كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

لما سار صلاح الدين إلى خلاط جعل طريقه على ميافارقين مطمع ملكها، حيث كان صاحبه قطب الدين، صاحب ماردين، قد توفي كما ذكرنا، وملك بعد ابنه، وهو طفل، وكان حكمها إلى شاه أرمن، وعسكره فيها، فلما توفي طمع في أخذها، فلما نازلها رآها مشحونة بالرجال، وبها زوجة قطب الدين المتوفي، ومعها بنات لها منه، وهي أخت نور الدين محمد، صاحب الحصن، فأقام صلاح الدين عليها يحصرها من أول جمادى الأولى.
وكان المقدم على أجنادها أميراً اسمه يرنقش، ولقبه أسد الدين، وكان شجاعاً شهماً، يحفظ البلد، فأحسن إليه، واشتد القتال عليه ونصبت المجانيق والعرادات، فلم يصل صلاح الدين إلى ما يريد منها؛ فلما رأى ذلك عدل عن القوة والحرب إلى أعمال الحيلة، فراسل امرأة قطب الدين المقيمة بالبلد يقول لها: إن أسد الدين يرنقش قد مال إلينا في تسليم البلد ونحن نرعى حق أخيك نور الدين فيك بعد وفاته، ونريد أن يكون لك في هذا الأمر نصيب، وأنا أزوج بناتك بأولادي وتكون ميافارقين وغيرها لك وبحكمك؛ ووضع من أرسل إلى أسد يعرفه أن الخاتون قد مالت للمقاربة والانقياد إلى السلطان، وأن من بخلاط قد كاتبوه ليسلموا إليه، فخذ لنفسك.
واتفق أن رسولاً وصله من خلاط، يبذلون له الطاعة، وقالوا له من الاستدعاء إليهم ما كانوا يقولونه، فأمر صلاح الدين الرسول، فدخل إلى ميافارقين، وقال لأسد: أنت عمن تقاتل، وأنا قد جئت في تسليم خلاط إلى صلاح الدين! فسقط في يده، وضعفت نفسه، وأرسل يقترح أقطاعاً ومالاً، فأجيب إلى ذلك، وسمل البلد سلخ جمادى الأولى، وعقد النكاح لبعض أولاده على بعض بنات الخاتون، وأقر بيدها قلعة الهتاخ لتكون فيها هي وبناتها.
ذكر عود صلاح الدين إلى بلد الموصل

والصلح بينه وبين أتابك عز الدين
لما فرغ صلاح الدين من أمر ميافارقين، وأحكم قواعدها، وقرر أقطاعها وولاياتها، أجمع على العود إلى الموصل، فسار نحوها، وجعل طريقه على نصيبين، فوصل إلى كفر زمار، والزمان شتاء، فنزلها في عسكره، وعزم على المقام بها وإقطاع جميع بلاد الموصل، وأخذ غلالها ودخلها، وإضعاف الموصل بذلك، إذ علم أنه لا يمكنه التغلب عليها؛ وكان نزوله في شعبان، وأقام بها شعبان ورمضان، وتردد الرسل بينه وبين عز الدين، صاحب الموصل، وصار مجاهد الدين يراسل ويتقرب، وكن قوله مقبولاً عند سائر الملوك لما علموا من صحته.
فبينما الرسل تتردد في الصلح، إذ مرض صلاح الدين، وسار من كفر زمار عائداً إلى حران، فلحقه الرسل بالإجابة إلى ما طلب، فتقرر الصلح، وحلف على ذلك، وكاتب القاعدة أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي، وجميع ما وراء الزاب من الأعمال، وأن يخطب له على منابر بلاده، ويضرب اسمه على السكة، فلما حلف أرسل رسله فحلف عز الدين له، وتسلموا البلاد التي استقرت القاعدة على تسليمها.
ووصل صلاح الدين إلى حران، فأقام بها مريضاً، وأمنت الدنيا، وسكنت الدهماء، وانحسمت مادة الفتن، وكان ذلك بتوصل مجاهد الدين قايماز، رحمه الله.
وأما صلاح الدين فإنه طال مرضه بحران، وكان عنده من أهله أخوه الملك العادل، وله حينئذ حلب، وولده الملك العزيز عثمان، واشتد مرضه حتى أيسوا من عافيته، فحلف الناس لأولاده، وجعل لكل منهم شيئاً من البلاد معلوماً، وجعل أخاه العادل وصياً على الجميع، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.

ولما كان مريضاً بحران كان عنده ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، وله من الأقطاع حمص والرحبة، فسار من عنده إلى حمص، فاجتاز بحلب وأحضر جماعة من أحداثها وأعطاهم مالاً، ولما وصل إلى حمص راسل جماعة من الدمشقيين وواعدهم على تسليمهم البلد إليه إذا مات صلاح الدين، وأقام بحمص ينتظر موته ليسير إلى دمشق فيملكها، فعوفي وبلغه الخبر على جهته، فلم يمض غير قليل حتى مات ابن شيركوه ليلة عيد الأضحى فإنه شرب الخمر وأكثر منها، فأصبح ميتاً، فذكروا، والعهدة عليهم، أن صلاح الدين وضع عليه إنساناً يقال له الناصح بن العميد، وهو من دمشق، فحضر عنده، ونادمه وسقاه سماً، فلما أصبحوا من الغد لم يروا الناصح، فسألوا عنه، فقيل: إنه سار من ليلته إلى صلاح الدين؛ فكان هذا مما قوى الظن. فلما توفي أعطى أقطاعه لولده شيركوه، وعمره اثنتا عشرة سنة. وخلف ناصر الدين من الأموال والخيل والآلات شيئاً كثيراً، فحضر صلاح الدين في حمص واستعرض تركته، وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه.
وبلغني أن شيركوه بن ناصر الدين حضر عند صلاح الدين، بعد موت أبيه بسنة، فقال له: إلى أين بلغت من القرآن؟ فقال: إلى قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً) النساء 10، فعجب صلاح الدين والحاضرون من ذكائه.
ذكر الفتنة بين التركمان والأكراد

بديار الجزيرة والموصل
في هذه السنة ابتدأت الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان، وقتل فيها من الخلق ما لا يحصى، ودامت عدة سنين، وتقطعت الطرق، ونهبت الأموال، وأريقت الدماء.
وكان سببها أن امرأة من التركمان تزوجت بإنسان تركماني، واجتازوا في طريقهم بقلعة من الزوزان للأكراد، فجاء أهلها وطلبوا من التركمان وليمة العرس، فامتنعوا من ذلك، وجرى بينهم كلام صاروا منه إلى القتال، فنزل صاحب تلك القلعة فأخذ الزوج فقتله، فهاجت الفتنة، وقام التركمان على ساق، وقتلوا جمعاً كثيراً من الأكراد، وثار الأكراد فقتلوا من التركمان أيضاً كذلك، وتفاقم الشر ودام.
ثم إن مجاهد الدين قايماز، رحمه الله، جمع عنده جمعاً من رؤساء الأكراد والتركمان، وأصلح بينهم، وأعطاهم الخلع والثياب وغيرها، وأخرج عليهم مالاً جماً، فانقطعت الفتنة وكفى الله شرها، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه من الطمأنينة والأمان.
ذكر ملك الملثمين والعرب إفريقية وعودها إلى الموحدينقد ذكرنا سنة ثمانين ملك علي بن إسحق الملثم بجاية، وإرسال يعقوب ابن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب المغرب، العساكر واستعادتها، فسار علي إلى إفريقية، فلما وصل إليها اجتمع سليم ورباح ومن هناك من العرب، وانضاف إليهم الترك الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع قراقوش، وقد تقدم ذكر وصوله إليها، ودخل أيضاً من أتراك مصر مملوك لتقي الدين ابن أخي صلاح الدين، اسمه بوزابة، فكثر جمعهم، وقويت شوكتهم، فلما اجتمعوا بلغت عدتهم مبلغاً كثيراً، وكلهم كاره لدولة الموحدين، واتبعوا جميعهم علي ابن إسحاق الملثم، لأنه من بيت المملكة والرياسة القديمة، وانقادوا إليه، ولقبوه بأمير المسلمين، وقصدوا بلاد إفريقية فملكوها جميعها شرقاً وغرباً إلا مدينتي تونس والمهدية، فإن الموحدين أقاموا بهما، وحفظوهما على خوف وضيق شدة، وانضاف إلى المفسد الملثم كل مفسد في تلك الأرض، ومن يريد الفتنة والنهب والفساد والشر، فخربوا البلاد والحصون والقرى، وهتكوا الحزم، وقطعوا الأشجار.

وكان الوالي على إفريقية حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يعلمه الحال، وقصد اللثم جزيرة باشرا، وهي بقرب تونس، تشتمل على قرى كثيرة، فنازلها وأحاط بها، فطلب أهلا منه الأمان، فأمنهم، فلما دخلها العسكر نهبوا جميع ما فيها من الأموال والدواب والغلات، وسلبوا الناس حتى أخذوا ثيابهم، وامتدت الأيدي إلى النساء والصبيان، وتركوهم هلكى، فقصدوا مدينة تونس، فأما الأقوياء فكانوا يخدمون ويعملون ما يقوم بقوتهم، وأما الضعفاء فكانوا يستعطون ويسألون الناس؛ ودخل عليهم فصل الشتاء، فأهلكهم البرد ووقع فيهم الوباء، فأحصي الموتى منهم فكانوا اثنتي عشر ألفاً، هذا من موضع واحد، فما الظن بالباقي؟.
ولما استولى الملثم على إفريقية قطع خطبة أولاد عبد المؤمن وخطب للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وأرسل إليه يطلب الخلع والأعلام السود. وقصد في سنة اثنتين وثمانين مدينة قفصة فحصرها، فأخرج أهلها الموحدين من عساكر ولد عبد المؤمن وسلموها إلى الملثم، فرتب فيها جنداً من الملثمين والأتراك، وحصنها بالرجال مع حصانتها في البناء.
وأما يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فإنه لما وصله الخبر اختار من عساكره عشرين ألف فارس من الموحدين، وقصد قلة العسكر لقلة القوت في البلاد، ولما جرى فيها من التخريب والأذى، وسار في صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فوصل إلى مدينة تونس، وأرسل ستة آلاف فارس مع ابن أخيه، فساروا إلى علي بن إسحق الملثم ليقاتلوه، وكان بقفصة، فوافوه، وكان مع الموحدين جماعة من الترك، فخامروا عليهم، فانهزم الموحدون، وقتل جماعة من مقدميهم، وكان ذلك في ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين.
فلما بلغ يعقوب الخبر أقام بمدينة تونس إلى نصف رجب من السنة، ثم خرج فيمن معه من العساكر يطلب الملثم والأتراك، فوصل إليهم، فالتقوا بالقرب من مدينة قابس، واقتتلوا، فانهزم الملثم ومن معه، فأكثر الموحدون القتل حتى كادوا يفنونهم، فلم ينج منهم إلا القليل فقصدوا البر، ورجع يعقوب من يومه إلى قابس ففتحها وأخذ منها أهل قراقوش وأولاده وحملهم إلى مراكش، وتوجه إلى مدينة قفصة فحصرها ثلاثة أشهر، وقطع أشجارها، وخرب ما حولها، فأرسل إليه الترك الذين فيها يطلبون الأمان لأنفسهم ولأهل البلد، فأجابهم إلى ذلك، وخرج الأتراك منها سالمين، وسير الأتراك إلى الثغور لما رأى من شجاعتهم ونكايتهم في العدو، وتسلم يعقوب البلد وقتل من فيه من الملثمين، وهدم أسواره، وترك المدينة مثل قرية، وظهر ما أنذر به المهدي بن تومرت، فإنه قال إنها تخرب أسوارها وتقطع أشجارها، وقد تقدم ذلك ذلك؛ فلما فرغ يعقوب من أمر قفصة واستقامت إفريقية عاد إلى مراكش، وكان وصوله إليها سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة فارق الرضي أبو الخير إسماعيل القزويني الفقيه الشافعي بغداد، وكان مدرس النظامية بها، وعاد إلى قزوين، ودرس فيها بعده الشيخ أبو طالب المبارك صاحب ابن الخل، وكان من العلماء الصالحين.
وفيها كان بني أهل الكرخ ببغداد وبين أهل باب البصرة فتنة عظيمة جرح فيها كثير منهم وقتل، ثم أصلح النقيب الظاهر بينهم.
وفيها توفي الفقيه مهذب الدين عبد الله بن أسعد الموصلي، وكان عالماً بمذهب الشافعي، وله نظم حسن ونثر أجاد فهي، وكان من محاسن الدنيا، وكانت وفاته بحمص.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة

ذكر نقل العادل من حلب
والملك العزيز إلى مصر وإخراج الأفضل من مصر إلى دمشق وإقطاعه إياها
في هذه السنة أخرج صلاح الدين ولده الأفضل علياً من مصر إلى دمشق، وأقطعها له، وأخذ حلب من أخيه العادل، وسيره مع ولده العزيز عثمان إلى مصر، وجعل نائباً عنه، واستدعي تقي الدين منها.

وسبب ذلك أنه كان قد استناب تقي الدين بمصر، كما ذكرناه، وجعل معه ولده الأكبر الأفضل علياً، فأرسل تقي الدين يشكو من الأفضل، ويذكر أنه قد عجز عن جباية الخراج معه لأنه كان حليماً كريماً إذا أراد تقي الدين معاقبة أحد منعه؛ فأحضر ولده الأفضل، وقال لتقي الدين: لا تحتج في الخراج وغيره بحجة؛ وتغير عليه بذلك، وظن أنه يريد إخراج ولده الأفضل لينفرد بمصر حتى يملكها إذا مات صلاح الدين، فلما قوي هذا الخاطر عنده أحضر أخاه العادل من حلب وسيره إلى مصر ومعه ولده العزيز عثمان، واستدعى تقي الدين إلى الشام، فامتنع من الحضور، وجمع الأجناد والعساكر ليسير إلى المغرب، إلى مملوكه قراقوش، وكان قد استولى على جبال نفوسة وبرقة وغيرها، وقد كتب إليه يرغبه في تلك البلاد، فتجهز للمسير إليه، واستصحب معه أنجاد العسكر وأكثر منهم.
فلم سمع ذلك صلاح الدين ساءه، وعلم أنه إن أرسل إليه يمنعه لم يجبه، فأرسل إليه يقول له: أريد أن تحضر عندي لأودعك، وأوصيك بما تفعله؛ فلما حضر عنده منعه، وزاد في إقطاعه، فصار إقطاعه عندي لأودعك، وأوصيك بما تفعله؛ فلما حضر عنده منعه، وزاد في إقطاعه، فصار إقطاعه حماة، ومنبج، والمعزة، وكفر طاب، وميافارقين، وجبل جور، بجميع أعمالها، وكان تقي الدين قد سير في مقدمته مملوكه بوزابة، فاتصل بقراقوش، وكان منهم ما ذكرناه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
وقد بلغني من خبير بأحوال صلاح الدين أنه إنما حمله على أخذ حلب من العادل وإعادة تقي الدين إلى الشام، أن صلاح الدين لما مرض بحران، على ما ذكرناه، أرجف بمصر أنه قد مات، فجرى من تقي الدين حركات من يريد أن يستبد بالملك، فلما عوفي صلاح الدين بلغه ذلك، فأرسل الفقيه عيس الهكاري، وكان كبير القدر عنده، مطاعاً في الجند، إلى مصر، وأمره بإخراج تقي الدين والمقام بمصر؛ فسار مجداً، فلم يشعر تقي الدين إلا وقد دخل الفقيه عيس إلى داره بالقاهرة، وأرسل إليه يأمره بالخروج منا، فطلب أن يمهل إلى أن يتجهز، فلم يفعلن وقال: تقيم خارج المدينة وتتجهز. فخرج وأظهر أنه يريد الدخول إلى الغرب، فقال له: اذهب حيث شئت؛ فلما سمع صلاح الدين الخبر أرسل إليه يطلبه، فسار إلى الشام، فأحسن إليه ولم يظهر له شيئاً مما كان لأنه كان حليماً، كريماً، صبوراً، رحمه الله.
وأما أخذ حلب من العادل، فإن السبب فيه أنه كان من جملة جندها أمير كبير اسمه سليمان بن جندر، بينه وبين صلاح الدين صحبة قدية، قبل الملك، وكان صلاح الدين يعتمد عليه، وكان عاقلاً ذا مكر ودهاء، فاتفق أن الملك العادل لما كان بحلب مل يفعل معه ما كان يظنه، وقدم غيره عليه، فتأثر بذلك.
فلما مرض صلاح الدين، وعوفي، سار إلى الشام، فسايره يوماً سليمان ابن جندر، فجرى حديث مرضه، فقال له سليمان: بأي رأي كنت تظن أنك تمضي إلى الصيد فلا يخالفونك؟ بالله ما تستحي يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة؟ قال: وكيف ذلك؟ وهو بضحك، قال: إذا أراد الطائر أن يعمل عشاً لفراخه قصد أعالي الشجر ليحمي فراخه، وأنت، سلمت الحصون إلى أهلك، وجعلت أولادك على الأرض. هذه حلب بيد أخيك، وحماه بيد تقي الدين، وحصن بيد ابن شيركوه، وابنك العزيز مع تقي الدين بمصر يخرجه أي وقت أراد، وهذا ابنك الآخر مع أخيك في خيمه يفعل به ما أراد. فقال له: صدقت، واكتم هذا الأمر؛ ثم أخذ حلب من أخيه، وأخرج تقي الدين من مصر، ثم أعطى أخاه العادل حران والرها وميافارقين ليخرجه من الشام ومصر، لتبقى لأولاده، فلم ينفعه ما فعل لما أراد الله تعالى نقل الملك عن أولاده على ما نذكر.
ذكر وفاة البهلوان وملك أخيه قزلفي هذه السنة، في أولها، توفي البهلوان محمد بن إيلدكز، صاحب بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد، وكان عادلاً، حسن السيرة، عاقلاً، حليماً، ذا سياسة حسنة للملك، وكانت تلك البلاد في أيامه آمنة والرعايا مطمئنة، فلما مات جرى بأصفهان بين الشافعية والحنفية من الحروب والقتل والإحراق والنهب ما يجل عن الوصف، وكان قاضي البلد رأس الحنفية، وابن الخجندي رأس الشافعية، وكان بمدينة الري أيضاً فتنة عظيمة بني السنة والشيعة، وتفرق أهلها وقتل منهم، وخربت المدينة وغيرها من البلاد.

ولما مات البهلوان ملك أخوه قزل أرسلان واسمه عثمان، وكان السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه مع البهلوان، والخطبة له في البلاد بالسلطنة، وليس له من الأمر شيء، وإنما البلاد والأمراء والأموال بحكم البهلوان، فلما مات البهلوان خرج طغرل عن حكم قزل، ولحق به جماعة من الأمراء والجند، فاستولى على بعض البلاد، وجرت بينه وبين قزل حروب نذكرها إن شاء الله تعالى.
ذكر اختلاف الفرنج بالشام

وإنحياز القمص صاحب طرابلس إلى صلاح
كان القمص، صاحب طرابلس، واسمه ريمند بن ريمند الصنجيلي، قد تزوج بالقومصة، صاحبة طبرية، وانتقل إليها، وأقام عندها بطبرية، ومات ملك الفرنج بالشام، وكان مجذوماً، وأوصى بالملك إلى ابن أخت له، وكان صغيراً، فكفه القمص، وقام بسياسة الملك وتدبيره لأنه لم يكن للفرنج ذلك الوقت أكبر من شأناً، ولا أشجع ولا أجود رأياً منه، فطمع في الملك بسبب هذا الصغير؛ فاتفق أن الصغير توفي، فانتقل الملك إلى أمه، فبطل ما كان القمص يحدث نفسه به.
ثم إن هذه الملكة هويت رجلاً من الفرنج الذين قدموا الشام من الغرب اسمه كي، فتزوجته، ونقلت الملك إليه، وجعلت التاج على رأسه، وأحضرت البطريك والقسوس والرهبان والإسبتارية والدواية والبارونية، وأعلمتهم أنها قد ردت الملك إليه، وأشهدتهم عليها بذلك، فأطاعوه، ودانوا له، فعظم ذلك على القمص، وسقط في يديه، طولب بحساب ما جبى من الأموال مدة ولاية ذلك الصبي، فأدعى أنه أنفقه عليه، وزاده ذلك نفوراً، وجاهر بالمشاقة والمباينة، وراسل صلاح الدين، وانتمى إليه، واعتضد به، وطلب منه المساعدة على بلوغ غرضه من الفرنج، ففرح صلاح الدين والمسلمون بذلك، ووعده النصرة، والسعي له في كل ما يريده، وضمن له أنه يجعله ملكاً مستقلاً للفرنج قاطبة، وكان عنده جماعة من فرسان القمص أسرى فأطلقهم، فحل ذلك عنده أعظم محل، وأظهر طاعة صلاح الدين، ووافقه على ما فعل جماعة من الفرنج، فاختلفت كلمتهم وتفرق شملهم، وكان ذلك من أعظم الأسباب الموجبة لفتح بلادهم، واستنفاذ البيت المقدس منهم، على ما نذكره إن شاء الله.
وسير صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية، فشنت الغارات على بلاد الفرنج، وخرجت سالمة غانمة، فوهن الفرنج بذلك، وضعفوا وتجرأ المسلمون عليهم وطمعوا فيهم.
ذكر غدر البرنس أرناطكان البرنس أرناط، صاحب الكرك، من أعظم الفرنج وأخبثهم، وأشدهم عداوة للمسلمين، وأعظمهم ضرراً عليهم، فلما رأى صلاح الدين ذلك منه قصد بالحصر مرة بعد مرة، وبالغارة على بلاده كرة بعد أخرى، فذل، وخضع، وطلب الصلح من صلاح الدين، فأجابه إلى ذلك، وهادنه وتحالفا، وترددت القوافل من الشام إلى مصر، ومن مصر إلى الشام.
فلا كان هذه السنة اجتاز به قافلة عظيمة غزيرة الأموال، كثيرة الرجال، ومعها جماعة صالحة من الأجناد، فغدر اللعين بهم، وأخذهم عن آخرهم، وغنم أموالهم ودوابهم وسلاحهم، وأودع السجون من أسره منهم؛ فأرسل إليه صلاح الدين يلومه، ويقبح فعله وغدره، ويتهدده إن لم يطلب الأسى والأموال، فلم يجب إلى ذلك، وأصر على الامتناع، فنذر صلاح الدين نذراً أن يقتله إن ظفر به، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثكان المنجون قديماً وحديثاً قد حكموا أن هذه السنة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة تجتمع الكواكب الخمسة في برج الميزان، ويحدث باقترانها رياح شديدة، وتراب يهلك العباد ويخرب البلاد، فلما دخلت هذه السنة لم يكن لذلك صحة، ولم يهب من الرياح شيء البتة، حتى إن غلال الحنطة والشعير تأخر نجازها لعدم الهواء الذي يذري به الفلاحون، فأكذب الله أحدوثة المنجمين وأخزاهم.
وفيها توفي عبد الله بن بري بن عبد الجبار بن بري النحوي المصري، وكان إماماً في النحو، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائةاتفق أول هذه السنة يوم السبت، وهو يوم النوروز السلطاني، ورابع عشر آذار سنة ألف وأربع مائة وثمان وتسعين إسكندرية؛ وكان القمر والشمس في الحمل، واتفق أول سنة العرب، وأول سنة الفرس التي جددوها أخيراً، وأول سنة الروم، والشمس والقمر في أول البروج، وهذا يبعد وقوع مثله.
ذكر حصر صلاح الدين الكرك

في هذه السنة كتب صلاح الدين إلى جميع البلاد يستنفر الناس للجهاد، وكتب إلى الموصل وديار الجزيرة وإربل وغيرها من بلاد الشرق، وإلى مصر وسائر بلاد الشام، يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم عليه، ويأمرهم بالتجهز له بغاية الإمكان. ثم خرج من دمشق، أواخر المحرم، في عسكرها الخاص فسار إلى رأس الماء، وتلاحقت به العساكر الشامية، فلما اجتمعوا جعل عليهم ولده الملك الأفضل علياً ليجتمع إليه من يرد إليه منها، وسار هو إلى بصرى، جريدة.
وكان سبب مسيره وقصده إليها أنه أتته الأخبار أن البرنس أرناط، صاحب الكرك، يريد أن يقصد الحجاج ليأخذهم من طريقهم، وأظهر أنه إذا فرغ من أخذ الحجاج يرجع إلى طريق العسكر المصري يصدهم عن الوصول إلى صلاح الدين، فسار إلى بصرى ليمنع البرنس أرناط من طلب الحجاج، ويلزم بلده خوفاً عليه.
وكان من الحجاج جماعة من أقاربه منهم محمد بن لاجين، وهو ابن أخت صلاح الدين، وغيره، فلما سمع أرناط بقرب صلاح الدين من بلده لم يفارقه، وانقطع عما طمع فيه، فوصل الحجاج سالمين؛ فلما وصلوا وفرغ سره من جهتهم سار إلى الكرك فحصره وضيق عليه الكرك والشوبك وغيرهما، فنهبوا وخربوا وأحرقوا، والبرنس محصور لا يقدر على المنع عن بلده، وسائر الفرنج قد لزموا طرف بلادهم، خوفاً من العسكر الذي مع ولده الأفضل، فتمكن من الحصر والنهب والتحريق والتخريب، هذا فعل صلاح الدين.
ذكر الغارة على بلد عكاأرسل صلاح الدين إلى ولده الأفضل يأمره أن يرسل قطعة صالحة من الجيش إلى بلد عكا ينهبونه ويخربونه، فسير مظفر الدين كوكبري بن زين، وهو صاحب حران والرها، وأضاف إليه قايماز النجمي ودلدرم اليارقي، وهما من أكابر الأمراء، وغيرهما، فساروا ليلاً، وصبحوا صفورية أواخر صفر، فخرج إليهم الفرنج في جمع من الدواية والاسبتارية وغيرهما، فالتقوا هناك، وجرت بينهم حرب تشيب لها المفارق السود.
ثم أنزل الله تعالى نصره على المسلمين، فانهزم الفرنج، وقتل منهم جماعة، وأسر الباقون، وفيمن قتل مقدم الاسبتارية، وكان من فرسان الفرنج المشهورين، وله النكايات العظيمة في المسلمين، ونهب المسلمون ما جاورهم من البلاد، وغنموا وسبوا، وعادوا سالمين، وكان عودهم على طبرية، وبها القمص، فلم ينكر ذلك، فكان فتحاً كثيراً، فإن الداوية والاسبتارية هم جمرة الفرنج، وسيرت البشائر إلى البلاد بذلك.
ذكر عود صلاح الدين إلى عسكره

ودخوله إلى الفرنج
لما أتت صلاح الدين البشارة بهزيمة الاسبتارية والدواية، وقتل من قتل منهم، وأسر من أسر، عاد عن الكرك إلى العسكر الذي مع ولده الملك الأفضل، وقد تلاحقت سائر الأمداد والعساكر، واجتمع بهم، وساروا جميعاً، وعرض العسكر، فبلغت عدتهم اثني عشر ألف فارس ممن له الأقطاع والجامكية، وسوى المتطوعة، فعبا عسكره قلباً وجناحين، وميمنة وميسرة، وجالشية وساقة، وعرف كل منهم موضعه وموقفه، وأمره بملازمته، وسار على تعبئة، فنزل بالأقحوانة بقرب طبرية، وكان القمص قد انتمى إلى صلاح الدين، كما ذكرنا، وكبه متصلة إليه يعده النصرة، ويمنيه المعاضدة، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
فلما رأى الفرنج اجتماع العساكر الإسلامية، وتصميم العزم على قصد بلادهم، أرسلوا إلى القمص البطرك والقوس والرهبان، وكثيراً من الفرسان، فأنكروا عليه انتماءه إلى صلاح الدين، و قالوا له: لا شك أنك أسلمت، و إلا لم تصبر على ما فعل المسلمون أمس بالفرنج، يقتلون الداوية والاسبتارية، ويأسرونهم، ويجتازون بهم عليك، وأنت لا تنكر ذلك ولا تمنع عنه؛ ووافقهم على ذلك من عنده من عسكر طبرية وطرابلس، وتهدده البطرك أنه يحرمه، ويفسخ نكاح زوجته، إلى غير ذلك من التهديد؛ فلما رأى القمص شدة الأمر عليه خاف، فاعتذر وتنصل وتاب، فقبلوا عذره، وغفروا زلته، وطلبوا منه الموافقة على المسلمين، والمؤازرة على حفظ بلادهم، فأجابهم إلى المصالحة والانضمام إليهم، والاجتماع معهم، وسار معهم إلى ملك الفرنج، واجتمعت كلمتهم بعد فرقتهم، ولم تغن عنهم من الله شيئاً، وجمعوا فارسهم وراجلهم، ثم ساروا من عكا إلى صفورية، وهم يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، قد ملئت قلوبهم رعباً.
ذكر فتح صلاح الدين طبرية

لما اجتمع الفرنج وساروا إلى صفورية، جمع صلاح الدين أمراءه ووزراءه واستشارهم، فأشار أكثرهم عليه بترك اللقاء، وأن يضعف الفرنج بشن الغارات، وإخراب الولايات ومرة بعد مرة، فقال له بعض أمرائه: الرأي عندي أننا نجوس بلادهم، وننهب، ونخرب، ونحرق، ونسبي، فإن وقف أحد من عسكر الفرنج بن أيدينا لقيناه، فإن الناس بالمشرق يلعنوننا ويقولون ترك قتال الكفار، وأقبل يريد قتال المسلمين؛ والرأي أن نفعل فعلاً نعذر فيه ونكف الألسنة عنا؛ فقال صلاح الدين: الرأي عندي أن نلقي بجمع المسلمين جمع الكفار، فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان، ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا، ولا ينبغي أن نفرق هذا الجمع إلا بعد الجد بالجهاد.
ثم رحل من الأقحوانة، اليوم الخامس من نزوله بها، وهو يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر، فسار حتى خلف طبرية وراء ظهره، وصعد جبلها، وتقدم حتى قارب الفرنج، فلم ير الفرنج من يمنعهم من القتال، ونزل جريدة إلى طبرية وقاتلهم، ونقب بعض أبراجها، وأخذ المدينة عنوة في ليلة، ولجأ من بها إلى القلعة التي لها، فامتنعوا بها، وفيها صاحبتها، ومعها أولادها، فنهب المدينة وأحرقها.
فلما سمع الفرنج نزول صلاح الدين إلى طبرية وملكه المدينة، وأخذ ما فيها، وإحراقها، وإحراق ما تخلف مما لا يحمل، اجتمعوا للمشورة، فأشار بعضهم بالتقدم إلى المسلمين وقتالهم، ومنعهم عن طبرية، فقال القمص: إن طبرية لي ولزوجتي، وقد فعل صلاح الدين بالمدينة ما فعل، وبقي القلعة، وفيها زوجتي، وقد رضيت أن يأخذ القلعة وزوجتي وما لنا بها ويعود، فوالله لقد رأيت عساكر الإسلام قديماً وحديثاً ما رأيت مثل هذا العسكر الذي مع صلاح الدين كثرة وقوة، وإذا أخذ طبرية لا يمكنه المقام بها، فمتى فارقها وعاد عنها أخذناها، وإن أقام بها لا يقدر على المقام بها إلا بجميع عساكره، ولا يقدرون على الصبر طول الزمان عن أوطانهم وأهليهم، فيضطر إلى تركها، ونفتك من أسر منا.
فقال له برنس أرناط، صاحب الكرك: قد أطلت في التخويف من المسلمين، ولا شك أنك تريدهم، وتميل إليهم، وإلا ما كنت تقول هذا، وأما قولك: إنهم كثيرون، فإن النار لا يضرها كثرة الحطب.
فقال: أنا واحد منكم إن تقدمتم تقدمت، وإن تأخرتم تأخرت، وسترون ما يكون.
فقوي عزمهم على التقدم إلى المسلمين وقتالهم، فرحلوا من معسكرهم الذي لزموه، وقربوا من عساكر الإسلام؛ فلما سمع صلاح الدين بذلك عاد عن طبرية إلى عسكره، وكان قريباً منه، وإنما كان قصده بمحاصرة طبرية أن يفارق الفرنج مكانهم لتمكن من قتالهم. وكان المسلمون قد نزلوا على الماء، والزمان قيظ شديد الحر، فوجد الفرنج العطش، ولم يتمكنوا من الوصول إلى ذلك الماء من المسلمين، وكانوا قد أفنوا ما هناك من ماء الصهاريج ولم يتمكنوا من الرجوع خوفاً من المسلمين، فبقوا على حالهم إلى الغد، وهو يوم السبت، وقد أخذ العطش منهم.
وأما المسلمون فإنهم طمعوا فيهم، وكانوا من قبل يخافونهم، فباتوا يحرض بعضهم بعضاً، وقد وجدوا ريح النصر والظفر، وكلما رأوا حال الفرنج خلاف عادتهم مما ركبهم من الخذلان، زاد طمعهم وجرأتهم، فأكثروا التكبير والتهليل طول ليلتهم، ورتب السلطان تلك الليلة الجاليشية، وفرق فيهم النشاب.
ذكر انهزام الفرنج بحطينأصبح صلاح الدين والمسلمون يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر، فركبوا وتقدموا إلى الفرنج، فركب الفرنج، ودنا بعضهم من بعض، إلا أن الفرنج قد اشتد بهم العطش وانخذلوا، فاقتتلوا، واشتد القتال، وصبر الفريقان، ورمى جاليشية المسلمين من النشاب ما كان كالجراد المنتشر، فقتلوا من خيول الفرنج كثيراً. هذا القتال بينهم، والفرنج قد جمعوا نفوسهم براجلهم وهم يقاتلون سائرين نحو طبرية، لعلهم يردون الماء.

فلما علم صلاح الدين مقصدهم صدهم عن مرادهم، ووقف بالعسكر في وجوههم، وطاف بنفسه على المسلمين يحرضهم، ويأمرهم بما يصلحهم، وينهاهم عما يضرهم، والناس يأتمرون لقوله، ويقفون عند نهيه، فحمل مملوك من مماليكه الصبيان حملة منكرة على صف الفرنج، فقاتل قتالاً عجب منه الناس، ثم تكاثر الفرنج عليه فقتلوه، فحين قتل حمل المسلمون حملة منكرة فضعضعوا الكفار وقتلوا منهم كثيراً. فلما رأى القمص شدة الأمر علم أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين، فاتفق هو وجماعته وحملوا على من يليهم وكان المقدم من المسلمين، في تلك الناحية، تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى حملة الفرنج حملة مكروب، علم أنه لا سبيل إلى الوقوف في وجوههم، فأمر أصحابه أن يفتحوا لهم طريقاً يخرجون منه، ففعلوا، فخرج القمص وأصحابه ثم التأم الصف.
وكان بعض المتطوعة من المسلمين قد ألقى في تلك الأرض ناراً، وكان الحشيش كثيراً فاحترق، وكانت الريح على الفرنج، فحملت حر النار والدخان إليهم، فاجتمع عليهم العطش وحر الزمان وحر النار، والدخان، وحر القتال، فلما انهزم القمص سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون، ثم علموا أنهم لا ينجيهم من الموت إلا الإقدام عليه، فحملوا حملات متداركة كادوا يزيلون بها المسلمين، على كثرتهم، عن مواقفهم لولا لطف الله بهم، إلا أن الفرنج لا يحملون حملة فيرجعون إلا وقد قتل منهم، فوهنوا لذلك وهناً عظيماً، فأحاط بهم المسلمون إحاطة الدائرة بقطرها، فارتفع من بقي من الفرنج إلى تل بناحية حطين، وأرادوا أن ينصبوا خيامهم، ويجموا نفوسهم به، فاشتد القتال لعيهم من سائر الجهات، ومنعوهم عما أرادوا، ولم يتمكنوا من نصب خيمة غير خيمة ملكهم، وأخذ المسلمون صليبهم الأعظم الذي يسمونه صليب الصلبوت، ويذكرون أن فيه قطعة من الخشبة التي صلب عليها المسيح، عليه السلام، بزعمهم، فكان أخذه عندهم من أعظم المصائب عليهم، وأيقنوا بعده بالقتل والهلاك، هذا والقتل والأسر يعملان في فرسانهم ورجالتهم، فبقي الملك على التل في مقدار مائة وخمسين فارساً من الفرسان المشهورين والشجعان المذكورين.
فحكي لي عن الملك الأفضل، ولد صلاح الدين، قال: كنت إلى جانب أبي في ذلك الصاف، وهو أول مصاف شاهدته، فلما صار ملك الفرنج على التل في تلك الجماعة حملوا حملة منكرة على من بإزائهم من المسلمين حتى ألحقوهم بوالدي. قال: فنظرت إليه، وقد علته كآبة، وأربد لونه، وأمسك بلحيته، وتقدم، وهو يصيح: كذب الشيطان. قال: فعاد المسلمون على الفرنج، فرجعوا فصعدوا إلى التل، فلما رأيت الفرنج قد عادوا، والمسلمون يتبعونهم، صحت من فرحي: هزمناهم! فعاد الفرنج فحملوا حملة ثانية مثل الأولى حتى ألحقوا المسلمين بوالدي، وفعل مثل ما فعل أولاً، وعطف المسلمون عليهم فألحقوهم بالتل، فصحت أنا أيضاً: هزمناهم! لالتفت والدي إلي وقال: اسكت! ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة، قال: فهو يقول لي، وإذا الخيمة قد سقطت، فنزل السلطان وسجد شكراً لله تعالى، وبكى من فرحه.
وكان سبب سقوطها أن الفرنج لما حملوا تلك الحملات ازدادوا عطشاً، وقد كانوا يرجون الخلاص في بعض تلك الحملات مما هم فيه، فلما لم يجدوا إلى الخلاص طريقاً، نزلوا عن دوابهم وجلسوا على الأرض، فصعد المسلمون إليهم، فألقوا خيمة الملك، وأسروهم على بكرة أبيهم، وفيهم الملك وأخوه والبرنس أرناط، صاحب الكرك، ولم يكن للفرنج أسد منه عداوة للمسلمين، وأسروا أيضاً صاحب جبيل، وابن هنفري، ومقدم الداوية، وكان من أعظم الفرنج شأناً، وأسروا أيضاً جماعة من الداوية، وجماعة من الاسبتارية، وكثر القتل والأسر فيهم، فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحداً، ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا أحداً، وما أصيب الفرنج، منذ خرجوا إلى الساحل، وهو سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن، بمثل هذه الوقعة.

فلما فرغ المسلمون منهم نزل صلاح الدين في خيمته، وأحضر ملك الفرنج عنده، وبرنس صاحب الكرك، وأجلس الملك إلى جانبه وقد أهلكه العطش، فسقاه ماء مثلوجاً، فشرب، وأعطى فضله برنس صاحب الكرك، فشرب، فقال صلاح الدين: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني؛ ثم كلم البرنس، وقرعه بذنوبه، وعدد عليه غدارته، وقام إليه بنفسه فضرب رقبته وقال: كنت نذرت دفعتين أن أقتله إن ظفرت به: إحداهما لما أراد المسير إلى مكة والمدينة، والثانية لما أخذ القفل غدراً؛ فلما قتله وسحب وأخرج ارتعدت فرائض الملك، فسكن جأشه وأمنه.
وأما القمص، صاحب طرابلس، فإنه لما نجا من المعركة، كما ذكرناه، وصل إلى صور، ثم قصد طرابلس، ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى مات غيظاً وحنقاً مما جرى على الفرنج خاصة، وعلى دين النصرانية عامة.
ذكر عود صلاح الدين إلى طبرية

وملك قلعتها مع المدينة
لما فرغ صلاح الدين من هزيمة الفرنج أقام بموضعه باقي يومه، وأصبح يوم الأحد، فعاد إلى طبرية ونازلها، فأرسلت صاحبتها تطلب الأمان لها ولأولادها وأصحابها ومالها، فأجابها إلى ذلك، فخرجت بالجميع، فوفى لها، فسارت آمنة، ثم أمر بالملك وجماعة من أعيان الأسرى فأرسلوا إلى دمشق، وأمر بمن أسر من الداوية والاسبتارية أن يجمعوا ليقتلهم.
ثم علم أن من عنده أسير لا يسمح به لما يرجوا من فدائه، فبذل في كل أسير من هذين الصنفين خمسين ديناراً مصرية، فأحضر عنده في الحال مائتا أسير منهم، فأمر بهم فضربت أعناقهم، وإنما خص هؤلاء بالقتل لأنهم أشد شوكة من جميع الفرنج، فأراح الناس من شرهم؛ وكتب إلى نائبه خص هؤلاء بالقتل لأنهم أشد شوكة من جميع الفرنج، فأراح الناس من شرهم؛ وكتب إلى نائبه بدمشق ليقتل من دخل البلد منهم سواء كان له أو لغيره، ففعل ذلك، ولقد اجتزت بموضع الوقعة بعدها بنحو سنة، فرأيت الأرض ملأى من عظامهم تبين على البعد، منها المجتمع بعضه على بعض، ومنها المفترق، هذا سوى ما جحفته السيول، وأخذته السباع في تلك الأكام والوهاد.
ذكر فتح مدينة عكالما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها يوم الثلاثاء ووصل إلى عكا يوم الأربعاء، وقد صعد أهلها على سورها يظهرون الامتناع والحفظ، فعجب هو والناس من ذلك لأنهم علموا أن عساكرهم من فارس وراجل بين قتيل وأسير، وأنهم لم يسلم منهم إلا القليل، إلا أنه نزل يومه، وركب يوم الخميس، وقد صمم على الزحف إلى البلد وقتاله، فبينما هو ينظر من أين يزحف ويقاتل إذ خرج كثير من ألها يضرعون، ويطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم، وخيرهم بين الإقامة والظعن، فاختاروا الرحيل خوفاً من المسلمين، وساروا عنها متفرقين، وحملوا ما أمكنهم حمله من أموالهم، وتركوا الباقي على حاله.
ودخل المسلمون إليها يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى، وصلوا بها الجمعة في جامع كان للمسلمين قديماً، ثم جعله الفرنج ببيعة، ثم جعله صلاح الدين جامعاً، وهذه الجمعة أول جمعة أقيمت بالساحل الشامي بعد أن ملكه الفرنج. وسلم البلد إلى ولده الأفضل، وأعطى جميع ما كان فيه للداوية من أقطاع وضياع وغير ذلك للفقيه عيسى، وغنم المسلمون ما بقي مما لم يطق الفرنج حمله، وكان من كمثرته يعجز الإحصاء عنه، فرأوا فيها من الذهب والجوهر والسقلاط، والبندقي، والشكر، والسلاح، وغير ذلك من أنواع الأمتعة كثيراً، فإنها كانت مقصداً للتجار الفرنج والروم وغيرهم، من أقصى البلاد وأدناها، وكان كثير منها قد خزنه التجار، وسافروا عنه لكساده، فلم يكن له من ينقله، ففرق صلاح الدين وابنه الأفضل ذلك جميعه على أصحابهما، وأكثر ذلك فعله الأفضل لأنه كان مقيماً بالبلد، وأنت شيمته في الكرم معروفة. و أقام صلاح الدين بعكا عدة أيام لإصلاح حالها. وتقرير قواعدها.
ذكر فتح مجدليابةلما هزم صلاح الدين الفرنج أرسل إلى أخيه العادي بمصر يبشره بذلك، ويأمره بالمسير إلى بلاد الفرنج من جهة مصر بمن بقي عنده من العسكر، ومحاصرة ما يليه منها، فسارع إلى ذلك، وسار عن مصر فنازل حصن مجليابة وحصره وغنم ما فيه. وورد كتابه بذلك إلى صلاح الدين، وكانت بشارة كبيرة.
ذكر فتح عدة حصون

في مدة مقام صلاح الدين بعكا تفرق عسكره إلى الناصرة، وقيسارية، وحيفا، وصفورية، ومعليا، والشقيف، والفولة، وغيرها من البلاد المجاورة لعكا، فملكوها ونهبوها وأسروا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، وقدموا من ذلك بما سد القضاء، وسير تقي الدين فنزل على تبنين ليقطع المرة عنها وعن صور، وسير حسام الدين عمر بن لاجين في عسكره إلى نابلس فدخلها وحصر قلعتها واستنزل من فيها بالأمان، وتسلم القلعة، وأقام أهل البلد به، وأقرهم على أملاكهم وأموالهم.
ذكر فتح يافالما خرج العادل من مصر، وفتح مجدليابة، كما ذكرنا، سار إلى مدينة يافا، وهي على الساحل، فحصرها وملكها عنوة، ونهبها، وأسر الرجال، وسبى الحريم، وجرى على أهلها ما لم يجر على أحد من أهل تلك البلاد.
وكان عندي جارية من أهلها، وأنا بحلب، ومعها طفل عمره نحو سنة، فسقط من يدها فانسلخ وجهه، فبكت عليه كثيراً، فسكنتها وأعلمتها أنه ليس بولدها ما يوجب البكاء؛ فقالت: ما له أبكي، إنما أبكي لما جرى علينا. كان لي ستة أخوة هلكوا جميعهم، وزوج أختان لا أعلم ما كان منهم.
هذا من امرأة واحدة والباقي بالنسبة، ورأيت بحلب امرأة فرنجية قد جاءت مع سيدها إلى باب، فطرقه سيدها، فخرج صاحب البيت فكلمهما، ثم أخرج امرأة فرنجية، فحين رأتها الأخرى صاحتا واعتنقتا، وهما تصرخان وتبكيان، وسقطتا إلى الأرض، ثم قعدتا تتحدثان، وإذا هما أختان؛ وكان لهما عدة من الأهل ليس لهما علم بأحد منهم.
ذكر فتح تبنين وصيدا وجبيل وبيروتفأما تبنين، فقد ذكرنا إنفاذ صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه إلى تبنين، فلما وصلها نازلها، وأقام عليها، فرأى حصرها لا يتم إلا بوصول عمه صلاح الدين إليه، فأرسل إليه يعلمه الحال ويحثه على الوصول إليه، فرحل ثامن جمادى الأولى، ونزل عليه في الحادي عشر منه، فحصرها، وضايقها، وقاتلها بالزحف، وهي من القلاع المنيعة على جبل، فلما ضاق عليهم الأمر واشتد الحصر أطلقوا من عندهم من أسرى المسلمين، وهم يزيدون على مائة رجل، فلما دخلوا العسكر أحضرهم صلاح الدين وكساهم، وأعطاهم نفقة، وسيرهم إلى أهليهم.
وبقي الفرنج كذلك خمسة أيام ثم أرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم على أنفسهم فسلموها إليه، ووفى لهم وسيرهم إلى مأمنهم.
وأما صيدا فإن صلاح الدين لما فرغ من تبنين رحل عنها إلى صيدا، فاجتاز في طريقه بصرفند فأخذها صفواً عفواً بغير قتال، وسار عنها إلى صيدا، وهي من مدن الساحل المعروفة، فلما سمع صاحبها بمسيره نحوه سار عنها وتركها فارغة من مانع ومدافع. فلما وصلها صلاح الدين تسلمها ساعة وصوله وكان ملكها حادي عشر جمادى الأولى. وأما بيروت فهي من أحصن مدن الساحل وأنزهها أطيبها. فلما فتح صلاح الدين صيدا سار عنها من يومه نحو بيروت ووصل إليها من الغد فرأى أهلها قد صعدوا عل سورها وأظهروا القوة والجلد والعدة وقاتلوا على سورها عدة أيام قتالاً شديداً واغتروا بحصانة البلد، وظنوا أنهم قادرون على حفظه، وزحف المسلمون إليهم مرة بعد مرة، فبينما الفرنج على السور يقاتلون إذ سمعوا من البلد جلبة عظيمة وغلبة زائدة، فأتاهم من أخبرهم أن البلد قد دخله المسلمون من الناحية الأخرى قهراً وغلبة، فأرسلوا ينظرون ما الخبر وإذا ليس له صحة، فأرادوا تسكين من به فلم يمكنهم ذلك لكثرة ما اجتمع فيه من السواد، فلما خافوا على أنفسهم من الاختلاف الواقع أرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم على أنفسهم وأموالهم وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى من السنة فكان مدة حصرها ثمانية أيام.
وأما جبيل فإن صاحبها كان من جملة الأسى الذين سيروا إلى دمشق مع ملكهم فتحدث مع نائب صلاح الدين بدمشق في تسليم جبيل على شرط إطلاقه، فعرف صلاح الدين بذلك، فأحضره مقيداً عنده تحت الاستظهار والاحتياط، وكان العسكر حينئذ على بيروت، فسلم حصنه وأطلق أسرى المسلمين الذين به، وأطلقه صلاح الدين كما شرط له، وكان صاحب جبيل هذا من أعيان الفرنج وأصحاب الرأي والمكر والشر به يضرب المثل بينهم، وكان للمسلمين منه عدو أزرق، وكان إطلاقه من الأسباب الموهنة للمسلمين على ما يأتي بيانه.
ذكر خروج المركيش إلى صور

لما انهزم القمص صاحب طرابلس من حطين إلى مدينة صور أقام بها، وهي أعظم بلاد الساحل حصانة وأشدها امتناعاً على من رامها، فلما رأى السلطان قد ملك تبنين وصيدا وبيوت، خاف أن يقصد صلاح الدين صور وهي فارغة ممن يقاتل فيها ويحميها ويمنعها فلا يقوى على حفظها، وتركها وسار إلى مدينة طرابلس فبقيت صور شاغرة لا مانع لها ولا عاصم من المسلمين، فلو بدأ بها صلاح الدين قبل تبنين وغيرها لأخذها بغير مشقة، لكنه استعظمها لحصانتها فأراد أن يفرغ باله مما يجاورها من نواحيها ليسهر أخذها، فكان ذلك سبب حفظها وكان أمر الله قدراً مقدوراً، واتفق أن إنساناً من الفرنج الذين داخل البحر يقال له المركيش، لعنه الله، خرج في البحر بمال كثير للزيارة والتجارة، ولم يشعر بما كان من الفرنج فأرسى بعكا، وقد رابه ما رأى من ترك عوائد الفرنج عند وصول المراكب من الفرنج وضرب الأجراس وغير ذلك، وما رأى أيضاً من زي أهل البلد، فوقف ولم يدر ما الخبر، وكانت الريح قد ركدت، فأرسل الملك الأفضل إليه بعض أصحابه في سفينة يبصر من هو وما يريد، فأتاه القاصد فسأله المركيش عن الأخبار لما أنكره فأخبره بكسرة الفرنج وأخذ عكا وغيرها، وأعلمه أن صور بيد الفرنج وعسقيلان وغيرها، وحكى الأمر له على وجهه فلم يمكنه الحركة لعدم الريح، فرد الرسول يطلب الأمان ليدخل البلد بما معه من متاع ومال، فأجيب إلى ذلك فردده مراراً كل مرة يطلب شيئاً لم يطلبه في المرة الأولى، وهو يفعل ذلك انتظاراً لهبوب الهواء ليسير به، فبينما هو في مراجعاته إذ هبت الريح فسار نحو صور، وسير الملك الأفضل الشواني في طلبه فلم يدركوه، فأتى صور وقد اجتمع بها من الفرنج خلق كثير لأن صلاح الدين كان كلما فتح مدينة من عكا وبيوت وغيرهما ما ذكرنا أعطى أهلها الأمان، فساروا كلهم إلى صور وكثر الجمع بها إلا أنهم ليس لهم رأس يجمعهم، ولا مقدم يقاتل بهم، وليسوا أهل حرب، وهم عازمون على مراسلة صلاح الدين وطلب الأمان وتسليم البلد إليه، فأتاهم المركيش وهم على ذلك العزم، فردهم عنه وقوى نفوسهم وضمن لهم حفظ المدينة وبذل ما معه من الأموال وشرط عليهم أن تكون المدينة وأعمالها له دون غيره، فأجابوه إلى ذلك، فأخذ أيمانهم عليه وأقام عندهم ودبر أحوالهم، وكان من شياطين الإنس حسن التدبير والحفظ، وله شجاعة عظيمة، وشرع في تحصينها فجدد حفر خنادقها وعمل أسوارها، وزاد في حصانتها واتفق من بها على الحفظ والقتال دونها.
ذكر فتح عسقلان وما يجاورهالما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وغيرهما، كان أمر عسقلان والقدس أهم عنده من غيرهما لأسباب منها أنهما على طريق مصر، يقطع بينهما وبين الشام. وكان يختار أن تتصل الولايات له ليسهل خروج العسكر منها ودخولهم إليها، ولما في فتح القدس من الذكر الجميل والصيت العظيم، إلى غير ذلك من الأغراض، فسار عن بيروت نحو عسقلان، واجتمع بأخيه العادل ومن معه من عساكر مصر، ونازلوها يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، وكان صلاح الدين قد أحضر ملك الفرنج ومقدم الداوية إليه من دمشق، وقال لهما: إن سلمتما البلاد إلي فلكما الأمان؛ فأرسلا إلى من بعسقلان من الفرنج يأمرانهم بتسليم البلد، فلم يسمعوا أمرهما وردوا عليهما أقبح رد وجبهوهما بما يسوءهما.
فلما رأى السلطان ذلك جد في قتال المدينة ونصب المجانيق عليها، وزحف مرة بعد أخرى، وتقدم النقابون إلى السور، فنالوا من باشورته شيئاً. هذا وملكهم يكرر المراسلات إليهم بالتسليم، ويشير عليهم، ويعدهم أنه إذا أطلق من الأسر أضرم البلاد على المسلمين ناراً، واستنجد الفرنج من البحر، و أجلب الخيل والرجل إليهم من أقاصي بلاد الفرنج وأدانيها، وهم لا يجيبون إلى ما يقول ولا يسمعون ما يشير به.

ولما رأوا أنهم كل يوم يزدادون ضعفاً ووهناً، وإذا قتل منهم الرجل لا يجدون له عوضاً، ولا لهم نجدة ينتظرونها، راسلوا ملكهم المأسور في تسليم البلد على شروط اقترحوها، فأجابهم صلاح الدين إليها، وكانوا قتلوا في الحصار أميراً كبيراً من المهرانية، فخافوا عند مفارقة البلد أن عشيرته يقتلون منهم بثأره، فاحتاطوا فيما اشترطوا لأنفسهم، فأجيبوا إلى ذلك جميعه، وسلموا المدينة سلخ جمادى الآخرة من السنة، وكانت مدة الحصار أربعة عشر يوماً، وسيرهم صلاح الدين ونساءهم وأموالهم وأولادهم إلى بيت القدس، ووفي لهم بالأمان.
ذكر فتح البلاد والحصون المجاورة لعسقلان.لما فتح صلاح الدين عسقلان أقام بظاهرها، وبث السرايا في أطراف البلاد المجاورة لها، ففتحوا الرملة، والداروم، وغزة، ومشهد إبراهيم الخليل، عليه السلام، ويبنى، وبيت لحم، وبيت جبريل، والنظرون، وكل ما كان للداوية.
ذكر فتح البيت المقدسلما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها من البلاد، على ما تقدم، وكان قد أرسل إلى مصر أخرج الأسطول الذي بها في جمع من المقاتلة، ومقدمهم حسام الدين لؤلؤ الحاجب، وهو معروف بالشجاعة، والشهامة، ويمن النقيبة، فأقاموا في البحر يقطعون الطريق على الفرنج، كلما رأوا لهم مركباً غنموه، وشانياً أخذوه، فحين وصل الأسطول وخلا سره من تلك الناحية سار عن عسقلان إلى البيت المقدس، وكان به البطرك المعظم عندهم، وهو أعظم شأناً من ملكهم، وبه أيضاً باليان بن بيرزان، صاحب الرملة، وكانت مرتبته عندهم تقارب مرتبة الملك، وبه أيضاً من خلص من فرسانهم من حطين، وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل تلك النواحي، عسقلان وغيرها، فاجتمع به كثير من الخلق، كلهم يرى الموت أيسر عليه من أن يملك المسلمون البيت المقدس ويأخذوه منهم، ويرى أن بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه من حفظه، وحصنوه تلك الأيام بما وجدوا إليه سبيلاً، وصعدوا على سوره بحدهم وحديدهم، مجمعين على حفظه والذب عنه بجهدهم وطاقتهم، مظهرين العزم على المناضلة دونه بحسب استطاعتهم، ونصبوا المجانيق على أسواره ليمنعوا من يريد الدنو منه والنزول عليه.
ولما قرب صلاح الدين منه تقدم أمير في جماعة من أصحابه، غير محتاط ولا حذرن فلقيه جمع من الفرنج قد خرجوا من القدس ليكونوا يزكاً، فقاتلوهم، فقتلوه وقتلوا جماعة ممن معه، فأهم المسلمين قتله، وفجعوا بفقده، وساروا حتى نزلوا على القدس منتصف رجب، فلما نزلوا عليه رأى المسلمون على سوره من الرجال ما هالهم، وسمعوا لأهله من الجلبة والضجيج من وسط المدينة ما استدلوا به على كثرة الجمع، و بقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتله، لأنه في غاية الحصانة والامتناع فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال نحو باب عمودا، وكنيسة صهيون، فانتقل إلى هذه الناحية في العشرين من رجب ونزلها، ونصب تلك الليلة المجانيق، فأصبح من الغد وقد فرغ من نصبها، ورمى بها.
ونصب الفرنج على سور البلد مجانيق ورموا بها، وقوتلوا أشد قتال رآه أحد من الناس، كل واحد من الفريقين يرى ذلك ديناً، وحتماً واجباً، فلا يحتاج إلى باعث سلطاني بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون ويزجرون ولا ينزجرون.
وكان خيالة الفرنج كل يوم يخرجون إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون، فيقتل من الفريقين؛ وممن استشهد من المسلمين الأمير عز الدين عيسى ابن مالك، وهو من أكابر الأمراء، وكان أبوه صاحب قلعة جعبر، وكان يصطلي القتال بنفسه كل يوم، فقتل إلى رحمة الله تعالى، وكان محبوباً إلى الخاص والعام، فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم ذلك، وأخذ من قلوبهم، فحملوا حملة رجل واحد، فأزالوا الفرنج عن مواقفهم، فأدخلوهم بلدهم، و وصل المسلمون إلى الخندق، فجاوزه والتصقوا إلى السور فنقبوه، وزحف الرماة يحمونهم، والمجانيق توالي الرمي لتكشف الفرنج عن الأسوار ليتمكن المسلمون من النقب، فلما نقبوه حشوه بما جرت به العادة.

فلما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين، وتحكم المجانيق بالرمي المتدارك، وتمكن النقابين من النقب، وأنهم قد أشرفوا على الهلاك، اجتمع مقدموهم يتشاورون فيما يأتون ويذرون، فاتفق رأيهم على طلب الأمان، وتسليم البيت المقدس إلى صلاح الدين، فأرسلوا جماعة من كبرائهم وأعيانهم في طلب الأمان، فلما ذكروا ذلك للسلطان امتنع من إجابتهم، وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، من القتل والسبي وجزاء السيئة بمثلها. فلما رجع الرسل خائبين محرومين، أسل باليان بن بيرزان وطلب الأمان لنفسه ليحضر عند صلاح الدين في هذا الأمر وتحريره، فأجيب إلى ذلك، وحضر عنده، ورغب في الأمان، وسأل فيه، فلم يجبه إلى ذلك، واستعطفه فلم يعطف عليه، واسترحمه فلم يرحمه.
فلما أيس من ذلك قال له: أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله تعالى، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان، ظناً منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم، وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا أن الموت لا بد منه، فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ونحرق أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغنمون منها ديناراً واحداً ولا درهماً، ولا تسبون وتأسرون رجلاً ولا امرأة، وإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من المواضع، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين، وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة ولا حيواناً إلا قتلناه ثم خرجنا إليكم كلنا فقاتلناكم قتال من يريد أن يحمي دمه ونفسه، وحينئذ لا يقتل الرجل حتى يقتل أمثاله، ونموت أعزاء أو نظفر كراماً.
فاستشار صلاح الدين أصحابه، فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان، وأن لا يخرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه عن أي شيء تنجلي، ونحسب أنهم أسارى بأيدينا، فنبيعهم نفوسهم بما يستقر بيننا وبينهم، فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج، فاستقر أن يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير، ويزن الطفل من الذكور والبنات دينارين، وتزن المرأة خمسة دنانير، فمن أدى ذلك إلى أربعين يوماً فقد نجا، ومن انقضت الأربعون يوماً عنه ولم يؤد ما عليه فقد صار مملوكاً، فبذل باليان بن بيرزان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار، فأجيب إلى ذلك.
وسلمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وكان يوماً مشهوداً، ورفت الأعلام الإسلامية على أسوارها، ورتب صلاح الدين على أبواب البلد، في كل باب، أميناً من الأمراء ليأخذوا من أهله ما استقر عليهم، فاستعملوا الخيانة، ولم يؤدوا فيه أمانة، واقتسم الأمناء الأموال، وتفرقت أيدي سبا، ولو أديت فيه الأمانة لملأ الخزائن، وعم الناس، إنه كان فيه على الضبط ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل سوى من يتبعهم من النساء والولدان، ولا يعجب السامع من ذلك، فإن البلد كبير، واجتمع إليه من تلك النواحي من عسقلان وغيرها، والداروم، والرملة، وغزة، وغيرها من القرى، بحيث امتلأت الطرق والكنائس، وكان الإنسان لا يقدر أن يمشي.
ومن الدليل على كثرة الخلق أن أكثرهم وزن ما استقر من القطيعة، وأطلق باليان بن بيرزان ثمانية عشر ألف رجل وزن عنهم ثلاثين ألف دينار، وبقي بعد هذا جميعه من لم يكن معه ما يعطي، وأخذ أسيراً ستة عشر ألف آدمي ما بين رجل وامرأة وصبي، هذا بالضبط واليقين.
ثم إن جماعة من الأمراء ادعى كل واحد منهم أن جماعة من رعية إقطاعه مقيمون بالبيت المقدس، فيطلقهم ويأخذ هو قطيعتهم، وكان جماعة من الأمراء يلبسون الفرنج زي الجند المسلمين، ويخرجونهم، ويأخذون منهم قطيعة قرروها، واستوهب جماعة من صلاح الدين عدداً من الفرنج، فوهبهم لهم، فأخذوا قطيعتهم، وبالجملة فلم يصل إلى خزائنه إلا القليل.
وكان بالقدس بعض نساء الملوك من الروم قد ترهبت وأقامت به، ومعها من الحشم والعبيد والجواري خلق كثير، ولها من الأموال والجواهر النفيسة شيء عظيم، فطلب الأمان لنفسها ومن معها، فأمنها وسيرها.
وكذلك أيضاً أطلق ملكة القدس التي كان زوجها الذي أسره صلاح الدين قد ملك الفرنج بسببها، ونيابة عنها كان يقوم بالملك، وأطلق مالها وحشمها، واستأذنته في المصير إلى زوجها، وكان حينئذ محبوساً بقلعة نابلس، فأذن لها، فأتته وأقامت عنده.

وأتته أيضاً امرأة للبرنس أرناط صاحب الكرك، وهو الذي قتله صلاح الدين بيده يوم المصاف بحطين، فشفعت في ولدها مأسور، فقال لها صلاح الدين: إن سلمت الكرك أطلقته؛ فسارت إلى الكرك، فلم يسمع منها الفرنج الذين فيه، ولم يسلموه، فلم يطلق ولدها، ولكنه أطلق ما لها ومن تبعها.
وخرج البطريك الكبير الذي للفرنج، ومعه من أموال البيع منها: الصخرة والأقصى، وقمامة وغيرها، ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان له من المال مثل ذلك، فلم يعرض له صلاح الدين، فقيل له ليأخذ ما معه يقوي به المسلمين، فقال: لا أغدر به؛ ولم يأخذ منه غير عشرة دنانير، وسير الجميع ومعهم من يحميهم إلى مدينة صور.
وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب. فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلق جماعة منهم إلى أعلى القبة ليقلعوا الصليب، فلما فعلوا وسقط صاح الناس كلهم صوتاً واحداً من البلد ومن ظاهره المسلمون والفرنج: أما المسلمون فكبروا فرحاً، وأما الفرنج فصاحوا تفجعاً وتوجعاً، فسمع الناس ضجة كادت الأرض أن تميد بهم لعظمها وشدتها.
فلما ملك البلد وفارقه الكفار أمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم، فإن الداوية بنوا غربي الأقصى أبنية ليسكونها، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هري ومستراح وغير ذلك، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم فأعيد إلى الأول، وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس، ففعل ذلك أجمع.
ولما كان الجمعة الأخرى، رابع شعبان، صلى المسلمون فيه الجمعة، ومعهم صلاح الدين، وصلى في قبة صلاح الدين خطيباً وإماماً برسم الصلوات الخمس، وأمر أن يعمل له منبر، فقيل له: إن نور الدين محموداً كان قد عمل بحلب منبراً أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس، فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله، فأمر بإحضاره، فحمل من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة، وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده، رحمه الله.
ولما فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعة تقدم بعمارة المسجد الأقصى واستنفاد الوسع في تحسينه وترصيفه، وتدقيق نقوشه، فأحضروا من الرخام الذي لا يوجد مثله، ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه، قد ادخر على طول السنين، فشرعوا في عمارته، ومحوا ما كان في تلك الأبنية من الصور، وكان الفرنج فرشوا الرخام فوق الصخرة وغيبوها، فأمر بكشفها.
وكان سبب تغطيتها بالفرش أن القسيسين باعوا كثيراً منها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة، فكانوا يشترونه بوزنه ذهباً رجاء بركتها، وكان أحدهم إذا دخل إلى بلاده باليسير منها بني له الكنيسة، ويجعل في مذبحها، فخاف بعض ملوكهم أن تفنى، فأمر بها ففرش فوقها حفظاً لها؛ فلما كشفت نقل إليها صلاح الدين المصاحف الحسنة، و الربعات الجيدة، ورتب القراءة، وأدر عليهم الوظائف الكثيرة، فعاد الإسلام هناك غضاً طرياً، وهذه المكرمة من فتح البيت المقدس لم يفعلها بعد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، غير صلاح الدين، رحمه الله، وكفاه ذلك فخراً وشرفاً.
وأما الفرنج من أله فإنهم أقاموا، وشرعوا في بيع ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم وذخائرهم وأموالهم، وما لا يطيقون حمله، وباعوا ذلك بأرخص الثمن، فاشتراه التجار من أهل العسكر، واشتراه النصارى من أهل القدس الذين ليسوا من الفرنج، فإنهم طلبوا من صلاح الدين أ، يمكنهم من المقام في مساكنهم ويأخذ منهم الجزية، فأجابهم إلى ذلك، فاشتروا حينئذ من أموال الفرنج، وترك الفرنج أيضاً أشياء كثيرة لم يمكنهم بيعها من الأسرة والصناديق والبتيات، وغير ذلك، وتركوا أيضاً من الرخام الذي لا يوجد مثله، من الأساطين والألواح والفص وغيره، شيئاً كثيراً، ثم ساروا.
ذكر رحيل صلاح الدين إلى صور

ومحاصرتها

لما فتح صلاح الدين البيت المقدس أقام بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان يرتب أمور البلد وأحواله، وتقدم بعمل الربط والمدارس، فجعل دار الاسبتار مدرسة للشافعية، وهي في غاية ما يكون من الحسن؛ فلما فرغ من أمر البلد سار إلى مدينة صور، وكانت قد اجتمع فيها من الفرنج عالم كثير، وقد صار المركيش صاحبها والحاكم فيها، وقد ساسهم أحسن سياسة، وبالغ في تحصين البلد، ووصل صلاح الدين إلى عكا، وأقام بها أياماً، فلما سمع المركيش بوصوله إليها جد في عمل سور صور وخنادقها وتعميقها، ووصلها من البحر إلى البحر من الجانب الآخر، فصارت المدينة كالجزيرة في وسط الماء لا يمكن الوصول إليها ولا الدنو منها.
ثم رحل صلاح الدين من عكا، فوصل إلى صور تاسع شهر رمضان، فنزل على نهر قريب من البلد بحيث يراه، حتى اجتمع الناس وتلاحقوا، وسار في الثاني والعشرين من رمضان، فنزل على تل يقارب سور البلد، بحيث يرى القتال، وقسم القتال على العسكر كل جمع منهم له وقت معلوم يقاتلون فيه، بحيث يتصل القتال على أهل البلد لحفظه، وعليه الخنادق التي قد وصلت من البحر إلى البحر، فلا يكاد الطير يطير عليها، فإن المدينة كالكف في البحر، والساعد متصل بالبر والبحر من جانبي الساعد، والقتال إنما هو في الساعد، فزنف المسلمون مرة بالمجانيق، والعرادات، والجروخ، والدبابات، وكان أهل صلاح الدين يتناوبون القتال مثل: ولده الأفضل، وولده الظاهر غازي، وأخيه العادل بن أيوب، وابن أخيه تقي الدين، وكذلك سائر الأمراء.
وكان للفرنج شوان وحراقات يركبون فيها في البحر، ويقفون من جانبي الموضع الذي يقاتل المسلمون منه أهل البلد، فيرمون المسلمين من جانبهم بالجوخ، ويقاتلونهم. وكان ذلك يعظم عليهم، لأن أهل البلد يقاتلونهم من بين أيديهم، وأصحاب الشواني يقاتلونهم من جانبيهم، فكانت سهامهم تنفذ من أحد الجانبين إلى الجانب الآخر لضيق الموضع، فكثرت الجراحات في المسلمين والقتل، ولم يتمكنوا من الدنو إلى البلد؛ فأرسل صلاح الدين إلى الشواني التي جاءت من مصر، وهي عشر قطع، وكانت بعكا، فأحضرها برجالها ومقاتلتها وعدتها، وكانت في البحر تمنع شواني أه صور من الخروج إلى قتال المسلمين، فتمكن المسلمون حينئذ من القرب من البلد، ومن قتالهن فقاتلوه براً وبحراً وضايقوه حتى كادوا يظفرون، فجاءت الأقدار بما لم يكن في الحساب، وذلك أن خمس قطع من شواني المسلمين باتت، في بعض تلك الليالي، مقابل ميناء صور ليمنعوا من الخروج منه والدخول إليه، فباتوا ليلتهم يحرسون، وكان مقدمهم عبد السلام المغربي الموصوف بالحذق في صناعته وشجاعته، فلما كان وقت السحر أمنوا فناموا، فما شعروا إلا بشواني الفرنج قد نازلتهم وضايقتهم، فأوقعت بهم، فقتلوا من أرادوا قتله، وأخذوا الباقين بمراكبهم، وأدخلوهم ميناء صور، والمسلمون في البر ينظرون إليهم، ورمى جماعة من المسلمين أنفسهم من الشواني في البحر، فمنهم من سبح فنجا، ومنهم من غريق.
وتقدم السلطان إلى الشواني الباقية بالمسير إلى بيروت لعدم انتفاعه بها لقلتها، فسارت، فتبعها شواين الفرنج، فحين رأى من في شواني المسلمين الفرنج مجدين في طلبهم ألقوا نفوسهم في شوانيهم إلى البر فنجوا وتركوها، فأخذها صلاح الدين، ونقضها وعاد إلى مقاتلة صور في البر، وكان ذلك قليل الجدوى لضيق المجال.
وفي بعض الأيام خرج الفرنج فقاتلوا المسلمين من وراء خنادقهم، فاشتد القتال بين الفريقين، ودام إلى آخر النهار؛ كان خروجهم قبل العصر، وأسر مهم فارس كبير مشهور، بعد أن كثر القتال والقتل عليه من الفريقين، لما سقط، فلما أسر قتل، وبقوا كذلك عدة أيام.
ذكر الرحيل عن صور إلى عكا

وتفريق العساكر

لما رأى صلاح الدين أن أمر صور يطول رحل عنها، وهذه كانت عادته، متى ثبت البلد بين يديه ضجر منه ومن حصاره فرحل عنه. وكان هذه السنة لم يطل مقامه على مدينة بل فتح الجميع في الأيام القريبة، كما ذكرناه، بغير تعب ولا مشقة. فلما رأى هو وأصحابه شدة أمر صور ملوها، وطلبوا الانتقال عنها، ولم يكن لأحد ذنب في أمرها غير صلاح الدين، فإنه هو جهز إليها جنود الفرنج، وأمدها بالرجال والأموال من أهل عكا وعسقلان والقدس وغير ذلك، كما سبق ذكره؛ كان يعطيهم الأمان ويرسلهم إلى صور، فصار فيها من سلم من فرسان الفرنج بالساحل، بأموالهم وأموال التجار وغيرهم، فحفظوا المدينة وراسلوا الفرنج داخل البحر يستمدونهم، فأجابوهم بالتلبية لدعوتهم، ووعدوهم بالنصرة، وأمروهم بحفظ صور لتكون دار هجرتهم يحتمون بها ويلجأون إليها، فزادهم ذلك حرصاً على حفظها والذب عنها.
وسنذكر إن شاء الله ما صار إليه الأمر بعد ذلك ليعلم أن الملك لا ينبغي أن يترك الحزم، وإن ساعدته الأقدار، فلأن يعجز حازماً خير له من أن يظفر مفرطاً، مضيعاً للحزم، وأعذر له عند الناس.
ولما أراد الرحيل استشار أمراءه، فاختلفوا، فجماعة يقولون: الرأي أن نرحل، فقد جرح الرجال، وقتلوا، وملوا، وفنيت النفقات، وهذا الشتاء قد حضر، والشوط بطين، فنريح ونستريح في هذا البرد، فإذا جاء الربيع اجتمعنا وعاودناها وغيرها. وكان هذا قول الأغنياء منهم، وكأنهم خافوا أن السلطان يقترض منهم ما ينفقه في العسكر إذا أقام لخلو الخزائن وبيوت الأموال من الدرهم والدينار، فإنه كان يخرج كل ما حمل إليه منها. وقالت الطائفة الأخرى: الرأي أن نصابر البلد ونضايقه، فهو الذي يعتمدون عليه من حصونهم، ومتى أخذناه منهم انقطع طمع من داخل البحر من هذا الجانب وأخذنا باقي البلاد صفواً عفواً.
فبقي صلاح الدين متردداً بين الرحيل والإقامة، فلما رأى من يرى الرحيل إقامته أخل بما رد إليه من المحاربة والرمي بالمنجنيق، واعتذروا بجراح رجالهم، وأنهم قد أرسلوا بعضهم ليحضروا نفقاتهم والعلوفات لدوابهم والأقوات لهم، إلى غير ذلك من الأعذار، فصاروا مقيمين بغير قتال، فاضطر إلى الرحيل، فرحل عنها آخر شوال، وكان أول كانون الأول، إلى عكا، فأذن للعساكر جميعها بالعود إلى أوطانهم والاستراحة في الشتاء، والعود في الربيع، فعادت عساكر الشرق والموصل وغيرها، وعساكر الشام، وعساكر مصرن وبقي حلقته الخاص مقيماً بعكا، فنزل بقلعتها، ورد أمر البلد إلى عز الدين جورديك، وهو من أكابر المماليك النورية، جمع الديانة والشجاعة وحسن السيرة.
ذكر فتح هونينلما فتح صلاح الدين تبنين امتنع من بهونين من تسليمها، وهي من أحسن القلاع وأمنعها، فلم ير التعريج عليها ولا الاشتغال بمحاصرتها، بل سير إليها جماعة من العسكر والأمراء فحصروها، ومنعوا من حمل الميرة إليها؛ واشتغل بما تقدم ذكره من فتح عسقلان والبيت المقدس وغير ذلك، فلما كان يحاصر مدينة صور أرسل من فيها يطلبون الأمان، فأمنهم، فسلموا، ونزلوا منها فوفى لهم بأمانهم.
ذكر حصر صفد وكوكب والكركلما سار صلاح الدين إلى عسقلان جعل على قلعة كوكب، وهي مطلة على الأردن، من يحصرها، ويحفظ الطريق للمجتازين لئلا ينزل من به من الفرنج يقطعونه، وسير طائفة أخرى من العسكر أيضاً إلى قلعة صفد فحصروها، وهي مطلة على مدينة طبرية.
وكان حصن كوكب للإسبتار، وحصن صفد للداوية، وهما قريبان من حطين، موضع المصاف، فلجأ إليها جمع ممن سلم من الداوية والإسبتار فحموهما، فلما حصرهما المسلمون استراح الناس من شر من فيهما، واتصلت الطرق حتى كان يسير فيها المنفرد فلا يخاف.

وكان مقدم الجماعة الذين يحصرون قلعة كوكب أميراً يقال له سيف الدين، وهو أخو جاولي الأسدي، وكان شهماً شجاعاً، يرجع إلى دين وعبادة، فأقام عليه إلى آخر شوال، وكان أصحابه يحرسون نوباً مرتبة، فلما كان آخر ليلة من شوال غفل الذي كانت نوبته في الحراسة، وكان قد صلى ورده من الليل إلى السحر، وكانت ليلة كثيرة الرعد والبرق، والريح والمطر، فلم يشعر المسلمون وهم نازلون إلا والفرنج قد خالطوهم بالسيوف، ووضعوا السلاح فيهم، فقتلوهم أجمعين، وأخذوا ما كان عندهم من طعام وسلاح وغيره وعادوا إلى قلعتهم، فقووا بذلك قوة عظيمة أمكنتهم أن يحفظوا قلعتهم إلى أن أخذت أواخر سنة أربع وثمانين، على ما سنذكره إن شاء الله.
وأتى الخبر إلى صلاح الدين بذلك، عند رحيله عن صور، فعظم ذلك عليه، مضافاً إلى ما ناله من أخذ شوانيه ومن فيها، ورحيله عن صور، ثم رتب على حصن كوكب الأمير قايماز النجمي في جماعة أخرى من الأجناد، فحصروها.
ذكر الفتنة بعرفات وقتل ابن المقدمفي هذه السنة، يوم عرفة، قتل شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم بعرفات، وهو أكبر الأمراء الصلاحية، وقد تقدم من ذكره ما فيه كفاية.
وسبب قتله أنه لما فتح المسلمون البيت المقدس طلب إذناً من صلاح الدين ليحج ويحرم من القدس، ويجمع في سنة بين الجهاد والحج وزيارة الخليل، عليه السلام، وما بالشام من مشاهد الأنبياء، وبين زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، فأذن له. وكان قد اجتمع تلك السنة من الحجاج بالشام الخلق العظيم من البلاد: العراق، والموصل، وديار بكر، والجزيرة، وخلاط، وبلاد الروم ومصر وغيرها، ليجمعوا بين زيارة البيت المقدس ومكة، فجعل ابن المقدم أميراً عليهم فساروا حتى وصلوا إلى عرفات سالمين، ووقفوا في تلك المشاعر، وأدوا الواجب والسنة.
فلما كان عشية عرفة تجهز هو وأصحابه ليسيروا من عرفات، فأمر بضرب كوساته التي هي أمارة الرحيل، فضربها أصحابه، فأرسل إليه أمير الحاج العراقي، وهو مجبر الدين طاش تكين، ينهاه عن الإفاضة من عرفات قبله، ويأمره بكف أصحابه عن ضرب كوساته، فأرسل إليه : إني ليس لي معك تعلق، أنت أمير الحاج العراقي، وأنا أمير الحاج الشامي، وكل منا يفعل ما يراه ويختاره؛ وسار ولم يقف، ولم يسمع قوله، فلما رأى طاش تكين إصراره على مخالفته ركب في أصحابه وأجناده، وتبعه من غوغاء الحاج العراقي وبطاطيهم، وطاعتهم، والعالم الكثير، والجم الغفير، وقصدوا حاج الشام مهولين عليهم، فلما قربوا منهم خرج الأمر من الضبط، وعجزوا عن تلافيه، فهجم طماعة العراق على حاج الشام وفتكوا فيهم، وقتلوا جماعة ونهيت أموالهم وسبيت جماعة من نسائهم، إلا أنهن رددن عليهم، وجرح ابن المقدم عدة جراحات، وكان يكف أصحابه عن القتال، ولو أذن لهم لانتصف منهم وزاد، لكنه راقب الله تعالى، وحرمة المكان واليوم، فلما أثخن بالجراحات أخذه طاش تكين إلى خيمته، وأنزله عنده ليمرضه ويستدرك الفارط في حقه، وساروا تلك الليلة من عرفات، فلما كان الغد مات بمنى، ودفن بمقبرة المعلى، ورزق الشهادة بعد الجهاد، و شهود فتح البيت المقدس، رحمه الله تعالى.
ذكر قوة السلطان طغرل على قزلفي هذه السنة قوي أمر السلطان طغرل، وكثر جمعه، وملك كثيراً من البلاد، فأرسل قزل إلى الخليفة يستنجده، ويخوفه من طغرل، ويبذل من نفسه الطاعة والتصرف على ما يختارونه، وأرسل طغرل رسولاً إلى بغداد يقول: أريد أن يتقدم الديوان بعمارة دار السلطنة لأسكنها إذا وصلت؛ فأكرم رسول قزل ووعده بالنجدة، ورد رسول السلطان طغرل بغير جواب، وأمر الخليفة بنقض دار السلطنة، فهدمت إلى الأرض وعفي أثرها.
ذكر ملك شرستي من الهند وغيرها وانهزام المسلمين بعدهافي آخر هذه السنة سار شهاب الدين الغوري، ملك غزنة، إلى بلاد الهند، وقصد بلاد أجمير، وتعرف بولاية السوالك، واسم ملكهم كولة، وكان شجاعاً شهماً، فلما دخل المسلمون بلاده ملكوا مدينة تبرندة، وهي حصن منيع عامر، وملكوا شرستي، وملكوا كورام.

فلما سمع ملكهم جمع العساكر فأكثر، وسار إلى المسلمين، فالتقوا، وقامت الحرب على ساق، وكان مع الهند أربعة عشر فيلاً، فلما اشتدت الحرب انهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم، فقال لشهاب الدين بعض خواصه: قد انكسرت الميمنة والميسرة، فانج بنفسك لا يهلك المسلمون؛ فأخذ شهاب الدين الرمح وحمل على الهنود، فوصل إلى الفيلة، فطعن فيلاً منها في كتفه، وجرح الفيل لا يندمل، فلما وصل شهاب الدين إلى الفيلة زرقه بعض الهنود بحربة، فوقعت الحربة في ساعده، فنفذت الحربة من الجانب الآخر، فوقع حينئذ إلى الأرض، فقاتل عليه أصحابه ليخلصوه، وحرصت الهنود على أخذه، وكان عنده حرب لم يسمع بمثلها، وأخذه أصحابه فركبوه فرسه وعادوا به منهزمين، فلم يتبعهم الهنود، فلما أبعدوا عن موضع الوقعة بمقدار فرسخ أغمي على شهاب الدين من كثرة خروج الدم، فحمله الرجال على أكتافهم في محفة اليد أربعة وعشرين فرسخاً، فلما وصل إلى لهاوور أخذ الأمراء الغورية، وهم الذين انهزموا ولم يثبتوا، وعلق على كل واحد منم عليق شعير؛ وقال: أنتم دواب ما أنتم أمراء! وسار إلى غزنة، وأمر بعضهم فمشى إليها ماشياً، فلما وصل إلى غزنة أقام بها ليستريح الناس، ونذكر ما فعله بملك الهند الذي هزمه سنة ثمان وثمانين إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، قتل مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب، وهو أستاذ دار الخليفة، أمر الخليفة بقتله، وكان متحكماً في الدولة، ليس للخليفة معه حكم؛ وكان هو القيم بالبيعة له، وظهر له أموال عظيمة، أخذ جميعها، وان حسن السيرة عفيفاً عن الأموال، وكان الذي سعى به إنسان من أصحابه وصنائعه، يقال له عبيد الله بن يونس، فسعى به إلى الخليفة، وقبح آثاره، فقبض عليه وقتله.
وفيها، في ربيع الآخر، وقع حريق في الحظائر ببغداد، واحترقت أحطاب كثيرة، وسببه أن فقيهاً بالمدرسة النظامية كان يطبخ طعاماً يأكله، فغفل عن النار والطبيخ، فعلقت النار واتصلت إلى الحظائر، فاحترقت جميعها، واحترق درب السلسلة وغيره مما يجاوره.
وفيها، في شوال، استوزر الخليفة الناصر لدين الله أبا المظفر عبيد الله ابن يونس، ولقبه جلال الدين، ومشى أرباب الدولة في ركابه، حتى قضى القضاة، وكان ابن يونس من شهوده. وكان يمشي ويقول: لعن الله طول العمر.
وفيها، في المحرم، توفي عبد المغيث بن زهير الحري ببغداد، وكان من أعيان الحنابلة، قد سمع الحديث الكثير، وصنف كتاباً في فضائل يزيد ابن معاوية أتى فيه بالعجائب، وقد رد عليه أبو الفرج بن الجوزي، وكان بنيهما عداوة.
وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، وولي قضاء القضاة للمقتفي بعد موت الزينبي، ثم للمستنجد بالله، ثم عزل، ثم أعيد إلى المستضيء بأمر الله.
وفيها توفي الوزير جلال الدين أبو الحسن علي بن جمال الدين أبي جعفر محمد بن أبي منصور وزير صاحب الموصل، وهو الجواد ابن الجواد، وقد ذكرنا من أخباره وأخبار أبيه ما يعلم به محلهما، وحمل إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فدفن بها عند أبيه علي بن خطاب بن ظفر الشيخ الصالح من جزيرة ابن عمر، وكان من الأولياء أرباب الكرامات، وصحبته أنا مدة، فلم أر مثله حسن خلق وسمت وكرم وعبادة، رحمه الله.
وفيها ولدت امرأة من سواد بغداد بنتاً لها أسنان.
وفيها توفي نصر بن فتيان بن مطر أبو الفتح بن المني الفقيه الحنبلي، لم يكن لهم مثله، رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة

ذكر حصر صلاح الدين كوكب
في هذه السنة، في المحرم انحسر الشتاء، فسار صلاح الدين من عكا فيمن تخلف عنده من العسكر إلى قلعة كوكب، فحصرها، ونازلها، ظناً منه أن ملكها سهل وأن أخذها، وهو في قلة من العسكر، متيسر، فلما رآها عالية منيعة أدرك أن الوصول إليها متعذر، وكان عنده منها ومن صفد والكرك المقيم المقعد، لأن البلاد الساحلية، من عكا إلى جهة الجنوب، كانت قد ملك جميعها، ما عدا هذه الحصون، وكان يختار أن يبقى في وسطها ما يشغل قلبه، ويقسم همه، ويحتاج إلى حفظه، ولئلا ينال الرعايا والمجتازين منهم الضرر والعظيم.

فلما حصر كوكب، ورآها منيعة، يبطئ ملكها وأخذها، رحل عنها، وجعل عليها قايماز النجمي، مستديماً لحصاره. وكان رحيله عنها في ربيع الأول. وأتاه رسل الملك قلج أرسلان. وقزل أرسلان وغيرهما. وينئونه بالفتح والظفر، وسار من كوكب إلى دمشق، ففرح الناس بقدومه، وكتب إلى البلاد جميعها باجتماع العساكر. وأقام بها إلى أن سار إلى الساحل.
ذكر رحيل صلاح الدين إلى بلد الفرنجلما أراد صلاح الدين المسير عن دمشق حضر عند القاضي الفاضل مودعاً له ومستشيراً، وكان مريضاً، وودعه وسار عن دمشق منتصف ربيع الأول إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس، غربي حمص، وجاءته العساكر: فأول من أتاه من أصحاب الأطراف عماد الدين زنكي بن مودود بن اقسنقر. صاحب سنجار، ونصيبين. الخابور، وتلاحقت العساكر من الموصل وديار الجزيرة وغيرها. فاجتمعت عليه، وكثرت عنده. فسار حتى نزل تحت حصن الأكراد من الجانب الشرقي؛ وكنت معه حينئذ، فأقام يومين، وسار جريدة، وترك أثقال العسكر موضعها تحت الحصن، ودخل إلى بلد الفرنج، فأغار على صافيثا، والعريمة، ويحمور، وغيرها من البلاد والولايات، ووصل إلى قرب طرابلس، وأبصر البلاد، وعرف من أين يأتيها، وأين يسلك منها، ثم عاد إلى معسكره سالماً.
وقد غنم العسكر من الدواب، على اختلاف أنواعها، ما لا حد له، وأقام تحت حصن الأكراد إلى آخر ربيع الآخر.
ذكر فتح جبلةلما أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد، أتاه قاضي جبلة، وهو منصور بن نبيل، يستدعيه إليها ليسلمها إليه، وكان هذا القاضي عند بيمند، صاحب أنطاكية وجبلة، مسموع القول مقبول الكلمة، له الحرمة الوافرة، والمنزلة العالية، وهو يحكم على جميع المسلمين، بجبلة ونواحيها، على ما يتعلق بالبيمند، فحملته الغيرة للدين على قصد السلطان، وتكفل له بفتح جبلة ولاذقية والبلاد الشمالية، فسار صلاح الدين معه رابع جمادى الأولى، فنزل بأنطرطوس سادسه، فرأى الفرنج قد أخلوا المدينة، واحتموا في برجين حصينين، كل واحد منهما قلعة حصينة ومعقل منيع، فخرب المسلمون دورهم ومساكنهم وسور البلد، ونهبوا ما وجدوه من ذخائرهم.
وكان الداوية بأحد البرجين، فحصرهما صلاح الدين، فنزل إليه من في أحد البرجين بأمان وسلموه، فأمنهم، وخرب البرج وألقى حجارته في البحر، وبقي الذي فيه الداوية لم يسلموه، وكان معهم مقدمهم الذي أسره صلاح الدين يوم المصاف، وكان قد أطلقه لما ملك البيت المقدس، فهو الذي حفظ هذا الحصن، فخرب صلاح الدين ولاية أنطرطوس، ورحل عنها وأتى مرقية، وقد أخلاها أهلها، ورحلوا عنها، وساروا إلى المرقب، وهو من حصونهم التي لا ترام، ولا يحدث أحد نفسه بملكه لعلوه وامتناعه، وهو للإسبتار، والطريق تحته، فيكون الحصن على يمين المجتاز إلى جبلة، والبحر عن يساره، والطريق مضيق لا يسلكه إلا الواحد بعد الواحد.
فاتفق أن صاحب صقلية من الفرنج قد سير نجدة إلى فرنج الساحل في ستين قطعة من الشواني، وكانوا بطرابلس، فلما سمعوا بمسير صلاح الدين جاؤوا ووقفوا في البحر، تحت المرقب، في شوانيهم، ليمنعوا من يجتاز بالسهام. فلما رأى صلا الدين ذلك أمر بالطارقيات والجفتيات، فصفت على الطريق ما يلي البحر من أول المضيق إلى آخره، وجعل وراءها الرماة، فمنعوا الفرنج من الدنو إليهم. فاجتاز المسلمون عن آخرهم، حتى عبروا المضيق ووصلوا إلى جبلة ثامن عشر جمادى الأولى. وتسلمها وقت وصوله.
وكان قاضيها قد سبق إليها ودخل. فلما وصل صلاح الدين رفع أعلامه على سورها وسلمها إليه ، وتحصن الفرنج الذين كانوا بها بحصنها، واحتموا بقلعتها، فما زال قاضي جبلة يخوفهم ويرغبهم، حتى استنزلهم بشرط الأمان، وأن يأخذ رهائنهم يكونون عنده إلى أن يطلق الفرنج رهائن المسلمين من أهل جبلة.

وكان بيمند. صاحبها، قد أخذ رهائن القاضي ومسلمي جبلة، وتركهم عنده بأنطاكية، فأخذ القاضي رهائن الفرنج فأنزلهم عنده حتى أطلق بيمند رهائن المسلمين فأطلق المسلمون رهائن الفرنج، وجاء رؤساء أهل الجبل إلى صلاح الدين بطاعة أهله، وهو من أمنع الجبال وأشقها مسلكاً، وفيه حصن يعرف ببكسرائيل، بين جبلة ومدينة حماة، فملكه المسلمون، وصار الطريق في هذا الوقت عليه من بلاد الإسلام إلى العسكر، وكان الناس يلقون شدة في سلوكه. وقرر صلاح الدين أحوال جبلة، وجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية، صاحب شيزر، وسار عنها.
ذكر فتح لاذقيةلما فرغ السلطان من أمر جبلة، سار عنها إلى لاذقية، فوصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، فترك الفرنج المدينة لعجزهم عن حفظها، وصعدوا إلى حصنين لها على الجبل فامتنعوا بهما، فدخل المسلمون المدينة وحصروا القلعتين اللتين فيهما الفرنج، وزحفوا إليهما، ونقبوا السور ستين ذراعاً، وعلقوه، وعظم القتال، واشتد الأمر عند الوصول إلى السور؛ فلما أيقن الفرنج بالعطب، ودخل إليهم قاضي جبلة فخوفهم من المسلمين، طلبوا الأمان فأمنهم صلاح الدين، ورفعوا الأعلام الإسلامية إلى الحصنين، وكان ذلك في اليوم الثالث من النزول عليها.
وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعها، فخرب المسلمون كثيراً منها، ونقلوا رخامها، وشعثوا كثيراً من بيعها التي قد غرم على كل واحد منها الأموال الجليلة المقدار، وسلمها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر، فعمرها، وحصن قلعتها، حتى إذا رآها اليوم من رآها قبل ينكرها، فلا يظن أن هذه تلك؛ وكان عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة الوافرة عليها، كما فعل بقلعة حماة.
ذكر حال أسطول صقليةلما نازل صلاح الدين لاذقية جاء أسطول صقلية الذي تقدم ذكره، فوقف بإزاء ميناء لاذقية، فلما سلمها الفرنج الذين بها إلى صلاح الدين، عزم أهل هذا الأسطول على أخذ من يخرج منها من أهلها غيظاً وحنقاً، حيث سلموها سريعاً، فسمع بذلك أهل لاذقية، فأقاموا، وبذلوا الجزية، وكان سبب مقامهم.
ثم إن مقدم هذا الأسطول طلب من السلطان الأمان ليحضر عنده، فأمنع، وحضر وقبل الأرض بين يديه، وقال ما معناه: إنك سلطان رحيم وكريم، وقد فعلت بالفرنج ما فعلت فذلوا، فاتركهم يكونون مماليكك وجندك تفتح بهم البلاد والممالك، وترد عليهم بلادهم، وإلا جاءك من البحر ما لا طاقة لك به، فيعظم عليك الأمر ويشتد الحال.
فأجابه صلاح الدين بنحو من كلامه من إظهار القوة والاستهانة بكل من يجيء من البحر، وإنهم إن خرجوا أذاقهم ما أذاق أصحابهم من القتل والأسر؛ فصلب على وجهه، ورجع إلى أصحابه.
ذكر فتح صهيون وعدة من الحصونثم رحل صلاح الدين عن لاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى، وقصد قلعة صهيون، وهي قلعة منيعة شاهقة في الهواء، صعبة المرتقى، على قرنة جبل، يطيف بها واد عميق، فيه ضيق في بعض المواضع، بحيث إن حجر المنجنيق يصل منه إلى الحصن، إلا أن الجبل متصل بها من جهة الشمال، وقد عملوا لها خندقاً عميقاً لا يرى قعره، وخمسة أسوار منيعة، فنزل صلاح الدين على هذا الجبل الملتصق بها، ونصب عليه المجانيق ورماها، وتقدم إلى ولده الظاهر، صاحب حلب، فنزل على المكان الضيق من الوادي، ونصب عليه المجانيق أيضاً، فرمى الحصن منه.
وكان معه من الرجالة الحلبيين كثير، وهم في الشجاعة بالمنزلة المشهورة، ودام رشق السهام من قسي اليد، والجرخ، والزنبورك، والزيار، فجرح أكثر من بالحصن، وهم يظهرون التجلد والامتناع، وزحف المسلمون إليهم ثاني جمادى الآخرة، فتعلقوا بقرنة من ذلك الجبل قد أغفل الفرنج إحكامها، فتسلقوا منها بين الصخور، حتى التحقوا بالسور الأول فقاتلوهم عليه حتى ملكوه، ثم إنهم قاتلوهم على باقي الأسوار فملكا منها ثلاثة وغنموا ما فيها من أبقار ودواب وذخائر وغير ذلك، واحتمى الفرنج بالقلة التي للقلعة، فقاتلهم المسلمون عليها، فنادوا وطلبوا الأمان، فلم يجبهم صلاح الدين إليه، فقرروا على أنفسهم مثل قطيعة البيت المقدس، وتسلم الحصن وسلمه إلى أمير يقال له ناصر الدين منكوبرس، صاح قلعة أبي قبيس، فحصنه وجعله من أحصن الحصون.

ولما ملك المسلمون صهيون تفرقوا في تلك النواحي، فملكوا حصن بلاطنوس، وكان من به من الفرنج قد هربوا منه وتركوه خوفاً ورعباً. وملك أيضاً حصن العيدو، وحصن الجماهرتين، فاتسعت المملكة الإسلامية بتلك الناحية، إلا أن الطريق إليها من البلاد الإسلامية على عقبة بكسرائيل شاق شديد، لان الطريق السهلة كانت غير مسلوكة، لأن بعضها بيد الإسماعيلية، وبعضها بيد الفرنج.
ذكر فتح حصن بكاس والشغرثم سار صلاح الدين عن صهيون، ثالث جمادى الآخرة، فوصل إلى قلعة بكاس فرأى الفرنج قد أخلوها، وتحصنوا بقلعة الشغر، فملك قلعة بكاس بغير قتال، وتقدم إلى قلعة الشغر وحصرها، وهي وبكاس على الطريق السهل المسلوك إلى لاذقية وجبلة، والبلاد التي افتتحها صلاح الدين من بلاد الشام الإسلامية.
فلما نازلها رآها منيعة حصينة لا ترام، ولا يوصل إليها بطريق من الطرق؛ إلا أنه أمر بمزاحفتهم ونصب منجنيق عليهم، ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيق، فلم يصل من أحجاره إلى القلعة شيء إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمون عليه أياماً لا يرون فيه طمعاً، وأهله غير مهتمين بالقتال لامتناعهم عن ضرر يتطرق إليهم، وبلاء ينزل عليهم.
فبينما صلاح الدين جالس، وعنده أصحابه، وهم في ذكر القلعة وإعمال الحلية في الوصول إليها. قال بعضهم: هذا الحصن كما قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) الكهف 97، فقال صلاح الدين: أو يأتي الله بنصر من عنده وفتح.
فبينما هم في هذا الحديث إذ قد أشرف عليهم فرنجي ونادى بطلب الأمان لرسول يحضر عند صلاح الدين، فأجيب إلى ذلك، ونزل رسول، وسأل إنظارهم ثلاثة أيام، فإن جاءهم من يمنعهم، وإلا سلموا القلعة بما فيها من ذخائر ودواب وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائنهم على الوفاء به.
فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه، واتفق يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة؛ وكان سبب استمهالهم أنهم أرسلوا إلى البيمند، صاحب أنطاكية، وكان هذا الحصن له، يعرفونه أنهم محصورون، ويطلبون منه أن يرحل عنهم المسلمين، فإن فعل، إلا سلموها، وإنما فعلوا ذلك لرعب قذفه الله تعالى في قلوبهم، وإلا فلو أقاموا الدهر الطويل لم يصل إليهم أحد، ولا بلغ المسلمون منهم غرضاً؛ فلما تسلم صلاح الدين الحصن سلمه إلى أمير يقال له قلج، وأمره بعمارته، ورحل عنه.
ذكر فتح سرمينيةلما كان صلاح الدين مشغولاً بهذه القلاع والحصون، سير ولده الظاهر غازي، صاحب حلب، فحصر سرمينية، وضيق على أهلها، واستنزلهم على قطيعة قررها عليهم، فلما أنزلهم، وأخذ منهم المقاطعة، هدم الحصن وعفى أثره وعالي بنيانه.
وكان فيه وفي هذه الحصون من أسارى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا، وأعطوا كسوة ونفقة، وكان فتحه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة.
واتفق أن فتح هذه المدن والحصون جميعها من جبلة إلى سرمينية، مع كثرتها، كان في ست جمع مع أنها في أيدي أشجع الناس وأشدهم عداوة للمسلمين، فسبحان من إذا أراد أن يسهل الصعب فعل؛ وهي جميعها من أعمال أنطاكية، ولم يبق لها سوى القصير، وبغراس، ودرب ساك، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه.
ذكر فتح برزيةلما رحل صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية، وكانت قد وصفت له، وهي تقابل حصن أفامية، وتناصفها في أعمالها، وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصي وعيون تتفجر من جبيل برزية وغيره، وكان أهلها أضر شيء على المسلمين، يقطعون الطريق، ويبالغون في الأذى، فلما وصل إليها نزل شرقيها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ثم ركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعاً يقاتلها منه، فلم يجد إلا من جهة الغرب، فنصب له هناك خيمة صغيرة، ونزل فيها ومعه بعض العسكر جريدة لضيق المواضع.
وهذا القلعة لا يمكن أن تقاتل من جهة الشمال والجنوب البتة، فإنها لا يقدر أحد أن يصعد جبلها من هاتين الجهتين، وأما الجانب الشرقي فيمكن الصعود منه لكن لغير مقاتل، لعلوه وصعوبته، وأما جهة الغرب فإن الوادي المطيف بجبلها قد ارتفع هناك ارتفاعاً كثيراً، حتى قارب القلعة، بحيث يصل منه حجر المنجنيق والسهام، فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق، ونصب أهل القلعة عليها منجنيقاً بطلها.

ورأيت أنا من رأس جبل عال يشرف على القلعة، لكنه لا يصل منه شيء إليها، امرأة ترمي من القلعة عن المنجنيق، وهي التي بطلت منجنيق المسلمين، فلما رأى صلاح الدين أن المنجنيق لا ينتفعون به، عزم على الزحف، ومكاثرة أهلها بجموعه، فقسم عسكره ثلاثة أقسام: يزحف قسم، فإذا تعبوا وكلوا عادوا وزحف القسم الثاني، فإذا تعبوا وضجروا عادا وزحف القسم الثالث، ثم يدور الدور مرة بعد أخرى حتى يتعب الفرنج وينصبوا، فإنهم لم يكن عندهم من الكثرة ما يتقسمون كذلك، فإذا تعبوا وأعيوا سلموا القلعة.
فلما كان الغد، وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة، تقدم أحد الأقسام، وكان المقدم عليهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، صاحب سنجار، وزحفوا، وخرج الفرنج من حصنهم، فقاتلهم على فصليهم، ورماهم المسلمون بالسهام من وراء الجفتيات والجنويات والطارقيات، ومشوا إليهم حتى قربوا إلى الجبل، فلا قاربوا الفرنج عجوزا عن الدنو منهم لخشونة المرتقى، وتسلط الفرنج عليهم، لعلو مكانهم، بالنشاب والحجارة، فإنهم كانوا يلقون الحجارة الكبار فتتدحرج إلى أسفل الجبل، فلا يقوم لها شيء.
فلما تعب هذا القسم انحدروا، وصعد القسم الثاني، وكانوا جلوساً ينتظرونهم، وهم حلقة صلاح الدين الخاص، فقاتلوا قتالاً شديداً، وكان الزمان حراً شديداً، فاشتد الكرب على الناس، وصلاح الدين في سلاحه يطوف عليهم ويحرضهم، وكان تقي الدين ابن أخيه كذلك، فقاتلوهم إلى قريب الظهر ثم تعبوا، ورجعوا.
فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقدم إليهم وبيده جماق يردهم، وصاح في القسم الثالث، وهم جلوس ينتظرون نوبتهم، فوثبوا ملبين، وساعدوا إخوانهم، وزحفوا معهم، فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به، وكان أصحاب عماد الدين قد استراحوا، فقاموا أيضاً معهم، فحينئذ اشتد الأمر على الفرنج وبلغت القلوب الحناجر، وكانوا قد اشتد تعبهم ونصبهم، فظهر عجزهم عن القتال، وضعفهم عن حمل السلاح لشدة الحر والقتال، فخالطهم المسلمون فعاد الفرنج يدخلون الحصن، فدخل المسلمون معهم، وكان طائفة قليلة في الخيام، شرقي الحصن، فرأوا الفرنج قد أهملوا ذلك الجانب، لأنهم لا يرون فيه مقاتلاً، وليكثروا في الجهة التي فيها صلاح الدين، فصعدت تلك الطائفة من العسكر، فلم يمنعهم مانع، فصعدوا أيضاً الحصن من الجهة الأخرى، فالتقوا مع المسلمين الداخلين مع الفرنج؛ فملكوا الحصن عنوة وقهراً، ودخل الفرنج القلة التي للحصن، وأحاط بها المسلمون، وأرادوا نقبها.
وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب، فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبروا في سطح القلة، وظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا على السطح فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسر، فملكها المسلمون عنوة، ونهبوا ما فيها، وأسروا وسبوا من فيها، وأخذوا صاحبها وأهلها، وأمست خالية لا ديار بها، وألقى المسلمون النار في بعض بيوتهم فاحترقت.
ومن أعجب ما يحكى من السلامة أنني رأيت رجلاً من المسلمين على هذا الحصن قد جاء من طائفة من المؤمنين شمالي القلعة إلى طائفة أخرى من المسلمين جنوبي القلعة، وهو يعدو في الجبل عرضاً، فألقيت عليه الحجارة، وجاءه حجر كبير لو ناله لبعجه، فنزل عليه، فناداه الناس يحذرونه، فالتفت ينظر ما الخبر، فسقط على وجهه من عثرة، فاسترجع الناس، وجاء الحجر إليه، فلا قاربه وهو منبطح على وجهه، لقيه حجر آخر ثابت في الأرض فوق الرجل، فضبه المنحدر فارتفع عن الأرض، وجاز الرجل، ثم عاد إلى الأرض من جانبه الآخر لم ينله منه أذى ولا ضرر، وقام يعدو حتى لحق بأصحابه، فكان سقوطه سبب نجاته فتعست أم الجبان.
وأما صاحب برزية، فإنه أسر هو وامرأته وأولاده، ومنهم بنت له معها زوجها، فتفرقهم العسكر، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم، وجمع شمل بعضهم ببعض؛ فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها، وكانت امرأة صاحب برزية أخت امرأة بيمند، صاحب أنطاكية، وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه، وتعلمه كثيراً من الأحوال التي تؤثر، فأطلق هؤلاء لأجلها.
ذكر فتح درب ساك

لما فتح صلاح الدين حصن برزية رحل عنه من الغد، فأتى جسر الحديد، وهو على العاصي، بالقرب من أنطاكية، فأقام عليه حتى وافاه من تخلف عنه من عسكره، ثم سار عنه إلى قلعة درب ساك، فنزل عليها ثامن رجب، وهي من معاقل الداوية الحصينة وقلاعهم التي يدخرونها لحماياتهم عند نزول الشدائد.
فلما نزل عليها نصب المجانيق، وتابع الرمي بالحجارة، فهدمت من سورها شيئاً يسيراً، فلم يبال من فيه بذلك، فأمر بالزحف عليها ومهاجمتها، فبادرها العسكر بالزحف وقاتلوها، وكشفوا الرجال عن سورها، وتقدم النقابون فنقبوا منها برجاً وعلقوه، فسقط واتسع المكان الذي يريد المقاتلة أن يدخلوا منه، وعادوا يومهم ذلك، ثم باكروا الزحف من الغد.
وكان من فيه قد أرسلوا إلى صاحب أنطاكية يستنجدونه، فصروا، وأظهروا الجلد، وهم ينظرون وصول جوابه إما بإنجادهم وإزاحة المسلمين عنهم، وإما بالتخلي عنهم ليقوم عذرهم في التسليم، فلما علموا عجزه عن نصرتهم، وخافوا هجوم المسلمين عليها، وأخذهم السيف، وقتلهم وأسرهم، ونهب أموالهم، طلبوا الأمان، فأمنهم على شرط أن لا يخرج أحد إلا بثيابه التي عليه بغير مال، ولا سلاح، ولا أثاث بيت، ولا دابة، ولا شيء مما بها، ثم أخرجهم منه وسيرهم إلى أنطاكية، وكان فتحه تاسع عشر رجب.
ذكر فتح بغراسثم سار عن درب ساك إلى قلعة بغراس، فحصرها، بعد أن اختلف أصحابه في حصرها، فمنهم من أشار به، ومنهم من نهى عنه وقال: هو حصن حصين، وقلعة منيعة، وهو بالقرب من أنطاكية، ولا فرق بين حصره وحصرها، ويحتاج أن يكون أكثر العسكر في اليزك مقابل أنطاكية، فإذا كان الأمر كذلك قل المقاتلون عليها، ويتعذر حينئذ الوصول إليها.
فاستخار الله تعالى وسار إليها، وجعل أكثر عسكره يزكاً مقابل أنطاكية، يغيرون على أعمالها، وكانوا حذرين من الخوف من أهلها، إن غفلوا، لقربهم منها، وصلاح الدين في بعض أصحابه على القلعة يقاتلها، ونصب المجانيق، فلم يؤثر فيها شيئاً لعلوها وارتفاعها، فغلب على الظنون تعذر فتحها وتأخر ملكها، وشق على المسلمين قلة الماء عندهم، إلا أن صلاح الدين نصب الحياض، وأمر بحمل الماء إليها، فخفف الأمر عليهم.
فبينما هو على هذه الحال إذ قد فتح باب القلعة، وخرج منه إنسان يطلب الأمان ليحضر، فأجيب إلى ذلك، فأذن له في الحضور، فحضر، وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه إليه، بما فيه على قاعدة درب ساك، فأجابهم إلى ما طلبوا؛ فعاد الرسول ومعه الأعلام الإسلامية، فرفعت على رأس القلعة، ونزل من فيها، وتسلم المسلمون القلعة بما فيها من ذخائر وأموال وسلاح، وأمر صلاح الدين بتخريبه، فخرب، وكان ذلك مضرة عظيمة وأتقنه، وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون منه على البلاد، فتأذى بهم السواد الذي بحلب، وهو إلى الآن بأيديهم.
ذكر الهدنة بين المسلمين وصاحب أنطاكيةلما فتح صلا الدين بغراس عزم على التوجه إلى أنطاكية وحصرها، فخاف البيمند صاحبها من ذلك، وأشفق منه، فأرسل إلى صلاح الدين يطلب الهدنة، وبذل إطلاق كل أسير عنده من المسلمين، فاستشار من عنده من أصحاب الأطراف وغيرهم، فأشار أكثرهم بإجابته إلى ذلك ليعود الناس ويستريحوا ويجددوا ما يحتاجون إليه، فأجاب إلى ذلك، واصطلحوا ثمانية أشهر، أولها: أول تشرين الأول، وآخرها: آخر أيار، وسير رسوله إلى صاحب أنطاكية يستخلفه، ويطلق من عنده من الأسرى.
وكان صاحب أنطاكية، في هذا الوقت، أعظم الفرنج شأناً، وأكثرهم ملكاً، فإن الفرنج كانوا قد سلموا إليه طرابلس، بعد موت القمص، وجميع أعمالها، مضافاً إلى ما كان له، أن القمص لم يخلف ولداً، فلما سلمت إليه طرابلس جعل ولده الأكبر فيها نائباً عنه.
وأما صلاح الدين فإنه عاد إلى حلب ثالث شعبان، فدخلها وسار منها إلى دمشق، وفرق العساكر الشرقية، كعماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار والخابور، وعسكر الموصل، وغيرها، ثم رحل من حلب إلى دمشق، وجعل طريقه على قبر عمر بن عبد العزيز، فزاره، وزار الشيخ الصالح أبا زكرياء المغربي، وكان مقيماً هناك، وكان من عباد الله الصالحين، وله كرامات ظاهرة.

وكان مع صلاح الدين الأمير عز الدين أبو الفليتة قاسم بن المهنا العلوي الحسيني، وهو أمير مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، كان قد حضر عنده، وشهد معه مشاهده وفتوحه، وكان صلاح الدين قد تبارك برؤيته، وتيمن بصحبته، وكان يكرمه كثيراً، وينبسط معه، ويرجع إلى قوله في أعماله كلها، ودخل دمشق أول شهر رمضان، فأشير عليه بتفريق العساكر، فقال: إن العمر قصير والأجل غير مأمون؛ وقد بقي بيد الفرنج هذه الحصون: كوكب، وصفد، والكرك، وغيرها، ولا بد من الفراغ منها، فإنها في وسط بلاد الإسلام، ولا يؤمن شر أهلها، وإن أغفلناهم ندمنا فيما بعد، والله أعلم.
ذكر فتح الكرك وما يجاورهكان صلاح الدين قد جعل على الكرك عسكراً يحصره، فلازموا الحصار هذه المدة الطويلة، حتى فنيت أزواد الفرنج وذخائرهم، وأكلوا دوابهم، وصبروا حتى لم يبق للصبر مجال، فراسلوا الملك العادل، أخا صلاح الدين، وان جعله صلاح الدين على قلعة الكرك في جمع من العسكر يحصرها، ويكون مطلعاً على هذه الناحية من البلاد لما أبعد هو إلى درب ساك، وبغراس، فوصلته رسل الفرنج من الكرك يبذلون تسليم القلعة إليه، ويطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إلى مقدم العسكر الذي يحصرها في المعنى، فتسلم القلعة منهم وأمنهم.
وتسلم أيضاً ما يقاربه من الحصون كالشوبك وهرمز والوعيرة والسلع، وفرغ القلب من تلك الناحية، وألقى الإسلام هناك جرانه، وأمنت قلوب من في ذلك السقع من البلاد، كالقدس وغيره، فإنهم كانوا ممن بتلك الحصون وجلين، ومن شرهم مشفقين.
ذكر فتح قلعة صفدلما وصل صلاح الدين إلى دمشق، وأشير عليه بتفريق العساكر، وقال: لا بد من الفراغ من صفد وكوكب وغيرهما، أقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشق إلى قلعة صفد فحصرها وقاتلها، ونصب عليها المجانيق، وأدام الرمي إليها ليلاً ونهاراً بالحجارة والسهام.
وكان أهلها قد قاربت ذخائرهم وأزوادهم أن تفنى في المدة التي كانوا فيها محاصرين، فإن عسكر صلاح الدين كان يحاصرهم، كما ذكرناه، فلما رأى أهله جد صلاح الدين في قتالهم، خافوا أن يقيم إلى أن يفنى ما بقي معهم من أقواتهم، وكانت قليلة، ويأخذهم عنوة ويهلكهم، أو أنهم يضعفون عن مقاومته قبل فناء ما عندهم من القوت فيأخذهم، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم وتسلمها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنين شرهم، فإنهم كانوا وسط البلاد الإسلامية.
ذكر فتح كوكبلما كان صلاح الدين يحاصر صفد، اجتمع من بصور من الفرنج، وقالوا: إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب، ولو أنها معلقة بالكوكب، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد؛ فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سراً من رجال وسلاح وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم، فساروا الليل مستخفين، وأقاموا النهار مكمنين.
فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلاً من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيداً، فلقي رجلاً من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرض، فضربه ليعلمه بحاله، وما الذي أقدمه إلى هناك، فأقر بالحال، ودله على أصحابه، فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مقدم ذلك العسكر، فأعلمه الخبر، والفرنجي معه، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج، فكبسهم، فأخذهم، وتتبعهم في الشعاب والكهوف، فلم يفلت منهم أحد، فكان معهم مقدمان من فرسان الإسبتار، فحملا إلى صلاح الدين وهو على صفد، فأحضرهما ليقتلهما، وكانت عادته قتل الداوية والإسبتارية لشدة عداوتهم للمسلمين وشجاعتهم، فلما أمر بقتلهما قال له أحدهما: ما أظن ينالنا سوء وقد نظرنا إلى طلعتك المباركة ووجهك الصبيح. وكان رحمه الله، كثير العفو، يفعل الاعتذار والاستعطاف فيه، فيعفو ويصفح، فلما سمع كلامهما لم يقتلهما، وأمر بهما فسجنا.
ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا، ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا، فلم يسمعوا قولهن وأصروا على الامتناع، فجد في قتالهم، ونصب عليهم المجانيق، وتابع رمي الأحجار إليهم، وزحف مرة بعد مرة، وكانت الأمطار كثيرة، لا تنقطع ليلاً ولا نهاراً، فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدوه، وطال مقامهم عليها.

وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في ويم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة، ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب عن قوس اليد والجروخ، فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور، فنقبوا الباشورة فسقطت، وتقدموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة، وسيرهم إلى صور، فوصلوا إليها.
واجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد، فاشتدت شوكتهم، وحميت جمرتهم، وتابعوا الرسل إلى من بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون، والأمداد كل قليل تأتيهم، وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره، حتى عض بنانه ندماً وأسفاً حيث لم ينفعه ذلك.
واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصل بينه غير مدينة صور، وجميع أعمال أنطاكية، سوى القصير، ولما ملك صلاح الدين صفد سار إلى البيت المقدس، فعيد فيه عيد الأضحى، ثم سار منه إلى عكا، فأقام بها حتى انسلخت السنة.
ذكر ظهور طائفة من الشيعة بمصرفي هذه السنة ثار بالقاهرة جماعة من الشيعة، عدتهم اثنا عشر رجلاً، ليلاً، ونادوا بشعار العلويين،: يال علي، يال علي، وسلكوا الدروب ينادون، ظناً منهم أن رعية البلد يلبون ويملكون البلد، فلم يلتفت أحد منهم إليهم، ولا أعارهم سمعه.
فلما رأوا ذلك تفرقوا خائفين، فأخذوا، وكتب بذلك إلى صلاح الدين، فأهمه أمرهم وأزعجه، فدخل عله القاضي الفاضل، فأخبره الخبر، فقال القاضي الفاضل: ينبغي أن تفرح بذلك ولا تحزن ولا تهتم، حيث علمت من بواطن رعيتك المحبة لك والنصح، وترك الميل إلى عدوك، ولو وضعت جماعة يفعلون مثل هذه الحالة لتعلم بواطن أصحابك ورعيتك، وخسرت الأموال الجليلة عليهم، لكان قليلاً؛ فسري عنه.
وكان هذا القاضي صاحب دولة صلاح الدين، وأكبر من بها، وستأتي مناقبه عند وفاته، ما تراه.
ذكر انهزام عسكر الخليفة من السلطان طغرلفي هذه السنة جهز الخليفة الناصر لدين الله عسكراً كثيراً، وجعل المقدم عليهم وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس، وسيرهم إلى مساعدة قزل، ليكف السلطان طغرل عن البلاد، فسار العسكر ثالث صفر إلى أن قارب همذان، فلم يصل قزل إليهم، وأقبل طفرل إليهم في عساكره، فالتقوا ثامن ربيع الأول بداي مرج عند همذان، واقتتلوا، فلم يثبت عسكر بغداد، بل انهزموا وتفرقوا، وثبت الوزير قائماً، ومعه مصحف وسيف، فأتاه من عسكره طغرل من أسره، وأخذ ما معه من خزانة وسلاح ودواب وغير ذلك، وعاد العسكر إلى بغداد متفرقين.
وكنت حينئذ بالشام في عسكر صلاح الدين يريد الغزاة، فأتاه الخبر مع النجابين بميسر العسكر البغدادي، فقال: كأنكم وقد وصل الخبر بانهزامهم. فقال له بعض الحاضرين: وكيف ذلك؟ فقال: لا شك أن أصحابي وأهيل أعرف بالحرب من الوزير، وأطوع في العسكر منه، ومع هذا، فما أرسل أحداً منهم في سرية للحرب إلا وأخاف عليه، وهذا الوزير غير عارف بالحرب، وقريب العهد بالولاية، ولا يراه الأمراء أهلاً أن يطاع، وفي مقابلة سلطان شجاع قد باشر الحرب بنفسه، ومن معه يطيعه، وكان الأمر كذلك، ووصل الخبر إليه بانهزامهم فقال لأصحابه: كنت أخبرتكم بكذا وكذا، وقد وصل الخبر بذلك.
ولما عادت عساكر بغداد منهزمة قال بعض الشعراء، وهو أحمد بن الواثق بالله:
أتركونا من جائحات الجريمة ... طلعة طلعة تكون وخيمة
بركات الوزير قد شملتنا ... فلهذا أمورنا مستقيمة
خرجت جندنا تريد خراسا ... ن جميعاً بأبهات عظيمة
بخيول وعدة وعديد ... وسيوف مجربات قديمة
ووزير وطاق طنب ونفش ... وخيول معدة للهزيمة
هم رأوا غرة العدو وقد أق ... بل ولوا وانحل عقد العزيمة
وأتونا ولا بخفي حنين ... بوجوه سود قباح دميمة
لو رأى صاحب الزمان ولوعا ... ين أفعالهم وقبح الجريمة
قابل الكل بالنكال وناهي ... ك بها سبة عليهم مقيمة
كان ينبغي أن تتقدم هذه الحادثة، وإنما أخرتها لتتبع الحوادث المتقدمة بعضها بعضاً، لتعلق كل واحدة منها بالأخرى.

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي شيخنا أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن سويدة التكريتي، كان عالماً بالحديث، وله تصانيف حسنة.
وفيها توفيت سلجوقة خاتون بنت قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان زوجة الخليفة وكانت قبله زوجة نور الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحب الحصن، فلما توفي عنها تزوجها الخليفة، ووجد الخليفة عليها وجداً عظيماً ظهر للناس كلهم، وبنى على قبرها تربة بالجانب الغربي، وإلى جانب التربة رباطه المشهور بالرملة.
وفيها توفي علاء الدين تنامش وحمل تابوته إلى مشهد الحسين، عليه السلام.
وفيها توفي خالص خادم الخليفة، و كان أكبر أمير ببغداد؛ ومات أبو الفرج بن النقور العدل ببغداد، وسمع الحديث الكثير، وهو بيت الحديث، رحمه الله.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة
ذكر فتح شقيف أرنون
في هذه السنة، في ربيع الأول، سار صلاح الدين إلى شقيف أرنون، وهو من أمنع الحصون، ليحصره، فنزل بمرج عيون، فنزل صاحب الشقيف، وهو أرناط صاحب صيدا، وكان أرناط هذا من أعظم الناس دهاء ومكراً، فدخل إليه واجتمع به، وأظهر له الطاعة والمودة، وقال له: أنا محب لك، ومعترف بإحسانك، وأخاف أن يعرف المركيس ما بيني وبينك، فينال أولادي وأهلي منه أذى، فإنهم عنده، فأشتهي أن تمهلني حتى أتوصل في تخليصهم من عنده، وحينئذ أحضر أنا وهم عندك، ونسلم الحصن إليك، ونكون في خدمتك، ونقنع بما تعطينا من إقطاع؛ فظن صلاح الدين صدقه، فأجابه إلى ما سأل، فاستقر الأمر بينهما أن يسلم الشقيف في جمادى الآخرة.
وأقام صلاح الدين بمرج عيون ينتظر الميعاد، وهو قلق مفكر، لقرب انقضاء مدة الهدنة بينه وبين البيمند، صاحب أنطاكية، فأمر تقي الدين ابن أخيه أن يسير في من معه من عساكره، ومن يأتي من بلاد المشرق، ويكون مقابل أنطاكية لئلا يغير صاحبها على بلاد الإسلام عند انقضاء الهدنة.
وكان أيضاً منزعج الخاطر، كثير الهم، لما بلغه من اجتماع الفرنج بمدينة صور، وما يتصل بهم من الأمداد في البحر، وأن ملك الفرنج الذي كان قد أسره صلاح الدين وأطلقه، بعد فتح القدس، قد اصطلح هو والمركيس، بعد اختلاف كان بينهما، وأنهم قد اجتمعوا في خلق لا يحصون، فإنهم قد خرجوا من مدينة صور إلى ظاهرها؛ فكان هذا وأشباهه مما يزعجه، ويخاف من ترك الشقيف وراء ظهره والتقدم إلى صور وفيها الجموع المتوافرة فتنقطع الميرة عنه، إلا أنه مع هذه الأشياء مقيم على العهد مع أرناط صاحب الشقيف.
وكان أرناط، في مدة الهدنة، يشتري الأقوات من سوق العسكر والسلاح وغير ذلك مما يحصن به شقيفه، وكان صلاح الدين يحسن الظن، وإذا قيل له عنه مما هو فيه من المكر، وإن قصده المطاولة إلى أن يظهر الفرنج من صور، وحينئذ يبدي فضيحته، ويظهر مخالفته، لا يقبل فيه، فلما قارب انقضاء الهدنة تقدم صلاح الدين من معسكره إلى القرب من شقيف أرنون وأحضر عنده أرناط وقد بقي من الأجل ثلاثة أيام، فقال له في معنى تسليم الشقيف، فاعتذر بأولاده وأهله، وأن المركيس لم يمكنهم من المجيء إليه وطلب التأخير مدة أخرى، فحينئذ علم السلطان مكره وخداعه، فأخذه وحبسه، وأمره بتسليم الشقيف، فطلب قسيساً، ذكره، لحمله رسالة إلى من بالشقيف ليسلموه، فأحضروه عنده، فساره بما لم يعلموا، فمضى ذلك القسيس إلى الشقيف، فأظهر أهله العصيان، فسير صلاح الدين أرناط إلى دمشق وسجنه، وتقدم إلى الشقيف فحصره وضيق عليه، وجعل عليه من يحفظه ويمنع عنه الذخيرة والرجال.
ذكر وقعة اليزك مع الفرنجلما كان صلاح الدين بمرج عيون، وعلى الشقيف، جاءته كتب من أصحابه الذين جعلهم يزكاً في مقابل الفرنج على صور، يخبرونه فيها أن الفرنج قد أجمعوا على عبور الجسر الذي لصور، وعزموا على حصار صيدا، فسار صلاح الدين جريدة في شجعان أصحابه، سوى من جعله على الشقيف، فوصل إليهم وقد فات الأمر.

وذلك أن الفرنج قد فارقوا صور وساروا عنها لمقصدهم، فلقيهم اليزك على مضيق هناك، وقاتلوهم ومنعوهم، وجرى لهم معهم حرب شديدة يشيب لها الوليد، وأسروا من الفرنج جماعة، وقتلوا جماعة منهم سبعة رجال من فرسانهم المشهورين وجرحوا جماعة، وقتل من المسلمين أيضاً جماعة منهم مملوك لصلاح الدين كان من أشجع الناس، فحمل وحده على صف الفرنج، فاختلط بهم، وضربهم بسيفه يميناً وشمالاً، فتكاثروا عليه فقتلوه، رحمه الله؛ ثم إن الفرنج عجوزا عن الوصول إلى صيدا فعادوا إلى مكانهم.
ذكر وقعة ثانية للغزاة المتطوعةلما وصل صلاح الدين إلى اليزك وقد فاتته تلك الوقعة أقام عندهم في خيمة صغيرة، ينتظر عودة الفرنج لينتقم منهم، ويأخذ بثأر من قتلوه من المسلمين. فركب في بعض الأيام في عدة يسيرة على أن ينظر إلى مخيم الفرنج من الجبل ليعمل بمقتضى ما يشاهده، وظن من هناك من غزاة العجم والعرب المتطوعين أنه على قصد المصاف والحرب، فساروا مجدين وأوغلوا في أرض العدو مبعدين، وفارقوا الحزم، وخلفوا السلطان وراء ظهورهم، وقاربوا الفرنج، فأرسل صلاح الدين عدة من الأمراء يردونهم ويحمونهم إلى أن يخرجوا، فلم يسمعوا ولم يقبلوا.
وكان الفرنج قد اعتقدوا أن وراءهم كميناً، فلم يقدموا عليهم، فأرسلوا من ينظر حقيقة الأمر، فاهم الخبر أنهم منقطعون عن المسلمين، وليس وراءهم ما يخاف، فحملت الفرنج عليهم حملة رجل واحد، فقاتلوهم، وفلم يلبثوا أن أناموهم، وقتل معهم جماعة من المعروفين، وشق على صلاح الدين والمسلمين ما جرى عليهم، وكان ذلك بتفريطهم في حق أنفسهم، رحمهم الله ورضي عنهم.
وكانت هذه الوقعة تاسع جمادى الأولى، فلما رأى صلاح الدين ذلك انحدر من الجبل إليهم في عسكره، فحملوا على الفرنج فألقوهم إلى الجسر وقد أخذوا طريقهم، فألقوا أنفسهم في الماء، فغرق منهم نحو مائة دارع سوى من قتل، وعزم السلطان على مصابرتهم ومحاصرتهم، فتسامع الناس، فقصدوه من كل ناحية واجتمع معه خلق كثير، فلما رأى الفرنج ذلك عادوا إلى مدينة صور، فلما عادوا إليها سار صلاح الدين إلى تبنين، ثم إلى عكا ينظر حالها، ثم عاد إلى العسكر والمخيم.
ذكر وقعة ثالثةلما عاد صلاح الدين إلى العسكر أتاه الخبر أن الفرنج يخرجون من صور للاحتطاب والاحتشاش، متبددين، فكتب إلى من بعكا من العسكر وواعدهم يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة ليلاقوهم من الجانبين، ورتب كمناء في موضع من تلك الأدوية والشعاب، واختار جماعة من شجعان عسكره، وأمرهم بالتعرض للفرنج، وأمرهم أنهم إذا حمل عليهم الفرنج قاتلوهم شيئاً من قتال، ثم تطاردوا لهم، وأروهم العجز عن مقاتلتهم، فإذا تبعهم الفرنج استجروهم إلى أن يجوزوا موضع الكمين، ثم يعطفوا عليهم، ويخرج الكمين من خلفهم؛ فخرجوا على هذه العزيمة.
فلما تراءى الجمعان، والتقت الفئتان واقتتلوا، أنف فرسان المسلمين أن يظهر عنهم اسم الهزيمة، وثبتوا، فقاتلوهم، وصبر بعضهم لبعض، واشتد القتال وعظم الأمر، ودامت الحرب، وطال على الكمناء الانتظار، فخافوا على أصحابهم فخرجوا من مكامنهم نحوهم مسرعين، وإليهم قاصدين، فأتوهم وهم في شدة الحرب، فازداد الأمر شدة على شدة، وكان فيهم أربعة أمراء من ربيعة وطي، وكانوا يجهلون تلك الأرض، فلم يسلكوا مسلك أصحابهم، فسلكوا الوادي ظناً منهم أنه يخرج بهم إلى أصحابهم، وتبعهم بعض مماليك صلاح الدين، فلما رآهم الفرنج بالوادي علموا أنهم جاهلون فأتوهم وقاتلوهم.
وأما المملوك فإنه نزل عن فرسه، وجلس على صخرة، وأخذ قوسه بيده، وحمى نفسه، وجعلوا يرمونه بسهام الزنبورك وهو يرميهم فجرح منهم جماعة وجرحوه جراحات كثيرة، فسقط فأتوه وهو بآخر رمق، فتركوه وانصرفوا وهم يحسبونه ميتاً؛ ثم إن المسلمين جاؤوا من الغد إلى موضعهم، فرأوا القتلى، ورأوا المملوك حياً، فحملوه في كساء، وهو يكاد لا يعرف من كثرة الجراحات، فأيسوا من حياته، فأعرضوا عنه وعرضوا عليه الشهادة، وبشروه بالشهادة، فتركوه، ثم عادوا إليه، فرأوه وقد قويت نفسه، فأقبلوا عليه بمشروب، فعوفي، ثم كان بعد ذلك لا يحضر مشهداً إلا كان له فيه الأثر العظيم.
ذكر مسير الفرنج إلى عكا ومحاصرتها

لما كثر جمع الفرنج بصور على ما ذكرناه من أن صلاح الدين كان كلما فتح مدينة أو قلعة أعطى أهلها الأمان، وسيرهم إليها بأموالهم ونسائهم وأولادهم، فاجتمع بها منهم عالم كثير لا يعد ولا يحصى، ومن الأموال ما لا يفنى على كثرة الإنفاق في السنين الكثيرة، ثم إن الرهبان والقسوس وخلقاً كثيراً من مشهوريهم وفرسانهم لبسوا السواد، وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدس من أيديهم، وأخذهم البطرك الذي كان بالقدس، ودخل بهم بلاد الفرنج يطوفها بهم جميعاً، ويستنجدون أهلها، ويستجيرون بهم، ويحثونهم على الأخذ بثأر البيت المقدس، وصوروا المسيح، عليه السلام، وجعلوه مع صورة عربي يضربه، وقد جعلوا الدماء على صورة المسيح، عليه السلام، وقالوا لهم: هذا المسيح يضربه محمد نبي المسلمين وقد جرحه وقتله.
فعظم ذلك على الفرنج، فحشروا وحشدوا حتى النساء، فإنهم كان معهم على عكا عدة من النساء يبارزن الأقران، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، ومن لم يستطع الخروج استأجر من يخرج عوضه، أو يعطيهم مالاً على قدر حالهم، فاجتمع لهم من الرجال والأموال ما لا يتطرق إليه الإحصاء.
ولقد حدثني بعض المسلمين المقيمين بحصن الأكراد، وهو من أجناد أصحابه الذين سلموه إلى الفرنج قديماً، وكان هذا الرجل قد ندم على ما كان منه من موافقة الفرنج في الغارة على بلاد الإسلام، و القتال معهم، والسعي معهم، وكان سبب اجتماعي به ما أذكره سنة تسعين وخمسمائة، إن شاء اله تعالى.
قال لي هذا الرجل إنه دخل مع جماعة من الفرنج من حصن الأكراد إلى البلاد البحرية التي للفرنج والروم في أربع شوان، يستنجدون؛ قال: فانتهى بنا التطواف إلى رومية الكبرى، فخرجنا منها، وقد ملأنا الشواني نقرة.
وحدثني بعض الأسرى منهم أنه له والدة ليس لها ولد سواه، ولا يملكون من الدنيا غير بيت باعته وجهزته بثمنه، وسيرته لاستنقاذ بيت واحد فأخذ أسيراً.
وكان عند الفرنج من الباعث الديني والنفساني ما هذا حده، فخرجوا على الصعب والذلول، براً وبحراً، من كل فج عميق، ولولا أن الله تعالى لطف بالمسلمين، وأهلك ملك الألمان لما خرج على ما نذكره عند خروجه إلى الشام ، وإلا كان يقال: إن الشام ومصر كانتا للمسلمين.
فهذا كان سبب خروجهم، فلما اجتمعوا بصور تموج بعضهم في بعض، ومعهم الأموال العظيمة، والبحر بمدهم بالأقوات والذخائر، والعدد والرجال، من بلادهم، فضاقت عليهم صور، باطنها وظاهرها، فأرادوا قصد صيدا، وكان ما ذكرناه، فعادوا واتفقوا على قصد عكا ومحاصرتها ومصابرتها، فساروا إليها بفارسهم وراجلهم، وقضهم وقضيضهم، ولزموا البحر في مسيرهم لا يفارقونه في السهل والوعر، والضيق السعة، ومراكبهم تسير مقابلة في البحر، فيها سلاحهم وذخائرهم، ولتكون عدة لهم، إن جاءهم ما لا قبل لهم به ركبوا فيها وعادوا؛ وكان رحيلهم ثامن رجب، ونزولهم على عكا في منتصفه، ولما كانوا سائرين كان يزك المسلمين يتخطفونهم، ويأخذون المنفرد منهم.
ولما رحلوا جاء الخبر إلى صلاح الدين برحيلهم، فسار حتى قاربهم، ثم جمع أمراءه واستشارهم: هل يكون المسير محاذاة الفرنج ومقاتلتهم وهم سائرون، أو يكون في غير الطريق التي سلكوها؟ فقالوا: لا حاجة بنا إلى احتمال المشقة في مسايرتهم، فإن الطريق وعر وضيق ولا يتهيأ لنا ما نريده منهم، والرأي أننا نسير في الطريق المهيع، ونجتمع عليهم عند عكا، فتفرقهم ونمزقهم.
فعلم ميلهم إلى الراحة المعجمة، فوافقهم، وكان رأيه مسايرتهم ومقاتلتهم وهم سائرون، وقال: إن الفرنج إذا نزلوا لصقوا بالأرض، فلا يتهيأ لنا إزعاجهم، ولا نيل الغرض منهم، والرأي قتالهم قبل الوصول إلى عكا؛ فاخالفوه، فتبعهم، وساروا على طريق كفر كنا، فسبقهم الفرنج، وكان صلا الدين قدج جعل في مقابل الفرنج جماعة من الأمراء يسايرونهم، ويناوشونهم القتال، ويتخطفونهم، ولم يقدم الفرنج عليهم مع قتلهم، فلو أن العساكر اتبعت رأي صلاح الدين في مسايرتهم ومقاتلتهم قبل نزولهم على عكا، لكان بلغ غرضه وصدهم عنها، ولكن إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه.

ولما وصل صلاح الدين إلى عكا رأى الفرنج قد نزلوا عليها من البحر إلى البحر، من الجانب الآخر، ولم يبق للمسلمين إليها طريق، فنزل صلاح الدين عليهم، وضرب خيمته على تل كيسان، وامتدت ميمنته إلى تل الغياظية، وميسرته إلى النهر الجاري، ونزلت الأثقال بصفورية، وسير الكتب إلى الأطراف باستدعاء العساكر، فأتاه عسكر الموصل، وديار بكر، وسنجار وغيرها من بالد الجزيرة، وأتاه تقي الدين ابن أخيه، وأتاه مظفر الدين بن زين الدين، وهو صاحب حران والرها.
وكانت الأمداد تأتي المسلمين في البر وتأتي الفرنج في البحر، وكان بين الفريقين مدة مقامهم على عكا حروب كثيرة ما بين صغيرة وكبيرة، منها اليوم المشهور ومنها ما هو دون ذلك، وأنا أذكر الأيام الكبار لئلا يطول ذلك، ولأن ما عداها كان قتالاً يسيراً من بعضهم مع بعض، فلا حاجة إلى ذكره.
ولما نزل السلطان عليهم لم يقدر على الوصول إليهم، ولا إلى عكا حروب كثيرة ما بين صغيرة وكبيرة، منها اليوم المشهور ومنها ما هو دون ذلك. وأنا أذكر الأيام الكبار لئلا يطول ذلك، ولأن ما عداها كان قتالاً يسيراً من بعضهم مع بعض، فلا حاجدة إلى ذكره.
ولما نزل السلطان عليهم لم يقدر على الوصول إليهم، ولا إلى عكا، حتى انسلخ رجل، قم قاتلهم مستهل شعبان، فلم ينل منهم ما يريد، وبات الناس على تعبئة، فلما كان الغد باكرهم القتال بحده وحديده، واستدار عليهم من سائر جهاتهم من بكرة إلى الظهر، وصبر الفريقان صبراً حار له من رآه.
فلما كان وقت الظهر حمل عليهم تقي الدين حملة منكرة من الميمنة على من يليه منهم، فأزاحهم عن مواقفهم يركب بعضهم لا يلوي أخ على أخ، والتجأوا إلى من يليهم من أصحابهم، واجتمعوا بهم واحتموا بهم، وأخلوا نصف البلد، وملك تقي الدين مكانهم، والتصق بالبلد، وصار ما أخلوه بيده، ودخل المسلمون البلد، وخرجوا منه، واتصلت الطرق، وزال الحصر عمن فيه، وأدخل صلاح الدين إليه من أراد من الرجال، وما أراد من الذخائر والأموال والسلاح وغير ذلك، ولو أن المسلمين لزموا قتالهم إلى الليل لبلغوا ما أرادوه، فإن للصدمة الأولى روعة، لكنهم لما نالوا منهم هذا القدر أخلدوا إلى الراحة، وتركوا القتال وقالوا: نباكرهم غداً، ونقطع دابرهم.
وكان في جملة من أدخله صلاح الدين إلى عكا من جملة الأمراء حسام الدين أبو الهيجاء السمين، وهو من أكابر أمراء عسكره، وهو من الأكراد الحكيمة من بلد إربل. وقتل من الفرنج هذا اليوم جماعة كبيرة.
ذكر وقعة أخرى ووقعة العربثم إن المسلمين نهضوا إلى الفرنج من الغد وهو سادس شعبان عازمين على بذل جهدهم، واستنفاد وسعهم في اسئصالهم فتقدموا على تعبئتهم، فرأوا الفرنج حذرين محتاطين، قد ندموا على ما فرطوا فيه بالأمس، وهم قد حفظوا أطرافهم ونواحيهم، وشرعوا في حفر خندق يمنع من الوصول إليهم، فألح المسلمون عليهم في القتال، فلم يتقدم الفرنج إليهم، ولا فارقوا مرابضهم؛ فلما رأى المسلمون ذلك عادوا عنهم.
ثم إن جماعة من العرب بلغهم أن الفرنج تخرج من الناحية الأخرى إلى الاحتطاب وغيره من أشغالهم، فكمنوا لهم في معاطف النهر ونواحيه سادس عشر شعبان، فلما خرج جمع من الفرنج على عادتهم حملت عليهم العرب، فقتلوهم عن آخرهم، وغنموا ما كان معهم، وحملوا الرؤوس إلى صلاح الدين، فأحسن إليهم، وأعطاهم الخلع.
ذكر الوقعة الكبرى على عكالما كان بعد هذه الوقعة المذكورة بقي المسلمون إلى العشرين من شعبان، كل يوم يغادرون القتال مع الفرنج ويرواحونه، والفرنج لا يظهرون من معسكرهم ولا يفارقونه، ثم إن الفرنج اجتمعوا للمشورة، فقالوا: إن عسكر مصر لم يحضر والحال مع صلاح الدين هكذا، فكيف يكون إذا حضر، والرأي أننا نلقي المسلمين غداً لعلنا نظفر بم قبل اجتماع العساكر والأمداد إليهم.
وكان كثير من عسكر صلاح الدين غائباً عنه، بعضها مقابل أنطاكية ليردوا عادية بيمند صاحبها عن أعمال حلب، وبعضها في حمص مقابل طرابلس لتحفظ ذلك الثغر أيضاً، وعسكر في مقابل صور لحماية ذلك البلد، وعسكر بمصر يكون بثغر دمياط والإسكندرية وغيرهما، والذي بقي من عسكر مصر كانوا لم يصلوا لطول بيكارهم، كما ذكرناه قبل، وكان هذا مما أطمع الفرنج في الظهور إلى قتال المسلمين.

وأصبح المسلمون على عادتهم، منم من يتقدم إلى القتال، ومنهم من هو في خيمته، ومنهم من قد توجه في حاجته من زيارة صديق وتحصيل ما يحتاج إليه هو وأصحابه ودوابه، إلى غير ذلك، فخرج الفرنج من معسكرهم كأنهم الجراد المنتشر، يدبون على وجه الأرض، قد ملأوها طولاً وعرضاً، وطلبوا ميمنة المسلمين وعليها تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى الفرنج نحوه قاصدين حذر هو وأصحابه، فتقدموا إليه، فلما قربوا منه تأخر عنهم.
فلما رأى صلاح الدين الحال، وهو في القلب، أمد تقي الدين برجال من عنده ليتقوى بهم، وكان عسكر ديار بكر وبعض الشرقيين في جناح القلب، فلما رأى الفرنج قلة الرجال في القلب، وأن كثيراً منهم قد سار نحو الميمنة مدداً لهم، عطفوا على القلب، فحملوا حملة رجل واحد، فاندفعت العساكر بين أيديهم منهزمين، وثبت بعضهم، فاستشهد جماعة منهم كالأمير مجلى بن مروان والظهير أخي الفقيه عيس، وكان والي بعضهم، فاستشهد جماعة منهم كالأمير مجلى بن مروان والظهير أخي الفقيه عيسى، وكان والي البيت المقدس قد جمع بين الشجاعة والعلم والدين، وكالحاجب خليل الهكاري وغيرهم من الشجعان الصابرين في مواطن الحرب، ولم يبق بين أيديهم في القلب من يردهم، فقصدوا التل الذي عليه خيمة صلاح الدين، فقتلوا من مروا به، ونهبوا، وقتلوا عند خيمة صلاح الدين جماعة، منهم شيخنا جمال الدين أبو علي بن رواحة الحموي، وهو من أهل العلم، وله شعر حسن، وما ورث الشهادة من بعيد، فإن جده عبد الله بن رواحة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله الروم يوم مؤتة، وهذا قتله الفرنج يوم عكا، وقتلوا غيره، وانحدروا إلى الجانب الآخر من التل، فوضعوا السيف فيمن لقوه، وكان من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج لم يلقوا خيمة صلاح الدين، ولو لقوها لعلم الناس وصولهم إليها، وانهزام العساكر بين أيديهم، فكانوا انهزموا أجمعون.
ثم إن الفرنج نظروا وراءهم، فرأوا أمدادهم قد انقطعت عنهم، فرجعوا خوفاً أن ينقطعوا عن أصحابهم، وكان سبب انقطاعهم أن الميمنة وقفت مقابلتهم، فاحتاج بعضهم أن يقف مقابلها، وحملت ميسرة المسلمين على الفرنج، فاشتغل المدد بقتال من بها عن الاتصال بأصحابهم، وعادوا إلى طرف خنادقهم، فحملت الميسرة على الفرنج، الواصلين إلى خيمة صلاح الدين، فصادفوهم وهم راجعون، فقاتلوهم، وثار بهم غلمان العسكر.
وكان صلاح الدين لما انهزم القلب قد تبعهم يناديهم، ويأمرهم بالكرة، ومعاودة القتال، فاجتمع معه منهم جماعة صالحة، فحمل بهم على الفرنج من وراء ظهورهم وهم مشغولين بقتال الميسرة، فأخذتهم سيوف الله من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، بل قتل أكثرهم، وأخذ الباقون أسرى، وفي جملة من أسر مقدم الداوية الذي كان قد أسره صلاح الدين وأطلقه، فلما ظفر به الآن قتله.
وكانت عدة القتلى، سوى من كان إلى جانب البحر، نحو عشرة آلاف قتيل، فأمر بهم، فألقوا في النهر الذي يشرب الفرنج منه؛ وكان عامة القتلى من فرسان الفرنج، فإن الرجالة لم يلحقوهم، وكان في جملة الأِسرى ثلاث نسوة فرنجيات كن يقاتلن على الخيل، فلما أسرن، وألقي عنهن السلاح عرفن أنهن نساء.
وأما المنهزمون من المسلمين، فمنهم من رجع من طبرية، ومنهم من جاز الأردن وعاد، ومنهم من بلغ دمشق، ولولا أن العساكر تفرقت في الهزيمة لكانوا بلغوا من الفرنج من الاستئصال، والإهلاك، مرادهم، على أن الباقين بذلوا جهدهم، وجدوا في القتال وصمموا على الدخول مع الفرنج إلى معسكرهم لعلهم يفزعون منهم، فجاءهم الصريخ بأن رحالهم وأموالهم قد نهبت، وكان سبب هذا النهب أن الناس لما رأوا الهزيمة حملوا أثقالهم على الدواب، فثار بهم أوباش العسكر وغلمانه، فنهبوه وأتوا عليه، وكان في عزم صلاح الدين أن يباكرهم القتال والزحف، فرأى اشتغال الناس بما ذهب من أموالهم، وهم يسعون في جمعها وتحصيلها، فأمر بالنداء بإحضار ما أخذ، فأحضر منه ما ملأ الأرض من المفارش، والعيب المملوءة والثياب والسلاح وغير ذلك، فرد الجميع على أصحابه، ففاته ذلك اليوم ما أراد، فسكن روع الفرنج، وأصلحوا شأن الباقين منهم.
ذكر رحيل صلاح الدين عن الفرنج

وتمكنهم من حصر عكا

لما قتل من الفرنج ذلك العدد الكثير، جافت الأرض من نتن ريحهم، وفسد الهواء والجو، وحدث للأمزجة فساد، وانحرف مزاج صلاح الدين، وحدث له قولنج مبرح كان يعتاده، فحضر عنده الأمراء، وأشاروا عليه بالانتقال من ذلك الموضع، وترك مضايقة الفرنج، وحسنوه له، وقالوا: قد ضيقنا على الفرنج، ولو أرادوا الانفصال عن مكانهم لم يقدروا، والرأي أننا نبعد عنهم بحيث يتمكنون من الرحيل والعود، فإن رحلوا، وهو ظاهر الأمر، فقد كفينا شرهم وكفوا شرنا، وإن أقاموا عاودنا القتال ورجعنا معهم إلى ما نحن فيه، ثم إن مزاجك منحرف، والألم شديد، ولو وقع إرجاف لهلك الناس، والرأي على كل تقدير البعد عنهم.
ووافقهم الأطباء على ذلك، فأجابهم إليه إلى ما يريد الله يفعله: (وإذا أراد الله بقوم سواء فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ) الرعد 11، فرحلوا إلى الخروبة رابع شهر رمضان وأمر من بعكا من المسلمين بحفظها، وإغلاق أبوابها، والاحتياط، وأعلمهم بسبب رحيله.
فلما رحل هو وعساكره أمن الفرنج وانبسطوا في تلك الأرض، وعادوا فحصروا عكا، وأحاطوا بها من البحر إلى البحر، ومراكبهم أيضاً في البحر تحصرها، وشرعوا في حفر الخندق، وعمل السور من التراب الذي يخرجونه من الخندق، وجاؤوا بما لم يكن في الحساب؛ وكان اليزك كل يوم يوافقهم، وهم لا يقاتلون، ولا يتحركون، إنما هم مهتمون بعمل الخندق والسور عليهم ليتحصنوا به من صلاح الدين، إن عاد إلى قتالهم، فحينئذ ظهر رأي المشيرين بالرحيل.
وكان اليزك كل يوم يخبرون صلاح الدين بما يصنع الفرنج، ويعظمون الأمر عليه، وهو مشغول بالمرض، لا يقدر على النهوض للحرب، وأشار عليه بعضهم بأن يرسل العساكر جميعها إليهم ليمنعهم من الخندق والسور، ويقاتلوهم، ويتخلف هو عنهم، فقال: إذا لم أحضر معهم لا يفعلون شيئاً، وربما كان من الشر أضعاف ما نرجوه من الخير؛ فتأخر الأمر إلى أن عوفي، فتمكن الفرنج وعملوا ما أرادوا، وأحكموا أمورهم، وحصنوا نفوسهم بما وجدوا إليه السبيل، وكان من بعكا يخرجون إليهم كل يوم، ويقاتلونهم، وينالون منهم بظاهر البلد.
ذكر وصول عسكر مصر والأسطول المصري في البحرفي منتصف شوال وصلت العساكر المصرية، ومقدمها الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، فلما وصل قويت نفوس الناس به وبمن معه، واشتدت ظهورهم، وأحضر معه من آلات الحصار، من الدرق والطارقيات والنشاب والأقواس، شيئاً كثيراً، ومعهم من الرجالة الجم الغفير، وجمع صلاح الدين من البلاد الشامية راجلاً كثيراً، وهو على عزم الزحف إليهم بالفارس والراجل.
ووصل بعده الأسطول المصري، ومقدمه الأمير لؤلؤ، وكان شهماً، شجاعاً، مقداماً، خبيراً بالبحر والقتال فيه، ميمون النقيبة، فوصل بغتة، فوقع على بطسة كبيرة للفرنج، فغنمها، وأخذ منها أموالاً كثيرة وميرة عظيمة، فأدخلها إلى عكا، فسكنت نفوس من بها بوصول الأسطول وقوي جنانهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، خطب لولي العهد أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله ببغداد، ونثرت الدنانير والدراهم، وأرسل إلى البلاد في إقامة الخطبة، ففعل ذلك.
وفيها، في شوال، ملك الخليفة تكريت، وسب ذلك أن صاحبها، وهو الأمير عيسى، قتله إخوته، وملكوا القلعة بعده، فسير الخليفة إليهم عسكراً فحصروها وتسلموها، ودخل أصحابه إلى بغداد فأعطوا أقطاعاً.
وفيها، في صفر، فتح الرباط الذي بناه الخليفة بالجانب الغربي من بغداد، وحضر الخلق العظيم، فكان يوماً مشهوداً.
وفي هذه السنة، في رمضان، مات شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد ابن هبة الله بن أبي عصرون، الفقيه الشافعي بدمشق، وكان قاضيها، وأضر، وولي القضاء بعده ابنه، وكان الشيخ من أعيان الفقهاء الشافعية.
وفيها، في ذي القعدة، توفي الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري بالخروبة مع صلاح الدين، وهو من أعيان أمراء عسكره، ومن قدماء الأسدية، وكان فقيهاً، جندياً، شجاعاً، كريماً، ذا عصبية ومروءة، وهو من أصحاب الشيخ الإمام أبي القاسم بن البرزي، تفقه عليه بجزيرة ابن عمر، ثم اتصل بأسد الدين شيركوه فصار إماماً له، فرأى من شجاعته ما جعل له أقطاعاً، وتقدم عند صلاح الدين تقدماً عظيماً.

وفيها، في صفر توفي شيخنا أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان، المعروف بابن أفضل الزمان، بمكة، وكان رحمه الله عالماً متبحراً في علوم كثيرة، خلاف فقه مذهبه والأصولين، والحساب والفرائض، والنجوم، والهيئة، والمنطق، وغير ذلك، وختم أعماله بالزهد، ولبس الخشن، وأقام بمكة، حرسها الله تعالى، مجاوراً، فتوفي بها، وكان من أحسن الناس صحبة وخلقاً.
وفيها، في ذي القعدة، مات أبو طالب المبارك بن المبارك بن المبارك الكرخي مدرس النظامية، وكان من أصحاب أبي الحسن بن الخل، وكان صالحاً خيراً له عند الخليفة والعامة حرمة عظيمة، وجاه عريض، وكان حسن الخط يضرب به المثل.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة

ذكر وقعة الفرنج واليزك
وعود صلاح الدين إلى منازلة الفرنج
قد ذكرنا رحيل صلاح الدين عن عكا إلى الخروبة لمرضه، فما برأ أقام بمكانه إلى أن ذهب الشتاء؛ وفي مدة مقامه بالخروبة كان يزكه وطلائعه لا تنقطع عن الفرنج.
فلما دخل صفر من سنة ست وثمانين وخمسمائة سمع الفرنج أن صلاح الدين قد سار للصيد، ورأى العسكر الذي ي اليزك عندهم قليلاً، وأن الوحل الذي في مرج عكا كثير يمنع من سلوكه من أراد أن ينجد اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندقهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمون، وحموا أنفسهم بالنشاب، وأحجم الفرنج عنهم، وحتى فني نشابهم، فحملوا عليهم حينئذ حملة رجل واحد، فاشتد القتال، وعظم الأمر، وعلم المسلمون أنه لا ينجيهم إلا الصبر وصدق القتال، فقاتلوا قتال مستقتل إلى أن جاء الليل، وقتل من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنج إلى خندقهم.
ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سمع خبر الوقعة، فندب الناس إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبر أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكر من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنج كل يوم ليشغلهم عن قتال من بعكا من المسلمين، فكانوا يقاتلون الطائفين ولا يسأمون.
ذكر إحراق الأبراج ووقعة الأسطولكان الفرنج، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جداً، طول كل برج منها في السماء ستون ذراعاً، وعملوا كل برج منها خمس طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وقد جمعوا أخشابها من الجزائر، فإن مثل هذه الأبراج العظيمة لا يصلح لها من الخشب إلا القليل النادر، وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها، وأصلحوا الطرق لها، وقدموها نحو مدينة عكا من ثلاث جهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرفت على السور، وقاتل من بها من عليه، فانكشفوا، وشرعوا في طم خندقها، فأشرف البلد على أن يملك عنوة وقهراً.
فأرسل أهله إلى صلاح الدين إنساناً سبح في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيق، وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنج وقاتلوهم من جميع جهاتهم قتالاً عظيماً دائماً يشغلهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنج فرقتين: فرقة تقاتل صلاح الدين، وفرقة تقاتل أهل عكا، إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد، ودام القتال ثمانية أيام متتابعة، آخرها الثامن والعشرون من الشهر، وسئم الفريقان القتال، وملوا منه لملازمته ليلاً ونهاراً، والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد، لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج، فإنهم لم يتركوا حيلة إلا وعملوها، فلم يفد ذلك ولم يغن عنهم شيئاً، وتابعوا رمي النفط الطيار عليها، فلم يؤثر فيها، فأيقنوا بالبوار والهلاك، فأتاهم الله بنصر من عنده وإذن في إحراق الأبراج.
وكان سبب ذلك أن إنساناً من أهل دمشق كان مولعاً بجمع آلات النفاطين، وتحصيل عقاقير تقوي عمل النار، فكان من يعرفه يلومه على ذلك وينكره عليه، وهو يقول: هذه حالة لا أباشرها بنفسي إنما أشتهي معرفتها، وكان بعكا لأمر يريده الله، فلما رأى الأبراج قد نصبت على عكا شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار، بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما، فلما فرغ منها حضر عند الأمير قراقوش، وهو متولي الأمور بعكا والحاكم فيها، وقال له: تأمر المنجنيقي أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه.

وكان عند قراقوش من الغيظ والخوف على البلد ومن فيه ما يكاد يقتله، فازداد غيظاً بقوله وحرد عليه، فقال له: قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمي بالنفط وغيره فلم يفلحوا؛ فقال له من حضر: لعل الله تعالى قد جعل الفرنج على يد هذا، ولا يضرنا أن نوافقه على قوله؛ فأجابه إلى ذلك، وأمر المنجنيقي بامتثال أمره، فرمى عدة قدور نفطاً وأدوية ليس فيها نار، فكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئاً يصيحون، ويرقصون، ويلعبون على سطح البرج، حتى إذا علم أن الذي ألقاه قد تمكن من البرج، ألقى قدراً مملوءة وجعل فيها النار فاشتعل البرج، وألقى قدراً ثانية وثالثة، فاضطرمت النار في نواحي البرج، وأعجلت من في طبقاته الخمس عن الهرب والخلاص، فاحترق هو ومن فيه، وكان فيه من الزرديات والسلاح شيء كثير.
وكان طمع الفرنج بما رأوا أن القدور الأولى لا تعمل شيئاً يحملها على الطمأنينة وترك السعي في الخلاص، حتى عجل الله لهم النار في الدنيا قبل الآخرة، فلما احترق البرج الأول انتقل إلى الثاني، وقد هرب من فيه لخوفهم، فأحرقه، وكذلك الثالث، وكان يوماً مشهوداً لم ير الناس مثله، والمسلمون ينظرون ويفرحون، وقد أسفرت وجوههم بعد الكآبة فرحاً بالنصر وخلاص المسلمين من القتل لأنهم ليس فيهم أحد ألا وله في البلد إما نسيب وإما صديق.
وحمل ذلك الرجل إلى صلاح الدين فبذل له الأموال الجزيلة والإقطاع الكثير فلم يقبل منه الحبة الفرد، وقال: إنما عملته لله تعالى، ولا أريد الجزاء إلا منه.
وسيرت الكتب إلى البلاد بالبشائر، وأرسل يطلب العساكر الشرقية، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحب سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيره أبوه مقدماً على عسكره وهو صاحب الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحب إربل؛ وكان كل منهم إذا وصل يتقدم إلى الفرنج بعسكره، وينضم إليه غيرهم، ويقاتلونهم، ثم ينزلون.
ووصل الأسطول من مصر، فلما سمع الفرنج بقربه منهم جهزوا إلى طريقه أسطولاً ليلقاه ويقاتله، فركب صلاح الدين في العساكر جميعها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتغلوا بقتاله عن قتال الأسطول ليتمكن من دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قصده بشيء، فكان القتال بين الفريقين براً وبحراً، وكان يوماً مشهوداً لم يؤرخ مثله، وأخذ المسلمون من الفرنج مركباً بما فيه من الرجال والسلاح، وأخذ الفرنج من المسلمين مثل ذلك، إلا أن القتل في الفرنج كان أكثر منه في المسلمين، ووصل الأسطول الإسلامي سالماً.
ذكر وصول ملك الألمان إلى الشامفي هذه السنة خرج ملك الألمان من بلاده، وهم نوع من الفرنج، من أكثرهم عدداً، وأشدهم بأساً، وكان قد أزعجه ملك الإسلام البيت المقدس، فجمع عساكره، وأزاح علتهم، وسار عن بلاده وطريقه على القسطنطينية، فأرسل ملك الروم بها إلى صلاح الدين يعرفه الخبر ويعد أنه لا يمكنه من العبور في بلاده.
فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينة عجز ملكها عن منعه من العبور لكثرة جموعه، لكنه منع عنهم الميرة، ولم يمكن أحداً من رعيته من حمل ما يريدونه إليهم، فضاقت بهم الأزواد والأقوات، وساروا حتى عبروا خليج القسطنطينية، وصاروا على أرض بلاد الإسلام، وهي مملكة الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق. فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمان الأوج، فما زالوا يسايرونهم ويقتلون من انفرد ويسرقون ما قدروا عليه، وكان الزمان شتاء والبرد يكون في تلك البلاد شديداً، والثلج متراكماً، فأهلكهم البرد والجوع والتركمان فقل عددهم.

فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنعهم، فلم يكن له بهم قوة، فعاد إلى قونية وبها أبوه قد حجر ولده المذكور عليه، وتفرق أولاده في بلاده، وتغلب كل واحد منهم على ناحية منها، فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثره، فنازلوا قونية، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هدية وقالوا له: ما قصدنا بلادك ولا أردناها، وإنما قصدنا البيت المقدس؛ وطلبوا منه أن يأذن لرعيته في إخراج ما يحتاجون إليه من قوت وغيره، فأذن في ذلك، فأتاهم ما يريدون، فشبعوا، وتزودوا، وساروا؛ ثم طلبوا من قطب الدين أن يأمر رعيته بالكف عنهم، وأن يسلم إليهم جماعة من أمرائه رهائن، وكان يخافهم، فسلم إليهم نيفاً وعشرين أميراً كان يكرههم، فساروا بهم معهم ولم يمتنع اللصوص وغيرهم من قصدهم والتعرض إليهم، فقبض ملك الألمان على من منعه من الأمراء وقيدهم، فمنهم من هلك في أسره، ومنهم من فدى نفسه.
وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحبها لافون بن اصطفانة بن ليون، فأمدهم بالأقوات والعلوفات، وحكمهم في بلاده، وأظهر الطاعة لهم، ثم ساروا نحو أنطاكية، وكان في طريقهم نهر، فنزلوا عنده، ودخل ملكهم إليه ليغتسل، فغرق في مكان منه لا يبلغ الماء وسط الرجل وكفى الله شره.
وكان معه ولد له، فصار ملكاً بعده، وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابه عليه، فأحب بعضهم العود إلى بلاده، فتخلف عنه، وبعضهم مال إلى تمليك أخ له، فعاد أيضاً، وسار فيمن صحت نيته له، فعرضهم، وكانوا نيفاً وأربعين ألفاً، ووقع فيهم الوباء والموت، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نبشوا من القبور، فتبرم بهم صاحبها، وحسن لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكا، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمون، وخرج أهل حلب وغيرها إليهم، وأخذوا منهم خلقاً كثيراً، ومات أكثر ممن أخذ، فبلغوا طرابلس، وأقاموا بها أياماً، فكثر فيهم الموت، فلم يبق منهم إلا نحو ألف رجل، فركبوا في البحر إلى الفرنج الذين على عكا، ولما وصولا ورأوا ما نالهم في طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم فغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد.
وكان الملك قلج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم، ويعده أنه يمنعهم من العبور في بلاده، فلما عبروها وخلفوها أرسل يعتذر بالعجز عنهم، لأن أولاده حكموا عليه، وحجروا عليه، وتفرقوا عنه، وخرجوا عن طاعته.
وأما صلاح الدين عند وصول الخبر بعبور ملك الألمان، فإنه استشار أصحابه، فأشار كثير منهم عليه بالمسير إلى طريقهم ومحاربتهم قبل أن يتصلوا بمن على عكا، فقال: بل نقيم إلى أن يقربوا منا، وحينئذ نفعل ذلك لئلا يستسلم من بعكا من عساكرنا؛ لكنه سير بعض من عنده من العساكر، منها عسكر حلب وجبلة ولاذقية وشيزر وغير ذلك، إلى أعمال حلب ليكونوا في أطراف البلاد يحفظونها من عاديتهم، وكان حال المسلمين كما قال الله عز وجل: (إذ جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً) الأحزاب 10 - 11، فكفى الله شرهم ورد كيدهم في نحرهم.
ومن شدة خوفهم أن بعض أمراء صلاح الدين كان له ببلد الموصل قرية، وكان أخي، رحمه الله، يتولاها، فحصل دخلها من حنطة وشعير وتبن، فأرسل إليه في بيع الغلة، فوصل كتابه يقول: لا تبع الحبة الفرد، واستكثر لنا من التبن؛ ثم بعد ذلك وصل كتابه يقول: تبيع الطعام فما بنا حاجة إليه، ثم إن ذلك الأمير قدم الموصل، فسألناه عن المنع من بيع الغلة، ثم الإذن فيها بعد مدة يسيرة، فقال: لما وصلت الأخبار بوصول ملك الألمان أيقنا أننا ليس لنا بالشام مقام، فكتبت بالمنع من بيع الغلة لتكون ذخيرة لنا إذا جئنا إليكم، فلما أهلكهم الله تعالى وأغنى عنها كتبت ببيعها والانتفاع بثمنها.
ذكر وقعة للمسلمين والفرنج على عكا

وفي هذه السنة، في العشرين من جمادى الآخرة، خرجت الفرنج فأرسلها وراجلها من وراء خنادقهم، وتقدموا إلى المسلمين، وهم كثير لا يحصى عددهم، وقصدوا نحو عسكر مصر، ومقدمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريون قد ركبوا واصطفوا للقاء الفرنج، فالتقوا، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنج خيامهم، ونهبوا أموالهم، فعطف المصريون عليهم، فقاتلوهم من وسط خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجهت طائفة من المصريين نحو خنادق الفرنج، فقطعوا المدد عن أصحابهم الذين خرجوا، وكانوا متصلين كالنمل، فلما انقطعت أمدادهم ألقوا بأيديهم، وأخذتهم السيوف من كل ناحية فلم ينج منهم إلا الشريد، وقتل منهم مقتلة عظيمة، يزيد عدد القتلى على عشرة آلاف قتيل.
وكانت عساكر الموصل قريبة من عسكر مصر، وكان مقدمهم علاء الدين خرمشاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضاً على الفرنج، وبالغوا في قتالهم، ونالوا منهم نيلاً كثيراً، هذا جميعه، ولم يباشر القتال أحد من الحلقة التي مع صلاح الدين، ولا أحد من الميسرة، وكان بها عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، وعسكر إربل وغيرهم.
ولما جرى على الفرنج هذه الحادثة خمدت جمرتهم، ولانت عريكتهم، وأشار المسلمون على صلاح الدين بمباكرتهم القتال، ومناجزتهم وهم على هذه الحال من الهلع والجزع، فاتفق أنه وصله من الغد كتاب من حلب يخبر فيه بموت ملك الألمان، وما أصاب أصحابه من الموت والقتل والأسر، وما صار أمرهم إليه من القلة والذلة، واشتغل المسلمون بهذه البشرى والفرح بها عن قتال من بإزائهم، وظنوا أن الفرنج إذا بلغهم هذا الخبر ازدادوا وهناً على وهنهم وخوفاً على خوفهم؛ فلما كان بعد يومين أتت الفرنج أمداد في البحر مع كند كبير من الكنود البحرية يقال له الكند هري ابن أخي ملك إفرنسيس لأبيه، وابن أخي ملك انكلتار لأمه، ووصل معه من الأموال شيء كثير يفوق الإحصاء، فوصل إلى الفرنج، فجند الأجناد، وبذل الأموال فعادت نفوسهم فقويت واطمأنت، وأخبرهم أن الأمداد واصلة إليهم يتلو بعضها بعضاً، فتماسكوا وحفظوا مكانهم، ثم أظهروا أنهم يريدون الخروج إلى لقاء المسلمين وقتالهم، فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الخروبة في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، ليتسع المجال، وكانت المنزلة قد أنتنت بريح القتلى.
ثم إن الكند هري نصب منجنيقاً ودبابات وعرادات، فخرج من بعكا من المسلمين فأخذوها، وقتلوا عندها كثيراً من الفرنج؛ ثم إن الكند هري بعد أخذ مجانيقه أراد أن ينصب منجنيقاً، فلم يتمكن من ذلك لأن المسلمين بعكا كانوا يمنعون من عمل ستائر يستتر بها من يرمي من المنجنيق، فعمل تلاً من تراب بالبعد من البلد.
ثم إن الفرنج كانوا ينقلون التل إلى البلد بالتدريج، ويستترون به، ويقربونه إلى البلد، فلما صار من البلد بحيث يصل من عنده حجر منجنيق، نصبوا وراءه منجنيقين، وصار التل سترة لهما، وكانت الميرة قد قلت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخر إنفاذها، فسير إلى نائبه بمدينة بيروت في ذلك، فسير بطسة عظيمة مملوءة من كل ما يريدونه، وأمر من بها فلبسوا ملبس الفرنج وتشبهوا بهم ورفعوا عليها الصلبان، فلما وصلوا إلى عكا لم يشك الفرنج أنها لهم، فلم يتعرضوا لها، فلما حاذت ميناء عكا أدخلها من بها، ففرح بها المسلمون، وانتعشوا وقيت نفوسهم، وتبلغوا بما فيها إلى أن أتتهم الميرة من الإسكندرية.
وخرجت ملكة من الفرنج من داخل البحر في نحو ألف مقاتل، فأخذت بنواحي الإسكندرية، وأخذ من معها، ثم إن الفرنج وصلهم كتاب من بابا، وهو كبيرهم الذي يصدرون عن أمره، وقوله عندهم كقول النبيين لا يخالف، والمحروم عندهم من حرمه، والمقرب من قربه، وهو صاحب رومية الكبرى، يأمرهم بملازمة ما هم بصدده، ويعلمهم أنه قد أرسل إلى جميع الفرنج يأمرهم بالمسير إلى نجدتهم براً وبحراً، ويعلمهم بوصول الأمداد إليهم، فازدادوا قوة وطمعاً.
ذكر خروج الفرنج من خنادقهم

لما تتابعت الأمداد إلى الفرنج، وجند لهم الكند هري جمعاً كثيراً بالأموال التي وصلت معه عزموا على الخروج من خنادقهم ومناجزة المسلمين، فتركوا على عكا من يحصرها ويقاتل أهلها، وخرجوا، حادي عشر شوال، في عدد كالرمل كثرة وكالنار جمرة؛ فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقال المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثة فراسخ عن عكا، وكان قد عاد إليه من فرق من عساكره لما هلك ملك الألمان، ولقي الفرنج على تعبئة حسنة.
وكان أولاده الأفضل علي والظاهر غازي والظافر مما يلي القلب، وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة، ومعه عساكر مصر ومن انضم إليهم، وكان في الميسرة عماد الدين، صاحب سنجار، وتقي الدين، صاحب حماة، ومعز الدين سنجر شاه، صاحب جزيرة ابن عمر، مع جماعة من أمرائه، واتفق أن صلاح الدين أخذه مغس كان يعتاده، فنصب له خيمة صغيرة على تل مشرف على العسكر، ونزل فيها ينظر إليهم، فسار الفرنج، شرقي نهر هناك، حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكر الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية، وأمطروا عليهم من السهام ما كاد يستر الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربي النهر، ولزمهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنج قد تجمعوا، ولزم بعضهم بعضاً، وكان غرض الجالشية أن تحمل الفرنج عليهم، فيلقاهم المسلمون ويلتحم القتال، فيكون الفصل، ويستريح الناس، وكان الفرنج قد ندموا على مفارقة خنادقهم، فلزموا مكانهم، وباتوا ليلتهم تلك.
فلما كان الغد عادوا نحو عكا ليعتصموا بخندقهم، والجالشية في أكتافهم يقاتلونهم تارة بالسيوف وتارة بالرماح وتارة بالسهام، وكلما قتل من الفرنج قتيل أخذوه معهم لئلا يعلم المسلمون ما أصابهم، فلولا ذلك الألم الذي حدث بصلاح الدين لكانت هي الفصيل، وإنما لله أمر هو بالغه، فلما بلغ الفرنج خندقهم، ولم يكن لهم بعدها ظهور منه، عاد المسلمون إلى خيامهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقاً كثيراً.
وفي الثالث والعشرين من شوال أيضاً كمن جماعة من المسلمين، وتعرض للفرنج جماعة أخرى، فخرج إليهم أربع مائة فارس، فقاتلهم المسلمون شيئاً من قتال، وتطاردوا لهم، وتبعهم الفرنج حتى جازوا الكمين، فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد.
واشتد الغلاء على الفرنج، حتى بلغت غرارة الحنطة أكثر من مائة دينار صوري، فصبروا على هذا، وكان المسلمون يحملون إليهم الطعام من البلدان منهم الأمير أسامة، مستحفظ بيروت، كان يحمل الطعام وغيره؛ ومنهم سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب، كان يحمل من صيدا أيضاً إليهم؛ وكذلك من عسقلان وغيرها، ولولا ذلك لهلكوا جوعاً خصوصاً في الشتاء عند انقطاع مراكبهم عنهم لهياج البحر.
ذكر تسيير البدل إلى عكا والتفريط فيه حتى أخذتلما هجم الشتاء، وعصفت الرياح، خاف الفرنج على مراكبهم التي عندهم لأنها لم تكن في الميناء، فسيروها إلى بلاد صور والجزائر، فانفتح الطريق إلى عكا في البحر، فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون الضجر والملل والسآمة، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين مقدماً على جندها، فأمر صلاح الدين بإقامة البدل وإنفاذه إليها، وإخراج من فيها، وأمر أخا الملك العادل بمباشرة ذلك، فانتقل إلى جانب البحر، ونزل تحت جبل حيفا، وجمع المراكب والشواني، وكلما جاءه جماعة من العسكر سيرهم إليها، وأخرج عوضهم، فدخل إليها عشرون أميراً، وكان بها ستون أميراً، فكان الذين دخلوا قليلاً بالنسبة إلى الذين خرجوا، وأهمل نواب صلاح الدين تجنيد الرجال وإنفاذهم.
وكان على خزانة ماله قوم من النصارى، وكانوا إذا جاءهم جماعة قد جندوا تعنتوهم بأنواع شتى، تارة بإقامة معرفة، وتارة بغير ذلك، فتفرق بهذا السبب خلق كثير، وانضاف إلى ذلك تواني صلاح الدين ووثوقه بنوابه، وإهمال النواب، فانحسر الشتاء والأمر كذلك، وعادت مراكب الفرنج إلى عكا وانقطع الطريق إلا من سابح يأتي بكتاب.

وكان من جملة الأمراء الذين دخلوا إلى عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسل مقدم الأسدية بعد جاولي وابن جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أول سنة سبع وثمانين، وكان قد أشار جماعة على صلاح الدين بأن يرسل إلى من بعكا النفقات الواسعة والذخائر والأقوات الكثيرة، ويأمرهم بالمقام، فإنهم قد جربوا وتدربوا واطمأنت نفوسهم على ما هم فيه، فلم يفعل، وظن فيهم الضجر والملل، وأن ذلك يحملهم على العجز والفشل، فكان الأمر بالضد.
ذكر وفاة زين الدين يوسف صاحب إربل ومسير أخيه مظفر الدين إليهاكان زين الدين يوسف بن زين الدين علي، صاحب إربل، قد حضر عند صلاح الدين بعساكره، فمرض ومات ثامن عشر شهر رمضان، وذكر العماد الكاتب في كتابه البرق الشامي قال: جئنا إلى مظفر الدين نعزيه بأخيه، وظنناً به الحزن، وليس له أخ غيره، ولا ولد يشغله عنه، فإذا هو في شغل شاغل عن العزاء، مهتم بالاحتياط على ما خلفه، وهو جالس في خيام أخيه المتوفي، وقد قبض على جماعة من أمرائه، واعتقلهم، وعجل عليهم، وما أغفلهم، منهم بلداجي، صاحب قلعة خفتيذكان، وأرسل إلى صلاح الدين يطلب منه إربل لنزل عن حران والرها، فأقطعه إياها، وأضاف إليها شهرزور وأعمالها ودربند قرابلي، وبنيث قفجاق؛ ولما مات زين الدين كاتب من كان بإربل مجاهد الدين قايماز لهواهم فيه، وحسن سيرته فيهم، وطلبوه إليهم لملكوه، فلم يجسر هو ولا صاحبه عز الدين أتابك مسعود بن مودود على ذلك، خوفاً من صلاح الدين.
وكان أعظم الأٍسباب في تركها أن عز الدين كان قد قبض على مجاهد الدين، فتمكن زين الدين من إربل، ثم إن عز الدين أخرج مجاهد الدين من القبض، وولاه نيابته، وقد ذكرنا ذلك أجمع.
فلما ولاه النيابة عنه لم يمكنه، وجعل معه إنساناً كان من بعض غلمان مجاهد الدين، فكان يشاركه في الحكم ويحل عليه ما يعقده، فلحق مجاهد الدين من ذلك غيظ شديد، فلما طلب إلى إربل قال لمن يثق به: لا أفعل لئلا يحكم فيها فلان، ويكف يدي عنها؛ فجاء مظفر الدين إليها وملكها، وبقي غصة في حلق البيت الأتابكي لا يقدرون على إساغتها. وسنذكر ما اعتمده معهم مرة بعد أخرى، إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك الفرنج مدينة شلب

وعودها إلى المسلمين
في هذه السنة ملك ابن الرنك، وهو من ملوك الفرنج، غرب بلاد الأندلس، مدينة شلب وهي من كبار مدن المسلمين بالأندلس، واستولى عليها، فوصل الخبر بذلك إلى الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب الغرب والأندلس، فتجهز في العساكر الكثيرة وسار إلى الأندلس، وعبر المجاز، وسير طائفة كثيرة من عسكره في البحر، ونازلها وحصرها، وقاتل من بها قتالاً شديداً، حتى ذلوا وسألوا الأمان فأمنهم وسلموا البلد وعادوا إلى بلادهم.
وسير جيشاً من الموحدين ومعهم جمع من العرب إلى بلاد الفرنج، ففتحوا أربع مدن كان الفرنج قد ملكوها قبل ذلك بأربعين سنة، وفتكوا في الفرنج، فخافهم ملك طليطلة من الفرنج، وأرسل يطلب الصلح، فصالحه خمس سنين، وعاد أبو يوسف إلى مراكش، وامتنع من هذه الهدنة طائفة منالفرنج لم يرضوها ولا أمكنهم إظهار الخلاف، فبقوا متوقفين حتى دخلت سنة تسعين وخمسمائة، فتحركوا. وسنذكر خبرهم هناك، إن شاء الله تعالى.
ذكر الحرب بين غياث الدين وسلطان شاه بخراسانكان سلطان شاه أخو خوارزم شاه قد تعرض إلى بلاد غياث الدين ومعز الدين ملكي الغورية، من خراسان، فتجهز غياث الدين وخرج من فيروزكوه إلى خراسان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، فبقي يتردد بين بلاد الطالقان، وبنجده، ومرو، وغيرها يريد حرب سلطان شاه، فلم يزل كذلك إلى أن دخلت سنة ست وثمانين، فجمع سلطان شاه عساكره وقصد غياث الدين، فتصافاً واقتتلا، فانهزم سلطان شاه، وأخذ غياث الدين بعض بلاده وعاد إلى غزنة.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة، في ربيع الأول، تسلم الخليفة الناصر لدين الله حديثة عانة، وكان سير إليها جيشاً حصروها سنة خمس وثمانين فقاتلوا عليها قتالاً شديداً، ودام الحصار، وقتل من الفريقين خلق كثير، فلما ضاقت عليهم الأقوات سلموها على أقطاع عينوها، ووصل صاحبها وأهلها إلى بغداد وأعطوا أقطاعاً ثم تفرقوا في البلاد واشتدت الحاجة بهم حتى رأيت بعضهم وإنه ليتعرض بالسؤال وبعض خدم الناس، ونعوذ بالله من زوال نعمته وتحول عافيته.
وفي هذه السنة توفي مسعود بن النادر الصفار ببغداد، وكان مكثراً من الحديث، حسن الخط، خيراً ثقة.
وفيها توفي أبو حامد محمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري بالموصل، وكان قاضيها، وقبلها ولي قضاء حلب وجميع الأعمال بها، وكان رئيساً جواداً ذا مروءة عظيمة، يرجع إلى دين وأخلاق جميلة.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة

ذكر حصر عز الدين صاحب الموصل الجزيرة
في هذه السنة، في ربيع الأول، سار أتابك عز الدين مسعود بن مودود ابن زنكي صاحب الموصل إلى جزيرة ابن عمر، فحصرها، وكان بها صاحبها سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود، وهو ابن أخي عز الدين.
وكان سبب حصره أن سنجر شاه كان كثير الأذى لعمه عز الدين، والشناعة عليه، والمراسلة إلى صلاح الدين في حقه، تارة يقول إنه يريد قصد بلادك، وتارة يقول إنه يكاتب أعداءك ويحثهم على قصدك، إلى غير ذلك من الأمور المؤذية، وعز الدين يصبر منه على ما يكره لأمور تارة للرحم، وتارة خوفاً من تسليمها إلى صلاح الدين؛ فلما كان في السنة الماضية سار صاحبها إلى صلاح الدين، وهو على عكا، في جملة من سار من أصحابه الأطراف، وأقام عنده قليلاً، وطلب دستوراً للعود إلى بلده، فقال له صلاح الدين: عندنا من أصحاب الأطراف جماع منهم عماد الدين، صاحب سنجار وغيرها، وهو أكبر منك، ومنهم ابن عمك عز الدين، وهو أصغر منك، وغيرهم، ومتى فتحت هذا الباب اقتدى بك غيرك؛ فلم يلتفت إلى قوله، وأصر على ذلك. وكان عند صلاح الدين جماعة من أهل الجزيرة يستغيثون على سنجر شاه لأنه ظلمهم، وأخذ أموالهم وأملاكهم، فكان يخافه لهذا.
ولم يزل في طلب الإذن في العود إلى ليلة الفطر من سنة ست وثمانين، فركب تلك الليلة في السحر وجاء إلى خيمة صلاح الدين أرسل يطلب الإذن عليه، وكان صلاح الدين قد بات محموماً، وقد عرق، فلم يمكن أن يأذن له، فبقي كذلك متردداً على باب خيمته إلى أن أذن له، فلما دخل عليه هنأه بالعيد، وأكب عليه يودعه، فقال له: ما علمنا بصحة عزمك على الحركة، فتصبر علينا حتى نرسل ما جرت به العادة، فما يجوز أن تنصرف عنا، بعد مقامك عندنا، على هذا الوجه. فلم يرجع وودعه وانصرف.
وكان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قد أقبل من بلده حماة في عسكره، فكتب إليه صلاح الدين يأمره بإعادة سنجر شاه طوعاً أو كرهاً؛ فحكى له عن تقي الدين أنه قال: ما رأيت مثل سنجر شاه، لقيته بعقبة فيق، فسألته عن سبب انصرافه، فغالطني، فقلت له: سمعت بالحال، ولا يليق أن تنصرف بغير تشريف السلطان وهديته، فيضع تعبك؛ وسألته العود فلم يصغ إلى قولي، فكلمني كأنني بعض مماليكه، فلما رأيت ذلك منه قلت له: إن رجعت بالتي هي أحسن، وإلا أعدتك كارهاً؛ فنزل عن دابته وأخذ ذيلي وقال: قد استجرت بك؛ وجعل يبكي، فعجبت من حماقته أولاً، وذلته ثانياً، فعاد معي.
فلما عاد بقي عند صلاح الدين عدة أيام، وكتب صلاح الدين إلى عز الدين أتابك يأمره بقصد الجزيرة، ومحاصرتها، وأخذها، وأنه يرسل إلى طريق سنجر شاه ليقبض عليه إذا عاد؛ فخاف عز الدين أن صلاح الدين قد فعل ذلك مكيدة ليشنع عليه بنكث العهد، فلم يفعل شيئاً من ذلك بل أرسل إليه يقول: أريد خطك بذلك ومنشوراً منك بالجزيرة؛ فترددت الرسل في ذلك إلى أن انقضت سنة ست وثمانين، ودخلت هذه السنة فاستقرت القاعدة بينهما، فسار عز الدين إلى الجزيرة، فحصرها أربعة أشهر وأياماً آخرها شعبان، ولم يملكها بل استقرت القاعدة بينه وبين سنجر شاه على يد رسول صلاح الدين، فإنه كان قد أرسله بعد قصدها يقول: إن صاحب سنجار، وصاحب إربل وغيرهما قد شفعا في سنجر شاه، فاستقر الصلح على أن لعز الدين نصف أعمال الجزيرة، ولسنجر شاه نصفها، وتكون الجزيرة بيد سنجر شاه من جملة النصف.

وعاد عز الدين في شعبان إلى الموصل، وكان صلاح الدين بعد ذلك يقول: ما قيل لي عن أحد شيء من الشر فرأيته إلا كان دون ما يقال فيه، إلا سنجر شاه، فإنه كان يقال لي عنه شيئاً استعظمتها، فلما رأيته صغر في عيني ما قيل فيه.
؟؟

ذكر عبور تقي الدين الفرات
وملكه حران وغيرها من البلاد الجزرية ومسيره إلى خلاط ومؤتة
في هذه السنة، في صفر، سار تقي الدين من الشام إلى البلاد الجزرية: حران والرها، كان قد أقطعه إياها عمه صلاح الدين، بعد أخذها من مظفر الدين، مضافاً إلى ما كان له بالشام، وقرر معه أنه يقطع البلاد للجند، ويعود وهم معه إليه ليتقوى بهم على الفرنج؛ فلما عبر الفرات، وأصلح حال البلاد، سار إلى ميافارقين، وكانت له، فلما بلغها تجدد له طمع في غيرها من البلاد المجاورة لها، فقصد مدينة حاني من ديار بكر، فحصرها وملكها، وكان في سبع مائة فارس؛ فلما سمع سيف الدين بكتمر، صاحب خلاط، بملكه حاني جمع عساكره وسار إليه، فاجتمعت عساكره أربعة آلاف فارس، فلما التقوا اقتتلوا فلم يثبت عسكر خلاط لتقي الدين، بل انهزموا، وتبعهم تقي الدين، ودخل بلادهم.
وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رشيق، وزير صاحبه شاه أرمن، وسجنه في قلعة هناك، فلما انهزم كتب إلى مستحفظ القلعة يأمره بقتل ابن رشيق، فوصل القاصد وتقي الدين قد نازل القلعة، فأخذ الكتاب، وملك القلعة، وأطلق ابن رشيق، وسار إلى خلاط فحصرها، ولم يكن في كثرة من العسكر فليم يبلغ منها غرضاً، فعاد عنها، وقصد ملازكرد وحصرها، وضيق على من بها، وطال مقامه عليها؛ فلما ضاق عيهم الأمر طلبوا منه المهلة أياماً ذكروها، فأجابهم إليها.
ومرض تقي الدين، فمات قبل انقضاء الأجل بيومين، وتفرقت العساكر عنها، وحمله ابنه وأصحابه ميتاً إلى ميافارقين، وعاد بكتمر فقوي أمره، وثبت ملكه بعد أن أشرف على الزوال، وهذه الحادثة من الفرج بعد الشدة، فإن ابن رشيق نجا من القتل وبكتمر نجا من أن يؤخذ.
ذكر وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكاوفي هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا، وكان أول من وصل منهم الملك فليب، ملك إفرنسيس، وهو من أشرف ملوكهم نسباً، وإن كان ملكه ليس بالكثير، وان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول، ولم يكن في الكثرة التي ظنوها وإنما كان معه ست بطس كبار عظام فقويت به نفوس من على عكا منهم، ولجوا في قتال المسلمين الذين فيها.
وكان صلاح الدين على شفرعم، فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد، وأرسل إلى الأمير أسامة، مستحفظ بيروت، يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة، وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا، ففعل ذلك، وسير الشواني في البحر، فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالاً من أصحاب ملك انكلتار الفرنج، كان قد سيرهم بين يديه، وتأخر هو بجزيرة قبرس ليملكها، فأقبلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج، فاستظهر المسلمون عليهم، وأخذوهم، وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال.
وكتب أيضاً صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا.
وأما الفرنج الذين على عكا، فإنهم لازموا قتال من بها، ونصبوا عليها سبعة مجانيق رابع جمادى الأولى، فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم، ونزل عليهم لئلا يتعب العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم، فقرب منهم. وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم، فكانوا يشتغلون بقتالهم، فيخف القتال عمن بالبلد.
ثم وصل ملك انكلتار ثالث عشر جمادى الأولى. وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس، وأخذها من الروم؛ فإنه لما وصل إليها غدر بصاحبها وملكها جميعاً، فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج؛ فلما فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج، فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كباراً مملوءة رجالاً وأموالاً، فعظم به شر الفرنج، واشتدت نكايتهم في المسلمين. وكان رجل زمانه شجاعة ومكراً وجلداً وصبراً، وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها.

ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بطسة كبيرة مملوءة من الرجال والعدة والقوت، فجهزت وسيرت من بيروت، وفيها سبع مائة مقاتل، فلقيها ملك إنكلتار مصادفة، فقاتلها، وصبر من فيها على قتالها، فلما أيسوا من الخلاص نزل مقدم من بها إلى أسفلها، وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية، يعرف بغلام ابن شقين، فخرقها خرقاً واسعاً لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر، فغرق جميع ما فيها.
وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم، ثم إن الفرنج عملوا دبابات زحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها، ثم عملوا كباشاً وزحفوا بها، فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد، وأخذوا تلك الكباش، فلما رأى الفرنج أن ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلاً كبيراً من التراب مستطيلاً، وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من ورائه لا ينالهم من البلد أذى، حتى صار على نصف علوه، فكانوا يستظلون به، ويقاتلون من خلفه، فلم يكن للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها، فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين، فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه حالهم، فلم يقدر لهم على نفع.
ذكر ملك الفرنج عكافي يوم الجمعة، سابع عشر جمادى الآخرة، استولى الفرنج، لعنهم الله، على مدينة عكا، وكان أول وهن دخل على من بالبلد أن الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري، المعروف بالمشطوب، كان فيها، ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم، خرج إلى ملك إفرنسيس وبذل له تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه، ويمكنهم من اللحاق بسلطانهم، فلم يجبه إلى ذلك، فعاد علي بن أحمد إلى البلد، فوهن من فيه، وضعفت نفوسهم، وتخاذلوا، وأهمتهم أنفسهم.
ثم إن أميرين ممن كان بعكا، لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب، وأن الفرنج لم يجيبوا إلى الأمان، اتخذوا الليل جملاً، وركبوا في شيني صغير، وخرجوا سراً من أصحابهم، ولحقوا بعسكر المسلمين، وهم عز الدين أرسل الأسدي، وابن عز الدين جاولي، ومعهم غيرهم، فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهناً إلى وهنهم، وضعفاً إلى ضعفهم، وأيقنوا بالعطب.
ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد، فأجابهم إلى ذلك، والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا، وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت، فلم يقنعوا بما بذل، فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يداً واحدة ويسيروا مع البحر ويحملوا على العدو حملة واحدة، ويتركوا البلد بما فيه، ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره، يقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به، فشرعوا في ذلك، واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه، فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح، فبطل ما عزموا عليه لظهوره.
فلما أصبحوا عجز الناس عن حفظ البلد، وزحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم، فظهر من بالبلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون، وكانت هي العلامة إذا حزبهم أمر، فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل، وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم ظناً منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا، وصلا الدين يحرضهم، وهو في أولهم.
وكان الفرنج قد زحفوا من خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد، فقرب المسلمون من خنادقهم، حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم، فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين، وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم.
فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع، ولا يدفع عنهم ضراً، خرج إلى الفرنج، وقرر معهم تسليم البلد، وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم، وبذلك لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين، وإعادة صليب الصلبوت، وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور، فأجابوه إلى ذلك، وحلفوا له عليه، وأن تكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين.
فلما حلفوا له سلم البلد إليهم، ودخلوه سلماً، فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم، وحبسوهم، وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم، وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب، حتى يطلقوا من عندهم، فشرع في جمع المال، وكان هو لا مال له، إنما يخرج ما يصل إليه من دخل البلاد أولاً بأول.

فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم، فأشاروا بأن لا يرسل شيئاً حتى يعود فيستحلفهم على إطلاق أصحابه، وأن يضمن الداوية ذلك، لأنهم أهل تدين يرون الوفاء. فراسلهم صلاح الدين في ذلك، فقال الداوية: لا نحلف ولا نضمن لأننا نخاف غدر من عندنا؛ وقال ملوكهم: إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا؛ فحينئذ علم صلا الدين عزمهم على الغدر، فلم يرسل إليهم شيئاً، وأعاد الرسالة إليهم، وقال: نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب، ونعطيكم رهناً على الباقي، وتطلقون أصحابنا، وتضمن الداوية الرهن، ويحلفون على الوفاء لهم؛ فقالوا: لا نحلف، إنما ترسل إلينا المائة ألف دينار التي حصلت، والأسرى، والصليب، ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال؛ فعلم الناس حينئذ غدرهم، وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبه له، ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموال، يطلبون منهم الفداء، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك.
فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب، ركب الفرنج، وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل، وركب المسلمون إليهم وقصدوهم، وحملوا عليهم، فانكشفوا عن موقفهم، وإذا أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف وقتلوهم واستبقوا الأمراء والمقدمين ومن كان له مال، وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له، فلما رأى صلاح الدين ذلك تصرف في المال الذي كان جمعه، ورد الأسرى والصليب إلى دمشق.
ذكر رحيل الفرنج إلى ناحية عسقلانلما فرغ الفرنج، لعنهم الله، من إصلاح أمر عكا، برزوا منها في الثامن والعشرين من رجب، وساروا مستهل شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارقونه؛ فلما سمع صلاح الدين برحيلهم نادى في عسكره بالرحيل فساروا.
وكان على اليزك، ذلك اليوم، الملك الأفضل ولد صلاح الدين، ومعه سيف الدين إيازكوش وعز الدين جورديك، وعدة من شجعان الأمراء، فضايقوا الفرنج في مسيرهم، وأرسلوا عليهم من السهام ما كاد يحجب الشمس، ووقعوا على ساقة الفرنج، فقتلوا منها جماعة، وأسروا جماعة.
وأرسل الأفضل إلى والده يستمده ويعرفه الحال، فأمر العساكر بالمسير إليه، فاعتذروا بأنهم ما ركبوا بأهبة الحرب، وإنما كانوا على عزم المسير لا غير، فبطل المدد وعاد ملك الإنكلتار إلى ساقة الفرنج، فحماها، وجمهم، وساروا حتى أتوا حيفا، فنزلوا بها، ونزل المسلمون بقيمون، قرية بالقرب منهم، وأحضر الفرنج من عكا عوض من قتل منهم وأسر ذلك اليوم، وعوض ما هلك من الخيل، ثم ساروا إلى قيسارية، والمسلمون يسايرونهم ويتخطفون منهم من قدروا عليه فيقتلونه، لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنه لا يظفر بأحد منهم إلا قتله بمن قتلوا ممن بعكا.
فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون، وقاتلوهم أشد قتال، فنالوا منهم نيلاً كثيراً، ونزل الفرنج بها، وبات المسلمون قريباً منهم، فلما نزلوا خرج من الفرنج جماعة فأبعدوا عن جماعتهم، فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك، فقتلوا منهم وأسروا، ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف، وكان المسلمون قد سبقوهم إليها، ولم يمكنهم مسايرتهم لضيق الطريق، فلما وصل الفرنج إليهم حمل المسلمون علهم حملة منكرة وألحقوهم بالبحر، ودخله بعضهم فقتل منهم كثير.
فلما رأى الفرنج ذلك اجتمعوا، وحملت الخيالة على المسلمين حملة رجل واحد، فولوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد. وكان كثير من الخيالة والسوقة قد ألفوا القيام وقت الحرب قريباً من المعركة، فلما كان ذلك اليوم كانوا على حالهم، فلما انهزم المسلمون عنهم قتل خلق كثير، والتجأ المنهزمون إلى القلب، وفيه صلاح الدين، فلو علم الفرنج أنها هزيمة لتبعوهم واستمرت الهزيمة وهلك المسلمون، لكن كان بالقرب من المسلمين شعرة كثيرة الشجر، فدخلوها وظنها الفرنج مكيدة، فعادوا، وزال عنهم ما كانوا فيه من الضيق، وقتل من الفرنج كند كبير من طواغيتهم، وقتل من المسلمين مملوك لصلاح الدين اسمه أياز الطويل، وهو من الموصوفين بالشجاعة والشهامة لم يكن في زمانه مثله.
فلما نزل الفرنج نزل المسلمون وأعنة خيلهم بأيديهم، ثم سار الفرنج إلى يافا فنزلوها، ولم يكن بها أحد من المسلمين، فملكوها.

ولما كان من المسلمين بأرسوف من الهزيمة ما ذكرناه، سار صلاح الدين عنهم إلى الرملة، واجتمع بأثقاله بها، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريب عسقلان، وقالوا له: قد رأيت ما كان منا بالأمس، وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك يقاتلوننا لننزاح عنها فينزلوا عليها، فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا، ويعظم الأمر علينا، لأن العدو قد قوي بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها، وضعفنا نحن بما خرج عن أيدينا، ولم تطل المدة حتى نستجد غيرها.
فلم تسمح نفسه بتخريبها، وندب الناس إلى دخولها وحفظها، فلم يجبه أحد إلى ذلك وقالوا: إن أردت حفظها فادخل أنت معنا، أو بعض أولادك الكبار، وإلا فما يدخلها منا أحد لئلا يصيبنا ما أصاب أهل عكا، فلما رأى الأمر كذلك سار إلى عسقلان، وأمر بتخريبها، فخربت تاسع عشر شعبان، وألقيت حجارتها في البحر، وهلك فيها من الأموال والذخائر التي للسلطان والرعية ما لا يمكن حصره، وعفى أثرها حتى لا يبقى للفرنج في قصدها مطمع.
ولما سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانهم ولم يسيروا إليها، وكان المركيس، لعنه الله، لما أخذ الفرنج عكا قد أحس من ملك إنكلتار بالغدر به، فهرب من عنده إلى مدينة صور، وهي له وبيده، وكان رجل الفرنج رأياً شجاعة، وكل هذه الحروب هو أثارها، فلما خربت عسقلان أرسل إلى ملك إنكلتار يقول له: مثلك لا ينبغي أن يكون ملكاً ويتقدم على الجيوش، تسمع أن صلاح الدين قد خرب عسقلان وتقيم مكانك؟ يا جاهل، لما بلغك أنه قد شرع في تخريبها كنت سرت إليه مجداً فرحلته وملكتها صفواً بغير قتال ولا حصار، فإنه ما خربها إلا وهو عاجز عن حفظها. وحق المسيح لو أنني معك كانت عسقلان اليوم بأيدينا لم يخرب منها غير برج واحد.
فلما خربت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهر رمضان، ومضى إلى الرملة فخربت حصنها وخب كنيسة لد، وفي مدة مقامه لتخريب عسقلان كانت العساكر مع الملك العادل أبي بكر بن أيوب نجاه الفرنج، ثم سار صلا الدين إلى القدس بعد تخريب الرملة، فاعتبره وما فيه من سلاح وذخائر، وقرر قواعده وأسبابه، وما يحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان.
وفي هذه الأيام خرج ملك إنكلتار من يافا، ومعه نفر من الفرنج من معسكرهم، فوقع به نفر من المسلمين، فقاتلوهم قتالاً شديداً، وكاد ملك إنكلتار يؤسر، ففداه بعض أصحابه بنفسه، فتخلص الملك وأسر ذلك الرجل.
وفيها أيضاً كانت وقعة بين طائفة من المسلمين وطائفة من الفرنج انتصر فيها المسلمون.
ذكر رحيل الفرنج إلى نطرونلما رأى صلاح الدين أن الفرنج قد لزموا يافا ولم يفارقوها، وشرعوا في عمارتها. رحل من منزلته إلى النطرون ثالث عشر رمضان، وخيم به، فراسله ملك إنكلتار يطلب المهادنة، فكانت الرسل تتردد إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل، ويكون القدس وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحل للعادل، وتكون عكا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت ملك إنكلتار، مضافاً إلى مملكة كانت لها داخل البحر قد ورثتها من زوجها، وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاق عليه، فعرض العادل ذلك على صلاح الدين، فأجاب إليه، فلما ظهر الخبر اجتمع القسيسون، والأساقفة، والرهبان إلى أخت ملك إنكلتار وأنكروا عيها، فامتنعت من الإجابة، وقيل كان المانع منه غير ذلك، والله أعلم.
وكان العادل وملك إنكلتار يجتمعان بعد ذلك ويتجاريان حديث الصلح، وطلب من العادل أن يسمعه غناء المسلمين، فأحضر له مغنية تضرب بالجنك، فغنت له، فاستحسن ذلك، ولم يتم بينهما صلح، وكان ملك إنكلتار يفعل ذلك خديعة ومكراً.

ثم إن الفرنج أظهروا العزم على قصد البيت المقدس، فسار صلاح الدين إلى الرملة، جريدة، وترك الأثقال بالنطرون، وقرب من الفرنج، وبقي عشرين يوماً ينتظرهم، فلم يبرحوا، فكن بين الطائفتين، مدة المقام، عدة وقعات في كلها ينتصر المسلمون على الفرنج، وعاد صلاح الدين إلى النطرون، ورحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، على عزم قصد البيت المقدس، فقرب بعضهم من بعض فعظم الخطب واشتد الحذر، فكان كل ساعة يقع الصوت في العسكرين بالنفير فلقوا من ذلك شدة شديدة، وأقبل الشتاء، وحالت الأوحال والأمطار بينهما.
ذكر مسير صلاح الدين إلى القدسلما رأى صلاح الدين أن الشتاء قد هجم، والأمطار متوالية متتابعة، والناس منها في ضنك وحرج، ومن شدة البرد ولبس السلاح والسهر في تعب دائم، وكان كثير من العساكر قد طال بيكارها، فأذن لهم في العود إلى بلادهم للاستراحة والإراحة، وسار هو إلى البيت المقدس فيمن بقي معه، فنزلوا جميعاً داخل البلد، فاستراحوا مما كانوا فيه، ونزل هو بدار الأقسا مجاور بيعة قمامة، وقدم إليه عسكر من مصر مقدمهم الأمير أبو الهيجاء السمين، فقويت نفوس المسلمين بالقدس.
وسار الفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة، على عزم قصد القدس، فكانت بينهم وبين يزك المسلمين وقعات، أسر المسلمون في وقعة منها نيفاً وخمسين فارساً من مشهوري الفرنج وشجعانهم، وكان صلاح الدين لما دخل القدس أمر بعمارة سوره، وتجديد ما رث منه، فأحكم الموضع الذي ملك البلد منه، وأتقنه، وأمر بحفر خندق خارج الفصيل، وسلم كل برج إلى أمير يتولى عمله، فعمل ولده الأفضل من ناحية باب عمود إلى باب الرحمة، وأرسل أتابك عز الدين مسعود، صاحب الموصل، جماعة من الحصاصين، ممن له في قطع الصخر اليد الطولى، فعملوا له هناك برجاً وبدنة، وكذلك جميع الأمراء.
ثم إن الحجارة قلت عند العمالين، فكان صلاح الدين، رحمه الله يركب وينقل الحجارة بنفسه على دابته من الأمكنة البعيدة، فيقتدي به العسكر، فكان يجمع عنده ن العمالين في اليوم الواحد ما يعملونه عدة أيام.
ذكر عود الفرنج إلى الرملةفي العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة، وكان سبب عودهم أنهم كانوا ينقلون ما يريدونه من الساحل، فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجون على من يجلب لهم الميرة فيقطعون الطريق ويغنمون ما معهم، ثم إن ملك إنكلتار قال لمن معه من الفرنج الشاميين: صوروا لي مدينة القدس، فإني ما رأيتها؛ فصوروها له، فرأى الوادي يحيط بها ما عدا موضعاً يسير من جهة الشمال، فسأل عن الوادي وعن عمقه، فأخبر أنه عميق، وعر المسلك.
فقال: هذه مدينة لا يمكن حصرها ما دام صلاح الدين حياً وكلمة المسلمين مجتمعة، لأننا إن نزلنا في الجانب الذي يلي المدينة بقيت سائر الجوانب غير محصورة، فيدخل إليهم منها الرجال والذخائر وما يحتاجون إليه، وإن نحن افترقنا فنزل بعضنا من جانب الوادي وبعضنا من الجانب الآخر، جمع صلاح الدين عسكره وواقع إحدى الطائفتين، ولم يمكن الطائفة الأخرى إنجاد أصحابهم، لأنهم إن فارقوا مكانهم خرج من بالبلد من المسلمين فغنموا ما فيه، وإن تركوا فيه من يحفظه وساروا نحو أصحابهم، فإلى أن يتخلصوا من الوادي ويلحقوا بهم يكون صلاح الدين قد فرغ منهم، هذا سوى ما يتعذر علينا من إيصال ما يحتاج إليه من العلوفات والأقوات.
فلا قال لهم ذلك علموا صدقه، ورأوا قلة الميرة عندهم، وما يجري للجالبين لها من المسلمين، فأشاروا عليه بالعود إلى الرملة، فعادوا خائبين خاسرين.
ذكر قتل قزل أرسلانفي شعبان من هذه السنة قتل قزل أرسلان، واسمه عثمان بن إيلدكز، وقد ذكرنا أنه ملك البلاد، بعد وفاة أخيه البهلوان، ملك أران، وأذربيجان، وهمذان، وأصفهان، والري، وما بينها، وأطاعه صاحب فارس وخوزستان، واستولى على السلطتان طغرل بن أرسلان بن طغرل، فاعتقله في بعض القلاع، ودانت له البلاد.

وفي آخر أمره سار إلى أصفهان، والفتن بها متصلة من لدن توفي البهلوان إلى ذلك الوقت، فتعصب على الشافعية، وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم، وعاد إلى همذان، وخطب لنفسه بالسلطنة، وضرب النوب الخمس، ثم إنه دخل ليلة قتل إلى منزله لينام، وتفرق أصحابه، فدخل إليه من قتله على فراشه، ولم يعرف قاتله، فأخذ أصحابه صاحب بابه ظناً وتخميناً؛ وكان كريماً حسن الأخلاق، يحب العدل ويؤثره، ويرجع إلى حلم وقلة عقوبة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قدم معز الدين قيصر شاه بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، على صلاح الدين في رمضان، وكان سب قدومه أن والده عز الدين قلج أرسلان فرق مملكته على أولاده، وأعطى ولده هذا ملطية وأعطى ولده قطب الدين ملك شاه سيواس، فاستولى قطب الدين على أبيه، وحجر عليه، وأزال حكمه، وألزمه أن يأخذ ملطية من أخيه هذا ويسلمها إليه، فخاف معز الدين، فسار إلى صلاح الدين ملتجئاً إليه، معتضداً به، فأكرمه صلاح الدين، وزوجه بابنه أخيه الملك العادل، فامتنع قطب الدين من قصده، وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة.
وحدثني من أثق به قال: رأيت صلاح الدين وقد ركب ليودع معز الدين هذا، فترجل له معز الدين، وترجل صلاح الدين، وودعه راجلاً، فلما أراد الركوب عضده معز الدين هذا، وأركبه، وسوى ثيابه علاء الدين خرمشاه بن عز الدين، صاحب الموصل، قال: فعجبت من ذلك، وقلت ما تبالي يا ابن أيوب أي موتة تموت؟ يركبك ملك سلجوقي وابن أتابك زنكي.
وفيها توفي حسام الدين محمد بن لاجين، وهو ابن أخت صلاح الدين؛ وعلم الدين سليمان بن جندر، وهو من أكابر أمراء صلاح الدين أيضاً.
وفي رجب توفي الصفي بن القابض، وكان متولي دمشق لصلاح الدين، يحكم في جميع بلاده.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة

ذكر عمارة الفرنج عسقلان
في هذه السنة، في المحرم، رحل الفرنج نحو عسقلان وشرعوا في عمارتها، وكان صلاح الدين بالقدس، فسار ملك إنكلتار، جريدة، من عسقلان إلى يزك المسلمين، فواقعهم، وجرى بين الطائفتين قتال شديد انتصف بعضهم من بعض.
وفي مدة مقام صلاح الدين بالقدس ما برحت سراياه تقصد الفرنج، فتارة تواقع طائفة منهم، وتارة تقطع الميرة عنهم، ومن جملتها سرية كان مقدمها فارس الدين ميمون القصري، وهو من مقدمي المماليك الصلاحية، خرج على قافلة كبيرة للفرنج، فأخذها وغنم ما فيها.
ذكر قتل المركيس وملك الكندهرفي هذه السنة، في ثالث عشر ربيع الآخر، قتل المركيس الفرنجي، لعنه الله، صاحب صور، وهو أكبر شياطين الفرنج.
وكان سبب قتله أن صلاح الدين راسل مقدم الإسماعيلية، وهو سنان، وبذل له أن يرسل من يقتل ملك إنكلتار، وإن قتل المركيس فله عشرة آلاف دينار، فلم يمكنهم قتل ملك إنكلتار، ولم يره سنان مصلحة لهم لئلا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنج ويتفرغ لهم، وشره في أخذ المال، فعدل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلين في زي الرهبان، واتصلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحب الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهر يظرهان العبادة، فأنس بهما المركيس، ووثق بهما، فلما كان بعد التاريخ عمل الأسقف بصور دعوة للمركيس، فحضرها، وأكل طعامه، وشرب مدامه، وخرج من عنده، فوثب عليه الباطنيان المذكوران، فجرحاه جراحاً وثيقة، وهرب أحدهما، ودخل كنيسة يختفي فيها، فاتفق أن المركيس حمل إليها ليشد جراحه، فوثب عليه ذلك الباطني فقتله، وقتل الباطنيان بعده.
ونسب الفرنج قتله إلى وضع من ملك إنكلتار لينفرد بملك الساحل الشامي، فلما قتل ولي بعده مدينة صور كند من الفرنج، من داخل البحر، يقال له الكند هري، وتزوج بالملكة في ليلته، ودخل بها وهي حامل، وليس الحمل عندهم مما يمنع النكاح.
وهذا الكند هري هو ابن أخت ملك إفرنسيس من أبيه، وابن أخت ملك إنكلتار من أمه، وملك كند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عود ملك إنكلتار، وعاش إلى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فسقط من سطح فمات؛ وكان عاقلاً، كثير المدارة والاحتمال.
ولما رحل ملك إنكلتار إلى بلاده أرسل كند هري هذا إلى صلاح الدين يستعطفه، ويستميله، يطلب منه خلعة، وقال: أنت تعلم أن لبس القباء والشربوش عندنا عيب، وأنا ألبسهما منك محبة لك؛ فأنفذ إليه خلعة سنية منها القباء والشربوش، فلبسهما بعكا.

ذكر نهب بني عامر البصرة
في هذه السنة، في صفر، اجتمع بنو عامر في خلق كثير، وأميرهم اسمه عميرة، وقصدوا البصرة، وكان الأمير بها اسمه محمد بن إسمعيل، ينوب عن مقطعها الأمير طغرل، مملوك الخليفة الناصل لدين الله، فوصلوا إليها يوم السبت سادس صفر، فخرج إليهم الأمير محمد فيمن معه من الجند، فوقعت الحرب بينهم بدرب الميدان، بجانب الخريبة، ودام القتال إلى آخر النهار، فلما جاء الليل ثلم العرب في السور عدة ثلم، ودخلوا البلد من الغد، فقاتلهم أهل البلد، فقتل بينهم قتلى كثيرة من الفريقين، ونهبت العرب الخانات بالشاطئ وبعض محال البصرة، وعبر أهلها إلى شاطئ الملاحين، وفارق العرب البلد في يومهم وعاد أهله إليه.
وكان سبب سرعة العرب في مفارقة البلد أنهم بلغهم أن خفاجة والمنتفق قد قاربوهم، فساروا إليهم وقاتلوهم أشد قتال، فظفرت عامر، وغنمت أموال خفاجة والمنتفق، وعادوا إلى البصرة بكرة الاثنين، وكان الأمير قد جمع من أهل البصرة والسواد جمعاً كثيراً، فلما عادت عامر قاتلهم أهل البصرة ومن اجتمع معهم، فلم يقوموا للعرب وانهزموا، ودخل العرب البصرة ونهبوها، وفارق البصرة أهلها، ونهبت أموالهم، وجرت أمور عظيمة، ونهبت القسامل وغيرها يومين، وفارقها العرب وعاد أهلها إليها، وقد رأيت هذه القصة بعينها في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، والله أعلم.
ذكر ما كان من ملك إنكلتارفي تاسع جمادى الأولى من هذه السنة استولى الفرنج على حصن الداروم، فخربوه، ثم ساروا إلى البيت المقدس وصلاح الدين فيه، فبلغوا بيت نوبة.
وكان سبب طمعهم أن صلاح الدين فرق عساكره الشرقية وغيرها لأجل الشتاء، وليستريحوا، وليحضر البدل عوضهم، وسار بعضهم مع ولده الأفضل وأخيه العادل إلى البلاد الجزرية، لما نذكره إن شاء الله تعالى، وبقي من حلقته الخاص بعض العساكر المصرية، فظنوا أنهم ينالون غرضاً، فلما سمع صلاح الدين بقربهم منه فرق أبراج البلد على الأمراء، وسار الفرنج من بيت نوبة إلى قلونية، سلخ الشهر، وهي على فرسخين من القدس، فصب المسلمون عليهم البلاء، وتابعوا إرسال السرايا فبلي الفرنج منهم بما لا قبل لهم به، وعلموا أنهم إذا نازلوا القدس كان الشر إليهم أسرع والتسلط عليهم أمكن، فرجعوا القهقرى، وركب المسلمون أكتافهم بالرماح والسهام.
ولما أبعد الفرنج عن يافا سير صلاح الدين سرية من عسكره إليها، فقاربوها، وكمنوا عندها، فاجتاز بهم جماعة من فرسان الفرنج مع قافلة، فخرجوا عليهم، فقتلوا منهم وأسروا وغنموا، وكان ذلك آخر جمادى الأولى.
ذكر استيلاء الفرنج على عسكر المسلمينفي تاسع جمادى الآخرة بلغ الفرنج الخبر بوصول عسكر من مصر، ومعهم قفل كبير، ومقدم العسكر فلك الدين سليمان، أخو العادل لأمه، ومعه عدة من الأمراء، فأسرى الفرنج إليهم، فواقعهم بنواحي الخليل، فانهزم الجند، ولم يقتل منهم رجل من المشهورين إنما قتل من الغلمان والأصحاب، وغنم الفرنج خيامهم وآلاتهم؛ وأما القفل فإنه أخذ بعضه، وصعد من نجا جبل الخليل، فلم يقدم الفرنج على أتباعهم، ولو اتبعوهم نصف فرسخ لأتوا عليهم؛ وتمزق من نجا من القفل، وتقطعوا، ولقوا شدة إلى أن اجتمعوا.
حكى لي بعض أصحابنا، وكنا قد سيرنا معه شيئاً للتجارة إلى مصر، وكان قد خرج في هذا القفل، قال: لما وقع الفرنج علينا كنا قد رفعنا أحمالنا للسير، فحملوا علينا وأوقعوا بنا، فضربت أحمالي وصعدت الجبل ومعي عدة أحمال لغيري. فلحقنا قوم من الفرنج، فأخذوا الأحمال التي في صحبتي، وكنت بين أيديهم بمقدار رمية سهم، فلم يصلوا إلي، فنجوت بما معي، وسرت لا أدري أين أقصد، وإذ قد لاح لي بناء كبير على جبل، فسألت عنه، فقيل لي: هذا الكرك؛ فوصلت إليه ثم عدت منه إلى القدس سالماً. وسار هذا الرجل من القدس سالماً، فلما بلغ بزاعة، عند حلب، أخذه الحرامية، فنجا من العطب، وهلك عند ظنه السلامة.
ذكر سير الأفضل والعادل إلى بلاد الجزيرة

قد تقدم ذكر موت تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، واستيلاء ولده ناصر الدين محمد على بلاد الجزيرة، فلما استولى عليها أرسل إلى صلاح الدين يطلب تقريرها عليه، مضافاً إلى ما كان لأبيه بالشام، فلم ير صلاح الدين أن مثل تلك البلاد تسلم إلى صبي، فما أجابه إلى ذلك، فحدث نفسه بالامتناع على صلاح الدين لاشتغاله بالفرنج، فطلب الأفضل علي بن صلاح الدين من أبيه أن يقطعه ما كان لتقي الدين، وينزل عن دمشق، فأجابه إلى ذلك، وأمره بالمسير إليها، فسار إلى حلب في جماعة من العسكر، وكتب صلاح الدين إلى أصحاب البلاد الشرقية، مثل صاحب الموصل، وصاحب سنجار، وصاحب الجزيرة، وصاحب ديار بكر، وغيرها، يأمرهم بإنفاذ العساكر إلى ولده الأفضل.
فلما رأى ولد تقي الدين ذلك علم أنه لا قوة له بهم، فراسل الملك العادل، عم أبيه، يسأله إصلاح حاله مع صلاح الدين، فأنهى ذلك إلى صلاح الدين، وأصلح حاله، وقرر قاعدته بأن يقرر له ما كان لأبيه بالشام، وتؤخذ منه البلاد الجزرية، واستقرت القاعدة على ذلك.
وأقطع صلاح الدين البلاد الجزرية، وهي حران، والرها، وسميساط، وميافارقين، وحاني العادل، وسيره إلى ابن تقي الدين ليتسلم منه البلاد، ويسيره إلى صلاح الدين، ويعيد الملك الأفضل أين أدركه؛ فسار العادل، فلحق الأفضل بحلب، فأعاده إلى أبيه، وعبر العادل الفرات وتسلم البلاد من ابن تقي الدين وجعل نوابه فيها، واستصحب ابن تقي الدين معه، وعاد إلى صلاح الدين بالعساكر، وكان عوده في جمادى الآخرة من هذه السنة.
ذكر عود الفرنج إلى عكالما عاد الملك الأفضل فيمن معه، وعاد الملك العادل وابن تقي الدين فيمن معهما من عساكرهما، ولحقتهم العساكر الشرقية، عسكر الموصل وعسكر ديار بكر وعسكر سنجار وغير ذلك من البلاد، واجتمعت العساكر بدمشق، أيقن الفرنج أنهم لا طاقة لهم بها، إذا فارقوا البحر، فعادوا نحو عكا يظهرون العزم على قصد بيوت ومحاصرتها، فأمر صلاح الدين ولده الأفضل أن يسير إليها في عسكره والعساكر الشرقية جميعها، معارضاً للفرنج في مسيرهم نحوها، فسار إلى مرج العيون، واجتمعن العساكر معه، فأقام هنالك ينتظر مسير الفرنج، فلما بلغهم ذلك أقاموا بعكا ولم يفارقوها.
ذكر ملك صلاح الدين يافالما رحل الفرنج نحو عكا كان قد اجتمع عند صلاح الدين عسكر حلب وغيره، فسار إلى مدينة يافا، وكانت بيد الفرنج، فنازلها وقاتل من بها منهم، وملكها في العشرين من رجب بالسيف عنوة، ونهبها المسلمون، وغنموا ما فيها، وقتلوا الفرنج وأسروا كثيراً، وكان بها أكثر ما أخذوه من عسكر مصر والقفل الذي كان معهم، وقد ذكر ذلك.
وكان جماعة من المماليك الصلاحية قد وقفوا على أبواب المدينة، وكل من خرج من الجند ومعه شيء من الغنيمة أخذوه منه، فإن امتنع ضربوه وأخذوا ما معه قهراً، ثم زحفت العساكر إلى القلعة، فقاتلوا عيها آخر النهار، وكادوا يأخذونها، فطلب من بالقلعة الأمان على أنفسهم، وخرج البطرك الكبير الذي لهم، ومعه عدة من أكابر الفرنج، في ذلك، وترددوا، وكان قصدهم منع المسلمين عن القتال، فأدركهم الليل، وواعدوا المسلمين أن ينزلوا بكرة غد ويسلموا القلعة.
فلما أصبح الناس طالبهم صلاح الدين بالنزول عن الحصن، فامتنعوا، وإذا قد وصلهم نجدة من عكا، وأدركهم ملك إنكلتار، فأخرج من بيافا من المسلمين، وأتاه المدد من عكا وبرز إلى ظاهر المدينة، واعترض المسلمين وحده، وحمل علهم، فلم يتقدم إليه أحد، فوقف بين الصفين واستدعى طعاماً من المسلمين، ونزل فأكل، فأمر صلاح الدين عسكره بالحملة عليهم، وبالجد في قتالهم، فتقدم إليه بعض أمرائه يعرف بالجناح، وهو أخو المشطوب ابن عي بن أحمد الهكاري، فقال له: يا صلاح الدين قل لمماليكك الذين أخذوا أمس الغنيمة، وضربوا الناس بالحماقات، أن يتقدموا فيقاتلوا، إذا كان القتال فنحن، وإذا كان الغنيمة فلهم. فغضب صلاح الدين من كلامه وعاد عن الفرنج.
وكان رحمه الله حليماً كريماً كثير العفو عند المقدرة، ونزل في خيامه، وأقام حتى اجتمعت العساكر، وجاء إليه ابنه الأفضل وأخوه العادل وعساكر الشرق، فرحل بهم إلى الرملة لينظر ما يكون منه ومن الفرنج، فلزم الفرنج يافا ولم يبرحوا منها.
ذكر الهدنة مع الفرنج

وعود صلاح الدين إلى دمشق

في العشرين من شعبان من هذه السنة عقدت بين المسلمين والفرنج هدنة لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر، أولها هذا التاريخ، وافق أول أيلول؛ وكان سبب الصلح أن ملك إنكلتار لما رأى اجتماع العساكر، وأنه لا يمكنه مفارقة ساحل البرح، وليس بالساحل للمسلمين بلد يطمع فيه، وقد طالت غيبته عن بلاده، راسل صلاح الدين في الصلح، وأظهر من ذلك ضد ما كان يطلب منه المصاف والحرب، فأعاد الفرنجي رسله مرة بعد مرة، ونزل عن تتمة عمارة عسقلان وعن غزة والداروم والرملة، وأرسل إلى الملك العادل في تقرير هذه القاعدة، فأشار هو وجماعة الأمراء بالإجابة إلى الصلح، وعرفوه ما عند العسكر من الضجر والملل، وما قد هلك من أسلحتهم ودوابهم ونفد من نفقاتهم، وقالوا: إن هذا الفرنجي إنما طلب الصلح ليركب البحر ويعود إلى بلاده، فإن تأخرت إجابته إلى أن يجيء الشتاء وينقطع الركوب في البحر نحتاج للبقاء هاهنا سنة أخرى، وحينئذ يعظم الضرر على المسلمين.
وأكثروا القول له في هذا المعنى، فأجاب حينئذ إلى الصلح، فحضر رسل الفرنج وعقدوا الهدنة، وتحالفوا على هذه القاعدة، وكان في جملة من حضر عند صلاح الدين باليان بن بارزان الذي كان صاحب الرملة ونابلس، فلما حلف صلاح الدين قال له: اعلم أنه ما عمل أحد في الإسلام ما عملت، ولا هلك من الفرنج مثل ما هلك منهم هذه المدة فإننا أحصينا من خرج إلينا في البحر من المقاتلة، فكانوا ستمائة ألف رجل ما عاد منهم إلى بلادهم من كل عشرة واحد، بعضهم قتلته أنت، وبعضهم مات، وبعضهم غرق.
وأما صلاح الدين، فإنه بعد تمام الهدنة سار إلى البيت المقدس، وأمر بإحكام سوره، وعمل المدرسة والرباط والبيمارستان وغير ذلك من مصالح المسلمين، ووقف عليها الوقوف، وصام رمضان بالقدس، وعزم على الحج والإحرام منه، فلم يمكنه ذلك، فسار عنه خامس شوال نحو دمشق، واستناب بالقدس أميراً اسمه عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية.
ولما سار عنه جعل طريقه على الثغور الإسلامية كنابلس وطبرية وصفد وتبنين وقصد بيروت، وتعهد هذه البلاد، وأمر بإحكامها، فلما كان في بيروت أتاه بيمند صاحب أنطاكية وأعمالها، واجتمع به وخدمه، فخلع عليه صلاح الدين وعاد إلى بلده، فلما عاد رحل صلاح الدين إلى دمشق، فدخلها في الخامس والعشرين من شوال، وكان يوم دخوله إليها يوماً مشهوداً، وفرح الناس به فرحاً عظيماً لطول غيبته، وذهاب العدو عن بلاد الإسلام.
ذكر وفاة قلج أرسلانفي هذه السنة، منتصف شعبان، توفي الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي بمدينة قونية، وكان له من البلاد قونية وأعمالها، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغير ذلك من البلاد، وكانت مدة ملكه نحو تسع وعشرين سنة، وكان ذا سياسة حسنة، وهيبة عظيمة، وعدل وافر، وغزوات كثيرة إلى بلاد الروم، فلما كبر فوق بلاده على أولاده، فاستضعفوه، ولم يلتفتوا إليه، وحجر عليه ولده قطب الدين.
وكان قلج أرسلان قد استناب، في تدبير ملكه، رجلاً يعرف باختيار الدين حسن، فلما غلب قطب الدين على الأمر قتل حسناً، ثم أخذ والده وسار به إلى قيسارية ليأخذها من أخيه الذي سلمها إليه أبوه، فحصرها مدة، فوجد والده قلج أرسلان فرصة، فهرب ودخل قيسارية وحده. فلما علم قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصر فملكهما، ولم يزل قلج أرسلان يتحول من ولد إلى ولد، وكل منهم يتبرم به، حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو، صاحب مدينة برغلوا، فلما رآه فرح به، وخدمه، وجمع العساكر، وسار هو معه إلى قونية، فملكها، وسار إلى اقصرا ومعه والده قلج أرسلان، فحصرها، فمرض أبوه، فعاد به إلى قونية فتوفي بها ودفن هناك، وبقي ولده غياث الدين في قونية مالكاً لها، حتى أخذتها منه أخوه ركن الدين سليمان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وقد حدثني بعض من أثق به من أهل العلم بما يحكيه، وكان قد وصل تلك البلاد بغير هذا، ونحن نذكره، قال إن قلج أرسلان قسم بلاده بين أولاده في حياته، فسلم دوقاط إلى ابنه ركن الدين سليمان، وسلم قونية إلى ولده كيخسر وغياث الدين، وسلم أنقرة، وهي التي تسمى انكشورية إلى ولده محيي الدين، وسلم ملطية إلى ولده معز الدين قيصر شاه، وسلم أبلستين إلى ولده قطب الدين، وسلم نكسار إلى ولد آخر، وسلم أماسيا إلى ولد أخيه.

هذه أمهات البلاد، وينضاف إلى كل بلد من هذه ما يجاورها من البلاد الصغار التي ليست مثل هذه، ثم إنه ندم على ذلك، وأراد أن يجمع الجميع لولده الأكبر قطب الدين، وخطب له ابنه صلاح الدين يوسف، صاحب مصر والشام، ليقوى به، فلما سمع باقي أولاده بذلك امتنعوا عليه، وحرجوا عن طاعته، وزال حكمه عنهم، فسار يتردد بينهم على سبيل الزيارة، فيقيم عند كل واحد منهم مدة، وينتقل إلى الآخر، ثم إنه مضى إلى ولده كيخسرو، صاحب قونية، على عادته، فخرج إليه، ولقيه، وقبل الأرض بين يديه، وسلم قونية إليه وتصرف عن أمره، فقال لكيخسرو: أريد أن أسير إلى ولدي الملعون محمود، وهو صاحب قيسارية، وتجيء أنت معي لأخذها منه؛ فتجهز وسار معه، وحصر محموداً بقيسارية، فمرض قلج أرسلان، وتوفي عليها. فعاد كيخسرو، وبقي كل واحد من الأولاد على البلد الذي بيده.
وكان قطب الدين، صاحب أقصرا وسيواس، إذا أراد أن يسير من إحدى المدينتين إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية، وبها أخوه نور الدين محمود، وليست على طريقه إنما كان يقصدها ليظهر المودة لأخيه والمحبة له، وفي نفسه الغدر، فكان أخوه محمود يقصده ويجتمع به، ففي بعض المرات نزل بظاهر البلد على عادته، وحضر أخوه محمود عنده غير محتاط، فقتله قطب الدين، وألقى رأسه إلى أصحابه، وأراد أخذ البلد، فامتنع من به من أصحاب أخيه عليه، ثم إنهم سلموه إليه على قاعدة استمرت بينهم.
وكان عند محمود أمير كبير، وكان يحذره من أخيه قطب الدين ويخوفه، فلم يصغ إليه، وكان جواداً، كثير الخير، والتقدم في الدولة عند نور الدين، فلما قتل قطب الدين أخاه قتل حسناً معه، وألقاه على الطريق، فجاء كلب يأكل من لحمه، فثار الناس، وقالوا: لا سمعاً ولا طاعة! هذا رجل مسلم، وله هاهنا مدرسة، وتربة، وصدقات دارة، وأفعال حسنة، لا نتركه تأكله الكلاب؛ فأمر به فدفن في مدرسته، وبقي أولاد قلج أرسلان على حالهم.
ثم إن قطب الدين مرض ومات، فسار أخوه ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى سيواس، وهي تجاوره، فملكها، ثم سار منها إلى قيسارة وأقصرا، ثم بقي مديدة، وسار إلى قونية وبها أخوه غياث الدين، وفحصره بها وملكها ففارقها غياث الدين إلى الشام، ثم إلى بلد الروم، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ ثم سار بعد ذلك إلى ركن الدين إلى نكسار وأماسيا، فملكها، وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين وخمسمائة، فملكها وفارقها أخوه معز الدين إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان معز الدين هذا تزوج ابنة للعادل، فأقام عنده. واجتمع لركن الدين ملك جميع الإخوة ما عدا أنقرة فإنه منيعة لا يوصل إليها، فجعل عليها عسكراً يحصرها صيفاً وشتاء ثلاث سنين، فتسلمها سنة إحدى وستمائة، ووضع على أخيه الذي كان بها من يقتله إذ فارقها، فلما سار عنها قتل.
وتوفي ركن الدين في تلك الأيام، ولم يسمع خبر قتل أخيه بل عاجله الله تعالى لقطع رحمه.
وإنما أوردنا هذه الحادثة هاهنا لنتبع بعضها بعضاً، ولأني لم أعلم تاريخ كل حادثة منها لأثبتها فيه.
ذكر ملك شهاب الدين أجمير

وغيرها من الهند
قد ذكرنا سنة ثلاث وثمانين غزوة شهاب الدين الغوري إلى بلد الهند، وانهزامه، وبقي إلى الآن وفي نفسه الحقد العظيم على الجند الغورية الذين انهزموا، وما ألزمهم من الهوان.
فلما كان هذه السنة خرج من غزنة وقد جمع عساكره وسار منهم يطلب عدوه الهندي الذي هزمه تلك النوبة، فلما وصل إلى برشاوور تقدم إليه شيخ من الغورية كان يدل عليه، فقال له: قد قربنا من العدو؛ وما يعلم أحد أني نمضي ولا من نقصد ولا نرد على الأمراء سلاماً، وهذا لا يجوز فعله، فقال له السلطان: اعلم أنني منذ هزمني هذا الكافر ما نمت مع زوجتي، ولا غيرت ثياب البياض عني، وأنا سائر إلى عدوي، ومعتمد على الله تعالى لا على الغورية، ولا على غيرهم، فإن نصرني الله، سبحانه، ونصر دينه فمن فضله وكرمه، وإن انهزمنا فلا تطلبوني فيمن انهزم، ولو هلكت تحت حوافر الخيل.
فقال له الشيخ: سوف ترى بني عمك من الغورية ما يفعلون، فينبغي أن تكلمهم وترد سلامهم. ففعل ذلك، وبقي أمراء الغورية يتضرعون بين يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعل.

وسار إلى أن وصل إلى موضع المصاف الأول، وجازه مسيرة أربعة أيام، وأخذ عدة مواضع من بلاد العدو، فلما سمع الهندي تجهز، وجمع عساكره، وسار يطلب المسلمين، فلما بقي بين الطائفتين مرحلة عاد شهاب الدين وراءه والكافر في أعقابه أربع منازل، فأرسل الكافر إليه يقول له: أعطني يدك، إنك تصاففني في باب غزنة حتى أجيء وراءك إلا فنحن مثقلون، ومثلك لا يدخل البلاد شبه اللصوص ثم يخرج هارباً، ما هذا فعل السلاطين، فأعاد الجواب: إنني لا أقدر على حربك.
وتم على حاله عائداً إلى أن بقي بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، والكافر في أثره يتبعه، حتى لحقه قريباً من مرندة فجرد شهاب الدين من عسكره سبعين ألفاً، وقال: أريد هذه الليلة تدورون حتى تكونوا وراء عسكر العدو، وعند صلاة الصبح تأتون أنتم من تلك الناحية، وأنا من هذه الناحية؛ ففعلوا ذلك، وطلع الفجر.
ومن عادة الهنود أنهم لا يبرحون من مضجعهم إلى أن تطلع الشمس، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكر المسلمين من كل جانب، وضربت الكوسات، فلم يلتفت ملك الهند إلى ذلك وقال: من يقدم علي، أنا هذا؟ والقتل قد كثر في الهنود، والنصر قد ظهر للمسلمين؛ فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرساً له سابقاً، وركب ليهرب، فقال له أعيان أصحابه: إنك حلفت لنا أنك لا تخلينا وتهرب؛ فنزل عن الفرس وركب الفيل ووقف موضعه، والقتال شديد، والقتل قد كثر في أصحابه، فانتهى المسلمون إليه وأخذوه أسيراً، وحينئذ عظم القتل والأسر في الهنود، ولم ينج منهم إلا القليل.
وأحضر الهندي بين يدي شهاب الدين، فلم يخدمه فأخذ بعض الحجاب بلحيته، وجذبه إلى الأرض، حتى أصابها جبينه، وأقعده بين يدي شهاب الدين، فقال له شهاب الدين: لو استأسرتني ما كنت تفعل بي؟ فقال الكافر: كنت استعملت لك قيداً من ذهب أقيدك به، فقال شهاب الدين: بل نحن ما نجعل لك من القذر ما نقيدك.
وغنم المسلمون من الهنود أموالاً كثيرة وأمتعة عظيمة، وفي جملة ذلك أربعة عشر فيلاً، من جملتها الفيل الذي جرح شهاب الدين في تلك الوقعة. وقال ملك الهند لشهاب الدين: إن كنت طالب بلاد، فما بقي فيها من يحفظها، وإن كنت طالب مال، فعندي أموال تحمل أجمالك كلها.
فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحصن الذي له يعول عليه، وهو أجمير، فأخذه، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة، وقتل ملك الهند.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض على أمير الحاج طاشتكين ببغداد، وكان نعم الأمير، عادلاً في الحاد، رفيقاً بهم، نحباً لهم، له أوراد كثيرة من صلوات وصيام، وكان كثير الصدقة، لا جرم، وقفت أعماله بين يديه فخلص من السجن، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها خرج السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل من الحبس بعد موت قزل أرسلان بن إيلدكز، والتقى هو وقتلغ إينانج بن البهلوان بن إيلدكز، فانهزم إينانج إلى الري، وكان ما نذكره، إن شاء الله تعالى، سنة تسعين وخمسمائة.
وفيها، في رجب، توفي الأمير السيد علي بن المرتضى العلوي الحنفي مدرس جامع السلطان ببغداد.
وفي شعبان منها توفي أبو علي الحسن بن هبة الله بن البوقي، الفقيه الشافعي الواسطي، وكان عالماً بالمذهب انتفع به الناس.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة

ذكر وفاة صلاح الدين وبعض سيرته
في هذه السنة في صفر، توفي صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي، صاحب مصر والشام والجزيرة وغيرها من البلاد، بدمشق، ومولده بتكريت، وقد ذكرنا سبب انتقالهم منها، وملكهم مصر سنة أربع وستين وخمسمائة.
وكان سبب مرضه أن خرج يتلقى الحاج، فعاد، ومرض من يومه مرضاً حاداً بقي به ثمانية أيام وتوفي، رحمه الله.

وكان قبل مرضه قد أحضر ولده الأفضل علياً وأخاه الملك العادل أبا برك، واستشارهما فيما يفعل، وقال: قد تفرغنا من الفرنج، وليس لنا في هذه البلاد شاغل، فأي جهة نقصد؟ فأشار عليه أخوه العادل بقصد خلاط، لأنه كان قد وعده، إذا أخذهتا، أن يسلمها إليه، وأشار ولده الأفضل بقصد بلد الروم التي بيد أولاد قلج أرسلان، وقال: هي أكثر بلاداً وعسكراً ومالاً وأسرع مأخذاً، وهي أيضاً طريق الفرنج إذا خرجوا على البر، فإذا ملكناها منعناهم من العبور فيها. فقال: كلاكما مقصر، ناقص الهمة، بل أقصد أنا بلد الروم، وقال لأخيه: تأخذ أنت بعض أولادي وبعض العسكر وتقصد خلاط، فإذا فرغت أنا من بلد الروم جئت إليكم، وندخل منها أذربيجان، ونتصل ببلاد العجم، فما فيها من يمنع عنها.
ثم أذن لأخيه العادل في المضي إلى الكرك، وكان له، وقال له: تجهز واحضر لتسير؛ فلما سار إلى الكرك مرض صلاح الدين، و توفي قبل عوده.
وكان رحمه الله، كريماً، حليماً، حسن الأخلاق، متواضعاً، صبوراً عل ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه.
وبلغني أنه كان يوماً جالساً وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضاً بسرموز فأخطأته ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه ليتغافل عنها.
وطلب مرة الماء فلم يحضر، وعاود الطلب في مجلس واحد خمس مرات فلم يحضر، فقال: يا أصحابنا، والله قد قتلني العطش! فأحضر الماء، فشربه ولم ينكر التواني في إحضاره.
وكان مرة قد مرض مرضاً شديداً أرجف عليها بالموت، فلما برئ منه وأدخل الحمام كان الماء حاراً، فطلب ماء بارداً، فأحضره الذي يخدمه، فسقط من الماء شيء على الأرض، فناله منه شيء، فتأمل له لضعفه، ثم طلب البارد أيضاً، فأحضر، فلما قاربه سقطت الطاسة على الأرض، فوقع الماء جميعه عليه، فكاد يهلك، فلم يزد على أن قال للغلام: إن كنت تريد قتلي فعرفني! فاعتذر إليه، فسكت عنه.
وأما كرمه، فإنه كان كثير البذل لا يقف في شيء يخرجه، ويكفي دليلاً على كرمه أنه لما مات لم يخلف في خزائنه غير دينار واحد صوري، وأربعين درهماً ناصرية، وبلغني أنه أخرج في مدة مقام على عكا قبالة الفرنج ثمانية عشر ألف دابة من فرس وبغل سوى الجمال، وأما العين والثياب والسلاح فإنه لا يدخل تحت الحصر، ولما انقرضت الدولة العلوية بمصر أخذ من ذخائرهم من سائر الأنواع ما يفوت الإحصاء ففرقه جميعه.
وأما تواضعه، فإنه كان ظاهراً لم يتكبر على أحد من أصحابه، وكان يعيب الملوك المتكبرين بذلك، وكان يحضر عنده الفقراء والصوفية، ويعمل لهم السماع، فإذا قام أحدهم لرقص أو سماع يقوم له فلا يقعد حتى يفرغ الفقير.
ولم يلبس شيئاً مما ينكره الشرع، وكان عنده علم ومعرفة، وسمع الحديث وأسمعه، وبالجملة كان نادراً في عصره، كثير المحاسن والأفعال الجميلة، عظيم الجهاد في الكفار، وفتوحه تدل على ذلك، وخلف سبعة عشر ولداً ذكراً.
ذكر حال أهله وأولاده بعدهلما مات صلاح الدين بدمشق كان معه بها ولده الأكبر والأفضل نور الدين علي، وكان قد حلف له العساكر جميعها، غير مرة، في حياته، فلما مات ملك دمشق، والساحل، والبيت المقدس، وبعلبك، وصرخد، وبصرى، وبانياس، وهونين، وتبنين، وجمع الأعمال إلى الداروم.
وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر، فاستولى عليها، وعلى جميع أعمالها، مثل: حارم، وتل باشر، وإعزاز، وبرزية، ودرب ساك، ومنبج وغير ذلك.
وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصار معه.
وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه، فأطاع الملك الأفضل.

وكان الملك العادل قد سار إليه، كما ذكرنا، فامتنع فيه، لم يحضر عند أحد من أولاد أخيه، فأرسل إليه الملك الأفضل يستدعيه ليحضر عنده، فوعده ولم يفعل، فأعاد مراسلته، وخوفه من الملك العزيز، صاح مصر، ومن أتابك عز الدين، صاحب الموصل، فإنه كان قد سار عنها إلى بلاد العادل الجزرية، على ما نذكره، ويقول له: إن حضرت جهزت العساكر وسرت إلى بلادك فحفظتها، وإن أقمت قصدك أخي الملك العزيز لما بينكما من العداوة، وإذا ملك عز الدين بلادك فليس له دون الشام مانع؛ وقال لرسوله: إن حضر معك، وإلا فقل له قد أمرني، إن سرت إليه بدمشق عدت معك، وإن لم تفعل أسير إلى الملك العزيز أحالفه على ما يختار.
فلما حضر الرسول عنده وعده بالمجيء، فلما رأى أن ليس معه منه غير الوعد أبلغه ما قيل له في معنى موافقة العزيز، فحينئذ سار إلى دمشق، وجهز الأفضل معه عسكراً من عنده، وأرسل إلى صاحب حمص، وصاحب حماة، وإلى أخيه الملك الظاهر بحلب، يحثهم على إنفاذ العساكر مع العادل إلى البلاد الجزرية ليمنعها من صاحب الموصل، ويخوفهم إن هم لم يفعلوا.
ومما قال لأخيه الظاهر: قد عرفت صحبة أهل الشام لبيت أتابك، فوالله لئن ملك عز الدين حران ليقومن أهل حلب عليك، ولتخرجن منها وأننت لا تعقل، وكذلك يفعل بي أهل دمشق، فاتفقت كلمتهم على تسيير العساكر معه، فجهزوا عساكرهم وسيروها إلى العادل وقد عبر الفرات. فعسكرت عساكرهم بنواحي الرها بمرج الريحان، وسنذكر ما كان منه إن شاء الله تعالى.
ذكر مسير أتابك عز الدين

إلى بلاد العادل وعوده بسبب مرضه
لما بلغ أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، صاحب الموصل، وفاة صلاح الدين جمع أهل الرأي من أصحابه، وفيهم مجاهد الدين قايماز، كبير دولته، والمقدم على كل من فيها، وهو نائبه فيهم، واستشارهم فيما يفعل، فسكتوا.
فقال له بعضهم، وهو أخي مجد الدين أبو السعادات المبارك: أنا أرى أنك تخرج مسرعاً جريدة فيمن خف من أصحابك وحلقتك الخاص، وتتقدم إلى الباقين باللحاق بك، وتعطي من هو محتاج إلى شيء ما يتجهز به ما يخرجه ويلحق بك إلى نصيبين، وتكاتب أصحاب الأطراف مثل مظفر الدين بن زين الدين، وصاحب إربل، وسنجر شاه ابن أخيك صاحب جزيرة ابن عمر، وأخيك عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين، تعرفهم أنك قد سرت، وتطلب منهم المساعدة وتبذل لهم اليمين على ما يلتمسونه، فمتى رأوك قد سرت خافوك، وإن أجابك أخوك صاح بسنجار ونصيبين إلى الموافقة، وإلا بدأ بنصيبين فأخذتها وتركت عسكره مقابل أخيك يمنعه الحركة، إن أرادها، أو قصدت الرقة، فلا تمنع نفسها، وتأتي حران والرها، فليس فيها من يحفظها لا صاحب ولا عسكر ولا ذخيرة، فإن العادل أخذهما من ابن تقي الدين، ولم يقم فيهما ليصلح حالهما، وكان القوم يتكلون على قوتهم، فلم يظنوا هذا الحادث، فإذا فرغت من ذلك الطرف عدت إلى من امتنع من طاعتك فقاتلته، وليس وراءك ما تخاف عليه، فإن بلدك عظيم لا يبالي بكل من وراءك.
فقال مجاهد الدين: المصلحة أننا نكاتب أصحاب الأطراف، ونأخذ رأيهم في الحركة، ونستميلهم، فقال له أخي: إن أشاروا بترك الحركة تقبلون منهم؟ قال: لا! قال: إنهم لا يشيرون إلا بتركها، لأنهم لا يريدون أن يقوى هذا السلطان خوفاً منه، وكأني بهم يغالطونكم ما دامت البلاد الجزرية فارغة من صاحب وعسكر فإذا جاء إليها من يحفظها جاهروكم بالعداوة.
ولم يمكنه أكثر من هذا القول خوفاً من مجاهد الدين، حيث رأى ميله إلى ما تكلم به، فانفصلوا على أن يكاتبوا أصحاب الأطراف، فكاتبوهم، فكل أشار بترك الحركة إلى أن ينظر ما يكون من أولاد صلاح الدين وعمهم فتثبطوا.

ثم إن مجاهد الدين كرر المراسلات إلى عماد الدين، صاحب سنجار، يعده ويستميله، فبينما هم على ذلك إذ جاءهم كتاب الملك العادل من المناخ بالقرب من دمشق، وقد سار عن دمشق إلى بلاده، يذكر فيه موت أخيه، وأن البلاد قد استقرت ولده الملك الأفضل، والناس متفقون على طاعته، وأنه هو المدبر لدولة الأفضل، وقد سيره في عسكر جم، كثير العدد، لقصد ماردين لما بلغه أن صاحبها تعرض إلى بعض القرى التي له، وذكر من هذا النحو شيئاً كثيراً، فظنوه حقاً وأن قوله لا ريب فيه، ففتروا عن الحركة، وذلك الرأي، فسيروا الجواسيس، فأتتهم الأخبار بأنه في ظاهر حران نحو من مائتي خيمة لا يغر، فعادوا فتحركوا، فإلى أن تقررت القواعد بينهم وبين صاحب سنجار، وصلته العساكر الشامية التي سيرها الأفضل وغيره إلى العادل، فامتنع بها وسار أتابك عز الدين عن الموصل إلى نصيبين، واجتمع هو وأخوه عماد الدين بها، وساروا على سنجار نحو الرها، وكان العادل قد عسكر قريباً منها بمرج الربحان، فخافهم خوفهاً عظيماً.
فلما وصل أتابك عز الدين إلى تل موزن مرض بالإسهال، فأقام عدة أيام فضعف عن الحركة، وكثر مجيء الدم من، فخاف الهلاك، فترك العساكر مع أخيه عماد الدين وعاد جريدة في مائتي فارس، ومعه مجاهد الدين وأخي مجد الدين، فلما وصل إلى دنيسر استولى عليه الضعف، فأحضر أخي وكتب وصية، ثم سار فدخل الموصل وهو مريض أول رجب.
ذكر وفاة أتابك عز الدين

وشيء من سيرته
في هذه السنة توفي أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن أاقسنقر، صاحب الموصل، بالموصل، وقد ذكرنا عوده إلهيا مريضاً، فبقي في مرضه إلى التاسع والعشرين من شعبان، فتوفي، رحمه الله، ودفن بالمدرسة التي أنشأها مقابل دار الملكة، وكان قد بقي ما يزيد على عشرة أيام لا يتكلم إلا بالشهادتين، وتلاوة القرآن، وإذا تكلم بغيرها استغفر الله، ثم عاد إلى ما كان عليه، فرزق خاتمة خير، رضي الله عنه.
وكان، رحمه الله، خير الطبع، كثير الخير والإحسان، لا سيما إلى شيوخ قد خدموا أباه، فإنه كان يتعهدهم بالبر والإحسان، والصلة والإكرام، ويرجع إلى قولهم، ويزور الصالحين، ويقربهم، ويشفعهم.
وكان حليماً، قليل المعاقبة، كثير الحياء، لم يكلم جليساً له إلا وهو مطرق، وما قال في شيء يسأله: لا، حياء وكرم طبع.
وكان قد حج، ولبس بمكة، حرسها الله، خرقة التصوف، وكان يلبس تلك الخرقة كل ليلة، ويخرج إلى المسجد قد بناه في داره، ويصلي فيه نحو ثلث الليل؛ وكان رقيق القلب، شفيقاً على الرعية.
بلغني عنه أنه قال، بعض الأيام: إنني سهرت الليلة كثيراً، وسبب ذلك أني سمعت صوت نائحة، فظننت أن ولد فلان قد مات، وكان قد سمع أنه مريض، قال: فضاق صدري، وقمت من فراشي أدور في السطح، فلما طال علي الأمر أرسلت خادماً إلى الجاندارية، فأرسل منهم واحداً يستعلم الخبر، فعاد وذكر إنساناً لا أعرفه، فسكن بعض ما عندي فنمت، ولم يكن الرجل الذي ظن أن ابنه مات من أصحابه إنما كان من رعيته.
كان ينبغي أن تتأخر وفاته، وإنما قدمناها لتتبع أخباره بعضها بعضاً.
ذكر قتل بكتمر صاحب بخلاطفي هذه السنة، أول جمادى الأولى، قتل سيف الدين بكتمر، صاحب خلاط، وكان بين قتله وموت صلاح الدين شهران، فإنه أسرف في إظهار الشماتة بموت صلاح الدين، فلم يمهله الله تعالى، ولما بلغه موت صلاح الدين فرح فرحاً كثيراً، وعمل تختاً جلس عليه، ولقب نفسه بالسلطان المعظم صلاح الدين، وكان لقبه سيف الدين، فغيره، وسمي نفسه عبد العزيز، وظهرت منه اختلال وتخليط، وتجهز ليقصد ميافارقين يحصرها، فأدركته منيته.
وكان سبب قتله أن هزار ديناري، وهو أيضاً من مماليك شاه أرمن ظهير الدين، كان قد قوي وكثر جمعه، وتزوج ابنة بكتمر، فطمع في الملك، فوضع عليه من قتله، فلما قتل ملك بعده هزار ديناري بلاد خلاط وأعمالها.
وكان بكتمر ديناً، خيراً، صالحاً، كثير الخير، والصلاح، والصدقة، محباً لأهل الدين والصوفية، كثير الإحسان إليهم، قريباً منهم ومن سائر رعيته، محبوباً إليهم، عادلاًُ فيهم، وكان جواداً شجاعاً عادلاً في رعيته حسن السيرة فيهم.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة شتى شهاب الدين ملك غزنة في برشاوور، وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة، فأدخله بلاد الهند يغنم ويسبي، ويفتح من البلاد ما يمكنه، فدخلها، وعاد فخرج هو وعساكره سالماً، قد ملأوا أيديهم من الغنائم.
وفيها، في رمضان، توفي سلطان شاه، صاحب مرو وغيرها من خراسان، وملك أخوه علاء الدين تكش بلاده، وسنذكر سنة تسعين إن شاء الله تعالى.
وفيها أمر الخليفة الناصر لدين الله بعمارة خزانة الكتب بالمدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها من الكتب النفيسة ألوفاً لا يوجد مثلها.
وفيها، في ربيع الأول فرغ من عمارة الرباط الذي أمر بإنشائه الخليفة أيضاً بالحريم الطاهري، غربي بغداد على دجلة، وهو من أحسن الربط، ونقل إليه كتباً كثيرة من أحسن الكتب.
وفيها ملك الخليفة قلعة من بلاد خوزستان، وسبب ذلك أن صاحبها سوسيان بن شملة جعل فيها دزداراً، فأساء السيرة مع جندها، فغدر به بعضهم فقتله، ونادوا بشعار الخليفة، فأرسل إليها وملكها.
وفيها انقض كوكبان عظيمان، وسمع صوت هدة عظيمة، وذلك بعد طاوع الفجر، وغلب ضوءهما القمر وضوء النهار.
وفيها مات الأمير داود بن عيسى بن محمد بن أبي هشام، أمير مكة، وما زالت إمارة مكة تكون له تارة، ولأخيه مكثر تارة، إلى أن مات.
وفي هذه السنة توفي أبو الرشيد الحاسب البغدادي، وكان قد أرسله الخليفة الناصر لدين الله في رسالة إلى الموصل فمات هناك.
ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة

ذكر الحرب بين شهاب الدين وملك بنارس الهندي
كان شاب الدين الغوري، ملك غزنة، وقد جهز مملوكه قطب الدين أيبك، وسيره إلى بلد الهند للغزاة، فدخلها فقتل فيها و سبى وغنم وعاد، فلما سمع به ملك بنارس، وهو أكبر ملك في الهند، ولايته من حد الصين إلى بلاد ملاوا طولاً، ومن البحر إلى مسيرة عشرة أيام من لهاوور عرضاً، وهو ملك عظيم، فعندها جمع جيوشه، وحشرها، وسار يطلب بلاد الإسلام.
ودخلت سنة تسعين فسار شهاب الدين الغوري من غزنة بعساكره نحوه، فالتقى العسكران على ماجون، وهو نهر كير يقارب دجلة بالموصل، وكان مع الهندي سبع مائة فيل، ومن العسكر على ما قيل ألف ألف رجل، ومن جملة عسكره عدة أمراء مسلمين، كانوا في تلك البلاد أباً عن جد، من أيام السلطان محمود بن سبكتكين، يلازمون شريعة الإسلام، ويواظبون على الصلوات وأفعال الخير، فلما التقى المسلمون والهنود اقتتلوا، فصبر الكفار لكثرتهم، وصبر المسلمون لشجاعتهم، فانهزم الكفار، ونصر المسلمون، وكثر القتل في الهنود، حتى امتلأت الأرض وجافت، وكانوا لا يأخذون إلا الصبيان والجواري، وأما الرجال فيقتلون، وأخذ منهم تسعين فيلاً، وباقي الفيلة قتل بعضها، وانهزم بعضها، وقتل ملك الهند، ولم يعرفه أحد، إلا أنه كانت أسنانه قد ضعفت أصولها، فأمسكوها بشريط الذهب، فبذلك عرفوه.
فلما انهزم الهنود دخل شهاب الدين بلاد بنارس، وحمل من خزائنها على ألف وأربع مائة جمل، وعاد إلى غزنة ومعه الفيلة التي أخذها من جملتها فيل أبيض، حدثني من رآه: لما أخذت الفيلة، وقدمت إلى شهاب الدين، أمرت بالخدمة، فخدمت جميعها إلا الأبيض فإنه لم يخدم، ولا يعجب أحد من قولنا الفيلة تخدم، فإنها تفهم ما يقال لها، ولقد شاهدت فيلاً بالموصل وفياله يحدثه، فيفعل ما يقول له.
ذكر قتل السلطان طغرل
وملك خوارزم شاه الري ووفاة أخيه سلطان شاه
قد ذكرنا سنة ثمان وثمانين خرج السلطان طغرل بن ألب أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي من الحبس، وملكه همذان وغيرها، وكان قد جرى بينه وبين قتلغ إينانج بن البهلوان، صاحب البلاد، حرب انهزم فيها قتلغ إينانج، وتحصن بالري.

وسار طغرل إلى همذان، وأرسل قتلغ إينانج إلى خوارزم شاه علاء الدين تكش يستنجده، فسار إليه في سنة ثمان وثمانين، فلما تقاربا ندم قتلغ إينانج على استدعاء خوارزم شاه، وخاف على نفسه فمضى من بين يديه وتحصن في قلعة له، فوصل خوارزم شاه إلى الري وملكها، وحصر قلعة طبرك ففتحها في يومين، وراسله طغرل، واصطلحا، وبقيت الري في يد خوارزم، فجد في السير خوفاً عليها، فأتاه الخبر، وهو في الطريق، أن أهل خوارزم منعوا سلطان شاه عنها، ولم يقددر على القرب منها، وعاد عنها خائباً، فشتى خوارزم شاه بخوارزم، فلما انقضى الشتاء سار إلى مرو لقصد أخيه سنة تسع وثمانين، فترددت الرسل بينهما في الصلح.
فبينما هم في تقرير الصلح ورد على خوارزم شاه رسول من مستحفظ قلعة سرخس لأخيه سلطان شاه يدعوه ليسلم إليه القلعة لأنه قد استوحش من صاحبه سلطان شاه، فسار خوارزم شاه إليه مجداً، فتسلم القلعة وصار معه.
وبلغ ذلك سلطان شاه في عضده، وتزايد كمده، فمات سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمسمائة؛ فلما سمع خوارزم شاه بموته سار من ساعته إلى مرو فتسلمها، وتسلم مملكة أخيه سلطان شاه جميعها وخزائنه، وأرسل إلى ابنه علاء الدين محمد، وكان يلقب حينئذ قطب الدين، وهو بخوارزم، فأحضره فولاه نيسابور، وولى ابنه الأكبر ملكشاه مرو، وذلك في ذي الحجة سنة تسع وثمانين.
فلما دخلت سنة تسعين وخمسمائة قصد السلطان طغرل بلد الري فأغار على من به من أصحاب خوارزم شاه، ففر منه قتلغ إينانج بن البهلوان، وأرسل إلى خوارزم شاه يعتذر ويسأل إنجاده مرة ثانية؛ ووافق ذلك وصول رسول الخليفة إلى خوارزم شاه يشكو من طغرل، ويطلب إنجاده مرة ثانية؛ ووافق ذلك وصول رسول الخليفة إلى خوارزم شاه يشكو من طغرل، ويطلب منه قصد بلاده ومعه منشور بإقطاعه البلاد، فسار من نيسابور إلى الري، فتلقاه قتلغ إينانج ومن معه بالطاعة، وساروا معه، فلما سمع السلطان طغرل بوصوله كانت عساكره متفرقة، فلم يقف ليجمعها، بل سار إليه فيمن معه، فقيل له: إن الذي تفعله ليس برأي، والمصلحة أن تجمع العساكر؛ فلم يقبل، وكان فيه شجاعة، بل تمم مسيره، فالتقى العسكران بالقرب من الري، فحمل طغرل بنفسه في وسط عسكر خوارزم شاه، فأحاطوا به وألقوه عن فرسه وقتلوه في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، وحمل رأسه إلى خوارزم شاه، فسيره من يومه إلى بغداد فنصب بها بباب النوبي عدة أيام.
وسار خوارزم شاه إلى همذان، وملك تلك البلاد جميعها، وكان الخليفة الناصر لدين الله قد سير عسكراً إلى نجدة خوارزم شاه، وسير له الخلع السلطانية مع وزيره مؤيد الدين بن القصاب، فنزل على فرسخ من همذان، فأرسل إليه خوارزم شاه يطلبه إليه، فقال مؤيد الدين: ينبغي أن تحضر أنت وتلبس الخلعة من خيمتي؛ وترددت الرسل بينهما في ذلك، فقيل لخوارزم شاه: إنها حيلة عليك حتى تحضر عنده ويقبض عليك؛ فرحل خوارزم شاه إليه قصداً لأخذه، فاندفع من بين يديه والتجأ إلى بعض الجبال فامتنع به، فرجع خوارزم شاه إلى همذان، ولما ملك همذان وتلك البلاد سلمها إلى قتلغ إينانج، وأقطع كثيراً منها لمماليكه وجعل المقدم عليهم مياجق، وعاد إلى خوارزم.
ذكر مسير وزير الخليفة إلى خوزستان وملكهافي هذه السنة، في شعبان، خلع الخليفة الناصر لدين الله على النائب في الوزارة مؤيد الدين أبي عبد الله محمد بن علي المعروف بابن القصاب، خلع الوزارة، وحكم في الولاية، وبرز في رمضان، وسار إلى بلاد خوزستان؛ وولي الأعمال بها، وصار له فيها أصحاب وأصدقاء ومعارف، وعرف البلاد ومن أي وجه يمكن الدخول إليها والاستيلاء عليها، فلما ولي ببغداد نيابة الوزارة أشار على الخليفة بأن يرسله في عسكر إليها ليملكها له، وكان عزمه أنه إذا ملك البلاد واستقر فيها أقام مظهراً للطاعة، مستقلاً بالحكم فيها، ليأمن على نفسه.
فاتفق أن صاحبها ابن شملة توفي، واختلف أولاده بعده، فراسل بعضهم مؤيد الدين يستنجده لما بينهم من الصحبة القديمة، فقوي الطمع في البلاد، فجهزت العساكر وسيرت معه إلى خوزستان، فوصلها سنة إحدى وتسعين وجرى بينه وبين أصحاب البلاد مراسلات ومحاربة عجزوا عنها، وملك مدينة تستر في المحرم، وملك غيرها من البلاد، وملك القلاع، وأنفذ بني شملة أصحاب بلاد خوزستان إلى بغداد، فوصلوا في ربيع الأول.

ذكر حصر العزيز مدينة دمشق
في هذه السنة وصل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين، وهو صاحب مصر، إلى مدينة دمشق، فحصرها وبها أخوه الأكبر الملك الأفضل علي بن صلاح الدين، وكنت حينئذ بدمشق، فنزل بنواحي ميدان الحصى، فأرسل الأفضل إلى عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وهو صاحب الديار الجزرية، يستنجده، وكان الأفضل غاية الواثق به والمعتمد عليه، وقد سبق ما يدل على ذلك، فسار الملك العادل إلى دمشق هو والملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحب حلب، وناصر الدين محمد بن تقي الدين، صاحب حماة، وأسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحب حمص، وعسكر الموصل وغيرها، كل هؤلاء اجتمعوا بدمشق، واتفقوا على حفظها، علماً منهم أن العزيز إن ملكها أخذ بلادهم.
فلما رأى العزيز اجتماعهم علم أنه لا قدرة له على البلد، فترددت الرسل حينئذ في الصلح، فاستقرت القاعدة على أن يكون البيت المقدس وما جاوره من أعمال فلسطين للعزيز، وتبقى دمشق وطبرية وأعمالها والغور للأفضل، على ما كانت عليه، وأن يعطي الأفضل أخاه الملك الظاهر جبلة ولاذقية بالساحل الشامي، وأن يكون للعادل بمصر إقطاعه الأول، واتفقوا على ذلك، وعاد العزيز إلى مصر، ورجع كل واحد من الملوك إلى بلده.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كانت زلزلة في ربيع الأول بالجزيرة والعراق وكثير من البلاد، سقطت منها الجبانة التي عند مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام.
وفيها، في جمادى الآخرة، اجتمعت زعب وغيرها من العرب، وقصدوا مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم هاشم بن قاسم، أخو أمير المدينة، فقاتلهم فقتل هاشم، وكان أمير المدينة قد توجه إلى الشام، فلهذا طمعت العرب فيه.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الصمد الطرسوسي الحلبي بها، في شعبان، وكان من عباد الله الصالحين، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة
ذكر ملك وزير الخليفة همذان
وغيرها من بلاد العجم
قد ذكرنا ملك مؤيد الدين بن القصاب بلاد خوزستان، فلما ملكها سار منها إلى ميسان من أعمال خوزستان، فوصل إليه قتلغ إينانج بن البهلوان، صاحب البلاد، وقد تقدم ذكر تغلب خوارزم شاه عليها، ومعه جماعة من الأمراء، فأكرمه وزير الخليفة وأحسن إليه.
وكان سبب مجيئه أنه جرى بينه وبين عسكر خوارزم شاه ومقدمهم مياجق مصاف عند زنجان، واقتتلوا، فانهزم قتلغ إينانج وعسكره، وقصد عسكر الخليفة ملتجئاً إلى مؤيد الدين الوزير، فأعطاه الوزير الخيل والخيام وغير ذلك مما يحتاج إليه، وخلع عليه وعلى من معه من الأمراء، ورحلوا إلى كرماشاهان.
ورحل منها إلى همذان، وكان بها ولد خوارزم شاه ومياجق والعسكر الذي معهما، فلما قاربهم عسكر الخليفة فارقها الخوارزميون وتوجهوا إلى الري، واستولى الوزير على همذان في شوال من هذه السنة، ثم رحل هو وقتلغ إينانج خلفهم، فاستولوا على كل بلد جازوا به منها: خرقان، ومزدغان، وساوة، وآوة، وساروا إلى الري، ففارقها الخوارزميون إلى خوار الري، فسير الوزير خلفهم عسكراً، ففارقها الخوارزميون إلى دامغان، وبسطام، وجرجان، فعاد عسكر الخليفة إلى الري فأقاموا بها، فاتفق قتلغ إينانج ومن معه من الأمراء على الخلاف على الوزير وعسكر الخليفة لأنهم رأوا البلاد قد خلت من عسكر خوارزم شاه، فطمعوا فيها. فدخلوا الري، فحصرها وزير الخليفة، ففارقها قتلغ إينانج، وملكها الوزير، ونهبها العسكر، فأمر الوزير بالنداء بالكف عن النهب.
وسار قتلغ إينانج ومن معه من الأمراء إلى مدينة آوة وبها شحنة الوزير، فمنعهم من دخولها، فساروا عنها، ورحل الوزير في أثرهم نحو همذان، فبلغه وهو في الطريق أن قتلغ أينانج قد اجتمع معه عسكر، وقصد مدينة كرج، وقد نزل على دربند هناك، فطلبهم الوزير من موضع المصاف إلى همذان، فنزل بظاهرها، فأقام نحو ثلاثة أشهر، فوصله رسول خوارزم شاه تكش، وكان قد قصدهم منكراً أخذه البلاد من عسكره، ويطلب إعادتها، وتقرير قواعد الصلح، فلم يجب الوزير إلى ذلك، فسار خوارزم شاه مجداً إلى همذان.

وكان الوزير مؤيد الدين بن القصاب قد توفي في أوائل شعبان، فوقع بينه وبين عسكره الخليفة مصاف، نصف شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فقتل بينهم كثير من العسكرين، وانهزم عسكر الخليفة، وغنم الخوارزميون منهم شيئاً كثيراً، وملك خوارزم شاه همذان، ونبش الوزير من قبره وقطع رأسه وسيره إلى خوارزم، وأظهر أنه قتله في المعركة؛ ثم إن خوارزم شاه أتاه من خراسان ما أوجب أن يعود إليها، فترك البلاد وعاد إلى خراسان.
ذكر غزو ابن عبد المؤمن الفرنج بالأندلسفي هذه السنة، في شعبان، غزا أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن، صاحب بلاد المغرب والأندلس، بلاد الفرنج بالأندلس؛ وسبب ذلك أن ألفنش ملك الفرنج بها، ومقر ملكه مدينة طليطلة، كتب إلى يعقوب كتاباً نسخته: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض؛ أما بعد أيها الأمير، فإنه لا يخفى على كل ذي عقل لازب، ولا ذي لب وذكاء ثاقب، أنك أمير الملة الحنيفية، كما أنا أمير الملة النصرانية، وأنك من لا يخفى عليه ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل، وإهمال الرعية، واشتمالهم على الراحات، وأنا أسومهم الخسف وأخلي الديار، وأسبي الذاراري، وأمثل بالكهول، وأقتل الشباب، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم، وقد أمكنتك يد القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفاً، فقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم، ونحن الآن نقاتل عدداً منكم بواحد منا، ولا تقدرون دفاعاً، ولا تستطيعون امتناعاً.
ثم حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتمطل نفسك عاماً بعد عام، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، ولا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك.
ثم حكي لي عنك أنك لا تجد سبيلاً للحرب لعلك ما يسوغ لك التقحم فيها، فها أنا أقول لك ما فيه الراحة، وأعتذر عنك، ولك أن توافيني بالعهود والمواثيق والأيمان أن تتوجه بجملة من عندك في المراكب والشواني، وأجوز إليك بجملتي وأبارزك في أعز الأماكن عندك، فإن كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك، وهدية مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحققت إمارة الملتين، والتقدم على الفئتين، والله يسهل الإرادة، ويوفق السعادة بمنه لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
فلما وصل كتابه وقرأه يعقوب كتب في أعلاه هذه الآية: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) النمل 37، وأعاده إليه، وجمع العساكر العظيمة من المسلمين وعبر المجاز إلى الأندلس.
وقيل: كان سبب عبوره إلى الأندلس أن يعقوب لما قاتل الفرنج سنة ست وثمانين وصالحهم، بقي طائفة من الفرنج لم ترض الصلح، كما ذكرناه، فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعاً من الفرنج، وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقتلوا وسبوا وغنموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثاً شديداً، فانتهى ذلك إلى يعقوب، فجمع العساكر، وعبر المجاز إلى الأندلس في جيش يضيق عنهن الفضاء، فسمعت الفرنج بذلك، فجمعت قاصيهم ودانيهم، وأقبلوا إليه مجدين على قتاله، واثقين بالظفر لكثرتهم، فالتقوا، تاسع شعبان، شمالي قرطبة عند قلعة رياح، بمكان يعرف بمرج الحديد، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكانت الدائرة أولاً على المسلمين، ثم عادت على الفرنج، فانهزموا أقبح هزيمة وانتصر المسلمون عليهم (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) التوبة 40.
وكان عدد من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفاً، وأسر ثلاثة عشر ألفاً، وغنم المسلمون منهم شيئاً عظيماً، فمن الخيام مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفاً، ومن الخيل ستة وأربعون ألفاً، ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير مائة ألف. وكان يعقوب قد نادى في عسكره: من غنم شيئاً فهو له سوى السلاح؛ وأحصى ما حمل إليه منه، فكان زيادة على سبعين ألف لبس، وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفاً.
ولما انهزم الفرنج اتبعهم أو يوسف، فرآهم قد أخذوا قلعة رياح، وساروا عنها من الرعب والخوف، فملكها، وجعل فيها والياً، وجنداً يحفظونها، وعاد إلى مدينة إشبيلية.

وأما ألفنش، فإنه لما انهزم حلق رأسه، ونكس صليبه، وركب حماراً، وأقسم أن لا يركب فرساً ولا بغلاً حتى تنصر النصرانية، فجمع جموعاً عظيمة، وبلغ الخبر بذلك إلى يعقوب، فأرسل إلى بلاد الغرب مراكش وغيرها يستنفر الناس من غير إكراه، فأتاه من المتطوعة والمرتزقين جمع عظيم، فالتقوا في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها، وتوجه إلى مدينة طليلطة فحصرها، وقاتلها قتالاً شديداً، وقطع أشجارها، وشن الغارة على ما حولها من البلاد، وفتح فيها عدة حصون، فقتل رجالها، وسبى حريمها، وخرب دورها، وهدم أسوارها، فضعفت النصرانية حينئذ، وعظم أمر الإسلام بالأندلس، وعاد يعقوب إلى إشبيلية فأقام بها.
فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين سار عنها إلى بلاد الفرنج، وذلوا، واجتمع ملوكها، وأرسلوا يطلبون الصلح، فأجابهم إليه بعد أن كان عازماً على الامتناع مريداً لملازمة الجهاد إلى أن يفرغ منهم، فأتاه خبر علي بن إسحق الملثم الميورقي أنه فعل بإفرقية ما نذكره من الأفاعيل الشنيعة، فترك عزمه، وصاحلهم مدة خمس سنين، وعاد إلى مراكش آخر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
ذكر فعلة الملثم بإفريقيةلما عبر أبو يوسف يعقوب، صاحب المغرب، إلى الأندلس، كما ذكرنا، وأقام مجاهداً ثلاث سنين، انقطعت أخباره عن إفريقية، فقوي طمع علي بن إسحق الملثم الميورقي، وكان بالبرية مع العرب، فعاود قصد إفريقية، فانبث جنوده في البلاد فخربوها، وأكثروا الفساد فيها، فمحيت آثار تلك البلاد وتغيرت، وصارت خالية من الأنيس، خاوية على عروشها.
وأراد المسير إلى بجاية ومحاصرتها لاشتغال يعقوب بالجهاد، وأظهر أنه إذا استولى على بجاية سار إلى المغرب؛ فوصل الخبر إلى يعقوب بذلك، فصالح الفرنج على ما ذكرناه، وعاد إلى مراكش عازماً على قصده، وإخراجه من البلاد، كما فعل سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وقد ذكرناه.
ذكر ملك عسكر الخليفة أصفهانفي هذه السنة جهز الخليفة الناصر لدين الله جيشاً وسيره إلى أصفهان، ومقدمهم سيف الدين طغرل، مقطع بلد اللحف من العراق، وكان بأصفهان عسكر لخوارزم شاه مع ولده.
وكان أهل أصفهان يكرهونهم، فكاتب صدر الدين الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان الديوان ببغداد يبذل من نفسه تسليم البلد إلى من يصل الديوان من العساكر، وكان هو الحكام بأصفهان على جميع أهلها، فسيرت العساكر، فوصلوا إلى أصفهان، ونزلوا بظاهر البلد، وفارقه عسكر خوارزم شاه، وعادوا إلى خراسان، وتبعهم بعض عسكر الخليفة، فتخطفوا منهم، وأخذوا من ساقة العسكر من قدروا عليه، ودخل عسكر الخليفة إلى أصفهان وملكوها.
ذكر ابتداء حال كوكجه

وملكه بلد الري وهمذان وغيرهما
لما عاد خوارزم شاه إلى خرسان، كما ذكرنا، اتفق المماليك الذين للبهلوان والأمراء، وقدموا على أنفسهم كوكجه، وهو من أعيان المماليك البهلوانية، واستولوا على الري وما جاورها من البلاد، وساروا إلى أصفهان لإخراج الخوارزمية منها، فلما قاربوها سمعوا بعسكر الخليفة عندها، فأرسل إلى مملوك الخليفة سيف الدين طغرل يعرض نفسه على خدمة الديوان، ويظهر العبودية، وأنه إنما قصد أصفهان في طلب العساكر الخوارزمية، وحيث رآهم فارقوا أصفهان سار في طلبهم، فلم يدركهم، وسار عسكر الخليفة من أصفهان إلى همذان.
وأما كوكجه فإنه تبع الخوارزمية إلى طبس، وهي من بلاد الإسماعيلية، وعاد فقصد أصفهان وملكها، وأرسل إلى بغداد يطلب أن يكون له الري وخوار الري وساوة وقم وقاجان وما ينضم إليها إلى حد مزدغان، وتكون أصفهان وهمذان وزنجان وقزوين لديوان الخليفة، فأجيب إلى ذلك، وكتب له منشور بما طلب، وأرسلت له الخلع، فعظم شأنه، وقوي أمره، وكثرت عساكره، وتعظم على أصحابه.
ذكر حصر العزيز دمشق ثانية
وانهزمه عنها
وفي هذه السنة أيضاً خرج الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين من مصر في عساكره إلى دمشق يريد حصرها، فعاد عنها منهزماً.

وسبب ذلك أن من عنده من مماليك أبيه، وهم المعروفون بالصلاحية: فخر الدين جركس، وسرا سنقر، وقراجا، وغيرهم كانوا منحرفين عن الأفضل علي بن صلاح الدين لأنه كان قد أخرج من عنده منهم مثل: ميمون القصري، وسنقر الكبير، وأيبك وغيرهم، فكانوا لا يزالون يخوفون العزيز من أخيه، ويقولون: إن الأكراد والمماليك الأسدية من عسكر مصر يريدون أخاك، ونخاف أن يميلوا إليه ويخرجوك من البلاد، والمصلحة أن نأخذ دمشق؛ فخرج من العام الماضي وعاد، كما ذكرناه، فتجهز هذه السنة ليخرج، فبلغ الخبر إلى الأفضل، فسار من دمشق إلى عمه الملك العادل، فاجتمع به بقلعة جعبر، ودعاه إلى نصرته، وسار من عنده إلى حلب، إلى أخيه الملك الظاهر غازي، فاستنجد به، وسار الملك العادل من قلعة جعبر إلى دمشق، فسبق الأفضل إليها ودخلها، وكان الأفضل لثقته به قد أمر نوابه بإدخاله إلى القلعة ثم عاد الأفضل من حلب إلى دمشق ووصل الملك العزيز إلى قرب دمشق، فأرسل مقدم الأسدية، وهو سيف الدين أيازكوش، وغيره منهم، ومن الأكراد أبو الهيجاء السمين وغيره، إلى الأفضل والعادل بالانحياز إليهما والكون معهما، ويأمرهما بالاتفاق على العزيز والخروج من دمشق ليسلموه إليهما.
وكان سبب الانحراف عن العزيز وميلهم إلى الأفضل أن العزيز لما ملك مصر مال إلى المماليك الناصرية، وقدمهم، ووثق بهم، ولم يلتفت إلى هؤلاء الأمراء، فامتعضوا من ذلك، ومالوا إلى أخيه، وأرسلوا إلى الأفضل والعادل فاتفقا على ذلك، واستقرت القاعدة بحضور رسل الأمراء أن الأفضل يملك الديار المصرية، ويسلم دمشق إلى عمه الملك العادل، وخرجا من دمشق، فانحاز إليهما من ذكرنا، فلم يمكن العزيز المقام، بل عاد منهزماً يطوي المراحل خوف الطلب ولا يصدق بالنجاة، وتساقط أصحابه عنه إلى أن وصل إلى مصر.
وأما العادل والأفضل فإنهما أرسلا إلى القدس، وفيه نائب العزيز، فسلمه إليهما، وسارا فيمن معهما من الأسدية والأكراد إلى مصر، فرأى العادل انضمام العساكر إلى الأفضل، واجتماعهم عليه، فخاف أنه يأخذ مصر، ولا يسلم إليه دمشق، فأرسل حينئذ سراً إلى العزيز يأمره بالثبات، وأن يجعل بمدينة بلبيس من يحفها، وتكفل بأنه يمنع الأفضل وغيره من مقاتلة من بها، فجعل العزيز الناصرية ومقدمهم فخر الدين جركس بها ومعهم غيرهم، ووصل العادل والأفضل إلى بلبيس، فنازلوا من بها من الناصرية، وأراد الأفضل مناجزتهم، أو تركهم بها والرحيل إلى مصر، فمنعه العادل من الأمرين، وقال: هذه عساكر الإسلام، فإذا اقتتلوا في الحرب فمن يرد العدو الكافر، وما بها حاجة إلى هذا، فإن البلاد لك وبحكمك، ومتى قصدت مصر والقاهرة وأخذتهما قهراً زالت هيبة البلاد، وطمع فيها الأعداء، وليس فيها من يمنعك عنها.
وسلك معه أمثال هذا، فطالت الأيام، وأرسل إلى العزيز سراً يأمره بإرسال القاضي الفاضل، وكان مطاعاً عند البيت الصلاحي لعلو منزلته كانت عند صلاح الدين، فحضر عندهما، وأجرى ذكر الصلح، وزاد القول ونقص، وانفسخت العزائم واستقر الأمر على أن يكون للأفضل القدس وجميع البلاد بفلسطين وطبرية والأردن وجميع ما بيده، ويكون للعادل إقطاعه الذي كان قديماً، ويكون مقيماً بمصر عند العزيز، إنما اختار ذلك لأن الأسدية والأكراد لا يريدون العزيز، فهم يجتمعون معه، فلا يقدر العزيز على منعه عما يريد، فلما استقر الأمر على ذلك وتعاهدوا عاد الأفضل إلى دمشق وبقي العادل بمصر عند العزيز.
ذكر عدة حوادثفي ذي القعدة، التاسع عشر منه، وقع حريق عظيم ببغداد بعقد المصطنع فاحترقت المربعة التي بين يديه، ودكان ابن البخيل الهراس، وقيل كان ابتداؤه من دار ابن البخيل.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة

ذكر ملك شهاب الدين بهنكر
وغيرها من بلد الهند

في هذه السنة سار شهاب الدين الغوري، صاحب غزنة، إلى بلد الهند، وحصر قلعة بهنكر، وهي قلعة عظيمة منيعة، فحصرها، فطلب أهلها منه الأمان على أن يسلموا إليه، فأمنهم وتسلمها، وأقام عندها عشرة أيام حتى رتب جندها وأحوالها وسار عنها إلى قلعة كوالير، وبينهما مسيرة خمسة أيام، وفي الطريق نهر كبير، فجازه، ووصل إلى كوالير، وهي قلعة منيعة حصينة على جبل عال لا يصل إليها حجر منجنيق، ولا نشاب، وهي كبيرة، فأقام عليها صفراً جميعه يحاصلها، فلم يبلغ منها غرضاً، فراسله من بها في الصلح، فأجابهم إليه على أن يقر القلعة بأيديهم على مال يحملونه إليه، فحملوا إليه فيلاً حمله ذهب، فرحل عنها إلى بلاد آي وسور، فأغار عليها ونهبها، وسبى وأسر ما يعجز العاد عن حصره، ثم عاد إلى غزنة سالماً.
ذكر ملك العادل مدينة دمشق من الأفضلفي هذه السنة، في السابع والعشرين من رجب، ملك الملك العادل أبو بكر ابن أيوب مدينة دمشق من ابن أخيه الأفضل علي بن صلاح الدين.
وكان أبلغ الأسباب في ذلك وثوق الأفضل بالعادل، وأنه بلغ من وثوقه به أنه أدخله بلده وهو غائب عنه، ولقد أرسل إليه أخوه الظاهر غازي، صاحب حلب، يقول له: أخرج عمنا من بيننا فإنه لا يجيء علينا منه خير، ونحن ندخل لك تحت كل ما تريد، وأنا أعرف به منك، وأقرب إليه، فإنه عمي مثل ما هو عمك، وأنا زوج ابنته، ولو علمت أنه يريد لنا خيراً لكنت أولى به منك. فقال له الأفضل: أنت سيء الظن في كل أحد؛ أي مصلحة لعمنا في أن يؤذينا؟ ونحن إذا اجتمعت كلمتنا، وسيرنا معه العساكر من عندنا كلنا، ملك من البلاد أكثر من بلادنا، ونربح سوء الذكر.
وهذا كان أبلغ الأٍسباب، ولا يعلمها كل أحد، وأما غير هذا، فقد ذكرنا مسير العادل والأفضل إلى مصر وحصارهم بلبيس، وصلحهم مع الملك العزيز بن صلاح الدين، ومقام العادل معه بمصر، فلما أقام عنده استماله، وصلحهم مع الملك العزيز بن صلاح الدين، ومقام العادل معه بمصر، فلما أقام عنده استماله، وقرر معه أنه يخرج معه إلى دمشق ويأخذها من أخيه ويسلمها إليه، فسار معه من مصر إلى دمشق، وحصروها، واستمالوا أميراً من أمراء الأفضل يقال له العزيز بن أبي غالب الحمصي، وكان الأفضل كثير الإحسان إليه، والاعتماد عليه، والوثوق به، فسلم إليه باباً من أبواب دمشق يعرف بالباب الشرقي ليحفظه، فمال إلى العزيز والعادل، ووعدهما أنه يفتح لهما الباب، ويدخل العسكر منه إلى البلد غيلة، ففتحه اليوم السابع والعشرين من رجب، وقت العصر، وأدخل الملك العادل منه ومعه جماعة من أصحابه، فلم يشعر الأفضل إلا وعمه معه في دمشق، وركب الملك العزيز، ووقف بالميدان الأخضر غربي دمشق.
فلما رأى الأفضل أن البلد قد ملك خرج إلى أخيه، وقت المغرب، واجتمع به، ودخلا كلاهما البلد، واجتمعا بالعادل، وقد نزل في دار أسد الدين شيركوه، وتحادثوا، فاتفق العادل والعزيز على أن أوهما الأفضل أنهما يبقيان عليه البلد خوفاً أنه ربما جمع من عنده من العسكر وثار بهما، ومعه العامة، فأخرجهم من البلد، لأن العادل لم يكن في كثرة؛ وأعاد الأفضل إلى القلعة، وبات العادل في دار شيركوه، وخرج العزيز إلى الخيم فبات فيها، وخرج العادل من الغد إلى جوسقه فأقام به وعساكره في البلد في كل يوم يخرج الأفضل إليهما، ويجتمع بهما، فبقوا كذلك أياماً، ثم أرسلا إليه وأمراه بمفارقة القلعة وتسليم البلد على قاعدة أن تعطى قلعة صرخد له، ويسلم جميع أعمال دمشق، فخرج الأفضل، ونزل في جوسق بظاهر البلد، غربي دمشق، وتسلم العزيز القلعة، ودخلها، وأقام بها أياماً، فجلس يوماً في مجلس شرابه، فلما أخذت منه الخمر جرى على لسانه أنه يعيد البلد إلى الأفضل، فنقل ذلك إلى العادل في وقته، فحضر المجلس في ساعته، والعزيز سكران، فلم يزل به حتى سلم البلد إليه، وخرج منه، وعاد إلى مصر، وسار الأفضل إلى صرخد، وكان العادل يذكر أن الأفضل سعى في قتله، فلهذا أخذ البلد منه، وكان الأفضل ينكر ذلك ويتبرأ منه (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) البقرة 113.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، هبت ريح شدية بالعراق، واسودت لها الدنيا، ووقع رمل أحمر، واستعظم الناس ذلك وكبروا، واشتعلت الأضواء بالنهار.

وفيها قتل صدر الدين محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخجندي، رئيس الشافعية بأصفهان، قتله فلك الدين سنقر الطويل، شحنة أصفهان بها، وكان قدم بغداد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، واستوطنها، وولي النظر في المدرسة النظامية ببغداد، ولما سار مؤيد الدين بن القصاب إلى خوزستان سار في صحبته، فلما ملك الوزير أصفهان أقام ابن الخجندي بها في بيته وملكه ومنصبه، فجرى بينه وبين سنقر الطويل شحنة أصفهان للخليفة منافرة فقتله سنقر.
وفي رمضان درس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك البغدادي، الفقيه الشافعي بالمدرسة النظامية ببغداد.
وفي شوال منها استنيب نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الرازي في الوزارة ببغداد، وكان قد توجه إلى بغداد لما ملك ابن القصاب الري.
وفيها ولي أبو طالب يحيى بن سعيد بن زيادة ديوان الإنشاء ببغداد، وكان كاتباً مفلقاً، وله شعر جيد.
وفي صفر منها توفي الفخر محمود بن علي القوفاني الفقيه الشافعي بالكوفة، عائداً من الحج، وكان من أعيان أصحابه محمد بن يحيى.
وفي رجب منها توفي أبو الغنائم محمد بن علي بن المعلم الشاعر الهرثي، والهرث بضم الهاء والثاء المثلثة قرية من أعمال واسط، عن إحدى وتسعين سنة.
وفي رابع شعبان منها توفي الوزير مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن علي بن القصاب بهمذان، وقد ذكرنا من كفايته ونهضته ما فيه كفاية.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة

ذكر إرسال الأمير أبي الهيجاء إلى همذان
في هذه السنة، في صفر، وصل إلى بغداد أمير كبير من أمراء مصر اسمه أبو الهيجاء، ويعرف بالسمين، لأنه كان كثير السمن، وكان من أكابر أمراء مصر، وكان في إقطاعه أخيراً البيت المقدس وغيره مما يجاوره، فلما ملك العزيز والعادل مدينة دمشق من الأفضل، أخذ القدس منه ففارق الشام، وعبر الفرات إلى الموصل، ثم انحدر إلى بغداد، لأنه طلب من ديوان الخلافة، فلما وصل إليها أكرم إكراماً كثيراً، ثم أمر بالتجهيز والمسير إلى همذان مقدماً على العساكر البغدادية، فسار إليها والتقي عندها بالملك أوزبك بن البهلوان وأمير علم وابنه، وابن سطمس وغيرهم، وهم قد كاتبوا الخليفة بالطاعة، فلما اجتمع بهم وثقوا به ولم يحذروه، فقبض على أوزبك وابن سطمس وابن قرا بموافقة من أمير علم، فلما وصل الخبر بذلك إلى بغداد أنكرت هذه الحال على أبي الهيجاء، وأمر بالإفراج عن الجماعة وسيرت لهم الخلع من بغداد تطيباً لقلوبهم، فلم يسكنوا بعد هذه الحادثة ولا أمنوا، ففارقوا أبا الهيجاء السمين، فخاف الديوان، فلم يرجع إليه، ولم يمكنه أيضاً المقام، فعاد يريد إربل لأنه من بلدها هو، فتوفي قبل وصوله إليها، وهو من الأكراد الحكمية من بلد إربل.
ذكر ملك العادل يافا من الفرنج
وملك الفرنج بيروت من المسلمين وحصر الفرنج تبنين ورحيلهم عنها
في هذه السنة، في شوال، ملك العادل أبو بكر بن أيوب مدينة يافا من الساحل الشامي وهي بيد الفرنج، لعنهم الله.
وسبب ذلك أن الفرنج كان قد ملكهم الكند هري، على ما ذكرناه قبل، وكان الصلح قد استقر بين المسلمين والفرنج أيام صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله تعالى، فلما توفي وملك أولاده بعده، كما ذكرناه، جدد الملك العزيز الهدنة مع الكند هري وزاد في مدة الهدنة، وبقي ذلك إلى الآن.

وكان بمدينة بيروت أمير يعرف بأسامة، وهو مقطعها، فكان يرسل الشواني تقطع الطريق على الفرنج، فاشتكى الفرنج من ذلك غير مرة إلى الملك العادل بدمشق، وإلى الملك العزيز بمصر، فلم يمنعا أسامة من ذلك، فأرسلوا إلى ملوكهم الذين داخل البحر يشتكون إليهم ما يفعل بهم المسلمون، ويقولون: إن لم تنجدونا، وإلا أخذ المسلمون البلاد؛ فأمدهم الفرنج بالعساكر الكثيرة، وكان أكثرهم من ملك الألمان، وكان المقدم عليهم قسيس يعرف بالخنصلير، فلما سمع العادل بذلك أسل إلى العزيز بمصر يطلب العساكر، وأرسل إلى ديار الجزيرة الموصل يطلب العساكر، فجاءته الأمداد واجتمعوا على عين الجالوت، فأقاموا شهر رمضان وبعض شوال، ورحلوا إلى يافا، وملكوا المدينة، وامتنع من بها بالقلعة التي لها، فخرب المسلمون المدينة، وحصروا القلعة، فملكوها عنوة وقهراً بالسيف في يومها، وهو يوم الجمعة، وأخذ كل ما بها غنيمة وأسراً وسبياً، ووصل الفرنج من عكا إلى قيسارية ليمنعوا المسلمين عن يافا، فوصلهم الخبر بها بملكها فعادوا.
وكان سبب تأخرهم أن ملكهم الكندي هري سقط من موضع علا بعكا فمات، فاختلت أحوالهم فتأخروا لذلك.
وعاد المسلمون إلى عين الجالوت، فوصلهم الخبر بأن الفرنج على عزم قصد بيروت، فرحل العادل والعسكر في ذي القعدة إلى مرج العيون، وعزم على تخريب بيروت، فسار إليها جمع من العسكر، وهدموا سور المدينة سابع ذي الحجة، وشرعوا في تخريب دورها وتخريب القلعة، فمنعهم أسامة من ذلك، وتكفل بحفظها.
ورحل الفرنج من عكا إلى صيدا، وعاد عسكر المسلمين من بيروت، فالتقوا الفرنج بنواحي صيدا، وجرى بينهم مناوشة، فقتل من الفريقين جماعة، وحجز بينهم الليل، وسار الفرنج تاسع ذي الحجة، فوصلوا إلى بيروت، فلما قاربوها هرب منها أسامة وجميع من معه من المسلمين، فملكوها صفواً عفواً بغير حرب ولا قتال، فكانت غنيمة باردة؛ فأسل العادل إلى صيدا من خرب ما كان بقي منها، فإن صلاح الدين كان قد خرب أكثرها، وسارت العساكر الإسلامية إلى صور، فقطعوا أشجارها، وخربوا ما لها من قرى وأبراج، فلما سمع الفرنج بذلك رحلوا من بيروت إلى صور، وأقاموا عليها.
ونزل المسلمون عند قلعة هونين وأذن للعساكر الشرقية بالعود ظناً منه أن الفرنج يقيمون ببلادهم، وأراد أن يعطي العساكر المصرية دستوراً بالعود، فأتاه الخبر، منتصف المحرم، أن الفرنج قد نازلوا حصن تبنين، فسير العادل إليه عسكراً يحمونه ويمنعون عنه، ورحل الفرنج من صور، ونازلوا تبنين أول صفر سنة أربع وتسعين وقاتلوا من به، وجدوا في القتال، ونقبوه من جهاتهم، فلما علم العادل بذلك أرسل إلى العزيز بمصر يطلب منه أن يحضر هو بنفسه، ويقول له: إن حضرت، وإلا فلا يمكن حفظ هذا الثغر؛ فسار العزيز مجداً فيمن بقي معه من العساكر.
وأما من بحصن تبنين فإنهم لما رأوا النقوب قد خربت تل القلعة، ولم يبق إلا أن يملكوها بالسيف، نزل بعض من فيها إلى الفرنج يطلب الأمان على أنفسهم وأموالهم ليسلموا القلعة، وكان المرجع إلى القسيس الخنصلير من أصحاب ملك الألمان، فقال لهؤلاء المسلمين بعض الفرنج الذين من ساحل الشام: إن سلمتم الحصن استأسركم هذا وقتلكم؛ فاحفظوا نفوسكم؛ فعادوا كأنهم يراجعون من في القلعة ليسلموا، فلما صعد إليها أصروا على الامتناع، وقاتلوا قتال من يحمي نفسه، فحموها إلى أن وصل الملك العزيز إلى عسقلان في ربيع الأول، فلما سمع الفرنج بوصوله واجتماع المسلمين، وأن الفرنج ليس لهم ملك يجمعهم، وأن أمرهم إلى امرأة، وهي الملكة، اتفقوا وأرسلوا إلى ملك قبرس واسمه هيمري، فأحضروه، وهو أخو الملك الذي أسر بحطين، كما ذكرناه، فزوجوه بالملكة زوجة الكند هري، وكان رجلاً عاقلاً يحب السلامة والعافية، فلما ملكهم لم يعد إلى الزحف على الحصن، ولا قاتله.
واتفق وصول العزيز أول شهر ربيع الآخر، ورحل هو والعساكر إلى جبل الخليل الذي يعرف بجبل عاملة، فأقاموا أياماً، والأمطار متداركة، فبقي إلى ثالث عشر الشهر، ثم سار وقارب الفرنج، وأرسل رمالة النشاب، فرموهم ساعة وعادوا، ورتب العساكر ليزحف إلى الفرنج ويجد في قتالهم، فرحلوا إلى صور خامس عشر الشهر المذكور ليلاً، ثم رحلوا إلى عكا، فسار المسلمون فنزلوا اللجون، وتراسلوا في الصلح، وتطاول الأمر، فعاد العزيز إلى مصر قبل انفصال الحال.

وسبب رحيله أن جماعة من الأمراء، وهم ميمون القصري، وأسامة، وسرا سنقر، والحجاف، وابن المشطوب، وغيرهم، قد عزموا على الفتك به وبفخر الدين جركس مدبر دولته، وضعهم العادل على ذلك، فلما سمع بذلك سار إلى مصر وبقي العادل، وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلح، فاصطلحوا على أن تبقى بيروت بيد الفرنج، وكان الصلح في شعبان سنة أربع وتسعين، فلما انتظم الصلح عاد العادل إلى دمشق، وسار منها إلى ماردين، من أرض الجزيرة، فكان ما نذكره، إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة سيف الإسلام وملك ولدهفي شوال من هذه السنة توفي سيف الإسلام طغتكين بن أيوب: أخو صلاح الدين، وهو صاحب اليمن، بزبيد، وقد ذكرنا كيف ملك. وكان شديد السيرة، مضيقاً على رعيته، يشتري أموال التجار لنفسه ويبيعها كيف شاء.
وأراد ملك مكة، حرسها الله تعالى، فأرسل الخليفة الناصر لدين الله إلى أخيه صلاح الدين في المعنى، فمنعه من ذلك، وجمع من الأموال ما لا يحصى، حتى إنه من كثرته كان يسبك الذهب ويجعله كالطاحون ويدخره.
ولما توفي ملك بعده ابنه إسمعيل، وكان أهوج، كثير التخليط بحيث إنه ادعى أنه قرشي من بني أمية، وخطب لنفسه بالخلافة، وتلقب بالهادي، فلما سمع عمه الملك العادل ذلك ساءه وأهمه، وكتب إليه يولمه ويوبخه، ويأمره بالعود إلى نسبه الصحيح، وبترك ما ارتكبه مما يضحك الناس منه، فلم يلتفت إليه ولم يرجع وبقي كذلك، وانضاف إلى ذلك أنه أساء السيرة مع أجناده وأمرائه، فوثبوا عليه فقتلوه، وملكوا عليهم بعده أميراً من مماليك أبيه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي أبو بكر عبد الله بن منصور بن عمران الباقلاني المقري الواسطي بها عن ثلاث وتسعين سنة وثلاثة أشهر وأيام، وهو آخر من بقي من أصحاب القلانسي.
وفي جمادى الآخرة توفي قاضي القضاة أبو طالب علي بن علي بن البخاري ببغداد ودفن بتربته في مشهد باب التين.
وفيها، في ربيع الآخر، توفي ملكشاه بن خوارزم شاه تكش بنيسابور، وكان أبوه قد جعله فيها، وأضاف إليه عساكر جميع بلاده التي بخراسان وجعله ولي عهده في الملك، وخلف ولداً اسمه هندوخان، فلما مات جعل فيها أبوه خوارزم شاه بعد ولده الآخر قطب الدين محمداً، وهو الذي ملك بعد أبيه، وكان بين الأخوين عداوة مستحكمة أفضت إلى أن محمداً لما ملك بعد أبيه هرب هندوخان بن ملكشاه منه على ما نذكره.
وفيها توفي شيخنا أبو القاسم يعيش بن صدقة بن علي الفراتي الضرير، الفقيه الشافعي، كان إماماً في الفقه، مدرساً صالحاً كثير الصلاح، سمعت عليه كثيراً، لم أر مثله، رحمه الله تعالى.
ولقد شاهدت منه عجباً يدل على دينه وإرادته، بعمله، وجه الله تعالى، وذلك أني كنت أسمع عليه ببغداد سنن أبي عبد الرحمن النسائي، وهو كتاب كبير، والوقت ضيق لأني كنت مع الحجاج قد عدنا من مكة، حرسها الله، فبينما نحن نسمع عليه مع أخي الأكبر مجد الدين أبي السعادات، إذ قد أتاه إنسان من أيان بغداد، وقال له: قد برز الأمر لتحضر لأمر كذا؛ فقال: أنا مشغول بسماع هؤلاء السادة، ووقتهم يفوت، والذي يراد مني لا يفوت؛ فقال: أنا لا أحسن أذكر هذا في مقابل أمر الخليفة. فقال: لا عليك! قل: قال أبو القاسم لا أحضر حتى يفرغ السماع؛ فسألناه ليمشي معه، فلم يفعل ذلك، وقال: اقرأوا؛ فقرأنا، فلما كان الغد حضر غلام لنا، وذكر أن أمير الحاج الموصلي قد رحل، فعظم الأمر علينا فقال: ولم يعظم عليكم العود إلى أهلكم وبلدكم؟ فقلنا: لأجل فراغ هذا الكتاب؛ فقال: إذا رحلتم أستعير دابة وأركبها، فأسير معكم وأنتم تقرأون، فإذا فرغتم عدت. فمضى الغلام ليتزود، ونحن نقرأ، فعاد وذكر أن الحاج لم يرحلوا، ففرغنا من الكتاب؛ فانظر إلى هذا الدين المتين يرد أمر الخليفة وهو يخافه ويرجوه، ويريد أن يسير معنا ونحن غرباء لا يخافنا ولا يرجونا.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وخمسمائة

ذكر وفاة عماد الدين
وملك ولده قطب الدين محمد

في هذه السنة، في المحرم، توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي ابن اقسنقر، صاحب سنجار ونصيبين، والخابور والرقة، وقد تقدم ذكره كيف ملكها سنة تسع وسبعين، وملك بعده ابنه قطب الدين محمد، وتولى تدبير دولته مجاهد الدين يرنقش مملوك أبيه، وكان ديناً خيراً عادلاً، حسن السيرة في رعيته، عفيفاً عن أموالها وأملاكهم، متواضعاً، يحب أهل العلم والدين، ويحترمهم، ويجلس معهم، ويرجع إلى أقوالهم، وكان رحمه الله شديد التعصب على مذهب الحنفية، كثير الذم للشافعية، فمن تعصبه أنه بني مدرسة للحنفية بسنجار، وشرط أن يكون النظر للحنفية من أولاده دون الشافعية، وشرط أن يكون البواب والفراش على مذهب أبي حنيفة، وشرط للفقهاء طبيخاً يطبخ لهم كل يوم، وهذا نظر حسن، رحمه الله.
ذكر ملك نور الدين نصيبينفي هذه السنة، في جمادة الأولى، سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود صاحب الموصل، إلى مدينة نصيبين، فملكها، وأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد.
وسبب ذلك أن عمه عماد الدين كان له نصيبين، فتطاول نوابه بها، واستولوا على عدة قرى من أعمال بين النهرين من ولاية الموصل، وهي تجاور نصيبين، فبلغ الخبر مجاهد الدين قايماز القائم بتدبير مملكة نور الدين بالموصل وأعمالها والمرجوع إليه فيها، فلم يعلم مخدومه نور الدين بذلك، لما علم من قلة صبره على احتمال مثل هذا، وخاف أن يجري خلف بينهم، فأرسل من عنده رسولاً إلى عماد الدين في المعنى، وقبح هذا الفعل الذي فعله النواب بغير أمره، وقال: أنني ما أعلمت نور الدين بالحال لئلا يخرج عن يدك، فإنه ليس كوالده، وأخاف أن يبدو منه ما يخرج الأمر فيه عن يدي؛ فأعاد الجواب: إنهم لم يفعلوا إلا ما أمرتهم به، وهذه القرى من أعمال نصيبين.
فترددت الرسل بينهما، فلم يرجع عماد الدين عن أخذها، فحينئذ أعلم مجاهد الدين نور الدين بالحال، فأرسل نور الدين رسولاً من مشايخ دولته ممن خدم جدهم الشهيد زنكي ومن بعده، وحمله رسالة فيها بعض الخشونة، فمضى الرسول فلحق عماد الدين وقد مرض، فلما سمع الرسالة لم يلتفت، وقال: لا أعيد ملكي؛ فأشار الرسول من عنده، حيث هو من مشايخ دولتهم، بترك اللجاج، وتسليم ما أخذه، وحذره عاقبة ذلك؛ فأغلظ عليه عماد الدين القول، وعرض بذم نور الدين واحتقاره، فعاد الرسول وحكى لنور الدين جلية الحال، فغضب لذلك، وعزم على المسير إلى نصيبين وأخذها من عمه.
فاتفق أن عمه مات، وملك بعده ابنه، فقوي طمعه، فمنعه مجاهد الدين فلم يمتنع وتجهز وسار إليها، فلما سمع قطب الدين صاحبها سار إليها من سنجار في عسكره، ونزل عليها ليمنع نور الدين عنها، فوصل نور الدين، وتقدم إلى البلد، وكان بينهما نهر، فجازه بعض أمرائه، وقاتل من بإزائه، فلم يثبتوا له، فعبر جميع العسكر النوري، وتمت الهزيمة على قطب الدين، فصعد هو ونائبه مجاهد الدين يرنقش إلى قلعة نصيبين، وأدركهم الليل، فخرجوا منها هاربين إلى حان، وراسلوا الملك العادل أبا بكر بن أيوب، صاحب حران وغيرها، وهو بدمشق، وبذلوا له الأموال الكثيرة لينجدهم ويعيد نصيبين إليهم.
وأقام نور الدين بنصيبين مالكاً لها، فتضعضع عسكره بكثرة الأمراض، وعودهم إلى الموصل، وموت كثير منهم، ووصل العادل إلى الديار الجزرية، فحينئذ فارق نور الدين نصيبين وعاد إلى الموصل في شهر رمضان، فلما فارقها تسلمها قطب الدين.
وممن توفي من أمراء الموصل: عز الدين جورديك، وشمس الدين عبد الله بن إبراهيم، وفخر الدين عبد الله بن عيسى المهرانيان، ومجاهد الدين قايماز، وظهير الدين يولق بن بلنكري، وجمال الدين محاسن وغيرهم، ولما عاد نور الدين إلى الموصل قصد العادل قلعة ماردين فحصرها، وضيق على أهلها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك الغورية مدينة بلخ

من الخطا الكفرة
في هذه السنة ملك بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود، وهو ابن أخت غياث الدين وشهاب الدين صاحبي غزنة وغيرها، وله باميان، مدينة بلخ، وكان صاحبها تركياً اسمه أزيه، وكان يحمل الخراج كل سنة إلى الخطا، بما وراء النهر، فتوفي هذه السنة، فسار بهاء الدين سام إلى المدينة، فملكها، وتمكن فيها، وقطع الحمل إلى الخطا، وخطب لغياث الدين، وصارت من جملة بلاد الإسلام بعد أن كانت في طاعة الكافر.

ذكر انهزام الخطا من الغورية
وفي هذه السنة عبر الخطا نهر جيحون إلى ناحية خراسان، فعاثوا في البلاد وأفسدوا، فلقيهم عسكر غياث الدين الغوري وقاتلهم فانزم الخطا.
وكان سبب ذلك أن خوارزم شاه تكش كان قد سار إلى بلد الري، وهمذان وأصفهان وما بينهما من البلاد، وملكها، وتعرض إلى عساكر الخليفة، وأظهر طلب السلطنة والخطبة ببغداد، فأرسل الخليفة إلى غياث الدين ملك الغور وغزنة يأمره بقصد بلاد خوارزم شاه ليعود عن قصد العراق، وكان خوارزم شاه قد عاد إلى خوارزم، فراسله غياث الدين يقبح له فعله، ويتهدده بقصد بلاده وأخذها، فأرسل خوارزم شاه إلى الخطا يشكو إليهم من غياث الدين، ويقول: إن لم تدركوه بإنفاذ العساكر، وإلا أخذ غياث الدين بلاده، كما أخذ مدين بلخ، وقصد بعد ذلك بلادهم، ويتعذر عليهم منعه، ويعجزون عنه، ويضعفون عن رده عما وراء النهر؛ فجهز ملك الخطا جيشاً كثيفاً، وجعل مقدمهم المعروف بطاينكوا، وهو كالوزير له، فساروا وعبروا جيحون في جمادى الآخرة، وكان الزمان شتاء، وكان شهاب الدين الغوري أخو غياث الدين ببلاد الهند، والعساكر معه، وغياث الدين به من النقرس ما يمنعه من الحركة، إنما يحمل في محفة، والذي يقود الجيش ويباشر الحروب أخوه شهاب الدين، فلما وصل الخطا إلى جيحون سار خوارزم شاه إلى طوس، عازماً على قصد هراة ومحاصرتها، وعبر الخطا النهر، ووصلوا إلى بلاد الغور مثل: كرزبان وسرقان وغيرهما، وقتلوا وأسروا ونهبوا وسبوا كثيراً لا يحصى، فاستغاث الناس بغياث الدين، فلم يكن عنده من العساكر ما يلقاهم بها، فراسل الخطا بهاء الدين سام ملك باميان يأمرونه بالإفراج عن بلخ، أو أنه يحمل ما كان من قبله يحمله من المال، فلم يجبهم إلى ذلك.
وعظمت المصيبة على المسلمين بما فعله الخطا، فانتدب الأمير محمد بن جربك الغوري، وهو مقطع الطالقان من قبل غياث الدين، وكان شجاعاً، وكاتب الحسين بن خرميل، وكان بقلعة كرزبان، واجتمع معهما الأمير حروش الغوري، وساروا بعساكرهم إلى الخطا، فبيتوهم، وكبسوهم ليلاً، ومن عادة الخطا أنهم لا يخرجون من خيامهم ليلاً، ولا يفارقونها، فآتاهم هؤلاء الغورية وقاتلوهم، وأكثروا القتل في الخطا، وانهزم من سلم منهم من القتل، وأين ينهزمون والعسكر الغوري خلفهم، وجيحون بن أيديهم؟ وظن الخطا أن غياث الدين قد قصدهم في عساكره، فلما أصبحوا، وعرفوا من قاتلهم، وعلموا أن غياث الدين بمكانه، قويت قلوبهم، وثبتوا واقتتلوا عامة نهارهم فقتل من الفريقين خلق عظيم، ولحقت المتطوعة بالغوريين، وأتاهم مدد من غياث الدين وهم في الحرب، فثبت المسلمون، وعظمت نكايتهم في الكفار.
وحمل الأمير حروش على قلب الخطا، وكان شيخاً كبيراً، فأصابه جراحة توفي منها، ثم إن محمود بن جربك، وابن خرميل حملا في أصحابهما، وتمادوا: لا يرم أحد بقوس، ولا يطعن برمح؛ وأخذوا اللتوت، وحملوا على الخطا فهزموهم وألحقوهم بجيحون، فمن صبر قتل، ومن ألقى نفسه في الماء غرق.
ووصل الخبر إلى ملك الخطا فعظم عليه وأرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أنت قتلت رجالي، وأريد عن كل قتيل عشرة آلاف دينار؛ وكان القتلى اثني عشر ألفاً، وأنفذ إليه من رده إلى خوارزم، وألزموه بالحضور عنده، فأرسل حينئذ خوارزم شاه إلى غياث الدين يعرفه حاله مع الخطا، ويشكو إليه ويستعطفه غير مرة، فأعاد الجواب يأمره بطاعة الخليفة، وإعادة ما أخذه الخطا من بلاد الإسلام، فلم ينفصل بينهما حال.
ذكر ملك خوارزم شاه مدينة بخارىلما ورد رسول ملك الخطا على خوارزم شاه بما ذكرناه، أعاد الجواب: إن عسكرك إنما قصد انتزاع بلخ، ولم يأتوا إلى نصرتي، ولا اجتمعت بهم، ولا أمرتهم بالعبور، إن كنت فعلت ذلك، فأنا مقيم بالمال المطلوب مني، ولكن حيث عجزتم أنتم عن الغورية عدتم علي بهذا القول وهذا المطلب، وأما أنا فقد أصلحت الغورية، ودخلت في طاعتهم، ولا طاعة لكم عندي.

فعاد الرسول بالجواب، فجهز ملك الخطا جيشاً عظيماً وسيره إلى خوارزم فحصروها، فكان خوارزم شاه يخرج إليهم كل ليلة، ويقتل منهم خلقاً، وأتاه من المتطوعة خلق كثير، فلم يزل هذا فعله بهم حتى أتى على أكثرهم، فدخل الباقون إلى بلادهم، ورحل خوارزم شاه في أثارهم، وقصد بخاري فنازلها وحصرها، وامتنع أهلها منه، وقاتلوه مع الخطا، حتى إنهم أخذوا كلباً أعور وألبسوه قباء وقلنسوة، وقالوا: هذا خوارزم شاه، لأنه كان أعور، وطافوا به على السور، ثم ألقوه في منجنيق إلى العسكر، وقالوا: هذا سلطانكم. وكان الخوارزميون يسبونهم ويقولون: يا أجناد الكفار، أنتم قد ارتددتم عن الإسلام، فلم يزل هذا دأبهم حتى ملك خوارزم شاه البلد، بعد أيام يسيرة، عنوة وعفا عن أهله، وأحسن إليهم، وفرق فيهم مالاً كثيراً، وأقام به مدة ثم عاد إلى خوارزم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي أبو طالب يحيى بن سعيد بن زيادة، كاتب الإنشاء بديوان الخليفة، وكان عالماً فاضلاً، له كتابة حسنة، وكان رجلاً عاقلاً خيراً، كثير النفع للناس، وله شعر جيد.
وفيها حصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب قلعة ماردين في شهر رمضان، وقاتل من بها، وكان صاحبها حسام الدين يولق أرسلان بن إيلغازي بن ألبي ابن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، كل هؤلاء ملوك ماردين، وقد تقدم من أخبارهم ما يعلم به محلهم، وكان صبياً والحاكم في بلده ودولته مملوك أبيه النظام يرنقش، وليس لصاحبه معه حكم البتة في شيء من الأمور، ولما حصر العادل ماردين ودام عليها سلم إليه بعض أهلها الربض بمخامرة بينهم، فنهب العسكر أهله نهباً قبيحاً، وفعلوا بهم أفعالاً عظيمة لم يسمع بمثلها، فلما تسلم الربض تمكن من حصر القلعة وقطع الميرة عنها، وبقي عليها إلى أن رحل عنها خمسة وتسعين على ما نذكره إن شاء الله.
وفيها توفي الشيخ أبو علي الحسن بن مسلم بن أبي الحسن القادسي الزاهد، المقيم ببغداد، والقادسية التي ينسب إليها قرية بنهر عيس من أعمال بغداد، وكان من عباد الله الصالحين العاملين، ودفن بقريته.
وأبو المجد علي بن أبي الحسن علي بن الناصر بن محمد الفقيه الحنفي مدرس أصحاب أبي حنيفة ببغداد، وكان من أولاد محمد بن الحنفية ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة

ذكر وفاة الملك العزيز
وملك أخيه الأفضل ديار مصر
في هذه السنة، في العشرين من المحرم، توفي الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب ديار مصر، وكان سبب موته أنه خرج إلى الصيد، فوصل إلى الفيوم متصيداً. فرأى ذئباً فركض فرسه في طلبه، فعثر الفرس فسقط عنه في الأرض ولحقته حمى، فعاد إلى القاهرة مريضاً، فبقي كذلك إلى أن توفي، فلما مات كان الغالب على أمره مملوك والده فخر الدين جهاركس، وهو الحاكم في بلده، فأحضر إنساناً كان عندهم من أصحاب الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وأراه العزيز ميتاً، وسيره إلى العادل وهو يحاصر ماردين، كما ذكرناه، ويستدعيه ليملكه البلاد، فسار القاصد مجداً، فلما كان بالشام رأى بعض أصحاب الأفضل علي بن صلاح الدين، فقال له: قل لصاحبك إن أخاه العزيز توفي، وليس في البلاد من يمنعها، فليسر إليها فليس دونها مانع.

وكان الأفضل محبباً إلى الناس يريدونه، فلم يلتفت الأفضل إلى هذا القول، وإذا قد وصله رسل الأمراء من مصر يدعونه إليهم لملكوه، وكان السب في ذلك أن الأمير سيف الدين يازكج مقدم الأسدية، والفرقة الأسدية والأمراء الأكراد يريدونه ويميلون إليه، وكان المماليك الناصرية الذين هم ملك أبيه يكرهونه، فاجتمع سيف الدين، مقدم الأسدية، وفخر الدين جهاركس، مقدم الناصرية، ليتفقوا على من يولونه الملك، فقال فخر الدين: نولي ابن الملك العزيز؛ فقال سيف الدين: إنه طفل، وهذه البلاد ثغر الإسلام، ولا بد من قيم بالملك يجمع العساكر، ويقاتل بها، والرأي أننا نجعل الملك في هذا الطفل الصغير، ونجعل معه بعض أولاد صلاح الدين يدبره إلى أن يكبر، فإن العساكر لا تطيع غيرهم، ولا تنقاد لأمير؛ فاتفقا على هذا، فقال جهاركس: فمن يتولى هذا؟ فأشار يازكج بغير الأفضل ممن بينه وبين جهاركس منازعة لئلا يتهم وينفر جهاركس عنه، فامتنع من ولايته، فلم يزل يذكر من أولاد صلاح الدين واحداً بعد آخر إلى أن ذكر آخرهم الأفضل، فقال جهاركس: هو بعيد عنا؛ وكان بصرخد مقيماً فيها من حين أخذت منه دمشق، فقال يازكج: نرسل إليه من يطلبه مجداً؛ فأخذ جهاركس يغالطه، فقال يازكج: تمضي إلى القاضي الفاضل ونأخذ رأيه؛ فاتفقا على ذلك، وأرسل يازكج يعرفه ذلك، ويشير بتمليك الأفضل، فلما اجتمعا عنده، وعرفاه صورة الحال، أشار بالأفضل، فأرسل يازكج في الحال القصاد وراءه، فسار عن صرخد لليلتين بقيتا من صفر، متنكراً في تسعة عشر نفساً، لأن البلاد كانت للعادل، ويضبط نوابه الطرق، لئلا يجوز إلى مصر ليجيء العادل ويملكها.
فلما قارب الأفضل القدس، وقد عدل عن الطريق المؤدي إليه، لقيه فارسان قد أرسلا إليه من القدس، فأخبراه أن من بالقدس قد صار في طاعته، وجد في السير، فوصل إلى بليس خامس ربيع الأول، ولقيه إخوته، وجماعته الأمراء المصرية، وجميع الأعيان، فاتفق أن أخاه الملك المؤيد مسعوداً صنع له طعاماً، وصنع له فخر الدين مملوك أبيه طعاماً، فابتدأ بطعام أخيه ليمين حلفها أخوه أنه يبدأ به، فظن جهاركس أنه فعل هذا انحرافاً عنه وسوء اعتقاد فيه، فتغيرت نيته، وعزم على الهرب، فحضر عند الأفضل وقال: إن طائفة من العرب قد اقتتلوا، ولئن مل تمض إليهم تصلح بينهم يؤد ذلك إلى فساد؛ فأذن له الأفضل في المضي إليهم ، ففارقه، وسار مجداً حتى وصل إلى البيت المقدس، ودخله، وتغلب عليه، ولحقه جماعة من الناصرية منهم قراجة الزره كش، وسرا سنقر، وأحضروا عندهم ميموناً القصري صاحب نابلس، وهو أيضاً من المماليك الناصرية، فقويت شوكتهم به، واجتمعت كلمتهم على خلاف الأفضل، وأرسلوا إلى الملك العادل وهو ماردين يطلبونه إليهم ليدخلوا معه إلى مصر ليملكوها، فلم يسر إليهم لأنه كانت أطماعه قد قويت في أخذ ماردين، وقد عجز من بها عن حفظها، فظن أنه يأخذها، والذي يريدونه منه لا يفوته.
وأما الأفضل فإنه دخل إلى القاهرة سابع ربيع الأول، وسمع بهرب جهاركس، فأمه ذلك، وترددت الرسل بينه وبينهم ليعودوا إليه، فلم يزدادوا إلا بعداً، ولحق بهم جماعة من الناصرية أيضاً، فاستوحش الأفضل من الباقين، فقبض عليهم، وهم شقيرة وأيبك فطيس، والبكي الفارس، وكل هؤلاء بطل مشهور ومقدم مذكور، سوى من ليس مثلهم في التقدم وعلو القدر، وأقام الأفضل بالقاهرة وأصلح الأمور، وقرر القواعد، والمرجع في جميع الأمور إلى سيف الدين يازكج.
ذكر حصر الأفضل مدينة دمشق

وعوده عنها

لما ملك الأفضل مصر، واستقر بها، ومعه ابن أخيه الملك العزيز، اسم الملك له لصغره، واجتمعت الكلمة على الأفضل بها، وصل إليه رسول أخيه الملك الظاهر غازي، صاح بحلب، ورسل ابن عمه أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحب حمص، يحثانة على الخروج إلى دمشق، واغتنام الفرصة بغيبة العادل عنها، وبذلا له المساعدة بالمال والنفس والرجال، فبرز من مصر، منتصف جمادى الأولى من السنة، على عزم المسير إلى دمشق، وأقام بظاهر القاهرة إلى ثالث رجب، ورحل فيه تعوق في مسيره، ولو بادر وعجل المسير لملك دمشق، لكنه تأخر، فوصل إلى دمشق ثالث عشر شعبان، فنزل عند جسر الخشب على فرسخ ونصف من دمشق، وكان العادل قد أرسل إليه نوابه بدمشق يعرفونه قصد الأفضل لهم، ففارق ماردين وخلف ولده الملك الكامل محمداً في جميع العساكر على حصارها، وسار جريدة فجد في السير، فسبق الأفضل، فدخل دمشق قبل الأفضل بيومين.
وأما الأفضل فإنه تقدم إلى دمشق من الغد، وهو رابع عشر شعبان، ودخل ذلك اليوم بعينه طائفة يسيرة من عسكره إلى عسقلان إلى دمشق من باب السلامة، وسبب دخولهم أن قوماً من أجناده، ممن بيوتهم مجاورة الباب، اجتمعوا بالأمير مجد الدين أخي الفقيه عيسى الهكاري، وتحدثوا معه في أن يقصد هو والعسكر باب السلامة ليفتحوه لهم، فأراد مجد الدين أن يختص بفتح الباب وحده، فلم يعلم الأفضل، ولا أخذ معه أحداً من الأمراء، بل سار وحده بمفرده، ومعه نحو خمسين فارساً من أصحابه، ففتح له الباب، فدخله هو ومن معه، فلما رآهم عامة البلد نادوا بشعار الأفضل واستسلم من به من الجند، ونزلوا عن الأسوار، وبلغ الخبر إلى الملك العادل، فكاد يستسلم، وتماسك.
وأما الذين دخلوا البلد فإنهم وصولا إلى باب البريد، فلما رأى عسكر العادل بدمشق قلة عددهم، وانقاطع مددهم، وثبوا بهم وأخرجوهم منه، وكان الأفضل قد نثب خيمة بالميدان الأخضر وقارب عسكره الباب الحديد، وهو من أبواب القلعة، فقدر الله تعالى أن أشير على الأفضل بالانتقال إلى ميدان الحصى، ففعل ذلك، فقويت نفوس من فيه، وضعفت نفوس العسكر المصري، ثم إن الأمراء الأكراد منهم تحالفوا فصاروا يداً واحدة يغضبون لغضب الدمشقيين، فرحلوا من موضعهم، وتأخروا في العشرين من شعبان، ووصل بعده الملك الظاهر، صاحب حلب، ثاني عشر شهر رمضان، وأرادوا الزحف إلى دمشق، فمنعهم الملك الظاهر مكراً بأخيه وحسداً له، ولم يشعر أخوه الأفضل بذلك.
وأما الملك العادل فإنه لما رأى كثرة العساكر وتتابع الأمداد إلى الأفضل عظم عليه، فأرسل إلى المماليك الناصرية بالبيت المقدس يستدعيهم إليه، فساروا سلخ شعبان، فوصل خبرهم إلى الأفضل، فسير أسد الدين، صاحب حمص، ومعه جماعة من الأمراء إلى طريقهم ليمنعوهم، فسلكوا غير طريقهم، فجاء أولئك ودخلوا دمشق خامس رمضان، فقوي العادل بهم قوة عظيمة، وأيس الأفضل ومن معه من دمشق، وخرج عسكر دمشق في شوال، فكبسوا العسكر المصري، فوجدوهم قد حذروهم، فعادوا عنهم خاسرين.
وأقام العسكر على دمشق ما بين قوة وضعف، وانتصار وتخاذل، حتى أرسل الملك العادل خلف ولده الملك الكامل محمد، وكان قد رحل عن ماردين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وهو بحران، فاستدعاه إليه بعسكره، فسار على طريق البر، فدخل إلى دمشق ثاني عشر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة، فعند ذلك رحل العسكر عن دمشق إلى ذيل جبل الكسوة سابع عشر صفر، واستقر أن يقيموا بحوران حتى يخرج الشتاء، فرحلوا إلى رأس الماء، وهو موضع شديد البرد، فتغير العزم عن المقام، واتفقوا على أن يعود كل منهم إلى بلده، فعاد الظاهر، صاحب حلب، وأسد الدين، صاح بحمص، إلى بلادهما، وعاد الأفضل إلى مصر، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة يعقوب بن يوسف

وولاية ابنه محمد

في هذه السنة، ثامن عشر ربيع الآخر، وقيل جمادى الأولى، توفي أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف ين عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس، بمدينة سلا، وكان قد سار إليها من مراكش، وكان قد بنى مدينة محاذية لسلا، وسماها المهدية، من أحسن البلاد وأنزهها، فسار إلهيا يشاهدها، فتوفي بها؛ وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وكان ذا جهاد للعدو، ودين، وحسن سيرة، وكان يتظاهر بمذهب الظاهرية، وأعرض عن مذهب مالك، فعظم أمر الظاهرية في أيامه، وكان بالمغرب منهم خلق كثير يقال لهم الحزمية منسوبون إلى ابن محمد بن حزم، رئيس الظاهرية، إلا أنهم مغمورون بالمالكية. ففي أيامه ظهروا وانتشروا، ثم في آخر أيامه استقضى الشافعية على بعض البلاد ومال إليهم، ولما مات قام ابنه أبو عبد الله محمد بالملك بعده، وكان أبوه قد ولاه عهده في حياته، فاستقام الملك له وأطاعه الناس، وجهز جمعاً من العرب وسيرهم إلى الأندلس احتياطاً من الفرنج.
ذكر عصيان أهل المهدية على يعقوب

وطاعتها لولده محمد
كان أبو يوسف يعقوب، صاحب المغرب، لما عاد من إفريقية، كما ذكرناه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، استعمل أبا سعيد عثمان، وأبا علي يونس بن عمر اينتي، وهما وأبوهما من أعيان الدولة، فولى عثمان مدينة تونس، وولى أخاه المهدية، وجعل قائد الجيش بالمهدية محمد بن عبد الكريم، وهو شجاع مشهور، فعظمت نكايته في العرب، فلم يبق منهم إلا من يخافه.
فاتفق أنه أتاه الخبر بأن طائفة من عوف نازلون بمكان، فخرج إليهم، وعدل عنهم حتى جازهم، ثم أقبل عائداً يطلبهم، وأتاهم الخبر بخروجه إليهم، فهربوا من بين يديه، فلقوه أمامهم، فهربوا وتركوا المال والعيال من غير قتال، فأخذ الجميع ورجع إلى المهدية وسلم العيال إلى الوالي، وأخذ من الأسلاب والغنيمة ما شاء، وسمل الباقي إلى الوالي وإلى الجند.
ثم إن العرب من بني عوف قصدوا أبا سعيد بن عمر اينتي، فوحدوا وصاروا من حزب الموحدين، واستجاروا به في رد عيالهم، فأحضر محمد بن عبد الكريم، وأمره بإعادة ما أخذ لهم من النعم، فقال: أخذه الجند، ولا أقدر على رده، فأغلظ له في القول، وأراد أن يبطش به، فاستمهله إلى أن يرجع إلى المهدية ويسترد من الجند ما يجده عندهم، وما عدم منه غرم العوض عنه من ماله، فأمهله، فعاد إلى المهدية وهو خائف، فلما وصلها جمع أصحابه وأعلمهم ما كان من أبي سعيد، وحالفهم على موافقته، فحلفوا له، فقبض على أبي علي يونس، وتغلب على المهدية وملكها، فأرسل إليه أبو سعيد في معنى إطلاق أخيه يونس، فأطلقه على اثني عشر ألف دينار، فلما أرسلها إليه أبو سعيد فرقها في الجند وأطلق يونس، وجمع أبو سعيد العساكر، وأراد قصده ومحاصرته، فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى علي بن إسحاق الملثم فحالفه واعتضد به، فامتنع أبو سعيد من قصده.
ومات يعقوب، وولي ابنه محمد، فسير عسكراً مع عمه في البحر، وعسكراً آخر في البر مع ابن عمه الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، فلما وصل عسكر البحر إلى بجاية، وعسكر البر إلى قسنطينة الهوى، هرب الملثم ومن معه من العرب من بلاد إفريقية إلى الصحراء، ووصل الأسطول إلى المهدية، فشكا محمد بن عبد الكريم ما لقي من أبي سعيد، وقال: أنا على طاعة أمير المؤمنين محمد، ولا أسلمها إلى أبي سعيد، وإنما أسلمها إلى من يصل من أمير المؤمنين؛ فأرسل محمد من يتسلمها منه، وعاد إلى الطاعة.
ذكر رحيل عسكر الملك العادل عن ماردين

في هذه السنة زال الحصار عن ماردين، ورحل عسكر الملك العادل عنها مع ولده الملك الكامل، وسبب ذلك أن الملك العادل لما حصر ماردين عظم ذلك على نور الدين، صاحب الموصل، وغيره من ملوك ديار بكر والجزيرة، وخافوا إن ملكها أن يبقي عليهم، إلا أن العجز عن منعه حملهم على طاعته؛ فلما توفي العزيز، صاحب مصر، وملك الأفضل مصر، كما ذكرناه، وبينه وبين العادل اختلاف، أرسل أحد عسكر مصر من عنده، وأرسل إلى نور الدين، صاحب الموصل، وغيره من الملوك يدعوهم إلى موافقته، فأجابوه إلى ذلك، فلما رحل الملك العادل عن ماردين إلى دمشق، كما ذكرناه، برز نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، صاحب الموصل، عنها ثاني شعبان، وسار إلى دنيسر فنزل عليها، ووافقه ابن عمه قطب الدين محمد ابن زنكي بن مودود، صاحب سنجار، وابن عمه الآخر معز الدين سنجر شاه بن غازي بن مودود، صاحب جزيرة ابن عمر، فاجتمعوا كلهم بدنيسر إلى أن عيدوا عيد الفطر، ثم ساروا عنها سادس شوال ونزلوا بحرزم، وتقدم العسكر إلى تحت الجبل ليرتادوا موضعاً للنزول.
وكان أهل ماردين قد عدمت الأقوات عندهم، وكثرت الأمراض فيهم، حتى إن كثيراً منهم كان لا يطيق القيام، فلما رأى النظام، وهو الحاكم في دولة صاحبها، ذلك أرسل إلى ابن العادل في تسليم القلعة إليه إلى أجل معلوم ذكره على شرط أن يتركهم يدخل إليهم من الميرة ما ولد العادل بباب القلعة أميراً لا يترك يدخلها من الأطعمة إلا ما يكفيهم يوماً بيوم، فأعطى من بالقلعة ذلك الأمير شيئاً، فمكنهم من إدخال الذخائر الكثيرة.
فبينما هم كذلك إذ أتاهم خبر وصول نور الدين، صاحب الموصل، فقويت نفوسهم، وعزموا على الامتناع، فلما تقدم عسكره إلى ذيل جبل ماردين، قدر الله تعالى أن الملك الكامل بن العادل نزل بعسكر من ربض ماردين إلى لقاء نور الدين وقتاله، ولو أقاموا بالربض لم يمكن نور الدين ولا غيره الصعود إليهم، ولا إزالتهم، لكن نزلوا ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فلما أصحروا من الجبل اقتتلوا، وكان من عجيب الاتفاق أن قطب الدين، صاحب سنجار، قد واعد العسكر العادلي أن ينهزم إذا التقوا، ولم يعلم بذلك أحداً من العسكر، فقدر الله تعالى أنه لما نزل العسكر العادلي واصطفت العساكر للقتال ألجأت قطب الدين الضرورة بالزحمة إلى أن وقف في سفح شعب جبل ماردين ليس إليه طريق للعسكر العادلي، ولا يرى الحرب الواقعة بينهم وبين نور الدين، ففاته ما أراده من الانهزام؛ فلما التقى العسكران واقتتلوا، حمل ذلك اليوم نور الدين بنفسه، واصطلى الحرب، فألقى الناس أنفسهم بني يديه، فانهزم العسكر العادلي، وصعدوا في الجبل إلى الربض، وأسر منهم كثير، فحملوا إلى بين يدي نور الدين، فأحسن إليهم، ووعدهم الإطلاق إذا انفضوا، ولم يظن أن الملك الكامل ومن معه يرحلون عن ماردين سريعاً، فجاءهم أمر لم يكن في الحساب، فإن الملك الكامل لما صعد إلى الربض رأى أهل القلعة قد نزلوا إلى الذين جعلهم بالربض من العسكر، فقاتلوهم ونالوا منهم ونهبوا، فألقى الله الرعب في قلوب الجميع، فأعملوا رأيهم على مفارقة الربض ليلاً، فرحلوا إليه الاثنين سابع شوال، وتركوا كثيراً من أثقالهم ورحالهم وما أعدوه، فأخذه أهل القلعة، ولو ثبت العسكر العادلي بمكانه لم يمكن أحداً أن يقرب منهم.
ولما رحلوا نزل صاحب ماردين حسام الدين يولق بن إيلغازي إلى نور الدين، ثم عاد إلى حصنه، وعاد أتابك إلى دنيسر، ورحل عنها إلى رأس عين على عزم قصد حران وحصرها، فأتاه رسول من الملك الظاهر يطلب الخطبة والسكة وغير ذلك، فتغيرت نية نور الدين، وفتر عزمه عن نصرتهم، فعزم على العودة إلى الموصل، فهو يقدم إلى العرض رجلاً ويؤخر أخرى إذ أصابه مرض، فتحقق عزم العود إلى الموصل، فعاد إليها، وأرسل رسولاً إلى الملك الأفضل والملك الظاهر يعتذر عن عوده بمرضه، فوصل الرسول ثاني ذي الحجة إليهم وهم على دمشق.
وكان عود نور الدين من سعادة الملك العادل، فإنه كان هو وكل من عنده ينتظرون ما يجيء من أخباره، فإن من بحران استسلمونا فقدر الله تعالى أنه عاد، فلما عاد جاء الملك الكامل إلى حران، وكان قد سار عن ماردين إلى ميافارقين، فلما رجع نور الدين سار الكامل إلى حران، وسار إلى أبيه بدمشق على ما ذكرناه، فازداد به قوة، والأفضل ومن معه ضعفاً.

ذكر الفتنة بفيروزكوه من خراسان
في هذه السنة كانت فتنة عظيمة بعسكر غياث الدين، ملك الغور وغزنة، وهو بفيروزكوه، عمت الرعية والملوك والأمراء، وسببها أن الفخر محمد بن عمر بن الحسين الرازي، الإمام المشهور، الفقيه الشافعي، كان قدم إلى غياث الدين مفارقاً لبهاء الدين سام، صاحب باميان، وهو ابن أخت غياث الدين، فأكرمه غياث الدين، واحترمه، وبالغ في إكرامه، وبنى له مدرسة بهراة بالقرب من الجامع، فقصده الفقهاء من البلاد، فعظم ذلك على الكرامية، وهم كثيرون بهراة؛ وأما الغورية فكلهم كرامية، وكرهوه، وكان أشد الناس عليه الملك ضياء الدين، وهو ابن عم غياث الدين، وزوج ابنته، فاتفق أن حضر الفقهاء من الكرامية الحنفية والشافعية عند غياث الدين بفيروزكوه للمناظرة، وحضر فخر الدين الرازي والقاضي مجد الدين عبد المجيد ابن عمر، المعروف بابن القدوة، وهو من الكرامية الهيصمية، وله عندهم محل كبير لزهده وعلمه وبيته، فتكلم الرازي، فاعترض عليه ابن القدوة، طال الكلام، فقام غياث الدين فاستطال عليه الفخر، وسبه وشتمه، وبالغ في أذاه، وابن القدوة لا يزيد على أن يقول لا يفعل مولانا إلا وأخذك الله؛ أستغفر الله؛ فانفصلوا على هذا.
وقام ضياء الدين في هذه الحادثة وشكا إلى غياث الدين، وذم الفخر، ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة، فلم يصغ غياث الدين إليه، فلما كان الغد وعظ ابن عم المجد نب القدوة بالجامع، فلما صعد المنبر قال، بعد أن حمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، ربنا آمنا بما أنزلت، واتبعنا الرسول، فاكتبنا مع الشاهدين؛ أيها الناس، إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما علم أرسطاطاليس، وكفريات ابن سينا، وفلسفة الفارابي، فلا نعلمها، فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله، وعن سنة نبيه! وبكى وضج الناس، وبكى الكرامية واستغاثوا، وأعانهم من يؤثر بعد الفجر الرازي عن السلطان، وثار الناس من كل جانب، وامتلأ البلد فتنة، وكادوا يقتتلون، يجري ما يهلك فيه خلق كثير، فبلغ ذلك السلطان، فأرسل جماعة من عنده إلى الناس وسكنهم، ووعدهم بإخراج الفخر من عندهم، وتقدم إليه بالعود إلى هراة، فعاد إليها.
ذكر مسير خوارزم شاه إلى الريفي هذه السنة، في ربيع الأول، سار خوارزم شاه علاء الدين تكش إلى الري وغيرها من بلاد الجبل، لأنه بلغه أن نائبه بها مياجق قد تغير عن طاعته، فسار إليه، فخافه مياجق، فجعل يفر من بين يديه، وخوارزم شاه في طلبه يدعوه إلى الحضور عنده، وهو يمتنع، فاستأمن: أكثر أصحابه إلى خوارزم شاه، وهرب هو، فحصل بقلعة من أعمال مازندران فامتنع بها، فسارت العساكر في طلبه فأخذ منها وأحضر بين يدي خوارزم شاه فأمر بحبسه بشفاعة أخيه أقجة.
وسيرت الخلع من الخليفة لخوارزم شاه ولولده قطب الدين محمد، وتقليد بما بيده من البلاد، فلبس الخلعة، واشتغل بقتال الملاحدة، فافتتح قلعة على باب قزوين تسمى أرسلان كشاه، وانتقل إلى حصار الموت، فقتل عليها صدر الدين محمد بن الوزان رئيس الشافعية بالري، وكان قد تقدم عنده تقدماً عظيماً، قتله الملاحدة، وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم، فوثب الملاحدة على وزيره نظام الملك مسعود بن علي فقتلوه في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، فأمر تكش ولده قطب الدين بقصد الملاحدة، فقصد قلعة ترشيش وهي من قلاعهم، فحصرها فأذعنوا له بالطاعة، وصالحوه على مائة ألف دينار، ففارقها، وإنما صالحهم لأنه بلغه خبر مرض أبيه، وكانوا يراسلونه بالصلح فلا يفعل، فلما سمع بمرض أبيه لم يرحل حتى صالحهم على المال المذكور والطاعة ورحل.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، توفي مجاهد الدين قايماز، رحمه الله، بقلعة الموصل، وهو الحاكم في دولة نور الدين، والمرجوع إليه فيها، وكان ابتداء ولايته قلعة الموصل في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وولي إربل سنة تسع وخمسين وخمسمائة، فلما مات زين الدين علي كوجك سنة ثلاث وستين بقي هو الحاكم فيها، ومعه من يختاره من أولاد زين الدين ليس لواحد منهم معه حكم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34