه أحيحة أيضاً أدراعاً، وعاد إلى قومه وقد فرغ من جهازه. فاجتاز بالربيع بن زياد العبسي فدعاه إلى مساعدته على الأخذ بثأره فأجابه إلى ذلك. فلما أراد فراقه نظر الربيع إلى عيبته فقال: ما في حقيبتك ؟ قال: متاع عجيب لو أبصرته لراعك، وأناخ راحلته، فأخرج الدرع من الحقيبة، فأبصرها الربيع فأعجبته ولبسها، فكانت في طوله. فمنعها من قيس ولم يعطه إياها، وترددت الرسل بينهما في ذلك، ولج قيس في طلبها، ولج الربيع في منعها. فلما طالت الأيام على ذلك سير قيس أهله إلى مكة وأقام ينتظر غرة الربيع.
ثم إن الربيع سير إبله وأمواله إلى مرعى كثير الكلإ وأمر أهله فظعنوا، وركب فرسه وسار إلى المنزل، فبلغ الخبر قيساً فسار في أهله وإخوته فعارض ظعائن الربيع وأخذ زمام أمه فاطمة بنت الخرشب وزمام زوجته. فقالت فاطمة أم الربيع: ما تريد يا قيس ؟ قال: أذهب بكن إلى مكة فأبيعكن بها بسبب درعي. قالت: وهيفي ضماني وخل عنا، ففعل. فلما جاءت إلى ابنها قالت له في معنى الدرع، فحلف أنهن لا يرد الدرع، فأرسلت إلى قيس أعلمته بما قال الربيع، فأغار على نعم الربيع فاستاق منها أربعمائة بعير وسار بها إلى مكة فباعها واشترى بها خيلاً، وتبعه الربيع فلم يلحقه، فكان فيما اشترى من الخيل داحس والغبراء.
وقيل: إن داحساً كان من خيل بني يربوع، وإن أباه كان أخذ فرساً لرجل من بني ضبة يقال له انيف بن جبلة، وكان الفرس يسمى السبط، وكانت أم داحش لليربوعي، فطلب اليربوعي من الضبي أن ينزي فرسه على حجره فلم يفعل. فلما كان الليل عمد اليربوعي إلى فرس الضبي فأخذه فأنزاه على فرسه، فاستيقظ الضبي فلم ير فرسه فنادى في قومه، فأجابوه، وقد تعلق باليربوعي، فأخبرهم الخبر، فغضب ضبة من ذلك، فقال لهم: لا تعجلوا، دونكم نطفة فرسكم فخذوها. فقال القوم: قد أنصف. فسطا عليها رجل من القوم فدس يده في رحمها فأخذ ما فيها، فلم تزد الفرس إلا لقاحاً فنتجت مهراً فسمي داحساً بهذا السبب.
فكان عند اليربوعي ابنان له، أغار قيس بن زهير على بني يربوع فنهب وسبى، ورأى الغلامين أحدهما على داحس والآخر على الغبراء فطلبهما فلم يلحقهما، فرجع وفي السبي أم الغلامين وأختان لهما وقد وقع داحس والغبراء في قلبه، وكان ذلك قبل أن يقع بيته وبين الربيع ما وقع. ثم جاء وفد بني يربوع في فداء الأسرى والسبي، فأطلق الجميع إلا أم الغلامين وأختيهما وقال: إن أتاني الغلامان بالمهر والفرس الغبراء وإلا فلا. فامتنع الغلامان من ذلك، فقال شيخ من بني يربوع كان أسيراً عند قيس، وبعث بها إلى الغلامين، وهي:
إنّ مهراً فدى الرباب وجملاً ... وسعاداً لخير مهر أناس
ادفعوا داحساً بهنّ سراعاً ... إنّها من فعالها الأكياس
دونها والذي يحجّ له النا ... س سبايا يبعن بالأفراس
إنّ قيساً يرى الجواد من الخي ... ل حياةً في متلف الأنفاس
يشتري الطّرف بالجراجرة الج ... لّة يعطي عفواً بغير مكاس
فلما انتهت الأبيات إلى بني يربوع قادوا الفرسين إلى قيس وأخذوا النساء.
وقيل: إن قيساً أنزى داحساً على فرس له فجاءت بمهرة فسماها الغبراء. ثم إن قيساً أقام بمكة فكان أهلها يفاخرونه، وكان فخوراً، فقال لهم: نحوا كعبتكم عنا وحرمكم وهاتوا ما شئتم. فقال ل عبد الله بن جدعان: إذا لم نفاخرك بالبيت المعمور وبالحرم الآمن فيم نفاخرك ؟ فمل قيس مفاخرتهم وعزم على الرحلة عنهم، وسر ذلك قريشاً لأنهم قد كانوا كرهوا مفاخرته، فقال لإخوته: ارحلوا بنا من عندهم أولاً وإلا تفاقم الشر بيننا وبينهم، والحقوا ببني بدر فإنهم أكفاؤنا في الحسب، وبنو عمنا في النسب، وأشراف قومنا في الكرم، ومن لا يستطيع الربيع أن يتناولنا معهم. فلحق قيس وإخوته ببني بدر، وقال في مسيره إليهم:
أسير إلى بني بدرٍ بأمرٍ ... هم فيه علينا بالخيار

فإن قبلوا الجوار فخير قومٍ ... وإن كرهوا الجوار فغير عار
أتينا الحارث الخير بن كعب ... بنجران وأي لجا بجار
فجاورنا الذين إذا أتاهم ... غريبٌ حلّ في سعة القرار
فيأمن فيهم ويكون منهم ... بمنزلة الشّعار من الدّثار
وإن نفرد بحرب بني أبينا ... بلا جار فإنّ الله جاري
ثم نزل ببني بدر فنزل بحذيفة، فأجاره هو وأخوه حمل بن بدر، وأقام فيهم، وكان معه أفراس له ولإخوته لم يكن في العرب مثلها، وكان حذيفة يغدو ويروح إلى قيس فينظر إلى خيله فيحسده عليها ويكتم ذلك في نفسه، وأقام قيس فيهم زماناً يكرمونه وإخوته، فغضب الربيع ونقم ذلك عليهم وبعث إليهم بهذه الأبيات:
ألا أبلغ بني بدرٍ رسولاً ... على ما كان من شنإ ووتر
بأنّي لم أزل لكم صديقاً ... أدافع عن فزارة كلّ أمر
أسالم سلمكم وأردّ عنكم ... فوارس أهل نجران وحجر
وكان أبي ابن عمّكم زياد ... صفيّ أبيكم بدر بن عمرو
فألجأتم أخا الغدرات قيساً ... فقد أفعمتم إيغار صدري
فحسبي من حذيفة ضمّ قيس ... وكان البدء من حمل بن بدر
فإمّا ترجعوا أرجع إليكم ... وإن تأبوا فقد أوسعت عذري
فلم يتغيروا عن جوار قيس. فغضب الربيع وغضبت عبس لغضبه، ثم إن حذيفة كره قيساً وأراد إخراجه عنهم فلم يجد حجةً، وعزم قيس على العمرة فقال لأصحابه: إني قد عزمت على العمرة فإياكم أن تلابسوا حذيفة بشيء، واحتملوا كل ما يكون منه حتى أرجع فإني قد عرفت الشر في وجهه وليس يقدر على حاجته منكم إلا أن تراهنون على الخيل. وكان ذا رأي لا يخطئ في ما يريده، وسار إلى مكة. ثم إن فتىً من عبس يقال له ورد ابن مالك أتى حذيفة فجلس إليه، فقال له ورد: لو اتخذت من خيل قيس فحلاً يكون أصلاً لخيلك. فقال حذيفة: خيلي خير من خيل قيس، ولجا في ذلك إلى أن تراهنا على فرسين من خيل قيس وفرسين من خيل حذيفة، والرهن عشرة أذواد.
وسار ورد فقدم على قيس بمكة فأعلمه الحال، فقال له: أراك قد أوقعتني في بني بدر ووقعت معي وحذيفة ظلوم لا تطيب نفسه بحق ونحن لا نقر له بضيمٍ. ورجع قيس من العمرة، فجمع قومه وركب إلى حذيفة وسأله أن يفكر الرهن، فلم يفعل. فسأله جماعة فزارة وعبس فلم يجب إلى ذلك، وقال: إن أقرقيس أن السبق لي وإلا فلا، فقال أبو جعدة الفزاري:
آل بدرٍ دعوا الرّهان فإنّا ... قد مللنا اللجاج عند الرهان
ودعوا المرء في فزارة جاراً ... إنّ ما غاب عنكم كالعيان
ليت شعري عن هاشم وحصين ... وابن عوف وحارث وسنان
حين يأتيهم لجاجك قيساً ... رأي صاحٍ أتيت أم نشوان
وسأل حذيفة إخوته وسادات أصحابه في ترك الرهان ولج فيه، وقال قيس: علام تراهنني ؟ قال: على فرسيك داحس والغبراء وفرسي الخطار والحنفاء، وقيل: كان الرهن على فرسي داحس والغبراء. قال قيس: داحس أسرع. وقال حذيفة: الغبراء أسرع، وقال لقيس: أريد أن أعلمك أن بصري بالخيل أثقب من بصرك؛ والأول أصح. فقال له قيس: نفس في الغاية وارفع في السبق. فقال حذيفة: الغاية من أبلى إلى ذات الإصاد، وهو قدر مائة وعشرين غلوةً، والسبق مائة بعير، وضمروا الخيل. فلما فرغوا قادوا الخيل إلى الغاية وحشدوا ولبسوا السلاح وتركوا السبق على يد عقال ابن مروان بن الحكم القيسي وأعدوا الأمناء على إرسال الخيل.
وأقام حذيفة رجلاً من بني أسد في الطريق وأمره أن يلقى داحساً في وادي ذات الإصاد إن مر به سابقاً فيرمي به إلى أسفل الوادي.

فلما أرسلت الخيل سبقها داحس سبقاً بيناً والناس ينظرون إليه وقيس وحذيفة على رأس الغاية في جميع قومهما. فلما هبط داحس في الوادي عارضه الأسدي فلطم وجهه فألقاه في الماء، فكاد يغرق هو وراكبه ولم يخرج إلا وقد فاتته الخيل. وأما راكب الغبراء فإنه خالف طريق داحس لما رآه قد أبطأ وعاد إلى الطريق واجتمع مع فرسي حذيفة، ثم سقطت الحنفاء وبقي الغبراء والخطار، فكانا إذا أحزنا سبق الخطار وإذا أسهلا سبقت الغبراء. فلما قربا من الناس وهما في وعث من الأرض تقدم الخطار، فقال حذيفة: سبقك يا قيس. فقال: رويدك يعلون الجدد؛ فذهبت مثلاً. فلما استوت بهما الأرض قال حذيفة: خدع والله صاحبنا. فقال قيس: ترك الخداع من أجرى من مائة وعشرين؛ فذهبت مثلاً.
ثم إن الغبراء جاءت سابقة وتبعها الخطار فرس حذيفة، ثم الحنفاء له أيضاً، ثم جاء داحس بعد ذلك والغلام يسير به على رسله، فأخبر الغلام فيساً بما صنع بفرسه، فأنكر حذيفة ذلك وادعى السبق ظالماً، وقال: جاء فرساي متتابعين، ومضى قيس وأصحابه حتى نظروا إلى القوم الذين حبسوا داحساً واختلفوا.
وبلغ الربيع بن زياد خبرهم فسره ذلك وقال لأصحابه: هلك والله قيس، وكأني به إن لم يقتله حذيفة وقد أتاكم يطلب منكم الجوار، أما والله لئن فعل ما لنا من ضمه من بد.
ثم إن الأسدي ندم على حبس داحس فجاء إلى قيس واعترف بما صنع، فسبه حذيفة.
ثم إن بني بدر قصروا بقيس وإخوته وآذوهم بالكلام، فعاتبهم قيس، فلم يزدادوا إلا بغياً عليه وإيذاءً له.
ثم إن قيساً وحذيفة تناكرا في السبق حتى هما بالمؤاخذة، فمنعهما الناس، وظهر لهم بغي حذيفة وظلمه، ولج في طلب السبق، فأرسل ابنه ندبة إلى قيس يطالبه به، فلما أبلغه الرسالة طعنه فقتله وعادت فرسه إلى أبيه ونادى قيس: يا بني عبس الرحيل ؟! فرحلوا كلهم، ولما أتت الفرس حذيفة علم أن ولده قتل، فصاح في الناس وركب في من معه وأتى منازل بني عبس فرآها خاليةً ورأى ابنه قتيلاً، فنزل إليه وقبل بين عينيه ودفنوه.
وكان مالك بن زهير أخو قيس متزوجاً في فزارة وهو نازلٌ فيهم، فأرسل إليه قيس: أني قد قتلت ندبة بن حذيفة ورحلت فالحق بنا وإلا قتلت. فقال: إنما ذنب قيس عيه، ولم يرحل، فأرسل قيس إلى الربيع ابن زياد يطلب منه العود إليه والمقام معه إذ هم عشيرة وأهل، فلم يجبه ولم يمنعه، وكان مفكراً في ذلك.
ثم إن بني بدر قتلوا مالك بن زهير أخا قيس، وكان نازلاً فيهم، فبلغ مقتله بني عبس والربيع بن زياد، فاشتد ذلك عليهم، وأرسل الربيع إلى قيس عيناً يأتيه بخبره، فسمعه يقول:
أينجو بنو بدرٍ بمقتل مالك ... ويخذلنا في النائبات ربيع
وكان زيادق قبله يتّقى به ... من الدهر إن يومٌ ألمّ فظيع
فقل لربيعً يحتذي فعل شيخه ... وما النّاس إلاّ حافظٌ ومضيع
وإلاّ فما لي في البلاد إقامةٌ ... وأمر بني بدرٍ عليّ جميع
فرجع الرجل إلى الربيع فأخبره، فبكى الربيع على مالك وقال:
منع الرّقاد فما أغمّض ساعةً ... جزعاً من الخبر العظيم الساري
أفبعد مقتل مالك بن زهير ... يرجو النساء عواقب الأطهار
من كان مسروراً بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يندبنه ... ويقمن قبل تبلّج الأسحار
يضربن حرّ وجوههنّ على فتىً ... ضخم الدسيعة غير ما خوّار
قد كنّ يكننّ الوجوه تستّراً ... فاليوم حين برزن للنظّار
وهي طويلة.

فسمعها قيس فركب هو وأهله وقصدوا الربيع بن زياد وهو يصلح سلاحه، فنزل إليه قيس وقام الربيع فاتنقا وبكيا وأظهرا الجزع لمصاب مالك، ولقي القوم بعضهم بعضاً فنزلوا. فقال قيس للربيع: إنه لم يهرب منك من لجأ إليه، ولم يستغن عنك من استعان بك، وقد كان لك شر يومي فليكن لي خير يوميك، وإنما أنا بقومي وقومي بك وقد أصاب القوم مالكاً، ولست أهم بسوء لأني إن حاربت بني بدر نصرتهم بنو ذبيان، وإن حاربتني خذلني بنو عبس إلا أن تجمعهم علي، وأنا والقوم في الدماء سواءٌ، قتلت ابنهم وقتلوا أخي، فإن نصرتني طمعت فيهم، وإن خذلتني طمعوا في. فقال الربيع: يا قيس إنه لا ينفعني أن أرى لك من الفضل ما لا أراه لي، ولا ينفعك أن ترى لي ما لا أراه لك، وقد مال علي قتل مالك وأنت ظالم ومظلوم، ظلموك في جوادك وظلمتهم في دمائهم، وقتلوا أخاك بابنهم، فإن يبؤ الدم بالدم فعسى أن تلقح الحرب أقم معك، وأحب الأمرين إلي مسالمتهم ونخلو بحرب هوازن. وبعث قيس إلى أهله وأصحابه، فجاؤوا ونزلوا مع الربيع، وأنشدهم عنترة بن شداد مرثيته في مالك:
فلله عينا من رأى مثل مالكٍ ... عقيرة قومٍ أن جرى فرسان
فليتهما لم يطعما الدهر بعدها ... وليتهما لم يجمعا لرهان
وليتهما ماتا جميعاً ببلدةٍ ... وأخطاهما قيسٌ فلا يريان
لقد جلبا جلباً لمصرع مالكٍ ... وكان كريماً ماجداً لهجان
وكان إذا ما كان يوم كريهةٍ ... فقد علموا أنّي وهو فتيان
وكنّا لدى الهيجاء نحمي نساءنا ... ونضرب عند الكرب كلّ بنان
فسوف ترى إن كنت بعدك باقياً ... وأمكنني دهري وطول زماني
فأقسم حقّاً لو بقيت لنظرة ... لقرّت بها عيناك حين تراني
وبلغ حذيفة أن الربيع وقيساً اتفقا، فشق ذلك عليه واستعد للبلاء. وقيل: إن بلاد عبس كانت قد أجدبت فانتجع أهلها بلاد فزارة، وأخذ الربيع جواراً من حذيفة وأقام عندهم. فلما بلغه مقتل مالك قال لحذيفة: لي ذمتي ثلاثة أيام. فقال حذيفة: ذلك لك. فانتقل الربيع من بني فزارة. فبلغ ذلك حمل بن بدر فقال لحذيفة أخيه: بئس الرأي رأيت ! قتلت مالكاً وخلّيت سبيل الربيع ! والله ليضرمنها عليك ناراً ! فركبا في طلب الربيع، ففاتهما، فعلما أنه قد أضمر الشر.
واتفق الربيع وقيس، وجمع حذيفة قومه وتعاقدوا على عبس، وجمع الربيع وقيس قومهما واستعدوا للحرب، فأغارت فزارة على بني عبس فأصابوا نعماً ورجالاً، فحميت عبس واجتمعت للغارة، فنذرت بهم فزارة. فخرجوا إليهم فالتقوا على ماء يقال له العذق، وهي أول وقعة كانت بينهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل عوف بن يزيد، قتله جندب بن خلف العبسي. وانهزمت فزارة وقتلوا قتلاً ذريعاً، وأسر الربيع بن زياد حذيفة ابن بدر، وكان حر بن الحارث العبسي قد نذر إن قدر على حذيفة أن يضربه بالسيف، وله سيف قاطع يسمى الأصرم، فأراد ضربه بالسيف لما أسر وفاء بنذره، فأرسل الربيع إلى امرأته فغيبت سيفه ونهوه عن قتله وحذروه عاقبة ذلك، فأبى إلا ضربه، فوضعوا عليه الرجال، فضربه، فلم يصنع السيف شيئاً وبقي حذيفة أسيراً.
فاجتمعت غطفان وسعوا في الصلح، فاصطلحوا على أن يهدروا بدر بن حذيفة بدم مالك بن زهير، ويعقلوا عوف بن بدر، ويعطوا حذيفة عن ضربته التي ضربه حر مائتين من الإبل، وأن يجعلوها عشاراً كلها، وأربعة أعبدٍ، وأهدر حذيفة دماء من قتل من فزارة في الوقعة وأطلق من الأسر.
فلما رجع إلى قومه ندم على ذلك وساءت مقالته في بني عبس، وركب قيس بن زهير وعمارة بن زياد فمضيا إلى حذيفة وتحدثا معه. فأجابهما إلى الاتفاق وأن يرد عليهما الإبل التي أخذ منهما، وكانت توالدت عنده. فبيناهم في ذلك إذ جاءهم سنان بن أبي حراثة المري فقبح رأي حذيفة في الصلح وقال: إن كنت لا بد فاعلاً فأعطهم إبلاً عجافاً مكان إبلهم واحبس أولادها. فوافق ذلك رأي حذيفة، فأبى قيس وعمارة ذلك.
وقيل: إن الابل التي طلبوها منه هي إبل كان قد أخذها سبقاً من قيس. وقيل أيضاً: إن مالك بن زهير قتل بعد هذه الوقعة المذكورة؛ قال حميد ابن بدر في ذلك:
قتلنا بعوفٍ مالكاً وهو ثأرنا ... ومن يبتدع شيئاً سوى الحقّ يظلم

وجعل سنان يحث حذيفة على الحرب، فتيسروا لها.
ثم إن الأنصار بلغهم ما عزموا عليه، فاتفق جماعةٌ من رؤسائهم، وهم: عمرو بن الإطنابة، ومالك بن عجلان، وأحيحة بن الجلام، وقيس ابن الخطيم، وغيرهم، وساروا ليصلحوا بينهم، فوصلوا إليهم وترددوا في الاتفاق، فلم يجب حذيفة إلى ذلك وظهر لهم بغيه، فحذروه عاقبته وعادوا عنه.
وأغار حذيفة على عبس، وأغارت عبس على فزارة، وتفاقم الشر، وأرسل حذيفة أخاه حملاً فأغار وأسر ريان بن الأسلع بن سفيان وشده وثاقاً وحمله إلى حذيفة فأطلقه ليرهنه ابنيه وجبير ابن أخيه عمرو بن الأسلع، ففعل ريان ذلك، ثم سار قيس إلى فزارة فلقي منهم جمعاً فيهم مالك بن بدر، فقتله قيس وانهزمت فزارة، فأخذ حينئذ حذيفة ولدي ريان فقتلهما وهما يستغيثان: يا أبتاه ! حتى ماتا، وأما ابن أخيه فمنعه أخواله.
ولما قتل مالك والغلامان اشتدت الحرب بين الفريقين وأكثرها في فزارة ومن معها. ففي بعض الأيام التقوا واقتتلوا قتالاً شديداً ودامت الحرب بينهم إلى آخر النهار، وأبصر ريان بن الأسلع زيد بن حذيفة فحمل عليه فقتله، وانهزمت فزارة وذبيان، وأدرك الحارث بن بدر فقتل، ورجعت عبس سالمةً لم يصب منها أحدٌ. فلما قتل زيد والحارث جمع حذيفة جميع بني ذبيان وبعث إلى أشجع وأسد بن خزيمة فجمعهم، فبلغ ذلك بني عبس فضموا أطرافهم، وأشار قيس بن زهير بالسبق إلى ماء العقيقة، ففعلوا ذلك، وسار حذيفة في جموعه إلى عبس، ومشى السفراء بينهم، فحلف حذيفة: أنه لا يصلح حتى يشرب من ماء العقيقة. فأرسل إليه قيس منه في سقاء وقال: لا أترك حذيفة يخدعني. واصطلحوا على أن تعطي بنو عبس حذيفة ديات من قتل له، ووضعوا الرهائن عدنه إلى أن يجمعوا الديات، وهي عشر، وكانت الرهائن ابناً لقيس بن زهير، وابناً للربيع بن زياد، فوضعوا أحدهما عند قطبة بن سنان والآخر عند رجل من بكر بن وائل أعمى. فعير بعض الناس حذيفة بقبول الدية، فحضر هو وأخوه حمل عند قطبة بن سنان والبكري وقالا: ادفعا إلينا الغلامين لنكسوهما ونسرحهما إلى أهلهما. فأما قطبة فدفع إليهما الغلام الذي عنده، وهو ابن قيس، وأما البكري فامتنع من تسليم من عنده، فلما أخذا ابن قيس عادا فلقيا في الطريق ابناً لعمارة بن زياد العبسي وابن عم له، فأخذاهما وقتلاهما مع ابن قيس.
فلما بلغ ذلك بني عبس أخذوا ما كانوا جمعوا من الديات، فحملوا عليه الرجال واشتروا السلاح، ثم خرج قيس في جماعة فلقوا ابناً لحذيفة ومعه فوارس من ذبيان فقتلوهم. فجمع حذيفة وسار إلى عبس، وهم على ماء يقال له عراعر، فاقتتلوا،فكان الظفر لفزارة ورجعت سالمةً. وجد حذيفة في الحرب وكرهها أخوه حمل وندم على ما كان، وقال لأخيه في الصلح فلم يجب إلى ذلك، وجمع الجموع من أسد وذبيان وسائر بطون غطفان وسار نحو بني عبس، فاجتمعت عبس وتشاوروا في أمرهم، فقال لهم قيس بن زهير: إنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به وليس لبني بدر إلا دماؤكم والزيادة عليكم، وأما من سواهم فلا يريدون غير الأموال والغنيمة، والرأي أننا نترك الأموال بمكانها ونترك معها فارسين على داحس وعلى فرس آخر جوادٍ ونرحل نحن ونكون على مرحلة من الماء، فإذا جاء القوم إلى الأموال سار إلينا الفارسان فأعلمانا وصولهم، فإن القوم يشتغلون بالنهب وحيازة الأموال، وإن نهاهم ذوو الرأي عن ذلك فإن العامة تخالفهم وتنتقض تعبيتهم ويشتغل كل إنسان بحفظ ما غنم ويعلقون أسلحتهم على ظهور الإبل ويأمنون. فنعود نحن إليهم عند وصول الفارسين فندركهم وهم على حال تفرق وتشتتٍ فلا يكون لأحدهم همة إلا نفسه.

ففعلوا ذلك وجاء حذيفة ومن معه فاشتغلوا بالنهب، فنهاهم حذيفة وغيرهم فلم يقبلوا منه، وكانوا على الحال التي وصف قيس. وعادت بنو عبس وقد تفرقت أسد وغيرهم، وبقي بنو فزارة في آخر الناس، فحملوا عليهم من جوانبهم فقتل مالك بن سبيع التغلبي سيد غطفان، وانهزمت فزارة وحذيفة معهم وانفرد في خمسة فوارس وجد في الهرب. وبلغ خبره بني عبس، فتبعه قيس بن زهير والربيع بن زياد وقرواش بن عمرو بن الأسلع وريان بن الأسلع الذي قتل حذيفة ابنيه، وتبعوا أثرهم في الليل، وقال قيس: كأني بالقوم وقد وردوا جفر الهباءة ونزلوا فيه، فساروا ليلتهم كلها حتى أدركوهم مع طلوع الشمس في جفر الهباءة في الماء، وقد أرسلوا خيولهم فأخذوا بجمعها، فمحال قيس وأصحابه بينهم وبينها، وكان مع حذيفة في الجفر أخوه حمل بن بدر وابنه حصن بن حذيفة وغيرهم. فهجم عليهم قيس والربيع ومن معهما وهم ينادون: لبيكم لبيكم ! يعني أنهم يجيبون نداء الصبيان لما قتلوا ينادون: يا أبتاه ! فقال لهم قيس: يا بني بكر كيف رأيتم عاقبة البغي ؟ فناشدوهم الله الرحم، فلم يقبلوا منهم. ودار قرواش ابن عمرو حتى وقف خلف ظهر حذيفة فضربه فدق صلبه، وكان قرواش قد رباه حذيفة حتى كبر عنده في بيته، وقتلوا حملاً أخاه وقطعوا رأسيهما واستبقوا حصن بن حذيفة لصباه. وكان عدد من ؟ قتل في هذه الوقعة من فزارة وأسد وغطفان ما يزيد على أربعمائة قتيل، وقتل من عبس ما يزيد على عشرين قتيلاً، وكانت فزارة تسمي هذه الوقعة البوار؛ وقال قيس ابن زهير:
أقام على الهباءة خير ميتٍ ... وأكرمه حذيفة لا يريم
لقد فجعت به قيسٌ جميعاً ... موالي القوم والقوم الصميم
وعمّ به لمقتله بعيدٌ ... وخصّ به لمقتله حميم
وهي طويلة؛ وقال أيضاً:
ألم تر أنّ خير الناس أمسى ... على جفر الهباءة لا يريم
فلولا ظلمه ما زلت أبكي ... عليه الدهر ما طلع النجوم
ولكنّ الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم
وأكثروا القول في يوم الهباءة.
ثم إن عبساً ندمت على ما فعلت يوم الهباءة، ولام بعضهم بعضاً، فاجتمعت فزارة إلى سنان بن أبي حارثة المري وشكوا إليه ما نزل بهم، فأعظمه وذم عبساً وعزم على أن يجمع العرب ويأخذ بثأر بني بدر وفزارة، وبث رسهل. فاجتمع من العرب خلقٌ كثير لا يحصون، ونهى أصحابه عن التعرض إلى الموال والغنيمة وأمرهم بالصبر، وساروا إلى بني عبس. فلما بلغهم مسيرهم إليهم قال قيس: الرأي أننا لا نلقاهم، فإننا قد وترناهم فهم يطالبوننا بالذخول والطوائل، وقد رأوا ما نالهم بالأمس باشتغالهم بالنهب والمال فهم لا يتعرضون إليه الآن، والذي ينبغي أن نفعله أننا نرسل الظعائن والأموال إلى بني عامر، فإن الدم لنا قبلهم فهم لا يتعرضون لكم ويبقى أولو القوة والجلد على ظهور الخيل ونماطلهم القتال، فإن أبوا إلا القتال كنا قد أحرزنا أهلينا وأموالنا وقاتلناهم وصبرنا لهم، فإن ظفرنا فهو الذي نريد، وإن كانت الأخرى كنا قد احترزنا ولحقنا بأموالنا ونحن على حامية.
ففعلوا ذلك.

يوم ذات الجراجر وسارت ذبيان ومن معها فلحقوا بني عبس على ذات الجراجر فاقتتلوا قتالاً شديداً يومهم ذلك وافترقوا. فلما كان الغد عادوا إلى اللقاء فاقتتلوا أشد من اليوم الأول، وظهرت في هذه الأيام شجاعة عنترة ابن شداد. فلما رأى الناس شدة القتال وكثرة القتلى لاموا سنان بن أبي حارثة على منعه حذيفة عن الصلح وتطيروا منه وأشاروا عليه بحقن الدماء ومراجعة السلم، فلم يفعل وأراد مراجعة الحرب في اليوم الثالث. فلما رأى فتور أصحابه وركونهم إلى السلم رحل عائداً. فلما عاد عنهم رحل قيس وبنو عبس إلى بني شيبان بن بكر وجاوروهم وبقوا معهم مدةً، فرأى قيس من غلمان شيبان ما يكرهه من التعرض لأخذ أموالهم فرحلوا عنهم، فتبعهم جمع من شيبان، فلقيتهم بنو عبس واقتتلوا، فانهزمت شيبان وسارت عبس إلى هجر ليحالفوا ملكهم، وهو معاوية بن الحارث الكندي، فعزم معاوية على الغارة عليهم ليلاً، فبلغهم الخبر فساروا عنه مجدين، وسار معاوية مجداً في اثرهم، فتاه بهم الدليل على عمد لئلا يدركوا عبساً إلا وهم قد لحقهم ودوابهم النصب، فأدركوهم بالفروق فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم معاوية وأهل هجر وتبعتهم عبس فأخذت من أموالهم وقتلوا منهم ما أرادوا ورجعوا سائرين فنزلوا بماء يقال له عراعر عليه حي من كلب، فركبوا ليقاتلوا بني عبس، فبرز الربيع وطلب رئيسهم، فبرز إليه، واسمه مسعود بن مصاد الكلبي. فاقتتلا حتى سقطا إلى الأرض، وأراد مسعود قتل الربيع، فانحسرت البيضة عن رقبته، فرماه رجل من بني عبس بسهم فقتله، فثار به الربيع فقطع رأسه، وحملت عبس على كلب والرأس على رمح فانهزمت كلب وغنمت عبس أموالهم وذراريهم، فساروا إلى اليمامة فحالفوا أهلها من بني حنيفة وأقاموا ثلاث سنين، فلم يحسنوا جوارهم وضيقوا عليهم فساروا عنهم، وقد تفرق كثير منهم وقتل منهم وهلكت دوابهم ووترهم العرب فراسلتهم بنو ضبة وعرضوا عليهم المقام عندهم ليستعينوا بهم على حرب تميم، ففعلوا وجاوروهم.
فلما انقضى الأمر بين ضبة وتميم تغيرت ضبة لعبسٍ وأرادوا اقتطاعهم، فحاربتهم عبس فظفرت وغنمت من أموال ضبة وسارت إلى بني عامر وحالفوا الأحوص بن جعفر بن كلاب، فسر بهم ليقوى بهم على حرب بني تميم لأنه كان بلغه أن لقيط بن زرارة يريد غزو بني عامر والأخذ بثأر أخيه معبد، فأقامت عبس عند بني عامر، فقصدتهم تميم، وكانت وقعة شعب جبلة، وسنذكره إن شاء الله.
ثم إن ذبيان غزوا بني عامر بن صعصعة وفيهم بنو عبس فاقتتلوا، فهزمت عامر وأسر قرواش بن هني العبسي ولم يعرف. فلما قدموا به الحي عرفته امرأةٌ عنهم، فلما عرفوه سلموه إلى حصن بن حذيفة فقتله. ثم رحلت عبس عن عامر ونزلت بتيم الرباب، فبغت تيم عليهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً وتكاثرت عليهم تيم فقتلوا من عبس مقتلة عظيمة. ورحلت عبس وقد ملوا الحرب وقلت الرجال والأموال وهلكت المواشي، فقال لهم قيس: ما ترون ؟ قالوا: نرجع إلى أخواننا من ذبيان فالموت معهم خير من البقاء مع غيرهم. فساروا حتى قدموا على الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وقيل: على هرم بن سنان بن أبي حارثة ليلاً، وكان عند حصن ابن حذيفة بن بدر. فلما عاد ورآهم رحب بهم وقال: من القوم ؟ قالوا: إخوانك بنو عبس، وذكروا حاجتهم. فقال: نعم وكرامة أعلم حصن ابن حذيفة. فعاد إليه وقال: طرقت في حاجة، قال: أعطيتها، قال بنو عبس: وجدت وفودهم في منزلي. قال حصن: صالحوا قومكم، أما أنا فلا أدي ولا أتدي، قد قتل آبائي وعمومتي عشرين من عبس؛ فعاد إلى عبس وأخبرهم بقول حصن وأخذهم إليه، فلما رآهم قال قيس والربيع ابن زياد: نحن ركبان الموت. قال: بل ركبان السلم، إن تكونوا اختللتم إلى قومكم فقد اختل قومكم إليكم. ثم خرج معهم حتى أتوا سناناً فقال له: قم بأمر عشيرتك وأصلح بينهم فإني سأعينك. ففعل ذلك وتم الصلح بينهم وعادت عبس.
وقيل: إن قيس بن زهير لم يسر مع عبس إلى ذبيان وقال: لا تراني غطفانيةٌ أبداً وقد قتلت أخاها أو زوجها أو ولدها أو ابن عمها، ولكني سأتوب إلى ربي، فتنصر وساح في الأرض حتى انتهى إلى عمان فترهب بها زماناً، فلقيه حوج بن مالك العبدي فعرفه فقتله وقال: لا رحمني الله إن رحمتك.

وقيل: إن قيساً تزوج في النمير بن قاسط لما عادت عبس إلى ذبيان، وولد له ولد اسمه فضالة، فقدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، وعقد له على من معه من قومه، وكانوا تسعة وهو عاشرهم.
انقضى حرب داحس والغبراء، والحمد لله.
يوم شعب جبلةكان لقيط بن زرارة قد عزم على غزو بني عامر بن صعصعة للأخذ بثأر أخيه معبد بن زرارة، وقد ذكرنا موته عندهم أسيراً. فبينما هو يتجهز أتاه الخبر يحلف بني عبس وبني عامر، فلم يطمع في القوم وأرسل إلى كل من كان بيته وبين عبس ذحل يسأله الحلف والتظافر على غزو عبس وعامر. فاجتمعت إليه أسد وغطفان وعمرو بن الجون ومعاوية بن الجون واستوثقوا واستكثروا وساروا، فعقد معاوية بن الجون الألوية، فكان بنو أسد وبنو فزارة بلواء مع معاوية بن الجون، وعقد لعمرو بن تميم مع حاجب بن زرارة، وعقد للرباب مع حسان بن همام، وعقد لجماعة من بطون تميم مع عمرو ابن عدس، وعقد لحنظلة بأسرها ع لقيط بن زرارة، وكان مع لقيط ابنته دخنتوس، وكان يغزو بها معه ويرجع إلى رأيها.
وساروا في جمع عظيم لا يشكون في قتل عبس وعامر وإدراك ثأرهم، فلقي لقيط في طريقه كرب بن صفوان بن الحباب السعدي، وكان شريفاً، فقال: ما منعك أن تسير معنا في غزاتنا ؟ قال: أنا مشغول في طلب إبل لي. قال: لا بل تريد أن تنذر بنا القوم، ولا أتركك حتى تحلف أنك لا تخبرهم، فحلف له، ثم سار عنه وهو مغضب. فلما دنا من عامر أخذ خرقة فصر فيها حنظلةً وشوكاً وتراباً وخرقتين يمانيتين وخرقة حمراء وعشرة أحجار سود ثم رمى بها حيث يسقون ولم يتكلم. فأخذها معاوية بن قشير، فأتى بها الأحوص بن جعفر وأخبره أن رجلاً ألقاها وهم يسقون. فقال الأحوص لقيس بن زهير العبسي: ما ترى في هذا الأمر ؟ قال: هذا من صنع الله لنا، هذا رجل قد أخذ عليه عهدٌ على أن لا يكلمكم فأخبركم أن أعداءكم قد غزوكم عدد التراب، وأن شوكتهم شديدة، وأما الحنظلة فهي رؤساء القوم، وأما الخرقتان اليمانيتان فهما حيان من اليمن معهم، وأما الخرقة الحمراء فهي حاجب بن زرارة، وأما الأحجار فهي عشر ليال يأتيكم القوم إليها، قد أنذرتكم فكونوا أحراراً فاصبروا كما يصبر الأحرار الكرام.
قال الأحوص: فإنا فاعلون وآخذون برأيك، فإنه لم تنزل بك شدة إلا رأيت المخرج منها. قال: فإذا قد رجعتم إلى رأيي فأدخلوا نعمكم شعب جبلة ثم اظمئوها هذه الأيام ولا توردوها الماء، فإذا جاء القوم أخرجوا عليهم الإبل وانخسوها بالسيوف والرماح فتخرج مذاعير عطاشاً فتشغلهم وتفرق جمعهم واخرجوا أنتم في آثارها واشفوا نفوسكم. ففعلوا ما أشار به.
وعاد كرب بن صفوان فلقي لقيطاً فقال له: أنذرت القوم ؟ فأعاد الحلف له أنه لم يكلم أحداً منهم، فخلى عنه. فقالت دخنتوس ابنة لقيط لأبيها: ردني إلى أهلي ولا تعرضني لعبس وعامر فقد أنذرهم لا محالة. فاستحمقها وساءه كلامها وردها. وسار حتى نزل على فم الشعب بعساكر جرارة كثيرة الصواهل وليس لهم هم إلا الماء، فقصدوه. فقال لهم قيس: أخرجوا عليهم الآن الإبل، ففعلوا ذلك، فخرجت الإبل مذاعير عطاشاً وهم في أعراضها وأدبارها، فخبطت تميماً ومن معها وقطعتهم، وكانوا في الشعب، وأبرزتهم إلى الصحراء على غير تعبية. وشغلوا عن الاجتماع إلى ألويتهم، وحملت عيهم عبس وعامر فاقتتلوا قتالاً شديداً وكثرت القتلى في تميم، وكان أول من قتل من رؤسائهم عمرو بن الجون، وأسر معاوية بن الجون وعمرو بن عمرو بن عدس زوج دخنتوس بنت لقيط، وأسر حاجب ابن زرارة، وانحاز لقيط بن زرارة، فدعا قومه وقد تفرقوا عنه، فاجتمع إليه نفر يسير، فتحرز برايته فوق جرف ثم حمل فقتل فيهم ورجع وصاح: أنا لقيط، وحمل ثانيةً فقتل وجرح وعاد، فكثر جمعه، فانحط الجرف بفرسه، وحمل عليه عنترة فطعنه طعنة قصم بها صلبه، وضربه قيس بالسيف فألقاه متشحطاً في دمه، فذكر ابنته دخنتوس فقال:
يا ليت شعري عنك دخنتوس ... إذا أتاها الخبر المرموس
أتحلق القرون أم تميس ... لا بل تمس إنّها عروس
ثم مات وتمت الهزيمة على تميم وغطفان، ثم فدوا حاجباً بخمسمائة من الإبل، وفدوا عمرو بن عمرو بمائتين من الإبل، وعاد من سلم إلى أهله. وقالت دختنوس ترثي أباها قصائد، منها:
عثر الأغرّ بخير خن ... دف كهلها وشبابها

وأضرّها لعدوّها ... وأفكّها لرقابها
وقريعها ونجيبها ... في المطبقات ونابها
ورئيسها عند الملو ... ك وزين يوم خطابها
وأتّمها نسباً إذا ... رجعت إلى أنسابها
فرعى عموداً للعشي ... رة رافعاً لنصابها
ويعولها ويحوطها ... ويذبّ عن أحسابها
ويطا مواطن للعد ... وّ فكان لا يمشى بها
فعل المدلّ من الأسو ... د لحينها وتبابها
كالكوكب الدّرّيّ في ... سماء لا يخفى بها
عبث الأغرّ به وك ... لّ منيّة لكتابها
فرّت بنو أسد فرا ... ر الطير عن أربابها
وهوازنٌ أصحابهم ... كالفأر في أذنابها
وذكر محمد بن إسحاق في يوم جبلة غير ما ذكرنا، قال: كان سببه أن بني خندف كان لهم على قيس أكلٌ تأكله القعدد من خندف، فكان ينتقل فيهم حتى انتهى إلى تميم، ثم من تميم إلى بني عمرو بن تميم، وهم أقل بطن منهم وأذله، فأبت قيس أن تعطي الأكل وامتنعت منه، فجمعت تميم وحالفت غيرها من العرب وساروا إلى قيس، فذكر القصة نحو ما تقدم وخالف في البعض فلا حاجة إلى ذكره.
وفي هذا اليوم ولد عامر بن الطفيل العامري.
وقد قال بعض العلماء إن المجوسية كان يدين بها بعض العرب بالبحرين، وكان زرارة عدس وابناه حاجب ولقيط والأقرع بن حابس وغيرهم مجوساً، وإن لقيطاً تزوج ابنته دختنوس وسماها بهذا الاسم الفارسي، وإنه قتل وهي تحته، فقال في ذلك: يا ليت شعري عنك دختنوس الأبيات. والأول أصح، والله أعلم.
يوم ذات نكيفكان بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة مبغضين لقريش مضطغنين عليهم ما كان من قصي حين أخرجهم من مكة مع من أخرج من خزاعة حين قسمها رباعاً وخططاً بين قريش. فلما كانوا على عهد عبد المطلب هموا بإخراج قريش من الحرم وأن يقاتلوهم حتى يغلبوهم عليه، وعدت بنو بكر على نعمٍ لبني الهون بن خزيمة فاطردوها، ثم جمعوا جموعهم وجمعت قريش جموعهم واستعدت، وعقد عبد المطلب الحلف بين قريش والأحابيش، وهم بنو الحارث بن عبد مناة وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة وبنو المصطلق من خزاعة، فلقوا بني بكر ومن انضم إليهم، وعلى الناس عبد المطلب، فاقتتلوا بذات نكيف، فانهزم بنو بكر وقتلوا قتلاً ذريعاً، فلم يعودوا لحرب قريش، قال ابن شعلة الفهري:
فللّه عينا من رأى من عصابة ... غوت غيّ بكر يوم ذات نكيف
أناخوا إلى أبياتنا ونسائنا ... فكانوا لنا ضيفاً بشرّ مضيف
فقتل يومئذ عبد بن السفاح القاري من القارة قتادة بن قيس أخا بلعاء ابن قيس، واسم بلعاء مساحق. ويومئذ قيل: قد أنصف القارة من راماها؛ والقارة من ولد الهون بن خزيمة، وهو من ولد عضل بن الدّيش؛ قال رجل منهم:
دعونا قارةً لا تنفرونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم
وقيل: بهذا البيت سموا قارةً، وكان يقال للقارة رماة الحدق.
ذكر الفجار الأول والثانيأما الفجار الأول فلم يكن فيه كثير أمرٍ ليذكر، وإنما ذكرناه لئلا يرى ذكر الفجار الثاني وما كان فيه من الأمور العظيمة فيظن أن الأول مثله وقد أهملناه، فلهذا ذكرناه.
قال ابن إسحاق: كان الفجار الأول بين قريش ومن معها من كنانة كلها وبين قيس عيلان. وسببه أن رجلاً من كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، فأعدم الكناني، فوافى النصري سوق عكاظ بقرد وقال: من يبيعني مثل هذا بما لي على فلان الكناني ؟ فعل ذلك تعييراً للكناني وقومه؛ فمر به رجلٌ من كنانة فضرب القرد بالسيف فقتله أنفةً مما قال النصري، فصرخ النصري في قيس، وصرخ الكناني في كنانة، فاجتمع الناس وتحاوروا حتى كاد يكون بينهم القتال ثم اصطلحوا.

وقيل: كان سببه أن فتيةً من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر وهي وضيئة عيها برقع، فقالوا لها: اسفري لننظر إلى وجهك: فلم تفعل. فقال غلام منهم فشك ذيك درعها إلى ظهرها ولم تشعر، فلما قامت انكشفت دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهك فقد نظرنا إلى دبرك. فصاحت المرأة: يا بني عامر فضحت ! فأتاها الناس واشتجروا حتى كاد يكون قتال، ثم رأوا أن الأمر يسير فاصطلحوا. وقيل: بل قعد رجل من بني غفار يقال له أبو معشر بن مكرز، وكان عازماً منيعاً في نفسه، وكان بسوق عكاظ، فمد رجله ثم قال:
نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عينه لا يطرف
ومن يكونوا قومه يغطرف ... كأنّه لجّة بحر مسرف
أنا والله أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف. فقام رجل من قيس يقال له أحمر بن مازن فضربها بالسف فخرشها خرشاً غير كثير، فاختصم الناس ثم اصطلحوا. بنو نصر بالنون.
وأما الفجار الثاني، وكان بعد الفيل بعشرين سنة، وبعد موت عبد المطلب باثنتي عشرة سنة، ولم يكن في أيام العرب أشهر منه ولا أعظم، فإنما سمي الفجار لما استحل الحيان كنانة وقيس فيه من المحارم، وكان قبله يوم جبلة، وهو مذكور من أيام العرب، والفجار أعظم منه. وكان سببه أن البراض بن قيس بن رافع الكناني ثم الضمري كان رجلاً فاتكاً خليعاً قد خلعه قومه لكثرة شره، وكان يضرب المثل بفتكه فيقال: أفتك من البراض. قال بعضهم:
والفتى من تعرّفته الليلة ... فهو فيها كالحّية النضناض
كلّ يوم له بصرف الليالي ... فتكةٌ مثل فتكة البرّاض
فخرج حتى قدم على النعمان بن المنذر، وكان النعمان يبعث كل عام بلطيمة للتجارة إلى عكاظ تباع له هناك، وكان عكاظ وذو المجاز ومجنة أسواقاً تجتمع بها العرب كل عام إذا حضر الموسم فيأمن بعضهم بعضاً حتى تنقضي أيامها، وكانت مجنة بالظهران، وكانت عكاظ بين نخلة والطائف، وكان ذو المجاز بالجانب الأيسر إذا وقفت على الموقف، فقال النعمان، وعنده البراض وعروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب المعروف بالرحال، وإنما قيل له ذلك لكثرة رحلته إلى الملوك: من يجيز لي لطيمتي هذه حتى يبلغها عكاظ ؟ فقال البراض: أنا أجيزها، أبيت اللعن، على كنانة. فقال النعمان: إنما أريد من يجيزها على كنانة وقيس ! فقال عروة: أكلبٌ خليع يجيزها لك، أبيت اللعن ! أنا أجيزها على أهل الشيح والقيصوم من أهل تهامة وأهل نجد. فقال البراض، وغضب: وعلى كنانة تجيزها يا عروة ؟ قال عروة: وعلى الناس كلهم.

فدفع النعمان اللطيمة إلى عروة الرحال وأمره بالمسير بها، وخرج البراض يتبع أثره، وعروة يرى مكانه ولا يخشى منه، حتى إذا كان عروة بين ظهري قومه بوادٍ يقال له تيمن ينواحي فدك أدركه البراض بن قيس فأخرج قداحه يستقسم بها في قتل عروة، فمر به عروة فقال: ما تصنع يا براض ؟ فقال: أستقسم في قتلك أيؤذن لي أم لا. فقال عروة: استك أضيق من ذلك ! فوثب إليه البراض بالسف فقتله. فلما رآه الذين يقومون على العير والأحمار قتيلاً انهزموا، فاستاق البراض العير وسار على وجهه إلى خيبر، وتبعه رجلان من قيس ليأخذاه، أحدهما غنوي والآخر غطفاني، اسم الغنوي أسد ابن جوين، واسم الغطفاني مساور بن مالك، فلقيهما البراض بخيبر أول الناس فقال لهما: من الرجلان ؟ قالا: من قيس قدمنا لنقتل البراض. فأنزلهما وعقل راحلتيهما، ثم قال: أيكما أجرأ عليه وأجود سيفاً ؟ قال الغطفاني: أنا. فأخذه ومشى معه ليدله بزعمه على البراض، فقال للغنوي: احفظ راحلتيكما، ففعل، وانطلق البراض بالغطفاني حتى أخرجه إلى خربة في جانب خيبر خارجاً من البيوت، فقال للغطفاني: هو في هذه الخربة إليها يأوي فأمهلني حتى أنظر أهو فيها. فوقف ودخل البراض ثم خرج فقال: هو فيها وهو نائم، فأرني سيفك حتى أنظر إليه أضاربٌ هو أم لا، فأعطاه سيفه، فضربه به حتى قتله ثم أخفى السيف وعاد إلى الغنوي فقال له: لم أر رجلاً أجبن من صاحبك، تركته في البيت الذي فيه البراض وهو نائم فلم يقدم عليه. فقال: انظر لي من يحفظ الراحلتين حتى أمضي إليه فأقتله. فقال: دعهما وهما علي، ثم انطلقا إلى الخربة، فقتله وسار بالعير إلى مكة، فلقي رجلاً من بني أسد بن خزيمة، فقال له البراض: هل لك إلى أن أجعل لك جعلاً أن تنطلق إلى حرب بن أمية وقومي فإنهم قومي وقومك، لأن أسد بن خزيمة من خندف أيضاً، فتخبرهم أن البراض بن قيس قتل عروة الرحال، فليحذروا قيساً ! وجعل له عشراً من الإبل. فخرج الأسدي حتى أتى عكاظ، وبها جماعة من الناس، فأتى حرب بن أمية فأخبره الخبر، فبعث إلى عبد الله بن جدعان التيمي وإلى هشام بن المغيرة المخومي، وهو والد أبي جهل، وهما من أشراف قريش وذوي السن منهم، وإلى كل قبيلة من قريش أحضر منها رجلاً، وإلى الحليس بن يزيد الحارثي، وهو سيد الأحابيش، فأخبرهم أيضاً. فتشاوروا وقالوا: نخشى من قيس أن يطلبوا ثأر صاحبهم منا فإنهم لا يرضون أن يقتلوا به خليعاً من بني ضمرة. فاتفق رأيهم على أن يأتوا أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب ملاعب الأسنة، وهو يومئذ سيد قيس وشريفها، فيقولوا له: إنه قد كان حدث بين نجد وتهامة وإنه لم يأتنا علمه فأجز بين الناس حتى تعلم وتعلم.
فأتوه وقالوا له ذلك، فأجاز بين الناس وأعلم قومه ما قيل له، ثم قام نفر من قريش فقالوا: يا أهل عكاظ إنه قد حدث في قومنا بمكة حدثٌ أتانا خبره ونخشى إن تخلفنا عنهم أن يتفاقم الشر فلا يروعنكم تحملنا. ثم ركبوا على الصعب والذلول إلى مكة. فلما كان آخر اليوم أتى عامر بن مالك ملاعب الأسنة الخبر فقال: غدرت قريش وخدعني حرب بن أمية، والله لا تنزل كنانة عكاظ أبداً. ثم ركبوا في طلبهم حتى أدركوهم بنخلة، فاقتتل القول، فاشتعلت قيس، فكادت قريش تنهزم إلا أنها على حاميتها تبادر دخول الحرم ليأمنوا به. فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا الحرم مع الليل، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معهم، وعمره عشرون سنة.
وقال الزهري: لم يكن معهم، ولو كان معهم لم ينهزموا، وهذه العلة ليست بشيء لأنه قد كان بعد الوحي والرسالة ينهزم أصحابه ويقتلون، وإذا كان في جمع قبل الرسالة وانهزموا فغير بعيد. ولما دخلت قريش الحرم عادت عنهم قيس وقالوا لهم: يا معشر قريش إنا لا نترك دم عروة وميعادنا عكاظ في العام المقبل، وانصرفت إلى بلادها يحرض بعضها بعضاً ويبكون عروة الرحال. يوم شمطة ثم إن قيساً جمعت جموعها ومعها ثقيف غيرها، وجمعت قريش جموعها، منهم كنانة جميعها والأحابيش وأسد بن خزيمة، وفرقت قريش السلاح في الناس، فأعطى عبد الله بن جدعان مائة رجل سلاحاً تاماً، وفعل الباقون مثله.

وخرجت قريش للموعد على كل بطن منها رئيس، فكان على بني هاشم الزبير بن عبد المطلب ومعه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإخوته أبو طالب وحمزة والعباس بنو عبد المطلب، وعلى بني أمية وأحلافها حرب ابن أمية، وعلى بني عبد الدار عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وعلى بني أسد بن عبد العزى خويلد بن أسد، وعلى بني مخزوم هشام بن المغيرة أبو أبي جهل، وعلى بني تيم عبد الله بن جدعان، وعلى بني جمح معمر ابن حبيب بن وهب، وعلى بني سهم العاصب بن وائل، وعلى بني عدي زيد ابن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد، وعلى بني عامر بن لؤي عمرة بن عبد شمس والد سهيل بن عمرو، وعلى بني فهر عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة، وعلى الأحابيش الحليس بن يزيد وسفيان بن عويف هما قائداهم، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة كنانة وعضل والقارة الديش من بني الهون بن خزيمة والمصطلق بن خزاعة، سموا بذلك لحلفهم بني الحارث، والتحبش التجمع، وعلى بني بكر بلعاء بن قيس، وعلى بني فراس بن غنم من كنانة عمير بن قيس جذل الطعان، وعلى بني أسد بن خزيمة بشر بن أبي محازم، وكان على جماعة الناس حرب بن أمية لمكانة من عبد مناف سناً ومنزلةً.
وكانت قيس قد تقدمت إلى عكاظ قبل قريش، فعلى بني عامر ملاعب الأسنة أبو براء، وعلى بني نصر وسعد وثقيف سبيع بن ربيع بن معاوية، وعلى بني جشم الصمة والد دريد، وعلى غطفان عوف بن أبي حارثة المري،وعلى بني سليم عباس بن زعل بن هني بن أنس، وعلى فهم وعدوان كدام بن عمرو. وسارت قريش حتى نزلت عكاظ وبها قيس. وكان مع حرب بن أمية إخوته سفيان وأبو سفيان والعاص وأبو العاص بنو أمية، فعقل حربٌ نفسه وقيد سفيان وأبو العاص نفسيهما وقالوا: لن يبرح رجل منا مكانه حتى نموت أو نظفر، فيومئذ سموا العنابس، والعنبس الأسد. واقتتل الناس قتالاً شديداً، فكان الظفر أول النهار لقيس، وانهزم كثير من بني كنانة وقريش، فانهزم بنو زهرة وبنو عدي، وقتل معمر بن حبيب الجمحي، وانهزمت طائفة من بني فراس، وثبت حرب بن أمية وبنو عبد مناف وسائر قبائل قريش، ولم يزل الظفر لقيس على قريش وكنانة إلى أن انتصف النهار. ثم عاد الظفر لقريش وكنانة فقتلوا من قيس فأكثروا، وحمي القتال واشتد الأمر فقتل يومئذ تحت راية بني الحاث بن عبد مناة بن كنانة مائة رجل وهم صابرون، فانهزمت قيس، وقتل من أشرافهم عباس ابن زعل السلمي وغيره. فلما رأى أبو السيد عم مالك بن عوف النصري ما تصنع كنانة من القتل نادى: يا معشر بني كنانة أسرفتم في القتل. فقال ابن جدعان: إنا معشر يسرف.
ولما رأى سبيع بن ربيع بن معاوية هزيمة قبائل قيس عقل نفسه واضطجع وقال: يا معشر بني نصر قاتلوا عني أو ذروا. فعطفت عليه بنو نصر وجشم وسعد بن بكر وفهم وعدوان وانهزم باقي قبائل قيس، فقاتل هؤلاء أشد قتال رآه الناس. ثم إنهم تداعوا إلى الصلح فاصطلحوا على أن يعدوا القتلى فأي الفريقين فضل له قتلى أخذ ديتهم من الفريق الآخر، فتعادوا القتلى فوجدوا قريشاً وبني كنانة قد أفضلوا على قيس عشرين رجلاً، فوهن حرب بن أمية يومئذ ابنه أبا سفيان في ديات القوم حتى يؤديها، ورهن غيره من الرؤساء، وانصرف الناس بعضهم عن بعض ووضعوا الحرب وهدموا ما بينهم من العداوة والشر وتعاهدوا على أن لا يؤذي بعضهم بعضاً فيما كان من أمر البراض وعروة.
يوم ذي نجبوكان من حديث يوم ذي نجب أن بني عامر لما أصابوا من تميم ما أصابوا يوم جبلة رجوا أن يستأصلوهم، فكاتبوا حسان بن كبشة الكندي، وكان ملكاً من ملوك كندة، وهو حسان بن معاوية بن حجر، فدعوه إلى أن يغزو معهم بني حنظلة من تميم، فأخبروه أنهم قد قتلوا فرسانهم ورؤساءهم، فأقبل معهم بصنائعه ومن كان معه. فلما أتى بني حنظلة خبر مسيرهم قال لهم عمرو بن عمرو: يا بني مالك إنه لا طاقة لكم بهذا الملك وما معه من العدد فانتقلوا من مكانكم، وكانوا في أعالي الوادي مما يلي مجيء القوم، وكانت بنو يربوع بأسفله، فتحولت بنو مالك حتى نزلت خلف بني يربوع، وصارت بنو يربوع تلي الملك.

فلما رأوا ما صنع بنو مالك استعدوا وتقدموا إلى طريق الملك. فلما كان وجه الصبح وصل ابن كبشة فيمن معه وقد استعد القوم فاقتتلوا. فلما رآهم بنو مالك وصبرهم في القتال ساروا إليهم وشهدوا معهم القتال فاقتتلوا ملياً، فضرب حشيش بن نمران الرياحي ابن كبشة الملك على رأسه فصرعه، فمات، وقتل عبيدة بن مالك بن جعفر، وانهزم طفيل بن مالك على فرسه قرزل، وقتل عمرو بن الأحوص بن جعفر، وكان رئيس عامر، وانهزمت بنو عامر وصنائع ابن كبشة. قال جرير في الإسلام يذكر اليوم بذي نجب:
بذي نجبٍ ذدنا وواكل مالك ... أخاً لم يكن عند الطّعان بواكل
وكان يوم ذي نجب بعد يوم جبلة بسنة. وبقي الأحوص بعد ابنه عمرو يسيراً وهلك أسفاً عليه.
يوم نعف قشاوةوهو يوم لشيبان على تميم: قال أبو عبيدة: أغار بسطام بن قيس على بني يربوع من تميم وهم بنعف قشاوة، فاهم ضحىً، وهو يوم ريح ومطر، فوافق النعم حين سرح، فأخذه كله ثم كر راجعاً، وتداعت عيله بنو يربوع فلحقوه وفيهم عمارة بن عتيبة بن الحارث بن شهاب، فكر عليه بسطام فقتله، ولحقهم مالك بن حطان اليربوعي فقتله، وأتاهم أيضاً بجير بن أبي مليل فقتله بسطام، وقتلوا من يربوع جمعاً وأسروا آخرين، منهم: مليل بن أبي مليل، وسلموا وعادوا غانمين. فقال بعض الأسرى لبسطام: أيسرك أن أبا مليل مكاني ؟ قال: نعم. قال: فإن دللتك عليه أتطلقني الآن ؟ قال: نعم. قال: فإن ابنه بجيراً كان أحب خلق الله إليه وستجده الآن مكباً عليه يقبله فخذه أسيراً. فعاد بسطام فرآه كما قال، فأخذه أسيراً وأطلق اليربوعي. فقال له أبو مليل: قتلت بجيراً وأسرتني وابني مليلاً ! والله لا أطعم الطعام أبداً وأنا موثق. فخشي بسطام أن يموت فأطلقه بغير فداء على أن يفادي مليلاً وعلى أن لا يتبعه بدم ابنه بجير ولا يبغيه غائلة ولا يدل له على عورة ولا يغير عليه ولا على قومه أبداً، وعاهده على ذلك، فأطلقه وجز ناصيته، فرجع إلى قومه وأراد الغدر ببسطام والنكث به، فأرسل بعض بني يربوع إلى بسطام بخبره، فحذره؛ وقال متمم بن نويرة:
أبلغ شهاب بني بكرٍ وسيّدها ... عنيّ بذاك الصّهباء بسطاما
أروي الأسنّة من قومي فأنهلها ... فأصبحوا في بقيع الأرض نوّاما
لا يطبقون إذا هبّ النيام ولا ... في مرقدٍ يحلمون الدهر أحلاما
أشجي تميم بن مرّ لا مكايدةً ... حتّى استعادوا له أسرى وأنعاما
هلاّ أسيراً فدتك النفس تطعمه ... ممّا أراد وقدماً كنت مطعاما
وهي أبيات عدة.
يوم الغبيطوهو يوم كانت الحرب فيه بين بني شيبان وتميم، أسر فيه بسطام بن قيس الشيباني.
وسبب ذلك أن بسطام بن قيس والحوفزان بن شريك ومفروق بن عمرو ساروا فيجمع من بني شيبان إلى بلاد تميم فأغاروا على ثعلبة بن يربوع وثعلبة بن سعد بن ضبة وثعلبة بن عدي بن فزارة وثعلبة بن سعد بن ذبيان، وكانوا متجاورين بصحراء فلج، فاقتتلوا، فانهزمت الثعالبة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغنم بنو شيبان أموالهم، ومروا على بني مالك بن حنظلة من تميم، وهم بين صحراء فلج وغبيط المدرة فاستاقوا إبلهم. فركبت إليهم بنو مالك يقدمهم عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي وفرسان بني يربوع، وساروا في أثر بني شيبان ومعه من رؤساء تميم الأحيمر بن عبد الله وأسيد بن جباة وحر بن سعد ومالك بن نويرة فأدركوهم بغبيط المدرة فقاتلوهم. وصبر الفريقان، ثم انهزمت شيبان واستعادت تميم ما كانوا غنموه من أموالهم، وقتلت بنو شيبان أبا مرحب ربيعة بن حصية، وألح عتيبة بن الحارث على بسطام بن قيس فأدركه فقال له: استأسر أبا الصهباء فأنا خير لك من الفلاة والعطش. فاستأسر له بسطام بن قيس. فقال بنو ثعلبة لعتيبة: إن أبا مرحب قد قتل وقد أسرت بسطاماً وهو قاتل مليل وبجير ابني أبي مليل ومالك بن حطان وغيرهم فاقتله. قال: إني معيل وأنا أحب اللبن. قالوا: إنك تفاديه فيعود فيحربنا مالنا، فأبى عليهم وسار به إلى بني عامر بن صعصعة لئلا يؤخذ فيقتل، وإنما قصد عامراً لأن عمته خولة بنت شهاب كانت ناكحاً فيهم؛ فقال مالك بن نويرة في ذلك:
لله عتّاب بن ميّة إذا رأى ... إلى ثأرنا في كفّه يتلدّد

أتحيي امرأً أردى بجيراً ومالكاً ... وأتوى حريثاً بعدما كان يقصد
ونحن ثأرنا قبل ذاك ابن أمّه ... غداة الكلابيّين والجمع يشهد
ونحن توسط عتيبة بيوت بني عامر صاح بسطام: واشيباناه ! ولا شيبان لي اليوم ! فبعث إليه عامر بن الطفيل: إن استطعت أن تلجأ إلى قبتي فافعل فإني سأمنعك، وإن لم تستطع فاقذف نفسك في الركي. فأتى عتيبة تابعه من الجن فأخبره بذلك، فأمر ببيته فقوض. فركب فرسه وأخذ سلاحه ثم أتى ملجس بني جعفر، وفيه عامر بن الطفيل الغنوي، فحياهم وقال: يا عامر قد بلغني الذي أسلت به إلى بسطام فأنا مخيرك فيه خصالاً ثلاثاً. فقال عامر: وما هي ؟ قال: إن شئت فأعطني خلعتك وخلعة أهل بيتك حتى أطلقه لك، فليست خلعتك وخلعة أهل بيتك بشر من خلعته وخلعة أهل بيته. فقال عامر: هذا لا سبيل إليه. قال عتيبة: ضع رجلك مكان رجله فلست عندي بشر منه. فقال: ما كنت لأفعل قال عتيبة: تتبعني إذا جاوزت هذه الرابية فتقارعني عنه على الموت. فقال عامر: هذه أبغضهن إلي. فانصرف به عتيبة إلى بني عبيد بن ثعلبة فرأى بسطام مركب أم عتيبة رثاً فقال: يا عتيبة هذا رحل أمك ؟ قال: نعم. قال: ما رأيت رحل أم سيدٍ قط مثل هذا. فقال عتيبة: واللات والعزى لا أطلقك حتى تأتيني أمك بحدجها، وكان كبيراً ذا ثمن كثيرٍ، وهذا الذي أراد بسطام ليرغب فيه فلا يقتله. فأرسل بسطام فأحضر حدج أمه وفادى نفسه بأربعمائة بعير، وقيل: بألف بعير، وثلاثين فرساً وهودج أمه وحدجها وخلص من الأسر. فلما خلص من الأسر أذكى العيون على عتيبة وإبله، فعادت إليه عيونه فأخبروه أنها على أرباب، فأغار عليها وأخذ الإبل كلها وما لهم معها.
عتيبة بالتاء فوقها نقطتان، والياء تحتها نقطتان ساكنة، وفي آخرها باء موحدة.
يوم لشيبان على بني تميمقال أبو عبيدة: خرج الأقرع بن حابس وأخوه فراس التميميان، وهما الأقرعان، في بني مجاشع من تميم وهما يريدان الغارة على بكر بن وائل ومعهما البروك أبو جعل، فلقيهم بسطام بن قيس الشيباني وعمران ابن مرة في بني بكر بن وائل بزبالة فاقتتلوا قتالاً شديداً ظفرت فيه بكر وانهزمت تميم وأسر الأقرعان وأبو جعل وناس كثير، وافتدى الأقرعان نفسيهما من بسطام وعاهداه على إرسال الفداء، فأطلقهما، فبعدا ولم يرسلا شيئاً. وكان في الأسرى إنسان من يربوع فسمعه بسطام من قيس في الليل يقول:
فدىً بوالدةٍ عليّ شفيقةً ... فكأنّها حرضٌ على الأسقام
لو أنّها علمت فيسكن جأشها ... أنّي سقطت على الفتى المنعام
سقط العشاء به على متنعّم ... سمح اليدين معاود الإقدام
فلما سمع بسطام ذلك منه قال له: وأبيك لا يخبر أمك عنك غيرك ! وأطلقه، وقال ابن رميض العنزي:
جاءت هدايا من الرحمان مرسلة ... حتّى أنيخت لدى أبيات بسطام
جيش الهذيل وجيش الأقرعين معاً ... وكبّة الخيل والأذواد في عام
مسوّم خيله تعدو مقانبه ... على الذوائب من أولاد همّام
وقال أوس بن حجر:
وصبّحنا عارٌ طويلٌ بناؤه ... نسب به ما لاح في الأفق كوكب
فلم أر يوماً كان أكثر باكياً ... ووجهاً ترى فيه الكآبة تجنب
أصابوا البروك وابن حابس عنوةً ... فظلّ لهم بالقاع يومٌ عصبصب
وإنّ أبا الصهباء في حومة الوغى ... إذا ازورّت الأبطال ليثٌ مجرّب
وأبو الصهباء هو بسطام بن قيس. وأكثر الشعراء في هذا اليوم في مدح بسطام بن قيس، تركنا ذكره اختصاراً.
حجر بفتح الحاء والجيم.
يوم مبايضوهو لشيبان على بني تميم. قال أبو عبيدة: حج طرف بن تميم العنبري التميمي، وكان رجلاً جسيماً يلقب مجدعاً، وهو فارس قومه، ولقيه حمصيصة بن جندل الشيباني من بني أبي ربيعة، وهو شاب قوي شجاع، وهو يطوف بالبيت، فأطال النظر إليه، فقال له طريف: لم تشد نظرك إلي ؟ قال حمصيصة: أريد أن أثبتك لعلي أن ألقاك في جيش فأقتلك. فقال طريف: اللهم لا تحول الحول حتى ألقاه ! ودعا حمصيصة مثله، فقال طريف:
أوكلّما وردت عكاظ قبيلةٌ ... بعقوا إليّ عريفهم يتوسّم

لا تنكروني إنّني أنا ذاكم ... شاكي السلاح وفي الحوادث معلم
حولي فوارس من أسيد جمّةٌ ... ومن الهجيم وحول بيتي خصّم
تحتي الأغرّ وفوق جلدي نثرةٌ ... زغفٌ تردّ السيف وهو مثلّم
في أبيات.
ثم إن بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وبني مرة بن ذهل بن شيبان كان بينهم شر وخصام فاقتتلوا شيئاً من قتال ولم يكن بينهم دم. فقال هانئ بن مسعود، رئيس بني أبي ربيعة، لقومه: إني أكره أن يتفاقم الشر بيننا، فارتحل بهم فنزل على ماء يقال له بمائض، وهو قريب من مياه بني تميم، فأقاموا عليه أشهراً، وبلغ خبرهم بني تميم، فأرسل بعضهم إلى بعض وقالوا: هذا حي منفرد وإن اصطلمتموهم أوهنتم بكر بن وائل. واجتمعوا وساروا على ثلاثة رؤساء: أبو الجدعاء الطهوي على بني حنظلة، وابن فدكى المنقري على بني سعد، وطريف بن تميم على بني عمرو بن تميم. فلما قاربوا بني أبي ربيعة بلغهم الخبر فاستعدوا للقتال، فخطبهم هانئ بن مسعود وحثهم على القتال، فقال: إذا أتوكم فقاتلوهم شيئاً من قتال ثم انحازوا عنهم، فإذا اشتغلوا بالنهب فعودوا إليهم فإنكم تصيبون منهم حاجتكم.
وصبحهم بنو تميم والقوم حذرون فاقتتلوا قتالاً شديداً وفعلت بنو شيبان ما أمرهم هانئ. فاشتغلت تميم بالغنيمة، ومر رجل منهم بابنٍ لهانئ بن مسعود صبي فأخذه وقال: حسبي هذا من الغنيمة، وسار به وبقيت تميم مع الغنيمة والسبي. فعادت شيبان عليهم فهزموهم وقتلوهم وأسروهم كيف شاءوا، ولم تصب تميم بمثلها؛ لم يفلت منهم إلا القليل، ولم يلو أحد على أحد، وانهزم طريف فاتبعه حمصيصة فقتله. واستردت شيبان الأهل والمال وأخذوا مع ذلك ما كان معهم، وفادى هانئ بن مسعود ابنه بمائة بعير، وقال بعض شيبان في هذا اليوم:
ولقد دعوت طرف دعوة جاهلٍ ... غرٍّ وأنت بمنظر لا تعلم
وأتيت حيّاً في الحروب محلّهم ... والجيش باسم أبيهم يستهزم
فوجدتهم يرعون حول ديارهم ... بسلاً إذا حام الفوارس أقدموا
وإذا اعتزوا بأبي ربيعة أقبلوا ... بكتيبة مثل النجوم تلملم
ساموك درعك والأغرّ كليهما ... وبنو أسيدٍ أسلموك وخصّم
وقال عمرو بن سواد يرثي طريفاً:
لا تبعدن يا خير عمرو بن جندب ... لعمري لمن زار القبور ليبعدا
عظيم رماد النار لا متعبّساً ... ولا مؤيساً منها إذا هو أوقدا
وما كان وقّافاً إذا الخيل أحجمت ... وما كان مبطاناً إذا ما تجرّدا
يوم الزويرينقال أبو عبيدة: كانت بكر بن وائل قد أجدبت بلادهم فانتجعوا بلاد تميم بين ليمامة وهجر، فلما تدانوا جعلوا لا يلقى بكري تميمياً إلا قتله، ولا يلقى تميمي بكرياً إلا قتله، إذا أصاب أحدهما مال الآخر أخذه، حتى تفاقم الشر وعظم.فخرج الحوفزان بن شريك والوادك بن الحارث الشيبانيان ليغيرا على بني دارم، فاتفق أن تميماً في تلك الحال اجتمعت في جمع كثير من عمرو بن حنظلة والرباب وسعد وغيرها وسارت إلى بكر بن وائل، وعلى تميم أبو الرئيس الحنظلي. فبلغ خبرهم بكر بن وائل فتقدموا وعليهم الأصم عمرو بن قيس بن مسعود أبو مفروق وحنظلة بن سيار العجلي وحمران ابن عبد عمرو العبسي، فلما التقوا جعلت تميم والرباب بعيرين وجللوهما وجعلوا عندهما من يحفظهما وتركوهما بين الصفين معقولين وسموهما زويرين، يعني: إلهين، وقالوا: لا نفر حتى يفر هذان البعيران. فلما رأى أبو مفروق البعيرين سأل عنهما فأعلم حالهما، فقال: أنا زويركم، وبرك بين الصفين وقال: قاتلوا عني ولا تفروا حتى أفر. فاقتتل الناس قتالاً شديداً، فوصلت شيبان إلى البعيرين فأخذوهما فذبحوهما. واشتد القتال عليهما، فانهزمت تميم وقتل أبو الرئيس مقدمهم ومعه بشر كثير، واجترفت بكر أموالهم ونساءهم وأسروا أسرى كثيرة، ووصل الحوفزان إلى النساء والأموال، وقد سار الرجال عنها للقتال، فأخذ جميع ما خلفوه من النساء والأموال وعاد إلى أصحابه سالماً؛ وقال الأعشى في ذلك اليوم:
يا سلم لا تسألي عنّا فلاً كشفت ... عند اللقاء ولا سود مقاريف

نحن الذين هزمنا يوم صبّحنا ... يوم الزّويرين في جمع الأحاليف
ظلّوا وظلّت تكرّ الخيل وسطهم ... بالشيّب منّا والمرد الغطاريف
تستأنس الشرف الأعلى بأعينها ... لمح الصقور علت فوق الأظاليف
انسلّ عنها بسيل الصّيل فانجردت ... تحت اللّبود متونٌ كالزحاليف
وقد أكثر الشعراء في هذا اليوم، لا سيما الأغلب العجلي، فمن ذلك أرجوزته التي أولها:
إن سرّك العزّ ... فجحجح بحشم
يقول فيها:
جاؤوا بزويريهم وجئنا بالأصمّ ... شيخ لنا كالليث من باقي إرم
شيخٌ لنا معاودٌ ضرب البهم ... يضرب بالسيف إذا الرمح انقصم
هل غير غارٍ ... صكّ غاراً فانهزم
الغاران: بكر وتميم. وله الأرجوزة التي أولها:
يا ربّ حربٍ ... ثرّة الأخلاف
يذكر فيها هذا اليوم.
ذكر أسر حاتم طيءقال أبو عبيدة: أغار حاتم طيء بجيش من قومه على بكر بن وائل فقاتلوهم، وانهزمت طيء وقتل منهم وأسر جماعة كثيرة، وكان في الأسرى حاتم ابن عبد الله الطائي، فبقي موثقاً عند رجل من عنيزة، فأتته امرأة منهم اسمها عالية بناقة فقالت له: افصد هذه، فنحرها، فلما رأتها منحورة صرخت، فقال حاتم:
عالي لا تلتدّ من عاليه ... إنّ الذي أهلكت من ماليه
إنّ ابن أسماء لكم ضامن ... حتّى يؤدّي آنسٌ ناويه
لا أفصد الناقة في أنفها ... لكنّني أوجرها العاليه
إنّي عن الفصد لفي مفخر ... يكره منّي المفصد الآليه
والخيل إن شمّص فرسانها ... تذكر عند الموت أمثاليه
وقال رميض العنزي يفتخر:
ونحن أسرنا حاتماً وابن ظالم ... فكلٌّ ثوى في قيدنا وهو يخشع
وكعبّ إياد قد أسرنا وبعده ... أسرنا أبا حسّان والخيل تطمع
وريّان غادرنا بوجٍّ كأنّه ... وأشياعه فيها صريمٌ مصرّع
وقال يحيى بن منصور الذهلي قصيدةً يفتخر بأيام قومه، وهي طويلة، وفيها آداب حسنة، تركناها كراهية التطويل، وأولها:
أمن عرفان منزلةٌ ودارٌ ... تعاورها البوارح والسواري
وقال أبو عبيدة: جاء الإسلام وليس في العرب أحدٌ أعز داراً ولا أمنع جاراً ولا أكثر حليفاً من شيبان. كانت عنينة من لخم في الأحلاف، وكانت درمكة بن كندة في بني هند، وكانت عكرمة من طيء، وحوتكة من عذرة، وبنانة كل هؤلاء في بني الحارث بن همام، وكانت عائذة من قريش، وضبة وحواس من كندة، هؤلاء في بني أبي ربيعة، وكانت سليمة من بني عبد القيس في بني أسعد بن همام، وكانت وثيلة من ثعلبة، وبنو خيبري من طيء في بني تميم بن شيبان، وكانت عوف بن حارث من كندة في بني محلم. كل هذه قبائل وبطون جاورت شيبان فعزت بها وكثرت.
يوم مسحلانقال أبو عبيدة: غزا ربيعة بن زياد الكلبي في جيش من قومه فلقي جيشاً لبني شيبان عامتهم بنو أبي ربيعة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظفرت بهم بنو شيبان وهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وذلك يوم مسحلان، وأسروا ناساً كثيراً، وأخذوا ما كان معهم. وكان رئيس شيبان يومئذ حيان بن عبد الله بن قيس المحلمي، وقيل: كان رئيسهم زياد بن مرثد من بني أبي ربيعة، فقال شاعرهم:
سائل ربيعة حيث حلّ بجيشه ... مع الحيّ كلبٌ حيث لبّت فوارسه
عشيّة ولّى جمعهم فتتابعوا ... فصار إلينا نهبه وعوانسه
ثم إن الربيع بن زياد الكلبي نافر قومه وحاربهم فهزموه. فاعتزلهم وسار حتى حل ببني شيبان، فاستجار برجل اسمه زياد من بني أبي ربيعة، فقتله بنو أسعد بن همام، ثم إن شيبان حملوا ديته إلى كلب مائتي بعير فرضوا.
حرب لسليم وشيبان

قال أبو عبيدة: خرج جيش لبني سليم عليهم النصيب السلمي وهم يريدون الغارة على بكر بن وائل. فلقيهم رجلٌ من بني شيبان اسمه صليع ابن عبد غنم وهو محرم على فرس له يسمى البحراء، فقال لهم: أين تذهبون ؟ قالوا: نريد الغارة على بني شبان. فقال لهم: مهلاً فإني لكم ناصح، إياكم وبني شيبان، فإني أقسم لكم بالله لتأتينكم على ثلاثمائة فرس خصي سوى الفحول والإناث. فأبوا إلا الغارة عليهم، فدفع صليع فرسه ركضاً حتى أتى قومه فأنذرهم. فركبت شيبان واستعدوا، فأتاهم بنو سليم وهم معدون فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظفرت شيبان وانهزمت سليم وقتل منهم مقتلة كثيرة وأسر منهم ناس كثير، ولم ينج إلا القليل، وأسر النصيب رئيسهم، أسره عمران بن مرة الشيبان فضرب رقبته، فقال صليع:
نهيت بني زعل غداة لقيتهم ... وجيش نصيب والظنون تطاع
وقلت لهم: إنّ الحريب وراكساً ... به نعم ترعى المرار رتاع
ولكنّ فيه الموت يرتع سربه ... وحقّ لهم أن يقبلوا ويطاعوا
متى تأته تلقى على الماء حارثاً ... وجيشاً له يوفي بكلّ بقاع
يوم جَدود
وهو يوم بين بكر بن وائل وبني منقر من تميم. وكان من حديثه أن الحوفزان، واسمه الحارث بن شريك الشيباني، كانت بينه وبين بني سليط ابن يربوع موادعة، فهم بالغدر بهم وجمع بني شيبان وذهلاً واللهازم، وعليهم حمران بن عبد عمرو بن بشر بن عمرو. ثم غزا وهو يرجو أن يصيب غرة من بني يربوع. فلما انتهى إلى بني يربوع نذر به عتيبة بن الحارث بن شهاب فنادى في قومه، فحالوا بين الحوفزان وبين الماء، وقال لعتيبة: إني لا أرى معك إلا رهطك وأنا في طوائف من بني بكر، فلئن ظفرت بكم قل عددكم وطمع فيكم عدوكم، ولئن ظفرتم بي ما تقتلون إلا أقاصي عشيرتي، وما إياكم أردت، فهل لكم أن تسالمونا وتأخذوا ما معنا من التمر، ووالله لا نروح يربوعاً أبداً. فأخذ ما معهم من التمر وخلى سبيلهم. فسارت بكر حتى أغاروا على بني ربيع بن الحارث، وهو مقاعس، بجدود، وإنما سمي مقاعساً لأنه تقاعس عن حلف بني سعد، فأغار عليهم وهم خلوفٌ فأصاب سبياً ونعماً، فبعث بنو ربيع صريخهم إلى بني كليب، فلم يجيبوهم، فأتى الصريخ بني منقر بن عبيد فركبوا في الطلب فلحقوا بكر بن وائل وهم مقاتلون، فما شعر الحوفزان وهو في ظل شجرة إلا بالأهتم بن سمي بن سنان المنقري واقفاً على رأسه، فركب فرسه، فنادى الأهتم: يا آل سعد ! ونادى الحوفزان: يا آل وائل ! ولحق بنو منقر فقاتلوا قتالاً شديداً، فهزمت بكر وخلوا السبي والأموال، وتبعتهم منقر، فمن قتيل وأسير، وأسر الأهتم حمران بن عبد عمرو، ولم يكن لقيس بن عاصم المنقري همة إلا الحوفزان، فتبعه على مهر، والحوفزان على فرس فارج فلم يحلقه وقد قاربه. فلما خاف أن يفوته حفزه بالرمح في ظهره فاحتفز بالطعنة ونجا، فسمي يومئذ الحوفزان، وقيل غير هذا. وقال الأهتم في أسره حمران:
نيطت بحمران المنّية بعدما ... حشاه سنان من شراعة أزرق
دعا يال قيسٍ واعتزيت لمنقر ... وكنت إذا لاقيت في الخيل أصدق
وقال سوار بن حيان المنقري يفتخر على رجل من بكر:
ونحن حفزنا الحوفزان بطعنةٍ ... كسته نجيعاً من دم البطن أشكلا
وحمران قسراً أنزلته رماحنا ... فعالج غلاًّ في ذراعيه مثقلا
فيا لك من أيّام صدقٍ نعدّها ... كيوم جواثا والنّباج وثيتلا
قضى الله أنّا يبوم تقتسم العلى ... أحقّ بها منكم فأعطى فأجّزلا
فلست بمسطيع السماء ولم تجد ... لعزٍّ بناه الله فوقك منقلا
منقر بكسر الميم، وسكون النون، وفتح القاف؛ وربيع بضم الراء، وفتح الباء الموحدة.
يوم الإياد وهو يوم أعشاش ويوم العظالى

وإنما سمي يوم العظالى لأن بسطام بن قيس وهانئ بن قبيصة ومفروق ابن عمرو تعاظلوا على الرياسة، وكانت بكر تحت يد كسرى وفارس، وكانوا يقرونهم ويجهزونهم، فأقبلوا من عند عامل عين التمر في ثلاثمائة متساندين وهم يتوقعون انحدار بني يربوع في الحزن، فاجتمع بنو عتيبة وبنو عبيد وبنو زبيد في الحزن. فحلت بنو زبيد الحديقة، وحلت بنو عتيبة وبنو عبيد روضة الثمد، فأقبل جيش بكر حتى نزلوا حضبة الحصى، فرأى بسطام السواد بالحديقة، وثم غلامٌ عرفه بسطام، وكان قد عرف غلمان بني ثعلبة حين أسره عتيبة. فسأله بسطام عن السواد الذي بالحديقة، فقال: هم بنو زبيد. قال: كم هم من بيت ؟ قال: خمسون بيتاً. قال: فأين بنو عتيبة وبنو عبيد ؟ قال: هم بروضة الثمد وسائر الناس بخفاف، وهو موضع. فقال بسطام: أتطيعونني يا بني بكر ؟ قالوا: نعم. قال: أرى لكم أن تغنموا هذا الحي المتفرد بني زبيد وتعودوا سالمين. قالوا: وما يغني بنو زبيد عنا ؟ قال: إن في السلامة إحدى الغنيمتين. قالوا: إن عتيبة بن الحارث قد مات. وقال مفروق: قد انتفخ سحرك يا أبا الصهباء! وقال هانئ: اخسأ ! فقال: إن أسيد بن جباة لا يفارق فرسه الشقراء ليلاً ونهاراً، فإذا أحس بكم ركبها حتى يشرف على مليحة فينادي: يا آل ثعلبة، فيلقاكم طعنٌ ينسيكم الغنيمة ولم يبصر أحد منكم مصرع صاحبه، وقد عصيتموني وأنا تابعكم وستعلمون.
فأغاروا على بني زبيد وأقبلوا نحو بني عتيبة وبني عبيد، فأحست الشقراء فرس أسيد بوقع الحوافر فنخست بحافرها، فركبها أسيد وتوجه نحو بني يربوع بمليحة ونادى: يا سوء صباحاه! يا آل ثعلبة بن يربوع ! فما ارتفع الضحى حتى تلاحقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت شيبان بعد أن قتلت من تميم جماعةً من فرسانهم، وقتل من شيبان أيضاً وأسر جماعة، منهم: هانئ بن قبيصة، ففدى نفسه ونجا، فقال متمم بن نويرة في هذا اليوم:
لعمري لنعم الحيّ أسمع غدوةً ... أسيدٌ وقد جدّ الصراخ المصدّق
وأسمع فتياناً كجّنة عبقر ... لهم ريّقٌ عند الطّعان ومصدق
أخذن بهم جنبي أفاقٍ وبطنها ... فما رجعوا حتّى أرقّوا وأعتقوا
وقال العوام في هذا اليوم:
قبح الإله عصابةً من وائلٍ ... يوم الأفاقة أسلموا بسطاما
ورأى أبو الصهباء دون سوامهم ... طعناً يسلّي نفسه وزحاما
كنتم أسوداً في الوغى فوجدتم ... يوم الأفاقة في الغبيط نعاما
وأكثر العوام الشعر في هذا اليوم. فلما ألح فيه أخذ بسطام إبله، فقالت أمه:
أرى كلّ ذي شعرٍ أصاب بشعره ... خلا أنّ عوّاماً بما قال عيّلا
فلا ينطقن شعراً يكون جوازه ... كما شعر عوّام أعام وأرجلا
يوم الشقيقة وقتل بسطام بن قيسهذا يوم بين بني شيبان وضبة بن أد، قتل فيه بسطام بن قيس سيد شيبان.
وكان سببه أن بسطام بن قيس بن مسعود بن خالد بن عبد الله ذي الجدين غزا بني ضبة ومعه أخوه السليل بن قيس ومعه رجل يزجر الطير من بني أسد ابن خزيمة يسمى نقيداً. فلما كان بسطام في بعض الطريق رأى في منامه كأن آتياً أتاه، فقال له: الدلو تأتي الغرب المزلة؛ فقص رؤياه على نقيد، فتطير وقال: ألا قلت: ثم تعود بادياً مبتلة؛ فتفرط عنك النحوس. ومضى بسطام على وجهه، فلما دنا من نقاً يقال له الحسن في بلاد ضبة صعده ليرى، فإذا هو بنعم قد ملأ الأرض فيه ألف ناقة لمالك بن المنتفق الضبي من بني ثعلبة بن سعد بن ضبة قد فقأ عين فحلها، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية إذا بلغت إبل أحدهم ألف بعير فقأوا عين فحلها لترد عنها العين، وهي إبل مرتبعةٌ، ومالك بن المنتفق فيها على فرس له جواد.
فلما أشرف بسطام على النقا تخوف أن يروه فينذروا به فاضطجع وتدهدى حتى بلغ الأرض وقال: يا بني شيبان لم أر كاليوم قط في الغرة وكثرة النعم. ونظر نقيد إلى لحية بسطام معفرة بالتراب لما تدهدى فتطير له أيضاً وقال: إن صدقت الطير فهو أول من يقتل. وعزم الأسدي على فراقه، فأخذته رعدة تهيّباً لفراقه والانصراف عنه وقال له: ارجع يا أبا الصهباء، فإني أتخوف عليك أن تقتل، فعصاه ففارقه نقيد.

وركب بسطام وأصحابه وأغاروا على الإبل واطردوها، وفيها فحل لمالك يقال له أبو شاعر، وكان أعور، فنجا مالك على فرسه إلى قومه من ضبة حتى إذا أشرف على تعشار نادى: يا صباحاه ! وعاد راجعاً. وأدرك الفوارس القوم وهم يطردون النعم، فجعل فحله أبو شاعر يشذ من النعم ليرجع وتتبعه الإبل، فكلما تبعته ناقة عقرها بسطام. فلما رأى مالك ما يصنع بسطام وأصحابه قال: ما ذا السفه يا بسطام ؟ لا تعقرها فإما لنا وإما لك. فأبى بسطام، وكان في أخريات الناس على فرس أدهم يقال له الزعفران يحمي أصحابه، فلما لحقت خيل ضبة قال لهم مالك: ارموا روايا القوم. فجعلوا يرمونها فيشقونها. فلحقت بنو ثعلبة وفي أوائلهم عاصم بن خليفة الصباحي، وكان ضعيف العقل، وكان قبل ذلك يعقب قناة له فيقال له: ما تصنع بها يا عاصم ؟ فيقول: أقتل عليها بسطاماً، فيهزأون منه. فلما جاء الصريخ ركب فرس أبيه بغير أمره ولحق الخيل، فقال لرجل من ضبة: أيهم الرئيس ؟ قال: صاحب الفرس الأدهم. فعارضه عاصم حتى حاذاه، ثم حمل عليه فطعنه بالرمح في صماخ أذنه أنفذ الطعنة إلى الجانب الآخر، وخر بسطام على شجرة يقال لها الألاءة. فلما رأت ذلك شيبان خلوا سبيل النعم وولوا الأدبار، فمن قتيل وأسير. وأسر بنو ثعلبة نجاد بن قيس أخا بسطام في سبعين من بني شبان، وكان عبد الله بن عنمة الضبي مجاوراً في شيبان، فخاف أن يقتل فقال يرثي بسطاماً:
لأمّ الأرض ويلٌ ما أجنّت ... غداة أضرّ بالحسن السبيل
يقسّم ماله فينا وندعو ... أبا الصهباء إذ جنح الأصيل
أجدّك لن تريه ولن نراه ... تخبّ به عذافرةٌ ذمول
حقيبةٌ بطنها بدنٌ وسرجٌ ... تعارضها مزبّبةٌ زؤول
إلى ميعاد أرعن مكفهّرٍ ... تضمّر في جوانبه الخيول
لك المرباع منها والصّفايا ... وحكمك والنّشيطة والفضول
لقد صمّت بنو زيد بن عمرو ... ولا يوفي ببسطامٍ قتيل
فخرّ على الألاءة لم يوسّد ... كأنّ جبينه سيفٌ صقيل
فإن يجزع عليه بنو أبيه ... فقد فجعوا وفاتهم جليل
بمطعام إذا الأشوال راحت ... إلى الحجرات ليس لها فصيل
فلم يبق في بكر بن وائل بيت إلا وألقي لقتله لعلو محله؛ وقال شمعلة ابن الأخضر بن هبيرة بن المنذر بن ضرار الضبي يذكره:
فيوم شقيقة الحسنين لاقت ... بنو شيبان آجالاً قصارا
شككنا بالرماح، وهنّ زورٌ، ... صماخي كبشهم حتّى استدارا
وأوجرناه أسمر ذا كعوب ... يشبّه طوله مسداً مغارا
الشقيقة: أرض صلبة بين جبلي رمل. والحسنان: نقوا رملٍ كانت الوقعة عندهما. وقالت أم بسطام بن قيس ترثيه:
ليبك ابن ذي الجدّين بكر بن وائل ... فقد بان منها زينها وجمالها
إذا ما غدا فيهم غدوا وكأنّهم ... نجوم سماء بينهنّ هلالها
فلله عينا من رأى مثله فتىً ... إذا الخيل يوم الروع هبّ نزالها
عزيزٌ المكرّ لا يهدّ جناحه ... وليثٌ إذا الفتيان زلّت نعالها
وحمّال أثقالٍ وعائد محجر ... تحلّ إليه كلّ ذاك رحالها
سيبكيك عانٍ لم يجد من يفكّه ... ويبكيك فرسان الوغى ورجالها
وتبكيك أسرى طالما قد فككتهم ... وأرملةٌ ضاعت وضاع عيالها
مفرّج حومات الخطوب ومدرك ال ... حروب إذا صالت وعزّ صيالها
تغشى بها حيناً كذاك ففجّعت ... تميمٌ به أرماحها ونبالها
فقد ظفرت منّا تميمٌ بعثرةٍ ... وتلك لعمري عثرةٌ لا تقالها
أصيبت به شيبان والحيّ يشكر ... وطير يرى إرسالها وحبالها
عنمة بفتح العين المهملة، والنون.
يوم النسار

النسار: أجبل متجاورة، وعندها كانت الوقعة، وهو موضع معروف عندهم. وكان سبب ذلك اليوم أن بني تميم بن مر بن أد كانوا يأكلون عمومتهم ضبة بن أد وبني عبد مناة بن أد، فأصابت ضبة رهطاً من تميم. فطلبتهم تميم فانزاحت جماعة الرباب، وهو تيم وعدي وثور أطحل وعكل بنو عبد مناة بن أد وضبة بن أد وإنما سموا الرباب لأنهم غمسوا أيديهم في الرب حين تحالفوا، فلحقت ببني أسد، وهم يومئذحلفاء لبني ذبيان بن بغيض. فنادى صارخ بني ضبة: يا آل خندف ! فأصرختهم بنو أسد، وهو أول يوم تخندقت فيه ضبة واستمدوا حليفهم ظبياً وغطفان، فكان رئيس أسد يوم النسار عوف بن عبد الله بن عامر بن جذيمة بن نصر بن قعين، وقيل: خالد بن نضلة، وكان رئيس الرباب الأسود بن المنذر أخو النعمان، وليس بصحيح، وكان على الجماعة كلهم حصن بن حذيفة بن بدر؛ وفيه يقول زهير بن أبي سلمى:
ومن مثل حصن في الحروب ومثله ... لإنداد ضيمٍ أو لأمرٍ يحاوله
إذا حلّ أحياء الأحاليف حوله ... بذي نجب لجّاته وصواهله
فلما بلغ بني تميم ذلك استمدوا بني عامر بن صعصعة، فأمدوهم. وكان حاجب بن زرارة على بني تميم، وكان عامر بن صعصعة جواباً، وهو لقب مالك بن كعب من بني أبي بكر بن كلاب، لأن بني جعفر كان جواب قد أخرجهم إلى بني الحارث بن كعب فحالفوهم، وقيل: كان رئيس عامر شريح بن مالك القشيري. وسار الجمعان فالتقوا بالنسار واقتتلوا، فصبرت عامر واستحر بهم القتل، وانفضت تميم فنجت ولم يصب منهم كثير، وقتل شريح القشيري رأس بني عامر، وقتل عبيد بن معاوية بن عبد الله بن كلاب وغيرهما، وأخذ عدة من أشراف نساء بني عامر، منهن سلمى بنت المخلف، والعنقاء بنت همام وغيرهما، فقالت سلمى تعير جواباً والطفيل:
لحى الإله أبا ليلى بفرّته ... يوم النّسار وقنب العير جّوابا
كيف الفخار وقد كانت بمعترك ... يوم النّسار بنو ذبيان أربابا
لم تمنعوا القوم إن أشلوا سوامكم ... ولا النساء وكان القوم أحرابا
وقال رجل يعير جواباً والطفيل بفراره عن امرأتيه:
وفرّ عن ضرّتيه وجه خارئةٍ ... ومالكٌ فرّ قنب العير جوّاب
القنب: غلاف الذّكر، وجوّاب لقب لأنّه كان يجوب الآثار، واسمه مالك، وقال بشر بن أبي خازم في هزيمة حاجب:
وأفلت حاجب جوب العوالي ... على شقراء تلمع في السراب
ولو أدركن رأس بني تميم ... عفرن الوجه منه بالتراب
وكان يوم النساء بعد يوم جبلة وقتل لقيط بن زرارة.
جواب بفتح الجيم، وتشديد الواو، وآخره باء موحدة؛ وخازم بالخاء المعجمة، والزاي.
يوم الجفارلما كان على رأس الحول من يوم النسار اجتمع من العرب من كان شهد النسار، وكان رؤساؤهم بالجفار الرؤساء الذين كانوا يوم النسار، إلا أن بني عامر قيل كان رئيسهم بالجفار عبد الله بن جعدة بن كعب بن ربيعة، فالتقوا بالجفار واقتتلوا، وصبرت تميم، فعظم فيها القتل وخاصة في بني عمرو ابن تميم، وكان يوم الجفار يسمى الصيلم لكثرة من قتل به؛ وقال بشر ابن أبي خازم في عصبة تميم لبني عامر:
عصبت تميمٌ أن يقتل عامر ... يوم النسار فأعقبوا بالصّيلم
كنّا إذا نفروا لحربٍ نفرةً ... نشفي صداعهم برأس صلدم
نعلو الفوارس بالسيوف ونعتزي ... والخيل مشعلة النحور من الدم
يخرجن من خلل الغبار عوابساً ... خبب السباع بكلّ ليث ضيغم
وهي عدة أبيات، وقال أيضاً:
يوم الجفار ويوم النّسا ... ركانا عذاباً وكان غراما
فأمّا تميمٌ تميم بن مرٍّ ... فألفاهم القوم روبى نياما
وأمّا بنو عامر بالجفار ... ويوم النّسار فكانوا نعاما
فلما أكثر بشر على بني تميم، قيل له: ما لك ولتميم وهم أقرب الناس منك أرحاماً ؟ فقال: إذا فرغت منهم فرغت من الناس ولم يبق أحد.
يوم الصفقية والكلاب الثاني

أما يوم الصفقة وسببه فإن باذان، نائب كسرى أبرويز بن هرمز باليمن، أرسل إليه حملاً من اليمن. فلما بلغ الحمل إلى نطاع من أرض نجد أغارت تميم عليه وانتهبوه وسلبوا رسل كسرى وأساورته. فقدموا على هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة مسلوبين، فأحسن إليهم وكساهم. وقد كان قبل هذا إذا أرسل كسرى لطيمة تباع باليمن يجهز رسله ويخفرهم ويحسن جوارهم، وكان كسرى يشتهي أن يراه ليجازيه على فعله. فلما أحسن أخيراً إلى هؤلاء الرسل الذين أخذتهم تميم قالوا له: إن الملك لا يزال يذكرك ويؤثر أن تقدم عليه، فسار معهم إليه. فلما قدم عليه أكرمه وأحسن إليه وجعل يحادثه لينظر عقله، فرأى ما سره، فأمر له بمال كثير، وتوجه بتاج من تيجانه وأقطعه أموالاً بهجر.
وكان هوذة نصرانياً، وأمره كسرى أن يغزوه هو والمكعبر مع عساكر كسرى بني تميم، فساروا إلى هجر ونزلوا بالمشقر. وخاف المكعبر وهوذة أن يدخلا بلاد تميم لأنها لا تحتملها العجم وأهلها بها ممتنعون، فبعثا رجالاً من بني تميم يدعونهم إلى الميرة، وكانت شديدة، فأقبلوا على كل صعب وذلول، فجعل المكعبر يدخلهم الحصن خمسة خمسة وعشرة عشرة وأقل وأكثر، يدخلهم من باب على أنه يخرجهم من آخر، فكل من دخل ضرب عنقه. فلما طال ذلك عليهم ورأوا أن الناس يدخلون ولا يخرجون بعثوا رجالاً يستعلمون الخبر، فشد رجل من عبس فضرب السلسلة فقطعها وخرج من كان بالباب. فأمر المكعبر بغلق الباب وقتل كل من كان بالمدينة، وكان يوم الفصح، فاستوهب هوذة منه مائة رجل فكساهم وأطلقهم يوم الفصح. فقال الأعشى من قصيدة يمدح هوذة:
بهم يقرّب يوم الفصح ضاحيةً ... يرجو الإله بما أسدى وما صنعا
فصار يوم المشقر مثلاً، وهو يوم الصفقة لإصفاق الباب، وهو إغلاقه. وكان يوم الصفقة وقد بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة بعد لم يهاجر.
وأما يوم الكلاب الثاني فإن رجلاً من بني قيس بن ثعلبة قدم أرض نجران على بني الحارث بن كعب، وهم أخواله، فسألوه عن الناس خلفه فحدثهم أنه أصفق على بني تميم باب المشقر وقتلت المقاتلة وبقيت أموالهم وذراريهم في مساكنهم لا مانع لها. فاجتمعت بنو الحارث من مذحج، وأحلافها من نهد وجرم بن ربان، فاجتمعوا في عسكر عظيم بلغوا ثمانية آلاف، ولا يعلم في الجاهلية جيش أكثر منه ومن جيش كسرى بذي قار ومن يوم جبلة، وساروا يريدون بني تميم، فحذرهم كاهن كان مع بني الحارث واسمه سلمة بن المغفل وقال: إنكم تسيرون أعياناً، وتغزون أحياناً، سعداً ورياناً، وتردون مياهها جياباً، فتلقون عليها ضراباً، وتكون غنيمتكم تراباً، فأطيعوا أمري ولا تغزوا تميماً. فعصوه وساروا إلى عروة، فبلغ الخبر تميماً فاجتمع ذوو الرأي منهم إلى أكثر بن صيفي، وله يومئذ مائة وتسعون سنة، فقالوا له: يا أبا جيدة حقق هذا الأمر فإنا قد رضيناك رئيساً. فقال لهم:
وإنّ امرأ قد عاش تسعين حجّةً ... إلى مائة لم يسأل العيش جاهل
مضت مائتان غير عشرٍ وفاؤها ... وذلك من عدّ اليالي قلائل

ثم قال لهم: لا حاجة لي في الرياسة ولكني أشير عليكم لينزل حنظلة ابن مالك بالدهناء، ولينزل سعد بن زيد مناة والرباب وهم ضبة بن أد وثور وعكل وعدي بنو عبد مناة بن أد الكلاب، فأي الطريقين أخذ القوم كفى أحدهما صاحبه، ثم قال لهم: احفظوا وصيتي لا تحضروا النساء الصفوف فإن نجاة اللئيم في نفسه ترك الحريم، وأقلوا الخلاف على أمرائكم، ودعوا كثرة الصياح في الحرب فإنه من الفشل، والمرء يعجز لا محالة، فإن أحمق الحمق الفجور، وأكيس الكيس التقى، كونوا جميعاً في الرأي، فإن الجميع معزز للجميع، وإياكم والخلاف فإنه لا جماعة لمن اختلف، ولا تلبثوا ولا تسرعوا فإن أحزم الفريقين الركين، ورب عجلة تهب ريثاً، وإذا عز أخوك فهن البسوا جلود النمور وابرزوا للحرب، وادرعوا الليل واتخذوه جملاً، فإن الليل أخفى للويل، والثبات أفضل من القوة وأهنأ الظفر كثرة الأسرى، وخير الغنيمة المال، ولا ترهبوا الموت عند الحرب، فإن الموت من ورائكم، وحب الحياة لدى الحرب زللٌ، ومن خير أمرائكم النعمان بن مالك بن حارث بن جساس، وهو من بني تميم ابن عبد مناة بن أد. فقبلوا مشورته، النعمان بن مالك بن حارث بن جساس، وهو من بني تميم ابن عبد مناة بن أد. فقبلوا مشورته، ونزلت عمرو بن حنظلة الدهناء، ونزلت سعد والرباب الكلاب، وأقبلت مذحج ومن معها من قضاعة فقصدوا الكلاب، وبلغ سعداً والرباب الخبر. فلما دنت مذحج نذرهم شميت ابن زنباع اليربوعي فركب جمله وقصد سعداً ونادى: يا آل تميم يا صباحاه ! فثار الناس، وانتهت مذحج إلى النعم فانتهبها الناس، وراجزهم يقول:
في كلّ عام نغمٌ ننتابه ... على الكلاب غيّبت أصحابه
يسقط في ... آثاره غلاّبه
فلحق قيس بن عاصم المنقري والنعمان بن جساس ومالك بن المنتفق في سرعان الناس، فأجابه قيس يقول.
عمّا قليل تلتحق أربابه ... مثل النجوم حسّراً سحابه
ليمنعنّ النّعم اغتصابه ... سعدٌ وفرسان الوفى أربابه
ثم حمل عليهم قيس وهو يقول:
في كلّ عام نعمٌ تحوونه ... يلقحه قومٌ وتنتجونه
أربابه نوكى فلا يحمونه ... ولا يلاقون طعاناً دونه
أنعم الأبناء تحسبونه ... هيهات هيهات لما ترجونه
فاقتتل القوم قتالاً شديداً يومهم أجمع. فحمل يزيد بن شداد بن قنان الحارثي على النعمان بن مالك بن جساس فرماه بسهم فقتله، وصارت الرياسة لقيس بن عاصم، واقتتلوا حتى حجر بينهم الليل، وباتوا يتحارسون. فلما أصبحوا غدوا على القتال، وركب قيس بن عاصم وركبت مذحج واقتتلوا أشد من القتال الأول، فكان أول من انهزم من مذحج مدرج الرياح. وهو عامر بن المجون بن عبد الله الجرمي، وكان صاحب لوائهم، فألقى اللواء وهرب، فلحقه رجل من بني سعد فعقر به دابته، فنزل يهرب ماشياً، ونادى قيس بن عاصم: يا آل تميم عليكم الفرسان ودعوا الرجالة فإنها لكم، وجعل يلتقط الأسرى، وأسر عبد يغوث بن الحارث بن وقاص الحارثي رئيس مذحج فقتل بالنعمان بن مالك بن جساس، وكان عبد يغوث شاعراً، فشدوا لسانه قبل قتله لئلا يهجوهم، فأشار إليهم ليحلوا لسانه ولا يهجوهم، فحلوه، فقال شعراً:
ألا لا تلوماني، كفى اللوم ما بيا ... فما لكما في اللوم نفعٌ ولا ليا
ألم تعلما أنّ الملامة نفعها ... قليلٌ وما لومي أخاً من شماليا
فيا راكباً إمّا عرضت فبلّغن ... نداماي من نجران ألاّ تلاقيا
أبا كرب والأيهمين كليهما ... وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا
أقول وقد شدّوا لساني بنسعةٍ: ... معاشر ثيم أطلقوا من لسانيا
كأنّي لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّةً من ورائيا
ولم أسبإ الزقّ الرّويّ ولم أقل ... لأيسار صدقٍ عظّموا ضوء ناريا
وقد علمت عرسي مليكة أنّني ... أنا الليث معدوّاً عليه وعاديا
لحى الله قوماً بالكلاب شهدتهم ... صميمهم والتابعين المواليا
ولو شئت نجّتني من القوم شطبةٌ ... ترى خلفها الكمت العتاق تواليا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34