كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

ورقاء هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، ضرب خالد بن جعفر ابن كلاب وخالد قد أكب على أبيه زهير وضربه بالسيف فصرعه، فأقبل ورقاء فضرب خالداً ضربات فلم يصنع شيئاً، فقال ورقاء بن زهير
رأيت زهيراً تحت كلكل خالدٍ ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
فشلت يميني يوم أضرب خالداً ... ويمنعه مبني الحديد المظاهر
ذكر خلافة عمر بن عبد العزيزفي هذه السنة استخلف عمر بن عبد العزيز.
وسبب ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما كان بدابق مرض، على ما وصفنا، فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه، وهو غلام لم يبلغ، فقال له رجاء بن حيوة: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على الناس الرجل الصالح. فقال سليمان: أنا أستخير الله وأنظر. ولم أعزم؛ فمكث سليمان يوماً أو يومين ثم خرقه ودعا رجاء فقال: ما ترى في ولدي دواد؟ قال الرجاء: رأيك. قال: فكيف ترى في عمر بن العزيز؟ قال رجاء: فقلت: أعلمه والله خيراً فاضلاً سليماً. قال سليمان: هو على ذلك ولئن وليته ولم أول أحداً سواه لتكونن فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده، وكان عبد الملك قد عهد إلى الوليد وسليمان أن يجعلا أخاهما يزيد ولي عهد، فأمر سليمان أن يجعل يزيد بن عبد الملك بعد عمر، وكان يزيد غائباً في الموسم. قال رجاء: قلت رأيك. فتكب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليتك الخلافة بعدي ومن بعدك يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم. وختم الكتاب. وأرسل إلى كعب بن جابر العبسي صاحب شرطته فقال: ادع أهل بيتي. فجمعهم كعب. ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي إليهم و أخبرهم بكتابي ومرهم فيبايعوا من وليت فيه.
ففعل رجاء، فقالوا: ندخل ونسلم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم. فدخلوا، فقال لهم سليمان: في هذا الكتاب، وهو يشير إلى الكتاب الذي في يد رجاء بن حيوة، عهدي فاسمعوا وأطيعوا لمن سيمت فيه. فبايعوه رجلاً رجلاً وتفرقوا.
وقال رجاء: فأتاني عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئاً من هذا الأمر، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ذلك. قال رجاء: ما أنا بمخيبرك حرفاً قال: فذهب عمر عني غضبان.
قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك فقال: إن لي بك حرمةً وموده قديمة وعندي شكر فأعلمني بهذا الأمر، فإن كان إلى غيري تكلمت والله علي أن لا أذكر شيئاً من ذلك أبداً. قال رجاء: فأبيت أن أخبره حرفاً، فانصرف هشام وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول: فإلى من إذاً نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ قال رجاء: ودخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات الموت حرفته إلى القبلة فيقول حين يفيق: لم يأن بعد. ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئاً، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فحرفته، فمات، فلما غمضته وسجيته وأغلقت الباب أرسلت إلي زوجته فقالت: كيف أصبح؟ فقلت: هو نائم قد تغطى. ونظر إليه الرسول متغطياً فرجع فأخبرها، فظنت أنه نائم، قال: فأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يبرح ولا يترك أحداً يدخل على الخليفة.
قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن جابر فجمع أهل بيت سليمان، فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا. فقالوا قد بايعنا مرة. قلت: وأخرى، هذا عهد أمير المؤمنين. فبايعوا الثانية، فلما بايعوا بعد موته رأيت أني قد أحكمت الأمر فقلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات. قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون! وقرأت الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا نبايعه والله أبداً. قلت: أضرب واله عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه. قال رجاء: فأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه. فبايعوه.

وغسل سليمان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز ودفن. فلما دفن أتي عمر بمراكب الخلافة ولكل دابة سائس، فقال: ماهذا؟ فقيل: مراكب الخلافة. قال: دابتي أوفق لي، وركب دابته وصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائراً، فقيل له: أمنزل الخلافة؟ فقال: فيه عيال أبي أيوب، يعني سليمان، وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا. فأقام في منزله حتى فرغوه.
قال رجاء: فأعجبني ما صنع في الدواب ومنزل سليمان، ثم دعا كاتباً فأملى عليه كتاباً واحداً وأمره أن ينسخه ويسيره إلى كل بلد.
وبلغ عبد العزيز بن الوليد، وكان غائباً، عن موت سليمان، ولم يعلم ببيعة عمر، فعقد لواء ودعا إلى نفسه، فبلغه بيعة عمر بعهد سليمان وأقبل حتى دخل عليه، فقال له عمر: بلغني أنك بايعت من قبلك وأردت دخول دمشق! فقال: قد كان ذاك وذلك أنه بلغني أن سليمان لم يكن عهد لأحد فخفت على الأموال أن تنهب. فقال عمر: لو بايعت وقمت بالأمر لم أنازعك فيه ولقعدت في بيتي. فقال عبد العزيز: ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك، وبايعه، وكان يرجى لسليمان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده.
فلما استقرت البيعة لعمر بن عبد العزيز قال لأمرأته فاطمة بنت عبد الملك: أن أردت صحبتي فردي ما معك من مال وحلى وجوهر إلى بيت مال المسلمين فإنه لهم، فإني لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد. فرددته جميعه.
فلما توفي عمر وولي أخوها يزيد رده عليها وقال: أنا أعلم أن عمر ظلمك. قالت: كلا والله. وامتنعت من أخذه وقالت: ما كنت أطيعه حياً وأعصيه ميتاً. فأخذه يزيد وفرقه على أهله.
ذكر ترك سب أمير المؤمنين علي عليه السلامكان بنو أمية يسبون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، فترك ذلك وكتب إلى العمال في الآفاق بتركه.
وكان سبب محبته علياً أنه قال: كنت بالمدينة أتعلم العلم وكنت ألزم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فبلغه عني شيء من ذلك، فأتيته يوماً وهو يصلي، فأطال الصلاة، فقدت أنتظر فراغه، فلما فرغ من صلاته التفت إلي فقال لي:متى عملمت أن الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟ قلت: لم أسمع ذلك. قال: فما الذي بلغني عنك في علي؟ فقلت: معذرة إلى الله وإليك! وتركت ما كنت عليه، وكان أبي إذا خطب فنال من علي، رضي الله عنه، تلجلج فقلت: يا أله إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيراً؟ قال: أوفطنت لذلك؟ قلت: نعم. فقال: يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفروا عنا إلى أولاده.
فلما ولي الخلافة لم يكن عنده من الرغبة في الدينا ما يرتكب هذا الأمر العظيم لأجلها، فترك ذلك وكتب بتركه وقرأ عوضه: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى " النحل:90 الآية؛ فحل هذا الفعل عند الناس محلا حسناً وأكثروا مدحه بسببه؛ فمن ذلك قوله كثير عزة:
وليت فلم تشتم علياً ولن تخف ... برياً ولم تتبع مقالة مجرم
تكلمت بالحق المبين وإنما ... تبين آيات الهدى بالتكلم
وصدقت معروف الذي قلت بالذي ... فعلت فأضحى راضياً كل مسلم
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه ... من الأود البادي ثقاف المقوم
فقال عمر حين أنشده هذا الشعر: أفلحنا إذاً.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة، وهو بأرض الروم، يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه له خيلاً عتاقاً وطعاماً كثيراً، وحث الناس على معونتهم. وفيها أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا من المسلمين جماعة، فوجه عمر حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الترك ولم يفلت منهم إلا اليسير، وقدم على عمر منهم بخمسن أسيراً. وفيها عزل يزيد بن المهلب عن العراق ووجه إلى البصرة عدي بن أرطاة الفزاري وعلى الكوفة عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن زبد بن الخطاب العدوي القرشي، وضم إليه أبا الزناد، وكان كاتبه، وبعث عدي في أثر يزيد بن المهلب موسى بن الوجيه الحميري.

وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حازم، وكان عامل عمر على المدينة. وكان العامل على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد. وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى القضاء بها عامر الشعبي. وكان على البصرة عدي بن أرطاة، وعلى القضاء الحسن بن فعزله عدي واستقضى أياساً.
واستعمل عمر بن عبد العزيز على خراسان الجراح بن عبد الله الحمي.
في هذه السنة مات نافع بن جبير بن مطعم بن عدي بالمدينة. ومود ابن الربيع ولد على عهد رسول الله، مطلوب وأبو ظبيان بن حصين بن جندب الجنبي والد قابوس؛ ظبيان بالظاء المعجمة. وفيها توفي أو هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب من سم سقيه عند عوده من الشام، وضع عليه سليمان بن عبد الملك من سقاه، فلما أحس بذلك عاد إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو بالحميمة فعرفه حاله وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده وأعلمه كيف يصنع، ثم مات عنده. وفي أيام سليمان توفي عبيد الله بن شريح المغني المشهول. وعبد الرحمن بن كعب بن مالك أبو الخطاب.
ثم دخلت سنة مائة

ذكر خروج شوذب الخارجي
في هذه السنة خرج شوذب، واسمه بسطام، من بني يشكر، في جوخى، وكان في ثمانين رجلاً، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد عاملة بالكوفة أن لا يحركهم حتى سفكوا دماء وفسدوا في الأرض، فإن فعلوا وجه إليهم رجلاً صليباً حازماً في جند.
فبعث عبد الحميد محمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين وأمره بما كتب به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه وقد وقدم عليه محمد بن جرير، فقام بإزائه لا يترحك.
فكان في كتاب عمر: بلغني أنك خرجت غضباً لله ولرسوله ولست أولى بذلك مني، فهلم إلي أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك.
فكتب بسطام إلى عمر: قد أنصفت وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرنك.
وأرسل إلى عمر مولى لبني شيبان حبشياً اسمه عاصم، ورجلاً من بني يشكر، فقدما على عمر بخناصرة فدخلا إليه، فقال لهما: ما أخرجكما هذا المخرج وما الذي نقمتم؟ فقال عاصم: ما نقمنا سيرتك، إنك لتتحرى العدل والإحسان، فاخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضىً من الناس ومشورة أم ابتززتم أمرهم؟ فقال عمر: ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم عليها، وعهد إلي رجل كان قبلي فقمت ولم ينكره على أحد ولم يكرهه غيركم، وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس، فاتركوني ذلك الرجل، فإن خالفت الحق ورغبت عنه فلا طاعة لي عليكم.
قالا: بيننا وبينك أمر واحد قال: ما هو. قالا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسميتها مظالم، فإن كنت على هدىً وهم على الضلالة فالعنهم وابرأ منهم. فقال عمر: قد علمت أنكم لم تخرجوا طلباً للدنيا ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها، وإن الله، عز وجل، لم يبعث رسول صلى الله عليه وسلم ، لعاناً، وقال إبراهيم " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " إبراهيم:36. وقال الله، عز وجل: " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " الأنعام:90. وقد سميت أعمالهم ظلماً، وكفى بذلك ذماً ونقصاً، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بد منها، فإن قلتم إنها فريضة فأخبرني متى لعنت فرعون؟ قال: ما أذكر متى لعنته.
قال: أفيسعك أن لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم ولا يسعني أن لا ألعن أهل بيتي وهم مصلون صائمون! قال: أما هم كفار بظلمهم؟ قال: لا لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، دعا الناس إلى الإيمان، فكان من أقر به وبشرائعه قبل منه، فإن أحدث حدثاً أقيم عليه الحد.

فقال الخارجي: إن رسول الله، " صلى الله عليه وسلم " ، دعا الناس إلى توحيد الله والإقرار بما نزل من عنده. قال عمر: فليس أحد منهم يقول لا أعمل بسنة رسول الله، ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم على علم منهم أنه محرم عليهم، ولكن غلب عليهم الشقاء. قال عاصم: فابرأ مما خالف عملك ورد أحكامهم. قال عمر: أخبراني عن أبي بكر وعمر أليسا على حق؟ قالا: بلى. قال: أتعلمان أن أبا بكر حين قاتل أهل الردة سفك دماءهم وسبى الذراري وأخذ الأموال؟ قالا: بلى. قال: أتعلمان أن عمر رد السبايا بعده إلى عشائرهم بفدية؟ قالا: نعم. قال: فهل برئ عمر من أبي بكر؟ قالا:لا. قال: أفتراون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبراني عن أهل النهروان وهم أسلافكم هل تعلمان أن أهل الكوفة خرجوا فلم يسفكوا دماً ولم يأخذوا مالاً وأن من خرج إليهم من أهل البصرة قتلوا عبد الله بن خباب وجاريته وهي حامل؟ قالا: نعم. قال: فهل برئ من لم يقتل ممن قتل واستعرض؟ قالا: لا. قال: أفتبرأون أنتم من أحد من الطائفتين؟ قالا: لا. قال: أفيسعكم أن تتلوا أبابكر وعمر وأهل البصرة وأهل الكوفة وقد علمتم اختلاف أهمالهم ولا يسعني إلا البراءة من أهل بيتي والدين واحد! فاتقوا الله! فإنكم جهال تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وتردون عليهم ما قبل، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، فإنكم يخاف عندكم من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وكان من فعل ذلك عند رسول الله آمنا وحقن دمه وماله، وأنتم تقتلونه، ويامن عندكم سائر أهل الأديان فتحرمون دماءهم وأموالهم.
قال اليشكري: أرأيت رجلاً ولي قوماً وأموالهم فعدل فيها ثم صيرها بعده إلى رجل غير مأمون، أتراه أدى الحق الذي يلزمه لله، عز وجل، أو تراه قد سلم؟ قال: لا. قال: أفتسلم هذا الأمر إلى يزيد من بعدك وأنت تعرف أنه لا يقوم فيه بالحق؟ قال: إنما ولاه غيري والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدي. قال: أفترى ذلك من صنع من ولاه حقاً؟ فبكى عرم وقال: أنظراني ثلاثاً.
فخرجا من عنده ثم عاد إليه فقال عاصم: أشهد أنك على حق. فقال عمر لليسكري: ما تقول أنت؟ قال: ما أحسن ما وصفت ولكني لا أفتات على المسلمين بأمر، أعرض عليهم ما قلت وأعلم ما حجتهم.
فأما عاصم فأقام عند عمر، فأمر له عمر بالعطاء، فتوفي بعد خمسة عشر يوماً. فكان عم بن عبد العزيز يقول: أهلكني أمر يزيد وخصمت فيه، فأستغفر الله.
فخاف بنو أمية أن يخرج ما بأيديهم من الأموال وأن يخلع يزيد ولاية العهد، فوضعوا على عمر من سقاه سماً، فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثاً حتى مرض ومات، ومحمد بن جرير مقابل الخوارج لا يتعرض إليهم ولا يتعرضون إليه، كل منهم ينتظر عود الرسل من عند عمر بن عبد العزيز، فتوفي والأمر على ذلك.
ذكر القبض على يزيد بن المهلب

واستعمال الجراح على خراسان
قيل: وفي هذه السنة كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة يأمره بإنفاذ يزيد بن المهلب إليه موثقاً، وكان عمر قد كتب إليه أن يستخلف على عمله ويقبل إليه، فاستخلف مخلداً ابنه وقدم من خراسان ونزل واسطاً، ثم ركب السفن يريد البصرة، فبعث عدي بن أرطاة موسى بن الوجيه الحميري، فلحقه في نهر معقل عند الجسر، فأوثقه وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فدعا به عمر، وكان يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم. وكان يزيد ببغض عمر ويقول: إنه مراءٍ، لما ولي عمر عرف يزيد أنه بعيد من الرياء، وملا دعا عمر يزيد سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان، فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني به. فقال له: لا أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها.

وحبسه بحصن حلب، وبعث الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان أميراً عليها، وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطي الناس، ففرق أموالاً عظيمة، ثم قدم على عمر فقال له: يا أمير المؤمنين إن الله صنع لهذه الأمة بولايتك وقد ابتلينا بك، فلا نكن نحن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا السيخ؟ أنا أتحمل ما عليه فصالحنني على ما تسأل. فقال عمر فقال له: يا أمير المؤمنين إن الله صنع لهذه الأمة بولايتك وقد ابتلينا بك، فلا نكن نحن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ؟ أنا أتحمل ما عليه فصالحني على ما تسأل. فقال عمر: لا ألا أن يحمل الجميع. فقال: يا أمير المؤمنين إن كانت لك بينة فخذ بها وإلا فصدق مقالة يزيد واستحلفه فإن لم يفعل فصالحه. فقال عمر: ما آخذه إلا بجميع المال. فخرج مخلد من عنده، فقال عمر: هذا خير من أبيه. ثم لم يلبث مخلد إلا قليلاً حتى مات، فصلى عليه عمر بن عبد العزيزي، فقال: اليوم مات فتى العرب؛ وأنشد:
بكوا حذيفة لم يبكوا مثله ... حتى تبيد خلائق لم تخلق
فلما أبى يزيد أن يؤدي إلى عمر شيئاً ألبسه جبة صوف وحمله على جمل وقال: سيروا به إلى دهلك. فلما خرج ومروا به على الناس أخذ يقول: أما لي عشيرة؟ إنما يذهب إلى دهلك الفاسق واللص. فدخل سلامة بن نعيم الخولاني على عمر فقال: يا أمير المؤمنين اردد يزيد إلى محبسه فإني أخاف إن أمضيته أن ينزعه قومه، فإنهم قد عصبوا له. فرده إلى محبسه، فبقى فيه حتى بلغه مرض عمر.
ذكر عزل الجراح

واستعمال عبد الرحمن بن نعيم القشيري وعبد الرحمن بن عبد الله
وقيل: في هذه السنة عزل عمر الجراح بن عبد الله الحكمي عن خراسان واستعمل عليها عبد الرحمن بن نعيم القشيري، وكان عزل الجراح في رمضان.
وكان سبب ذلك أن يزيد لما عزل عن خراسان أرسل عامل العاق عاملاً على جرجان، فأخذ جهم بن زحر الجعفي، وكان على جرجان عاملاً ليزيد بن المهلب، فحبسه وقيده وحبس رهطاً قدموا معه، ثم خرج إلى الجراح بخراسان، فأطلق أهل جرجان عاملهم، وقال الجراح لجهم: لولا أنك ابن عمي لم أوسغك هذا فقال جهم: لولا أنك ابن عمي لم آتك.
وكان جهم سلف الجراح من قبل ابنتي الحصين بن الحارث، وأما كونه ابن عمه فلأن الحكم والجعفي ابنا سعد القشيري.
فقال له الجراح: خالفت إمامك فاغز لعلك تظفر فيصلح أمرك عنده. فوجهه إلى الختل فغنم منهم ورجع، وأوفد الجراح إلى عمر وفداً رجلين من العرب ورجلاً من الموالي يكنى أبا الصيد، فتكلم العربيان والمولى ساكت، فقال عمر: ما أنت من الوفد؟ قال: بلى . قال: فما يمنعك من الكلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين عشرون ألفاً من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد اسلموا من الذمة يؤخذون بالخراج، فأميرنا عصبي جافٍ يقوم على منبرنا فيقول: أتيتكم حفياً، وأنا اليوم عصبي، والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم. وهو بعد سيف من سيوف الحجاج، قد عمل بالظلم والعدوان. قال عمر: إذن بمثلك يوفد.
فكتب عمر إلى الجراح: انظر من صلى قبلك إلى القبلة فضع عنه الجزية. فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح: إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام نفوراً من الجزية فامتحنهم بالحنان. فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب عمر إليه: إن الله بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم ، داعياً ولم يبعثه خاتناً، وقال: إيتوني رجلاً صدوقاً أسأله عن خراسان. فقيل له: عليك بأبي مجلز. فكتب إلى الجراح : أن أقبل واحمل أبا مجلز وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم العامري. فخطب الجراح وقال: يا أهل خراسان جئتكم في ثيابي هذه التي علي وعلى فرسي لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي. ولم يكن عنده إلا فرس وبغلة. فسار عنهم، فلما قدم على عمر قال: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان. قال: صدق من وصفك بالجفاء، هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج!

وكان الجراح كتب إلى عمر: إني قدمت خراسان فوجدت قوماً قد أبطرتهم الفتنة، فأحب الأمور إليهم أن يعودوا ليمنعوا حق الله عليهم، فليس يكفهم إلا السيف والسوط، فكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك. فكتب إليه عمر: يا ابن أم الجراح، أنت أحرص على الفتنة منهم، لا تضربن مؤمناً ولا معاهداً سوطاً إلا في الحق، واحذر القصاص، فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقرأ كتاباً: " لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها " .
فلما قدم الجراح على عمر وقدم أبو مجلز قال له عمر: اخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: يكافي الأكفاء ويعادي الأعداء، وهو أمير يفعل ما يشاء، ويقدم إن وجد من يساعده. قال: فعبد الرحمن بن نعيم؟ قال: يحب العافية والتأني وهو أحب إلي. فولاه الصلاة والحرب، وولى عبد الرحمن القشيري الخراج، وكتب إلى أهل خراسان: إني استعملت عبد الرحمن على حربكم، وعبد الرحمن بن عبد الله على خراجكم، وكتب إليهما يأمرهما بالمعروف والإحسان.
فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى مات عمر وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب، ووجه مسلمة بن عبد العزيز الحارث بن الحكم فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف
ذكر ابتداء الدعوة العباسيةفي هذه السنة وجه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الدعاة في الآفاق.
وكان سبب ذلك أم محمداً كان ينزل أرض الشراة من أعمال البلقاء بالشام، فسار أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى الشام إلى سليمان بن عبد الملك، فاجتمع به محمد بن علي فأحسن صحبته، واجتمع أو هاشم بسليمان وأكرمه وقضى حوائجه، ورأى من علمه وفصاحته ما حسده عليه وخافه، فوضع عليه من وقف على طريقه فسمه في لبن.
فلما مات أو هاشم قصدوا محمداً وبايعوه وعادوا فدعوا الناس إليه، فأجابوهم، وكان الذين سيرهم إلى الآفاق جماعةً، فوجه ميسرة إلى العراق، ووجه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار، خال إبراهيم بن سلمة، إلى خراسان، وعليها الجراح الحكمي، وأمرهم بالدجعاء إليه وإلى أهل بيته. فلقوا من لقوا. ثم انصرفوا بكتب من استجاب لهم إلى محمد بن علي، فدفعوها إلى ميسرة، فبعث بها ميسرة إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فاختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي ا ثني عشر رجلاً نقباء، منهم: سليمان بن كثير الخزاعي، ولاهز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود من بني شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميم، وعمران بن إسماعيل أبو النجم مولى آل أبي معيط، ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وعمر بن أعين أبو حمزة مولى خزاعة، وشبل بن طهمان أبو علي الهروي مولى لبني حنيفة، وعيسى بن أعين مولى خزاعة، واختار سبعين رجلاً، وكتب إليهم محمد بن علي كتاباً ليكون لهم مثالاً وسيرة يسرون بها.
الحميمة بضم الحاء المهملة. والشراة بالشين المعجمة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أمر عمر بن عبد العزيز أهل طرندة بالقفول عنها إلى ملطية، وطرندة وأغلة في البلاد الرومية من ملطية بثلاث مراحل، وكان عبد الله ابن عبد الملك قد أسكنها المسلمين بعد أن غزاها سنة ثلاث وثمانين، وملطية يومئذ خراب، وكان يأتيهم جند من الجزيرة يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثلج ويعودون إلى بلادهم، فلم يزالوا كذلك إلى أن ولي عمر فأمرهم بالعود إلى ملطية وأخلى طرندة خوفاً على المسلمين من العدو وأخرب طرندة، واستعمل على ملطية جعونة بن الحارث أحد بني عامر بن صعصعة.
وفيها كتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وقد كانت سيرته بلغتهم، فأسلم جيشه بن ذاهر، والملوك تسموا له بأسماء العب، وكان عمر قد استعمل على ذلك الثغر عمرو بن مسلم أخا قتيبة بن مسلم، فعزا بعض الهند، فظفر وبقي ملوك السن مسلمين على بلادهم أيام عمر ويزيد ابن عبد الملك، فلما كان أيام هشام ارتدوا عن الإسلام، وكان سببه ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي وعمرو بن قيس الكندي الصائفة.
وفيها استعمل عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الفزاري على الجزيرة عاملاً عليها.

وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو. وكان العمال من تقدم ذكرهم إلا عامل خراسان. وكان على حربها عبد الرحمن ابن نعيم، وعلى خراجها عبد الرحمن بن عبد الله آخرها.
وفيها استعمل عمر بن عبد العزيز إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم على إفريقية، واستعمل السمح بن مالك الخولاني على الأندلس، وكان قد رأى منه أمانةً وديانةً عند الوليد بن عبد الملك فاستعمله.
في هذه السنة مات أبوالطفيل عامر بن واثلة بمكة، وهو آخر من مات من الصحابة. وفيها مات شهر بن حوشب، وقيل سنة اثنتي عشرة ومائة. وفيها توفي القاسم بن مخيمرة الهمداني. وفيها توفي مسلم بن يسار الفقيه، وقيل: سنة إحدى ومائة. وفيها توف أبو أمام أسعد بن سهل بن حنيف، وكان ولد على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم ، فسماه وكناه بجده لأمه أبي أمام أسعد بن زراه، كان قد مات قبل بدر. وفيها توفي بسر بن سعد مولى الحضرميين؛ " لسر بضم الباء الموحدة، وبالسين المهملة. وعيسى بن طلح بن عبد الله التيمي. ومحمد بن جبير بن مطعم. وربيعي بن حراس الكوفي؛ جراش بكسر الحاء المهلمة، وبالراء المهملة، وقيل سنة أربع ومائة. وحنش بن عبد الله الصنعاني، كان من أصحاب علي، فلما قتل انتقل إلى مصر، وهو أول من اختط جامع سرقسطة بالأندلس؛ حنش بالحاء المهملة والنون المفتوحتين، والشين المعجمة.
ثم دخلت سنة إحدى ومائة

ذكر هر ابن المهلب
قد ذكرنا حبس يزيد بن المهلب، فلم يزل محبوساً حتى اشتد مرض عمر بن العزيز، فعمل في الهرب، فخاف يزيد بن عبد الملك لأنه قد عذب أصهاره آل أبي عقيل، وكانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف، وهي ابنة أخي الحجاج، زوجة يزيد بن عبد الملك.
وكان سبب تعذيبهم أن سليمان بن عبد الملك لما ولي الخلافة طلب آل أبي عقيل فأخذهم وسلمهم إلى يزيد بن المهلب ليخلص أموالهم، فعذبهم وبعث ابن المهلب إلى البلقاء من أعمال دمشق، وبها خزائن الحجاج بن يوسف وعياله، فنقلهم وما معهم إليه، وكان فيمن أتي به أم الحجاج زوجة يزيد ابن عبد الملك، وقيل: بل أخت لها، فعذبها، فأتى يزيد عبد الملك إلى ابن المهلب في منزله فشفع فيها، فلم يشفعه، فقال: الذي قررتم عليها أنا أحمله، فلم يقبل منه، فقال لابن المهلب: أما والله لئن وليت من الأمر شيئاً لأقطعن منك عضوا! فقال ابن المهلب: وأنا والله لئن كان ذلك لأرمينك بمائة ألف سيف. فحمل يزيد بن عبد الملك ما كان عليها، وكان مائة ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك.
فلما اشتد مرض عمر بن عبد العزيز خاف ابن المهلب من يزيد بن عبد الملك، فأرسل إلى مواليه، فأعدوا له إبلاً وخيلاً وواعدهم مكاناً يأتيهم فيه، فأرسل إلى عامل حلب مالاً وإلى الحرس الذين يحفظونه وقال: إن أمير المؤمنين قد ثقل وليس برجاء، وإن ولي يزيد يسفك دمي.
فأخبره، فهرب إلى المكان الذي أعد أصحابه فيه، فركب الدواب وقصد البصرة، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً يقول: إني لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك، ولكني خفت أن يلي يزيد فيقتلني شر قتلة. فورد كتاب وبه رمق، فقال: الهم إن كان يري بالمسلمين سوءاً فألحقه به وهضه فقد هاضني.
ومر يزيد في طريقه بالهذيل بن زفر بن الحارث، وكان يخافه، فلم يشعر الهذيل إلا وقد دخل يزيد منزله ودعا بلبن فشربه، فاستحيا منه الهذيل وعرض عليه خيله وغيرها، فلم يأخذ منه شيئاً.
وقيل في سبب خوف ابن المهلب من يزيد بن عبد الملك ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة عمر بن عبد العزيزقيل: توفي عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة، وكانت شكواه عشرين يوماً، ولما مرض قيل له: لو تداويت. قال: لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربي. وكان موته بدير سمعان، وقيل: بخناصرة، ودفن بدير سمعان. وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، وكان عمره تسعاً وثلاثين سنة وأشهراً، وقيل: كان عمره أربعين سنة وأشهراً، وكانت كنيته أباحفص، وكان يقال له أشبح بني أمية، وكان قد رمحته دابة من دواب أبيه فشجته وهو غلام، فدخل على أمه فضمته إليها وعذلت ألاه ولامته حيث لم يجعل معه حاضناً، فقال لها عبد العزيز: اسكتي يا أم عاصم فطوباك إن كان أشبح بني أمية.

قال ميمون بن مهران: قال عمر بن عبد العزيز: لما وضعت الوليد في حفرته تظرت فإذا وجهه أسود، فإذا مت ودفنت فاكشف عن وجهي؛ ففعلت فرأيته أحسن مما كان أيام تنعمه.
وقيل: كان ابن عمر يقول: ياليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلاً؟ وكانت أمر عمر بن عبد العزيز أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وعو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، ورثاه الشعراء فأكثروا، فقال كثير عزة:
أقول لما أتاني ثم مهلكه ... لا تبعدن قوام الحق والدين
قد غادروا في ضريح اللحد منجدلاً ... بدير سمعان قسطاس الموازين
ورثاه جرير والفرزدق وغيرهما.
ذكر بعض سيرتهقبل: لما ولي الخلافة كتب إلى يزيد بن المهلب: أما بعد فإن سليمان كان عبداً من عابد الله أنعم الله عليه عليه ثم قبضه واستخلفني، ويزيد بن عبد الملك من بعدي إن كان، وإن الذي ولاني الله من ذلك من ذلك وقدر لي ليس علي بهين، ولو كانت رغبتي في اخاذ أزواج أو اعتقاد أموال، لكان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بن أفضل ما بلغ بأحد من خلافة، وأنا أخاف فيما ابتليت به حساباً شديداً ومسألة غليظة إلا ما عفا الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك.
فلما قرأ الكتاب قيل له: لست من عماله لأن كلامه ليس ككلام من مضى من أهله. فدعا يزيد الناس إلى البيعة، فبايعوا.
قال مقاتل بن حيان: كتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم: أما بعد فاعمل عمل من يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين.
قال طفيل بن مرداس: كتب عمر إلى سليمان بن أبي السري: ان اعمل خانات، فمن مر بك من المسلمين فاقروه يوماً وليلة وعهدوا دوابهم ومن كانت به علة فاقروه يويمين وليلتين، وإن كان منقطعاً به فأبلغه بلده. فما أتاه كتاب عمر قال له أهل سمرقند: قتيبة ظلمنا وغدر بنا فأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف فأذن لنا فليقدم منا وفد على أمير المؤمنين. فأذن لهم، فوجهوا وفداً إلى عمر، فكتب لهم إلى سليمان: إن أهل سمرقند شكروا ظلماً وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرج العرب إلى معسكرهم كما كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة. قال: فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء فيكون صلحاُ جديداً أو ظفراً عنوةً. فقال أهل الصغد: بلى نرضى بما كان ولا نحدث حرباً، وتراضوا بذلك.
قال دواد بن سليمان الحميد: كتب عمر إلى عبد الحميد: أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله وسنة خبيثة سنها عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك، فإنه لا قليل من الإثم، ولا تحمل خراباً على عامر ولا عامراً على خراب. انظر الخراب وخذ من ما أطاق وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن أجور الضرابين ولا هدية النوروز والمهرجان ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفتوح ولا أجور البيوت، ولا درهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتبع في ذلك أمري فإني قد وليتك من ذلك ما ولأني الله، ولا تعجل دورني بقطع ولا صلب حتى تراجعني فيه، وانظر من أراد من الذرية أن يحج فعجل له مائة ليحج بها، والسلام.
قال عثمان بن عبد الحميد: حدثني أبي قال: قالت فاطمة بنت عبد الملك، رحمها الله، امرأة عمر: لما مرض عمر اشتد قلقه ليلة، فسهرنا معه، فلما أصبحنا أمرت وصيفاً له يقال له مرثد ليكون عنده، فإن كانت له حاجة كنت قريباً منه، ثم نمنا، فلما انتفخ النهار استيقظت فتوجهت إليه فرأيت مرثداً خارجاً من البيت نائماً، فقلت له: ما أخرجك؟ قال: هو أخرجني، وقال لي: إني أرى شيئاً ما هو بإنس ولا جن، فخرجت فسمعته يتلو: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " القصص:83. قالت: فدخلت فوجدته بعدما دخلت قد وجه نفسه للقبلة وهو ميت.

قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر أعوده فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لا مرأته فاطمة، وكانت أخت مسلمة: اغسلوا ثياب أمير المسلمين. فقالت: نفعل. ثم عدت فإذا القميص على حاله. فقلت: ألم آمركم أن تغسلوا قميصه؟ فقالت: والله ما له غيره. قيل: وكانت نفقته كل يوم درهمين.
قيل: وكان عبد العزيز قد بعث ابنه إلى المدينة ليتأدب بها، فكتب إلى صالح بن كيسان أن يتعاهده، فأبطأ عمر يوماً عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ فقال: كانت مرجلتي تصلح شعري، فكتب إلى أبيه بذلك، فأرسل أبوه رسولاً، فلم يزل حتى حلق شعره.
وقال محمد بن علي الباقر: إن لكل قوم نجبيبه، وإن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، وإنه يبعث يوم القيامة أمه وحده.
وقال مجاهد: أتينا عمر نعلمه، فلم نبرح حتى تعلمنا منه.
وقال ميمون: كانت العلماء عند عمر تلامذه.وقيل لعمر: ما كان بدء إنابتك؟ قال: أردت ضرب غلام لي فقال: اذكر ليلةً صبيحتها يوم القيامة. وقال عمر: ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر أهله.
وقال رياح بن عبيدة: خرج عمر بن عبد العزيز وشيخ متوكئ على يده، فلما فرغ ودخل قلت: أصلح الله الأمير، من الشيخ الذي كان متوكئاً على يدك؟ قال: أرأيته؟ قلت نعم قال: ذاك أخي الخضر أعلمني أني سألي أمر هذه الأمة وأني سأعدل فيها.
قال: وأتاه أصحاب مراكب الخلافة يطلبون علفها، فأمر بها فبيعت، وجعل أثمانها في بيت المال وقال: تكفيني بغلتي هذه. فقال: ولما رجع من جنازة سليمان بن عبد الملك رآه مولى له مغتماً فسأله، فقال: ليس أحد من أمة محمد في شرق الأرض ولا غربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه من غير طلب منه. قال: ولما ولي الخلافة قال لأمرأته وجواريه إنه قد شغل بما في عنقه عن النساء، وخيرهن بين أن يقمن عنده أو يفارقنه، فبكين واخترن المقام معه.
قال: ولما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وكانت أول خطبة خطبها ثم قال: أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن أحداً، ولا يعترض في ما لا يعنيه. فانقشع الشعراء والخطباء وثبت عنده الفقهاء والزهاد وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف قوله فعله. قال: فلما ولي الخلافة أحضر قريشاً ووجوه الناس فقال له: إن فدك كانت بيد رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، فكان يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر كذلك، ثم أقطعها مروان، ثم إنها صارت إلي ولم تكن من مالي أعود منها علي، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم ؛ قال: فانقطعت ظهور الناس ويئسوا من الظلم.
قال: وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: إن أهلي أقطعوني ما لم يكن إلي أن آخذه ول لهم أن يعطونيه، وإني قد هممت بردة على أربابه. قال: فكيف نصنع بولدك؟ فجرت دموعه وقال: أكلهم إلى الله. قال: وجد لولده ما يجد الناس، فخرج مزاحم حتى دخل على عبد الملك بن عمر فقال ل: إن أمير المؤمنين قد عزوم على كذا وكذا، وهذا أمر يضركم وقد نهيته عنه.
فقال عبد الملك: بئس وزير الخليفة أنت! ثم قام فدخل على أبيه وقال له: إن مزاحماً أخبرني بكذا وكذا فما رأيك؟ قال: إني أريد أن أقوم به العشية. قال: عجله فما يؤمنك أن يحدث لك حدث أو يحدث بقلبك حدث؟ فرفع عمر يديه وقال: الحمد الله الذي جعل من ذريتي من يعينني على ديني! ثم قام به من ساعته في الناس وردها.

قال: لما ولي عمر الخلافة أخذ من أهله ما بأيديهم وسمى ذلك مظالم، ففزع بنو أمية إلى عمته فاطمة بنت مروان، فأتته فقالت له: تكلم أنت يا أمير المؤمنين. فقال: إن الله بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم ، رحمةً ولم يبعثه عذاباً إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده وترك للناس نهراً شربهم سواء، ثم ولي أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل عملهما، ثم لم يزل النهر يستقي منه يزيد ومروان وعبد الملك ابنه والوليد وسليمان ابنا عبد الملك حتى أفض الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم فلم يرو أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه. فقالت: حسبك، قد أردت كلامك فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئاً أبداً. فرجعت إليهم فأخبرتهن كلامه. وقد قيل: إنها قالت له: إن بني أمية يقولون كذا وكذا، فلما قال لها هذا الكلام قالت له: إنهم يحذرونك يوماً من أيامهم، فغضب وقال: كل يوم أخافه غير يوم القيامة فلا أمنت شره.
فرجعت إليهم فأخبرتهم وقالت: أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب فجاء يشبه جده. فسكتوا.
قال: وقال سفيان الثوري: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، وما كان سواهم فهم منتزون.
قال: وقال الشافعي مثله، قال: وكان يكتب إلى عماله بثلاث، فهي تدور بينهم: بإحياء سنة أو إطفاء بدعة، أو قسم في مسكنة، أورد مظلمة.
قال: وكانت فاطمة بنت الحسين بن علي تثني عليه وتقول: لو كان بقي لنا عمر بن عبد العزيز ما احتجنا بعهده إلى أحد. قالت فاطمة امرأته: دخلت عليه وهو في مصلاة ودموعه تجري على لحيته فقلت: أحدث شيء؟ فقال: إني تقلدت أمر أمة محمد فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والغازي والمظلوم المقهور والغريب الأسير والشيخ الكبير وذي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى الله، فخشيت أن لا تثبت حجتي عند الخصومة، فرحمت نفسي فبكيت.
قيل: ولما مرض ابنه عبد الملك مرض موته، وكان من أشد أعوانه على العدل، دخل عليه عمر فقال له: يا بني كيف تجدك؟ قال: أجدني في الحق. قال: يا بني أن تكون ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك. فقال ابنه: يا أبتاه لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب. فمات في مرضه وله سبععشرة سنة.
قيل: وقالعبد الملك لأبيه عمر: يا أمير المؤمنين ما تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقاً لم تحيه وباطلاً لم تمته؟ فقال: يا بني إن أباك وأجدادك قد دعوا الناس عن الحق فانتهت الأمور إلي وقد أقبل شرها وأدبر خيرها، ولكن أيس حسناً ألا تطلع الشمس على في يوم إلا أحييت فيه حقاً وأمت فيه باطلاً حتى يأتيني الموت فأنا على ذلك؟ وقال له أيضاً: يا أمير المؤمنين انقد لأمر الله وإن جاشت بي وبك القدور. فقال: يا بني إن بادهت الناس بما تقول أحوجوني إلى السيف ولا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف، فكرر ذلك.
قيل: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله نسخة واحدة: أما بعد فإن الله، عز وجل، أكرم بالإسلام أهله، وشرفهم وأعزهم، وضرب الذلة والصغار على من خالفهم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فلا تولين أمور المسلمين أحداً من أهل ذمتهم وخراجهم فتتبسط عليهم أيديهم وألسنتهم فتذلهم بعد أن أعزهم الله، وتهينهم بعد أن أكرمهم الله تعالى، وتعرضهم لكيدهم والاستطالة عليهم، ومع هذا فلا يؤمن غشهم إياهم، فإن الله، عز وجل، يقول: " لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم " آل عمران:118، " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ " المائدة: 51؛ والسلام.
فهذا القدر كافٍ في التنبيه على فضله وعدله.
وفي هذه السنة مات محمد بن مروان في قول، وأبو صالح ذكوان.
ذكر خلافة يزيد بن عبد الملكوفيها تولى يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة، وكنيته أو خالد، بعهدٍ من أخيه سليمان بعد عمر بن عبد العزيز، ولما احتضر عمر قيل له: اكتب إلى يزيد فأوصه بالأمة، قال: بماذا أوصيه؟ إنه من بني عبد الملك. ثم كتب إليه: أما بعد فاتق يايزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك وتصير إلى من لا يعذرك والسلام.

فلما ولي يزيد نزع أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن المدينة واستعمل عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري عليها، واستقضى عبد الرحمن سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وأراد معاضة ابن حزم فلم يجد عليه سبيلاً، حتى شكا عثمان بن حيان إلى يزيد بن عبد الملك من ابن حزم وأنه ضربه حدين وطلب منه أن يقيده منه، فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتاباً: أما بعد فانظر فيما ضرب ابن حزم ابن حيان، فإن كان ضربه في أمر بينٍ أو أمر يختلف فيه فلا تلتفت إليه.
فأرسل ابن الضحاك فأحضر ابن حزم وضربه حدين في مقام واحد ولم يسأله عن شيء.
وعمد يزيد إلى كل ما صنعه عمر بن عبد العزيز مما لم يوافق هواه فرده ولم يخف شناعة عاجلة ولا إثماً عاجلاً، فمن ذلك أن محمد بن يوسف أخا الحجاج بن يوسف كان على اليمين، فجعل عليهم خراجاً مجدداً، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله يأمره بالاقتصار على العشر ونصف العشر وترك ما جدده محمد بن يوسف وقال: لأن يأتيني من اليمن حصة ذرة أحب إلي من تقرير هذه الوضيعة، فلما ولي يزيد بعد عمر أمر بردها وقال لعالمه: خذها منهم ولو صاروا حرضاً، والسلام.
ذكر مقتل شوذب الخارجيقد ذكرنا خروجه ومراسلته عمر بن عبد العزيز المناظرته، فلما مات عمر أحب عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو الأمير على الكوفة، أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلى محمد بن جرير يأمره بمناجزة شوذب، واسمه بسطام، ولم يرجع رسولاً شوذب ولم يعلم بموت عمر.
فلما رأوا محمداً يستعد للحرب أرسل إليه شوذب: ما أعجلكم قبل انقضاء المدة! أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع الرسولان؟ فأرسل محمد: إنه لا يسعنا ترككم على هذه الحال، فقالت الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح.
فاقتتلوا فأصيب من الخوارج نفر وقتل الكثير من أهل الكوفة وانهزموا، وجرح محمد بن جرير في استه، فدخل الكوفة وتبعهم الخوارج حتى بلغوا الكوفة ثم رجعوا إلى مكانهم.
وأقام شوذب ينتظر صاحبيه، فقدما عليه وأخبراه بموت عمر، ووجه يزيد من عند تميم بن الحباب في ألفين قد أرسلهم، وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا معه وحاربوه فقتلوه وقتلوا أصحابه، ولجأ بعضهم إلى الكوفة وبعضهم إلى يزيد. فأرسل إليهم يزيد نجدة بن الحكم الأزدي في جمع، فقتلوه وهزموا أصحابه، فوجه إليهم يزيد السحاج بن وداع في ألفين، فقتلوه وهزموا أصحابه، وقتل منهم نفر، منهم هدبه ابن عم شوذب. فقال أيوب بن خولي يرثيهم:
تركنا تميماً في الغبار ملحباً ... تبكي عليه عرسه وقرائبه
وقد أسلمت قيس تميماً ومالكاً ... كما أسلم الشحاج أمس أقاربه
وأقبل من حران يحمل رايةً ... يغالب أمر الله والله غالبه
فيا هدب للهيحا ويا هدب للندى ... ويا هدب للخصم الألد يحاربه
وياهدب كم من ملجم قد أجبته ... وقد أسلمته للرياح جوالبه
كان أبو شيبان خير مقاتل ... يرجى وخشى حربه من يحاربه
ففاز ولا قى الله في الخير كله ... وخذمه بالسيف في الله ضاربه
تزود من دنياه درعاً ومغفراً ... وعضباً حساماً لم تخنه مضاربه
وأجرد محبرك السراة كأنه ... إذا انقض وافي الريش حجن مخالبه
وأقام الخوارج بمكانهم حتى دخل مسلمة بن عبد الملك الكوفة، فشكا إليه أهل الكوفة مكان شوذب وخوفوه منه، فأرسل إليه مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي، وكان فارساً، في عشرة آلاف، فأتاه وهو بمكانه، فرأى شوذب وأصحابه ما لا قبل لهم به، فقال لأصحابه: من كان يريد الشهادة فقد جاءته، ومن كان يريد الدنيا فقد ذهبت. فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا فكشفوا سعيداً وأصحابه مراراً حتى خاف سعيد الفضيحة، فوبخ أصحابه وقال: من هذه الشرذمة لا أب لكم تفرون! يا أهل الشام يوماً كأيامكم! فحملوا عليهم فطحنوهم طحناً وقتلوا بسطاماً، وهو شوذب، وأصحابه.
ذكر موت محمد بن مروان

وفي هذه السنة توفي محمد بن مروان بن الحكم أخو عبد الملك، وكان قد ولي الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وغزا الروم وأهل أرمينية عدة دفعات، وكان شجاعاً قوياً، وكان عبد الملك يحسده لذلك، فلما انتظمت الأمور لعبد الملك أظهر ما في نفسه له، فتجهز محمد ليسير إلى أرمينية، فلما ودع عبد الملك سأله عن سبب مسيره، فقال وأنشد:
وإنك لا ترى طرداً لحر ... كإلصاقٍ به بعض الهوان
فلو كنا بمنزلةٍ جميعاً ... جريت وأنت مضطرب العنان
فقال له عبد الملك: أقسمت عليك لتقيمن، فوالله لا رأيت مني ما تكره، وصلح له؛ ولما أراد الوليد عزله طلب من يسد مكانه، فلم يقدم أحد عليه إلا مسلمة بن عبد الملك.
ذكر دخول يزيد بن المهلب البصرة وخلعة يزيد بن عبد الملكقيل: وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز، على ما تقدم، فلما مات عمر وبويع يزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد ابن عبد الرحمن وإلى عدي بن أرطاة يأمرهما بالتحرز من يزيد ويعرفهما هربه، وأمر عدياً أن يأخذ من بالبصرة من آل المهلب، فأخذهم وحبسهم، فيهم: المفضل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد حتى ارتفع على القطقطانة، وبعث عبد الحميد جنداً إليهم عليهم هشام بن مساحق العامري، عامر بني لؤي، فساروا حتى نزلوا العذيب، ومر يزيد قريباً منهم فلم يقدموا عليه، ومضى يزيد نحو البصرة وقد جمع عدي بن أرطاة أهل البصرة وخندق عليها، وبعث على خيل البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي، وجاء يزيد في أصحابه الذين معه، فالتقاه أخوه محمد بن المهلب فيمن اجتمع إليه من أهله وقومه ومواليه، فبعث عدي على كل خمس من أخماس البصرة رجلاً، فبعث على الأزد المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي، وبعث على تميم محرز بن حمران السعدي، وعلى خمس بكر مفرج بن شيبان بن مالك بن مسمع، وعلى عبد القيس مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى أهل العالية عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر؛ وأهل العالية قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخشعم وقيس عيلان كلها ومزنية، وأهل العالية والكوفية يقال لهم ربع أهل المدينة.
فأقبل يزيد لا يمر بخيل من خيلهم ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحوا له عن طريقه، وأقبل يزيد حتى نزل داره، فاختلف الناس إليه، فأرسل إلى عدي: أن أبعث إلي إخوتي وإني أصالحك على البصرة وأخليك وإياها حتى آخذ لنفسي من يزيد ما أحب. فلم يقبل منه، فسار حميد بن عبد الملك بن المهلب إلى يزيد بن عبد الملك، فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالداً القسري وعمرو ابن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهله.
وأخذ يزيد بن المهلب يعطي من أتاه قطع الذهب والفضة، فمال الناس إليه، وكان عدي لا يعطي إلا درهمين ويقول: لا يحل لي أن أعطيكم من بيت المال درهماً إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلغوا بهذه حتى يأتي الأمر في ذلك؛ وفي ذلك يقول الفرزدق:
أظن رجال الدرهمين تقودهم ... إلى الموت آجال لهم ومصارع
وأكيسهم من قر في قعر بيته ... وأيقن أن الموت لا بد واقع

وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي فنزلوا المربد، وبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس، فحمل عليهم فهزمهم، وخرج يزيد حين اجتمع الناس له حتى نزل جبانة بني يشكر، وهي النصف فيما بينه وبين القصر، فلقيه قيس وتميم وأهل الشام واقتتلوا هنيهة، وحمل عليهم أصحاب يزيد فانهزموا، وتبعهم ابن المهلب حتى دنا من القصر، فخرج إليهم عدي بنفسه، فقتل من أصحابه موسى بن الوجيه الحميري، والحارث بن المصرف الأودي، وكان من فرسان الحجاج وأشراف أهل الشام، وانهزم أصحاب عدي، وسمع إخوة يزيد، وهم في محبس عدي، الأصوات تدنو والنشاب تقع في القصر، وقال لهم عبد الملك: إني أرى أن يزيد قد ظهر ولا آمن من مع عدي من مضر وأهل الشم أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد، وهم في محبس عدي، الأصوات تدنو والنشاب تقع في القصر، وقال لهم عبد الملك: إني أرى أن يزيد قد ظهر ولا آمن من مع عدي من مضر وأهل الشام أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد، فأغلقوا الباب وألقوا عليه الرحل. ففعلوا، فلم يلبثوا أن جاءهم عبد الله بن دينار مولى بني عامر، وكان على حرس عدي، فجاء يشتد إلى الباب هو وأصحابه وأخذوا يعالجون الباب فلم يطيقوا قلعة، وأعجلهم الناس فخلوا عنهم.
وجاء يزدي بن المهلب حتى نزل داراً لسليمان بن زياد بن أبيه، وإلى جنب القصر، وأتى بالسلاليم وفتح القصر، وأتي بعد بن أرطاة فحبسه وقال له: لولا حبسك إخوتي لما حبستك.
فلما ظهر يزيد هرب رؤوس أهل البصرة من تميم وقيس ومالك بن المنذر فلحقوا بالكوفة، ولحق بعضهم بالشام، وخرج المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي نحو الشام فلقي خالداً القسري وعمرو بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا بأمان يزيد بن المهلب وكل شيء أراده، فسألاه عن الخبر، فخلا بهما سراً من حميد وأخبرهما وقال: أين فارجعا. فرجعا وأخذا حميداً معهما، فقال لهما حميد: أنشدكما الله أن تخلفا ما بعثتما به، فإن ابن المهلب قابل منكما، وإن هذا وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء، فلا تسمعا مقالته. فلم يقبلا قوله ورجعا به.
وأخذ عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة خالد بن يزيد بن المهلب وحمال ابن زحر، ولم يكونا في شيء من الأمر، فأوثقهما وسيرهما إلى الشام، فحبسهما يزيد بن عبد الملك، فلم يفارقا السجن حتى هلكا فيه، وأرسل يزيد ابن عبد الملك إلى الكوفة شيئاً على أهلها ويمتيهم الزيادة.
وجهز أخاه سلمة ابن عبد الملك وابن أخيه العابس بن الوليد بن عبد الملك في سبعين ألف مقاتل من أهل الشام والجزيرة، وقيل: كانوا ثمانين ألفاً، فساروا إلى العراق. وكان مسلمة يعيب العابس ويذمه، فوقع بينهما اختلاف؛ فكتب إليه العباس:
ألا نفسي فداك أبا سعيد ... وتقصر عن ملا حاتي وعذلي
فلولا أن أصلك حين ينمى ... وفرعك منتهى فرعي وأصلي
وأني أن رميتك هضت عظمي ... ونالتني إذا نالتك نبلي
لقد أنكرتني إنكار خوفٍ ... يقصر منك عن شتمي وأكلي
كقول المرء عمرو في الوافي ... أريد حياته ويريد قتلي
قيل: إن الأبيات للعابس، وقيل: إنما تمثل بها فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك، فأرسل إليهما وأصلح بينهما، وقدما الكوفة ونزلا بالنخيلة، فاقل مسلمة: ليت هذا المزوني، عني ابن المهلب، لا كلفنا اتباعه في هذا البرد. فقال حيان النبطي مولى لشيبان: أنا أضمن لك أنه لا يبره الأرصة، يريد أضمن أنه لا يبرح العرصة. فقال له العباس: لا أم لك أنت بالنبطية أبصر منك بهذا! فقال حيان: أنبط الله وجهك أسقر أهمر ليس أليه طابئ الخلافة، يريد: أشقر أحمر ليس عليه طابع الخلافة. قال مسلمة: يا أبا سفيان لا يهولنك كلام العباس. فقال: إنه أهمق، يريد أحمق.

ولما سمع أصحاب بن المهلب وصول مسلمة وأهل والشام راعهم ذلك، فبلغ ابن المهلب، فخطب الناس وقال: قد رأيت أهل العسكر وخوفهم، يقولون: جاء أهل الشام ومسلمة، موما أهل الشام؟ هل هم إلا تسعة أسياف، سبعة منها إلي وسيفان علي؟ وما مسلمة إلا جرادة صفراء، أتاكم في برابرة وجرامقة وجراجمة وأنباط وأبناء فلاحين وأوباش وأخلاط، أوليسوا بشراً بألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون؟ أعيروني سواعدكم تصفقون بها وجوهمم وقد ولوا الأدبار. واستسقوا أهل البصرة ليزيد بن المهلب، وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان، وبعث إلى خراسان مدرك بن المهلب، وعليها عبد الرحمن بن نعيم، فقال لأهلها: هذا مدرك قد أتاكم ليلقي بينكم الحرب وأنتم في بلاد عافية وطاعة، فسار بنو تميم ليمنعوه، وبلغ الأزد بخراسان ذلك،فخرج منهم نحو ألفي فارس، فلقوا مدركاً على رأس المفازة، فقالوا له: إنك أحب الناس إلينا وقد خرج أخوك، فإن يظهر فإنما ذلك لنا ونحن أسرع الناس إليكم وأحقه بذلك، وإن تكن الأخرى فما لك في أن تغشينا البلاء راحة. فانصرف عنهم، فلما استجمع أهل البصرة ليزيد خطبهم وأخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه ويحثهم على الجهاد ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثواباً من جهاد الترك والديلم.
وكان الحسن البصري يسمع، فرفع صوته يقول: والله لقد رأيناك والياً ومولى عليك، فماينبغي لك ذلك. ووثب أصحابه فأخذوا بفمه وأجلسوه، ثم خرجوا من المسجد وعلى باب المسجد النضر بن أنس بن مالك يقول: يا عباد الله ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتبا الله وسنة نبيه، فوالله ما رأينا مذ ولوا علياً إلا أيام عمر بن عبد العزيز. فقال الحسن: والنضر أيضاً قد شهد. ومر الحسن بالناس وقد نصبوا الرايات وهم ينتظرون خروج يزيد، وهم يقولون: تدعونا إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع في رجله قيد؛ ثم رد إلى محبسه. فقال ناس من أصحابه: لكأنك راضٍ عن أهل الشام؟ فقال: أنا راضٍعن أهل الشام؟ قبحهم الله وبرحهم! أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، يقتلون أهله ثلاثاً؟ قد أبا حوها لأنباطهم وأقباطهم، يحملون الحرائر ذوات الدين، لا ينتهون عن انتهاك حرمة، ثم خرجوا إلى مال بيت الله الحرام فهدموا الكعبة وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار.
ثم إن يزيد سار من البصرة واستعمل عليها أخاه مروان بن المهلب وأتى واسطاً، وكان قد استشار أصحابه حين توجه نحو واسط، فقال له أخوه حبيب وغيره: نرى أن نخرج وننزل بفارس فنأخذ بالشعاب والعقاب وندنو من خراسان ونطاول أهل الشام، فإن أهل الجبال يأتون إليك وفي يدك القلاع والحصون. فقال: ليس هذا برأيي، تريدون أن تجعلوني طائراً على رأس جبل. فقال حبيب: إن الرأي الذي كان ينبغي أن يكون أول الأمر قد فات، قد أمرتك حيث ظهرت على البصرة أن توجه خيلاً عليها بعض أهلك إلى الكوفة، وإنما بها عبد الحميد، مررت به في سبعين رجلاً فعجز عنك فهو عن خيلك أعجز فسبق إليها أهل الشام وأكثر أهلها يرون رأيك، ولأن تلي عليهم أحب إليهم من أن يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني، وأنا أشير برأي، سرح مع بعض أهلك خيلاً كثيرة من خيلك فتأتي الجزيرة وبتادر إليها حتى ينزلوا حصناً من حصونهم، وتسير في أثرهم، فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جندك بالجزيرة يقبلون إليك فيقيمون عليهم فيحبسونهم عنك حتى تأتيهم، ويأتيك من بالموصل من قومك وينفض إليك أهل العراق وأهل الثغور وتقاتلهم في أرض رخيصة السعر، وقد جعلت العراق كله وراء ظهرك. قال: أكره أن أقطع جيشي. فلما نزل واسطاً أقام بها أياماً يسيرة وخرجت السنة
ذكر عدة حوادثحج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، وكان عامل المدينة. وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان على الكوفة عبد الحميد، وعلى قضائها الشعبي وكانت البصرة قد غلب عليها ابن المهلب. وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم.

وفيها عزل إسماعيل بن عبيد الله عن إفريقية واستعمل مكانه يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج، فبقي عليها إلى أن قتل على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها توفي مجاهد بن جبر، وقيل سنة ثلاث، وقيل: وفيها توفي أبو صالح ذكوان. وفيها توفي عامر بن أكثمة الليثي. وأبو صالح السمان، وقيل له الزيات أيضاً لأنه كان يبعهما. وأبو عمرو سعيد بن إياس الشيباني، وكان عمره سبعاً وعشرين ومائة سنة، وليست له صحبة. وفي خلافة عمر توفي عبيدة بن أبي لبابة أبو القاسم العامري.
ثم دخلت سنة اثنتين ومائة

ذكر مقتل يزيد بن المهلب
ثم إن يزيد بن المهلب سار عن واسط واستخلف عليها ابنه معاوية وجعل عنده بيت المال والأسراء، وسار على فم النيل حتى نزل العقر، وقدم أخاه عبد الملك بن المهلب نحو الكوفة، فاتقبله العباس بن الوليد بسورا، فاقتتلوا، فحمل عليهم أصحاب عبد الملك حملة كشوفهم فيها؛ ومعهم ناس من تميم وقيس من أهل البصرة، فنادوا: يا أهل الشام! الله الله إن تسلمونا! وقد اضطرهم أصحاب عبد الملك إلى النهر. فقال أهل الشام: لا بأس عليكم، إن لنا جولة في أول القتال؛ ثم كروا عليهم فانكشف أصحاب عبد الملك فانهزموا وعادوا إلى يزيد. وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات إلى الأنبار وعقد عليها الجسر، فعبر وسار حتى نزل على ابن المهلب، وأتى إلى ابن المهلب ناس من أهل الكوفة كثير ومن الثغور، فبعث على من خرج إليه من أهل الكوفة وربع أهل المدينة عبد الله بن سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي، وعلى ربع مذحج وأسد النعمان بن إبراهيم بن الأشتر، وعلى كندة وربيعة محمد بن إسحاق بن الأشعث، وعلى تميم وهمدان حنظلة بن عتاب بن ورقاء التميمي، وجمعهم جميعاً مع المفضل بن المهلب وأحصى ديوان ابن المهلب مائة ألف وعشرين ألفاً، فقال: لوددت أن لي بهم من بخراسان من قومي؛ ثم قام في أصحابه فحرصنهم على القتال.
وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة وشق المياه وجعل على أهل الكوفة الأرصاد لئلا يخرجوا إلى ابن المهلب، وبعث بعثناً إلى مسلمة مع سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف، وبعث مسلمة فعزل عبد الحميد عن الكوفة واستعمل عليها محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة، وهو ذو الشامة.
فجمع يزيد رؤوس أصحابه فقال: قد رأيت أن أجمع اثني عشر ألفاً فأبعثهم مع أخي محمد بن المهلب حتى يبتوا مسلمة ويجملوا معهم البراذع والكف والزبيل لدفن خندقهم فيقاتلهم على خندقهم بقية ليلته، وأمده بالرجال حتى اصبح، فإذا أصبحت نهضت إليهم في الناس فأناجزهم، فإنني أرجو عند ذلك أن ينصرنا الله عليهم، فقال السميدع: إنا قد دعوناهم إلى كتاب الله وسنة نبيه،صلى الله عليه وسلم ، وقد زعموا أنهم قبلوا هذا منا، فليس لنا أن تمكر ولا نغدر حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا. وقال أبو رؤبة، وهو رأس الطائفة المرجئة، ومعه أصحاب له: صدق، هكذا ينبغي.
فقال يزيد: ويحكم! أتصدقون بني أمية أنهم يعملون بالكتاب والسنة وقد ضيعوا ذلك منذ كانوا؟ إنهم يخادعونكم ليمكروا بكم فلا يسبقوكم إليه، إني لقيت بني مروان فما لقيت منهم أمكر ولا أبعد غدراً من هذه الجرادة الصفراء، يعني مسلمة. قالوا: لا نفعل ذلك حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا.
وكان مروان بن المهلب بالبصرة يحث الناس على حرب أهل الشام، والحسن البصري يثبطهم، فلما بلغ ذلك مروان قام في الناس يأمرهم بالجد والاحتشاد، ثم قال: بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي، ولم يسمعه الناس، والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه! وايم الله ليكفن عن ذكرنا وعن جمعه إليه سقاط الأبلة وعلوج فرات البصرة أو لأنحين عليه مبرداً خشناً.
فلما بلغ ذلك الحسن قال: والله ما كره أن يكرمني الله بهوانه. فقال ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك. فقال لهم: فقد خالفتكم إذ ذاك ما نهيتكم عنه، آمركم أن لا يقتل بعضكم بعضاً مع غيري، وآمركم أن يقتل بعضكم بعضاً دوني! فبلغ ذلك مروان فاشتد عليهم وطلبهم وتفرقوا، وكف عن الحسن.

وكان اجتماع يزيد بن المهلب ومسلمة بن عبد الملك بن مروان ثمانية أيام، فلما كان يوم الجمعة لأربع عشرة مضت من صفر بعث مسلمة إلى الوضاح أن يخرج بالسفن حتى يحرق الجسر، ففعل، وخرج مسلمة فعبأ جنود أهل الشام ثم قرب من ابن المهلب وجعل على ميمنته جبلة بن مخرمة الكندي، وعلى ميسرته الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي، وجعل العباس ابن الوليد على ميمنته سيف بن هانئ الهمداني، وعلى ميسرته سويد بن القعقاع التميمي، وكان مسلمة على الناس.
وخرج يزيد بن المهلب وقد جعل على ميمنته حبيب بن المهلب، وعلى ميسرته المفضل.
فخرج رجل من أهل الشام فدعا إلى المبارزة، فبرز إليه محمد بن المهلب، فضربه محمد، فاتقاه الرجل بيده وعلى كفه كف من حديد، فضربه محمد فقطع الكف الحديد، وأسرع السيف في كفه واعتنق فرسه فانهزم.
فلما دنا الوضاح من الجسر ألهب فيه النار، فسطع دخانه، وقد أقبل الناس، ونشبت الحرب، ولم يشتد القتال، فلما رأى الناس الدخان وقيل لهم أحرق الجسر انهزموا فقيل ليزيد: قد انهزم الناس. فقال: مم انهزموا؟ هل كان قتال ينهزم من مثله؟ فقيل له: أحرق الجسر فلم يثبت أحد. فقال: قبحهم الله! بق دخن عليه فطار! ثم خرج معه أصحابه فقال: اضربوه وجوه المنهزيمين، ففعلوا ذلك بهم حتى كثروا عليه، واستقبله أمثال الجبال، فقال: دعوهم فوالله إني لأرجو أن لا يجمعني وإياهم مكان أبداً، دعوهم يرحمهم الله، غنم عدا في نواحيها الذئب! وكان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار، وكان قد أتاه يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي، وهو ابن أخي عثمان بن أبي العاص صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، ليس بينه وبين الحكم بن أبي العاص والد مروان نسب، وهو بواسط، فقال له: إن بني مروان قد باد ملكهم، فإن كنا لم تشعر بذلك فاشعر. فقال: ما شعرت؛ فقال ابن الحكم:
فعش ملكاً أو مت كريماً فإن تمت ... وسيفك مشهور بكفك تعذر
فقال: أما هذا فعسى. فلما رأى يزيد انهزام أصحابه قال: يا سميدع أرأيي أجود أم رأيك؟ ألم أعلمك ما يريد القوم؟ قال: بلى، فنزل سميدع ونزل يزيد في أصحابهما. وقيل: كان على فرس أشهب فأتاه آتٍ فقال: إن أخاك حبيباً قد قتل. فقال: لا خير في العيش بعده، قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة وقد ازددت لها بغضاً، امضوا قدماً. فعلموا أنه قد استقتل، فتسلل عنه من يكره القتال وبقي معه جماعة جنسه وهو يتقدم، فكلما مر بخيل كشفها، أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه، وأقبل نحوه مسلمة لا يريد غيره. فلما دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب، فعطف عليه خيول أهل الشام وعلى أصحابه فقتل يزيد والسميدع ومحمد بن المهلب.
وكان رجل من كلب يقال له القحل بن عياش، فلما نظر إلى يزيد قال: هذا والله يزيد! والله لأقتلنه أو ليقتلني! فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه؟ فحمل معه ناس فاقتتلوا ساعة وانفرج الفريقان عن يريد قتيلاً وعن القحل بآخر رمقه، فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد وأنه هو قاتله وأن يزيد قتله.
وأتى برأس يزيد مولى لبني مرة، فقيل له: أنت قلته؟ قال: لا، فلما أتى مسلمة سيرة إلى يزيد بن عبد الملك من خال بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقيل. وقيل: بل قتله الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي، ولم ينزل يأخذ رأسه أنفةً.
ولما قتل يزيد كان المفضل بن المهلب يقاتل أهل الشام وما يدري بقتل يزيد ولا بهزيمة الناس، وكان كلما حمل على الناس انكشفوا، ثم يحمل حتى يخالطهم، وكان معه عامر بن العميثل الأزدي يضرب بسيفه ويقول:
قد علمت أم الصبي المولود ... أني بنصل السيف غير رعديد

فاقتتلو ساعةً فانهزمت ربيعة، فاستقبلهم المفضل يناديهم: يا معشر ربيعة الكرة الكرة! والله ما كنتم بكشف ولا لئام ولا لكم هذه بعادة، فلا يؤتين أهل العراق من قبلكم، فدتكم نفسي! فرجعوا إليه يريدون الحملة، فآتى وقيل له: ما تصنع هاهنا وقد قتل يزيد وحبيب ومحمد وانهزم الناس منذ طويل؟ فتفرق الناس عنه، ومضى المفضل إلى واسط، فما كان من العرب أضرب بسيفه ولا أحسن تعبية للحرب ولا أغشى للناس منه. وقيل: بل أتاه أخوه عبد الملك وكره أن يخبره بقتل يزيد فيستقتل، فقال له: إن الأمير قد انحدر إلى واسط. فانحدر المفضل بمن بقي من ولد المهلب إلى واسط، فلما علم بقتل يزيد حلف أنه لا يكلم عبد الملك أبداً، فما كلمه حتى قتل بقندابيل. وكانت عينه أصيبت في الحرب، فقال: فضحني عبد الملك، ما عذري إذا رآني الناس فقالوا شيخ أعور مهزوم! ألا صدقني فقتلت؟ ثم قال:
ولا خير في طعن الصناديد باقنا ... ولا في لقاء الحرب بعد يزيد
فلما فارق المفضل المعركة جاء عسكر الشام إلى عسكر يزيد، فقاتلهم أبو رؤبة صاحب المرجئة ساعةً من النهار، وأسر ملمة نحو ثلاثمائة أسير فسرحهم إلى الكوفة، فحبسوا بها، فجاء كتاب يزيد بن عبد الملك إلى محمد بن عمرو ابن الوليد يأمره بضرب رقاب الأسرى، فأمر العريان بن الهيثم، وكان على شرطته، أن يخرجهم عشرين عشرين وثلاثين ثلاثين، فقام نحو ثلاثين رجلاً من تميم فقالوا: نحن انهزمنا بالناس فأبدأوا بنا قبل الناس. فأخرجهم العريان فضرب رقابهم وهم يقولون: انهزمنا بالناس فكان هذا جزاءنا. فلما فرغوا منهم جاء رسول بكتاب من عند مسلمة يأمره بترك قتل الآسرى. وأقبل مسلمة حتى نزل الحية.
ولما أتت هزيمة يزيد إلى واسط أخرج ابنه معاوية اثنين وثلاثين أسيراً كانوا عنده فضرب أعناقهم، منهم عدي بن أرطاة، ومحمد بن عدي بن أرطاة، ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وغيرهم، ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب، اجتمع أهل المهلب بالبصرة فأعدوا السفن وتجهزوا للركوب في البحر. وكان يزيد بن المهلب بعث وداع ابن حميد الزدي على قندابيل أميراً وقال له: إني سائر إلى هذا العدو ولو قد لقيتم لم أبرح العرصة حتى يكون لي أولهم، فغن ظفرت أكرمتك، وإن كانت الأخرى كنت بقندابيل حتى يقدم عليك أهل بيتي فيتحصنوا بها حتى يأخذوا لأنفسهم أماناً، وقد اخترتك لهم من بين قومي، فكن عند أحسن ظني. وأخذ عليه العود لينا صحن أهل بيته إن هم لجأوا إليه.
فلما اجتمع آل المهلب بالبصرة حملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية ثم لججوا في البحر حتى إذا كانوا بحيال كرمان خرجوا من سفنهم وحملوا عيالاتهم وأموالهم على الدواب، وكان المقدم عليهم المفضل بن المهلب، وكان بكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمة بن عبد الملك مدرك بن ضب الكلبى في طلبهم وفي أثر الفل، فأدرك مدرك المفضل، ومعه الفلول في عقبه، فعطفوا عليه فقاتلوه، واشتد قتالهم إياه، فقتل من أصحاب المفضل النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي، ومحمد بن إسحاق بن محمد بن الأشعث وهرب ابن المهلب فطلبوا الأمان فأمنوا، منهمك مالكم بن إبراهيم بن الأشتر، والورد بن عبد الله بن حبيب السعدي التميمي.

ومضى آل المهلب ومن معهم إلى قندابيل، وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب فرده وير في أثرهم هلال بن أحوز التميمي، لحقهم بقندابيل، فأراد أهل المهلب دخولها فمنعهم وداع بن حميد، وكان هلال بن أحوز لم يباينآل المهلب، فلما التقوا كان وداع على المينة وعبد الملك بن هلال على الميسرة، وكلاهما أزدي، فرفع هلال بن أحور راية أمان، فمال إليه وداع ابن حميد وعبد الملك بن هلال وتفرق الناس عن آل المهلب. فلما رأى ذلك مروان بن المهلب أراد أن ينصرف إلى النساء فيقتلهن لئلا يصرن إلى أولئك، فنهاه المفضل عن ذلك وقال: إنا لا نخاف عليهن من هؤلاء. فتركهن، وتقدموا بأسيافهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، وهم: المفضل، وعبد الملك، وزياد، ومروان بنو المهلب، ومعاوية بن يزيد بن المهلب، والمنهال ابن أبي عيينه بن المهلب، وعمرو والمغيرة ابنا قبيصة بن لمهلب، وحملت رؤوسهم، وفي أذن كل واحد رقعة فيها اسمه إلا أبا عيينة بن المهلب، وعمر بن يزيد بن المهلب، وعثمان بن المفضل بن المهلب، فإنهم لحقوا برتبيل. وبعث هلال بن أحوز بنسائهم ورؤوسهم والاسرى من آل المهلب إلى مسلمة بالحيرة، فبعثهم مسلمة إلى يزيد بن عبد الملك، فسيرهم يزيد إلى العباس بن الوليد وهو على حلب، فنصب الرؤوس، وأراد مسلمة أن يبيع الذرية، فاشتراهم منه الجراح بن عبد الله الحكمي بمائة ألف وخلى سبيلهم، ولم يأخذ مسلمة من الجراح شيئاً.
ولما بلغ يزيد بن عبد الملك الخبر بقتل يزيد سره لأنتصاره ولما في نفسه منه قبل الخلافة.
وكان سبب العداوة بينهما أن ابن المهلب خرج من الحمام أيام سليمان ابن عبد الملك وقد تضمخ بالغالية فاجتاز بيزيد بن عبد الملك، وهو إلى جانب عمر بن عبد العزيز، فقال: قبح الله الدنيا، لوددت أم مثقال غالية بألف دينار فلا ينالها إلا كل شريف. فسمع ابن المهلب فقال له: بل وددت أن الغالية كانت في جبهة الأسد فلا ينالها إلا مثلي. فقال له يزيد بن عبد الملك: والله لئن وليت يوماً لأقتلنك. فقال له ابن المهلب: والله لئن وليت هذا الأمر وأنا حي لأضربن وجهك بخمسين ألف سيف، فهذا كان سبب البغض بينهما، وقيل غير ذلك، وقد تقدم ذكره.
وأما الأسى فكانوا ثلاثة عشر رجلاً، فلما قدم بهم على يزيد بن عبد الملك وعنده كثير عزة فأنشد:
حليم إذا ما نال عاقب مجملاً ... أشد العقاب أو عفا لم يثرب
فعفواً أمير المؤمنين وحسبهً ... فما تأته من صالح لك يكتب
أساؤوا فإن تصفح فإنك قادر ... وافضل حلمٍ حسبةً حلم مغضب
قال يزيد بن عبد الملك: هيهات يا أبا صخر! طف بك الرحم لا سبيل إلى ذلك، إن الله، عز وجل، أفادنيهم بأعمالهم الخبيثة. ثم أمر بهم فقتلوا، وبقي غلام صغير فقال: اقتلوني فما أنا بصغير. فقال: انظروا أنبت. فقال: أنا أعلم بنفسي، قد احتملت ووطئت النساء.
فأمر به يزيد فقتل.
وأسماء الأسرى الذين قتلوا: المعارك وعبد الله والمغيرة والمفضل ومنجاب أولاد يزيد بن المهلب، ودريد والحجاج وغشان وشبيب والفضل أولاد المفضل بن المهلب، والمفضل بن قبيصة بن المهلب. وقال ثابت يرثى يزيد بن المهلب:
أبى طول هذا الليل أن يتصرما ... وهاج لك الهم الفؤاد المتيما
أرقت ولم تأرق معي أم خالد ... وقد أرقت عيناي حولاً محرما
على هالكٍ هد العشيرة فقده ... دعته المنايا فاستجاب وسلما
على ملكٍ بالعقر يا صاح جبنت ... كتائبه واستورد الموت معلما
أصيب وأشهد ولو كنت شاهداً ... تسليت إن لم يجمع الحي مأتما
وفي غير الأيام يا هند فاعلمي ... لطالب وترٍ نظرة إن تلوما
فعلي إن مالت بي الريح ميلةً ... على ابن أبي ذبان أن يتندما
أمسلم إن تقدر عليك رماحنا ... نذقك بها قيء الأساود مسلما
وإن نلق للعباس في الدهر عشرةً ... نكافئه باليوم الذي كان قدما
قصاصاً ولم نعد الذي كان قد أتى ... إلينا وإن كان ابن مروان أظلما
ستعلم إن زلت بك النعل زلةً ... وأظهر أقوام حياءً مجمجما

من الظالم الجاني على أهل بيته ... إذا أحضرت أسباب أمر وأبهما
وإنا لعطافون بالحلم بعدما ... نرى الجهل من قرط اللئيم تكرما
وإنا لحلالون بالثغر لا نرى ... به ساكناً إلا الخميس العرمرما
نرى أن للجيران حقاً وذمةً ... إذا الناس لم يرعوا الذي الجار محر
وغنا لنقري الضيف من قمع الذرى ... إذا كان رفد الرافدين تجسما
وأما أبو عيينة بن المهلب فأرسلت هند بنت المهلب إلى يزيد بن عبد الملك في أمانه، فآمنه، وبقي عمر وعثمان حتى ولي أسد بن عبد الله القسري خراسان، فكتب إليهما بأمانهما فقدماخراسان.
قطنة بالنون، وهو ثابت بن كعب بن جابر العتكي الأزدي، أصيبت عينه بخراسان فجعل عليها قطنة فعرف بذلك، وهو يشتبه بثابت بن قطبة بالباء الموحدة، وهو خزاعي وذاك عتكي.
ذكر استعمال مسلمة على العراق وخراسانولما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلب جمع له أخوه يزيد ابن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان، فأقر محمد بن عمرو بن الوليد على الكوفة، وكان قد قام بأمر البصرة بعد آل المهلب شبيب بن الحارث التميمي، فبعث عليها مسلمة عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، وعلى شرطتها وأحداثها عمرو بن يزيد التميمي، فأراد عبد الرحمن أن يستعرض أهل البصرة فيقتلهم، فنهاه عمرو واستمهله عشرة أيام وكتب إلى مسلمة بالخبر، فعزله وولى البصرة بعد الملك بن بشر بن مروان، وأقر عمرو بن يزيد على الشرط والأحداث.
ذكر استعمال سعيد خذينة على خراسان لمسلمةاستعمل مسلمة على خراسان سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وهو الذي يقال له سعيد خذينة، وإنما لقب بذلك لأنه كان رجلاً ليناً متنعماً، فدخل عليه ملك أبغر وسعيد في ثياب مصبغة وحوله مرافق مصبغة، فلما خرج من عنده قالا: كيف رأيت الأمير؟ قال: خذينة، فلقب خذينة، وخذينة هي الهقانة ربة البيت.
وكان سعيد تزوج ابنة مسلمة، فلهذا استعمله على خراسان. فلما استعمل مسلمة سعيداً على خراسان سار إليها فاستعمل شعبة بن ظهير النهشلي على سمرقند، فسار إليها فقدم الصغد، وكان أهلها كفروا في ولاية عبد الرحمن ابن نعيم، ثم عادوا إلى الصلح، فخطب شعبة أهل الصغد ووبخ سكانها من العرب وغيرهم بالجبن وقال: ما أرى فيكم جريحاً ولا أسمع أنة.
فاعتذروا ليه بأن جبنوا أميرهم علباء بن حبيب العبدي.
وأخذ سعيد عمال عبد الرحمن بن عبد الله الذين ولوا أيام عمر بن عبد العزيز فحبسهم ثم أطلقهم، ثم رفع إلى سعيد أن جهم بن زحر الجعفي، وعبد العزيز بن عمرو بن الحجاج الزبيدي، والمنتجع بن عبد الرحمن الأزدي، ولوا ليزيد بن المهلب في ثمانية نفر وعندهم أموال قد أخفوها من فيء المسلمين. فأرسل إليهم فحبسهم بقهندر مرو، وحمل جهم بن زحر على حمار وأطاف به فضربه مائتي سوط وأمر به وبالثمانية الذين حبسوا معه فسلموا إلى ورقاء بن نصر الباهلي فاستعفاه، فأعفاه، فسلمهم إلى عبد الحميد ابن دثار وعبد الملك بن دثار والزير بن نشيط مولى باهلة، فقتلوا في العذاب جهم بن زحر وعبد العزيز والمنتجع، وعذبوا القعقاع وقماً حتى أشفوا على الموت، فلم يزالوا في السجن حتى غزاهم الترك والصغد، فأمر سعيد بإخراجهم، وكان يقول: قبح الله الزبير فإنه قتل جهماً!
ذكر البيعة بولاية العهد لهشام والوليدلما وجه يزيد بن عبد الملك الجيوش إلى يزيد بن المهلب، على ما ذكرناه، واستعمل على الجيش مسلمة بن عبد الملك أخاه والعباس بن الوليد بن عبد الملك وهو ابن أخيه، قالا له: يا أمير المؤمنين إن أهل العراق أهل غدر وإرجاف، وقد توجهنا محاربين والحوادث تحدث ولا نأمن أن يرجف أهل العراق ويقولوا مات أمير المؤمنين فيفت ذلك في أعضادنا، فلو عهدت عهد عبد العزيز بن الوليد لكان رأياً صواباً.

فبلغ ذلك مسلمة بن عبد الملك، فأتى أخاه يزيد فقال: يا أمير المؤمنين إنما أحب إليك أخوك أم ابن أخيك؟ فقال: بلى أخي. فقال: فأخوك أحق بالخلافة. فقال يزيد: إذا لم تكن في ولدي فأخي أحق بها من ابن أخي كما ذكرت. قال: فابنك لم يبلغ فبايع لهشام بن عبد الملك ثم بعده لابنك الوليد، وكان الويد يومئذ ابن إحدى عشرة سنة، فبايع بولاية العهد لهشام بن عبد الملك أخيه وبعده لأبنه الوليد بن يزيد، ثم عاش يزيد حتى بلغ ابنه الوليد، فكان إذا رآه يقول: والله بيني وبين من جعل هشاماً بيني وبينك.
ذكر غزو التركلما ولي سعيد خراسان استضعفه الناس وسموه خذينة، وكان قد استعمل شعبة على سمرقند ثم عزله، فطمعت الترك، فجمعهم خاقان ووجههم إلى الصغد، وعلى الترك كور صول، فأقبلوا حتى نزلوا بقصر الباهلي.
وقيل: أراد عظماء الدهاقين أن يتزوج امرأة من باهلة كانت في ذلك القصر، فأبت، استجاش، ورجوا أن يسبوا من في القصر، فأقبل كورصول حتى حصر أهل القصر وفيه مائة أهل بيت بدرايهم، وكان على سمقند عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير، قد استعمله سعيد بعد شعبة، فكتبوا إليه وخافوا أن يبطئ عنهم المدد فصالحوا الترك على أربيعين ألفاً وأعطوهم سبعة عشر رجلاً رهينةً، وندب عثمان الناس، فانتدب المسيب بن بشر الرياحي، وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل، وفيهم سعبة بن ظهير وثابت قطنة وغيرهما الفرسان، فلما عسكروا قال لهم المسيب: إنكم تقدمون على حلبة الترك عليهم خاقان، والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب إن فررتم النار، فمن أراد الغزو والصبر فليقدم، فرجع عنه ألف وثلاثمائة، فلما سار فرسخاً رجع بمثل مقالته الأولى فاعتزله ألف، ثم سار فرسخاً أخر فقال لهم مثل ذلك، فاعزله ألف، ثم سار فلما كان على فرسخين منهم نزل، فأتاهم ترك خاقان ملك قي فقال: لم يبق ها هنا دهقان إلا وقد بايع الترك غيري وأن في ثلاثمائة مقاتل، فهم معك وعندي الخبر قد كانوا صالحوهم وأعطوهم سبعة عشر رجلاً يكونون رهينة في أيديهم حتى يأخذوا صلحهم، فلما بلغهم مسيركم إليهم قتلوا الرهائن، وميعادهم أن يقاتلوا غداً ويفتحو لهم القصر.
فبعث المسيب رجلين، رجلاً من العرب ورجلاً من العجم، ليعلما علم القوم، فأقبلا في ليلة مظلمة وقد أخذت الترك في نواحي القصر فليس يصل إليه أحد، ودنوا من القصر، فصاح بهما الربيئة، فقالا له: اسكت وادع لنا عبد الملك بن دثار. فدعاه، فأعلماه بقرب المسيب منهم وقالا: هل عندكم امتناع الليلة وغداً؟ قالزا: قد أجمعنا على تقديم نسائنا للموت أمامنا حتى نموت جيمعا غداً،. فرجعا إلى المسيب فأخبراه، فقال لمن معه: إني سائر إلى هذا العدو، فمن أحب أن يذهب فليذهب، فلم يفارقه أحد وبايعوه على الموت.
فأصبح وسار وقد ازداد القصر تحصيناً بالماء الذي أجراه الترك، فلما صار بينه وبين الترك نصف فرسخ نزل وقد أجمع على بيانهم، فلما أمى أمر أصحابه بالصبر وحثهم عليه وقال: ليكن شعاركم يا محمد، ولا تتبعوا مولياً، وعليكم بالدواب فاعقروها، فإنها إذا عقرت كانت أشد عليهم منكم، وليست بكم قلة، فإن سبعمائة سف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنوه وإن كثر أهله. وجعل على ميممنته كثيراً الدبوسي، وعلى ميسرته ثابت قطنة، وهو من الأزد، فلما دنوا منهم كبروا، وذلك في السحر، وثار الترك وخالطهم المسلمون فعقروا الدواب، وترجل المسيب في رجال معه فقاتلوا قتالاً شديداً، وانقطعت يمين البختري المرائي، فاخذ السيف بشماله فقطعت، فجعل يذب بيديه حتى استشهد. وضرب ثابت قطنة عظيماً من عظماء الترك فقتله، وانهزمت الترك، ونادى منادي المسيب: لا تتبعوهم فإنهم لا يدرون من الرعب أبتعتموهم أم لا، واقصدو القصر، ولا تحملوا إلا الماء، ولا تحملوا إلا من يقدر على المشي، ومن حمل امرأة أو صبياً أو ضعيفاً حسبة فأجره على الله، ومن أبى فله أربعون درهماً، وإن كان في القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه. فحملوا من القصر وأتوا ترك خاقان، فأنزلهم قصره وأتاهم بطعام، ثم ساروا إلى سمرقند. ورجعت الترك من الغد فلم يروا في القصر أحداً، ورأوا قتلاهم فقالوا: لم يكن الذي جاءنا من الإنس؛ فقال ثابت قطنة:
فدت نفسي فوارس من تميمٍ ... غداة الروع في ضنك المقام

فدت نفسي فوارس أكنفوني ... على الأعداء فر رهج القتام
بقصر الباهلي وقد رأوني ... أحامي حيث ضربه المحامي
بسيفي بعد حطم الرمح قدماً ... أذودهم بذي شطب حسام
أكر عليهم اليحموم كراً ... ككر الشرب آنية المدام
أكر به لدى الغمرات حتى ... تجلت لا يضيق به مقامي
فلولا الله ليس له شريك ... وضربي قونس الملك الهمام
إذاً لسعت نساء بني دثار ... أمام الترك بادية الخدام
فمن مثل المسيب في قيمٍ ... أبي بشرٍ كقادمة الحمام
وعور تلك الليلة معاوية بن الحجاج الطائي وشلت يده، وكان قد ولي ولاية قبل سعيد، فأخذه سعيد بشيء بقي عليه فدفعه إلى شداد بن خليد الباهلي ليستأديه، فضيق عليه شداد، فقال معاوية: يا معشر قيس سرت إلى قصر الباهلي وأنا شديد البطش حديد البصر، فعورت وشلت يدي، وقاتلت حتى استقذناهم بعدما أشرفوا على القتل والأسر والسبي، وهذا صاحبكم يصنع بي ما يصنع فكفوه عني، فخلاه.
قال بعض من كان بالقصر: لما التقوا ظنا أن القيامة قد قامت لما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد وصهيل الخيل.
ذكر غزو الصغدوفي هذه السنة عبر سعيد خذينة النهر وغزا الصغد، وكانوا قد نقضوا العهد وأعانوا الترك على المسلمين، فقال الناس لسعيد: إنك قد تركت الغزو وقد أغار الترك وكفر أهل الصغد. فقطع النهر وقصد الصغد، فلقيه الترك وطائفة من الصغد فهزمهم المسلمون، فقال سعيد: لا تتبعوهم فإن الصغد بستان أمير لمؤمنين وقد هزمتموهم، أفتريدون بوارهم؟ وقد قاتلتم يا أهل العراق الخلفاء غير مرة فهل أبادوكم؟ وقال سورة بن الحر لحيان النبطي: ارجع عنهم يا حيان. قال: عقيرة الله لا أدعها. قال: انصرف يا نبطي. قال: أنبط الله وجهك! وسار المسلمون فانتهوا إلى واد بينهم وبين المرج، فقطعه بعضهم وقد أكمن لهم الترك، فلما جاءهم المسلمون خرجوا عليهم، فانهزم المسلمون حتى أنتهوا إلى الوادي، فصبروا حتى انكشفوا لهم. وقيل: بل كان المنهزمون مسلحة المسلمين، فما شعروا إلا والترك قد خرجوا عليهم من غيضة وعلى الخيل شعبة بن ظهير، فأعجلهم الترك عن الركوب، فقاتلهم شعبة فقتل وقتل نحو من خمسين رجلاً وانهزم أهل المسلحة، وأتى المسلمين الخبر، فركب الخليل بن أوس العبشمي أحد بين ظالم ونادى: يا بني تميم إلي أنا الخليل! فاجتمع معه جماعة، فحمل بهم على العدو فكفوهم حتى جاء الأمير والناس فانهزم العدو، فصار الخليل على خيل بني تميم حتى ولي نصر بن سيار، ثم صارت رياستهم لأخيه الحكم بن اؤس.
فلما كان العام المقبل بعض رجالاً من تميم إلى ورغسر فقالوا: ليتنا نلقى العدو فناطردهم. وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا أو غنموا وسبوا رد السبي وعاقب السرية؛ فقال الهجري الشاعر:
سريت إلى الأعداء تلهو بلبةٍ ... وأيرك مسلول وسيفك مغمد
وأنت لمن عاديت عرس خفية ... وأنت علينا كالحسام المهند
فقعد سعيد على النا وضعفوه. وكان رجل من بني أسد يقال له إسماعيل منقطعاً إلى مروان بن محمد، فذكر إسماعيل عند خذينة مودته لموان، فقال خذينة: وما ذاك السلط؟ فقال إسماعيل:
زعمت خذينة انني سلط ... لخدينة المرآة والمشط
ومجامر وكاحل جعلت ... ومعازف وبخدها نقط
أفذاك أم زعف مضاعفة ... ومهند من شأنه القط
لمقرسٍ ذكرٍ أخي ثقةٍ ... لم يغذه التأنيث واللقط
في أبيات غيرها.
ذكر موت حيان النبطي

وقد ذكر من أمر حيان فيما تقدم عند قتل قتيبة وأنه ساد وتقدم بخراسان، فلما قال سورة بن الحر: يا نبطي، وأجابه حيان فقال: أنبط الله وجهك، على ما تقدم آنفا، حقدها عليه سورة، فقال لسعيد حذينة: إن هذا العبد أعدى الناس للعرب والوالي، وهو أفسد خراسان على قتيبة، وهو واثب بك يفسد عليك خراسان ثم يتحصن في بعض هذه القلاع. فقال سعيد: لا تسمعن هذا أحداً. ثم دعا في مجلسه بلبن وقد أمر بذهب، فسحق وألقي في اللبن الذي في إناء حيان، فشربه حيان، ثم ركض سعيد والناس معه أربعة فراسخ ثم رجع، فعاش حيان أربعة أيام ومات، وقيل: إنه لم يمت هذه السنة، وسيرد ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ذكر عزل مسلمة عن العراق وخراسان

وولاية ابن هبيرة
وكان سببب ذلك أنه ولي العراق وخراسان، فلم يرفع من الخراج شيئاً، واستحيا يزيد بن عبد الملك أن يعزله فكتب إليه: استخلف على عملك وأقبل.
وقيل: إن مسلمة شاور عبد العزيز بن حاتم بن النعمان في الشخوص إلى يزيد ليزوره.
قال: أمن شوق إليه؟ إن عهدك منه لقريب. قال: لا بد من ذلك. قال: إذا لا تخرج من عملك حتى تلقى الوالي عليه. فسار مسلمة فلقيه عمر بن هبيرة الزاري بالعراق على دواب البريد، فسأله عم مقدمة، فقال عمر: وجهني أمير المؤمنين في حيازة أموال بني المهلب.
فلما خرج من عنده أحضر مسلمة عبد العزيز بن حاتم وأخبره خبر ابن هبية، فقال: قد قلت لك. قال مسلمة: فإنه جاء لحيازة أموال آل المهلب. قال: هذا أعجب من الأول، يكون ابن هبيرة على الجزيرة فيعزل عنها ويبعث لحيازة أموال بني المهلب ولم يكتب معه إليك كتاب! فلم يلبث حتى أتاه ابن هبيرة عمالة والغلظة عليهم؛ فقال الفرزدق:
راحت بمسلمة البغال عشيةً ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
عزل ابن بشرٍ وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقع
يعني بابن بشر بن مروان، وبابن عمرو محمداً ذا الشامة، وبأخي هراة سعيد خذينة.
وأما ابتداء أمر ابن هبيرة حتى ولي العراق فإنه قدم من البادية من بني فزارة فافترض مع بعض ولاة الحرب، وكان يقول: لأرجو أن لا تنقضي الأيام حتى ألي العراق. وسار مع عمرو بن معتوية العقيلي إلى غزو الروم، فأتي بفرس رائع إلا أنه لا يستطاع ركوبه، فقال: من ركبه فهو له، فقام عمر بن هبيرة وتنحى علن الفرس وأقبل حتى إذا كان بحيث تناله رجلا الفرس إذا رمحه وثب فصار على سرجه، فأخذ الفرس.
فلما خلع مطرف بن المغيرة بن شعبة الحجاج سار عمر بن هبيرة في الجيش الذين حاربوه من الري، فلما التقى العسكان التحق ابن هبيرة بمطرف مظهر أنه معه، فلما جال الناس كان ممن قتله وأخذ رأسه، وقيل قتله غيره وأخذ هو رأسه وأتى به عديا فأعطاه مالاً وأوفده إلى الحجاج بالرأس، فسيره الحجاج إلى عبد الملك، فأقطعه ببرزة، وهي قرية بدمشق، وعاد إلى الحجاج، فوجهه إلى كردم بن مرثد الفزاري ليخلص منه مالاً، فاخذه منه وهرب إلى عبد الملك وقال: أنا عائذ بالله وبأمير المؤمنين من الحجاج، فإنني قتلت ابن عمه مطرف بن المغيرة وأتيت أمير المؤمنين برأسه ثم رجعت فأراد قتلي، ولست آمن أن ينسبني إلى أمر يكون فيه هلاكي. فقال: أنت في جواري. فأقام عنده، فكتب فيه الحجاج إلى عبد الملك يذكر أخذه المال وهربه، فقال له: أمسك عنه.
وتزوج بعض ولد عبد الملك بنتا للحجاج، فكان ابن هبيرة يهدي ويبرها وييسر عليها، فكتب إلى أبيها تثني عليه، فكتب إليه الحجاج يأمره أن ينزل به حاجاته، وعظم شأنه بالشام .
فلما استخلف عمر بن عبد العزيز استعمله على الجزيرة، فلما ولي يزيد بن عبد الملك ورأى ابن بيرة تحكم حرابة عليه تابع هداياه إليها وإلى يزيد بن عبد الملك، فعملت له في ولاية العراق، فولاه يزيد.
وكان ابن هبيرة بينه وبين القعقاع بن خليد العبسي تحاسد، فقال القعقاع: من يطيق ابن هبيرة، حبابة بالليل وهداياه بالنهار! فما ماتت حبابة قال القعقاع:
هلم فقد ماتت حبابة سامين ... بنفسك يقدمك الذرى والكمواهل
أغرك أن كانت حبابة مرةً ... تميحك فانظر كيف ما أنت فاعل

في أبيات. وكان بينه وبين القعقاع يوماً كلام، فقال له القعقاع: يا بن اللخناء من قدمك؟ فقال: قدمك أنت وأهلك أعجاز الغواني، وقدمتي صدور العوالي. فسكت القعقاع. يعني أن عبد الملكل قدمهم لما تزوج إليهم فإن أم الوليد وسليمان ابني عبد الملكل بن مروان عبسية
ذكر بعض الدعاة للدولة العباسيةوفي هذه السنة وحه ميسرة رسله من العراق إلى خراسان، فظهر أمر الدعاة بها، فجاء عمر بن بحير بن ورقاء السعدي إلى سعيد خذينة فقال له: إن هاهنا قوماً قد ظهر منهم كلام قبيح، وأعلمه حالهم، فبعث سعيد إلهم فأتي بهم، فقال: ممن أنتم؟ قالوا: ناس من التجار. قال: فما هذا الذي يحكى؟ قالزا: لا ندري. قال: جئتم دعاة؟ قالوا: إن لنا في أنفسنا وتجارتنا شغلاً عن هذا. فقال: مني يعرف هؤلاء؟ فجاء ناس من أهل خراسان أكثرهم من ربيعة واليمن فقالوا: نحن نعرفهم، وهم علينا إن أتاك منهم شيء تكرهه. فخلى سبيلهم.
ذكر قتل يزيد بن أبي مسلمقيل: كان يزيد بن عبد الملك قد استعمل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية سنة إحدى ومائة، وقيل هذه السنة؛ وكان سبب قتله أنه عزم أن يسير فيهم بسيرة الحجاج في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة، فأسلم بالعراق، فإنه ردهم إلى قراهم ووضع الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخد منهم وهم كفار، فلما عزم يزيد على ذلك اجتمع رأيهم على قتله وولوا على أنفسهم الوالي الذي ككان عليهم قبل يزيد بن أبي مسلم، وهو محمد بن زيد، فولي الأمصار، وكان عندهم، وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا من طاعة، ولكن يزيد بن أب مسلم سامنا ما لا يراه الله والمسلمون فقتلناه وأعدنا عاملك. فكتب إليهم يزيد بن عبد الملك: إني لم أرض ما صنع يزيد بن أبي مسلم؛ وأقر محمد ابن يزيد على عمله.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية وهو على الجزيرة قبل أن يلي العراق، فهزمهم وأسر منهم خلقاً كثيراً وقتل سبعمائة أسير. وفيها غزا عباس بن الوليد بن عبد الملك الروم فافتتح دلسة.
وحج بالناس هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك، وهو عامل المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد. وكان على الكوفة محمد بن عمرو ذو الشامة، وعلى قضائها القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعلى البصرة عبد الله بن بشر بن مروان إلى أن عزله عمر بن هبيرة، وعلى خراسان سعيد خذينة، وعلى مصر أسامة بن زيد.
ثم دخلت سنة ثلاث ومائة

ذكر استعمال سعيد الحرشي على خراسان
في هذه السنة عزل عمر بن هبيرة سعيد خذينة عن خراسان. وكان سب عزله أن المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الله بن عمير الليثي قدما على عمر بن هبيرة فشكواه، فعزله واستعمل سعيد بن عمروا الحرشي، بلحاء المهملة، والشين المعجمة، من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وكان خذينة غازيا بباب سمرقند، فبلغه عزله، وخلف بسمرقند ألف رجل.
وقيل: إن عمر بن هبيرة كتب إلى يزيد بن عبد الملك بأسماء من أبلى يوم العقر ولم يذكر سعيداً الحرشي، فقال يزيد: لم يذكر الحرشي؟ وكتب إلى عمر بن هبيرة أن أول الحرشي خراسان، فولاه، فقدم بين يديه المجشر بن مزاحم السلمي؛ فقال نهار بن توسعة:
فهل من مبلغ فتيان قومي ... بأن النبل ريشت كل ريش
وأن الله أبدل من سعيد ... سعيداً لا المخنث من قريش
وقدم سعيد الحرشي خراسان، فلم يعرض لعمال خذينة، وقرأ رجل عهده فلحن فيه، فقال: صه، مهما سمعتم فهو من الكتاب والأمير منه بريء. ولما قدم الحرشي خراسان كان الناس بإزاء العدو، وكانوا قد نكبوا، فخطبهم وحثهم على الجهاد وقال: إنكم لا تقاتلون بكثرة ولا بعدة ولكن بنصر الله وعز الإسلام، فقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ وقال:
فلست لعامر إن لم تروني ... أمام الخيل أطعن بالعوالي
وأضرب هامة الجبار منهم ... بعضب الحد حودث بالصقال
فما أنا في الحروب بمستكين ... ولا أخشى مصاولة الرجال
أبى لي والدي من كل ذم ... وخالي في الحوادث خير خال

فلما سمع أهل الصغد بقدوم الحرشي خافوا على نفوسهم لأنهم كانوا قد أعانوا لترك أيام خذينة، فاجتمع عظماؤهم على الخروج من بلادهم، فقال لهم ملكهم: لا تفعلوا، أقيموا واحملوا الخراج ما مضى واضمنو له خراج ما يأتي وعمارة الأرض والغزو معه إن أراد ذلك، واعتذروا مما كان منكم وأعطوه رهائن. قالوا: نخاف أن لا يرضى ولا يقبل ذلك منا ولكنا نأتي خجندة فنستجير ملكها ونرسل إلى الأمير فنسأله الصفح عما كان منا ونوثق أنه لا يرى أمراً يكرهه. فقال: أنا رجل منكم، والذي أشرت به عليكم خير لكم.
فأبوا وخرجوا إلى خجندة، وأرسلوا إلى ملك فرغانة يسألونه أن يمنعهم وينزلهم مدينته، فأراد أن يفعل فقالت أمه: لا يدخل هؤلاء الشياطين مدينتك، ولكن فرغ لهم رستاقاً يكونون فيه، فأرسل إليهم: سموا رستاقاً تكونون فيه حتى أفرغه لكم وأجلوني أربعين يوماً، وقيل عشرين يوماً. فاختاروا شعب عصام بن عبد الله الباهلي، وكان قتيبة قد خلفه فيهم، فقال: نعم، ولا أنا على عقد وجوار حتى تدخلوه، وإن أتتكم العرب قبل أن تدخلوه لم أمنعكم. فرضوا، ففرغ لهم الشعب.
ذكر عدة حوادثقيل: وفي هذه السنة أغارت الترك على اللان. وفيها غزا العباس بن الوليد الروم ففتح مدينة يقال لها دلسة. وفيها جمعت مكة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحاك. وفيها ولي عبد الواحد بن عبد الله النضري الطائف، وعزل عبد العزيز بن عبد الله بن خالد عنه وعن مكة.
وحج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك، وكان عامل مكة والمدينة، وكان على العراق عمر بن هبيرة، وعلى خراسان الحرشي، وعلى قضاء الكوفة القاسم بن عبد الرحمن، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلي.
وفي هذه السنة مات الشعبي، وقيل ينة أربع، وقيل خمس، وقيل سبع ومائة، وهو ابن سبع وسبعين سنة. وفيها مات يزيد بن الأصم وهو ابن أخت ميمونة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم ، وقيل: مات سنة أربع ومائة وعمره ثلاث وسبعون سنة. وفيها مات أبو بردة بن أبي موسى الأشعري. ويزيد ابن نمير السكوني. وفيها توفي عطاء بن يسار، وهو أخو سليمان؛ يسار بالياء المثناة من تحت، والسين المهملة. وفيها توفيت عمرة بنت عبد الرحمن ابن يعبد ابن زرارة الأنصارية، وهي ابنة سبع وسبعين سنة. وفيها توفي مصعب ابن سعد بن أبي وقاص. ويحيى بن وثاب الأسدي المنقري. وعبد العزيز ابن حاتم بن النعمان الباهلي، وكان عامل عمر بن العزيز على الجزيرة.
ثم دخلت سنة أربع ومائة

ذكر الوقعة بين الحرشي والصغد
قيل: وفي هذه السنة غزا الحرشي فقطع النهر وسار فنزل في قصر الريح على فرسخين من قيل: وفي هذه السنة غزا الحرشي فقطع النهر وسار فنزل في قصر الريح على فرسخين من الدبوسية، ولم يجتمع إليه جنده، فأمر بالرحيل، فقال له هلال بن عليم الحنظلي: يا هناه إنك وزيراً خير منك أميراً، لم يجتمع إليك جندك وقد أمرت بالرحيل. فعاد فأمر بالنزور، وأتاه ابن عم ملك فرغانة فقال له: إن أهل الصغد بخجندة، وأخبره بخبرهم، وقال: عاجلهم قبل أن يصلوا إلى الشعب فليس لهم جوار علينا حتى يمضي الأجل. فوجه معه عبد الرحمن القشيري وزياد بن عبد الرحمن في جماعة، ثم ندم بعدما فصلوا وقال: جائني علج لا أعلم أصدق أم كذب، فغررت بجندٍ من المسلمين؛ فارتحل في أثرهم حتى نزل أشروسنة فصالحهم بشيء يسير.

فبينا هو يتعشى إذ قيل له هذا عطاء الدبوسي، وكان مع عبد الرحمن، فسقطت اللقمة من يده، ودعاء بعطاء فقال: ويلك قاتلتم أحداً؟ قال: لا. قال: لله الحمد! وتعشى وأخبره بما قدم له، فسار مسرعاً حتى لحق القشيري بعد ثلاثة أيام، وسار فلما انتهى إلى حجندة قال له بعض أصحابه: ما ترى؟ قال: أرى المعالجة. قال: لا أرى ذلك، إن جرح رجل فإلى أين يرجع، وأقتل قتيل فإلى من يحمل؟ ولكني أرى النزول والتأني والاستعداد للحرب. فنزل فأخذ في التأهي، فلم يخرج أحد من العدو، فجبن الناس الحرشي وقالوا: كان يذكر بشجاعة وديانة، فلما صار بالعراق ماق. فحمل رجل من العرب فضرب باب خجندة بعمود ففتح الباب، وكانوا حفروا في ربضهم وراء الباب الخارج خندقاً وغطوه بقصب وتراب مكيدة، وأرادوا أذ التقوا إن انهزموا كانو قد عرفوا الطريق ويشكل على المسلمين ويسقطون في الخندق، فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا، وأخطأهم الطريق فسقطوا في الخندق، وأخرج منهم المسلمون أربعين رجلاً. وحصرهم الحرشي ونصب عليهم المحانيق. فأرسلوا إلى ملك فرغانة: غنك غدرت بنا، وسألوه أن ينصرهم، فقال: قد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم في جواري. فطلبوا الصلح وسألوا الأمان وأن يردهم إلى الصغد، واشترط عليهم أن يردوا ما في أيديهم من نساء العرب ودراريهم وأن يؤدوا ما كسروا من الخراج ولا يغتالوا أحداً ولا يتخلف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثاً حلت دامؤهم.
فخرج إليهم الملوك والتجار من الصغد، وترك أهل خجندة على حالهم، ونزل عظماء الصغد على الجند الذين يعرفونهم، ونزل كارزنج على أيوب بن أبي حسان. وبلغ الحرشي أنهم قتلوا امرأة ممن كان في أيديهم، فقال: بلغني أن ثابتاً قتل امرأة ودفنها، فجحد، فسأل فإذا الخبر صحيح، فدعا بثابت إلى خيمته فقتله، فلما سمع كارزنج بقتله خاف أن يقتل وأرسل إلى ابن أخيه ليأتيه بسراويل، وكان قد قال لابن أخيه: إذا طلبت سراويل فاعلم أنه القتل، فبعث به إليه وخرج واعترض الناس فقتل ناساً، وتضعضع العسكر ولقوا منه سراً، أنهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود فقتله ثابت.
وقتل الصغد أسرى عندهم من المسلمين مائة وخمسين رجلاً، فأخبر الحرشي بذلك، فسأل فرأى الخبر صحيحاً، فأمر بقتلهم وعزل التجار عنهم، فقاتلهم الصغد بالخشب، ولم يكن لهم سلاح، فقتلوا عن آخرهم، وكانوا ثلاثة آلاف، وقيل سعة آلاف، واصطفى أموال الصغد وذراريهم، وأخذ منها ما أعجبه، ثم دعا ملسم بن بديل العدوي عدي الرباب وقال: وليتك المقسم. فقال: بعدما عمل فيه عمالك ليلة! وله غيري، فولاه غيره. وكتب الحرشي إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب إلى عمر بن هبيرة، فكان هذا مما أوغر صدره عليه؛ وقال ثابت قطنة يذكر ما أصابوا من عظمائهم:
أقر العين مصرع كارزنج ... وكشكير وما لاقى يباد
وديوشتى وما لاقى خلنج ... بحصن خجند إذا دمروا فبادروا
يقال : إن دويشتى دهقان سمرقند، واسمه ديو أشنج فأعربوه، وقيل: كان على أقباض خجندة علباء بن أحمر اليشكري، فاشترى رجل منهم جونة بدرهمين فوجد فيها سبائك ذهب فرجع وقد وضع يده على وجهه كأنه رمد فرد الجونة وأخذ الدرهمين، فطلب لم يعرف.
وسرح الحرشي سليمان بن أبي السري إلى حصن لا يطيف به وادي الصغد إلا من وجه واحد ومعه خوارزمشاه وصاحب آخرون وشومان، فسير سليمان على مقدمته المسيب بن بشر الرياحي، فتلقوه على فرسخ، فهزمهم حتى ردهم إلى حصنهم فحصرهم، فطلب الديوشتى أن ينزل على حكم الحرشي فسيره إليه فأكرمه، وطلب أهل القلعة الصلح على أن لا يتعرض لنسائهم زراريهم ويسلمون القلعة. فبعث سليمان إلى الحرشي ليبعث الأمناء لقبض ما في القلعة، فبعث من قبضه وباعوه وقسموه.

وسار الحرشي إلى كش وصالحوه على عشرة آلاف رأس، وقيل ستة آلاف رأس. وسار إلى زلرنج، فوافاه كتاب ابن هبيرة بإطلاق ديوشتى، فقتله وصلبه وولى نصر بن سيار قبض صلح كش، واستعمل سليمان بن أبي السري على كش ونسف حربها وخراجها. وكانت خزائن منيعة، فقال المجشر للحرشي: ألا أدلك على من يفتحها لك بغير قتال؟ قال: بلى. قال: المسربل بن الخريت بن راشد الناجي، فوجهه إليها، وكان صديقاً لملكها، واسم الملك سبغرى، فأخبر الملك بما صنع الحرشي بأهل خجندة وخوفه، قال: فما ترى؟ قال: أن تنزل بأمان. قال: فما أصنع بمن لحق بي؟ قال: تجعلهم في أمانك؛ فصالحهم فأمنوه وبلاده ورجع الحرشي إلى بلاده ومعه سبغرى، فقتل سبغرى وصلب ومعه الأمان.
ذكر ظفر الخزر بالمسلمينفي هذه السنة دخل جيش للمسلمين بلاد الخزر من أرمينية وعليهم ثبيت النهراني، فاجتمعت الخزر في جمع كثير وأعانهم قفجان وغيرهم من أنواع الترك فلقوا المسلمين في مكان يعرف بمرج الحجارة فاقتتلوا هنالك قتالاً شديداً، فقتل من الملمين بشر كثير واحتوت الخزر على عسكرهم وغنموا جميع ما فيه، وأقبل المنهزمون إلى الشام فقدموا على يزيد بن عبد الملك وفيهم قبيت، فوبخهم يزيد على الهزيمة فقال: يا أمير المؤمنين ما جبنت ولا نكبت عن لقاء العدو ولقد لصقت الخيل بالخيل والرجل بالرجل، ولقد طاعنت حتى انقصف رمحي، وضاربت حتى انقطع سيفي، غير أن الله، تبارك وتعالى، يفعل ما يريد.
ذكر ولاية الجراح أرمينية وفتح بلنجر وغيرهالما تمت الهزيمة المذكورة على المسلمين طمع الخزر في البلاد فجمعوا وحشدوا، واستعمل يزيد بن عبد الملك الجراح بن عبد الله الحكمي حينئذ على أرمينية وأمده بجيش كثيف وأمره بغزو الخزر وغيرهم من الأعداء وبقصد بلاده. فسار الجراح، وتسامع الخزيرية فعادوا حتى نزلوا بالباب والأبواب، ووصل الجراح إلى برذعة فأقام حتى استراح هو ومن معه سار نحو الخزر فعبر نهر الكر، فسمع بأن بعض من معه من أهل تلك الجبال قد كاتب ملك الخزر يخبره بمسير الجراح إليه، فحينئذ أمر الجراح مناديه فنادى في الناس: إن المير مقيم ها هنا عدة أيام فاستكثروا من الميرة، فكتب ذلك الرجل إلى ملك الخزر يخبره أن الجراح مقيم ويشير عليه بترك الحركة لئلا يطمع المسلمون فيه.
فلما كان الليل أمر الجراح بالرحيل، فسار مجداً حتى انتهى إلى مدينة الباب والأبواب فلم ير الخزر، فدخل البلد فبث سراياه في النهب والغارة على ما يجاوره، فغنموا وعادوا من الغد، وسار الخزر إليه وعليهم ابن ملكهم فالتقوا عند نهر الران واقتتلوا قتالاً شديداً، وحرض الجراح أصحابه، واشتد القتال، فظفروا بالخزر وهزموهم وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فقتل منهم خلق كثير، وغنم المسلمون جميع ما معهم وساروا حتى نزلوا على حصن يعرف بالحصين فنزل أهله بالأمان على مال يحملونه، فأجابهم ونقلهم عنها.
ثم سار إلى مدينة يقال لها يرغوا، فأقام عليها ستة أيام، وهو مجد في قتلهم، فطلبوا الأمان، فأمنهم وتسلم حصنهم ونقلهم منه.
ثم سار الجراح إلى بلنجر، وهو حصن مشهور من حصونهم، فنازله، وكان أهل الحصن قد جمعوا ثلاثمائة عجلة فشدوا بعضها إلى بعض وجعلوها حول حصنهم ليحتموا بها وتمنع المسلمين من الوصول إلى الحصن، وكانت تلك العجل أشد شيء على المسلمين في قنالهم. فلما رأوا الضرر الذي عليهم منها انتدب جماعة منهم نحو ثلاثين رجلاً وعاهدوا على الموت وكسروا جفون سيوفهم وحملوا حملة رجل واحد وتقدموا نحو العجل، وجد الكفار في قتالهم ورموا من النشاب ما كان يحجب الشمس فلم يرجع أولئك حتى وصلوا إلى العجل وتعلقوا ببعضها وقطعوا الجبل الذي يمسكها وجذبوها فانحدرت، وتبعها سائر العجل لأن بعضها كان مشدوداً إلى بعض وانحدر الجميع إلى المسلمين والتحم القتال واشتد وعظم الأمر على الجميع حتى بلغت القلوب الحناجر.
ثم إن الخزر انهزموا واستولى المسلمون على الحصن عنوة وغنموا جميع ما فيه في ربيع الأول فأصاب الفارس ثلاثمائة دينار، وكانوا بضعة وثلاثين دينار، وكانوا بضعة وثلاثين ألفاً.
ثم إن الجراح أخذ أولاد صاحب بلنجر وأهله وأرسل إليه فأحضره ورد إليه أمواله وأهله وحصنه وجعله عيناً لهم يخبرهم بما يفعله الكفار.

ثم سار عن بلنجر فنزل على حصن السويدر، وبه نحو أربعين ألف بيت من الترك، فصالحوا الجراح على مال يؤدونه. ثم إن أهل تلك البلاد تجمعوا وأخذوا الطرق على المسلمين، فكتب صاحب بلنجر إلى الجراح يعلمه بذلك. فعاد مجداً حتى وصل إلى رستاق ملى وأدركهم الشتاء، فأقام المسلمون به، وكتب الجراح إلى يزيد بن عبد الملك يخبره بما فتح الله عليه وبما اجتمع من الكفار ويسأله المدد. فوعده إنفاذ العساكر إليه، فأدركه أجله قبل إنفاذ الجيش، فأرسل هشام بن عبد الملك إلى الجراح فأقره على عمله ووعده المدد.
ذكر عزل عبد الرحمن بن الضحاك عن المدينة ومكةوفي هذه السنة عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك عن المدينة ومكة، وكان عامله عليهما ثلاث سنين، وولى عبد الواحد النضري.
وكان سبب ذلك أن عبد الرحمن خطب فاطمة بنت الحسين بن علي فقالت: ما أريد النكاح ولقد قعدت على بني هؤلاء. فألح عليها وقال: لئن لم تفعلي لأجلدن أكبر بنيك في الخمر، يعني عبد الله بن الحسن بن الحسين ابن علي، وكان على الديوان بالمدينة ابن هرمز، رجل من أهل الشام، وقد رفع حسابه ويريد أن يسير إلى يزيد، فدخل على فاطمة يودعها فقال: هل من حاجة؟ فقالت: تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك وما يتعرض مني؛ وبعثت رسولاً بكتابك إلى يزيد بخبره بذلك.
وقدم ابن هرمز على يزيد، فاستخبره عن المدينة وقال: هل من مغربة خبر؟ فلم يذكر شأن فاطمة. فقال الحاجب ليزيد: بالباب رسول من فاطمة بنت الحسين. فقال أبن هرمز: إنها حملتني رساةً إليك. وأخبره بالخبر. فنزل من فراسه وقال: لا أم لك! عندك هذا ولا تخبرنيه؟ فاعتذر بالنسيان؛ وأذن لرسولها فأدخله وأخذ الكتاب فقرأه وجعل يضرب بخيزران في يده ويقول: لقد اجترأ ابن الضحاك، هل من رجل يسمعني صوته في العذاب؟ قيل له: عبد الواحد بن عبد الله النضري. فكتب بيده إلى عبد الواحد: قد وليتك المدينة فاهبط إليها واعزل عنها ابن الضحاك وأغرمه أربعين ألف دينار وعذبه حتى أسمع صوته وأنا على فراشي.
وسار البريد بالكتاب ولم يدخل على ابن الضحاك، فأخبر ابن الضحاك، فأحضر البريد وأعطاه ألف دينار ليخبره خبره، فسار ابن الضحاك مجداً فنزل على مسلمة بن عبد الملك فاسجاره، فحضر مسلمة عنه يزيد فطلب إليه حاجة خاله، فقال: كل حاجة خاله، فقال: كل حاجة فهي لك إلا ابن الضحاك. فقال: هي والله ابن الضحاك. فقال: والله لا أعفيه أبداً. وردة إلى المدينة إلى المدينة إلى عيد الواحد، فعذبه ولقي شراً، ثم لبس جبة صوف يسأل الناس.
وكان قدوم النضري في شوال سنة أربع ومائة. وكان ابن الضحاك قد آذى الأنصار طراً، فهجاه الشعراء وذمه الصالحون، ولما وليهم النضري أحسن السيرة فأحبوه، وكان خيراً يستشير فيما يرد فعله القاسم بن محمد وسالم ابن عبد الله بن عمر.
ذكر ولادة أبي العباس السفاحوقيل: وفيها ولد أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن محمد بن علي في ربيع الآخر، وهو السفاح، ووصل إلى أبيه محمد بن علي أبو محمد الصادق من خراسان في عدة من أصحابه، فأخرج إليهم أبا العباس في خرقة وله خمسة عشر يوماً وقال لهم: هذا صاحبكم الذي يتم الأمر على يده فقلبوا أطرافه، وقال لهم: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدوكم.
ذكر عزل سعيد الحرشيوفي هذه السنة عزل بن هبيرة سعيداً الحرشي عن خراسان وولاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي.
وكان السبب في ذلك ما كان كتبه ابن هبيرة إلى الحرشي بإطلاق الديوشتى فقتله، وكان يستخف بابن هبيرة ويذكره بأبي المثنى ولا يقول الأمير فيقول: قال أبو المثنى، وفعل أبو المثنى، فبلغ ذلك ابن هبيرة فأرسل جميل بن عمران ليعلم حال الحرشي، وأظهر أنه ينظر في الدواوين، فلما قدم على الحرشي قال: كيف أبو المثنى؟ فقيل له: إن جميلاً لم يقدم إلا ليعلم علمك. فسم بطيخة وبعث بها إليه فأكلها ومرض وسقط شعره، ورجع إلى ابن هبيرة وقد عولج فصح، فقال له: الأمر أعظم مما بلغك، ما يرى الحرشي إلا أنك عامل له؛ فغضب وعزله ونفح في بطنه النمل وعذبه حتى أدى الأموال.

وسمر ليلة ابن هبيرة فقال: من سيد قيس؟ فقالوا: الأمير. قال: دعوا هذا، سيد قيس الكوثر بن زفر، لوثور بليل لوافاه عشرون ألفاً لا يقولون لم دعوتنا، وفارسها هذا الحمار الذي في الحبس وقد أمرت بقتله، يعني الحرشي، فأما خير قيس لها فعسى أن أكونه. فقال له أعرابي من بني فزارة: لو كنت كما تقول ما أمرت بقتل فارسها. فأرسل إلى معقل بن عروة أن كف عن قتله، وكان قد لسمه إليه ليقتله وكان ابن هبيرة لما ولى مسلم ابن سعيد خراسان أمره بأخذ الحرشي وتقيده وانفاذ إله، فقدم مسلم دار الإمارة فرأى الباب مغلقاً، فقيل للحرشي: قدم مسلم، فأرسل إليه: أقدمت أميراً أو وزيراً أو زائراً؟ فقال: مثلي لا يقدم زائراً ولا وزيراً. فأتاه الحرشي فشتمه وقيده وأمر بحبسه، ثم أمر صاحب الحبس أن يزيده قيداً، فأخبر الحرشي بذلك فقال لكاتبه: اكتب إليه إن صاحب سجنك ذكر أنك أمرته أن يزيدني قيداً، فإن كان أمراً ممن فوقك فسمعاً وطاعة، وإن كان رأياً رأيته فسيرك الحقحقة! وهي أشد السير؛ وتمثل:
فإما تثقفوني فاقتلوني ... ومن يثقف فليس له خلود
هم الأعداء إن شهدوا وغابوا ... أولو الأحقاد والأكباد سود
فلما هرب ابن هبيرة عن العراق أرسل خالد القسري في طلب الحرشي فأدركه على الفرات، فقال: ما ظنك بي؟ قال: ظني بك أنك لا تدفع رجلاً من قومك إلى رجل من قيس. فقال: هو ذاك.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة عبد الواحد بن عبد الله النضري، وعلى العراق والمشرق عمر بن هبيرة. وعلى الكوفة حسين بن حسن الكن. وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى.
وفيها مات أبو قلابة الجرمي، وقيل سنة سبع ومائة.
وفيها مات أبو قلابة الجرمي، وقيل سنة سبع ومائة. وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت النصاري. وفيها توفي يحيى ابن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة. وفيها مات عامر بن سعد بن أبي وقاص. وفيها توفي موسى بن طلحة بن عبيد الله. وعمير مولى ابن عباس يكنى أبا عبد الله. وخالد بن معدان بن أبي كرب الكلاعي سكن الشام.
ثم دخلت سنة خمس ومائة

ذكر خروج عقفان
في أيام يزيد بن عبد الملك خرج حروري اسمه عقفان في ثماني رجلاً، فأراد يزيد أن يرسل إليه جنداً يقاتلونه، فقيل له: إن قتل بهذه البلاد اتخذها الخوارج دار هجرة، والرأي أن تبعث إلى كل رجل من أصحابه رجلاً من قومه يكلمه ويرده. ففعل ذلك فقال لهم أهلوهم: إنا نخاف أن نؤخذ بكم. وأومنوا وبقي عفان وحده، فبعث إليه يزيد أخاه فاستعطفه فرده، فلما ولي هشام بن عبيد الملك ولاه أمر العصاة، فقدم ابنه من خراسان غاضباً، فشده وثاقاً وبعث به إلى هشام، فأطلقه لأبيه وقال: لو خاننا عقفان لكتم أمر ابنه. واستعمل عفان على الصدقة فبقي عليها إلى أن توفي هشام.
ذكر خروج مسعود العبديوخرج مسعود بن أبي زينب العبدي بالبحرين على الأشعث بن عبد الله ابن الجارود، ففارق الأشعث البحرين، وسار مسعود إلى اليمامة وعليها سفيان ابن عمرو العقيلي، ولاه إياها عمر بن هبية، فخرج إليه سفيان، فاقتتلوا بالخضرمة قتالاً شديداً، فقتل مسعود، وقام بأمر الخوارج بعده هلال بن مدلج فقاتلهم يومه كله، فقتل ناس من الخوارج وقتلت زينب أخت مسعود، فلما أمسى هلال تفرق عنه أصحابه وبقي في نفر يسير، فدخل قصراً فتحصن به، فنصبوا عليه السلاليم وصعدوا إليه فقتلوه واستأمن أصحابه فآمنهم؛ وقال الفرزدق في هذا اليوم:
لعمري لقد سلنت حنيفة سلةً ... سوفاً أبت يوم الوغى أن تغيرا
تركن لمسعود وزينب أخته ... رداء وسر بالاً من الموت أحمرا
أرين الحروريين يوم لقائهم ... ببرقان يوماً يجعل الموت أشقرا
وقيل: إن مسعوداً غلب على البحرين والمامة تسع عشرة سنة حتى قتله سفيان بن عمرو العقيلي.
الخضرمة بكسر الخاء وسكون الضاد المعجمتين، وكسر الراء.
ذكر مصعب بن محمد الواليكان مصعب من رؤساء الخوارج، وطلبه عمر بن هبيرة وطلب معه مالك بن الصعب وجابر بن سعد، فخرجوا واجتمعوا بالخورنق وأمروا عليهم مصعباً ومعه أخته آمنة وساروا عنه.

فلما ولي هشام بن عبد الملك واستعمل على العراق خالداً القسري سير إليهم جيشاً، وكانوا قد صاروا بحزة من أعمال الموصل، فالتقوا واقتتلوا، فقتل الخوارج، وقيل كان قتلهم آخر أيام يزيد بن عبد المكل، فقال فيهم بعض الشعراء:
فتية تعرف التخشع فيهم ... كلهم أحكم القرآن إماما
قد برى لحمه التهجد حتى ... عاد جلداً مصفراً وعظاماً
غادروهم بقاع حزة صرعى ... فسقى الغيث أرضهم يا إماما
ذكر موت يزيد بن عبد الملكفي هذه السنة توفي يزيد بن عبد الملك لخمس بقين من شعبان وله أربعون سنة، وقيل خمس وثلاثون سنة، وقيل غير ذلك، وكانت ولايته أربع سنين وشهراً وأياماً وكنيته أبو خالد، وكان مرضه السل.
وقيل: كان سبب موته أن حبابة لما ماتت وجد عليها وداً شديداً، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فخرج مشيعاً لجنازتها ومعه أخوه مسلمة بن عبد الملك ليسليه ويعزيه، فلم يحبه بكلمة، وقيل إن يزيد لم يطق الركوب من الجزع وعجز عن المشي فأمر مسلمة فصلى عليها، وقيل: منعه مسلمة عن ذلك لئلا يرى الناس منه ما يعيبونه به. فلما دفنت بقي بعدها همسة عشر يوماً ومات ودفن إلى جانبها، وقيل: بقي بعدها أربعين يوماً لم يدخل عليه أحد إلا مرة واحدة ولما مات صلى عليه أخوه مسلمة، وقيل: ابنه الوليد، وكان هشام بن عبد الملك بحمص.
ذكر بعض سيرتهكان يزيد من فتيانهم، فقال يوماً وقد طرب وعنده حبابة وسلامة القس: دعوني أطير قالت حبابة: على من تدع الأمة؟ قال: عليك؛ قيل وغنته يوماً:
وبين الترافي واللهاة حرارة ... ما تطمئن وما تسوغ فتبردا
فأهوى ليطير، فقالت: يا أمير المؤمنين إن لنا فيك حاجة. فقال: والله لأطيرن! فقالت: على من تخلف الأمة والملك؟ قال: عليك والله! وقبل يدها؛ فخرج بعض خدمه وهو يقول: سخنت عينك فما أسخفك! وخرجت معه إلى ناحية الأردن يتنزهان، فرماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت، فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها حتى أنتنت وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي، فكلم في أمرها حتى أذن في دفنها، وعاد إلى قصره كئيباً حزيناً، وسمع جاريةً له تتمثل بعدها.
كفى حزناً بالهائم الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا
فبكى، وبقي يزيد بعد موتها سبعة أيام لا يظهر للناس، أشار عليه مسلمة بذلك وخاف أن يظهر منه ما سفهه عندهم.
وكان يزيد قد حج أيام أخيه سليمان فاشترى حبابة بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها العالية، وقال سليمان: لقد هممت أن أحجر على يزيد فردها يزيد فاشتراها رجل من أهل مصر، فلما أفضت الخلافة إلى يزيد قالت امرأته سعدة: هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: نعم، حبابة. فأرسلت فاشترتها ثم صيغتها وأتت بها يزيد فأجلستها من وراء الستر وقالت: يا أمير المؤمنين هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: قد أعلمتك. فرفعت الستر وقالت: هذه حبابة، وقامت وتركتها عنده، فحظيت سعدة عنده وأكرمها. وسعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان. ولما مات يزيد لم يعلم بموته حتى ناحت سلامة فقالت:
لا تلمنا إن خشعنا ... أو هممنا بخسوع
قد لعمري بت ليلي ... كأخي الداء الوجيع
ثم بات الهم مني ... دون من لي بضجيع
ثم بات الهم مني ... دون من لي بضجيع
للذي حل بنا اليو ... م من الأمر الفظيع
كلما أبصرت ربعاً ... خالياً فاضت دموعي
قد خلا من سيدٍ كا ... ن لنا غير مضيع
ثم نادت: وا أمير المؤمنين أه! فعلموا بموته. والشعر لبعض الأنصار.
وأخبار يزيد مع سلامة وحبابة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.

وإنما قيل لسلامة سلامة القس لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار أحد بني جشم بن معاوية بن بكير كان فقيهاً عابداً مجتهداً في العبادة، وكان يسمى القس لعبادته، مر يوماً بمنزل مولاها فسمع غناءها فوقف يسمعه، فرآه مولاها فقال له : هل لك أن تنظر وتسمع فأبى، فقال: أنا أقعدها بمكان لا تراها وتسمع غناءها؛ فدخل معه فغنته، فأعجبه غناؤها، ثم أخرجها مولاها إليه، فشغف بها وأحبها وأحبته هي أيضاً، وكان شاباً جميلاً. فقالت له يوماً على خلوة: أنا والله أحبك! قال: وأنا والله أحبك! قالت: وأحب أن أقبلك! قال: وأنا والله! قالت: وأحب أن أضع بطني على بطنك! قال: وأنا والله! قالت: فما منعك؟ قال: قول الله تعالى: " الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدو إلا المتقين " الزخرف:67 وأن أكره أن تؤول خلتنا إلى عداوة؛ ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته، وله فيها أشعار، منها:
ألم ترها لا يبعد الله دارها ... إذا طربت في صوتها كيف تصنع
تمد نظام القول ثم نرده ... إلى صلصلٍ من صوتها يترجع
وله فيها:
ألا قل هذا القلب هل أنت مبصر ... وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر
ألا ليت أني حيث صارت بها النوى ... جليس لسلمى كلما عج مزهر
إذا أخذت في الصوت كاد جليسها ... يطير إليها قبله حين ينظر
فقيل لها سلامة القس لذلك.
سلامة بتشديد اللام، وحبابة بتخفيف الباء الموحدة.
ذكر خلافة هشام بن عبد الملكفي هذه السنة استخلف هشام بن عبد الملك لليال بقين من شعبان، وكان عمره يوم استخلف أربعاً وثلاثين سنة وأشهراً، وكانت ولادته عام قتل مصعب ابن الزبير سنة اثنتين وسبعين، فسماه عبد الملك منصوراً، وسمته أمه باسم أبيها هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، فلم ينكر عبد الملك ذلك. وكانت أمه عائشة بنت هشام حمقاء فطلقها عبد الملك. وكانت كنية هشام أبا الوليد، وأتته الخلافة وهو بالرصافة، أتاه البريد بالخاتم والقضيب وسلم عليه بالخلافة، فركب منها حتى أتى دمشق.
ذكر ولاية خالد القسري العراقفيها عزل هشام عمر بن هبيرة عن العراق واستعمل خالد بن عبد الله القسري في شوال.
قال عمر بن يزيد بن عيمر الأسيدي: دخلت على هشام وخالد عنده وهو يذكر طاعة أهل اليمن، فقلت: والله ما رأيت هكذا خطأ وخطلاً، والله ما فتحت فتنة في الإسلام إلا بأهل اليمن، هم قتلوا عثمان، وهم خلعوا عبد الملك، وإن سيوفنا لتقطر من دماء أهل المهلب.
قال: فلما قمت تبعني رجل من آل مروان فقال: يا أخا بني تميم ورت بك زنادي، قد سمعت مقالتك وأمير المؤمنين قد ولى خالداً العراق وليست لك بدار! فيسار خالد إلى العراق من يومه.
الأسيدي بضم الهمزة، وتشديد الياء، هكذا يقوله المحدثون، وأما النحاة فإنهم يخفون الياء، وهي عند الجميع نسبة إلى أسيد بن عمرو بن تميم، بضم الهمزة، وتشديد الياء.
ذكر دعاة بني العباسقيل: وفي هذه السنة قد بكير بن ماهان من السند، كان بها مع الجنيد ابن عبد الرحمن.
فلما عزل الجنيد قدم بكير الكوفة ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب، فلقي أبا عكرمة الصادق وميسرة ومحمد بن خنيس وسالماً الأعين وأبا يحيى مولى بني سلمة، فذكروا له أمر دعوة بني هاشم، فقبل ذلك ورضيه وأنف ما معه عليهم ودخل إلى محمد بن علي، ومات ميسرة فأقامه مقامه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا الجراح الحكمي اللن حتى حاز ذلك إلى مدائن وحصون وراء بلنجر ففتح بعض ذلك وأصاب غنائم كثيرة. وفيها كانت غزوة سعيد بن عبد الملك أرض الورم، فبعث سرية في نحو ألف مقاتل فأصيبوا جميعاً. وفيها غزا مسلم بن سعيد الكلابي أمير خراسان الترك بما وراء النهر، فلم يفتح شيئاً وقفل، فتبعه الترك فلحقوه والناس يعبرون جيحون، وعلى الساقة عبيد الله بن زيهر بن حيان على خيل تميم، فحاموا حتى عبر الناس. وغزا مسلم أفشين فصالح أهلها على ستة آلاف رأس ودفع إليه القلعة، وذلك لتمام خمس ومائة بعد موت يزيد بن عبد الملك. وفيها غزا مروان بن محمد الصائفة اليمنى فافتتح قونية من أرض الروم وكمخ.

وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك، فأرسل إلى عطاء: متى أخطب؟ قال: بعد الظهر قبل التروية بيوم، فخطب قبل الظهر وقال: أخبرني رسولي عن عطاء، فقال عطاء: ما أمرته غلا بعد الظهر، فاستحيا.
وكان هذه السنة على المدينة ومكة والطائف عبد الواحد النمضري. وكان على العراق وخراسان عمر بن هبيرة. وكان على قضاء الكوفة حسين بن حسن الكندي. وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
في هذه السنة مات كثير عزة. وعكرمة مولى ابن عباس، وكان عكرمة زوج أم سعيد بنت جبير، وفيها مات حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل سنة خمس وتسعين، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وأبو رجاء العطاري، وأبو عبد الرحمن السلمي، وله تسعون سنة، واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة. وفيها توفي عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأمه صفية أخت المختار، وأوصى إليه أبوه. وفيها توفي عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أمه صفية أخت المختار، وأوصى إليه أبوه. وفيها توفي أخوه عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وهو أخو سالم لأمه، أمهما أم ولد. في أيام يزيد بن عبد الملك توفي أبان بن عثمان بن عفان، وكان قد فلج. وفيها توفي عمارة بن خزيمة بن ثابت الأنصاري، وله خمس وسبعون سنة. وفي أيام يزيد بن عبد الملك مات المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. وعطاء ابن يزيد الجندعي الليثي، ومولده سنة خمس وعشرين، سكن الشام.
الجندعي بضم الجيم، والدال المهلة المفتوحة، والنون. وعزاك ابن مالك الغفاري والد خيثم بن عزاك. ومورق العجلي.
ثم دخلت سنة ست ومائة

ذكر الوقعة بين مضر واليمن بخراسان
قيل: وفي هذه السنة كانت الوقعة بين المضرية واليمانية بالبروقان من أرض بلخ.
وكان سبب ذلك أن مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة غزا فتبطأ الناس عنه، وكان ممن تبطأ عنه البختري بن درهم، فرد مسلم نصر بن سيار وبلغاء بن مجاهد وغيرهما إلى بلخ فأمرهم أن يخرجوا الناس، فأحرق نصر باب البختري وزياد بن طريف الباهلي، فمنعهم عمرو بن مسلم أخو قتيبة دخول بلخ وكان عليها، وقطع مسلم بن سعيد النهر، ونزل نصر بن سيار البروقان، وأتاه أهل الغانيان ومسلمة التميمي وحسان بن خالد الأسدي وغيرهما، وتجمعت ربيعة والأزد بالبروقان على نصف فرسخ من نصر، وخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو بن مسلم بن عمرو، وأرسلت تغلب إلى عمرو بن مسلم: إنك منا، وأنشدوه سعراً قاله رجل عزا باهلة إلى تغلب، وكان بنو قتيبة من باهلة، فلم يقبل عمرو ذلك، وسفر الضحاك بن مزاحم ويزيد بن المفضل الحداني في الصلح وكلما نصراً، فانصرف، فحمل أصحاب عمرو بن مزاحم ويزيد بن المفضل الحداني في الصلح وكلما نصراً، فانصرف، فحمل أصحاب عمرو بن مسلم والبختري على نصر، وكر نصر عليهم، فكان أول قتيل رجل من باهلة من أصحاب عمرو بن مسلم في ثمانية عشر رجلاً، وانهزم عمرو وأرسل يطلب الأمان من نصر، فآمنه، وقيل: أصابوا عمراً في طاحونة فأتوا به نصراً وفي عنقه حبل، فآمنه وضربه مائة وضرب البختري وزياد بن طريف مائة مائة وحلق رؤوسهم ولحاهم والأبسهم المسوح.
وقيل إن الهزيمة كانت أولاً على نصر ومن معه من مضر، فقال عمروا بن مسلم لرجل معه من تميم: كيف ترى أستاه قومك يا أخا تميم؟ يعيره بذلك. ثم كرت تميم فهزمت أصحاب عمرو، فقال التميمي لعمرو: هذه أستاه قومي. وقيل: كان سبب انهزام عمرو أن ربيعة كانت مع عمرو فقتل منهم ومن الأزد جماعة، فقالت ربيعة: علام نقاتل إخواننا وأميرنا وقد تقربنا إلى عمرو فأنكر قرابتنا؟ فاعتزلوا، فانهزمت الأزد وعمرو ثم آمنهم نصر وأمرهم أن يحلقوا مسلم بن سعيد.
ذكر غزو مسلم الترك

ثم قطع مسلم النهر ولحق به من لحق من أصحابه، فلما بلغ بخارى أتاه كتاب خالد بن عبد الله بولايته العراق ويأمره بإتمام غزاته. فسار إلى فرغانة، فلما وصلها بلغه أن خاقان قد أقبل إليه وأنه في موضع ذكروه، فارتحل، فسار ثلاث مراحل في يوم، وأقبل إليهم خاقان فلقي طائفة من المسلمين وأصاب دواب لمسلم وقتل أخو غوزك وثار الناس في وجوههم فأخرجوهم من العسكر، ورحل مسلم بالناس فسار ثمانية أيام وهم مطيفون بهم، فلما كانت التاسعة أرادوا النزول فشاوروا الناس، فأشاروا به وقالوا: إذا أصبحنا وردنا الماء والماء منا غير بعيد. فنزلوا ولم يرفعوا بناء في العسكر، وأحرق الناس ما ثقل من الآنية والأمتعة، فحرقوا ماقيمته ألف ألف، وأصبح الناس فساروا فوردوا النهر وأهل فرغانة والشاش دونه، فقال مسلم بن سعيد: أعزم على كل رجل إلا اخترط سيفه، ففعلوا وصارت الدنيا كلها سيوفاً، فتركوا الماء وعبروا.
فأقام يوماً ثم قطع من غد واتبعهم ابن لخاقان، فأرسل إليه حميد بن عبد الله، وهو على الساقة: قف لي فإن خلفي مائتي رجل من الترك حتى أقاتلهم، وهو مثقل جراحة، فوقف الناس وعطف على الترك فقاتلهم وأسر أهل الصغد وقائدهم وقائد الترك في سبعة ومضى البقية، ورجع حميد فرمي بنشابه في ركبته فمات.
وعطش الناس، وكان عبد الرحمن العامري حمل عشرين قربة على إبله فساقها الناس جرعاً جرعاً، واستسقى مسلم بن يعيد، فأتوه بإناء، فأخذه جابر أو حارثه بن كثير أخو سليمان بن كثير من فيه، فقال مسلم: دعوه فما نازعني شربتي إلا من حر دخله. وأتوا خجندة، وقد أصابهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس، فإذا فارسان يسألان عن عبد الرحمن بن نعيم، فأتياه بعهده على خراسان من أسد بن عبد الله أخي خالد، فأقراه عبد الرحمن مسلماً، فقال: سمعاً وطاعة. وكان عبد الرحمن أول من اتخذ الخيام في مفازة آمل.
قال الخزرج التغلبي: قاتلنا الترك فأحاطوا بنا حتى أيقنا بالهلاك، فحمل حوثرة بن يزيد بن الحر بن الخنيف على الترك في أربعة آلاف فقاتلهم ساعة ثم رجع، وأقبل نصر بن سيار في ثلاثين فارساً فقاتلهم حتى أزالهم عن مواضعهم فحمل عليهم الناس فانهزم الترك وحوثرة، وهو ابن أخي رقبة بن الحر.
قيل: وكان عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد خين ولاه: ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنه لسانك والمعبر عنك، وعليك بعمال العذر. قال: وما عمال العذر؟ قال: تأمر أهل كل بلد أن يختاروا لأنفسهم، فإن كان خيراً كان لك وإن كان شراً كان لهم دونك وكنت معذوراً.
وكان على خاتم مسلم بن سعيد توبة بن أبي سعيد، فلما ولي أسد بن عبد الله خراسان جعله على خاتمة أيضاً
ذكر حج هشام بن عبد الملكوحج بالناس هذه السنة هشام بن عبد الملك، وكتب له أبو الزناد سنن الحج قال أبو الزناد: لقيت هشاماً، فإني لفي الموكب إذ لقيه سعيد بن عبد الله ابن الوليد بن عثمان بن عفان، فسار إلى جنبه فسمعه يقول: يا أمير المؤمنين إن الله لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن أبا تراب! فإنها مواطن صالحة، وأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه فيها.
فشق على هشام قوله وقال: ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنه، قدمنا حجاجاً، ثم قطع كلامه وأقبل علي فسألني عن الحج، فأخبرته بما كتبت له، قال: وشق على سعيد أني سمعته تكلم بذلك وكان منكسراً كلما رآني.
ذكر ولاية أسد خراسانقيل: وفي هذه السنة استعمل خالد بن عبد الله أخاه أسداً على خراسان فقدمها وسلم بن سعيد غازٍ بفرغانة، فلما أتى أسد لنهر ليقطعه منعه الأشهب بن عبيد التميم، وكان على السفن بآمل، وقال: قد نهيت عن ذلك فأعطاه ولا طفه، فأبى، وقال: فإني أمير، فأذن له، فقال أسد: اعرفوا هذا حتى نشكره في أمانتنا.
وأتى الصغد فنزل بالمرج، وعلى سمرقند هانئ بن هانئ، فخرج في الناس يلقى أسداً، فرآه على حجر فتفاءل الناس وقالوا: ما عند هذا خير، أسد على حجر. ودخل سمرقند وبعث رجلين معهما عهد عبد الرحمن بن نعيم على الجند، فقدما وسألا عنه وسلما إليه العهد، فأتى به مسلماً فقال: سمعاً وطاعة. وقفل عبد الرحمن بالناس ومعه مسلم، فقدموا على أسد بسمرقند، فعزل هانئاً عنها واستعمل عليها الحسن بن أبي العمرطة الكندي.

وقيل للحسن: إن الأتراك قد أتوك في سبعة آلاف. فقال: ما أتونا، نحن أتيناهم وغلبناهم على بلادهم واستعبدناهم ومع هذا فلأذنين بعضكم من بعض ولأقربن نواصي خيلكم بخيلهم، ثم سبهم ودعا عليهم، ثم خرج إليهم متبطئاً، فأغاروا ورجعوا سالمين.
واستخلف على سمرقند ثابت قطنة، فخطب الناس، فأرتج عليه وقال: ومن يطع الله ورسوله فقد ضل؛ فسكت ولم ينطق بكلمة، وقال:
إن لم أكن فيكم خطيباً فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
فقيل له: لو قلت هذا على المنبر لكنت أخطب الناس؛ فقال حاجب الفيل اليشكري يعيره بحضرته.
أبا العلاء لقد لاقيت معضلةً ... يوم العروبة من كربٍ وتخنيق
تلوي اللسان إذا رمت الكلام به ... كما هوى زلق من شاهق النيق
لما رمتك عيون الناس صاحيةً ... أنشأت تجض لما قمت بالريق
أما القرآن فلا تهدى لمحكمةٍ ... من القرآن ولا تدى لتوفيق
ذكر استعمال الحر على الموصلفي هذه السنة استعمل هشام الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية على الموصل، وهو الذي بنى المنقوشة داراً يسكنها، وإنما سميت المنقوشة لأنها كانت منقوشة بالساج والرخام والفصوص الملونة وما شاكلها، وكانت عند سرق القتابين والسعارين وسق الأربعاء، وأمام الآن خربة تجاور سوق الأربعاء. وهذا الحر الذي عمر النهار الذي كان بالموصل.
وسبب ذلك أنه رأى امرأة تحمل جرة ماء وهي تحملها قليلاً ثم تستريح قليلاً لبعد الماء، فكتب إلى هشام بذلك، فأمر بحفر نهر إلى البلد، فحفره، فكان أكثر شرب أهل البلاد منه وعليه كان الأشرع المعروف بشار النهر، وبقي العمل فيه عدة سنين، ومات الحر سنة ثلاث عشرو ومائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كلم إبراهيم بن محمد بن طلحة هشام بن عبد الملك وهو في الحجر فقال له: أسألك بالله وبحرمة هذا البيت الذي خرجت معظماً له إلا رددت علي ظلامتي. قال: أي ظلامة؟ قال: داري. قال: فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: ظلمني. اقل: فالوليد وسليمان؟ قال: ظلماني. قال: فعمر؟ قال: يرحمه الله ردها علي. قال: فيزيد بن عبد الملك؟ قال: ظلمني وقبضها مني بعد قبضي لها، وهي في يدك. فقال هشام: لو كان فيك ضرب لضربتك. فقال: في والله ضرب بالسيف والسوط. فانصرف هشام والأبرش خلفه فقال: أبا مجاشع كيف سمعت هذا الإنسان؟ قال: ما أجوده! قال: هي قريش وألسنتها، ولا يزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا.
وفيها عزل هشام عبد الواحد النضري عن مكة والمدينة والطائف وولى ذلك خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، فقدم المدينة في جمادى الأخرة، فكانت ولاية النضري سنة وثمانية أشهر .وفيها غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة. وفيها غزا الجراح بن عبد الله اللان فصالح أهلها فأدوا الجزية. وفيها ولد عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس في رجب. وفيها اسقضى إبراهيم بن هشام على المدينة محمد بن صفوان الجمحي ثم عزله واستقضى الصلت الكندي.
وكان العامل على مكة والدينة والطائف إبراهيم بن هشام المخزومي، وكان على العراق وخراسان خالد بن عبد الله القسري البجلي، وكان عامل خالد على صلاة البصرة عقبة بن عبد الأعلى، وعلى شرطتها مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس.
وحج بالناس هشام بن عبد الملك.
وفيها مات يوسف بن مالك مولى الحضرميين، وبكر بن عبد الله المني
ثم دخلت سنة سبع ومائة

ذكر ملك الجنيد بعض بلاد السند
وقتل صاحبه جيشبة
في هذه السنة استعمل خالد القسري الجنيد بن عبد الرحمن على السند، فنزل شط مهران، فمنعه جيشبه بن ذاهر العبور وقال: إننا ملمسمون، فقد استعملني الرجل الصالح، يعين عمر بن عبد العزيز، على بلادي ولست آمنك، فأعطاه رهناً وأخذ منه رهناً بما على بلاده من الخراج، ثم إنهما ترادا الرهن وكفر جيشه وحاربه، وقيل: لم يحاربه ولكن الجنيد تجنى عليه فأتى الهند فجمع جموعاً وأخذ السفن، وقد جنحت سفينته فقتله، وهرب أخوه صصه إلى العراق ليشكو غدر الجنيد، فخدعه الجنيد حتى جاء إليه فقتله.
وغزا الجنيد الكيرج، وكانوا قد نقضوا، ففتحها عنوةً وفتح أزين والمالبة وغيرهما من ذلك الثغر.

ذكر غزوة عنبسة الفرنج بالأندلس
في هذه السنة غزا غنبسة بن سحيم الكلبي عامل الأندلس بلد الفرنج في جمع كثير ونازل مدينة قرقسونة وحصر أهلها، فصالحوه على نصف أعمالها وعلى جميع ما في المدينة من أسرى المسلمين وأسلابهم وأن يعطوا الجزية ويلتزموا بأحكام الذمة من محاربة من حاربه المسلمون وسالمة من سالموه، فعاد عنهم عنبسة وتوفي في شعبان سنة سبع ومائة أيضاً، وكانت ولايته أربع سنين وأربعة أشهر، ولما مات استعمل عليهم بشر بن صفوان يحيى بن سلمة الكلبي في ذي القعدة سنة سبع أيضاً.
ذكر حال الدعاة لبني العباسقيل: وفيها وجه بكير بن ماهان أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد ابن خنيس وعماراً العبادي وزياداً خال الوليد الأزرق في عدة من شيعتهم دعاةً إلى خراسان، فجاء رجل من كندة إلى أسد بن عبد الله فوشى بهم إليه.، فأتى بأبي عكرمة ومحمد بن خنيس وعامة أصحابه، ونجا عمار، فقطع أسد أيدي من ظفر به منهم وصلبهم، وأقبل عمار إلى بكير بن ماهان فأخبره الخبر، فكتب إلى محمد بن علي بذلك، فأجابه: الحمد لله الذي صدق دعوتكم ومقالتكم وقد بقيت منكم قتلى ستقتل.
وفيها قدم مسلم بن سعيد إلى خالد بن عبد الله، فكان أسد يكرمه بخراسان ولم يعرض له، فقدم مسلم وابن هبيرة يريد الهرب، فنهاه عن ذلك وقال: إن القوم فينا أحسن رأياً منكم فيهم.
وفيها غزا أسد جبال نمرون ملك غرشس مما يلي جبال الطالقان، فصالحه نمرون وأسلم على يده، وهم يتولون اليوم اليمن.
ذكر الخبر عن غزوة الغورقيل: وفي هذه السنة غزا أسد الغور، وهي جبال هراة، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيروها في كهف ليس إليه طريق، فأمر أسد باتخاذ توابيت ووضع فيها الرجال ودلاها بسلاسل فاستخرجوا ما قدروا عليه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل هشام الجراح بن عبد الله الحكمي عن أرمينية وأذربيجان واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك، فاستعمل عليها مسلمة الحارث ابن عمرو الطائي، فافتتح من بلد الترك رستاقاً وقرى كثيرة وأثر فيها أثراً حسناً.
وفيها نقل أسد من كان بالبروقان إلى بلخ من الجند وأقطع كل من كان له بالبروقان بقدر مسكنة ومن لم يكن له مسكن أقطعه سمكناً، وأراد أن ينزلهم على الأخماس فقيل له إنهم يتعصبون فخط بينهم. وتولى بناء مدينة بلخ برمك أبو خالد بن برمك، وبينها وبين البروقان فرسخان.
وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام، وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم في السنة قبلها.
وفيها مات سليمان بن يسار وعمرة ثلاث وسبعون سنة، وعطاء بن زيدي الليثي وله ثمان وتسعون سنة، وقد تقدم ذكر وفاته سنة خمس ومائة.
يسار بالياء المثناة من تحت، وبالسين المهلملة.
ثم دخلت سنة ثمان ومائة
ذكر غزوة الختل والغور
قيل: وفي هذه السنة قطع أسد النهر وأتاه خاقان فلم يكن بينهما قتال في هذه الغزوة، وقيل: عاد مهزوماً من الختل، وكان أسد قد أظهر أنه يريد أن يشتو بسرخ دره، فأمر الناس فارتحلوا، ووجه راياته وسار في ليلة مظلمة إلى سرخ دره، فكبر الناس، فقال: مالهم؟ فقالوا: هذه علامتهم إذا قفلوا. فقال للمنادي: ناد إن الأمير يريد غوريين، فمضى إليهم، فقاتلوهم يوماً وصبروا لهم. وبرز رجل من المشركين بني الصفين، فقال سالم بن أحوز لنصر بن سيار: أنا حامل على هذا العلج فلعلي أقتله فيرضى أسد، فحمل عليه فطعنه فقتله ورجع سالم فوقف قم قال لنصر: أنا حامل حملة أخرى، فحمل فقتل رجلاً آخر، وجرح سالم، فقال: أترى ما صنعنا يرضيه؟ لا أرضاه الله! قال: لا واللهز قال: وأتاهما رسول أسد فقال: يقول لكما الأمير قد رأيت موقفكما وقلة غنائكما عن المسلمين لعنكما الله. فقال: آمين إن عدنا لمثل هذا! وتحاجزوا.
ثم عادوا من الغد فاقتتلوا وانهزم المشركون وحوى المسلمون عسكرهم وظهروا على البلاد وأسروا وسبوا وغنموا. وقد كان أصاب الناس جوع شديد بالختل، فبعث أسد بكبشين مع غلام له وقال: بعهما بخمسمائة درهم. فلما مضى الغلام قال أسد: لا يشتريهما إلا ابن الشخير، وكان في المسلحة، فدخل حين أمسى الشاتين في السوق فاشتراهما بخمسائة، فذبح إحداهما وبعث بالأخرى إلى بعض إخوانه، فلما أخبر الغلام أسداً بالقصة بعث إلى ابن الشخير بألف درهم وهو عثمان بن عبد الله بن الشخير أبو مطرف.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم مما يلي الجزيرة ففتح قياسرية، وهي مدينة مشهورة. وفيها أيضاً غزا إبراهيم بن هشام ففتح حصناً الروم. وفيها وجه بكير بن ما هان إلى خراسان جماعةً من شيعة بني العباس، منهم عمار العابدي، فسعى بهم رجل إلى أسد بن عبد الله أمير خراسان، فأخذ عماراً فقطع يديه ورجليه ونجا أصحابه فوصلوا إلى بكير فأخبروه بذلك، فكتب إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، لأجابه: الحمد لله الذي صدق دعوتكم ونجى شيعتكم؛ وقد تقدم سنة سبع ومائة ذكر هذه القصة. وفيها: أن عماراً نجا؛ وفي هذه الرواية: أن عماراً قطع، فلهذا أعدنا ذكرها، والله أعلم.
وفيها وقع الحريق بدابق فاحترق المرعى والدواب والرحال. وفيها سار ابن خاقان ملك الترك إلى أذربيجان فحصر بعض مدنها، فسار إليه الحارث ابن عمرو الطائي فالتقوا فاققتلوا فانهزم الترك وتبعهم الحاث حتى عبر نهر أس، فعاد إليه ابن خاقان فعادو الحرب أيضاً، فانهزم ابن خاقان وقتل من الترك خلق كثير. وفيها خرج عباد الرعيني باليمن محكماً، فقتله أميرها يويف بن عمر وقتل أصحابه. وكانونوا ثلاثمائة. وفيها غزا معاوية بن هشام ابن عبد الملك وعه ميمون بن مهران على أهل الشام فقطعوا البحر إلى قبرس، وغزا في البر مسلمة بن عبد الملك بن مروان. وفيها كان بالشام طاعون شدؤد.
وحج الناس هذه السنة إبراهيم بن هشام وهو على المدينة ومكة والطائف. وكان العمال من تقدم ذكرهم في السنة قبلها.
وفيها مات محمد بن كعب القرطي، وقيل: سنة سبع عشرة، وقيل: إنه ولد على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم . وفيها مات موسى بن محمد بن علي بن الله والد عيسى ببلاد الروم غازياً، وكان عمره سبعاً وسبعين سنة. وفيها مات القاسم بن محمد بم أبي بكر الصديق، وكان عمره سبعين سنة، وقيل: ثنين وسبعين سنة، وكان قد عمي، وقيل: مات سنة إحدى ومائة. وفيها توفي أبو المتوكل علي بن دودا الناجي. وأبو نضرة المنذر بن قطعة النضري؛ نضرة بالنون والضاد المعجمة. ومحارب ابن دثار الكوفي قاضيها؛ دثار بكسر الدال المهملة، والثاء المثلثة.
ثم دخلت سنة تسع ومائة

ذكر عزل خالد وأخيه أسد عن خاسان
وولاية أشرس
قيل: وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله وأخاه عن خراسان.
وسبب ذلك أن أسداً تعصب حتى أفسد الناس وضرب نصر بن سيار ونفراً معه بالسياط، منهم: عبد الرحمن بن نعيم وسورة بن الحر والبختري ابن أبي درهم وعامر بن مالك الحماني، وحلقهم وسيرهم إلى أخيه خالد، وكتب إليه: إنهم أرادوا الوثوب بي. فلما قدموا على خالد لام أسداً وعنفه وقال: ألا بعث إلي برؤوسهم؟ فقال: نصر:
بعث بالعتاب في غير ذنبٍ ... في كتابٍ تلوم أم تميم
إن أكن موثقاً أسيراً لديهم ... في همومٍ وكربةٍ وسهوم
رهن تعس فما وجدت بلاءٍ ... كإسار الكرام عند اللئيم
أبلغ المدعين قسراً وقسر ... أهل عود القناة ذات الصون
هل فطمتم عن الخيانة والغد ... رأم أنتم كالحاكر المستديم
وقال الفرزدق:
أخالد لولا الله لم تعط طاعةً ... ولولا بنو مروان لم يوثقوا نصراً
إذاً للقيتم عند سد وثاقه ... بني الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا
وخطب يوماً أسد فقال: قبح الله هذه الوجوه وجوه أهل الشقاق والنفاق والشغب والفساد! اللهم فرق بيني وبينهم وأخرجني إلى مهاجري ووطني.
فبلغ فعله هشام بن عبد الملك، فكتب إلى خالد: اعزل أخاك، فعزله، فرجع إلى العراق في رمضان سنة تسع ومائة، واستخلف على خراسان الحكم ابن عوانة الكلبي، فأقام الحكم صيفية فلم يغز، ثم استعمل هشام أشرس ابن عبد الله السلمي على خراسان وأمره أن يكاتب خالداً. وكان أشرس فاضلاً خيراً، وكانوا يسمونه الكامل لفضله، فلما قدم خراسان فرحوا به، واستقضى أبا المنازل الكندي ثم عزله واستقضى محمد بن زيد.
ذكر دعاة بني العباس

قبل: أول من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد، بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وقال له: انزل في اليمن والأطف مضر، ونهاه عن رجل من نيسابور يقال له غالب لأنه كان مفرطاً في حب بني فاطمة، ويقال: أول من أتى خراسان بكتاب محمد بن علي حرب بن عثمان مولى بني قيس بن ثعلبة من أهل بلخ، فما قدم زياد دعا إلى بني العباس وذكر سيرة بني أمية وظلمهم، وأطعم الناس الطعام، وقدم عليه غالب وتناظرا في تفضيل آل علي وآل العباس، وافترقا؛ وأقام زياد بمرو وشتوة ويختلف إليه من أهلها يحيى بن عقيل الخزاعي وغيره.
فأخبر به أسد، فدعاه وقال له: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: الباطل، وإنما قدمت إلى تجارة وقد فرقت مالي على الناس، فإذا اجتمع خرجت. فقال له أسد: اخرج عن بلادي.
فانصرف فعاد إلى أمره، فرفع أمره إلى أسد وخوف من جانبه، فأحضره وقتل معه عشرة من أهل الكوفة ولم يبنج منهم إلا غلامان استصغرهما، وقيل: بل أمر بزياد أن يوسط بالسيف، فضربوه بالسيف فلم يعمل فيه، فكبر الناس، فقال أسد: ما هذا؟ قيل: نبا السيف عنه، ثم ضرب أخرى فنبا السيف عنه، ثم ضربه الثالثة فقطعه باثنتين، وعرض البراءة على أصحابه، فممن تبرأ خلى سبيله، فتبرأ اثنان فتركا وأبى البراءة ثمانية فقتلوا.
فلما كان الغد أقبل أحدهما إلى أسد فقال: أسألك أن تلحقني بأصحابي، فقتله، وذلك قبل الأضحى بأربعة أيام، ثم قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يسمى كثيراً فنزل على أبي النجم، وكان يأتيه الذين لقوا زياداً، فكان على ذلك سنة أو سنتين، وكان أمياً، فقدم عليه خداش، واسمه عمارة غلب عليه خداش، فغلب كثيراً على أمره.
وقيل في أمل الدعاة ما تقدم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا عبد الله بن عقبة الفهري في البحر، وغزا معاوية ابن هشام أرض الروم ففتح حصناً يقال له طيبة، فأطيب معه قوم من أهل أنطاكية.
وفيها قتل عمر بن يزيد الأسيدي، قتله مالك بن المنذر بن الجارود، وسبب قتله أنه أبلى في قتال يزيد بن المهلب، فقال يزيد بن عبد الملك: هذا رجل العراق. فغاظ ذلك خالد بن عبد الله وأمر مالك بن المنذر، وهو على شرط البصرة، أن يعظمه ولا يعصي له أمراً، وأقبل يطلب له عثرة يقتله بها، فذكر مالك بن المنذر عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فافترى عليه، فقال عمر بن يزيد: لا تفتر على مثل عبد الأعلى. فأغلظ له مالك وضربه بالسياط حتى قتله الأسيدي بضم الهمزة، وتشديد الياء تحتها نقطتان.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الترك من ناحية أذربيجان فغنم وسبى وعاد سالماً.
وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام، فخطب الناس فقال: اسألوني فإنكم لا تسألون أحداً أعلم مني. فسأله رجل من أهل العراق عن الأضحية أواجبة هي، فما درى ما يقول، فنزل ، وكان هو العامل على المدينة ومكة والطائف، وكان على البصرة والكوفة خالد بن عبد الله القشري، وكان قد استخلف على الصلاة بالبصرة أبان بن ضبارة الشربي، وعلى الشرطة بها بلال ابن أبي بردة، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس، وعلى خراسان أشرس.
وفي هذه السنة مات أبو مجلز لاحق بن حميد البصري.
وفيها غزا بشر ابن صفوان عامل إفريقية جزيرة صقلية فغنم شيئاً كثيراً ثم رجع من غزاته إلى القيروان وتوفي بها من سنتها، فاستعمل هشام بعده عبيدة بن عبد الرحمن بن أبي الأغر السلمي، فعزل عبيدة يحيى بن مسلمة الكلبي عن الأندلس واستعمل حذيفة بن الأحوص الأشجعي، فقدم الأندلس في ربيع الأول سنة عشر ومائة، فبقي والياً عليها ستة أسهر ثم عزل، ووليها عثمان بن أبي نسعة الخثعي.
ثم دخلت سنة عشر ومائة

ذكر ما جرى لأشرس مع أهل سمرقند
وغيرها

في هذه السنة أرسل أشرس إلى أهل سمرقند وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية، وأرسل في ذلك أبا الصيداء صالح بن طريف مولى بني ضبة والربيع بن عمران التميمي. فقال أبو الصيداء: إنما أخرج على شريطة أن من أسلم لا تؤخذ منه الجزية، وإنما خراج خراسان على رؤوس الرجال. فقال أشرس: نعم. فقال أبو الصيداء لأصحابه: فإني أخرج، فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم؟ قالوا: نعم. فشخص إلى سمرقند من حولها إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية،فسارع الناس، فكتب غوزك إلى أشرس أن الخراج قد انكسر. فكتب أشرس إلى ابن أبي العمرطة: إن في الخراج قوة للمسلمين، وقد بلغني أن أهل الصغد وأشباههم ما أسلموا رغبة إنما أسلموا تعوذاً من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفائض وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه.
ثم عزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الخراج وصيره إلى هانئ بن هانئ، فمنعم أبو الصيداء من أخذ الجزية ممن أسلم، فكتب هانئ إلى أشرس: عن الناس قد أسلموا وبنوا المساجد. فكتب أشرس إليه وإلى العمال: خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه. فأعادوا الجزية على من أسلم. فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على عدة فراسخ من سمرقند، وخرج إليهم أبو الصيداء وربيع بن عمران التميمي والهيثم الشيباني وأبو فاطمة الأزدي وعامر بن قشيراء وبجير الخجندي وبنان العنبري وإسماعيل بن عقبة لينصروهم، فعزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الحرب وأستعمل مكانه المجشر بن مزاحم السمي على الحرب وصم إليه عميرة بن سعد الشيباني.
فلما قدم المجشر كتب إلى أبي الصيداء يسأله أن يقدم عليه هو وأصحابه، فقدم أبو الصيداء وثابت قطنة، فحبسهما، فقال أبو الصيداء: غرتم ورجعتم عما قلتم. فقال هانئ: ليس بغدر ما كان فيه حقن الدماء؛ ثم سيره إلى أشرس، فكتبوا إليه، فكتب أشرس: ضعوا عنهم الخراج، فرجع أصحاب أبي الصيداء وضعف أمرهم، فتبع الرؤساء، فأخذوا وحملوا إلى مرو، وبقي ثابت محبوساً، فألح هانئ في الخراج واستخفوا بعظماء العجم والدهاقين وأقيموا وتخرقت ثيابهم وألقيت مناطقهم في أعتاقهم، وأخذوا الجزية ممن أسلم من لضعفاء، فكفرت الصغد وبخارى واستجاشوا الترك.
ولم يزل ثابت قطنة في حبس المجشر حتى قدم نصر بن سيار إلى المجشر والياً فحمله إلى أشرس فحبسه، وكان نصر قد أحسن إليه؛ فقال ثابت يمدحه بأبيات يوقل فيها:
ما هاج شوقك من نؤيٍ وأحجار ... ومن رسومٍ عفاها صوب أمطار
إن كان ظنب بنصرٍ صادقاً أبداً ... فيما أدبر من نقضي وإمراري
لا يصرف الجند حتى يستفئ بهم ... نهباً عظيماً ويحوي ملك جبار
إني وإن كنت من جذم الذي نضرت ... منه الفروع وزندي الثاقب الواري
لذاكر منك أمراً قد سبقت به ... من كان قبلك يا نصر بن سيار
ناضلت عني نضال الحر إذا قصرت ... دوني العشيرة واستبطأت أنصاري
وصار كل صديقٍ كنت آمله ... ألباً علي ورث الحبل من جاري
وما تبلست بالأمر الذي وقعوا ... به علي ولا دنست أطماري
ولا عصيت إماماً كان طاعته ... حقاً علي ولا قارفت من عار
وخرج أشرس غازياً فنزل آمل فأقام ثلاثة أشهر. وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم فعبر النهر في عشرة آلاف، فأقبل أهل الصغد وبخارى معهم خاقان والترك، فحصروا قطناً في خندقه، فأرسل خاقان من أغار على مسرح الناس، فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو، فوجهه مع عبد الله بن بسطام في خيل، فاتلوا الترك بآمل حتى استنقذوا ما بأيديهم ورجع الترك.

ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن، وبعث أشرس سرية مع مسعود أحد بني حيان، فلقيهم العدو فقاتلوهم، فقتل رجال من المسلمين وهزم مسعود فرجع إلى أشرس، وأقبل العدو، فلقيهم المسلمون فجالوا جولة فقتل رجال من المسلمين، ثم رجع المسلمون وصبروا فانهزم المشركون، وسار أشرس بالناس حتى نزل بيكند، فقطع العدو عنهم الماء وأقام المسلمون يوماً وليلةً وعطشوا فرحلوا إلى المدينة التي قطع العدو بها، وعلى المقدمة قطن ابن قتيبة، فلقيهم العدو فقتلوهم فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة، فعجز الناس عن القتال، فحرض الحارث بن سريج الناس فقال: القتل بالسيف أكرم في الدنيا وأعظم أجراً عند الله من الموت عطشاً. وتقدم الحارث وقطن في فوارس من تميم فقاتلوا حتى أزالو التر عن الماء، فابتدره الناس فشربوا واستقوا.
ثم مر ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهلي فقال: هل لك في الجهاد؟ فقال: أمهلني حتى أغتسل وأتحنط. فوقف له حتى اغتسل ثم مضيا، وقال ثابت لأصحابه: أنا أعلم بقتال هؤلاء منك؛ وحرضهم، فحملوا، واشتد القتال، فقال ثابت قطنة: اللهم إني كنت ضيف ابن بسطان البارحة فاجعلني ضيفك الليلة، والله لا ينظر إلي بنو أمية مشدوداً ف الحديد. فحمل وحمل أصحابه، فرجع أصحابه وثبت هو، فرمي برذونة فشب، وضربه فأقدم، وضرب ثابت فارتث فقال وهو صريع: اللهم إني أصبحت ضيقاً لابن بسطام وأمست ضيفك! فاجعل قراي منك الجنة! فقتلوه وقتلوا معه عدة من المسلمين، منهم: صخر بن مسلم بن النعمان العبدي، وعبد الملك بن دثار الباهلي، وغيرهما؛ وجمع قطن وإسحاق بن محمد بن حبان خيلاً من المسلمين تبايعوا على الموت، فحملوا على العدو فقاتلوهم فكشفوهم وركبهم المسلمون يقتلونهم حتى حجزهم الليل وتفرق العدو، وأتى أشرس بخارى فحصر أهلها.
الحارث بن سريج بالسين المهلمة والجيم.
ذكر وقعة كمرجهثم عن خاقان حصر كمرجه، وهي من أعظم بلدان خراسان، وبها جمع من المسلمين، ومع خاقان أهل فرغانة وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارى، فاغلق المسلمون الباب وقطعوا القنطرة التي على الخندق. فأتاهم ابن خسرو بن يزدجرد فقال: يا معشر العرب لم تقتلون أنفسكم؟ أنا الذي جئت بخاقان ليرد علي مملكتي وأنا آخذ الأمان. فشتموه. وأتاهم بازغرى في مائتين، وكان داهية، وكان خاقان لا يخالفه، فدنا من المسلمين بأمان وقال: لينزل إلي رجل منكم أكلمه بما أرسلني به خاقان. فأحذروا يزيد بن سعيد الباهلي، وكان يفهم التركية يسيراً، فقال له: إن خاقان أرسلني وهو يقول إني أجعل من عطاؤه منكم ستمائة ألفاً، ومن عطاؤه ثلاثمائة وستمائة، وهو يحسن إليكم. فقال له يزيد: كيف تكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شاء! لا يكون بيننا وبينهم صلح. فغضب بازغرى، وكان معه تركيان، فقالا: ألا تضرب عنقه؟ فقال: إنه نزل بأمان. وفهم يزيد ما قالا فخاف فقال: بلى إنما تجعلوننا نصفين فيكون نصفنا مع أثقالنا ويسير النصف معكم، فإن ظفرتم فنحن معكم، وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن الصغد. فرضوا بذلك، وقال: أعرض على أصحابي هذا. وصعد في الحبل، فلما صار على السور نادى: يا أهل كمرجه اجتمعوا فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان، فما ترون؟ قالوا: لا نجيب ولا نرضى. قال: يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين. قالوا نموت قبل ذلك. فرد بازغرى.
ثم أمر خاقان بقطع الخندق، فجعلوا يلقون الحطب الرطب ويلقي المسلمون الحطب اليابس حتى سوي الخندق فأشعلوا فيه النيران وهاجت ريح شديدة صنعاً من الله فاحترق الحطب وكانوا جمعوه في سبعة أيام، في ساعة واحدة.
ثم فرق خاقان على الترك أغناماً وأمرهم أن يأكلوا لحمها ويحشوا جلودها تراباً وكبسوا خندقها، ففعلوا ذلك، فأرسل الله سحابة فمطرت مطراً شديداً، فاحتمل السيل ما في الخندق وأقاه في النهر العظيم. ورماهم المسلمون بالسهام فأصابت بازعغرى نشابة في سرته فمات من ليلته، فدخل عليهم بموته أمر عظيم. فلما امتد النهار جاؤوا بالأسرى الذين عندهم، وهم مائة، فيهم أبو العوجاء العتكي والحجاج بن حميد النضري، فقتلوهم ورموا برأس الحجاج، وكان عند المسلمين مائتان من أولاد المشركين رهائن فقتلوهم واستماتوا، واشتد القتال.

ولم يزل أهل كرمجه كذلك حتى أقبلت جنود العرب فنزلت فرغانة، فعير خاقان أهل الصغد وفرغانة والشاش والدهاقين وقال: زعمتم أن في هذه خمسين حماراً وأنا نفتحها في خمسة أيام فارت الخمسة شهرين. وأمرهم بالرحيل وشتمهم، فقالوا: ما ندع جهداً، فاحضرنا غداً وانظر ما نصنع. فلما كان الغد وقف خاقان وتقدم ملك الطاربند فقاتل المسلمين فقتل منهم ثمانية، وجاء حتى وقف على ثلمة إلى جانب بيت فيه مريض من تميم، فرماه التميمي بكلوب، فتعلق بدرعه، ثم نادى النساء والصبيان فجذبوه فسقط لوجه، ورماه رجل بحجر فأصاب أصل أذنه فصرع، وطعنه آخر فقتله، فاشتد قتله على الترك.
وأرسل خاقان إلى المسلمين: إنه ليس من رأينا أن نرتحل عن مدينة نحاصرها دون إفتتاحها أو ترحلهم عنها. فقالوا له: ليس من ديننا أن نعطي بأيدينا حتى نقتل فاصنعوا ما بدا لكم. فأعطاهم الترك الأمان أن يرحل خاقان عنهم وبرحوا هم عنها إلى سمرقند أو الدبوسية، فرأى أهل كمرجه ما هم فيه من الحصار فأجابوا إلى ذلكم، فأخذوا من الترك رهائن أن لا يعرضوا لهم وطلبوا أن كورصول التركي يكون معهم في جماعة لمينعهم إلى الدبوسية، فسلموا إليهم الرهائن وأخذوا أيضاً هم من المسلمين رهائن، وارتحل خاقان عنهم، ثم رحلوا هم بعده، فقال الأتراك الذين مع كورصول: إن بالدبوسية عشرة آلاف مقاتل ولا نأمن أن يخرجوا علينا. فقال لهم المسلمون : إن قاتلوكم قاتلناهم معكم.
فساروا، فلما صار بينهم وبين الدبوسية فرسخ نظر أهلها إلى الفرسان فظنوا أن كمرجه فتحت وأن خاقان قد قصدهم فتأهبوا للحرب، فأرسل المسلمون إليهم يخبرونهم خبرهم، فالتقوهم وحملوا من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحاً. فلما بلغ المسلمون الدبوسية أرسلوا إلى من عنده الرهائن يعلمونه بوصولهم ويأمرونه بإطلاقهم، فجعلت العرب تطلق رجلاً من الرهن والترك رجلاً حتى بقي سباع بن النعمان مع الترك، ورجل من الترك عند العرب، وجعل كل فريق يخاف من صاحبه الغدر، فقال سباع: خلوا رهينة الترك، فخلوه، وبقي سباع مع الترك، فقال له كورصول: ما حملك على هذا؟ قال: وثقت بك وقلت ترفع نفسك عن الغدر، فوصله كورصول وأعطاه سلاحه وبرذوناً وأطلقه.
وكانت مدة حصار كمرجة ثمانية وخمسين يوماً فيقال: إنهم لم يسقول إبلهم خمسة وثلاثين يوماً.
ذكر ردة أهل كردرفي هذه السنة أرتد أهل كردر، فأرسل إليهم أشرس جنداً فظفروا بهم؛ فقال عرفجة
ونحن كفينا أهل مرو وغيرهم ... ونحن نفينا الترك عن أهل كردر
فإن تجعلوا ما قد غنمنا لغيرنا ... فقد يظلم المرء الكريم فيصبر
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جمع خالد القسري الصلاة والأحداث والشرط والقضاء بالبصرة لبلال بن أبي بكرة وعزل ثمامة عن القضاء. وفيها غزا مسلمة الترك من باب اللان، فلقي خاقان في جموعه فاقتتلوا قريباً من شهر وأصابهم مطر شديد، فانهزم خاقان وانصرف ورجع مسلمة فسلك على مسلك ذي القرنين. وفيها غزا معاوية الروم ففتح صملة. وفيها غزا الصائفة عبد الله بن عقبة الفهري، وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، بضم الحاء وفتح الدال المهملتين.
وحج بالناس إبراهيم بن إسماعيل. فكان العمال على البلاد هذه السنة من تقدم ذكرهم في السنة التي قبلها. وفيها مات الحسن البصري وله سبع وثمانون سنة. ومحمد بن سيرين وهو ابن إحدى وثمانين سنة. وفيها، أعني سنة عشر ومائة، مات الفرزدق الشاعر وله إحدى وتسعون سنة. وجرير بن الخطفى الشاعر.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة

ذكر عزل أشرس عن خراسان
واستعمال الجنيد
في هذه السنة عزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان.

وكان سبب ذلك أن شداد بن خليد الباهلي شكاه إلى هشام، فعزله واسعمل الجنيد بن عبد الرحمن على خراسان، وهو الجنيد بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة امري. وكان سبب استعماله أنه أهدى لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادةً في جوهر، فأعجبت هشاماً، فأهدى لهشام قلادةً أخرى، فاستعمله وحمله على ثمانية من البريد، فقدم خراسان وقطعا النهر، وأرسل الجنيد إلى أشرس وهو يقاتل أهل بخارى والصغد: أن أمدني بخيل، وخاف أن يقتطع دونه فوجه إليه أشرس عامر بن مالك الحماني، فلما كان عامر ببعض الطريق عرض له الترك والصغد، فدخل حائطاً حصيناً وقاتلهم على الثلمة ومعه ورد بن زياد بن أدهم بن كلثوم وواصل بن عمرو القيسي. فخرج واصل وعاصم بن عيمر المسقندي ومعهما غيرهما فاستداروا حتى صاروا من وراء الماء الذي هناك. ثم جمعوا قصباً وخشباً وعبروا عليه، فلم يشعر خاقان إلا والتكبير من خلفه، وحمل الملمون على الترك، فاتلوهم فقتلوا عظيماً من عظمائهم وانهزم الترك، وار عامر إلى الجنيد، فلقيه وأقبل معه، وعلى مقدمة الجنيد عمارة بن حريم، فلما انتهى إلى فرسخين من بيكند تلقته خيل الترك فقاتلتهم، فكاد الجنيد يهلك ومن معه، ثم أظهره الله وسار حتى قدم العسكر، فظفر الجنيد وقتل الترك، وزحف غليه خاقان، فالتقوا دون رزمان من بلاد سمرقند، وقطن بن قتيبة على ساقة الجنيد. فأسر الجنيد من الترك ابن أخي خاقان في هذه الغزاة فبعث به إلى هشام.
وكان الجنيد عماله ولم يستعمل إلا مضرياً، استعمل قطن بن قتيبة على بخارى، والوليد بن القعقاع العبسي على هراة، وحبيب بن مرة العبسي على شرطه، وعلى بلخ مسلم بن عبد الرحمن بالباهلي، وكان عليها نصر بن سيار، وكان ما بينه وبين الباهليين متباعداً لما كان بينهم بالبروقان، وأرسل مسلم إلى نصر فصادفوه نائماً، فجاؤووا به في قميص ليس عليه سراويل ملبياً، فقال شيخ من مضر: جئتم به على هذه الحال! فعزل الجنيد مسلماً عن بلخ واستعمل يحيى بن ضبيعة، واستعمل على خراج سمرقند شداد بن خليد الباهلي.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وغزا سعيد بن هشام الصائفة اليمنى حتى أتى قيسارية، وغزا في البحر عبد الله بن أبي مريم. واستعمل هشام على عامة الناس من الشام ومصر الحم بن قيس بن مخرمة ابن عبد المطلب بن عبد مناف. وفيها سارت الترك إلى أذربيجان فلقيهم الحارث ابن عمرو فهزمهم. وفيها استعمل هشام الجاح بن عبد الله الحكمي على أرمينية وعزل أخاه مسلمة بن عبد الملك، فدخل بلاد الجذر من ناحية تفليس فتح مدينتهم البيضاء وانصرف سالماً، فجمعت الخزر وحشدت وسارت إلى بلاد الإسلام، وكان ذلك سبب قتل الجراح، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها عزل عبيدة بن عبد الرحمن، عامل إفريقية، عثمان بن نسعة عن الأندلس واستعمل بعده الهيثم بن عبيد الكناني، وقدمها في المرحم سنة إحدى عشرة ومائة، وتوفي في ذي الحجة من السنة، فكانت ولايته عشرة أشهر.
وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي، فكان العمال من تقدم ذكرهم إلا خراسان كان بها الجنيد، وكان بأرمينية الجراح بن عبد الله.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة

ذكر قتل الجراح الحكمي
في هذه السنة قتل الجراح بن عبد الله الحكمي. وسبب ذلك ما ذكرناه قبل من دخوله بلاد الخزر وانهزامهم، فلما هزمهم اجتمع الخزر والترك من ناحية اللان، فلقيهم الجراح بن عبد الله فيمن معه من أهل الشام فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس، فصبر الفريقان، وتكاثرت الخزر والترك على المسلمين، فاستشهد الجراح ومن كان معه بمرج أدبيل، وكان قد استخلف أخاه الحجاج ابن عبد الله على أرمينية.
ولما قتل الجراح طمع الخزر وأغلوا في البلاد حتى قاربوا الموصل، وعظم الخطب على المسلمين.
وكان الجراح خيراً فاضلاً من عمال عمر بن عبد العزيز، ورثاه كثير من الشعراء. وقيل: كان قتله ببلنجر.
ولما بلغ هشاماً خبره دعا سعيداً الحرشي فقال له: بلغني أن الجراح قد انحاز عن المشركين. قال: كلا يا أمير المؤمنين، الجراح أعرف بالله من أن ينهزم ولكنه قتل. قال: فما رأيك؟ قال: تبعثني على أربعين دابة من دواب البريد، ثم تبعث إلي كل يوم أربعين رجلاً، ثم اكتب إلى أمراء الأجناد يوافوني.

ففعل ذلك هشام، وسار الحرشي، فكان لايمر بمدينة إلا ويستنهض أهلها فيجيبه من يزيد الجهاد، ولم يزل كذلك حتى وصل إلى مدينة أرزن، فلقيه جماعة من أصحاب الجراح وبكوا وبكى لبكائهم وفرق فيهم نفقةً وردهم معه، وجعل لا يلقاه أحد من أصحاب الجراح إلا رده معه، ووصل إلى خلاط، وهي ممتنعة عليه، فحصرها أيضاً وفتحها وقسم غنائمها في أصحابه. ثم سار عن خلاط وفتح الحصون والقلاع شيئاً بعد شيء إلى أن وصل إلى برذعة فنزلها.
وكان ابن خاقان يومئذ بأذربيجان يغي وينهب ويسبي ويقتل وهو محاصر مدينة ورثان، فخاف الحرشي أن يملكها، فأرسل بعض أصحابه إلى أهل ورثان سراً يعرفهم وصولهم ويأمرهم بالصبر، فسار القاصد، ولقيه بعض الخزر فأخذوه وسألوه عن حاله، فاخبرهم وصدقهم، فقالوا له: إن فعلت ما نأمرك به أحسنا إليك وأطلقناك وإلا قتلناك. قال: فما الذي يريدون؟ قالوا: تقول لأهل ورثان إنكم ليس لكم مدد ولا من يكشف ما بكم، وتأمرهم بتسليم البلد إلينا. فأجابهم إلى ذلك.
فلما قارب المدينة وقف بحيث يسمع أهلها كلامه فقال لهم: أتعرفوني؟ قالوا: نعم أنت فلان. قال: فإن الحرشي قد وصل إلى مكان كذا في عساكر كثيرة، وهو يأمركم بحفظ البلد والصبر، ففي هذين اليومين يصل إليكم فرفعوا أصواتهم بالتكبير والتهليل.
وقتلت الخزر ذلك الرجل ورحلوا عن مدينة ورثان، فوصلها الحرشي في العساكر وليس عندها أحد. فارتحل يطلب الخزر إلى أردبيل، فسار الخزر عنها ونزل الحرشي باجروان، فأتاه فارس على فرس أبيض فسلم عليه وقال له: هل لك أيها المير في الجهاد والغنيمة؟ قال: كيف لي ذلك؟ قال: هذا عسكر الخزر في عشرة آلاف ومعهم خمسة آلاف من أهل بين من المسلمين أسارى أو سبايا وقد نزلوا على أربعة فراسخ.
فسار الحرشي ليلاً فوافاهم آخر الليل وهم نيام، ففرق أصحابه في أربع جهات فكبسهم مع الفجر ووضع المسلمون فيهم السيف، فما بزغت الشمس حتى قتلوا أجمعون غير رجل واحد، وأطلق الحرشي من معهم من المسلمين وأخذهم إلى باجروان، فلما دخلها أتاه ذلك الرجل صاحب الفرس الأبيض فسلم وقال: هذا جيش للخزر ومعهم أموال المسلمين وحرم الجراح وأولاده بمكان كذا. فسار الحرشي إليهم، فما شعروا إلا والمسلمون معهم فوضعوا فيهم السيف فتقلوهم كيف شاؤوا، ولم يفلت من الخزر إلا الشريد، واستنفذوا من معهم في المسلمين والمسلمات وغنموا أموالهم، وأخذ أود الجراح فأكرمهم وأحسن إليهم، وحمل الجميع إلى باجروان.
وبلغ خبر فعله الحرشي بعساكر الخزر ابن ملكهم، فوبخ عساكره وذمهم ونسبهم إلى العجز والوهن، فحرض بعضهم بعضاً وأشاروا عليه بجمع أصحابه والعود إلى قتال الحرشي. فجمع أصحابه من نواحي أذربيجان، فاجتمع معه عساكر كثيرة، وسار الحرشي إليه فالتقيا بأرض برزند، واقتتل الناس أشد قتال وأعظمه، فانحاز المسلمون يسيراً، فحرضهم الحرشي وأمرهم بالصبر، فعادوا إلى القتال وصدقوهم الحملة، واستغاث من مع الخزر من الأساى ونادوا بالتكبير والتهليل والدعاء، فعندها حرص المسلمون بعضهم بعضاً ولم يبق أحد إلا وبكى رحمةً للأسرى، واشتدت نكايتهم في العدو، فولوا الأدبار منهزمين، وتبعهم المسلمون حتى بلغوا بهم نهر رأس، وعادوا عنهم وحووا ما في عساكرهم من الأموال والغنائم، وأطلقوا الأسرى والسبايا وحملوا الجميع إلى باجروان.
ثم إن ابن ملك الخزر جمع من لحق به من عساكره وعاد بهم نحو الحرشي فنزل على نهر البيلقان، فالتقوا هناك، فصاح الحرشي بالناس، فحملوا حملةً صادقة ضعضعوا صفوف الخزر، وتابع الحملات وصبر الخزر صبراً عظيماً ثم كانت الهزيمة عليهم، فولوا الأدبار منهزمين، وكان من غرق منهم في النهر أكثر ممن قتل.
وجمع الحرشي الغنائم وعاد إلى باجروان فقسمها، وأرسل الخمس إلى هشام بن عبد الملك وعرفه ما فتح الله على المسلمين، فكتب إليه هشام يشكره. وأقام بباجروان، فأتاه كتاب هشام يأمره بالمصير إليه، واستعمل أخاه مسلمة ابن عبد الملك على أرمينية وأذربيجان، فوصل إلى البلاد وسار إلى الترك في شتاء شديد حتى جاز الباب في آثارهم.
ذكر وقعة الجنيد بالشعب

في هذه السنة خرج الجنيد غازياً يريد طخارستان، فوجه عمارة بن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر ألفاً، ووجه إبراهيم بن بسام الليثي في عشرة آلاف إلى وجه آخر، وجاشت الترك فأتوا سمرقند وعليها سورة ابن الحر، فكتب سورة إلى الجنيد: إن خاقان جاش الترك فخرجت إليهم فلم أطق أن أمنع حائط سمرقند، فالغوث الغوث! فأمر الجنيد الناس بعبور النهر، فقام إليه المجشر بن مزاحم السلمي وابن بسطام الأزدي وغيرهما وقالوا: إن الترك ليسوا كغيرهم لا يلقونك صفاً ولا زحفاً وقد فرقت جندك، فمسلم بن عبد الرحمن بالبيروذ، والبختري بهراة، وعمارة بن حريم غائب بطخارستان، وصاحب خراسان لا يعبر النهر في أقل من خمسين ألفاً، فاكتب إلى عمارة فليأتك أمهل ولا تعجل. قال: فكيف بسورة ومن معه من المسلمين؟ لو لم أكن إلا في بني مرة أو من طلع معي من الشام لعبرت؛ وقال شعراً:
أليس أحق الناس أن يشهد الوغى ... وأن يقتل الأبطال ضخماً على ضخم
وقال:
ما علتي ما علتي ما علتي ... إن لم اقتلهم فجزوا لمتي
وعبر الجنيد فنزل كش وتأهب للمسير، وبلغ الترك فعوروا الآبار التي في طريق كش، فقال الجنيد: أي طريق إلى سمرقند أصلح؟ فقالوا: طريق المحترقة. فقال المجشر: القتل بالسيف أصلح من القتل بالنار، طريق المحترقة كثير الشجر والحشيش ولم يزرع منذ سنين، فإن لقينا خاقان أحرق ذلك كله فقتلنا بالنار والدخان، ولكن خذ طريق العقبة فهو بيننا وبينهم سواء.
فأخذ الجنيد طريق العقبة فارتقى في الجبل، فأخذ المجشر بعنان دابته وقال: إنه كان يقال: ليفرخ روعك. قال: أما ما كان بيننا مثلك فلا. فبات في أصل العقبة ثم سار بالناس حتى صار بينه وبين سمرقند أربعة فراسخ ودخل الشعب، فصبحه خاقان في جمع عظم، وزحف إليه أهل الصغد وفرغانة والشاش وطائفة من الترك، فحمل خاقان على المقدمة، وعليها عثمان بن عبد الله بن الشخير، فرجعوا إلى العسكر والترك تتبعهم وجاؤوهم من كل وجه، فجعل الجنيد تميماً والأزد في الميمنة، وربيعة في الميسرة مما يلي الجبل، وعلى مجففة خيل بني تميم عبيد الله بن زهير بن حيان، وعلى المجردة عمروا بن جرقاش المنقري، وعلى جماعة بني تميم عامر بن مالك الحماني، وعلى الأزد عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو، وعلى المجففة والمجردة فضيل ابن هناد وعبد الله بن حوذان.
فالتقوا، وقصد العدو الميمنة لضيق الميسرة، فترجل حسان بن عبيد الله ابن زهير بين يدي أبيه، فأمره أبوه بالركوب، فركب، وأحاط العدو بالميمنة، فأمدهم الجنيد بنصر بن سيار، فشد هو ومن معه على العدو فكشفوهم، ثم كروا عليهم وقنتلوا عبيد الله بن زهير وابن جرقاش والفضيل ابن هناد، وجالت الميمنة والجنيد واقف في اقلب، فأقبل إلى الميمنة ووقف تحت راية الأزد، وكان قد جفاهم، فقال له صاحب الراية: ما هلكنا لم تبك علينا. وتقدم فقتل، وأخذ الراية ابن مجاعة فقتل، وتداولها ثمانية عشر رجلاً فقتلوا، وقتل يومئذ من الأزد ثمانون رجلاً.
وصبر الناس يقاتلون حتى أعيوا، فكانت السيوف لا تقطع شيئاً، فقطع عبدهم الخشب يقاتلون به حتى مل الفريقان، فكانت المعانقة ثم تحاجزوا. وقتل من الأزد عبد الله بن بسطام، ومحمد بن عبد الله بن حوذان، والحسن ابن شيخ، والفضيل صاحب الخيل، ويزيد بن الفضل الحداني، وكان قد حج فأنفق في حجته ثمانين ومائة ألف، وقال لأمه: ادعي الله أن يرزقني الشهادة، فدعت له وغشي عليها، فاستشهد بعد مقدمة من الحج بثلاثة عشر يوماً، وقتل النضر بن راشد العبدي، وكان قد دخل على امرأته والناس يقتتلون فقال لها: كيف أنت إذا أتيت بأبي ضمرة في لبد مضرجاً بالدم؟ فشقت جيبها ودعت بالويل؛ فقال لها: حسبك، لو أعولت علي كل أنثى لعصيتها شوقاً إلى الحور العين! فرجع وقاتل حتى استشهد، رحمه الله.
فبينا الناس كذلك إذ أقبل رهج وطلعت فرسان، فنادى الجنيد: الأرض الأرض! فترجل وترجل الناس، ثم نادى: يخندق كل قائد على حياله، فخندقوا وتحاجزوا، وقد أصيب من الأزد مائة وتسعون رجلاً. وكان قتالهم يوم الجمعة، فلما كان يوم السبت قصدهم خاقان وقت الظهر فلم ير موضعاً للقتال أسهل من موضع بكر بن وائل، وعليهم زياد بن الحارث، فقصدهم، فلما قربوا حملت بكر عليهم فأخرجوا لهم، فسجد الجنيد واشتد القتال بينهم.

ذكر مقتل سورة بن الحر
فلما اشتد القتال ورأى الجنيد شدة الأمر استشار أصحابه، فقال له عبيد الله بن حبيب: احتراماً أن تهلك أنت وسورة بن الحر. قال: هلاك سورة أهون علي. قال: فاكتب إليه فليأتك في أهل سمرقند، فإنه إذا بلغ الترك إقباله توجهوا إليه فقاتلوه. فكتب إليه الجنيد يأمره بالقدوم. وقال حليس بن غالب الشيباني: إن الترك بينك وبين الجنيد، فإن خرجت كروا عليك فاختطفوك. فكتب إلى الجنيد: إني لا أقدر على الخروج. فكتب إليه الجنيد: يا ابن اللخناء تخرج وإلا وجهت إليك شداد بن خليد الباهلي، وكان عدوه، فاخرج الزم الماء ولا تفارقه، فأجمع على المسير وقال: إذا سرت على النهر لا أصل في يويمين وبيني وينه في هذا الوجه ليلة، فإذا سكت الرجل سرت.
فجاءت عيون الأتراك فأخبروهم بمقالة يورة، ورحل سورة واستخلف على سمر قند موسى بن أسود الحنظلي، وسار في اثني عشر ألفاً، فأصبح على رأس جبل، فتلقاه خاقان حين أصبح وقد سار ثلاثة فراسخ وبينه وبين الجنيد فرسخ فقاتلهم، فاشتد القتال وصبروا. فقال غوزك لخاقان: اليوم حار فلا نقاتلهم حتى يحمى عليهم السلاح، فوافقهم وأشعل النار في الحشيش وحال بينهم وبين الماء، فقال سورة لعبادة: ما ترى يا أبا سليم؟ فقال: أرى أن الترك يريدون الغنيمة فاعقر الدواب واحرق المتاع وجر السيف، فإنهم يخلون لنا الطريق، وإن منعونا شرعنا الرماح ونزحف زحفاً، وإنما هو فرسخ حتى نصل إلى العسكر. فقال: لا أقوى على هذا ولا فلان وفلان، وعد رجالاً، ولكن أجمع الخيل فأصكهم بها سلمت أم عطبت.
وجمع الناس وحملوا، فانكشف الترك وثار الغبار فلم يبصروا من وراء الترك لهيب فسقطوا فيه، وسقط العدو والمسلمون وسقط سوة فاندقت فخذه وتفرق الناس، فقتلهم الترك ولم ينجح منهم غير ألفين، وقال ألف، وكان ممن نجا منهم عاصم بن عمير السمرقند، واستشهد حليس بن غالب الشيباني، وانحاز المهلب بن زياد العجلي في سبعمائة إلى رستاق يسمى المرغاب فنزلوا قصراً هناك، فأتاهم الأشكند صاحب نسف في خيل ومعه غوزك، فأعطاهم غوزك الأمان. فقال قريش بن عبد الله العبدي: لا تثقوا بهم، ولكن إذا جننا الليل خرجنا عليهم حتى نأتي سمرقند. فعصوه فنزلوا بالأمان، فساقهم إلى خاقان فقال: لا أجيز أمان غوزك، فقاتلهم الوجف بن خالد والمسلمون فأصيبوا غير سبعة عشر رجلاً فقتلوا غير ثلاثة.
وقتل سورة في اللهبن فلما قتل خرج الجنيد من الشعب يريد سمرقند مبادراً فقال له خالد بن عبيد الله: سر وأسرع. فقال له المجشر: انزل وخذ بلجام دابته، فنزل ونزل الناس معه، فلم يستتم نزولهم حتى طلع الترك، فقال المجشر له: لو لقونا ونحن نسير ألم يهلكونا؟ فلما أصبحوا تناهضوا فجال الناس، فقال الجنيد: أيها الناس إنها النار، فرجعوا، ونادى الجنيد: أي عبد قاتل فهو حر. فقاتل العبيد قتالاً عجب منه الناس، فسروا بما رأوا من صبرهم وصبر الناس حتى انهزم العدو ومضوا، فقال موسى بن التعراء للناس: تفرحون بما رأيتم من العبيد إن لكم منهم ليوماً أروزبان.
ومضى الجنيد إلى سمر قند فحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو وأقام بالصغد أربعة أشهر.
وكان صاحب رأي خراسان في الحرب المجشر بن مزاحم وعبد الرحمن بن صبح الخرقي وعبيد الله بن حبيب الهجري، وكان المجشر ينزل الناس على راياتهم ويضع المسالح ليس لأحد مثل رأيه في ذلك، وكان المجشر ينزل الناس على راياتهم ويضع المسالح ليس لأحد مثل رأيه، وكان عبيد الله على تعبية القتال. وكان رجال من الموالي مثل هؤلاء في الرأي والمشورة والعلم بالحرب، فمنهم: الفضل بن بسام، مولى ليث، وعبد الله بن أي عبد الله، مولى سليم، والبختري بن مجاهد، مولى شيبان.
فلما انصرف الترك بعث الجنيد نهار بن توسعة، أحد بني تيم الللات، وزبل بن سويد المري إلى هشام، وكتب إليه: إن سورة عصاني، أمرته بلزوم الماء فلم يفعل فتفرق عنه أصحابه فأتتني طائفة إلى كش وطائفة إلى نسف وطائفة إلى سمرقند وأصيب سورة في بقية أصحابه.

فسأل هشام نهار بن توسعة عن الخبر، فأخبره بما شهد، فكتب هشام إلى الجنيد: قد وجهت إليك عشرة آلاف من أهل البصرة، وعشرة آلاف من أهل الكوفة، ومن السلاح ثلاثين ألف رمح، ومثلها ترسة، فافرض فلا غاية لك في الفريضة لخمسة عشر ألفاً. فلما سمع هشام مصاب سورة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مصاب سورة بخراسان ومصاب الجراح بالباب.
وأبلى نصر بن سيار يومئذ بلاء حسناً. وأرسل الجنيد ليلة بالشعب رجلاً وقال له: تسمع ما يقول الناس وكيف حالهم. ففعل ثم رجع إليه فقال: رأيتهم طيبة أنفسهم، يتناشدون الأشعار ويقرأون القرآن. فسره ذلك.
قال عبيد بن حاتم بن النعمان: رأيت فساطيط بين السماء والأرض فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: بعدب الله بن بسطام وأصحابه، فقتلوا في غدٍ، فقال رجل: مررت في ذلك الموضع بعد ذلك بحين فشممت رائحة المسك.
وأقام الجنيد بسمرقند وتوجه خاقان إلى بخارى وعليها قطن بن قتيبة بن مسلم، فخاف الجنيد الترك على قطن بن قتيبة فشاور أصحابه فقال قوم: نلزم سمرقند. وقال قوم: نسير منها فنأتي ربنجين، ثم كش، ثم إلى نسف فنتصل منها إلى أرض زم ونقطع النهر وننزل آمل فنأخذ عليه بالطريق.
فاستشار عبد الله بن أبي عبد الله مولى بني سليم وأخبره بما قالوا فاشترط عليه أن لا يخالفه فيما يشير به عليه من ارتحال ونزول وقتال، قال: نعم. قال: فإن أطلب إليك خصالاً. قال: وما هي؟ قال: تخندق حيث ما نزلت، فلا يفوتنك حمل الماء ولو كنت على شاطئ نهر ، وأن تعطيني في نزولك وارتحالك. قال: نعم. قال: أما ما أشاروا عليك في مقامك بسمرقند حتى يأتيك الغياث فالغياث يبطئ عنك، وأما ما أشاروا من طريق كش ونسف فإنك إن سرت بالناس في غير الطريق فتت في أعضادهم وانكسروا عن عدوهم واجترأ عليك خاقان، وهو اليوم قد استفتح بخارى فلم يفتحوا له، فإن أخذت غير الطريق بلغ أهل بخارى ما فعلت فيستسلموا لعدوهم، وإن أخذت الطريق الأعظم هابك العدو، والرأي عندي أن تأخذ عيال من قتل مع سورة فتقسمهم على عشائرهم وتحملهم معك، فإني أرجو بذلك أن ينصرك الله على عدوك وتعطي كل رجل تخلف بمسرقند ألف درهم فرساً.
فأخذ برأيه وخلف بسمرقند عثمان بن عبد الله بن الشخير في أربعمائة فاس وأربعمائة راجل. فشتم الناس عبد الله بن أبي عبد الله وقالوا: ما أراد إلا هلاكنا. فخرج الجنيد وحمل العيال معه وسرح الأشحب بن عبيد الحنظلي ومعه عشرة من الطلائع وقال: كلما مضت مرحلة سرح إلي رجلاً يعلمني الخبر. وسار الجنيد فأسرع السير، فقال له عطاء الدبوسي: انظر أضعف شيخ في العسكر فسلحه سلاحاً تاماً بسيفه ورمحه وترسه وجعبته ثم سر على قدر مشيه، فإنا لا نقدر على سرعة المسير والقتال ونحن رجالة. ففعل الجنيد ذلك، ولم يعرض للناس عارض حتى خرجوا من الأماكن المخوفة، ودنا من الطواويس، وأقبل إليه خاقان بكرمينية أول يوم من رمضان واقتتلوا، فأتاه عبد الله بن أبي عبد الله وهو يضحك، فقال الجنيد: ليس هذا يوم ضحك. قال: الحمد لله الذي لم يلقاك هؤلاء في جبال معطشة وعلى ظهر إنما أتوك وأنت مخندق آخر النهار كالين وأنت معك الزاد، فقاتلوا قليلاً ثم رجعوا. ثم قال للجنيد: ارتحل فن خاقان وذأنك تقيم فينطوي عليك إذا شاء.
فسار وعبد الله على الساقة، ثم أمره بالنزول فنزل، واستقى الناس وباتوا، فلما اصبحوا ارتحلوا، فقال عبد الله: إني أتوقع أن خاقان يصدم الساقة اليوم فشدوها بالرجال، فقواهم الجنيد، وجاءت الترك فمالت على الساقة فاقتتلوا، فاشتد بينهم وقتل مسلم بن أحوز عظيماً من عظماء الترك، فتطيروا من ذلك وانصرفوا من الطواويس. وسار المسلمون فدخلوا بخارى يوم المهرجان، فتلقوهم بالدراهم البخارية، فأعطاهم عشرة عشرة.
قال عبد المؤمن بن خالد: رأيت عبد الله بن أبي عبد الله في المنام بعد موته، فقال: حدث الناس عني برأيي يوم الشعب.
وكان الجنيد يذكر خالد بن عبد الله فيقول: زبدة من الزبد، صنبور من صنبور، قل من قل، هيفة من الهيف. والهيفة: الضبع، والقل: الفرد، الصنبور: الذي لا أخ له، وقيل الملصق.
وقدمت الجنود من الكوفة على الجنيد، فسرح معهم حوثرة بن زيد العنبري فيمن انتدب معه. وقيل: إن وقعة الشعب كانت سنة ثلاث عشرة؛ وقال نصر بن سيار يذكر يوم الشعب:

إني نشأت وحسادي ذوو عددٍ ... يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا
إن تحسدوني على مثل البلاء لكم ... يوماً فمثل بلائي جر لي الحسدا
يأبى الإله الذي أعلى بقدرته ... كعبي عليكم وأعطى فوقكم عددا
أرمي العداة بأفراس مكلمةٍ ... حتى اتخذن على حسادهن يدا
من ذا الذي منكم في الشعب إذ وردوا ... لم يتخذ حومة الأثقال معتمدا
هلا شهدتم دفاعي عن جنيدكم ... وقع القنا وشهاب الحرب قد وقدا
وقال ابن عرس يمدح نصراً:
يا نصر أنت فتى نزار كلها ... فلك المآثر والفعال الأرفع
فرجت عن كل القبائل كربةً ... بالشعب حين تخاضعوا وتضعضعوا
يوم الجنيد إذ القنا متشاجر ... والنحر دامٍ والخوافق تلمع
ما زلت ترميهم بنفسٍ حرةٍ ... حتى تفرج جمعهم وتصدعوا
فالناس كل بعدها عتقاؤكم ... ولك المكارم والمعالي أجمع
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا معاوية بن هشام الصائفة فافتتح خرشنة. وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي، وقيل: سليمان بن هشام عبد الملك. وفيها استعمل أهل الأندلس على أنفسهم بعد موت الهيثم أميرهم محمد بن عبد الملك الأشجعي، فبقي شهرين، وولي بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، وكان عمال الأمصار هذه السنة من ذكرناهم في السنة قلها.
وفيها مات رجاء بن حيوة بقسين؛ حيوة بالحاء المهملة المفتوحة، وسكون الياء المثناة من تحت. وفيها توفي مكحول أبو عبد الله الشامي الفقيه. وعبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي، ومات أبوه وأمه حامل به، فكل ما يروونه عن أبيه فهو منقطع.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة

ذكر قتل عبد الوهاب
في هذه السنة قتل عبد الوهاب بن بخت، وكان قد غزا مع عبد الله البطال أرض الروم، فانهزم الناس عن البطال، فحمل عد الوهاب وهو يقول: ما رأيت فرساً أجبن منك، سفك الله دمي إن لم أسفك دمك! ثم ألقى بيضته عن رأسه وصاح: أنا عبد الوهاب بن بخت! أمن الجنة تفرون؟ ثم تقدم في نحر العدو، فمر برجل يقول: واعطشاه! فقال: تقدم، الري أمامك. فخالط القوم فقتل وقتل فرسه.
ذكر غزو مسلمة وعودهوفيها فرق مسلمة الجيوش ببلاد خاقان ففتحت مدائن وحصون على يديه وقتل منهم وأسر وسبى وأحرق ودان له من وراء جبال بلنجر، وقتل ابن خاقان، فاجتمعت تلك الأمم جميعها الخزر وغيرهم عليه في جمع لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وقد جاز مسلمة بلنجر فلما بلغه خبرهم أمر أصحابه فأوقدوا النيران ثم ترك خيامهم وأثقالهم وعاد هو وعسكره جريدة، وقدم الضعفاء وأخر الشجعان، وطووا المراحل كل مرحلتين في مرحلة حتى وصل إلى الباب والأبواب في آخر رمق.
ذكر قتل عبد الرحمن أمير الأندلس
وولاية عبد الملك بن قطن
في هذه السنة وهي سنة ثلاث عشرة ومائة، غزا عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أمير الأندلس من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي، وكان هشام بن عبد الملك قد استعمل عبيدة على إفريقية والأندلس سنة عشر ومائة، فلما قدم إفريقية رأى المستنبر بن الحارث الحريثي غازياً بصلية، وأقام هناك حتى هجم عليه الشتاء ثم قفل راجعاً، فغرق من معه وسلم المستنبر في مركبه، فحبسه عبيدة عقوبة له وجلده وشهره بالقيروان.
ثم إن عبيدة استعمل على الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله، فغزا إفرنجة وأوغل في أرضهم وغنم غنائم كثيرة، وكان فيما أصاب رجل من ذهب مفصصة بالدر والياقوت والزمرد، فكسرها وقسمها في الناس. فبلغ ذلك عبيدة، فغضب غضباً شديداً، فكتب إليه يتهدده، فأجابه عبد الرحمن، وكان رجلاً صالحاً: أما بعد فإن السموات والأرض لو كانتا رتقاً لجعل الله للمتقين منها مخرجاً. ثم خرج غازياً ببلاد الفرنج هذه السنة، وقيل: سنة أربع عشرة، وهو الصحيح، فقتل هو ومن معه شهداء.
ثم إن عبيدة سار من إفريقية إلى الشام ومعه من الهدايا والإماء ولعبيد والدواب وغير ذلك شيء كثير، واستغفى هشاماً، فأجابه إلى ذلك وعزله، وكان قد استعمل على الأندلس بعد قتل عبد الرحمن عبد الملك بن قطن.

ثم إن هشاماً استعمل على إفريقية بعد عبيدة عبيد الله بن الحبحاب، وكان على مصر، فسار عبيد الله إلى إفريقية سنة ست عشرة ومائة فأخرج المستنير من الحبس وولاه توني.
ثم إن عبيد الله جهز جيشاً مع حبيب بن أبي عبيدة وسيرهم إلى أرض السودان فظفر بهم ظفراً لم يظفر أحد مثله وأصاب ما شاء، ثم غزا البحر ثم انصرف.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة مات عدي بن ثابت الأنصاري. ومعاوية بن قرة بن إياس الموني، والد إياس قاضي البصرة الذي يضرب بذكائه المثل. وفيها توفي حرام بن سعيد بن محيصة أبو سعيد، وعمره سبعون سنة؛ حرام بفتح الحاء المهملة وبالراء المهملة. وحيصة بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الياء المثناة من تحت، وبالصاد المهملة. وفيها توفي طلحة بن مصرف الأيامي. وعبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي. وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، ويكنى أبا جعفرة، وعمره سبع وسبعون سنة. ووهب بن منبه الصناعاني، وكان أصغر من أخيه همام، وكانوا خمسة إخوة: همام ووهب وغيلان وعقيل ومعقل ، وقيل: مات سنة عشر ومائة. وفيها توفي الحر بن يوسف أمير الموصل ودفن بمقابر قريش بالموصل، وكانت بإزاء داره لمعروفة بالمنقوشة، في ذي الحجة، واستعمل هشام مكانه الوليد بن تليد العبسي، وأمره بالجد في إتمام حفر النهر في البلد، فشرع فيه واهتم بعمله.
وفيها غزا معاوية بن هشام أرض الروم فرابط من ناحية مرعش ثم رجع.
وفي هذه السنة سار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان، فاخذ الجنيد رجلاً منهم فقتله وقال: من أصبت منهم فدمه هدر.
وحج بالناس هذه السنة سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل: إبراهيم ابن هشام بن إسماعيل المخزومي، و كان العمال من تقدم ذكرهم.
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة

ذكر ولاية مروان بن محمد أرمينية وأذربيجان
في هذه السنة استعمل هشام بن عبد الملك مروان بن محمد بن مروان، وهو ابن عمه، على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية.
وكان سبب ذلك أنه كان في عسكر مسلمة بأرمينية حين غزا الخزر، فلما عاد مسلمة سار مروان إلى هشام فلم يشعر به حتى دخل عليه، فسأله عن سبب قدومه فقال: ضقت ذرعاً بما أذكره ولم أر من يحمله غيري! قال: وما هو؟ قال مروان: قد كان من دخول الخزر إلى بلاد الإسلام وقتل الجراح وغيره من لمسلمين ما دخل به الوهن على المسلمين، ثم رأى أمير المؤمنين أن يوجه أخاه مسلمة بن عبد الملك إليهم، فوالله ما وطئ من بلادهم إلا أدناها، ثم رأى أمير المؤمنين أن يوجه أخاه مسلمة بن عبد الملك إليهم، فوالله ما وطئ من بلادهم إلا أدناها، ثم إنه لما رأى كثرة جمعه أعجبه ذلك فكتب إلى الخزر يؤذنهم بالحرب وأقام بعد ذلك ثلاثة أشهر، فاستعد القوم وحشدوا، فلما دخل بلادهم لم يكن له فيهم نكاية، وكان قصاراه السلامة، وقد أردت أن تأذن لي في غزوة أذهب بها عنا العار وأنتقم من العدو. قال: قد أذنت لك. قال: وتمدني بمائة وعشرين ألف مقاتل؟ قال: قد فعلت. قال: وتكتم هذا الأمر عن كل واحد؟ قال: قد فعلت، وقد استعلمتك على أرمينية.
فودعه وسار إلى أرمينية والياً عليها، وسمى هشام الجنود من الشام والعراق والجزيرة، فاجتمع عنده من الجنود والمتطوعة مائة وعشرون ألفاً، فأظهر أنه يريد غزو اللان وقصد بلادهم، وأرسل إلى ملك الجذر يطلب منه المهادنة، فأجابه إلى ذلك وأرسل إليه من يقرر الصلح، فأمسك الرسول عنده إلى أن فرغ من جهازه وما يريد، ثم أغلظ لهم القول وآذنهم بالحرب، وسير الرسول إلى صاحبه بذلك ووكل به من ن يسيره على طريق فيه بعد، وسار هو في أقرب الطرق، فما وصل الرسول إلى صاحبه إلا ومران قد وافاهم، فاعلم صاحبه الخبر وأخبره بما قد جمع له مران وحشد واستعد. فاستشار ملك الجذر أصحابه، فقالوا: إن هذا قد اغترك ودخل بلادك، فغن أقمت إلى أن تجمع لم يجتمع عندك إلى مدة فيبلغ منك مايريد، وإن أنت لقيته على حالك هذه هزمك وظفر بك، والرأي أن تتأخر إلى أقصى بلادك وتدعه وما يريد. فقبل رأيهم وسار حيث أمروه.

ودخل مروان البلاد وأوغل فيها وأخربها وعنم وسبى وانتهى إلى آخرها وأقام فيها عدة أيام حتى أذلهم وانتقم منهم، ودخل بلاد ملك السرير فأوقع بأهله وفتح قلاعاً ودان له الملك وصالحه على ألف رأس وخمسمائة غلام وخمسمائة جارية سود الشعور ومائة ألف مديٍ تحمل إلى الباب، وصالح مروان أهل تومان على مائة رأس نصفين، وعشرين ألف مدي، ثم دخل أرض زريكران، فصالحه ملكها، ثم أتى إلى أرض خمزين، فأبى حمزين أن يصالحه، فحصرهم فافتتح حصنهم، ثم أتى سغدان فافتتحها صلحاً ووظف على طيرشانشاه عشرة آلاف مدي كل سنة تحمل إلى الباب، ثم نزل على قلعة صاحب اللكز، وقد امتنع من أداء الوظيفة، فخرج ملك اللكز يريد مالك الخز، فقتله راعٍ بسهم هو لا يعرفه، فصالح أهل اللكز مروان،واستعمل عليهم عاملاً، وسار إلى قلعة شروان، وهي على البحر، فأذعن بالطاعة، وسار إلى الدوداني فأقلع بهم ثم عاد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، فأصاب ربض أقرن، وإن عبد الله البطال التقى هو وقسطنطين في جمع، فهزمهم البطالوأسر قسطنطسن. وفيهاغزا سليمان بن هشام الصائفة اليمنى، فبلغ قيسارية. وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك إبراهيم بن هشام المخزومي عن المدينة واستعمل عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم في ربيع الأول، وكانت إمراة إبراهيم على المدينة ثماني سنين، وعزل أيضاً إبراهيم عن مكة والطائف واستعمل عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم في ربيع الأول، وكانت إمراة إبراهيم على المدينة ثماني سنين، وعزل أيضاً إبراهيم عن مكة والطائف واستعمل عليهما محمد بن هشام المخزومي، وقيل. بل ولى محمداً سنة ثلاث عشرة، فلما عزل إبراهيم أقر محمد عليها. وفيها وقع الطاعون بواسط. وفيها أقبل مسلمة بن عبد الملك بعدما هزم خاقان وأحكم ما هناك وبنى الباب.
وحج الناس خالد بن عبد الملك بن الحارث، وقيل محمد هشام. وكان العمال من تقدم ذكرهم في السنة قبلها، غير أن المدينة كان عاملها خالد بن عبد الملك، وعامل مكة والطائف محمد بن هشام، وعامل أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد.
وفيها مات عطاء بن أبي رباح، وقيل سنة خمس عشرة، وعمره ثمان وثمانون سنة، وقيل مائة سنة. وفيها توفي محمد بن الحسين الباقر، وقيل سنة خمس عشرة، وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة، وقيل ثمانياً وخمسين سنة. والحكم بن عتيبة بن النهاس أبو محمد، وهو مولى امرأة من كندة، ومولده سنة خمسين. وفيها توفي عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي قاضي مرو، وكان مولده لثلاث سنين مضت من خلافة عمر بن الخطاب.
عتبة بضم العين المهلمة، وفتح التاء فوقها نقطتان، وبعدها ياء مثناة من تحتها، وآخره باء موحدة. وبريدة بضم الباء الموحدة وفتح الراء. والحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتني وأخره باء موحدة.
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائةفي هذه السنة غزا معاوية بن هشام أرض الروم. وفيها وقع الطاعون بالشام. وفيها وقع بخراسان قحط شديد، فكتب الجنيد إلى الكور بحمل الطعام إلى مرو، فأعطى الجنيد رجلاً درهما فاشترى به رغيفاً، فقال لهم: أتشكون الجوع ورغيف بدرهم؟ لقد رأيتني بالهمد وإن الحبة من الحبوب لتباع عدداً بدرهم.
قال: وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام المخزومي. وكان الأمير بخراسان الجنيد، وقيل: بل كان قد مات الجنيد واستخلف عمارة بن حريم المري، وقيل: بل كان موت الجنيد سنة ست عشرة ومائة وفيها غزا عبد الملك بن قطن عامل الأندلس أرض البشكنس وعا سالماً.
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائةفي هذه السنة غزا معاوية بن عبد الملك أرض الروم الصائفة. فيها كان طاعون شديد بالعراق والشام، وكان أشد بواسط.
ذكر عزل الجنيد ووفاته

وولاية عاصم خراسان
وفيها عزل هشام بن عبد الملك الجنيد بن عبد الرحمن المري عن خراسان. واستعمل عليها عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي.
وسبب ذلك أن الجنيد تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، فغضب هشام فولى عاصم خراسان. وكان الجنيد قد سقي بطنه، فقال هشام لعاصم: إن أدركته وبه رمق فأرهق نفسه. فقدم عاصم وقد مات الجنيد، وكان بينها عداوة، فاخذ عمارة بن حريم، وكان الجنيد قد استخلفه، وهو ابن عمه، فعذبه عاصم وعذب عمال الجنبد.

وعمارة هذا جد أبي الهيذام صاحب العصبية بالشام، وسيأتي ذكرها إن شاء الله.
وكان موت الجنيد بمرو، وكان من الأجواد المدوحين غير محمود في حروبه.
ذكر خلع الحارث بن سريج بخراسانوفي هذه السنة خلع الحارث بن سريج وأقبل إلى الفارياب، فأرسل إليه عاصم بن عبد الله رسلاً فيهم مقاتل بن حيان النبطي وخطاب بن محرز السلمي فقالا لمن معهما: لا تلقى الحارث إلا بأمان. فأبى القوم عليهما، فأخذهم الحارث وحبسهم ووكل بهم رجلاً، فأوثقوه وخرجوا من السجن فركبوا وعادوا إلى عاصم، فامرهم، فخطبوا وذموا الحارث وذكروا خبث سيرته وغدره. وكان الحارث قد لبس السواد ودعا إلى كتاب الله سنة نبيه والبيعة للرضا، فسار من الفارياب فأتى بلخ، وعليها نصر بن سيار التجيبي، فلقيا الحارث في عشرة آلاف والحارث في أربعة آلاف فقاتلهما ومن معهما، فانهزم أهل بلخ وتبعهم الحارث، فدخل كدينة بلخ، وخرج نصر بن سيار منها، وأمر الحارث بالكف عنهم واستعمل عليها رجلاً من ولد عبد الله بن خازم وسار إلى الجوزجان فغلب عليها وعلى الطالقان ومرو الروز.
فلما كان بالجوزجان استشار أصحابه في أي بلد يقصد، فقيل له: مرو بيضة خراسان وفرسانهم كثير ولو لم يلقوك إلا بعيدهم لا نتصفوا منك، فأقم فإن أتوك قاتلتهم، وإن أقاموا قطعت المادة عنهم. قال: لا أرى ذلك، وسار إلى مرو فقال لأهل الرأي من مرو: إن أتى عاصم نيسابور فرق جماعتنا، وإن أتانا نكب.
وبلغ عاصماً أن أهل مرو يكاتبون الحارث فقال: يا أهيل مرو قد كاتبتم الحارث لا يقصد المدينة إلا تركتموها له، وإني لا حق بنيسابور وأكاتب أمير المؤمنين حتى يمدني بعشرة آلاف من أهل الشام. فقال له المجشر بن مزاحم: إن أعطوك بيعتهم بالطلاق والعتاق على القتال معك والمناصحة لك فلا تفارقهم.
وأقبل الحارث إلى مرو يقال في ستين ألفاً ومعه فرسان الأزد وتميم، منهم: محمد بن المثنى، وحماد بن عامر الحماني، وداود الأعسر، وبشر بن أنيف الرياحي، وعطاء الدبوسي، ومن الدهاقين دهقان الجوزجان ودهقان الفارياب وملك الطالقان ودهقان مرو الوذ في أشباههم، وخرج عاصم في أهل مرو وغيهم فعسكر، وقطع عاصم القناطر، وأقبل أصحاب الحارث فأصلحوا القناطر، فمال محمد بن المثنى الفراهيذي الأزدي إللى عاصم في ألفين فأتى الأزد، ومال حماد بن عامر الحماني إلى عاصم فأتى بني تميم، والتقى الحارث وعاصم، وعلى ميمنة الحارث وابض بن عبد الله زرارة التغلي، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أصحاب الحارث فغرق منهم بشر كثير في أنهار مرو وفي النهر الأعظم ومضت الدهاقين إلى بلادهم، وغرق خازم بن عبد الله ابن خازم، وكان مع الحارث، وقتل أصحاب الحارث قتلاً ذريعاً، وقطع الحارث وادي مرو فضرب رواقا عند منازل الرهبان، وكف عنه عاصم، واجتمع إلى الحارث زهاء ثلاثة ألاف.
ذكر عدة حوادثوفيها عزل هشام عبيد الله بن الحبحاب الموصلي عن ولاية مصر واستعمله على إفريقية، فسار إليها. وفيها سير ابن الحبحاب جيشاً إلى صقلية، فلقيهم مراكب الروم فاققتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت الروم، وكانوا قد أسوا جماعة من المسلمين، منهم عبد الرحمن بن زياد، فبقي أسيراً إلى سنة إحدى وعشرين ومائة، وفيها سير ابن الحبحاب أيضاً جيشاً إلى السوس وأرض السودان فغنموا وظفروا وعادوا. وفيها استعمل عبد الله بن الحبحاب عطية بن الحجاج القيسي على الأندلس، فسار إليها ووليها في شوال من هذه السنة وعزل عبد الملك ابن قطن، وكان له كل سنة غزاة، وعو الذي افتتح جليقية والبتة وغيرهما،وقيل: بل ولي عبيد الله بن الحبحاب إفريقة سنة سبع عشرة، وسترد أخباره هناك، وهذا أصح.
وحج بالناس هذه السنة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان ولي عهد. وكان العمال على الأمصار من تقدم ذكرهم إلا خراسان فكان عاملها عاصم بن عبد الله.
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائةفي هذه السنة غزا معاوةً بن هشام الصائفة اليسرى، وغزا سليمان بن هشام الصائفة اليمنى من نحو الجزيرة، وفرق سراياه في أرض الروم. وفيها بعث مروان بن محمد، وهو على أرمينية، بعثين، وافتحح أحدهما حصوناً ثلاثة من اللان، نزل الآخر على تومانشاه فنزل أهلها على الصلح.
ذكر عزل عاصم عن خراسان

وولاية أسد

وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك عاصم بن عبد الله عن خراسان وولاها خالد بن عبد الله القسري، فاستخلف خالد عليها أخاه أسد بن عبد الله.
وكان سبب ذلك أن عاصماً كتب إلى هشام: أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله، وإن خراسان لا تصلح إلا أن تضم إلى صاحب العراق فتكون موادها ومعونتها من قريب لتباعد أمير المؤمنين عنها . وتباطؤ غياثه عنها.فضم هشام خرسان إلى خالد بن عبدالله القسري ،وكتب اليه :ابعث أخاك يصلح ماأفسد ،فإن كانت سببه كانت به ،فسير خالد اليها أخاه اسداَ.فلما بلغ عاصما إقبالً أسد وأنه قد سير على مقدمت محمد بنمالك الهمدانى صالح الحرث بن سُريج وكتبا بنهما كتاباَ على أن ينزل الحارث أي كُور خرسان شاء وان يكتبا جميعاً الى هشام يسألانه بكتاب الله وسنة نبيه،صلى الله عليه وسلم ،فإن ابى اجتمعا عليه ، فختم الكتاب بعض الرؤساء، وابى يحيى بن حضين بن المنذر أن يختم وقال: هذا خلع لأمير المؤمنين،فأنفسخ ذلك .
وكان عاصم بقرية بأعلى مرو، وأتاه الحارث بن سريج فالتقوا واقتتلوا قتالاً شيداً، فانهزم الحارث وأسر من أصحابه أسرى كثيرة، منهم عبد الله بن عخمرو المازني راس أهل مرو الروذ، فقتل عاصم الأسرى، وكان فرس الحارث قد رمي بسهم فنزعه الحارث وألح على الفرس بالضرب والحضر ليشغله عن أثر الجراحة، وحمل عليه رجل من أهل الشام، فلما قرب منه مال الحارث عن فرسه ثم ابتع الشامي فقال له: أسألك بحرمة الإسلام في دمي! فقال: انزل عن فرسك. فنزل عن فرسه، فركبه الحارث؛ فقال رجل من عبد القيس في ذلك:
تولت قريش لذة العيش واتقت ... بنا كل فج من خراسان أغبرا
فليت قريشاً أصبحوا ذات ليلةٍ ... يعومون في لج من البحر أخضرا
وعظم أهل الشام يحيى بن حضين لما صنع في نقض الكتاب وكتبوا كتاباً بما كان وبهزيمة الحارث مع محمد بن مسلم العنبري. فلقي أسد بن عبد الله بالري، وقيل ببيهق، فكتب إلى أخيه خالد ينتحل أنه هزم الحارث ويخبره بأمر يحيى، فأجاز خالد يحيى بعشرة آلاف دينار ومئة من الخيل. وكانت ولاية عاصم أقل من سنة، فحبسه أسد وحاسبه وطلب منه مائة ألف درهم وقال: إنك لم تفر، وأطلق عمارة بن حريم وعمال الجنيد.
فلما قدم أسد لم يكن لعاصم إلا مرو ونيسابور والحارث بمرو الروذ وخالد ابن عبد الله الهجري بآمل موافق للحارث، فخاف أسد إن قصد الحارث بمرو الروذ أن يأتي الهجري من قبل آمل، وإن قصد الهجري قصد الحارث مرو من قبل مرو الروذ. فأجمع على توجيه عبد الرحمن بن نعيم في أهل الكوفة والشام إلى الحارث بمرو الروذ، وسار أسد بالناس إلى آمل، فلقيه خيل آمل عليهم زياد القرشي مولى حيان النبطي وغيره فهزموا حتى رجعوا إلى المدينة، فحصرهم أسد ونصب عليهم المجانيق وعلين الهجري من أصحاب الحارث، فلطلبوا الأمان، فأرسل إليهم أسد: ما تطلبون؟ قالوا: كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وأن لا تأخذ أهل المدن بجنيتنا.
فأجابهم إلى ذلك، فاستعمل عليهم يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني وسار يريد بلخ، فأخبر أن أهلها قد بايعوا سليمان بن عبد الله بن خازم. فسار حتى قدمها واتخذ سفناً وسار منها إلى ترمذ، فوجد الحارث محاصراً لها وبها سنان الأعرابي، فنزل أسد دون النهر لم يطق العبور إليهم ولا يمدهم، وخرج أهل ترمذ من المدينة فقاتلوا الحارث قتالاً شديداً، واستطرد الحارث لهم، وكان قد وضع كيمناً، فتبعوه، ونصر بن سيار مع أسد جالس ينظر، فاظهر الكراهية، وعرف أن الحارث قد كادهم، وظن أسد أنما ذلك شفقة على الحارث حين ولي، وأراد معاتبة نصر، وإذا الكمين قد خرج عليهم فانهزموا.

ثم ارتحل أسد إلى بلخ، وخرج أهل ترمذ إلى الحارث فهزموه وقتلوا جماعة من أهل البصائر، منهم: عكرمة وأبو فاكمة. ثم سار أسد سمرقند في طريق زم، فلما قد زم بعث إلى الهيثم الشيباني، وهو في حصن من حصونها، وهو من أصحاب الحارث، فقال له أسد: إنما أنكرتم علي قولكم ما كان من سوء السيرة ولم يبلغ ذلك السبي واستحلال الفروج ولا غلبة المشركين على مثل سمرقند، وأنا أريد سمرقند ولك عهد الله وذمته أن لا ينالك مني شر، ولك المواساة والكرامة والأمان ولمن معك، وإن أبيت ما دعوتك إليه فعلي عهد الله إن أنت رميت بسهم أن لا أؤمنك بعده، وإن جعلت لك ألف أمان لا أفي لك به. فخرج إليه على الأمان وسار معه إلى سمرقند، ثم ارتفع إلى ورغسر، وماء سمرقند قمها، فسكر الوادي وصرفه عن سمرقند، ثم رجع إلى بلخ.
وقيل: إن أمر أسد وأصحاب الحاث كان سنة ثماني عشرة.
ذكر حال دعاة بني العباسقيل: وفي هذه السنة أخذ أسد بن عبد الله جماعة من دعاة بني العباس بخراسان فقتل بعضهم ومثل بعضهم وحبس بعضهم، وكان فيمن أخذ: سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وموسى بن كعب، ولا هيز بن قريظ، وخالد بن إبراهيم، وطلحة بن زريق، فأتي بهم، فقال لهم: يا فسقة ألم يقل الله تعالى: " عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه " المائدة:95؟ فقال له سليمان: نحن والله كما قال الشاعر:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
صيدت والله العقارب بيديك! إنا ناس من قومك! وإن المضربة رفعوا إليك هذا لأنا كنا أشد الناس على قتيبة بن مسلم فطلبوا بثأرهم. فبعث بهم إلى الحبس، ثم قال لعبد الرحمن بن نعيم: ما ترى؟ قال: أرى أتن تمن بهم على عشائرهم. قال: لا أفعل، فاطلق ن كان فيهم من أهل اليمن لأنه منهم ومن كان من ربيعة أطلقه أيضاً لحلفهم مع اليمن، وأراد قتل من كان من مضر، فدعا موسى بن كيعب وألجمه بلجام حمار وجذب اللجام فتحطمت أسنانه ودق وجهه وأنفه، ودعا لاهز بن قريظ فقال له: ما هذا بحق، تصنع بنا هذا وتترك اليمانيين والربعيين؟ فضربه ثلاثمائة سوط، فشهد له الحسن بن زيد الأزدي بالبراءة ولأصحابه فتركهم.
ذكر ولاية عبيد الله بن الحبحاب إفريقية والأندلسفي هذه السنة استعمل هشام بن عبد الملك على إفريقة والأندلس عبيد الله ابن الحبحاب وأمره بالمسير إليها، وكان والياً على مصر، فاستخلف عليها ولده وسا إلى إفريقية، وايتعمل على الأندلس عقبة بن الححجاج، واستعمل على طنجة ابنه إسماعيل، وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازياً إلى المغرب، فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان فلم يقالتله أحد إلا ظهر عليه، وأصاب من الغنائم والسبي أمراً عظيماً، فملئ المغرب منه رعباً، وأصاب في السبي جارتيتين من البربر ليس لكل واحدة منهما غير ثدي واحد، ورجع سالماً. وسير جيشاً في البحر سنة سبع عشرة إلى حزيرة الردانية، ففتحوا منها ونهبوا وغنموا وعادوا. ثم سيره غازباً إلى جزيرة صقلية سنة اثنتين وعشرين ومائة ومعه ابنه عبد الرحمن بن حبيب، فلما نزل بأرضها وجه عبد الرحمن على الخيل فلم يلقه أحد إلا هزمه عبد الرحمن، فظفر ظفراً لم ير مثله، حتى نزل على مدينة سرقوسة، وهي من أعظم مدن صقلية، فقاتلوه فهزمهم وحصرهم، فصالحوه على الجزية، وعاد إلى أبيه، وعزم حبيب على المقام بصقلية إلى أن يملكها جميعاً، فأتاه كتاب ابن الحبحاب يتدعيه إلى إفريقية.
وكان سبب ذلك أنه استعمل على طنجة ابنه إسماعيل وجعل معه عمر ابن عبد الله المرادي، فأساء السيرة وتعدى وأراد أن يخمس مسلمي البربر، وزعم أنهم فيء للمسلمين، وذلك شيء لم يرتكبه أحد قبله، فلما سمع البربر بمسير حبيب بن أبي عبيدة إلى صقلية بالعساكر طمعوا ونقضوا الصلح على ابن الحبحاب وتداعت عليه بأسرها ملمها وكافرها، وعظم البلاء، وقدم من بطنجة من البربر على أنفسهم ميسرة السقاء قم المغدوري، وكان خارجياً صفرياً وسقاء، وقصدوا طنجة، فقالتلهم عمر بن عبد الله فقتلوه واستولوا على طنجة وبايعوا ميسرة بالخلافة وخوطب بأمير المؤمنين وكثر جمعه من البربر وقوي أمره بنواحي طنجة.

وظهر في ذلك الوقت جماعة بإفريقية فأظهروا مقالة الخوارج، فأرسل ابن الحبحاب إلى حبيب وهو بصقلية يتسدعيه إليه لقتال ميسرة الساء لأن أمره كان قد عظم، فعاد إلى إفريقية.
وكان ابن الحبحاب قد سير خالد بن حبيب في جيش إلى ميسرة، فلما وصل حبيب بن أبي عبيدة سيره في أثره، والتقى خالد وميسرة بنواحي طنجة واقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع بمثله، وعاد ميسرة إلى طنجة، فأنكرت البربر سيرته، وكانوا بايعوه بالخلافة، فقتلوه وولوا أمرهم خالد بن حميد الزناتي، ثم التقى خالد بن حميد ومعه البربر بخالد بن حبيب ومعه العرب وعسكر هشام،، وكان بينهم قتال شيد صبرت فيه العرب، وظهر عليهم كمين من البربر فانهزموا، وكره خالد بن حبيب أن يهزم من البربر فصبروا معه فقتلوا جيمعهم.
وقتل في هذه الوقعة حماة العرب وفرسانها، فسميت غزوة الأشراف، وانتقضت البلاد وخرج أمر الناس، وبلغ أهل الأندلس الخبر فثاروا بأميرهم عقبة بن الحجاج فعزلوه وولوا عبد الملك بن قطن، فاختلطت الأمور على ابن الحبحاب، وبلغ الخبر إلى هشام بن عبد الملك، فقال: لأغضبن للعرب غضبة وأسير جيشاً يكون أولهم عندهم وآخرهم عندي؛ ثم كتب إلى ابن الحبحاب يأمره بالحضور، فسار إليه في جمادى سنة ثلاث وعشرين ومائة، واستعمل هشام عوضه كلثوم بن عياض القشيري وسير معه جيشاً كثيفاً، وكتب إلى سائر البلاد التي على طريقه بالمسير معه، فوصل إفريقية وعلى مقدمته بلج بن بشر، فوصل إلى القيروان ولقي أهلها بالجفاء والتكبير عليهم، وأراد أن ينزل العسكر الذي معه في منازلهم، فكتب أهلها إلى حبيب بن أبي عبيدة، وهو بتلمسان مواقف البربر، يشكون إليه بلجاً وكلثوماً، فكتب حبيبب إلى كلثوم يقول له إن بلجاً فعل كيت وكيت فارحل عن البلد وإلا رددنا أعنة الخيل إليك.
فاعتذر كلثوم وسار إلى حبيب وعلى مقدمته بلج بن بشر، فاستخف بحبيب وسبه وجرى بينهما منازعة ثم اصطلحوا واجتمعوا على قتلا البربر، وتقدم إليهم البربر من طنجة، فقال لهم حبيب: اجعلوا الرجالة للرجالة والخيالة للخيالة، فلم يقبلوا منه، وتقدم كلثوم بالخيل، فقاتله رجالة البربر فهزموه، فعاد كلثوم منهزماً، ووهن الناس ذلك ونشب القتال، وانكشفت خيالة البربر وثبتت رجالتها واشتد القتال وكثر البربر عليهم، فقتل كلثوم بن عياض وحبيب بن أبي عبيدة ووجوه العرب، وانهزمت العرب وتفرقوا. فمضى أهل الشام إلى الأندلس ومعهم بلج بن بشر وعبيد الرحمن بن حبيب ابن أبي عبيدة، وعاد بعضهم إلى القيروان.
فلما ضعفت العرب بهذه الوقعة ظهر إنسان يقال له عكاشة بن أيوب الفزاري بمدينة قابس، وهو على رأي الخوارج الصفرية، فسار إليه جيش من القيروان فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر القيروان، فخرج إليه عسكر آخر فانهزم عكاشة بعد قتال شديد وقتل كثير من أصحابه، ولحق عكاشة ببلاد الرمل.
فلما بلغ هشام بن عبد الملك قتل كلثوم بعث أميراً على إفريقية حنظلة ابن صفوان الكلبي، فوصلها في ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة، فلم يمكث بالقيروان إلا يسيراً حتى زحف إليه عكاشة الخارجي في جمع عظيم من البربر، وكان حين انهزم حشدهم ليأخذ بثأره وأعانه عبد الواحد بن يزيد الهواري ثم المدغمي، وكان صفرياً، في عدد كثير وافترقا ليقصدوا القيروان من جهتين، فلما قرب عكاشة خرج إليه حنظلة ولقيه مفرداً واقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم عكاشة وقتل من البربر ما لا يحصى، وعاد حنظلة إلى القيروان خوفاً عليها من عبد الواحد، وسير إليه جيشاً كثيفاً عدتهم أربعون ألفاً، فساروا إليه، فلما قاربوه لم يجدوا شعيراً يطعمونه دوابهم فأطعموها حنطةً، ثم لقوه من الغد فانهزموا من عبد الواحد وعادوا إلى القيروان، وهلكت دوابهم بسبب الحنطة.

فلما وصلوها نظروا وإذا قد هلك منهم عشرون ألف فرس، وسار عبد الواحد فنزل على ثلاثة أميال من القيروان بموضع يعرف بالأصنام، وقد اجتمع معه ثلاثمائة ألف مقاتل، فحشد حنظلة كل من بالقيروان وفرق فيهم السلاح والمال، فكثر جمعة، فلما دنا الخوارج من عبد الواحد خرج إليهم حنظلة من القيروان واصطفوا للقتال، وقام العلماء في أهل القيروان يحثونهم على الجهاد وقتال الخوارج ويذكرونهم ما يفعلونه بالنساء من السبي وبالأنباء من الاسترقاق وبالرجال من القتل، فكسر الناس أجفان سوفهم، وخرج إليهم نشاؤهم يحرضنهم، فحمي الناس وحملوا على الخوارج حملة واحدة وثبت بعضهم لبعض، فاشتد اللزام وكثر الزحام وصبر الفريقان، ثم إن الله تعالى هزم الخوارج والبربر ونصر العرب، وكثر القتل في البربر وتبعوهم إلى جلولاء يقتلون، ولم يعلموا أن عبد الواحد قد قتل حتى حمل رأسه إلى حنظلة، فخر الناس الله سجداً.
فقيل: لم يقتل بالمغرب أكثر من هذه القتلة، فإن حنظلة أمر بإحصاء القتلى، فعجز الناس عن ذلك حتى عدوهم بالقصب، فكانت عدة القتلى مائة ألف وثمانين ألفاً، ثم أسر عكاشة مع طائفة أخرى بمكان آخر وحمل إلى حنظلة فقتله، وكتب حنظلة إلى هشام بن عبد الملك بالفتح، وكان الليث بن سعد يقول: ما غزوة إلى الآن أشد بعد غزوة بدر من غزوة العرب بالأصنام.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وغزا سليمان بن هشام الصائفة اليمنى من نحو الجزيرة وفرق سراياه في أرض الروم.
وحج بالناس هذه السنة خالد بن عبد الملك. وكان العامل على مكة والمدينة والطائف محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد.
وفيها توفيت فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب. وسكينة بنت الحسين. وفيها مات عبد الرحمن بن هرمز الأعرج بالإسكندرية. وفيها توفي ابن أبي مليكة، واسمه عبد الله بن عبيد الله بن أب مليكة. وأبو رجاء العطاردي. وأبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك. وفيها توفي ميمون ابن مهران الفقيه، وقيل سنة ثماني عشرة. وفيها توفي نافع مولى ابن عمر، وقيل سنة عشرين. وفيها توفي أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، وقيل سنة عشرين، وقيل سنة ست وعشرين، وقيل سنة ثلاثين. وفيها ماتت عائشة ابنة سعد بن أبي وقاص. وسعيد بن يسار.
وقتادة بن عامة البصري، وكان ضريراً، ومولده سنة ستين.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائةفي هذه السنة غزا معاوية وسليمان ابنا هشام بن عبد الملك أرض الروم.
ذكر دعاة بني العباسفي هذه السنة وجه بكير بن ماهان عمار بن يزيد إلى خراسان والياً على شيعة بن العباس، فنزل مرو وغير اسمه وتسمى بخداش، ودعا إلى محمد بن علي، فسارع إليه الناس وأطاعوه، ثم غير ما دعاهم إليه وتكذب وأظهر دين الخرمية ودعا اليه ورخص لبعضهم في نساء بعض، وقال لهم:إنه لا صوم ولا صلاة ولا حج، وإن تأويل الصوم أن يصام عن ذكر الإمام فلا يباح باسمه، والصلاة الدعاء له، والحج القصد إليه، وكان يتأول من القرآن قوله تعالى: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وهملوا الصالحات " . وكان خداش نصراينياً بالكوفة فأسلم ولحق بخرايان.
وكان ممن اتبعه على مقاتله مالك الهيثم، والحريش بن سليم الأعجمي وعغيرهما، وأخبرهم أم محمد بن علي أمر بذلك.
فبلغ خبره أسد بن عبد الله، فظفر به، فأغلظ القول لأسد، فقطع لسانه وسمل عينيه وقال: الحمد الله الذي انتقم لأبي بكر وعمر منك! وأمر يحيى ابن نعيم الشيباني فقتله وصلبه بآمل، وأتي أسد بجزور مولى المهاجر بن دارة الضبي فضرب عنقه بشطاء النهر.
ذكر ما كان من الحارث وأصحابه

وفي هذه السنة نزل أسد بلخ وسرح جديعاً الكرماني إلى القلعة التي فيها أهل الحارث وأصحابه، واسمها التبووشكان من طخارستان العليا، وفيها ينو برزى التغلبيون أصهار الحارث، فحصرهم الكرماني حتى فتحها فقتل بني برزى وسبى عامة أهله من العرب والموالي والذرادي وباعهم فيمن يزيد في سوق بلخ، ونقم على الحارث أربعمائئة وخمسون رجلاً من أصحابه، وكان رئيسهم جرير بن ميمون القاضي، فقال لهم الحارث: إن كنتم لا بد مفارقي فاطلبوا الأمان وأنا شاهد فإنهم يجيبونكم، وإن ارتحلت قبل ذلك لم يعطوا الأمان. فقالوا: ارتحل أنت وخلنا. وأرسلوا يطلبون الأمان، فاخبر أسد أن القوم ليس لهم طعام ولا ماء، فسرح إليهم أسد جديعاً الكرماني في ستة آلاف، فحصرهم في القلعة وقد عطش أهلها وجاعوا، فسألوا أن ينزلوا على الحكم ويترك لهم نساءهم وأولادهم، فاجابهم، فنزلوا على حكم أسد فأرسل إلى الكرماني يأمره أن يحمل إليه خمسين رجلاً من وجوههم فيهم المهاجر بن ميمون، فحملوا إليه، فقتلهم وكتب إلى الكرماني أن يجعل الذين بقوا عنده أثلاثاً، فثلث يقتلهم، وثلث يقطع أيديهم وأرجلهم، وثلث يقطع أديهم، ففعل ذلك الكرماني وأخرج أثقالهم فباعها. واتخذ أسد ميدنة بلخ داراً، ونقل إليها الدواوين، ثم غزا طخارستان قم أرض جبوية فغنم وسبى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل هشام خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم عن المدينة واستعمل عليها خالد محمد بن هشام بن إسماعيل. وفيها غزا مروان بن محمد بن مروان من أرميننية ودخل أرض ورنيس إلى الخزر ونزل حصنه، فحصره مروان ونصب عليه المجانيق، فقتل ورنيس، قتله بعض من اجتاز به وأرسل رأسه إلى مروان، فنصبه لأهل حصنه، فنزلوا على حكمه، فقتل المقالتلة وسبى الذرية.
وفي هذه السنة مات علي بن عبد الله بن عباس، وكان موته بالحميمة من أرض الشام وهو ابن سبع أو ثمان وسبعين سنة، وقيل: إنه ولد في الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب، فسماه أبوه علياً، وقال: سميته باسم أحب الناس إلي، وكناه أبا الحسن، فلما قجم على عبد المكل بن مروان أكرمه وأجلسه معه على سريره وسأله عن كنيته، فأخبره، فقال: لا يجتمع في عسكري هذا الاسم والكنية لأحد، وسأله: هل ولد لك ولد؟ قال: نعم، وقد سميته محمداً قال: فأنت أبو محمد.
وحج بالناس هذه السنة محمد بم هشام بن إسماعيل، وكان أمير المدينة، وقيل: كان هذه السنة على المدينة خالد بن عبد الملك، وكان على العراق والمشرق كله خالد القسري، وعامله على خراسان أخوه أسد، وعامله على البصرة بلال بن أبي بردة، وكان على أرمينية مروان بن محمد بن مروان.
وفي هذه السنة مات عبادة بن نسي قاضي الأردن. وعممرو بن شعيب ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العباس، ومات بالطائف. وأبو صخرة جامع بن شداد. وأبو عشابة المعافري. وعبد الرحمن سليط
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة

ذكر قتل خاقان
لما دخل أسد الختل كتب ابن السايجي إلى خاقان، وهوبنواكث، يعلمه دخول أسد الختل وتفرق جنوده فيها وأنه يحتال مضيعة، فلما أتاه كتابه أمر أصحابه بالجهاز وسار، فلما أحس ابن السايجي بمجيء خاقان بعث إلى أسد: اخرج عن الختل فإن خاقان قد أظلك. فشتم الرسول ولم يصدقه.
فبعث ابن السايجي: إني لم أكذبك وأنا الذي أعلمته دخولك وتفرق عسكرك، وأنها فرصة له، وسألته المدد، فغن لقيك على هذه الحال ظفر بك وعاتنب العرب أبداً ما بقيت واستطال على خاقان واشتدت مؤونته، وقال: أخرجت العرب من بلادك ورددت عليك ملكك.
فعرف أسد أنه قد صدقه فأمر بالأثقال أن تقدم وجعل عليها إبراهيم بن عاصم العقيلي وأخرج معه المشيخة، فسارت الأثقال ومعها أهل الصغانيان وصغان خذاه، وأقبل أسد من الختل نحو الجبل الملح يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد قطع إبرايهم بن عاصم بالسبي وما أصلبوا، وأشرف أسد على النهر فأقام يومه، فلما كان الغد عبر النهر في مخاض1ه، وجعل الناس يعبرونن فادركهام خاقان فقتل من لم يقطع النهلأ، وكانت المسلحة على الأزد وتميم، فقاتلوا خاقان وانكشفوا .

وأقبل خاقان وظن المسلمون أنه لا يعبر إليهم النره، فلما نظر خاقان إلى النهر أمر الترك بعبوره، فعبرونه، ودخل المسلمون عسكرهم وأخذ الترك ما رأوه خارجاً، وخرج الغلمان فضاربوهم بالعمد فعادوا، وبات أسد والمسلمون وعببأ أصحابه من الليل، فلما أصبح لم يرد خاقان، فاستشار أصحابه، فقالوا له: اقبل العافية. قال:ما هذه عافة! هذه بلية! إن خاقان أصاب أمس من الجند والسلاح وما منعه اليوم منا إلا أنه قجد أخبره بعض من اخذه من الأسرى بموضع الأثقال أمامنا فار طمعاً فيها.
فارتحل وبعث الطلائع، فلما أمسى استشار الناس في النزول أو المير، فقال الناس: اقبل العافية، وما عسشى أن يكون ذهاب الأموال بعافيتنا وعافية أهل خراسان! ونصر بن سيار مطرق. فقال له أسد: ما لك لا تتكلم؟ قال: أيها الأمير خلتان كلتاهما لك، لإن تسر تغث من مع الأثقال وتخلصهم، فإن انتهيت وقد هلكوا فقد قطعت مشقة لا بد من قطعها. فقبل رأيه وسار بقية يومه، ودعا أسد سعيداً الصغير مولى باهلة، وكان فارساً بأرض الختل، وكتب معه كتاباً إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد ويخبره بمسير خاقان إليه وقال له : لتجد السير. فطلب منه فرسه الذبوب، فقال أسد: لعمري لئن جدت نفسك وبخلت عليك بالفرس إني إذاً للئيم. فدفعه إليه، فأخذ معه جنيباً وسار.
فلما حاذى الترك وقد ساروا نحو الأثقال طلبته طلائعهم فركب الذبوب فلم يلحقوه، فأتى إبراهيم بالكتاب. وسار خاقان إلى الأثقال، وقد خندق إبراهيم خندقاً، فأتاهم وهم قيام عليه، فأمر الصغد بقتلاهم فهزمهم المسلمون، وصعد خاقان تلا فجعل ينظر ليرى عورة يأتي منها، وهكذا كان يفعل، فلما صعد التل رأى خلف العسكر جزيرة دونها مخاضة فدعا بعض قواد الترك فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر حتى يصيروا إلى الجزيرة ثم ينحدروا حتى يأتوا عسكر المسلمين من خلفهم وأن يبدأوا بالأعاجم واهل الصغانيان، وقال لهم: إن رجعوا إليكم دخلنا نحن. ففعلوا ودخلوا من ناحية الأعاجم فقتلوا صغان خذاه وعامة أصحابه وأخذوا أموالهم، ودخلوا عسكر إبراهيم فأخذوا جميع ما فيه، وترك المسلمون التعبية واجتمعوا في موضع وأحسوا بالهلاك، وإذا رهج قد ارتفع، وإذا أسد في جنده قد أتاهم، فارتفعت الترك عنهم إلى الموضع الذي كان فيه خاقان، وإبراهيم يعجب من كفهم وقد ظفروا وقتلوا من قتلوا وهو لايطمع في أسد، وكان أسد قد أغذ المسير وأقبل حتى وقف على التل الذي كان عليه خاقان، وتنحى خاقان إلى ناحية الجبل، فخرج إلى أسد من كان بقي مع الأثقال وقد قتل منهم بشراً كثيراً.
ومضى خاقان بالأسرى والجمال الموقرة والجواري، وأمر خاقان رجلاً كان معه من أصحاب الحارث بن سريج فنادى أسداً: قد كان لك فيما وراء النهر مغزى، إنك لشديد الحرص، وقد كان عن الختل مندوحة وهي أرض آبائي وأجدادي. فقال سد: لعل الله أن ينتقم منك.
ويسار أسد إلى بلخ فعسكر في مرجها حتى أتى الشتاء، ثم فرق الناس في الدور ودخل المدينة، وكان الحارث بن سريج بناحية طخارستان فانضم إلى خاقان. فلما كان وسط الشتاء أقبل خاقان، وكان لما فارق أسد أتى كخارستان فأقام عند جبوية، فأقبل فأتى الجوزجان وبث الغارات.

وسبب مجيئه أن الحارث أخبره أنه لا نهوض بأسد فلم يبق معه كثير جند ونزل جزة، فأتى الخبر إلى أسد بنزول خاقان بجزة، فأمر بالنيران فرفعت بالمدينة، فجاء الناس من الرساتيق إليها، فأصبح أسد وصلى صلاة العيد، عيد الأضحى، وخطب الناس، وقال: إن عدوا الله الحارث بن سريج استجلب الطاغية ليطفئ نو الله ويبدل دينه والله مذله إن شاء الله، وإن عدوكم قد أصاب من إخوانكم من أصاب، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله، وإن أقرب ما يكون العبد من ربه إذا وضع جبهته له، وإني نازل ووضاع جبهتي، فاسجدوا له وادعوا مخلصين. ففعلوا ورفعوا رؤوسهم ولا يشكون في الفتح، ثم نزل وضحى وشارور الناس في المسير إلى خاقان، قال قوم: تحفظ مدينة بلخ وتكتب إلى خالد والخليفة تستمده. وقال قوم: تأخذ في طريق زم فتسبق خاقان إلى مرو. وقال قوم: بل تخرج إليهم. فوافق هذا رأي أسد، وكان عزم على لقائهم، فخرج بالناس ركعيتين ططولهما، ثم استقبل القبلة ونادى في الناس: اعوا الله تعالى، وأطال الدعاء، فلما فرغ قال: نصرتم ورب الكعبة إن شاء الله تعالى! ثم سار، فلما جاز قنطرة عطاء نزل وأراد المقام حتى يتلاحق به الناس، ثم أمر بالرحيل وقال: لا حاجة بنا إلى المتخلفين.
ثم ارتحل وعلى مقدمته سالم بن منصور البجلي في ثلاثمائة، فلقي ثلاثمائة من الترك طليعة لخاقان، فأسر قائدهم وسبعة معه، وهرب بقيتهم، فأتي به أسد فبكى التركي، فقال: ما يبكيك؟ قال: لست أبكي لنفسي ولكني أبكي لهلاك خاقان، إنه قد فرق جنوده بينه وبين مرو.
فسار أسد حتى شارف مدينة الجوزيجان فنزل عليها على فرسخين من خاقان، وكان قد استباحها خاقان، فلما أصبحوا تراءى العسكران، فقال خاقان للحارث بن سريج: أم تكن أخبرتين أن أسداً لا حراك به وهذه العساكر قد أقبلت من هذا؟ قال: هذا محمد بن المثنى ورايته.
فبعث خاقان طليعة وقال: انظروا هل ترون على الإبل سريراً وكراسي؟ فعادواإليه فأخبروه أنهم رأوها، فقال خاقان: هذا أسد.
وسار أسد قدر غلوة، فلقيه سالم بن جناح فقال: أبشر أيها الأمير قد حزرتم ولا يبلغون أربعة آلاف، وأرجوا أن يكون خاقان عقير الله. فصف أسد أصحابه، وعبى خاقان أصحابه، فلما التقوا حمل الحارث ومن معه من الصغد وغيهم، وكانوا ميمنة خاقان على ميسره أسد، فهزمهم فلم يردهم شيء دون رواق أسد، وحملت ميمنة أسد وهم الجوزجان والأزد وتميم عليهم، فانهزم الحارث ومن معه وانهزمت الترك جيمعها، وحمل الناس جميعاً فتفرق الترك في الأرض لا يلوون على أحد، فتبعهم الناس مقدار ثلاثة فراسخ يقتلون من يقدرون عليه حتى انتهوا إلى أغنامهم وأخذوا منها أكثر من مائة ألف وخمسين ألف رأس ودواب كثيرة.
وأخذ خاقان طريقاً في الجبل والحارث يحميه وسا منهزماً، فقال الجوزجاني لعثمان بن عبد الله بن الشخير: إني لأعلم ببلادي وبطرقها فهل تتبعني لعنلا نهلك خاقان؟ قال: نعم، فاخذا طريقاً وسارا ومن معهما حتى أشسرفوا على خاقان فأوقعوا به، فولى منهزماً، فحوى المسلمون عسكر الترك وما فيه من الأموال، ووجدوا فيه من نساء العرب والموليات من نساء الترك من كل شيء. ووحل بخاقان برذونه فحماه الحارث بن سريج، ولم يعلم الناس أنه خاقان، وأراد الخصي الذي لخاقان أن يحمل امرأة خاقان فأعجلوه فقتلها، واستنقذوا من كان مع خاقان من لمسلمين.
وتتبع أسد خيل الترك التي فرقها في الغارة إلى مرو الوذ وغيها فقتل من قدر عليه منهم ولم ينج منهم غير القليل، ورجع إلى بلخ. وكان بشر الكرماني فب السرايا فيصيبون من الترك الرجل والرجلين وأكثر.
ومضى خاقان إلى طخارستان واقام عند جبوية الخزلجي، ثم ارتحل إللا بلادده، فلما ورد أشروسنة تلقاه خرابغره أو خاناجزه جد كاووس أبي أفشين بكل ما قدر عليه، وكان ما بينهما متباعداً، إلا أنه أحب أن يتخذ عنده يداً. ثم أتى خاقان بلاده واستعد لحرب ومحاصرة سمرقند، وحمل الحارث وأصحابه على خمسة آلاف برذون. فلاعب خاقان يوماً كورصول بالنرد على خطر، فنازعا، فضرب كورصول يد خاقان وكسرها وتنحى وجمع جمعاً، وبلغه أن خاقان قد حلف ليكسرن يده، فبيت خاقان فقتله، وتفرقت التك وتركوه مجرداً، فأتاه نفر من الترك فدفنوه. واشتغلت الترك يغير بعضها على بعض، فعند ذلك طمع أهل الصغد في الرجعة إليها.

وأرسل أسد مبشراً إلى هشام بن عبد الملك بما فتح الله عليهم وبقتل خاقان، فلم يصدقه وقال للربيع حاجبه: لا أظن هذا صادقاً، اذهب فعده ثم سله عما يقول، ففعل ما أمره به، فأخبره بما أخبر به هشاماً، ثم أرسل أسد مبشراً آخر فوقف على بابا هشام وكبر، فأجابه هشام بالتكبير، فلما انتهى إليه أخبره بالفتح، فسجد شكراً لله تعالى، فحسدت القيسية أسداً وقالوا لهشام: اكتب بطلب مقاتل بن حيان النبطي، ففعل فسيره أسد إلى هشام، فلما دخل عليه أخبره بما كان، فقال له هشام: حاجتك؟ قال: إن يزيد بن المهلب أخذ من أبي مائة ألف درهم بغير حق فاستحلفه على ذلك. فكتب إلى أسد فردها عليه، وقسمها مقاتل بين ورثة حيان على كتاب الله تعالى.
قال أبو الهندي يذكر هذه الوقعة
أبا منذرٍ رمت الأمور وقستها ... وساءلت عنها كالحريص المساوم
فما كان ذو رأي من الناس قسته ... برأيك إلا مثلي رأي البهائم
أبا منذرٍ لولا مسيرك لم يكن ... عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم
ولا حج بيت الله من حج راكباً ... ولا عمر البطحاء بعد المواسم
وكم من قتيل بين سانٍ وجزة ... كسير الأيادي من ملوك قماقم
تركت بأرض الجوزجان تزوره ... سباع وعقبان لحز الغلاصم
وذي سوقةٍ فيه منٍ السيف خبطة ... به رمق ملقى لحوم الحوائم
فمن هاربٍ منا ومن دائن لنا ... أسيرٍ يقاسي مبهمات الأداهم
فدتك نفوس من تميم وعامر ... ومن مضر الحمراء عند المآزم
هم أطمعوا خاقان فينا فأصبحت ... حلائبه ترجو خلو المغانم
وكان ابن السايجي الذي أخبر أسداً بميء خاقان قد استخلفه السبل على مملكته عند موته وأوصاه بثلاث خصان، قال: لا تستطل على أهل الختل استطالتي عليهم، فإني ملك وأنت لست بملك إنما أنت رجل منهم، وقال له: اطلب الخيش حتى ترده إلى بلادكم، فإنه الملك بعدي؛ وكان الحنيش قد هرب إلى الصين؛ وقال له: لا تحاربوا العرب وادفعوها عنكم بكل حيلة. فقال له ابن السايجي: أما تركي الاستطالة عليهم وردي الحنيش فهو الرأي، وأما قولك لا تحاربوا العرب، فكيف وقد كنت أكثر الملوك محاربة لهم؟ قال السبل: قد جربت قوتكم بقوتي فما رأيتكم تقعون مني موقعاً، وكنت إذا حاربتهم لم أفلت إلا حرضاً، وإنكم إذا حاربتموهم هلكتم فهذا الذي كره إلى ابن السايجي محاربة العرب.
ذكر قتل الممغيرة بن سعيد وبيانفي هذه السنة خرج المغيرة بن سعيد وبيان في ستة نفر، وكانوا يسمون الوصفاء، وكان المغيرة ساحراً، وكان يقول: لو أردت أن حيي عاداً وثموداً وقروناً بين ذلك كثيراً لفعلت.
وبلغ خالد بن عبد الله القسري خروجهم بظهر الكوفة وهو يخطب فقال:: أطعوني ماء؛ فقال يحيى بن نوفل في ذلك:
أخالد لا جزاك الله خيراً ... وأير في حر امك من أمير
وكنت لدى المغيرة عبد سوء ... تبول من المخافة للزئير
وقلت لما اصابك أطعموني ... شراباً ثم بلت على السرير
لأعلاج ثمانية وشيخٍ ... كبير السن ليس بذي نصير
فأرسل خالد فأخذهم وأمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع وأمر بالقصب والنفط فأحضرا فأحرقهم، وارسل إلى مالك بن أعين الجرمي فسأله، فصدقه، فتركه.

وكان رأي المغيرة التجسيم، يقول: إن الله على صورة رجل على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء ويقول ما لاينطق به لسان؛ تعالى الله عن ذلك، يقول: إن الله تعالى لما أراد أن يخلق تكلم باسمه الأعظم فطار فروقع على تاجه، ثم كتب بإصبعه على كفه أعمال عباده من المعاصي والطاعات، فلما رأى المعاصي ارفض عرقاً، فاجتمع من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والآخر عذب نير، ثم اطلع في البحر فرأى ظله فذهب ليأخذه فطار فأدركه فقلع عبيني ذلك الظل ومحقه فخلق من عينيه الشمس وسماء أخرى، وخلق من البحر الملح الكفار، ومن البحر العذب المؤمنين، وكان يقول بإلهية علي وتكفير أبي بكر وعمر وسائر الصحابة إلا من ثبت مع علي، وكان يقول: إن الأنبياء لم يختلفوا في شيء من الشرائع، وكان يقول بتحريم ماء الفرات وكل نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة، وكان يخرج إلى المقبرة فيتكلم فيرى أمثال الجراد علاى القبور.
وجاء المغيرة إلى محمد الباقر فقال له: أقرر أنك تعلم الغيب حتى أجبي لك العراق. فنهره وطرده. وجاء إلى ابنه جعفر بن محمد الصادق فقال له مثل ذلك، فقال: أعوذ بالله! وكان الشعبي يقول للمغيرة: ما فعل الإمام؟ فيقول: لأتتهزأ به؟ فيقول: لا إنما أتهزأ بك.
وأما بيان فإنه يقول بإلهية علي وإن الحسن والحسين إلهان، ومحمد بن الحنفية بعدهم، ثم بعده ابنه أو هشام بن محمد بنوع من التناسخ، وكان يقول: إن الله تعالى بفنى جميعه إلا وجهه، ويحتج بقوله: " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " . تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. وادعى النبوة، وزعم أنه المراد بقوله تعالى: " هذا بيان للناس " آل عمران:138.
ذكر خبر الخوارج هذه السنةوفي هذه السنة خرج بهلول بن بشر الملقب كثارة، وهو من الموصل من شيبان.
فقيل: وكان سبب خروجه أنه خرج يريد الحج، فأمره غلامه يبتاع له خلا بدرهم، فأتاه بخمر، فأمره بردها وأخذ الدرهم، فلم يجبه صاحب الخمر إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية، وهي من السواد، فكلمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قولك. فمضى في حجه وقد عزم على الخروج،فلقي بمكة من كان على مثل رأيه، فاتعدوا قرية من قرى الموصل، فاجتمعوا بها، وهم أربعون رجلاً، وأمروا عليهم بهلولاً، وكتموا أمرهم وجعلوا لا يمرون بعامل إلا أخبروه أنهم قدموا من عند هشام على بعض الأعمال وأخذوا دواب البريد، فلما انتهوا إلى القرية التي ابتاع الغلام بها الخمر قال بهلول: نبدأ بهذا العامل فنقلته. فقال أصحابه: نحن نريد قتل خالد، فإن بدأنا بهذا شهر أمرنا وحذرنا خالد وغيره، فنشدناك الله أن نقتل هذا فيفلت منا خالد، الذي يهدم المساجد ويبني البيع والكنائس ويولي المجوس على المسلمين وينكح أهل الذمة المسلمات لعلنا نقتله فيريح الله من. قال: والله لا أدع ما يلزمني لما بعده وأرجو أن أقتل هذا وخالداً، فقتله، فعلم بهم الناس أنهم خوارج، وهربوا، وخرجت البريد إلى خالد فأعلموه بهم ولا يدرون من رئيسهم.
فخرج خالد من واسط وأتى الحيرة، وكان بها جند قد قدموا من الشام مدداً لعامل الهند، فأمرهم خالد بقتاله وقال: من قتل منهم رجلاً أعطيته عطاء سوى ما أخذ في الشام وأعفيته من الخروج إلى هند. فساعوا إلى ذلك، فتوجه مقدمهم، وهو من بني القين، ومعه ستمائة منهم، فضم إليه خالد مائتين من الشرط، فالتقوا على الفرات، فقال القيني لمن معه من الشرط: لا تكونوا معنا ليكون الظفر له ولأصحابه. وخرج إليهم بهلول فحمل على القيني فطعنه فأنفذه وانهزم أهل الشام والشرط، وتبعهم بهلول وأصحابه يقتلونهم حتى بلغوا الكوفة.
فأما أهل الشام فكانوا على خيل جياد ففاتوه، وأما شرط الكوفة فأدركهم، فقالوا: أتق الله فينا فإنا مكرهون مظهرون، فجعل يقرع رؤوسهم بالرمح ويقول: النجاء. فوجد بهلول مع القيني بدرة فأخذها.
وكان في الكوفة ستة يرن رأي بهلول فخرجوا إليه فقتلوا بصريفين، فخرج بهلول ومعه البدرة قالك من قتل هؤلاء حت أعطيه هذه البدرة؟ فجاء قوم فقالوا: نحن قتلناهم، وهم يظنونه من عند خالد، فقال بهلول لأهل القرية: اصدق هؤلاء؟ قالوا: نعم، فقتلهم وترك أهل القرية.

وبلغت الهزيمة خالداً وما فعل بصريفين، فوجه إليه قائداً من شيبان أحد بني حوشب بن يزيد بن رويم، فلقيه فيما بين الموصل والكوفة، فانهزم أهل الكوفة فأتوا خالداً. فارتحل بهلول من يومه يريد الموصل، فكتب عامل الموصل إلى هشام بن عبيد الملك يخبره بهم ويسأله جنداً، فكتب إليه هشام: وجه إليه كثارة بن بشر. وكان هشام لا يعرف بهلولاً إلى بلقبه، فكتب إليه العامل أن الخارج هو كثارة. ثم قال بهلول لأصحابه: إنا والله ما نصنع بابن النصرانية شيئاً، يعني خالداً، فبم لا نطلب الرأس الذي سلط خالداً؟ فسار يريد هشاماً بالشام، فخاف عمال هشام من هشام إن تركوه يجوز إلى بلادهم، فسير خالد جنداً من العراق، وسير عامل الجزيرة جنداً من الجزيرة، ووجه هشام جنداً من الشام واجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول إليهم، وقيل التقوا بكحيل دون الموصل، فنزل بهلول على باباب الدير وهو في سبعين وحمل عليهم فقتل منهم نفراً عامة نهاره، وكانوا عشرين ألفاً، فأكثر فيهم القتل والجراح، ثم إن بهلولاً وأصحابه عقروا دوابهم وترجلوا فاتلوا قتالاً شديداً، فقتل كثير من أصحاب بهلول، فطعن بهلول فصرع، فقال له أصحابه: ول أمرنا. فقال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني، وإن هلك فأمروا عمرو اليشكري. ومات بهلول من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلاهم فقال الضحاك بن قيس يرثي بهلولاً:
بدلت بعد أبي بشرٍ وصحبته ... قوماً علي مع الأحزاب أعواناً
كأنهم لم يكونوا من صحابتنا ... ولم يكونوا لنا بالأمس خلانا
يا عين أذري دموعاً منك تهتانا ... وابكي لنا صحبةً بانوا وإخوانا
خلوا لنا ظاهر الدنياوبطانها ... وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا
فلما قلتل بهلول خرج عمرو اليشكري فلم يلبث أن قتل.
وخرج البختري صاحب الأشهب، وبهذا كان يعرف، على خالد في ستين، فوجه إليه خالد السمط بن مسلم البجلي في أربعة آلاف، قالتقوا بناحية الفرات، فانهزمت الخوارج، فتقلاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم.
ثم خرج وزير السختياني على خالد بالحيرة في نفر، فجعل لا يمر بقرية إلا أحرقها، ولا يلقى أحداً إلا قتله، وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال، فوجه إليه خالد جنداً فقاتلوا عامة أصحابه وأثخن بالجراح، وأتي به خالد، وأقبل على خالد فوعظه، فأعجب خالداً ما سمع منه فلم يقتله وحبسه عنده، وكان يؤتى به في الليل فيحادثه. فسعي بخالد إلى هشام وقيل: أخذ حورياً قد قتل وحرق وأباح لأموال فجعله سميراً، فغضب هشام وكتب إليه يأمره بقتله، وكان خالد يقول: إني أنفس به عن الموت، فأخر قتله، فكتب إليه هشام ثانياً يذمه ويأمره بقتله وإحراقه، فقتله وأحرقه ونفراً معه، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات وهو يقرأ: " قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون " التوبة:81.
ذكر خروج الصحاري بن شبيبوفي هذه السنة خرج الصحاري بن شبيب بن يزيد بناحية جبل، وكان قد أتى خالداً يسأله الفريضة، فقال خالد: وما يصنع ابن شبيب بالفريضة؟ فمضى، وندم خاد وخاف أن يفتق عليه فتقاً، فطلبه لم يرجع إليه وسار حتى جبل، وبها نفر من بني تيم اللات بن ثعلبة، فأخبرهم، فقالوا: وما ترجو من ابن النصرانية؟ كنت أولى أن تسير إليه بالسيف فتضربه به. فقال: والله ما أردت الفريضة، وما أردت إلا التوصل إليه لئلا ينكرني ثم أقتله بفلان، يعني بفلان رجلاً من قعدة الصفرية، وكان خالد قتله صبراً، ثم دعاهم إلى الخروج معه، فتبعه منهم ثلاثون رجلاً وخرج بهم، فبلغ خبره خالداً وقال: قد كنت خفتها منه؛ ثم وجه إليه خالد جنداً، فلقوه بناحية المناذر، فقاتلهم قتالاً شديداً فقتلوه وجميع أصحابه.
ذكر غزو أسدٍ الختل
وفيها غزا أسد الختل، فوجه مصعب بن عمرو الخزاعي إليها، فسار فنزل بقرب بدر طرخان فطلب الأمان ليخرج إلى اسد، فآمنه مصعب، فسيره إلى أسد، فسأله أن يقبل منه ألف ألف درهم، فأبى أسد وقال: إنك دخلتها وأنت غريب من أهل الباميان، أخرج من الختل كما دخلت. قال بدرطرخان: فأنت دخلت إلى خراسان على عشرة من الدواب ولو خرجت منها لم تحتمل على خمسمائة بعير وغير ذلك، إني دخلت الختل شاباً فاردد علي شبباب وخذ ما كسبت منها.

فغضب أسد ورده إلى مصعب ليمكنه من العود إلى حصنه، فوصل بدرطرخان مع مولى لأسد إلى مصعب، فاخذه سلمة بن عبيد الله، وهو من الموالي، وقال: إن الأمير يندم على تركه وحبسه عنده.
وأقبل أسد بالناس، فقال لمجشر بن مزاحم: كيف أنت؟ قال مجشر: كنت أمس أحسن حالاً مني اليوم، كان بدرطرخان في أدينا وعرض ما عرض، فلا الأمير قبل منه ما عرض عليه ولا هو شد يديه عليه ولكنه خلى سبيله وأمر بإدخاله حصنه. فندم أسد عند ذلك وأرسل إلى مصعب يسأله: هل دخل بدرطرخان حصنه ظام لا؟ فجاء الرسول فوجده عند سلمة بن عبيد الله، فحوله أسد إليه وأمر به فقطعت يده، وقال: من هاهنا من أولياء أبي فديك رجل من الأزد كان بدرطرخان قد قتله؟ فقالم رجل مكن الأزد فقال: أنا فقال: أضرب عنقه، ففعل. وغلب أسد على القلعة العظمى وبقيت قلعة فوقها صغيرة وفيها ولده وأمواله فلم يوصل إليها. وفرق أسد العسكر في أودية الختل فملأ أيديهم من الغنائم والسبي، وهرب أهله إلى الصين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا الوليد بن القعقاع أرض الروم. وحج بالناس في هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك وحج معه ابن شهاب الزهري. وكان العامل على مكة والمدينة والطائف محمد بن هشام المخزومي، وعلى العراق والمشرق كله خالد القسري، وعلى خراسان أخوه أسد، وقيل: كان أسد قد هلك في هذه السنة واستخلف عليها جعفر بن حنظلة البهراني وقيل: إنما هلك أسد سنة عشرين ومائة، وعلى ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها غزا مروان بن محمد أرمينية فدخل بلاد اللان وسار فيها حتى خرج منها إلى بلاد الخزر فمر ببلنجر وسمندر وانتهى إلى البيضاء التي يكون فيها خاقان، فهرب خاقان منه.
وفيها توفي حبيب بن أبي ثابت. وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي. وقيس بن سعد المكي. وسليمان بن موسى الأشدق. وإياس بن سلمة بن الأكوع
ثم دخلت سنة عشرين ومائة

ذكر وفاة أسد بن عبد الله
في هذه السنة في ربيع الأول توفي أسد بن عبد الله القسري بمدينة بلخ وكان سبب موته أنه كان به دبيلة في جوفه فأصابه مرض قم أفاق منه فخرج يوماً فأتي بكمثرى أول ما جاء فأطعم الناس منه واحدة واحدة وزأخذ كثراة فرمى بها إلى خراسان دهقان هراة فانقطعت الدبيلة فهلك، واستخلف جعفر ابن حنظلة البهراني، فعمل أربعة أشهر ثم جاء عهد نصر بن سيار بالعمل في رجب سنة احدى وعشرين.
وكان هذا خراسان دهقان هراة خصيصاً بأسد، فقدم عليه في المهرجان ومعه من الهدايا والتحف ما لم يحمل غيره مثله، وكانت قيمة الهدية ألف ألف. وقال لأسد: إنا معشر العجم أكلنا الدنيا أرعمائة سنة بالحلم والعقل والوقار، وكان الرجال فينا ثلاثة: ميمون النقية، أين ما توجه فتح الله عليه، والذي يليه رجل تمت مروته في بيت، فإن كان كذلك رحب وحيا، ورجل رحب صدره وبسط يده، فإذا كان كذلك قدم وقود، وقد جعل الله صفات هؤلاء فيك فما يعلم أحداً هو أتم كتخذانية منك، إنك عزيز ضابط أهل بيتك وحشمك ومواليك فليس منهم من يستطيع أن يعتدي على صغير ولا كبير، ثم بنيت الإيوانات في المفاوز من أحسن ما عمل، ومن يمن نقيبتك أنك لقيت خاقان وهو في ماة ألف ومعه الحارث بن سريج فهزمته وقتلته وقتلت أصحابه وأبحت عسكره، وأما رحب صدرك وبسط يدك فإنا لا ندري أي المالين أحب إليك، وأمال قدم عليك أم مال خرج من عندك، بل أنت بما خرج أقر عيناً. فضحك أسد وقال: أنت خير دهاقينا، وفرق جميع الهدية بين أصحابه. ولما مات أسد رثاه ابن عرس العبدي فقال:
نعى أسد بن عبد الله ناع ... فريع القلب للملك المطاع
ببلخٍ وافق المقدار يسري ... وما لقضاء ربك من دفاع
فجودي عين بالعبرات سحاً ... ألم يحزنك تفريق الجماع
في أبيات غيرها. ولما مات أسد كتب مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وهو أبو شاكر إلى خالد القسري:
أراح من خالدٍ فأهلكه ... رب أراح العابد من أسد
أما أبوه فكان مؤتشباً ... عبداً لئيماً لأعبدٍ فقد
يرى الزنى والصليب والخمر ... والخنزير رحلا والغي كالرشد
وأمه همها وبغيتها ... هم الإماء العواهر الشرد

كافرة بالنبي مؤمنة ... بقسها والصليب والعمد
يعني المعمودية. فلما قرأ خالد الكتاب قال: يا عباد الله من رأى كهذه تعزية رجل من أخيه؟ وكان ما بين خالد وأبي شاكر مباعدة؛ وسببها أن هشاماً يرشح ابنه أبا شاكر للخلافة؛ فقال الكميت:
إن الخلافة كائن أو تادها ... بعد الوليد إلى ابن أم حكيم
يعني أبا شاكر، وأمه أم حكيم، فبلغ الشعر خالداً فقال: أنا كافر بكل خليفة يكنى أبا ساكر؛ فسمعها أبو شاكر فحقدها عليه.
ذكر شيعة بني العباس بخراسانوفي هذه السنة وجهت شيعة بني العابس بخراسان إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس سليمان بن كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه.
وكان سبب ذلك أم محمداً ترك مكاتبتهم ومراسلتهم بطاعتهم التي كانت لخداش الذي تقدم ذكره وقبولهم منه ماروي عنه من الكذب. فلما أبطأت كتبه ورسله عليهم أرسلوا سليمان ليعلم الخبر، فقدم عليه فعنفه محمد في ذلك، ثم صرف سليمان إلى خراسان ومعه كتاب مختوم فغضوه فلم ير فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فعظم ذلك عليهم وعلموا مخالفة خداش لأمره، ثم وجه محمد بمن علي إليهم بكير بن ماهان بعد عود سليمان من عنده وكتب معه إليهم يعلمهم كذب خداش، فلم يصدقوه واستخفوا به، فانصرف بكير إلى محمد، فبعث معه يعصي مضببة بعضها بحديد وبعضها بنحاس، فجمع بكير النقباء والشيعة ودفع إلى كل واحد منهم عصاً، فعلموا أنهم مخالفون لسيرته فتابوا ورجعوا.
ذكر عزل خالد بن عبد الله القسري

وولاية يوسف بن عمر الثقفي
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالداً عن أعمالهل جميعها، وقد اختلفوا في ذلك وسببه.
قيل: إن فروخ أبا المثنى كان على ضياع هشام بنهر الرمان، فثقل مكانه على خالد، فقال خالد لحيان النبطي: اخرج إلى هشام وزد على فروخ، ففعل حيان ذلك وتولاها، فصار حيان أثقل على خالد من فروخ، فجعل يؤذيه، فيقول حيان: لا تؤذي وأنا صنيعتك، فابى إلا أذاه.
فلمكا قدم عليه بثق البثوق على الضياع، ثم خرج إلى هشام فقال له: إن خالداً بثق البثوق على ضياعك. فوجه هشام من ينظر إليها، فقال حيان لخادم من خدم هشام: إن تكلمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام فلك ألف دينار. قال: فعجاها وأقول ما شئت، فأعطاه ألفاً وقال له: تبكي صبيان هشام، فإذا بكى فقل له: اسكت! والله لكأنك ابن خالد القسري الذي غلته ثلاثة عشر ألف ألف. ففعل الخادم، فسمعها هشام، فسأل حيان عن غلة خالد، فقال: ثلاثة عشر ألف ألف. فوقرت في نفس هشام.
وقيل: كانت غلته عشرين ألفاً، وإنه حفر بالعراق الأنهار، منها نهر خالد وباجرى وترمانا والمبارك والجمع وكورة سابور والصلح، وكان كثيراً ما يقول: غني مظلوم، ما تحت قدمي شيء إلا هو لي، يعني أن عمر جعل لبجيلة ربع السواد.
وأشار عليه العريان بن الهيثم وبلال بن أبي بردة بعرض املاكه على هشام ليأخذ منها ما أراد ويضمنان له الرضا فإنهما قد بلغهما تغير هشلم عليه، فلم يفعل ولم يجبهما إلى شيء. وقيل لهشام:إن خالداً قال ولدجه: ما أنت بدون مسلمة بن هشام! ودخل رجل من آل عمرو بن سعيد بن العاص على خالد في مجلسه، فأغلظ له في القول، فكتب إلى هشام يشكو خالداً، فكتب هشام إلى خالد يذمه ويلومه ويوبخه ويأمره أن يمشي راجلاً إلى بابه ويترضاه، فقد حعل عزله وولايته إليه، وكان يذكر هشاماً فيقول: ابن الحمقاء، وكان خالد يخطب فيقول: زعمتم أني أغلي أسعاركم، فعلى من يغليها لعنة اللهّ وكان هشام كتب إليه ألا تبيعن من الغلات شيئاً حتى تباع غلات أمير المؤمنين، فبلغت كيلها دارهم. وكان يقول لابنه: كيف أنت إذا احتاج إليك أمير المؤمنين؟ فبلغ هذا جميعه أمير المؤمنين هشاماً فتنكر له. وبلغه أيضاً أنه يستقل ولاية العراق، فكتب إليه هشام: يا بن أم خالد بلغني أنك تقول: ما ولاية العراق لي بشرف. يا بن اللخناء، كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفاً وأنت من بجيلة القليلة الذليلة؟ أما والله إني لأظن أن لأول من يأتيك صغير من قريش يشد يديك إلى عنقك.

ولم يزل يبلغه عنه ما يكره، فعزم على عزله، فكتم ذلك وكتب إلى يوسف ابن عمر وهو باليمن، يأمره أن يقدم في ثلاثين من اصحابه إلى العراق فقد ولاه ذلك، فسار يوسف إلى الكوفة فعرس قريباً منها، وقد ختن طارق خليفة خالد بالكوفة ولده فأهدى إليه ألف وصيف ووصيفة سوى الأموال والثياب، فمر بيوسف بعض أهل العراق فسألوه: ما أنتم وأين تريدون؟ قالوا: بعض المواضع. فأتوا طارثقاً فأخبروه خبرهم وأمروه بقتلهم وقالوا: إنهم خوارج. فسار يوسف إلى دور ثقيف، فقيل لهم: ما أنتم؟ فكتموا حالهم وأمر يوسف، فجمع إليه من هناك من مضر، فلما اجتمعوا دخل المسجد مع الفجر وأمر المذن وأقام الصلاة فصلى، وأرسل إلى طارق وخالد فأخذهما وإن القدور لتغلي.
وقيل: لما أراد هشام أن يولي يوسف بن عمر العراق كتم ذلك، فقدم جندب مولي يوسف بكتاب يوسف إلى هشام، فقرأه ثم ثال لسالم بن عنبسة وهو على الديوان: أن أجبه عن لسانك وأتني بالكتاب. وكتب هشام بخطه كتاباً صغيراً إلى يوسف يأمره بالمسير إلى العراق، فكتب سالم المتاب وأتى به هشاماً، فجعل كتابه في وسطكه وختمه، ثم دعا رسول يوسف فأمر به فضرب ومزقت ثيابه، ودفع الكتاب إليه فسار. فارتاب بشير بنم أبي طلحة، وكان خليفة سالم، فقال: هذه حيلة، وقد ولى يوسف العراق، فكتب إلى عياض، وهو نائب سالم بالعراق: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني، فإذا أتاك فالبسه واحمد الله تعالى وأعلم ذلك طارقاً. فأعلم عياض طاق بن أبي زيدا بالكتاب له.
ثم ندم بشير على كتابه، فكتب إلى عياض: إن أهلك قد بدا لهم في إرسال الثوب. فأتى عياض بالكتاب الثاني إلى طارق، فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول، ولكن بشيراً ندم وخاف أن يظهر الخبر.
وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط، فرآه داود البريدي، وكان على حجابة خالد وديوانه، فأعلم خالداً، فأذن له، فلما رآه قال: ما أقدمك بغير إذان؟ قال: أمر كنت أخطأت فيه، كنت قد كتبت إلى الأمير أعزيه بأخيه أسد، وإنما كان يجب أن آتيه ماشساً. فرق خالد ودمعت عيناه وقال: ارجع إلى عملك، فأخبره الخبر لما غاب داود، اقل: فما الرأي؟ قال: تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه مما بلغه عنك. قال: لا أفعل ذلك بغير إذن. قال: فترسلني إليه حتى آتيك بعهده. قال: وكم مبلغه؟ قال: مائة ألف ألف . قال: ومن أين آخذها؟ والله ما اجد عشرة آلاف ألف درهم! قال: أتحمل أنا وفلان وفلان. قال: إني إذاً للئيم إن كنت أعطيتهم شيئاً وأعود فيه. فقال طارق: إنما نفيك ونفي أنفسنا بأموالنا وتستأنف الدنيا وتبقى النعمة عليك وعلينا خي من أن يجيء من يطالبنا بالأموال وهي عند أهل الكوفة فيتربصون فنقتل ويأكلون تلك الأموال. فأبى خالد. فودعه طارق وبكى وقال: هذا آخر ما نلتقي في الدنيا. ومضى إلى الكوفة وخرج وخرج خالد إلى الجمة.
وقدم رسول يوسف عليه اليمن فقال: أمير المؤمنين ساخط، وقد ضربني ولم يتكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الديوان.
فقرأه، فلما انتهى إلى آخره قرأ كتاب هشام بخطه وولاية العراق ويامره أن يأخذ ابن النصرانية، يعني خالداً، وعماله ويعذبهم حتى يشتفي. فأخذ ديلاً وسار من يومه واستخلف على اليمن ابنه الصلت، فقدم الكوفة في جمادى الآخرة سنة عشرين ومائة فنزل النجف، وأرسل مولاه كيسان وقال: انطلق فأتني بطارق، فإن أقبل فاحمله على إكاف، وإن لم يقبل فأت به سحباً.
فأتى كيسان الحيرة فأخذ معه عبد المسح سيد أهلها إلى طارق، فقال له: إن يوسف قد قدم على العراق وهو يستدعيك. فقال طارق لكيسان: إن أراد الأمير المال أعطيته ما سأل.
وأقبلوا به إلى يوسف بن عمر فتوافوا بالحيرة، فضربه ضرباً مبرحاً، يقال خمسمائة سوط، ودخل الكوفة وأرسل عطاء بن مقدم إلى خالد بالجمة، فاتى الرسول حاجبه وقال: استأذن لي على أبي الهيثم، فدخل متغير اللون، فقال: ايذن له، فدخل عليه، فقال: ويل أمها سخطة! ثم أخذه فحبسه، وصالحه عنه أبان بن الوليد وأصحابه على تسعة آلاف ألف ، فقيل ليوسف: لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف، فندق وقال: قد رهنت لساني معه ولا آمن ولا أرجع.

وأخر أصحاب خالداً فقال: قد أخطأتم ولا آمن أن يأخذها ثم يعود، ارجعوا، فرجعوا فأخبروه أن خالداً لم يرض، فقال: قد رجعتم؟ قالوا: نعم. قال: والله لا أرضى بمثلها ولا مثليها، فأخذ أكثر من ذلك، وقيل: أخذ مائة ألف. فأرسل يوسف إلى بلال بن أبي بردة، فقبضه، وكان قد اتخذ بلال بالكوفة داراً لم ينزلها، فأحضره يوسف مقيداً فأنزله الدار، ثم جعلت سجناً. وكان خالد يصل الهاشميين ويبرهم، فأتاه محمد بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان بن عفان ليستميحه فلم ير منه ما يحب، فقال: أما الصلة فللهاشميين وليس لنا منه إلا أنه يلعن علياً، فبلغت خالداً فقال: إن أحب نلنا عثمان بشيء.
وكان خالد مع هذا يبالغ في سب علي، فقيل: كان يفعل ذلك نفياً للتهمة وتقرباً إلى القوم.
وكانت ولاية خالد العراق في شوال سنة خمس ومائة، وعزل في جمادى الأولى ستة عشرين ومائة، ولما ولي يوسف العراق كان الإسلام ذليلاً والحكم فيه إلى أهل الذمة، فقال يحيى بن نوفل فيه:
أتانا وأهل الشرك أهل زكاتنا ... وحكامنا فيما نسر ونجهر
فلما أتانا يوسف الخير أشرقت ... له الأرض حتى كل وادٍ منور
وحتى رأينا العدل في الناس ظاهراً ... وما كان من قبل العقيلي يظهر
في أبيات. ثم قال بعد ذلك:
أرانا والخليفة إذ رمانا ... مع الإخلاص بالرجال الجديد
كأهل النار حين دعوا أغيثوا ... جميعاً بالحميم وبالصديد
وكان في يوسف أشياء متباينة متناقه، كان طويل الصلاة ملازماً للمسجد ضاباطاً لحشمه وأهله عن الناس، لين الكلام، متواضعاً، حسن الملكة، كثير التضرع والدعاء، فكان يصلي الصبح ولا يكلم أحداً حتى يصلي الضحى، يقرأ القرآن ويتضرع، وكان بصيراً بالشعر والأدب، وكان شديد العقوبة مسرفاً في ضرب الأبشار، فكان يأخذ الثوب الجديد فيمر ظفره عليه، فإن تعلق به طاقه فضرب صاحبه وربما قطع يده. وكان أحمق، أتي يوما بثوب فقال لكاتبه: ما تقول في هذا الثوب؟ فقال: كان ينبغي أن تكون بيوته أصغر مما هي. فال للحائك: صدق يا بن اللخناء! فقال الحائك: نحن أعلم بهذا. فقال لكتابه: صدق يا بن اللخناء. فقال الكاتب: هذا يعمل في السنة ثوباً أو ثوبين، وأنا يمر على يدي في كل سنة مائة ثوب مثل هذا. فقال للحائك: صدق يا بن اللخناء! فلم يزل يكذب هذا مرة وهذا مرة حتى عد أبيات الثوب فوحدها تنقص بيتاً من أحد جانبي الثوب، فضرب الحائك مائة سوط.
وقيل: إن يوسف أراد السفر فدعا جواريه فقال لإحداهن: تخرجين معي؟ قالت: نعم قال: يا خبيثة كل هذا من حب النكاح، يا خادم اضرب رأسها. وقال لأخرى: ما تقولين؟ فقالت: أقيم على ولدي. فقال: يا خبيثة أكل هذا زهادة في؟ اضرب رأسها. وقال لثالثة: ما تقولين؟ قالت: ما أدري ما أقول، إن قلت ما قالت إحداهما لما نجوت من عقوبتك. فقال: يا لخناء أوتناقضين ونحجبين؟ اضرب رأسها. فضرب الجميع.
وكان قصيراً عظيم اللحية، وكان يحضر الثوب الطويل ليفصله ليلبسه، فإن قال الخياط إنه يفضل منه ضربه، فإن قال له الخياط: لا يكفينا إلا بعد التصرف في التفصيل، سره، فكانوا يفصلون له ثياباً طوالاً ويأخذون ما ينبغي من الثوب يوهمونه أن الثوب لم يكفه فيرضى بذلك. وله في هذا الباب أشياء نوادر، منها أنه قال يوماً لكاتب له: ما حبسك؟ قال: اشتكيت ضرسي فدعا بحجام يقلعه ومع ضرس آخر.
ذكر ولاية نصر بن سيار الكناني خراسانلما مات أسد بن عبد الله استشار هشام بنم عبد الملك عبد الكريم بن سليط الحنفي، وكان علماً بخراسان، فيمن يوليه، فقال عبد الكريم: يا أمير المؤمنين أما رجل خراسان حزماً ونجدة فالكرماني. فأعرض عنه وقال: ما سمه؟ قال: جديع بن علي. قال: لا حاجة لي فيه، وتطير، قال: فالمسن المجرب يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني. قال: ربيعة لا تسد بها الثغور. قال عبد الكريم: فقلت في نفس: كره ربيعة واليمن فأرميه بمضر، فقلت: عقيل بن معقل الليثي إن غفرت هنةً. قال: ما هي؟ قلت: ليس بالعفيف. قال: لا حاجة لي فيه. قلت: منصور بن أبي الخرقاء السلمي إن غفرت نكره فإنه مشؤوم. قال: غيره. قلت: فالمجشر بن مزاحم السلمي عاقل شجاع له رأي مع كذب فيه. قال: لا خير في الكذب.

قلت: يحية بن الحضين. قال: ألم أخبرك أن ربيعة لا تسد بها الثغور؟ قال: نصر بن سيار قال: هو لها. قلت: إن غفرت واحد، فإنه عفيف مجرب عاقل. قال: ما هي؟ قلت: عشيرته بها قلقلة. قال: لا أبالك! أتريد عشيرة أكثر مني؟ أنا عشيرته. فكتب عهده وبعثه مع عبد الكريم.
وقد قيل: عرض عليه عثمان بن عبد الله بن الشخير، وقيل له: إنه صاحب شراب، وقيل له عن يحيى بن الحضين: إنه كثير التيه، وقيل له عن قطن بن قتيبة: إنه موتور، فلم يولهم فاستعمل نصراً.
وكان جعفر بن حنظلة الذي استخلفه أسد على خراسان عند موته قد عرض على نصر أن يولويه بخارى، فاستشار البختري بن مجاهد مولى بين شيبان، فقال له: لا تقبلها لأنك شيخ مضر بخراسان وكأنك بعهدك قد حاء على خراسان، فلما أتاه سلم عليه بالإمرة، فقال له: من أين علمت؟ قال: كنت تأتيني فلما بعثت إلي علمت أنك قد وليت.
وأعطى نصر عبد الكريم لما أتاه بعهده عشرة آلاف درهم، واستعمل على بلخ مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم، واستعمل على مرو الروذ وساج ابن بكير بن وساج، وعلى هراة الحارث بن عبد الله بن الحشرج، وعلى نيسابور زياد بن عبد الرحمن القشيري، وعلى خوارزم أبا حفص بن علي ختنه، وعلى الصغد قطن بن قتيبة. قال رجل من اليمانية: ما رأيت عصبية مثل هذا. قال: بلى : التي كانت قبلها، فلم يتسعمل أربع سنين إلا مضرياً. وعمت خراسان عمارة لم تعمر قبلها، وأحسن الولاية والجباية؛ فقال سوار ابن الأشعر:
أضحت خراسان بعد الخوف آمنةً ... من ظلم كل غشوم الحكم جبار
لما أتى يوسفاً أخبار ما لقيت ... اختار نصراً لها نصر بن سيار
وأتى نصراً عهده في رجب سنة عشرين ومائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غا سليمان بن شام بن عبد الملك الصائفة وافتتح سندرة. وفيها غزا إسحاق بن سلم العقيلي تونشاه وافتتح قلاعها وخرب أرضها.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وقيل: حج بهم سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل: أخوه يزيد بن هشام. وكان العامل على المدينة ومكة والطائف محمد بن هشام المخزومي، وعلى العراق والمشرق يوسف بن عمر، وعلى خراسان نصر بن سيار، وقد أمره هشام أن يكاتب يوسف بن عمر، وقيل: كان عليها جعفر بن حنظلة، وعلى البصرة كثير بن عبد الله السلمي، استعمله يوسف، وعلى قضائها عامر بن عبيدة، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة.
وفيها مات عاصم بن عمر بن قتادة في أصح الأقوال. وفيها مات مسلمة ابن عبد الملك بن مروان، وقيل: سنة إحدى وعشرين بالشام. وفيها مات قيس بن مسلم. ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي. وحماد بن سليمانالفقيه. وواقد بن عمرو بن سعد بن معاذ وعلي بن مدرك النخعي الكوفي. والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الكوفي.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائةفي هذه السنة غزا مسملة بن هشام الروم فافتتح بها مطامير.
ذكر ظهور زيد بن علي بن الحسينقيل: إن زيد بن علي بن الحسين قتل هذه السنة، وقيل: سنة اثنتين وعشرين ومائة ونحن نذكر الآن سبب خلافة على هشام وبيعة، ونذكر قتله سنة اثنتين وعشرين.
قد اختلفوا في سبب خلافة، فقيل: إن زيداً وداود بن علي بن عبد الله ابن عباس ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب قدموا على خالد بن عبد الله القسري بالعراق فأجازهم ورجعوا إلى المدينة، فما ولي يوسف بن عمر كتب إلى هشام بذلك وذكر له أن خالداً ابتاع من زيد أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ثم رد الأرض عليه، فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيرهم إليه، ففعل، فسألهم هشام عن ذلك فأقروا بالجائزة وأنكروا ما سوى ذلك وحلفوا فصدقهم وأمرهم بالمسير إلى العراق ليقالاوا خالداً، فساروا على كره وقابلوا خالداً، فصدقهم، فعادوا نحو المدينة. فلما نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيداً فعاد إليهم.

وقيلك بل ادعى خالد القسري أنه أودع زيداً وداود بن علي ونفراً من قريش مالاً، فكتب يوسف بذلك إلى هشام، فأحضرهم هشام من المدينة وسيرهم إلى يوسف ليجمع بينهم وبين خالد فقدموا عليه، فقال يوسف لزيد: إن خالداً رعم أنه أودعك مالاً. قال: كيف يودعني وهو يشتم آبائي على منبره! فأرسل إلى خالد فأحضره في عباءة، فقال: هذا زيد قد أنكر أنك قد أودعته شيئاً. فنظر خالد إليه وإلى داود وقال ليوسف: أتريد أن تجمع مع إثمك في إثماً في هذا؟ كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! فقالوا لخالد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال: شدد علي العذاب فادعيت ذلك وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم. فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة.
قيل: إن يزيد بن خالد القسري هو الذي ادعى المال وديعة عند زيد.
فلما أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف استقالوه خوفاً من شر يوسف وظلمه فقال: أنا أكتب إليه بالكف عنكم، وألزمهم بذلك، فساروا على كره.
وجمع يوسف بينهم وبين يزيد، فقال يزيد: مالي عندهم قليل ولا كثير. قال يوسف: أبي تهزأ أم بأمير المؤمنين؟ فعذبه بومئذ عذاباً كاد يهلكه، ثم أمر بالفراشين فضربوا ونترك زيداً. ثم استحلفهم وأطلقهم، فلحقوا بالمدينة، وأقام زيد بالكوفة، وكان زيد قد قال لهشام لما أمره بالمسير إلى يوسف: ما آمن بعثتني إليه أن لا تجتمع أنا وأنت حيين أبداً. قال: لا بد من المسير إليه فساروا إليه.
وقيل: كان السبب في ذلك أن زيداً كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي في وقوف علي، زيد يخاصم عن بني الحسين، وجعفر يخاصم عن بني الحسن، فكانا يتبالغان بين يدي الوالي كل غاية ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفاً.
فلما مات جعفر نازعه عبد الله بن لحسن بن لحسن، فتنازعا يوماً بين يدي خالد بن عبد الملمك بن الحارث بالمدينة، فأغلظ عبد الله لزيد قال: يا بن السندية! فضحك زيد وقال: قد كان إسماعيل لأمة ومع ذلك فقد صبرت بعد وفاة سيدها إذ لم يصبر غيرها، يعني فاطمة، وهي عمته، فلم يدخل عليها زماناً، فأرسلت إليه: يا بن أخي إني لأعلم أن أمك عندك كأم عبد الله عنده . وقالت لعبد الله: بئس ما قلت لأم زيد! اما والله لنعم دخيلة القوم كانت! قال: فذكر أن خالداً قال لهما اغدوا علينا غداً فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما. فاتت المدينة تغلي كالمرجل، يقول قالئل قال زيد كذا، ويقول قائل قال عبد الله كذا.
فلما كان الغد جلس خالد في المسجد واجتمع الناس فمن بين شامت ومهموم، فدعا بهما خالد وهو يحب أن يشاتما، فذهب عبد الله يتكلم، فقال زيد: لا تعجل يا ابا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبداً. ثم أقبل على خالد فقال: جمعت ذرية رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر! فقال خالد: أما لهذا السفيه أحد؟ فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال: يا ابن أبي تراب وابن حسين السفيه! أما ترى للوالي عليك حقاً ولا طاعة؟ فقال زيد: اسكت أيها القحطاني فإنالا نجيب مثلك. قال: ولم ترغب عني؟ فوالله إني لخير منك، وأبي خير من أبيك، وأمي خير من أمك. فتضاحك زيد وقال: يامعشر قريش هذا الدين قد ذهب فذهبت الأحساب، فوالله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم.
فتكلم عبد الله بن راقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: كذبت والله أيها القحطاني! فوالله لهو خير منك نفساً وأماً وأبا ومحتداً! وتناوله بكلام كثير، وأخذ كفاً من حصباء وضرب بها الأرض ثم قال: إنه والله ما لنا على هذا من صبر.
وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له، فيرفع إليه القصص فكلما رفع قصة يكتب هشام في أسفلها: ارجع إلى منزلك. فيقول زيد: والله لا أرجع إلى خالد أبداً. ثم أذن له يوماً بعد طول حبس ورقي علية طويلة وأمر خادماً أن يتبعه بحيث بحيث لا يراه زيد ويمسع ما يقول، فصعد زيد، وكان ديناً، فوقف في بعض الدرجة، فسمعه يقول: والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل. ثم صعد إلى هشام فحلف له على شيء، فقال: لا أصدقك.

فقال: يا أمير المؤمنين إن الله لم يرفع أحداً عن أن يرضى باللله، ولم يضع أحداً عن الأيرصض بذلك منه. فقال هشام: لقد بلغني يا زيد أنك تكر الخلافة وتتمناها ولست هنالك وأنت ابن أمة. قال زيد: إن لك جواباً. قال: فتكلم. قال: إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه، وقد كان إسماعيل ابن أمة وأخوه ابن صريحة فاختاره الله عليه وأخرج منه خير البشر، وما على أحد من ذلك إذ كان جده رسول الله وأبوه علي بن أبي طالب ما كانت أمه. قال له هشام: اخرج. قال: أخرج ثم لا أكون إلا بحيث تكره. فقال له سالم: يا أبا الحسين لا تظهرن هذا منك.
فخرج من عنده وسار إلى الكوفة، فقال له محمد بن عمر علي بن أبي طالب: أذكرك الله يا زيد لما لحقت بأهلك ولا تأت أهل الكوفة، فإنهم لا يفون لك؛ فلم يقبل. فقال له: خرج بنا اساء على غير ذنب من الحجاز إلى الشام ثم إلى الجزيرة ثم إلى العراق إلى قيس ثقيف يلعب بنا؛ وقال:
بكرت تخوفني المنون كأنني ... أصبحت عن عرض الحياة بمعزل
فأجبتها: عن المنية منهل ... لابد أسقى بكأس المنهل
إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضيق المنزل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
أستودعك الله وإني أعطي الله عهداً إن دخلت يد في طاعة هؤلاء ما عشت. وفارقه وأقبل إلى الكوفة، فأقام بها مستخفياً ينتقل في المنازل، وأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعه، فبايعه جماعة منهم: سلمة بن كهيل، ونصر بن خزيمة العبسي، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري، وناس من وجوه أهل الكوفة، وكانت بيعته: إناندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم ، وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالساء، ورد المظالم، ونصر أهل البيت، أتبايعون على ذلك؟ فإذا قالوا: نعم، وضع يده على أيديهم ويقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، صلى الله عليه وسلم، لتفين ببيعتي ولتقاتلن عدوي ولتنصحن لي في السر والعلانية، فغذا قال: نعم، مسح يده على يده ثم قال: اللهم أشهد. فبايعه خمسة عشر ألفاً، وقيل: اربعون ألفاً، فأمر أصحابه بالاستعداد، فاقبل من يريد أن يفي له ويخرج معه ويستعد ويتعيأ، فشاع أمره في الناس.
هذا على قول من زعم أنه أتى الكوفة من الشام واختفى بها يبايع الناس، وأما على قول من زعم أنه أتى إلى يوسف بن عمر لموافقة خالد بن عبد الله اقسري أو ابنه يزويد بن خالد فإن زيداً أقام بالكوفة ظاهراً ومعه داود بن علي بن عبد الله بن عباس، وأقبلت الشيعة تختلف إلى زيد وتأمره بالخروج ويقولون: إنا لنرجو أن تكون انت المنصور، وإن هذا الزمان هو الذي تهلك فيه بنو أمية. فأقامم بالكوفة، وجعل يوسف بن عمر يسأل عنه فيقال هو ها هنا، ويبعث إليه ليسير فيقول: نعم، ويعتل بالوجع، فمكث ما شاء الله.
ثم ارسل إليه يوسف ليسير، فاحتج بأنه يبتاع أشياء يريدها، قم أرسل إليه يوسف بالمسير عن الكوفة، فاحتج بأنه يحاكم بعض آل طلحة بن عبيد الله بملك بينهما بالمدينة، فأرسل إليه ليوكل وكيلاً ويرحل عنها. فلما رأى جد يوسف في أمره سار حتى أتى القادسية، وقيل الثعلبة، فتبعه أهل الكوفة وقالوا له: نحن أربعون ألفاً لم يختلف عنك أحد نضرب عنك بأسيافنا، وليس هاهنا من أهل الشام إلا عدة يسيرة بعض قباسلنا يكفيكهم بإذن الله تعالى، وحلفوا له باظلأيمان المغلظة، فجعل يقول: إني أخاف أن تخذولني وتسلموني كفعلكمم بأبي وجدي، فيحلفون له. فقال له داود بن علي: يابن عم إن هؤلاء يغرونك من نفسك، أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك جدك علي بن أبي طالب حتى قتل؟ والحسن من بعده بايهوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه وجرحوه؟ أوليس قد أخرجوا جدك الحسين وحلفوا له وخذلوه وأسلموه ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه. فلا ترجع معهم. فقالوا: إن هذا لا يريد أن تظهر أنت ويزعم أنه وأهل بيته أولى بهذا الأمر منكم.
فقال زيد لداود: إن علياً يقالته معاوية بداهية وبكراهية، وإن الحسين قالتله يزيد والأمر مقبل عليهم. فقال داود: إني خائف إن رجعت معهم أن لا يكون أحد أشد عليك منهم، وأنت أعلم.

ومضى داود إلى المدينة، ورجع زيد إلى الكوفة، فلما رجع زيد أتاه سلمة بن كهيل فذكر له فرابته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم وحقه، فأحسن ثم قال له: ننشدك الله كم بايعك؟ قال: أرعون ألفاً. قال: فم بايه جدك؟ قال: ثمانون ألفاً. قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلاثمائة. قال: نشدتك الله أنت خير أم جدك؟ قال: جدي. قال: فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟ قال: ذلك القرن. قال: أفتطمع أن يفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدك؟ قال: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم. قال: أفتأذن لي أن أخرج من هذا البلد؟ فلا آمن أن يحدث حدث فلا أملك نفسي. فأذن له فخرج إلى اليمامة، وقد تقدم ذكر مبايعة سلمة.
وكتب عبد الله بن الحسن بن الحسن إلى يزيد: أما بعد فإن أهل الكوفة نفخ العلانية خور السريرة هرج في الرخاء جزع في اللقاء، تقدمهم أسنتهم ولا تشايعهم قلوبهم، ولقد تواترت إلي كتبهم بدعوتهم، فصممت عن ندائهم وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم يأساً منهم واطراحاً لهم، وما لهم مثل إلا ما قال علي بن أبي طالب: إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على غمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم. فلم يصغ زيد إلى شيء من ذلك، فأقام على حاله يبايع الناس ويتجهز للخروج، وتزوج بالكوفة ابنة يعقوب بن عبد الله السلمي، وتزوج أيضاً ابنة عبد الله بن أبي العنبسي الأزدي.
وكان سبب تزوجه إياها أن أمها أم عمرو بنت الصلت كانت تتشيع، فاتت زيداً تسلم عليه، وكانت جميلة حسناء قد دخلت في السن ولم يظهر عليها، فخطبها زيد إلى نفسها، فاعذرت بالسن وقالت له: لي ابنة هي أجمل من وابيض وأحسن دلا وشكلاً فضحك زيد ثم تزوجها. وكان يتنقل بالكوفة تارة عنده وتارة عند زوجه الأخرى وتارة في بني عبس وتارة في بني هند وتارة في نبي تغلب وغيرهم إلى ان ظهر.
ذكر غزوات نصر بن سيار ما وراء النهروفي هذه السنة غزا نصر بن سيار ما وراء النهر مرتين، وإحدهما من نحو الباب الجديد، فسار من بلخ من تلك الناحية ثم رجع إلى مرو فخطب الناس وأخبرتهم أنه قد أقام منصور بن عمر بن أبي الخرقاء على كشف المظالم وأنه قد وضع الجزية عمن قد أسلم وجعلها على من كان يخفف عنه من المشركين. فلم تمضى جمعة حتى أتاه ثلاثنون ألف مسلم كانوا يؤدون الجزية عن رؤوسهم، وثمانون ألفاً من المشركين كانت قد ألقيت عنهم، فحول ما كان على المسلمين غليهم ووضعه عن المسلمين ثم صنف الخراج ووضعه مواضعه. ثم غزا الثانية إلى ورغسر وسمرقند ثم رجع. ثم غزا الثالثة إلى الشاش من مرو، فحال بينه وبين عبور نهر الشاش كورصول في خمسة عشر ألفاً، وكان معهم الحارث بن سريج. وعبر كورصول في أربعين رجلاًن فبيت أهل العسكر في ليلة مظلمة ومع نصر بخار أخذاه في أهل بخارى ومعه أهل سمر قند وكش ونسف، وهم عشرون ألفاً، فنادى نصر: أى يخرج أحد واثبتوا على مواضعكم. فخرج عاصم بن عمير، وهو على جند سمرقند، فمرت به خيل الترك، فحمل على رجل في آخرهم فأسره، فإذا هو ملك من مولكهم صاحب أربعة آلاف قبة، فأتي به إلى نصر، فقال له نصر: من أنت؟ قال: كورصول. فقال نصر: الحمد الله الذي أمكن منك يا عدوا الله. قال: ما ترجو من قتل شيخ؟ وأنا أعطيك أربعة آلاف بعي من إبل الترك وألف برذون تقوي بها جندك وطلق سبيلي. فاستشار نصر أصحابه، فاشارو وابإطلاقه، فسأله عن عمره، قال: لا أدري. قال: كم غزوت؟ قا: اثنيتن وسبعين غزوة. قال: أشهدت يوم العطش؟ قال: نعم. قال: لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما أفلت من يدي بعد ما ذكرت من شماهك. وقال لعاصم بن عمير السعدي: قم إلى سلبه فخذه . فقال: من أسرنيظ قال نصر، وهو يضحك: أسرك يزيد بن قران الحنظلي، وأشار إليه: قال: هذا لا يستطيع أن يغسل استه أو لايستطيع أن يتم له بوله فكيف يأسنري؟ أخبرني من أسرني؟ قال: أسرك عاصم بن عمير. قال: لست أجد ألم القتل إذا كان أسرني فارس من فرسان العرب. فقتله وصلبه على شاطئ النهر.
وعاصم بن عمير هو الهزارمرد، قتل بنهاوند أيام قحطبة.
فلما قتل كورصول أحرقت الترك أبنيته وقطعوا آذانهم وقصوا شعورهم وأذناب خيلهم. فلما أراد نصر الرجوع أحرقه لئلا يحملوا عظامه، فكان ذلك أشد عليهم من قتله، وارتفع إلى فرغانة فسبى بها ألف رأس.

وكتب يوسف بن عمر إلى نصر: سر إلى هذا الغادر دينه في الشاش، يعني الحارث بن سريج، فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش فخرج بلادهم واسب ذراريهم، وإياك وورطة المسلمين. فقرأ الكتاب على الناس واستشارهم، فقال يحي بن الحضين: انظر أمن لأمير المؤمنين أو من الأمير؟ فقال نصر: يا يحى تكلمت بكلمة أيام عاصم بلغت الخيلفة فحظيت بها وبلغت الدرجة الرفيعة، فقلت أقول مثلها، سر يا يحيى فقد وليتك مقدمتي. فلام الناس يحيى فسارإلى الشاش، فأتاهم الحارث فنصب عليهم عرادتين، وأغار الأخرم، وهو فارس الترك على المسلمين فقتلوه وأقوا رأسه إلى الترك، فصاحوا وانهزموا.
وسار نصر إلى الشاش، فلتقاه ملكها بالصلح والهدية والرهن، واشترط عليه نصر إخراج الحارث بن سريج عن بلده، فأخرجه إلى فاراب، واستعمل على الشاش نيزك بن صالح مولى عمرو بن العاص، ثم سار حتى نزل قبا من أرض فرغانة، وكانوا أحسوا بمجيئة فأحرقوا الحشيش وقطعوا الميرة، فوجه نصر إلى ولي عهد صاحب فرغانة فحاصره في حصن، وغفلوا عنه فخرج وغنم دواب المسلمين، فوجه إليهم نصر بجالاً من تميم ومعهم محمد بن المثنى، وكان المسلمون ودوابهم كمنوا لهم، فخرجوا واستاقوا بعضها، وخرج عليهم المسلمون فهزموهم وقتلوا الدهقان وأسروا منهم وأسروا ابن الدهقان فقتله نصر، وأرسل نصر سليمان بن صول بكتاب الصلح إلى صاحب فرغانة، فأمر به فأدخا الخزائن ليراها ثم رجع إليه، فقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم.؟ قال: سهلاً كثر الماء والمرعى، فكره ذلك وقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم؟ قال: سهلاً كثير الماء والمرعى، فكره ذلك وقال: ما علمك؟ فقال سليمان: قد غزوت غرشستان وغور والختل وطبرستان فكيف لا أعلم؟ قال: فكيف رأيت ما أعددنا؟ قال: عدة حسنة، ولكن أما علمت أن المحصور لا يسلم من خصال، لا يأمن أقرب الناس إليه وأوثقهم في نفسه أن يثبت به يطلب مرتبته ويتقرب بذلك أو يفنى ما قد جمع فيسلم برمته أو يصيبه داء فيموت. فكره ما قال له وأمره فأحضر كتاب الصلح، فأجاب إليه وسير أمه معه، وكانت صاحبة أمره، فقدمت على نصر، فأذن لها وجعل يكلمها، وكان مما قالت له كل مالك لا يكون عنده ستة أشياء فليس بملك، وزير يبث إليه ما في نفسه ويشاوره ويثق بنصيحته، وطباخ إذا لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهي، وزوجة إذا دخل عليها مغتماً فنظر إلى وجهها زال غمه، وحصن إذا فزغ أتاه فأنجاه، تعني البرذون، وسيف إذا قاتل لا يخشى خيانته، وذخيرة إذا حملها عاش بها أين كان من الأرض.
ثم دخل تميم بن نصر في جماعة فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا فتى خراسان تميم بن نصر. قالت: ما له نبل الكبير ولا حلاوة الصغير؛ ثم دخل الحجاج بن قتيبة فقالت: من هذا؟ فقالوا: الحجاج بن قتيبة، فحيته وسألت عنه وقالت: يا معشر العرب ما لكم وفاء ولا يصلح بعضكم بعضاً، قتيبة الذي ذلل لكم ما أرى وهذا ابنه تقعده دونك فحقه أن تجلسه أنت هذا المجلس وتجلس أنت مجلسه.
ذكر غزو مروان بن محمد بن مروانوفي سنة إحدى ووعشرين غزا مروان بن محمد من أرمينة وهو اليها، فأتى قلعة بين السرير فقتل وسبى، ثم أتى قلعة ثانية فقتل وسبى ودخل غوميك وهو حصن فيه بيت الملك وسريره، فهرب الملك منه حتى أتى حصناً يقال له خيزج فيه السرير الذهب، فسار إليه مروان ونازله صيفية وشتويته، فصالح الملك على ألف رأس كل سنة ومائة ألف مدي، وسار مروانفدخل أرض ارزو بطران، فصالحه ملكها، ثم سار في أرض تومان فصالحه، وسار حتى أتى خمزين فأخرب بلاده وحصر حصناً له شهراً فصالحه، طبرسران وفيلان، وكل هذه الولايات على شاطئ البحر من أرمينية إلى طبرستان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا مسلمة بن هشام الروم فافتتح بها مطامير. وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وهو كان عامل المدينة ومكة والطائف. وعلى العراق يوسف بن عمر، وعلى خراسان نصر بن سيار، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد، وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة. وفيها فرغ الوليد بن بكير عامل الموصل من حفر النهر الذي أدخله البلد، وكان مبلغ النفقة عليه ثمانية آلاف ألف درهم، وجعل عليه ثمانية أحجار تطحن، ووقف هشام هذه الأرحاء على عمل النهر.

وفيها مات سلمة بن سهيل، وقيل سنة اثنتين وعشرين. وفيها مات عامر بن عبيد الله بن الزبير، وقيل سنة اثنتين وعشرين، وقيل سنة أربع وعشرين بالشام. وفيها مات محمد بن يحيى بن حبان وهو ابن أربع وسبعين سنة بالمدينة، حبان بفتح الحاء، وبالباء الموحدة. وقتل يعقوب بن عبد الله ابن الأشج سهيداً بأرض الروم.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة

ذكر مقتل زيد بن علي بن الحسين
ابن علي بن أبي طالب
في هذه السنة قتل زيد بن علي بن الحسن، قد ذكر سبب مقامه بالكوفة وبيعته بها .
فلما أمر أصحابه بالاستعداد للخروج وأخذ من كان يريد الوفاء له بالبيعة يتجهز انطلق سليمان بن سراقة البارقي إلى يوسف بن عمر فأخربه، فبعث يوسف في طلب زيد، فلم يوجد، وخاف زيد أن يؤخذ فتيعجل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة، وعلى الكوفة يومئذ الحكم بن الصلت، وعلى شرطته عمرو بن عبد الرحمن من القارة ومعه عبيد الله بن العاباس الكندي في ناس من أهل الشام، ويوسف بن عمر بالحيرة، قال: فلما رأى أصحاب زيد بن علي من يوسف بن عمر أنه قد بلغه أمره وأنه يبحث عن أمره اجتمع إليه حماعة من رؤوسهم وقالوا: رحمك الله، ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمها الله وغفر لهما، ما سمعت أحداً من أهل بيتي يقول فيهما إلا خيراً، وإن أشد ما أقول فيما ذكرتم أنا كنا أحق بسلطان ما ذكرتم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، من الناس أجمعين، فدفعونا عنه ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً، وقد ولوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة. قالوا: فلم يظلمك هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم، وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم ، وإلى السنن أن تحيا وإلى البدع أن تطفأ، فإن اجبتمونا سعدتم، وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: سبق الإمام، يعنون محمداً الباقر، وكان قد مات، وقالوزا: جعفر ابنه إمامنا اليوم بعد أبيه، فسماهم زيد الرافضة، وهم يزعمون أن المغيرة سماهم الرافضة حيث فارقوه.
وكانت طائفة أتت جعفر بن محمد الصادق قبل خروج زيد، فأخبره ببيعة زيد، فقال: بايعوه فهو والله أفضلنا وسدنا، فعادوا وكتموا ذلك. وكان زيد واعد أصحابه أول ليلة من صفر، وبلغ ذلك يوسف بن عمر، فبعث إلى الحكم يأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم يحصرهم فيه، فجمعهم فيه، وطلبوا زيداً في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري، فخرج منها ليلاً، ورفعوا الهرادي فيها النيران ونادوا: يا منصور أمت أمت، حتى طلع الفجر، فلما أصبحوا بعث زيد القاسم التبعي ثم الحضرمي وآخر من أصحابه يناديان بشعارهم، فملا كانا بصحراء عبد القيس لقيهما جعفر ابن العباس الكندي فحملا عليه وعلى أصحابه، فقتل الذي كان مع القاسم التبعي وارتث القاسم وأتي به الحكم، فضرب عنقه. فكانا أول من قتل من أصحاب زيد. وأغلق الحكم دروب السوق وأبواب المسجد على الناس .
وبعث الحكم إلى يوسف بالحيرة فأخبره الخبر، فأرسل جعفر بن العباس ليأتيه بالخبر، فسار في خمسين فارساً حتى بلغ جبانة سالم فسال ثم رجع إلى يوسف فأخبره، فسار يوسف إلى تل قريب من الحيرة فنزل عليه ومع أشراف الناس، فبعث الريان بن سلمة الأراني في القين ومعه ثلاثمائة من القيقانية رجالة معهم النشاب.

وأصبح زيد فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلاً، فقال زيد: سبحان الله أين الناس؟ فقيل: غنهم في المسجد الأعظم محصورون. فقال: والله ما هذا بعذر لمن بايعنا! وسمع نصر بن خزيمة العبسي النداء فأقبل إليه، فلقي عمرو بن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم في خيله من جهينة في الطريق، فحمل عليه نصر وأصحابه فقتل عمرو وانهزم من كان معه، وأقبل على جبانة سالم حتى انتهى زيد إلى دار أنس بن عمرو الأزدي، وكان في من بايعه وهو في الدار، فنودي فلم يجبهم، وناداه زيد فلم يخرج إليه، فقال زيد: ما أخلفكم؟ قد فعلتموها، والله حسيبكم، ثم انتنهى زيد إلى الكناسة فحمل على من بها من أهل الشام فهزمهم، ثم سار زيد يوسف ينظر إليه في مائتي رجل، فو قصده لقتله، والريان يتبع أثر زيد بن علي بالكوفة في أهل الشام، فأخذ زيد على مصلى خالد حتى دخل الكوفة، وسار بعض أصحابه نحو جبانة مخنف بن سليم فلقوا أهل الشام فقاتلوهم، فأسر أهل الشام منهم رجلاً، فأمر به يوسف بن عمر فقتل.
فلما رأى زيد خذلان الناس إياه قال: يا نصر بن خزيمة أنا أخاف أن يكونوا قد فعلوها حسينية. قال: أما أنا والله لأقاتلن معك حتى أموت، وإن الناس في المسجد فامض بنا نحوهم. فلقيهم عبيد الله بن العباس الكندي عند ار عمر بن سعد، فاقتتلوا، فانهزم عبيد الله وأصحابه، وجاء زيد حتى انتهى إلى باب المسجد، فجعل أصحابه يدخلون راياتهم من فوق الأبواب ويقولون: يا أهل المسجد اخرجوا من الذل إلى العز، اخرجوا إلى الدين والدنيا فإنكم لستم في دين ولا دنيا. فرماهم أهل الشام بالحجارة من فوق المسجد وانصرف الريان عند المساء إلى الحيرة، وانصرف زيد في من معه، وخرج إليه ناس من أهل الكوفة فنزل دار الرزق، فاتاه الريان بن سلمة فقالتله عند دار الرزق وجرح أهل الشام ومعهم ناس كثير، ورجع أهل الشام مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظناً.
فلما كان الغد أرسل يوزسف بن عمر العباس بن سعيد المظزني في أهل الشام فانتهى إى زيد في دار الرزق، فلقيه زيد وعلى مجنبته نصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن ثابت فاقتتلوا قتالاُ شديداً، وحمل نابل بن فروة العبسي من اهل الششام على نصر بن خزيمة فضربه بالسيف فقطع فخذه، وضربه نصر فقتله، ولم يلبث نصر أن مات واشتد قتالهم، فانهزم أصحاب العباس وقتل منهم نحو من سبعين رجلاً.
فلما كان العشاء عباهم يوسف بن عمر ثم سرحهم، فالتقوا هم وأصحاب زيد، فحمل عليهم زيد فياصحابه فكشفهم وتبعهم حتى أخرجهم إلى السبخة، ثم حمل عليهم بالسبخة حتى أخرجهم إلى بني سليم، وجعلت خيلهم لا تثبت لخيله، فبعث العاب إلى يوزسف يعلمه ذلك وقال له: ابعث إلي الناشبية، فبعثهم إليه، فجعلوا يرمون أصحاب زيد، فقاتل معاوية ابن إسحاق الأنصاري بين يدي زيد قتالاً شديداً، فقتل وثبت زيد ابن علي ومن معه إلى الليل، فرمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى فثبت في دماغه، ورجع أصحابه ولا يظن أهل الشام أنهم رحعوا إلا للمساء والليل، ونزل زيد في دار من دور أرحب، وأحضر أصحابه طبيباً، فانتزع النصل، فضج زيد، فلما نزع النصل مات زيد، فقال أصحابه: اين ندفنه؟ قال بعضهم: نطرحه في الماء. وقال بعضهم: بل نحتز رأسه ونلقيه في القتلى. فقال ابنه يحيى: والله لا تأكل لحم أبي الكلاب. وقال بعضهم: ندفنه في الخحفرة التي يؤخذ منها الطين ونجعل عليه الماءن ففعلوا، فلما دفنوه أجروا عليه الماء، وقيل: دفن بنهر يعقوب، سكر أصحابه الماء ودفنوه وأجروا الماء وكان معهم مولى لزيد سندي، وقيل رآهم فسار فدل عليه، وتفرق الناس عنه، وسار ابنه يحيى نحو كربلاء فنزل بنينوى على سابق مولى بشر بن عبد الملك بن بشر.
ثم إن يوسف بن عمر تتبع الجرحى في الدور، فدله السندي مولى زيد يوم الجمعه على زيد، فاستخرجه من قبره وقطع رأسه وسير إلى يوسف ابن عمر وهو بالحيرة، وسيره الحكم بن الصلت، فأمر بحراستهم، وبعث الرأس إلى هشام وولي الوليد فأمر بانزاله وإحراقه. وقيل: كان خراش بن خشب بن يزيد الشيباني على شرطة زيد، وهو الذي نبش زيداً وصلبه؛ فقال السيد الحوي:
بت ليلاً مسهدا ... ساهر العين مقصدا
ولقد قلت قولةً ... وأطلت التبلدا
لعن الله حوشباً ... وخراشاً ومزيدا

وزيداً فإنه ... كان أعتى وأعتدا
ألف ألفٍ وألف ألف ... فٍ من اللعن سرمدا
إنهم حاربوا الإل ... ه وآذوا محمدا
شركوا في دم الحس ... ين وزيدٍ تعندا
ثم عالوه فوق جذ ... عٍ صريعاً مجردا
يا خراش بن حوشبٍ ... أنت أشقى الورى غدا
وقيل في أمر يحيى بن زيد غير ما تقدم، وذلك أن أباه زيداً لما قتل قال له رجل من بني أسد: إن أهل خراسان لكم شيعة، والرأي أن تخرج إليها. قال: وكيف لي بذلك؟ قال: تتوارى حتى يسكن عنك الطلب ثم تخرج. فواراه عنده ليلةً، ثم خاف فأتى به عبد الملك بن بشر بن مروان فقال له: إن قرابة زيد بك قريبة زحقه عليك واجب. قال: أجل ولقد كان العفوعنه أقرب للتقوى. قال فقد قتل وهذا ابنه غلام حدث لاذنب له، فإن علم يوسف به قتله، أفتجيره؟ قال: نعم، فأتاه به فأقام عنده، فملا سكن الطلب سار في نفر من الزيدية إلى خراسان. فغضب يوسف بن عمر بعد قتل زيد فقال: يا أهل العراق، إن يحيى بن زيد ينتقل في حجال نسائكم كما كان يفعل أبوه، والله لو بدا لي لعرقت خصييه كما عرقت خصيي أبيه! وتهددهم وذمهم وترك.
ذكر قتل البطالفي هذه اسنة قتل البطال، واسمه عبد الله أبو الحسين الأنطاكي، في جماعة من المسلمين ببلاد الروم، وقيل: سنة ثلاث وعشرين ومائة، وكان كثير الغزاة إلى الروم والإغارة على بلادهم، وله عندهم ذكر عظيم وخوف شديد.
حكي أنه دخل بلادهم في بعض غزاته هو وأصحابه، فدخل قرية لهم ليلاً وامرأة تقول لصغير لها يبكي: تسكت وإلا سلمتك إلى البطال! ثم رفعته بيدها وقالت: خذه يا بطال! فتناوله من يدها.
وسيره عبد الملك مع ابنه مسلمة إلى بلاد الروم وأمره على رؤساء أهل الجزيرة والشام، وأمر ابنه أن يجعله على مقدمته وطلائعه، وقلا:إنه ثقة شجاع مقدام، فجعله مسلمة على عشرة آلاف فارس، فكان بينه وبين الروم، وكان العلافة والسابلة يسيرون آمينين، وسار مرة مع عسكر للمسلمين، فلما صار بأطراف الروم سار وحده فدخل بلادهم، فرأى مبقله فنزل فأكل من ذلك البقل، فجاءت جوفه وكثر إسهاله، فخاف أن يضعف عن الركوب فركب وصار تجيء جوفة في سرجه ولا يجسر ينزل لئلا يضعف عن الركوب، فاستولى عليه الضعف، فاعتنق رقية فرسه وسار عليه ولا يعلم أين هو، ففتح عينه فإذا هو في دير فيه نساء، فاجتمعن عليه وانزلته إحداهن عن فرسهوعسلته وسقته دواء فانقطع عنه ما به، وأقام في الدير ثلاثة أيام، ثم إن بطريقاً حضر الدير فخطب تلك المرأة وبلغه خبر البطال وتبعه فقتله وانهزم أصحاب البطريق وعاد إلى الدير وأقى الرأس إلى النساء وأخذهن وساقهن إلى العسكر، فنقل أمير العسكر تلك المرأة، فهي أم أولاد البطال.
ذكرة عدة حوادثقيل: وفي هذه السنة قتل كلثوم بن عياض القشيري الذي كان هشام بعثه في أهل الشام إلى أفريقية حيث وقعت الفتنة بالبربر. وفيها ولد الفضل بن صالح ومحمد بن إبراهيم بن محمد بن علي. وفيها وجه يوسف بن عمر ابن شبرمة على سجستان فاتقضى محمد بن عبيد الرحمن بن أبي ليلى.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن هشام المخزومي، وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم، قيل: وكان على الموصل أبو قحافة ابن أخي الوليد بن تليد العبسي.
وفيها مات إياس بن معاوية بن قرة قاضي البصرة، وهو الموصوف بالذكاء . وزيد بن الحارث اليامي. ومحمد بن المنكدر بن عبد الله أبو بكر التميم تيم قريش، وقيل: مات سنة ثلاثين، وقيل: إحدى وثلاثين، وكتبه أبو بكر. ويزيد بن عبد الله بن قسط، ويعقوب بن عبد الله بن الأشج.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة

ذكر صلح نصر بن سيار مع الصغد.

وسبب ذلك أن خاقان لما قتل في ولاية أسد تفرقت الترك في غارة بعضها على بعض، فطمع أهل الصغد في الرجعة إليها، وانحاز قوم منهم إلى الشاش، فلما ولي نصر بن سيار أرسل إليهم يدعوهم إلى الرجوع إلى بلادهم وأعطاهم ما أرادوا، كانوا ينالون شروطاً أنكرها أمراء خراسان، منها: أن لا يعاقب من كان مسلماً فارتد عن الإسلام، ولا يعدى عليهم في دين لأحد منن الناس، ولا يؤخذ أسراء المسلمين من ايديهم إلا بقضية قاضٍ وشهادة عدول. فعاب الناس ذلك على نصر بن سيار وقالوا له فيه، فقال: لو عاينتم شوكتهم في المسلمين مثل ما عاينت ما أنكرتم ذلك. وأرسل رسولاً إلى هشام بن عبيد الملمك في ذلك، فأجابه إليه.
ذكر وفاة عقبة بن الحجاج

ودخول بلج الأندلس
في هذه السنة توفي عقبة بن الحجاج السلولي أمي رالأندلس، فقيل: بل ثار به أهل الأندلس فخلعوه وولوا بعده عبد الملك بن قطن، وهي ولايته الثانية، وكانت ولايته في صفر من هذه السنة، وكانت البربر قد فعلت بإفريقية ما ذكرناه سنة سبع عشرة ومائة، وقد حصروا بلج بن بشر العبسي حتى ضاق عليه وعلى من معه الأمر واشتد الحصر، وهم صابرون إلى هذه السنة، فأرسل إلى عبد الملك بن قطن يطلب منه أن يرسل إليه مراكب يجوز فيها هو ومن معه إلى الأندلس، وذكر ما أنزل عليه من الشدة وأنهم أكلوا دوابهم. فامتنه عبد الملك من إدخالهم الأندلس ووعدهم بإرسال المدد إليهم، فلم يفعل.
فاتفق أن البربر قويت بالأندلس، فاظطر عبد الملك إلى إدخال بلج ومن معه، وقيل: إن عبد الملك استشار أصحابه في جواز بلج فخوفوه من ذلك، فقال: أخاف أمير المؤمنين أن يقول: أهلكت جندي، لإأجازهم وشرط عليهم أن يقيموا سنة ويرجعوا إلى إفريقية، فأجابوه إلى ذلك، وأخذ وهائتنهم وأجازهم.
فلما وصوا إليه رأى هو والمسلمون ما بهم من سوء الحال والفقر والعري لشدة الحصار عليهم، فكسوهم وأحسنوا إليهم، وقصدوا جمعاً من البربر بشدونة فقاتلوهم فظفروا بالبربر فأهلكوهم وغنموا مالهم ودوابهم وسلاحهم، فصلت أحوال أصحاب بلج وصار لهم دواب يركبونها.
ورجع عبد الملك بن قطن إلى قرطبة وقال لبلج ومن معه ليخرجوا من الأندلس، فأجابوه إلى ذلك، فطلبوا منه مراكي يسيرون فيها من غير الجزيرة الخضراء لئلا يلقوا البرابر الذين حصروهم. فامتنع عبد الملك وقال: ليس لي مراكب إلا في الجزيرة. فقالوا: إننا لا نرجع نتعرض إلى البربر ولا نقصد الجهة التي هم فيها لأننا نخاف أن يقتلونا في بلادهم. فألح عليهم في العود، فلما رأوا ذلك ثاروا به وقاتلوه، فظفروا به وأخرجوه من القصر، وذلك أوائل ذي القعدة من هذه السنة.
فلما ظفر بلج بعبد الملك أشار عليه أصحابه بقتل عبد الملك، فأخرجه من داره وكأنه فرخ لكبر سنة فقتله وصلبه، وولي الأندلس، وكان عمر عبد الملك تسعين سنة، وهرب ابناه قطن وأمية، فلحق أحدهما بماردة والآخر بسر قسطة، وكان هربهما قبل قتل أبيهما، فلما قتل فعلا ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أوفد يوسف بن عمر الحكم بن الصلت إلى هشام يطلب إليه أن يستعمله على خراسان ويذكر أنه خبير بها وأنه عمل بها الأعمال الكثيرة ويقع في نصر بن سيار، فوجه هشام إلى دار الضيافة فأحضر مقاتل بن علي السعدي وقد قدم من خاسان ومعه مائة وخمسون من الترك، فسأله عن الحكم وما ولي بخراسان، فقال: ولي قرية يقال لها لفارياب سبعون ألفاً خراجها، فأسره الحارث بن سريج فعرك أذنه وأطلقه وقا: أنت أهون من أن قتلك. فلم يعزل هشام نصر بن سيار عن خراسان.
وفي هذه السنة غزا نصر بن سيار فرغنة غزوته الثانية، فأوفد وفداً إلى العراق عليهم معن بن أحمر النميري، ثم إلى هشام، فاجتاز بيوسف بن عمر وقال له: يا بن أحمر أبلغبكم الأقطع على سلطانكم يا معشر قريش! قال: قد كان ذاك، فأمره أن يعيبه عند هشام، فقال: كيف أعيبه مع بلائه وآثاره الجميلة عند وعند قومي؟ فلم يزل به، قال: فيم أعيبه؟ أعيب تجربته أم طاعته أم يمن نقيبته أو سياسته؟ قال: عبه بالكبر.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34