كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

فلما دخل على هشام ذكر جند خراسان ونجدتهم وطاعتهم، فقال: إلا أنهم ليس لهم قائد. قال: ويحك! فما فعل الكناني؟ يعني نصراً. قال: له بأس ورأي إلا أنه لا يعرف الرجل ولا يسمع صوته حتى يدني منه، وما يكاد يفهم منه من الضعف لأجل كبره، فقال شبيل بن عبد الرحمن المازني: كذب والله، وإنه ليس بالشيخ يخشى خرفه، ولا الشاب يخشى سفهه، بل هو المجرب وقد ولي عامة ثغور خراسان قد آثر معناً وأعلى منزلته وشفعه في حوائجه، فلما فعل هذا أجفى القيسية فحضروا عنده واعتذروا إليه.
وحج بالناس هذه السنة يزيد بن هشام بن عبد الملك. وكان العمال في الأمصارهم العمال في السنة التي قبلها.
وفيها مات محمد بن زاسع الأزدي البصري، وقيل: سنة سبع وعشرين. وفيها توفي جعفر بن إباس. وفيها مات ثابت البناني، وقيل: سنة سبع وعشرين، وله ست وثمانون سنة. وفيها توفي سعيد بن أبي سعد المقبري، واسم أبي سعيد كيسان، وقيل: مات سنة خمس وعشرين، وقيل ست وعشرين. ومالك ابن دينار لزاهد.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة

ذكر ابتداء أمر أبي مسلم الخراساني
قد اختلف الناس في أبي مسلم، فقيل: كان حراً، واسمه إبراهيم بن عثمان ابن بشار بن سدوس بن جودزده من ولد بزرجمهر، ويكنى أبا إسحاق، ولد بأصبهان، ونشأ بالكوفة، وكان أبوه أوصى إلى عيسى بن موسى السراج فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فلما اتصل بإبراهيم بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس الإمام قال له: غير اسمك فإنه لا يتم لنا الأمر إلا بتغيير اسمك على ما وجدته في الكتب؛ فسمى نفسه عبد الرحمن بن مسلم، ويكنى أبا مسلم، فمضى لشأنه وله ذؤابه وهو على حمار بإكاف وله وتسع عشرة سنة، وزوجه إبراهيم الإمام ابنة عمران بن إسماعيل الطائي المعروف بأبي النجم، وهي بخراسان مع أبيها، فبنى بها أبو مسلم بخراسان، وزوج أبو مسلم ابنته فاطمة من محرز بن إبراهيم، وابنته الأخرى أسماء من فهم ابن محرز، فأعقبت أسماء ولم تعقب فاطمة، وفاطمة هي التي تذكرها الخرمية.
ثم إن سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولا هزبن قريظ وقحطبة بن شبيب توجهوا من خراسان يريدون مكة سنة أربع وعشرين ومائة، فلما دخلوا الكوفة أتوا عاصم بن يونس العجلي وهو في الحبس قد اتهم بالدعاء إلى ولد العباس ومعه عيسى وإدريس ابنا معقل العجليان، وهذا إدريس هو جد أب دلف العجلي، وكان حبسهما يوسف بن عمر مع من حبس من عمال خالد القسري ومعهما أبو مسلم يخدمهما قد اتصل بهما، فرأوا فيه العلامات فقالوا: لمن هذا الفتى؟ فقالا: غلام معنا من السراجين يخدما، وكان أبو مسلم يسمع عيسى وإدريس يتكلمان في هذا الرأي ، فإذا سمعهما بكى، فلما رأوا ذلك منه دعوه إلى رأيهم فأجاب. وقيل: إنه من أهل ضياع بني معقل العجلية بأصبهان أو غيرها من الجبل، وكان اسمه إبراهيم، ويلقب حيكان، وإنما سماه عبد الرحمن وكناه أبا مسلم إبراهيم الإمام، وكان مع أبي موسى السراج صاحبه يخرز الأعنة ويعمل السورج، وله معرفة بصناعة الأدم والسروج، فكان يحملها إلى أصبهان والجبال والجزيرة والموصل ونصيبين وآمد وغيرها يتجر فيها.
وكان عاصم بن يونس العجلي وإدريس وعيسى ابنا معقل محبوسين، فكان أبو مسلم يخدمهم في الحبس بتلك العلامة، فقدم سليمنان بن كثير ولا هز وقحطبة الكوفة فدخلوا على عاصم، فراوا أبا مسلم عنده، فعجبهم، فأخذوه، وكتب أبو موسى السراج معه كتاباً إلى إبراهيم الإمام، فلقوه بمكة، فأخذ أبا سملم فكان يخدمه.

ثم إن هؤلاء النقباء قدموا على إبراهيم الإمام مرة أخرى يكلبون رجلاً يتوجه معهم إلى خراسان. فكان هذا نسب أبي مسلم على قول من يزعم أنه حر. فملا تمكن وقوي أمره ادعى أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس، وكان من حديث سليط بن عبد الله بن عباس أنه كانت له جارية مولدة صفراء تخدمه، فواقعها مرة ولم يطلب ولدها ثم تركها دهراً، فاغتنمت ذلك فاستنكحت عبداً من عبيد المدينة فوقع عليها، فحبلت وولدت غلاماً، فحدها عبد الله ابن عباس واستعبد ولدها وسماه سليطاً، فنشأ جلداً ظريفاً يخدم ابن عباس، وكان له من الوليد بن بد الملك منزلة، فادعى أنه ولد عبد الله بن عباس ووضعه على أمر الوليد لما كان في نفسه من علي بن عبد الله بن عباس وأمره بمخاصمة علي، فخاصمه واحتل في شهود على إقرار عبد الله بن عباس بأنه ابنه، فشهدوا بذلكعند قاضي دمشق، فتحامل القاضي ابتاعاً لرأي الوليد فأثبت نسبه.
ثم إن سليطاً خاصمعلي بن عبد الله في الميراث حتى لقي منه علي أذى شديداً، وكان مع علي رجل من ولد أبي رافع مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، منقطعاً إليه يقال له عمر الدن، فقال لعلي يوماً: لأقتلن هذا الكلب وأريحك منه، فنهاه علي عن ذلك وتهدده بالقطيعة ورفق على سليط حتى كف عنه.
ثم إن وسيطاً دخل مع علي بستاناً له بظاهر دمشق، فنام علي فجرى بين عمر الدن وسليط كلام، فقتله عمر ودفنه في البستان، واعانه عليه مولى لعلي وهربا، وكان لسليط صاحب قد عرف دخوله البستان ففقده فأتى أم سليط فأخبرها، وفقد علي أيضاً عمر الدن مولاه، فسأل عنهما وعن سليط فلم يخبره أحد، وغدت أم سليط إلى باب الوليد فاستغاثت على علي، فأتى الوليد من ذلك ما أحب، فأحضر علياً وسأله عن سليط، فحلف أنه لم يعرف خبره وانه لم يأمر فيه بأمر، فأمره بإحضار عمر الدن، فحلف بالله أنه لم يعرف موضعه، فأمر الوليد بارسال الماء في أرض البستان، فلما انتهى إلى موضع الحفرة التي فيها سليط انخسفت وأخرج منها سليط، فأمر الوليد بعلي فضرب وأقيم في الشمس وألبس جبة صوف ليخبره حبر سليط ويدله على عمر الدن، فلم يكن عنده علم، ثم شفع فيه عباس بن زياد فأخرج إلى الحميمة، وقيل إلى الحجر، فأقام به حتى هلك الوليد وولي سليمان، فرده إلى دمشق.
وكان هذا مما عدة المنصور على أبي مسلم حين قتله، وقال له: زعمت أنك ابن سليط ولم ترض حتى نسبت إلى عبد الله غير ولده، لقد ارتقيت مرتقى صعباً زكان سبب مودة الوليد على علي بن عبد الله أن اباه عبد الملك بن مروان طلق امرأته ابنها ابنة عبد الله بن جعفر، فتزوجا علي، فتغير له عبد الملك وأطلق لسانه فيه وقال: إنما صلاته رياء، وسمع الوليدذلك من أبيه فبقي في نفسه.
وقيل: إن أبا مسلم كان عبداظً، وكان سبب انتقاله إلى بني العابس أن بكير بن ماهان كان كاتباً لبعض عمال السند فقدم الكوفة، فاجتمع هو وشيعة بني العباس، فغمز بهم، فأخذوا، فحبس بكير وخلي عن الباقين، وكان في الحبس يونس أبو عاصم وعيسى بن معقل العجلي ومعه أبو مسلم يخدمه، فدعاهم بكير إلى رأيه، فاجابوه، فقال لعيسى بن معقل: ما هذا الغلام منك؟ قال: مملوك. قال: أتبعه؟ قال: هو لك . قال: أحب أن تأخذ ثمنه. قال: هو لك بما شئئت، فأعطاه أربعمائة درهم، ثم خرجوا من السجن، فبعث به بكير إلى إبراهيم الإمام، فدفعه إبراهيم إلى أبي موسى السارج، فسمع منه وحفظ ثم سار متردداً إلى خراسان.
فسار إليها فنزل على سليمان بن كثير، وكان من أمره ما نذكره سنة سبع وعشرين ومائة إن شاء الله تعالى.
وقد كان أبو مسلم رأي رؤيا قبل ذلك استدل بها على ملك خراسان فظهر أمرها، فلما ورد نيسابور نزل بوناباذ، وكانت عامرة، فتحدث صاحب الخان الذي نزله ابو سملم بذلك وقال: إن هذا يزعم أنه يلي خراسان. فخرج أبو مسلم لبعض حاجته، فعمد بعض المجان فقطع ذنب حماره، فلما عاد قال لصاحب الخان: من فعل هذا بحماري؟ قال: لا ادري! قال: ما اسم هذه المحلة؟ قال: بوناباذ. قال: إن لم أصيرها كنداباد فلست بأنبي مسلم. فلما ولي خراسان أخربها.
ذكر الحرب بين بلج وابني عبد الملك

ووفاة بلج وولاية ثعلبة بن سلامة الأندلس

في هذه السنة كان بالأندلس حرب شديدة بين بلج وأمية وقطن ابني عبد الملك بن قطن؛ وكان سببها أنهما لما هربا من قرطبة، كما ذكرناه، فلما قتل أبوهما استنجدا بأهل البلاد والبربر، فاجتمع معهما جمع كثير قيل كانوا مائة ألف مقاتل، فسمع بهم بلج والذين معه فسار إليهم، والتقوا واقتتلو تقالاً شديداً، وجرح بلج جراحات، ثم ظفر بابني عبد الملك والبربر ومن معهم وقتل منهم فأكثر وعاد إلى قرطبة مظفراً منصوراً، فبقي سبعة أيام، ومات من الجراحات التي فيه وكانت وفاته في شوال من هذه السنة، وكانت ولايته أحد عشر شهراً؟.
فلما مات قدم أصحابه عليهم ثعلبة بن سلامة العجلي، للأن هشام ابن عبد الملك عهد إليهم: إن حدث ببلج وكلثوم حدث بالأمير ثعلبة، فقام بالأمر، وثارت في أيامه البربر بناحية ماردة، فغزاهم فقتل فيهم فأكثر وأسر منهم ألف رجل وأتى بهم إلى قرطبة.
ذكر عدة حوادثوفيها غزا سليمان بن هشام الصائفة، فلقي أليون ملك الروم فغنم. وفيها مات محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في قول بعضهم، ووصى إلى ابنه إبراهيم بالقيام بأمر الدعوة إليهم.
وحج الناس هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل.
وفيها مات محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وكان مولده سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة خمسين.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة

ذكر وفاة هشام بن عبد الملك
وفيها مات هشام بن عبد الملك بالرصافة لست خلون من شهر ربيع الآخر، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وواحداً وعشرين يوماً، وقيل: وثمانية ونصفاً؛ وكان مرضه الذبحة، وعمره خمس وخمسون سنة، وقيل ست وخمسون سنة، فملا مات طلبوا قمقماً من بعض الخزان يسخن فيه الماء لغسله، فما أعطاهم عياض كاتب الوليد، على ما نذكره، فاستعاروا قمقماً، وصلى عليه ابنه مسلمة ودفن بالرضافة.
ذكر بعض سيرتهقال عقال بن شبة: دخلت على هشام وعليه قباء فنك أخضر، فوجهني إلى خراسان وجعل يوصيني وأنا أنظر إلى القبا ففطن فقال: مالك؟ فقلت: رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء مثل هذا فجعلت أتأمل أهو هذا أم غيره. فقال: هو والله ذاك، وأما ما ترون من جمعي المال وصونه فهو لكم. قال: وكان محشواً عقلاً. وقيل: وضرب رجل نصراني غلاماً لمحمد بن هشام فشجعه، فذهب خصي لمحمد فضرب النصراني، وبلغ هشاماً الخبر وطلب الخصي فعاذ بمحمد، فقال له محمد: ألم آمرك؟ فقال الخصي: بلى والله قد أمرتني. فضرب هشام الخصي وشتم ابنه.
قال عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس: جمعت دواوين بني أمية فلم أر ديواناً أصح ولا أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام. وقيل: وأتي هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط فقال: اكسروا الطنبور على رأسه. فبكى الشيخ لما ضربع. فقال: عليك بالصبر. فقال: اتراني أبكي للضرب؟ إنمكا أبكي لاحتقاره البربط إذ سماه طنبوراً! قال: وأغلظ رجل الهشام، فقال له: ليس لك أن تغلظ لإمامك. قيل: وتفقد هشام بعض ولده فلم يحضر الجمعة، فقال: ما منعك من الصلاة؟ قال: نفقت دابتي. قال: أفعجزت عن المشي؟ فمنعه الدابةسنةً. قيل: وكتب إلى بعض عماله: قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن، وكتب إليه: قد وصل الدراقن فأعجب أمير المؤمنين، فزد منه واستوثق من الدعاء. وكتب إلى عامل له قد بعث بكمأة: قد وصلت المأة وهي أربعون، وقد تغير بعضها من حشوها،فاذا بعثت شيئاً فأجد حشوها في الطرق بالرمل حتى لا تضطرب ولا يصيب بعضها بعضاً. وقيل له: أتطمع في الخلافة؟فأنت بخيل جبان! قال: ولم لا أطمع فيها وأنا حليم عفيف؟ قيل: وكان هشام ينزل الرصافة وهي نمن أعمال قنسرين، وكان الخلفاء قبله وأبناء الخلفاء يبتدرون هرباً من الطاعون فينزلون البرية، فلما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج فإن الخلفاء لا يطعنون ولم ير خليفة طعن. قال: أتريديون أن تجربوا في؟ فنزلها، وهي مدينة رومية.

قيل إن الجعد بن درهم أظهر مقالته يخلق القرآن أيام هشام بن عبد الملك، فاخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري، وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد من الحبس في وثاقة، فلما صلى العبد يوم الأضحى قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا يقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلم الله موسى ولا اتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل وذبحه.
قيل: إن غيلان بن يونس ، وقيل ابن مسلم، أبا مروان أظهر القول بالقدر في أيام عمر بن عبد العزيز، فأحضره عمر واستتابه، فتاب ثم عاد إلى الكلام فيه أيام هشام، فأحضره من ناصرة ثم أمر به فقطعت يداه ورجلاه ثم امر به فصلب.
قيل: وجاء محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بالخطاب إلى هشام، فقال: ليس لك عندي صلة، قم قال: أياك أن يغرك أحد فيقول ام يعرفك أمي المؤمنين، إني قد عرفتك، وأنت محمد بن زيد فلا تقيمن وتنفق ما معك، فليس لك عندي صلة، الحق بأهلك.
قال مجمع بن يعقوب الأنصاري: شتم هشام رجلاً من الأشراف؟ فوبخه الرجل قال: أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة الله في الرض؟ فاستحيا منه وقا: اقتص مني. قال: إذاً أنا سفيه مثلك. قال: فخذ مني عوضاً من المال. قال: ما كنت لأفعل. قال: فهبها لله. قال: هي لله ثم لك. فنكس هشام رأسه واستحيا وقال: والله لا أعود إلى مثلها أبداً.
ذكر بيعة الوليد بن يزيد

ابن عبد الملك
قيل: وكانت بيعته لست مضين من شهر ربيع الآخر من السنة، وقد تقدم عقد أبيه ولاية العهد له بعد أخيه هشام بن عبد الملك؛ وكان الوليد حين جعل ولي عهد بعد هشام ابن إحدى عشرة سنة، ثم عاش من بعد ذلك فبلغ الوليد خمس عشرة سنة، فكان يزيد يقول: الله بيني وبين من جعل هشاماً بيني وبينك. فلما ولي هشام أكرم الوليد بن يزيد حتى ظهر من الوليد مجون وشرب الشراب، وكان يحمله على ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدبه، واتخذ له ندماء، فأراد هشام أن يقطعهم عنه فولاه الحج سنة ست عشرة ومائة، فحمل معه كلاباً في صناديق وعمل قبة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه الخمر، وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويشرب فيها الخمر، فحرمه أصحابه وقالوا: لا نأمن الناس عليك وعلينا معك. فلم يفعل.
وظهر للناس منه تهاون بالدين واستخفاف، فطمع هشام في البيعة لابنه مسلمة وخلع الولي، وألاد الوليد على ذلك، فأبى، فقال له: اجعله بعدك، فأبى فتنكر له هشام وأضر به وعمل سراً في البيعة لابنه مسلمة، فأجابه قوم، وكان ممن أجابه خالاه محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل، وبنو القعقاع بن خليد العبسي، وغيرهم من خاصته، فأفرط الوليد في الشراب وطلب اللذات، فقال له هشام: ويحك يا وليد، والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا! ما تدع شيئاً من المنكر إلا أتيته غير متحاش؛ فكتب إليه الوليد:
يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفاً وممزوجةً ... بالسخن أحياناً وبالفاتر
فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان سكنى أبا شاكر، وقال له: يعيرنيالوليد بك وأنا ارشحك للخلافة! فألزمه الأدب وأحضره الجماعة وولاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النسك واللين، ثم إنه قسم بمكة والمدينة أموالاً؛ فقال مولى لأهل المدينة:
يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
الواهب الجرد بأرسانها ... ليس بزنديق ولا كافر
يعرض بالوليد.
وكان هشام يعيب الوليد ويتنقصه ويقصر بهن فخرج الوليد ومعه ناس من خاصته ومواليه فنزل بالأزرق على ماء له بالأردن وخلف كاتبه عياض ين مسلم عند هشام ليكاتبه بما عندهم، وقطع هشام عن الوليد ما كان يجرى عليه، وكاتبه الوليد فلم يجبه إلى رده، وأمره بإخراج عبد الصمد من عنده، وأخرجه، وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه، فضرب هشام ابن سهيل وسيره، وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد فضربه وحبسه، فقال الوليد: من يثق بالناس ومن يصنع المعروف! هذا الأحوال المشؤوم قدمه أبي على أهل بيته وصيره ولي عهده ثم يصنع بي ما ترون؟ لا يعلم أن لي في أحدٍ هوى إلا عبث به! وكتب إلى هشام في ذلك يعاتبه ويسأله أن يرد عليه كاتبه، فلم يرده، فكتب إليه الوليد:

رأيتك تبني دائماً في قطيعي ... ولو كنت ذا حزم الهدمت ما تبني
تثير على الباقين مجنى ضغينه ... فويل لهم إن مت من شر ما تجني
كأني بهم والليت أفضل قولهم ... ألا ليتنا والليت إذ ذاك لا يغني
كفرت يداً من منعمٍ لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن
فلم يزل الوليد مقيماً في تلك البرية حتى مات هشام، فلما كان صبيحة اليوم الذي جاءته فيه الخلافة قال لأبي الزبير المنذر بن أبي عمرو: ما انت علي ليلة من عقلت عقلي أطول من هذه الليلة! عرضت لي هموم وحدثت نفسي فيها بأمور هذا الرجل، يعني هشاماً، قد أولع بي، فاركب بنا نتنفس. فركبا وسارا ميلين. ووقف على كثيب فنظر إلى رهج فقال: هؤلاء رسل هشام،نسأل الله من خيرهم، إذ بدا لاجلان على البريد أحدهما مولى لأبي محمد السفياني والآخر جردبة، فلما قربا نزلا يعدوان حتى دانوا منه سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل. فقرأه وسأل مولى أبي محمد السفياني عن كاتبه عياض، فقال: لم يزل محبوساً حتى نزل بهشام الموت فأرسل إلى الخزان وقال: احتفظوا بما في أيديكم، فأفاق هشام فطلب شيئاً فمنعوه، فقال: إنا لله، كنا خزاناً للويلد! ومات من ساعته، وخرج عياض من السجن فتم أبواب الخزائن وأنزل هشاماً عن فرشه وما وجدوا له قمقماً يسخن له فيه الماء حتى استعاروه، ولا وجدوا كفناً من الخزائن فكفنه غالب مولاه؛ فقال:
هلك الاحول المثو ... م فقد أرسل المطر
وملكنا من بعد ذا ... ك فقد أورق الشجر
فاشكروا الله إنه ... زائد كل من شكر
وقيل: إن هذا الشعر لغير الوليد.
فلما سمع الوليد موته كتب إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان أن يأتي الرضافة فيحمي ما فيها من أموال هشام وولده وعياله وحشمه إلا مسلمة بن هشام فإنه كلم أباه في الرفق بالوليد. فقدم العباس الرصافة ففعل ما كتب به الوليد إليه، وكتب به إلى الوليد، فقال الوليد
ليت هشاماً كان حياً يرى ... محلبه الأوفر قد أترعا
ويروى:
ليت هشاماً عاش حتى يرى ... مكياله الأوفر قد طبعا
كلناه بالصاع الذي كاله ... وما ظلمناه به إصبعا
وما أتينا ذاك عن بدعةٍ ... أحله الفرقان لي أجمعا
وضيق على أهل هشام وأصحابه، فجاء خادم لهشام فوقف عند قبره وبكى وقال: يا أمير المؤمنين لو رأيت ما يصنع بنا الوليد. فقال بعض من هناك: لو رأيت ما صنع بهشام لعلمت أنك في نعمة لا تقوم بشكرها! إن هشاماً في شغل مما هو فيه عنكم.
واستعمل الوليد العمال، وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة، فجاءته بيعتهم، وكتب إله مروان بن محمد ببيعته استأذنه في القدوم عليه. فلما ولي الوليد أجرى على زمنى أهل الشام وعميهم وكساهم وأمر لكل إنسان منهم بخادم، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة وزادهم وزاد الناس في العطاء عشرات، ثم زاد أهل الشام بعد العشرات عشرةً عشرةً، وزاد الوفود، ولم يقل في شيء يسأله إلا وقال:
ضمنعت لكم إن لم تعقني عوائق ... بأن سماء الضر عنكم ستقلع
سيوشك إلحاق معاً وزيداة ... وأعطية مني عليكم تبرع
محرمكم ديوانكم وعطاؤكم ... به تكتب الكتاب شهراً وتطبع
قال حلم الوادي المغني: كنا مع الوليد وأتاه خبر موت هشام وهنئ بولايت الخلافة، وأتاه القضيب والخاتم، ثم قال: فأمسكنا سعة ونظرنا إليه بعين الخلافة، فقال: غنوني:
طاب يومي ولذ شرب السلافه ... وأتانا نعي من بالرصافة
وأتانا البريد ينعى هشاماً ... وأتانا بخاتم للخلافة
فاصطبحنا من خمر عانة صرفاً ... ولهونا بقينةٍ عرافه
وحلف أن لا يبرح من موضعه حتى يغني في هذا اشعر ويشرب عليه، ففعلنا ذلك ولم نزل نغني إلى الليل.
قم إن الوليد هذه السنة عقد لابنيه الحكم وعثمان البيعة من بعده وجعلهما وليي عهده، أحدهما بعد الآخر، وجعل الحكم مقدماً، وكتب بذلك إلى الأمصار العراق وخراسان
ذكر ولاية نصر بن سيار خراسان للوليد

في هذه السنة لى الوليد نصر بن سيار خراسان كلها وأفرده بها، قم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصراً وعماله، فرد إليه الوليد ولاية خراسان، وكتب يوسف إلى نصر يأمره بالقدوم ويحمل معه ما قدر عليه من الهديايا والأموال، وأن يقدم معه بعياله أجميعين، وكتب الوليد إلى نصر يأمره أن يتخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع له كل صناجه بخراسان، وكل بازي وبرذون فاره، ثم يسير بكل ذلك بنفسه في وجوه أهل خراسان.
وكان المنجمون قد أخبروانصراً بفتنة تكون، وألح يوسفعلى نصر بالقدوم وأرسل اليه رسولاٍ في ذلك، وأمره أن يستحثه أوينادي في الناس أنه قد خلع. فأرضى نصر الرسول واجازه، فلم يمض لذلك إلايسير حتى وقعت الفتنة. فتحول القصره بماجان واتخلف عصمة بن عبد الله الأسدي على خرسان، وموسى بن ورقاء بالشاش، وحسان من أهل الصغانيان بسمرقند،ومقاتل بن علي السعدي بأمل، وامرهم إذابلغهم خروجه من مرو ان يستجلبوا الترك ليعيروا ما وراء النهر ليرجع اليهم، وسار العراق.
فبينا هو يسير الى العراق طرقه مولى لبني ليث وأعلمه بقتل الوليد، فلما أصبح أذن للناس وأحضر رسل الوليد وقال لهم: قد كان من مسيري ما علمتم ، وبعثي بالهدايا ما رأيتم، وقد كان قدم الهدايا فبلغت بهيق، وطرقني فلان ليلاً فأخبرني أن الوليد قد قتل ووقعت الفتنة بالشام، وقدم المنصور بن جمهور العراقنوهرب يوسف بن عمر، ونحن بالبلاد التي علمتم وكثت عدونا. فقال سالم بنأحوز: أيها لأمير إنه بعض مكايد قريش ،أرادو تهجين طاعتك، فسر ولاتمتحنا، فقال: يا سالم أنت رجل لك علم بالحرب وحسن طاعة لبني أمية، فأما مثل هذه الأمور فيها راي أمية ورجع بالناس.
ذكر قتل يحيى بن زيد بن علي بن الحسينفي هذه السنة قتل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بخرسان .
وسبب قتله أنه سار بعد قتل أبيه إلى خرسان، كما سبق ذكره، فأتى بلخ فأقام بها عند الحيش بن عمرو بن داود حتى هلك هشام وولي الوليد ابن يزيد. فمتب يوسف بن عمر إلى نصر بمسير يحيى بن زيد وبمنزله عند الحريش، وقال له: خذه أشد الأخذ، فأخذ نصر الحريش فطالبه بيحيى، فقال: لاعلم لي به. فأمربه فجلد ستمائة سوط.فقال الحريش: والله لوأنه تحت قدمي ما رفعتهما عنه.فلما رأى ذلك قريش بن الحريش قال:لاتقتل أبي وانا ادلك على يحيى ،فدله عليه، فأخذه نصر وكتب إلى الوليد يخبره، فكتب الوليد يأمره أنيؤمنه وخلي سبيله وسبيل أصحابه. فأطلقه نصر و أمره أن يلحق بالوليد وأمر له بألفي درهم، فسار إلى سرخس فأقام بها، فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس بن عباده يأمره أن يسيره عنها، فسيره عنها، فسار حتى إنتهى إلى بهيق، وخاف أنيغتله يوسف بنعمر فعاد إلى نيسابور، وبها عمرو بنزرارة، وكان مع يحبى سبعون رجلاً، فرأى يحيى تجاراً، فأخذ هو وأصحابه دوابهم وقالو: علينا أثمنها، فكتب عمروابن زرارة إلى نصر يخبره. فكتب نصر يأمر بمحاربته، فقاتله عمرو، وهو في عشرة الآف ويحيى وسبعين رجلاً، فهزمهم يحيى وقتل عمراً وأصاب دواباً كثيرة وسار حتى مر بهراة، فلم يعترض لمن بها وسار عنها.
وسرح نصر بن سيار سالم بن أحوز في طلب يحيى، فلحقه بالجوز جان فقاتله قتالاً شديداً،فرمى يحيى بسهم فأصاب جبهته، رماه رجل من عنزة يقال له عيسى،فقتل منأصاب يحيى من عند أخرهم وأخذوا رأس يحيى وسلبوه قميصه.
فلما بلغ الوليد قتل يحيى متب الى يوسف بن عمر: خذ عجيل أهل العراق فأنزله من جذعه، يعني زيداً، وأحرقه بالنار ثم أنسفه باليم نسفاً، فأمر يوسف به فأحرق، ثم رضه وحمله في سفينة ثم 1راه في الفرات وأما يحيى فإنه لما قتل صلب بالجوزجان ، فلم يزل مصلوباً حتى ظهر أبو مسلم الخرساني وأستولى على خراسان فأنزله وصى عليه ودفنه وامربالنياحة عليه في خراسان، واخذ ابو مسلم جيوان بني أمية وعرف منه أسماء من حضر قتل يحيى، فن كان حياً قتله ومن كان ميتاًخلفه في أهله بسوء، وكانت أم يحيى ريطة بنت أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنيفة.
عباد بضم العين ، وفتح الباء الموحدة المخففة
ذكر ولاية حنظلة إفريقية وأبي الخطار الأندلسي

في هذه السنة قدم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي اللأندلسي أميراً في رجب، وكان أبو الخطار لما تبايع ولاة الأندلس من قيس قد قال شعراً وعرض فيه بيوم مرج راهط وما كان من بلاء كلب فيه مروان بنالحكم وقيام القيسين مع الضحاك بنقيس الفهري على مروان، ومن الشعر:
أفادت بنو مروان قيساً دماءنا ... وفي الله أن لم يعدلوا حكم عدل
كأنكم لم تشهدو مرج راهطٍ ... ولم تعلموا من كان ثم له الفضل
وقيناكم حر القنا بحورنا ... وليس لكم خيل تعد ولارجل
فلما بلغ شعره هشام بن عبد الملك فأعم أنه رجل من كلب،وكان هشام قد استعمل على إفريقية حنضلة بن صفوان الكلبي سنة أربع وعشرين ومأئة،فكتب إليه هشام أن يولي الخطارالأندلس، فولاه وسيره إليها، فدخل قرطبة يوم جمعة فرأى ثعلبة بن سلامة أميرها قد أضر الأف من البربر،الذين تقدم ذكر أسرهم، ليقتلهم، فلما ذخل أبو الخطار دفع الأسرى إليه، فكانت ولايته سبباً لحياتهم؛وكان لأهل الشام الذين بالأندلس قد أرادو الخروج مع ثعلبة بن سلامة إلى الشام، فلم يزل أبو الخطار يحسن إليهم ويستميلهم حتى أقامو،فأنزل كل قوم إلى شبه منازلهم بالشام، فلمارأوا بلداًيشبه بلدانهم أقاموا.وقيل:إن أهل الشام إنما فرقهم في البلاد لأن قرطبة ضاقت عليهم ففرقهم؛وقد ذكرنا بعض أخبارهم سنة تسع وثلاثين ومائة.
ذكر عدة حوادثقيل: وفي هذه السنة وجه الوليد بن يزيد خاله يوسف بنمحمد بن يوسف الثقفي والياًعلى المدينة ومكة والطائف، ودفعإليه محمداًواباهيم ابني هشام بنإسماعيل المخزومي موثقين في عباءتين، فقدم بهما المدينة في شعبان فأقامهما للناس، ثم حملا إلى الشام فأحضرا عند الوليد، فأمر بجلدهما، فقال محمد: أسألك بالقرابة ! قال:وأي قرابة بيننا؟ قال: فقد نهى لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، لضرب ليوط إلا في حد. قال: ففي حد أضربك وقودٍ، أنت أول من فعل بالعرجي، وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان؛ وكان محمد قد أخذه وقيده وأقامه للناس وجلده وسجنه إلى أن مات بعد تسع سنين لهجاء العرجي إياه، ثم أمر به الوليد فجلد هو وأخوه إبراهيم، ثم أوثقهما حيدداً وأمر أن يبعث بهما إلى يوسف بن عمر وهو على العراق، فلما قدم بهما عليه عذلهما حتى ماتا.
وفي هذه السنة عزل الوليد سعيد بن إبراهيم عن قضاء المدينة وولاه يحيى ابن سعيد الأنصاري. وفيها خرجت الروم إلى زبطرة، وهو حصن قديم كان افتتحه حبيب بن مسلمة القهري، فأخربته الروم الآن، فبنى بناء غير محكم، فعاد الروم وأخربوه أيام مروان بن محمد الحمار، ثم بناه الرشيدوشحنه بالرجال، فلما كانت خلافة المأمون طرقه الروم فشعثوه، فأمر المأمون برمته وتحصينه، ثم قصده الروم أيام المعتصم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. فإنما سقت خبره هاهنا لأني لم أعلم تواريخ حوادثه.
وفيها اغزا الوليد أخاه الغمر بن يزيد، وأمر على يجوش البحر الأسود ابن بلال المحاذي وسيره إلى قبرس ليخبر أهلها بين المسير إلى الشام أو إلى الروم، فختارة طائفه جوار المسلمين، فسيرهم إلى الشام، واختار أخرون الروم، وسيرهم إليهم.
وفيها قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبه بن شبيب مكه، فلقوا، في قول بعض أهل السير، محمد بن عبد الله ابن عباس فأخبروه بقصة أبي مسلم وما رأوه منه، فقال: أحر هو أم عبد؟ قالوا: أما عيسى فيزعم أنه عبد، وأما هو فيزعم انه حر. قال: فشتروه واعتقوه وأعطوا محمد بن علي مائتي ألف درهم وكسوه ثلاثين ألف درهم. فقال لهم: ما أظنكم تلقوني بعد عامي هذا، فإن حدث بي حدث فصاحبكم ابني ابنراهيم فإني أثق به وأوصيكم به خيراً. فرجعوا من عنده.
وقال بعضهم: في هذه السنة توفي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في شهر ذي العقده وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وكان بين موته وموت أبيه سبع سنين.
وحج بالنالس هذه السنة يوسف بن محمد بن يوسف. وفيها غزا النعمان ابن يزيد بن عبد الملك الصائفه.

في هذه السنة مات أبو حازم الأعرج، وقيل سنة أربعين، وقيل سنة أربع وأربيعين ومائة. وفي أخر أيام هشام بن هشام بن عبد الملك توفي سماك بن حرب. وفي هذه السنة توفي القاسم بن أبي بزه، وأسم أبي بزه يسار، وهو من المشهورين بالقراءة. وأشعث بن أبي الشعثاء سليم بن أسو المحاربي. وسيد بن أبي أنيسه الجزري، مولى بن كلاب وقيل مولى يزيد بن الخطاب، وقيل مولى غني، وكان عمره ستاً وأربعين سنه، وكان فقيهاً عابداً، وكان له أخ أسمه يحيى، كان ضعيفاً بالحديث.
وفي أيام هشام مات العرجي الشاعر في حبس محمد بن هشام المخزومي، عامل هشام بن عبد الملك على المدينة ومكة، وكان سبب حبسه أنه هجاه فتتبعه حتى بلغه أنه أخذ مولى فضربه وقتله وأمر عبيدة أن يطأوا امرأة المولى المقتلول، فاخذه محمد فضربه فأقامه للناس فحبسه تسع سنين فمات في السجن العرجي بفتح العين المهملة، وسكون الراء، وأخره جيم وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة

ذكر قتل خالد بن عبد الله القسري
في هذه السنة قتل خالد بن عبد الله، وقد تقدم ذكر عزله عن العراق وخرسان، وكان عمله خمس عشرة سنة فيما قيل، ولما عزله هشام قدم عليه يوسف واسطاً فحبسه فيها، ثمسار يوسف إلى الحيرة وأخذ خالداً فحبسه بها تمام ثمانية عسر شهراً مع أخيه إسماعيل وابن يزيد بن خالجوابن أخيه المنذر بن إسد، اتستأ1ن يوسف هشاماً في تعذيبهفأذن له مر واحدة، وأقسم لئن هلك ليقتلنه،فعذبه يوسف ثم رده إلى حبسه. وقيل: بل عذبه عذاباً كثيراً،وكتب هشام إلى يوسف يأمره بأطلاقه في شوال سنة احد وعشرين،وخرج زيد فقتل، فكتب يوسف بن عمر: إن بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعاً فكانت عمة أحدهم قوت عياله ، فلما ولي خالد الغراق أعطاهم الاموال، فتاقت أنفسهم للخلافة، وما خرج زيدإلا عن رأي خالد.
فقال هشام:كذب يوسف! وضرب رسوله وقال: لسنا نتهم خالداً في طاعة.
وسمع خالد فسار حتى نزل دمشق وسار إلى الصائفة. وكان على دمشق يومئذ كلثوم بن عياض القشيرى، وكان يبغض خالداً. فظهر في دور دمشقحريق كل ليلة يفعله رجل من أهل العراق القشيري، وكان يبغض خالداً، فظهر دور دمشق حريق كل ليلة بفعله رجل من أهل العراق يقال له ابن العمرس، فإذا وقع الحريق يسرقون، وكان أولاد خالد وإخوته بالساحل لحدث كان من الروم، فكتب كلثوم إلى هشام يخبره أم موالي خالد يريدون الوثوب على بيت المال وأنهم يحرقون البلد كل ليلة هذا الفعل.
فكتب إليه هشام يأمره أن يحبس آل خالد الصغير منهم والكبر ومواليهم، فأنفذ وأحضر أولاد خالد وإخوته من الساحل في الجوامع ومعهم مواليهم، وحبس بنات خالد والنساء والصبيان، ثم ظهر علي بن العمرس ومن كان معه، فكتب الوليد بن عبد الرحمن عامل الخراج إلى هشام يخبره بأخذ ابن العمرس وأصحابه بأسمائهم وقبائلهم، ولم يذكر فيهم أحداً من موالي خالد. فكتب هشام إلى كلثوم يشتمه ويأمره باطلاق آل خالد، فأطلقهم فترك الموالي رجاء أن يشفع فيهم خالد إذ قدم من الصائفة.
ثم قدم خالد فنزل منزله في دمشق فأذن للناس، فقام بناته يحتجبن، فقال: لا تحتجبن فإن هشاماً كل يوم يسوقكن إلى الحبس، فدخل الناس، فقام أولاده يسترون النساء، فقال خالد: خرجت غازياً سامعاً مطيعاً فخلفت في عقبي وأخذ حرمي وأهل بيتي فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بالمشركين، فما منع عصابة منكم أن تقولوا علام حبس حرم هذا السامع المطيع؟ أخفتم أن تقتلوا جميعاً؟ أخافكم الله ثم قال! ثم قال: مالي ولهشام؟ ليكفن عني أو أولا دعونى إلى عراقي الهوى، شامي الدار، حجاز الأصل، يعني محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس، وقد أذنت لكم أن تبلغوا هشاماً، فلما بلغه قال: قد خرف أبوالهيثم.
وتتابعت كتب يوسف بن عمر إلى هشام يطلب منه يزيد بن خالد بن عبد الله، فأرسل هشام إلى كلثوم يأمره بإنفاذ يزيد بن خالد بن عبد الله إلى يوسف ابن عمر، فطلبه، فهرب، فستدعى خالداً فحضر عنده، فحبسه، فسمع هشام فكتب إلى كلثوم يلومه ويأمره بتخليته، فأطلقه.

وكان هشام إذا أراد أمراً أمر الأبرش الكلبي فكتب به إلى خالد، فكتب إليه اللأبرش: إنه بلغ أمير المؤمنين أن رجلاً قال لك يا خالد إن لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم وأنت كريم، والله جواد وأنت جواد، والله رحيم وانت رحيم، حتى عدا عشراً، وأمير المؤمنين يقسم بالله لأن تحقق ذلك عنده ليقتلنك.
فكتب إليه خالد: إن ذلك المجلس كان أكثر أهلاً من أن يجوز لأحد من أهل البغي والفجور أن يحرف ماكان فيه، وإنما قال لي: يا خالد إني لأحبك لعشر خصال: إن الله الكريم يحب كل كريم، والله يحبك فأنا أحبك، حتى عد عشر خصال، ولكن أعظم من ذلك قيام ابن شقي الحميري إلى أمير المؤمنين وقوله: يا أمير المؤمنين خليفتك في أهلك أكرم عليك أم رسولك في حاجتك؟ فقال: بل خليفتي في أهلي. فقال: ابن شقي: فأنت خليفة الله وحمد رسوله، وضلال رجل من بجيلة، يعني نفسه، أهون على العامة من ضلاض أمير المؤمنينز فلما قرأ هشام كتابه قال: خرف أبو الهيثم! فأقام خلاد بدمشق حتى هلك هشاموقام الوليد، فكتب إليه الوليد: ما حال الخمسين ألف ألف التي علم؟ فاقدم على أمير المؤمنين، فقدم عليه، فأرسل إليه الوليد وهو واقف بباب الساردق فال: يقول أمير المؤمنين أين ابنك يزيد؟ فقال: كان هرب من هشام وكنا نر اه عند أمير المؤمنين حتى استخلفه الله، فملا لم نره ظنناه ببلاد قومه من السراة. ورجع الرسول وقال: لا ولكنك خلفته طالباً للفتنة. فقال: قد علم أمير المؤمنين أنا أهل بين طاعة. فجع الرسول فقال: يقول لك أمير المؤمنين لتأتين به أو لأرهقن نفسك. فرفع خالد صوته وقال: قل له: هذا أردت، والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه. فأمر الوليد بضربه، فضرب، فلم يتكلم، فحبسه حتى قدم يوسف بن عمر من العراق بالأموال فاشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف، فأرسل الوليد إلى خالد: إن يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف، فإن كنت تضمنها وإلا دفعتك إليه. فقال خالد: ما عهدت العرب تباع، والله لو سألتني أن أضمن عوداً ما ضمنته. فدفعه إلى يوسف، فنزع ثيابه وألبسه عباءة وحمله في محمل بغير وطاءٍ وعذبه عذاباً شديداً، وهو لا يكلمه كلمة، ثم حمله إلى الكوفة فعذبه ثم وضع المضرسة على صدره فقتله من الليل ودفنه من وقته بالحيرة في عباءته التي كان فيها، وذلك في المحرم سنة ست وعشرين. وقيل: بل أمر يوسف فوضع على رجليه عود وقام عليه الرجال حتى تكسرت قدماه وما تكلم ولا عبس.
وكانت أنم خالد نصرانية رومية، ابتنى بها أبوه في بعض أعيادهم فأولدها خالداً وأسداً ولم تسلم، وبنى لها خالد بيعة، فذمه الناس والشعراء؛ فمن ذلك قول الفرزدق:
ألا قطع الرحمن ظهر مطيةٍ ... أتتنا تهادى من دمشقٍ بخالد
فكيف يؤم الناس من كانت امه ... تدين بأن الله ليس بواجد
بنى بيعةً فيها النصارى لأمه ... ويهدم من كفرٍ منار المساجد
وكان خالد قد أمر بهدم منار المسجد لأنه بلغه أن شارعاً قال:
ليتين في المؤذنين حياتي ... إنهم يبصرون من في السطوح
فيشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كل ذات دل مليح
فلما سمع هذا السعر أمر بهدمها، ولما بلغه أن الناس يذمونه لبنائه البيعة لأمه قام يعتذر إليهم فقال: لعن الله دينهم إن كان شراً من دينكم. وكان يقول: إن خليفة الرجل في أهله أفضل من رسوله في حاجته، يعني أن الخليفة هشاماً من رسول الله، صلى اللهعليه وسلم ، نبرأ إلى الله من هذه المقالة.
ذكر قتل الوليد بن يزيد

ابن عبد الملك
في هذه السنة قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك يزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي يقال له الناقص، في جمادى الآخرة

وكان سبب قتله ما تقدم ذكره من خلاعته ومجانته، فلما ولي الخلافة لم يزد من الذي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفاق إلا تمادياً، فثقل ذلك على رعيته وجنده وكرهوا أمره، وكان أعظمه ما جنى على نفسه إفساده بني هميه هشام والوليد، فإنه أخذ سليمان بن هشام فضربه مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان من أرض الشام فحبسه بها، فلم يزل محبوساً حتى قتل الوليد، فأخذ جاريةً كانت لآل الوليد، فكلمه عثمان بن الوليد في ردها، فقال: لا أردها. فقال: إذن تكثر الواهل حول عسكرك! وحبس الأفقم يزيد بن هشام وفرق بين روح بن الوليد وبين امرأته وحبس عدة من ولد الليد، فرماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه وقالوا: قد اتخذ مائة جامعة لبني أمية.
وكان أشدهم فيه يزيد بن الوليد، وكان الناس إلى قوله أميل لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، وكان قد نهاه سعيد بن بيهس بن صهيب علن البيعة لابنيه الحكم وعثمان لصغرهما، فحبسه حتى مات في الحبس.
واراد خالد بن عبد الله القسري على البيعة لابنيه فأبى، فغضب عليه، فقيل له: ى تخالف أمي المؤمنين. فقال: كيف أبايع من لا أصلي خلفه ولا أقبل شهادته؟ قالوا: فنقبل شهادة الوليد مع فسقه! قال: أمير المؤمنين غائب عني وإنما هي أخبار الناس. ففسدت المانية عليه وفسدت عليه قضاعة، وهم واليمن أكثر جند أهل الشام، فاتى حريث وشبيب بن أبي مالك الغساني ومنصور بن جمهور الكلبي وابن عمه حبال بن عمرو ويعقوب بن عبد الرحمن وحميد بن منصور اللخمي والأصبغ بن ذؤالة والطفيل بن حارثة والسري بن زياد إلى خالد بن عبد الله القسري فدعوه إلى أمرهم، فلم يجبهم.
وأراد الوليد الحج فخاف خالد أن يقتلوه في الطريق فنهاه عن الحج، فقال: ولم؟ فأخبره فحبسه وأمر أن يطالب بأموال العراق، ثم ستقدم يوسف ابن عمر من العاق وطلب منه أن يحضر معه الأموال، وأراد عزله وتولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف. فقدم يوسف بأموال لم يحمل من العراق مثلها، فلقيه حسان النبطي فأخبره أن الوليد يريد أن يولي عبد الملك بن محمد، وأشار عليه أن يحمل الرش إلى وزرائه، ففرق فيهم خمسمائة ألف، وقال له حسان: اكتب على لسان خليفتك بالعراق كتاباً: إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر، وادخل على الوليد والكتاب معك مختوم واشتر منه خالداً، ففعل؛ فأمره الوليد بالعود إلى العراق، واشترى منه خالداً القسري بخمسين ألف ألف فدفعه إليه، فأخذه معه في محمل بغر وطاء إلى العراق. فقال بعض أهل اليمن شعراً على لسان الوليد يحرض عليه، وقيل: إنها للوليد يوبخ اليمن على ترك نصر خالد:
ألم تهتج فتذكر الوصالا ... وحبلاً كان متصلاً عزالا
بلى فالدمع منك إلى انسجام ... كماء المزن ينسجل انسجالا
فدع عنك اذكارك آل سعدىٍ ... فنحن الأكثرون حصىً ومالا
ونحن المالكون الناس قسراً ... نسومهم المذلة والنكالا
وطئنا الأشعرين بعز قيسٍ ... فيا لك وطأةً لن تستقالا
وهذا خالد فينا أسير ... ألا منعوده إن كانوا رجالا
عظيمهم وسيدهم قديماً ... جعلنا المخزيات له ظلالا
فلو كانت قبائل ذات عز ... لما ذهبت صنائعه ضلالا
ولا تركوه مسلوباً أسيراً ... يعالج من سلاسلنا الثقالا
وكندة والسكون فما استقاموا ... ولا برحت خيولهم الرحالا
بها سمنا البرية كل خسفٍ ... وهدما السهولة والجبالا
ولكن الوقائع ضعضعتهم ... وجذتهم وردتهم شلالا
فما زالوا لنا بلداً عبيداً ... نسومهم المذلة والسفالا
فأصبحت الغداة علي تاج ... لملك الناس ما يبغي انتقالا
فعظم ذلك عليهم وسعوا في قتله وادادوا حنقاً؛ وقال حمزة بن بيض في الوليد:
وصلت سماء الضر بالضر بعدما ... زعمت سماء الضر سماء الضر عنا ستقلع
فليت هشاماً كان حياً يسومنا ... وكنا كما كنا نرجي ونطمع
وقال أيضاً:

يا وليد الخنا تركت الطريقا ... واضحاً وارتكبت فجاً عميقاً
وتماديت واعتديت وأسرف ... ت وأغريت وانبعثت فسوقا
أبداً هات ثم هات وهاتي ... ثم هاتي حتى تخر صعيفاً
أنت سكران ما تفيق فما تر ... تق فتقاً وقد فتقت فتوقا
فأتت اليمانية يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة، فشاور عمر بن يزيد الحكمي، فقال له: لا يبايعك الناس على هذا وشاور أخاك العباس فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك فأظهر أن أخاك العباس قد بايعك. وكان الشام وبياً، فخرجوا إلى البوادي، وكان العباس بالقسطل ويزيد بالبادية أيضاً بينهما أميال يسيرة، فأتى يزيد أخاه العباس فاستشاره، فنهاه عن ذلك، فرجع وبايع الناس سراً وبث دعاته، فدعوا الناس، ثم عاود أخاه العباس فاستشاره ودعاه إلى نفسه، فزيره وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقاً وأحملتك إلى أمير المؤمنين. فخرج من عنده. فقال العباس: إني لأظنه أشأم مولود في بني مروان.
وبلغ الخبر مروان بن محمد بأرمينية، فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفهم ويحذرهم الفتنة ويخوفهم خروج الأمر عنهم، فأعظم سعيد ذلك وبعث بالكتاب إلى العباس بن الوليد، فاستدعى العابس يزيد وتهدده، فكتمه يزيد أمره، فصدقه، وقال العباس لأخيه بشر بن الوليد: إني أظن أن الله قد أذن في هلاككم يا بني مروان؛ ثم تمثل:
إني أعيذكم بالله من فتنٍ ... مثل الجبال تسامى ثم تنفع
إن البرية قد ملت سياستكمفاستمكوا بعمود الدين وارتدعوا لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكمإن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا
لا تبقرن بأيديكم بطونكم ... فثم لا حسرة تغني ولا جزع
فلما اجتمع ليزيد أمره وهو متبد أقبل إلى دمشق، وبينه وبين دمشق أربع ليال، متنكراً في سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود على مرحلة من دمشق، ثم سار فدخل دمشق وقد بايع له أكثر لأهلها سراً، وبايع أهل المزة، وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فخاف الوباء فخرج منها فنزل قطنا واستخلف ابنه على دمشق، وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي، فاجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل: إن يزيد خارج، فلم يصدق.
وراسل يزيد أصحابه بعد المغرب ليلة الجمعة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذن العشاء فدخلوا فصلوا وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس منه بالليل، فلما صلى الله عليه وسلم الناس أخرجهم الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد ابن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأعلمه وأخذ بيده فقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه. فقالم وأقبل في اثني عشر رجلاً، فلما كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلاً من أصحابهم ولقيهم زهاء مائتي رجل، فمضوا إلى المسجد فدخلوه وأخذوا باب المقصورة فضربوه فقالوا: رسل الوليد، ففتح لهم الباب خادم، فأخذوه ودخلوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزان بيت المال، وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذ، وقبض على محمد بن عبيدة، وهو على بعلبك، وأرسل بني عذرة إلى محمد بن عبد الملك بن محمد بن الحجاج فأخذوه.
وكان بالمسجد سلاح كثير فأخذوه، فلما أصبحوا جاء أهل المزة وتابع الناس وجاءت السكاسك وأقبل أهل داريا ويعقوب بن محمد بن هانئ العبسي وأقبل عيسى بن شيب التغلبي في أهل دومة وحرستا، وأقبل حميد ابن حبيب النخعي في أهل دير مروان والأرزة وسطرا، وأقبل أهل جرش وأهل الحديثة ودير زكا، وأقبل ربعي بن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عذرة وسلامان، وأقبلت جهينة ومن والاهم. ثم وجه يزيد بن الوليد بن عبد الملك عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس ليأخذوا عبد الملك ابن محمد بن الحجاج بن يوسف من قصره، فأخذوه بأمان، وأصاب عبد الرحمن خرجين في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار، فقيل له: خذ أحد هذين الخرجين. فقال: لا تتحدث العرب عني أني أول من خان في هذا الأمر.
ثم جهز يزيد جيشاً وسيرهم إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك وجعل عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك.

وكان يزيد لما ظهر بدمشق سار مولى للوليد إلى فأعلمه الخبر وهو بالأغدف من عمان، فضربه الوليد وحبسه وسير أبا محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق، فسار بعض الطريق فأقام، فأرسل إليه يزيد بن الوليد عبد الرحمن ابن مساد، فسأله أبو محمد ثم بايع ليزيد بن الوليد.
ولما أتى الخبر إلى الوليد قال له يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية: سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة، ووجه الخيول إلى يزيد فيقتل أو يؤسر. فقال عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل، والله يؤيد أمير المؤمنين وينصره. فقال يزيد بن خالد: وما نخلف على حرمه، وإنما أتاه عبد العزيز وهو ابن عمهن.
فأخذ بقول ابن عنسبة وسار حتى أتى البخراء قصر النعمان بن بشير، وسار معه من ولد الضحاك بن قيس أربعون رجلاً فقالوا له: ليس لنا سلاح، فلو أمرت لنا بسلاح. فما أعطاهم شيئاً. ونازله عبد العزيز، وكتب العابس بن الوليد بن عبد الملك إلى الوليد: إني آتيك. فقالالوليد: أخرجوا سريراً، فأخرجوه، فجلس عليه وانتظر العباس. فقاتلهم علد العزيز ومعه منصور ابن جمهور، فبعث إليهم عبد العزرز زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فقتله أصحاب الوليد، واقتتلوا قتالاً شدؤداً، وكان الوليد قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذي كان عقده بالحابية.
وبلغ عبد العزيز مسير العباس إلى الوليد، فأرسل منصور بن جمهور إلى طريقه فأخذه قهراً وأتي به عبد العزيز فقال له: بايع لأخيك يزيد. فبايع ووقف، ونصبوا رايةً وقالوا: هذه راية العباس قد بايع لأمير المؤمنين يزيد. فقال العباس: غنا لله، خدعة من خدع الشيطان، وهلك بنو مروان. فتفرق الناس عن الوليد وأتوا العباس وعبد العزيز. وأرسل الوليد إلى عبد العزيز يبذل له خمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي ويؤمنه من كل حدث على أن ينصرف عن قتاله. فابى ولم يجبه. فظاهر الوليد بين درعين، وأتوه بفرسيه السندي والراية فقاتلهم قتالاً شديداً، فناداهم رجل: اقتلو عدو الله قتلة قوم لوظ! ارجموه بالحجارة! فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق عليه الباب وقال:
دعوا لي سلمى والطلاء وقينيةً ... وكأساً ألاحسبي بذلك مالا
إذ ما صفا عيشي برملة عالجٍ ... وعانقت سلمى ما أريد بدالا
خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ... ثباتاً يساوي ما حييت عقالا
وخلوا عناني قبل عير وما جرى ... ولا تحسدوني أن أموت هزالا
فلما دخل القصر وأغلق الباب أحاط به عبد العزيز، قدنا الوليد من الباب وقال: أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه؟ قال يزيد بن عنبسة السكسكي: كلمني. قال: يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطياتكم؟ ألم أرفع المؤن عنكم؟ ألم أعط فقراءكم؟ ألم أخدم زمنا لكم؟ فقال: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك واستخفافك بأمر الله! قال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله سعةً عما ذكرت. ورجع إلى الدار وجلس وأخذ مصحفاً فنشره يقرأ فيه وقال: يوم كيوم عثمان.
فصعدوا على الحائط، وكان أول من علاه يزيد بن عنبسة، فنزل إليه فأخذ بيده وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه، فنزل من الحائط عشرة، منهم: منصور بن جمهور، وعبد السلام اللخمي، فضربه عبد السلام على رأسه، وضربه السندي بن زياد بن أبي كبشة في وجهه واحتزوا رأسه ويروه إلى يزيد.
فأتاه الرأس وهو يتغدى، فسجد، وحكى له يزيد بن عنبسة ما قاله للوليد، قال آخر كلامه: الله لا يرتق فتقكم ولا يلم شعثكم ولا تجمتع كلمتكم، فأمر يزيد بنصب رأسه. فقال له يزيد بن فروة مولى بني مرة: إنما تنصب رؤوس الخوارج وهذا ابن عمك وخلفة ولا آمن إن نصبته أن ترق له قلوب الناس ويغضب له أهل بيته. فلم يسمع منه ونصبه على رمح فطاف به بدمشق، ثم أمر به أن يدفع إلى أخيه سليمان بن يزيد، فلما نظر إليه سليمان قال: بعداً له! أشهد أنه كان شروباً للخمر ما جناً فاسقاً. ولقد أرادني في نفسي الفاسق. وكان سليمان ممن سعى في أمره.

وكان مع الوليد مالك بن أبي السمح المغني وعمرو الوادي المغني أيضاص، فلما تفرق عن الوليد أصحابه وحصر قال مالك لعمرو: اذهب بنا. فقال عمرو: ليس هذا من الوفاء، نحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل. فقال مالك: والله لئن ظفروا بك وبي لا يقتل أحد قبلي وقبلك فيوضع رأسه بين رأسينا وقال للناس: انظروا من كان معه في هذه الحال، فلا يعيبونه بشيء أشد من هذا. فهربا.
وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين، وكانت مدة خلافته سنة وثلاثة أشهر، وقيل سنة وشهرين واثنين وعشرين يوماً، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وقيل: قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقيل إحدى وأربعين ينة، وقيل ست وأربعين سنة.
ذكرنسب الوليد وبعض سيرتههو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، يكنى أبا العباس، وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي، وهي بنت أخي الحجاج بن يوسف، وأم أبيه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأمها أم كلثوم بنت عبد الله ابن عامر بن كريز، وأم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب؛ فلذلك يقول الوليد:
نبي لهدى خالي ومن بك خاله ... نبي الهدى يقهر به من بفاخره
وكان من فتيان بني أمية وظرفائهم وشجعانهم وأجوادهم وأشدائهم، منهمكاً في اللهو والشرقب وسماع الغناء فظهر ذلك من أمره فقتل. ومن جيد شعره ما قاله لما بلغه أن هشاماً يردي خلعه:
كفرت يداً من منعم لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن
وقد تقدمت الأبيات الأربعة، وأشعاره حسنة في الغزل والعتاب ووصف الخمر وغي ذلك، وقد أخذ الشعراء معانيه في وصف الخمر فسرقوها وأدخلوها في أشعارهم وخاصة أبو نواس فإنه أكثرهم أخذاً لها.
قال الوليد: المحبة للغناء تزيد في الشهرة، وتهدم المروءة، وتنوب عن الخمر، وتفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء رقية الزنا، وإني لأقول ذلك علي وإنه أحب إلي من كل لذة، وأشهى إلى نفسي من الماء إلى ذي الغلة، ولكن الحق أحق أن يتبع.
قيل: إن يزيد بن منبه مولى ثقيف مدح الوليد وهنأه بالخلافة، فأمر أن تعد الأبيات ويعطى بكل بيت ألف درهم، فعدت فكانت خمسين بيتاً فأعطي خمسين أف درهم، وهو أول خليفة عد السعر وأعطى بكل بيت ألف درهم.
ومما شهر عنه أنه فتح المصحف فخرج: واستفتحوا وخاب كل جبارٍ عنيدٍ ابراهيم:15، فألقاه ورماه بالسهام وقال:
تهددني بجبار عنيدٍ ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ ... فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً حتى قتل.
ومن حسن الكلام ما قاله الوليد لما مات مسلمة بن عبد الملك، فإن هشاماً قعد للعزاء، فأتاه الوليد وهو نشوان يجر مطرف خز عليه، فوقف على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، إن عقبى من بقي لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى، واحتل الثغر فهوى، وعلى أثر من سلف يمضي من خلف، " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " البقر:197. فأعرض هشام ولم يحر جواباً، وسكت القوم فلم ينطقوا.
وقد نزه قوم الوليد مما قيل فيه وأنكروه ونفوه عنه وقالوا: إنه قيل عنه والصق به وليس بصحيح. قال المدائن: دخل ابن للغمر بن يزيد أخي الوليد على الرشيد، فقال له: ممن أنت؟ قال: من قريش. قال: من أيها؟ فأمسك، فقال: قل وأنت آمن ولو أنك مروان. فقال: أنا ابن الغمر بن يزيد. فقال: رحم الله عمك الوليد ولعن يزيد الناقص، فإنه قتل خليفة مجمعاً عليه! ارفع حوائجك. فرفعها فقضاها.
وقال شبيب بن شبية: كنا جلوساً عند المهدي فذكروا الوليد، فقال المهدي: كان زنديقاً، فقام أبو علاثة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين إن الله، عز وجل، أعدل من ان يولي خلافة النبوة وأمر الأمة زنديقاً، لقد أخبرني من كان يشهده في ملاعبه وشربه عنه بمروءة في طهارته وصلاته، فكان إذا حضرت الصلاة يطرح الثياب التي عليه المطايب المصبغة ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويؤتى بثياب نظاف بيض فيلبسها ويصلي فيها، فإذا فرع عاد إلى تلك الثياب فلبسها واشتغل بشر به ولهوه، فهذا فعال من لا يؤمن بالله! فقال المهدي: بارك الله عليك يا أبا علاثة!
ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص

في هذ1ه السنة بويع يزيد بن اوليد الذي يقال له الناقص، وإنما سمي الناقص لأنه نقص الزيادة التي كان الوليد زادها في عطيات الناس، وهي عشرة عشرة، ورد العطاء إلى ما كان أيام هشام، وقيل: أول من سماه بهذا الاسم مروان بن محمد.
ولما قتل الوليد خطب يزيد الناس فذمه وذكر إلحاده وأنه قتله لفعله الخبيث وقال: أيها الناس إن لكم علي أن لا أضع حجراً على حجر ولا لبنة ولا أكتر نهراً ولا أكثر مالا ولا أعطيه زوجةً وولداً ولا أنقل مالاً عن بلد حتى أسد ثغره وخصاصة أهله بما يغنيهم، فما فضل نقلته إلى البلد الذي يليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم، ولا أغلق بابي دونكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم، ولكم أعطياتكم كل سمنة وأرزاقكم في كل شهر حتى يكون أقصاكم كأدناكم، فإن وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن الوزارة، وإن لم أف فلكم أن تخلعوني إلا أن أتوب، وإن علمتم أحداً ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم وأردتم أن تبايعوه فأنا أول من يبايعه. أيها الناس لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ذكر اضطراب أمر بني أميةفي هذه النسة اضطرب أمر بني أمية وهاجت الفتنة، فكان من ذلك وثوب سلمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتل الوليد بعمان، وكان قد حبسه الوليد بها، فخرج من الحبس وأخذ ما كان بها من الأموال وأقبل إلى دمشق وجعل يلعن الوليد ويعبه بالكفر.
ذكر خلاف أهل حمصلما قتل الوليد أغلق أهل حمص أبوابها وأقاموا النوائح والبواكي عليه، وقيل لهم: إن العباس بن الوليد بن عبد الملك أعان عبد العزيز على قتله، فهدموا داره وأنهبوها وسلبوا حرمه وطلبوه، فسار إلى أخيه يزيد، فكاتبوا الأجناد ودعوهم إلى الطلب بدم الوليد، فأجا بوهم واتفقوا أن لا يطيعوا يزيد، وأمروا عليهم معاوية بن يزيد بن الحصين بن نمير، ووافقهم مروان بن عبد الله بن عبد الملك على ذلك.
فراسلهم يزيد فلم يسمعوا وجرحوا رسله. فسير إليهم أخاه مسروراً في جمع كثير، فنزلواحوارين، ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام، فرد عليه يزيد ما كان الوليد أخذه من أموالهم وسيره إلى أخيه مسرور ومن معه وأمرهم بالسمع والطاعة له.
وكان أهل حمص يريدون المسير إلى دمشق، فقال لهم مروان بن عبد الملك: أرى أن تسيروا إلى هذا الجيش فتقاتلوهم فإن ظفرتم بهم كان من بعدهم أهون عليكم، ولست أرى المسير إلى دمشق وترك هؤلاء خلفكم. فقال: السمط ابن ثابت: إنما يريد خلافكم وهو ممايل ليزيد والقدرية. فقتلوه وقتلوا ابنه وولوا أبا محمد السفياني وتركوا عسكر سليمان ذات اليسار وساروا إلى دمشق.
فخرج سليمان مجداً فلحقهم بالسليمانية، مرزعة كانت لسليمان بن عبد اللك خلف عذراء، وأرسل يزيد بن الوليد عبد العزيز بن الحجاج في ثلاثة آلاف إلى ثنية العقاب، وأرسل هشام بن مصاد في ألف وخمسمائةإلى عقبة السلامية، وأمرهم أن يمد بعضهم بعضاً. ولحقهم سليمان ومن معه على تعبٍ، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت ميمنة سليمان ويمسرته وقثبت هو في القلب، ثم حمل أصحابه على أهل حمص حتى ردوهم إلى موضعهم وحمل بعضهم على بعض مراراً.
فبينا هم كذلك إذ أقبل عبد العزيزي بن الحجاج من ثنية العقاب فحمل ععلى أهل حمص حتى دخل عسكرهم وقتل فيه من عرض له، فانهزموا، ونادى يزيد بن خالد بن عبد الله القسري: الله الله في قومك! فكف الناس، ودعاهم سليمان بن هشام إلى بيعة يزيد بن الوليد، وأخذ أبو محمد افيانس أسيراً، ويزيد بن خالد بن زيد بن معاوية أيضاً، فاتي بهما سليمان، فسيرهما إلى يزيد فحبسهما، واجتمع أمر أهل دمشق ليزيد بن الوليد، وبايعه أهل حمص، فأعطاهم يزيد العطاء وأجاز الأشراف؛ واستعمل عليهم يزيد بن الوليد معاوية بن الحصين.
ذكر خلاف أهل فلسطينوفي هذه السنة وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عبد الملك فطردوه، وكان قد استعمله عليهم الوليد، وأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك فجعلوه عليهم وقالوا له:إن أمير المؤمنين قد قتل فتول أمرنا. فةليهم ودعا الناس إلى قتال يزيد، فأجابوه.
وكان ولد سليمان ينزلولون فلسطين، وبلغ أهل الأردن أمر أهل فلسطين فولوا عليهم محمد بن عبد الملك واجتمعوا معهم على قتال يزيد بن الوليد، وكان أمر أهل فلسكين إلى سعيد بن روح وضبعان بن روح.

وبلغ خبرهم يزيد بن الوليد فسير إليهم سليمان بن هشام بن عبد الملك في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني، وكانت عدتهم أربعة وثمانين ألفاً، وأرسل يزيد بن الوليد إلى سعيد وضبعان ابني روح فوعدهما وبذلل لهما الولاية والمال، فرحلا في أهل فلسطين ويقي أهل الأردن، فأرسل سليمان خمسة آلاف فنهبوا القرى وساروا إلى طبرية، فقال أهل طبرية: ما نقين والجنود تجوس منازلنا وتحكم في أهلينا، فانتهبوا يزيد بن سليمان ومحمد ابن عبد الملك وأخذوا دوابهما وسلاحهما ولحقوا بمنازلهم. فملا تفرق أهل فلسطين والأردن سار سليمان حتى أتى الصنبرة وأتاه أهل الأردن فبايعوا يزيد بن الوليد، وسار إلى طبرية فصلى بهم الجمعة، وبايع من بها، وسار إلى الرملة فأخذ البيعة على من بها، واستعمل ضبعان بن روح على فلسطين وإبراهيم بن الوليد بن عبد الملك على الأردن.
ذكر عزل يوسف بن عمر على العراقولما قتل الوليد استعمل يزيد على العراق منصور بن جمهور، وكان قد ندب قبله إلى ولاية العراق عبد العزيز بن هارون بن عبد الله بن دحية بن خليفة الكلبي، فقال: لو كان معي جبند لقبلت. فتركه وزاستعمل منصوراً، ولم يكن منصور من أهل الدين وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية وحمية لقتل يوسف خالداً القسري، فشهد لذلك قتل الوليد وقال له لما ولاه العراق اتق الله واعلم اني إنما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور، فلا تركب مثل ما قتلناه عليه.
ولما بلغ يوسف بن عمر قتل الوليد عمد إلى من بحضرته من اليمانية فسجنهم ثم جعل يخلوا بالرجل بعد الرجل من المضرية فيقول:: ما عندك إن اضطراب الحيل؟ فيقول المضري: أنا رجل من أهل الشام أبايع من بايعوا وأفعل ما فعلوا. فلم ير عندهم ما يجب فأطلق الميانية.
وأقبل منصور، فملا كان بعين التمر كتب إلى من بالحيرة من قواد أهل الشام يخبرهم بقتل الوليد وتأميره على العراق يوأمرهم بأخذ يوسف وعماله، وبعث الكتب كلها إلى سليمان بن سليم بن كيسان ليفرقها على القواد، فحبس الكتب وحمل كتابه فأقراه يوسف بن عمر، فتحير في أمره وقال لسليمان: ما الرأي؟ قال: ليس لك إمام تقاتل أهل الشام معك، ولا آمن عليك منصوراً، وما الرأي إلا أن تلحق بشامك. قال: فكيف الحيلة؟ قال: تظهر الطاعة ليزيد وتدعو له في خطبتك، فإذا قرب منصور تستخفي عندي وتدعه والعمل. ثم مضى سليمان إلى عمرو بن محمد ابن سعيد بن العاص فأخبره بأمره وسأله أن يؤدي يوسف بن عمر عنده، ففعل، فانتقل يوسف إليه، قال: فلم ي رجل كان له مثل عتوه خاف خوفه.
وقدم منصور الكوفة فخطبهم وذم الوليد ويوسف، وقامت الخطباء فذموهما معه، فاتى عمرو بن محمد إلى يوسف فأخبره، فجعل لا يذكر رجلاً ممن ذكره بسوء إلا قال: له علي أن أضربه كذا وكذا سوطاً! فجعل عمرو يتعجب من طمعه في الولاية وتهدده الناس.
وسار يوسف من الكوفة سراً إلى الشام فنزل البلقاء، فملا بلغ خبره ابن الوليد وجه إليه خمسين فارساً، فعرض رجل من بين نيمر ليوسف فقال: يا بن عمر أنت والله مقتول فأطعني وامنع. قالك لا. قال: فدعني أقتلك أنا ولا تقتلك هذه اليمانية فتغيظنا بقتلك. قال: ما لي فيما عرضت جنان. قال: فأنت أعلم.فطلبه المسيرون لأخذه فلم يروه، فهدوا ابنا له، فقال: إنه انطلق إلى مزرعة له؛ فساروافي طلبه، فلما أحس بهم هرب وترك نعليه، ففتشوا عنه فوجدوه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خز وجلسن على حواشيها حاسرات، فجروا برجله وأخذه وأقبلوا به إلى يزيد، فوثب عليه بعض الحرس فأخذ بلحيته ونتف بعضها، وكان من أعظم الناس لحيةً وأصغرهم قامةً، فلما أدخل على يزيد قبض على لحية نفسه، وهي إلى سرته، فجعل يقوزل: يا أمير المؤمنين نتف والله لحيتي فما أبقى فيها شعرة! فأمر به فحبس بالخضراء، فأتاه إنسان فقال له: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت فيلقي عليك حجراً فيقتلك؟ فقال: ما فطنت لهذا. فأرسل إلى يزيد يطلب منه أن يحول إلى حبس غير الخضراء وإن كان أضيق منه. فعجب من حمقه، فنقله وحبسه مع ابني الوليد، فبقي في الحبس ولاية يزيد وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم، فلما قرب مروان من دمشق ولى قتلهم يزيد بن خالد القسري مولى لأبيه خالد يقال له أبو الأسد.

ودخل منصور بن جمهور لأيام خلت من رجب فأخذ بيوت الأموال وأخرج العطاء والأرزاق وأطلق من كان في السجون من العمال وأهل الخراج وبايع ليزيد بالعراق وأقام بقية رجب وشعبان ورمضان وانصرف لأيام بقين منه.
ذكر امتناع نصر بن سيار على منصوروفي هذه السنة امتنع نصر بن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور ابن جمهور وكان يزيد ولاها منصواً مع العراق، وذد ذكرنا فيما تقدم ما كان من كتاب يوسف بن عرمإلى نصر لامسير إلهي ومسير نصر وتباطئه وما معه من الهدايا، فاتاه قتل الوليد، فرجع نصر ورد تلك الهديايا واعتق الرقيق وقيم حسان الجواري في ولده وخاصته، وقسم تلك الآنية في عوام الناس، ووجه العمال وأمرهم بحسن السيرة، وايتعمل منصور أخاه منظراً على الري وخراسان فلم يمكنه نصر من ذلك وحفظ نفسه والبلاد منه ومن أخيه.
ذكر الحرب بين أهل اليمامة وعاملهملما قتل الوليد بن يزيد كان على الميامة علي بن المهاجر، واستعمله عليها يوسف بن عمر، فقال له المهيربن سلمى بن هلال، احد بني الدؤل بن حنيفة: اترك لنما بلادنا، فأبى، فجمع له المهير وسار إليه وهو في قصره بقاع هجر، فالتقوا بالقاع، فانهزم علي حتى دخل قصره، ثم هرب إلى المدينة، وقتل الميهير ناساً من أصحابه، وكان يحيى بن أبي حفص نهى ابن المهاجر عن القتال فعصاه، فقال:
بذلت نصيحتي لبني كلاب ... فلم تقبل مشاورتي ونصحي
فدالبني حنيفة من سواهم ... فإنهم فوارس كل فتح
وقال شقيق بن عمرو السدوسي :
إذا أنت سالمت المهير ورهطة ... أمنت من الأعداء والخوف والذعر
فتى راح يوم القاع روحة ماجدٍ ... أراد بها حسن السماع مع الآجر
وهذا يوم القاع.
وتأمر المهير على اليمامة، ثم إنه مات واستخلف على اليمامة عبد الله بن النعمان أحد بني قيس بن ثعلبة بن الدؤل، فاستعمل عبد الله بن النعمان المندلث ابن أدريس الحنفي على الفلج وهي قرية من قرى بني عامر بن صعصعة، وقيل: هي لبني نميم، فجحمع له بنو كعب بن ربيعة بن عامر ومعهم بنو عقيل وأبو الفلج المندلث وقاتلهم، فقتل المندلث وأكثر أصحابه ولم يقتل من أصحابه بني عامر كثير أحد، وقتل يومئذ يزيد بن الطثرية، وهي أمه نسبت إلى طثر بن عمر بن وائل، وهو يزيد بن المنتشر، فرثاه أخوه ثور بن الطثرية:
أرى الأثل من نحو العقيق مجاوري ... مقيماً وقد غالت يزيد غوائله
وقد كان يحمي المحجرين بسفه ... ويبلغ أقصى حجرة الحي نائله
وهو يوم الفلج الأول فلما بلغ عبد الله بن النعمان قتل المندلث جمع ألفاً من حنيفة وعغيرها وغزا الفلج، فلما تصاف الناس انهزم أبو لطيفة بن مسلم العقيلي، فقال الراجز:
فر أبو لطيفة المنافق ... والجفونيان وفر طارق
لما أحاطت بهم الوارق طارق بن عبد الله القشيري، والجفونيان من بني قشير.
وتحللت بنو جعدة البراذع وولوا فقتل أكثرهم، وقطعت يد زياد بن حيان الجعدي فقال:
أنشد كفاً ذهبت وساعدا ... أنشدها ولا أراني واجدا
ثم قتل. وقال بعض الربعيين.
سمونا لكعب بالصفائح والقنا ... والخيل شعثاً تنحني في الشكائم
فما غاب قرن الشمس حتى رأيتنما ... نسوق بني كعب كسوق البهائم
بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كأفواه المزاد الثواجم
وهذا اليوم هو يوم الفلج الثاني.

ثم إن بني عقيل وقشيراً وجعدة ونميراً تجمعوا وعليهم أبو سهلة النميري فتلوا من لقوا من بني حنيفة بمعدن الصخراء وسلبوا نساءهم، وكفت بنو نمير عن النساء. ثم إن عمر بن الوازع الحنفي لما رأى ما فعل عبد الله بن العنعمان يوم لفلج الثاني قال: لست بدون عبد الله وغيرهممن يغير، وهذه فترة يؤمن فيها عقوبة السلطان. فجمع خيله وأتى الشريف وبث خليه، فاغارت وأغار هو، فملئت يداه من الغنائم وأقبل ومن معه حتى أتى النشاش، وأقبلت بنو عامر وقد حشدت، فلم يشعر عمر بن الوازع إلا برعاء الإبل، فجمع النساء في فسطاط وجعل عليهن حرساً ولقي القوم فقاتلهم فانهزم هو ومن معه وهرب عمر بن الوازع فلحق باليمامة، وتساقط من بني حنيفة خلق كثير في القلب من العطش وشدة الحر، ورجعت بنو عامر بالأسرى والنساء، وقال القحيف:
وبالنشاش يوم طار فيه ... لنا ذكر وعد لنا فعال
وقال أيضاً:
فداء خالتي لبني عقيلٍ ... وكعبٍ حين تزدحم الجدود
هم تركوا على النشاس صرعى ... بضربٍ ثم أهونه شديد
وكفت قيس يوم النشاش عن السلب، فجاءت علكل فسلبتهم؛ وهذا يوم النشاش، ولم يكن لحنيفة بعده جمع، غير أن عبيد الله بن مسلم الحنفي جمع جمعاً وأغار على ماء لقشير يقال له حلبان، فقال الشاعر:
لقد لاقت قشير يوم لاقتٍ ... عبيد الله إحدى المنكرات
لقد لاقت على حلبان ليثاً ... هزبراً لا ينام على الترات
فإن تربونا بالسياط فإننا ... ضربناكم بالمرهفات الصوارم
وإن تحلقوةا منا الرؤوس فإننا ... قطعنا رؤوساً منكم بالغلاصم
ثم سكنت البلاد ولم يزل عبيد الله بن مسلم الحنفي مستخفياً حتى قدم السري بن عبد الله الهاشمي والياً على اليمامة لبني العابس، فدل عليه، فقتله؛ فقال نوح بن جرير الخطفى:
فلولا السري الهاشمي وسيفه ... أعاد عبيد الله شراً على عكل
ذكر عزل منصور عن العراق

وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز
في هذه السنة عزل زيد بن الوليد بن عبد الملك منصور بن حمهور عن العراق وستعمل عليه بعده عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقال له لما ولاه: سر إلى العراق فإن أهله بميلون إلى أبيك. فقدم إلى العراق وقدم بين يديه رسلاً إلى من بالعراق من فواد الشام، وخاف أن لا يسلم إليه منصور العمل. فانقاد له أهل الشام، وسلم إليه منصور العمل وانصرف إلى الشام ففرق عبد الله العمال وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم. فنازعه قواد أهل الشام وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدونا؟ فقال لأهل العراق: إني أريد أن أرد فيئكم عليكم، وعلمت أنكم أحق به فنازعني هؤلاء. فاجتمع أعهل الكوفة بالجبانة، فأرسل إليهم أهل الشام يعتذرون، وثار غوغاء الناس من الفريقين فأصيب منهم رهط لم يعرفوا. واستعمل عبد اللله بن عمر على شرطته عمر بن الغضبان القبعثري، وعلى خراج السواد والمحاسابت أيضاً.
ذكر الاختلاف بين أهل خراسانوفي هذه السنة وقع الاختلاف بخراسان بين النزارية واليمانية وأظهر الكرماني الخلافلنصر بن سيار.
وكان السبب في ذلك أن نصراً رأى الفتنة قد ثارت فرفع حاصل بيت المال وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقاً وذهباً من الآنية التي كان اتخذها اللوليد، فطلب الناس منه العطاء وهو يخطب، فقال نصر: إياي والمعصية! عليكم بالطاعة والجماعة! فوثب أهل السوق إلى أسواقهم، فغضب نصر وقال: ما لكم عندي عطاء. ثم قال: كأني بكم وقد تبع من تحت أرجلكم شر لا يطاق، وكأني بكم مطرحين في الأسواق كالجزر المنحورة، إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملوها، وأنتم يا أهل خراسان مسلحة في نحور العدو، فإياكم أن يختلف فيكم سفيان، وإنكمترشون أمراً تريدون به الفتنة، ولا أبقى الله عليكم! لقد نشرتكم وطيويتكم، وطويتكم ونشرتكم فما عندي منكم عشرة! وإني وإياكم كما قيل:
استمسكوا أصحابنا نحدو بكم ... فقد عرفنا خيركم وشركم
فاتقوا الله! فوالله لئن اختلف فيكم سفيان ليتمنيني أحكم أنه ينخلع من ماله وولده! يا أهل خراسان إنكم قد غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة! ثم تمثل بقول النابغة الذبياني:
فإن يغلب شقاؤكم عليكم ... فإني في صلاحكم سعيت

وقدم على نصر عهده على خراسان من عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فقال الكرماني لأصحابه: الناس في فتنة فانظروا لأموركم رجلاً.
وإنما سمي الكرماني لأنه ولد بكرمان، واسمه جديع بن علي الأزدي المعني؛ فقالوا له: أنت لنا.
وقالت المضرية لنصر: إن الكرماني يفسد عليك الأمور فأرسل إله فاقتله أو أحبسه. قال: لا ولكن لي أولاد ذكرور وإناث فأزوج بني من بناته وبناتي من بينه. قالوا: لا قال: فأبعث إيه بمائة ألف درهم وهو بخيل ولا يعططي أصحابه شيئاً منها فيتفرقون عنه قالوا: لا، لا، هذه قوة له؛ ولم يزالوا به حتى قالوا له: إن الكرماني لو لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهود.
وكان نصر والكرماني متصافيينم، وكان الكرماني قد أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله، فلما ولي نصر عزل الكرماني عن الرياسة وولاها غيره، فتباعد ما بينهما.
فلما أكثروا على نصر في أمر الكرماني متصافيين، وكان الكرماني عزم على حبسه، فأرسل صاحب حرسه ليأتيه به، فأرادت الأزد أن تخلصه من يده، فمنعهم من ذلك وسار مع صاحب حرسه ليأتيه به، فأرادت الأزد أن تخلصه من يده، فمنعهم من ذلك وسار مع صاحب الحرس إلى نصر وهو يضحك، فلما دخل عليه قال له نصر: يا كرماني ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر بقتلك فراجعته وقلت شيخ خراسان وفارسها فحقنت دمك؟ قال: بلى. قال: ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس؟ قال: بلى. قال: ألم ارئس ابنك عليا على كره من قومك؟قال: بلى. قال: فبدلت ذلك إجماعاً على الفتنة! قال الكرماني: لم يقل الأمير شيئاً إلا وقد كان أكثر منه، وأنا لذلك شاكر، وقد كان مني أيام أسد ما قد علمت فليتأن الأمير فلست أحب الفتنة. فقال سالم ابن أحوز: اضرب عنقه أيا الأمير! فقال عصمة بن عبد الله الأسدي للكرماني: إنك نريد التفنة وما لا تناله. فقال المقدام وقدامة ابنا بعد الرحمن بن نعيم العامري: لجلساء فرعون خير منكم ؟إذ قالوا: أرجه وأخاه الأعراف:111، والله لا يقتل المكرماني بقولكما! فأمر بضربه وحبس في القهندز لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة.
فتكلمت الأزد، فقال نصر: إني حلفت أن أحبسه ولا يناله مني سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلاً يكون معه. فاختناروا يزيد النحوي، فكان معه.
فجاء رجل من اهل نسف فقال لآل الكرماني: ما تجعلون لي إن أخرجته؟ قالوا: كل ما سألت. فأتى مجرى الماء في القهندز فوسعه وقال لولد الكرماني: اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج. فكتبوا إليه، فأدخلوا الكتاب في الطعام، فتعشى الكرماني ويزيد التحوي وخضر بن حكيم وخرجا من عنده، ودخل الكرماني السرب فانطوت على بطنه حية فلم تضره وخرج من السرب، وركب فرسه البشير والقيد في رجله فأتوا به عبد الملك بن حرملة، فأطلق عنه.
وقيل: بل خلص الكرماني مولى له رأى خرقاً في القهندز فوسعه وأخرجه، فلم يصلف الصبح حتى اجتمع معه زهاء ألف، ولم يرتفع النهار حتى بلغوا ثلاثة آلاف، وكانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة على كتاب الله وسنة رسوله، فملا خرج الكرماني قدمه عبد الملك.
فلما هرب الكرماني عسكر نصر بباب مرو الروذ وخطب الناس فنال من الكرماني، فقال:ولد بكرمان فكان كرمانياً، ثم سقط إلى هراة فصار هروياً، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت ولا فرع نابت؛ ثم ذكر الأزد فقال: إن يستوسقوا فهم أذل قوم، وإن يأبوا فهم كا قال الأخطل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبنت ... فدل عليها صوتها حية البحر
ثم ندم على ما فرط منه فقال: اذكروا الله فإنه حير لا شر فيه.
ثم اجمع إلى نصر بشر كثير، فوجه سالم بن أحوز في المجففة إلى الككرماني، فسفر الناس بين نصر والكرماني وسألوا نصراً أن يؤمنه ولا يحبسه، وجاء الكرماني فوضع يده في يد نصر، فأمره بلزوم بيه.
ثم بلغ الكرماني عن نصر شيء فخرج إلى قرية له، فخرج نصر فعسكر بباب مرو، فكلموه فيه فآمنه، وكان رأي نصؤ إخراجه من خراسان، فقال له سالم بن أحوز: إن أخرجته نوهت باسمه؛ وقال الناس: إنما أخرجه لأنه هابه. فقال نصر: إن الذي أتخوفه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم، والرجل إذا نفي عن بلده صغر أمره. فأبوا عليه، فآمنه وأعطى أصحابه عشرة عشرة، وأتى الكرماني نصراً فآمنه.

لما عزل ابن جمهور عن العراق وولي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في شوال سنة ست وعشرين خطب نصر وذكر ابن جمهور وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق وقد عزله الله واستعمل الطيب ابن الطيب.
فغضب الكرماني لابن جمهور وعاد في جمع الرجال واتخاذ السلاح، فكان يحضر الجمعة في ألف وخمسمائة وأكثر وأقل فيصلي خارج المقصورة، ثم يدخل فيسلم على نصر ولا يجلس. ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف، فأرسل إليه نصر مع سالم بن أحوز يقول له: إن والله أردت بحبسك سوءاً ولكن خفت فساداً من الناس فأتني. فقال: لولا أنك في منزلي لقتلتك، ارجع إلى ابن الأقطع وأبلغه ما شئت من خي أو شر. فرجع إلى نصر فأخبره، فلم يول يرسل إليه مرة بعد أخرى، فكان آخر ما قال له الكرماني: إني لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد فتركب منا ما لا بقية بعده، فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة،وأسفك الدماء فيها. فتهيأ للخروج إلى جرجان.
المعني بفتح الميم، وسكون العين المهلملة، وبعدها نون: قبيلة من الأزد.
ذكر خبر الحارث بن سريج وأمانهوفي هذه السنة أومن الحارث بن سريج وهو ببلاد الترك، وكان مقامه عندهم اثنتي عشرة سنة، وأمر بالعود إلى خراسان.
وكان السبب في ذلك أن الفتنة لما وقعت بخراسان بين نصر والكرماني خاف نصر قدوم الحارث عليه في أصحابه والترك فيكون أشد عليه من الكرماني وغيره، وطمع أن يناصحه، فأرسل مقاتل بن حيان النبطي وغيره ليردوه عن بلاد الترك. وسار خالد بن زياد الترمذي وخالد بن عمرو مولى بني عامر إلى يزيد بن الوليد فأخذا للحارث منه أماناً،فكتب له أمانه، وأمر نصر أن يرد عليه ما أخذ له، وأمر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز عامل الكوفة بذلك أيضاً فأخذا الأمان وسارا إلى الكوفة ثم إلى خراسان، فأرسل نصر إليه، فلقيه الرسول وقد رجع مع مقاتل بن حيان وأصحابه، فوصل إلى نصر وقام بمرو الروذ، ورد نصر عليه ما أخذ له. وكان عوده سنة سبع وعشرين ومائة.
ذكر شيعة بني العباسفي هذه السنة وجه إبارهيم بن محمد الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصية، فقدم مرو وجمع النقباء والدعاة، فنعى إليهم محمد بن علي ودعاهم إلى ابنه إباهيم ودفع إليهم كتابه، فقلبوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم.
ذكر بيعة إبراهيم بن الوليد بالعهدوفي هذه السنة أمر يزيد بن الوليد بالبيعة لأخيه إبراهيم ومن بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك. وكان السبب في ذلك أن يزيد مرض سنة ست وعشرين ومائة، فقيل له ليبايع لهما، ولم تزل القدرية ببزيد حتى أمر بالبيعة لهما.
ذكر مخالفة مروان بن محمدوفي هذه السنة أظهر مروان بن محمد الخلاف ليزيد بن الوليد.
وكان السبب في ذلك أن الوليد لما قتل كان عبد الملك بن مروان بن محمد مع الغمر يزيد أخي الوليد بحران بعد انصرافه من الصائفة، وكان على الجزيرة عبدة بن الرياح الغساني عاملاً للوليد، فلما قتل الوليد سار عبدة عنها إلى الشام، فوثب عبد الملك بن موران بن محمد على حران والجزيرة فضبطهما وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك ويشير عليه بتعجيل السير.فتهيأ مروان للمسير وأنفذ إلى الثغور من يضبطها وبحفظها، وأظهر أن يطلب بدم الوليد، وسار ومعه الجنود ومعه ثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين.
وسبب صحبته له أن هشاماً كان قد حبسه، وسبب حبسه أن هشاماً أرسله إلى إفيقية لما قتلوا عامله كملثوم بن عياض فأفسد الجند، فحبسه هشام، وقدم مروان على هشام في بعض وفاداته فشفع فيه فأطلقه فاستصبحه معه.

فلما سار مروان مسيره هذا أمر ثابت بن نعيم من مع مروان من أهل الشام بالانضمام إليه ومفارقة مروان ليعودوا إلى الشام، فأجابوه إلى ذلك، فاجتمع معه ضعف من مع مروان وباتوا يتحارسون، فلما أصبحوا اصطفوا للقتال، فامر مروان منادين بنادون بين الصفين: يا أهل الشام ما دعاكم إلى هذا؟ ألم أحسن فيكم السيرة؟ فأجابوه بأنا كنا نطيعك بطاعة الخليفة، وقد قتل وبايع أهل الشام يزيد فرضينا بولاية ثابت ليسير بنا إلى أجنادنا. فنادوهم: كذبتم فإنكم لا تريدون ما قلتم، وإنما تريدون أن تغصبوا من مررتم به من أهل الذمة أموالهم! وما بيني وبينكم إلا السيف حتى تنقادوا إلي فأسير بكم إلى الغزاة ثم أترككم تلحقون بأجنادك. فانقادوا له، فأخذ ثابت بن نعيم وأولاده وحبسهم وضبط الجند حتى بلغ حران وسيرهم إلى الشام ودعا أهل الجزيرة إلى العرض فعرض نيفاً وعشرين أفاً وتجهز للمسير إلى يزيد، وكاتبه يزيد ليبايع له ويوليه ما كان عبد الملك بن موران ولى أباه محمد بن مروان من الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان، فبايع له مروان وأعطاه يزيد ولاية ما ذكر له .
ذكر وفاة يزيد بن الوليد

ابن عبد الملك
وفي هذه السنة توفي يزيد بن الوليد لعشر بقين من ذي الحجة، وكانت خلافته ستة أشهر وليلتين، وقيلك كانت ستة أشهر واثني عشر يوماً، وقيل: خمسة أشهر واثني عشر يوماً، وكان موته بدمشق، وكان عمره ستاً وأربعين سنة، وقيل: سبعاً وثلاثين سنة؛ وكانت أمه أم ولد اسها شاهفرند بنت فيوز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وهو القائل:
أنا ابن كسرى وأبي مروان ... وقيصر جدي وجدي خاقان
إنما جعل قيصر وخاقان جديه لأن أم فيروز بن يزجرد ابنة كسرى شيرويه بن كسرى، وأمها ابنة قيصر، وأم شيرويه ابنة خاقان ملك الترك.
وكان آخر ما تكلم به: وحسرتاه وأسفاه! ونقش خاتمه: العظمة لله. وهو أول من خرج بالسلاح يوم العيد، خرج بين صفين عليهم السلاح.
قيل: إنه كان قدرياً، وكان أسمر طويلاً صغير الرأس جملاً.
ذكر خلافة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملكفلما مات يزيد بن الوليد قام بالأمر بعده أخوه إبراهيم، غير أنه لم يتم له الأمر، فكان يسلم عليه تارة بالخلافة وتارة بالإمارة وتارة لا يسلم عليه بواحدة منهما، فمكث أربعة أشهر، وقيل: سبعين يوماً، ثم سار إليه مروان ابن محمد فخلعه، على ما نذكره، ثم لم يزل حياً حتى أصيب سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكنيته أبو إسحاق؛ أمه أم ولد.
ذكر استيلاء عبد الرحمن بن حبيب على أفريقيةكان عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع قد انهزم لما قتل أبوه وكلثوم بن عياض سنة اثنتين وعشرين ومائة، وسار إلى الاندلس، وقد ذكرناه، وأراد أن يتغلب عليها، فلم يمكنه ذلك، فلما ولي حنظلة بن صفوان إفريقية، على ما ذكرناه، وجه أبا الخطار إلى الأندلس أميراً، فأيس حينئذ عبد الرحمن مما كان يرجوه فعاد إلى إفريقية وهو خائف من أبي الخطار، وخرج بتوني من إفريقية في جمادى الولى سنة ست وعشرين وقد ولي الوليد ابن يززيد بن عبد الملك الخلافة بالشام، فدعا الناس إلى نفسه، فأجابوه، فسار بهم إلى القيروان، فأراد من بها قتاله فمنعهم حنظلة، وكان لا يرى القتال إلا لكافر أو خارجي، وأرسل إليه حنظلة رسالة مع جماعة من أعيان القيروان رؤساء القبائل يدعوه إلى مراجعة الطاعة، فقبضهم وأخذهم إلى القيروان وقال: إن رمى أحد من أهل القيروان بحجر قتلت من عندي أجمعين،فلم يقالتله أحد.
فخرج حنظلة إلى الشام، واستولى عبد الرحمن على القيروان سنة سبع وعشرين ومائة وسائر إفريقية.
ولمكا خرج حنظلة إلى الشام دعا على أهل إفريقية وعبد الرحمن، فاستجيب له فيهم، فوقع الوبأ والطاعون سبع سنين لم يفارقهم إلا في أوقات متفرقة، وثار بعبد الرحمن جماعة من العرب والبربر ثم قتل بعد ذلك.
فممن خرج عليه عروة بن الوليد الصدفي واستولى على تونس، وقام أبو عطاف عمران بن عطاف الأزدي فنزل بطيفاس، وثارت البرر بالجبال، وخرج عليه ثابت الصنهاجي بباجة فأخذها.

فأحضر عبد الرحمن أخاه إلياس وجعل معه ستمائة فارس وقال له: سر حتى تجتاز بعسكر أبي عطاف الأزدي، فإذا رآك عسكره فارقهم وسر عنهم كأنك تريد تونس إلى قتلا عروة بن الوليد بها، فإذا أتيت موضع كذا فقف فيه حتى يأتيك فلان بكتابي فافعل بما فيه.
فسار إلياس ودعا عبد الرحمن إنساناً، وهو الرجل الذي قال لأخيه إلياس عنه، وأعطاه كتاباً وقال له: امض حتى تدخل عسكر أبي عطاف، فإذا أشرف عليهم إلياس ورأيتهم يدهعون السلاح والحخيل فإذا فارقهم إلياس ووضعوا السلاح عنهم وأمنوا فسر إليه وأوصل كتابي إليه فمضى الرجل ودخل عسكر أبي عطاف، وقاربهم إلياس فتحركوا للركوب، ثم فارقهم إلياس نحو تونس فسكنوا وقالوا: قد دخل بين فكي أسد، نحن من هاهنا وأهل تونس من هناك، وأمنوا وصمموا العزم على المير خلفه. فلما أمنوا سار ذلك الرجل إلى إلياس فأوصل إليه كتاب أخيه عبد الرحمن، فإذا فيه: إن قد أمنوك فسر إليهم وهم في غفلتهم. فعاد إلياس إليهم وهم غارون فلم يلحقوا يلبسون سلاحهم حتى دهمهم فقتلهم وقتل أبا عطاف أميرهم سنة ثلاثين ومائة، وأرسل إلى أخيه عبد الرحمن يبشره بذلك، فكتب إليه عبد الرحمن يأمره بالمسير إلى أهل تونس ويقول: إنهم إذا رأوك ظنوك أبا عطاف فأمنوك فظفرت بهم.
فسار إليهم، فكان كما قال عبد الرحمن، ووصل إليها وصاحبها عروة ابن الوليد في الحمامفلم يلحق يلبس ثيابه حتى غشيه إلياس فالتحف بمنشفة ينشف بها بدنه وركب فريه عرياناً وهرب، فصاح به إلياس: سا فارس العر! فعاد إليه فضربه إلياس واحتضنه عروة فسقطا إلى الأرض،وكاد عروة يظهر على إلاس فأتاه مولى لإلياس فقتله واحتز رأسه وسيره إلى عبد الرحمن وأقام إلياس بتونس وخرج عليه رجلان بطرابلس اسمهما عبد الجبار والحارث وقتلا من أهل البلد جماعةً كثيرة، فسار إليهم عبد الرحمن سنة إحدى وثلاثين ومائة وقاتلهما فقتلا، وكانا يدينان بمذهب الإباضية من الخوارج.
وجند عبد الرحمن في قتال البربر، وعمر عبد الرحمن سور طرابلس سنى اثنتين وثلاثين ومائة، ثم إنه عاد إلى القيروان وغزا تلمسان وبها جمع كثير من البربر فظفر بهم، وذلك سنة خمس وثلاثين، وسير جيشاً إلى صقلية فظفروا وغنموا عنيمة كثيرة، وبعث جياً آخر إلى سردانية فغنموا وقتلوا في الروم، ودوخ المغرب جميعه ولم ينهزم له عسكر.
وقتل مروان بن محمد وزالت دولة بني أمية وعبد الرحمن بإفريقية، فخطب للخلفاء العابسيين وأطاع السفاح. ثم قدم عليه جماعة من بني أمية فتزوج هو وإخوته منهم، وكان في من قدم عليه منهم: العاص وعبد المؤمن ابنا الوليد ابن يزيد بن عبد الملك، وكانت ابنة عمهما تحت إلياس أخي عبد الرحمن، فبلغ عبد الرحمن عنهما السعي في الفساد عليه فقلهما، فقالت ابنة عمهما لزوجها إلياس: إن أخاك قد قتل أختانك ولم يراقبك فيهم وتهاون بك، وأنت سيفه الذي يضرب به، وكلما فتحت له فتحاً كتب إلى الخلفاء: إن ابني حبيباً فتحه، وقد جعل له العهد بعده وعزلك عنه. ولم تزل تغريه به. فتحرك لقولها وأعمل الحيلة على أخيه.
ثم إن السفاح توفي وولي الخلافة بعده المنصور، فأقر عبد الرحمن على إفريقية، وأرسل إليه خلعةً سوداء أول خلافته فلبسها، وهي أو سواد دخل إفريقية. فأرسل إليه عبد الرحمن هدية وكتب يقول: إن إفريقية اليوم إسلامية كلها وقد انقطع السبي منها والمال، فلا تطلب مني مالاً. فغضب المنصور وأرسل إليه يتهدده، فخلع المنصو بإفريقية ومزق خلعته وهو على المنبر وكان خلع المنصور مما أعان أخاه إلياس عليه. فاتفق جماعة من وجوه القيروان معه على أن يقتلوا عبد الرحمن ويولوه ويعيد الدعاء للمنصور. فبلغ عبد الرحمن غامر أخاه إلياس بالمسير إلى تونس، فتجهز ودخل إليه يودعه ومعه أخوه عبد الوارث، فلما دخلا على عبد الرحمن قتلاه. وكان قتله في ذي الحجة سنة سبع وثلاثين ومائة، وكانت إمارته على إفريقية عشر ينين وسبعة أشهر.

ولما قتل ضبط إلياس أبواب الدار ليأخذ ابنه حبيباً، فم يظفر به، وهرب حبيب إلى تونس واجتمع بعمه عمران بن حبيب وأخبره بقتل أبيه؛ وسار إلياس إليهما، واقتتلوا قتالاً يسيراً، ثم اصطلحوا على أن يكون لحبيب قفصة وقسطيلة ونفزاوة، ويكون لعمران تونس وصطفورة والجزيرة، ويكون سائر إفريقية لإلياس؛ وكان هذا الصلح سنة ثمان وثلاثين ومائة، فلما اصطلحوا سار حبيب بن عبد الرحمن إلى عمله، ومضى إلياس مع أخيه عمران إلى تونس فغدر بعمران أخيه وقتله وانخذ تونس وقتل بها حماعةً من أشراف العرب وعا إلى القيروان. فلما استقر بها بعث بطاعته إلى المنصور مع وفد، منهم عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضي إفريقية.
ثم سار حبيب إلى تونس فملكها، فسار إليه إلياس واقتتلوا قتالاً ضعيفاً، فلما جنهم الليل ترك حبيب خيامه وسار جريدة إلى القيروان فدخلها وأخرج من في السجن وكثر جمعه.
ورجع إلياس في طلبه ففارقه أكثر أصحابه وقصدوا حبيباً، فعظم جيشه، وخرج إليه فاتقيا فغدر أصحاب إلياس، وبرز حبيب بين الصفين، فقال له: ما لنا نقتل صنائعنا وموالينا؟ ولكن ابرز أنت إلي فأينا قتل صاحبه استراح منه. فتوقف إلياس ثم برز إليه فاقتلا قتالاً شديداً تكسر فيه رمحاهما ثم سفاهما، ثم إن حبيباً عطف عليه فقتله ودخل القيروان وكان ذلك سنة ثمان وثلاثين ومائة.
وهرب إخوة إلياس إلى بطن من البربر يقال لهم ورفجومة فاعصموا بهم، فسار إليهم حبيب فقاتلهم فهزموه، فسار إلى قابس، وقوي أمر ورفجومة حينئذ وأقبلت البربر إليهم والخوارج، وكان مقدم ورفجومة رجلاً اسمه عاصم ابن جميل وكان قد ادعى النبوة والكهانة، فبدل الدين وزاد في الصلاة واسقط ذكر النبي، صلى الله عليه وسلم ، من الأذان، فجهز عاصم من عنده من العرب على قصد القيروان وأتاه رسل جماعة من أهل القيروان يدعونه إليهم وأخذوا عليه العهود والمواثيق بالحماية والصيانة والدعاء للمنصور، فسار إليهم عاصم في البربر والعب، فملا قاربوا القيوان خرج من بها لقتالهم فاقتتلوا، وانهزم أهل القيروان، ودخل عاصم ومن معه القيروان، فاستحلت ورفجومة المحرمات وسبوا النساء والصبيان وربطوا دوابهم في الجامع وأفسدوا فيه.
ثم سار عاصم يطلب حبيباً وهو بقابس فأدركه واقتتلوا، وانهزم حبيب إلى جبل أوراس فاحتمى به، وقام بنصره من به، ولحق به عاصم فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عاصم وقتل وهو وأكثر أصحابه، وسار حبيب إلى القيروان، فخرج إليه عبد الملك بن أبي الجعد وقد قام بأمر ورفجومة بعد قتل عاصم، فاقتل هو وحبيب، فانهزم حبيب وقتل هو جماعة من أصحابه في المرحم سنة أربعين ومائة.
وكانت إمارة عبد الرحمن بن حبيب على إفريقية عشر سنين وأشهراً، وإمارة أخيه إلاس سنة وستة أشهر، وإمارة بنه حبيب ثلاث سنين.
ذكر إخراج ورفجومة من القيروانولما قتل حبيب بن عبد الرحمن عاد عبد الملك بن أبي الجعد إلى القيروان وفعل ما كان يفعله عاصم من الفساد والظلم وقلة الدين وغير ذلك، ففارق القيروان أهلها.
فاتفق أن رجلاً من الإباضية دخل القيروان الحجاةٍ له فرأى ناساً من الورفجومين قد أخذوا امرأة قهراً والناس ينظرون فأدخلوها الجامع، فترك الإباضي حاجته وقصد أبا الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري فأعلمه ذلك، فخرج أبو الخطاب وهو يقول: بيتك اللهم بيتك!فاجتمع إليه أصحابه من كل مكان وقصدوا طرابلس الغرب، واجتمع عليه الناس من الإباضية والخوارج وغيرهم، وسير إليهم عبد الملك، مقدم ورفجومة، جيشاً فهزموه وساروا إلى القيروان، فخرجت إليهم ورفجومة واقتتلوا واشتد القتال، فانهزم أهل القيروان الذين مع ورفجومة وخذلوهم، فتبعهم ورفجومة في الهزيمة وكثر القتل فيهم وقتل عبد الملك الورفجومي، وتبعهم أبو الخطاب بقتلهم حتى أسرف فيهم، وعاد إلى طرابلس واستخلف على القيروان عبد الرحمن بن رستم الفارسي.
وكان قتل ورفجومة في صفر سنة إحدى وأربعين.

ثم أإن جماعة كثيرة من المسودة سيرهم محمد بن الأشعث الخزاعي، لأأمير مصر للمنصور،إلى طرابلس لقتال أبي الخطاب، وعليهم أبو الأحوص عمر بن الأحوص العجلي، فخرج إليهم أبو الخطاب وقاتلهم وهزمهم ينة اثنتين وأربعين، فعادوا إلى مصر، واستولى أبو الخطاب على سائر إفريقية. فسير إليه المنصور محمد بن الأشعث الخزاعي أميراً على إفريقية، فسار من مصر سنة ثلاث وأربعين فوصل إليها في خمسين ألفاً، ووجه مع الأغلب بن سالم التميمي، وبلغ أبا الخطاب مسيره فجمع أصحابه من كل ناحية، فكثر جمعه وخافه ابن الأشعث لكثرة جموعه.
فتنازعت زناته وهوارة بسبب قتيل من زناته، فاتهمت زناته أبا الخطاب بالميل إليهم، ففارقه جماعة منهم، فقوي جنان ابن الأشعث وسار سيراً رويداً، ثم أظهر أن المنصور قد أمره بالعود، وعاد إلى ورائه ثلاثة أيام سيراً بطيئاً، قوصلت عيون أبي الخطاب وأخبرته بعوده، فتفرق عنه كثير من أصحابه وأمن الباقون، فعاد الأشعث وشجعان هسكره مجداً فصبح أبا الخطاب وهو غير متأهب للحرب، فوضعوا السيوف في الخوارج، واشتد القتال، فقتل أبو الخطاب وعامة أصحابه في صفر سنة أربع وأربعين ومائة.
وظن ابن الأشعث أن مادة الخوارج قد انقطعت، وإذا هم قد أطل عليهم أبو هريرة الزناتي في ستة عشر ألفا، فلقيهم ابن الأشعث وقتلهم جمعاً سنة أربع وأربعين، وكتب إلى المنصور بظفره، ورتب الولاة في الأعمال كلها، وبني سور القيروان فيها، وتم سنة ست وأربعين، وضبط إفريقية، وأمعن في طلب كل من خالفه من البربر وغيرهم، فسير جيشاً إلى زويلة ووران،فافتتح وران وقتل من بها من الإباضية، وافتتح زويلة وقتل مقدمهم عبد الله بن سنان الإباضي وأجلى الباقين. فلما رأى البربر وغيرهم من أهل العبث والخلاف على الأمراء ذلك خافوه خوفاً شديداً وأذعنوا له بالطاعة. فثار عليه رجل من جنده يقال له هاشم بن الشاحج بقمونية وتبعه كث4ير من الجند، فسير إليه ابن الأشعث قائداً في عسكر ، فقتله هاشم وانهزم أصحابه، وجعل المضرية من قواد ابن الأشعث يأمرون أصحابهم باللحاق بهاشم كراهية لأبن الأشعث لأنه تعصب عليهم، فبعث إليهابن الأشعث جيشاً آخر، فاقتتلوا وانهزم هاشم ولحق بتاهرت وجمع اطغام البربر، فبلغت عدة عسكره عشرين ألفاً، فسار بهم إلى تهوذة، فسير إليه ابن الأشعث جيشاً فانهزم هاشم وقتلوا كثيراً من أصحابه البربر وغيرهم، فسار إلى ناحية كرابلس.
وقدم رسول من المنصور إلى هشام يلومه على مفارقة الطاعة، قال: ما خلفت ولكني دعوت للمهدي بعد أمير المؤمنين، وأنكر ابن الأشعث ذلك وأراد قتلي. فقال له لرسول: فإن كنت على الطاعة فمد عنقك. فضربه بالسيف فقتله سنة سبع وأربعين في صفر، وبذلك الأمان لأصحاب هاشم جميعهم فعادوا.
وتبعهم ابن الأشعث بعد ذلك فقتلهم، فغضب المضرية واجتمعت على داوته وخلافه، واسجتمع رأيهم على إخاجه. فملا رأى ذلك سار عنهم، ولقيته رسل المنصور بالبر والإكرام، فقدم عليه، واستعمل المضرسة على إفريقية بعده عيسى بن موسى الخراساني.
وكان بعد مسير ابن الأشعث تأمير الهخاساني ثلاثة أشهر، واستعمل المنصور الأغلب التميمي، على ما نذكره، في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائة وإنما أوردنا هذه الحوادث متتابعة لتعلق بعضها على ما شرطناه، وقد ذكرنا كل حادثة في أي سنة كانت فحصل الغرضان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف ين محمد بن يوسف عن المدينة واستعمل عبد العزيز بن عمرو بن عثمان، فقدمها في ذي القعدة من السنة. وحج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وقيل: عمر بن عبد الله بن عبد الملك.
وكان العامل على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وعلى قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى البصرة المسور بن عمر بن عباد، وعلى قضائها عامر بن عبيدة، وعلى خراسان نصر بن سيار الكناني.
وفيها كاتب مروان بن محمد بن مروان بن الحكم أمير الجزيرة الغمر ابن يزيد الغمر ابن يزيد بن عبد الملك يحثه على الطلب بدم أخيه الوليد ويعده المساعدة له وإنجاذه على ذلك.

وفيها مات سعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: سنة سبع وعشرين وسعيد بن أبي سعيد المقبري. ومالك بن دينار الزاهد، وقيل مات سنة سبع وعشرين، وقيل سنة ستين. وفيها توفي عبد الرحمن بن القاسم ابنم محمد بن أبي بكر الصديق، وقيل سنة إحدى وثلاثين. وف إمارة يوسف ابن عمر على العراق توفي أبو جمرة الضبعي صاحب ابن عباس.
جمرة بالجيم والراء المهملة.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة

ذكر مسير مروان إلى الشام
وخلع إبراهيم
وفي هذه السنة سار مروان إلى الشام لمحاربة إبراهيم بن الوليد.
وكان السبب في ذلك ما قد ذكرنا بعضه من مسير مروان بعد مقتل الوليد وإنكاره قتله وغلبته على الجزيرة ثم مبايتعته لزيد بن الوليد بعدما ولاه يزيد من عمل أبيه.
فلما مات يزيد بن الوليد سار مروان في جنود الجزيرة وخلف ابنه عبد الملك في جمع عظيم بالرقة، فلما انتهى مروان إلى قنسرين لقي بها بشر ابن الوليد، وكان ولاه يزيد قنسرين، ومعه أخوه مسرور بن الوليد، فتصافوا، ودعاهم مروان إلى بيعته، فمال إلية يزيد بن عمر بن هبيرة في القيسية واسلموا بشراً وأخاه مسروراً، فأخذهما مروان فحبسهما، وسار ومعه أهل قنسرين متوجها إلى حمص.
وكان أهل حمص قد امتنعوا حين مات ييد من بيعة إلبراهيم وعبد العزيز، فوجه ه إليهم إبراهيم بعد العزيز وجند أهل دمشق فحاصرهم في مدينتهم، وأسرع مروان السير، فلما دنا من حمص رحل عبد العزيز عنها وخرج أهلها إلى مروان فايعوه وساروا معه. ووجه إبرايهم بن الوليد الجنود من دمشق مع سليمان بن هشام، فنزل عين الجر في مائة وعشرين ألفاً، ونزلها مروان في ثمانين ألاً، فدعاهم مروان إلى الكف عن قتلاله وإكطلاق ابني الوليد الحكم وعثمان من السجن وضمن لهم أنه لا يطلب أحداً من قتلة الوليد. فلم يجيبوه وجدوا في قتاله، فاققتلوا ما بين ارتفاع النهار إلى العصر، وكثر القتل بينهم.
وكان مروان ذا رأي وكيدة، فأرسل ثلاثة آلاف فارس، فساروا خلف عسكره وقطعوا نهراً كان هناك وقصدوا عسكر إبراهيم ليغيروا فيه، فمل يشعر سليمان ومن معه وهم مشغلون بالقتال إلا بالخيل والبارقة والتكبير في عسكرهم من خلفهم، فلما رأوا ذلك انهزموا ووضع أهل حمص السلاح فيهم لحنقهم عليهم فقتلوا منهم سبعة عشر ألفاً، وكف أهل الجزيرة وأهل قنسرين عن قتلهم وأتوا مروان من أسرائهم بمثل القتلى واكثر، فأخذ مروان عليهمم البيعة الولدي الوليد وخلى عنهم ولم يقتل منهم إلا رجلين، أحدهما يزيد بن العقار والوليد بن مصاد الكلبيان، وكانا ممن وليب قتل الوليد، فإنه حبسهما فهلكا في حبسه. وهرب يزيد بن عبد الله القسري فيمن هرب مع سليمان إلى دمشق واجتمعاوا مع إباهيم وبعد العزيز بن الحجاج، فقال بعضهم لبعض: إن بقي ولدا الويد حتى يخرجهما مروان ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحداً من قتله أبيهما والرأي قتلهما، فرأى ذلك يزيد بن خالد، لإأمر أبا الأسد مولى خالد يقتلهما، وأخرج يوسف بن عمر فضرب رقبته، وأرادوا قتل أبي محمد السفياني فدخل بيتاً من بيوت السجن وأغلقه فلم يقدروا على فتحه، فأرادوا إحراقه له يؤتوا بنار حتى قيل دخلت خيل مروان المدينة، فهربوا وهرب إبراهيم واختفى، وانهب سليمان ما في بيت المال فقسمه في أصحابه وخرج من المدينة.
ذكر بيعة مروان بن محمد بن مروانوفي هذه السنة بويع بدمشق لمروان بالخلافة.
وكان سبب ذلك أنه لما دخل دمشق وهرب إبراهيم بن الوليد وسليمان ثار من بدمشق من موالي الوليد دار عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك فقتلوه ونبشوا قبر يزيد بن الوليد فصلبوه على باب الجابية، وأتي مروان بالغلامين الحكم وعثمان ابني الوليد نقتولين، وبيوسف بن عمر، فدفنهم، وأتي بأبي محمد السفياني في قوده فسلم عليه بالخلافة، ومروان يسلم عليه يومئذ بالإمرة، فقال له مروان: مه! فقال: إنهما جعلاها لك بعدهما؛ وأنشده شعراً قاله الحكم في السجن، وكانا بلغا وولد لأحدهما، وهو الحكم، فقال الحكم:
ألا من مبلغ مروان عين ... وعمي الغمر طال به حنينا
بأني قد ظلمت وصار قومي ... على قتل الوليد مشايعينا
أيذهب كلهم بدمي ومالي ... فلا غشا أصبت ولا سمينا

ومروان بأرض بني نزارٍ ... كليث4 الغاب مفترس عينا
أتنكث بيعتي من أجل أمي ... فقد بايعتم قبلي هجينا
فإن أهلك أنا وولي عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا
ثم قال: اسط يدك أبايعك. وسمعه من مع مروان، وكان أول من بايعه معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير ورؤوس أهل حمص والناس بعده، فلما استقر له الأمر رجع إلى منزله بحران وطلب منه الأمان لإبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام، فآمنهما، فقدما عليه، وكان سليمان بتدمر بمن معه من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانية فبايعوا مروان بن محمد.
ذكر ظهور عبد الله بن معاوية

ابن عبد الله بن جعفر
وفي هذه السنة ظهر عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة ودعا إلى نفسه.
وكان سبب ذلك أنه قدم على عبد الله بن عمر بن عبد العزيز إلى الكوفة فأكرمه وأجازه وأجرى عليه وعلى إخوته كل يوم ثلاثمائة درهم، فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بن الوليد، وبايع الناس أخاه إبراهيم بن الوليد وبعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فلما بلغ خبر بيعتهما عبد الله بن عمر بالكوفة بايع الناس وزاد في العطاء وكتب بيعتهما إلى الآفاق، فجاءته البيعة، ثم بلغه امناع مروان بن محمد من البيعة ومسيره إليهما إلى الشام، فحبس عبد الله بن معاوية عنده وزاده فيما كان يجري عليه وأعده لمروان بن محمد إن هو ظفر بإبراهيم بن الوليد ليبايع له وقاتل به مروان، فماج الناس.
وورد مروان الشام بإبراهيم، فانهزم إسماعيل بن عبد الله القسري إلى الكوفة مسرعاً، وافتعل كتاباً على لسان إبراهيم بإمرة الكوفة، وجمع الميانية وأعلمهم ذلك، فأحابوه، وامتنع بعبد الله بن عمر عليه وقاتله.
فلما رأى الأمر كذلك خاف أن يظهر أمره فيفتضح وقتل فقال لأصحابه: إني أكره سفك الدماء فكفوا أيديكم، فكفوا. وظهر أمر إبراهيم وهربه، ووقعت العصبية بين الناس، وكان سبببها أن عبد الله بن عمر كان أعطى مضر وربيعة عطايا كثيرة ولم يعط جعفر بن نافع بن القعقاع بن شور الذهلي وعثمان بن الخببيري من تميم اللات بن ثعلبة شيئاً، وهما من ربيعة، فكانا مغضب لهما ثمامة بن حوشب بن رويم السيباني، وخرجوا من عند عبد الله بن عمرو هو بالحيرة إلى الكوفة فنادوا: ياآل ربيعة! فاجتمعت ربيعة وتنمروا.
وبلغ الخبر عبد الله بن عمر لإأرسل إليهم أخاه عاصماً، فأتاهم وهم بدير هند، فألقى نفسه بينهم وقال: هذه يدي لكم فاحكموا. فاستحيوا ورجعوا وعظموا عاصماً وشكروه، فلما كان المساء أرسل عبد الله بن عمر إلى عمر بن الغضبان بن القبعثرى بمائة ألف، فقسمها في قومه بين همام بن مرة بن ذهل السيباني، وإلى ثمامة بن حوشب بمائة ألف قسمها في قومه، وارسل إلى جعفر بن نافع بمال، وإلى عثمان الخبيري بمال.
فلما رأت الشيعة ضعف عبد الله بن عمر طمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بن معاوية واجتمعوا في المسجد وقاروا واتوا عبد الله بن معاوية وأخرجوه من داره وأدخلوه القصر ومنعوا عاصم بن عمر بن الغضبان، ومنصور ابن جمهور،وإسماعيل بن عد الله القسري أخو خالد، وأقام أياماً يبايعه الناس، وأتته البيعة من المدائن وفم النيل، واجتمع إليه الناس، فخرج إلى عبد الله بن عمر بالحيرة، فقيل لابن عمر: قد أقبل ابن معاوية في الخلق، فأكرق ملياً، وأناه رئيس خبازيه فأعلمه بإدراك الطعام، فأمره بإحضاره، فأحضره، فأكل هو ومن معه وهو غير مكترث والناس يتوقعون أن يهجم عليهم ابن معاوية، وفرغ من طعامه وأخرج المال ففرقه في قواده، ثم دعا مولى له كان يتبرك به ويتفاءل باسمه، كان اسمه إما ميموناً وغما رياحاً أو فتحاً أو اسما يتبرك به، فأعطاه اللواء وقال له: امض به إلى موضع كذا فاركزه وادع أصحابك وأقم حتى أتيك. ففعل.
وخرج عبد الله فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية، فأمر ابن عمر منادياً فنادى: من جاء برأس فله خمسائة. فأتي برؤوس كثيرة وهو يعطي ما ضمن

وبز رجل من أهل السام، فبرز إليه القاسم بن عبد الغفار العجلي، فسأله الشامي فعرفه فقال: قد ظننت أنه لا يخرج إلي رجل من بكر بن وائل، والله ما أريد قتالك ولكن أحببت أن ألقي إليك حديثاً، أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن، لا إسماعيل ولا منصور ولا غيرهما إلا وقد كاتب ابن عمر وكاتبه مضر، وما أرى لكم باربيعة كتاباً ولا رسولاً، وأنا رحجل من قيس، فإن أردتم الكتاب ألغته ونحن غداً بإزائكم فإنهم اليوم لا يقاتلونكم. فبلغ الخبر ابن معاوية فأخبره عمر بن الغضبان، فأشار عليه أن يستوثق من إسماعيل ومنصور وغيرهما، فلم يفعل.
وأصبح الناس من الغد غادين على القتال، فحمل عمر بن الغضبان على ميمنة ابن عمر فانكشفوا، ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما إلى الحيرة، فانهزم أصحاب ابن معاوية إلى الكوفة وابن معاوية معهم فدخلوا القصر، وبقي من بالميسرة من ربيعة ومضر ومن بازائهم من أصحاب ابن عمر، فقال لعمر بن الغضبان: ما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بكم، فانصرفوا. فقال ابن الغضبان: لا أبرح حتى أقتل. فأخذ أصحابه بعنان درابته فأدخلوه الكوفة، فما أمسوا قال لهم ابن معاوية: يا معشر ربيعة، قد رأيتم ما صنع الناس بنا، وقد أعلقنا دماءنا في أعناقكم، فإن قاتلتم قتالنا معكم، وإن كنتم ترون الناس يخذلوننا وإياكم فخذوا لنا ولكم أماناً فقال له عمر بن الغضبان: ما نقاتل معكم وما نأخذ لكم أماناً كما نأخذ لأنفسنا. فأقاموا في القصر والزيدية على أفواه السكك يقاتلون أصحاب ابن عمر أياماً.
ثم إن ربيعة أخذت أماناً لابن معاوية ولأنفسهم وللزيدية ليذهبوا حيث شاؤوا، وسار ابن معاوية من الكوفة فنزل المدائن، فأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج بهم فغلب على حلوان والجبال وهمذان وأصبهان والري، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة. وكان شاعراً مجيداً، فمن قوله:
ولا تركبن الصنيع ال1ذي ... تلوم أخاك على مثله
ولا يعجبنك قول امرئ ... يخالف مكا قال في فعله
ذكر رجوع الحارث بن السريج إلى مرووفي هذه السنة رجع الحارث إلى مرو، وكان مقيماً عند المشركين مدة، وقد تقدم سبب عودة؛ وكان قدومه مرو في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين، فلقيه الناس بكشمهين، فلما لقيهم قال: ما قرت عبيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرة عبيني إلا أن يطاع الله. ولقيه نصر وأنزل وأجرى عليه كل يوم خمسين مرهماً، فكان يقتصر على لون واحد، وأطلق نصر أهله وأولاده، وعرض عليه نصر أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل وأرسل إلى نصر: إني لست من الدنيا واللذات في شيء، وإنما أسألك كتاب الله والعمل بالسنة، وأن تستعمل أهل الخير، فإن فعلت ساعدتك على عدوك.
وأرسل الحارث إلى الكرماني: إن أعطاني نصر العمل بالكتاب وما سالته عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل أعنتك إن ضمنت الي ضمنت لي القيام بالعدل والسنة. ودعا بني تميم إلى نفسه، فأجابه منهم ومن غيرهم جمع كثير، واجتمع إليه ثلاثة آلاف، وقال لنصر: إنما خرجت من هذه البلدة منذ ثلاث عشرة سنة إنكاراً للجور وأنت تريديني عليه.
ذكر انتقاض أهل حمصوفي هذه السنة انتقض أهل حمص على مروان.
وكان سبب ذلك أن مروان لما عاد إلى حرآن بعد فراغه من أهل الشام أقام ثلاثة أشهر، فانتقض عليه أهل حمص، وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت ابن نعيم وراسلهم، وأرسل أهل حمص إلى من بتدمر من مكلب فأتاهم الأصبغ بن ذؤالة الكلبي وأولاده ومعاوية السككي، وكان فارس أهل الشام، وغيرهما في نحو من ألف من فسانهم، فدخلوا ليلة الفطر، فجد مروان في السير إليه ومعه إبراهيم المخلوع وسلمان بن هشام، وكان قد آمنهما، وكان يكرمهما، فبلغهما بعد افطر بيومين وقد سد أهللها أبوابها، فأحدق بالمدينة ووقف بإزاء باب من أبوابها، فنادى مناديه الذين عند الباب: ما دعاكم إلى النكث؟ قالوا إنا على طاعتك لم ننكث. قال: فافتحوا الباب. فافتحوا الباب، فدخله عمر بن الوضاح في الوضاحية، وهم نحو من ثلاثة آلاف، فقالتلهم من في البلد، فكثرتهم خيل مروان، فخرج بها من بها من باب تدمر، فقاتلهم من عليه من أصحاب مروان فقتل عامة من خرج منه وأفلت الأصنع بن ذؤالة وابنه فرافصة، وقتل مروان جماعةً من أسرائهم، وصاب خمسائة من القتلى خحول المدينة، وهدم من سوها نحو غلوة.

وقيل: إن فتح حمص وهدم سورها كان في سنة ثمان وعشرين.
ذكر خلاف أهل الغوطةفي هذه السنة خالف أهل الغوطة وولوا عليهم يزيد بن خالد القسري وحصروا دمشق، وأميرهم زامل بن عمرو، فوجه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن لكوثر بن زفر بن الحارث، وعمر بن الوضاح في عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج عليهم، من بالمدينة، فانهزموا، واستباح أهل مروان عسكرهم وأحرقوا المزة وقرى من اليمانية، وأخذ يزيد بن خالد فقتل، وبعث زامل برأسه إلى مروان بحمص.
وممن قتل في هذه الحرب عمر بن هانئ العبسي مع يزيد، وكان عابداً ككثير المجاهة.
ذكر خلاف أهل فلسطينوفيها خرج ثابت بن نعيم بعد أهل حمص والغوطة، وكان خروجه في أهل فلسطين، وانتقض على مروان أيضاً وأتى طبرية فحاصرها وعليها الوليد ابن معاوية بن مروان بن الحكم ابن أخير عبد الملك، فقالتله أهلها أياماً.
فكتب مروان بن محمد إلى أبي الورد يأمره بالمسير إليهم،فما قرب منهم خرج أهل طبرية على ثابت فهزموه واستباحوا عسكره، وانصرف إلى فلسطين منهزماً، وتبعه أبو الورد فالتقوا واقتتلوا، فهزمه أبو الرود ثانية وتفرق أصحابه واسر ثلاثة من أولاده وبعث بهم إلى مروان، وتغيب ثابت وولده رفاعة.
واستعمل مروان على فلسطين الماحن بن عبد العزيز الكناني، فظفر بثابت وبعثه إلى مروان موثقاً بعد شهرين، فأمر به وبأولاده الثلاثة فقطعت لأيديهم وأرجلهم وحموا إلى دمشق فألقوا على باب المسجد، ثم صلبهم على أبواب دمشق.
وكان مروان بدير أيوب فبايع لابنيه عبيد الله وعبد الله وزوجهما ابنتي هشام بن عبد الملك وجمع كذلك بين أمية، واستقام له الشسام ما خلا تدمر، فسار إليها فنزل القسطل، وبينه وبين تدمر أيام، وكانوا قد عوروا المياه، فاستعمل المزاد والقرب والإبل، وكلمه الأبرش بن الوليد وسلميان ابن هشام وغيرهما وسألوه أن يرسل إلهم، فأذن لهم في ذلك، وسار الأبرش وخوفهم وحذرهم، فأجابوا إلى الطاعة، وهرب نفر منهم إلى البر ممن لم يثق بمروان، ورجع الأبرش إلى مروان ومعه من أطاع بعد أن هدم سورها.
وكان مروان قد سير يزيد بن عمر بن هبيرة بين يديه إلى العراق لقتال الضحاك الخارجي، وضرب على أهل الشام بعثاً وأمرهم باللحاق بيزيد، وسار مروان إلى الرضصافة، فاستأذنه سليمان بن هشام لقيم أياماً ليقوى من معه ويستريح ظهره. فأذن له؛ وتقدم مروان إلى قرقيسيا وبها ابن هبيرة ليقدمخ إلى الضحاك، فرجع عشرة آلاف ممن كان مروان قد أخذه من أهل الشام لقتال الضحاك، فأقاموا بالرصافة ودعوا سليمان إلى خلع مروان، فأجابهم.
ذكر خلع سليمان بن هشام

ابن عبد الملك مروان بن محمد
وفي هذه السنة خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد وحاربه.
وكان السبب في ذلك ما ذكرنا من قدوم الجنود عليه وتحسيتهم له خلع مروان، وقالوا له: أنت أرضى عند الناس من مروان وأولى بالخلافة. فأجابهم إلى ذلك وسار بإخوته ومواليه معهم فعسكر بقنسرين، وكانب أهل الشام، فاتوه من كل وجه، وبلغ الخبر مروان فرجع إليهمن قرقيسيا وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالمقام، واجتاز مروان في رجوعه بحصن الكامل وفيه جماعة من موالي سليمان وأولاد هشام فتحصنوا منه، فأرسل إليهم: إني أحذركم أت تعرضوا لأحد ممن يتبعين من جندي بأذى، فإن فعلتم فلا أمان لكم عندي. فأرسلوا إليه: إنا نستكف. ومضى مروان، فجعلوا يغيرون على من يتبعه من أخريات الناس، وبلغه ذلك فتغيظ عليهم.
واجتمع إلى سليمان نحو من سبعين ألفاً من أهل الشام والذكوانية وغيرهم، وعسكر بقرية خساف من أرض قنسرين، وأتاه مروان فواقعه عند وصوله، فاشتد بينهم القتال، وانهزم سليمان ومن معه، وابتعهم خيل مروان تقتل وتأسر، واستباحوا هعسكرهم، ووقف مروان موقفاً ووقف ابناه موقفين، ووقف كوثر صاحب شرطته موقفاً، وأمرهم أن لا يؤتوا بأسير إلا قتلوه إلا عبداً مملوكاً. فأحصي من قتلاهم يومئذ نيف على ثلاثين ألق قيل، وقتل إبراهيم بن سليمان وأكثر ولده، وخالد بن هشام المخزومي خال هشام ابن عبد الملك، وادعى كثير من الأسراء للجند أنهم عبيد، فكف عن قتلهم وأمر ببيعهم فيمن يزيد مع من أصيب من عسكرهم.

ومضى سليمان حتى أنتهى إلى حمص، وانضم إليه من أفلت ممن كان معه، فعسكر بها وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من حيطانهم. وسار مروان إلى حصن الكامل حنقاً على من فيه فحصرهم وأنزلهم على حكمه، فمثل بهم وأخذهم أهل الرقة فداووا جراحاتهم، فهلك بعضهم وبقي أكثرهم، وكانت عدتهم نحواً من ثلاثمائة. ثم سار إلى سليمان ومن معه، فقال بعضهم لبعض: حتى متى نتهزم من مروان؟ فتبايع سبعمائة من فرسانهم على الموت وساروا بأجمعهم مجمعين على أن يبيتوه إن أصابوا منه غرة. وبلغه خبرهم فتحرز منهم فتحرز منهم وزحف إليهم في الخنادق على احتراس وتعبية، فلم يمكنهم أن يتبعوه، فكمنوا في زيتون على طريقه فخرجوا عليه وهويسير على تعبية فوضعوا السلاح فيمن معه، وانتدب لهم ونادى خيوله، فرجعت إليه، فقتلوه من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر، وانهزم أصحاب سليمان، وقتل منهم نحو من ستة آلاف فلما بلغ سليمان هزيمتهم حخلف أخاه سعيداً بحمص إلى تدمر فأقام بها، ونزل مروان على حمص فحصر أهلها عشرة أشهر ونصب عليهم نيفاً وثمانين منجنيقاً يرمى بها الليل والنهار، وهم يخرجون إليه كل يوم فيقاتلونه، وربما بيتوا نواحي عسكره. فملا تتابع عليهم البلاء طلبوا الأمان على أن يمكنوه من سعيدبن هشام وابنيه عثمان ومروان ومن رجل كان يسمى السكسي كان يغير على عسكره ومن رجل حبشي كان يشتم مروان، وكان يشد في ذكره ذكر حمار ثم يقول: يا بني سليم يا أولاد كذا وكذا هذا لواؤكم. فأجابهم إلى ذلك، فاستوثق من سعيد وابنيه وقتل السكسكي وسلم الحبشي إلى بني سليم فقطعوا ذكره وأنفه ومثلوا به. فلما فرغ من حمص سارنحو الضحاك الخارجي.
وقيل: إن سليمان بن هشام لما انهزم بخساف أقبل هارباً حتى صار إلى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بالعراق فخرج معه إلى الضحاك فبايعه وحرض على مروان؛ فقال بعض شعرائهم:
ألم تر الله أظهر دينه ... وصلت قريش خلف بكر بن وائل
فلما رأى النضر بن سعيد الحرشي، وكان قد ولي العراق، على ما نذكره إن شاء الله، ذلك علم أنه لا طاقة له بعبد الله بن عمر، فسار إلى مروان، فلما كان بالقادسية خرج إليه ابن ملجان، خليفة الضحاك بالكوفة، فقاتله، فقتله النضر، واستعمل الضحاك على الكوفة المثنى بن عمران العائذي.
ثم سار الضحاك في ذي القعدة إلى الموصل، وأقبل ابن هبيرة حتى نزل بعين التمر، فسار إليه المثنى بن عمران فاتتلوا أياماً، فقتل المثنى وعدة من قواد الضحاك وانهزمت الخوارج ومعهم منصور بن جمهور وأتوا الكوفة فجمعوا من بها منهم وساروا نحو ابن هبيرة فلقوه، فقاتلهم أياماً وانهزمت الخوارج، وأتى ابن هبيرة إلى الككوفة وسار إلى واسط، ولما بلغ الضحاك ما لقي أصحابه أرسل عبيدة بن سوار التغلبي إليهم فنزل الصراة، فرجع ابن هبيرة إلهم فالتقوا بالصراة؛ وسيرد خبر خروج الضحاك بعدها إن شار الله تعالى.
الحرشي بفتح الحاء المهملة، وبالشين المعجمة.
ذكر خروج الضحاك محكماً
وفي هذه السنة خرج الضحاك بن قيس الشيباني محكماً ودخل الكوفة.
وكان سبب ذلك أن الوليد حين قتل خرج بالجزية حوري يقال له سعيد بن بهدل الشيباني في مائتي من أهل الجزيرة فيهم الضحاك، فاغتنم قتل الوليد واشتغال مروان بالشام فخرج بأرض كفرتوثا، وخرج بسطام البيهي، وهو مفارق لرأيه، في مثل عدتهم من ربيعة، فسار كل واحد منهما إلى صاحبه، فلما تقاربا أرسل سعيد بن بهدل الخيبري، وهو أحد قواده في مائة وخمسين فارساً، فأتاهم وهم غارون، فقتلوا فيهم وقتلوا بسطاماً وجميع من معه إلا أربعة عشر رجلاً، ثم مضى سعيد بن بهدل إلى العراق لما بلغه أن الاختلاف بها، فمات سعيد بن بهدل في الطريق واستخلف الضحاك بن قيس، فبايعه الشراة، فأتى أرض الموصل ثم شهرزو، واجتمعت إليه الصفرية حتى صار في أربعة آلاف.

وهلك يزيد بن الوليد وعامله على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ومروان بالحيرة، فكتب مروان إلى النضر بن سعد الحرشي وهو أحد قواد ابن عمر بولاية العراق، فلم يسلم ابن عمر إليه العمل، فشخص النضر إلى الكوفة وبقي ابن عمر بالحيرة، فتحاربا أربعة أشهر، وأمد مروان النضر بابن الغزيل، واجتمعت المضرية مع النضر عصيبة لمروزان حيث طلب بدم الوليد، وكانت أم الوليد قيسية من مضر، وكان أهل اليمن مع ابن عمر عصيبة له حيث كانوا مع يزيد في قتل الوليد حين أسلم خالداً القسري إلى يوسف فقتله.فلما سمع الضحاك باختلافهم أقبل نحوهم وقصد العراق سنة سبع وعشرين، فأرسل ابن عمر إلى النضر: إن هذا لا يريد غيري وغيرك فهلم نجتمع عليه. فتعاقدا عليه واجتماعا بالكوفة وكان كل منهما يصلي بأصحابه. وأقبل الضحاك فنزل بالنخيلة في رجب واستراح، ثم اتعدوا للقتال يوم الخميس من غد يوم نزلوه فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكشفوا ابن عمر وقتلوا أخاه عاصماً وجعفر ابن العابس الكندي أخا عبيد الله، ودخل ابن عمر خندقه وبقي الخوارج عليهم إلى الليل ثم انصرفوا ثم اقتتلوا يوم الجمعة، فانهزم أصحاب ابن عمر فدخلوا خنادقهم، فلما أصبحوا يوم السبت تسلل أصحابه نحو واسط ورأوا قوماً لم يروا أشد بأساً منهم.
وكان ممن لحق بواسط النضر بن سعيد الحرشي، وإسماعيل بن عبد الله القسري أخو خالد، ومنصور بن جمهور، والأصبغ بن ذؤالة، وغيرهم من الوجوه، وبقي ابن عمر فيمن عنده من أصحابه لم يبرح، فقال له أصحابه: قد هرب الناس فعلام تقيم؟ فبقي يومين لا يرى إلا هارباً، فرحل عند ذلك إلى واسط واستولى الضحاك على الكوفة ودخلها، ولم يأمنه عبيد الله بن العباس الكندي على نفسه فصار مع الضحاك وبايعه وصار في عسكره؛ فقال أبو عطاء السندي له يعيره باتباعه الضحاك وقد قتل أخاه:
فقل لعبيد الله لو كان جعفر ... هو الحي لم يجنح وأنت قتيل
ولم يتبع المراق والثار فيهم ... وفي كفه عضب الذباب صقيل
إلى معشر ردوا أخالك وأكفروا ... أباك فماذا بعد ذاك تقول
فلما بلغ عبيد الله هذا البيت من قول أبي عطاء قال: أقوةل عض بيظر أمك:
فلا وصلتك الرحم من ذي قرابة ... وطالب وتر والذليل ذليل
تركت أخا شيبان يسلب بزه ... ونجاك خوار العنان مطول
ووصل ابن عمر إلى واسط فنزل بدار الحجاج بن يوسف. وعادت الحرب بين عبد الله والنضر إلى ما كانت عليه قبل الضحاك إلى النضر يطلب أن يسلم إليه ابن عمر ولاية العراق بعهد مروان له، وابن عمر يمتنع، وسار الضحاك من الكوفة إلى واسط واستخلف ملجان الشيباني، ونزل الضحاك باب المضمار.
فلما رأى ذلك ابن عمر والنضر تركا الحر بينهما واتفقا على قتل الضحاك، فلم يزالوا على ذلك شعبان وشهر رمضان وشوال والقتال بينهم متواصل.
ثم إن منصور بن جمهور قال لابن عمر: ما رأيت مثل هؤلاء! فلم تحاربهم وتشغلهم عن مروان؟ أعطهم الرضا واجعلهم بينك وبين مروان فإنهم يرجعون عنا إليه ويوسعونه شراً،فإن ظفروا به كان ما أردت وكنت عندهم آمناً، وإن ظفر بهم وأردت خلافه وقتاله قاتلته وأنت مستريح. فقال ابن عمر: لا عجل حتى ننظر. فلحق بهم منصور، وناداهم: إني أريد أن أسلم وأسمع كلام الله وهي حجتهم؛ فدخل إليهم وبايعهم.
ثم إن عبد الله بن عمر بن العزيز خرج إليهم في شوال فصالحهم وبايع الضحاك ومعه سليمان بن هشام بن عبد الملك.
ذكر خلع أبي الخطار أمير الأندلس وإمارة ثوابةوفي هذه السنة خلع أهل الأندلس أبا الخطار الحسام بن ضرار أميرهم.
وسبب ذلك أنه لما قددم الأندلس أميراً أظهر العصبية لليمانية على المضربة، فاتفق ف بعض الأيام أنه اختصم رجل من كنانة ورجل من غسان، فاستعان الكناني بالصميل بن حاتم بن ذي الجوشن الضبابي، فكلم فيه أبا الخطار، فاسغلظ له أبو الخطار، فأجابه الصميل، فامر به فأقيم وضرب قفاه، فمالت عمامته، فملا خرج قيل له: نرى عمامتك مالت! فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها.

وكان الصميل من أشراف مضر، فلما دخل الأندلس مع بلج شرف فيها بنفسه وأوليته. فلما جرى له ما ذكرناه جمع قومه وأعلمهم، فقالوا له: نحن تبع لك. أريد أن أخرج أبا الخطار من الأندلس. فقال له بعض أصحابه: افعل واستعن بمن شئت ولا تسعن بأبي عطاء القيسي، وكان من أشراف قيس، وكان ينظر الصميل في الرياسة وبجسده. وقال له غيره: الرأي أنك تأتي أبا عطاء وتشد أمرك به فإنه تحركه الحمية وينصرك، وإن تركته مال إلى أبي الخطار وأعانه عليك ليبلغ فيك ما يريد، والرأي أيضاً أن تستعين عليه بأهل اليمن فضلاً عن معد.
ففعل ذلك وسار من ليلته إلى أبي عطاء، وكان يسكن مدينة إستجة، فعظمه أبو عطاء وسأله عن سبب قدومه، فاعلمه يكلمه حتى قام فركب فرسه ولبس سلاحه وقال له: انهض الآن حيث شئت فأنا معك، وأمر أهله وأصحابه باتباعه، فساروا إلى مرو، وبها ثوابة بن سلامة الحداني، وكان مطاعاً في قومه، وكان أبو الخطار قد اسعمله على إشبيليةوغيرها، ثم عزله ففسد عليه، فدعاه الصميل إلى نصره ووعده أنه إذا أخرجوا أبا الخطار صار أميراً، فاجاب إلى نصره ودعا قومه فإجابوه فساروا إلى شدونة.
وسار إيهم أبو الخطار من قرطبة واستخلف بها إنساناً، فالتقوا واقتتلوا في رجب من هذه السنة، وصبر الفريقان ثم وقعت الهزيمة على أبي الخطار وقتل أصحابه أشد قتل واسر أبو الخطار وكان بقرطبة أمية بنعبد الملك ابن قطن، فاخرج منها خليفة أبي الخطار وانتهت ما وجد لهما فيها.
ولما انهزم أبو الخطار سار ثوابة بن سلامة والصميل إلى قرطبة فملكاها، واستقر ثوابة في الإمارة فثار به عبد الرحمن بن حسان الكلبي وأخرج أبا الخطار من السجن، فاستجاش اليمانية، فاجتمع له خلق كثير، وأقبل بهم إلى قرطبة، وخرج إليه ثوابة فيمن معه من اليمانية والمضربة مع الصميل. فلما تقاتل الطائفتان نادى رجل من مضر: يا معشر اليمانية! ما بالك تتعرضون للحرب على أبي الخطار وقد جعلنا الأمير منكم؟ يعني ثوابة، فإنه من اليمن، وول أن الأمير منا لقد كنتم تعتذرون في قتالهم لنا، وما تقول هذا إلا تحرجاً من الدماء ورغبة في العافية للعامة. فملا سمع الناس كلامه قالا: صد والله، الأمير منا فلما بالنا نقالتل قومنا؟ فتركوا القتال وافترق الناس، فهرب أبو الخطار فلحق باجة، ورجع ثوابة إلى قرطبة، فسمي ذلك العسكر عسكر العافية
ذكر شيعة بني العباسفي هذه السنة توجه سليمان بن كثير ولا هز بن قريظ وقجطبة إلى مكة فلقوا إبارهيم بن محمد الإمام بها وأوصلوا إلى مولى له عشريمن ألف دينار ومائتي أف درهم وسمكاً ومتاعاً كثيراً، وكان معهم أبو سملم، فقال سليمان لإبراهيم: هذا مولاك.
وفيها كتب بكير بن ماهان إلى إبراهيم الإمام أنه في الموت وأنه قد استخلف أبا سلمة حفص بن سليمان، وهو رضى للأمر، فكتب إبراهيم لأبي سلمة يأمره بالقايم بأمر أصحابه وكتب إلى أهل خراسان يخبرهم أنه قد أسند أمرهم إليه، ومضى أبو سلمة إلى خراسان، فصدقوه وقبلةوا أمره ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة وخمس أموالهم.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو عامل مروان علاى مكةوالمدينة والطائف، وكان العامل على العراق النضر بن الحرشي، وكان من أمره وأمر ابن عمر والضحاك الخارجي ما ذكرناه. وكان بخراسان نصر بن سيار، وبها من ينازعه فيها المركاني والحارث بن سريج.
وفيها مات سويد بن غفلة، وقيل سنة إحدى وثلاثين، وقيل سنة اثنتين وثلاثين، وعمره مائة وعشرون سنة، وعبد الكريم بن مالك الجزري، وقيل غير ذلك، وفيها مات أبو حصين عثمان بن حصين الأسدي الكوفي؛ حصين بفتح الححاء، وكسر الصاد.
وفيها مات أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني، وقيل سنتة ثمان وعشرين، وعمره مائة سنمة؛ السبيعي بفتح السين، وكسر الباء.
وفيها توفي عبد الله بن دينار، وقيل سنة ست وثلاثين. وفيها مات محمد ابن واسع الأزدي البصري، وكنيته أبو بكر. وداود بن أبي هند، واسم أبي هند يدينار مولى بني قشير أبو محمد. وفيها توفي أبو بحر عبد الله بن إسحاق مولى الخضر، وكان إماماً في النحو واللغة، تعلم ذلك من يحيى بن النعمان، وكان يعيب الفرزدق في شعره وينسبه إلى للحن، فهجاه الفرزدق يقول:

فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى موالياً
فقال له أبو عبد الله : لقد لحنت أيضاً في قولك موالياً، ينبغي أن تقول: مولى موالٍ
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة

ذكر قتل الحارث سريج
وغلبه الكرماني على مرو
قد تقدم ذكر أمان يزيد بن الوليد للحارث بن سريج وعوده من بلاد المشركين إلى بلاد الإسلام وا كان وبين نصر من الاختلاف.
فلما ولي ابن هبيرة العراق كتب إلى نصر بعهده على خراسان فبايع لمروان بن محمد، فقال الحارث: إنما آمنتني يزيد ولم يؤمني مروان، ولا يجيز مروان أمان يزيد، فلا أمنه. فخاف نصراً.فأرسل إليه نصر يدعوه إلى الجماعة وينهاه عن الفرقة وإكماع العدو، فلم يجبه إلى ما أراد وخرج فعسكر، وأرسل إلى نصر: اجعل الأمر شورى، فأبى نصر، وأمر الحارث جهم بن صفوان، رأس الجهمية، وهو مولى راسب، أن يقرأ سيرته وما يدعوه إليه على الناس. فلما سمعوا ذلك كثروا وكثر جماع، وأرسل الحارث إلى نصر ليعزل سالم بن أحوز عن شرطته وبغير عماله ويقر الأمر بينهما أن يختاروا رجالاً يسمون لهم قوماً يعملون بكتاب الله، فاختار نصر مقاتل بن سليمان ومقاتل ابن حيان، واختار الحارث المغيرة بن شعبة الجهضمي ومعاذ بن جبلة، وأمر نصر كابه أن يكتب ما يرضي هؤلاء الأربعة من السنن وما يختارونه من العمال فيوليهم ثغر سمر قند وطخارستان، وكان الحارث يظهر أنه صاحب الرايات الود. فأرسل إليه نصر: إن كنت تزعم أنكم تهدمون سور دمشق وتزيلون ملك بني أمية فخذ مني خمسمائة رأس ومائتي بعير واحمل من الأموال ماشئت وآلة الحرب وسر، فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت إني لفي يدك، وغن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك.
فقال الحارث: قد علمت أن هذا حق ولكن لا يبايعني عليه من صحبني. فقال نصر: فقد ظهر أنهم ليسوا على رأيك، فاذكر الله في عشرين الفا من ربعة واليمن يهلكون فيما بينكم. وعرض عليه نصر أن يوليه ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف، فلم يقبل، فقال له نصر:فابدأ بالكرماني فإن قتلته فأنا في طاعتك. فلم يقبل.
ثم تراضيا بأن جكما جهم بن صفوان ومقاتل بن حيان، فحكما بأن يعتزل نصر وأن يكون الأمر شورى، فلم يقبل نصر. فخالفه الحارث واتهم نصر قوماً من أصحابه أنهم كاتبوا الحارث فاعتذروا إليه فقبل عذرهم.
وقدم عليه جمع من أهل خراسان حين سمعوا بالفتنة، منهم: عاصم بن عمير الصريمي، وأبو الذيال الناجي، ومسلم بن عبد الرحمن وغيرهم، وأمر الحارث أن تقرأ سيرته في الأسواق والمساجد وعلى باب نصر، فقرئت، فأتاه حلق كثير، وقرأها رجل على باب نصر، فضربه غلمان نصر، فنابذهم الحارث وتجهزوا للحرب، ودل رجل من أهل مرو الحارث على نقب في سورها،فمضى الحارث إليه فنقبه ودخل المدينة من ناحية باب بالين، فقاتلهم جهم ابن مسعود الناجي فقتل جهم وانهبوا منزل سالم بن أحوز وقتلوا من كان يحرس باب بالين، وذلك يوم الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة. وعدل الحارث في سكة السعد فرأى أعين مولى حيان، فقاتله فقتل أعين.
وكب سالم حين أصبح وأمر منادياً فنادى: من جاء برأس فله ثلاثمائة. فلم تطلع الشمس حتى انهزم وقاتلهم الليل كله، وأتى سالم عسك الحارث فقتل كاتبه، واسمه يزيد بن داوود، وقتل الرجل الذي دل الحارث على النقب.
وأرسل نصر إلى الكرماني فأتاه على عهد وعنده جماعة، فوقع بين سالم بن أحوز ومقدام بن نعيم كلام، فأغلظ كل واحد منهما لصاحبه، فأعان كل واحد منهما نفر من الحاضرين، فخاف الكرماني أن يكون مكراً من نصر فقام وتعلقوا به فلم يجلس وركب فرسه ورجع وقال: أراد نصر الغدر بي.

وأسر يومئذ جهم بن صفوان، وكان مع الكرماني، فقتل، وأرسل الحارث ابنه حاتماً إلى الكرماني، فقال له محمد بن المثنى: هما عدواك دعهما يضربان. فلما كان الغد ركب الكرماني إلى باب ميدان يزيد فقاتل أصحاب نصر، وأقبل الكرماني إلى باب حرب بن عامر ووجه أصحابه إلى نصر بوم الأربعاء فترموا ثم تحاجزوا، ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال، والتقوا يوم الجمعة فانهزمت الأزد وصلوا إلى الكرماني، فأخذ الللواء بيده فقاتل به، وانهزم أصحاب نصر وأخذوا لهم ثمانين فرساً، وصرع تميم بن نصر وأخذوا له برذونين، وسقط سالم بن أحوز فحمل إلى عسكر نصر. فلما كان بعض. فلما كان بعض الليل خرج نصر من مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسدي، فكان يحمي أصحاب نصر، واقتتلوا ثلاثة أيام، فانهزم أصحاب الكرماني في آخر يوم، وهم الأزدوربيعة، فنادى الخليل بن غزوان: يا معشر ربيعة واليمن قد دخل الحارث السوق وقتل ابن الأقطع! يعني بن سيار، ففت في أعضاد المضرية، وهم أصحاب نصر، فانهزموا، وترجل تميم بن نصر فقاتل.
فلما هزمت اليمانية مضراً أرسل الحارث إلى نصر: إن اليمانية يعيرونني بانهزامكم وأنا كاف، فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرماني. فأخذ عليه نصر العهود بذلك. وقدم على نصر عبد الحكيم بن سعد العودي وأبو جعفر عيسى ابن جرز من مكة، فقال نصر لعبد الحكيم العودي، وهم بطن من الأزد: أما ترى ما فعل سفهاء قومك؟ فقال: بل سفهاء قومك طالت ولايتها بولايتك وصيرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفي ربيعة واليمن علماء وسفهاء، فغلب السفهاء العلماء. فقال أبو جعفر عيس لنصر: أيها الأمير حسبك من الولاية وهذه الأمور، فإنه قد أظلك أمر عظيم، سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد ويدعو إلى دولة تكون فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون. فقال نصر: ما أشبه أن يكون كما تقول لقلة الوفاء وسء ذات البين! فقال: إن الحارث مقتول مصلوب، وما الكرماني من ذلك ببعيد.
فلما خرج نصر من مروغلب عليها الكرماني وخطب الناس فآمنهم وهدم الدور ونهب الأموال، فأنكر الحارث عليه ذلك، فهم الكرماني به ثم تركه.
واعتزل بشر بن جرموز الضبي في خمسة آلاف وقال للحارث: إنما قاتلت معك طلب العدل، فأما إذا أنت مع الكرماني فما تقاتل إلا ليقال غلب الحارث، وهؤلاء يقاتلون عصبيةً، فلست مقاتلاً معك، فنحن الفئة العادلة لا نقاتل إلا من يقاتلنا.
وأتى الحارث أتى السور فثلم فيه ثلمةً ودخل البلد، وأتى الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر سورى، فأبى الكرماني، فانتقل الحارث عنه وأقاموا أياماً.
ثم إن الحارث أتى السور فثلم فيه ثلمةً ودخل البلد، وأتى الكرماني فاقتتلوا فاشتد القتال بينهم، فانهزم الحارث وقتلوا مابين اثلمة وعسكرهم والحارث على بغل، فانزل عنه وركب فرساً وبقي في مائة، فقتل عند شجرة زيتون أو غبيراء، وقتل أخوه سوادة وغيرهما.
وقيل: كان سبب قتله أن الكرماني خرج إلى بشر بن جرموز، الذي ذكرنا اعتزاله، ومعه الحارث بن سريج، فأقام الكرماني أياماً بينه وبين عسكر بشر فرسخان، ثم قرب منه ليقاتله، فندم الحارث على اتباع الكرماني وقال: لا تعجل إلى قتالهم فأنا أردهم عليك. فخرج في عشرةفوارس، فاتى عسكر بشر فأقام معهم، وخرج المضرية أصحاب الحارثمن عسكر الكرماني إليه، فلم يبق مع الكرماني مضري غير سلمة بن أبي عبد الله: فإنه قال: لم أر الحارث من عسكر الكرماني إليه، فلم يبق مع الكرماني مضري غي سلمة بن أبي عبد الله: فإنه قال: لم أر الحارث إلا غادراً. وغير المهلب بن إياس فإنه قال: لم أر الحارث قط إلا في خيل تطرد، فقاتلهم الكرماني مراراً يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم مرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء.
ثم إن الحارث ارتحل بعد أيام فنقب سور مرو ودخلها وتبعه الكرماني فدخلها أيضاً، فقالت المضرية للحارث: تركنا الخنادق فهو يومنا وقد فررت غير مرة فترجل. فقال: أنا لكم فارساً خير مني لكم راجلاً. فقالوا: لا نرضى إلا أن تترجل، وترجل فاقتتلوا هم والكرماني، فقتل الحارث وأخوه وبشر بن جرموز وعدة من فرسان تميم وانهزم الباقون وصفت مرو لليمن،هدموا دور المضرية فقال نصر بن سيار للحارث حين قتل، شعر.
يا مدخل الذل على قومه ... بعداً وسحقاً لك من هالك
شؤمك أردى مضراً كلها ... وحز من قومك بالحارك

ما كانت الأزد وأشياعها ... تطمع في عمرو ولا مالك
ولا بني سعدٍ إذا ألجموا ... كل طمر لونه حالك
عمرو ومالك وسعد بطون من تميم. وقيلك بل قال هذه الأبيات نصر لعثمان بن صدقة وقالت أم كثير الضبية، شعر:
لابارك الله في أنثى وعذبها ... تزوجت مضرياً آخر الدهر
أبلغ رجال تميمٍ قول موجعةٍ ... أحللتموها بدار الذل والفقر
إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم ... حتى تعبدوا رجال الأزد في الظهر
إني استحيت لكم من بعد طاعتكم ... هذا المزوني يجبيكم على قهر
ذكر شيعة بني العباسوفي هذه السنة وجه إبراهيم الإمام أبا مسلم الخراساني، واسمه عبد الرحمن بن مسلم، إلى خراسان، وعمره تسع عشرة سنة، وكتب إلى أصحابه: غني قد أمرته بأمري فاسمعوا له وأطيعوا، فإني قد أمرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك. فأتاهم، فلم يقبلوا قوله وخرجوا من قابل فالتقوا بمكة عند إبراهيم، فأعلمه أبو سملم أنهم لم ينفذوا كتابه وأمره. فقال إبراهيم قد عرضت هذا الأمر على غير واحد وأبوه علي.
وكان قد عرضه على سليمان بن كثير، فقال: لا ألي على اثنين أبداً. ثم عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه قد أجمع رأيه على أبي مسلم، وأمرهم بالسمع والطاعة له، ثم قال له: إنك رجل منا أهل البيت، احفظ وصيتي، انظر هذا الحي من اليمن فالزمهم واسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، فاتهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار، واقتل من شككت فيه، وإن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بلعربية فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، ولا تخالف هذا الشيخ، يعني سليمان بن كثير، ولا تعصه، وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به مني.
وسيرد من خبر أبي مسلم غير هذا إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل الضحاك الخارجيقد ذكرنا محاصرة الضحاك بن قيس الخارجي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط، فلما طال عليه الحصار أشير عليه بأن يدفعه عن نفسه إلى مروان، فارسل ابن عمر إليه: إن مقامكم على ليس يسيء، هذا مروان فسيروا إليه فإن قتلته فأنا معك. فصالحه وخرج إليه وصلى خلفه، فانصرف إلى الكوفة، وأقام ابن عمر بواسط، وكاتب أهل الموصل الضحاك ليقدم عليهم لمكنوه منها، فسار في جماعة من جنوده بعد عشرين شهراً حتى انتهى إليها، وعليها يومئذ لمروان رجل من بني شيبان يقال له القطران بن أكمة، ففتح أهل الموصل البلد، فدخله الضجحاك وقاتلهم القطران ومن معه من أهله وهم عدة يسيرة حتى قتلوا، واستولى الضحاك على الموصل وكورها.
وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص مشتغل بقتال أهلها، فكتب إلى ابنه عبد الله، وهو خليفته بالجزيرة، يأمره أن يسير إلى نصيبين في من معه يمنع الضحاك عن توسط الجزيرة، فسار إليها في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، وسار الضحاك إلى نصيبين فحصر عبد الله فيها، وكان مع الضحاك ما زيدي على مائة ألف، ووجه قائدين من قواده إلى الرقة في أربعة آلاف أو خمسة آلاف، فقاتله من بها، فوجه إلهيم مروان من رحلهم عنها ثم إن مروان سار إلى الضحاك فالتقوا بنواحي كفرتوثا من أعمال مارين فقاتله يومه أجمع فملا كان عند لمساء ترجل الضحاك ومعه من ذوي الثبات وأرباب البصائر نحو من ستة آلاف، ولم يعلم أكثر أهل عسكره بما كان، فأحدقت بهم خيول مروان وألحوا عليهم في القتال حتى قتلوهم عند العتمة، وانصرف من بقي من أصحاب الضحاك عند العتمة إلى عسكرهم ولم يعلموا بقتل الضحاك ولم يعلم به مروان أيضاً. وجاء بعض من عاينه إلى أصحابه فأخبرهم، فبكوا وناحوا عليه، وخرج قائد من قواده إلى مروان فأخبره، فأرسل معه النيران والشمع فطافوا عليه فوجدوه قتيلا وفي وجهه وفي رأسه أكثر من عشرين ضربة، فكبروا، فعرف عسكر الضحاك أنهم قد علموا بقتله، وبعث مروان رأسه إلى مدائن الجزيرة فطيف به فيها.
وقيل: إن الضحاك والخيبري إنما قتلا سنة تسع وعشرين.
ذكر قتل الخيبري وولاية شيبانولما قتل الضحاك أصبح أهل عسكره فبايعوا الخيبري واقاموا يومئذ وغادوه القتال من بعد الغد وصافوه وصافهم، وكان سليمان بن شهشام بن عبد الملك مع الخيبري، وكان قبله مع الضحاك. وقد ذكرنا سبب قدومه.

وقيل: بل قدم على الضحاك وهو بنصيبين في أكثر من ثلاثة آلاف من أهل بيته ومواليه، فتزوج أخت شيبان الحروري الذي بويع بعد قتل الخيبري، فحمل الخيبري على مروان في نحو من أربعمائة فارس من الشراة، فهزم مروان، وهو في القلب، وخرج مروان من العسكر منهزماً، ودخل الخيبري ومن معه عسكره ينادون بشعارهم ويقتلون من أدركوا حتى انتهوا إلى خيمة مروان نفسه فقطعوا أطنابها، وجلس الخيبري على فرشه. وميمنة مروان وعليها ابنه عبد الله ثابتة، وميسرته ثابتة، وعليها إسحاق بن مسلم العقيلي، فملا رأى أهل العسكر قلة من مع الخيبري ثار إليه عبيدهم بهمد الخيم فتلوا الخيبري وأصحابه جميعاً في خيمة مروان وحولها.
وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بخمسة أميال أو ستة منهزماً، فانصرف إلى عسكره ورد خيوله عن مواقعها وبات ليلته في عسكره، وانصرف أهل عسكر الخيبري فولوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان بعد ذلم بالكراديس وأبطل الصف منذ يومئذ
ذكر خبر أبي حمزة الخارجي مع طالب الحقكان اسم أبي حمزة الخارجي المختار بن عوف الأزدي السلمي البصري، وكان أول مرة أنه كان من الخوارج الإباضية، يوافي كل سنة مكة يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد، فلم يزل كذلك حتى وافى عبد الله بن يحيى المعروف بطالب الحق في آخر سنة ثمان وعشرين، فقال له: يا رجل أسمع كلاماً حسناً وأراك تدعوا إلى حق، فانطلق معي فإني رجل مطاع في قومه.
فخرج حتى ورد حضرموت، فبايعه أو حمزة على الخلافة ودعا إلى خلاف مروان وآل مروان. وكان أبو حمزة اجتاز مرة بمعدن بني سليم، والعامل عليه كثير بن عبد الله ، فسمع كلام أبي حمزة فجلده أربعين سوطاً، فلما ملك أبو حمزة المدينة وافتتحها تغيب كثير حتى كان من أمرهما ما كان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سير مروان يزيد بن هبيرة إلى العراق لقتال من به من الخوارج في قول.
وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو عامل مكة والمدينة.
وكان بالعراق عمال الضحاك الخارجي وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وعلى قضاء البصرة ثمامة بن عبد الله بن أنس، وبخراسان نصر بن سيار والفتنة بها قائمة.
وفيه مات عاصم بن أبي النجود صاحب القراءات. ويعقوب بت عتبة بن المغيرة بن الأخنس الثقفي المدني. وفيها توفي جابر بن يزيد الجعفي، وكان من غلاة الشيعة يقول بالرجعة..وفيها مات محمد بن مسلم بن تدروس أبو الزبير المكي. وجامع بن شداد. وأبو قبيل المعافري واسمه حيي بن هانئ المضرب؛ قبيل بفتح القاف، وكسر الباء الموحدة.
وسعيد بن مسروق الثوري والد سفيان، وكان ثقة في الحديث.
ثمم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة

ذكر شيبان الحروري إلى أن قتل
وهو شيبان بن عبد العزيز أبو الدلف اليشكري.
وكان سبب هلاكه أن الخوارج لما بايعوه يعد قتل الخيبري أقام يقاتل مروان، وتفرق عن شيبان كثير من أصحاب الطمع، فبقي في نحو أربعين ألفاً، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن ينصرفوا إلى الموصل فيجعلوها ظهرهم، فارتحلوا وتبعهم مروان حتى انتهوا إلى الموصل، فعسكروا شرقي دجلة وعقدوا جسوراً عليها من عسكرهم إلى المدينة، فكانت ميرتهم ومرافقهم منها، وخندق مروان بإزائهم، وكان الخوارج قد نزلوا بالكار ومروان بخصة، وكان أهل الموصل يقاتلون مع الخوارج، فأقام مروان ستة أشهر يقاتلهلم، وقيل تسعة أشهر.
وأتي مروان بابن أخ لسليمان بن هشام يقال له أمية بن معاوية بن هشام، وكان مع عمه سليمان في عسكر شيبان أسيراً، فقطع يديه وضرب عنقه، وعمه ينظر إليه.
وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا بجميع من معه إلى العراق، وعلى الكوفة المثنى بن عمران العائذي، عائذة قريش، وهو خليفة للخوارج بالعراق، فلقي ابن هبيرة بعين التمر فاقتتلوا قتالاً شديداً وانصرفت الخوارج ثم اجتمعوا بالكوفة بالنخيلة، فهزمهم ابن هبيرة. ثم اجتمعوا بالبصرة، فأرسل سيبان إليهم عبيدة بن سوار في خيل عظيمة، فالتقوا بالبصرة، فانهزمت الخوارج وقتل عبيدة، واستباح ابن هبيرة عسكرهم فلم يكن لهم همة بالعراق، واستولى ابن هبيرة على العراق.

وكان منصور بن جمهور مع الخوارج فانهزم وغلب علا الماهين وعلى الجبل أجمع، وسار ابن هبيرة إلى واسط فأخذ ابن عمر فحبسه، ووجه نباتة بن حنظلة إلى سليمان بن حبيب، وهو على كور الأهواز، فسمع سليمان الخبر فأرسل إلى نباتة داو بن حاتم، فالتقوا بالمرتان على شاطئ دجيل، فانهزم الناس وقتل داود بن حاتم.
وكتب مروان إلى ابن هبيرة لما استولى على العراق يأمره بإرسال عامر بن ضبارة المي إليه فسيره في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، فبلغ شيبان خبره فأرسل الجون بن كلاب الخارجي في جمع، فلقوا عامراً بالسن فهزموه ومن معه، فجدخل السن وتحصن فيه، وجعل مروان يمده بالجنود على طريق البر حتى ينتهوا إلى السن، فكثر جمع عامر.
وكان منصور بن جمهور يمد شيبان من الجبل بالأموال، فلما كثر من مع عامر نهض إلى الجون والخوارج فقاتلهم فهزمهم، وقتل الجون، وسار ابن ضبارة مصعداً إلى الموصل.
فلما انتهى خبر قتل الجون إلى سيبان ومسير عامر نحوه كره أن يقيم بين العسكرين فارتحل بمن معه من الخوارج، وقدم عامر على مروان بالموصل، فسيره في جمع كثير في أثر شيبان، فإن أقام أقام، وإن سار سار، وأن لا يبداه قتال، فإن قاتله شيبان قاتله، وإن أمسك أمسك عنه، وإن ارتحل ابتعه. فكان على ذلك حتى مر على الجبل وخرج على بيضاء فارس وبها عبد الله بن معاوية بن حبيب بن حعفر في جموعكثيرة، فلم يتهيأ الأمر بينهما، فسار حتى نزل ججيرفت من كرمان، وأقبل عامر بن ضبارة حتى نزل بإزاء ابن معاوية أياماً، ثم ناهضه وقاتله، فانهزم ابن معاوية فلحق بهراة، وسار ابن ضبارة بمن معه فلقي شيبان بجيرفت فاقتلوا قتالاً شديداً فانهزمت الخوارج واستبيح عسكرهم، ومضى شيبان إلى سجستان فهلك بها، وذلك في سنة ثلاثين ومائة.
وقيل: بل كان قتال مروان وسيبان على الموصل مقدار شهر ثم انهزم شيبان حتى لحق بفارس وعامر بن ضبارة يتبعه، وسار شيبان إلى جزيرة ابن كاوان، ثم خرج منها إلى عمان، فقتله جلندى بن مسعود بن جيفر بن جلندي الأزدي سنة أربع وثلاثين ومائة؛ ونذكره هناك إن شاء الله تعالى. وركب سليمان ومن معه من أهله ومواليه السفن إلى السند.
ولما ولي السفاح الخلافة حضر عنده سليمان، فأكرمه وأعطاه يده فقلبها فلما رأى ذلك سديف مولى السفاح أقبل عليه وقال:
لا يغرنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داءً دوياً
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فو ظهرها أموياً
فأقبل عليه سليمان، وقال: قتلتني أيها الشيخ! وقام السفاح فدخل، فأخذ سليمان فقتل.
وانصرف مروان بعد مسير شيبان عن الموصل إلى منزله بحران فأقام بها حتى سار إلى الزاب.
ذكر إظهار الدعوة العباسية بخراسانوفي هذه السنة شخص أبو سملم الخراساني من خراسان إلى إبراهيم الإمام، وكان يختلف منه إلى خراسان ويعود إليه.
فلما كانت هذه السنة كتب إبراهيم إلى أبي مسلم يستدعيه ليسأله عن أخبار الناس، فسار نحوه في النصف من مادى الآخرة مع سبعين نفساً من النقباء، فلما صاروا بالدنانقان من أرض خاسان عرض له كامل، فسأله عن مقصده، فقال: الحج، ثم خلا به أبو مسلم فدعاه فأجابه؛ ثم سار أبو مسلم إلى نسا، وعاملهم سليمان بن قيس السلمي لنصر بن سيار، فلما قرب منها ارسل الفضل بن سليمان الطوسي إلى أسيد بن عبد الله الخزاعي ليعلمه قدومه، فدخل قرية من قرى نسا فلقي رجلاً من الشيعة فسأله عن أسيد، فانتهره وقال له: إنه كان في هذه القرية شاً، سعى إلى العامل برجلين قيل إنهما داعيان؛ فأخذهما وأخذ الأحجم بن عبد الله وغيلان بن فضالة وغالب بن سعيد وهاجر ابن عثمان، فانصرف الفضل إلى أبي مسلم وأخبره، فتنكب الطريق، وأرسل طرخان الحمال يستدعي أسيداً ومن قدر عليه من الشيعة، فدعا له أسيداً، فأتاه، فسأله عن الأخبار، فقال: قدم الأزهر بن شعيب وعبد الملك بن سعد بكتب الإمام إليك فخلفا الكتب عندي وخرجا فأخذوا فلا أدري من سعى بهما. قال: فأين الكتب؟ فأتاه بها.
ثم سار حتى أتى قومس وعليها بن بديل العجلي، فأتاهم بيهس فقال: أينتريدون؟ قالوا: الحج، وأتاه هو بقومس كتاب إبراهيم الإمام إليه وإلى سليمان بن كثير يقول لأبي مسلم فيه: إني قد بعثت إليك براية النصر، فارجع من حيث لقيك كتابي ووجه إلي قحطبة بما معك يوافني به في الموسم.

فامصرف أبو مسلم إلى خراسان ووجه قحطبة إلى الإمام بما معه من الأموال والعروض، فلما كانوا بنيسابور عرض لهم صاحب المسلحة فسألهم عن حالهم، فقالوا: اردنا الحج فبلغنا عن الطريق شيء خفناه. فأمر المفضل بن السرقي السلمي بإزعاجهم، فخلا به أبو مسلم وعرض عليه أمرهم فأجابه، وأقام عندهم حتى ارتحلوا على مهل.
فقدم أبو مسلم مرو فدفه كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير يأمره فيه بإظهار الدعوة، فنصبوا أبا مسلم وقالوا: رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني العباس، وأرسلوا إلى من قرب منهم أو بعد ممن أجابهم، فأمروه بإظهار أمرهم والدعاء إليهم.
فنزل أبو مسلم قرية من قرى مرو يقال لها فنين على أبي الحكم عيسى ابن أعين النقيب، ووجه منها أبا داود النقيب ومعه عمرو بن أعين إلى طخارستنا فما دون بلخ فأمرهما بإظهار الدعوة في شهر رمضان، وكان نزلوه في هذهالقرية في شعبان ووجه نصر بن صبيح التميمي وشريك إلى الطالقان. ووجه الجهم بن عطية إلى العلاء بن حريث بخوارزم بإظهار الدعوة في رمضان لخمس بقين منه، فإن أعجلهم عدوهم دون الوقت بالأذى والمكروه فقد حل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم ويجردوا السيوف ويجاهدوا أعداء الله، ومن شغله منهم عدوهم عن الوقت فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت.
ثم تحول أبو مسلم من عند أبي الحكم فنزل قرية سفيذنج، فنزل على سليمان بن كثير الخزاعي لليلتين خلتا من رمضان، والكرماني وسيبان يقاتلان نصر بن سيار، فبص ملمسم دعاته في الناس وأظهر أمره، فأتاه في ليلة واحدة أهل ستين قرية، فما كان ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان من السنة عقد اللواء الذي بعث به الإمام الذي يدعى الظل على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً، وعقد الراية التي بعث بها إليه، وهي التي تدعى السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً، وهو يتلو: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " الحج:39، ولبسوا السواد هو وسليمان بن كثير وإخوة سليمان ومواليه ومن كان أجاب الدعوة من أهل سفيذنج، وأوقدوا النيران لليلتهم لسيعتهم من سكان ربع خرقا، وكانت علامتهم، فتجمعوا إليه حين أصبحوا معدين، وتأول الظل والسحاب أن السحاب يطبق الأرض وأن الأرض كما لا تخلو من الظل كذلك لا تخلو من خليفة عباسي إلى آخر الدهر.
وقدم على أبي مسلم الدعاة بمن أجاب الدعوة، فكان أول من قدم عليه أهل التقادم مع أبي الوضاح في تسعمائة راجل وأربعة فرسان، ومن أهل هرمز قره ججماعة، وقدم أهل التقادم مع أبي القاسم محرز بن إبراهيم الجوباني في ألف وثلاثمائة راجل وستة عشر فارساً، فيهم من الدعاة أبو العباس المروزي. فجعل أهل التقادم يكبرون من ناحيتهم ويجيبهم أهل التقادم بالتكبير، فدخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج بعد ظهوره بيومين. وحصن أبو سملم حصن سفيذنج ورمه وسد دروبها.
فلما حضر عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة، ونصب له منبراً بالعسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، وكان بنو أمية يبدأون بالخطبة قبل الصلاة وبالأذان والإقامة، وأمر أبو سملم أيضاً سليمان بن كثير بست تكبيرات تباعاً، ثم يقرأ ويركع بالسابعة ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعاً، ثم يقرأ ويركع بالسادسة ويفتح الخطبة بالتكبير ثم يختمها بالقرآن.
وكان بنو أمية يكبرون في الولى أربع تكبيرات يوم العيد وفي الثانية ثلاث تكبيرات.
فلما قضى سليمان الصلاة انصرف أبو سملم والشيعة إلى طعام قد اعده لهم، فأكلوا مستبشرين.
وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب ألى نصر بن سيار كتاباً يكتب: للأمير نصر، فلما قوي أبو مسلم بمن اجتمع إليه بدأ بنفسه، فكتب إلى نصر: أما بعد فإن الله تباركت أسماؤه عير أقواماً في القرآن فقال: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السيئ، ولا يحيق المرك السييء إلا بأهله، فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً غافر:42 - 43.فتعاظم نصر الكتاب وكسر له إحدى عينيه وقال: هذا كتاب ما له جواب.

وكان من الأحداث وأبو مسلم بسفيذنج أن نصراً وجه مولى له يقال له يزيد لمحاربة أبي مسلم بعد ثمانية عشر شهراً من ظهوره، فوجه إليه أبو مسلم مالك بن لهيثم الخزاعي، فالتقوا بقرية ألين، فدعاهم مالك إلى الرضا من آل رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، فاستكبروا عن ذلك، فقاتلهم مالك، وهو في نحو مائتين من أول النهار إلى العصر؛ وقدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضبي وإبراهيم بن زيد وزياد بن عيسى، فسيرهم إلى مالك، فقوي بهم، وكان قدومهم إليه مع العصر، فقال مولى نصر: إن تركنا هؤلاء الليلة أتتهم أمدادهم، فاحملوا على القوم. فحملوا عليهم، واشتد القتال، فحمل عبد الله الطائي على مولى نصر فأسره وانهزم أصحابه، فأرسل الطائي بأسيره إلى أبي مسلم ومعه رؤوس القتلى، فنصب الرؤوس وأحسن إلى يزيد مولى نصر وعالجه حتى اندمت جراحه، وقال له: إن شئت أن تقيم معنا فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إى مولاك سالماً وأعطنا عهد الله أنك لا تحاربنا ولا تكذب علينا وأن تقول فينا ما رأيت. فرجع إلى مولاه. وقال أبو سملم: إن هذا سيرد عنكم أهل الورع والصلاح فما نحن عندهم على الإسلام، وكذلك كان عندهم يرجفون عليهم بعبادة الأوثان واستحلال الدماء والأموال والفروج.
فملا قدم يزيد على نصر قال: لا مرحباً! فوالله ما ساتبقاك القوم إلا ليتخذوك حجة علينا. فقال: يزيد: هو والله ما ظننت، وقد استحلفوني أن لا أكذب عليهم، وأنا أقول: إنهم والله يصلون الصلاة لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون القرآن، ويذكرون الله كثيراً، ويدعون إلى ولاية رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وما أحسب أمرهم إلا سعلو، ولولا أنك مولاي لما رجعت إليك ولأقمت معهم. فهذه أول حرب كانت بينهم.
وفي هذه السنة غلب خازم بن خزيمة على مرو الروذ وقتل عامل نصر بن سيار.
وكان سبب ذلك أنه لما أراد الخروج بمرو الروذ، وهو من شيعة بني العباس، منعه بنو تميم، فقال: إنما أنا رجل منكم أريد أن أغلب على مرو، فإن ظفرت فهي لكم، وإن قتلت فقد كفيتم أمري. فكفوا عنه، فعسكر بقرية يقال لها كنج رستاق، وقدم عليه من عند أبي مسلم النضر بن صيح، فلما أمسى خازم بيت أهل مرو فقتل بشر بن جعفر السعدي عامل نصر بن سيار عليها في أول ذي القعدة وبعث بالفتح إلى أبي مسلم مع ابنه خزيمة بن خازم.
وقد قيل في أمر أبي مسلم غير ما ذكرنا، والذي قيل: إن إبراهيم الإمام زوج أبا مسلم لما توجه إلى خراسان ابنة أبي النجم وساق عنه صداقها، وكتب إلى البقاء بالسمع والطاعة، وكان أبو مسلم من أهل خطرنية من سواد الكوفة، وكان قخهرماناً لإدريس بن معقل العجلي، فصار أمره ومنتهى ولائه لمحمد ابن علي، قم لابنه إبراهيم بن محمد، ثم للأئمة من ولد محمد، فقدم خراسان وهو حديث السن، فلم يقبله سليمان بن كثير وخاف أن لا يقوى على أمرهم فرد.
وكان أبو دواد خالد بن إبراهيم غائباً خلف نهر بلخ، فلما رجع إلى مرو أقرأوه كتاب الإمام إبراهيم، فسأل عن أبي مسلم، فأخبره أن سليمان بن كثير رده،فجمع النقباء وقال لهم: أتاكم كتاب الإمام فيمن بعثه إليكم فرددتموه، فما حجتكم؟ فقال سليمان: حداثة سنة وتخوفاً أن لا يقدر على هذا الأمر فخفنا على من دعونا وعلى أنفسنا. فقال: أو داود: هل فيكم أحد ينكر أن الله تعالى أبعث، صلى الله عليه وسلم، واصفاه وبعثه إلى جميع خلقه؟ وقالوا: لا. قال أفتشكون أن الله أنزل عليه كتابه فيه حلاله وحرامه وشرائعه وأنباؤه وأخبر بما كان قبله وبما يكون بعده؟ قالوا:لا. قال: أفتشكون أن الله قبضه إليه بعد أن أدى ما عليه من رسالة ربه؟ قالوا.لا. قال: أفتظنون أن العلم الذي أنزل إليه رفع معه أو خلفه؟ قالوا: بل خلفه؟ قالوا: بل خلفه. قال: أفتظنون خلفه عند غير عترته وأهل بيته الأقرب فالأقرب؟ قالوا: لا. قال: أفتشكون أن أهل هذا البيت معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي علمه الله؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأراكم قد شككتم في أمركم ورددتم عليهم علمهم، ولو لم يعلموا أن هذا الرجل الذي ينبغي له أن يقوم بأمرهم لم يبعثوه إليكم. وهو لا يتهم في نصرتهم وموالاتهم والقيام بحقهم.
فبعثوا إلى أبي مسلم فردوه من قومس بقول أبي دواد وولوه أمرهم وأطاعوه، فلم تزل في نفس أبي مسلم على سليمان بن كثير، ولم يزل يعرفها لأبي داود.

وبث الدعاة في أقطار خراسان، فدخل الناس أفواجاً وكثروا، وفشت الدعاة بخراسان كلها، وكتب إليه إبراهيم الإمام أن يوافيه في موسم سنة تسع وعشرين ليأمره بأمره في إظهار دعوته وأن يقدم معه قحطبة بن شبيب ويجمل إليه ما اجتمع عنده من الأموال. ففعل ذلك وسار في جماعة من النقباء والشيعة، فلقيه كتاب الإمام يأمره بالرجوع إلى خراسان وإظهار الدعوة بها؛ وذكر قريباً مما تقدم من تسيير المال مع قحطبة وأن قحطبة سار فنزل بنواحي جرجان، فاستدعى خالد بن برمك وأبا عون فقدما عليه ومعهما ما اجتمع عندهما من مال الشيعة، فأخذ منهما وسار نحو إبراهيم الإمام.
ذكر مقتل الكرمانيقد ذكرنا مقتل الحارث بن سريج وأن الكرماني قتله؛ ولما قتله خلصت له مرو وتنحى نصر عنها، فأرسل نصر إليه سالم بن أحوز في رابطته وفرسانه، فوجد يحيى بن نعيم الشيباني واقفاً في ألف رجل من ربيعة، ومحمد بن المثنى في سبعمائة من فرسان الأزد، وابن الحسن بن الشيخ في ألف من فتيانهم، والجرمي السعدي في ألف من أبناء اليمن. فقال سالم لمحمد بن المثنى: يا محمد قل لهذا الملاح ليخرج إلينا؛ يعني الكرماني. فقال محمد: يا ابن الفاعلة لأبي علي تقول هذا! واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم سالم بن أحوز وقتل من أصحابه زيادة على مائة، ومن أصحاب الكرماني زيادة على عشرين.
فلما قدم أصحاب نصر عليه منهزمين قال له عصمة بن عبد الله الأسدي: يا نصر شأمت العرب! فأما إذ فعلت فشمر عن ساق. فوجه عصمة في جمع، فوقف موقف سالم فنادى يا محمد بن المثنى! لتعلمن أن السمك لا يأكل اللخم واللخم دابة من دواب الماء تشبه السبع يأكل السمك فقال له محمد: يا بن الفاعلة قف لنا إذاً! وأمر محمد السعدي، فخرج إليه في أهل اليمن فاقتلوا قتالاً شديداً، وانهزم عصمة حتى أنى نصراً وقد قتل من أصحابه أربعمائة.
ثم أرسل نصر مالك بن عمرو التميمي في اصحابه، فنادى: يابن المثنى ابز إلي! فبرز إليه، فضربه مالك على حبل عاتقه فلم يصنع شيئاً، وضربه محمد بعمود فشدخ رأسه، والتحم القتال فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم أصحاب نصر وقد قتل منهم سبعمائة، ومن أصحاب الكرماني ثلاثمائة، ولم يزل الشر بينهم حتى خرجوا إلى الخندقين فاقتتلوا قتالاً شديداً.
فلما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه وأنه لا مدد لهم جعل يكتب إلى سيبان ثم يقول للرسول: اجعل طريقك على مضر فإنهم سأخذون كتبك، فكانوا يأخذونها فيقرأون فيها: إني رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم فلا تثقن بهم ولا تطئن إليهم، فإني أرجو أن يريك الله في اليمانية ما تحب، ولئن بقيت لا أدع لها شرعاً ولا ظفراً. ويرسل رسولاً آخر بكتاب فيه ذكر مضر بمثل ذلك ويأمر الرسول أن يجعل طريقه على اليمانية، حتى صار هوى الفريقي معه، ثم جعل يكتب إلى نصر ابن سيار وإلى الكرماني: إن الإمام أوصاني بكم ولست أعدو رأيه فيكم. وكتب إلى الكور بإظهار الأمر؛ فكان أول من سود أسد بن عبد الله الخزاعي بنسا، ومقاتل بن حكيم، وابن غزوان، ونادوا: يا محمد! يا منصور! وسود أهل أبيورد وأهل مرو الزوذ وقرى مرو.
وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق الكرماني وخندق نصر، وهابه الفريقان، وبعث إلى الكرماني: إني معك. فقبل ذلك الكرماني، فانضم أبو مسلم إليه، فاشتد ذلك على نصر بن سيار، فأرسل إلى الكرماني، ويحك لا تغتر! فوالله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه، فادخل مرو ونكتب كتاباً بيننا بالصلح. وهو يريد أن يفرق بين وين أبي مسلم. فدخل الكرماني منزله، واقام أبو مسلم في العسكر، وخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب. فأبصر نصر منه غرة، فوجه إليه ابن الحارث بن سريج في نحو من ثلاثمائة فارس في الرحبة، فالتقوا بها طويلاً ثم إن لكرماني طعن في خاصرته فخر عن دابته وحماه أصحابه حتى جاءهم ما لا قبل لهم به، فقتل نصر ابن سيار الكرماني وصلبه وصلب معه سمكة.

وأقبل ابنه علي وقد جمع جمعاً كثير، فصار إلى أبي مسلم واستصحبه معه فقاتلوا نصر بن سيار حتى أخرجوه من دار الإمارة، فمال إلى بعض دور مرو وأقبل أبو مسلم حتى دخل مرو، وأتاه علي بن الكرماني وأعلمه أنه مع وسلم عليه بالإمرة وقال له: مرني بأمرك بإني مساعدك على ماتريد. فقال: أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري. ولما نزل أبو مسلم بين خندق الكرماني ونصر ورأى نصر قوته كتب إلى مروان بن محمد يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه، فإنه يدعوا إلى إبراهيم بن محمد،وكتب بأبيات، شعر:
أرى بين الرماد وميض نارٍ ... وأخشى أن يكون له ضرام
فإن الناس بالعودين تذكى ... وإن الحرب مبدأها كلام
فقلت من التعجب ليت شعري ... أأقاظ أمية أم نيام
نصر: أما صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده. فكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يستمده، وكتب له بأبيات، شعر:
أبلغ يزيد وخير القول صدقه ... وقد تيقنت أن لا خير في الكذب
أن خراسان أرض قد رأيت بها ... بيضاً لو أفرج قد حدثت بالعجب
فراخ عامين إلا أنها كبرت ... لما يطرن وقد سربلن بالزغب
ألا تدارك بخيل الله معلمةً ... الهبن نيران حربٍ إيما لهب
فقال يزيد: لاتكثر فليس له عندي رجل.
فلما قرأ مروان كتاب نصر تصادف وصول كتابه وصول رسول لأبي مسلم إلى إبراهيم، وقد عاد من عند إبراهيم ومعه جواب أبي مسلم يلعنه إبراهيم ويسبه حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ أمكناه، ويأمر أن لا يدع بخراسان متكلماً بالعربية إلا قتله. فلما قرأ الكتاب كتب إلى عامله بالبلقاء ليسير إلى الحميمة وليأخذ إبراهيم بن محمد فيشده وثاقاً ويبعث به إلى، ففعل ذلك، فأخذه مروان وحبسه.
ذكر تعاقد أهل خراسان على أبي مسلموفي هذه السنة تعاقدت عامة قبائل العرب بخراسان على قتال أبي مسلم وفيها تحول أبو مسلم من معسكره بسفيذنج إلى الماخوان.
وكان سبب ذلك أن أبا مسلم لما ظهر أمره سارع إليه الناس، وجعل أهل مرو يأتونه ولا يعرض لهم نصر ولا يمنعهم، وكان الكرماني وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم لأنه دعا إلى خلع مروان، وأبو مسلم في خباء ليس له حرس ولا حجاب، وعظم أمره عند الناس وقالوا: ظهر رجل من بني هشام له حلم ووقار وسكينة. فانطلق فتية من أهل مرو نساك يطلبون الفقه إلى أبي مسلم فسألوه عن نسبه، فقال: خيري حخير لكم من نسبي؛ وسألوه أشياء من الفقه فقال: أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا، ونحن إلى عونكم أحوج منا إلى مسألتكم فاعفونا.
فقالوا: ما نعرف لك نسباً ولا نظنك تبقى إلا قليلاً حتى تقتل، وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرع أحد هذين الأميرين. فقال أبو مسلم: أنا أقتلهما إن شاء الله. فأتوا نصراً فأخبروه، فقال: جزاكم الله خيراً، مثلكم من يفتقد هذا ويعرفه. وأتوا شيبان فأعلمه فأرسل إليه نصر: إنا قد أشجى بعضنا بعضاً، فأكفف عني حتى أقاتله، وإن شئت فجامعني إلى حربه حتى أقتله أو انفيه ثم نعود إلى أمرنا الذي نحن عليه. فهم شيبان أن يفعل ذلك، فأتى الخبر أبا مسلم، فكتب إلى علي بن الكرماني: إنك موتور قتل أبوك، ونحن تعلم أنك لست على راي شيبان، وإنما تقتل لثأرك. فامتنع شيبان من صلح نصر. فدخل على شيبان فثناه عن رأيه، فأرسل نصر إلى شيبان: إنك لمغرور، والله ليفاقمن هذا الأمر حتى يستصغرني في جنبه كل كبير؛ وقال شعراً يخاطب به ربيعة واليمن ويحثهم على الاتفاق معه على حرب أبي مسلم:
أبلغ ربيعة في مروٍ وفي يمنٍ ... أن اغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب
ما بالكم تنشبون الحرب بينكم ... كأن أهل الحجى عن رأيكم غيب
وتتركون عدواً قد أحاط بكم ... ممن تأشب لا دين ولا حسب
لا عرب مثلكم في الناس نعرفهم ... ولا صريح موالٍ إن هم نسبوا
من كان يسألني عن أصل دينهم ... فإن دينهم أن تهلك العرب
قوم يقولون قولا ما سمعت به ... عن النبي ولا جاءت به الكتب

فبينا هم كذلك إذ بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة وعليها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي، فطرده عنها، فقدم على نصر منهزماً وغلب النضر على هراة.
فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني لابن الكرماني وشيبان: اختاروا إما أنكم تهلكون أنتم قبل مضر أو مضر قبلكم. قالوا: وكيف ذلك؟ قال: إن هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شه وقد صار في عسكره مثل عسكركم. قالوا: فما الرأي؟ قال: صالحوا نصراً، فإنكم إن صالحتموه قاتلوا نصراً وتركوكم لأن الأمر في مضر، وإن لم تصالحوا نصراً صالحوه وقاتوكم، فقدموا مضر قبلكم ولو سعة من نهار فتقر أعينكم بقتلهم.
فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة، فأجابه وأرسل سالم بن أحوز بكتاب الموادعة، فأتى شيبان وعنده ابن الكرماني: يا أعور! ما أخلقك أن تكون الأعور الذي يكون هلاك مضر على يده! ثم توادعوا سنة وكتبوا كتاباً.
فبلغ ذلك أبا مسلم فكتب إلى شيبان: إنا نوادعك أشهراً فوادعنا ثلاثة أشهر. فقال ابن الكرماني: إني ما صالحت نصراً إنما صالحه شيبان، وأنا لذلك كاره، وأنا موتور بقتله أبي ولا أدع قتاله. فعاود القتال، ولم تعنه شيبان وقال: لا يحل الغدر.
فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره، فأقبل حتى نزل الماخوان، وكان مقامه بسفيذنج اثنين وأربعين يوماً، ولما نزل الماخوان حفر بها خندقاً وجعل للخندق بابين فعسكر به، واستعمل على الشرط أبا نصر مالك بن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل ابن مظفر أبا صالح، وعلى الرسائل أسلم بن صبيح، وعلى القضاء قاسم ابن مجاشع النقيب، وكان القاسم يصلي بأبي مسلم فيقص القصص بعد العصر فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أمية.
ولما نزل أبو مسلم الماخوان أرسل إلى ابن الكرماني: إني معك على نصر. فقال ابن الكرماني: إني أحب أن يلقاني أبو مسلم. فأتاه أبو مسلم فأقام غنده يومين ثم رجع إلى الماخوان، وذلك لخمس خلون من المحرم سنة ثلاثين ومائة.
وكان أول عامل استعمله أبو مسلم على شيء من العمل داود بن كرار، فرد أبو مسلم العبيد عنه واحتفر لهم خندقاً في قرية شوال وولى الخندق داود بن كرار، فلما اجتمعت للعبيد جماعة وجههم إلى موسى بن كعب بأبيورد.
وأمر أبو مسلم كامل بن مظفر أن يعرض الجند ويكتب أسمائهم وأسماء آبائهم ونسبتهم إلى القرى، ويجعل ذلك في دفتر، فبلغت عدتهم سبعة آلاف رجل، ثم إن القبائل من ربيعة ومضر واليمن توادعوا على وضع الحرب وأن تجتمع كلمتهم على محربة أبي مسلم. وبلغ أبا مسلم الخبر معظم عليه وناظر فإذا الماخوان سافلة الماء، فتخوف أن يقطع نصر عنه الماء فتحول إلى آلين، وكان مقامه بالماخوان أربعة أشهر، فنزل آلين وخندق بها.
وعسكر نصر بن سيار على نهر عياض، وجعل عاصم بن عمرو ببلاش جرد، وأبا الذيال بطوسان، فأنزل أبو الذيال جنده على أهلها، وكان عامة أهلها مع أبي مسلم في الخندق، فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وسير إليهم أبو مسلم جنداً، فلقوا أبا الذيال فهزموه وأسروا من أصحابه نحواً من ثلاثين رجلاً، فكساهم أبو مسلم وداوى جراحهم وأطلقهم.
ولما استقر بأبي مسلم معسكره بآلين أمر محرز بن إبراهيم أن يسير في جماعة ويخندق بجيرنج ويجتمع عنده جمع من الشيعة ليقطع مادة نصر من مرو الروذ وبلخ وطخارستان، ففعل ذلك، واجتمع عنده نحو من ألف رجل، فقطع المادة عن نصر.
ذكر غلبة عبد الله بن معاوية على فارس وقتلهوفي هذه السنة غلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعقر على فارس وكورها، وقد تقدم ذكر ظهوره بالكوفة وانهزامه وخروجه من الكوفة نحو المدائن.
فلما وصل إليها أتاه ناس من أهل الكوفة وغيرها، فسار إلى الجبال وغلب عليها وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة وأقام بأصبهان.

وكان محرب بن موسى مولى بني يشكرعظيم القدر بفارس، فجاء إلى دار الإمارة بإصطخر فطرد عامل بن عمر عنها وبايع الناس لعبد الله بن معاوية،وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليها، وانضم إلى محارب قواد من أهل الشام، فسار إلى مسلم بن المسيب، وهو عامل ابن عمر بشيراز، فقتله في سنة ثمان وعشرين، ثم خرج محارب إلى اصبهان إلى عبد الله بن معاوية فحوله إلى اصطخر، فأقام بها، وأتاه الناس بنو هاشم وغيرهم، وجبا المال وبعث العمال، وكان معه منصور بن جمهوروسليمان بن هشام بن عبد الملك، وأتاه شيبان بن عبد العزيز الخارجي، على ما تقدم، وأتاه أبو جعفر المنصور، وأتاه عبد الله وعيسى ابنا علي بن عبد الله بن عباس.
ولما قدم ابن هبيرة على العراق أرسل نباتة بن حنظلة الكلابي إلى عبد الله ابن معاوية، وبلغ سليمان ابن حبيب أن ابن هبيرة استعمل نبلتة على الأهواز فسرح داود بن حاتم، فأقام بكرخ دينار يمنع نباتة من الأهواز، فقاتله فقتل داود وهرب سليمان من الأهواز إلى سابور، وفيها الأكراد قد غلبوا عليها، فقاتلهم سليمان وطردهم عن سابور وكتب إلى ابن معاوية بالبيعة.
ثم إن محارب بن موسى اليشكري نافر ابن معاوية وفارقه وجمع جمعاً فأتى سابور فقاتله يزيد بن معاوية أخو عبد الله، فانهزم محارب وأتى كرمان فأقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث فصار معه، ثم نافره فقتله ابن الأشعث وأربعة وعشرين ابناً له، ولم يزل عبد الله بن معاوية باصطخرحتى أتاه ابن ضبارة مع داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة، وسير ابن هبيرة أيضاً معن بن زائدة من وجه آخر، فقاتلهم معن عند مرو شاذان؛ ومعن يقول:
ليس أمير القوم بالخب الخدع ... فر من الموت وفي الموت وقع
وانهزم ابن معاوية فكف معن عنهم، وقتل في المعركة رجل من آل أبي لهب، وكان يقال: يقتل رجل من بني هاشم بمرو الشاذان، وأسروا أسرى كثيرة، فقتل ابن ضبارة منهم عدة كثيرة، وهرب منصور بن جمهور إلى السند، وعبد الرحمن بن يزيد إلى عمان، وعمرو بن سهل بن عبد العزيز بن مروان إلى مصر،وبعث ببقية الأسرى إلى ابن هبيرة فأطلقهم، ومضى ابن معاوية إلى خراسان. فسار معن بن زائدة يطلب منصور بن جمهور فلم يدركه، فرجع.
وكان ابن معاوية من الخوارج وغيرهم خلق كثير، فأسر منهم أربعون ألفاً، فيهم: عبد الله بن علب بن عبد الله بن عباس، فسبه ابن ضبارة وقال له: ما جاء بك إلى ابن معاوية وقد عرفت خلافة لأمير المؤمنين؟ فقال: كان علي دين فأتيته. فسفع فيه حرب بن قطن الهلالي وقال: هو ابن أختنا، فوهبه له.
فعاب عبد الله بن معاوية ورمى أصحابه باللواط، فسبره ابن ضبارة إلى ابن هبيرة ليخبره أخبار ابن معاوية، وسار في طلب عبد الله بن معاوية إلى شيراز فحصره، فخرج عبد الله بن معاوية منها هارباً ومعه أخواه الحسن ويزيد ابنا معاوية وجماعة من أصحابه، وسلك المفازة على كومان، وقصد خراسان طمعاً في أبي مسلم لأنه يدعو إلى الرضاء من آل محمد وقد استولى على خراسان، فوصل إلى نواحي هراة وعليها أبو نصر مالك بن الهيثم الخزاعي، فأرسل إلى ابن معاوية يسأله عن قدومه، فقال: بلغني أنكم تدعون إلى الرضاء من آل محمد فأتيتكم. فأرسل إليه مالك: انتسب نعرفك. فانتسب له، فقال: أما عبد الله وجعفر فمن أسماء آل رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وأما معاوية فلا نعرفة في أسمائهم، فقال: إن جدي كان عند معاوية لما ولد له أبي، فطلب إليه أن يسمي إبنه باسمه ففعل، فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم. فأرسل إليه مالك: لقد اشتريتم الإسم الخبيث بالثمن اليسير ولا نرى لك حقاً فيما تدعو إليه. ثم أرسل إلى أبي مسلم يعرفه خبره، فأمره بالقبض عليه وعلى من معه، فقبض عليهم وحبسهم، ثم ورد عليه كتاب أبي مسلم يأمره بإطلاق الحسن ويزيد ابني معاوية وقتل هبد الله بن معاوية، فأمر من وضع فراشاً على وجهه فمات، فأخرج فصلي عليه ودفن؛ وفبره بهراة معروف يزار، رحمه الله.
ذكر أبي حمزة الخارجي وطالب الحق

وفي هذه السنة قدم أبو حمزة وبلج بن عقبة الأزدي الخارجي من الحج من فبل عبد الله بن يحيى الحضرمي طالب الحق محكماً للخلاف على مروان بن محمد، فبينما الناس بعرفة ما شعروا إلا وقد طلعت عليهم أعلام وعمائم سود على رؤوس الرماح وهم سبعمائة، ففزع الناس حين رأوهم وسألوهم عن حالهم، فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان. فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ على مكة والمدينة، وطلب منهم هدنة، فقالوا: نحن بحجنا أضن وعليه أشح. فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتى ينفر الناس النفر الأخير، فوقفوا بعرفة على حدة.
فدفع بالناس عبد الواحد فنزل بمنى في منزل السلطان، ونزل أبو حمزة بقرن الثعالب. فأرسل عبد الواحد إلى أبي حمزة الخارجي عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبيد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن في رجال أمثالهم، فدخلوا على أبي حمزة وعليه إزار قطن غليظ، فتقدمهم إليه عبد الله بن الحسن ومحمد بن عبد الله فنسبهما فانتسبا إليه، فعبس في وجههما وأظهر الكراهة لهما ثم سأل عبد الرحمن بن القاسم وعبيد الله بن عمر فانتسبا له، فهش إليهما وتبسم في وجوههما وقال: والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما. فقال له عبد الله بن الحسن: والله ما خرجنا لتفضل بين آبائنا، ولكن بعثنا إليك الأمير برسالة، وهذا ربيعة يخبركما.
فلما ذكر له ربيعة نقض العهد قال أبو حمزة: معاذ الله أن ننقض العهد أو نخيس به، لا والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه ولكن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم. فرجعوا إلى عبد الواحد فأبلغوه. فلما كان النفر الأول نفر عبد الواحد فيه ووخلى مكة، فدخلها أبو حمزة بغير قتال؛ فقال بعضهم في عبد الواحد:
زار الحجيج عصابة قد خالفوا ... دين الإله ففر عبد الواحد
ترك الحلائل والإمارة هارباً ... ومضى يخبط كالبعير الشارد
ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة فضرب على أهلها البعث وزادهم في العطاء عشرة عشرة، واستعمل عليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فخرجوا، فلما كانوا بالحرة تلقتهم جزر منحورة فمضوا.
ذكر ولاية يوسف بن عبد الرحمن الفهري بالأندلسوفي هذه السنة توفي ثوابة بن سلامة أمير الأندلس، وكانت ولايته سنتين وشهوراً، فلما توفي اختلف الناس، فالمضرية أرادت أن يكون الأمير منهم، واليمانية أرادت كذلك أن يكون الأمير منهم، فبقوا بغير أمير، فخاف الصميل الفتنة فأشار بأن يكون الوالي من قريش، فرضوا كلهم بذلك، فاختار لهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكان يومئذ بإلبيرة، فكتبوا إليه بما اجتمع عليه الناس من تأميره، فامتنع. فقالوا له: إن لم تفعل وقعت الفتنة ويكون إثم ذلك عليك. فأجاب حينئذ وسار إلى قرطبة فدخلها وأطاعه الناس.
فلما انتهى إلى أبي الخطار موت ثوابة وولاية يوسف فقال: إنما أراد الصميل أن يصير الأمر إلى مضر؛ وسعى في الناس حتى ثارت الفتنة بين اليمن ومضر.
فلما رأى يوسف ذلك فارق قصر الإمارة بقرطبة وعاد إلى منزله، وسال أبو الخطار إلى شقندة، فاجتمعت إليه اليمانية، واجتمعت المضرية إلى الصميل وتزاحفوا واقتتلوا أياماً كثيرة قتالاً لم يكن بالأتدلس أعظم منه، ثم أجلت الحرب عن هزيمة اليمانية، ومضى أبو الخطار منهزماً فاستتر في رحى كانت للصميل، فدل عليه، فأخذه الصميل وقتله، ورجع يوسف بن عبد الرحمن إاى القصر، وازجاد الصميل شرفاً، وكان اسم الإمارة ليوسفوالحكم إلى الصميل.
ثم خرج على يوسف بن عبد الرحمن ابن علقمة اللخمي بمدينة أربونة، فلم يلبث إلا قليلاً حتى قتل وحمل رأسه إلى يوسف.
وخرج عليه عذره المعروف بالذمي؛ فإنما قيل له ذلك لأنه استعان بأهل الذمة؛ فوجه إليه بوسف عامر بن عمرو، وهو الذي تنسب إليه مفبرة عامر من أبواب قرطبة، فلم يظفر به وعاد مفلولاً، فسار إليه يوسف بن عبد الرحمن فقاتله فقتله واستباح عسكره.
وقد وردت هذه الحادثة من حهة أخرى وفيها بعض الخلاف، وسنذكرهاسنة تسع وثلاثين ومائة عند دخول عبد الرحمن الأموي الأندلس.
ذكر عدة حوادث

وحج بالناس عبد الواحد، وهو كان العامل على مكة والمدينة والطائف. وكان على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي، وعلى البصرة عباد بن منصور، وكان على خراسان نصر بن سيار والفتنة بها.
وفيها مات سالم أبو نصر. وفيها مات يحيى بن يعمر العدوي بخراسان، وكان قد تعلم النحو من أبي الأسود الدؤلي، وكان من فصحاء التابعين. وفيها مات أبو الزناد بن عبد الله بن ذكوان. وفيها مات وهب بن كيسان. ويحيى بن أبي كثير اليمامي أبو نصر. وسعيد بن أبي صالح. وأبي اسحاق الشيباني. والحارث بن عبد الرحمن. ورقبة بن مصقلة الكوفي. ومنصور بن زادان مولى عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، وشهد جنازته المسلمون واليهود والنصارى والمجوش لإتفاقهم على صلاحه، وقيل: مات سنة إحدى وثلاثين.
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة

ذكر دخول أبي مسلم مرو والبيعة بها
وفي هذه السنة دخل أبو مسلم مرو في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى.
وكان السبب في ذلك في اتفاق ابن الكرماني معه. إن ابن الكرماني ومن معه وسائر القبائل بخراسان لما عاقدوا نصراً على أبي مسلم غظم عليه وجمع أصحابه لحربهم، فكان سليمان بن كثير بإزاء ابن الكرماني، فقال له سليمان: إن أبا مسلم يقول لك: أما تأنف من مصالحة نصر وقد قتل بالأمس أباك وصلبه؟ وما كنت أحسبك تجامع نصراً في مسجد تصليان فيه! فأحفظه هذا الكلام، فرجع عن رأيه وانتقض صلح العرب.
فلما انتقض صلحهم بعث نصر إلى أبي مسلم يلتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعث أصحاب ابن الكرماني،وهم ربيعة واليمن، إلى أبي مسلم بمثل ذلك،فراسلوه بذلك أياماً، فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتى يختار أحدهما، ففعلوا، وأمر أبو مسلم الشيعة أن تختار ربيعة واليمن، فإن الشيطان في مضر، وهم أصحاب مروان وعماله وقتلة يحيى بن زيد.
فقدم الوفدان، فجلس أبو مسلم ولأجلسهم وجمع عنده من الشيعة سبعين رجلاً فقال لهم ليختاروا أحد الفريقين. فقام سليمان بن كثير من الشيعة فتكلم، وكان خطيباً مفوهاً، فاختارابن الكرماني وأصحابه، ثم قام أبو منصور طلحة ابن زريق النقيب فاختارهم أيضاً، ثم قام مرثد بن شقيق السلمي فقال: إن مضر قتلة آل النبي، صلى الله عليه وسلم ، وأعوان بني أمية وشيعة مروان الجعدي وعماله ودماؤنا في أعناقهم وأموالنا في أيديهم، ونصر بن سيار عامل مروان يتعد أموره ويدعو له على منبره ويسميه أمير المؤمنين، ونحن نبرأ إلى الله، عز وجل، من أن يكون نصر على هدىً، وقد اخترنا علي بن الكرماني وأصحابه. فقالالسبعون: القول ما مرثد بن شفيق. فنهض وفد وقد نصر عليهم الكآبة والذلة، ورجع وفد ابن الكرماني منصورين. ورجع أبو مسلم من آلين إلى الماخوان وأمر الشيعة أن يبنوا المساكن فقد أغناهم الله من اجتماع كلمة العرب عليهم.
ثم أرسل إلى أبي مسلم علي بن الكرماني ليدخل مدينة مرو من ناحيته وليدخل هو وعشيرته من الناحية الأخرى، فأرسل إليه أبو مسلم: إني لست آمن أن تجتمع يدك ويد نصر على محاربتي، ولكن ادخل أنت وأنشب الحرب مع أصحاب نصر.

فدخل ابن الكرماني فأنشب الحرب، وبعث أبو مسلم شبل بن طهمان النقيب في خيل فدخلوها، ونزل شبل بقصر بخاراخذاه، وبعث إلى أبي مسلم ليدخل إليهم، فسار من الماخوان وعلى مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعي، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم الخزاعي، وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع التميمي. فدخل مرو والفريقان يقتتلان، فأمرهما بالكف وهو يتلو من كتاب الله عز وجل: " ودخل المدينة على حين غفلةٍ من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه " القصص:15 الآية. ومضى أبو مسلم إلى قصر الإمارة، وأرسل إلى الفريقين أن كفوا ولينصرف كل فريق إلى عسكره، ففعلوا وصفت مرو لأبي مسلم، فأمر بأخذ البيعة من الجند، وكان الذي يأخذها أبو منصور طلحة بن رزيق، وكان أحد النقباء عالماً بحجج الهاشمية ومعايب الأموية. وكان النقباء اثنني عشر رجلاً اختارهم محمد بن علي من السبعين الذين كانوا استجابوا له حين بعث رسوله إى خراسان سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة، ووصف له من العدل صفة، وكان منهم من خزاعة: سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وزياد بن صالح، وطلحة بن زريق، وعمرو بن أعين؛ ومن طيء: قحطبة بن شبيب بن خالد ابن معدان؛ ومن تميم: موسى بن كعب أبو عيينة، ولاهز بن قريط، والقاسم ابن مجاشع،وأسلم بن سلام؛ ومن بكر بن وائل: أبو داود بن إبراهيم الشيباني، وأبو علي الهروي، ويقال شبل بن طهمان مكان عمرو بن أعين، وعيسى بن كعب، وأبو النجم إسماعيل بن عمران مكان أبي علي الهروي، وهو ختن أبي مسلم؛ ولم يكن في النقباء أحد والده حتى غير أبي منصور طلحة ابنرريق بن سعد، وهو أبو زينب الخزاعي، وكان قد شهد حرب ابن الأشعث وصحب المهلب وغزامة. وكان أبو مسلم يشاوره في الأمور ويسأله عنها وعما شهد من الحروب.
وكانت البيعة: أبا يعكم على كتاب الله وسنة رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم ، والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وعليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله الحرام، وعلى أن لا تسألوا رزقاً ولا طعماً حتى يبتدئكم به ولا تكم.
رزيق بتقديم الراء على الزاي.
ذكر هرب نصر بن سيار من مروثم أرسل أبو مسلم لاهز بن قريظ في جماعة إلى نصر بن سيار يدعوه إلى كتاب الله عز وجل، والرضاء من آل محمد، فلما رأى ما جاءه من اليمانية والربيعية والعجم وأنه لا طاقة له بهم أظهر قبول ما أتاه به وأنه يأتيه ويبايعه، وجعل يرشيهم لما هم من الغدر والهرب، إلى أن أمسوا، وأمر أصحابه أن يخرجوا من ليلتهم إلى مكان يأمنون فيه، فقال له سالم بن احوز: لا يتهيأ لنا الخروج الليلة ولكننا نخرج القابلة.
فلما كان الغد عبأ مسلم أصحابه وكتائبه إلى بعد الظهر وأعاد إلى نصر لاهز بن قريط وجماعة معه، فدخلوا على نصر، فقال: ما أسرع ما عدتم! فقال له لاهز بن قريط: لا بد لك من ذلك. فقال نصر: إذا كان لابد من ذلك فإني أتوضأ وأخرج إليه، وأرسل إلى أبي مسلم، فغن كان هذا رأيه وأمره أتيته، وأتهيأ إلى أن يجيء رسولي. فقام نصر، فلما قام قرأ لاهز بن قريظ: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين القصص:20. فدخل نصر منزله وأعلمهم أنه ينتظر انصراف رسوله من عند أبي مسلم. فلما جنه الليل خرج من خلف حجرته ومعه تميم ابنه والحكم بن نميلة النميري وامرأته المزبانة وانطلقوا هراباً، فلما استبطأ لاهز وأصحابه دخلوا منزله فوجدوه قد هرب.
فلما بلغ ذلك أبا مسلم سار إلى معسكر نصر وأخذ ثقات أصحابه وصناديدهم فكتفهم وكان فيهم سالم بن أحوز صاحب شرطة نصر، والبختري كاتبه، وابنان له، ويونس بن عبدويه، وحمد بن قطن، ومجاهد بن يحيى بن حضين، وغيرهم، فاستوثق منهم بالحدي، وكانوا في الحبس عنده، وسار أبو سملم وابن الكماني في طلب نصر ليلتهما، فأدركا امرأته قد خلفها وسار، فرجع أو مسلم وابن الكرماني إلى مرو، وسار نصر: ما الذي ارتاب به نصر حتى هرب؟ قالوا: لا ندري. قال: فهل تكلم أحد منكم بشيء؟ قالوا تلا لاهز هذه الآية: إن الملأ يأتمرون بك. قال: هذا الذي دعاه إلى الهرب. قم قال: يا لاهز تدغل في الدين! ثم قتله.
واستشار أبو مسلم أبا طلحة في أصحاب نصر فقال: اجعل سوطك السيف وسجنك القبر. فقتلهم أبو مسلم، وكان عدتهم أربعة وعشرين رجلاً.

وأما نصر فإنه سار من سرخس إلى طوس فأقام بها خمسة عشر يوماً، وبسرخس يوماً، ثم سار إلى نيسابور فأقام بها، ودخل ابن الكرماني مرو مع أبي مسلم وتابعه على رأي وعاقده عليه يحيى بن حضين بضم الحاء المهملة، وفتح الصاد المعجمة، وآخره نون.
ذكر قتل شيبان الحروريوفي هذه السنة قتل شيبان بن سلمة الحروري.
وكان سبب قتله أنه كان هو وعلي بن الكرماني مجتمعين على قتال نصر لمخالفة شيبان نصراً لأنه من عمال مروان، وشيبان يرى رأي الخوارج، وخالفة ابن الكرماني نصراً لأن نصراً قتل أباه الكرماني، وأن نصراً مضري وابن الكرماني يماني، وبين الفريقين من العصبية ما هو مشهور، فلما صالح ابن الكرماني أبا مسلم على ما تقدم وفارق شيبان تنحى شيبان عن مرو إذ علم أنه لا يقوى لحربهما، وقد هرب نصر إلى سرخس.
ولما استقام الأمر لأبي مسلم أرسل إلى شيبان يدعوه إلى البيعة، فقال شيبان: أنا أدعوك إلى بيعتي. فأرسل إليه أبو مسلم: إن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك الذي أنت به. فأرسل شيبان إلى ابن الكرماني يستنصره، فأبى ، فسار شيبان إلى سرخس واجتمع إله جمع كثير من بكر بن وائل، فأرسل إليه أبو مسلم تسعة من الأزد يدعوه ويسأله أن يكف، فأخذ الرسل فسحبنهم. فكتب أبو مسلم إلى بسام بن إبرايهم مولى بني ليث بأبيورد يأمره أن يسير إلى سيبان فيقاتله، فسار إليه فقاتله، فانهزم شيبان واتبعه بسام حتى دخل المدينة فقتل شيبان وعدة من بكر بن وائل. فقيل لأيب مسلم: إن بساماً ارتد ثانيةً وهويقتل البريء السقيم؛ فاستقدمه، قدم عليه، واستخلف على عسكره رجلاً. فلما قتل شيبان مر رجل من بكر بن وائل برسل أبي ملم فقتلهم.
وقيل: إن أبا مسلم وجه إلى سشيبان عسكراً من عنده عليهم خزيمة بن خازم وبسام بن إبراهيم.
ذكر قتل ابني الكرمانيوفي هذه السنة قتل أبو مسلم علياً وعثمان ابني الكرماني.
وكان سبب ذلك أن أبا مسلم كان وجه موسى بن كعب إلى أبيورد فافتتحها وكتب إلى أبي مسلم بذلك، ووجه أبا داود إلى بلخ، وبها زياد بن عبد الرحمن القشيري، فلما بلغه قصد أبي دواد بلخ خرج في أهل بلخ وترمذ وغيرهما من كور طخارستان إلى الجوزجان، فلما دنا أبو داودمنهم انصرفوا منهزمين إلى ترمذ، ودخل أبو داود مدينة بلخ، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجه مكانه يحيى بن نعيم أبا الميلاء على بلخ، فلما قدم يحيى مدينة بلخ كاتبه زياد بن عبد الرحمن أن يرجع وتصير أيديهم واحدة، فأجابه، فرجع زياد ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم الباهلي وعيسى بن زرعة السلمي وأهل بلخ وترمذ وملوكطخارستنا ما وراء النهر ودونه فنزلوا على فرسخ من بلخ وخرج إليهم يحيى بن نعيم بمن معه، فصارت كلمتهم واحدة مضر وربيعة واليمن ومن معهم من العجم على قتال المسودة، وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بن حيان النبطي كراهة أن يكون من واحد من الفرق الثلاثة.
وأمر أبو مسلم أبا داود بالعود، فاقبل بمن معه حتى اجتمعوا على نهر السرجتان، وكان زياد وأصحابه قد وجهوا أبا سعيد اقرشي مسلحة لئلا يأتيهم أصحاب أبي داود من خلفهم، وكانت أعلام أبي داود سوداً، فلما اقتتل أبو داود وزياد وأصحابهما امر أبو سعيد أصحبه أن يأتوا زياداً وأصحابه، فأتوهم من خلفهم، فلما رأى زياد ومن معه أعلام أبي سعيجد وراياته سوداً ظنوه كميناً لأبي داود فانهزموا، وتبعهم أو داود، فوقع عامة أصحاب زياد في نهر السرجنان وقتل عامة رجالهم المتخلفين، ونزل أبو داود معسكرهم وحوى ما فيه.
ومضى زياد ويحيى ومن معهما إى ترمذ، واستصفى أبو داود أموال من قتل ومن هرب واستقامت له بلخ.
وكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجه النضر بن صبيح المري على بلخ. وقدم أبو داود على أبي مسلم واتفقا على أن يفرقا بين علي وعثمان ابني الكرماني، فبعث أبو مسلم عثمان عاملاُ على بلخ، فلمكا قدمها استخلف الفرافصة بن ظهير العبسي على بلخ.

وأقبلت المضريه من ترمذ عليهم مسلم بن عبد الرحمن بالباهلي، فالتقوا هم وأصحاب عثمان فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أصحاب عثمان، وغلب مسلم على بلخ، وبلغ عثمان والنضر بن صبيح الخبر وهما بمرو الروذ، فأقبلا نحوهم، فهرب أصحاب عبد الرحمن من ليلتهم، فلم يمعن النضر في طلبهم رجاء أن يفوتوا، ولقيهم أصحاب عثمان فاقتتلوا قتالاً شديداً، ولم يكن النضر معهم، فانهزم أصحاب عثمان وقتل منهم خلق كثير. ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم ومعه علي بن الكرماني إلى نيسابور، واتفق رأي أبي مسلم ورأي أبي داود على أن يقتل أبو مسلم علياً وقتل أبو داود عثمان، فملا قدم أو داود بلخ بعث عثمان عاململاً على الجبل فيمن معه من أهل مرو، فلما خرج من بلخ تبعه أبو داود فأخذه وأصحابه فحبسهم جميعاً، ثم ضرب أعناقهم صبراً، وقتل أبو مسلم في ذلك اليوم علي بن الكرماني، وقد كان أبو مسلم أمره أن يسمي له خاصته ليوليهم ويأمر لهم بجوائز وكسورات، فسماهم له، فقتلهم جميعاً.
ذكر قدوم قحطبة إلى نيسابورلما قتل شيبان الخارجي وابنا الكرماني، على ما تقدم، وهرب نصر بن سيار من مرو، وغلب أبو مسلم على خراسان، وبعث العمال على البلاد، فاستعمل سباغ بن النعمان الأزدي على سمر قند، وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان، ومحمد بن الأشعث على الطبسين، وجعل مالك بن اليثم على شرطه، ووجه قحطبة إلى طوس ومعه عدة من القواد، منهم: أبو عون عبد الملك بن يزيد، خالد بن برمك، وعثمان بن نهيك، وخازم ابن خزيمة، وغيرهم؛ فلقي قطبة من بطوس فهزمهم، وكان من مات منهم في الزحام أكثر ممن قتل، فبلغ عدة القتلى بضعة عشر ألفاً.
ووجه أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق المحجة، وكتب إلى قحطبة يأمره بقتال تميم بن نصر بن سيار والنابئ بن سويد لجأ إلهما من أهل خاسان، وكان أصحاب شيبان بن سلمة الخارجي قد لحقوا بنصر، ووجه أبو مسلم علي بن معقل في عشرة آلاف رجل إلى تمسم بن نصر، وأمره أن يكون مع قحطبة، واسر قحطبة إلى السوذقان، وهو معسكر تميم بن نصر والنابئ، وقد عبأ أصحابه وزحف إليهم، فدعاهم إلى ككتاب الله، عز وجل، وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم ، وإلى الرضاء من آل محمد، فلم يجيبوه، فقاتلهم قتالاً شديداً، فقتل تميم بن نصر في المعركة، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة واستبيح عسكرهم، وكان عدة من معه ثلاثين ألفاً، وهرب النابئ ومن معه، وبلغ الخبر نصر بن سيار بنيسابور بقتل ابنه.
ولما استولى قحطبة على عسكرهم سير ألى خالد بن برمك ما قبض فيه، وسار هو إلى نيسابور، وبلغ ذلك نصر بن سيار فهرب منها فيمن معه فنزل قومس، وتفرق عنه أصحابه فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان، وقدم قحطبة نيسابور بجنوده فأقام بها رمضان وشوال.
ذكر قتل نباته بن حنظلةوفي هذه السنة قتل نباتة بن حنظلة عامل يزيد بن هبيرة على جرجان، وكان يزيد بن هبيرة بعثه إلى نصر، فأتى فارس وأصبهان ثم سار إلى الري ومضى إلى جرجان، وكان نصر بقومس على ما تقدم، فقيل له: إن قومس لا تحملنا، فسار إلى جرجان فنزلها مع نباتة وخندقوا عليهم.
واقبل قحطبة إلى جرجان في ذي القعدة، فقال قحطبة: يا أهل خراسان أتدرون إلى من تسيرون ومن تقاتلون؟ إنما تقتلون بقيه قوم حرقوا بيت الله تعالى! وكان الحسن بن قحطبة على مقدمة أبيه، فوجه جمعاً إلى مسلحة نباتة وعليها رجل يقال له ذويب، فبيتوهم فقتلوا ذؤيباً وسبعين رجلاً من أصحابه فرجعوا إلى الحسن.

وقدم قحطبة فنزل بإزاء نباتة وأهل الشام في عدة لم ير الناس مثلها، فلما رآهم أهل خراسان هابوهم حتى تكلموا بذلك وأظهروه، فبلغ قحطبة قولهم، فقام فيهم فقال: يا أهل خراسان هابوهم حتى تكلموا بذلك وأظهروه، فبلغ قحطبة قولهم، فقام فيهم فقال: يا أهل خراسان هذه البلاد كانت لآبائكم، وكانوا ينصرون على عدوهم لعلهم وحسن سيرتهم حتى بدلوا وظلموا فسخط الله، عز وجل، عليهم فانتزع سالكانهم وسلط عليهم أذل أمة كانت في الأرض عندهم، فغلبوهم على بلادهم، وكانوا بذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد ونصرون المظلوم، ثم بدلوا وغيروا وجاروا في الحكم وأخافوا أهل البر والتقوى من عترة رسول الله فسلطكم عليهم لنتقم منهم بكم لتكونوا أشد عقوبة لأنكم طلبتموهم بالثأر، وعقد عهد إلي الإمام أنكم تقلقونمهم في مثل هذه العدة فينصركم الله، عز وجل، عليهم فتهزمونهم وتقتلونهم. فالتقوا في مستهل ذي الحجة سنة ثلاثين ومائة يوم الجمعة، فقال لهم قحطبة قبل التال: إن الإمام أخبرنا أنكم تنصرون على عدوكم هذا اليوم من هذا الشهر، وكان على ميمنته ابنه الحسن، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل بناتة، وانهزم أهل الشام فقتل منهم عشرة آلاف، وبعث إلى أيب مسلم برأس نباتة وابنه حية.
ذكر وقعة أبي حمزة الخارجي بقديدفي هذه السنة لسبع بقين من صفر كانت الوقعة بقديد بين أهل المدينة وأبي حمزة الخارجي.
قد ذكرنا أن عبد الواحد بن سليمان ضرب البعث على أهل المدينة واستعمل عليهم عبد العزيز بن عبد الله، فخرجوا، فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة فتقدموا، فلما كانوا بالعقيق تعلق لواؤهم بسمرة فانكسر الرمح، فتشاءم الناس بالخروج وأتاهم رسل أبي حمزة يقولون: إننا والله مالنا بقتالكم حاجة، دعونا نمض إلى عونا. فابى أهل المدينة ولم يجيبوه إلى ذلك وساروا حتى نزلوا قديداً، وكانوا مترفين ليسوا بأصحاب حرب، فلم يشعروا إلا وقد خرج عليهم أصحاب أبي حمزة من الفضاض فقتلوهم وكانت المقتلة بقريش، وفيهم كانت الشوكة، فأصيب منهم عدد كثير؛ وقدم المنهزمون المدينة فكانت المرأة تقيم النوائح على حميمها ومعها النساء، فما تبرح النساء حتى تأتيهن الأخبار عن رجالهن فيخرجن امرأة امرأة كل واحدة منهن تذهب لقتل رجلها فلا تبقى عندها امرأة لكثرة من قتل.
وقيل: إن خزاعة دلت أبا حمزة على أصحاب قديد، وقيل: كان عدة القتلى سبعمائة.
ذكر دخول أبي حمزة المدينةوفي هذه السنة دخل أبو حمزة المدينة ثالث عشر صفر، ومضى عبد الواحد منها إلى الشام، وكان أبو حمزة قد أعذر إليهم وقال لهم: ما لنا بقتالكم حاجة، دعونا نمض إلى عدونا. فأبى أهل المدينة، فلقيهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، ودخل المدينة فرقي المنبر وخطبهم وقال لهم: يا أهل المدينة! مررت بكم زمان الأحول، يعني هشام بن عبد الملك، وقد أصاب ثماركم عاهة فكتبتم إليه تسألونه أن يضع عنكم خراجكم ففعل، فزاد الغني غنى الفقير فقراً، فقلتم له: جزاك الله خيراً، فلا جزاكم الله خيراً، فلا جزاكم الله خيراً ولا جزاه خيراً! واعلموا يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديانا أشراً ولا بطراً ولا عبثاً ولا الدولة ملك نريد ان نخوض فيه ولا لثأر قديم نيل منا، ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت، وعنف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعياً يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله، ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض الأحقاق:2 - 32، فاقبلنا من قبائل شتى ونحن قليلون متسضعفون في الأرض فآوانا الله وأيدنا بنصره فأصبحنا بنعمته إخواناً، ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحم القرآن فدعونا إلى طاعة الشيطان فيهم بجرانه، وغلت بدمائهم مراجلة وصدق عليهم ظنه، وأقبل أنصار الله، عز وجل، عصائب وكتائب بكل مهند ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب به المبطلون، وأنتم يا أهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ويشف صدور قوم مؤمنين التوبة:14. يا أهل المدينة أو لكم خير أول وآخركم شر آخر! يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله، عز وجل، في كتابه على القوي والضعيف فجاء تاع ليس له فيها سهم فأخذها لنفسه مكابراً محاربا ربه.

يا اهل المدينة بلغني أنكم تنقصون أصحابي! قلتم شباب أحداث وأعراب حفاة! ويحكم! وهل كان أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، إلا شباباً أحداثاً وأعراباً حفاة؟ هم والله مكتهلون في شبابهم، غضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم. وأحسن السيرة مع أهل المدينة واستمال حتى سمعوه يقول: من زنى فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومن شك في كفرهما فهو كافر.
وأقام أبو حمزة بالمدينة ثلاثة أشهر.
ذكر قتل أبي حمزة الخارجيثم إن أبا حمزة ودع أهل المدينة وقال لهم: يا أهل المدينة إنا خارجون إلى مروان، فإن نظفر نعدل في إخوانكم ونحملكم على سنة نبيكم، وإن يكن ما تتمنون فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون الشعراء:227.
ثم سار نحو الشام،وكان مروان قد انتخب من عسكره أربعة آلاف فارس واستعمل عليهم عبد الملك بن محمد بن عطسة السعدي، سعد هوازن، وأمره أن يجد السير، وأمره أن يقاتل الخوارج، فإن هو ظفر بهم يسير حتى يبلغ اليمن ويقالتل عبد الله بنم حيحى طالب الحق.
فاسر ابن عطية فالتقى أبا حمزة بوادي القرى، فقال أبو حمزة لأصحابه: لا تقاتلوهم حتى تختبروهم. فصاحوا بهم: ما تقولون في القرآن والعمل به؟ فقال ابن عطية: نضعه في جوف الجوالق. فقال: فما تقولون في مال اليتيم؟ قال ابن عطية: نأكل ماله ونفجر بأمه، في أشياء سألوه عنها. فملا سمعوا كلامه قاتلوه حتى أمسوا وصاحوا: ويحك يا بن عطية! إن الله قد جعل الليل سكناً فاسكن. فأبى وقاتلهم حتى قتلهم، وانهزم أصحاب أبي حمزة، من لم يقتل، وأتوا المدينة، فلقيهم فقتلهم، وسار ابن عطية إلى المدينة فأقام شهراً.
وفيمن قتل مع أبي حمزة عبد العزيز القارئ المدني المعروف بيشكست النحوي، وكان من أهل المدينة، يكتم مذهب الخوارج، فلما دخل أبو حمزة المدينة انضم إليه، فملا قتل الخوارج قتل معهم.
ذكر قتل عبد الله بن يحيىولما أقام ابن عطية بالمدينة شهراً سار نحو اليمن واستخلف على المدينة الوليد ابن عروة بن محمد بن عطية، واستخلف على مكة رجلاً من أهل الشام، وقصد اليمن، وبلغ عبد الله بن يحيى طالب الحق مسيره وهو بصنعاء، فاقبل إليه بمن معه، فالتقى هو وابن عطية فاقتتلوا، فقتل ابن يحيى وحمل رأسه إلى مروان بالشام، ومضى ان عطية إلى صنعاء.
ذكر قتل ابن عطيةولما سار ابن عطية إلى صنعاء دخلها وأقام بها، فكتب إليه مروان يأمره أن يسرع إليه السير ليحج بالناس؛ فسار في اثني عشر رجلاً بعهد مروان على الحج ومعه أربعون ألفاً، وسار وخلف عسكره وخيله بصنعاء، ونزل الجرف، فأتاه ابنا جهانة المراديان في جمعٍ كثير وقالوا له ولأصحابه: أنتم لصوص! فأخرج ابن عطية عهده على الحج وقال: هذا عهد أمير المؤمنين بالحج، وأنا ابن عطية. قالوا: هذا باطل، فانتم لصوص. فقاتلهم ابن عطية قتالاً شديداً حتى قتل.
ذكر إيقاع قحطبة بأهل جرجانوفي هذه السنة قتل قحطبة بن شبيب من أهل جرجان ما يزيد على ثلاثين ألفاً.
وسبب ذلك أنه بلغه عنهم بعد قتل نباتة بن حنظلة أنهم يريدون الخروج عليه، فبما بلغه ذلك دخل إليهم واستقرر منهم فقتل منهم من ذكرنا، وسار نصر، وكان بقومس، حتى نزل خوار الري، وكاتب ابن هبيرة يستمده، وهو بواسط، مع ناس من وجوه أهل خراسان، وعظم الأمر عليه وقال له: غني قد كذبت أهل خراسان حتى ما أحد منهم يصدقني، فأمدني بعشرة آلاف قبل أن تمدني بمائة ألف لا تغني شيئاً. فحبس ابن هبيرة ليعلموه أمر الناس قبلنا ورسأللته المدد فاحتبس رسلي ولم يمدني بأحد، وإنما أنا بمنزلة من أخرج من بيته إلى حجرته، ثم أخرج من حجرته إلى داره، ثم من داره إلى فناء داره، فإن أدركه من يعينه فعسى أن يعود إلى داره وتبقى له، وإن أخرج إلى الطريق فلا دار له ولا فناء.
فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمد نصراً، وكتب إلى نصر يعلمه ذلك، وجهز ابن هبيرة جيشاً كثيفاً وجعل عليم ابن غطيف وسيرهم إلى نصر.
ذكر عدة حوادثغزا الصائفة هذه السنة الوليد بن هشام فنزل العمق وبنى حصن مرعش.
وفيها وقع الطاعون بالبصرة.

وحج بالناس هذه السنة محمد بن عبد الملك بن مروان، وكان هو أمير مكة والمدينة والطائف، وكان بالعراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان على قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عبادة بن منصور، وكان الأمير بخرايان نصر بن سيار، والأمر بخراسان على ما وصفت.
قلت: قد ذكر أبو جعفر ها هنا أن محمد بن عبد الملك حج بالناس، وكان أمير مكة والمدينة، وذكر فيما تقدم أن عروة بن الوليد كان على المدينة، وذكر في آخر سنة إحدى وثلاثين أن عروة أيضاً كان على المدينة ومكة والطائف وأنه حج بالناس تلك السنة.
في هذه النة مات أبو جعفر بن القعقاع القرئ مولى عبد الله بن عباس المخزومي بالمدينة، وقيل: سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بقديد. وفيها توفي أيوب بن أبي تميمة السختياني، وقيل: سنة تسع وعشرين، وعمره ثلاث وستون سنة. وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري، وقيل: سنة اثنتين ومائة، وقيل: سنة أربع وثلاثين ومائة، ويكنى ابا نجيح. وفيها توفي محمد بن مخرمة بن سليمان وله سبعون سنة. وأبو وجرة السعدي يزيد بن عيد. وأبو الحويرث. ويزيد بن أبي ملك الهمداني. ويزيد ابن رومان. وعكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وعبد العزيز ابن رفيع بضم الراء المهملة، وفتح الفاء، وبالعين المهملة وهو أبو عبيد الله المكي الفقيه، وكان قد قارب مائة سنة، وكان لا يثبت معه امرأة لكثرة نكاحه. وإسماعيل بن أبي حكيم كاتب عمر بن العزيز. ويزيد بن أبان، وهو المعروف بيزيد الرشك، وكان قساماً بالبصرة. وحفص بن سليمان بن المغيرة، وكان مولده سنة ثمانين، يروى قراءة عاصم عنه
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة

ذكر موت نصر بن سيار
وفي هذه السنة مات نصر بن سيار بساوة قرب الري.
وكان سبب مسيره إليها أن نصراً سار بعد قتل نباته إلى خوار الري، وأميرها أبو بكر العقيلي، ووجه قحطبة ابنه الحسن إلى نصر في المحرم من سنة إحدى وثلاثين ومائة، ثم وجه أبا كامل وأبا القاسم محرز بن إبراهيم وأبا العابس المروزي إلى الحسن ابنه، فلما كانوا قريباً من الحسن انحاز أبو كامل وترك عسكره وأتى نصراً فصار معه وأعلمه مكان الجند الذين فارقهم.
فوجه إليهم نصر جنداً، فهرب جند قحطبة منهم وخلفوا شيئاً من متاعهم، فأخذه أصحاب نصر، فبعث نصر إلى أبن هبيرة، فعرض له ابن غطيف بالري فأخذ الكتاب من رسول نصر المتاع وبعث به إلى ابن هبيرة، فغضب نصر وقال: أما واله لأدعن ابن هبيرة فليعرفن أنه ليس بشيء ولا ابنه.
وكان ابن غطيف في ثلاثة آلاف قد سيره ابن هبيرة إلى نصر، فأقام بالري فلم يأت نصراً، وسار نصر حتى نزل الري وعليها حبيب بن يزيد النهشلي، فلما قدمها نصر سار ابن غطيف منها إلى همذان، وفيها مالك ابن أدهم بن محرز الباهلي، فعدل ابن غطيف عنها إلى أصبهان إلى عامر ابن ضبارة؛ فلما قدم نصر الري أقام بها يومين ثم مرض، وكان يحمل حملاً، فلما بلغ ساوة مات، فلما مات بها دخل أصحابه همذان.
وكانت وفاته لمضي اثنتي عشرة ليلةً من شهر ربيع الأول، وكان عمره خمساً وثمانين سنة، وقيل: إن نصراً لما سار من خوار الري متوجها نحو الري لم يدخل الري ولكنه سلك المفازة التي بين الري وهمذان فمات بها.
ذكر دخول قحطبة الريولما مات نصر بن سيار بعث الحسن بن قحطبة خزيمة بن خازم إلى سمنان، وأقبل قحطبة من جرجان وقدم أمامه زياد بن زرارة القشيري، وكان قد ندم على ابتاع أبي مسلم، فانخذل عن قحطبة فأخذ طريق أصبهان يريد أن يأتي عامر بن ضبارة، فوجه قحطبة المسيب بن زهيرة الضبي، فلحقه من غدٍ بعد العصر فقاتله، فانهزم زياد وقتل عامة من معه، ورجع المسيب بن زهير إلى قحطبة.
ثم سار قحطبة إلى قومس، وبها ابنه الحسن، وقدم خزيمة بن خازم سمنان، فقدم قحطبة ابنه الحسن إلى الري.
وبلغ حبيب بن بديل النهشلي ومن معه من أهل الشام مير الحسن، فخرجوا عن الري، ودخل الحسن في صفر فأقام حتى قدم أبوه، ولما قدم قحطبة الري كتب إلى أبي مسلم يعلمه بذلك.

ولما استقر أمر بني العباس بالري هرب أكثر أهلها لميلهم إلى بني أمية لأنهم كانوا سفيانية، فأمر أبو مسلم بأخذ أملاكهم وأموالهم، ولما عادوا من الحج أقاموا بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ثم كتبوا إلى السفاح يتظلمون من أبي مسلم، فأمر برد أملاكهم فأعاد أبو مسلم الجواب يعرف حالهم وأنهم أشد الأعداء، فلم يسمع قوله وعزم على أبي مسلم برد أملاكهم، ففعل.
ولما دخل قحطبة الري وأقام بها أخذ أمره بالحزم والاحتياط والحفظ وضبظ الطرق، وكان لا يسلكها أحد إلا بجواز منه، فأقام بالري، وبلغه أن بدستبى قوماً من الخوارج وصعاليك تجمعوا بها، فوجه إليهم أبا عون في عسكر كثيف، فنازلهم ودعاهم إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى الرضاء من آل رسول الله،صلى الله عليه وسلم ، فلم يجيبوه، فقالتلهم قتالاً شديداً حتى ظفر بهم؛ فتحصن عدة منهم حتى آمنهم أبو عون، فخرجوا إليه، وأقام معه بعضهم وتفرق بعضهم.
وكتب أبو مسلم إلى أصبهبذ طبرستان يدعوه إلى الطاعة وأداء الخراج، فأجابه إلى ذلك؛ وكتب إلى المصمغان صاحب دنباوند بمثل ذلك، فأجابه: إنما أنت خارجي وإن أمرك سنقضي.
فغضب أبو مسلم وكتب إلى موسى بن كعب، وهو بالري، يأمره بالمسير إليه وقتاله إلى أن يذعن بالطاعة، فسار إليه وراسله، فامتنع من الطاعة وأداء الخراج، فأقام موسى ولم يتمكن من المصمغان لضيق بلاده، وكان المصمغان يرسل إليه كل يوم عدة كثيرة من الديلم يقاتله في عسكره، وأخذ عليه الكرق، ومنع الميرة، وكثرت في أصاب موسى الجراح والقتل.
فملا رأى أنه لا يبلغ غرضاً عاد إلى الري، ولم يزيل المصمغان ممتنعاً إلى أيام المنصور، فأغزاه جيشاً كثيفاً عليهم حماد بن عمرو، ففتح دنباوند على يده.
ولما ورد كتاب قحطبة على أبي مسلم بنزوله الري ارتحل أبو مسلم، فيما ذكر، عن مرو فنزل نيسابور.
وأما قحطبة فإنه سير ابنه الحسن بعد نزووله الري بثلاث ليالٍ إلى همذان، فلما توجه إليها سار عنها مالك بن أدهم ومن كان بها من أهل الشام وأهل خراسان إلى نهاوند فأقام بها، وفارقه ناس كثير، ودخل الحسن همذان وسار منها إلى نهاوند فنزل على أربعة فراسخ في المدينة وحصرهم.
ذكر قتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصبهانوكان سبب قتله أن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر لما هزمه ابن ضبارة مضى هارباً نحو خراسان وسلك إليها طريق كرمان وسار عامر في أثره. وبلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بن حنظلة بجرجان، فلما بلغه خبره كتب إلى ابن ضبارة وإلى ابنه داود بن يزيد بن عمر بن هيرة أن يسيرا إلى قحطبة، وكانا بكرمان، فسارا في خمسين ألفاً، فنزلوا باصبهان، وكان يقال لعسكر ابن ضبارة عسكر العساكر.
فبعث قحطبة إليهم جماعةً من القواد، وعليهم جمعاً مقاتل بن حكيم العكي، فساروا حتى نزلوا قم.
وبلغابن ضبارة نزلو الحسن بن قحطبة بنهاوند فسار ليعين من بها منأصحاب مروان، فأرسل العكي من قم إلى قحطبة يعلمه يعلمه بذلك، فأقبل قحطبة من الري حتى لحق مقاتل بن حكيم العكي، ثم سار فالتقوا هم وابن ضبارة ودواد بن يزيد بن هبيرة؛ وكان عسكر قحطبة عشرين ألفاً، فيهم خالد ابن برمك! وكان عسكر ابن ضبارة مائة ألف، وقيل خمسين ومائة ألف؛ فأم قحطبة بمصحف فنصب على رمح، ونادى: يا اهل الشام! إنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف! فشتموه وأفحشوه في القول.
فأرسل قحطبة إلى أصحابه يأمرهم بالحملة، فحمل عليهم العكي، وتهايج الناس، ولم يكن بينهم كثير قتالٍ، حتى انهزم أهل الشام وقتلوا قتلاً ذريعاً، وانهزم ابن ضبارة حتى دخل عسكره وتبعه قحطبة، فنزل ابن ضبارة ونادى: إلي إلي! فانهزم الناس عنه وانهزم داود بن هبيرة، فسأل عن ابن ضبارة فقيل: انهزم. فقال: لعن الله شرنا منقلباً! وقاتل حتى قتل.
وأصابوا عسكره وأخذوا منه ما لا يعلم قدره من السلاح والمتاع والرقيق والخيل وما رئي عسكر قط كان فيه من أصناف الأشياء ما في هذا العسكر كأنه مدينة. وكان فيه من البرابط والطنابير والمزامير والخمر ما لا يحصى.
وأرسل قحطبة بالظفر إلى ابنه الحسن وهو بنهاوند، وكانت الوقعة بنواحي أصبهان في رجب.
ذكر محاربة قحطبة أهل نهاوند ودخولها

ولما قتل ابن ضبارة كتب قحطبة بذلك إلى ابنه الحسن وهو يحاصر نهاوند، فلما أتاه الكتاب كبر هو وجنده ونادوا بقتله، فقال عاصم بن عمير السعدي: ما نادى هؤلاء بقتله إلا وهو حق! فاخرجوا إلى الحسن بن قحطبة فإنكم لا تقومون له فتذهبون حيث شئتم قبل أن يأتيه أبوه أ مدد من عنده.
فقالت الرجالة: تخرجون وأنتم فرسان على خيول وتتركونا؟ وقال له مالك بن أدهم الباهلي: لا أبرح حتى يقدم علي قحطبة.
وأقام قحطبة على أصبهان عشرين يوماً، ثم سار فقدم على ابنه بنهاوند فحصرهم ثلاثة أشهر: شعبان ورمضان وشوال، ووضع عليهم المجانيق، وأرسل إلى من بنهاوند من أهل خراسان يدعوهم إليه وأعطاهم الأمان، فأبو ذلك.
ثم أرسل إلى أهل الشام بمثل ذلك فأجابوه وقبلوا أمانه وبعثوا إليه يسألونه أن يشغل عنهم أهل المدينة بالقتال ليفتحوا له الباب الذي يليهم، ففعل ذ1لك قحطبة وقاتلهم، ففتح أهل الشام الباب، فخرجوا، فلما رأى أهر خراسان ذلك سألوهم عن خروجهم، فقالوا: أخذنا الأمان لنا ولكم. فخرج رؤساء أهل خراسان، فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى قائد من قواده ثم أمر فنودي: من كان بيده أسير ممن خرج إلينا فليضرب عنقه وييأتنا برأسه! ففعلوا ذلك؛ فلم يبق أحد ممن كان قد هرب من أبي مسلم إلا قتل إلا أهل الشام، فإنه وفي لهم وخلى سبيلهم وأخذ عليهم أن لا يملئوا عليه عدواً، ولم يقتل منهم أحداً وكان ممن قتل من أهل خراسان: أبو كامل، وحاتم بن لحارث بن سريج، وابن نصر بن سيار، وعاصم بن عمير، وعلي بن عقيل، وبيهس.
ولما حاصر قحطبة نهاوند أرسل ابنه الحسن إلى مرج القلعة، فقدم الحسن خازم بن خزيمة إلى حلوان وعليها عبد الله بن العلاء الكندي، فهرب من حوان وخلاها.
ذكر فتح شهرزورثم إن قحطبة وجه أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراساني ومالك بن طرافة الخراساني في أربعة آلاف إلى شهرزور وبها عثمان بن سفيان على مقدمة عبد الله بن مروان بن محمد، فنزلوا على فرسخين من شهرزور في الغشرين من ذي الحجة وقاتلوا عثمان بعد يوم وليلة من نزولهم، فانهزم أصحاب عثمان وقتل، وأقام أبو عون في بلاد الموصل.
وقيل: إن عثمان لم يقتل ولكنه هرب إلى عبد الله بن مروان، وغنم أبو عون عسكره وقتل من أصحابه مقتلةً عظيمة؛ وسير قحطبة العساكر إلى أبي عون فاجتمع معه ثلاثون ألفاً.
ولما بلغ خبر أبي عون مروان بن محمد، وهو بحران، سار منها ومعه جنود أهل الشام والجزيرة والموصل، وحشر معه بنو أمية أبناءهم، وأقبل نحو أبي عون حتى نزل الزاب الأكبر. وأقام أبو عون بشعرزور بقية ذي الحجة والمحرم من سننة اثنتين وثلاثين ومائة، وفرض بها بخمسة آلاف.
ذكر مسير قحطبة إلى ابن هبيرة بالعراقولما قدم على يزيد بن عمر بن هبيرة امير العراق بانه داود منهزماً من حلوان خرج يزيد نحو قحطبة في عدد كثير لا يحصى ومعه حوثرة بن سهيل الباهلي، وكان مروان أمد به ابن هبيرة، وسار ابن هبيرة حتى نزل بحلولاء الوقيعة واحتفر الخندق الذي كانت العجم احتفرته أيام وقعة جلولاء، وأقام به وارتحل ابن هبيرة راحعاً إلى الدسكرة، وأقبل قحطبة حتى نزل قرماسين، ثم سار إلى حلوان،ثم إلى خانقين، وأتى عكبراء وعبر دجلة ومضى حتى نزل دمما دون الأنبار، وارتحل ابن هبيرة بمن معه منصرفاً مبادراً إلى الكوفة لقحطبة، وقدم حوثرة في خمسة عشر ألفاً إلى الكوفة.
وقيل: إن حوثرة لم يفارق ابن هبيرة.
وأرسل قحطبة طائفة من أصحابه إلى الأنبار وغيرها وأمرهم بإحدار ما فيها من السفن إلى دمما ليعبورا الفرات، فحملوا إليه كل سفينة هناك، فقطع قحطبة الفرات من دمما حتى صار في غربيه، ثم سا يريد الكوفة حتى أنتهى إلى الموضع الذي فيه ابن هبيرة، وخرجت السنة.
ذكر عدة حوادثوحج الناس الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعدي، وهو ابن أخي عبد الملك بن محمد الذي قتل أبا حمزة، وكان هو على الحجاز. ولما بلغ الوليد قتل عمه عبد الملك مضى إلى الذين قتلوه فقتل منهم مقتلةً عظيمةً وبقر بطون نسائهم وقتل الصبيان وحرق من قدر عليه منهم.
وكان على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج ابن عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور الناجي.

وفيها توفي منصور بن المعمر السلمي أبو عتاب الكوفي. وفيها قتل أبو مسلم الخراساني جبلة بن أبي داود العتكي مولاهم أخا عبد العزيز بن دواد، ويكنى أبا مروان.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة

ذكر هلاك قحطبة وهزيمة ابن هبيرة
وفي هذه السنة هلك قحطبة بن شبيب.
وكان سبب ذلك أن قحطبة لما عبر الفرات وصار في غربيه، وذلك في المحرم لثمان مضين منه، كان ابن هبيرة قد عسكر على فم الفرات من أرض الفلوجة العليا على رأس ثلاثة وعشرين فرسخاً من الكوفة، وقد اجتمع إليه فل ابن ضبارة، فأمده مروان بحوثرة الباهلي، فقال حوثرة وغيره لابن هبيرة: إن قحطبة قد مضى يريد الكوفة فاقصد أنت خراسان ودعه ومروان فإنك تكسره وبالحري أن يتبعك، قال: ما كان ليتبعني ويدع الكوفة، ولكن الرأي أن أبادره إلى الكوفة؛ فعبر دجلة من المدائن يرير الكوفة، فاستعمل على مقدمته حوثرة وأمره بالمسير إلى الكوفة، والفريقان يسيران على جانبي الفرات. وقال قحطبة: إن الإمام أخبرني أن لي في هذا المكان وقعة يكون النصر فيها لنا.
ونزل قحطبة الجبارية، وقد دلوه على مخاضة، فعبر منها وقال حوثرة ومحمد بن نباتة، فانهزم أهل الشام وفقدوا قحطبة، فقال أصحابه: من كان عنده عهد من قحطبة فليخبرنا به. فقال مقاتل بن مالك العتكي: سمعت قحطبة يقول: إن حدث بي حدث فالحسن ابني أمير الناس.
فبايع الناس حميد بن قحطة لأخيه الحسن، وكان قد سيره أبوه في سرية فأرسلوا إليه فأحضروه وسلموا إليه الأمر.
ولما فقدوا قحطبة بحثوا عنه فوجدوه في جدول وحرب بن سالم بن أحوز قتيلين، فظنوا أنكل واحد منهما قتل صاحبه.
وقيل: إن معن بن زائدة ضرب قحطبة لما عبر الفرات على حبل عاتقة فسقط في الماء فأخرجوه، فقال: شدوا يدي إذ أنا مت وألقوني في الماء لئلا يعلم الناس بقتلي.
وقاتل أهل خراسان فانهزم محمد بن نباتة وأهل الشام، ومات قحطبة، وقال قبل موته: إذا قدمتم الكوفة فوزير آل محمد أبو سلمة الخلال فسلموا هذا المر إليه.
وقيل: بل غرق قحطبة.
ولما انهزم ابن نباتة وحوثرة لحقوا بابن هبيرة، فانهزم ابن هبيرة بهزيمتهم، ولحقوا بواسط وتركوا عسكرهم وما فيه من الأموال والسلاح وغير ذلك. ولما قام الحسن بن قحطبة بالأمر أمر بإحصاء ما في العسكر.
وقيل: إن حوثرة كان بالكوفة فبلغه هزيمة ابن هيرة فسار إليه فيمن معه.
ذكر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسوداً
وفي هذه السنة خرج محمد بن خالد عبد الله القسري بالكوفة وسود قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة وأخرج عنها عامل ابن هبيرة ثم دخلها الحسن.
وكان من خبره أن محمداً خرج بالكوفة ليلة عاشوراء مسوداً وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثي، وعلى شرطة عبد الرحمن بن بشير العجلي، وسا محمد إلى القصر، فارتحل زياد ومن معه من اهل الشام، ودخل محمد القصر، وسمع حوثرة الخبر فسار نحو الكوفة، فتفرق عن محمد عامة من معه لما بلغهم الخبر وبقي في نفر يسير من أهل الشام ومن اليمانيين من كان هرب من مروان، وكان معه مواليه وارسل أبو سلمة الخلال، ولم يظهر بعد، إلى محمد يأمره بالخروج من القصر تخوفاً عليه من حوثرة ومن معه، ولم يبلغ أحداً من الفريقين هلاك قحطبة، فأبى محمد أن يخرج، وبلغ حوثرة تفرق أصحاب محمد عنه فتهيأ للمسير نحوه.
فبينا محمد في القصر إذ أتاه بعض طلائعه فقال له: قد جاءت خيل من أهل الشام، فوجه إليهم عدة من مواليه، فناداهم الشاميون: نحن بجيلة وفينا مليح ابن خالد البجلي جئنا لندخل في طاعة الأمير، فدخلوا؛ ثم جاءت خيل أعظم من تلك فيها جهم بن الأصفح الكناني؛ ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل؛ فلما رأى تلك حوثرة من صنع أصحابه ارتحل نحو واسط. وكتب محمد بن خالد من ليلته إلى قحطبة، وهو لا يعلم بهلاكه، يعلم أنه قد ظفر بالكوفة.
فقدم القاصد على الحسن بن قحطبة، فلما دفع إليه كتاب محمد بن خالد قرأه على الناس ثم ارتحل نحو الكوفة يوم الجمعة ويم السبت والأحد وصبحه الحسن يوم الأثنين.

وقد قيل: إن الحسن بن قحطبة أقبل نحو الكوفة بعد هزيمة ابن هبيرة وعليها عبد الرحمن بن بشير العجلي فهرب عنها، فسود محمد بن خالد وخرج في أحد عشر رجلاً وبايع الناس، ودخلها الحسن من الغد، فلما دخلها الجسن هو وأصحابه أتوا أبا سلمة، وهو في بني سلمة، فاستخرجوه، فعسكر بالنخيلة يومين قثم ارتحل إلى حمام أعين، ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هيرة، وبايع الناس أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع، وكان يقال له وزير آل محمد، واستعمل محمد بن خالد بن عبد الله على الكوفة، وكان يقال له الأمير، حتى ظهرأبو العباس السفاح.
ووجه حميد بن قحطبة إلى المدائن في قواد، وبعث المسيب بن زهير وخالدب بن برمك إلى دير قنى، وبعث المهلبي وشراحيل إلى عين التمر، وبسام بن إبراهيم بن بسام إلى الأهواز، وبها عبد الواحد بن عمر بن هبيرة. فلما أتى بسام الأهواز خرج عنها عبد الواحد إلى البصرة بعد أن قاتله وهزمه بسام، وبعث إلى البصرة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب عاملاً عليها، فقدمها وكان عليها سلم بن قتيبة الباهلي عاملاً لابن هبيرة، وقد لحق به عبد الواحد بن هبيرة، كما تقدم ذكره.
فأرسل سفيان بن معاوية إلى سلم يأمره بالتحول من دار الإمارة ويعلمه ما أتاه من رأي أبي سلمة، وامتنع وجمع معه قيساً ومضر ومن بالبصرة من بني أمية، وجمع سفيان جميع اليمانية وحلفاءهم من ربيعة وغيرهم، وأتاهم قائد من قواد ابن هبيرة كل بعثه مدداً لسلم في ألفي رجل من كلب، فأتى سلم سوق الإبل ووجه الخيول في سكك البصة ونادى: من جاء برأس فله خمسمائة، ومن جاء بأسير فله ألف درهم.
ومضى معاوية بن سفيان بن معاوية في ربيعة وخاصته، فلقيه خيل تميم، فقل معاوية وأتي برأسه إلى سلم، فأعطى قاتله عشرة آلاف، وانكسر سفيان بقتل ابنه فانهزم، وقدم على سلم بعد ذلك أربعة آلاف من عند مروان فأرادوا نهب من بقي من الأزد، فقالتلهم قتالاً شيداً، وكثرت القتلى بينهم، وانهزمت الأزد، ونهبت دورهم، وسبيت نساؤهم، وهدموا البيوت ثلاثة أيام، ولم يزل سلم بالبصرة حتى أتاه قتل ابن هبيرة، فشخص عنها، واجتمع من بالبصرة من ولد الحارث بن عبيد المطلب إلى محمد بن جعفر فولوه أمرهم، فوليهم أياماً يسيرة حتى قدم البصرة أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم. فلما قدم أبو العابس ولا ها سفيان بن معاوية.
وكان حرب سفيان وسلم بالبصرة في صفر.
وفيها عزل مروان عن المدينة الوليد بن عروة واستعمل أخاه يوسف بن عروة في شهر ربيع الأول.
انقضت الدولة الأموية.
ذكر ابتداء الدولة العباسية

وبيعة أبي العباس
في هذه السنة بويع أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في شهر ربيع الأول، وقيل: في ربيع الآخر لثلاث عشرة مضت منه، وقيل في جمادى الأولى.
وكان بدء ذلك وأوله أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، أعلم العباس بن عبد المطلب أن الخلافة تؤول إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك ويتحدثون به بينهم.
ثم إن إبا هاشم بن الحنفية خرج إلى الشام فلقي محمد بن علي بن عبد الله ابن عابس فقال له: يا ابن عم إن عندي علماً أنبذه إليك فلا تطلعن عليه أحداً، إن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس فيكم. قال: قد علمت فلا يسمعنه منكم أحد.
وقد تقدم في خبر ابن الأشعث قول خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك ابن مروان: أما إذ كان الفتق من سجستان فليس عليك منه بأس، إنما كنا نتخوف لو كان من خراسان.
وقال محمد بن علي بن عبد الله: لنا ثلاثة أوقات: موت الطاغية يزيد ابن معاوية، ورأس المائة، وفتق إفريقية، فعند ذلك يدعو لنا دعاة ثم تقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيلهم المغرب ويستخرجوا ما كنز الجبارون.
فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية ونقضت البربر بعث محمد بن علي إلى خراسان داعياً وأمره أن يدعوه إلى ارضا ولا يسمي أحداً؛ وقد ذكرنا فيما تقدم خبر الدعاة وخبر أبي مسلم وقبض مروان على إبراهيم بن محمد، وكان مروان لما أرسل المقبوض عليه وصف للرسول صفة أبي العابس، لأنه كان يجد في الكتب: إن من هذه صفته يقتلهم وسلبهم ملكهم! وقالله ليأتيه بإبراهيم بن محمد.

فقدم الرسول فأخذ أبا العباس بالصفة، فلما ظهر إبراهيم وأمن قيل للرسول: إنما أمرت بإبراهيم وهذا عبد الله. فترك أبا العباس وأخذ إبراهيم فانطلق به إلى مروان، فلما رآه قال: ليس هذه الصفة التي وصفت لك. فقالوا: قد رأينا الصفة التي وصفت وإنما سميت إبراهيم فهذا إبراهيم. فأمر به فحبس وأعاد الرسل في طلب أبي العابس فلم يروه.
وكان سبب مسيره من الحميمة أن إبراهيم لما أخذه الرسول نعى نفسه إلى أهل بيته وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد وبالسمع له وبالطاعة، وأوصى إلى أبي العابس وجعله الخليفة بعده فسار ابو العابس ومن معه من أهل بيته، منهم: أخوه أبو جعفر المنصور، وعبد الوهاب ومحمد ابنا أخيه إبراهيم، وأعمامه داود وعيسى وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو علي بن عبد الله بن عباس، وابن عمه داود، وابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي، ويحيى بن جعفر بن تمام ابن عباس، حتى قدموا الكوفة في صفر، موسى بن محمد بن علي، ويحيى بن جعفر بن تمام ابن عباس، حتى قدموا الكوفة في صفر، وشيعتهم من أهل خراسان، بظاهر الكوفة بحمام أعين، فأنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني داود وكتم أمرهم نحواً من أربعين ليلة من جميع القواد والشيعة.
وأراد فيما ذكر أن يحول الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت إبراهيم الإمام، فقال له أبو الجهم: ما فعل الإمام؟ قال: لم يقدم بعد فألح عليه. فقال: ليس هذا وقت خروجه لأن واسطاً لم تفتح بعد.
وكان أبو سلمة إذ سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا. فلم يزل ذلك من امره حتى دخل أو حميد محمد بن إبراهيم الحميري من حمام أعين يريد الكناسة، فلقي خادماً لإبراهيم الإمام ياقل له سابق الخوارزمي، فعرفه، فقال له: ما فعل إبراهيم الإمام؟ فأخبره أن مروان قتله، وأن إبرايم أوصى إلى أخيه أيب العباس واستخلفه من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم، فقال له سابق: الموعد بيني وبينك غداً في هذا الموضع؛ وكره سابق أن يدله عليهم إلا بإذنهم.
فرجع أبو حميد إلى أبي الجهم فأخبره وهو في عسكر أبي سلمة، فأمره أن يلطف للقائهم، فرجع أبو حميد من الغد إلى الموضع الذي واعد فيه سابقاً فلقيه، فانطلق به إلى أبي العابس وأهل بيته، فملا دخل عليهم سأل أبو حميد من الخليفة منهم. فقال داود بن علي: هذا إمامكم وخليفتكم. وأشار إلى أبي العباس، فسلم عليه بالخلافة وقبل يديه ورجليه وقال: مرنا بأمرك وعزاة بإبراهيم الإمام.
ثم رجع وصحبه إبارهيم بن سلمة، رجل كان يخدم بني العباس، إلى أبي الجهم فأخبره عن منزلهم وأن الإمام أرسل إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار يعطيها الجمال كراء الجمال التي حملتهم، فلم يبعث بها إليهم، فمشى أبو الجهم وأبو حميد وإبراهيم بن سلمة إلى موسى بن كعبوقصوا عليه القصة، وبعثوا إلى الإمام؛ فمضى موسى ابن كعب، وأبو الجهم، وعبد الحميد ابن ربعي، وسلمة بن محمد، وإبارهيم بن سلمة، وعبد الله الطائي، وإسحاق ابن إبارهيم، وشرا حيل، وعبد الله بن بسام، وأبو حميد محمد بن إبراهيم، وسليمان بن الأسود، ومحمد بن الحصين إلى الإمام أبي العباس.
وبلغ ذلك أبا سلمة فسأل عنهم، فقيل: غنهم دخلوا الكوفة في حاجة لهم؛ وأتى القوم أبا العابس، فقال: وأيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟ فقالوا: هذا، فسلموا عليه بالخلافة وعزوه في إبراهيم، ورجع موسى بن كعب وأبو الجهم، وأمر أبو الجهم الباقين فتخلفوا عند الإمام، فأرسل أبو سلمة إلى أبي الجهم: أين كنت؟ قال: ركبت إلى إمامي، فركب أو سلمة إلى الإمام، فأرسل أبو الجهم إلى أبي حميد: إن أبا سلمة قد أتاكم فلا يدخلن على الإمام إلا وحده. فلما انتهى إليهم أبو سلمة منعوه أن يدخل معه أحد، فدخل وحده فسلم بالخلافة على أبي العباس. فقال له أبو حميد: على رغم أنفك يا ماص بظر أمه! فقال له أبو العباس: مه! وأمر أبا سلمة بالعود إلى معسكره، فعاد.

وأصبح الناس يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول فلبسوا السلاح واصطفوا لخروج أبي العباس وأتوا بالدواب، فكرب برذوناً أبلق، وركب من معه من أهل بيته فدخلوا دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد فخطب وصلى بالناس، ثم صعد المنبر حين بويع له بالخلافة فقام في أعلاه، وصعد عمه داود بن علي فقام دونه، فتكلم أبو العباس فقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه وكرمه وشرفه وعظمه واختاره لنا فأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوامبه والذابين عنه والناصرين له، فألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وقرابته، وأنشأنا من آبائنا، وأنبتنا من شجرته، واستقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزاً عليه ما عنتنا حريصاً علنا بالمؤمنين رؤوفا رحيماً، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى عليهم، تبارك وتعالى فيما أنزل من محكم كتابه: " إما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " الأحزاب:23؛ وقال: " وأنذر عشيرتك الأقربين " الشعراء:214؛ وقال: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله ولرسول ولذي القربى " الحشر:7؛ وقال: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى " الأنفال:41؛ فأعلمه جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمةً لنا وفضلاً علينا، والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم! ولم أيها الناس وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتها، وبصرهم بعد جهالتهم، وأنفذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، ودحض الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً، ورفع بنا الخسيسة، وتمم بنا النقيصة، وجمع الفرقة حتى عاد الناس بعد العداوة أهل التعاطف والبر والمواساة في دنياهم، وإخواناً على سرر متقالبلين في آخرتهم، فتح الله ذلك منةً ومنحةً لمحمد، صلى الله عليه وسلم .فلما قبضه الله إليه قام بالأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم فحووا مواريث الأمم فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها وأعطوها أهلها وخرجوا خماصاً منها. ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فانبذوها وتداولوها فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها بما ملأ الله لهم حيناً حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا وتدارك بنا أمتنا وولي نصرنا والقايم بأمرنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا.
وإني لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.
يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المنيح.
وكان موعوكاً فاشتد عليه الوعك. فجلس على المنبر وقام عمه داود على مراقي المنبر فقال: الحمد الله، شكراً للذي أهلك عدونا وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محم، صلى الله عليه وسلم .
أيها الناس الآن أقشعت حنادس الدينا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من طلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم.

أيها الناس! إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجيناً ولا عقياناً، ولا نحفر نهراً، ولا نبني قصراً؛ وإنما أخرجتنا الأنفة من ابتزاهم حقنا، والغضب لبني عمنا، وما كرهنا من أموركم، فلقد كانت أموركم ترمضنا ونحن على فرشنا، ويشتد علنا سوء سيرة بني أمية فيكم واستنزالهم لكم واستئثارهم بفيئكم وصداقتكم ومغانمكم عليكم، لكم ذمة الله، تبارك وتعالى، وذمة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وذمة العابس، رحمه الله، علينا أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تباً لبني حرب بن أمية وبني مروان! آثروا في مدتهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا بالجرائم، وجاروا باستدراج الله وأمناً لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتاً وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومزقوا كل ممزق، فبعداً لقوم الظالمين، وأدلنا الله من مروان، وقد غرة بالله الغرور، أرسل لعدو الله في عنانه حتى عثر في فضل خاصمه، أظن عدو الله أن لن نقدر عليه فنادى حزبه وجمع مكايده ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراء وعن يمينه وشماله من مكر الله وبأسه ونقمته ما امات باطله، وحا ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شر فنا وعزنا ورد إلينا حقنا وإرثنا.
أيها الناس! إن أمير المؤمنين، نصره الله نصراً عزيزاً، إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة لنه كاره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك، فاعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد بدلكم الله بمروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان، المتبع السفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين، الشاب المتكهل المتمهل المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى ومناهج التقوى.
فعج الناس له بالدعاء، ثم قال.
يا أهل الكوفة! إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا حتى أباح الله شيعنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأبلج بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأراكم الله بهم ما لستم تنتظرون، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم وبيض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشام، ونقل إليكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن أنفسكم، فإن الأمر أمركم، وإن لكل أهل بين مصراً وإنكم مصرنا، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد؛ وأشار بيده إلى أبي العابس السفاح.
واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم، عليه السلام، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا.
ثم نزل أبو العباس وداود بن علي أمامه حتى دخل القصر وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور يأخذ البيعة على الناس في المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم حتى صلى بهم العصر ثم المغرب وجنهم الليل فدخل.
وقيل: إن داود بن علي لما تكلم قال في آخر كلامه: أيها الناس إن والله ما كان بينكم وبين رسول الله،صلى الله عليه وسلم ، خليفة إلا علي ابن أبي طالب وأمير المؤمنين الذي خلفي.
ثم نزل. وخرج أبو العباس يعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة ونزل معه في حجرته بينهما ستر وحاجب السفاح يومئذ عبد الله بن بسام. واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بن علي، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون بن يزيد بشهرزور، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط، وبعث يحيى ابن جعفر بن تمام بن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف.
وأقام السفاح بالعسكر أشهراً ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة، وكان تنكر لأبي سلمة قبل تحوله حتى عرف ذلك.

وقد قيل: إن داود بن علي وابنه موسى لم يكونا بالشام عند مسير بنب العباس إلى العراق، إنما كانا بالعاق أو بغيره فخرجا يريدان الشام، فلقيهما أبو العابس قصتهم وأنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها ويظهروا أمرهم. فقال له داود: يا أبا العباس تأتي الكوفة وشخ بني أمية مروان بن محمد بحران مطل على العراق في أهل الشام والجزيرة، وشيخ العرب يزيد بن هيرة بالعراق في جند العرب! وقال: يا عمي من أحب الحياةذل؛ ثم تمثل بقول الأعشى:
فما ميتة إن متها غير عاجزٍ ... بعارٍ إذا ما غالت النفس غولها
فالتفت داود إلى ابنة موسى فقال: صدق والله ابن عمك، فارجع بنا معه نعش أعزاء أو نمت كرماء. فرجعوا جميعاً.
فكان عيسى بن موسى يقول إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة: إن نفراً أربعة عشر رجلاً خرجوا من دارهم وأهلهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة همتهم، كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم.
ذكر هزيمة مروان بالزابقد ذكرنا أن قحطبة أرسل أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور، وأنه قتل عثمان بن سفيان وأقام بناحية الموصل، وأن مروان ابن محمد سار إليه من حران حتى بلغ الزاب وحفر خندقاً وكان في عشرين ومائة ألف، وسار أبو عون إلى الزاب، فوجه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بن موسى، والمنهال بن فتان، وإسحاق بن طلحة، كل واحد في ثلاثة آلاف.
فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد في ألفين، وعبد الله الطائي في ألف وخمسائة، وعبد الحيمد بن ربعي الطائي في ألفين، ووداس بن نضلة في خمسائة إلى أبي عون، ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ فقال: عبد الله بن علي: أنا. فسيره إلى أبي عون، فقدم عليه، فتحول أبو عون عن سرادقة وخلاه له وما فيه.
فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنممة اثنتين ومائة سأل عبد الله بن علي عن مخاضة فدل عليها بالزاب، فامر عيينه بن موسى، فعبر في خمسة آلاف، فانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتى أمسوا، ورجع إلى عبد الله بن علي.
وأصبح مروان فعقد الجسر وعبر عليه، فنهاه وزراؤه عن ذلك، فلم يقبل وسير ابنه عبد الله، فنزل أسفل من عسكر علد الله بن علي، فبعث عبد الله ابن علي المخارق في أربعة آلاف نحو عبد الله بن مروان، فسرح إليه ابن موران الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، فالتقيا، فانهزم أصحاب المخارق وثبت هو فأسر هو وجماعة وسيرهم إلى مروان مع رؤوس القتلى، فقال مروان: أدخلوا علي رجلاً من الأسرى. فاتوه بالمخارق، وكان نحيفاً. فقال: أنت المخارق؟ قال: لا، أنا عبد من عبيد أهل العسكر. قال: فتعرف المخارق؟ قال: نعم. قال: فنظر هل تراه في هذه الرؤوس. فنظر إلى رأس منها فقال: هو هذا. فخلى سبيله، فقال رجل مع مروان حين نظر المخارق وهو لا يعرفه: لعن الله أبا مسلم حين جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بهم.
وقيل: إن المخارق لما نظر إلى الرؤوس قال: ما أرى رأسه فيها ولا أراه إلا قد ذهب. فخلى سبيله.
ولما بلغت الهزيمة عبد الله بن علي أرسل إلى طريق المنهزمين من يمنعهم من دخول العسكر لئلا ينكر قومهم،وأشار عليه أبو عون أن يبادر مروان بالقتال قبل أن يظهر أمر المخارق فيفت ذلك في أعضاد الناس، فنادى فيهم بلبس السلاح والخروج إلى الحرب، فركبوا، واستخلف على عسكره محمد ابن صول وسار نحو مروان، وجعل على ميمنته أبا عون، وعلى ميسرته الوليد ابن معاوية، وكان عسكره عشرين ألفاً، وقيل: اثني عشر ألفاً وقيل غير ذلك.
فلما التقى العسكران قال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: عن زالت اليوم الشمس ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى المسيح، عليه السلام، وإن قاتلونا فأقبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأرسل مروان إلى عبد الله يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله. فقال مروان لأهل الشام: قفوا لا نبدأهم بالقتال، وجعل ينظر إلى الشمس، فحمل الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، وهو ختن مروان بن محمد على ابنته، فغضب وشتمه، وقاتل ابن معاوية أبا عون، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقال لموسى ابن كعب: يا عبد الله مر الناس فلينزلوا. فنودي: الأرض فنزل الناس وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب فقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخرون كأنهم يدفعون، ومشى عبد الله بن علي قدماً وهو يقول: يار رب حتى متى نقتل فيك؟ ونادى: يا أهل خراسان! يال لثارات إبراهيم! يا محمد! يا منصور! واشتد بينهم القتال. فقال مروان لقضاعة: انزلوا. فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا. فأرسل إلى السكاسك أن احملوا. فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا. فأرسل إلى السكون أن احملوا، فالوا: قل لغطفان فليحملوا. فقال لصاحب شرطته: انزل. فقال: والله ما كنت لأحعل نفسي غرضاً. قال: أما والله لأسؤنك! فقال: وددت والله أنك قدرت على ذلك.
وكان مروان ذلك اليوم لا يدبر شيئاً إلا كان فيه الخلل، فأمر بالأموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا فهذه الأموال لكم. فجعل ناس من الناس يصيبون من ذلك، فقيل له: إن الناس قد مالوا على هذا المال ولا نأمنهم أن يذهبوا به. فأرسل إلى ابنه عبد الله: أن سر في أصحابك إلى قوم عسكرك فاقتل من أخذ من المال وامنعهم.
فكان ممن غرق يومئذ: إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن المخلوع، فاستخرجوه في الغرقى، فقرأ عبد الله: " وإذا فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون " وقيل بل قتله عبد الله بن علي بالشام.
وقتل في هذه الوقعة يعيد بن هشام بن عبد الملك. وقيل: بل قتله عبد الله بالشام.
وأقام عبد الله بن علي غي عسكره سبعة أيام، فقال رجل من ولد سعيد اب العاص يعير مروان:
لج الفرار بمروان فقلت له: ... عاد الظلوم ظليماً همه الهرب
أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ... عنك الهوينا فلا دين ولا حسب
فراشة الحلم فرعون العقاب وإن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب
وكتب يومئذ عبد الله بن علي إلى السفاح بالفتح، وحوى عسكر مروان بما فيه فوجد سلاحاً كثيراً وأموالاً، ولم يجد فيه امرأة إلا جارية كانت لعبد الله بن مروان.
فلما أتى الكتاب السفاح صلى ركعتين وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة دينار، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين.
وكانت هزيمة مروان بالزاب يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة؛ وكان فيمن قتل معه يحيى بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، وهو أخو عبد الرحمن صاحب الأندلس، فلما تقدم إلى القتال رأى عبد الله ابن علي فتى عليه أبهة الشرف ياقتل مستقتلاً فناداه: يا فتى لك المان ولو كنت مروان بن محمد! فقال: إن لم أكنه فلست بدونه. قال: فلك الأمان ولو كنت من كنت. فأطرق ثم قال:
أذل الحياة وكره الممات ... وكلا أراه طعاماً وبيلا
فإن لم يكن غير إحداهما ... فسير إلى الموت سيراً جميلا
ثم قاتل حتى قتل؛ فإذا هو مسلمة بن عبد الملك.
ذكر قتل إبراهيم بن محمد بن علي الإمامقد ذكرنا سبب حبسه. واختلف الناس في موته، فقيل: إن مروان حبسه بحران، وحبس سعيد بن هشام بن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، والعباس بن الوليد بن عبد الملكل، وأبا محمد السفياني، هلك منهم في وباء وقع بحران العابس بن الوليد، وإبارهيم بن محمد ابن علي الإمام، وعبد الله بن عمر.
فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب بجمعة خرج سعيد بن هشام وابن عمه ومن معه من المحبوسين فقتلوا صاحب السجن وخرجوا، فقتلهم أهل حران ومن فيها من الغوغاء، وكان فيمن قتله أهل حران شراحيل بن مسلمة ابن عبد الملك، وعبد الملك بن بشر التغلبي، وبطريق أرمينية الرابعة واسمه كوشان، وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس فلم يخرج فيمن خرج ومعه غيره لم يستحلوا الخروج من الحبس، فقدم مروان منهزماً من الزاب فجاء فخلى عنهم.
وقيل: إن مروان هدم على إبراهيم بيتاً فقتله.

وقد قيل: إن شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك كان محبوساً مع إبارهيم فكانا يتزاوران، فصار بينهما مودة، فأتى رسول من شراحيل إلى إبراهيم يوماً بلبن فقال: يقول لك أخوك إني شربت من هذا اللبن فاستطبته فأحببت أن تشرب منه؛ فشرب منه فتكسر جسده من ساعته، وكان يوماً يزور في شراحيل فأبطأ عليه فأرسل إليه شراحيل: إنك قد أبطأت فما حبسك؟ فأعاد إبراهيم: إني لما شربت اللبن الذي أرسلت به قد أسهلني. فاتاه شراحيل فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما شربت اليوم لبناً ولا أرسلت به إليك! فإنا لله وإنا إليه راجعون! احتيل والله عليك. فبات أبراهيم ليلته وأصبح ميتاً؛ فقال إبراهيم ابن هرثمة يرثيه يرثيه:
قد كنت أحسبني جلداً فضعضعني ... قبر بحران فيه عصمة الدين
فيه الإمام وخير الناس كلهم ... بين الصفائح والأحجار والطين
فيه الإمام الذي عمت مصيبته ... وعيلت كل ذي مالٍ ومسكين
فلا عفا الله عن مروان مظلمةً ... لكن عفا الله عمن قال آمين
وكان إبراهيم خيرأ فاضلاً كريماً، قدم المدينة مرةً ففرق في أهلها مالاً جليلاً، وبعث إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بخمسمائة دينار، وبعث إلى جعفر بن محمد بألف دينار، فبعث إلى جماعة العلويين بمال كثير، فأتاه الحسين بن زيد بن علي وهو صغير فأجلسه في حجرة قال: من أنت؟ قال: أنا الحسين بن زيد بن علي. فبكى حتى بل رداءه وأمر وكيله بإحضار ما بقي من المال، فأحضر أربعمائة دينار، فسلمها إليه وقال: لو كان عندنا شيء آخر لسلمته إليك، وسير معه بعض مواليه إلى أمه رابطة بنت عبد الملك بن محمد بن الحنفية يعتذر إليها.
وكان مولده سنة اثنتين وثمانين، وأمه أم ولد بربرية اسمها سلمى.
وكان ينبغي أن يقدم ذكر قتله على هزيمة مروان، وإنما قدمنا ذلك لتتبع الحادثة بعضها بعضاً.
ذكر قتل مروان بن محمد بن الحكموفي هذه السنة قتل مروان بن محمد، وكان قتله ببوصير، من أعمال مصر، لثلاث بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وكان مروان لما هزمه عبد الله بن علي بالزاب أتى مدينة الموصل وعليها هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة الأسدي فقطعا الجسر! فناداهم أهل الشام: هذا أمير المؤمنين مروان! فقالوا: كذبتم، أمير المؤمنين لا يفر! وسبه أهل الموصل، وقالوا: ياجعدي! يا معطل الحمد لله الذي أزال سلطانكم وذهب بدولتكم! الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبينا! فلما سمع ذلك سار إلى بلد فعبر دجلة وأتى حران، وبها ابن أخيه أبان بن يزيد بن محمد بن مروان عامله عليها، فأقام بها نيفاً وعشرين يوماً.
وسار عبد الله بن علي حتى أتى الموصل فدخلها وعزل عنها هشاماً واستعمل عليها محمد بن صول، ثم سار في أثر مروان بن محمد، فلما دنا منه عبد الله حمل مروان أهله وعياله ومضى منهزماً وخلف بمدينة حران ابن أخيه أبان بن يويد وتحته أم عثمان ابنة مروان.
وقدم عبد الله بن علي حران، فلقيه أبان مسوداً مبايعاً له، فبايعه ودخل في طاعته، فآمنه ومن كان بحران والجزيرة.
ومضى مروان إلى حمص، فلقيه أهلها بالسمع والطاعة، فأقام بها يومين أو ثلاثة ثم سار منها. فلما رأوا قلة ممن معه طمعوا فيه وقالوا: مرعوب منهزم؛ فاتبعوه بعدما رحل عنهم فلحقوه على أميال. فلما رأى غبرة الخيل كمن لهم، فلما جاوزوا الكمين صافهم مروان فيمن معه وناشدهم، فأبوا إلا قتاله، فقاتلهم وأتاهم الكمين من خلفهم، فانهزم أهل حمص وقتلوا حتى انتهوا إلى قريب المدينة.
وأتى مروان دمشق وعليها الوليد بن معاوية بن مروان، فخلفه بها وقال: قاتلهم حتى يجتمع أهل الشام. ومضى مروان حتى أتى فلسطيم فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي، فأرسل مروان إلى عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي فأجاره، وكان بيت المال في يد الحكم.

وكان السفاح قد كتب إلى عبد الله بن علي يأمره باتباع مروان، فسار حتى أتى الموصل، فتلقاه من بها مسودين وفتحوا له المدينة؛ ثم سار إلى حران، فتلقاه أبان بن يزيد مسوداً، كما تقدم، فآمنه وهدم عبد الله الدار التي حبس فيها إبراهيم. ثم سار من حران إلى منبج، وقد سودوا، فأقام بها، أياماً، ثم سار إلى بعلبك فأقام يومين، ثم سار فنزل مزة دمشق، وهي قرية من قرى الغوطة؛ وقدم عليه أخوه صالح بن علي مدداً فنزل مرج عذراء في ثمانية آلاف؛ ثم تقدم بعبد الله فنزل على الباب الشرقي، ونزل صالح على باب الجابية، ونزل أبو عون على باب كيسان، ونزل بسام بن إبراهيم على باب الصغير، ونزل حميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، وفي دمشق الوليد بن معاوية، فحصروه ودخلوها عنوة يوم الأربعاء لخمس مضين من رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وكان أول من صعد سور المدينة من باب شرقي عبد الله الطائي، ومن ناحية باب الصغير بسام بن إبراهيم، فقاتلوا بها ثلاث ساعات، وقتل الوليد ابن معاوية فيمن قتل.
وأقام عبد الله بن علي في دمشق خمسة عشر يوماً، ثم سار يريد فلسطين، فلقيه أهل الأردن وقد سودوا، وأتى أبي فطرس وقد ذهب مروان، فأقام عبد الله بفلسطين، ونزل بالمدينة يحيى بن جعفر الهاشمي، فأتاه كتاب السفاح يأمره بإرسال صالح بن علي في طلب مروان. فسار صالح من نهر أي فطرس في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ومعه ابن فتان وعامر بن إسماعيل، فقدم صالح أبا عون وعامر بن إسماعيل الحارثي، فساروا حتى بلغوا العريش. فأحرق مروان ما كان حوله من علف وطعام.
وسار صالح فنزل النيل، ثم سار حتى أتى الصعيد، وبلغه أن خيلاً لمروان يحرقون الأعلاف فوجه إليهم فأخذوا وقدم بهم على صالح وهو بالفسطاط، وسار فنزل موضعاً يقال له ذات السلاسل، وقدم أبو عون عامر ابن إسماعيل الحارثي وشعبة بن كثير المازني في خيل أهل الموصل فلقوا خيلاً لمروان فهزمهم وأسروا منهم رجالاً فقتلوابعضاً واستحيوا بعضاً، فسألوهم عن مروان فأخبروهم بمكانه على أن يؤمنوهم، وساروا فوجدوه نازلاً في كنيسة في بوصير، فوافوه ليلاً، وكان أصحاب أبي عون قليلين، فقال لهم عامر بن إسماعيل: إن أصبحنا وأوا قلتنا أهلكونا ولم ينج منا أحد. وكسر جفن سيفه وفعل أصحابه مثله وحملوا على أصحاب مروان فانهزموا، وحمل رجل من أهل الكحوفة كان يبيع الرمان فاحتز رأسه، فأخذه عامر فبعث به إلى أبي عون، وبعثه أبو عون إلى صالح.
فلما وصل إليه أمر أن يقص لسانه، فانقطع لسانه، فأخذه هر، فقال صالح: ماذا ترينا الأيام من العجائب والعبر! هذا لسان مروان قد أخذه هر؛ وقال شاعر:
قد فتح الله مصراً عنوةً لكم ... وأهلك الفاجر الجعدي إذ ظلما
فلاك مقوله هر يجرره ... وكان ربك من ذي الكفر منتقما
وسيره صالح إلى أبي العباس السفاح.
وكان قتله لليلتين بقيتا من ذي الحجة، ورجع صالح إلى الشام وخلف أبا عون بمصر وسلم إليه السلاح والأموال والرقيق.
ولما وصل الرأس إلى السفاح كان بالكوفة، فلما رآه سجد ثم رفع رأسه فقال: الحمد الله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك ولم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين! وتمثل:
لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ ترويني
ولما قتل مروان هرب ابناه عبد الله وعبيد الله إلى أرض الحبشة، فلقوا من الحبشة بلاء، قاتلهم الحبشة فقتل عبيد الله ونجا عبد الله وعدة ممن معه، فبقي إلى خلافة المهدي، فاخذه نصر بن محمد بن الشعث، عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدي.
ولما قتل مروان قصد عامر الكنيسة التي فيها حرم مروان، وكان قد وكل بهن خادماً وأمره أن يقتلهن بعده، فأخذه عامر وأخذ نساء مروان وبناته فسيرهن إلى صالح بن علي بن عبد الله بن عباس. فلما دخلن عليه تكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت: يا عم أمير المؤمنين! حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمكفليسعنا من عفوكم ما وسعكم من جورنا.

قال: والله لا استبقي منكم واحداً! ألم يقتل أبوك ابن أخي إبراهيم الإمام؟ ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين وصلبه في الكوفة؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان؟ أل يقتل ابن زياد الدعي مسلم بن عقيل؟ ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي وأهل بيته؟ ألم يخرج إليه بحرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبايا فوقفهن موقف السبي؟ ألم يحمل رأس الحسين وقد قرع دماغه؟ فما الذي يحملني على الإبقاء عليكن؟! قالت: فليسعنا عفوكم! فقال: أما هذا فنعم، وإن أحببت زوجتك ابني الفضل! فقالت: وأي عز خير من هذا! بل تلحقنا بحران. فحملهن إليها، فلما دخلنها ورأين منازل مروان رفعن أصواتهن بالبكاء.
قيل: كان يوماً بكير بن ما هان مع أصحابه قبل أني قتل مروان يتحدث إذ مر به عامر بن إسماعيل وهو لا يعرفه فأتى دجلة واستقى من مائها ثم رجع، فدعاه بكير فقال: ما اسمك يا فتى؟ قال: عامر بن إسماعيل بن الحارث. قال: فكن من بني مسلية. قال: فأنا منهم. قال: أنت والله تقتل مروان! فكان هذا القول هو الذي قوى طوع عامر في قتل مروان.
ولما قتل مروان كان عمره اثنتين وستين سنة، وقيل: تسعاً وستين سنة؛ وكانت ولايته من حين بويع إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر وستة عشر يوماً؛ وكان يكنى أبا عبد الملك؛ وكانت أمه أم ولد كردية، كانت لإبراهيم بن الأشتر، أخذها محمد بن مروان يوم قتل إبراهيم فولدت مروان فلهذا قال عبد الله بن عياش المشرف للسفاح: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابن عبد المطلب.
وكان مروان يلقب بالحمار والجعدي لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك، وقيل: إن الجعد كان زنديقاً، وعظمه ميمون بن مهران فقال: لشاه قباذ أحب إلي مما تدين به. فقال له: قتلك الله، وهو قاتلك، وشهد عليه ميمون، وطلبه هشام فظفر به وسيره إلى خالد القسري فقتله، فكان الناس يذمون مروان بنسبته إليه.
وكان مروان أبيض أشهل شديد الشهلة، ضخم الهامة، كث اللحية أبيضها، ربعة؛ وكان شجاعاً حازماً إلا أن مدته انقضت فلم ينفعه حزمه ولا شجاعته.
عياش بالياء تحتها نقطتان، والشين المعجمة.
ذكر من قتل من بني أميةدخل سديف على السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه، فقال سديف:
لا يغرنك ما ترى من الرجال ... إن تحت الضلوع داء دوياً
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
فقال سليمان: قتلتني يا شيخ! ودخل السفاح، وأخذ سليمان فقتل.
ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده من بني أمية نحو تسعين رجلاً على الطعام، فأقبل عليه شبل فقال:
أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العابس
طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميلٍ من الزمان وياس
لا تقيلن عبد شمسٍ عثاراً ... واقطعن كل رقلةٍ وغراس
ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحر المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من تنمارقٍ وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... ه بدار الهوان والإتعاس
والقتل الذي بحران أضحى ... ثاوياً بين غربةٍ وتناس
فأمر بها عبد الله فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط عليهم الأنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعهم حتى ماتوا جيمعاً، وأمر عبد الله ابن علي بنبش قبور بني أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان، فلم يجدوا فيه إلا خيطاً مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد، ونبش قبر عبد الملك فإنه وجد صحيحاً لم يبل منه إلا أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذراه في الريح.

وتتبع بني امية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم، ولم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس، فقتلهم بنهر أبي فطرس، وكان فيمن قتل: محمد بن عبد الملك بن مروان، والغمر بن يزيد بن عبد الملك، وعبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وسعيد بن عبد الملك، وقيل: غنه مات قبل ذلك، وأبو عبيدة بن الوليد بن عبد الملك، وقيل: إن إبراهيم بن يزيد المخلوع قتل معهم، واستصفى كل شيء لهم من مال وغي ذلك؛ فلما فرغ منهم قال:
بني أمية قد أفنيت جمعكم ... فكيف لي منكم بالأول الماضي
يطيب النفس أن النار تجمعكم ... عوضتم منم لظاها شر معتاض
منيتم، لا أقال الله عثرتكم، ... بليث غاب إلى الأعداء نهاض
إن كان غيظي منكم لفوتٍ فلقد ... منيت منكم بما ربي به راض
وقيل: إن سديفاً أنشد هذا الشعر للسفاح ومعه كانت الحادثة، هو الذي قتلهم.
وقتل سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة أيضاً جماعةً من بني أمية عليهم الثياب الموشية المرتفعة وأمر بهم فجروا بأرجلهم فألقوا على الطريق فأكلتهم الكلاب.
فلما رأى بنو أمية ذلك اشتد خوفهم وتشتت شملهم واختفى من قدر على الاختفاء وكان ممن اختفى منهم عمرو بن معاوية بن عمرو بن سفيان بن عتبة بن أبي سفيان. قال: وكنت لا اتي مكاناً إلا عرفت فيه،فضاقت على الأرض، فقدمت على سليمان بن علي، وهو لا يعرفني، فقلت: لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك، فإما قتلتني فاسترحت، وإما رددتني سالماً فامنت. فقال: ومن أنت؟ فعرفته نفسي، فقال: مرحباً بك، ما حاجتك؟ فقتل: إن الحرم اللواتي أنت أولى الناس بهن وأقربهم إليهن قد خفن لخوفنا ومن خاف خيف عليه. قال: فبكى كثيراً ثم قال: يحقن الله دمك ويوفر مالك ويحفظ حرمك. ثم كتب إلى السفاح: يا أمير الؤمنين إنه قد وفد وافد من بني أمية علينا، وإنا قتلناهم على عقوقهم لا على أرحامهم، فإننا يجمعنا وإياهم عبد مناف والرحم تبل ولا تقتل وترفع ولا توضع، فإن رأى أمير المؤمنين أن يهبهم لي فليفعل، وإن فعل فليجعل كتاباً عاماً إلى البلدان نشكر الله تعالى على نعمه عندنا وإحسانه إلينا. فأجابه إلى ما سأل، فكان هذا أول أمان بني أمية.
ذكر خلع حبيب بن مرة المريوفي هذه السنة بيض حبيب بن مرة المري وخلع هو ومن معه من أهل البثنية وحوران، وكان خلعهم قبل خلع أبي الورد، فسار إليه عبد الله وقاتله دفعاتٍ، وكان حبيب من قواد مروان وفرسانه.
وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه، فبايعته قيس وغيرهم ممن يليهم. فلما بلغ عبد الله خروج أبي الورد ةتبييضه دعا حبيباً إلى الصلح، فصالحه وآمنه ومن معه وسار نحو أبي الورد.
ذكر خلع أبي الورد وأهل دمشقوفيها خلع أبو الورد مجزاة بن الكوثرة بن زفر بن الحارث الكلابي، وكان من أصحاب مروان وقواده.
وكان سبب ذلك أن مروان لما انهزم قام أبو الورد بقنسرين، فقدمها عبد الله بن علي فبايعه أبو الورد ودخل فيما دخل فيه جنده، وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فقدم بالس قائد من قواد عبد الله بن علي فبعث بولد مسلمة ونسائهم، فشكا بعضهم ذلك إلى أبي الورد، فخرج من مزرعة له يقال لها خساف فقتل ذلك القائد ومن معه وأظهر التبييض والخلع لعبد الله، ودعا أهل قنسرين إلى ذلك، فبيضوا أجمعهم، والسفاح يومئذ بالحيرة، وعبد الله بن علي مشتغل بحرب حبيب بن مرة المري بأرض البلقاء وحوران والبثنية، على ماذكرناه.

فلما بلغ عبد الله بييض أهل قنسرين وخلعهم صالح حبيب بن مرة وسار نحو قنسرين للقاء أبي الورد، فمر بدمشق فخلف بها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف، وكان بدمشق أهل عبد الله وأمهات أولاده وثقله، فلما قدم حمص انتقض له أهل دمشق وبيضوا وقاموا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي فلقوا أبا غانم ومن معه فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلةً عظيمة وانتهبوا ما كان عبد الله خلف من ثقله ولم يعرضوا لأهله واجتمعوا على الخلاف. وسار عبد الله، وكان قد اجتمع مع أبي الورد جماعة من أهل قنسرين وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، فقدم منهم ألوف عليهم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، ودعوا إليه، وقالوا: هذا السفياني الذي كان يذكر، وهم في نحو من أربعين ألفاً، فعسكروا بمرج الأخرم، ودنا منهم عبد الله بن علي ووجه إليهم أخاه عبد الصمد بن علي في عشرة آلاف، وكان أبو الورد هو المدبر لعسكر قنسرين وصاحب القتال، فناهضهم القتال، وكثر القتل في الفريقين، وانكشف عبد الصمد ومن معه، وقتل منهم ألوف ولحق بأخيه عبد الله.
فأقبلى عبد الله معه وجماعة القواد فالتقوا ثانيةً بمرج الأخرم فاقتتلوا قتالاً شديداً، وثبت عبد الله، فانهزم أصحاب أبي الورد وثبت هو في نحو من خمسمائة من قومه وأصحابه فقتلوا جميعاً، وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وآمن عبد الله أهل قنسرين وسودوا وبايعوه ودخلوا في طاعته.
ثم انصرف راجعاً إلى أهل دمشق لما كان من تبييضهم عليه، فلما دنا منهم هرب الناس ولم يكن منهم قتال، وآمن عبد الله أهلها وبايعوه ولم يأخذهم بما كان منهم.
ولم يزل أبو محمد السفياني متغيباً هارباً ولحق بأرض الحجاز وبقي كذلك إلى أيام المنصور، فبلغ زياد بن هبد الله الحارثي عامل المنصور مكانه، فبعث إليه خيلاً فقاتلوه فقتلوه وأحذوا ابنين له أسيرين، فبعث زياد برأس أبي محمد بن عبد الله السفياني وبابنيه، فأطلقهما المنصور وآمنهما.
وقيل: إن حرب عبد الله وأبي الورد كانت سلخ ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ومائة.
ذكر تبييض أهل الجزيرة وخلعهموفي هذه السنة بيض أهل الجزيرة وخلعوا أبا العباس السفاح وساروا إلى حران وبها موسى بن كعب في ثلاثة آلاف من جند السفاح فحاصروه بها وليس على أهل الجزيرة رأس يجمعهم، فقدم عليهم إسحاق بن مسلم العقيلي من أرمينية، وكان سار عنها حين بلغه هزيمة مروان، فاجتمع عليه أهل الجزيرة وحاصر موسى بن كعب نحواً من الشهرين.
ووجه أبو العباس السفاح أخاه أبا جعفر فيمن كان معه من الجنود بواسط محاصرين ابن هبيرة، فسار فاجتاز بقرقيسيا والرقة، وأهلهما قد تبيضوا، وسار نحو حران، فرحل إسحاق بن مسلم إلى الرهاء، وذلك سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وخرج موسى بن كعب من حران فلقي أبا جعفر.
ووجه إسحاق بن مسلم أخاه بكار بن مسلم إلى ربيعة بدارا ومادرين، ورئيس ربيعة يومئذ رجل من الحرورية يقال له بريكة، فعمد إليهم أبو جعفر فلقيهم، فقاتلوه قتالاً شديداً، وقتل بريكة في المعركة، وانصرف بكار إلى أخيه إسحاق بالرهاء، فخلفه إسحاق بها وسار إلى سميساط في عظم عسكره،وأقبل أبو جعفر إلى الرهاء، وكان بينهم وبين بكار وقعات.
وكتب السفاح إلى عبد الله بن علي يأمره أن يسير في جنوده إلى سمياط، فسار حتى نزل بإزاء إسحاق بسمياط، وإسحاق في ستين ألفاً وبينهم الفرات، وأقبل أبو جعفر من الرهاء وحاصر إسحاق بسميساط سبعة أشهر، وكان إسحاق يقول: في عنقي بيعة، فأنا لا ادعها حتى أعلم أن صاحبها مات أوقتل.
فأرسله إليه أبو جعفر: إن مروان قد قتل. فقالك حتى أتيقن. فلما تيقن قتله طلب الصلح والأمان، فكتبوا إلى السفاح بذلك وأمرهم أن يؤمنوه ومن معه، فكتبوا بينهم كتاباً بذلك، وخرج إسحاق إلى أبي جعفر، وكان عنده من آثر صحابته، واستقام أهل الجزيرة والشام، وولى أبو العباس أخاه أبا جعفر الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل عليها حتى استخلف.
وقد قيل: إن عبد الله بن علي هو الذي آمن إسحاق بن مسلم.
ذكر قتل أبي سلمة الخلال وسليمان بن كثير

قد ذكرنا ما كان من أبي سلمة في أمر أبي العباس السفاح ومن كان معه من بني هاشم عند قدومهم الكوفة بحيث صار عندهم متهماً، وتغير السفاح عليه وهو بعسكره بحمام أعين، ثم تحول عنه إلى المدينة الهاشمية فنزل قصر الإمارة بها وهو متكر لأبي سلمة.وكتب إلى أبي مسلم يعلمه رأيه فيه وما كان هم به من الغش، وكتب إليه أبو مسلم: إن كان أمير المؤمنين اطلع على ذلك منه فليقتله.
فقال داود بن علي للسفاح: لا تفعل يا أمير المؤمنين فيحتج بها أبو مسلم عليك واهل خراسان الذين معك أصحابه، وحاله فيهم حاله، ولكن اكتب إلى أبي مسلم فليبعث إليه من يقتله.
فكتب إليه، فبعث أبو مسلم مرار بن أنس ال2ضبي لقتله، فقدم على السفاح فأعلمه بسبب قدومه، فأمر السفاح منادياً فنادى: إن أمير المؤمنين قد رضي عن أبي سلمة ودعاه فكساه، ثم دخل عليه بعد ذلك ليلة فلم يزل عنده حتى ذهب عامل الليل، ثم انصرف إلى منزله وحده، فعرض له مرار ابن أنس ومن معه من أعوانه فقتلوه وقالوا: قتله الخوارج، ثم أخرج من الغد فصلى عليه يحيى بن محمد بن علي ودفن بالمدينة الهاشمية عند الكوفة، فقال سليمان بن المهاجر البجلي.
إن الوزير وزير آل محمد ... وأدى فمن يشناك صار وزيرا
وكان يقال لأبي سلمة: وزير آل محمد، ولأبي مسلم، فملا قدم على أبي مسلم سايره عبيد الله بن الحسن الأعرج وسلميان بن كثير، فقال سليمان بن كثير لعبيد الله: يا هذا إنا كنا نرجو أن يتم أمركم، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون. فظن عبيد الله أنه دسيس من أبي مسلم، فأتى أبا مسلم فأخبره وخاف أن يعلمه أن يقتله، فاحضر أبو مسلم سليمان بن كثير وقال له: احفظ قوزل الإمام لي من اتهمته فاقتله؟ قال: نعم. قال: فإني اتهمتك. قال: أنشدك الله! قال: لا تناشدني، فانت منطوٍ على غش الإمام، وأمر بضرب عنقه.
ورجع أبو جعفر إلى السفاح فقال: لست خليفة ولا أمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله. قال: وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما أراد. قال أبو العباس: فاكتمها.
وقد قيل: إن أبا جعفر إنما سار إلى أبي مسلم قبل أن يقتل أبو سلمة.
وكان سبب ذلك أن السفاح لما ظهر تذاكروا ما صنع أبو سلمة فقال بعض من هناك: لعل ما صنع كان من رأي أبي مسلم. فقال السفاح: لئن كان هذا عن رأيه إنا لنعرفن بلاء إلا أن يدفعه الله عنا. وأرسل أخاه أبا جعفر إلى أبي مسلم ليعلم رأيه. فسار إليه وأعلمه ما كان من أبي سلمة فأرسل مرار بن أنس فقتله.
ذكر محاصرة ابن هبيرة بواسطقد ذكرنا ما كان من أمر يزيد بن هليرة والجيش الذين لقوه من أهل خاسان مع قحطبة، ثم مع ابنة الحسن، وانهزامه إلى واسط وتحصنه بها، وكان لما انهزم قد وكل بالأثال قوماً، فذهبوا بها، فقال له حوثرة: أين تذهب وقد قتل صاحبهم؟ يعني قحطبة، امض إلى الكوفة ومعك جند كثير، فقاتلهم حتى تقتل أو تظفر. قال: بل نأتي واسطاً فننظر. قال: مكا تريد على أن تمكنه من نفسك وتقتل.
وقال يحيى بن حضين: غنك لو تأتي مروان بشيء أحل إليه من هذه الجنود، فالزم الفارت حتى تأتيه، وأياك وواسطاً فتصير في حصار ولي بعد الحصر إلا القتل. لإابى.
وكان يخاف مروان لأنه كان يكتب إليه بالأمر فيخالفه، فخاف أن يقتله، فأتى واسطاً فتحصن بها؛ وسير أبو سلمة إليه الحسن بن قحطبة فحصره، وأول وقعة كانت بينهم يوم الأربعاء. قال أهل الشام لابن هيرة: ايذن لنا في قتالهم. فأذن لهم، فخرجوا وخرج ابن هبيرة وعلى ميمنته ابنه داود، فالتقوا وعلى ميمنة الحسن خازم بن خزيمة، فحمل خازم على ابن هبيرة، فانهزم هو ومن معه وغص الباب بالناس، ورمى أصحابه بالعرادات، ورجع أهل الشام، فكر عليهم الحسن واضطرهم إلى دجلة، فغرق منهم ناس كثير، فتلقوهم بالسفن وتحاجزوا، فمكثوا سبعة أيام ثم خرجوا إليهم فاقتتلوا وانهزم أهل الشام هزيمةً قبيحة، فدخلوا المدينة، فمكثوا ما شاء الله لا يقاتلون إلا رمياً.

وبلغ ابن هبيرة، وهو في الحصار، أن أبا أمية التغلبي قد سود فأخذه وحبسه، فتكلم ناس من ربيعة في ذلك ومعن بن زائدة السيباني وأخذوا ثلاثة من فزارة رهط ابن هبيرة فحبسوهم. وشتموا ابن هبيرة وقالوا: لا نترك ما في أيدينا حتى يترك ابن هبيرة صاحبنا، وابى أبن هبيرة أن يطلقه، فاعتزل معن وعبد الرحمن بن بشير العجلي فيمن معهما. فقيل لابن هبيرة: هؤلاء فرسانك قد أفسدتهم، وإن تماديت في ذلك كانوا أشد عليك ممن حصرك. فدعا أبا أمية فكساه وخلى سبيله، فاصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه.
وقدم أبو نصر مالك بن الهيثم من ناحية سجستان إلى الحسن، فأوفد الحسن وفداً إلى السفاح بقدوم أبي نصر عليه، وجعل على الوفد غيلان بن عبد الله الخزاعي، وكان غيلان واجداً على الحسن لأنه سرحه إلى روح بن حاتم مدداً له، فلما قدم على السفاح وقال: أشهد أنط أمير المؤمنين، وأنك حبل الله المتين، وأنك إمام المتقين. قال: حاجتك يا غيلان؟ قال: أستغفرك. قال: غفر الله لك. قال غيلان: يا أمير المؤمنين من علينا برجل من أهل بيتك ننظر إلى وجهه وتقر عيننا به. فبعث أخاه أبا جعفر لقتال ابن هبيرة عند رجوعه من خراسان. وكتب إلى الحسن: إن العسكر عسكرك، والقواد قوادك، ولكن أحببت أن يكون أخي حاضراً، فاسمع له وأطع وأحسن موازرته. وكتب إلى مالك بن الهيثم بمثل ذلك.وكان الحسن هو المدبر لأمر ذلك العسكر.
فلما قدم أبو جعفر المنصور على الحسن تحول الحسن عن خيمته وأنزله فيها، وجلعل الحسن على حرس المنصور عثمان بن نهيك.
وقاتلهم مالك بن الهيثم يوماً فانهزم أهل الشام إلى خنادقهم وقد كمن لهم معن وأبو يحيى الجذامي. فملا جازهم أصحاب مالك خرجوا عليهم فقاتلوهم حتى جاء الليل، وابن هبيرة على برج الخلالين، فاقتتلوا ما شاء الله من الليل، وسرح ابن هبيرة إلى معن يأمره بالآنصاف، فانصرف، فمكثوا أياماً، وخرج أهل واسط أيضاً مع معن ومحمد بن نباتة، فقاتلهم أصحاب الحسن فهزموهم إلى دجلة حتى تساقطو فيها ورجعوا وقد قتل ولد مالك بن الهيثم، فملا رآه أبوه قتيلاً قال: لعن الله الحياة بعدك! ثم حملوا على أهل واسط فقاتلوهم حتى المدينة.
وكان مالك يملأ السفن حطباً ثم يضرمها ناراً لتحرق ما مرت به، فكان ابن هبية يجر تلك السفن بكلاليب، فمكثوا كذلك أحد عشر شهراً.
فلما طال عليم الحصار طلبوا لصلح، ولم يطلبوه حتى جاءهم خبر قتل مروان، أتاهم به إسماعيل بن عبد الله القسري وقال لهم: علام تقتلون أنفسكم وقد قتل مروان؟ وتجنى أصحاب ابن هبيرة عليه، فقالت اليمانية: لا نعين مروان زآثاره فينا آثاره. وقالت النزارية: لا تقاتل حتى تقاتل معنا اليمانية، وكان يقاتل معه صعاليك الناس وفتيانهم.
وهم ابن هبيرة بأن يدعو إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي، فكتب إليه، فأبطأ جوابه، وكاتب السفاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة وأطمعهم، فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبد الله الحارثيان ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له ناحية ابن العباس، فلم يفعلا، وجرت السفراء بين أبي جعفر وابن هبيرة حتى جعل له أماناً وكتب به كتاباً مكث ابن هبية يشاور فيه العلماء أربعين يوماً حتى رضيه فأنفذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أخيه السفاح فأمره بأمضائه.
وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان السفاح لا يقطع أمراً دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عيناً لأبي مسلم على السفاح، فكتب السفاح إلى أبي مسلم يخبره أمر ابن هبية، فكتب أبو مسلم إليه: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارةفسد، ولا واله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة.
ولما تم الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة من الخارية وأراد أن يدخل على دابته، فقام إليه الحاجب سلام بن سليم فقال: مرحباً بك أبا خالد، انزل راشداً! وقد أطاف بحجرة المنصور عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل، ودعا له بوسادة ليجلس عليها، وأدخل القواد ثم أذن لابن هبيرة وحده، فدخل وحادثه ساعةً ثم قام ثم مكث يأتيه يوماً ويتركه يوماً، فكان يأتيه في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل. فقيل لأبيجعفر: إن ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر وما نقص من سلطانه شيء. فأمره أبو جعفر أن لا يأتي إلا في حاشيته فكان يأتي في ثلاثين، ثم صار يأتي في ثلاثة أو أربعة.

وكلم ابن هبيرة المنصور يوماً، فقال له ابن هبيرة: يا هناه! أو: يا أيها المرء! ثم رجع فقال: أيها الأمير إن عهدي بكلام الناس بمثل ما خاطبتك به لقريب فسبقني لساني إلى ما لم أرده.
فألح السفاح على أبي جعفر يأمره بقتل ابن هبيرة وهو يراجعه حتى كتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك ثم يتولى قتله.
فعزم على قتله، فبعث خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة بن ظهير وأمرهما بختم بيوت الأموال، ثم بعث إلى وجوه من مع ابن هبيرة من القيسية والمضرية فأحضرهم، فأقبل محمد بن نباتة وحوثرة بن سهيل في اثني وعشرين رجلاً، فخرج سلام بن سليم فقال: أين ابن نباته وحوثرة؟ فدخلا وقد أجلس أبوز جعفر عثمان بن نهيك وغيره في مائة في حجة دون حجرته، فنزعت سيوفهما وكتفا، واستدعى رجلين رجلين يفعل بهما مثل ذلك، قال بعضهم: أعطينمونا عهد الله ثم غدرتم بنا! إنا لنرجو ان يدرككم الله! وجعل ابن نباتة يضرط فيلحية نفسه وقال: كأني كنت أنظر إلى هذا.
وانطلق خازم والهيثم بن شعبة في نحو من مائة إلى ابن هبيرة فقالوا: نريد حمل المال. فقال لحاجبه: دلهم على الخزائن. فأقاموا عند كل بيت نفراً، وأقبلوا نحوه وعنده ابنه داود وعدة من مواليه وبني له صغير في حجرة. فلما أقبلوا نحوه قام حاجبه في وجوههم، فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود، وأقبل هو إليه ونحى ابنه من حجرة فال: دونكم هذا الصبي، وخر ساجاً فقتل؛ وحملت رؤوسهم إلى أبي جعفر، ونادى بالأمان للناس إلا الحكم بن عبد الملك بن بشر، وخاد بن سلمة المخزومي، وعمر، بن ذر، فاستأمن زياد بن عبد الله لابن ذر، فأمنه، وهرب الحكم، وآمن أبو جعفر خالداً فقتله السفاح ولم يجز أمان أبي جعفر ، فقال أبو العطاء السندي يرثي ابن هبيرة.
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسطٍ ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشية قام النائحات وصفقت ... أكف بأيدي مأتم وخدود
فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
فإنك لم تبعد على متعهدٍ ... بلى كل من تحت التراب بعيد
ذكر قتل عمال أبي سلمة بفارسوفي هذه السنة وجه أبو مسلم الخراساني محمد بن الأشعث على فارس وأمره أن يقتل عمال أبي سلمة، ففعل ذلك، فوجه السفاح عمه عيسى ابن علي إلى فارس، وعليها محمد بن الأشعث، فأراد محمد قتل عيسى، فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك. فقال: بلى أمرني أبو مسلم أن لايقدم أحد علي يدعي الولاية من غيره إلا ضربت عنقه؛ ثم ترك عيسى خوفاً من عاقبة قتله واستحلف عبيسى بالأيمان المحرجة أن لا يعلو منبراً ولا يتقلد سيفاً إلا في جهاد، فلم يل عيسى بعد ذلك ولاية ولا تقلد سيفاً إلا في غزو، ثم وجه السفاح بعد ذلك إسماعيل بن علي والياً على فارس.
ذكر ولاية يحيى بن محمد الموصل وما قيل فيهاوفي هذه السنة استعمل السفاح أخاه يحيى بن محمد على الموصل عوض محمد بن صول.
وكان سبب ذلك أن أهل الموصل امتنعوا من طاعة محمد بن صول، وقالوا: يلي علينا مولى الخثعم، وأخرجوه عنهم. فكتب إلى السفاح بذلك واستعمل عليهم أخاه يحيى بن محمد وسيره إليها في اثني عشر ألف رجل، فنزل قصر الإمارة مجانب مسجد الجامع، ولم يظهر لأهل الموصل شيئاً ينكرونه ولم يعترض فيما يفعلونه، ثم دعاهم فقتل منهم أثني عشر رجلاً، فنفر أهل البلد وحملوا السلاح، فأعطاهم الأمان، وأمر فنودي: من دخل الجامع فهو آمن؛ فأتاه الناس يهرعون إليه، فأقام يحيى الرجال على أبواب الجمع، فقتلوا الناس قتلاً ذريعاً أسرفوا فيه، فقيل: إنه قتل فيه أحد عشر ألفاً ممن له خاتم وممن ليس له خاتم خلقاً كثيراً.

فلما كان الليل سمع يحيى صراخ النساء اللاتي قتل رجالهن، فسأل عن ذلك الصوت فأخبر به، فقال: إذا كان الغد فاقتلوا النساء والصبيان. ففعلوا ذلك، وقتل منهم ثلاثة أيام، وكان في عسكره قائد معه أربعة آلاف زنجي، فأخذوا النساء قهراً.فلما فرغ يحيى من قتل أهل الموصل في اليوم الثالث ركب اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف المسلولة، فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته، فأراد أصحابه قتلها فنهاهم عن ذلك، فقالت: له:ألست من بني هشام؟ أست ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم ؟ أما تأنف للعربيات المسلمات أن ينكحهن الزنج؟ فأمسك عن جوابها وسير معها من يبلغها مأمنها، وقد عمل كلامها فيه. فلما كان الغد جمع الزنج للعطاء، فاجتمعوا، فأمر بهم فتلوا عن آخرهم.
وقيل: كان السبب في قتل أهل الموصل ما ظهر منهم من محبة بني أمية وكراهة بني العباس، وأن امرأة غسلت رأسها وألقت الخطمي من السطح فوقع على رأس بعض الخراسانية فظنها فعلت ذلك تعمداً، فهاجم الدار، وقتل أهلها، فثار أهل البلد وقتلوه، وثارت الفتنة وفيمن قتل معروف بن أبي معروف، وكان زاهداً عابداً، وقد أدرك كثيراً من الصحابة ز
ذكر عدة حوادثوفيها وجه السفاح أخاه المنصور والياً على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وفيها عزل عمه داود بن علي عن الكوفة وسوادها وولاه المدينة ومكة واليمن واليمامة،وولى موضعه من عمل الكوفة ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد، فاستقضى عيسى على الكوفة ابن أبي ليلى.
وكان العامل على البصرة هذه السنة سفيان بن عينة المهلبي، وعلى قضائها الحجاج بن أرطاة، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان أبو جعفر بن محمد بن علي، وعلى الموصل يحيى بن محمد بن علي، وعلى الشام عبد الله بن علي، وعلى مصر أبو عون عبد لملك بن يزيد، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
وحج بالناس هذه السنة داود بن علي.
وفيها قتل يحيى بن معاوية بن هشام بن عبد الملك مع مروان بن محمد بالزاب، ويحيى أخو عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس. وفيها قتل يونس ابن مغيرة بن حلين بدمشق لما دخلها عبد الله بن علي، وكان عمره عشرين ومائة سنة، قتله رجلان من خراسان ولم يعرفاه، فلما عرفاه بكيا عليه، وقيل: بل عضته دابة من دوابه فقتلته، وكان ضريراً. وفيها مات صفوان بن سليم مولى حميد بن عبد الحمن. وفيها توفي محمد بن أبي كبر نب محمد بن عمرو بن حزم بالمدينة، وكان قاضيها. وفيها مات همام بن منبه. وعبد الله ابن عوف. وسعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت الأنصاري. وخبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن يسار الأنصاري، وهو خال عبيد الله بن عمر العمري؛ خبيب بضم الخاء المعجمة، وفتح الحاء والراء المهملتين.
وفيها توفي عبد الله بن طاووس بن كيسان الهمداني من عباد أهل اليمن وفقهائهم.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة

ذكر ملك الروم ملطية
في هذه السنة أقبل قسطنطين، ملك الروم، إلى ملطية وكمخ، فنازل كمخ، فأرسل أهلها إلى أهل ملطية يسنجدونهم، فسار إليهم منها ثمانمائة مقاتل، فقاتلهم الروم، فانهزم المسلمون، ونازل الروم ملطسة وحصروها، والجزيرة يومئذ مفتونة بما ذكرناه، وعاملها موسى بن كعب بحران.
فأرسل قسطنطين إلى أهل ملطية: إني لم أحصركم إلا على علم من المسلمين واختلافهم، فلكم الأمان وعودون إلى بلاد المسلمين حتى أحترث ملطية. فلم يجيبوه إلى ذلك، فنصب المجانيق، فأذعنوا وسلموا البلاد على المان وانتقلوا إلى بلاد الإسلام وحملوا ما أمكنهم حمله، وما لم قدروا على حمله ألقوه في الآبار والمجاري.
فلما ساروا عنها أخربها الروم ورحلوا عنها عائدين، وتفرق أهلها في بلاد الجزيرة، وسار ملك الروم إلى قاليقلا فنزل مرج الخصي، وأرسل كوشان الأرمني فحصرها، فنقب إخوان من الأرمن من أهل المدينة ردماً كان في سورها، فدخل كوشان ومن معه المدينة وغلبوا عليها وقتلوا رجالها وسبوا النساء وساق القائم إلى ملك الروم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وجه السفاح عمه سليمان بن علي والياً على البصرة واعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان ومهر جانقذق، واستعمل عمه إسماعيل بن علي على الأهواز.

وفيها قتل داود بن علي من ظفر به من بني أمية بمكة والمدينة، ولما أراد قتلهم قال له عبد الله بن الحسن بن الحسن: يا أخي إذا قتلت هؤلاء فمن تباهي بملكه؟ أما يكفيك أن يروك غادياً ورائحاً فيما يذلهم ويسؤهم؟ فلم يقبل منه وقتلهم.
وفيها مات داود بن علي بالمدينة في شهر ربيع الأول، واستخلف حين حضرته الوفاة ابنه موسى، ولما بلغت السفاح وفاته استعمل على مكة والمدينة والطائف واليمامة خاله زياد بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي، ووجه محمد ابن يزيد بن عبد الله بن عبد المدان على اليمن. فلما قدم زياد المدينة وجه إبراهيم بن حسان السلمي ، وهي أبو حماد الأبرص بن المثنى، وإلى يزيد بن عمر ابن هيرة، وهو باليمامة، فقتله وقتل أصحابه.
وفيها توجه محمد بن الأشعث إلى إفريقية فقاتل أهلها قتالاً شديداً حتى فتحها. وفيها خرج شريك بن شيخ المهري ببخارى على أبي مسلم ونقم عليه وقال: ما على هذا اتبعنا آل محمد، أن نسفك الدماء وأن يعمل بغير الحق! وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفاً، فوجه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله، وقتله زياد.
وفيها توجه أبو داود خالد بن إبراهيم إلى الختل فدخلها، ولم يمتنع عليه حبيش بن الشبل ملكها بل تحصن منه هو وأناس من الدهاقين، فلما ألح عليه أبو داود خرج من الحصن هو ومن معه من دهاقينه وشاكريته حتى انتهوا إلى أرض فرغانة، ثم دخلوا بلد الترك وانتهوا إلى ملك الصين، وأخذ أبو داود من ظفر به منهم فبعث بهم إلى أبي مسلم.
وفيها قتل عبد الرحمن بن يزيد بن المهلب بالموصل، قتله سليمان الذي يقال له الأسود بأمان كتبه له.
وفيها وجه صالح بن علي سعيد بن عبد الله ليغزو الصائفة وراء الدروب.وفيها عزل يحيى بن محمد على الموصل واستعمل مكانه إسماعيل بن علي.وإنما عزل يحيى لقتله أهل الموصل وسوء أثره فيهم.
وحج بالناس هذه السنة زياد بن عبيد الله الحارثي. وكان العمال من ذكرنا إلا الحجاز واليمن والموصل فقد ذكرنا من استعمل عليها.
وفيها تخالف إخشيد فرغانة وملك الشاش، فاستمد إخشيد ملك الصين فأمده بمائة ألف مقاتل، فحصروا ملك الشاش، فنزل على حكم ملك الصين، فلم يتعرض له ولأصحابه بما يسؤهم، وبلغ الخبر أبا مسلم فوجه إلى حربهم زياد بن صالح، فالتقوا على نهر طراز فظفر بهم المسلمون وقتلوا منهم زهاء خمسين ألفاً وأسروا نحو عشرين ألفاً وهرب الباقون إلى الصين؛ وكانت الوقعة فذ ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين.
وفيها توفي موان بن أبي سعيد. وابن المعلى الزرقي الأنصاري. وعلي ابن بذيمة مولى جابر بن سمرة السوائي.
بذيمة بفتح الباء الموحدة، وكسر الذال المعجمة.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة

ذكر خلع بسام بن إبراهيم
وفي هذه السنة خلع بسام بن إبراهيم بن بسام، وكان من فرسان أهل خراسان وسار من عسكر السفاح هو وجماعة على رأية ساً إلى المدائن، فوجه إليهم السفاح خازم بن خزيمة، فاقتتلوا، فانهزم بسام وأصحابه وقتل أكثرهم وقتل كل من لحقه منهزماً؛ ثم انصرف فمر بذات المطامير، وبها أخوال السفاح من بين عبد المدان، وهم خمسة وثلاثون رجلاً، ومن غيرهم ثمانية عشر رجلاً، ومن مواليهم سبعة عشر، فلم سلم عليهم، فلما جازهم شتموه، وكان في قلبه عليهم لما بلغه من حال المغيرة، فقالوا: مر بنا رجل مجتاز لا نعرفه فأقام في قريتنا ليلة ثم خرج عنا.
فقال لهم: أنتم أخوال أمير المؤمنين يأتيكم عدوه ويأمن في قريتكم! فهلا اجتمعتم فأخذتموه! فأغلظوا له في الجواب، فأمر بهم فضربت أعناقهم جميعاً وهدم دورهم ونهب أموالهم ثم انصرف.

فبلغ ذلك اليمانية فاجتمعوا، ودخل زياد بن عبيد الله الحارثي معهم على السفاح، فقالوا له: إن خازماً اجترأ عليك واستخف بحقك وقتل أخوالك الذين قطعوا البلاد وأتوك معتزين بك طالبين معروفك حتى صاروا في جوارك، قتلهم خازم وهدم دورهم ونهب أموالهم بلا حث احدثوه. فهم بقتل خازم فبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطية، فدخلا على السفاح وقالا: يا امير المؤمنين بلغنا ما كان من هؤلاء وأنك هممت بقتل خازم، وإنا نعيذك بالله من ذلك، فإن له طاعة وسابقة وهو يحتمل له ما صنع، فإن شيعتكم من أهل خراسان قد آثروكم على الأقارب والأولاد وقتلوا من خالفكم، وأنت أحق من تغمد إساءة مسيئهم، فإن كنت لا بد مجمعاً على قتله فلا تتولى ذلك بنفسك وابعثه لأمرٍ إن قتل فيه كنت قد بلغت الذي تريد، وإن ظفر كان ظفره لك.
وأشاوا عليه بتوجيهه إلى من بعمان من الخوارج وإلى الخوارج الذين يجزيرة بركاوان مع شيبان بن عبد العزيز اليشكري، فامر السفاح بتوجيهه مع سبعمائة رجل، وكتب إلى سليمان بن علي، وهو على البصرة، بحملهم إلى جزيرة بركاوان وعمان، فسار خازم.
ذكر أمر الخوارج وقتل شيبان بن عبد العزيزفلما سار خازم إلى البصرة في الجند الذين معه، وكان قد انتخب من أهله وعشيرته ومواليه من أهل مرو الروذ من يثق به، فلما وصل البصرة حملهم سليمان في السفن وانضم إليه بالبصرة أيضاً عدة من بين تميم، فساروا في البحر حتى أرسوا بجزيرة بركاوان، فوجه خازم فضله بن نعيم النهشلي في خمسمائة إلى سشيبان، فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فركب شيبان وأصحابه السفن وساروا إلى عمان، وهم صفرية. فلما صاروا إلى عمان قاتلهم الجلندى وأصحابه، وهم إباضية، واشتد القتال بينهم، فقتل شيبان ومن معه؛ وقد تقدم سنة تسع وعشرين ومائة قتل شيبان على هذا السياق.
ثم سار خازم في البحر بمن معه حتى أرسوا إلى ساحل عمان، فخرجوا إلى الصحراء، فلقيهم الجلندى وأصحابه واقتتلوا قتالاً شديداً،فقتل يومئذ من الخوارج تسعمائة وأحرق منهم نحو من تسعين رجلاً، ثم التقوا بعد سبعة أيام من مقدم خازم على رأي أشار به بعض أصحاب خازم، أشار عليه أن يأمر أصحابه فيجعلوا على أطراف أسنتهم المشقة ويرووها بانفط ويشعلوا فيها النيران ثم يمشوا بها حتى يضرموها في بيوت أصحاب الجلندى، وكانت من خشب، فلما فعل ذلك وأضرمت بيوتهم بالنيران اشتغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأهاليهم، فحمل عليهم خازم وأصحابه فوضعوا فيهم السيف فقتلوهم وقتلوا الجلندى فيمن قتل، وبلغ عدة القتلى عشرة آلاف، وبعث برؤوسهم إلى البصرة، فأرسلها سليمان إلى السفاح،و أقام خازم بعد ذلك أشهراً حتى استقدمه السفاح فقدم.
ذكر غزوة كشوفي هذه السنة غزا أبو داود خالد بن إبراهيم أهل كش فقتل الاخريد ملكها، وهو سامع مطيع، وقتل أصحابه وأخذ منهم من الأواني الصينية المنقوشة المذهبة ما لم ير مثلها، ومن السروج ومتاع الصين كله من الديباج والطرف شيئاً كثيراً فحمله إلى أبي مسلم وهو بسمرقند، وقتل عدة من دهاقينهم، واستحيا طاران أخا الأخريد وملكه على كش؛ وانصرف أبو مسلم إلى مرو بعد أن قتل في أهل الصغد وبخارى؛ وأمر ببناء سور سمرقند، واستخلف زياد ابن صالح عليها وعلى بخارى، ورجع أبو داود إلى بلخ.
ذكر حال منصور بن جمهوروفي هذه السنة وجه السفاح موسى بن كعب إلى السند لقتال منصور بن جمهور،فسار واستخلف مكانه على شرط السفاح المسيب بن زهير، وقدم موسى السند قلقي منصوراً في اثني عشر ألفاً، فانهزم منصور ومن معه ومضى فمات عطشاً في الرمال، وقد قيل أصابه بطنه فمات. وسمع خليفته على السند بهزيمته فرحل بعيال منصور وثقله فدخل بهم بلاد الخزر.
ذكر عدة حوادثوفيها توفي محمد بن يزيد بن عبد الله وهو على اليمن، فاستعمل السفاح مكانه علي بن الربيع بن عبد الله.
وفيها تحول السفاح من الحيرة إلى الأنبار في ذي الحجة. وفيها ضرب المنار من الكوفة إلى مكة والأميال.
وحج بالناس هذه السنة عيسى بن موسى وهو على الكوفة.

وكان على قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى المدينة ومكة والطائف واليمامة زياد بن عيد الله، وعلى اليمن علي بن الربيع الحارثي، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة وعمان سليمان بن علي، وعلى فلسطين صالح ابن علي، وعلى مصر أبو عون، وعلى الموصل إسماعيل بن علي، وعلى أمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بن صول، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك، وعلى الجزيرة أبو جعفر المنصور.
وكان عامله على أذربيجان وأرمينية من ذكرنا، وعلى الشام عبد الله بن علي.
وفيها توفي محمد بن إسماعيل بن سعد بن أبي وقاص. وسعد بن عمر ابن سليم الزرقي.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة

ذكر خروج زياد بن صالح
في هذه السنة خرج زياد بن صالح وراء النهر، فسار أبو مسلم من مرو مستعداً للقائه، وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم نصر بن راشد إلى ترمذ مخافة أن يبعث زياد بن صالح إلى حصن والسفن فيأخذها، ففعل ذلك نصر وأقام بها، فخرج عليه ناس من الطالقان مع رجل يكنى أبا إسحاق فقتلوا نصراً. فلما بلغ ذلك أبا داود بعث عيسى بن ماهان في تتبع قتله نصر، فتبعهم فقتلهم.
ومضى أبو مسلم مسرعاً حتى انتهى إلى آمل ومعه سباع بن النعمان الأزدي، وهو الذي كان قد أرسله السفاح إلى زياد بن صالح وأمره إن رأى فرصة أن يثبت على أبي مسلم فيقتله.
فأخبر أبو مسلم بذلك، فحبس سباعاً ببآمل، وعبر أبو سملم إلى بخارى، فلما نزلها أتاه عدة من قواد زياد قد خلعوا زياداً فأخبروا أبا مسلم أن سباع بان النعمان هو الذي أفسد زياداً، فكتب إلى عامله بآمل أن يقتله، ولما أسلم زياداً قواده ولحقوا بأبي مسلم لجأ إلى دهقان هناك فقتله وحمل رأسه إلى أبي مسلم.
وتأخر أو داود عن أبي مسلم لحال أهل الطالقان، فكتب إليه أبو مسلم يخبره بقتل زياد، فأتى كش وأرسل عيسى بن ماهان إلى بسام وبعث جنداً إلى ساعر فطلبوا الصلح، فأجيبوا إلى ذلك.
وأما بسام فلم يصل عيسى إلى شيء منه، وكتب عيسى إلى كامل بن مظفر صاحب أبي مسلم يعتب أبا داودوينسبه إلى العصبية، فبعث أبو مسلم بالكتب إلى أب داود، وكتب إليه: إن هذه كتب العلج الذي صيرته عدل نفسك فشأنك به. فكتب أبو داود إلى عيسى يستدعيه، فلما حضر عنده حبسه وضربه ثم أخرجه، فوثب عليه الجند فقتلوه، ورجع أبو مسلم إلى مرو.
ذكر غزو جزيرة صقليةوفي هذه السنة غزا عبد الله بن حبيب جزيرة صقلية وغنم بها وسبى وظفر بها ما لم يظفره أحد قبله بعد ان غزا تلمسان، واشتغل ولاة إفريقية بالفتنة مع البربر، فأمن الصقلية وعمرها الروم من جميع الجهات وعمروا فيها الحصون والمعاقل وصاروا يخرجون كل عام مراكب تطوف بالجزيرة وتذب عنها، وربما طارقوا تجاراً من المسلمين فيأخذونهم.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة سليمان بن علي، وهو على البصرة وأعمالها، وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها مات أبو خازم الأعرج، وقيل: سنة أربعين، وقيل سنة أربع وأربعين. وفيها مات عطاء بن عبد الله مولى المطلب، وقيل: مولى المهلب، وقيل: هو عطاء بن ميسرة، ويكنى أبا عثمان الخراساني، وقيل سنة أربع وثلاثين. وفيها مات يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بتن عباس بفارس، وكان أميراً عليها، وكان قبل ذلك أميراً على الموصل. وفيها توفي ثور بن زيد الدئلي، وكان ثقة. وزياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وكان من البطال.
عياش بالياء المثناة من تحت، وبالشين المعجمة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة
ذكر حج أبي جعفر وأبي مسلم
وفي هذه السنة كتب أبو مسلم إلى السفاح يسأذنه في القدوم عليه والحج، وكان مذ ملك خراسان لم يفارقها إلى هذه السنة. فكتب إليه السفاح يأمره بالقدوم عليه في خمسمائة من الجند، فكتب أبو مسلم إليه: إني قد وترت الناس ولست آمن على نفسي. فكتب إليه: أن أقبل في ألف، فإنما أنت في سلطان أهلك ودولتك وطريق مكة لا يتحمل العسكر.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34