كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

وعاد ابن رائق إلى بغداد، فشغب الجند عليه ثاني ربيع الآخر، وفيهم توزون وغيره من القواد، ورحلوا في العشر الآخر من ربيع الآخر إلى أبي عبدالله البريدي بواسط، فلما وصلوا إليه قوي بهم، فاحتاج ابن رائق إلى مداراته، فكاتب أبا عبدالله البريدي بالوزارة، وأنفذ له الخلع، واستخلف أبا عبدالله بن شيرزاد، ثم وردت الأخبار إلى بغداد بعزم البريدي على الإصعاد إلى بغداد، فأزال ابن رائق اسم الوزارة عنه، وأعاد أبا إسحاق القراريطي، ولعن بني البريدي على المنابر بجانبي بغداد.
ذكر استيلاء البريدي على بغداد

وإصعاد المتقي إلى الموصل
وسير أبو عبدالله البريدي أخاه أبا الحسين إلى بغداد في جميع الجيش من الأتراك والديلم، وعزم ابن رائق على أن يتحصن بدار الخليفة، فأصلح سورها، ونصب عليه العرادات والمنجنيقات، وعلى دجلة، وانهض العامة، وجند بعضهم، فثاروا في بغداد وأحرقوا ونهبوا، وأخذوا الناس ليلاً ونهاراً.
وخرج المتقي لله وابن رائق إلى نهر ديالي منتصف جمادى الآخرة، ووافاهم أبو الحسين عنده في الماء والبر، واقتتل الناس، وكانت العامة على شاطئ دجلة في الجانبين يقاتلون من في الماء من أصحاب البريدي، وانهزم أهل بغداد، واستولى أصحاب البريدي على دار الخليفة، ودخلوا إليها في الماء وذلك لتسع بقين من جمادى الآخرة، وهرب المتقي وابنه الأمير أبو منصور في نحو عشرين فارساً، ولحق بهما ابن رائق في جيشه، فساروا جميعاً نحو الموصل، واستتر الوزير القراريطي، وكانت مدة وزارته الثانية أربعين يوماً، وإمارة ابن رائق ستة أشهر، وقتل أصحاب البريدي من وجدوا في دار الخليفة من الحاشية، ونهبوها، ونهبوا دور الحرم.
وكثر النهب في بغداد ليلاً ونهاراً، وأخذوا كورتكين من حبسه، وأنفذه أبو الحسين إلى أخيه بواسط فكان آخر العهد به، ولم يتعرضوا للقاهر بالله، ونزل أبو الحسين بدار مؤنس التي يسكنها ابن رائق وعظم النهب، فأقام أبو الحسين توزون على الشرطة بشرقي بغداد، وجعل نوشتكين على شركة الجانب الغربي، فسكن الناس شيئاً يسيراً، وأخذ أبو الحسين البريدي رهائن القواد الذين مع توزون وغيره، وأخذ نساءهم وأولادهم فسيرهم إلى أخيه أبي عبدالله بواسط.
ذكر ما فعله البريدي ببغدادلما استولى على بغداد أخذ أصحابه في النهب والسلب وأخذ الدواب، وجعلوا طلبها طريقاً إلى غيرها من الأثاث، وكبست الدور، وأخرج أهلها منها ونزلت، وعظم الأمر، وجعل على كر من الحنطة، والشعير، وأصناف الحبوب، خمسة دنانير، وغلت الأسعار فبيع كر الحنطة بثلاثمائة وستة عشر ديناراً، والخبز الخشكوار رطلين بقيراطين صحيح أميري، وحبط أهل الذمة، وأخذ القوي بالضعيف، وورد من الكوفة وسوادها خمسمائة كر من الحنطة والشعير، فأخذه جميعه وادعى أنه للعامل بتلك الناحية.
ووقعت الفتن بين الناس، فمن ذلك أنه كان معه طائفة من القرامطة، فجرى بينهم وبين الأتراك حرب قتل فيها جماعة، وانهزم القرامطة، وفارقوا بغداد، ووقعت حرب بين الديلم والعامة قتل فيها جماعة من حد نهر طابق إلى القنطرة الجديدة.
وفي آخر شعبان زاد البلاء على الناس، فكبسوا منازلهم ليلاً ونهاراً، واستتر أكثر العمال لعظيم ما طولبوا به مما ليس في السواد، وافترق الناس، فخرج الناس وأصحاب السلطان إلى قرب من بغداد، فحصدوا ما استحصدوا من الحنطة والشعير، وحملوه بسنبله إلى منازلهم، وكان مع ذلك ينهب ويعسف أهل العراق ويظلمهم ظلماً لم يسمع بمثله قط، والله المستعان.
وإنما ذكرنا هذا الفصل ليعلم الظلمة أن أخبارهم تنقل وتبقى على وجه الدهر، فربما تركوا الظلم لهذا أن لم يتركوه لله سبحانه وتعالى.
ذكر قتل ابن رائق
وولاية ابن حمدان إمرة الأمراء

كان المتقي لله قد أنفذ إلى ناصر الدولة بن حمدان يستمده على البريديين، فأرسل أخاه سيف الدولة علي بن عبدالله بن حمدان نجدةً له في جيش كثيف، فلقي المتقي وابن رائق بتكريت قد انهزما، فخدم سيف الدولة للمتقي خدمة عظيمة، وسار معه إلى الموصل، ففارقها ناصر الدولة إلى الجانب الشرقي، وتوجه نحو معلثايا، وترددت الرسل بينه وبين ابن رائق، حتى تعاهدا واتفقا، فحضر ناصر الدولة ونزل على دجلة بالجانب الشرقي، فعبر إليه الأمير أبو منصور بن المتقي وابن رائق يسلمان عليه، فنثر الدنانير والدراهم على ولد المتقي، فلما أرادوا الانصراف من عنده ركب ابن المتقي، وأراد ابن رائق الركوب، فقال له ناصر الدولة: تقيم اليوم عندي لنتحدث فيما نفعله؛ فاعتذر ابن رائق بابن المتقي، فألح عليه ابن حمدان، فاستراب به، وجذب كمه من يده فقطعه، وأراد الركوب فشب به الفرس فسقط، فصاح به ابن حمدان بأصحابه: أقتلوه ! فقتلوه، وألقوه في دجلة.
وأرسل ابن حمدان إلى المتقي يقول: إنه علم أن ابن رائق أراد أن يغتاله، ففعل به ما فعل؛ فرد عليه المتقي رداً جميلاً، وأمره بالمسير إليه، فسار ابن حمدان إلى المتقي لله، فخلع عليه، ولقبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء، وذلك مستهل شعبان، وخلع على أخيه أبي الحسين علي، ولقبه سيف الدولة.
وكان قتل ابن رائق يوم الاثنين لتسع بقين من رجب، ولما قتل ابن رائق سار الإخشيد من مصر إلى دمشق، وكان بها محمد بن يزداد، خليفة ابن رائق، فاستأمن إلى الإخشيد، وسلم إليه دمشق فأقره عليها، ثم نقله عنها إلى مصر وجعله على شرطتها، ويقال إن لابن رائق شعراً منه:
يصفّر وجهي إذا تأمّله ... طرفي ويحمرّ وجهه خجلا
حتّى كأنّ الذي بوجنته ... من دم قلبي إليه قد نقلا
وقد قيل إنها للراضي بالله وقد تقدم.
ذكر عود المتقي إلى بغداد

وهرب البريدي عنها
لما استولى أبو الحسين البريدي على بغداد، وأساء السيرة كما ذكرناه، نفرت عنه قلوب الناس العامة والأجناد، فلما قتل ابن رائق سارع الجند إلى الهرب من البريدي، فهرب خجخج إلى المتقي، وكان قد استعمله البريدي على الراذانات وما يليها، ثم تحالف توزون، ونوشتكين، والأتراك على كبس أبي الحسين البريدي، فغدر نوشتكين فأعلم البريدي الخبر، فاحتاط، وأحضر الديلم عنده، وقصده توزون، فحاربه الديلم، وعلم توزون غدر نوشتكين به، فعاد ومعه جملة وافرة من الأتراك، وسار نحو الموصل خامس رمضان، فقوي بهم ابن حمدان، وعزم على الانحدار إلى بغداد، وتجهز وانحدر هو والمتقي، واستعمل على أعمال الخراج والضياع بديار مضر، وهي الرها وحران والرقة، أبا الحسن علي بن طياب، وسيره من الموصل.
وكان على ديار مضر أبو الحسين أحمد بن علي بن مقاتل خليفة لابن رائق، فاقتتلوا، فقتل أبو الحسين بن مقاتل واستولى ابن طياب عليها، فلما قارب المتقي لله وناصر الدولة بن حمدان بغداد هرب أبو الحسين منها إلى واسط، واضطرت العامة ببغداد، ونهب الناس بعضهم بعضاً، وكان مقام أبي الحسين ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوماً، ودخل المتقي لله إلى بغداد ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة، واستوزر المتقي أبا إسحاق القراريطي، وقلد توزون شرطة جانبي بغداد، وذلك في شوال.
ذكر الحرب بين ابن حمدان والبريديلما هرب أبو الحسين البريدي إلى واسط، ووصل بنو حمدان والمتقي إلى بغداد، خرج بنو حمدان عن بغداد نحو واسط، وكان أبو الحسين قد سار من واسط إليهم ببغداد، فأقام ناصر الدولة بالمدائن، وسير أخاه سيف الدولة وابن عمه أبا عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان في الجيش إلى قتال أبي الحسين، فالتقوا تحت المدائن بفرسخين، واقتتلوا عدة أيام آخرها رابع ذي الحجة، وكان توزون وخجخج والأتراك مع ابن حمدان، فانهزم سيف الدولة ومن معه إلى المدائن، وبها ناصر الدولة، فردهم وأضاف إليهم من كان عنده من الجيش، فعاودوا القتال، فانهزم أبو الحسين البريدي، وأسر جماعة من أعيان أصحابه، وقتل جماعة، وعاد أبو الحسين البريدي منهزماً إلى واسط، ولم يقدر سيف الدولة على اتباعه إليها لما في أصحابه من الوهن والجراح.

وكان المتقي قد سير أهله من بغداد إلى سر من رأى، فأعادهم، وكان أعيان الناس قد هربوا من بغداد، فلما انهزم البريدي عادوا إليها، وعاد ناصر الدولة بن حمدان إلى بغداد، فدخلها ثالث عشر ذي الحجة، وبين يديه الأسرى على الجمال، ولما استراح سيف الدولة وأصحابه انحدروا من موضع المعركة إلى واسط، فرأوا البريديين قد انحدروا إلى البصرة، فأقام بواسط ومعه الجيش، وسنذكر من أخباره سنة إحدى وثلاثين.
ولما عاد ناصر الدولة إلى بغداد نظر في العيار، فرآه ناقصاً، فأمر بإصلاح الدنانير، فضرب دنانير سماها الإبريزية، عيارها خير من غيرها، فكان الدينار بعشرة دراهم، فبيع هذا الدينار بثلاثة عشر درهماً.
ذكر استيلاء الديلم على أذربيجانكانت أذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي، وكان قد صحب يوسف ابن أبي الساج، وخدم وتقدم حتى استولى على أذربيجان، وكان يقول بمذهب الشراة هو وأبوه، وكان أبوه من أصحاب هارون الشاري، فلما قتل هارون هرب إلى أذربيجان، وتزوج ابنة رئيس من أكرادها، فولدت له ديسم، فانضم إلى أبي الساج، فارتفع وكبر شأنه، وتقدم إلى أن ملك أذربيجان بعد يوسف بن أبي الساج، وكان معظم جيوشه الأكراد، إلا نفراً يسيراً من الديلم، من عسكر وشمكير، أقاموا عنده حين صحبوه إلى أذربيجان.
ثم إن الأكراد تقووا، وتحكموا عليه، وتغلبوا على بعض قلاعه وأطراف بلاده، فرأى أن يستظهر عليهم بالديلم، فاستكثر ذلك منهم، وكان فيهم صعلوك بن محمد بن مسافر، وعلي بن الفضل وغيرهما، فأكرمهم ديسم، وأحسن إليهم، وانتزع من الأكراد ما تغلبوا عليه من بلاده، وقبض على جماعة من رؤسائهم.
وكان وزيره أبا القاسم علي بن جعفر، وهو من أهل أذربيجان، فسعى به أعداؤه، فأخافه ديسم، فهرب إلى الطرم إلى محمد بن مسافر، فلما وصل إليه رأى ابنيه وهسوذان والمرزبان قد استوحشا منه، واستوليا على بعض قلاعه، وكان سبب وحشتهما سوء معاملته معهما ومع غيرهما، ثم إنهما قبضا على أبيهما محمد بن مسافر، وأخذا أمواله وذخائره، وبقي في حصن آخر وحيداً فريداً بغير مال ولا عدة، فرأى علي بن جعفر الحال فتقرب إلى المرزبان وخدمه وأطمعه في أذربيجان، وضمن له تحصيل أموال كثيرة يعرف هو وجوهها، فقلده وزارته.
وكان يجمعهما مع الذي ذكرنا أنهما كانا من الشيعة، فإن علي بن جعفر كان من دعاة الباطنية، والمرزبان مشهور بذلك، وكان ديسم كما ذكرنا يذهب إلى مذهب الخوارج في بغض علي، عليه السلام، فنفر عنه من عنده من الديلم، وابتدأ علي بن جعفر فكاتب من يعلم أنه يستوحش من ديسم يستميله، إلى أن أجابه أكثر أصحابه، وفسدت قلوبهم على ديسم، وخاصة الديلم، وسار المرزبان إلى أذربيجان، وسار ديسم إليه، فلما التقيا للحرب عاد الديلم إلى المرزبان، وتبعهم كثير من الأكراد مستأمنين، فحمل المرزبان على ديسم، فهرب في طائفة يسيرة من أصحابه إلى أرمينية، واعتصم بحاجيق بن الديراني، لمودة بينهما، فأكرمه، واستانف ديسم يؤلف الأكراد، وكان أصحابه يشيرون عليه بإبعاد الديلم لمخالفتهم أياه في الجنس والمذهب، فعصاهم، وملك المرزبان أذربيجان، واستقام أمره إلى أن فسد ما بينه وبين وزيره علي ابن جعفر.
وكان سبب الوحشة بينهما أن علياً أساء السيرة مع أصحاب المرزبان، فتضافروا عليه، فأحس بذلك، فاحتال على المرزبان، فأطمعه في أموال كثيرة يأخذها له من بلد تبريز، فضم إليه جنداً من الديلم وسيرهم إليها، فاستمال أهل البلد، فعرفهم أن المرزبان إنما سيره إليهم ليأخذ أموالهم، وحسن لهم قتل من عندهم من الديلم، ومكاتبة ديسم ليقدم عليهم، فأجابوه إلى ذلك.
وكاتب ديسم، ووثب أهل البلد بالديلم فقتلوهم، وسار ديسم فيمن اجتمع إليه من العسكر إلى تبريز، وكان المرزبان قد ساء إلى من استأمن إليه من الأكراد، فلما سمعوا بديسم أنه يريد تبريز ساروا إليه، فلما اتصل ذلك بالمرزبان ندم على إيحاش علي بن جعفر، ثم جمع عسكره وسار إلى تبريز، فتحارب هو وديسم بظاهر تبريز، فانهزم ديسم والأكراد، وعادوا فتحصنوا بتبريز، وحصرهم المرزبان وأخذ في إصلاح علي بن جعفر ومراسلته، وبذل له الأيمان على ما يريده، فأجابه علي: إنني لا أريد من جميع ما بذلته إلى السلامة وترك العمل؛ فأجابه إلى ذلك وحلف له.

واشتد الحصار على ديسم، فسار من تبريز إلى أردبيل، وخرج علي ابن جعفر إلى المرزبان، فساروا إلى أردبيل وترك المرزبان على تبريز من يحصرها، وحصر هو ديسم بأردبيل، فلما طال الحصار عليه طلب الصلح، وراسل المرزبان في ذلك، فأجابه إليه، فاصطلحا وتسلم المرزبان أردبيل، فأكرم ديسم وعظمه، ووفى له بما حلف له عليه، ثم إن ديسم خاف على نفسه من المرزبان، فطلب منه أن يسيره إلى قلعته بالطرم فيكون فيها هو وأهله، ويقنع بما يتحصل له منها، ولا يكلفه شيئاً آخر، ففعل المرزبان ذلك، وأقام ديسم بقلعته هو وأهله.
ذكر استيلاء أبي علي بن محتاج على بلد الجبل وطاعة وشمكير للسامانيةقد ذكرنا سنة تسع وعشرين مسير أبي علي بن محتاج صاحب جيوش خراسان للسامانية إلى الري، وأخذها من وشمكير، ومسير وشمكير إلى طبرستان، وأقام أبو علي بالري، بعد ملكها، تلك الشتوة، وسير العساكر إلى بلد الجبل، فافتتحها، واستولى على زنكان، وأبهر، وقزوين، وقم، وكرج، وهمذان، ونهاوند والدينور إلى حدود حلوان، ورتب فيها العمال، وجبى أموالها.
وكان الحسن بن الفيرزان بسارية، فقصده وشمكير وحصره، فسار إلى أبي علي واستنجده وأقام وشمكير متحصناً بسارية، فسار إليه أبو علي ومعه الحسن وحصراه بها سنة ثلاثين وضيق عليه، وألح عليه بالقتال كل يوم، وهم في شتاء شاتٍ كثير المطر، فسأل وشمكير المواعدة، فصالحه أبو علي، وأخذ رهائنه على لزوم طاعة الأمير نصر بن أحمد الساماني، ورحل عنه إلى جرجان في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، فأتاه موت الأمير نصر بن أحمد، فسار عنها إلى خراسان.
ذكر استيلاء الحسن بن الفيرزان على جرجانكان الحسن بن الفيرزان عم ما كان بن كالي، وكان قريباً منه في الشجاعة، فلما قتل ما كان راسله وشمكير ليدخل في طاعته، فلم يفعل، وكان بمدينة سارية، وصار يسب وشمكير، وينسبه إلى المواطأة على قتل ما كان، فقصده وشمكير، فسار الحسن من سارية إلى أبي علي صاحب جيوش خراسان، فسار معه أبو علي من الري، فحصر وشمكير بسارية، وأقام يحاصره إلى سنة إحدى وثلاثين، واصطلحا.
وعاد أبو علي إلى خراسان، وأخذ ابناً لوشمكير، اسمه سالار، رهينة، وصحبه الحسن بن الفيرزان، وهو كاره للصلح، فبلغه وفاة السعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان، فلما سمع الحسن ذلك عزم على الفتك بأبي علي، فثار به وبعسكره، فسلم أبو علي، ونهب الحسن سواده، وأخذ ابن وشمكير، وعاد إلى جرجان فملكها، وملك الدامغان وسمنان، ولما وصل أبو علي إلى نيسابور رأى إبراهيم بن سيمجور الدواتي قد امتنع عليه بها وخالفه، فترددت الرسل بينهم فاصطلحوا.
ذكر ملك وشمكير الريلما انصرف أبو علي إلى خراسان، وجرى عليه من الحسن ما ذكرناه، وعاد إلى جرجان، سار وشمكير من طبرستان إلى الري فملكها واستولى عليها، وراسله الحسن بن الفيرزان يستميله، ورد عليه ابنه سالار الذي كان عند أي علي رهينة، وقصد أن يتقوى به على الخراسانية أن عادوا إليه، فألان له وشمكير الجواب، ولم يصرح بما يخالف قاعدته مع أبي علي.
ذكر استيلاء ركن الدولة على الريلما سمع ركن الدولة وأخوه عماد الدولة ابنا بويه بملك وشمكير الري طمعا فيه لأن وشمكير كان قد ضعف، وقلت رجاله وماله بتلك الحادثة مع أبي علي، فسار ركن الدولة الحسن بن بويه إلى الري واقتتل هو وشمكير، فانهزم وشمكير، واستأمن كثير من رجاله إلى ركن الدولة، فسار وشمكير إلى طبرستان، فقصده الحسن بن الفيرزان، فاستأمن إليه كثير من عسكره أيضاً، فانهزم وشمكير إلى خراسان.
ثم إن الحسن بن الفيرزان راسل ركن الدولة وواصله، فتزوج ركن الدولة بنتاً للحسن، فولدت له ولده فخر الدولة علياً.
وكان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث بعد وفاة السعيد نصر بن أحمد وإنما ذكرناها هاهنا ليتلو بعضها بعضاً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة صرف بدر الخرشني عن حجبة الخليفة، وجعل مكانه سلامة الطولوني.
وفيها ظهر كوكب، في المحرم، بذنب عظيم في أول برج القوس، وآخر برج العقرب بين الغرب والشمال، وكان رأسه في المغرب وذنبه في المشرق، وكان عظيماً منتشر الذنب، وبقي ظاهراً ثلاثة عشر يوماً، وسار في القوس والجدي ثم اضمحل.

وفيها اشتد الغلاء لا سيما بالعراق، وبيع الخبز أربعة أرطال بقيراطين صحيح أميري، وأكل الضعفاء الميتة، وكثر الوباء والموت جداً.
وفيها، في ربيع الآخر، وصل الروم إلى قرب حلب، ونهبوا وخربوا البلاد، وسبوا نحو خمسة عشر ألف إنسان.
وفيها دخل الثملي من ناحية طرسوس إلى بلاد الروم، فقتل، وسبى، وغنم وعاد سالماً، وقد أسر عدة من بطارقتهم المشهورين.
وفيها، في ذي القعدة، قلد المتقي لله بدراً الخرشني طريق الفرات، فسار إلى الإخشيد مستأمناً فقلده بلدة دمشق، فلما كان بعد مدة حم ومات بها.
وفيها، في جمادي الآخرة، ولد أبو منصور بويه بن ركن الدولة بن بويه وهو مؤيد الدولة.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبدالله المعروف بالصيرفي، الفقيه الشافعي، وله تصانيف في أصول الفقه وفيها توفي القاضي أبو عبدالله الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل المحاملي، الفقيه الشافعي، وهو من المكثرين في الحديث، وكان مولده سنة خمس وثلاثين ومائتين، وكان على قضاء الكوفة وفارس، فاستعفى من القضاء وألح في ذلك، فأجيب إليه.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري المتكلم صاحب المذهب المشهور، وكان مولده سنة ستين ومائتين، وهو من ولد أبي موسى الأشعري.
وفيها مات محمد بن محمد الجيهاني وزير السعيد نصر بن أحمد تحت الهدم.
وفيها توفي محمد بن يوسف بن النضر الهروي، الفقيه الشافعي، وكان مولده سنة تسع وعشرين ومائتين، وأخذ عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي وتعلم منه.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة

ذكر ظفر ناصر الدولة بعدل البجكمي
في هذه السنة ظفر أبو عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان بعدل حاجب بجكم، وسلمه، وسيره إلى بغداد.
وسبب ذلك أن عدلاً صار بعد قتل بجكم مع ابن رائق، وسار معه إلى بغداد، وأصعد معه إلى الموصل، فلما قتل ناصر الدولة أبا بكر بن رائق، كما ذكرناه، صار عدل في جملة ناصر الدولة، فسيره ناصر الدولة مع علي ابن خلف بن طياب إلى ديار مضر، والشام الذي كان بيد ابن رائق، وكان بالرحبة من جهة ابن رائق رجل يقال له مسافر بن الحسن، فلما قتل ابن رائق استولى مسافر هذا على الناحية، ومنع منها، وجبى خراجها، فأرسل إليه ابن طياب عدلاً في جيش ليخرجه عن الرحبة، فلما سار إليها فارقها مسافر من غير قتال، وملك عدل الحاجب البلد، وكاتب من بغداد من البجكمية، فقصدوه مستخفين، فقوي أمره بهم، واستولى على طريق الفرات، وبعض الخابور.
ثم إن مسافراً جمع جمعاً من بني نمير وسار إلى قرقيسيا، فأخرج منها أصحاب عدل وملكها، فسار إليها، واستتر عنها، وعزم عدل على قصد الخابور وملكه، فاحتاط أهله منه، واستنصروا ببني نمير، فلما علم ذلك عدل ترك قصدهم.
ثم صار يركب كل يوم قبل العصر بساعة في جميع عسكره ويطوف صحاري قرقيسيا إلى آخر النهار، وعيونه تأتيه من أهل الخابور بأنهم يحذرون كلما سمعوا بحركته، ففعل ذلك أربعين يوماً، فلما رأى أهل الخابور اتصل ركوبه، وأنه لا يقصدهم، فرقوا جمعهم وأمنوه، فأتته عيونه بذلك على رسمه، فلما تكامل رجاله أمرهم بالمسير، وأن يرسلوا غلمانهم في حمل أثقالهم، وسار لوقته فصبح الشمسانية، وهي من أعظم قرى الخابور وأحصنها، فتحصن أهلها منه، فقاتلهم ونقب السور وملكها وقتل فيها، وأخذ من أهلها مالاً كثيراً، وأقام بها أياماً، ثم سار إلى غيرها، فبقي في الخابور ستة أشهر، فجبى الخراج والأموال العظيمة، واستظهر بها، وقوي أصحابه بما وصل إليهم أيضاً، وعاد إلى الرحبة، واتسعت حاله، واشتد أمره، وقصده العساكر من بغداد، فعظم حاله.
ثم إنه سار يريد نصيبين لعلمه ببعد ناصر الدولة عن الموصل والبلاد الجزيرية، ولم يمكنه قصد الرقة وحران لأنها كان بها يأنس المؤنسي في عسكر ومعه جمع من بني نمير، فتركها وسار إلى رأس عين، ومنها إلى نصيبين، فاتصل خبره بالحسين بن حمدان، فجمع الجيش وسار إليه إلى نصيبين، فلما قرب منه لقيه عدل في جيشه، فلما التقى العسكران استأمن أصحابه من عدل إلى ابن حمدان، وبقي معه منهم نفر يسير من خاصته، فأسره ابن حمدان، وأسر معه ابنه، فسمل عدلاً وسيرهما إلى بغداد، فوصلها في العشرين من شعبان، فشهر هو وابنه فيها.
ذكر حال سيف الدولة بواسط

قد ذكرنا مقام سيف الدولة علي بن حمدان بواسط، بعد انحدار البريديين عنها، وكان يريد الانحدار إلى البصرة لأخذها من البريدي، ولا يمكنه لقلة المال عنده، ويكتب إلى أخيه في ذلك، فلا ينفذ إليه شيئاً، وكان توزون وخجخج يسيئان الأدب ويتحكمان عليه.
ثم إن ناصر الدولة أنفذ إلى أخيه مالاً مع أبي عبدالله الكوفي ليفرقه في الأتراك، فأسمعه توزون وخجخج المكروه، وثارا به، فأخذه سيف الدولة وغيبه عنهما وسيره إلى بغداد، وأمر توزون أن يسير إلى الجامدة ويأخذها وينفرد بحاصلها، وأمر خجخج أن يسير إلى مذار ويحفظها ويأخذ حاصلها.
وكان سيف الدولة يزهد بالأتراك في العراق، ويحسن لهم قصد الشام معه الاستيلاء عليه وعلى مصر، ويقع في أخيه عندهم، فكانوا يصدقونه في أخيه، ولا يجيبونه إلى المسير إلى الشام معه، ويتسحبون عليه، وهو يجيبهم إلى الذي يريدونه.
فلما كان سلخ شعبان ثار الأتراك بسيف الدولة فكبسوه ليلاً، فهرب من معسكره إلى بغداد، ونهب سواده، وقتل جماعة من أصحابه.
وأما ناصر الدولة فإنه لما وصل إليه أبو عبدالله الكوفي وأخبره الخبر برز ليسير إلى الموصل، فركب المتقي إليه، وسأله التوقف عن المسير، فأظهر له الإجابة إلى أن عاد، ثم سار إلى الموصل ونهبت داره، وثار الديلم والأتراك، ودبر الأمر أبو إسحاق القراريطي من غير تسمية بوزارة.
وكانت إمارة ناصر الدولة أبي محمد الحسين بن عبدالله بن حمدان ببغداد ثلاثة عشر شهراً وخمسة أيام، ووزارة أبي العباس الأصبهاني أحداً وخمسين يوماً؛ ووصل سيف الدولة إلى بغداد.
ذكر حال الأتراك بعد إصعاد سيف الدولةلما هرب سيف الدولة من واسط عاد الأتراك إلى معسكرهم، فوقع الخلاف بين توزون وخجخج، وتنازعا الإمارة، ثم استقر الحال على أن يكون توزون أميراً وخجخج صاحب الجيش، وتصاهرا.
وطمع البريدي في واسط، فأصعد إليها، فأمر توزون خجخج بالمسير إلى نهر أبان، وأرسل البريدي إلى توزون يطلب أن يضمنه واسط، فرد رداً جميلاً، ولم يفعل. ولما عاد الرسول أتبع توزون بجاسوس يأتيه بخبره مع خجخج، فعاد الجاسوس فأخبر توزون بأن الرسول اجتمع هو وخجخج وطال الحديث بينهما، وأن خجخج يريد أن ينتقل إلى البريدي، فسار توزون إليه جريدة في مائتي غلام يثق بهم، وكبسه في فراشه ليلة الثاني عشر من رمضان، فلما أحس به ركب دابته بقميص، وفي يده لت، ودفع عن نفسه قليلاً، ثم أخذ وحمل إلى توزون فحمله إلى واسط، فسلمه وأعماه ثاني يوم وصوله إليها.
ذكر عود سيف الدولة إلى بغداد

وهربه عنها
لما هرب سيف الدولة، على ما ذكرنا، لحق بأخيه، فبلغه خلاف توزون وخجخج، فطمع في بغداد، فعاد ونزل بباب حرب، وأرسل إلى المتقي لله يطلب منه مالاً ليقاتل توزون إن قصد بغداد، فأنفذ إليه أربع مائة ألف درهم، ففرقها في أصحابه، وظهر من كان مستخفياً ببغداد وخرجوا إليه، وكان وصوله ثالث عشر رمضان.
ولما بلغ توزون وصول سيف الدولة إلى بغداد خلف بواسط كيغلغ في ثلاثمائة رجل وأصعد إلى بغداد، فلما سمع سيف الدولة بإصعاده رحل من باب حرب فيمن انضم إليه من أجناد بغداد، وفيهم الحسن بن هارون.
ذكر إمارة توزونقد ذكرنا مسير سيف الدولة من بغداد، فلما فارقها دخلها توزون، وكان دخلوها بغداد في الخامس والعشرين من رمضان، فخلع عليه المتقي لله، وجعله أمير الأمراء، وصار أبو جعفر الكرخي ينظر في الأمور كما كان الكوفي ينظر فيها.
ولما سار توزون عن واسط أصعد إليها البريدي، فهرب من بها من أصحاب توزون إلى بغداد، ولم يمكن توزون المبادرة إلى واسط إلى أن تستقر الأمور ببغداد، فأقام إلى أن مضى بعض ذي القعدة.
وكان توزون قد أسر غلاماً عزيزاً على سيف الدولة قريباً منه، يقال له ثمال، فأطلقه وأكرمه وأنفذه إليه، فحسن موقع ذلك من بني حمدان، ثم إن توزون انحدر إلى واسط لقصد البريدي، فأتاه أبو جعفر بن شيرزاد هارباً من البريدي، فقبله، وفرح به، وقلد أموره كلها.
ذكر مسير صاحب عمان إلى البصرةفي هذه السنة، في ذي الحجة، سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في مراكب كثيرة يريد البصرة، وحارب البريدي، فملك الأبلة، وقوي قوة عظيمة، وقار أن يملك البصرة، فأشرف البريدي وإخوته على الهلاك.

وكان له ملاح يعرف بالرنادي، فضمن للبريدي هزيمة يوسف، فوعد الإحسان العظيم، وأخذ الملاح زورقين فملأهما سعفاً يابساً، ولم يعلم به أحد، وأحدرهما في الليل حتى قارب الأبلة.
وكانت مراكب ابن وجيه تشد بعضها إلى بعض في الليل، فتصير كالجسر، فلما انتصف الليل أشعل ذلك الملاح النار في السعف الذي في الزورقين، وأرسلهما مع الجزر والنار فيهما، فأقبلا أسرع من الريح، فوقعا في تلك السفن والمراكب، فاشتعلت واحترقت قلوبها، واحترق من فيها، ونهب الناس منها مالاً عظيماً، ومضى يوسف بن وجيه هارباً في المحرم سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وأحسن البريدي إلى ذلك الملاح، وفي هذه الفتنة هرب ابن شيرزاد من البريدي وأصعد إلى توزون.
ذكر الوحشة بين المتقي لله وتوزونكان محمد بن ينال الترجمان من أكبر قواد توزون، وهو خليفته ببغداد، فلما انحدر توزون إلى واسط سعى بمحمد إليه، وقبح ذكره عنده، فبلغ ذلك محمداً فنفر منه.
وكان الوزير أبو الحسين بن مقلة قد ضمن القرى المختصة بتوزون ببغداد، فخسر فيها جملة، فخاف أن يطالب بها، وانضاف إلى ذلك اتصال ابن شيرزاد بتوزون، فخافه الوزير وغيره، وظنوا أن مصيره إلى توزون باتفاق من البريدي، فاتفق الترجمان وابن مقلة، وكتبوا إلى ابن حمدان لينفذ عسكراً يسيراً صحبة المتقي لله إليه، وقالوا للمتقي: قد رأيت ما فعل معك البريدي! بالأمس أخذ منك خمسمائة ألف دينار، وأخرجت على الأجناد مثلها، وقد ضمنك البريدي من توزون بخمسمائة ألف دينار أخرى، زعم أنها في يدك من تركة بجكم، وابن شيرزاد واصل ليتسلمك ويخلعك ويسلمك إلى البريدي؛ فانزعج لذلك، وعزم على الإصعاد إلى ابن حمدان، وورد ابن شيرزاد في ثلاثمائة رجل جريدة.
ذكر موت السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيلفي هذه السنة توفي السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل، صاحب خراسان وما وراء النهر، في رجب، وكان مرضه السل، فبقي مريضاً ثلاثة عشر شهراً، ولم يكن بقي من مشايخ دولتهم أحد، فإنهم كانوا قد سعى بعضهم ببعض، فهلك بعضهم، ومات بعضهم، وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثين يوماً، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة.
وكان حليماً، كريماً، عاقلاً، فمن حلمه أن بعض الخدم سرق جوهراً نفيساً وباعه من بعض التجار بثلاثة عشر ألف درهم، فحضر التاجر عند السعيد وأعلمه أنه قد اشترى جوهراً نفيساً لا يصلح إلا للسلطان، وأحضر الجوهر عنده، فحين رآه عرفه أنه كان له وقد سرق، فسأله عن ثمنه، ومن أين اشتراه، فذكر له الخادم والثمن، فأمر فأحضر ثمنه في الحال، وأربحه ألفي درهم زيادة.
ثم إن التاجر سأله في دم الخادم، فقال: لا بد من تأديبه، وأما دمه فهو لك؛ فأحضره وأدبه، ثم أنفذه إلى التاجر وقال: كنا وهبنا لك دمه، فقد أنفذناه إليك؛ فلو أن صاحب الجوهر بعض الرعايا لقال: هذا مالي قد عاد إلي وخذ أنت مالك ممن سلمته إليه.
وحكي أنه استعرض جنده، وفيهم إنسان اسمه نصر بن أحمد، فلما بلغه العرض سأله عن اسمه فسكت، فأعاد السؤال فلم يجبه، فقال بعض من حضر: اسمه نصر بن أحمد، وإنما سكت إجلالاً للأمير؛ فقال السعيد: إذاً يوجب حقه، ونزير في رزقه؛ ثم قربه وزاد في أرزاقه.
وحكي عنه أنه لما خرج عليه أخوه أبو زكرياء نهب خزائنه وأمواله، فلما عاد السعيد إلى ملكه قيل له عن جماعة انتهبوا ماله، فلم يعرض إليهم، وأخبروه أن بعض السوقة اشترى منها سكيناً نفيساً بمائتي درهم، فأرسل إليه وأعطاه مائتي درهم وطلب السكين، فأبى أن يبيعه إلا بألف درهم، فقال: ألا تعجبون من هذا ؟ أرى عنده مالي، فلم أعاقبه، وأعطيته حقه، فاشتط في الطلب؛ ثم أمر برضائه.
وحكي أنه طال مرضه فبقي به ثلاثة عشر شهراً، فأقبل على الصلاة والعبادة، وبنى له في قصره بيتاً وسماه بيت العبادة، فكان يلبس ثياباً نظافاً، ويمشي إليه حافياً، ويصلي فيه، ويدعو ويتضرع، ويجتنب المنكرات والآثام إلى أن مات ودفن عند والده.
ذكر ولاية ابنه الأمير نوح بن نصرلما مات نصر بن أحمد تولى بعده خراسان وما وراء النهر ابنه نوح، واستقر في شعبان من هذه السنة، وبايعه الناس، وحلفوا له، ولقب بالأمير الحميد، وفوض أمره وتدبير مملكته إلى أبي الفضل محمد بن أحمد الحاكم، وصدر عنه رأيه.

ولما ولي نوح هرب منه أبو الفضل بن أحمد بن حمويه، وهو من أكابر أصحاب أبيه، وكان سبب ذلك أن السعيد نصراً كان قد ولى ابنه إسماعيل بخارى، وكان أبو الفضل يتولى أمره وخلافته، فأساء السيرة مع نوح وأصحابه، فحقد ذلك عليه، ثم توفي إسماعيل في حياة أبيه.
وكان نصر يميل إلى أبي الفضل ويؤثره، فقال له: إذا حدث علي حادث الموت فانج بنفسك، فإني لا آمن نوحاً عليك؛ فلما مات الأمير نصر سار أبو الفضل من بخارى وعبر جيحون، وورد آمل، وكاتب أبا علي بن محتاج، وهو بنيسابور، يعرفه الحال، وكان بينهما مصاهرة، فكتب إليه أبو علي ينهاه عن الإلمام بناحيته لمصلحة.
ثم إن الأمير نوحاً أرسل إلى أبي الفضل كتاب أمان بخطه، فعاد إليه فأحسن الفعل معه، وولاه سمرقند، وكان أبو الفضل معرضاً عن محمد بن أحمد الحاكم، ولا يلتفت إليه، ويسميه الخياط، فأضمر الحاكم بغضه والإعراض عنه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، وصل معز الدولة بن بويه إلى الصرة، فحارب البريديين، وأقام عليهم مدة، ثم استأمن جماعة من قواده إلى البريديين، فاستوحش من الباقين، فانصرف عنهم.
وفيها تزوج الأمير أبو منصور بن المتقي بابنة ناصر الدولة بن حمدان، وكان الصداق ألف ألف درهم، والحمل مائة ألف دينار.
وفيها قبض ناصر الدولة على الوزير أبي إسحاق القراريطي، ورتب مكانه أبا العباس أحمد بن عبدالله الأصبهاني في رجب، وكان أبو عبدالله الكوفي هو الذي يدبر الأمور، وكانت وزارة القراريطي ثمانية أشهر وستة عشر يوماً، وكان ناصر الدولة ينظر في قصص الناس وتقام الحدود بين يديه، ويفعل ما يفعل صاحب الشرطة.
وفيها كانت الزلزلة المشهورة بناحية نسا من خراسان، فخربت قرى كثيرة، ومات تحت الهدم عالم عظيم، وكانت عظيمة جداً.
وفيها استقدم الأمير نوح محمد بن أحمد النسفي البردهي، وكان قد طعن فيه عنده، فقتله وصلبه، فسرق من الجذع، ولم يعلم من سرقه.
وفيها استوزر المتقي لله أبا الحسين بن مقلة، ثامن شهر رمضان، بعد إصعاد ناصر الدولة من بغداد إلى الموصل، وقبل إصعاد أخيه سيف الدولة من واسط إلى بغداد.
وفيها أرسل ملك الروم إلى المتقي لله يطلب منديلاً زعم أن المسيح مسح به وجهه، فصارت صورة وجهه فيه، وأنه في بيعة الرها. وذكر أنه إن أرسل المنديل أطلق عدداً كثيراً من أسارى المسلمين، فأحضر المتقي لله القضاة والفقهاء، واستفتاهم، فاختلفوا، فبعض رأى تسليمه إلى الملك وإطلاق الأسرى، وبعض قال إن هذا المنديل لم يزل من قديم الدهر في بلاد الإسلام لم يطلبه ملك من ملوك الروم، وفي دفعه إليهم غضاضة.
وكان في الجماعة علي بن عيسى الوزير، فقال: إن خلاص المسلمين من الأسر ومن الضر والضنك الذي هم فيه أولى من حفظ هذا المنديل؛ فأمر الخليفة بتسليمه إليهم، وإطلاق الأسرى، ففعل ذلك، وأرسل إلى الملك من يتسلم الأسرى من بلاد الروم فأطلقوا.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن إسماعيل الفرغاني الصوفي أستاذ أبي بكر الدقاق، وهو مشهور بين المشايخ.
وفيها توفي محمد بن يزداد الشهرزوري، وكان يلي إمرة دمشق لمحمد بن رائق، ثم اتصل بالإخشيد فجعله على شرطته بمصر.
وفيها توفي سنان بن ثابت بن قرة، مستهل ذي القعدة، بعلة الذرب، وكان حاذقاً في الطب، فلم يغن عنه عند دنو الأجل شيئاً.
وفيها أيضاً مات أبو عبدالله محمد بن عبدوس الجهشياري.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة

ذكر مسير المتقي إلى الموصل
في هذه السنة أصعد المتقي لله إلى الموصل.
وسبب ذلك ما ذكرناه أولاً من سعاية ابن مقلة والترجمان مع المتقي بتوزون وابن شيرزاد، ثم إن ابن شيرزاد وصل خامس المحرم إلى بغداد في ثلاث مائة غلام جريدةً، فازداد خوف المتقي، وأقام ببغداد يأمر وينهى، ولا يراجع المتقي في شيء.

وكان المتقي قد أنفذ يطلب من ناصر الدولة بن حمدان إنفاذ جيش إليه ليصحبوه إلى الموصل، فأنفذهم مع ابن عمه أبي عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان، فلما وصلوا إلى بغداد نزلوا بباب حرب، واستتر ابن شيرزاد، وخرج المتقي إليهم في حرمه، وأهله، ووزيره، وأعيان بغداد، مثل سلامة الطولوني، وأبي زكرياء يحيى بن سعيد السوسي، وأبي محمد المارداني، وأبي إسحاق القراريطي، وأبي عبدالله الموسوي، وثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الطبيب، وأبي نصر محمد بن ينال الترجمان، وغيرهم.
ولما سار المتقي من بغداد ظلم ابن شيرزاد الناس وعسفهم وصادرهم وأرسل إلى توزون، وهو بواسط، يخبره بذلك، فلما بلغ توزون الخبر عقد ضمان واسط على البريدي وزوجه ابنته، وسار إلى بغداد، وانحدر سيف الدولة وحده إلى المتقي لله بتكريت، فأرسل المتقي إلى ناصر الدولة يستدعيه ويقول له: لم يكن الشرط معك إلا أن تنحدر إلينا؛ فانحدر، فوصل إلى تكريت في الحادي والعشرين من ربيع الآخر، وركب المتقي إليه، فلقيه بنفسه، وأكرمه.
وأصعد الخليفة إلى الموصل، وأقام ناصر الدولة بتكريت، وسار توزون نحو تكريت، فالتقى هو وسيف الدولة بن حمدان تحت تكريت بفرسخين، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثم انهزم سيف الدولة يوم الأربعاء لثلاث بقين من ربيع الآخر، وغنم توزون والأعراب سواده وسواد أخيه ناصر الدولة، وعادا من تكريت إلى الموصل ومعهما المتقي لله.
وشغب أصحاب توزون فعاد إلى بغداد، وعاد سيف الدولة وانحدر فالتقى هو وتوزون بحربي، في شعبان، فانهزم سيف الدولة مرة ثانية، وتبعه توزون.
ولما بلغ سيف الدولة إلى الموصل سار عنها هو وأخوه ناصر الدولة والمتقي لله ومن معهم إلى نصيبين، ودخل توزون الموصل، فسار المتقي إلى الرقة، ولحقه سيف الدولة، وأرسل المتقي إلى توزون يذكر أنه استوحش منه لاتصاله بالبريدي، وأنهما صارا يداً واحدة، فإن آثر رضاه يصالح سيف الدولة وناصر الدولة ليعود إلى بغداد، وتردد أبو عبدالله محمد بن أبي موسى الهاشمي من الموصل إلى توزون في ذلك فتم الصلح، وعقد الضمان على ناصر الدولة لما بيده من البلاد ثلاث سنين، كل سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، وعاد توزون إلى بغداد، وأقام المتقي عند بني حمدان بالموصل، ثم ساروا عنها إلى الرقة فأقاموا بها.
ذكر وصول معز الدولة إلى واسط وديالي وعودهوفي هذه السنة بلغ معز الدولة أبا الحسين بن بويه إصعاد توزون إلى الموصل، فسار هو إلى واسط لميعاد من البريديين، وكانوا قد وعدوه أن يمدوه بعسكر في الماء، فأخلفوه.
وعاد توزون من الموصل إلى بغداد، وانحدر منها إلى لقاء معز الدولة، والتقوا سابق عشر ذي القعدة بقباب حميد، وطالت الحرب بينهما بضعة عشر يوماً، إلا أن أصحاب توزون يتأخرون، والديلم يتقدمون، إلى أن عبر توزون نهر ديالي، ووقف عليه، ومنع الديلم من العبور.
وكان مع توزون مقابلة في الماء في دجلة، فكانوا يودون أن الديلم يستولون على أطرافهم، فرأى ابن بويه أن يصعد على ديالي ليبعد عن دجلة وقتال من بها، ويتمكن من الماء، فعلم توزون بذلك، فسير بعض أصحابه، وعبروا ديالي وكمنوا، فلما سار معز الدولة مصعداً وسار سواده في أثره خرج الكمين عليه، فحالوا بينهما، ووقعوا في العسكر وهو على غير تعبية.
وسمع توزون الصياح، فتعجل، وعبر أكثر أصحابه سباحة، فوقعوا في عسكر ابن بويه يقتلون ويأسرون حتى ملوا، وانهزم ابن بويه ووزيره الصيمري إلى السوس رابع ذي الحجة ولحق به من سلم من عسكره، وكان قد أسر منهم أربعة عشر قائداً منهم ابن الداعي العلوي، واستأمن كثير من الديلم إلى توزون؛ ثم إن توزون عاوده ما كان يأخذه من الصرع، فشغل بنفسه عن معز الدولة وعاد إلى بغداد.
ذكر قتل أبي يوسف البريديفي هذه السنة قتل أبو عبدالله البريدي أخاه أبا يوسف.

نوكان سبب قتله أن أبا عبدالله البريدي كان قد نفذ ما عنده من المال في محاربة بني حمدان ومقامهم بواسط، وفي محاربة توزون، فلما رأى جنده قلة ماله مالوا إلى أخيه أبي يوسف لكثرة ماله، فاستقرض أبو عبدالله من أخيه أبي يوسف مرة بعد مرة، وكان يعطيه القليل من المال، ويعيبه ويذكر تضييعه وسوء تدبيره، وجنونه وتهوره، فصح ذلك عند أبي عبدالله، ثم صح عنده أنه يريد القبض عليه أيضاً، والاستبداد بالأمر وحده، فاستوحش كل واحد منهما من صاحبه.
ثم إن أبا عبدالله أنفذ إلى أخيه جوهراً نفيساً كان بجكم قد وهبه لبنته لما تزوجها البريدي، وكان قد أخذه من دار الخلافة، فأخذه أبو عبدالله منها حين تزوجها، فلما جاءه الرسول وأبلغه ذلك وعرض عليه الجوهر أحضر الجوهريين ليثمنوه، فلما أخذوا في وصفه أنكر عليهم ذلك، وحرد، ونزل في ثمنه إلى خمسين ألف درهم، وأخذ في الوقيعة في أخيه أبي عبدالله وذكر معايبه وما وصل إليه من المال، وأنفذ مع الرسول خمسين ألف درهم، فلما عاد الرسول إلى أبي عبدالله أبلغه ذلك، فدمعت عيناه: ألا قلت له: جنوني وقلة تحصيلي أقعدك هذا المقعد وصيرك كقارون ! ثم عدد ما عمله معه من الإحسان.
فلما كان بعد أيام أقام غلمانه في طريق مسقف بين داره والشط، وأقبل أخوه أبو يوسف من الشط، فدخل في ذلك الطريق، فثاروا به فقتلوه وهو يصيح: يا أخي، يا أخي، قتلوني ! وأخوه يسمعه ويقول: إلى لعنة الله ! فخرج أخوهما أبو الحسين من داره، وكان بجنب داره أخيه أبي عبدالله، وهو يستغيث: يا أخي قتلته ! فسبه وهدده، فسكت، فلما قتل دفنه وبلغ ذلك الخبر الجند، فثاروا وشغبوا ظناً منهم أنه حي، فأمر به فنبش وألقاه على الطريق، فلما رأوه سكتوا، فأمر به فدفن، وانتقل أبو عبدالله إلى دار أخيه أبي يوسف، فأخذ ما فيها، والجوهر في جملته، ولم يحصل من مال أخيه على طائل، فإن أكثره انكسر على الناس، وذهبت نفس أخيه.
ذكر وفاة أبي عبد الله البريديوفيها، في شوال، مات أبو عبدالله البريدي بعد أ، قتل أخاه بثمانية أشهر بحمى حادة، واستقر في الأمر بعده أخوه أبو الحسين، فأساء السيرة إلى الأجناد، فثاروا به ليقتلوه ويجعلوا أبا القاسم ابن أخيه أبي عبدالله مكانه، فهرب منهم إلى هجر، واستجار بالقرامطة فأعانوه، وسار معه إخوان لأبي طاهر القرمطي في جيش إلى البصرة فرأوا أبا القاسم قد حفظها، فردهم عنها، فحصروه مدة ثم ضجروا وأصلحوا بينه وبين عمه وعادوا، وخل أبو الحسين البصرة، فتجهز منها، وسار إلى بغداد فدخل علت توزون.
ثم طمع يأنس مولى أبي عبدالله البريدي في التقدم، فواطأ قائداً من قواد الديلم على أن تكون الرئاسة بينهما، ويزيلا أبا القاسم مولاه، فاجتمعت الديلم عند ذلك القائد، فأرسل أبو القاسم إليهم يأنس، وهو لا يشعر بالأمر، فلما أتاهم يأنس أشار عليهم بالتوقف، فطمع فيه ذلك القائد الديلمي، وأحب التفرد بالرئاسة، فأمر به فضرب بزوبين في ظهره فجرح، وهرب يأنس واختفى.
ثم إن الديلم اختلفت كلمتهم، فتفرقوا، واختفى ذلك القائد، فأخذ ونفي، وأمر أبو القاسم البريدي بمعالجة يأنس، وقد ظهر له حاله، فعولج حتى برأ، ثم قبض عليه أبو القاسم بعد نيف وأربعين يوماً، وصادره على مائة ألف دينار، وقتله، واستقام أمر أبي القاسم إلى أن أتاه أمر الله على ما نذكره.
ذكر مراسلة المتقي توزون في العودوفيها أرسل المتقي لله إلى توزون يطلب منه العود إلى بغداد.
وسبب ذلك أنه رأى من بني حمدان تضجراً به، وإيثار المفارقة، فاضطر إلى مراسلة توزون، فأرسل الحسن بن هارون وأبا عبدالله بن أبي موسى الهاشمي إليه في الصلح، فلقيهما توزون وابن شيرزاد بنهاية الرغبة فيه والحرص عليه، فاستوثقا من توزون وحلفاه للمتقي لله، وأحضر لليمين خلقاً كثيراً، من القضاة، والعدول، والعباسيين، والعلويين، وغيرهم من أصناف الناس، وحلف توزون للمتقي والوزير، وكتبوا خطوطهم بذلك، وكان من أمر المتقي لله ما نذكره سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
ذكر ملك الروس مدينة بردعة

في هذه السنة خرجت طائفة من الروسية في البحر إلى نواحي أذربيجان، وركبوا في البحر في نهر للكر، وهو نهر كبير، فانتهوا إلى بردعة، فخرج إليهم نائب المرزبان بردعة في جمع الديلم والمطوعة يزيدون على خمسة آلاف رجلن فلقوا الروس، فلم يكن إلا ساعة حتى انهزم المسلمون منهم، وقتل الديلم عن آخرهم، وتبعهم الروس إلى البلد، فهرب من كان له مركوب وترك البلد، فنزله الروس ونادوا فيه بالأمان فأحسنوا السيرة.
وأقبت العساكر الإسلامية من كل ناحية فكانت الروس تقاتلهم، فلا يثبت المسلمون لهم، وكان عامة البلد يخرجون ويرجمون الروس بالحجارة، ويصيحون بهم، فينهاهم الروس عن ذلك، فلم ينتهوا، سوى العقلاء فإنهم كفوا أنفسهم وسائر العامة والرعاع لا يضبطون أنفسهم، فلما طال ذلك عليهم نادى مناديهم بخروج أهل البلد منه، وأن لا يقيموا بعد ثلاثة أيام، فخرج من كان له ظهر يحمله، وبقي أكثرهم بعد الأجل، فوضع الروسية فيهم السلاح فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأسروا بعد القتل بضعة عشر ألف نفس، وجمعوا من بقي بالجامع، وقالوا: اشتروا أنفسكم وإلا قتلناكم؛ وسعى لهم إنسان نصراني، فقرر عن كل رجل عشرين درهماً، فلم يقبل منهم إلا عقلاؤهم، فلما رأى الروسية انه لا يحصل منهم شيء قتلوهم عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا الشريد، وغنموا أموال أهلها واستعبدوا السبي، واختاروا من النساء من استحسنوها.
ذكر مسير المرزبان إليهم والظفر بهملما فعل الروس بأهل بردعة ما ذكرناه استعظمه المسلمون، وتنادوا بالنفير، وجمع المرزبان بن محمد الناس واستنفرهم فبلغ عدة من معه ثلاثين ألفاً، وسار بهم، فلم يقاوم الروسية، وكان يغاديهم القتال ويراوحهم، فلا يعود إلا مفلولاً، فبقوا كذلك أياماً كثيرة، وكان الروسية قد توجهوا نحو مراغة، فأكثروا من أكل الفواكه، فأصابهم الوباء، وكثرت الأمراض والموت فيهم.
ولما طال الأمر على المرزبان أعمل الحيل، فرأى أن يكمن كميناً، ثم يلقاهم في عسكره، ويتطارد لهم، فإذا خرج الكمين عاد عليهم، فتقدم إلى أصحابه بذلك، ورتب الكمين ثم لقيهم، واقتتلوا، فتطارد لهم المرزبان وأصحابه، وتبعهم الروسية حتى جازوا موضع الكمين، فاستمر الناس على هزيمتهم لا يلوي أحد على أحد.
فحكى المرزبان قال: صحت بالناس ليرجعوا، فلم يفعلوا لما تقدم في قلوبهم من هيبة الروسية، فعلمت أنه استمر الناس على الهزيمة قتل الروس أكثرهم، ثم عادوا إلى الكمين ففطنوا بهم، فقتلوهم عن آخرهم.
قال: فرجعت وحدي وتبعني أخي وصاحبي، ووطنت نفسي على الشهادة، فحينئذ عاد أكثر الديلم استحياء فرجعوا وقاتلناهم، ونادينا بالكمين بالعلامة بيننا، فخرجوا من ورائهم، وصدقناهم القتال، فقتلنا منهم خلقاً كثيراً منهم أميرهم، والتجأ الباقون إلى حصن البلد، ويسمى شهرستان، وكانوا قد نقلوا إليه ميرة كثيرة، وجعلوا معهم السبي والأموال، فحاصرهم المرزبان وصابرهم، فأتاه الخبر بأن أبا عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان قد سار إلى أذربيجان، وأنه واصل إلى سلماس، وكان ابن عمه ناصر الدولة قد سيره ليستولي على أذربيجان، فلما بلغ الخبر إلى المرزبان ترك على الروسية من يحاصرهم وسار إلى ابن حمدان، فاقتتلوا، ثم نزل الثلج، فتفرق أصحاب ابن حمدان لأن أكثرهم أعراب، ثم أتاه كتاب ناصر الدولة يخبره بموت توزون، وأنه يريد الانحدار إلى بغداد، ويأمره بالعود إليه، فرجع.
وأما أصحاب المرزبان فأنهم أقاموا يقاتلون الروسية، وزاد الوباء على الروسية فكانوا إذا دفنوا الرجل دفنوا معه سلاحه، فاستخرج المسلمون من ذلك شيئاً كثيراً بعد انصراف الروس، ثم إنهم خرجوا من الحسن ليلا وقد حملوا على ظهورهم ما أرادوا من الأموال وغيرها، ومضوا إلى الكر، وركبوا في سفنهم ومضوا، وعجز أصحاب المرزبان عن أتباعهم وأخذ ما معهم، فتركوهم وطهر الله البلاد منهم.
ذكر خروج ابن أشكام على نوحوفي هذه السنة خالف عبدالله بن أشكام على الأمير نوح، وامتنع بخوارزم، فسار نوح من بخارى إلى مرو بسببه، وسير إليه جيشاً، وجعل عليهم إبراهيم ابن بارس، وساروا نحوه، فمات إبراهيم في الطريق، وكاتب ابن أشكام ملك الترك، وراسله، واحتمى به.

وكان لملك الترك ولد في يد نوح، وهو محبوس ببخارى، فراسل نوح أباه في إطلاقه ليقبض على ابن أشكام، فأجابه ملك الترك إلى ذلك، فلما علم ابن أشكام الحال عاد إلى طاعة نوح، وفارق خوارزم، فأحسن إليه نوح وأكرمه وعفا عنه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في رمضان، مات أبو طاهر الهجري رئيس القرامطة، أصابه جدري فمات، وكان له ثلاثة إخوة منهم: أبو القاسم سعيد بن الحسن، وهو الأكبر، وأبو العباس الفضل بن الحسن، وهذا كانا يتفقان مع أبي طاهر على الرأي والتدبير، وكان لهما أخ ثالث لا يجتمع بهما، وهو مشغول بالشرب واللهو.
وفيها، في جمادى الأولى، غلت الأسعار في بغداد حتى بيع القفيز الواحد من الدقيق الخشكار بنيف وستين درهماً، والخبز الخشكار ثلاثة أرطال بدرهم.
وكانت الأمطار كثيرة مسرفة جداً حتى خرجبت المنازل، ومات خلق كثير تحت الهدم، ونقصت قيمة العقار حتى صار ما كان يساوي ديناراً يباع بأقل من درهم حقيقة، وما يسقط من الأبنية لا يعاد، وتعطل كثير من الحمامات، والمساجد، والأسواق، لقلة الناس، وتعطل كثير من أتاتين الآجر لقلة البناء، ومن يضطر إليه اجتزأ بالأنقاض، وكثرت الكبسات من اللصوص بالليل والنهار من أصحاب ابن حمدي، وتحارس الناس بالبوقات، وعظم أمر ابن حمدي فأعجز الناس، وأمنه ابن شيرزاد وخلع عليه وشرط معه أن يوصله كل شهر خمسة عشر ألف دينار مما يسرقه هو وأصحابه، وكان يستوفيها من ابن حمدي بالروزات، فعظم شره حينئذ وهذا ما لم يسمع بمثله.
ثم إن أبا العباس الديلمي، صاحب الشرطة ببغداد، ظفر بابن حمدي فقتله في جمادى الآخرة، فخف عن الناس بعض ما هم فيه.
وفيها، في شعبان، هو الواقع في نيسان، ظهر في الجو شيء كثير ستر عين الشمس ببغداد، فتوهمه الناس جراداً لكثرته، ولم يشكوا في ذلك، إلى أن سقط منه شيء على الأرض، فإذا هو حيوان يطير في البساتين وله جناحان قائمان منقوشان، فإذا أخذ الإنسان جناحه بيده بقي أثر ألوان الجناح في يده ويعدم الجناح، ويسميه الصبيان طحان الذريرة.
وفيها استولى معز الدولة على واسط، وانحدر من كان من أصحاب البريدي فيها إلى البصرة.
وفيها قبض سيف الدولة بن حمدان على محمد بن ينال الترجمان بالرقة وقتله؛ وسبب ذلك أنه قد بلغه أنه قد واطأ المتقي على الإيقاع بسيف الدولة.
وفيها عرض لتوزون صرع وهو جالس للسلام، والناس بين يديه، فقام ابن شيرزاد ومد في وجهه ما ستره عن الناس، فصرفهم وقال أنه قد ثار به خمار لحقه.
وفيها ثار نافع غلام يوسف بن وجيه صاحب عمان على مولاه يوسف، وملك البلد بعده.
وفيها دخل الروم رأس عين في ربيع الأول، فأقاموا بها ثلاثة أيام، ونهبوها، وسبوا من أهلها، وقصدهم الأعراب، فقاتلوهم، ففارقها الروم، وكان الروم في ثمانين ألفاً مع الدمستق.
وفيها، في ربيع الأول، استعمل ناصر الدولة بن حمدان أبا بكر محمد بن علي ابن مقاتل على طريق الفرات، وديار مضر، وجند قنسرين، والعواصم، وحمص، وأنفذه إليها من الموصل ومعه جماعة من الوقاد، ثم استعمل بعده، في رجب من السنة، ابن عمه أبا عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان على ذلك، فلما وصل إلى الرقة منعه أهلها، فقاتلهم، فظفر بهم، وأحرق من البلد قطعة، وأخذ رؤساء أهلها إلى حلب.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة

ذكر مسير المتقي إلى بغداد وخلعه
كان المتقي لله قد كتب إلى الإخشيد محمد بن طغج متولي مصر يشكو حاله ويستقدمه إليه، فأتاه من مصر، فلما وصل إلى حلب سار عنها أبو عبدالله بن سعيد بن حمدان، وكان ابن مقاتل بها معه، فلما علم برحيله عنها اختفى، فلما قدم الإخشيد إليها ظهر إليه ابن مقاتل، فأكرمه الإخشيد، واستعمله على خراج مصر، وانكسر عليه ما بقي من المصادرة التي صادره بها ناصر الدولة بن حمدان، ومبلغه خمسون ألف دينار.

وسار الإخشيد من حلب، فوصل إلى المتقي منتصف محرم، وهو بالرقة، فأكرمه المتقي واحترمه، ووقف الإخشيد وقوف الغلمان، ومشى بين يديه، فأمره المتقي بالركوب فلم يفعل إلى أن نزل المتقي، وحمل إلى المتقي هدايا عظيمة، وإلى الوزير أبي الحسين بن مقلة وسائر الأصحاب، واجتهد بالمتقي ليسير معه إلى مصر والشام، ويكون بين يديه، فلم يفعل، وأشار عليه بالمقام مكانه، ولا يرجع إلى بغداد، وخوفه من توزون، فلم يفعل، وأشار على ابن مقلة أن يسير معه إلى مصر ليحكمه في جميع بلاده، فلم يجبه إلى ذلك، فخوفه أيضاً من توزون، فكان ابن مقلة يقول بعد ذلك: نصحني الإخشيد فلم أقبل نصيحته.
وكان قد أنفذ رسلاً إلى توزون في الصلح، على ما ذكرناه، فحلفوا توزون للخليفة والوزير، فلما حلف كتب الرسل إلى المتقي بذلك، فكتب إليه الناس أيضاً بما شاهدوا من تأكيد اليمين، فانحدر المتقي من الرقة في الفرات إلى بغداد لأربع بقين من المحرم، وعاد الإخشيد إلى مصر، فلما وصل المتقي إلى هيت أقام بها، وأنفذ من يجدد من اليمين على توزون، فعاد وحلف، وسار عن بغداد لعشر بقين من صفر ليلتقي المتقي، فالتقاه بالسندية، فنزل توزون وقبل الأرض وقال: ها أنا قد وفيت بيميني والطاعة لك؛ ثم وكل به وبالوزير وبالجماعة، وأنزلهم في مضرب نفسه مع حرم المتقي، ثم كحله فأذهب عينيه، فلما سلمه صاح، وصاح من عنده من الحرم والخدم، وارتجت الدنيا، فأمر توزون بضرب الدبادب لئلا تظهر أصواتهم، فخفيت أصواتهم، وعمي المتقي لله، وانحدر توزون من الغد إلى بغداد والجماعة في قبضته.
وكانت خلافة المتقي لله ثلاث سنين وخمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، وكان أبيض أشهل العينين، وأمه أم ولد اسمها خلوب، وكانت وزارة ابن مقلة سنة واحدة وخمسة أشهر واثني عشر يوماً.
ذكر خلافة المستكفي باللههو المستكفي بالله أبو القاسم عبدالله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق بن الموكل على الله، يجتمع هو المتقي لله في المعتضد، لما قبض توزون على المتقي لله أحضر المستقي إليه إلى السندية، وبايعه هو وعامة الناس.
وكان سبب البيعة له ما حكاه أبو العباس التميمي الرازي، وكان من خواص توزون، قال: كنت أنا السبب في البيعة للمستكفي، وذلك أنني دعاني إبراهيم بن الزوبيندار الديلمي، فمضيت إليه، فذكر لي أنه تزوج إلى قوم وأن امرأة منهم قالت له: إن المتقي هذا قد عاداكم وعاديتموه، وكاشفكم، ولا يصفو قلبه لكم، وها هنا رجل من أولاد الخلفاء من ولد المكتفي - وذكرت عقله، وأدبه، ودينه - تنصبونه للخلافة فيكون صنيعتكم وغرسكم، ويدلكم على أموال جليلة لا يعرفها غيره، وتستريحون من الخوف والحراسة.
قال: فعلمت أن هذا أمر لا يتم إلا بك، فدعوتك له؛ فقلت: أريد أن أسمع كلام المرأة؛ فجاءني بها، فرأيت امرأة عاقلة، جزلة، فذكرت لي نحواً من ذلك، فقلت: لا بد أن ألقي الرجل؛ فقالت: تعود غداً إلى ها هنا حتى أجمع بينكما؛ فعدت إليها من الغد، فوجدته قد أخرج من دار ابن طاهر في زي امرأة، فعرفني نفسه، وضمن إظهار ثمانمائة ألف دينار منها مائة ألف لتوزون، وذكر وجوهها وخاطبني خطاب رجل فهم عاقل، ورأيته يتشيع، قال: فأتيت توزون فأخبرته، فوقع كلامي بقلبه وقال: أريد أن أبصر الرجل؛ فقلت: لك ذلك، ولكن اكتم أمرنا من ابن شيرزاد؛ فقال: أفعل؛ وعدت إليهم وأخبرتهم الذي ذكر، ووعدتهم حضور توزون من الغد.
فلما كان ليلة الأحد لأربع عشرة خلت من صفر مشيت مع توزون مستخفيين، فاجتمعنا به، وخاطبه توزون وبايعه تلك الليلة، وكتم الأمر، فلما وصل المتقي قلت لتوزون لما لقيه: أنت على ذلك العزم ؟ قال: نعم؛ قلت: فافعله الساعة، فإنه إن دخل الدار بعد عليك مرامه؛ فوكل به وسلمه، وجرى ما جرى.
وبويع المستكفي بالخلافة يوم خلع المتقي. وأحضر المتقي، فبايعه وأخذ منه البردة والقضيب، وصارت تلك المرأة قهرمانة المستكفي، وسمت نفسها علماً، وغلبت على أمره كله.

واستوزر المستكفي بالله أبا الفرج محمد بن علي الساري يوم الأربعاء لست بقين من صفر، ولم يكن له إلا اسم الوزارة، والذي يتولى الأمور ابن شيرزاد، وحبس المتقي، وخلع المستكفي بالله على توزون خلعة وتاجاً، وطلب المستكفي بالله أبا القاسم الفضل بن المقتدر بالله، وهو الذي ولي الخلافة، ولقب المطيع لله، لأنه كان يعرفه يطلب الخلافة، فاستتر مدة خلافة المستكفي، فهدمت داره التي على دجلة عند دار ابن طاهر، حتى لم يبق منها شيء.
ذكر خروج أبي يزيد الخارجي بإفريقيةفي هذه السنة اشتدت شوكة أبي يزيد بإفريقية وكثر أتباعه وهزم الجيوش.
وكان ابتداء أمره أنه من زناته، واسم والده كنداد من مدينة توزر من قسطيلية، وكان يختلف إلى بلاد السودان لتجارة، فولد له بها أبو يزيد من جارية هوارية، فأتى بها إلى توزر، فنشأ بها، وتعلم القرآن، وخالط جماعة من النكارية، فمالت نفسه إلى مذهبهم، ثم سافر إلى تاهرت فأقام بها يعلم الصبيان إلى أن خرج أبو عبدالله الشيعي إلى سجلماسة في طلب المهدي، فانتقل إلى تقيوس، واشترى ضيعة وأقام يعلم فيها.
وكان مذهبه تكفير أهل الملة، واستباحة الأموال والدماء والخروج على السلطان، فابتدأ يحتسب على الناس في أفعالهم ومذاهبهم، فصار له جماعة يعظمونه، وذلك أيام المهدي سنة ست عشرة وثلاثمائة، ولم يزل على ذلك إلى أن اشتدت شوكته، وكثر أتباعه في أيام القائم ولد المهدي، فصار يغير، ويحرق، ويفسد، وزحف إلى بلاد القائم وحاصر باغاية، وهزم الجيوش الكثيرة عليها، ثم حاصر قسطيلية سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وفتح تبسة ومجانة وهدم سورها، وأمن أهلها، ودخل مرمجنة، فلقيه رجل من أهلها، وأهدى له حماراً أشهب مليح الصورة، فركبه أبو يزيد من ذلك اليوم.
وكان قصيراً أعرج يلس جبة صوف قصيرة، قبيح الصورة، ثم إنه هزم كتامة، وأنفذ طائفة من عسكره إلى سبيبة، ففتحها وصلب عاملها، وسار إلى الأربس، ففتحها وأحرقها ونهبها، وجاء الناس إلى الجامع، فقتلهم فيه، فلما اتصل ذلك بأهل المهدية استعظموه، وقالوا للقائم: الأربس باب إفريقية، ولما أخذت زالت دولة بني الأغلب؛ فقال: لا بد أن يبلغ أبو يزيد المصلى، وهو أقصى غايته.
ثم إن القائم أخرج الجيوش لضبط البلاد، فأخرج جيشاً إلى رقادة، وجيشاً إلى القيروان، وجمع العساكر، فخاف أبو يزيد، وعول على أخذ بلاد إفريقية وإخراجها وقتل أهلها، وسير القائم الجيش الذي اجتمع له مع فتاة ميسور، وسير بعضه مع فتاة بشرى إلى باجة، فلما بلغ أبا يزيد خبر بشرى ترك أثقاله وسار جريدة إليه، فالتقوا باجة، فانهزم عسكر أبي يزيد وبقي في نحو أربعمائة مقاتل، فقال لهم: ميلوا بنا نخالفهم إلى خيامهم؛ ففعلوا ذلك، فانهزم بشرى إلى تونس، وقتل من عسكره كثير من وجوه كتامة وغيرهم، ودخل أبو يزيد باجة فأحرقها ونهبها، وقتلوا الأطفال، وأخذوا النساء، وكتب إلى القبائل يدعوهم إلى نفسه فأتوه، وعمل الأخبية والبنود وآلات الحرب.
ولما وصل بشرى إلى تونس جمع الناس وأعطاهم الأموال، فاجتمع إليه خلق كثير، فجهزهم وسيرهم إلى أبي يزيد، وسير إليهم أبو يزيد جيشاً، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم أصحاب أبي يزيد، ورجع أصحاب بشرى إلى تونس غانمين، ووقعت فتنة في تونس، ونهب أهلها دار عاملها، فهرب، وكاتبوا أبا يزيد، فأعطاهم الأمان، وولى عليهم رجلاً منهم يقال له رحمون، وانتقل إلى فحص أبي صالح، وخافه الناس، فانتقلوا إلى القيروان، وأتاه كثير منهم خوفاً ورعباً.
وأمر القائم بشرى أن يتجسس أخبار أبي يزيد، فمضى نحوه، وبلغ الخبر إلى أبي يزيد، فسير إليهم طائفة من عسكره، وأمر مقدمهم أن يقتل، ويمثل، وينهب، ليرعب قلوب الناس، ففعل ذلك، والتقى هو وبشرى، فاقتتلوا وانهزم عسكر أبي يزيد، وقتل منهم أربعة آلاف، وأسر خمسمائة، فسيرهم بشرى إلى المهدية في السلاسل فقتلهم العامة.
ذكر استيلاء أبي يزيد على القيروان

لما انهزم أصحاب أبي يزيد غاظه ذلك، وجمع الجموع، ورحل وسار إلى قتال الكتاميين، فوصل إلى الجزيرة، وتلاقت الطلائع، وجرى بينهم قتال، فانهزمت طلائع الكتاميين، وتبعهم البربر إلى رقادة، ونزل أبو يزيد بالغرب من القيروان في مائة ألف مقاتل، ونزل من الغد شرقي رقادة، وعاملها خليل لا يلتفت إلى أبي يزيد، ولا يبالي به، والناس يأتونه ويخبرونه بقربهم، فأمر أن لا يخرج أحد لقتال، وكان ينتظر وصول ميسور في الجيش الذي معه.
فلما علم أبو يزيد ذلك زحف إلى بعض عسكره، فأنشبوا القتال، فجرى بينهم قتال عظيم قتل فيه من أهل القيروان خلق كثير، فانهزموا وخليل لم يخرج معهم، فصاح به الناس، فخرج متكارهاً من باب تونس، وأقبل أبو يزيد، فانهزم خليل بغير قتال، ودخل القيروان ونزل بداره وأغلق بابها ينتظر وصول ميسور، وفعل كذلك أصحابه، ودخل البربر المدينة فقتلوا وأفسدوا، وقاتل بعض الناس في أطراف البلد.
وبعث أبو يزيد رجلاً من أصحابه اسمه أيوب الزويلي إلى القيروان بعسكر، فدخلها أواخر صفر، فنهب البلد وقتل، وعمل أعمالاً عظيمة، وحصر خليلاً في داره، فنزل هو ومن معه بالأمان، فحمل خليل إلى أب يزيد فقتله، وخرج شيوخ أهل القيروان إلى أبي يزيد، وهو برقادة، فسلموا عليه وطلبوا الأمان، فماطلهم، وأصحابه يقتلون وينهبون، فعاودوا الشكوى، وقالوا: خربت المدينة؛ فقال: وما يكون ؟ خربت مكة، والبيت المقدس ! ثم أمر بالأمان، وبقي طائفة من البربر ينهبون، فأتاهم الخبر بوصول ميسور في عساكر عظيمة، فخرج عند ذلك البربر من المدينة خوفاً منه.
وقارب ميسور مدينة القيروان، واتصل الخبر بالقائم أن بني كملان قد كاتب بعضهم أبا يزيد على أن يمكنوه من ميسور، فكتب إلى ميسور يعرفه ويحذره، ويأمره بطردهم، فرجعوا إلى أبي يزيد وقالوا له: إن عجلت ظفرت به؛ فسار من يومه، فالتقوا، واشتد القتال بينهم، وانهزمت ميسرة أبي يزيد، فلما رأى أبو يزيد ذلك حمل على ميسور، فانهزم أصحاب ميسور، فعطف ميسور فرسه، فكبا به، فسقط عنه، وقاتل أصحابه عليه ليمنعوه، فقصده بنو كملان الذين طردهم، فاشتد القتال حينئذ، فقتل ميسور، وحمل رأسه إلى أبي يزيد، وانهزم عامة عسكره، وسير الكتب إلى عامة البلاد يخبر بهذا الظفر، وطيف برأس ميسور بالقيروان.
واتصل خبر الهزيمة بالقائم، فخاف هو ومن معه بالمهدية، وانتقل أهلها من أرباضها إلى البلد، فاجتمعوا واحتموا بسوره، فمنعهم القائم، ووعدهم الظفر، فعادوا إلى زويلة، واستعدوا للحصار، وأقام أبو يزيد شهرين وثمانية أيام في خيم ميسور، وهو يبعث السرايا إلى كل ناحية، فيغنمون ويعودون.
وأرسل سرية إلى سوسة ففتحوها بالسيف، وقتلوا الرجال، وسبوا النساء، وأحرقوها، وشقوا فروج النساء، وبقروا البطون، حتى لم يبق في أفريقية موضع معمور ولا سقف مرفوع، ومضى جميع من بقي إلى القيروان حفاة عراة، ومن تخلص من السبي مات جوعاً وعطشاً.
وفي آخر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة أمر القائم بحفر الخنادق حول أرباض المهدية، وكتب إلى زيزي بن مناد، سيد صنهاجة، وإلى سادات كتامة والقبائل يحثهم على الاجتماع بالمهدية وقتال النكار، فتأهبوا للمسير إلى القائم.
ذكر حصار أبي يزيد المهديةلما سمع أبو يزيد بتأهب صنهاجة وكتامة وغيرهم لنصرة القائم، خاف ورحل من ساعته نحو المهدية، فنزل على خمسة عشر ميلاً منها، وبث سراياه إلى ناحية المهدية، فانتهبت ما وجدت، وقتلت من أصابت، فاجتمع الناس إلى المهدية، واتفقت كتامة وأصحاب القائم على أن يخرجوا إلى أبي يزيد ليضربوا عليه في معسكره لما سمعوا أن عسكره قد تفرق في الغارة، فخرجوا يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الأولى من السنة.

وبلغ ذلك أبا يزيد، وقد أتاه ولده فضل بعسكر من القيروان، فوجههم إلى قتال كتامة، وقد عليهم ابنه، فالتقوا على ستة أميال من المهدية واقتتلوا، وبلغ الخبر أبا يزيد، فركب بجميع من بقي معه، فلقي أصحابه منهزمين، وقد قتل كثير منهم، فلما رآه الكتاميون انهزموا من غير قتال وأبو يزيد في أثرهم إلى باب الفتح، واقتحم قوم من البربر فدخلوا باب الفتح، فأشرف أبو يزيد على المهدية ثم رجع إلى منزله، ثم تقدم إلى المهدية في جمادى الآخرة، فأتى باب الفتح، ووجه زويلة إلى باب بكر، ثم وقف هو على الخندق المحدث، وبه جماعة من العبيد، فناشبهم أبو يزيد القتال على الخندق، ثم اقتحم أبو يزيد ومن معه البحر، فبلغ الماء صدور الدواب، حتى جاوزوا السور المحدث، فانهزم العبيد، وأبو يزيد في طلبهم.
ووصل أبو يزيد إلى باب المهدية، عند المصلى الذي للعيد، وبينه وبين المهدية رمية سهم، وتفرق أصحابه في زويلة ينهبون ويقتلون، وأهلها يطلبون الأمان، والقتال عند باب الفتح بين كتامة والبربر وهم لا يعلمون ما صنع أبو يزيد في ذلك الجانب، فحمل الكتاميون على البربر، فهزموهم، وقتلوا فيهم، وسمع أبو يزيد بذلك، ووصل زيري بن مناد في صنهاجة، فخاف المقام، فقصد باب الفتح ليأتي زيري وكتامة من ورائهم بطبوله وبنوده، فلما رأى أهل الأرباض ذلك ظنوا أن القائم قد خرج بنفسه من المهدية، فكبروا وقويت نفوسهم، واشتد قتالهم، فتحير أبو يزيد، وعرفه أهل تلك الناحية، فمالوا عليه ليقتلوه، فاشتد القتال عنده، فهدم بعض أصحابه حائطاً وخرج منه فتخلص، ووصل إلى منزله بعد المغرب، وهم يقاتلون العبيد، فلما رأوه قويت قلوبهم، وانهزم العبيد وافترقوا.
ثم رحل أبو يزيد إلى ثرنوطة، وحفر على عسكره خندقاً، واجتمع إليه خلق عظيم من إفريقية، والبربر، ونفوسة، والزاب، وأقاصي المغرب، فحصر المهدية حصاراً شديداً، ومنع الناس من الدخول إليها والخروج منها، ثم زحف إليها لسبع بقين من جمادى الآخرة من السنة، فجرى قتال عظيم قتل فيه جماعة من وجوه عسكر القائم، واقتحم أبو يزيد بنفسه، حتى وصل إلى قرب الباب، فعرفه بعض العبيد، فقبض على لجامه وصاح: هذا أبو يزيد فاقتلوه ! فأتاه رجل من أصحاب أبي يزيد فقطع يده وخلص أبو يزيد.
فلما رأى شدة قتال أصحاب القائم كتب إلى عامل القيروان يأمره بإرسال مقاتلة أهلها إليه، ففعل ذلك، فوصلوا إليه، فزحف بهم آخر رجب، فجرى قتال شديد انهزم فيه أبو يزيد هزيمة منكرة، وقتل فيه جماعة من أصحابه وأكثر أهل القيروان، ثم زحف الزحفة الرابعة في العشر الآخر من شوال، فجرى قتال عظيم، وانصرف إلى منزله، وكثر خروج الناس من الجوع والغلاء، ففتح عند ذلك القائم الأهراء التي عملها المهدي وملأها طعاماً، وفرق ما فيها على رجاله، وعظم البلاء على الرعية حتى أكلوا الدواب والميتة، وخرج من المهدية أكثر السوقة والتجار، ولم يبق بها سوى الجند، فكان البربر يأخذون من خرج ويقتلونهم ويشقون بطونهم طلباً للذهب.
ثم وصلت كتامة فنزلت بقسطنطينة، فخاف أبو يزيد، فسار رجل من عسكره في جمع عظيم من ورفجومة وغيرهم إلى كتامة، فقاتلهم فهزمهم، فتفرقوا، وكان البربر يأتون إلى أبي يزيد من كل ناحية، وينهبون، ويقتلون، ويرجعون إلى منازلهم، حتى أفنوا ما كان في إفريقية فلما لم يبق ما ينهب توقفوا عن المجيء إليه فلم يبق معه سوى أهل أوراس وبني كملان.
فلما علم القائم تفرق عساكره أخرج عسكره إليه، وكان بينهم قتال شديد لست خلون من ذي القعدة من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، ثم صبحوهم من الغد، فلم يخرج إليهم أحد، وكان أبو يزيد قد بعث في طلب الرجال من أوراس، ثم زحفت عساكر القائم إليه، فخرج من خندقه، واقتتلوا، واشتد بينهم القتال، فقتل من أصحاب أبي يزيد جماعة منهم رجل من وجوه أصحابه، فعظم قتله عليه، ودخل خندقه ثم عاود القتال، فهبت ريح شديدة مظلمة، فكان الرجل لا يبصر صاحبه، فانهزم عسكر القائم وقتل منهم جماعة وعاد الحصار على ما كان عليه، وهرب كثير من أهل المهدية إلى جزيرة صقلية، وطرابلس، ومصر، وبلد الروم.

وفي آخر ذي القعدة اجتمع عند أي يزيد جموع عظيمة، وتقدم إلى المهدية فقاتل عليها، فتخير الكتاميون منهم مائتي فارس، فحملوا حملة رجل واحد، فقتلوا في أصحابه كثيراً، وأسروا مثلهم، وكادوا يصلون إليه، فقاتل أصحابه دونه وخلصوه، وفرح أهل المهدية، وأخذوا الأسرى في الحبال إلى المهدية، ودخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وهو مقيم على المهدية.
وفي المحرم منها ظهر بإفريقية لأجل يدعو الناس إلى نفسه، فأجابه خلق كثير وأطاعوه، وادعى أنه عباسي ورد من بغداد ومعه أعلام سود فظفر به بعض أصحاب أبي يزيد وقبض عليه، وسيره إلى أبي يزيد فقتله، ثم إن بعض أصحاب أبي يزيد هرب إلى المهدية بسبب عداوة كانت بينهم وبين أقوام سعوا بهم إليه، فخرجوا من المهدية مع أصحاب القائم فقاتلوا أصحاب أبي يزيد، فظفروا، فتفرق عند ذلك أصحاب أبي يزيد ولم يبق معه غير هوارة وأوراس وبني كملان، وكان اعتماده عليهم.
ذكر رحيل أبي يزيد عن المهديةلما تفرق أصحابه عنه، كما ذكرنا، اجتمع رؤساء من بقي معه وتشاوروا وقالوا: نمضي إلى القيروان، ونجمع البربر من كل ناحية، ونرجع إلى أبي يزيد، فإننا لا نأمن أن يعرف القائم خبرنا فيقصدنا؛ فركبوا ومضوا، ولم يشاوروا أبا يزيد، ومعهم أكثر العسكر، فبعث إليهم أبو يزيد ليردهم، فلم يقبلوا منه، فرحل مسرعاً في ثلاثين رجلاً، وترك جميع أثقاله، فوصل إلى القيروان سادس صفر، فنزل المصلى، ولم يخرج إليه أحد من أهل القيروان سوى عامله، وخرج الصبيان يلعبون حوله ويضحكون منه.
وبلغ القائم رجوعه، فخرج الناس إلى أثقاله، فوجدوا الطعام والخيام وغير ذلك على حاله، فأخذوه وحسنت أحوالهم، واستراحوا من شدة الحصار، ورخصت الأسعار، وأنفذ القائم إلى البلاد عمالاً يطردون عمال أبي يزيد عنها، فلما رأى أهل القيروان قلة عسكر أبي يزيد خافوا القائم، فأرادوا أن يقبضوا أب يزيد، ثم هابوه، فكاتبوا القائم يسألونه الأمان، فلم يجبهم.
وبلغ أبا يزيد الخبر، فأنكر على عامله بالقيروان اشتغاله بالأكل والشرب وغير ذلك، وأمره أن يخرج العساكر من القيروان للجهاد، ففعل ذلك، وألان لهم القول، وخوفهم القائم، فخرجوا إليه.
وتسامع الناس في البلاد بذلك، فأتاه العساكر من كل ناحية، وكان أهل المدائن والقرى لما سمعوا تفرق عساكره عنه أخذوا عماله فمنهم من قتل، ومنهم من أرسل إلى المهدية.
وثار أهل سوسة، فقبضوا على جماعة من أصحابه فأرسلوهم إلى القائم، فشكر لهم ذلك، وأرسل إليهم سبعة مراكب من الطعام، فلما اجتمعت عساكر أبي يزيد أرسل الجيوش إلى البلاد وأمرهم بالقتل والسبي والنهب والخراب وإحراق المنازل، فوصل عسكره إلى تونس، فدخلوها بالسيف في العشرين من صفر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، فنهبوا جميع ما فيها، وسبوا النساء والأطفاء، وقتلوا الرجال، وهدموا المساجد، ونجا كثير من الناس إلى البحر فغرق.
فسير إليهم القائم عسكراً إلى تونس، فخرج إليهم أصحاب أبي يزيد، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر القائم هزيمة قبيحة، وحال بينهم الليل، والتجأوا إلى جبل الرصاص، ثم إلى اصطفورة، فتبعهم عسكر أبي يزيد، فلحقوهم واقتتلوا، وصبر عسكر القائم، فانهزم عسكر أبي يزيد وقتل منهم خلق كثير، وقتلوا، حتى دخلوا تونس خامس ربيع الأول وأخرجوا من فيها من أصحاب أبي يزيد بعد أن قتلوا أكثرهم، وأخذ لهم من الطعام شيء كثير.
وكان لأبي يزيد ولد اسمه أيوب، فلما بلغه الخبر أخرج معه عسكراً كثيراً، فاجتمع مع من سلم من ذلك الجيش، ورجعوا إلى تونس فقتلوا من عاد إليها وأحرقوا ما بقي فيها، وتوجه إلى باجة فقتل من بها من أصحاب القائم، ودخلها بالسيف وأحرقها، وكان في هذه المدة من القتل والسبي والتخريب ما لا يوصف.
واتفق جماعة على قتل أبي يزيد، وأرسلوا إلى القائم فرغبهم ووعدهم، فاتصل الخبر بأبي يزيد فقتلهم، وهجم رجال من البربر في الليل على رجل من أهل القيروان وأخذوا ماله وثلاث بنات أبكار، فلما اصبح واجتمع الناس لصلاة الصبح قام الرجل في الجامع وصاح وذكر ما حل به، فقام الناس معه وصاحوا، فاجتمع الخلق العظيم، ووصلوا إلى أبي يزيد فأسمعوه كلاماً غليظاً، فاعتذر إليهم ولطف بهم وأمر برد البنات.

فلما انصرفوا وجدوا في طريقهم رجلاً مقتولاً، فسألوا عنه، فقيل إن فضل بن أبي يزيد قتله وأخذ امرأته، وكانت جميلة، فحمل الناس المقتول إلى الجامع وقالوا: لا طاعة إلا للقائم ! وأرداوا الوثوب بأبي يزيد، فاجتمع أصحاب أبي يزيد عنده ولاموه وقالوا: فتحت على نفسك ما لا طاقة لك به لا سيما والقائم قريب منا؛ فجمع أهل القيروان، واعتذر إليهم، وأعطاهم العهود أنه لا يقتل، ولا ينهب، ولا يأخذ الحريم، فأتاه سبي أهل تونس، وهم عنده، فوثبوا إليهم وخلصوهم.
وكان القائم قد أرسل إلى مقدم من أصحابه يسمى علي بن حمدون يأمره بجمع العساكر ومن قدر عليه من المسيلة، فجمع منها ومن سطيف وغيرها، فاجتمع له خلق كثير، وتبعه بعض بني هراس، فقصد المهدية، فسمع به أيوب بن أبي يزيد، وهو بمدينة باجة، ولم يعلم به علي ن حمدون، فسار إليه أيوب وكبسه واستباح عسكره، وقتل فيهم وغنم أثقالهم، وهرب عليٌ المذكور، ثم سير أيوب جريدة خيل إلى طائفة من عسكر المهدي خرجوا إلى تونس، فساروا واجتمعوا، ووقع بعضهم على بعض فكان بين الفريين قتال عظيم قتل فيه جمع كثير وانهزم عسكر القائم، ثم عادوا ثانية وثالثة، وعزموا على الموت، وحملوا حملة رجل واحد، فانهزم أصحاب أبي زيد وقتلوا قتلاً ذريعاً، وأخذت أثقالهم وعددهم، وانهزم أيوب وأصحابه إلى القيروان في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
فعظم ذلك على أبي يزيد، وأراد أن يهرب عن القيروان، فأشار عليه أصحابه بالتوقف وترك العجلة، ثم جمع عسكراً عظيماً، وأخرج ابنه أيوب ثانية لقتال علي بن حمدون بمكان يقال له بلطة، وكانوا يقتتلون، فمرة يظفر أيوب، ومرة يظفر عليٌ، وكان عليٌ قد وكل بحراسة المدينة من يثق به، وكان يحرس باباً منها رجل اسمه أحمد، فراسل أيوب في التسليم إليه على مال يأخذه، فأجابه أيوب إلى ما طلب، وقاتل على ذلك الباب، ففتحه أحمد ودخله أصحاب أبي يزيد، فقتلوا من كان بها، وهرب عليٌ إلى بلاد كتامة في ثلاثمائة فارس وأربعمائة راجل، وكتب إلى قبائل كتامة ونقرة ومزاتة وغيرهم، فاجتمعوا وعسكروا على مدينة القسطنطينة.
ووجه عسكراً إلى هوارة، فقتلوا هوارة، وغنموا أموالهم، وكان اعتماد أبي يزيد عليهم، فاتصل الخبر بأبي يزيد، فسير إليهم عساكر عظيمة يتبع بعضها بعضاً، وكان بينهم حروب كثيرة والفتح والظفر في كلها لعلي وعسكر القائم، وملك مدينة تيجس ومدينة باغاية وأخذهما من أبي يزيد.
ذكر محاصرة أبي يزيد سوسة

وانهزامه منها
لما رأى أبو يزيد ما جرى على عسكره من الهزيمة جد في أمره، فجمع العساكر وسار إلى سوسة سادس جمادى الآخرة من السنة، وبها جيش كثير للقائم، فحصرها حصراً شديداً، فكان يقاتلها كل يوم، فمرة له، ومرة عليه، وعمل الدبابات والمنجنيقات، فقتل من أقل سوسة خلق كثير وحاصرها إلى أن فوض القائم العهد إلى ولده إسماعيل المنصور في شهر رمضان، وتوفي القائم وملك الملك ابنه المنصور، على ما نذكره، وكتم موت أبيه خوفاً من أبي يزيد لقربه، وهو على مدينة سوسة.
فلما ولي عمل المراكب، وشحنها بالرجال، وسيرها إلى سوسة، واستعمل عليها رشيقاً الكاتب، ويعقوب بن إسحاق، ووصاهما أن لا يقاتلا حتى يأمرهما، ثم سار من الغد يريد سوسة، ولم يعلم أصحابه ذلك، فلما انتصف الطريق علموا فتضرعوا إليه، وسألوه أن يعود ولا يخاطر بنفسه، فعاد وأرسل إلى رشيق ويعقوب بالجد في القتال، فوصلوا إلى سوسة وقد أعد أبو يزيد الحطب لإحراق السور، وعمل دبابة عظيمة، فوصل أسطول المنصور إلى سوسة، واجتمعوا بمن فيها، وخرجوا إلى قتال أبي يزيد، فركب بنفسه، واقتتلوا، واشتدت الحرب، وانهزم بعض أصحاب المنصور حتى دخلوا المدينة، فألقى رشيق النار في الحطب الذي جمعه أبو يزيد، وفي الدبابة، فأظلم الجو بالدخان، واشتعلت النار.
فلما رأى ذلك أبو يزيد وأصحابه خافوا، وظنوا أن أصحابه في تلك الناحية قد هلكوا فلهذا تمكن أصحاب المنصور من إحراق الحطب إذ لم ير بعضهم بعضاً، فانهزم أبو يزيد وأصحابه، وخرجت عساكر المنصور، فوضعوا السيف فيمن تخلف من البربر، وأحرقوا خيامه.
وجد أبو يزيد هارباً حتى دخل القيروان من يومه، وهرب البربر على وجوههم فمن سلم من السيف مات جوعاً وعطشاً.

ولما وصل أبو يزيد إلى القيروان أراد الدخول إليها، فمنعه أهلها، ورجعوا إلى دار عامله، فحصروه، وأرادوا كسر الباب، فنثر الدنانير على رؤوس الناس فاشتغلوا عنه، فخرج إلى أبي يزيد، وأخذ أبو يزيد امرأته أم أيوب، وتبعه أصحابه بعيالاتهم، ورحلوا إلى ناحية سبيبة، وهي على مسافة يومين من القيروان، فنزلوها.
ذكر ملك المنصور مدينة القيروان وانهزام أبي يزيدلما بلغ المنصور الخبر سار إلى مدينة سوسة لسبع بقين من شوال من السنة، فنزل خارجاً منها، وسر بما فعله أهل القيروان، فكتب إليهم كتاباً يؤمنهم فيه، لأنه كان واجداً عليهم لطاعتهم أبا يزيد، وأرسل من ينادي في الناس بالأمان، وطابت نفوسهم، ورحل إليهم، فوصلها يوم الخميس لست بقين من شوال، وخرج إليه أهلها، فأمنهم ووعدهم خيراً.
ووجد في القيروان من حرم أبي يزيد وأولاده جماعة، فحملهم إلى المهدية وأجرى عليهم الأرزاق.
ثم إن أبا يزيد جمع عساكره، وأرسل سرية إلى القيروان يتخبرون له، فاتصل خبرهم بالمنصور، فسير إليهم سرية، فالتقوا واقتتلوا، وكان أصحاب أبي يزيد قد جعلوا كميناً، فانهزموا، وتبعهم أصحاب المنصور، فخرج الكمين عليهم، فأكثر فيهم القتل والجراح.
فلما سمع الناس ذلك سارعوا إلى أبي يزيد، فكثر جمعه، فعاد ونازل القيروان، وكان المنصور قد جعل خندقاً على عسكره، ففرق أبو يزيد عسكره ثلاث فرق، وقصد هو بشجعان أصحابه إلى خندق المنصور، فاقتتلوا، وعظم الأمر، وكان الظفر للمنصور، ثم عاودوا القتال، فباشر المنصور القتال بنفسه، وجعل يحمل يميناً وشمالاً، والمظلة على رأسه كالعلم، ومعه خمسمائة فارس، وأبو يزيد في مقدار ثلاثين ألفاً، فانهزم أصحاب المنصور هزيمة عظيمة حتى دخلوا الخندق ونهبوا، وبقي المنصور في نحو عشرين فارساً.
وأقبل أبو يزيد قاصداً إلى المنصور، فلما رآهم شهر سيفه وثبت مكانه وجمل بنفسه على أبي يزيد حتى كاد يقتله، فولى أبو يزيد هارباً، وقتل المنصور من أدرك منهم، وأرسل من يرد عسكره فعادوا، وكانوا قد سلكوا طريق المهدية وسوسة، وتمادى القتال إلى الظهر فقتل منهم خلق كثير وكان يوماً من الأيام المشهودة لم يكن في ماضي الأيام مثله.
ورأى الناس من شجاعة المنصور ما لم يظنوه، فزادت هيبته في قلوبهم، ورحل أبو يزيد عن القيروان أواخر ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ثم عاد إليها فلم يخرج إليه أحد، ففعل ذلك غير مرة، ونادى المنصور: من أتى برأس أبي يزيد فله عشرة آلاف دينار؛ وأذن الناس في القتال، فجرى قتال شديد، فانهزم أصحاب المنصور حتى دخلوا الخندق، ثم رجعت الهزيمة على أبي يزيد، فافترقوا وقد انتصف بعضهم من بعض، وقتل بينهم جمع عظيم، وعادت الحرب مرة لهذا ومرة لهذا، وصار أبو يزيد يرسل السرايا، فيقطع الطريق بين المهدية والقيروان وسوسة.
ثم إنه أرسل إلى المنصور يسأله أن يسلم إليه حرمه وعياله الذين خلفهم بالقيروان وأخذهم المنصور، فإن فعل ذلك دخل في طاعته على أن يؤمنه وأصحابه، وحلف له بأغلظ الأيمان على ذلك، فأجابه المنصور إلى ما طلب، وأحضر عياله وسرهم إليه مكرمين، بعد أن وصلهم، وأحسن كسوتهم، وأكرمهم، فلما وصلوا إليه نكث جميع ما عقده، وقال: إنما وجههم خوفاً مني، فانقضت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة؛ ودخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وهم على حالهم في القتال.
ففي خامس المحرم منها زحف أبو يزيد، وركب المنصور، وكان بين الفريقين قتال ما سمع بمثله، وحملت البربر على المنصور وحمل عليها، وجعل يضرب فيهم، فانهزموا منه بعد أن قتل خلق كثير، فلما انتصف المحرم عبأ المنصور عسكره، فجعل في الميمنة أهل أفريقية، وكتامة الميسرة، وهو في عبيده وخاصته في القلب، فوقع بينهم قتال شديد، فحمل أبو يزيد على الميمنة فهزمها، ثم حمل على القلب، فبادر إليه المنصور وقال: هذا يوم الفتح إن شاء الله تعالى ! وحمل هو ومن معه حملة رجل واحد، فانهزم أبو يزيد، وأخذت السيوف أصحابه فولوا منهزمين، وأسلموا أثقالهم، وهرب أبو يزيد على وجهه فقتل من أصحابه ما لا يحصى، فكان ما أخذه أطفال أهل القيروان من رؤوس القتلى عشرة آلاف رأس، وسار أبو يزيد إلى تاه مديت.
ذكر قتل أبي يزيد

لما تمت على أبي يزيد وأقام المنصور يتجهز للمسير في أثره، ثم رحل، أواخر شهر ربيع الأول من السنة، واستخلف على البلد مذاماً الصقلي، فأدرك أبا يزيد وهو محاصر مدينة باغاية لأنه أراد دخولها لما انهزم، فمنع من ذلك، فحصرها، فأدركه المنصور وقد كاد يفتحها، فلما قرب منه هرب أبو يزيد وجعل كلما قصد موضعاً يتحصن فيه سبقه المنصور، حتى وصل طبنة، فوصلت رسل محمد بن خزر الزناتي، وهو من أعيان أصحاب أبي يزيد، يطلب الأمان، فأمنه المنصور، وأمره أن يرصد أبا يزيد، واستمر الهرب بأبي يزيد حتى وصل إلى جبل البربر ويسمى برزال، وأهله على مذهبه، وسلك الرمال ليختفي أثره، فاجتمع معه خلق كثير، فعاد إلى نواحي مقبرة والمنصور بها، فكمن أبو يزيد أصحابه، فلما وصل عسكر المنصور رآهم فحذروا منهم، فعبأ حينئذ أبو يزد أصحابه، واقتتلوا، فانهزمت ميمنة المنصور، وحمل هو بنفسه ومن معه، فانهزم أبو يزيد إلى جبل سالات، ورحل المنصور في أثره، فدخل مدينة المسيلة، ورحل في أثر أبي يزيد في جبال وعرة، وأودية عميقة خشنة الأرض، فأراد الدخول وراءه المسيلة، ورحل في أثر أبي يزيد في جبال وعرة، وأودية عميقة خشنة الأرض، فأراد الدخول وراءه فعرفه الأدلاء أن هذه الأرض لم يسلكها جيش قط، واشتد الأمر على أهل العسكر، فبلغ عليق كل دابة ديناراً ونصفاً، وبلغت قربة الماء ديناراً، وأن ما وراء ذلك رمال وقفار بلاد السودان، ليس فيها عمارة، وإن أبا يزيد اختار الموت جوعاً وعطشاً على القتل بالسيف.
فلما سمع ذلك رجع إلى بلاد صنهاجة، فوصل إلى موضع يسمى قرية دمره، فاتصل به الأمير زيري بن مناد الصنهاجي الحميري بعساكر صنهاجة، وزيري هذا هو جد بني باديس ملوك أفريقية، كما يأتي ذكره، إن شاء الله تعالى، فأكرمه المنصور وأحسن إليه، ووصل كتاب محمد بن خزر يذكر الموضع الذي فيه أبو يزيد من الرمال.
ومرض المنصور مرضاً شديداً أشفى منه، فلما أفاق من مرضه رحل إلى المسيلة ثاني رجب، وكان أبو يزيد قد سبقه إليها لما بلغه مرض المنصور، وحصرها، فلما قصده المنصور هرب منه يريد بلاد السودان، فأبى ذلك بنو كملان وهوارة وخدعوه، وصعد إلى جبال كتامة وعجيسة وغيرهم، فتحصن بها واجتمع إليه أهلها، وصاروا ينزلون يتخطفون الناس، فسار المنصور عاشر شعبان إليه، فلم ينزل أبو يزيد، فلما عاد نزل إلى ساقة العسكر، فرجع المنصور، ووقعت الحرب فانهزم أبو يزيد، وأسلم أولاده وأصحابه، ولحقه فارسان فعقرا فرسه فسقط عنه، فأركبه بعض أصحابه، ولحقه زيري بن مناد فطعنه فألقاه، وكثر القتال عليه، فخلصه أصحابه وخلصوا معه، وتبعهم أصحاب المنصور، فقتلوا منهم ما يزيد على عشرة آلاف.
ثم سار المنصور في أثره أول شهر رمضان، فاقتتلوا أيضاً أشد قتال، ولم يقدر أحد الفريقين على الهزيمة لضيق المكان خشونته، ثم انهزم أبو يزيد أيضاً، واحترقت أثقاله وما فيها، وطلع أصحابه على رؤوس الجبال يرمون بالصخر، وأحاط القتال بالمنصور وتواخذوا بالأيدي، وكثر القتل حتى ظنوا أنه الفناء، وافترقوا على السواء، والتجأ أبو يزيد إلى قلعة كتامة، وهي منيعة، فاحتمى بها.
وفي ذلك اليوم أتى إلى المنصور جند له من كتامة برجل ظهر في أرضهم ادعى البربوبية، فأمر المنصور بقتله، وأقبلت هوارة وأكثر من مع أبي يزيد يطلبون الأمان، فأمنهم المنصور، وسار إلى قلعة كتامة، فحصر أبا يزيد فيها، وفرق جنده حولها، فناشبه أصحاب أبي يزيد القتال، وزحف إليها المنصور غير مرة، ففي آخرها ملك أصحابه بعض القلعة، وألقوا فيها النيران، وانهزم أصحاب أبي يزيد وقتلوا قتلاً ذريعاً، ودخل أبو يزيد وأولاده وأعيان أصحابه إلى قصر في القلعة، فاجتمعوا فيه، فاحترقت أبوابه وأدركهم القتل، فأمر المنصور بإشعال النار في شعاري الجبل وبين يديه لئلا يهرب أبو يزيد، فصار الليل كالنهار.

فلما كان آخر الليل خرج أصحابه وهم يحملونه على أيديهم، وحملوا على الناس حملة منكرة، فأفرجوا لهم، فنجوا به، ونزل من القلعة خلق كثير، فأخذوا، فأخبروا بخروج أبي يزيد، فأمر المنصور بطلبه وقال: ما أظنه ألا قريباً منا؛ فبينما هم كذلك إذ أتى بأبي يزيد، وذلك أن ثلاثة من أصحابه حملوه من المعركة ثم ولوا عنه، وإنما حملوه لقبح عرجه، فذهب لينزل من الوعر، فسقط في مكان صعب، فأدرك فأخذ وحمل إلى المنصور، فسجد شكراً لله تعالى، والناس يكبرون حوله، وبقي عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، فمات من الجراح التي به، فأمر بإدخاله في قفص عمل له، وجعل معه قردين يلعبان عليه، وأمر بسلخ جلده وحشاه تبناً، وأمر بالكتب إلى سائر البلاد بالبشارة.
ثم خرج عليه عدة خوارج منهم محمد بن خزر، فظفر به المنصور سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وكان يريد نصرة أبي يزيد؛ وخرج أيضاً بن أبي يزيد، وأفسد وقطع الطريق، فغدر به بعض أصحابه وقتله، وحمل رأسه إلى المنصور سنة ست وثلاثين أيضاً، وعاد المنصور إلى المهدية، فدخلها في شهر رمضان من السنة.
ذكر قتل أبي الحسين البريدي وإحراقهفي هذه السنة، في ربيع الأول، قدم أبو الحسين البريدي إلى بغداد مستأمناً إلى توزون، فأمنه، وأنزله أبو جعفر بن شيرزاد إلى جانب داره، وأكرمه، وطلب أن يقوي يده على ابن أخيه، وضمن أنه إذا أخذ البصرة يوصل له مالاً كثيراً، فوعدوه النجدة والمساعدة، فأنفذ ابن أخيه من البصرة مالاً كثيراً خدم به توزون وابن شيرزاد، فأنفذوا له الخلع وأقروه على عمله.
فلما علم أبو الحسين بذلك سعى في أن يكتب لتوزون، ويقبض على ابن شيرزاد، فعلم ابن شيرزاد بذلك، فسعى به إلى أن قبض عليه، وقيد وضرب ضرباً عنيفاً، وكان أبو عبدالله بن أبي موسى الهاشمي قد أخذ أيام ناصر الدولة فتوى الفقهاء والقضاة بإحلال دمه، فأحضرها وأحضر القضاة والفقهاء في دار الخليفة، وأخرج أبو الحسين، وسئل الفقهاء عن الفتاوى، فاعترفوا أنهم أفتوا بذلك، فأمر بضرب رقبته، فقتل وصلب، ثم أنزل وأحرق، ونهبت داره، وكان هذا آخر أمر البريديين، وكان قتله منتصف ذي الحجة.
وفيها نقل المستكفي بالله القاهر بالله من دار الخلافة إلى دار ابن طاهر، وكان قد بلغ به الضر والفقر إلى أن كان ملتفاً بقطن جبة، وفي رجله قبقاب خشب.
ذكر مسير أبي علي إلى الري وعوده قبل ملكهالما استقر الأمير نوح في ولايته بما وراء النهر وخراسان أمر أبا علي ابن محتاج أن يسير في عساكر خراسان إلى الري ويستنقذها من يد ركن الدولة ابن بويه، فسار في جمع كثير، فلقيه وشمكير بخراسان وهو يقصد الأمر نوحاً، فسيره إليه، وكان نوح حينئذ بمرو، فلما قدم عليه أكرمه وأنزله، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه.
وأما أبو علي فأنه سار نحو الري، فلما نزل ببسطام خالف عليه بعض من معه، وعادوا عنه مع منصور بن قراتكين، وهو من أكابر أصحاب نوح وخواصه، فساروا نحو جرجان، وبها الحسن بن الفيرزان، فصدهم الحسن عنها، فانصرفوا إلى نيسابور، وسار أبو علي نحو الري فيمن بقي معه، فخرج إليه ركن الدولة محارباً، فالتقوا على ثلاثة فراسخ من الري، وكان مع أبي علي جماعة كثيرة من الأكراد، فغدروا به، واستأمنوا إلى ركن الدولة، فانهزم أبو علي، وعاد نحو نيسابور وغنموا بعض أثقاله.
ذكر استيلاء وشمكير على جرجانلما عاد أبو علي إلى نيسابور لقيه وشمكير، وقد سيره الأمير نوح، ومعه جيش فيهم مالك بن شكرتكين، وأرسل إلى أبي علي يأمره بمساعدة وشمكير، فوجه فيمن معه إلى جرجان، وبها الحسن بن الفيرزان، فالتقوا واقتتلوا فانهزم الحسن، واستولى وشمكير على جرجان في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
ذكر استيلاء أبي علي على الريفي هذه السنة سار أبو علي من نيسابور إلى نوح، وهو بمرو، فاجتمع به، فأعاده إلى نيسابور، وأمره بقصد الري، وأمده بجيش كثير، فعاد إلى نيسابور، وسار منها إلى الري في جمادى الآخرة، وبها ركن الدولة، فلما علم ركن الدولة بكثرة جموعه سار عن الري واستولى أبو علي عليها وعلى سائر أعمال الجبال، وأنفذ نوابه إلى الأعمال، وذلك في شهر رمضان من هذه السنة.

ثم إن الأمير نوحاً سار من مرو إلى نيسابور، فوصل إليها في رجب، وأقام بها خمسين يوماً، فوضع أعداء أبي علي جماعة من الغوغاء والعامة، فاجتمعوا واستغاثوا عليه، وشكوا سوء سيرته وسيرة نوابه، فاستعمل الأمير نوح على نيسابور إبراهيم بن سيمجور وعاد عنها إلى بخارى في رمضان، وكان مرادهم بذلك أن يقطعوا طمع أبي علي عن خراسان ليقيم بالري وبلاد الجبل، فاستوحش أبو علي لذلك، فإنه كان يعتقد أنه يحسن إليه بسبب فتح الري وتلك الأعمال، فلما عزل شق ذلك عليه، ووجه أخاه أبا العباس الفضل ابن محمد إلى كور الجبال، وولاه همذان، وجعله خليفة على من معه من العساكر، فقصد الفضل نهاوند والدينور وغيرهما واستولى عليها، واستأمن إليه رؤساء الأكراد من تلك الناحية، وأنفذوا إليه رهائنهم.
ذكر وصول معز الدولة إلى واسط

وعوده عنها
في هذه السنة، آخر رجب، وصل معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه إلى مدينة واسط، فسمع توزون به، فسار هو والمستكفي بالله من بغداد إلى واسط، فلما سمع معز الدولة بمسيرهم إليه فارقها سادس رمضان، ووصل الخليفة وتوزون إلى واسط، فأرسل أبو القاسم البريدي يضمن البصرة، فأجابه توزون إلى ذلك وضمنه، وسلمها إليه، وعاد الخليفة وتوزون إلى بغداد، فدخلاها ثامن شوال من السنة.
ذكر ملك سيف الدولة مدينة حلف وحمصفي هذه السنة سار سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان إلى حلب، فملكها واستولى عليها، وكان مع المتقي لله بالرقة، فلما عاد المتقي إلى بغداد، وانصرف الإخشيد إلى الشام، بقي يأنس المؤسي بحلب، فقصده سيف الدولة، فلما نازلها فارقها يأنس وسار إلى الإخشيد، فملكها سيف الدولة، ثم سار منها إلى حمص، فلقيه بها عسكر الإخشيد محمد بن طغج، صاحب الشام ومصر، مع مولاه كافور، واقتتلوا، فانهزم عسكر الإخشيد وكافور، وملك سيف الدولة مدينة حمص، وسار إلى دمشق فحصرها، فلم يفتحها أهلها له فرجع.
وكان الأخشيد قد خرج من مصر إلى الشام وسار خلف سيف الدولة، فالتقيا بقنسرين، فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر، ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة، فلما عاد الإخشيد إلى دمشق رجع سيف الدولة إلى حلب، ولما ملك سيف الدولة حلب سارت الروم إليها، فخرج إليهم، فقاتلهم بالقرب منها، فظفر بهم وقتل منهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، ثامن جمادى الأولى، قبض المستكفي بالله على كاتبه أبي عبدالله بن أبي سليمان وعلى أخيه، واستكتب أبا أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي على خاص أمره، وكان أبو أحمد لما تقلد المستكفي الخلافة بالموصل يكتب لناصر الدولة، فلما بلغه خبر تقلده الخلافة انحدر إلى بغداد لأنه كان يخدم المستكفي بالله، ويكتب له، وهو في دار ابن طاهر.
وفيها، في رجب، سار توزون ومعه المستكفي بالله من بغداد يريدان الموصل، وقصد ناصر الدولة لأنه كان قد أخر حمل المال الذي عليه من ضمان البلاد واستخدم غلماناً هربوا من توزون، وكان الشرط بينهم أنه لا يقبل أحداً من عسكر توزون.
فلما خرج الخليفة وتوزون من بغداد ترددت الرسل في الصلح، وتوسط أبو جعفر بن شيرزاد الأمر، وانقاد ناصر الدولة لحمل المال، وكان أبو القاسم ابن مكرم، كاتب ناصر الدولة، هو الرسول في ذلك، ولما تقرر الصلح عاد المستكفي وتوزون فدخلا بغداد.
وفيها في سابع ربيع الآخر قبض المستكفي على وزيره أبي الفرج السرمرائي، وصودر على ثلاثمائة ألف درهم، وكانت مدة وزارته اثنين وأربعين يوماً.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة
ذكر موت توزون وإمارة ابن شيرزاد
في هذه السنة، في المحرم، مات توزون في داره ببغداد، وكانت مدة إمارته سنتين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوماً، وكتب له ابن شيرزاد مدة إمارته، غير ثلاثة أيام.

ولما مات توزون كان ابن شيرزاد بهيت لتخليص أموالها، فلما بلغه الخبر عزم على عقد الإمارة لناصر الدولة بن حمدان، فاضطربت الأجناد، وعقدوا الرئاسة عليهم لابن شيرزاد، فحضر ونزل بباب حرب مستهل صفر، وخرج عليه الأجناد جميعهم، واجتمعوا عليه، وحلفوا له، ووجه إلى المستكفي بالله ليحلف له، فأجابه إلى ذلك، وحلف له بحضرة القضاة والعدول، ودخل إليه ابن شيرزاد، وعاد مكرماً يخاطب بأمير الأمراء، وزاد الأجناد زيادة كثيرة، فضاقت الأموال عليه، فأرسل إلى ناصر الدولة مع أبي عبدالله محمد بن أبي موسى الهاشمي، وهو بالموصل، يطالبه بحمل المال، ويعده برد الرئاسة إليه، وأنفذ له خمسمائة ألف درهم وطعاماً كثيراً، ففرقها في عسكره، فلم يؤثر، فقسط الأموال على العمال والكتاب والتجار وغيرهم لأرزاق الجند وظلم الناس ببغداد.
وظهر اللصوص، وأخذوا الأموال، وجلا التجار، واستعمل على واسط ينال كوشة، وعلى تكريت اللشكري، فأما ينال فإنه كاتب معز الدولة بن بويه، واستقدمه، وصار معه، وأما الفتح اللشكري فإنه سار إلى ناصر الدولة بالموصل، وصار معه، فأقره على تكريت.
ذكر استيلاء معز الدولة على بغدادلما كاتب ينال كوشة معز الدولة بن بويه، وهو بالأهواز، ودخل في طاعته، وسار معز الدولة نحوه، فاضطرب الناس ببغداد، فلما وصل إلى باجسرى اختفى المستكفي بالله وابن شيرزاد، وكانت إمارته ثلاثة أشهر وعشرين يوماً، فلما استتر سار الأتراك إلى الموصل، فلما أبعدوا ظهر المستكفي وعاد إلى بغداد إلى دار الخلافة، وقدم أبو محمد الحسن بن محمد المهلبي، صاحب معز الدولة، إلى بغداد، فاجتمع بابن شيرزاد بالمكان الذي استتر فيه ثم اجتمع بالمستكفي، فأظهر المستكفي السرور بقدوم معز الدولة، وأعلمه أنه إنما استتر من الأتراك ليتفرقوا فيحصل الأمر لمعز الدولة بلا قتال.
ووصل معز الدولة إلى بغداد حادي عشر جمادى الأولى، فنزل ببال الشماسية، ودخل من الغد على الخليفة المستكفي وبايعه، وحلف له المستكفي، وسأله معز الدولة أن يأذن لابن شيرزاد بالظهور، وأن يأذن أن يستكتبه، فأجاب إلى ذلك، فظهر ابن شيرزاد، ولقي معز الدولة، فولاه الخراج، وجباية الأموال، وخلع الخليفة، على معز الدولة، ولقبه ذلك اليوم معز الدولة، ولقب أخاه علياً عماد الدولة، ولقب أخاه الحسن ركن الدولة، وأمر أن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم.
ونزل معز الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه في دور الناس، فلحق الناس من ذلك شدة عظيمة، وصار رسماً عليهم بعد ذلك، وهو أول من فعله ببغداد، ولم يعرف بها قبله، وأقيم للمستكفي بالله كل يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته، وكانت ربما تأخرت عنه، فأقرت له مع ذلك ضياع سلمت إليه تولاها أبو أحمد الشيرازي كاتبه.
ذكر خلع المستكفي باللهوفي هذه السنة خلع المستكفي بالله لثمان بقين من جمادى الآخرة.
وكان سبب ذلك أن علماً القهرمانة صنعت دعوة عظيمة حضرها جماعة من قواد الديلم والأتراك، فاتهمها معز الدولة أنها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمستكفي ويزيلوا معز الدولة، فساء ظنه لذلك لما رأى من إقدام علم، وحضر أصفهدوست عند معز الدولة، وقال: قد راسلني الخليفة في أن ألقاه متنكراً.
فلما مضى اثنان وعشرون يوماً من جمادى الآخرة حضر معز الدولة والناس عند الخليفة، وحضر رسول صاحب خراسان، ومعز الدولة جالس، ثم حضر رجلان من نقباء الديلم يصيحان، فتناولا يد المستكفي بالله، فظن أنهما يريدان تقبيلها، فمدها إليهما، فجذباه عن سريره، وجعلا عمامته في حلقه، ونهض معز الدولة، واضطرب الناس، ونهبت الأموال، وساق الديلميان المستكفي بالله ماشياً إلى دار معز الدولة، فاعتقل بها، ونهبت دار الخلافة حتى لم يبق بها شيء وقبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المستكفي، وأخذت علم القهرمانة فقطع لسانها.
وكانت مدة خلافة المستكفي سنة واحدة وأربعة أشهر، وما زال مغلوباً على أمره مع توزون وابن شيرزاد، ولما بويع المطيع لله سلم إليه المستكفي، فسلمه وأعماه، وبقي محبوساً إلى أن مات في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وكان مولده ثالث عشر صفر سنة ست وتسعين ومائتين، وأمه أم ولد اسمها غصن، وكان أبيض، حسن الوجه، قد وخطه الشيب.
ذكر خلافة المطيع لله

لما ولي المستكفي بالله الخلافة خافه المطيع، وهو أبو القاسم الفضل بن المقتدر، لأنه كان بينهما منازعة، وكان كل منهما يطلب الخلافة، وهو يسعى فيها، فلما ولي المستكفي خافه واستتر منه، فطلبه المستكفي أشد الطلب، فلم يظفر به، فلما قدم معز الدولة بغداد قيل إن المطيع انتقل إليه، واستتر عنده، وأغراه بالمستكفي حتى قبض عليه وسلمه، فلما قبض المستكفي بويع للمطيع لله بالخلافة يوم الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة، ولقب المطيع لله، وأحضر المستكفي عنده، فسلم عليه بالخلافة، وأشهد على نفسه بالخلع.
وازداد أمر الخلافة أدباراً، ولم يبق لهم من الأمر شيء البتة، وقد كانوا يراجعون ويؤخذ أمرهم فيما يفعل، والحرمة قائمة بعض الشيء، فلما كان أيام معز الدولة زال ذلك جميعه بحيث أن الخليفة لم يبق له وزير إنما كان له كاتب يدبر إقطاعه وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمعز الدولة يستوزر لنفسه من يريد.
وكان من أعظم الأسباب في ذلك أن الديلم كانوا يتشيعون، ويغالون في التشيع، ويعتقدون أن العباسيين قد غضبوا الخلافة وأخذوها من مستحقيها فلم يكن عندهم باعث ديني يحثهم على الطاعة، حتى لقد بلغني أن معز الدولة استشار جماعة من خواص أصحابه في إخراج الخلافة من العباسيين والبيعة للمعز لدين الله العلوي، أو لغيره من العلويين، فكلهم أشار عليه بذلك ما عدا بعض خواصه فإنه قال: ليس هذا برأي، فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من يعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن ذلك؛ فهذا كان من أعظم الأسباب في زوال أمرهم ونهبهم مع حب الدنيا وطلب التفرد بها.
وتسلم معز الدولة العراق بأسره، ولم يبق بيد الخليفة منه شيء البتة، إلا ما أقطعه معز الدولة مما يقوم ببعض حاجته.
ذكر الحرب بين ناصر الدولة ومعز الدولةوفيها، في رجب، سير معز الدولة عسكراً فيهم موسى فيادة وينال كوشة إلى الموصل في مقدمته، فلما نزلوا عكبرا أوقع ينال كوشة بموسى فيادة، ونهب سواده، ومضى هو ومن معه إلى ناصر الدولة، وكان قد خرج من الموصل نحو العراق، ووصل ناصر الدولة إلى سامرا في شعبان، ووقعت الحرب بينه وبين أصحاب معز الدولة بعكبرا.
وفي رمضان سار معز الدولة مع المطيع لله إلى عكبرا، فلما سار عن بغداد لحق ابن شيرزاد بناصر الدولة، وعاد إلى بغداد مع عسكر لناصر الدولة، فاستولوا عليها، ودبر ابن شيرزاد الأمور بها نيابة عن ناصر الدولة، وناصر الدولة يحارب معز الدولة، فلما كان عاشر رمضان سار ناصر الدولة من سامرا إلى بغداد فأقام بها، فلما سمع معز الدولة الخبر سار إلى تكريت فنهبها لأنها كانت لناصر الدولة، وعاد الخليفة معه إلى بغداد، فنزلوا بالجانب الغربي، ونزل ناصر الدولة بالجانب الشرقي، ولم يخطب للمطيع ببغداد.
ثم وقعت الحرب بينهم ببغداد، وانتشرت أعراب ناصر الدولة بالجانب الغربي، فمنعوا أصحاب معز الدولة من الميرة والعلف، فغلت الأسعار على الديلم، حتى بلغ الخبز عندهم كل رطل بدرهم وربع، وكان السعر عند ناصر الدولة رخيصاً، كانت تأتيه الميرة في دجلة من الموصل، فكان الخبز عنده كل خمسة أرطال بدرهم.
ومنع ناصر الدولة من المعاملة بالدنانير التي عليها اسم المطيع، وضرب دنانير ودراهم على سكة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وعليها اسم المتقي لله، واستعان ابن شيرزاد بالعيارين والعامة على حرب معز الدولة، فكان يركب في الماء، وهم معه، ويقاتل الديلم.
وفي بعض الليالي عبر ناصر الدولة في ألف فارس لكبس معز الدولة، فلقيهم أسفهدوست فهزمهم، وكان من أعظم الناس شجاعة، وضاق الأمر بالديلم حتى عزم معز الدولة على العود إلى الأهواز، وقال: نعمل معهم حيلة هذه المرة، فإن أفادت وإلا عدنا؛ فرتب ما معه من المعابر بناحية الثمارين، وأمر وزيره أبا جعفر الصيمري وأسفهدوست بالعبور، ثم أخذ معه باقي العسكر، وأظهر أنه يعبر في قطربل، وسار ليلاً ومعه المشاعل على شاطئ دجلة، فسار أكثر عسكر ناصر الدولة بإزائه ليمنعوه من العبور، فتمكن الصيمري وأسفهدوست من العبور، فعبروا وتبعهم أصحابهم.

فلما علم معز الدولة بعبور أصحابه عاد إلى مكانه، فعلموا بحيلته، فلقيهم ينال كوشة في جماعة أصحاب ناصر الدولة، فهزموه واضطرب عسكر ناصر الدولة، وملك الديلم الجانب الشرقي، وأعيد الخليفة إلى داره في المحرم سنة خمس وثلاثين وغنم الديلم ونهبوا أموال الناس ببغداد، فكان مقدار ما غنموه ونهبوه من أموال المعروفين دون غيرهم عشرة آلاف ألف دينار، وأمرهم معز الدولة برفع السيف والكف عن النهب وأمن الناس فلم ينتهوا، فأمر وزيره أبا جعفر الصيمري، فركب وقتل، وصلب جماعة وطاف بنفسه فامتنعوا.
واستقر معز الدولة ببغداد، وأقام ناصر الدولة بعكبرا، وأرسل في الصلح بغير مشورة من الأتراك التوزونية، فهموا بقتله، فسار عنهم مجداً نحو الموصل، ثم استقر الصلح بينه وبين معز الدولة في المحرم سنة خمس وثلاثين.
ذكر وفاة القائم وولاية المنصورفي هذه السنة توفي القائم بأمر الله أبو القاسم محمد بن عبيدالله المهدي العلوي صاحب إفريقية لثلاث عشرة مضت من شوال، وقام بالأمر بعده ابنه إسماعيل وتلقب المنصور بالله، وكتم موته خوفاً أن يعلم بذلك أبو يزيد، وهو بالقرب منه على سوسة، وأبقى الأمور على حالها، ولم يتسم بالخليفة، ولم يغير السكة، ولا الخطبة، ولا البنود، وبقي على ذلك إلى أن فرغ من أمر أبي يزيد، فلما فرغ منه أظهر موته، وتسمى بالخلافة، وعمل آلات الحرب والمراكب، وكان شهماً شجاعاً وضبط الملك والبلاد.
ذكر إقطاع البلاد وتخريبهافيها شغب الجند على معز الدولة بن بويه، وأسمعوه المكروه، فضمن لهم إيصال أرزاقهم في مدة ذكرها لهم، فاضطر إلى خبط الناس، وأخذ الأموال من غير وجوهها، وأقطع قواده وأصحابه القرى جميعها التي للسلطان وأصحاب الأملاك، فبطل لذلك أكثر الدواوين، وزالت أيدي العمال، وكانت البلاد قد خربت من الاختلاف، والغلاء، والنهب، فأخذ القواد القرى العامرة، وزادت عمارتها معهم، وتوفر دخلها بسبب الجاه، فلم يمكن معز الدولة العود عليهم بذلك.
وأما الأتباع فإن الذي أخذوه ازداد خراباً، فردوه وطلبوا العوض عنه، فعوضوا، وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القرى وتسوية طرقها، فهلكت وبطل الكثير منها.
وأخذ غلمان المقطعين في ظلم وتحصيل العاجل، فكان أحدهم إذا عجز الحاصل تممه بمصادراتها.
ثم إن معز الدولة فوض حماية كل موضع إلى بعض أكابر أصحابه فاتخذه مسكناً وأطمعه، فاجتمع إليهم الإخوة، وصار القواد يدعون الخسارة في الحاصل، فلا يقدر وزيره ولا غيره على تحقيق ذلك، فإن اعترضهم معترض صاروا أعداء له، فتركوا وما يريدون، فازداد طمعهم، ولم يقفوا عند غاية، فتعذر على معز الدولة جمع ذخيرة تكون للنوائب والحوادث، وأكثر من إعطاء غلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع، فحسدهم الديلم وتولد من ذلك الوحشة والمنافرة، فكان من ذلك ما نذكره.
ذكر موت الإخشيد

وملك سيف الدولة دمشق
في هذه السنة، في ذي الحجة، مات الإخشيد أبو بكر محمد بن طغج، صاحب ديار مصر، وكان مولده سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد، وكان موته بدمشق، وقيل مات سنة خمس وثلاثين، وولي الأمر بعده ابنه أبو القاسم أنوجور، فاستولى على الأمر كافور الخادم الأسود، وهو من خدم الإخشيد، وغلب أبا الاسم واستضعفه وتفرد بالولاية؛ وكافور هذا هو الذي مدحه المتنبي ثم هجاه.
وكان أبو القاسم صغيراً، وكان كافور أتابكه، فلهذا استضعفه، وحكم عليه، فسار كافور إلى مصر، فقصد سيف الدولة دمشق، فملكها وأقام بها، فاتفق أنه كان يسير هو والشريف العقيلي بنواحي دمشق، فقال سيف الدولة: ما تصلح هذه الغوطة إلا لرجل واحد؛ فقال له العقيلي: هي لأقوام كثيرة؛ فقال سيف الدولة: لئن أخذتها القوانين السلطانية لينبرون منها، فأعلم العقيلي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافوراً يستدعونه، فجاءهم، فأخرجوا سيف الدولة عنهم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وكان أنوجور مع كافور، فتبعوا سيف الدولة إلى حلب، فخافهم سيف الدولة فعبر إلى الجزيرة، وأقام أنوجور على حلب، ثم استقر الأمر بينهما، وعاد أنوجور إلى مصر وعاد سيف الدولة إلى حلب، وأقام كافور بدمشق يسيراً، وولي عليها بدر الإخشيدي، ويعرف ببدير، وعاد إلى مصر، فبقي بدير على دمشق سنة، ثم وليها أبو المظفر بن طغج وقبض على بدير.
ذكر مخالفة أبي علي على الأمير نوح

وفي هذه السنة خالف أبو علي بن محتاج على الأمير نوح، صاحب خراسان وما وراء النهر.
وسبب ذلك أن أبا علي لما عاد من مرو إلى نيسابور وتجهز للمسير إلى الري أنفذ إليه الأمير نوح عارضاً يستعرض العسكر، فأساء العارض السيرة معهم، وأسقط منهم ونقص، فنفرت قلوبهم، فساروا وهم على ذلك وانضاف إلى ذلك أن نوحاً أنفذ معهم من يتولى أعمال الديوان، وجعل إليه الحل والعقد والإطلاق بعد أ، كان جميعه أيام السعيد نصر بن أحمد إلى أبي علي، فنفر قلبه لذلك، ثم إنه عزل عن خراسان واستعمل عليها إبراهيم بن سيمجور كما ذكرناه.
ثم إن المتولي أساء إلى الجند في معاملاتهم وحوائجهم وأرزاقهم، فازدادوا نفوراً، فشكا بعضهم إلى بعض، وهم إذ ذاك بهمذان، واتفق رأيهم على مكاتبة إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل عم نوح، واستقدامه إليهم ومبايعته وتمليكه البلاد. وكان إبراهيم حينئذ بالموصل في خدمة ناصرا الدولة، وكان سبب مسيره إليها ما ذكرناه قبل، فلما اتفقوا على ذلك أظهروا عليه أبا علي، فنهاهم عنه، فتوعدوه بالقبض عليه إن خالفهم، فأجابهم إلى ما طلبوا، فكاتبوا إبراهيم وعرفوه حالهم، فسار إليهم في تسعين فارساً، فقدم عليهم في رمضان من هذه السنة، ولقيه أبو علي بهمذان وساروا معه إلى الري في شوال، فلما وصلوا إليها اطلع أبو علي من أخيه الفضل على كتاب كتبه إلى الأمير نوح يطلعه على حالهم، فقبض عليه وعلى ذلك المتولي الذي أساء إلى الجند، وسار إلى نيسابور واستخلف على الري والجبل نوابه.
وبلغ الخبر إلى الأمير نوح، فتجهز وسار إلى مرو من بخارى، وكان الأجناد قد ملوا من محمد بن أحمد الحاكم المتولي للأمور، لسوء سيرته، فقالوا لنوح: إن الحاكم أفسد عليك الأمور بخراسان، وأحوج أبا علي إلى العصيان، وأوحش الجنود، وطلبوا تسليمه إليهم، وإلا ساروا إلى عمه إبراهيم وأبي علي، فسلمه إليهم، فقتلوه في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين ولما وصل أبو علي إلى نيسابور كان بها إبراهيم بن سيمجور، ومنصور ابن قراتكين، وغيرهما من القواد، فاستمالهما أبو علي، فمالا إليه وصارا معه، ودخلها في المحرم سنة خمسة وثلاثين ثم ظهر له من منصور ما يكره فقبض عليه.
ثم سار أبو علي وإبراهيم من نيسابور في ربيع الأول سنة خمس وثلاثين إلى مرو، وبها الأمير نوح، فهرب الفضل أخو أبي علي من محبسه، احتال على الموكلين به وهرب إلى قوهستان فأقام بها، وسار أبو علي إلى مرو، فلما قاربها أتاه كثير من عسكر نوح، وسار نوح عنها إلى بخارى، واستولى أبو علي على مرو في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وأقام بها أياماً، وأتاه أكثر أجناد نوح وسار نحو بخارى، وعبر النهر إليها، ففارقها نوح وسار إلى سمرقند، ودخل أبو علي بخارى في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وخطب فيها لإبراهيم العم، وبايع له الناس.
ثم إن أبا علي اطلع من إبراهيم على سوء قد أضمره له، ففارقه وسار إلى تركستان، وبقي إبراهيم في بخارى، وفي خلال ذلك أطلق أبو علي منصور بن قراتكين فسار إلى الأمير نوح.
ثم إن إبراهيم وافق جماعة في السر على أن يخلع نفسه من الأمر ويرده إلى ولد أخيه الأمير نوح، ويكون هو صاحب جيشه، ويتفق معه على قصد أبي علي، ودعا أهل بخارى إلى ذلك، فأجابوه واجتمعوا وخرجوا إلى أبي علي وقد تفرق عنه أصحابه، وركب إليهم في خيل، فردهم إلى البلد أقبح رد، وأراد إحراق البلد، فشفع إليه مشايخ بخارى، فعفا عنهم وعاد إلى مكانه، واستحضر أبا جعفر محمد بن نصر بن أحمد، وهو أخو الأمير نوح، وعقد له الإمارة وبايع له، وخطب له في النواحي كلها.
ثم ظهر لأبي علي فساد نيات جماعة من الجند، فرتب أبا جعفر في البلد، ورتب ما يجب ترتيبه، وخرج عن البلد يظهر المسير إلى سمرقند، ويضمر العود إلى الصغانيان، ومنها إلى نسف، فلما خرج من البلد رد جماعة من الجند والحشم إلى بخارى، وكاتب نوحاً بإفراجه عنها.
ثم سار إلى الصغانيان في شعبان، ولما فارق أبو علي بخارى خرج إبراهيم وأبو جعفر محمد بن نصر إلى سمرقند مستأمنين إلى نوح، مظهرين الندم على ما كان منهم، فقربهم وقبلهم ووعدهم وعاد إلى بخارى في رمضان، وقتل نوح في تلك الأيام طغان الحاجب، وسمل عمه إبراهيم، وأخويه أبا جعفر محمداً وأحمد، وعادت الجيوش فاجتمعت عليه والأجناد، وأصلح الفساد.

وأما الفضل بن محمد أخو أبي علي فإنه لما هرب من أخيه كما ذكرناه ولحق بقوهستان، جمع جمعاً كثيراً وسار نحو نيسابور، وبها محمد بن عبد الرزاق من قبل أبي علي، فخرج منها إلى الفضل، فالتقيا وتحاربا، فانهزم الفضل ومعه فارس واحد، فلحق ببخارى فأكرمه الأمير نوح، وأحسن إليه وأقام في خدمته.
ذكر استعمال منصور بن قراتكين على خراسانلما عاد الأمير نوح إلى بخارى، وأصلح البلاد، وكان أبو علي بالصغانيان، وبمرو أبو أحمد محمد بن علي القزويني، فرأى نوح أن يجعل منصور بن قراتكين على جيوش خراسان، فولاه ذلك، وسيره إلى مرو، وبها أبو أحمد، وقد غور المناهل ما بين آمل ومرو، ووافق أبا علي ثم تخلى عنه.
وسار إليه منصور جريدة في ألفي فارس، فلم يشعر القزويني إلا بنزول منصور بكشماهن على خمسة فراسخ من مرو، واستولى منصور على مرو، واستقبله أبو أحمد القزويني فأكرمه، وسيره إلى بخارى مع ماله وأصحابه، فلما بلغها أكرمه الأمير نوح وأحسن إليه إلا أنه وكل به، فظفر بعض الأيام برقعة قد كتبها القزويني بما أنكره، فأحضره وبكته بذنوبه، ثم قتله.
ذكر مصالحة أبي علي مع نوحثم إن أبا علي أقام بالصغانيان، فبلغه أن الأمير نوحاً قد عزم على تسيير عسكر إليه، فجمع أبو علي الجيوش وخرج إلى بلخ وأقام بها، وأتاه رسول الأمير نوح في الصلح، فأجاب إليه، فأبى عليه جماعة ممن معه من قواد نوح الذين انتقلوا إليه، وقالوا: نحب أن تردنا إلى منازلنا، ثم صالح فخرج أبو علي نحو بخارى، فخرج إليه الأمير نوح في عساكره، وجعل الفضل بن محمد أخا أبي علي صاحب جيشه، فالتقوا بجرجيك في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وتحاربوا قبيل العصر، فاستأمن إسماعيل بن الحسن الداعي إلى نوح، وتفرق العسكر عن أبي علي فانهزم ورجع إلى الصغانيان.
ثم بلغه أن الأمير نوحاً قد أمر العساكر بالميسر إليه من بخارى وبلخ وغيرهما، وأن صاحب الختل قد تجهز لمساعدة أصحاب أبي علي، فسار أبو علي في جيشه إلى ترمذ، وعبر جيحون، وسار إلى بلخ، فنازلها، واستولى عليها وعلى طخارستان، وجبى مال تلك الناحية.
وسار من بخارى عسكر جرار إلى الصغانيان، فأقاموا بنسف ومعهم الفضل بن محمد بن أخو أبي علي، فكتب جماعة من قواد العسكر إلى الأمير نوح بأن الفضل قد اتهموه بالميل إلى أخيه، فأمرهم بالقبض عليه، فقبضوا عليه وسيروه إلى بخارى.
وبلغ خبر العسكر إلى أبي علي، وهو بطخارستان، فعاد إلى الصغانيان، ووقعت بينهم حروب، وضيق عليهم أبو علي في العلوفة، فانتقلوا إلى قرية أخرى على فرسخين من الصغانيان، فقاتلهم أبو علي في ربيع الأول سنة سبع وثلاثين قتالاً شديداً، فقهروه، وسار إلى شومان، وهي على ستة عشر فرسخاً من الصغانيان، ودخل عسكر نوح إلى الصغانيان، فأخربوا قصور أبي علي ومساكنه، وتبعوا أبا علي، فعاد إليهم واجتمع إليه الكتيبة، وضيق على عسكر نوح، وأخذ عليهم المسالك، فانقطعت عنهم أخبار بخارى، وأخبارهم عن بخارى، نحو عشرين يوماً، فأرسلوا إلى أبي علي يطلبون الصلح، فأجابهم إليه، واتفقوا على إنفاذ ابنه أبي المظفر عبدالله رهينة إلى الأمير نوح، واستقر الصلح بينهما في جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة.
وسير ابنه إلى بخارى، فأمر نوح باستقباله، فأكرمه وأحسن إليه، وكان قد دخل إليه بعمامة، فخلع عليه القلنسوة، وجعله من ندمائه، وزال الخلف.
وكان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث في السنين التي هي فيها كانت، وإنما أوردناها متتابعة في هذه السنة لئلا يتفرق ذكرها.
هذا الذي ذكره أصحاب التواريخ من الخراسانيين، وقد ذكر العراقيون هذه الحوادث على غير هذه السياقة، وأهل كل بلد أعلم بأحوالهم، ونحن نذكر ما ذكره العراقيون مختصراً، قالوا: إن أبا علي لما سار نحو الري في عساكر خراسان كتب ركن الدولة إلى أخيه عماد الدولة يستمده، فأرسل إليه يأمره بمفارقة الري والوصول إليه لتدبير له في ذلك، ففعل ركن الدولة ذلك.

ودخل أبو علي الري، فكتب عماد الدولة إلى نوح سرّاً يبذل له في الري في كل سنة زيادة على ما بذله أبو علي مائة ألف دينار، ويعجل ضمان سنة، ويبذل من نفسه مساعدته على أبي علي حتى يظفر به وخوفه منه، فاستشار نوح أصحابه، وكانوا يحسدون أبا علي ويعادونه، فأشاروا عليه بإجابته؛ فأرسل نوح إلى ابن بويه من يقرر القاعدة ويقبض المال، فأكرم الرسول ووصله بمال جزيل، وأرسل إلى أبي علي يعلمه خبر هذه الرسالة، وأنه مقيم على عهده ووده، وحذره من غدر الأمير نوح، فأنفذ أبو علي رسوله إلى إبراهيم، وهو بالموصل، يستدعيه ليملكه البلاد، فسار إبراهيم، فلقيه أبو علي بهمذان، وساروا إلى خراسان.
وكتب عماد الدولة إلى أخيه ركن الدولة يأمره بالمبادرة إلى الري، فعاد إليه، واضطربت خراسان، ورد عماد الدولة رسول نوح بغير مال، وقال: أخاف أن أنفذ المال فيأخذه أبو علي؛ وأرسل إلى نوح يحذره من أبي علي ويعده المساعدة عليه، وأرسل إلى أبي علي يعده بإنفاذ العساكر نجدة له، ويشير عليه بسرعة اللقاء، وإن نوحاً سار فالتقى هو وأبو علي بنيسابور، فانهزم نوح وعاد إلى سمرقند، واستولى أبو علي بخارى، وإن أبا علي استوحش من إبراهيم فانقبض عنه.
وجمع نوح العساكر وعاد إلى بخارى، وحارب عمه إبراهيم، فلما التقى الصفان عاد جماعة من قواد إبراهيم إلى نوح، وانهزم الباقون، وأخذ إبراهيم أسيراً، فسمل هو وجماعة من أهل بيته، سلمهم نوح.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اصطلح معز الدولة وأبو القاسم البريدي، وضمن أبو القاسم مدينة واسط وأعمالها منه.
وفيها اشتد الغلاء ببغداد حتى أكل الناس الميتة، والكلاب، والسنانير، وأخذ بعضهم ومعه صبي قد شواه ليأكله، وأكل الناس خروب الشوك فأكثروا منه، وكانوا يسلقون حبه ويأكلونه، فلحق الناس أمراض وأورام في أحشائهم، وكثر فيهم الموت، حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانت الكلاب تأكل لحومهم، وانحدر كثير من أهل بغداد إلى البصرة، فمات أكثرهم في الطريق، ومن وصل منهم مات بعد مديدة يسيرة، وبيعت الدور والعقار بالخبز، فلما دخلت الغلات انحل السعر.
وفيها توفي علي بن عيسى بن داود بن الجراح الوزير وله تسعون سنة، وقد تقدم من أخباره ما يدل على دينه وكفايته.
وفيها توفي أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبدالله الخرقي الفقيه الحنبلي ببغداد، وأبو بكر الشبلي الصوفي، توفي في ذي الحجة، ومحمد بن عيسى أبو عبدالله، ويعرف بابن أبي موسى الفقيه الحنفي، في ربيع الأول.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائةفي هذه السنة، في المحرم، استقر معز الدولة ببغداد، وأعاد المطيع لله إلى دار الخلافة، بعد أن استوثق منه، وقد تقدم ذلك مفصلاً.
وفيها اصطلح معز الدولة وناصر الدولة، وكانت الرسل تتردد بينهما بغير علم من الأتراك التوزونية، وكان ناصر الدولة نازلاً شرقي تكريت، فلما علم الأتراك بذلك ثاروا بناصر الدولة، فهرب منهم وعبر دجلة إلى الجانب الغربي، فنزل على ملهم والقرامطة، فأجاروه، وسيروه ومعه ابن شيرزاد إلى الموصل.
ذكر حرب تكين وناصر الدولةلما هرب ناصر الدولة من الأتراك، ولم يقدروا عليه، اتفقوا على تأمير تكين الشيرازي، وقبضوا على ابن قرابة، وعلى كتاب ناصر الدولة ومن تخلف من أصحابه، وقبض ناصر الدولة على ابن شيرزاد عند وصوله إلى جهينة، ولم يلبث ناصر الدولة بالموصل بل سار إلى نصيبين، ودخل تكين والأتراك إلى الموصل، وساروا في طلبه، فمضى إلى سنجار، فتبعه تكين إليها، فسار ناصر الدولة من سنجار إلى الحديثة، فتبعه تكين.
وكان ناصر الدولة قد كتب إلى معز الدولة يستصرخه، فسير الجيوش إليه فسار ناصر الدولة من الحديثة إلى السن، فاجتمع هناك بعسكر معز الدولة، وفيهم وزيره أبو جعفر الصيمري، وساروا بأسرهم إلى الحديثة لقتال تكين، فالتقوا بها، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم تكين والأتراك بعد أن كادوا يستظهرون، فلما انهزموا تبعهم العرب من أصحاب ناصر الدولة، فأدركوهم وأكثروا القتل فيهم، وأسروا تكين الشيرازي وحملوه إلى ناصر الدولة، فسلمه في الوقت فأعماه، وحمله إلى قلعة من قلاعه فسجنه بها.

وسار ناصر الدولة والصيمري إلى الموصل، فنزلوا شرقيها، وركب ناصر الدولة إلى خيمة الصيمري، فدخل إليه ثم خرج من عنده إلى الموصل، ولم يعد إليه، فحكي عن ناصر الدولة أنه قال: ندمت حين دخلت خيمته، فبادرت وخرجت.
وحكي عن الصيمري أنه قال: لما خرج ناصر الدولة من عندي ندمت حيث لم أقبض عليه؛ ثم تسلم الصيمري بن شيرزاد من ناصر الدولة ألف كر حنطة وشعيراً وغير ذلك.
ذكر استيلاء ركن الدولة على الريلما كان من عساكر خراسان ما ذكرناه من الاختلاف، وعاد أبو علي إلى خراسان، رجع ركن الدولة إلى الري واستولى عليها وعلى سائر أعمال الجبل وأزال عنها الخراسانية، وعظم ملك بني بويه، فأنهم صار بأيديهم أعمال الري، والجبل، وفارس، والأهواز، والعراق، ويحمل إليهم ضمان الموصل، وديار بكر، وديار مضر من الجزيرة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اختلف معز الدولة بن بويه وأبو القاسم بن البريدي والي البصرة، فأرسل معز الدولة جيشاً إلى واسط، فسير إليهم ابن البريدي جيشاً من البصرة في الماء، وعلى الظهر، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم أصحاب البريدي، وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة.
وفيها كان الفداء بالثغور بين المسلمين والروم على يد نصر الثملي أمير الثغور لسيف الدولة بن حمدان، وكان عدة الأسرى ألفين وأربعمائة أسير وثمانين أسيراً من ذكر وأنثى، وفضل للروم على المسلمين مائتان وثلاثون أسيراً لكثرة من معهم من الأسرى، فوفاهم ذلك سيف الدولة.
وفيها، في شعبان، قبض سيف الدولة بن حمدان على أبي إسحاق محمد القراريطي، وكان استكتبه استظهاراً على أبي الفرج محمد بن علي السر من رائي، واستكتب أبا عبدالله محمد بن سليمان بن فهد الموصلي.
وفيها توفي محمد بن إسماعيل بن بحر أبو عبدالله الفارسي، الفقيه الشافعي، في شوال، ومحمد بن يحيى بن عبدالله بن العباس بن محمد بن صول أبو بكر الصولي، وكان عالماً بفنون الآداب والأخبار.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلاثمائة

ذكر استيلاء معز الدولة على البصرة
في هذه السنة سار معز الدولة ومعه المطيع لله إلى البصرة لاستنقاذها من يد أي القاسم عبدالله بن أبي عبدالله البريدي، وسلكوا البرية إليها، فأرسل القرامطة من هجر إلى معز الدولة ينكرون عليه مسيره إلى البرية بغير أمرهم، وهي لهم، فلم يجبهم عن كتابهم، وقال للرسول: قل لهم من أنتم حتى تستأمروا، وليس قصدي من أخذ البصرة غيركم، وستعلمون ما تلقون مني.
ولما وصل معز الدولة إلى الدرهمية استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسم في الرابع والعشرين من ربيع الآخر إلى هجر، والتجأ إلى القرامطة، وملك معز الدولة البصرة، فانحلت الأسعار ببغداد انحلالاً كثيراً.
وسار معز الدولة من البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عماد الدولة، وأقام الخليفة وأبو جعفر الصيمري بالبصرة، وخالف كوركير، وهو من أكابر القواد، على معز الدولة، فسير إليه الصيمري، فقاتله فانهزم كوركير وأخذ أسيراً، فحبسه معز الدولة بقلعة رامهرمز، ولقي معز الدولة أخاه عماد الدولة بأرجان في شعبان، وقبل الأرض بين يديه، وكان يقف قائماً عنده، فيأمره بالجلوس، فلا يفعل، ثم عاد إلى بغداد، وعاد المطيع أيضاً إليها، وأظهر معز الدولة أنه يريد أن يسير إلى الموصل، فترددت الرسل بينه وبين ناصر الدولة، واستقر الصلح وحمل المال إلى معز الدولة فسكت عنه.
ذكر مخالفة محمد بن عبد الرزاق بطوسكان محمد بن عبد الرزاق بطوس وأعمالها، وهي في يده ويد نوابه، فخالف على الأمير نوح بن نصر الساماني، وكان منصور بن قراتكين، صاحب جيش خراسان، بمرو عند نوح، فوصل إليهما وشمكير منهزماً من جرجان، وقد غلبه عليها الحسن بن الفيرزان، فأمر نوح منصوراً بالمسير إلى نيسابور، ومحاربة محمد بن عبد الرزاق وأخذ ما بيده من الأعمال، ثم يسير مع وشمكير إلى جرجان، فسار منصور ووشمكير إلى نيسابور، وكان بها محمد بن عبد الرزاق، ففارقها نحو أستوا، فاتبعه منصور، فسار محمد إلى جرجان، وكاتب ركن الدولة بن بويه، واستأمن إليه، فأمره بالوصول إلى الري.

وسار منصور من نيسابور إلى طوس، وحصروا رافع بن عبد الرزاق بقلعة شميلان، فاستأمن بعض أصحاب رافع إليه، فهرب رافع من شميلان إلى حصن درك، فاستولى منصور على شميلان، وأخذ ما فيها من مال وغيره، واحتمى رافع بدرك، وبها أهله ووالدته، هي على ثلاثة فراسخ من شميلان، فأخرب منصور شميلان، وسار إلى درك فحاصرها، وحاربهم عدة أيام، فتغيرت المياه بدرك، فاستأمن محمد بن عبد الرزاق إلى منصور في جماعة من بني عمه وأهله، وعمد أخوه رافع إلى الصامت من الأموال، والجواهر، وألقاها في البسط إلى تحت القلعة، ونزل هو وجماعة فأخذوا تلك الأموال وتفرقوا في الجبال.
واحتوا منصور على ما كان في قلعة درك، وأنفذ عيال محمد بن عبد الرزاق ووالدته إلى بخارى فاعتقلوا بها، وأما محمد بن عبد الرزاق فإنه سار من جرجان إلى الري، وبها ركن الدولة بن بويه، فأكرمه ركن الدولة، وأحسن إليه، وحمل إليه شيئاً كثيراً من الأموال وغيرها، وسرحه إلى محاربة المرزبان على ما نذكره.
ذكر ولاية الحسن بن علي صقليةفي هذه السنة استعمل المنصور الحسن بن علي بن أبي الحسن الكلي على جزيرة صقلية، وكان له محل كبير عند المنصور، وله أثر عظيم في قتال أبي يزيد.
وكان سبب ولايته أن المسلمين كانوا قد استضعفهم الكفار بها، أيام عطاف لعجزه وضعفه، وامتنعوا من إعطاء مال الهدنة؛ وكان بصقلية بنو الطبري من أعيان الجماعة، ولهم أتباع كثيرون، فوثبوا بعطاف أيضاً، وأعيانهم أهل المدينة عليه يوم عيد الفطر سنة خمس وثلاثين وقتلوا جماعة من رجاله، وأفلت عطاف هارباً بنفسه إلى الحصن، فأخذوا أعلامه وطبوله وانصرفوا إلى ديارهم، فأرسل أبو عطاف إلى المنصور يعلمه الحال ويطلب المدد.
فلما علم المنصور ذلك استعمل على الولاية الحسن بن علي، وأمره بالمسير، فسار في المراكب، فأرسى بمدينة مازر، فلم يلتفت إليه أحد، فبقي يومه، فأتاه في الليل جماعة من أهل أفريقية، وكتامة، وغيرهم، وذكروا أنهم خافوا الحضور عنده من ابن الطبري ومن اتفق معه من أهل البلاد، وأن علي ابن الطبري، ومحمد بن عبدون، وغيرهما قد ساروا إلى أفريقية، وأوصوا بنيهم ليمنعوه من دخول البلد، ومفارقة مراكبه إلى أن تصل كتبهم بما يلقون من المنصور، وقد مضوا يطلبون أن يولي المنصور غيره.
ثم أتاه نفر من أصحاب ابن الطبري ومن معه ليشاهدوا من معه، فرأوه في قلة، فطمعوا فيه، وخادعوه وخادعهم، ثم عادوا إلى المدينة، وقد وعدهم أنه يقيم بمكانه إلى أن يعودوا إليه، فلما فارقوه جد السير إلى المدينة قبل أن يجمعوا أصحابهم ويمنعوه، فلما انتهى إلى البيضاء أتاه حاكم البلد وأصحاب الدواوين، وكل من يريد العافية، فلقيهم وأكرمهم، وسألهم عن أحوالهم، فلما سمع إسماعيل بن الطبري بخروج هذا الجمع إليه اضطر إلى الخروج إليه، فلقيه الحسن وأكرمه وعاد إلى داره، ودخل الحسن البلد، ومال إليه كل منحرف عن بني الطبري ومن معهم.
فلما رأى ابن الطبري ذلك أمر رجلاً صقلياً، فدعا بعض عبيد الحسن وكان موصوفاً بالشجاعة، فلما دخل بيته خرج الرجل يستغيث ويصيح ويقول: إن هذا دخل بيتي، وأخذ امرأتي بحضرتي غصباً، فاجتمع أهل البلد لذلك، وحركهم ابن الطبري وخوفهم وقال: هذا فعلهم؛ ولم يتمكنوا من البلد، وأمر الناس بالحضور عند الحسن ظناً منه أنه لا يعاقب مملوكه، فيثور الناس به، فيخرجونه من البلد.
فلما اجتمع الناس، وذلك الرجل يصيح ويستغيث، أحضره الحسن عنده، وسأله عن حاله، فحلفه بالله تعالى على ما يقول، فحلف، فأمر بقتل الغلام، فقتل، فسر أهل البلد وقالوا: الآن طابت نفوسنا، وعلمنا أن بلدنا يتعمر، ويظهر فيه العدل؛ فانعكس الأمر على ابن الطبري، وأقام الحسن وهو خائف منهم.

ثم إن المنصور أرسل إلى الحسن يعرفه أنه قبض على علي بن الطبري، وعلى محمد بن عبدون، ومحمد بن جنا، ومن معهم، ويأمره بالقبض على إسماعيل بن الطبري، ورجاء بن جنا ومحمد.. ومخلفي الجماعة المقبوضين، فاستعظم الأمر، ثم أرسل إلى ابن الطبري يقول له: كنت قد وعدتني أن نتفرج في البستان الذي لك، فتحضر لنمضي إليه؛ وأرسل إلى الجماعة على لسان ابن الطبري يقول: تحضرون لنمضي مع الأمير إلى البستان، فحضروا عنده، وجعل يحادثهم ويطول إلى أن أمسوا، فقال: قد فات الليل، وتكونون أضيافنا؛ فأرسل إلى أصحابهم يقول: إنهم الليلة في ضيافة الأمير، فتعودون إلى بيوتهم إلى الغد؛ فمضى أصحابهم، فقبض عليهم، وأخذ جميع أموالهم، وكثر جمعه، واتفق الناس عليه وقويت نفوسهم، فلما رأى الروم ذلك أحضر الراهب مال الهدنة لثلاث سنين.
ثم إن ملك الروم أرسل بطريقاً في البحر، في جيش كثير، إلى صقلية، واجتمع هو والسردغوس، فأرسل الحسن بن علي إلى المنصور يعرفه الحال، فأرسل إليه أسطولاً فيه سبعة آلاف فارس، وثلاثة آلاف وخمسمائة راجل، سوى البحرية، وجمع الحسن إليهم جمعاً كثيراً، وسار في البر والبحر، فوصل إلى مسيني، وعدت العساكر الإسلامية، إلى ريو، وبث الحسن السرايا في أرض قلورية، ونزل الحسن على جراجة وحاصرها أشد حصار، وأشرفوا على الهلاك من شدة العطش، فوصلهم الخبر أن الروم قد زحفوا إليه، فصالح أهل جراجة على مال أخذه منهم، وسار إلى لقاء الروم، ففروا من غير حرب إلى مدينة بارة، ونزل الحسن على قلعة قسانة، وبث سراياه إلى قلورية وأقام عليها شهراً، فسألوه الصلح، فصالحهم على مال أخذه منهم.
ودخل الشتاء، فرجع الجيش إلى مسيني، وشتى الأسطول بها، فأرسل المنصور يأمره بالرجوع إلى قلورية، فسار الحسن، وعدا المجاز إلى جراجة، فالتقى المسلمون والسردغوس ومعه الروم يوم عرفه سنة أربعين وثلاثمائة، فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس، فانهزمت الروم، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، وأكثروا القتل فيهم، وغنموا أثقالهم وسلاحهم ودوابهم.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين فقصد الحسن جراجة فحصرها، فأرسل إليه قسطنطين ملك الروم يطلب منه الهدنة، فهادنه، وعاد الحسن إلى ريو وبنى بها مسجداً كبيراً في وسط المدينة، وبنى في أحد أركانه مأذنة، وشرط على الروم أنهم لا يمنعون المسلمين فهو آمن سواء كان مرتداً أو مقيماً على دينه، وإن أخرجوا حجراً منه هدمت كنائسهم كلها بصقلية وإفريقية، فوفى الروم بهذه الشروط كلها ذلة وصغاراً، وبقي الحسن بصقلية إلى أن توفي المنصور وملك المعز، فسار إليه وكان ما نذكره.
ذكر عصيان جمان بالرحبة وما كان منهكان جمان هذا من أصحاب توزون، وصار في جمة ناصر الدولة بن حمدان، فلما كان ناصر الدولة ببغداد، في الجانب الشرقي، وهو يحارب معز الدولة ضم ناصر الدولة جميع الديلم الذين معه إلى جمان لقلة ثقته بهم، وقلده الرحبة وأخرجه إليها، فعظم أمره هناك، وقصده الرجال، فأظهر العصيان على ناصر الدولة، وعزم على التغلب على الرقة وديار مضر، فسار إلى الرقة فحصرها سبعة عشر يوماً، فحاربه أهلها وهزموه، ووثب أهل الرحبة بأصحابه وعماله، فقتلوهم لشدة ظلمهم، وسوء معاملتهم.
فلما عاد من الرقة وضع السيف في أهلها فقتل منهم مقتلة عظيمة، فأرسل إليه ناصر الدولة حاجبه ياروخ في جيش، فاقتتلوا على شاطئ الفرات، فانهزم جمان، فوقع في الفرات فغرق، واستأمن أصحابه إلى ياروخ، وأخرج جمان من الماء فدفن مكانه.
ذكر ملك ركن الدولة طبرستان وجرجانوفيها، في ربيع الأول، اجتمع ركن الدولة بن بويه، والحسن بن الفيرزان، وقصدا بلاد وشمكير، فالتقاهما وشمكير وانهزم منهما، وملك ركن الدولة طبرستان، وسار منها إلى جرجان فملكها، واستأمن من قواد وشمكير مائة وثلاثة عشر قائداً، فأقام الحسن بن الفيرزان بجرجان، ومضى وشمكير إلى خراسان مستجيراً ومستنجداً لإعادة بلاده، فكان ما نذكره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، ظهر كوكب له ذنب طوله نحو ذراعين في المشرق، وبقي نحو عشرة أيام واضمحل.

وفيها مات سلامة الطولوني الذي كان حاجب الخلفاء، فأخذ ماله وعياله، وسار إلى الشام أيام المستكفي، فمات هناك، ولما سار عن بغداد أخذ ماله في الطريق ومات هو الآن، فذهبت نعمته ونفسه حيث ظن السلامة، ولقد أحسن القائل حيث يقول:
وإذا خشيت من الأمور مقدّراً ... فهربت منه، فنحوه تتقدّم
وفيها توفي محمد بن أحمد بن حماد أبو العباس الأثرم المقرئ.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة

ذكر ملك معز الدولة الموصل
وعوده عنها
في هذه السنة سار معز الدولة من بغداد إلى الموصل قاصداً لناصر الدولة، فلما سمع ناصر الدولة بذلك سار عن الموصل إلى نصيبين، ووصل معز الدولة فملك الموصل في شهر رمضان، وظلم أهلها وعسفهم، وأخذ أموال الرعايا، فكثر الدعاء عليه.
وأراد معز الدولة أن يملك جميع بلاد ناصر الدولة، فأتاه الخبر من أخيه ركن الدولة أن عساكر خراسان قد قصدت جرجان والري، ويستمده ويطلب منه العساكر، فاضطر إلى مصالحة ناصر الدولة، فترددت الرسل بينهما في ذلك، واستقر الصلح بينهما على أن يؤدي ناصر الدولة عن الموصل، وديار الجزيرة كلها، والشام، كل سنة ثمانية آلاف ألف درهم، ويخطب في بلاده لعماد الدولة، وركن الدولة، ومعز الدولة بني بويه، فلما استقر الصلح عاد معز الدولة إلى بغداد فدخلها في ذي الحجة من السنة.
ذكر مسير عسكر خراسان إلى جرجانفي هذه السنة سار منصور بن قراتكين في جيوش خراسان إلى جرجان، صحبة وشمكير، وبها الحسن بن الفيرزان، وكان منصور منحرفاً عن وشمكير في السير، فتساهل لذلك مع الحسن، وصالحه وأخذ ابنه رهينة.
ثم بلغ منصوراً أن الأمير نوحاً اتصل بابنة ختكين، مولى قراتكين، وهو صاحب بست والرخج، فساء ذلك منصوراً وأقلقه، وكان نوح قد زوج قبل ذلك بنتاً لمنصور من بعض مواليه، اسمه فتكين، فقال منصور: يتزوج الأمير بابنة مولاي، وتزوج ابنتي من مولاه ؟ فحمله ذلك على مصالحة الحسن بن الفيرزان وأعاد عليه ابنه، وعاد عنه إلى نيسابور، وأقام الحسن بزوزن، وبقي وشمكير بجرجان.
ذكر مسير المرزبان إلى الريفي هذه السنة سار المرزبان محمد بن مسافر، صاحب أذربيجان، إلى الري.
وسبب ذلك أنه بلغه خروج عساكر خراسان إلى الري، وأن ذلك يشغل ركن الدولة عنه، ثم إنه كان أرسل رسولاً إلى معز الدولة، فحلق معز الدولة لحيته، وسبه وسب صاحبه، وكان سفيهاً، فعظم ذلك على المرزبان، وأخذ في جميع العساكر، واستأمن إليه بعض قواد ركن الدولة، وأطمعه في الري، وأخبره أن من وراءه من القواد يريدونه، فطمع لذلك، فراسله ناصر الدولة يعد المساعدة، ويشير عليه أن يبتدئ ببغداد، فخالفه، ثم أحضر أباه وأخاه وهسوذان، واستشارهما في ذلك، فنهاه أبوه عن قصد الري، فلم يقبل، فلما ودعه بكى أبوه وقال: يا بني أين أطلبك بعد يومي هذا ؟ قال: إما في دار الإمارة بالري، وإما بين القتلى.
فلما عرف ركن الدولة خبره كتب إلى أخويه عماد الدولة ومعز الدولة يستمدهما، فسير عماد الدولة ألفي فارس، وسير إليه معز الدولة جيشاً مع سبكتكين التركي، وأنفذ عهداً من المطيع لله لركن الدولة بخراسان، فلما صاروا بالدينور خالف الديلم على سبكتكين، وكبسوه ليلاً، فركب فرس النوبة ونجا، واجتمع الأتراك عليه، فعلم الديلم أنهم لا قوة لهم به، فعادوا إليه وتضرعوا، فقبل عذرهم.
وكان ركن الدولة قد شرع مع المرزبان في المخادعة، وإعمال الحيلة، فكتب إليه يتواضع له ويعظمه، ويسأله أن ينصرف عنه على شرط أن يسلم إليه ركن الدولة زنجان، وأبهر، وقزوين، وترددت الرسل في ذلك إلى أن وصله المدد من عماد الدولة ومعز الدولة، وأحضر معه محمد بن عبد الرزاق، وأنفذ له الحسن بن الفيرزان عسكراً مع محمد بن ما كان، فلما كثر جمعه قبض على جماعة ممن كان يتهمهم من قواده وسار إلى قزوين، فعلم المرزبان عجزه عنه، وأنف من الرجوع، فالتقيا، فانهزم عسكر المرزبان، وأخذ أسيراً، وحمل إلى سميرم فحبس بها، وعاد ركن الدولة، ونزل محمد بن عبد الرزاق بنواحي أذربيجان.

وأما أصحاب المرزبان فإنهم اجتمعوا على أبيه محمد بن مسافر، وولوه أمرهم، فهرب منه ابنه وهسوذان إلى حصن له، فأساء محمد السيرة مع العسكر، فأرادوا قتله، فهرب إلى ابنه وهسوذان، فقبض عليه، وضيق عليه حتى مات، ثم تحير وهسوذان في أمره، فاستدعى ديسم الكردي لطاعة الأكراد له، وقواه، وسيره إلى محمد بن عبد الرزاق، فالتقيا، فانهزم ديسم، وقوي ابن عبد الرزاق فأقام بنواحي أذربيجان يجبي أموالها ثم رجع إلى الري سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وكاتب الأمير نوحاً، وأهدى له هدية، وسأله الصفح، فقبل عذره، وكاتب وشمكير بمهادنته، فهادنه، ثم عاد محمد إلى طوس سنة تسع وثلاثين لما خرج منصور إلى الري.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار سيف الدولة بن حمدان إلى بلد الروم، فلقيه الروم، واقتتلوا، فانهزم سيف الدولة، وأخذ الروم مرعش، وأوقعوا بأهل طرسوس. وفيها قبض معز الدولة على أسفهدوست وهو خال معز الدولة، وكان من أكابر قواده، وأقر الناس إليه. وكان سبب ذلك أنه كان يكثر الدالة عليه، ويعيبه في كثير من أفعاله، ونقل عنه أنه كان يراسل المطيع لله في قتل معز الدولة، فقبض عليه، وسيره إلى رامهرمز فسجنه بها.
وفيها استأمن أبو القاسم البريدي إلى معز الدولة، وقدم بغداد فلقي معز الدولة، فأحسن إليه وأقطعه.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة

ذكر حال عمران بن شاهين
في هذه السنة استفحل أمر عمران بن شاهين، وقوي شأنه، وكان ابتداء حاله أنه من أهل الجامدة، فجبى جبايات، فهر إلى البطيحة خوفاً من السلطان، وأقام بين القصب والآجام، واقتصر على ما يصيده من السمك وطيور الماء قوتاً، ثم صار يقطع الطريق على من يسلك البطيحة، واجتمع إليه جماعة من الصيادين، وجماعة من اللصوص، فقوي بهم، وحمى جانبه من السلطان، فلما خاف أن يقصد استأمن إلى أبي القاسم البريدي، فقلده حماية الجامدة ونواحي البطائح، وما زال يجمعه الرجال إلى أن كثر أصحابه، وقوي واستعد بالسلاح، واتخذ معاقل على التلول التي بالبطيحة، وغلب على تلك النواحي.
فلما اشتد أمره سير معز الدولة إلى محاربته وزيره أبا جعفر الصيمري، فسار إليه في الجيوش، وحاربه مرة بعد مرة، واستأسر أهله وعياله، وهرب عمران بن شاهين واستتر، وأشرف على الهلاك.
فاتفق أن عماد الدولة بن بويه مات، واضطرب جيشه بفارس، فكتب معز الدولة إلى الصيمري بالمبادرة إلى شيراز لإصلاح الأمور بها، فترك عمران وسار إلى شيراز، على ما نذكره في موت عماد الدولة، فلما سار الصيمري عن البطائح ظهر عمران بن شاهين من استتاره، وعاد إلى أمره، وجمع من تفرق عنه من أصحابه، وقوي أمره، وسنذكر من أخباره فيما بعد ما تدعو الحاجة إليه.
ذكر موت عماد الدولة بن بويهفي هذه السنة مات عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه بمدينة شيراز في جمادى الآخرة، وكانت علته التي مات بها قرحة في كليته طالت به، وتوالت عليه الأسقام والأمراض، فلما أحس بالموت أنفذ إلى أخيه ركن الدولة يطلب منه أن ينفذ إليه ابنه عضد الدولة فناخسرو ليجعله ولي عهده، ووارث مملكته بفارس، لأن عماد الدولة لم يكن له ولد ذكر، فأنفذ ركن الدولة ولده عضد الدولة، فوصل في حياة عمه قبل موته بسنة، وسار في جملة ثقات أصحاب ركن الدولة، فخرج عماد الدولة إلى لقائه في جميع عسكره، وأجلسه في داره على السرير، ووقف هو بين يديه، وأمر الناس بالسلام على عضد الدولة والانقياد له، وكان يوماً عظيماً مشهوداً.
وكان في قواد عماد الدولة جماعة من الأكابر يخافهم، ويعرفهم بطلب الرئاسة، وكانوا يرون أنفسهم أكبر منه نفساً وبيتاً، وأحق بالتقدم، وكان يداريهم، فلما جعل ولد أخيه في الملك خافهم عليه، فأفناهم بالقبض، وكان منهم قائد كبير يقال له شيرنحين، فقبض عليه، فشفع فيه أصحابه وقواده، فقال لهم: أني أحدثكم عنه بحديث فإنه رأيتم أن أطلقه فعلت؛ فحدثهم أنه كان في خراسان في خدمة نصر بن أحمد، ونحن شرذمة قليلة من الديلم، ومعنا هذا، فجلس يوماً نصر وفي خدمته من مماليكه ومماليك أبيه بضعة عشر ألفاً سوى سائر العسكر، فرأيت شيرنحين هذا قد جرد سكيناً معه ولفه في كسائه، فقلت: ما هذا ؟ فقال: أريد أن أقتل هذا الصبي، يعني نصراً، ولا أبالي بالقتل بعده، فإني قد أنفت نفسي من القيام في خدمته.

وكان عمر نصر بن أحمد يومئذ عشرين سنة، وقد خرجت لحيته، فعلمت أنه إذا فعل ذلك لم يقتل وحده بل نقتل كلنا، فأخذت بيده وقلت له: بيني وبينك حديث؛ فمضيت به إلى ناحية، وجمعت الديلم، وحدثتم حديثه، فأخذوا منه السكين، فتريدون مني بعد أن سمعتم حديثه في معنى نصر أن أمكنه من الوقوف بين يدي هذا الصبي، يعني ابن أخي ؟ فأمسكوا عنه، وبقي محبوساً حتى مات في محبسه.
ومات عماد الدولة وبقي عضد الدولة بفارس، فاختلف أصحابه، فكتب معز الدولة إلى وزيره الصيمري بالمسير إلى شيراز، وترك محاربة عمران بن شاهين، فسار إلى فارس، ووصل ركن الدولة أيضاً، واتفقا على تقرير قاعدة عضد الدولة، وكان ركن الدولة قد استخلف على الري علي بن كامة، وهو من أعيان أصحابه، ولما وصل ركن الدولة إلى شيراز ابتدأ بزيارة قبر أخيه بإصطخر، فمشى حافياً حاسراً ومعه العساكر على حاله، ولزم القبر ثلاثة أيام إلى أن سأله القواد الأكابر ليرجع إلى المدينة، فرجع إليها، وأقام تسعة أشهر، وأنفذ إلى أخيه معز الدولة شيئاً كثيراً من المال والسلاح وغير ذلك.
وكان عماد الدولة في حياته هو أمير الأمراء، فلما مات صار أخوه ركن الدولة أمير الأمراء؛ وكان معز الدولة هو المستولي على العراق والخلافة، وهو كالنائب عنهما؛ وكان عماد الدولة كريماً حليماً عاقلاً حسن السياسة للملك والرعية، وقد تقدم من أخباره ما يدل على عقله وسياسته.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، قلد أبو السائب عتبة بن عبدالله قضاء القضاة ببغداد.
وفيها، في ربيع الآخر، مات المستكفي بالله في دار السلطان، وكانت علته نفث الدم.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة

ذكر موت الصيمري ووزارة المهلبي
في هذه السنة توفي أبو جعفر محمد بن أحمد الصيمري، وزير معز الدولة بأعمال الجامدة، وكان قد عاد من فارس إليها، وأقام يحاصر عمران ابن شاهين، فأخذته حمى حادة مات منها.
واستوزر معز الدولة أبا محمد الحسن بن محمد المهلبي في جمادى الأولى وكان يخلف الصيمري بحضرة معز الدولة، فعرف أحوال الدولة والدواوين، فامتحنه معز الدولة، فرأى فيه ما يريده من الأمانة، والكفاية، والمعرفة بمصالح الدولة، وحسن السيرة، فاستوزره، ومكنه من وزارته فأحسن السيرة، وأزال كثيراً من المظالم، خصوصاً بالبصرة، فإن البريديين كانوا قد أظهروا فيها كثيراً من المظالم، فأزالها، وقرب أهل العلم والأدب، وأحسن إليهم، وتنقل في البلاد لكشف ما فيها من المظالم، وتخليص الأموال، فحسن أثره، رحمه الله تعالى.
ذكر غزو سيف الدولة بلاد الرومفي هذه السنة دخل سيف الدولة بن حمدان إلى بلاد الروم، فغزا، وأوغل فيها، وفتح حصوناً كثيراً، وسبى وغنم، فلما أراد الخروج من بلد الروم أخذوا عليه المضايق فهلك من كان معه من المسلمين أسراً وقتلاً، واسترد الروم الغنائم والسبي، وغنموا أثقال المسلمين وأموالهم، ونجا سيف الدولة في عدد يسير.
ذكر إعادة القرامطة الحجر الأسودفي هذه السنة أعاد القرامطة الحجر الأسود إلى مكة، وقالوا: أخذناه بأمر، وأعدناه بأمر.
وكان بجكم قد بذل لهم في رده خمسين ألف دينار، فلم يجيبوه، وردوه الآن بغير شيء في ذي القعدة، فلما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة، وعلقه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه إلى مكة، وكانوا أخذوه من ركن البيت الحرام سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة.
ذكر مسير الخراسانيين إلى الريفي هذه السنة سار منصور بن قراتكين من نيسابور إلى الري في صفر، أمره الأمير نوح بذلك، وكان ركن الدولة ببلاد فارس على ما ذكرناه، فوصل منصور إلى الري وبها علي بن كامة، خليفة ركن الدولة، فسار علي عنها إلى أصبهان، ودخل منصور الري واستولى عليها، وفرق العساكر في البلاد، فملكوا بلاد الجبل إلى قرميسين، وأزالوا عنها نواب ركن الدولة، واستولوا على همذان وغيرها.

فبلغ الخبر إلى ركن الدولة، وهو بفارس، فكتب إلى أخيه معز الدولة يأمره بإنفاذ عسكر يدفع تلك العساكر عن النواحي المجاورة للعراق، فسير سبكتكين الحاجب في عسكر ضخم من الأتراك، والديلم، والعرب، فلما سار سبكتكين عن بغداد خلف أثقاله، وأسرى جريدة إلى من بقرميسين من الخراسانيين، فكبسهم وهم غارون، فقتل فيهم، وأسر مقدمهم من الحمام واسمه بجكم الخمارتكيني، فأنفذه مع الأسرى إلى معز الدولة، فحبسه مدة ثم أطلقه. فلما بلغ الخراسانية ذلك اجتمعوا إلى همذان، فسار سبكتكين نحوهم، ففارقوا همذان ولم يحاربوه، ودخل سبكتكين همذان، وأقام بها إلى أن ورد عليه ركن الدولة في شوال.
وسار منصور من الري في العساكر نحو همذان، وبها ركن الدولة، فلما بقي بينهما مقدار عشرين فرسخاً عدل منصور إلى أصبهان، ولو قصد همذان لانحاز ركن الدولة عنه، وكان ملك البلاد بسبب اختلاف كان في عسكر ركن الدولة، ولكنه عدل عنه لأمر يريده الله تعالى، وتقدم ركن الدولة إلى سبكتكين بالمسير في مقدمته، فلما أراد المسير شغب عليه بعض الأتراك مرة بعد أخرى، فقال ركن الدولة: هؤلاء أعداؤنا، ومعنا، والرأي أن نبدأ بهم؛ فواقعهم واقتتلوا، فانهزم الأتراك.
وبلغ الخبر إلى معز الدولة، فكتب إلى ابن أبي الشوك الكردي وغيره يأمرهم بطلبهم والإيقاع بهم، فطلبوهم، وأسروا منهم وقتلوا، ومضى من سلم منهم إلى الموصل، وسار ركن الدولة نحو أصبهان، ووصل ابن قراتكين إلى أصبهان، فانتقل من كان بها من أصحاب ركن الدولة، وأهله وأسبابه، وركبوا الصعب والذلول، حتى البقر والحمير، وبلغ كراء الثور والحمار إلى خان لنجان مائة درهم، وهي على تسعة فراسخ من أصبهان، فلم يمكنهم مجاورة ذلك الموضع، ولو سار إليهم منصور لغنمهم، وأخذ ما معهم، وملك ما وراءهم، إلا أنه دخل أصبهان وأقام بها.
ووصل ركن الدولة، فنزل بخان لنجان، وجرت بينهما حروب عدة أيام، وضاقت الميرة على الطائفتين، وبلغ بهم الأمر إلى أن ذبحوا دوابهم، ولو أمكن ركن الدولة الانهزام لفعل، ولكنه تعذر عليه ذلك، واستشار وزيره أبا الفضل بن العميد في بعض الليالي في الهرب، فقال له: لا ملجأ لك إلا الله تعالى، فانو للمسلمين خيراً، وصمم العزم على حسن السيرة، والإحسان إليهم، فإن الحيل البشرية كلها تقطعت بنا، وأن انهزمنا تبعونا وأهلكونا وهم أكثر منا، فلا يفلت منا أحد؛ فقال له: قد سبقتك إلى هذا.
فلما كان الثلث الأخير من الليل أتاهم الخبر أن منصوراً وعسكره قد عادوا إلى الري وتركوا خيامهم، وكان سبب ذلك أن الميرة والعلوفة ضاقت عليهم أيضاً، إلا أن الديلم كانوا يصبرون، ويقنعون بالقليل من الطعام، وإذا ذبحوا دابة أو جملاً اقتسمه الخلق الكثير منهم، وكان الخراسانية بالضد منهم لا يصبرون، ولا يكفيهم القليل، فشغبوا على منصور، واختلفوا، وعادوا إلى الري، فكان عودهم في المحرم سنة أربعين، فأتى الخبر ركن الدولة فلم يصدقه حتى تواتر عنده، فركب هو وعسكره، واحتوى على ما خلفه الخراسانية.
حكى أبو الفضل بن العميد قال: استدعاني ركن الدولة تلك الليلة، الثلث الأخير، وقال لي: قد رأيت الساعة في منامي كأني على دابتي فيروز، وقد انهزم عدونا، وأنت تسير إلى جانبي، وقد جاءنا الفرج من حيث لا نحتسب، فمددت عيني، فرأيت على الأرض خاتماً، فأخذته، فإذا فصه من فيروزج، فجعلته في إصبعي، وتبركت به، وانتبهت وقد أيقنت بالظفر، فإن الفيروزج معناه الظفر، ولذلك لقب الدابة فيروز.
قال ابن العميد: فأتانا الخبر والبشارة بأن العدو قد رحل، فما صدقنا حتى تواترت الأخبار، فركبنا، ولا نعرف سبب هربهم، وسرنا حذرين من كمين، وسرت إلى جانب ركن الدولة وهو على فرسه فيروز، فصاح ركن الدولة بغلام بين يديه: ناولني ذلك الخاتم؛ فأخذ خاتماً من الأرض فناوله إياه، فإذا هو فيروزج، فجعله في أصبعه وقال: هذا تأويل رؤياي، وهذا الخاتم الذي رأيت منذ ساعة. وهذا من أحسن ما يحكى وأعجبه.
ذكر أخبار عمران بن شاهين وانهزام عساكر معز الدولة

وقد ذكرنا حال عمران بن شاهين، بعد مسير الصيمري عنه، وأنه زاد قوة وجرأة، فأنفذ معز الدولة إلى قتاله روزبهان، وهو من أعيان عسكره، فنازله وقاتله، فطاوله عمران، وتحصن منه في مضايق البطيحة، فضجر روزبهان، وأقدم عليه طالباً للمناجزة، فاستظهر عليه عمران، وهزمه وأصحابه، وقتل منهم، وغنم جميع ما معهم من السلاح، وآلات الحرب، فقوي بها، وتضاعفت قوته، فطمع أصحابه في السلطان، فصاروا إذا اجتاز بهم أحد من أصحاب السلطان يطلبون منه البذرقة والخفارة، فإن أعطاهم، وإلا ضربوه واستخفوا به وشتموه.
وكان الجند لا بد لهم من العبور عليهم إلى ضياعهم ومعايشهم بالبصرة وغيرها، ثم انقطع الطريق إلى البصرة إلا على الظهر، فشكا الناس ذلك إلى معز الدولة، فكتب إلى المهلبي بالمسير إلى واسط لهذا السبب، وكان بالبصرة، فأصعد إليها، وأمده معز الدولة بالقواد والأجناد والسلاح، وأطلق يده في الإنفاق، فزحف إلى البطيحة وضيق على عمران، وسد المذاهب عليه، فانتهى إلى المضايق لا يعرفها إلا عمران وأصحابه، وأحب روزبهان أن يصيب المهلبي ما أصابه من الهزيمة، ولا يستبد بالظفر والفتح، وأشار على المهلبي بالهجوم على عمران، فلم يقبل منه، فكتب إلى معز الدولة يعجز المهلبي ويقول: إنه يطاول لينفق الأموال ويفعل ما يريد؛ فكتب معز الدولة بالعتب والاستبطاء، فترك المهلبي الحزم، وما كان يريد أن يفعله، ودخل بجميع عسكره، وهجم على مكان عمران، وكان قد جعل الكمناء في تلك المضايق، وتأخر روزبهان ليسلم عند الهزيمة.
فلما تقدم المهلبي خرج عليه وعلى أصحابه الكمناء، ووضعوا فيهم السلاح، فقتلوا، وغرقوا، وأسروا، وانصرف روزبهان سالماً هو وأصحابه، وألقى المهلبي نفسه في الماء فنجا سباحةً، وأسر عمران القواد والأكابر، فاضطر معز الدولة إلى مصالحته، وإطلاق من عنده من أهل عمران وإخوته، فأطلق عمران من في أسره من أصحاب معز الدولة، وقلده معز الدولة البطائح، فقوي واستفحل أمره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، ليلة يوم السبت رابع عشر ذي الحجة، طلع القمر منكسفاً، وانكسف جميعه.
وفيها، في المحرم، توفي أبو بكر محمد بن أحمد بن قرابة بالموصل، وحمل تابوته إلى بغداد.
وفيها توفي أبو نصر محمد بن محمد الفارابي، الحكيم الفيلسوف، صاحب التصانيف فيها، وكان موته بدمشق، وكان تلميذ يوحنا بن حيلان، وكانت وفاة يوحنا أيام المقتدر بالله.
وفيها مات أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي، وقيل سنة أربعين.
ثم دخلت سنة أربعين وثلاثمائة

ذكر وفاة منصور بن قراتكين
وأبي المظفر بن محتاج
في هذه السنة مات منصور بن قراتكين، صاحب الجيوش الخراسانية، في شهر ربيع الأول، بعد عوده من أصبهان إلى الري، فذكر العراقيون أنه أدمن الشرب عدة أيام بلياليها، فمات فجأةً، وقال الخراسانيون إنه مرض ومات، والله أعلم.
ولما مات رجعت العساكر الخراسانية إلى نيسابور، وحمل تابوت منصور، ودفن إلى جانب والده باسبيجاب.
ومن عجيب ما يحكى أن منصوراً لما سار من نيسابور إلى الري سير غلاماً له إلى اسبيجاب ليقيم في رباط والده قراتكين الذي فيه قبره، فلما ودعه قال. كأنك بي قد حملت في تابوت إلى تلك البرية؛ فكان كما قال بعد قليل، مات وحمل تابوته إلى ذلك الرباط، ودفن عند قبر والده.
وفيها توفي أبو المظفر بن أبي علي بن محتاج ببخارى، كان قد ركب دابة أنفذها إليه أبوه، فألقته وسقطت عليه فهشمته، ومات من يومه، وذلك في ربيع الأول، وعظم موته على الناس كافة، وشق موته على الأمير نوح، وحمل إلى الصغانيان إلى والده أبي علي وكان مقيماً بها.
ذكر عود أبي علي إلى خراسانوفي هذه السنة أعيد أبو علي بن محتاج إلى قيادة الجيوش بخراسان، وأمر بالعود إلى نيسابور.

وكان سبب ذلك أن منصور بن قراتكين كان قد تأذى بالجند، واستصعب إيالتهم، وكانوا قد استبدوا بالأمور دونه، وعاثوا في نواحي نيسابور، فتواترت كتبه إلى الأمير نوح بالاستعفاء من ولايتهم، ويطلب أن يقتصر به على هراة، ويولى ما بيده من أراد نوح، فكان نوح يرسل إلى أبي علي يعده بإعادته إلى مرتبته، فلما توفي منصور أرسل الأمير نوح إلى أبي علي الخلع واللواء وأمره بالمسير إلى نيسابور، وأقطعه الري وأمره بالمسير إليها، فسار عن الصغانيان في شهر رمضان، واستخلف مكانه ابنه أبا منصور، ووصل إلى مرو وأقام بها إلى أن أصلح أمر خوارزم، وكانت شاغرة، وسار إلى نيسابور، فوردها في ذي الحجة فأقام بها.
ذكر الحرب بصقلية بين المسلمين والرومكان المنصور العلوي، صاحب إفريقية، قد استعمل على صقلية، سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي، فدخلها واستقر بها كما ذكرناه، وغزا الروم الذين بها عدة غزوات، فاستمدوا ملك قسطنطينية فسير إليهم جيشاً كثيراً، فنزلوا أذرنت، فأرسل الحسن بن علي إلى المنصور يعرفه الحال، فسير إليه جيشاً كثيفاً مع خادمه فرح، فجمع الحسن جنده مع الواصلين وسار إلى ريو، وبث السرايا في أرض قلورية، وحاصر الحسن جراجة أشد حصار، فأشرف أهلها على الهلاك من شدة العطش، ولم يبق إلا أخذها، فأتاه الخبر أن عسكر الروم واصل إليه، فهادن أهل جراجة على مال يؤدونه، وسار إلى الروم، فلما سمعوا بقربه منهم انهزموا بغير قتال، وتركوا أذرنت.
ونزل الحسن على قلعة قسانة، وبث سراياه تنهب، فصالحه أهل قسانة على مالٍ، ولم يزل كذلك إلى شهر ذي الحجة، وكان المصاف بين المسلمين وعسكر قسطنطينية ومن معه من الروم الذين بصقلية، ليلة الأضحى، واقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم الروم، وركبهم المسلمون يقتلون ويأسرون إلى الليل، وغنموا جميع أثقالهم، وسلاحهم، ودوابهم، وسير الرؤوس إلى مدائن صقلية، وإفريقية، وحصر الحسن جراجة، فصالحوه على مال يحملونه، ورجع عنهم، وسير سرية إلى مدينة بطرقوقة، ففتحوها، وغنموا ما فيها، ولم يزل الحسن بجزيرة صقلية إلى سنة إحدى وأربعين، فمات المنصور، فسار عنها إلى إفريقية، واتصل بالمعز بن المنصور، واستخلف على صقلية ابنه أبا الحسين أحمد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة رفع إلى المهلبي أن رجلاً يعرف بالبصري مات ببغداد، وهم مقدم القراقرية، يدعي أن روح أبي جعفر محمد بن علي بن أبي القراقر قد حلت فيه، وأنه خلف مالاً كثيراً كان يجيبه من هذه الطائفة، وأن له أصحاباً يعتقدون ربوبيته، وأن أرواح الأنبياء والصديقين حلت فيهم، فأمر بالختم على التركة، والقبض على أصحابه، والذي قام بأمرهم بعده، فلم يجد إلا مالاً يسيراً، ورأى دفاتر فيها أشياء من مذاهبهم.
وكان فيهم غلام شاب يدعي أن روح علي بن أبي طالب حلت فيه، وامرأة يقال لها فاطمة تدعي أن روح فاطمة حلت فيها، وخادم لبني بسطام يدعي أنه ميكائيل، فأمر بهم المهلبي فضربوا ونالهم مكروه، ثم إنهم توصلوا بمن ألقى إلى معز الدولة أنهم من شيعة علي بن أبي طالب، فأمر بإطلاقهم، وخاف المهلبي أن يقيم على تشدده في أمرهم فينسب إلى ترك التشيع، فسكت عنهم.
وفي هذه السنة توفي عبدالله بن الحسين بن لال أبو الحسن الكرخي الفقيه الحنفي المشهور، في شعبان، ومولده سنة ستين ومائتين، وكان عابداً معتزلياً.
وفيها توفي أبو جعفر الفقيه ببخارى.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة

ذكر حصار البصرة
في هذه السنة سار يوسف بن وجيه، صاحب عمان، في البحر والبر إلى البصرة فحصرها.
وكان سبب ذلك أن معز الدولة لما سلك البرية إلى البصرة، وأرسل القرامطة ينكرون عليه ذلك، وأجابهم بما ذكرناه، علم يوسف بن وجيه استيحاشهم من معز الدولة، فكتب إليهم يطمعهم في البصرة، وطلب منهم أن يمدوه من ناحية البر، فأمدوه بجمع كثير منهم، وسار يوسف في البحر، فبلغ الخبر إلى الوزير المهلبي وقد فرغ من الأهواز والنظر فيها، فسار مجداً في العساكر إلى البصرة، فدخلها قبل وصول يوسف إليها، وشحنها بالرجال، وأمده معز الدولة بالعساكر وما يحتاج إليه، وتحارب هو وابن وجيه أياماً، ثم انهزم ابن وجيه، وظفر المهلبي بمراكبه وما معه من سلاح وغيره.
ذكر وفاة المنصور العلوي

وملك ولده المعز
في هذه السنة توفي المنصور بالله أبو الطاهر إسماعيل بن القائم أبي القاسم محمد بن عبيدالله المهدي، سلخ شوال، وكانت خلافته سبع سنين وستة عشر يوماً وكان عمره تسعاً وثلاثين سنة، وكان خطيباً بليغاً، يخترع الخطبة لوقته، وأحواله مع أبي يزيد الخارجي وغيره تدل على شجاعة وعقل.
وكان سبب وفاته أنه خرج إلى سفاقس وتونس ثم إلى قابس، وأرسل إلى أهل جزيرة جربة يدعوهم إلى طاعته، فأجابوه إلى ذلك، وأخذ منهم رجالاً معه وعاد، وكانت سفرته شهراً، وعهد إلى ابنه معد بولاية العهد، فلما كان رمضان خرج متنزهاً أيضاً إلى مدينة جلولاء، وهو موضع كثير الثمار، وفيه من الأترج ما لا يرى مثله في عظمه، يكون شيء يحمل الجمل منه أربع أترجات، فحمل منه إلى قصره.
وكان للمنصور جارية حظية عنده، فلما رأته استحسنته، وسألت المنصور أن تراه في أغصانه، فأجابها إلى ذلك ورحل إليها في خاصته، وأقام بها أياماً، ثم عاد إلى المنصورية، فأصابه في الطريق ريح شديدة وبرد ومطر، ودام عليه فصبر وتجلد، وكثر الثلج، فمات جماعة من الذين معه، واعتل المنصور علة شديدة، لأنه لما وصل إلى المنصورية أراد دخول الحمام، فنهاه طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي عن ذلك، فلم يقبل منه، ودخل الحمام، ففنيت الحرارة الغريزية منه، ولازمه السهر، فأقبل إسحاق يعالج المرض، والسهر باقٍ بحاله، فاشتد ذلك على المنصور، فقال لبعض الخدم: أما في القيروان طبيب غير إسحاق يخلصني من هذا الأمر ؟ قال: ها هنا شاب قد نشأ الآن اسمه إبراهيم؛ فأمر بإحضاره، وشكا إليه ما يجده من السهر، فجمع له أشياء منومة، وجعلت في قنينة على النار، وكلفه شمها، فلما أدمن شمها نام.
وخرج إبراهيم وهو مسرور بما فعل، وبقي المنصور نائماً، فجاء إسحاق فطلب الدخول عليه، فقيل: هو نائم؛ فقال: إن كان صنع له شيء ينام منه فقد مات؛ فدخلوا عليه فوجدوه ميتاً، فدفن في قصره، وأرادوا قتل إبراهيم، فقال إسحاق: ما له ذنب، إنما داواه بما ذكره الأطباء، غير أنه جهل أصل المرض، وما عرفتموه، وذلك أنني كنت في معالجته أنظر في تقوية الحرارة الغريزية، وبها يكون النوم، فلما عولج بالأشياء المطفئة لها علمت أنه قد مات.
ولما مات ولي الأمر بعده ابنه معد، وهو المعز لدين الله، وأقام في تدبير الأمور إلى سابع ذي الحجة، فأذن للناس فدخلوا عليه، وجلس لهم، فسلموا عليه بالخلافة، وكان عمره أربعاً وعشرين سنة.
فلما دخلت سنة ست وأربعين صعد جبل أوراس، وجال فيه عسكره، وهو ملجأ كل منافق على الملوك، وكان فيه بنو كملان، ومليلة، وقبيلتان من هوارة، لم يدخلوا في طاعة من تقدمه، فأطاعوا المعز، ودخلوا معه البلاد، وأمر نوابه بالإحسان إلى البربر، فلم يبق منهم أحد إلا أتاه، وأحسن إليهم المعز، وعظم أمره، ومن جملة من استأمن إليه محمد بن خزر الزناتي، أخو معبد، فأمنه المعز وأحسن إليه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، ضرب معز الدولة وزيره أبا محمد المهلبي بالمقارع مائة وخمسين مقرعة، ووكل به في داره، ولم يعزله من وزارته، وكان نقم عليه أموراً ضربه بسببها.
وفيها، في ربيع الآخر، وقع حريق عظيم ببغداد في سوق الثلاثاء، فاحترق فيه للناس ما لا يحصى.
وفي هذه السنة ملك الروم مدينة سروج، وسبوا أهلها، وغنموا أموالهم وأخربوا المساجد.
وفيها سار ركن الدولة من الري إلى طبرستان وجرجان، فسار عنها إلى ناحية نسا، وأقام بها، واستولى ركن الدولة على تلك البلاد، وعاد عنها إلى الري، واستخلف بجرجان الحسن بن فيرزان وعلي بن كامة، فلما رجع ركن الدولة عنها قصدها وشمكير، فانهزموا منه، واستردها وشمكير.
وفيها ولد أبو الحسن علي بن ركن الدولة بن بويه، وهو فخر الدولة.
وفيها توفي أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار النحوي المحدث، وهو من أصحاب المبرد، وكان مولده سنة سبع وأربعين ومائتين، وكان مكثراً من الحديث.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة
ذكر هرب ديسم عن أذربيجان
في هذه السنة هرب ديسم بن إبراهيم أبو سالم عن أذربيجان، وكنا قد ذكرنا استيلاءه عليها.

وأما سبب هربه عنها فإنه كان ركن الدولة بن بويه قد قبض على بعض قواده، واسمه علي بن ميسكي، فأفلت من الحبس وقصد الجبل، وجمع جمعاً وسار إلى وهسوذان أخي المرزبان، فاتفق معه وتساعدا على ديسم.
ثم إن المرزبان استولى على قلعة سميرم على ما نذكره، ووصلت كتبه إلى أخيه وعلي بن ميسكي بخلاصه، وكاتب الديلم واستمالهم، ولم يعلم ديسم بخلاصه، إنما كان يظن أن وهسوذان وعلي بن ميسكي يقاتلانه.
وكان له وزير يعرف بأبي عبدالله النعيمي، فشره إلى ماله وقبض عليه، واستكتب إنساناً كان يكتب للنعيمي، فاحتال النعيمي بأن أجابه إلى كل ما التمس منه، وضمن منه ذلك الكاتب بمال، فأطلقه ديسم، وسلم إليه كاتبه وأعاده إلى حاله.
ثم سار ديسم وخلفه بأردبيل ليحصل المال الذي بذله، فقتل النعيمي ذلك الكاتب وهرب بما معه من المال إلى علي بن ميسكي، فبلغ الخبر ديسم بقرب زنجان، فعاد إلى أردبيل، فشغب الديلم عليه، ففرق فيهم ما كان له من مال، وأتاه الخبر بمسير علي بن ميسكي إلى أردبيل في عدة يسيرة، فسار نحوه، والتقيا واقتتلا، فانحاز الديلم إلى علي، وانهزم ديسم إلى أرمينية في نفر من الأكراد، فحمل إليه ملوكها ما تماسك به.
وورد عليه الخبر بمسير المرزبان عن قلعة سميرم إلى أردبيل، واستيلاء على أذربيجان، وإنفاذه جيشاً نحوه، فلم يمكنه المقام، فهرب عن أرمينية إلى بغداد، فكان وصوله هذه السنة، فلقيه معز الدولة، وأكرمه، وأحسن إليه، فأقام عنده في أرغد عيش.
ثم كاتبه أهله وأصحابه بأذربيجان يستدعونه، فرحل عن بغداد سنة ثلاث وأربعين وطلب من معز الدولة أن ينجده بعسكر، فلم يفعل لأن المرزبان كان قد صالح ركن الدولة وصاهره، فلم يمكن معز الدولة مخالفة ركن الدولة، فسار ديسم إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل يستنجده، فلم ينجده، فسار إلى سيف الدولة بالشام، وأقام عنده إلى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.
واتفق أن المرزبان خرج عليه جمع بباب الأبواب، فسار إليهم، فأرسل مقدم من أكراد أذربيجان إلى ديسم يستدعيه إلى أذربيجان ليعاضده على ملكها، فسار إليها، وملك مدينة سلماس، فأرسل إليه المرزبان قائداً من قواده، فقاتله، فاستأمن أصحاب القائد إلى ديسم، فعاد القائد منهزماً، وبقي ديسم بسلماس.
فلما فرغ المرزبان من أمر الخوارج عليه عاد إلى أذربيجان، فلما قرب من ديسم فارق سلماس وسار إلى أرمينية وقصد ابن الديراني وابن حاجيق لثقته بهما، فكتب المرزبان إلى ابن الديراني يأمره بالقبض على ديسم، فدافعه، ثم قبض عليه خوفاً من المرزبان، فلما قبض عليه أمره المرزبان بأن يحمله إليه، فدافعه ثم اضطر إلى تسليمه، فلما تسلمه المرزبان سلمه وأعماه، ثم حبسه، فلما توفي المرزبان قتل ديسم بعض أصحاب المرزبان خوفاً من عائلته.
ذكر استيلاء المرزبان على سميرمقد ذكرنا أسر المرزبان وحبسه بسميرم؛ وأما سبب خلاصه فإن والدته، وهي ابنة جستان بن وهسوذان الملك، وضعت جماعة للسعي في خلاصه، فقصدوا سميرم، وأظهروا أنهم تجار، وأن المرزبان قد أخذ منهم أمتعة نفيسة ولم يوصل ثمنها إليهم، واجتمعوا بمتولي سميرم، ويعرف ببشير أسفار، وعرفوه ما ظلمهم به المرزبان، وسألوه أن يجمع بينهم ليحاسبوه وليأخذوا خطه إلى والدته بإيصال مالهم إليهم، فرق لهم بشير أسفار، وجمع بينهم، فطالبوه بمالهم، فأنكر المرزبان ذلك، فغمزه أحدهم، ففطن لهم واعترف لهم، وقال: حتى أتذكر مالكم، فإنني لا أعرف مقداره؛ فأقاموا هناك، وبذلوا الأموال لبشير أسفار والأجناد، وضمنوا لهم الأموال الجليلة إذا خلص مالهم عند المرزبان، فصاروا لذلك يدخلون الحصن بغير إذن، وكثر اجتماعهم بالمرزبان وأوصلوا إليه أموالاً من عند والته، وأخذوا منه ما عنده من الأموال.
وكان لبشير أسفار غلام أمرد، جميل الوجه، يحمل ترسه وزوبينه، فأظهر المرزبان لذلك الغلام محبة شديدة وعشقاً، وأعطاه مالاً كثيراً مما جاءه من والدته، فواطأه على ما يريد، وأوصل إليه درعاً ومبارد، فبرد قيده، واتفق المرزبان وذلك الغلام والذين جاؤوا لتخليص المرزبان على أن يقتلوا بشير أسفار في يوم ذكروه.

وكان بشير أسفار يقصد المرزبان كل أسبوع ذلك اليوم يفتقده وقيوده ويصبره ويعود، فلما كان يوم الموعد دخل أحد أولئك التجار، فقعد عند المرزبان، وجلس آخر عند البواب، وأقام الباقون عند باب الحصن ينتظرون الصوت، ودخل بشير أسفار إلى المرزبان، فتلطف به المرزبان، وسأله أن يطلقه، وبذل له أموالاً جليلة وإقطاعاً كثيراً، فامتنع عليه وقال: لا أخون ركن الدولة أبداً ؟؟! فنهض المرزبان وقد أخرج رجله من قيده وتقدم إلى الباب، فأخذ الترس والزوبين من ذلك الغلام، وعاد إلى بشير أسفار فقتله هو وذلك التاجر الذي عنده، وثار الرجل الذي عند البواب به فقتله ودخل من كان عند باب الحصن إلى المرزبان.
وكان أجناد القلعة متفرقين، فلما وقع الصوت اجتمعوا فرأوا صاحبهم قتيلاً، فسألوا الأمان، فأمنهم المرزبان، وأخرجهم من القلعة، واجتمع إليه أصحابه وغيرهم، وكثر جمعه، وخرج فلحق بأمه وأخيه، واستولى على البلاد، على ما ذكرناه قبل.
ذكر مسير أبي علي إلى الريلما كان من أمر وشمكير وركن الدولة ما ذكرناه، كتب وشمكير إلى الأمير نوح يستمده، فكتب نوح إلى أبي علي بن محتاج يأمره بالمسير في يجوش خراسان إلى الري وقتال ركن الدولة، فسار أبو علي في جيوش كثيرة، واجتمع معه وشمكير، فسارا إلى الري في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
وبلغ الخبر إلى ركن الدولة، فعلم أنه لا طاقة له بمن قصده، فرأى أن يحفظ بلده، ويقاتل عدوه من وجه واحد، فحارب الخراسانيين بطبرك، وأقام عليه أبو علي عدة شهور يقاتله، فلم يظفر به، وهلكت دواب الخراسانية، وأتاهم الشتاء وملوا فلم يصبروا، فاضطر أبو علي إلى الصلح، فتراسلوا في ذلك، وكان الرسول أبا جعفر الخازن، صاحب كتاب زيج الصفائح، وكان عارفاً بعلوم الرياضة، وكان المشير به محمد بن عبد الرزاق المقدم ذكره، فتصالحا، وتقرر على ركن الدولة كل سنة مائتا ألف دينار، وعاد أبو علي إلى خراسان.
وكتب وشمكير إلى الأمير نوح يعرفه الحال، ويذكر له أن أبا علي لم يصدق في الحرب وأنه مالأ ركن الدولة، فاغتاظ نوح من أبي علي، وأما ركن الدولة فإنه لما عاد عنه أبو علي سار نحو وشمكير، فانهزم وشمكير من بين يديه إلى أسفرايين، واستولى ركن الدولة على طبرستان.
ذكر عزل أبي علي عن خراسانلما اتصل خبر عود أبي علي عن الري إلى الأمير نوح ساءه ذلك، وكتب وشمكير إلى نوح يلزم الذنب فيه أبا علي، فكتب إلى أبي علي بعزله عن خراسان، وكتب إلى القواد يعرفهم أنه قد عزله عنهم، فاستعمل على الجيوش بعده أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني، فأنفذ أبو علي يعتذر، وراسل جماعةً من أعيان نيسابور يقيمون عذره، ويسألون أن لا يعزل عنهم، فلم يجابوا إلى ذلك، وعزل أبو علي عن خراسان، وأظهر الخلاف، وخطب لنفسه بنيسابور.
وكتب نوح إلى وشمكير والحسن بن فيرزان يأمرهما بالصلح، وأن يتساعدا على من يخالف الدولة، ففعلا ذلك، فلما علم أبو علي باتفاق الناس مع نوح عليه كاتب ركن الدولة في المصير إليه لأنه علم أنه لا يمكنه المقام بخراسان، ولا يقدر على العود إلى الصغانيان، فاضطر إلى مكاتبة ركن الدولة في المصير إليه، فأذن له في ذلك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في الحادي والعشرين من شباط، ظهر بسواد العراق جراد كثير أقام أياماً، وأثر في الغلاء آثاراً قبيحة، وكذلك ظهر بالأهواز، وديار الموصل، والجزيرة والشام، وسائر النواحي، ففعل مثل ما فعله بالعراق.
وفيها عاد رسل كان الخليفة أرسلهم إلى خراسان للصلح بين ركن الدولة ونوح صاحب خراسان، فلما وصل إلى حلوان خرج عليهم ابن أبي الشوك في أكراده، فنهبهم، ونهب القافلة التي كانت معهم، وأسر الرسل، ثم أطلقهم، فسير معز الدولة عسكراً إلى حلوان، فأوقعوا بالأكراد، وأصلحوا البلاد هناك وعادوا.
وفيها سير الحجاج الشريفان أبو الحسن محمد بن عبدالله، وأبو عبدالله أحمد بن عمر بن يحيى العلويان، فجرى بينهما وبين عساكر المصريين من أصحاب ابن طغج حرب شديدة، وكان الظفر لهما، فخطب لمعز الدولة بمكة، فلما خرجا من مكة لحقهما عسكر مصر، فقاتلهما، فظفرا به أيضاً.
وفيها توفي علي بن أبي الفهم داود أبو القاسم جد القاضي علي بن الحسن ابن علي التنوخي في ربيع الأول، وكان عالماً بأصول المعتزلة والنجوم وله شعر.

وفيها، في رمضان، مات الشريف أبو علي عمر بن علي العلوي الكوفي ببغداد بصرع لحقه.
وفيها، في شوال، مات أبو عبدالله محمد بن سليمان بن فهد الموصلي.
وفيها مات أبو الفضل العباس بن فسانجس بالبصرة من ذرب لحقه، وحمل إلى الكوفة، فدفن بمشهد أمير المؤمنين علي، وتقلد الديوان بعده ابنه أبو الفرج، وجرى على قاعدة أبيه.
وفيها في ذي القعدة ماتت بدعة المغنية المشهورة المعروفة ببدعة الحمدونية عن اثنتين وتسعين سنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة

ذكر حال أبي علي بن محتاج
قد ذكرنا من أخبار أبي علي ما تقدم، فلما كتب إلى ركن الدولة يستأذنه في المصير إليه أذن له، فسار إلى الري، فلقيه ركن الدولة وأكرمه، وأقام الأتراك الضيافة له ولمن معه، وطلب أبو علي أن يكتب له عهداً من جهة الخليفة بولاية خراسان، فأرسل ركن الدولة إلى معز الدولة في ذلك، فسير له عهداً بما طلب، وسير له نجدةً من عسكره، فسار أبو علي إلى خراسان واستولى على نيسابور، وخطب للمطيع بها وبما استولى عليه من خراسان، ولم يكن يخطب له بها قبل ذلك.
ثم إن نوحاً مات في خلال ذلك، وتولى بعده ولده عبد الملك. فلما استقر أمره سير بكر بن مالك إلى خراسان من بخارى وجعله مقدماً على جيوشها، وأمره بإخراج أبي علي من خراسان، فسار في العساكر نحو أبي علي، فتفرق عن أبي علي أصحابه وعسكره وبقي معه من أصحابه مائتا رجل سوى من كان عنده من الديلم نجدة له، فاضطر إلى الهرب، فسار نحو ركن الدولة، فأنزله معه في الري، واستولى ابن مالك على خراسان، فأقام بنيسابور وتتبع أصحاب أبي علي.
ذكر موت الأمير نوح بن نصر وولاية ابنه عبد الملكوفي هذه السنة مات الأمير نوح بن نصر الساماني في ربيع الآخر، وكان يلقب بالأمير الحميد، وكان حسن السيرة، كريم الأخلاق، ولما توفي ملك بعده ابنه عبد الملك، وكان قد استعمل بكر بن مالك على جيوش خراسان، كما ذكرنا، فمات قبل أن يسير بكر إلى خراسان، فقام بكر بأمر عبد الملك ابن نوح، وقرر أمره، فلما استقر حاله وثبت ملكه أمر بكراً بالمسير إلى خراسان، فسار إليها، وكان من أمره مع أبي علي ما قدمنا ذكره.
ذكر غزاة لسيف الدولة بن حمدانفي هذه السنة، في شهر ربيع الأول، غزا سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم، فقتل، وأسر، وسبى، وغنم، وكان فيمن قتل قسطنطين بن الدمستق، فعظم الأمر على الروم، وعظم الأمر على الدمستق، فجمع عساكره من الروم والروس والبلغار وغيرهم وقصد الثغور، فسار إليه سيف الدولة بن حمدان، فالتقوا عند الحدث في شعبان، فاشتد القتال بينهم وصبر الفريقان، ثم إن الله تعالى نصر المسلمين، فانهزم الروم، وقتل منهم وممن معهم خلق عظيم، وأسر صهر الدمستق وابن ابنته وكثير من بطارقته وعاد الدمستق مهزوماً مسلولاً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان بخراسان والجبال وباء عظيم هلك فيه خلق كثير لا يحصون كثرةً.
وفيها صرف الابرعاجي عن شرطة بغداد، وصودر على ثلاثمائة ألف درهم، ورتب مكانه بكبيك نقيب الأتراك.
وفيها سار ركن الدولة إلى جرجان ومعه أبو علي بن محتاج، فدخلها بغير حرب، وانصرف وشمكير عنها إلى خراسان.
وفيها وقعت الحرب بمكة بين أصحاب معز الدولة وأصحابه ابن طغج من المصريين، فكانت الغلبة لأصحاب معز الدولة، فخطب بمكة والحجاز لركن الدولة ومعز الدولة وولده عز الدولة بختيار، وبعدهم لابن طغج.
وفيها أرسل معز الدولة سبكتكين في جيش إلى شهرزور، في رجب، ومعه المنجنيقات لفتحها، فسار إليها، وأقام بتلك الولاية إلى المحرم من سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، فعاد ولم يمكنه فتحها لأنه اتصل به خروج عساكر خراسان إلى الري، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فعاد إلى بغداد، فدخلها في المحرم.
وفيها، في شوال، مات أبو الحسين محمد بن العباس بن الوليد المعروف بابن النحوي الفقيه.
وفيها، في شوال أيضاً، مات أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وثلاثمائة
ذكر مرض معز الدولة
وما فعله ابن شاهين

كان قد عرض لمعز الدولة في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين مرض يسمى فريافسمس، وهو دوام الإنعاظ مع وجع شديد في ذكره، مع توتر أعصابه، وكان معز الدولة خواراً في أمراضه، فأرجف الناس به، واضطربت بغداد، فاضطر إلى الركوب، فركب في ذي الحجة على ما به من شدة المرض، فلما كان في المحرم من سنة أربع وأربعين وثلاثمائة أوصى إلى ابن بختيار، وقلده الأمر بعده، وجعله أمير الأمراء.
وبلغ عمران بن شاهين أن معز الدولة قد مات، واجتاز عليه مال يحمل إلى معز الدولة من الأهواز، وفي صحبته خلق كثير من التجار، فخرج عليهم فأخذ الجميع، فلما عوفي معز الدولة راسل ابن شاهين في المعنى، فرد عليه ما أخذه له، وحصل له أموال التجار، وانفسخ الصلح بينهما، وكان ذلك في المحرم.
ذكر خروج الخراسانية إلى الري وأصبهانفي هذه السنة خرج عسكر خراسان إلى الري، وبها ركن الدولة وكان قد قدمها من جرجان أول المحرم، فكتب إلى أخيه معز الدولة يستمده، فأمده بعسكر مقدمهم الحاجب سبكتكين، وسير من خراسان عسكراً آخر إلى أصبهان على طريق المفازة، وبها الأمير أبو منصور بويه بن ركن الدولة.
فلما بلغه خبرهم سار عن أصبهان بالخزائن والحرم التي لأبيه، فبلغوا خان لنجان، وكان مقدم العسكر الخراساني محمد بن ما كان، فوصلوا إلى أصبهان، فدخلوها، وخرج ابن ما كان منها في طلب بويه، فأدرك الخزائن فأخذها وسار في أثره، وكان من لطف الله به أن الأستاذ أبا الفضل بن العميد، وزير ركن الدولة، اتصل بهم في تلك الساعة، فعارض ابن ما كان وقاتله، فانهزم أصحاب ابن العميد عنه، واشتغل أصحاب ابن ما كان بالنهب.
قال ابن العميد: فبقيت وحدي وأردت اللحاق بأصحابي، ففكرت وقلت: بأي وجه ألقى صاحبي وقد أسلمت أولاده، وأهله، وأمواله، وملكه، ونجوت بنفسي ؟ فرأيت القتل أيسر علي من ذلك، فوقفت، وعسكر ابن ما كان ينهب أثقالي وأثقال عسكري، فلحق بابن العميد نفر من أصحابه، ووقفوا معه، وأتاهم غيرهم فاجتمع معهم جماعة، فحمل على الخراسانيين وهم مشغولون بالنهب، وصاحوا فيهم، فانهزم الخراسانيون فأخذوا من بين قتيل وأسير، وأسر ابن ما كان وأحضر عند ابن العميد، وسار ابن العميد إلى أصبهان فأخرج من كان بها من أصحاب ابن ما كان، وأعاد أولاد ركن الدولة وحرمه إلى أصبهان، واستنقذ أمواله.
ثم إن ركن الدولة راسل بكر بن مالك صاحب جيوش خراسان، واستماله فاصطلحا على مال يحمله ركن الدولة إليه، ويكون الري وبلد الجبل بأسره مع ركن الدولة، وأرسل ركن الدولة إلى أخيه معز الدولة يطلب خلعاً ولواء بولاية خراسان لبكر بن مالك، فأرسل إليه ذلك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقع بالري وباء كثير مات فيه من الخلق ما لا يحصى، وكان فيمن مات أبو علي بن محتاج الذي كان صاحب جيوش خراسان، ومات معه ولده، وحمل أبو علي الصغانيان، وعاد من كان معه من القواد إلى خراسان.
وفيها وقع الأكراد بناحية ساوة على قفل من الحجاج فاستباحوه.
وفيها خرج بناحية دينوند رجل ادعى النبوة، فقتل، وخرج بأذربيجان رجل آخر يدعي أنه يحرم اللحوم وما يخرج من الحيوان، وأنه يعلم الغيب، فأضافه رجل أطعمه كشكية بشحم، فلما أكلها قال له: ألست تحرم اللحم، وما يخرج من الحيوان، وأنك تعلم الغيب ؟ قال: بلى ! قال: فهذه الكشكية بشحم، ولو علمت الغيب لما خفي عليك ذلك؛ فأعرض الناس عنه.
وفيها أنشأ عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس مركباً كبيراً لم يعمل مثله، وسير فيه أمتعة إلى بلاد الشرق، فلقي في البحر مركباً فيه رسول من صقلية إلى المعز، فقطع عليه أهل المركب الأندلسي، وأخذوا ما فيه، وأخذوا الكتب التي إلى المعز، فبلغ ذلك المعز، فعمر أسطولاً واستعمل عليه الحسن ابن علي صاحب صقلية، وسيره إلى الأندلس، فوصلوا إلى المرية، فدخلوا المرسى، وأحرقوا جميع ما فيه من المراكب، وأخذوا ذلك المركب، وكان قد عاد من الإسكندرية، وفيه أمتعة لعبد الرحمن، وجوارٍ مغنيات، وصعد من في الأسطول إلى البر فقتلوا ونهبوا ورجعوا سالمين إلى المهدية.
ولما سمع عبد الرحمن الأموي سير أسطولاً إلى بعض بلاد إفريقية، فنزلوا ونهبوا، فقصدتهم عساكر المعز فعادوا إلى مراكبهم، ورجعوا إلى الأندلس وقد قتلوا وقتل منهم خلق كثير.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة

ذكر عصيان روزبهان على معز الدولة
في هذه السنة خرج روزبهان بن ونداد خرشيد الديلمي على معز الدولة، وعصى عليه، وخرج أخوه بلكا بشيراز، وخرج أخوهما أسفار بالأهواز، ولحق به روزبهان إلى الأهواز، وكان يقاتل عمران بالبطيحة، فعاد إلى واسط، وسار إلى الأهواز في رجب، وبها الوزير المهلبي، فأراد محاربة روزبهان، فاستأمن رجاله إلى روزبهان، فانحاز المهلبي عنه.
ووردا لخبر بذلك إلى معز الدولة فلم يصدقه لإحسانه إليه، لأنه رفعه بعد الضعة، ونوه بذكره بعد الخمول، فتجهز معز الدولة إلى محاربته، ومال الديلم بأسرهم إلى روزبهان، ولقوا معز الدولة بما يكره، واختلفوا عليه، وتتابعوا على المسير إلى روزبهان، وسار معز الدولة عن بغداد خامس شعبان، وخرج الخليفة المطيع لله منحدراً إلى معز الدولة، لأنه ناصر الدولة لما بلغه الخبر سر العساكر من الموصل مع ولده أبي المرجى جابر لقصد بغداد والاستيلاء عليها، فلما بلغ ذلك الخليفة انحدر من بغداد فأعاد معز الدولة الحاجب سبكتكين وغيره ممن يثق بهم من عسكره إلى بغداد، فشغب الديلم الذين ببغداد، فوعدوا بأرزاقهم فسكنوا وهم على قنوط من معز الدولة.
وأما معز الدولة فإنه سار إلى أن بلغ قنطرة أربق، فنزل هناك، وجعل على الطريق من يحفظ أصحاب الديلم من الأستئمان إلى روزبهان، لأنهم كانوا يأخذون العطاء منه ثم يهربون عنه، وكان اعتماد معز الدولة على أصحابه الأتراك ومماليكه ونفر يسير من الديلم.
فلما كان سلخ رمضان أراد معز الدولة العبور هو وأصحابه الذين يثق بهم إلى محاربة روزبهان، فاجتمع الديلم وقالوا لمعز الدولة: إن كنا رجالك فأخرجنا معك نقاتل بين يديك، فإنه لا صبر لنا على القعود مع الصبيان والغلمان، فإن ظفرت كان الاسم لهؤلاء دوننا، وإن ظفر عدوك لحقنا العار؛ وإنما قالوا هذا الكلام خديعة ليمكنهم من العبور معه فيتمكنوا منه، فلما سمع قولهم سألهم التوقف، وقال: إنما أريد أن أذوق حربهم ثم أعود، فإذا كان الغد لقيناهم بأجمعنا وناجزناهم؛ وكان يكثر لهم العطاء فأمسكوا عنه.
وعبر معز الدولة، وعبأ أصحابه كراديس تتناوب الحملات، فما زالوا كذلك إلى غروب الشمس، ففني نشاب الأتراك وتعبوا، وشكوا إلى معز الدولة ما أصابهم من التعب، وقالوا: نستريح الليلة ونعود غداً؛ فعلم معز الدولة أنه إن رجع زحف إليه روزبهان والديلم، وثار معهم أصحابه الديلم، فيهلك، ولا يمكنه الهرب، فبكى بين يدي أصحابه، وكان سريع الدمعة، ثم سألهم أن تجمع الكراديس كلها ويحملوا حملة واحدة، وهو في أولهم، فإما أن يظفروا وإما أن يقتل أول من يقتل، فطالبوه بالنشاب، فقال: قد بقي مع صغار الغلمان نشاب، فخذوه واقسموه.
وكان جماعة صالحة من الغلمان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد، وعليهم اللبس الجيد، وكانوا سألوا معز الدولة أن يأذن لهم في الحرب، فلم يفعل، وقال: إذا جاء وقت يصلح لكم أذنت لكم في القتال؛ فوجه إليهم تلك الساعة من يأخذ منهم النشاب، وأومأ معز الدولة إليهم بيده أن اقبلوا منه وسلموا إليه النشاب، فظنوا أنه يأمرهم بالحملة، فحملوا وهم مستريحون، فصدموا صفوف روزبهان فخرقوها، وألقوا بعضها فوق بعض، فصاروا خلفهم، وحمل معز الدولة فيمن معه باللتوت، فكانت الهزيمة على روزبهان وأصحابه، وأخذ روزبهان أسيراً وجماعة من قواده، وقتل من أصحابه خلق كثير، وكتب معز الدولة بذلك، فلم يصدق الناس لما علموا من قوة روزبهان وضعف معز الدولة، وعاد إلى بغداد ومعه روزبهان ليراه الناس، وسير سبكتكين إلى أبي المرجى بن ناصر الدولة، وكان بعكبرا، فلم يلحقه لأنه لما بلغه الخبر عاد إلى الموصل، وسجن معز الدولة روزبهان، فبلغه أن الديلم قد عزموا على إخراجه قهراً والمبايعة له، فأخرجه ليلاً وغرقه.
وأما أخو روزبهان الذي خرج بشيراز، فإن الأستاذ أبا الفضل بن العميد سار إليه في الجيوش، فقاتله، فظفر به، وأعاد عضد الدولة بن ركن الدولة إلى ملكه، وانطوى خبر روزبهان وإخوته، وكان قد اشتعل اشتعال النار.
وقبض معتز الدولة على جماعة من الديلم، وترك من سواهم، واصطنع الأتراك وقدمهم، وأمرهم بتوبيخ الديلم والاستطالة عليهم، ثم أطلق للأتراك إطلاقات زائدة على واسط والبصرة، فساروا لقبضها مدلين بما صنعوا، فأخرجوا البلاد، ونهبوا الأموال وصار ضررهم أكثر من نفعهم.

ذكر غزو سيف الدولة بلاد الروم
في هذه السنة، في رجب، سار سيف الدولة بن حمدان في جيوش إلى بلاد الروم وغزاها، حتى بلغ خرشنة، وصارخة، وفتح عدة حصون وسبى، وأسر، وأحرق، وخرب، وأكثر القتل فيهم، ورجع إلى أذنه فأقام بها حتى جاءه رئيس طرسوس، فخلع عليه، وأعطاه شيئاً كثيراً، وعاد إلى حلب.
فلما سمع الروم بما فعل جمعوا وساروا إلى ميافارقين، وأحرقوا سوادها ونهبوه، وخربوا، وسبوا أهله، ونهبوا أموالهم وعادوا.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقعة الفتنة بأصبهان بين أهلها وبين أهل قم بسبب المذاهب، وكان سببها أنه قيل عن رجل قمي إنه سب بعض الصحابة، وكان من أصحاب شحنة أصبهان، فثار أهلها، واستغاثوا بأهل السواد، فاجتمعوا في خلق لا يحصون كثرة، وحضروا دار الشحنة، وقتل بينهم قتلى، ونهب أهل أصبهان أموال التجار من أهل قم، فبلغ الخبر ركن الدولة، فغضب لذلك، وأرسل إليها فطرح على أهلها مالاً كثيراً.
وفيها توفي محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم أبو عمرو الزاهد، غلام ثعلب، في ذي القعدة.
وفيها كانت الزلزلة بهمذان، وأستراباذ ونواحيها، وكانت عظيمة أهلكت تحت الهدم خلقاً كثيراً، وانشقت منها حيطان قصر شيرين من صاعقة.
وفيها، في جمادى الآخرة، سار الروم في البحر، فأوقعوا بأهل طرسوس، وقتلوا منهم ألفاً وثمانمائة رجل، وأحرقوا القرى التي حولها.
وفيها سار الحسن بن علي صاحب صقلية على أسطول كثير إلى بلاد الروم.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وثلاثمائة
ذكر موت المرزبان
في هذه السنة، في رمضان، توفي السلار المرزبان بأذربيجان، وهو صاحبها، فلما يئس من نفسه أوصى إلى أخيه وهسوذان بالملك، وبعده لابنه جستان ابن المرزبان.
وكان المرزبان قد تقدم أولاً إلى نوابه بالقلاع أن لا يسلموه بعده إلا إلى ولده جستان، فإن مات فإلى ابنه إبراهيم، فإن مات فإلى ابنه ناصر، فإن لم يبق منهم أحد فإلى أخيه وهسوذان، فلما أوصى هذه الوصية إلى أخيه عرفه علامات بينه وبين نوابه في قلاعه ليتسلمها منهم، فلما مات المرزبان أنفذ أخوه وهسوذان خاتمه وعلاماته إليهم، فأظهروا وصيته الأولى، فظن وهسوذان أخاه خدعه بذلك، فأقام مع أولاد أخيه، فاستبدوا بالأمر دونه، فخرج من أردبيل كالهارب إلى الطرم، فاستبد جستان بالأمر، وأطاعه إخوته، وقلد وزارته أبا عبدالله النعيمي، وأتاه قواد أبيه إلا جستان بن شرمزن فإنه عزم على التغلب على أرمينية، وكان والياً عليها.
وشرع وهسوذان في الإفساد بين أولاد أخيه، وتفريق كلمتهم، وإطماع أعدائهم فيهم، حتى بلغ ما أراد وقتل بعضهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كثر ببغداد ونواحيها أورام الحلق والماشرا، وكثر الموت بهما، وموت الفجأة، وكل من افتصد انصب إلى ذراعيه مادة حادة عظيمة، تبعها حمى حادة، وما سلم أحد ممن افتصد، وكان المطر معدوماً.
وفيها تجهز معز الدولة وسار نحو الموصل لقصد ناصر الدولة بسبب ما فعله، فراسله ناصر الدولة، وبذل له مالاً، وضمن البلاد منه كل سنة بألفي ألف درهم، وحمل إليه مثلها، فعاد معز الدولة بسبب خراب بلاده للفتنة المذكورة، ولأنه لم يثق بأصحابه.
ثم إن ناصر الدولة منع حمل المال، فسار إليه معز الدولة على ما نذكره.
وفيها نقص البحر ثمانين باعاً، فظهرت فيه جزائر وجبال لم تعرف قبل ذلك.
وفيها توفي أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل الأموي النيسابوري المعروف بالأصم، وكان عالي الإسناد في الحديث، وصحب الربيع بن سليمان صاحب الشافعي، وروى عنه كتب الشافعي.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد بن إسحاق الفقيه البخاري الأمين.
وفيها كانت بالعراق وبلاد الجبال وقم ونواحيها زلازل كثيرة متتابعة دامت نحو أربعين يوماً تسكن وتعود، فتهدمت الأبنية، وغارت المياه، وهلك تحت الهدم من الأمم الكثير؛ وكذلك كانت زلزلة بالري ونواحيها، مستهل ذي الحجة، أخربت كثيراً من البلد، وهلك من أهلها كثير؛ وكذلك أيضاً كانت الزلزلة بالطالقان ونواحيها عظيمة جداً أهلكت أمماً كثيرةً.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وثلاثمائة
ذكر استيلاء معز الدولة على الموصل
وعوده عنها

قد ذكرنا صلح معز الدولة مع ناصر الدولة على ألفي ألف درهم كل سنة، فلما كان هذه السنة أخر ناصر الدولة حمل المال، فتجهز معز الدولة إلى الموصل وسار نحوها، منتصف جمادى الأولى، ومعه وزيره المهلبي، ففارقها ناصر الدولة إلى نصيبين، واستولى معز الدولة على الموصل.
فكان من عادة ناصر الدولة إذا قصده أحدٌ سار عن الموصل واستصحب معه جميع الكتاب، والوكلاء، ومن يعرف أبواب المال، ومنافع السلطان، وربما جعلهم في قلاعه كقلعة كواشى، والزعفران، وغيرهما، وكانت قلعة كواشى تسمى ذلك الوقت قلعة أردمشت، وكان ناصر الدولة يأمر العرب بالإغارة على العلافة ومن يحمل الميرة، فكان الذي يقصد بلاد ناصر الدولة يبقى محصوراً مضيفاً عليه.
فلما قصده معز الدولة هذه المرة فعل ذلك به، فضاقت الأقوات على معز الدولة وعسكره، وبلغه أن بنصيبين من الغلات السلطانية شيئاً كثيراً، فسار عن الموصل نحوها، واستخلف بالموصل سبكتكين الحاجب الكبير، فلما توسط الطريق بلغه أن أولاد ناصر الدولة أبا المرجى وهبة الله بسنجار في عسكر، فسير إليهم عسكراً، فلم يشعر أولاد ناصر الدولة بالعسكر إلا وهو معهم، فجعلوا عن أخذ أثقالهم، فركبوا دوابهم وانهزموا ونهب عسكر معز الدولة ما تركوه، ونزلوا في خيامهم، فعاد أولاد ناصر الدولة إليهم وهم غارون، فوضعوا السيف فيهم، فقتلوا، وأسروا، وأقاموا بسنجار.
وسار معز الدولة إلى نصيبين، ففارقها ناصر الدولة إلى ميافارقين، ففارقه أصحابه وعادوا إلى معز الدولة مستأمنين، فلما رأى ناصر الدولة ذلك سار إلى أخيه سيف الدولة بحلب، فلما وصل خرج إليه ولقيه، وبالغ في إكرامه، وخدمه بنفسه، حتى إنه نزع خفه بيديه.
وكان أصحاب ناصر الدولة في حصونه ببلد الموصل، والجزيرة، يغيرون على أصحاب معز الدولة بالبلد، فيقتلون فيهم، ويأسرون منهم، ويقطعون الميرة عنهم.
ثم إن سيف الدولة راسل معز الدولة في الصلح، وترددت الرسل في ذلك، فامتنع معز الدولة في تضمين ناصر الدولة لخلفه معه مرة بعد أخرى، فضمن سيف الدولة البلاد منه بألفي ألف درهم وتسع مائة ألف درهم، وإطلاق من أسر من أصحابه بسنجار وغيرها، وكان ذلك في المحرم سنة ثمان وأربعين.
وإنما أجاب معز الدولة إلى الصلح بعد تمكنه من البلاد لأنه ضاقت عليه الأموال، وتقاعد الناس في حمل الحراج، واحتجوا بأنهم لا يصلون إلى غلاتهم، وطلبوا الحماية من العرب أصحاب ناصر الدولة، فاضطر معز الدولة إلى الانحدار، وأنف من ذلك، فلما وردت عليه رسالة سيف الدولة استراح إليها، وأجابه إلى ما طلبه من الصلح، ثم انحدر إلى بغداد.
ذكر مسير جيوش المعز العلوي إلى أقاصي المغربوفيها عظم أمر أبي الحسن جوهر عند المعز بإفريقية، وعلا محله، وصار في رتبة الوزارة، فسيره المعز في صفر في جيش كثيف منهم زيري بن مناد الصنهاجي وغيره، وأمره بالمسير إلى أقاصي المغرب، فسار إلى تاهرت، فحضره عنده يعلى بن محمد الزناتي، فأكرمه وأحسن إليه، ثم خالف على جوهر، فقبض عليه، وثار أصحابه، فقاتلهم جوهر، فانهزموا وتبعهم جوهر إلى مدينة أفكان، فدخلها بالسيف، ونهبها، ونهب قصور يعلى، وأخذ ولده، وكان صبياً، وأمر بهدم أفكان وإحراقها بالنار، وكان ذلك في جمادى الآخرة.
ثم سار منها إلى فاس، وبها صاحبها أحمد بن بكر، فأغلق أبوابها، فنازلها جوهر، وقاتلها مدة، فلم يقدر عليها، وأتته هدايا الأمراء الفاطميين بأقاصي السوس، وأشار على جوهر وأصحابه بالرحيل إلى سجلماسة، وكان صاحبها محمد بن واسول قد تلقب بالشاكر لله، ويخاطب بأمير المؤمنين، وضرب السكة باسمه، وهو على ذلك ست عشرة سنة، فلما سمع بجوهر هرب، ثم أراد الرجوع إلى سجلماسة، فلقيه أقوام، فأخذوه أسيراً، وحملوه إلى جوهر.

ومضى جوهر حتى انتهى إلى البحر المحيط، فأمر أن يصطاد له من سمكه، فاصطادوا له، فجعله في قلال الماء وحمله إلى المعز، وسلك تلك البلاد جميعها فافتتحها وعاد إلى فاس، فقاتلها مدة طويلة، فقام زيري بن مناد فاختار من قومه رجالاً لهم شجاعة، وأمرهم أن يأخذوا السلاليم، وقصدوا البلد، فصعدوا إلى السور الأدنى في السلاليم وأهل فاس آمنون، فلما صعدوا على السور قتلوا من عليه، ونزلوا إلى السور الثاني، وفتحوا الأبواب، وأشعلوا المشاعل، وضربوا الطبول، وكانت الإمارة بين زيري وجوهر، فلما سمعها جوهر ركب في العساكر فدخل فاساً، فاستخفى صاحبها، وأخذ بعد يومين، وجعل مع صاحب سجلماسة، وكان فتحها في رمضان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، فحملهما في قفصين إلى المعز بالمهدية، وأعطى تاهرت لزيري ابن مناد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان ببلاد الجبل وباء عظيم مات فيه أكثر أهل البلاد، وكان أكثر من مات فيه النساء، والصبيان، وتعذر على الناس عيادة المرضى، وشهود الجنائز لكثرتها.
وفيها انخسف القمر جميعه.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد البوشنجي الصوفي بنيسابور، وهو أحد المشهورين منهم؛ وأبو الحسن محمد بن الحسن بن عبدالله بن أبي الشوارب، قاضي بغداد، وكان مولده سنة اثنتين وتسعين ومائتين؛ وأبو علي الحسين بن علي بن يزيد الحافظ النيسابوري في جمادى الأولى.
وفيها توفي عبدالله بن جعفر بن درستويه أبو محمد الفارسي النحوي في صفر وكان مولده سنة ثمان وخمسين ومائتين، وأخذ النحو عن المبرد.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائةفي هذه السنة، في المحرم، تم الصلح بين سيف الدولة ومعز الدولة، وعاد معز الدولة إلى العراق، ورجع ناصر الدولة إلى الموصل.
وفيها أنفذ الخليفة لواء وخلعة لأبي علي بن إلياس صاحب كرمان.
وفيها مات أبو الحسن محمد بن أحمد المافروخي، كاتب معز الدولة، وكتب بعده أبو بكر بن أبي سعيد.
وفيها كانت حرب شديدة بين علي بن كامة، وهو ابن أخت ركن الدولة، وبين بيستون بن وشمكير، فانهزم بيستون.
وفيها غرق من حجاج الموصل في الماء بضعة عشر زورقاً.
وفيها غزت الروم طرسوس والرها، فقتلوا، وسبوا، وغنموا، وعادوا سالمين.
وفيها سار مؤيد الدولة بن ركن الدولة من الري إلى بغداد، فتزوج بابنة عمه معز الدولة، ونقلها معه إلى الري، ثم عاد إلى أصبهان.
وفيها، في جمادى الأولى، وقعت حرب شديدة بين عامة بغداد، وقتل فيها جماعة، واحترق من البلد كثير.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن، الفقيه الحنبلي المعروف بالنجاد، وكان عمره خمساً وتسعين سنة؛ وجعفر بن محمد بن نصير الخلدي الصوفي، وهو من أصحاب الجنيد، فروى الحديث وأكثر.
وفيها انقطعت الأمطار، وغلت الأسعار في كثير من البلاد، فخرج الناس يستسقون في كانون الثاني في البلاد، ومنها بغداد، فما سقوا، فلما كان في آذار ظهر جراد عظيم، فأكل ما كان قد نبت من الخضراوات وغيرها، فاشتد الأمر على الناس.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة

ذكر ظهور المستجير بالله
في هذه السنة ظهر بأذربيجان وجل من أولاد عيسى بن المكتفي بالله، وتلقب بالمستجير بالله، وبايع للرضا من آل محمد، ولبس الصوف وأظهر العدل، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وكثر أتباعه.
وكان السبب في ظهوره أن جستان بن المرزبان، صاحب أذربيجان، ترك سيرة والده في سياسة الجيش، واشتغل باللعب، ومشاورة النساء، وكان جستان بن شرمزن بأرمية متحصناً بها، وكان وهسوذان بالطرم يضرب بين أولاد أخيه ليختلفوا.
ثم إن جستان بن المرزبان قبض على وزيره النعيمي، وكان بينه وبين وزير جستان بن شرمزن مصاهرة، وهو أبو الحسن عبيدالله بن محمد بن حمدويه، فاستوحش أبو الحسن لقبض النعيمي، فحمل صاحبه ابن شرمزن على مكاتبة إبراهيم بن المرزبان، وكان بأرمينية، فكاتبه، وأطمعه في املك، فسار إليه، فقصدوا مراغة واستولوا عليها، فلما علم جستان بن المرزبان بذلك راسل ابن شرمزن ووزيره أبا الحسن، فأصلحهما، وضمن لهما إطلاق النعيمي، فعاد عن نصرة إبراهيم، وظهر له ولأخيه نفاق ابن شرمزن، فتراسلا واتفقا عليه.

ثم إن النعيمي هرب من حبس جستان بن المرزبان، وسار إلى موقان، وكاتب ابن عيسى بن المكتفي بالله، وأطمعه في الخلافة، وأن يجمع له الرجال، ويملك له أذربيجان، فإذا قوي قصد العراق فسار إليه في نحو ثلاثمائة رجل، وأتاه جستان بن شرمزن فقوي به، وبايعه الناس، واستفحل أمره، فسار إليهم جستان وإبراهيم ابنا المرزبان قاصدين قتالهم، فلما التقوا انهزم أصحاب المستجير، وأخذ أسيراً فعدم فقيل إنه قتل وقيل بل مات.
ذكر استيلاء وهسوذان على بني أخيه وقتلهموأما وهسوذان فإنه لما رأى اختلاف أولاد أخيه، وأن كل واحد منهم قد انطوى على غش صاحبه، راسل إبراهيم، بعد وقعة المستجير، واستزاره، فزاره، فأكرمه عمه، ووصله بما ملأ عينه، وكاتب ناصراً ولد أخيه أيضاً، واستغواه، ففارق أخاه جستان وصار إلى موقان، فوجده الجند طريقاً إلى تحصيل الأموال، ففارق أكثرهم جستان وصاروا إلى أخيه ناصر، فقوي بهم على أخيه جستان، واستولى على أردبيل.
ثم إن الأجناد طالبوا ناصراً بالأموال، فعجز عن ذلك، وقعد عمه وهسوذان عن نصرته، فعلم أنه كان يغويه، فراسل أخاه جستان، وتصالحا واجتمعا، وهما في غاية ما يكون من قلة الأموال واضطراب الأمور، وتغلب أصحاب الأطراف على ما بأيديهم، فاضطر جستان وناصر ابنا المرزبان إلى المسير إلى عمهما وهسوذان مع والدتهما، فراسلاه في ذلك، وأخذا عليه العهود، وساروا إليه، فلما حصلوا عنده نكث، وغدر بهم، وقبض عليهم، وهم جستان وناصر ووالدتهما، واستولى على العسكر، وعقد الإمارة لابنه إسماعيل، وسلم إليه أكثر قلاعه، وأخرج الأموال وأرضى الجند.
وكان إبراهيم بن المرزبان قد سار إلى أرمينية، فتأهب لمنازعة إسماعيل، واستنقاذ أخويه من حبس عمهما وهسوذان، فلما علم وهسوذان ذلك ورأى اجتماع الناس عليه بادر فقتل جستان وناصراً ابني أخيه وأمهما، وكاتب جستان بن شرمزن، وطلب إليه أن يقصد إبراهيم، وأمده بالجند والمال، ففعل ذلك، واضطر إبراهيم إلى الهرب والعود إلى أرمينية، واستولى ابن شرمزن على عسكره وعلى مدينة مراغة مع أرمية.
ذكر غزو سيف الدولة بلاد الرومفي هذه السنة غزا سيف الدولة بلاد الروم في جميع كثير، فأثر فيها آثاراً كثيرة، وأحرق، وفتح عدة حصون، وأخذ من السبي والغنائم والأسرى شيئاً كثيراً، وبلغ إلى خرشنة، ثم إن الروم أخذوا عليه المضايق، فلما أراد الرجوع قال له من معه من أهل طرسوس: إن الروم قد ملكوا الدرب خلف ظهرك، فلا تقدر على العود منه، والرأي أن ترجع معنا؛ فلم يقبل منهم، وكان معجباً برأيه يحب أن يستبد ولا يشاور أحداً لئلا يقال إنه أصاب برأي غيره، وعاد في الدرب الذي دخل منه، فظهر الروم عليه واستردوا ما كان معه من الغنائم، وأخذوا أثقاله، ووضعوا السف في أصحابه فأتوا عليهم قتلاً وأسراً، وتخلص هو في ثلاثمائة رجل بعد جهد ومشقة وهذا من سوء رأي كل من يجهل آراء الناس العقلاء، والله أعلم بالصواب.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض عبد الملك بن نوح، صاحب خراسان، وما وراء النهر، على رجل من أكابر قواده وأمرائه يسمى نجتكين، وقتله، فاضطربت خراسان.
وفيها استأمن أبو الفتح، المعروف بابن العريان، أخو عمران بن شاهين، صاحب البطيحة، إلى معز الدولة بأهله وماله، وكان خاف أخاه، فأكرمه معز الدولة وأحسن إليه.
وفيها مات أبو القاسم عبدالله بن أي عبدالله البريدي.
وفيها أسلم من الأتراك نحو مائتي ألف خركاة.
وفيها انصرف حجاج مصر من الحج، فنزلوا وادياً وباتوا فيه، فأتاهم السيل ليلاً فأخذهم جميعهم مع أثقالهم وجمالهم فألقاهم في البحر.
وفيها سار ركن الدولة من الري إلى جرجان، فلقيه الحسن بن الفيرزان، وابن عبد الرزاق، فوصلهما بمال جليل.
وفيها كان بالبلاد غلاء شديد، وكان أكثره بالموصل فبلغ الكر من الحنطة ألفاً ومائتي درهم، والكر من الشعير ثمانمائة درهم، وهر أهلها إلى الشام والعراق.
وفيها، خامس شعبان، كان ببغداد فتنة عظيمة بين العامة، وتعطلت الجمعة من الغد لاتصال الفتنة في الجانبين، سوى مسجد براثا فإن الجمعة تمت فيه، وقبض على جماعة من بني هاشم اتهموا أنهم سبب الفتنة، ثم أطلقوا من الغد.
وفيها توفي أبو الخي الأقطع التيناتي، أو قريباً من هذه السنة، وكان عمره مائة وعشرين سنة، وله كرامات مشهورة مسطورة.

التيناتي بالتاء المكسورة المعجمة باثنتين من فوق، ثم الياء المعجمة باثنتين من تحت، ثم بالنون والألف ثم بالتاء المثناة من فوق أيضاً.
وفيها مات أو إسحاق بن ثوابة كاتب الخليفة ومعز الدولة، وقلد ديوان الرسائل بعده إبراهيم بن هلال الصابي.
وفيها، في آخرها، مات أنوجور بن الإخشيد صاب مصر، وتقلد أخوه علي مكانه.
ثم دخلت سنة خمسين وثلاثمائة

ذكر بناء معز الدولة دوره ببغداد
في هذه السنة، في المحرم، مرض معز الدولة، وامتنع عليه البول، ثم كان يبول بعد جهد ومشقة دماً، وتبعه البول، والحصى، والرمل، فاشتد جزعه وقلقه، وأحضر الوزير المهلبين والحاجب سبكتكين، فأصلح بينهما، ووصاهما بابنه بختيار، وسلم جميع ماله إليه.
ثم إنه عوفي، فعزم على المسير إلى الأهواز لأنه اعتقد أن ما اعتاده من الأمراض إنما هو بسبب مقامه ببغداد، وظن أنه إن عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه من الصحة، ونسي الكبر والشباب، فلما انحدر إلى كلواذى ليتوجه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمقام، وأن يفكر في هذه الحركة ولا يعجل، فأقام بها، ولم يؤثر أحد من أصحابه انتقاله لمفارقة أوطانهم وأسفاً على بغداد كيف تخرب بانتقال دار الملك عنها، فأشاروا عليه بالعود إلى بغداد، وأن يبني بها له داراً في أعلى بغداد لتكون أرق هواء، وأصفى ماء، ففعل، وشرع في بناء داره في موضع المسناة المعزية، فكان مبلغ ما خرج عليها إلى أن مات ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج بسبب ذلك إلى مصادره جماعة من أصحابه.
ذكر موت الأمير عبد الملك بن نوحفي هذه السنة سقط الفرس تحت الأمير عبد الملك بن نوح، صاحب خراسان، فوقع إلى الأرض، فمات من سقطته، وافتتنت خراسان بعده، وولي بعده أخوه منصور بن نوح، وكان موته يوم الخميس حادي عشر شوال.
ذكر وفاة عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس وولاية ابنه الحاكمفي هذه السنة توفي عبد الرحمن بن محمد بن عبدالله صاحب الأندلس، الملقب بالناصر لدين الله، في رمضان، فكانت إمارته خمسين سنة وستة أشهر، وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة، وكان أبيض، أشهل، حسن الوجه، عظيم الجسم، قصير الساقين، كان ركاب سرجه يقارب الشبر، وكان طويل الظهر، وهو أول من تلقب من الأمويين بألقاب الخلفاء، وتسمى بأمير المؤمنين، وخلف أحد عشر ولداً ذكراً، وكان من تقدمه من آبائه يخاطبون ويخطب لهم بالأمير وأبناء الخلائف.
وبقي هو كذلك إلى أن مضى من إمارته سبع وعشرون سنة، فلما بلغه ضعف الخلفاء بالعراق وظهور العلويين بإفريقية، ومخاطبتهم بأمير المؤمنين، أمر حينئذ أن يلقب الناصر لدين الله، ويخطب له بأمير المؤمنين؛ ويقول أهل الأندلس إنه أول خليفة ولي بعد جده، وكانت أمه أم ولد اسمها مزنة، ولم يبلغ أحد ممن تلقب بأمير المؤمنين مدته في الخلافة غير المستنصر العلوي صاحب مصر، فإن خلافته كانت ستين سنة.
ولما مات ولي الأمر بعده ابنه الحاكم بن عبد الرحمن، وتلقب بالمستنصر، وأمه أم ولد تسمى مرجانة، وخلف الناصر عدة أولاد منهم عبدالله، وكان شافعي المذهب عالماً بالشعر والأخبار وغيرهما، وكان ناسكاً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار قفل عظيم من إنطاكية إلى طرسوس ومعهم صاحب إنطاكية، فخرج عليهم كمين للروم فأخذ من كان فيها من المسلمين، وقتل كثيراً منهم، وأفلت صاحب إنطاكية وبه جراحات.
وفيها، في رمضان، دخل نجا غلام سيف الدولة بلاد الروم من ناحية ميافارقين غازياً، وإنه في رمضان غنم ما قيمته قيمة عظيمة، وسبى، وأسر، وخرج سالماً.
وفيها مات القاضي أبو السائب عتبة بن عبدالله، وقبضت أملاكه، وتولى قضاء القضاة أبو العباس بن عبدالله بن الحسن بن أبي الشوارب، وضمن أن يؤدي كل سنة مائتي ألف درهم، وهو أول من ضمن القضاء، وكان ذلك أيام معز الدولة، ولم يسمع بذلك قبله، فلم يأذن له الخليفة المطيع لله بالدخول عليه، وأمر بأن لا يحضر الموكب لما ارتكبه من ضمان القضاء، ثم ضمنت بعده الحسبة والشرطة ببغداد.
وفيها وصل أبو القاسم أخو عمران بن شاهين إلى معز الدولة مستأمناً.
وفيها توفي القاضي أبو بكر أحمد بن كامل، وهو من أصحاب الطبري، وكان يروي تاريخه.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة
ذكر استيلاء الروم على عين زربة

في هذه السنة، في المحرم، نزل الروم مع الدمستق على عين زربة، وهي في سفح جبل عظيم، وهو مشرف عليها، وهم في جمع عظيم، فأنفذ بعض عسكره فصعدوا الجبل فملكوه، فلما رأى ذلك أهلها، وأن الدمستق قد ضيق عليهم ومعه الدبابات، وقد وصل إلى السور، وشرع في النقب، طلبوا الأمان فأمنهم الدمستق، وفتحوا له باب المدينة، فدخلها، فرأى أصحابه الذين في الجبل قد نزلوا إلى المدينة، فندم على إجابتهم إلى الأمان.
ونادى في البلد، أول الليل، بأن يخرج جميع أهله إلى المسجد الجامع، ومن تأخر في منزله قتل، فخرج من أمكنه الخروج فلما أصبح أنفذ رجالته في المدينة، وكانوا ستين ألفاً، وأمرهم بقتل من وجدوه في منزله، فقتلوا خلقاً كثيراً من الرجال والنساء والصبيان، وأمر بجمع ما في البلد من السلاح، فجمع، فكان شيئاً كثيراً.
وأمر من في المسجد بأن يخرجوا من البلد حيث شاؤوا، يومهم ذلك، ومن أمسى قتلن فخرجوا مزدحمين، فمات بالزحمة جماعة، ومروا على وجوههم لا يدرون أين يتوجهون، فماتوا في الطرقات، وقتل الروم من وجدوه بالمدينة آخر النهار، وأخذوا كل ما خلفه الناس من أموالهم وأمتعتهم، وهدموا سوري المدينة.
وأقام الدمستق في بلد الإسلام أحداً وعشرين يوماً، وفتح حول عين زربة أربعة وخمسين حصناً للمسلمين بعضها بالسيف وبعضها بالأمان، وإن حصناً من تلك الحصون التي فتحت بالأمان أمر أهله بالخروج منه فخرجوا، فتعرض أحد الأرمن لبعض حرم المسلمين، فلحق المسلمين غيرة عظيمة، فجردوا سيوفهم، فاغتاظ الدمستق لذلك فأمر بقتل جميع المسلمين وكانوا أربعمائة رجل، وقتل النساء والصبيان، ولم يترك إلا من يصلح أن يسترق.
فلما أدركه الصوم انصرف على أن يعود بعد العيد، وخلف جيشه بقيسارية، وكان ابن الزيات، صاحب طرسوس، قد خرج في أربعة آلاف رجل من الطرسوسيين، فأوقع بهم الدمستق، فقتل أكثرهم، وقتل أخاً لابن الزيات، فعاد إلى طرسوس، وكان قد قطع الخطبة لسيف الدولة بن حمدان، فلما أصابهم هذا الوهن أعاد أهل البلد الخطبة لسيف الدولة وراسلوه بذلك، فلما علم ابن الزيات حقيقة الأمر صعد إلى روشن في داره فألقى نفسه منه إلى نهر تحته. فغرق وراسل أهل بغراس الدمستق، وبذلوا له مائة ألف درهم، فأقرهم وترك معارضتهم.
ذكر استيلاء الروم على مدينة حلب

وعودهم عنها بغير سبب
في هذه السنة استولى الروم على مدينة حلب دون قلعتها.
وكان سبب ذلك أن الدمستق سار إلى حلب، ولم يشعر به المسلمون، لأنه كان قد خلف عسكره بقيسارية ودخل بلادهم كما ذكرناه، فلما قضى صوم النصارى خرج إلى عسكره من البلاد جريدة، ولم يعلم به أحد، وسار هم عند وصوله، فسبق خبره، وكبس مدينة حلب، ولم يعلم به سيف الدولة ابن حمدان ولا غيره.
فلما بلغها وعلم سيف الدولة الخبر أعجله الأمر عن الجمع والاحتشاد، فخرج إليه فيمن معه، فقاتله فلم يكن له قوة الصبر لقلة من معه، فقتل أكثرهم، ولم يبق من أولاد داود بن حمدان أحد، قتلوا جميعهم، فانهزم سيف الدولة في نفر يسير، وظفر الدمستق بداره، وكانت خارج مدينة حلب، تسمى الدارين، فوجد فيها لسيف الدولة ثلاثمائة بدرة من الدراهم، وأخذ له ألفاً وأربعمائة بغل، ومن خزائن السلاح ما لا يحصى، فأخذ الجميع، وخرب الدار، وملك الحاضر، وحصر المدينة، فقاتله أهلها.
وهدم الروم في السور ثلمة، فقاتلهم أهل حلب عليها، فقتل من الروم كثير، ودفعوهم عنها، فلما جنهم الليل عمروها، فلما رأى الروم ذلك تأخروا إلى جبل جوشن.
ثم إن رجالة الشرطة بحلب قصدوا منازل الناس، وخانات التجار لينهبوها، فلحق الناس أموالهم ليمنعوها، فخلا السور منهم، فلما رأى الروم السور خالياً من الناس قصدوه وقربوا منه، فلم يمنعهم أحد، فصعدوا إلى أعلاه فرأوا الفتنة قائمة في البلد بين أهله، فنزلوا وفتحوا الأبواب، ودخلوا البلد بالسيف يقتلون من وجدوا، ولم يرفعوا السيف إلى أن تعبوا وضجروا.

وكان في حلب ألف وأربعمائة من الأسرى، فتخلصوا، وأخذوا السلاح، وقتلوا الناس، وسبي من البلد بضعة عشر ألف صبي وصبية، وغنموا ما لا يوصف كثرةً، فلما لم يبق مع الروم ما يحملون عليه الغنيمة أمر الدمستق بإحراق الباقي، وأحرق المساجد، وكان قد بذل لأهل البلد الأمان على أن يسلموا إليه ثلاثة آلاف صبي وصبية ومالاً ذكره، وينصرف عنهم، فلم يجيبوه إلى ذلك، فملكهم كما ذكرنا، وكان عدة عسكره مائتي ألف رجل، منهم ثلاثون ألف رجل بالجواشن، وثلاثون ألفاً للهدم وإصلاح الطرق من الثلج، وأربعة آلاف بغل يحمل الحسك الحديد.
ولما دخل الروم البلد قصد الناس القلعة، فمن دخلها نجا بحشاشة نفسه، وأقام الدمستق تسعة أيام، وأراد الانصراف عن البلد بما غنم، فقال له ابن أخت الملك، وكان معه: هذا البلد قد حصل في أيدينا، وليس من يدفعنا عنه، فلأي سبب ننصرف عنه ؟ فقال الدمستق: قد بلغنا ما لم يكن الملك يؤمله، وغنمنا، وقتلنا، وخربنا، وأحرقنا، وخلصنا أسراناً، وبلغنا ما لم يسمع بمثله؛ فتراجعا الكلام إلى أن قال له الدمستق: انزل على القلعة فحاصرها، فإنني مقيم بعسكري على باب المدينة؛ فتقدم ابن أخت الملك إلى القلعة، ومعه سيف وترس، وتبعه الروم، فلما قرب من باب القلعة ألقي عليه حجر فسقط، ورمي بخشب فقتل، فأخذه أصحابه وعادوا إلى الدمستق، فلما رآه قتيلاً قتل من معه من أسرى المسلمين، وكانوا ألفاً ومائتي رجل، وعاد إلى بلاده، ولم يعرض لسواد حلب، وأمر أهله بالزراعة والعمارة ليعود إليهم بزعمه.
ذكر استيلاء ركن الدولة بن بويه على طبرستان وجرجانفي هذه السنة، في المحرم، سار ركن الدولة إلى طبرستان، وبها وشمكير، فنزل على مدينة سارية فحصرها وملكها، ففارق حينئذ وشمكير طبرستان وقصد جرجان، فأقام ركن الدولة بطبرستان إلى أن ملكها كلها، وأصلح أمورها، وسار في طلب وشمكير إلى جرجان، فأزاح وشمكير عنها، واستولى عليها، واستأمن إليه من عسكر وشمكير ثلاثة آلاف رجل، فازداد قوة، وازداد وشمكير ضعفاً ووهناً فدخل بلاد الجيل.
ذكر ما كتب على مساجد بغدادفي هذه السنة، في ربيع الآخر، كتب عامة الشيعة ببغداد، بأمر معز الدولة، على المساجد ما هذه صورته: لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة، رضي الله عنها، فدكاً، ومن منع من أن يدفن الحسن عند قبر جده، عليه السلام، ومن نفى أبا ذر الغفاري، ومن أخرج العباس من الشورى، فأما الخليفة فكان محكوماً عليه لا يقدر على المنع، وأما معز الدولة فبأمره كان ذلك.
فلما كان الليل حكه بعض الناس، فأراد معز الدولة إعادته، وأشار عليه الوزير أبو محمد المهلبي بأن يكتب مكان ما محي: لعن الله الظالمين لآل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر أحداً في اللعن إلا معاوية، ففعل ذلك.
ذكر فتح طبرمين من صقليةوفي هذه السنة سارت جيوش المسلمين بصقلية، وأميرهم حينئذ أحمد ابن الحسن بن علي بن أبي الحسين، إلى قلعة طبرمين من صقلية أيضاً، وهي بيد الروم، فحصروها، وهي من أمنع الحصون وأشدها على المسلمين، فامتنع أهلها، ودام الحصار عليهم، فلما رأى المسلمون ذلك عمدوا إلى الماء الذي يدخلها فقطعوه عنها، وأجروه إلى مكان آخر، فعظم الأمر عليهم، وطلبوا الأمان، فلم يجابوا إليه، فعادوا وطلبوا أن يؤمنوا على دمائهم، ويكونوا رقيقاً للمسلمين، وأموالهم فيئاً، فأجيبوا إلى ذلك، وأخرجوا من البلد، وملكه المسلمون في ذي القعدة.
وكانت مدة الحصار سبعة أشهر ونصفاً، وأسكنت القلعة نفراً من المسلمين، وسميت العزية، نسبة إلى المعز العلوي صاحب إفريقية، وسار جيش إلى رمطة مع الحسن بن عمار، فحصروها وضيقوا عليها، فكان ما نذكره سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، أرسل الأمير منصور بن نوح، صاحب خراسان وما وراء النهر، إلى بعض قواده الكبار، واسمه الفتكين، يستدعيه، فامتنع، فأنفذ إليه جيشاً، فلقيهم الفتكين فهزمهم، وأسر وجوه القواد منهم، وفيهم خال منصور.
وفيها، في منتصف ربيع الأول أيضاً، انخسف القمر جميعه وفيها، في جمادى الأولى، كانت فتنة بالبصرة وبهمذان أيضاً بين العامة بسبب المذاهب، قتل فيها خلق كثير.
وفيها أيضاً فتح الروم حصن دلوك وثلاثة حصون مجاورة له بالسيف.

وفيها لقب الخليفة المطيع لله فناخسرو بن ركن الدولة بعضد الدولة.
وفيها، في جمادى الآخرة، أعاد سيف الدولة بناء عين زربة، وسير حاجبه في جيش مع أهل طرسوس إلى بلاد الروم، فغنموا، وقتلوا، وسبوا وعادوا، فقصد الروم حصن سيسية فملكوه.
وفيها سار نجا غلام سيف الدولة في جيش إلى حصن زياد، فلقيه جمع من الروم، فهزمهم، واستأمن إليه الروم من خمسمائة رجل.
وفيها، في شوال، أسرت الروم أبا فراس بن سعيد بن حمدان من منبج، وكان متقلداً لها، وله ديوان شعر جيد.
وفيها سار جيش من الروم في البحر إلى جزيرة أقريطش، فأرسل أهلها إلى المعز لدين الله العلوي صاحب إفريقية يستنجدونه، فأرسل إليهم نجدة، فقاتلوا الروم، فانتصر المسلمون، وأسر من كان بالجزيرة من الروم.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد النقاش المقرئ، صاحب كتاب شفاء الصدور؛ وعبد الباقي بن قانع مولى بني أمية، وكان مولده سنة خمس وتسعين ومائتين؛ ودعلج بن أحمد السجزي العدل؛ وأبو عبدالله محمد بن أبي موسى الهاشمي.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة

ذكر عصيان أهل حران
في هذه السنة، في صفر، امتنع أهل حران على صاحبها هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان، وعصوا عليه.
وسبب ذلك أنه كان متقلداً لها ولغيرها من ديار مضر من قبل عمه سيف الدولة، فعسفهم نوابه وظلموهم، وطرحوا الأمتعة على التجار من أهل حران، وبالغوا في ظلمهم.
وكان هبة الله عند عمه سيف الدولة بحلب، فثار أهلها على نوابه وطردوهم، فسمع هبة الله بالخبر، فسار إليهم وحاربهم، وحصرهم، فقاتلهم وقاتلوه أكثر من شهرين، فقتل منهم خلق كثير، فلما رأى سيف الدولة شدة الأمر واتصال الشر قرب منهم وراسلهم، وأجابهم إلى ما يريدون، فاصطلحوا وفتحوا أبواب البلد، وهرب منه العيارون خوفاً من هبة الله.
ذكر وفاة الوزير أبي محمد المهلبيفي هذه السنة سار الوزير أبو محمد المهلبي، وزير معز الدولة، في جمادى الآخرة، في جيش كثيف إلى عمان ليفتحها، فلما بلغ البحر اعتل، واشتدت علته، فأعيد إلى بغداد، فمات في الطريق في شعبان، وحمل تابوته إلى بغداد فدفن بها، وقبض معز الدولة أمواله وذخائره وكل ما كان له، وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه، حتى ملاحه، ومن خدمه يوماً واحداً، فقبض عليهم وحبسهم، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه.
وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وكان كريماً فاضلاً ذا عقل ومروة، فمات بموته الكرم.
ونظر في الأمور بعده أبو الفضل العباس بن الحسين الشيرازي، وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس من غير تسمية لأحدهما بوزارة.
ذكر غزوة إلى الروم وعصيان حرانفي هذه السنة، في شوال، دخل أهل طرسوس بلاد الروم غازين، ودخلها أيضاً نجا غلام سيف الدولة بن حمدان من درب آخر، ولم يكن سيف الدولة معهم لمرضه، فإنه كان قد لحقه، قبل ذلك بسنتين، فالج، فأقام على رأس دربٍ من تلك الدروب، فأوغل أهل طرسوس في غزوتهم حتى وصلوا إلى قونية، وعادوا، فرجع سيف الدولة إلى حلب، فلحقه في الطريق غشية أرجف عليه الناس بالموت، فوثب هبة الله ابن أخيه ناصر الدولة بن حمدان بابن دنجا النصراني فقتله، وكان خصيصاً بسيف الدولة، وإنما قتله لأنه كان يتعرض لغلام له، فغار لذلك.
ثم أفاق سيف الدولة، فلما علم هبة الله أن عمه لم يمت هرب إلى حران، فلما دخلها أظهر لأهلها أن عمه مات، وطلب منهم اليمين على أن يكونوا سلماً لمن سالمه، وحرباً لن حاربه، فحلفوا له، واستثنوا عمه في اليمن، فأرسل سيف الدولة غلامه نجا إلى حران في طلب هبة الله، فلما قاربها هرب هبة الله إلى أبيه بالموصل، فنزل نجا على حران في السابع والعشرين من شوال، فخرج أهلها إليه من الغد، فقبض عليهم، وصادرهم على ألف ألف درهم، ووكل بهم حتى أدوها في خمسة أيام، بعد الضرب الوجيع بحضرة عيالاتهم وأهليهم، فأخرجوا أمتعتهم فباعوا كل ما يساوي ديناراً بدرهم، لأن أهل البلد كلهم كانوا يبيعون ليس فيهم من يشتري لأنهم مصادرون، فاشترى ذلك أصحاب نجا بما أرادوا، وافتقر أهل البلد، وسار نجا إلى ميافارقين، وترك حران شاغرة بغير والٍ، فتسلط العيارون على أهلها، وكان من أمر نجا ما نذكره سنة ثلاث وخمسين.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عاشر المحرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح، وأن يخرج النساء منشرات الشعور، مسودات الوجوه، قد شققن ثيابهن، يدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي، رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنة قدرة على المنع منه لكثرة الشيعة، ولأن السلطان معهم.
وفيها، في ربيع الأول، اجتمع من رجالة الأرمن جماعة كثيرة، وقصدوا الرها فأغاروا عليها، فغنموا، وأسروا، وعادوا موفورين.
وفيها عزل ابن أبي الشوارب عن قضاء بغداد، وتقلد مكانه أبو بشر عمرو ابن أكثم، وعفي عما كان يحمله ابن أبي الشوارب من الضمان عن القضاء، وأمر بإبطال أحكامه وسجلاته.
وفيها، في شعبان، ثار الروم بملكهم فقتلوه وملكوا غيره، وصار ابن شمشقيق دمستقاً، وهو الذي يقوله العامة ابن الشمشكي.
وفيها، في ثامن عشر ذي الحجة، أمر معز الدولة بإظهار الزينة في البلد، وأشعلت النيران بمجلس الشرطة، وأظهر الفرح، وفتحت الأسواق بالليل، كما يفعل ليالي الأعياد، فعل ذلك فرحاً بعيد الغدير، يعني غدير خم، وضربت الدبادب والبوقات، وكان يوماً مشهوداً.
وفيها، في ذي الحجة الواقع في كانون الثاني، خرج الناس في العراق للاستسقاء لعدم المطر.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة

ذكر عصيان نجا وقتله
وملك سيف الدولة بعض أرمينية
قد ذكرنا سنة اثنتين وخمسين ما فعله نجا غلام سيف الدولة بن حمدان بأهل حران، وما أخذه من أموالهم، فلما اجتمعت عنده تلك الأموال قوي بها وبطر، ولم يشكر ولي نعمته بل كفره، وسار إلى ميافارقين، وقصد بلاد أرمينية، وكان قد استولى على كثير منها رجل من العرب يعرف بأبي الورد، فقاتله نجا، فقتل أبو الورد وأخذ نجا قلاعه وبلاده: خلاط وملازكرد وموش وغيرها، وحصل له من أموال أبي الورد شيء كثير، فأظهر العصيان على سيف الدولة.
فاتفق أن معز الدولة بن بويه سار من بغداد إلى الموصل، ونصيبين، واستولى عليها، وطرد عنها ناصر الدولة على ما ذكرناه آنفاً، فكاتبه نجا وراسله، وهو بنصيبين، يعده المعاضدة والمساعدة على مواليه بني حمدان، فلما عاد معز الدولة إلى بغداد واصطلح هو وناصر الدولة سيف الدولة إلى نجا ليقاتله على عصيانه عليه، وخروجه عن طاعته، فلما وصل إلى ميافارقين هرب نجا من بين يديه، فملك سيف الدولة بلاده وقلاعه التي أخذها من أبي الورد، واستأمن إليه جماعة من أصحاب نجا فقتلهم، واستأمن إليه أخو نجا، فأحسن إليه وأكرمه، وأرسل إلى نجا يرغبه ويرهبه إلى أن حضر عنده، فأحسن إليه وأعاده إلى مرتبته.
ثم إن غلمان سيف الدولة وثبوا على نجا في دار سيف الدولة بميافارقين، في ربيع الأول سنة أربع وخمسين، فقتلوه بين يديه، فغشي على سيف الدولة، وأخرج نجا فألقي في مجرى الماء والأقذار، وبقي إلى الغد ثم أخرج ودفن.
ذكر حصر الروم المصيصة ووصول الغزاة من خراسانفي هذه السنة حصر الروم مع الدمستق المصيصة، وقاتلوا أهلها، ونقبوا سورها، واشتد قتال أهلها على النقب حتى دفعهم عنه بعد قتال عظيم، وأحرق الروم رستاقها ورستاق أذنه وطرسوس لمساعدتهم أهلها، فقتل من المسلمين خمسة عشر ألف رجل، وأقام الروم في بلاد الإسلام خمسة عشر يوماً لم يقصدهم من يقاتلهم، فعادوا لغلاء الأسعار وقلة الأقوات.
ثم إن إنساناً وصل إلى الشام من خراسان يريد الغزاة ومعه نحو خمسة آلاف رجل، وكان طريقهم على أرمينية وميارفارقين، فلما وصلوا إلى سيف الدولة في صفر أخذهم سيف الدولة وسار بهم نحو بلاد الروم لدفعهم عن المسلمين، فوجدوا الروم قد عادوا، فتفرق الغزاة الخراسانية في الثغور لشدة الغلاء، وعاد أكثرهم إلى بغداد ومنها إلى خراسان.
ولما أراد الدمستق العود إلى بلاد الروم أرسل إلى أهل المصيصة وأذنه وطرسوس: إني منصرف عنكم لا لعجز، ولكن لضيق العلوفة وشدة الغلاء، وأنا عائد إليكم، فمن انتقل منكم فقد نجا، ومن وجدته بعد عودي قتله.
ذكر ملك معز الدولة الموصل
وعوده عنها
في هذه السنة، في رجب، سار معز الدولة من بغداد إلى الموصل وملكها.

وسبب ذلك أن ناصر الدولة كان قد استقر الصلح بينه وبين معز الدولة على ألف ألف درهم يحملها ناصر الدولة كل سنة، فلما حصلت الإجابة من معز الدولة بذل زيادة ليكون اليمين أيضاً لولده أبي تغلب فضل الله الغضنفر معه، وأن يحلف معز الدولة لهما، فلم يجب إلى ذلك، وتجهز معز الدولة وسار إلى الموصل في جمادى الآخرة، فلما قاربها سار ناصر الدولة إلى نصيبين، ووصل معز الدولة إلى الموصل وملكها في رجب، وسار يطلب ناصر الدولة حادي عشر شعبان، واستخلف على الموصل أبا العلاء صاعد بن ثابت ليحمل الغلات ويجبي الخراج، وخلف بكتوزون وسبكتكين العجمي في جيش ليحفظ البلد.
فلما قارب معز الدولة نصيبين فارقها ناصر الدولة، وملك معز الدولة نصيبين، ولم يعلم أي جهة قصد ناصر الدولة، فخاف أن يخالفه إلى الموصل، فعاد عن نصيبين نحو الموصل، وترك بها من يحفظها، وكان أبو تغلب بن ناصر الدولة قد قصد الموصل، وحارب من بها من أصحاب معز الدولة، وكانت الدائرة عليه، فانصرف بعد أن أحرق السفن التي لمعز الدولة وأصحابه.
ولما انتهى الخبر إلى معز الدولة بظفر أصحابه سكنت نفسه، وأقام ببرقعيد يتوقع أخبار ناصر الدولة، فبلغه أنه نزل بجزيرة ابن عمر، فرحل عن برقعيد إليها، فوصلها سادس شهر رمضان، فلم يجد بها ناصر الدولة، فملكها، وسأل عن ناصر الدولة فقيل: إنه بالحسنية، ولم يكن كذلك، وإنما كان قد اجتمع هو وأولاده وعساكره وسار نحو الموصل، فأوقع بمن فيها من أصحاب معز الدولة، فقتل كثيراً منهم، وأسر كثيراً، وفي الأسرى أبو العلاء، وسبكتكين، وبكتوزون، وملك جميع ما خلفه معز الدولة من مال وسلاح وغير ذلك، وحمل جميعه مع الأسرى إلى قلعة كواشى.
فلما سمع معز الدولة بما فعله ناصر الدولة سار يقصده، فرحل ناصر الدولة إلى سنجار، فلما وصل معز الدولة بلغه مسير ناصر الدولة إلى سنجار، فعاد إلى نصيبين، فسار أبو تغلب بن ناصر الدولة إلى الموصل، فنزل بظاهرها عند الدير الأعلى، ولم يتعرض إلى أحد ممن بها من أصحاب معز الدولة، فلما سمع معز الدولة بنزول أبي تغلب بالموصل سار إليها، ففارقها أبو تغلب وقصد الزاب فأقام عنده، وراسل معز الدولة في الصلح، فأجابه لأنه علم أنه متى فارق الموصل عادوا وملكوها، ومتى أقام بها لا يزال متردداً وهم يغيرون على النواحي، فأجابه إلى ما التمسه، وعقد عليه ضمان الموصل وديار ربيعة والرحبة وما كان في يد أبيه بمال قرره، وأن يطلق من عندهم من الأسرى، فاستقرت القواعد على ذلك، ورحل معز الدولة إلى بغداد، وكان معه في سفرته هذه ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة.
ذكر حال الداعي العلويكان قد هرب أبو عبدالله محمد بن الحسين المعروف بابن الداعي من بغداد، وهو حسني من أولاد الحسن بن علي، رضي الله عنهما، وسار نحو بلاد الديلم، وترك أهله وعياله ببغداد، فلما وصل إلى بلاد الديلم اجتمع عليه عشرة آلاف رجل، فهرب ابن الناصر العلوي من بين يديه، وتلقب ابن الداعي بالمهدي لدين الله، وعظم شأنه، وأوقع بقائد كبير من قواد وشمكير فهزمه.
ذكر حصر الروم طرسوس والمصيصةوفي هذه السنة أيضاً نزل ملك الروم على طرسوس وحصرها، وجرى بينهم وبين أهلها حروب كثيرة سقط في بعضها الدمستق بن الشمشقيق إلى الأرض، وكاد يؤسر، فقاتل عليه الروم وخلصوه، وأسر أهل طرسوس بطريقاً كبيراً من بطارقة الروم، ورحل الروم عنهم، وتركوا عسكراً على المصيصة مع الدمستق، فحصرها ثلاثة أشهر لم يمنعهم منها أحد، فاشتد الغلاء على الروم، وكان شديداً قبل نزولهم، فلهذا طمعوا في البلاد لعدم الأقوات عندهم، فلما نزل الروم زاد شدةً، وكثر الوباء أيضاً، فمات من الروم كثير فاضطروا إلى الرحيل.
ذكر فتح رمطة والحرب بين المسلمين والروم بصقليةقد ذكرنا سنة إحدى وخمسين فتح طرمين وحصر رمطة والروم فيها، فلما رأى الروم ذلك خافوا وأرسلوا إلى ملك القسطنطينية يعلمونه الحال، ويطلبون منه أن ينجدهم بالعساكر، فجهز إليهم عسكراً عظيماً يزيدون على أربعين ألف مقاتل، وسيردهم في البحر، فوصلت الأخبار إلى الأمير أحمد أمير صقلية، فأرسل إلى المعز بإفريقية يعرفه ذلك ويستمده، ويسأل إرسال العساكر إليه سريعاً، وشرع هو في إصلاح الأسطول، والزيادة فيه، وجمع الرجال المقاتلة في البر والبحر.

وأما المعز فإنه جمع الرجال، وحشد، وفرق فيهم الأموال الجليلة، وسيرهم مع الحسن بن علي، والد أحمد، فوصلوا إلى صقلية في رمضان، وسار بعضهم إلى الذين يحاصرون رمطة، فكانوا معهم على حصارهم.
فأما الروم فإنهم وصلوا أيضاً إلى صقلية، ونزلوا عند مدينة مسيني في شوال، وزحفوا منها بجموعهم التي لم يدخل صقلية مثلها إلى رمطة، فلما سمع الحسن بن عمار مقدم الجيش الذين يحاصرون رمطة ذلك، جعل عليها طائفة من عسكره يمنعون من يخرج منها، وبرز بالعساكر للقاء الروم وقد عزموا على الموت، ووصل الروم وأحاطوا بالمسلمين.
ونزل أهل رمطة إلى من يليهم ليأتوا المسلمين من ظهورهم، فقاتلهم الذين جعلوا هناك لمنعهم، وصدوهم عما أرادوا، وتقدم الروم إلى القتال، وهم مدلون بكثرتهم وبما معهم من العدد وغيرها، والتحم القتال وعظم الأمر على المسلمين، وألحقهم العدو بخيامهم، وأيقن الروم بالظفر، فلما رأى المسلمون عظم ما نزل بهم اختاروا الموت، ورأوا أنه أسلم لهم وأخذوا بقول الشاعر:
تأخّرت أستبقي الحياة، فلم أجد ... لنفسي حياةً مثل أن أتقدّما
فحمل بهم الحسن بن عمار أميرهم، وحمي الوطيس حينئذ، وحرضهم على قتال الكفار، وكذلك فعل بطارقة الروم، حملوا، وحرضوا عساكرهم.
وحمل منويل مقدم الروم، فقتل في المسلمين، فطعنه المسلمون، فلم يؤثر فيه لكثرة ما عليه من اللباس، فرمى بعضهم فرسه فقتله، واشتد القتال عليه، فقتل هو وجماعة من بطارقته، فلما قتل انهزم الروم أقبح هزيمة، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ووصل المنهزمون إلى جرف خندق عظيم كالحفرة، فسقطوا فيها من خوف السيف، فقتل بعضهم بعضاً حتى امتلأت، وكانت الحرب من بكرة إلى العصر، وبات المسلمون يقاتلونهم في كل ناحية، وغنموا من السلاح والخيل، وصنوف الأموال، ما لا يحد.
وكان في جملة الغنيمة سيف هندي عليه مكتوب: هذا سيف هندي وزنه مائة وسبعون مثقالاً طالما ضرب به بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم ؛ فأرسل إلى المعز مع الأسرى والرؤوس، وسار من سلم من الروم إلى ريو.
وأما أهل رمطة فإنهم ضعفت نفوسهم، وكانت الأقوات قد قلت عندهم، فأخرجوا من فيها من الضعفاء، وبقي المقاتلة، فزحف إليهم المسلمون وقاتلوهم إلى الليل، ولزموا القتال في الليل أيضاً، وتقدموا بالسلاليم فملكوها عنوة، وقتلوا من فيها، وسبوا الحرم والصغار، وغنموا ما فيها، وكان شيئاً كثيراً عظيماً، ورتب فيها من المسلمين من يعمرها ويقيم فيها.
ثم إن الروم تجمع من سلم منهم، وأخذوا معهم من في صقلية وجزيرة ريو منهم، وركبوا مراكبهم يحفظون نفوسهم، فركب الأمير أحمد في عساكره وأصحابه في المراكب أيضاً، وزحف إليهم في الماء وقاتلهم، واشتد القتال بينهم، وألقى جماعة من المسلمين نفوسهم في الماء، وخرقوا كثيراً من المراكب التي للروم، فغرقت، وكثر القتل في الروم، فانهزموا لا يلوي أحد على أحد، وسارت سرايا المسلمين في مدائن الروم، فغنموا منها، فبذل أهلها لهم من الأموال، وهادنوهم، وكان ذلك سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وهذه الوقعة الأخيرة هي المعروفة بوقعة المجاز.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، عاشر المحرم، أغلقت الأسواق ببغداد، يوم عاشوراء، وفعل الناس ما تقدم ذكره، فثارت فتنة عظيمة بين الشيعة والسنة جرح فيها كثير، ونهبت الأموال.
وفيها، في ذي الحجة، ظهر بالكوفة إنسان ادعى أنه علوي، وكان مبرقعاً، فوقع بينه وبينه أبي الحسن محمد بن عمر العلوي وقائع، فلما عاد معز الدولة من الموصل هرب المبرقع.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة

ذكر استيلاء الروم على المصيصة وطرسوس
في هذه السنة فتح الروم المصيصة وطرسوس.
وكان سبب ذلك أن نقفور ملك الروم بنى بقيسارية مدينة ليقرب من بلاد الإسلام، وأقام بها، ونقل أهله إليها، فأرسل إليه أهل طرسوس والمصيصة يبذلون له إتاوة، ويطلبون منه أن ينفذ إليهم بعض أصحابه يقيم عندهم، فعزم على إجابتهم إلى ذلك.

فأتاه الخبر بأنهم قد ضعفوا وعجزوا، وأنهم لا ناصر لهم، وأن الغلاء قد اشتد عليهم، وقد عجزوا عن القوت، وأكلوا الكلاب والميتة، وقد كثر فيهم الوباء، فيموت منهم في اليوم نحو ثلاثمائة نفس، فعاد نقفور عن إجابتهم، وأحضر الرسول وأحرق الكتاب على رأسه، واحترقت لحيته، وقال لهم أنتك كالحية، في الشتاء تخدر وتذبل حتى تكاد تموت، فإن أخذها إنسان، وأحسن إليها، وادفأها انتعشت ونهشته، وأنتم إنما أطعتم لضعفكم، وإن تركتكم حتى تستقيم أحوالكم تأذيت بكم.
وأعاد الرسول، وجمع جيوش الروم وسار إلى المصيصة بنفسه، فحاصرها وفتحها عنوة بالسيف يوم السبت ثالث عشر رجب، ووضع السيف فيهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم رفع السيف ونقل كل من بها إلى بلد الروم، كانوا نحو مائتي ألف إنسان.
ثم سار طرسوس فحصرها، فأذعن أهلها بالطاعة، وطلبوا الأمان، فأجابهم إليه، وفتحوا البلد، فلقيهم بالجميل، وأمرهم أن يحملوا من سلاحهم وأموالهم ما يطيقون ويتركوا الباقي، ففعلوا ذلك، وساروا براً وبحراً، وسير معهم من يحميهم حتى بلغوا إنطاكية.
وجعل الملك المسجد الجامع إصطبلاً لدوابه، وأحرق المنبر، وعمر طرسوس وحصنها، وجلب الميرة إليها حتى رخصت الأسعار، وتراجع إليها كثير من أهلها، ودخلوا في طاعة الملك، وتنصر بعضهم.
وأراد المقام بها ليقرب من بلاد الإسلام، ثم عاد إلى القسطنطينية، وأراد الدمستق، وهو ابن الشمشقيق، أن يقصد ميافارقين، وبها سيف الدولة، فأمره الملك باتباعه إلى القسطنطينية، فمضى إليه.
ذكر مخالفة أهل إنطاكية على سيف الدولةوفي هذه السنة عصى أهل إنطاكية على سيف الدولة بن حمدان.
وكان سبب ذلك أن إنساناً من أهل طرسوس كان مقدماً فيها، يسمى رشيقاً النسيمي، كان في جملة من سلمها إلى الروم وخرج إلى إنطاكية، فلما وصلها خدمه إنسان يعرف بابن الأهوازي كان يضمن الأرحاء بإنطاكية، فسلم إليه ما اجتمع عنده من حاصل الأرحاء، وحسن له العصيان، وأعلمه أن سيف الدولة بميافارقين قد عجز عن العود إلى الشام فعصى واستولى على إنطاكية، وسار إلى حلب، وجرى بينه وبين النائب عن سيف الدولة، وهو قرعويه، حروب كثيرة، وصعد قرعويه إلى قلعة حلب، فتحصن بها، وأنفذ سيف الدولة عسكراً مع خادمه بشارة نجدة لقرعويه، فلما علم بهم رشيق انهزم عن حلب، فسقط عن فرسه، فنزل إليه إنسان عربي فقتله، وأخذ رأسه وحمله إلى قرعويه وبشارة.
ووصل ابن الأهوازي إلى إنطاكية، فأظهر إنساناً من الديلم اسمه دزبر، وسماها الأمير، وتقوى بإنسان علوي ليقيم له الدعوة، وتسمى هو بالأستاذ، فظلم الناس، وجمع الأموال، وقصد قرعويه إلى إنطاكية، وجرت بينهما وقعة عظيمة فكانت على ابن الأهوازي أولاً، ثم عادت على قرعويه، فانهزم وعاد إلى حلب.
ثم إن سيف الدولة عاد عن ميافارقين عند فراغه من الغزاة إلى حلب، فأقام بها ليلة، وخرج من الغد، فواقع دزبر وابن الأهوازي، فقاتل من بها فانهزموا، وأسر دزبر وابن الأهوازي، فقتل دزبر، وسجن ابن الأهوازي مدة ثم قتله.
ذكر عصيان أهل سجستانوفي هذه السنة عصى أهل سجستان على أميرهم خلف بن أحمد، وكان خلف هذا هو صاحب سجستان حينئذ، وكان عالماً محباً لأهل العلم، فاتفق أنه حج سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، واستخلف على أعماله إنساناً من أصحابه يسمى طاهر بن الحسين، فطمع في الملك، وعصى على خلف لما عاد من الحج، فسار خلف إلى بخارى، واستنصر بالأمير منصور بن نوح، وسأله معونته، ورده إلى ملكه، فأنجده وجهز معه العساكر، فسار بهم نحو سجستان، فلما أحس بهم طاهر فارق مدينة خلف وتوجه نحو اسفرار، وعاد خلف إلى قراره وملكه وفرق العساكر.
فلما علم طاهر بذلك عاد إليه، وغلب على سجستان، وفارقها خلف، وعاد إلى حضرة الأمير منصور أيضاً ببخارى، فأكرمه وأحسن إليه، وأنجده بالعساكر الكثيرة، ورده إلى سجستان، فوافق وصوله موت طاهر، وانتصاب ابنه الحسين مكانه، فحاصره خلف وضايقه، وكثر بينهم القتلى، واستظهر خلف عليه، فلما رأى ذلك كتب إلى بخارى يعتذر ويتنصل، ويظهر الطاعة، ويسأل الإقالة، فأجابه الأمير منصور إلى ما طلبه، وكتب في تمكينه من المسير إليه، فسار من سجستان إلى بخارى، فأحسن الأمير منصور إليه.

واستقر خلف بن أحمد بسجستان، ودامت أيامه فيها، وكثرت أمواله ورجاله، فقطع ما كان يحمله إلى بخارى من الخلع والخدم والأموال التي استقرت القاعدة عليها، فجهزت العساكر إليه، وجعل مقدمها الحسين بن طاهر بن الحسين المذكور، فساروا إلى سجستان، وحصروا خلف بن أحمد بحصن أرك، وهو من أمنع الحصون وأعلاها محلاً وأعمقها خندقاً، فدام الحصار عليه سبع سنين.
وكان خلف يقاتلهم بأنواع السلاح، ويعمل بهم أنواع الحيل، حتى إنه كان يأمر بصيد الحيات ويجعلها في جراب ويقذفها في المنجنيق إليهم، فكانوا ينتقلون لذلك من مكان إلى مكان.
فلما طال ذلك الحصار، وفنيت الأموال والآلات، كتب نوح بن منصور إلى أبي الحسن بن سيمجور الذي كان أمير جيوش خراسان، وكان حينئذ قد عزل عنها على ما سنذكره، يأمره بالمسير إلى خلف ومحاصرته، وكان بقوهستان، فسار منها إلى سجستان، وحصر خلفاً، وكان بينهما مودة، فأرسل إليه أبو الحسن يشير عليه بالنزول عن حصن أرك وتسليمه إلى الحسين بن طاهر، ليصير لمن قد حصره من العساكر طريق وحجة يعودون بها إلى بخارى، فإذا تفرقت العساكر عاود هو محاربة الحسين وبكر بن الحسين مفرداً من العساكر، فقبل خلف مشورته، وفارق حصن أرك إلى حصن الطارق، ودخل أبو الحسن السيمجوري إلى أرك، وأقام به الخطبة للأمير نوح، وانصرف عنه، وقرر الحسين بن طاهر فيه.
وسنورد ما يتجدد فيما بعد، وكان هذا أول وهن دخل على دولة السامانية، فطمع أصحاب الأطراف فيهم لسوء طاعة أصحابهم لهم، وقد كان ينبغي أن نورد كل حادثٍ من هذه الحوادث في سنته، لكننا جمعناه لقلته، فإنه كان ينسي أوله لبعد ما بينه وبين آخره.
ذكر طاعة أهل عمان معز الدولة وما كان منهموفيها سير معز الدولة عسكراً إلى عمان، فلقوا أميرها، وهو نافع مولى يوسف بن وجيه، وكان يوسف قد هلك، وملك نافع البلد بعده، وكان أسود، فدخل نافع في طاعة معز الدولة، وخطب له، وضرب له اسمه على الدينار والدرهم، فلما عاد العسكر عنه وثب به أهل عمان فأخرجوه عنهم، وأدخلوا القرامطة الهجريين إليهم وتسلموا البلد، فكانوا يقيمون فيه نهاراً ويخرجون ليلاً إلى معسكرهم، وكتبوا إلى أصحابهم بهجر يعرفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ليلة السبت رابع عشر صفر انخسف القمر جميعه.
وفيها نزلت طائفة من الترك على بلاد الخزر، فانتصر بأهل خوارزم فلم ينجدوهم وقالوا: أنتم كفار، فإن أسلمتم نصرناكم؛ فأسلموا إلا ملكهم، فنصرهم أهل خوارزم، وأزالوا الترك عنهم، ثم أسلم ملكهم بعد ذلك.
وفيها، رابع جمادى الآخرة، تقلد الشريف أبو أحمد الحسين بن موسى والد الرضي والمرتضى نقابة العلويين، وإمارة الحاج، وكتب له منشور من ديوان الخليفة.
وفيها أنفذ القرامطة سرية إلى عمان، والشراة في جبالها كثير، فاجتمعوا، فأوقعوا بالقرامطة، فقتلوا كثيراً منهم، وعاد الباقون.
وفيها ثار إنسان من القرامطة الذين استأمنوا إلى سيف الدولة، واسمه مروان وكان يتقلد السواحل لسيف الدولة، فلما تمكن ثار بحمص فملكها، وملك غيرها، فخرج إليه غلام لقرعويه، حاجب سيف الدولة، اسمه بدر، وواقع القرمطي عدة وقعات، ففي بعضها رمى بدر مروان بنشابة مسمومة، واتفق أن أصحاب مروان أسروا بدراً، فقتله مروان، ثم عاش بعد قتله أياماً ومات.
وفيها قتل المتنبي الشاعر، واسمه أبو الطيب أحمد بن الحسين الكندي، قريباً من النعمانية، وقتل معه ابنه، وكان قد عاد من عند الدولة بفارس، فقتله الأعراب هناك وأخذوا ما معه.
وفيها توفي محمد بن حبان بن أحمد بن حبان أبو حاتم البستي، صاحب التصانيف المشهورة؛ وأبو بكر محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم المفسر النحوي المقرئ، وكان عالماً بنحو الكوفيين، وله تفسير كبير حسن؛ ومحمد بن عبدالله بن إبراهيم بن عبدويه أبو بكر الشافعي في ذي الحجة، وكان عالماً بالحديث عالي الإسناد.
حبان بكسر الحاء والباء الموحدة.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة

ذكر ما تجدد بعمان
واستيلاء معز الدولة عليه

قد ذكرنا في السنة التي قبل هذه خبر عمان ودخول القرامطة إليها، وهرب نافع عنها، فلما هرب نافع، واستولى القرامطة على البلد، كان معهم كاتب يعرف بعلي بن أحمد ينظر في أمر البلد، وكان بعمان قاضٍ له عشيرة وجاه، فاتفق هو وأهل البلد أن ينصبوا في الإمرة رجلاً يعرف بابن طغان، وكان من صغار القواد بعمان، وأدناهم مرتبةً، فلما استقر في الإمرة خاف ممن فوقه من القواد، فقبض على ثمانين قائداً، فقتل بعضهم، وغرق بعضهم.
وقدم البلد ابنا أخت لرجل ممن قد غرقهم، فأقاما مدة، ثم إنهما دخلا على طغان يوماً من أيام السلام، فسلما عليه، فلما تقوض المجلس قتلاه، فاجتمع رأي الناس على تأمير عبد الوهاب بن أحمد بن مروان، وهو من أقارب القاضي، فولي الإمارة بعد امتناع منه، واستكتب علي بن أحمد الذي كان مع الهجريين، فأمر عبد الوهاب كاتبه علياً أن يعطي الجند أرزاقهم صلة، ففعل ذلك، فلما انتهى إلى الزنج، وكانوا ستة آلاف رجل، ولهم بأس وشدة، قال لهم علي: إن الأمير عبد الوهاب أمرني أن أعطي البيض من الجند كذا وكذا، وأمر لكم بنصف ذلك؛ فاضطربوا وامتنعوا، فقال لهم: هل لكم أن تبايعوني فأعطيكم مثل سائر الأجناد ؟ فأجابوه إلى ذلك، وبايعوه، وأعطاهم مثل البيض من الجند، فامتنع البيض من ذلك، ووقع بينهم حرب، فظهر الزنج عليهم، فسكنوا، واتفقوا مع الزنج، وأخرجوا عبد الوهاب من البلد، فاستقر في الإمارة علي بن أحمد.
ثم إن معز الدولة سار إلى واسط لحرب عمران بن شاهين، ولإرسال جيش إلى عمان، فلما وصل إلى واسط قدم عليه نافع الأسود الذي كان صاحب عمان، فأحسن إليه، وأقام للفراغ من أمر عمران بن شاهين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وانحدر من واسط إلى الأبلة، في شهر رمضان، فأقام بها يجهز الجيش والمراكب ليسيروا إلى عمان، ففرغ منه، وساروا منتصف شوال، واستعمل عليهم أبا الفرج محمد بن العباس بن فسانجس، وكانوا في مائة قطعة، فلما كانوا بسيراف انضم إليهم الجيش الذي جهزه عضد الدولة من فارس نجدةً لعمة معز الدولة، فاجتمعوا وساروا إلى عمان، ودخلها تاسع ذي الحجة، وخطب لمعز الدولة فيها، وقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقت مراكبهم، وهي تسعة وثمانون مركباً.
ذكر هزيمة إبراهيم بن المرزبانفي هذه السنة انهزم إبراهيم بن المرزبان عن أذربيجان إلى الري وسبب ذلك أن إبراهيم لما انهزم من جستان بن شرمزن، على ما ذكرناه سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، قصد أرمينية، وشرع يستعد ويتجهز للعود إلى أذربيجان، وكانت ملوك أرمينية من الأرمن والأكراد، وراسل جستان ابن شرمزن، وأصلحه، فأتاه الخلق الكثير.
واتفق أن إسماعيل ابن عمه وهسوذان توفي، فسار إبراهيم إلى أردبيل فملكها، وانصرف أبو القاسم بن مسيكي إلى وهسوذان، وصار معه، وسار إبراهيم إلى عمه وهسوذان يطالبه بثأر إخوته، فخافه عمه وهسوذان، وسار هو وابن مسيكي إلى بلد الديلم، واستولى إبراهيم على أعمال عمه، وخبط أصحابه، وأخذ أمواله التي ظفر بها.
وجمع وهسوذان الرجال وعاد إلى قلعته بالطرم، وسير أبا القاسم بن مسيكي في الجيوش إلى إبراهيم، فلقيهم إبراهيم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم إبراهيم، وتبعه الطلب فلم يدركوه، وسار وحده حتى وصل إلى الري، إلى ركن الدولة، فأكرمه ركن الدولة وأحسن إليه، وكان زوج أخت إبراهيم، فبالغ في إكرامه لذلك، وأجزل له الهدايا والصلات.
ذكر خبر الغزاة الخراسانية مع ركن الدولةفي هذه السنة، في رمضان، خرج من خراسان جمع عظيم يبلغون عشرين ألفاً إلى الري بنية الغزاة، فبلغ خبرهم إلى ركن الدولة، وكثرة جمعهم، وما فعلوه في أطراف بلاده من الفساد، وأن رؤساءهم لم يمنعوهم عن ذلك، فأشار عليه الأستاذ أبو الفضل بن العميد، وهو وزيره، بمنعهم من دخول بلاده مجتمعين، فقال: لا تتحدث الملوك أنني خفت جمعاً من العزاة؛ فأشار عليه بتأخيرهم إلى أن يجمع عسكره، وكانوا متفرقين في أعمالهم، فلم يقبل منه، فقال له: أخاف أن يكون لهم مع صاحب خراسان مواطأة على بلادك ودولتك؛ فلم يلتفت إلى قوله.

فلما وردوا الري اجتمع رؤساؤهم، وفيهم القفال الفقيه، وحضروا مجلس ابن العميد، وطلبوا مالاً ينفقونه، فوعدهم، فاشتطوا في الطلب وقالوا: نريد خراج هذه البلاد جميعها، فإنه لبيت المال، وقد فعل الروم بالمسلمين ما بلغكم، واستولوا على بلادكم، وكذلك الأرمن، ونحن غزاة، وفقراء، وأبناء سبيل، فنحن أحق بالمال منكم؛ وطلبوا جيشاً يخرج معهم، واشتطوا في الاقتراح، فعلم ابن العميد حينئذ خبث سرائرهم، وتيقن ما كان ظنه فيهم، فرفق بهم وداراهم، فعدلوا عنه إلى مشاتمة الديلم، ولعنهم، وتكفيرهم، ثم قاموا عنه، وشرعوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسلبون العامة بحجة ذلك، ثم إنهم أثاروا الفتنة، وحاربوا جماعة من الديلم إلى أن حجز بينهم الليل، ثم باكروا القتال ودخلوا المدينة، ونهبوا دار الوزير ابن العميد، وجرحوه، وسلم من القتل.
وخرج ركن الدولة إليهم في أصحابه، وكان في قلة، فهزمه الخراسانية، فلو تبعوه لأتوا عليه وملكوا البلد منه، لكنهم عادوا عنه لأن الليل أدركهم، فلما أصبحوا راسلهم ركن الدولة، ولطف بهم، لعلهم يسيرون من بلده، فلم يفعلوا، وكانوا ينتظرون مدداً يأتيهم من صاحب خراسان، فإنهم كان بينهم مواعدة على تلك البلاد.
ثم إنهم اجتمعوا وقصدوا البلد ليملكوه، فخرج ركن الدولة إليهم فقاتلهم، وأمر نفراً من أصحابه أن يسيروا إلى مكان يراهم، ثم يثيروا غبرة شديدة، ويرسلوا إليه من يخبره أن الجيوش قد أتته، ففعلوا ذلك.
وكان أصحابه قد خافوا لقلتهم، وكثرة عدوهم، فلما رأوا الغبرة وأتاهم من أخبرهم أن أصحابهم لحقوهم قويت نفوسهم، وقال لهم ركن الدولة: احملوا على هؤلاء لعلنا نظفر بهم قبل وصول أصحابنا، فيكون الظفر والغنيمة لنا؛ فكبروا، وحملوا حملة صادقة، فكان لهم الظفر، وانهزم الخراسانية، وقتل منهم خلق كثير، وأسر أكثر ممن قتل، وتفرق الباقون، فطلبوا الأمان، فأمنهم ركن الدولة، وكان قد دخل البلد جماعة منهم يكبرون كأنهم يقاتلون الكفار، ويقتلون كل من رأوه بزي الديلم، ويقولون هؤلاء رافضة، فبلغهم خبر انهزام أصحابهم، وقصدهم الديلم ليقتلوهم، فمنعهم ركن الدولة وأمنهم، وفتح لهم الطريق ليعودوا، ووصل بعهم نحو ألفي رجل بالعدة والسلاح، فقاتلهم ركن الدولة، فهزمهم وقتل فيهم، ثم أطلق الأسرى، وأمر لهم بنفقات، وردهم إلى بلادهم، وكان إبراهيم بن المرزبان عند ركن الدولة، فأثر فيهم آثاراً حسنة.
ذكر عود إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجانفي هذه السنة عاد إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان واستولى عليها.
وكان سبب ذلك أنه لما قصد ركن الدولة، على ما ذكرناه، جهز العساكر معه، وسير الأستاذ أبا الفضل بن العميد ليرده إلى ولايته، ويصلح له أصحاب الأطراف، فسار معه إليها، واستولى عليها، وأصلح له جستان بن شرمزن، وقاده إلى طاعته، وغيره من طوائف الأكراد، ومكنه من البلاد.
وكان ابن العميد لما وصل إلى تلك البلاد، رأى كثرة دخلها، وسعة مياهها، ورأى ما يتحصل لإبراهيم منها، فوجده قليلاً لسوء تدبيره، وطمع الناس فيه لاشتغاله بالشرب والنساء، فكتب إلى ركن الدولة يعرفه الحال، ويشير بأن يعوضه من بعض ولايته بمقدار ما يتحصل له من هذه البلاد، ويأخذها منه، فإنه لا يستقيم له حال مع الذين بها وإنها تؤخذ منه، فامتنع ركن الدولة من قبول ذلك منه، وقال: لا يتحدث الناس عني أني استجار بي إنسان وطمعت فيه؛ وأمر أبا الفضل بالعود عنه وتسليم البلاد إليه، ففعل وعاد، وحكى لركن الدولة صورة الحال، وحذره خروج البلاد من يد إبراهيم، وكان الأمر كما ذكره، حتى أخذ إبراهيم وحبس، على ما نذكره.
ذكر خروج الروم إلى بلاد الإسلاموفي هذه السنة، في شوال، خرجت الروم، فقصدوا مدينة آمد، ونزلوا عليها، وحصروها، وقاتلوا أهلها، فقتل منهم ثلاثمائة رجل، وأسر نحو أربعمائة أسير، ولم يمكنهم فتحها، فانصرفوا إلى دارا، وقربوا من نصيبين، ولقيهم قافلة واردة من ميافارقين، فأخذوها، وهرب الناس من نصيبين خوفاً منهم، حتى بلغت أجرة الدابة مائة درهم.

وراسل سيف الدولة الأعراب ليهرب معهم، وكان في نصيبين، فاتفق أن الروم عادوا قبل هربه، فأقام بمكانه، وساروا من ديار الجزيرة إلى الشام، فنازلوا إنطاكية، فأقاموا عليها مدة طويلة يقاتلون أهلها، فلم يمكنهم فتحها، فخربوا بلدها ونهبوه وعادوا إلى طرسوس.
ذكر ما جرى لمعز الدولة مع عمران بن شاهينقد ذكرنا انحدار معز الدولة إلى واسط لأجل قصد ولاية عمران بن شاهين بالبطائح، فلما وصل إلى واسط أنفذ الجيش مع أبي الفضل العباس بن الحسن، فساروا، فنزلوا الجامدة، وشرعوا في سد الأنهار التي تصب إلى البطائح.
وسار معز الدولة إلى الأبلة، وأرسل الجيش إلى عمان، على ما ذكرناه، وعاد إلى واسط لإتمام حرب عمران وملك بلده، فأقام بها، فمرض، وأصعد إلى بغداد لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة ست وخمسين وهو عليل، وخلف العسكر بها، ووعدهم أنه يعود إليهم، فلما وصل إلى بغداد توفي، على ما نذكره، فدعت الضرورة إلى مصالحة عمران والانصراف عنه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرجت بنو سليم على الحجاج السائرين من مصر والشام، وكانوا عالماً كثيراً، ومعهم من الأموال ما لا حد عليه لأن كثيراً من الناس من أهل الثغور والشام هربوا، من خوفهم من الروم، بأموالهم وأهليهم، وقصدوا مكة ليسيروا منها إلى العراق، فأخذوا، ومات من الناس في البرية ما لا يحصى، ولم يسلم إلا القليل.
وفيها عظم أمر أبي عبدالله الداعي بالديلم، ولبس الصوف، وأظهر النسك والعبادة، وحارب ابن وشمكير، فهزمه وعزم على المسير إلى طبرستان، وكتب إلى العراق كتاباً يدعوهم فيه إلى الجهاد.
وفيها تم الفداء بين سيف الدولة والروم، وسلم سيف الدولة ابن عمه أبا فراس بن حمدان، وأبا الهيثم ابن القاضي أبي الحصين.
وفيها انخسف القمر جميعه ليلة السبت ثالث عشر شعبان، وغاب منخسفاً.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سالم المعروف بابن الجعابي الحافظ البغدادي بها، وكان يتشيع؛ وأبو عبدالله محمد بن الحسين بن علي ابن الحسين بن الوضاح الوضاحي، الشاعر الأنباري.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلاثمائة

ذكر موت معز الدولة
وولاية ابنه بختيار
في هذه السنة، ثالث عشر ربيع الآخر، توفي معز الدولة بعلة الذرب وكان بواسط، وقد جهز الجيوش لمحاربة عمران بن شاهين، فابتدأ به الإسهال، وقوي عليه، فسار نحو بغداد، وخلف أصحابه، ووعدهم أنه يعود إليهم لأنه رجا العافية، فلما وصل إلى بغداد اشتد مرضه، وصار لا يثبت في معدته شيء، فلما أحس بالموت عهد إلى ابنه عز الدولة بختيار، وأظهر التوبة، وتصدق بأكثر ماله، وأعتق مماليكه، ورد شيئاً كثيراً على أصحابه، وتوفي ودفن بباب التبن في مقابر قريش، فكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهراً ويومين.
وكان حليماً كريماً عاقلاً، ولما مات معز الدولة وجلس ابنه عز الدولة في الإمارة مطر الناس ثلاثة أيام بلياليها مطراً دائماً منع الناس من الحركة، فأرسل إلى القواد فأرضاهم، فانجلت السماء، وقد رضوا فسكنوا ولم يتحرك أحد.
وكتب عز الدولة إلى العسكر بمصالحة عمران بن شاهين، ففعلوا وعادوا.
وكانت إحدى يدي معز الدولة مقطوعة، واختلف في سببها قطعها، فقيل قطعت بكرمان لما سار إلى قتال من بها، وقد ذكرناه، وقيل غير ذلك، وهو الذي أحدث أمر السعاة، وأعطاهم عليه الجرايات الكثيرة، لأنه أراد أن يصل خبره إلى أخيه ركن الدولة سريعاً، فنشأ في أيامه فضل ومرعوش، وفاقا جميع السعاة، وكان كل واحد منهما يسير في اليوم نيفاً وأربعين فرسخاً، وتعصب لهما الناس، وكان أحدهما ساعي السنة، والأخر ساعي الشيعة.
ذكر سوء سيرة بختيار وفساد حالهلما حضرت معز الدولة الوفاة وصى ولده بختيار بطاعة عمه ركن الدولة، واستشارته في كل ما يفعله، وبطاعة عضد الدولة ابن عمه لأنه أكبر منه سناً، وأقوم بالسياسة، ووصاه بتقرير كاتبيه أبي الفضل العباس بن الحسين، وأبي الفرج محمد بن العباس لكفايتهما وأمانتهما، ووصاه بالديلم والأتراك وبالحاجب سبكتكين، فخالف هذه الوصايا جميعها، واشتغل باللهو واللعب، وعشرة النساء، والمساخر، والمغنين، وشرع في إيحاش كاتبيه وسبكتكين، فاستوحشوا، وانقطع سبكتكين عنه فلم يحضر داره.

ونفى كبار الديلم عن مملكته شرهاً إلى إقطاعتهم وأموالهم وأموال المتصلين بهم، فاتفق أصاغرهم عليه، وطلبوا الزيادات، واضطر إلى مرضاتهم، واقتدى بهم الأتراك فعملوا مثل ذلك، ولم يتم له على سبكتكين ما يريد لاحتياطه، واتفق الأتراك معه، وخرج الديلم إلى الصحراء، وطالعوا بختيار بإعادة من أسقط منهم، فاحتاج أن يجيبهم لتغير سبكتكين عليه، وفعل الأتراك أيضاً مثل فعلهم.
واتصل خبر موت معز الدولة بكاتبه أبي الفرج محمد بن العباس وهو متولي أمر عمان، فسلمها إلى نواب عضد الدولة وسار نحو بغداد.
وكان سبب تسليمها إلى عضد الدولة أن بختيار لما ملك بعد موت أبيه تفرد أبو الفضل بالنظر في الأمور، فخاف أبو الفرج أن يستمر انفراده عنه، فسلم عمان إلى عضد الدولة لئلا يؤمر بالمقام فيها لحفظها وإصلاحها، وسار إلى بغداد، فلم يتمكن من الذي أراد، وتفرد أبو الفضل بالوزارة.
ذكر خروج عساكر خراسان وموت وشمكيروفي هذه السنة جهز الأمير منصور بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر الجيوش إلى الري.
وكان سبب ذلك أن أبا علي بن إلياس سار من كرمان إلى بخارى ملتجئاً إلى الأمير منصور، على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فلما ورد عليه أكرمه وعظمه، فأطمعه في ممالك بني بويه، وحسن له قصدها، وعرفه أن نوابه لا يناصحونه، وأنهم يأخذون الرشي من الديلم، فوافق ذلك ما كان يذكره له وشمكير، فكاتب الأمير منصور وشمكير، والحسن بن الفيرزان، يعرفهما ما عزم عليه من قصد الري، ويأمرهما بالتجهز لذلك ليسيرا مع عسكره.
ثم إنه جهز العساكر وسيرها مع صاحب جيوش خراسان، وهو أبو الحسن محمد بن إبراهيم سيمجور الدواتي، وأمره بطاعة وشمكير، والانقياد له، والتصرف بأمره، وجعله مقدم الجيوش جميعها.
فلما بلغ الخبر إلى ركن الدولة أتاه ما لم يكن في حسابه، وأخذه المقيم المقعد. وعلم أن الأمر قد بلغ الغاية، فسير أولاده وأهله إلى أصبهان، وكاتب ولده عضد الدولة يستمده، وكاتب ابن أخيه عز الدولة بختيار يستنجده أيضاً.
فأما عضد الدولة فإنه جهز العساكر وسيرهم إلى طريق خراسان، وأظهر أنه يريد قصد خراسان لخلوها من العساكر، فبلغ الخبر أهل خراسان فأحجموا قليلاً، ثم ساروا حتى بلغوا الدامغان، وبرز ركن الدولة في عساكره من الري نحوهم، فاتفق موت وشمكير، فكان سبب موته أنه وصله من صاحب خراسان هدايا من جملتها خيل، فاستعرض الخيل، واختار أحدها وركبه للصيد، فعارضه خنزير قد رمي بحربة، وهي ثابتة فيه، فحمل الخنزير على وشمكير، وهو غافل، فضرب الفرس، فشب تحته، فألقاه إلى الأرض وخرج الدم من أذنيه وأنفه، فحمل ميتاً، وذلك في المحرم من سنة سبع وخمسين، وانتقض جميع ما كانوا فيه وكفى الله ركن الدولة شرهم.
ولما مات وشمكير قام ابنه بيستون مقامه، وراسل ركن الدولة وصالحه، فأمده ركن الدولة بالمال والرجال.
ومن أعجب ما يحكى مما يرغب في حسن النية وكرم المقدرة أن وشمكير لما اجتمعت معه عساكر خراسان وسار كتب إلى ركن الدولة يتهدده بضروب من الوعيد والتهديد، ويقول: والله لئن ظفرت بك لأفعلن بك ولأصنعن، بألفاظ قبيحة، فلم يتجاسر الكاتب أن يقرأه، فأخذه ركن الدولة فقرأه وقال للكاتب: اكتب إليه: أما جمعك وأحشادك فما كنت قط أهون منك علي الآن؛ وأما تهديدك وإيعادك فوالله لئن ظفرت بك لأعاملنك بضده، ولأحسنن إليك ولأكرمنك؛ فلقي وشمكير سوء نيته، ولقي ركن الدولة حسن نيته.
وكان بطبرستان عدو لركن الدولة يقال له نوح بن نصر، شديد العداوة له، لا يزال يجمع له ويقصد أطراف بلاده، فمات الآن، وعصى عليه بهمذان إنسان يقال له أحمد بن هارون الهمذاني لما رأى خروج عساكر خراسان، وأظهر العصيان، فلما أتاه خبر موت وشمكير مات لوقته، وكفى الله ركن الدولة هم الجميع.
ذكر القبض على ناصر الدولة بن حمدانفي هذه السنة قبض أبو تغلب بن ناصر الدولة على أبيه، وحبسه في القلعة، ليلة الست لست بقين من جمادى الأولى.
وكان سبب قبضه أنه كان قد كبر وساءت أخلاقه، وضيق على أولاده وأصحابه، وخالفهم في أغراضهم للمصلحة، فضجروا منه.

وكان فيما خالفهم فيه أنه لما مات معز الدولة عزم أولاده على قصد العراق وأخذه من بختيار، فنهاهم وقال لهم: إن معز الدولة قد خلف مالاً يستظهر به ابنه عليكم، فاصبروا حتى يفرق ما عنده من المال ثم اقصدوه وفرقوا الأموال، فإنكم تظفرون به لا محالة؛ فوثب عليه أبو تغلب، فقبضه، ورفعه إلى القلعة، ووكل به من يخدمه ويقوم بحاجاته وما يحتاج إليه.
فلما فعل ذلك خالفه بعض إخوته، وانتشر أمرهم الذي كان يجمعهم، وصار قصاراهم حفظ ما في أيديهم، واحتاج أبو تغلب إلى مداراة عز الدولة بختيار، وتجديد عقد الضمان ليحتج بذلك على إخوته، ومن خالفه، فضمنه البلاد بألف ألف مائتي ألف درهم كل سنة.
ذكر من مات من الملوكمات فيها وشمكير بن زيار، كما ذكرناه؛ ومعز الدولة، وقد ذكرناه؛ والحسن بن الفيرزان، وكافور الإخشيدي، ونقفور ملك الروم، وأبو علي محمد بن إلياس صاحب كرمان، وسيف الدولة بن حمدان.
فأما سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان بن حمدون التغلبي فإنه مات بحلب في صفر، وحمل تابوته إلى ميافارقين فدفن بها، وكانت علته الفالج، وقيل عسر البول، وكان مولده في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثمائة، وكان جواداً، كريماً، شجاعاً، وأخباره مشهورة في ذلك، وكان يقول الشعر، فمن شعره في أخيه ناصر الدولة:
وهبت لك العليا وقد كنت أهلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق
وما كان بي عنها نكولٌ وإنما ... تجاوزت عن حقّي فتمّ لك الحقّ
أما كنت ترضى أن أكون مصلّياً ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السّبق
وله أيضاً
قد جرى في دمعه دمه ... فإلى كم أنت تظلمه
ردّ عنه الطّرف منك فقد ... جرحته منك أسهمه
كيف يستطيع التجلّد من ... خطرات الوهم تؤلمه
ولما توفي سيف الدولة ملك بلاده بعده ابنه أبو المعالي شريف.
وأما أبو علي بن إلياس فسيرد ذكر موته سنة سبع وخمسين.
وأما كافور فإنه كان صاحب مصر، وكان من موالي الإخشيد محمد ابن طغج، واستولى على مصر ودمشق بعد موت الإخشيد لصغر أولاده، وكان خصياً أسود، وللمتنبي فيه مديح وهجو، وكان قصده إلى مصر، وخبره معه مشهور، ولما دفن كتب على قبره:
انظر إلى غير الأيّام ما صنعت ... أفنت أناساً بها كانوا وقد فنيت
دنياهم ضحكت أيّام دولتهم ... حتّى إذا انقرضوا ناحت لهم وبكت
وفيها توفي أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد الأصبهاني الأموي، وهو من ولد محمد بن مروان بن الحكم الأموي، وكان شيعياً، وهذا من العجب، وهو صاحب كتاب الأغاني وغيره.
وفيها توفي يوسف بن عمر بن أبي عمر القاضي، وكان مولده سنة خمس وثلاثمائة، وولي قضاء بغداد في حياة أبيه وبعده.
وفيه توفي أبو الحسن أحمد بن محمد بن سالم صاحب سهل التستري رضي الله عنه
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة

ذكر عصيان حبشي
ابن معز الدولة على بختيار بالبصرة وأخذه قهرا
ً
في هذه السنة عصى حبشي بن معز الدولة على أخيه بختيار، وكان بالبصرة لما مات والده، فحسن له من عنده من أصحابه الاستبداد بالبصرة، وذكروا له أن أخاه بختيار لا يقدر على قصده، فشرع في ذلك، فانتهى الخبر إلى أخيه، فسير وزيره أبا الفضل العباس بن الحسين إليه، وأمره بأخذه كيف أمكن، فأظهر الوزير أنه يريد الانحدار إلى الأهواز.
ولما بلغ واسط أقام بها ليصلح أمرها، وكتب إلى حبشي يعده أنه يسلم إليه البصرة سلماً، ويصالحها عليها، ويقول له: إنني قد لزمني مال على الوزارة، ولا بد من مساعدتي، فأنفذ إليه حبشي مائتي ألف درهم، وتيقن حصول البصرة له، فوصلها هو وعسكر الأهواز لميعادهم، فلم يتمكن حبشي من إصلاح شأنه وما يحتاج إليه، فظفروا به وأخذوه أسيراً وحبسوه برامهرمز، فأرسل عمه ركن الدولة وخلصه فسار إلى عضد الدولة، فأقطعه إقطاعاً وافراً، وأقام عنده إلى أن مات في آخر سنة تسع وستين وثلاثمائة، وأخذ الوزير من أمواله بالبصرة شيئاً كثيراً، ومن جملة ما أخذ له خمسة عشر ألف مجلد سوى الأجزاء والمسرس وما ليس له جلد.
ذكر البيعة لمحمد بن المستكفي

في هذه السنة ظهر ببغداد، بين الخاص والعام، دعوة إلى رجل من أهل البيت، اسمه محمد بن عبدالله، وقيل إنه الدجال الذي وعد به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويجدد ما عفا من أمور الدين، فمن كان من أهل السنة قيل له: إنه عباسي، ومن كان أهل الشيعة قيل له: إنه علوي، فكثرت الدعاة إليه، والبيعة له.
وكان الرجل بمصر، وقد أكرمه كافور الإخشيدي وأحسن إليه، وكان في جملة من بايع له سبكتكين العجمي، وهو من أكابر قواد معز الدولة، وكان يتشيع، فظنه علوياً، وكتب إليه يستدعيه من مصر، فسار إلى الأنبار، وخرج سبكتكين إلى طريق الفرات، وكان يتولى حمايته، فلقي ابن المستكفي، وترجل له وخدمه، وأخذه وعاد إلى بغداد، وهو لا يشك في حصول الأمر له.
ثم ظهر لسبكتكين أن الرجل عباسيٌ، فعاد عن ذلك الرأي، ففطن ابن المستكفي وخاف هو وأصحابه، فهربوا وتفرقوا، فأخذ ابن المستكفي ومعه أخ له، وأحضر عند بختيار، فأعطاهما الأمان، ثم إن المطيع تسلمه من بختيار، فجدع أنفه، ثم خفي خبره.
ذكر استيلاء عضد الدولة على كرمانفي هذه السنة ملك عضد الدولة بلاد كرمان.
وكان سبب ذلك أن أبا علي بن إلياس كان صاحبها مدة طويلة، على ما ذكرناه، ثم إنه أصابه فالج خاف منه على نفسه، فجمع أكابر أولاده، وهم ثلاثة: إليسع وإلياس وسليمان، فاعتذر إلى إليسع من جفوة كانت منه له قديماً، وولاه الأمر، ثم بعده أخاه إلياس، وأمر سليمان بالعود إلى بلادهم، وهي بلاد الصغد، وأمره بأخذ أموال له هناك، وقصد إبعاده عن إليسع لعدواة كانت بينهما.
فسار من عند أبيه، واستولى على السيرجان، فلما بلغ أباه ذلك أنفذ إليه إليسع في جيش، وأمره بمحاربته وإجلائه عن البلاد، ولم يمكنه من قصد الصغد إن طلب ذلك، فسار إليه، وحصره، واستظهر عليه، فلما رأى سليمان ذلك جمع أمواله وسار نحو خراسان، واستقر أمر إليسع بالسيرجان وملكها وأمر بنهبها، فنهبت، فسأله القاضي وأعيان البلد العفو عنهم، فعفا.
ثم إن جماعة من أصحاب والده خافوه، فسعوا به إلى أبيه، فقبض عليه وسجنه في قلعة له، فمشت والدته إلى والدة أخيه إلياس وقالت لها: إن صاحبها قد فسخ ما كان عقده لولدي، وبعده يفعل بولدك مثله، ويخرج الملك عن آل إلياس، والرأي أن تساعديني على تخليص ولدي ليعود الأمر إلى ما كان عليه.
وكان والده أبو علي تأخذه غشية في بعض الأوقات، فيمكث زماناً طويلاً لا يعقل، فاتفقت المرأتان وجمعتا الجواري في وقت غشيته، وأخرجن إليسع من حبسه ودلينه من ظهر القلعة إلى الأرض، فكسر قيده، وقصد العسكر، فاستبشروا به وأطاعوه، وهرب منه من كان أفسد حاله مع أبيه، وأخذ بعضهم، ونجا بعضهم؛ وتقدم إلى القلعة ليحصرها.
فلما أفاق والده وعرف الصورة راسل ولده، وسأله أن يكف عنه ويؤمنه على ماله وأهله حتى يسلم إليه القلعة وجميع أعمال كرمان، ويرحل إلى خراسان، ويكون عوناً له هناك، فأجابه إلى ذلك، وسلم إليه القلعة وكثيراً من المال، وأخذ معه ما أراد، وسار إلى خراسان وقصد بخارى، فأكرمه الأمير منصور بن نوح، وأحسن إليه وقربه منه، فحمل منصوراً على تجهيز العساكر إلى الري وقصد بني بويه، على ما ذكرناه، وأقام عنده إلى أن توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة بعلة الفالج، على ما ذكرناه.
وكان ابنه سليمان ببخارى أيضاً، وأما إليسع فإنه صفت له كرمان، فحمله ترف الشباب وجهله على مغالبة عضد الدولة على بعض حدود عمله، وأتاه جماعة من أصحاب عضد الدولة وأحسن إليهم، ثم عاد بعضهم إلى عضد الدولة، فاتهم إليسع الباقين، فعاقبهم، ومثل بهم.
ثم إن جماعة من أصحابه استأمنوا إلى عضد الدولة، فأحسن إليهم وأكرمهم ووصلهم، فلما رأى أصحابه تباعد ما بين الحالين تألبوا عليه، وفارقوه متسللين إلى عضد الدولة، وأتاه منهم في دفعة واحدة نحو ألف رجل من وجوه أصحابه، فبقي في خاصته، وفارقه معظم عسكره.

فلما رأى ذلك أخذ أمواله وأهله وسار بهم نحو بخارى لا يلوي على شيء، وسار عضد الدولة إلى كرمان فاستولى عليها وملكها وأخذ ما بها من أموال آل إلياس، وكان ذلك في شهر رمضان، وأقطعها ولده أبا الفوارس، وهو الذي لقب بعد ذلك شرف الدولة، وملك العراق، واستخلف عليها كورتكين ابن جستان، وعاد إلى فارس وراسله صاحب سجستان، وخطب له بها، وكان هذا أيضاً من الوهن على بني سامان ومما طرق الطمع فيهم.
وأما إليسع فإنه لما وصل إلى بخارى أكرمه وأحسن إليه، وصار يذم أهل سامان في قعودهم عن نصره، وإعادته إلى ملكه، فنفي عن بخارى إلى خوارزم.
وبلغ أبا علي بن سيمجور خبره، فقصد ماله وأثقاله، وكان خلفها ببعض نواحي خراسان، فاستولى على ذلك جميعه، وأصاب إليسع رمد شديد بخوارزم، فأقلقه، فحمله الضجر وعدم السعادة إلى أن قلع عينه الرمدة بيده، وكان ذلك سبب هلاكه، ولم يعد لآل إلياس بكرمان دولة، وكان الذي أصابه لشؤم عصيان والده وثمرة عقوقه.
ذكر قتل أبي فراس بن حمدانفي هذه السنة، في ربيع الآخر، قتل أبو فراس بن أبي العلاء سعيد بن حمدان.
وسبب ذلك أنه كان مقيماً بحمص، فجرى بينه وبين أي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان وحشة، فطلبه أبو المعالي، فانحاز أبو فراس إلى صدد، وهي قرية في طرف البرية عند حمص، فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم، وسيرهم في طلبه مع قرعويه، فأدركه بصدد، فكبسوه، فاستأمن أصحابه، واختلط هو بمن استأمن منهم، فقال قرعويه لغلام له: اقتله، فقتله وأخذ رأسه وتركت جثته في البرية، حتى دفنها بعض الأعراب.
وأبو فراس هو خال أبي المعالي بن سيف الدولة، ولقد صدق من قال: إن الملك عقيم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، منتصف شعبان، مات المتقي لله إبراهيم بن المقتدر في داره، ودفن فيها.
وفيها، في ذي القعدة، وصلت سرية كثيرة من الروم إلى إنطاكية فقتلوا في سوادها وغنموا، وسبقوا اثني عشر ألفاً من المسلمين.
وفيها كان بين هبة الرفعاي وبني أسد بن وزير الغبري حرب، فاستمدت أسد خزر اليشكري الذي مع عمران بن شاهين، صاحب البطائح، وأوقع بهبة، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وهزمه، واستولى على جنبلا وقسين من أرض العراق، فسار سبكتكين العجمي إلى خزر، وضيق عليه، فمضى إلى البصرة واستأمن إلى الوزير أبي الفضل.
وفيها عمل أهل بغداد يوم عاشوراء وغدير خم، كما جرت به عادتهم من إظهار الحزن يوم عاشوراء، والسرور يوم الغدير؛ وتوفي علي بن بندار ابن الحسين أبو الحسن الصوفي المعروف بالصيرفي النيسابوري.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة

ذكر ملك المعز العلوي مصر
في هذه السنة سير المعز لدين الله أبو تميم معد بن إسماعيل المنصور بالله القائد أبا الحسن جوهراً، غلام والده المنصور، وهو رومي، في جيش كثيف إلى الديار المصرية، فاستولى عليها.
وكان سبب ذلك أنه لما مات كافور الإخشيدي، صاحب مصر، اختلفت القلوب فيها، ووقع بها غلاء شديد، حتى بلغ الخبز كل رطل بدرهمين، والحنطة كل ويبة بدينار وسدس مصري، فلما بلغ الخبر بهذه الأحوال إلى المعز، وهو بإفريقية، سير جوهراً إليها، فلما اتصل خبر مسيره إلى العساكر الإخشيدية بمصر هربوا عنها جميعهم قبل وصوله.
ثم إنه قدمها سابع عشر شعبان، وأقيمت الدعوة للمعز بمصر في الجامع العتيق في شوال، وكان الخطيب أبا محمد عبدالله بن الحسين الشمشاطي.
وفي جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين سار جوهر إلى جامع ابن طولون، وأمر المؤذن فأذن بحي على خير العمل، وهو أول ما أذن بمصر، ثم أذن بعده في الجامع العتيق، وجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم، ولما استقر جوهر بمصر شرع في بناء القاهرة.
ذكر ملك عسكر المعز دمشق
وغيرها من بلاد الشام

لما استقر جوهر بمصر، وثبت قدمه، سير جعفر بن فلاح الكتامي إلى الشام في جمع كبير، فبلغ الرملة، وبها أبو محمد الحسن بن عبدالله بن طغج، فقاتله في ذي الحجة من السنة، وجرت بينهما حروب كان الظفر فيها لجعفر ابن فلاح، وأسر ابن طغج وغيره من القواد فسيرهم إلى جوهر، وسيرهم جوهر إلى المعز بإفريقية، ودخل ابن فلاح البلد عنوةً، فقتل كثيراً من أهله، ثم أمن من بقي، وجبى الخراج وسار إلى طبرية، فرأى ابن ملهم قد أقام الدعوة للمعز لدين الله، فسار عنها إلى دمشق، فقاتله أهلها، فظفر بهم وملك البلد، ونهب بعضه وكف عن الباقي، وأقام الخطبة للمعز يوم الجمعة لأيام خلت من المحرم سنة تسع وخمسين وقطعت الخطبة العباسية.
وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشمي، وكان جليل القدر، نافذ الحكم في أهلها، فجمع أحداثها ومن يريد الفتنة، فثار بهم في الجمعة الثانية، وأبطل الخطبة للمعز لدين الله وأعاد خطبة المطيع لله، ولبس السواد وعاد إلى داره، فقاتله جعفر بن فلاح ومن معه قتالاً شديداً، وصبر أهل دمشق، ثم افترقوا آخر النهار، فلما كان الغد تزاحف الفريقان واقتتلوا ونشبت الحرب بينهما، وكثر القتلى من الجانبين ودام القتال، فعاد عسكر دمشق منهزمين، والشريف ابن أبي يعلى مقيم على باب البلد يحرض الناس على القتال، ويأمرهم بالصبر.
وواصل المغاربة الحملات على الدماشقة حتى ألجأوهم إلى باب البلد، ووصل المغاربة إلى قصر حجاج، ونهبوا ما وجدوا، فلما رأى ابن أبي يعلى الهاشمي والأحداث لقي الناس من المغاربة خرجوا من البلد ليلاً، فأصبح الناس حيارى، فدخل الشريف الجعفري، وكان خرج من البلد إلى جعفر بن فلاح في الصلح، فأعاده وأمره بتسكين الناس وتطييب قلوبهم، ووعدهم بالجميل، ففعل ما أمره، وتقدم إلى الجند والعامة بلزوم منازلهم، وأن لا يخرجوا منها إلى أن يدخل جعفر بن فلاح البلد ويطوف فيه ويعود إلى عسكره، ففعلوا ذلك.
فلما دخل المغاربة البلد عاثوا فيه، ونهبوا قطراً منه، فثار الناس وحملوا عليهم، ووضعوا السيف فيهم، فقتلوا منهم جماعة، وشرعوا في تحصين البلد وحفر الخنادق، وعزموا على اصطلاء الحرب، وبذل النفوس في الحفظ، وأحجمت المغاربة عنهم، ومشى الناس إلى الشريف أبي القاسم بن أبي يعلى، فطلبوا منه أن يسعى فيما يعود بصلاح الحال، ففعل، ودبر الحال إلى أن تقرر الصلح يوم الخميس لست عشرة خلت من ذي الحجة سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وكان الحريق قد أتى على عدة كثيرة من الدور وقت الحرب.
ودخل صاحب الشرطة جعفر بن فلاح البلد يوم الجمعة فصلى مع الناس وسكنهم وطيب قلوبهم، وقبض على جماعة من الأحداث في المحرم سنة ستين وثلاثمائة، وقبض على الشريف أبي القاسم بن أبي يعلى الهاشمي المذكور، وسيره إلى مصر، واستقر أمر دمشق.
وكان ينبغي أن يؤخر ملك ابن فلاح دمشق إلى آخر السنة، وإنما قدمته ليتصل خبر المغاربة بعضه ببعض.
ذكر اختلاف أولاد ناصر الدولة وموت أبيهمكان سبب إختلاف أولاد ناصر الدولة أنه كان قد أقطع ولده حمدان مدينة الرحبة وماردين وغيرهما وكان أبو تغلب وأبو البركات وأختهما جميلة أولاد ناصر الدولة من زوجته فاطمة بنت أحمد الكردية، وكانت مالكة أمر ناصر الدولة، فاتفقت مع ابنها أبي تغلب، وقبضوا على ناصر الدولة، على ما ذكرناه، فابتدأ ناصر الدولة يدبر في القبض عليهم، فكاتب ابنه حمدان يستدعيه ليتقوى به عليهم، فظفر أولاده بالكتاب، فلم ينفذوه، وخافوا أباهم وحذروه، فحملهم خوفه على نقله إلى قلعة كواشى.
واتصل ذلك بحمدان، فعظم عليه، وصار عدواً مبايناً، وكان أشجعهم، وكان قد سار عند وفاة عمه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقة فملكها، وسار إلى نصيبين وجمع من أطاعه، وطالب إخوته بالإفراج عن والده وإعادته إلى منزله، فسار أبو تغلب إليه ليحاربه، فانهزم حمدان قبل اللقاء إلى الرقة، فنازله أبو تغلب وحصره ثم اصطلحا عن دخن وعاد كل واحد منهما إلى موضعه.

وعاش ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان بن حمدون التغلبي شهوراً، ومات في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، ودفن بتل توبة، شرقي الموصل، وقبض أبو تغلب أملاك أخيه حمدان، وسير أخاه أبا البركات إلى حمدان، فلما قرب من الرحبة استأمن إليه كثير من أصحاب حمدان، فانهزم حينئذ، وقصد العراق مستأمناً إلى بختيار، فوصل بغداد في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فأكرمه بختيار وعظمه، وحمل إليه هدية كثيرة جليلة المقدار، ومعها كل ما يحتاج إليه مثله، وأرسل إلى أبي تغلب النقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي في الصلح مع أخيه، فاصطلحا، وعاد حمدان إلى الرحبة، وكان مسيره من بغداد في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة.
فلما سمع أبو البركات بمسير أخيه حمدان على هذه الصورة فارق الرحبة، ودخلها حمدان، وراسله أخوه أبو تغلب في الاجتماع به، فامتنع من ذلك، فعاد أبو تغلب وسير إليه أبا البركات، فلما علم حمدان بذلك فارقها، فاستولى أبو البركات عليها، واستناب بها من يحفظها في طائفة من الجيش، وعاد إلى الرقة ثم منها إلى عربان.
فلما سمع حمدان بعوده عنها، وكان ببرية تدمر، عاد إليها في شعبان، فوافاها ليلاً، فأصعد جماعة من غلمانه السور، وفتحوا له باب البلد فدخله، ولا يعلم من به من الجند بذلك، فلما صار في البلد وأصبح أمر بضرب البوق، فبادر من بالرحبة من الجند منقطعين يظنون أن صوت البوق من خارج البلد، وكل من وصل إلى حمدان أسره، حتى أخذهم جميعهم، فقتل بعضاً واستبقى بعضاً، فلما سمع أبو البركات بذلك عاد إلى قرقيسيا، واجتمع هو وأخوه حمدان منفردين، فلم يستقر بينهما قاعدة، فقال أبو البركات لحمدان: أنا أعود إلى عربان، وأرسل إلى أبي تغلب لعله يجيب إلى ما تلتمسه منه.
فسار عائداً إلى عربان، وعبر حمدان الفرات من مخاضة بها، وسار في أثر أخيه أبي البركات، فأدركه بعربان وهو آمن، فلقيهم أبو البركات بغير جنة ولا سلاح، فقاتلهم، واشتد القتال بينهم، وحمل أبو البركات بنفسه في وسطهم، فضربه أخوه حمدان فألقاه وأخذه أسيراً، فمات من يومه، وهو ثالث رمضان، فحمل في تابوت إلى الموصل، ودفن بتل توبة عند أبيه.
وتجهز أبو تغلب ليسير إلى حمدان، وقدم بين يديه أخاه أبا الفوارس محمداً إلى نصيبين، فلما وصلها كاتب أخاه حمدان ومالأ على أبي تغلب، فبلغ الخبر أبا تغلب، فأرسل إليه يستدعيه ليزيد في إقطاعه، فلما حضر عنده قبض عليه وسيره إلى قلعة كواشى، من بلد الموصل، وأخذ أمواله، وكانت قيمتها خمسمائة ألف دينار.
فلما قبض عليه سار إبراهيم والحسين ابنا ناصر الدولة إلى أخيهما حمدان، خوفاً من أبي تغلب، فاجتمعا معه، وساروا إلى سنجار، فسار أبو تغلب إليهم من الموصل في شهر رمضان سنة ستين وثلاثمائة، ولم يكن لهم بلقائه طاقة، فراسله أخواه إبراهيم والحسين يطلبان العود إليه خديعة منهما ليؤمنهما ويفتكا به، فأجابهما إلى ذلك، فهربا إليه، وتبعهما كثير من أصحاب حمدان، فعاد حمدان حينئذ من سنجار إلى عربان، واستأمن إلى أبي تغلب، صاحب حمدان، وأطلعه على حيلة أخويه عليه، وهما إبراهيم والحسين، فأراد القبض عليهما، فحذرا وهربا.
ثم إن نما غلام حمدان ونائبه بالرحبة أخذ جميع ماله بها وهرب إلى أصحاب أبي تغلب بحران، وكانوا مع صاحبه سلامة البرقعيدي، فاضطر حمدان إلى العود إلى الرحبة، وسار أبو تغلب إلى قرقيسيا، وأرسل سرية عبروا الفرات وكبسوا حمدان بالرحبة، وهو لا يشعر، فنجا هارباً، واستولى أبو تغلب عليها، وعمر سورها، وعاد إلى الموصل، ودخلها في ذي الحجة سنة ستين وثلاثمائة.
وسار حمدان إلى بغداد، فدخلها آخر ذي الحجة سنة ستين ملتجئاً إلى بختيار معه أخوه إبراهيم، وكان أخوهما الحسين قد عاد إلى أخيه أبي تغلب مستأمناً؛ وحمل بختيار إلى حمدان وأخيه إبراهيم هدايا جليلة كثيرة المقدار، وأكرمهما واحترمهما.
ذكر ما فعله الروم بالشام والجزيرةوفي هذه السنة دخل ملك الروم الشام، ولم يمنعه أحد، ولا قاتله، فسار في البلاد إلى طرابلس، وأحرق بلدها، وحصر قلعة عرقة، فملكها ونهبها وسبى من فيها.
وكان صاحب طرابلس قد أخرجه أهلها لشدة ظلمه، فقصد عرقة، فأخذه الروم وجميع ماله، وكان كثيراً.

وقصد ملك الروم حمص، وكان أهلها قد انتقلوا عنها وأخلوها، فأحرقها ملك الروم ورجع إلى بلدان الساحل فأتى عليها نهباً وتخريباً، وملك ثمانية عشر منبراً، فأما القرى فكثير لا يحصى، وأقام في الشام شهرين يقصد أي موضع شاء، ويخرب ما شاء، ولا يمنعه أحد إلا أن بعض العرب كانوا يغيرون على أطرافهم، فأتاه جماعة منهم وتنصروا وكادوا المسلمين من العرب وغيرهم، فامتنعت العرب من قصدهم، وصار للروم الهيبة العظيمة في قلوب المسلمين، فأراد أن يحضر إنطاكية وحلب، فبلغه أن أهلها قد أعدوا الذخائر والسلاح وما يحتاجون إليه، فامتنع من ذلك وعاد ومعه من السبي نحو مائة ألف رأس، ولم يأخذ إلا الصبيان، والصبايا، والشبان، فأما الكهول، والشيوخ، والعجائز، فمنهم من قتله، ومنهم من أطلقه.
وكان بحلب قرعويه، غلام سيف الدولة بن حمدان، وقد أخرج أبا المعالي بن سيف الدولة منها، على ما نذكره، فصانع الروم عليها، فعادوا إلى بلادهم، فقيل كان سبب عودهم كثرة الأمراض والموت، وقيل ضجروا من طول السفر والغيبة عن بلادهم، فعادوا على عزم العود.
وير ملك الروم سرية كثيرة إلى الجزيرة، فبلغوا كفر توثا، ونهبوا وسبوا وأحرقوا وعادوا، ولم يكن من أبي تغلب بن حمدان في ذلك نكير ولا أثر.
ذكر استيلاء قرعويه على حلب وإخراج أبي المعالي بن حمدان منهافي هذه السنة أيضاً استولى قرعويه غلام سيف الدولة بن حمدان على حلب، وأخرج منها أبا المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان، فسار أبو المعالي إلى حران، فمنعه أهلها من الدخول إليهم، فطلب منهم أن يأذنوا لأصحابه أن يدخلوا فيتزودوا منها يومين فأذنوا لهم، ودخل إلى والدته بميافارقين، وهي ابنة سعيد بن حمدان، وتفرق عنه أكثر أصحابه ومضوا إلى أبي تغلب بن حمدان.
فلما وصل إلى والدته بلغها أن غلمانه وكتابه قد عملوا على القبض عليها وحبسها، كما فعل أبو تغلب بأبيه ناصر الدولة، فأغلقت أبواب المدينة ومنعت ابنها من دخولها ثلاثة أيام، حتى أبعدت من تحب إبعاده، واستوثقت لنفسها، وأذنت له ولمن بقي معه في دخول البلد، وأطلقت لهم الأرزاق، وبقيت حران لا أمير عليها، ولكن الخطبة فيها لأبي المعالي بن سيف الدولة، وفيها جماعة من مقدمي أهلها يحكمون فيها، ويصلحون من أمور الناس.
ثم إن أبا المعالي عبر الفرات إلى الشام، وقصد حماة فأقام بها، على ما نذكره سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة.
ذكر خروج أبي خزر بإفريقيةفي هذه السنة خرج بإفريقية أبو خزر الزناتي، واجتمع إليه جموع عظيمة من البربر والنكار، فخرج المعز إليه بنفسه يريد قتاله، حتى بلغ مدينة باغاية، وكان أبو خزر قريباً منها، وهو يقاتل نائب المعز عليها، فلما سمع أبو خزر بقرب المعز تفرقت عنه جموعه، وسار المعز في طلبه، فسلك الأوعار، فعاد المعز وأمر أبا الفتوح يوسف بلكين بن زيري بالمسير في طلبه أين سلك، فسار في أثره حتى خفي عليه خبره، ووصل المعز إلى مستقره بالمنصورية.
فلما كان ربيع الآخر من سنة تسع وخمسين وصل أبو خزر الخارجي إلى المعز مستأمناً، ويطلب الدخول في طاعته، فقبل منه المعز ذلك وفرح به، وأجرى عليه رزقاً كثيراً.
ووصله، عقيب هذه الحال، كتب جوهر بإقامة الدعوة له في مصر والشام، ويدعوه إلى المسير إليه، ففرح المعز فرحاً شديداً أظهره للناس كافةً ومدحه الشعراء، فممن ذكر ذلك محمد بن هانئ الأندلسي، فقال:
يقول بنو العبّاس: قد فتحت مصر، ... فقل لبني العبّاس: قد قضي الأمر
ذكر قصد أبي البركات بن حمدان ميّافارقين وانهزامه
في هذه السنة، في ذي القعدة، سار أبو البركات بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكره إلى ميافارقين، فأغلقت زوجة سيف الدولة أبواب البلد في وجهه، منعته من دخوله، فأرسل إليها يقول: إنني ما قصدت إلا الغزاة؛ ويطلب منها ما يستعين به، فاستقر بينهما أن تحمل إليه مائتي ألف درهم، وتسلم إليه قرايا كانت لسيف الدولة بالقرب من نصيبين.

ثم ظهر لها أنه يعمل سراً في دخول البلد، فأرسلت إلى من معه من غلمانه سيف الدولة تقول لهم: ما من حق مولاكم أ، تفعلوا بحرمه وأولاده هذا؛ فنكلوا عن القتال والقصد لها، ثم جمعت رجالة وكبست أبا البركات ليلاً، فانهزم ونهب سواده وعسكره، وقتل جماعة من أصحابه وغلمانه، فراسلها: إنني لم أقصد لسوء؛ فردت رداً جميلاً، وأعادت إليه بعض ما نهب منه، وحملت إليه مائة ألف درهم، وأطلقت الأسرى، فعاد عنها.
وكان ابنها أبو المعالي بن سيف الدولة على حلب يقاتل قرعويه غلام أبيه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، عاشر المحرم، عمل أهل بغداد ما قد صار لهم عادة من إغلاق الأسواق، وتعطيل المعاش، وإظهار النوح والمأتم، بسبب الحسين بن علي، رضوان الله عليهما.
وفيها أرسل القرامطة رسلاً إلى بني نمير وغيرهم من العرب يدعونهم إلى طاعتهم، فأجابوا إلى ذلك، وأخذت عليهم الأيمان بالطاعة، وأرسل أبو تغلب ابن حمدان إلى القرامطة بهجر هدايا جميلة خمسون ألف درهم.
وفيها طلب سابور بن أبي طاهر القرمطي من أعمامه أن يسلموا الأمر إليه والجيش، وذكر أن أباه عهد إليه بذلك، فحبسوه في داره، ووكلوا به، ثم أخرج ميتاً في نصف رمضان، فدفن ومنع أهله من البكاء عليه، ثم أذن لهم بعد أسبوع أن يعملوا ما يريدون.
وفيها، ليلة الخميس رابع عشر رجب، انخسف القمر جميعه، وغاب منخسفاً.
وفيها، في شعبان، وقعت حرب بين أبي عبدالله بن الداعي العلوي وبين علوي آخر يعرف بأميرك، وهو أبو جعفر الثائر في الله، قتل فيها خلق كثير من الديلم والجيل، وأسر أبو عبدالله بن الداعي، وسجن في قلعة، ثم أطلق في المحرم سنة تسع وخمسين وعاد إلى رئاسته، وصار أبو جعفر صاحبه جيشه.
وفيها قبض بختيار على وزيره أبي الفضل العباس بن الحسين، وعلى جميع أصحابه، وقبض أموالهم وأملاكهم، واستوزر أبا الفرج محمد بن العباس، ثم عزل أبا الفرج وأعاد أبا الفضل.
وفيها اشتد الغلاء بالعراق، واضطرب الناس، فسعر السلطان الطعام، فاشتد البلاء، فدعته الضرورة إلى إزالة التسعير، فسهل الأمر، وخرج الناس من العراق إلى الموصل والشام وخراسان من الغلاء.
وفيها نفي شيرزاد، وكان قد غلب على أمر بختيار، وصار يحكم على الوزير والجند وغيرهم، فأوحش الأجناد، وعزم الأتراك على قتله، فمنعهم سبكتكين وقال لهم: خوفوه ليهرب؛ فهرب من بغداد، وعهد إلى بختيار ليحفظ ماله وملكه، فلما سار عن بغداد قبض بختيار أمواله وأملاكه ودوره وكان هذا مما يعاب به بختيار.
ثم إن شيرزاد سار إلى ركن الدولة ليصلح أمره مع بختيار، فتوفي بالري عند وصوله إليها.
وفيها توفي عبيد الله بن أحمد بن محمد أبو الفتح النحوي، المعروف بجخجخ.
وفيها مات عيسى الطبيب الذي كان طبيب القاهر بالله، والحاكم في دولته، وكان قد عمي قبل موته بسنتين، وكان مولده سنة إحدى وسبعين ومائتين.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة

ذكر ملك الروم مدينة أنطاكية
في هذه السنة، في المحرم، ملك الروم مدينة إنطاكية.
وسبب ذلك أنهم حصروا حصناً بالقرب من إنطاكية يقال له حصن لوقا، وأنهم وافقوا أهله، وهم نصارى، على أن يرتحلوا منه إلى إنطاكية، ويظهروا أنهم إنما انتقلوا منه خوفاً من الروم، فإذا صاروا بأنطاكية أعانوهم على فتحها، وانصرف الروم عنهم بعد موافقتهم على ذلك، وانتقل أهل الحصن ونزلوا بأنطاكية بالقرب من الجبل الذي بها.
فلما كان بعد انتقالهم بشهرين وافى الروم مع أخي نقفور الملك، وكانوا نحو أربعين ألف رجل، فأحاطوا بسور إنطاكية، وصعدوا الجبل إلى الناحية التي بها أهل حصن لوقا، فلما رآهم أهل البلد قد ملكوا تلك الناحية طرحوا أنفسهم من السور، وملك الروم البلد، ووضعوا في أهله السيف، ثم أخرجوا المشايخ، والعجائز، والأطفال من البلد، وقالوا لهم: اذهبوا حيث شئتم؛ فأخذوا الشباب من الرجال، والنساء، والصبيان، والصبايا، فحملوهم إلى بلاد الروم سبياً، وكانوا يزيدون على عشرين ألف إنسان، وكان حصرهم له في ذي الحجة.
ذكر ملك الروم مدينة حلب
وعودهم عنها

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34