كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

فبينما هم في هذا الاختلاف، إذ وصل إلى الفرنج خلق كثير في البحر، قاصدين زيارة البيت المقدس، فندبهم بغدوين للغزو معه، فساروا إلى عسقلان، وبها شرف المعالي، فلم يكن يقوى بحربهم، فلطف الله بالمسلمين، فرأى الفرنج البحرية حصانة عسقلان، وخافوا البيات، فرحلوا إلى يافا، وعاد ولد الأفضل إلى أبيه، فسير رجلاً يقال له تاج العجم في البر، وهو من أكبر مماليك أبيه، وجهز معه أربعة آلاف فارس، وسير في البحر رجلاً يقال له القاضي ابن قادوس، في الأسطول على يافا، ونزل تاج العجم على عسقلان، فاستدعاه ابن قادوس إليه ليتفقا على حرب الفرنج، فقال تاج العجم: ما يمكنني أن أنزل إليك إلا بأمر الأفضل، ولم يحضر عنده، ولا أعانه، فأرسل القادوسي إلى قاضي عسقلان، وشهودها، وأعيانها، وأخذ خطوطهم بأنه أقام على يافا عشرين يوماً، واستدعى تاج العجم، فلم يأته، ولا أرسل رجلاً، فلما وقف الأفضل على الحال أرسل من قبض على تاج العجم، وأرسل رجلاً، لقبه جمال الملك، فأسكنه عسقلان، وجعله متقدم العساكر الشامية.
وخرجت هذه السنة وبيد الفرنج، لعنهم الله، البيت المقدس، وفلسطين، ما عدا عسقلان، ولهم أيضاً يافا، وأرسوف، وقيسارية، وحيفا، وطبرية، واللاذقية، وأنطاكية، ولهم بالجزيرة الرها، وسروج.
وكان صنجيل يحاصر مدينة طرابلس الشام، والمواد تأتيها، وبها فخر الملك بن عمار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الفرنج، ويقتلون من وجدوا، وقصد بذلك أن يخلو السواد ممن يزرع لتقل المواد من الفرنج فيرحلوا عنه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، سادس المحرم، توفيت بنت أمير المؤمنين القائم بأمر الله، التي كانت زوجة السلطان طغرلبك، وكانت موصوفة بالدين، وكثرة الصدقة، وكان الخليفة المستظهر بالله قد ألزمها بيتها، لأنه بلغ عنها أنها تسعى في إزالة دولته.
وفيها، في شعبان أيضاً، استوزر المستظهر بالله زعيم الرؤساء أبا القاسم بن جهير، واستقدمه من الحلة من عند سيف الدولة صدقة، وقد ذكرنا في السنة المتقدمة سبب مسيره إليها، فلما قدم إلى بغداد وخرج كل أرباب الدولة فاستقبلوه، وخلع عليه الخلع التامة، وأجلس في الديوان ولقب قوام الدين.
وفيه أيضاً قتل أبو المظفر بن الخجندي بالري، وكان يعظ الناس، فقتله رجل علوي حين نزل من كرسيه، وقتل العلوي ودفن الخجندي بالجامع، وأصل بيت الخجندي من مدينة خجندة، بما وراء النهر، وينسبون إلى المهلب بن أبي صفرة، وكان نظام الملك قد سمع أبا بكر محمد بن ثابت الخجندي يعظ بمرو، فأعجبه كلامه، وعرف محله من الفقه والعلم، فحمله إلى أصبهان، وصار مدرساً بمدرسته بها، فنال جاهاً عريضاً، ودنيا واسعة، وكان نظام الملك يتردد إليه ويزوره.
وفيها جمع ساغربك، بما وراء النهر، جموعاً كثيرة، وهو من أولاد الخانية، وقصد محمد خان الذي ملكه السلطان سنجر سمرقند، ونازعه في ملكها، فضعف محمد خان عنه، فأرسل إلى السلطان سنجر يستنجده، فسار إلى سمرقند، فأبعد عنه ساغربك، وخافه، واحتمى منه، وأرسل يطلب الأمان من سنجر، والعفو، فأجابه إلى ما طلب، وحضر ساغربك عنده، وقرر الصلح بينه وبين محمد خان، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وعاد إلى خراسان، فوصل إلى مرو في ربيع الأول سنة سبع وتسعين وأربعمائة.
وفيها توفي أبو المعالي الصالح، ساكن باب الطاق، وكان مقلاً من الدنيا، له كرامات ظاهرة.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة

ذكر ملك بلك بن بهرام مدينة عانة
في هذه السنة، في المحرم، استولى بلك بن بهرام بن أرتق، وهو ابن أخي إيلغازي بن أرتق، على مدينة عانة، والحديثة، وكان له مدينة سروج، فأخذها الفرنج منه، فسار عنها إلى عانة وأخذها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط، فقصد بنو يعيش سيف الدولة صدقة بن مزيد، ومعهم مشايخهم، فسألوه الإصعاد إليها، وأن يتسلمها منهم، ففعل وأصعد معهم.
فرحل التركمان وبهرام عنها، وأخذ صدقة رهائنهم، وعاد إلى حلته، فرجع بلك إليها ومعه ألفا رجل من التركمان، فمانعه أصحابه قليلاً، واستدل على المخاضة إليها، فخاضها وعبر، وملكهم ونهبهم، وسبى جميع حرمهم وانحدر طالباً هيت من الجانب الشامي، فبلغ إلى قريب منها، ثم رجع من يومه، ولما سمع صدقة جهز العساكر، ثم أعادهم عند عود بلك.

ذكر غارة الفرنج على الرقة وقلعة جعبر
في هذه السنة، في صفر، أغار الفرنج من الرها على مرج الرقة وقلعة جعبر، وكانوا لما خرجوا من الرها افترقوا فرقتين، وأبعدوا يوماً واحداً تكون الغارة على البلدين فيه، ففعلوا ما استقر بينهم، وأغاروا، واستاقوا المواشي، وأسروا من وقع بأيديهم من المسلمين، فكانت القلعة والرقة لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب سلمها إليه السلطان ملكشاه سنة تسع وسبعين، وقد ذكرناه فيها.
ذكر الصلح بين السلطان بركيارق ومحمدفي هذه السنة، في ربيع الآخر، وقع الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه.
وكان سببه أن الحروب تطاولت بينهما، وعم الفساد، فصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والقرى محرقة، والسلطنة مطموعاً فيها، محكوماً عليها، وأصبح الملوك مقهورين، بعد أن كانوا قاهرين، وكان الأمراء الأكابر يؤثرون ذلك ويختارونه ليدوم تحكمهم، وانبساطهم، وإدلالهم.
وكان السلطان بركيارق حينئذ بالري والخطبة له بها، وبالجبل، وطبرستان، وخوزستان، وفارس، وديار بكر، والجزيرة، وبالحرمين الشريفين.
وكان السلطان محمد بأذربيجان، والخطبة له فيها، وببلاد أرانية، وأرمينية، وأصبهان، والعراق، كلها ما عدا تكريت.
وأما أعمال البطائح فيخطب ببعضها لبركيارق، وببعضها لمحمد.
وأما البصرة فكان يخطب فيها لهما جميعاً.
وأما خراسان فإن السلطان سنجر كان يخطب له في جميعها، وهي من حدود جرجان إلى ما وراء النهر، ولأخيه السلطان محمد.
فلما رأى السلطان بركيارق المال عنده معدوماً، والطمع من العسكر زائداً، أرسل القاضي أبا المظفر الجرجاني الحنفي، وأبا الفرج أحمد بن عبد الغفار الهمذاني، المعروف بصاحب قراتكين، إلى أخيه محمد في تقرير قواعد الصلح، فسارا إليه، وهو بالقرب من مراغة، فذكرا له ما أرسلا فيه، ورغباه في الصلح وفضيلته، وما شمل البلاد من الخراب، وطمع عدو الإسلام في أطراف الأرض. فأجاب إلى ذلك، وأرسل فيه رسلاً، واستقر الأمر، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وتقررت القاعدة: أن السلطان بركيارق لا يعترض أخاه محمداً في الطبل، وأن لا يذكر معه على سائر البلاد التي صارت له، وأن لا يكاتب أحدهما الآخر بل تكون المكاتبة من الوزيرين، ولا يعارض أحد من العسكر في قصد أيهما شاء، وأن يكون للسلطان محمد من النهر المعروف بإسبيذروذ، إلى باب الأبواب، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، والشام، ويكون له من بلاد العراق بلاد سيف الدولة صدقة.
فأجاب بركيارق إلى هذا، وزال الخلف، والشغب، وأرسل السلطان محمد إلى أصحابه بأصبهان يأمرهم بالانصراف عن البلد، وتسليمه إلى أصحاب أخيه، وسار السلطان بركيارق إلى أصبهان، فلما سلمها إليه أصحاب أخيه دعاهم إلى أن يكونوا معه، وفي خدمته، فامتنعوا، ورأوا لزوم خدمة صاحبهم، فسماهم أهل العسكرين جميعاً: أهل الوفاء، وتوجهوا من أصبهان، ومعهم حريم السلطان محمد، إليه، وأكرمهم بركيارق، وحمل لأهل أخيه المال الكثير، ومن الدواب ثلاثمائة جمل، ومائة وعشرين بغلاً، تحمل الثقل، وسير معهم العساكر يخدمونهم.
ولما وصلت رسل السلطان بركيارق إلى الخليفة المستظهر بالله بالصلح، وما استقرت القواعد عليه، حضر إيلغازي بالديوان، وسأل في إقامة الخطبة لبركيارق، فأجيب إلى ذلك، وخطب له بالديوان يوم الخميس تاسع عشر جمادى الأولى، وخطب له، من الغد، بالجوامع، وخطب له أيضاً بواسط.
ولما خطب إيلغازي ببغداد لبركيارق، وصار في جملته، أرسل الأمير صدقة إلى الخليفة يقول: كان أمير المؤمنين ينسب إلي كل ما يتجدد من إيلغازي من إخلال بواجب الخدمة، وشرط الطاعة، ومن اطراح المراقبة، والآن، فقد أبدى صفحته للسلطان الذي استنابه، وأنا غير صابر على ذلك، بل أسير لإخراجه عن بغداد.
فلما سمع إيلغازي ذلك شرع في جمع التركمان، وورد صدقة بغداد، فنزل مقابل التاج، وقبل الأرض، ونزل في مخيمه بالجانب الغربي، ففارق إيلغازي بغداد إلى يعقوبا، وأرسل إلى صدقة يعتذر من طاعته لبركيارق بالصلح الواقع، وأن إقطاعه حلوان وغيرها في جملة بلاده، وأن بغداد التي هو شحنة فيها قد صارت له، فذلك الذي أدخله في طاعته. فرضي عنه صدقة، وعاد إلى الحلة.

وفي ذي القعدة سيرت الخلع من الخليفة للسلطان بركيارق، وللأمير إياز، ولوزير بركيارق، وهو الخطير، والعهد بالسلطنة، وحلفوا جميعهم للخليفة وعادوا.
ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا من الشامفي هذه السنة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة اللاذقية، فيها التجار، والأجناد، والحجاج، وغير ذلك، واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس، فحصروها معه براً وبحراً، وضايقوها، وقاتلوها أياماً، فلم يروا فيها مطمعاً، فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل، فحصروها، وقاتلوا عليها قتالاً شديداً. فلما رأى أهلها عجزهم عن الفرنج أخذوا أماناً، وسلموا البلد إليهم، فلم تف الفرنج لهم بالأمان، وأخذوا أموالهم، واستنقذوها بالعقوبات وأنواع العذاب.
فلما فرغوا من جبيل ساروا إلى مدينة عكا، استنجدهم الملك بغدوين، ملك الفرنج، صاحب القدس على حصارها، فنازلوها، وحصروها في البر والبحر.
وكان الوالي بها اسمه بنا، ويعرف بزهر الدولة الجيوشي، نسبة إلى ملك الجيوش الأفضل، فقاتلهم أشد قتال، فزحفوا إليه غير مرة، فعجز عن حفظ البلد، فخرج منه، وملك الفرنج البلد بالسيف قهراً، وفعلوا بأهله الأفعال الشنيعة، وسار الوالي به إلى دمشق، فأقام بها، ثم عاد إلى مصر، واعتذر إلى الأفضل فقبل عذره.
ذكر غزو سقمان وجكرمش الفرنجلما استطال الفرنج، خذلهم الله تعالى، بما ملكوه من بلاد الإسلام، واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام، وملوكه، بقتال بعضهم بعضاً، تفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمزقت الأموال.
وكانت حران لمملوك من مماليك ملكشاه اسمه قراجه، فاستخلف عليها إنساناً يقال له محمد الأصبهاني، وخرج في العام الماضي، فعصى الأصبهاني على قراجه، وأعانه أهل البلد لظلم قراجه.
وكان الأصبهاني جلداً، شهماً، فلم يترك بحران من أصحاب قراجه سوى غلام تركي يعرف بجاولي، وجعله أصفهسلار العسكر، وأنس به، فجلس معه يوماً للشرب، فاتفق جاولي مع خادم له على قتله فقتلاه وهو سكران. فعند ذلك سار الفرنج إلى حران وحصروها.
فلما سمع معين الدولة سقمان، وشمس الدولة جكرمش ذلك، وكان بينهما حرب، وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه، وكل منهما يستعد للقاء صاحبه، وأنا أذكر سبب قتل جكرمش له، إن شاء الله تعالى، أرسل كل منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لتلافي أمر حران، ويعلمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى، وثوابه، فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه، وسارا، فاجتمعا على الخابور، وتحالفا، وسارا إلى لقاء الفرنج.
وكان مع سقمان سبعة آلاف فارس من التركمان، ومع جكرمش ثلاثة آلاف فارس من الترك، والعرب، والأكراد، فالتقوا على نهر البليخ، وكان المصاف بينهم هناك، فاقتتلوا، فأظهر المسلمون الانهزام، فتبعهم الفرنج نحو فرسخين، فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاؤوا، وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم، ووصلوا إلى الأموال العظيمة، لأن سواد الفرنج كان قريباً، وكان بيمند، صاحب أنطاكية، وطنكري، صاحب الساحل، قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم، إذا اشتدت الحرب، فلما خرجا رأيا الفرنج منهزمين، وسوادهم منهوباً، فأقاما إلى الليل، وهربا، فتبعهما المسلمون، وقتلوا من أصحابهما كثيراً، وأسروا كذلك، وأفلتا في ستة فرسان.
وكان القمص بردويل، صاحب الرها، قد انهزم مع جماعة من قمامصتهم، وخاضوا نهر البليخ، فوجلت خيولهم، فجاء تركماني من أصحاب سقمان فأخذهم، وحمل بردويل إلى خيم صاحبه، وقد سار فيمن معه لاتباع بيمند، فرأى أصحاب جكرمش أن أصحاب سقمان قد استولوا على مال الفرنج، ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل، فقالوا لجكرمش: أي منزلة تكون لنا عند الناس، وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا؟ وحسنوا له أخذ القمص، فأنفذ فأخذ القمص من خيم سقمان، فلما عاد سقمان شق عليه الأمر، وركب أصحابه للقتال، فردهم، وقال لهم: لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمهم باختلافنا، ولا أؤثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين. ورحل لوقته، وأخذ سلاح الفرنج، وراياتهم، وألبس أصحابه لبسهم، وأركبهم خيلهم، وجعل يأتي حصون شيحان، وبها الفرنج، فيخرجون ظناً منهم أن اصحابهم نصروا، فيقتلهم ويأخذ الحصن منهم، فعل ذلك بعدة حصون.

وأما جكرمش فإنه سار إلى حران، فتسلمها، واستخلف بها صاحبه. وسار إلى الرها، فحصرها خمسة عشر يوماً، وعاد إلى الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام سقمان، ففاداه بخمسة وثلاثين ديناراً، ومائة وستين أسيراً من المسلمين، وكان عدة القتلى من الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل.
ذكر وفاة دقاق وملك ولدهفي هذه السنة، في شهر رمضان، توفي الملك دقاق بن تتش بن ألب أرسلان، صاحب دمشق، وخطب أتابكه طغتكين لولد له صغير، له سنة واحدة، وجعل اسم المملكة فيه، ثم قطع خطبته وخطب لبكتاش بن تتش، عم هذا الطفل، في ذي الحجة، وله من العمر اثنتا عشرة سنة.
ثم إن طغتكين أشار عليه بقصد الرحبة، فخرج إليها فملكها وعاد، فمنعه طغتكين من دخول البلد، فمضى إلى حصون له، وأعاد طغتكين خطبة الطف لولد دقاق.
وقيل إن سبب استيحاش بكتاش من طغتكين أن والدته خوفته منه، وقالت: إنه زوج والدة دقاق، وهي لا تتركه حتى يقتلك ويستقيم الملك لولدها، فخاف، ثم إنه حسن له من كان يحسد طغتكين مفارقة دمشق، وقصد بعلبك، وجمع الرجال، والاستنجاد بالفرنج، والعود إلى دمشق، وأخذها من طغتكين، فخرج من دمشق سراً في صفر سنة ثمان وتسعين، ولحقه الأمير أيتكين الحلبي، وهو من جملة من قرر مع بكتاش ذلك، وهو صاحب بصرى، فعاثا في نواحي حوران، ولحق بهما كل من يريد الفساد، وراسلا بغدوين ملك الفرنج يستنجدانه، فأجابهما إلى ذلك، وسار إليهما فاجتمعا به، وقررا القواعد معه، وأقاما عنده مدة، فلم يريا منه غير التحريض على الإفساد في أعمال دمشق، وتخريبها، فلما يئسا من نصره عادا من عنده، وتوجها في البرية إلى الرحبة، فملكها بكتاش وعاد عنها.
واستقام أمر طغتكين بدمشق واستبد بالأمر، وأحسن إلى الناس، وبث فيهم العدل، فسروا به سروراً كثيراً.
ذكر استيلاء صدقة على واسطفي هذه السنة، في شوال، انحدر سيف الدولة صدقة بن مزيد من الحلة إلى واسط في عسكر كثير، وأمر فنودي بها في الأتراك: من أقام فقد برئت منه الذمة، فسار جماعة منهم إلى بركيارق، وجماعة إلى بغداد، وصار مع صدقة جماعة منهم، ثم إنه أحضر مهذب الدولة بن أبي الجبر، صاحب البطيحة، فضمنه البلد لمدة، آخرها آخر السنة، بخمسين ألف دينار، وعاد إلى الحلة، وأقام مهذب الدولة بواسط إلى سادس ذي القعدة، وانحدر إلى بلده.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، أطلق سديد الملك أبو المعالي من الاعتقال، وهو الذي كان وزير الخليفة، ولما أطلق هرب إلى الحلة السيفية، ومنها إلى السلطان بركيارق، فولاه الإشراف على ممالكه.
وفيها توفي أمين الدولة أبو سعد العلاء بن الحسن بن الموصلايا، فجأة، وكان قد أضر، وكان بليغاً فصيحاً، وكان ابتداء خدمته للقائم بأمر الله سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، خدم الخلفاء خمساً وستين سنة، كل يوم تزداد منزلته، حتى تاب عن الوزارة، وكان نصرانياً، فأسلم سنة أربع وثمانين، وكان كثير الصدقة، جميل المحضر، صالح النية، ووقف أملاكه على أبواب البر، ومكاتباته مشهورة حسنة، ولما مات خلع على ابن أخته أبي نصر، ولقب نظام الحضرتين، وقلد ديوان الإنشاء.
وفيها كانت ببغداد بين العامة فتن كثيرة، وانتشر العيارون.
وفيها قتل أبو نعيم بن ساوة الطبيب الواسطي، وكان من الحذاق في الطب، وله فيه إصابات حسنة.

وفيها عزل السلطان سنجر وزيره المجير أبا الفتح الطغرائي، وسبب ذلك أن الأمير بزغش، وهو أصفهسلار العسكر السنجري، ألقي إليه ملطف فيه: لا يتم لك أمر مع هذا السلطان، ووقع إلى سنجر، لا يتم لك أمر مع الأمير بزغش، مع كثرة جموعه، فجمع بزغش أصحاب العمائم، وعرض عليهم الملطفين، فاتفقوا على كاتب الطغرائي، وظهرت عليه فقتل، وقبض سنجر على الطغرائي، وأراد قتله، فمنعه بزغش، وقال له: حق خدمة، فأبعده إلى غزنة. وفيها جمع بزغش كثيراً من عساكر خراسان، وأتاه كثير من المتطوعة، وسار إلى قتال الإسماعيلية، فقصد طبس، وهي لهم، فخربها وما جاورها من القلاع والقرى، وأكثر فيهم القتل، والنهب، والسبي، وفعل بهم الأفعال العظيمة، ثم إن أصحاب سنجر أشاروا بأن يؤمنوا، ويشرط عليهم أنهم لا يبنون حصناً، ولا يشترون سلاحاً، ولا يدعون أحداً إلى عقائدهم، فسخط كثير من الناس هذا الأمان، وهذا الصلح، ونقموه على سنجر، ثم إن بزغش، بعد عوده من هذه الغزاة، توفي، وكانت خاتمة أمره الجهاد، رحمه الله.
وفي هذه السنة توفي أبو بكر علي بن أحمد بن زكرياء الطريثثي، وكان صوفياً محدثاً مشهوراً.
وفي رجب توفي القاضي أبو الحسين أحمد بن محمد الثقفي، قاضي الكوفة، ومولده في ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وهو من ولد عروة بن مسعود، ومن تلاميذ القاضي الدامغاني، وولي القضاء بعده ابنه أبو البركات.
وفي ربيع الآخر توفي أبو عبد الله الحسين بن علي بن البسري البندار، المحدث، ومولده سنة أربع وأربعمائة.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة

ذكر وفاة السلطان بركيارق
في هذه السنة، ثاني عشر ربيع الآخر، توفي السلطان بركيارق بن ملكشاه، وكان قد مرض بأصبهان، بالسل، والبواسير، فسار منها في محفة طالباً بغداد، فلما وصل إلى بروجرد ضعف عن الحركة، فأقام بها أربعين يوماً، فاشتد مرضه، فلما أيس من نفسه خلع على ولده ملكشاه، وعمره حينئذ أربع سنين وثمانية أشهر، وخلع على الأمير إياز، وأحضر جماعة من الأمراء، وأعلمهم أنه قد جعل ابنه ولي عهده في السلطنة، وجعل الأمير إياز أتابكه، وأمرهم بالطاعة لهما، ومساعدتهما على حفظ السلطنة لولده، والذب عنها، فأجابوا كلهم بالسمع والطاعة، وبذل النفوس والأموال في حفظ ولده وسلطنته عليه، واستحلفهم على ذلك، فحلفوا، وأمرهم بالمسير إلى بغداد، فساروا، فلما كانوا على اثني عشر فرسخاً من بروجرد وصلهم خبر وفاته، وكان بركيارق قد تخلف على عزم العود إلى أصبهان فعاجلته منيته.
فلما سمع الأمير إياز بموته أمر وزيره الخطير المبيذي وغيره بأن يسيروا مع تابوته إلى أصبهان، فحمل إليها، ودفن في تربة جددتها له سريته، ثم ماتت بعد أيام، فدفنت بإزائه، وأحضر إياز السرادقات، والخيام، والجتر، والشمسة، وجميع ما يحتاج إليه السلطان، فجعله برسم ولده ملكشاه.
ذكر عمره وشيء من سيرتهلما توفي بركيارق كان عمره خمساً وعشرين سنة، ومدة وقوع اسم السلطنة عليه اثنتي عشرة سنة وأربعة أشهر، وقاسى من الحروب واختلاف الأمور عليه ما لم يقاسه أحد، واختلفت به الأحوال بين رخاء وشدة، وملك وزواله، وأشرف، في عدة نوب، بعد إسلام النعمة، على ذهاب المهجة.
ولما قوي أمره، في هذا الوقت، وأطاعه المخالفون، وانقادوا له، أدركته منيته، ولم يهزم في حروبه غير مرة واحدة، وكان أمراؤه قد طمعوا فيه للاختلاف الواقع، حتى إنهم كانوا يطلبون نوابه ليقتلوهم، فلا يمكنه الدفع عنهم، وكان متى خطب به ببغداد وقع الغلاء، ووقفت المعايش والمكاسب، وكان أهلها مع ذلك يحبونه، ويختارون سلطنه.
وقد ذكرنا من تغلب الأحوال به ما وقفت عليه، ومن أعجبها دخوله أصبهان هارباً من عمه تتش، فمكنه عسكر أخيه محمود صاحبها من دخولها ليقبضوا عليه، فاتفق أن أخاه محموداً مات، فاضطروا إلى أن يملكوه، وهذا من أحسن الفرج بعد الشدة.
وكان حليماً، كريماً، صبوراً، عاقلاً، كثير المداراة،، حسن القدرة، لا يبالغ في العقوبة، وكان عفوه أكثر من عقوبته.
ذكر الخطبة لملكشاه بن بركيارقفي هذه السنة خطب لملكشاه بن بركيارق بالديوان يوم الخميس سلخ ربيع الآخر، وخطب له بجوار بغداد من الغد، يوم الجمعة.

وكان سبب ذلك أن إيلغازي، شحنة بغداد، سار في المحرم إلى السلطان بركيارق، وهو بأصبهان، يحثه على الوصول إلى بغداد، ورحل مع بركيارق، فلما مات بركيارق سار مع ولده ملكشاه والأمير إياز إلى بغداد، فوصلوها سابع عشر ربيع الآخر، ولقوا في طريقهم برداً شديداً لم يشاهدوا مثله، بحيث أنهم لم يقدروا على الماء لجموده.
وخرج الوزير أبو القاسم علي بن جهير، فلقيهم من ديالى، وكانوا خمسة آلاف فارس، وحضر إيلغازي، والأمير طغايرك، بالديوان، وخاطبوا في إقامة الخطبة لملكشاه بن بركيارق، فأجيب إليها، وخطب له، ولقب بألقاب جده ملكشاه، وهي جلال الدولة، وغيره من الألقاب، ونثرت الدنانير عند الخطبة له.
ذكر حصر السلطان محمد جكرمش بالموصللما اصطلح السلطان بركيارق والسلطان محمد، كما ذكرناه في السنة الخالية، وسلم محمد مدينة أصبهان إلى بركيارق، وسار إليها، أقام محمد بتبريز من أذربيجان إلى أن وصل أصحابه الذين بأصبهان، فلما وصلوا استوزر سعد الملك أبا المحاسن لحسن أثره كان في حفظ أصبهان، وأقام إلى صفر من هذه السنة، وسار إلى مراغة، ثم إلى إربل يريد قصد جكرمش، صاحب الموصل، ليأخذ بلاده.
فلما سمع جكرمش بمسيره إليه جدد سور الموصل، ورم ما احتاج إلى إصلاح، وأمر أهل السواد بدخول البلد، وأذن لأصحابه في نهب من لم يدخل.
وحصر محمد المدينة، وأرسل إلى جكرمش يذكر له الصلح بينه وبين أخيه، وأن في جملة ما استقر أن تكون الموصل وبلاد الجزيرة له، وعرض عليه الكتب من بركيارق إليه بذلك، والأيمان على تسليمها إليه، وقال له: إن أطعت فأنا لا آخذها منك، بل أقرها بيدك، وتكون الخطبة لي بها. فقال جكرمش: إن كتب السلطان وردت إلي، بعد الصلح، تأمرني أن لا أسلم البلد إلى غيره.
فلما رأى محمد امتناعه باكره القتال، وزحف إليه بالنقابين، والدبابات، وقاتل أهل البلد أشد قتال، وقتلوا خلقاً كثيراً لمحبتهم لجكرمش لحسن سيرته فيهم، فأمر جكرمش ففتح في السور أبواب لطاف يخرج منها الرجالة يقاتلون، فكانوا يكثرون القتل في العسكر، ثم زحف محمد مرة، فنقب في السور أصحابه، وأدركهم الليل، فأصبحوا وقد عمره أهل البلد، وشحنوه بالمقاتلة، وكانت الأسعار عندهم رخيصة في الحصار: كانت الحنطة تساوي كل ثلاثين مكوكاً بدينار، والشعير خمسين مكوكاً بدينار.
وكان بعض عسكر جكرمش قد اجتمعوا بتل يعفر، فكانوا يغيرون على أطراف العسكر، ويمنعون الميرة عنهم، فدام القتال عليهم إلى عاشر جمادى الأولى، فوصل الخبر إلى جكرمش بوفاة السلطان بركيارق، فأحضر أهل البلد، واستشارهم فيما يفعله بعد موت السلطان، فقالوا: أموالنا وأرواحنا بين يديك، وأنت أعرف بشأنك، فاستشر الجند، فهم أعرف بذلك. فاستشار أمراءه، فقالوا: لما كان السلطان حياً قد كنا على الامتناع، ولم يتمكن أحد من طروق بلدنا، وحيث توفي فليس للناس اليوم سلطان غير هذا، والدخول تحت طاعته أولى.
فأرسل إلى محمد يبذل الطاعة، ويطلب وزيره سعد الملك ليدخل إليه، فحضر الوزير عنده، وأخذ بيده، وقال: المصلحة أن تحضر الساعة عند السلطان، فإنه لا يخالفك في جميع ما تلتمسه، وأخذ بيده وقام، فسار معه جكرمش، فلما رآه أهل الموصل قد توجه إلى السلطان، جعلوا يبكون، ويضجون، ويحثون التراب على رؤسهم، فلما دخل على السلطان محمد أقبل عليه، وأكرمه، وعانقه، ولم يمكنه من الجلوس، وقال: ارجع إلى رعيتك، فإن قلوبهم إليك، وهم متطلعون إلى عودك، فقبل الأرض وعاد ومعه جماعة من خواص السلطان، وسأل السلطان من الغد أن يدخل البلد ليزين له، فامتنع من ذلك، فعمل سماطاً، بظاهر الموصل، عظيماً، وحمل إلى السلطان من الهدايا والتحف ولوزيره أشياء جليلة المقدار.
ذكر وصول السلطان إلى بغداد وصلحه مع ابن أخيه والأمير إيازلما وصل خبر وفاة السلطان بركيارق إلى أخيه السلطان محمد، وهو يحاصر الموصل، جلس للعزاء، وأصلح جكرمش، صاحب الموصل، كما ذكرناه، وسار إلى بغداد ومعه سكمان القطبي، وهو ينسب إلى قطب الدولة إسماعيل بن ياقوتي بن داود، وإسماعيل ابن عم ملكشاه، وسار معه جكرمش وغيرهما من الأمراء.

وكان سيف الدولة صدقة، صاحب الحلة، قد جمع خلقاً كثيراً من العساكر، فبلغت عدتهم خمسة عشر ألف فارس، وعشرة آلاف راجل، وأرسل ولديه بدران ودبيساً إلى السلطان محمد يستحثه على المجيء إلى بغداد، فاستصحبهما معه إلى بغداد.
فلما سمع الأمير إياز بمسيره إليه خرج هو والعسكر الذي معه من الدور، ونصبوا الخيام بالزاهر، خارج بغداد، وجمع الأمراء، واستشارهم فيما يفعله، فبذلوا له الطاعة واليمين على قتاله وحربه، ومنعه عن السلطنة، والاتفاق معه على طاعة ملكشاه بن بركيارق.
وكان أشدهم في ذلك ينال وصباوة، فإنهما بالغا في الإطماع في السلطان محمد، والمنع له عن السلطنة، فلما تفرقوا قال له وزيره الصفي أبو المحاسن: يا مولانا إن حياتي مقرونة بثبات نعمتك ودولتك، وأنا أكثر التزاماً بك من هؤلاء، وليس الرأي ما أشاروا به، فإن كلامهم يقصد أن يسلك طريقاً، وأن يقيم سوقاً لنفسه بك، وأكثرهم يناوئك في المنزلة، وإنما يقعد بهم عن منازعتك قلة العدد والمال، والصواب مصالحة السلطان محمد وطاعته، وهو يقرك على إقطاعك، ويزيدك عليه مهما أردت.
فتردد الأمير إياز بين الصلح والمباينة، إلا أن حركته في المباينة ظاهرة، وجمع السفن التي ببغداد عنده، وضبط المشارع من متطرق إلى عسكره وإلى البلد.
ووصل السلطان محمد إلى بغداد يوم الجمعة لثمان بقين من جمادى الأولى، ونزل عند الجانب الغربي بأعلى بغداد، وخطب له بالجانب الغربي، ولملكشاه بن بركيارق بالجانب الشرقي، وأما جامع المنصور فإن الخطيب قال فيه: اللهم أصلح سلطان العالم! وسكت.
وخاف الناس من امتداد الشر والنهب، فركب إياز في عسكره، وهم عازمون على الحرب، وسار إلى أشرف على عسكر السلطان محمد، وعاد إلى مخيمه، فدعا الأمراء إلى اليمين مرة ثانية على المخالصة لملكشاه، فأجاب البعض، وتوقف البعض، وقالوا: قد حلفنا مرة، ولا فائدة في إعادة اليمين، لأننا إن وفينا بالأولى وفينا بالثانية، وإن لم نف بالأولى فلا نفي بالثانية.
فأمر إياز حينئذ وزيره الصفي أبا المحاسن بالعبور إلى السلطان محمد في الصلح، وتسليم السلطنة إليه، وترك منازعته فيها، فعبر يوم السبت لسبع بقين من الشهر إلى عسكر محمد، واجتمع بوزيره سعد الملك أبي المحاسن سعد بن محمد، فعرفه ما جاء فيه، فحضرا عند السلطان محمد وأدى الصفي رسالة صاحبه إياز، واعتذاره عما كان منه أيام بركيارق، فأجابه محمد جواباً لطيفاً سكن به قلبه وطيب نفسه، وأجاب إلى ما التمس منه من اليمين.
فلما كان الغد حضر قاضي القضاة، والنقيبان، والصفي وزير إياز، عند السلطان محمد، فقال له وزيره سعد الملك: إن إياز يخاف لما تقدم منه، وهو يطلب العهد لملكشاه ابن أخيك، ولنفسه، وللأمراء الذين معه. فقال السلطان: أما ملكشاه فإنه ولدي، ولا فرق بيني وبين أخي، وأما إياز والأمراء فأحلف لهم، إلا ينال الحسامي وصباوة، فاستحلفه الكيا الهراس، مدرس النظامية، على ذلك، وحضر الجماعة اليمين. فلما كان من الغد حضر الأمير إياز عند السلطان محمد، فلقيه وزير السلطان، والناس كافة، ووصل سيف الدولة صدقة، ذلك الوقت، ودخلا جميعاً إلى السلطان، فأكرمهما، وأحسن إليهما، وقيل بل ركب السلطان ولقيهما، ووقف أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وأقام السلطان ببغداد إلى شعبان، وسار إلى أصبهان، وفعل فيها ما سنذكره، إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل الأمير إيازفي هذه السنة، ثالث عشر جمادى الآخرة، قتل الأمير إياز، وقتله السلطان محمد.
وسبب ذلك أن إياز لما سلم السلطنة إلى السلطان محمد صار في جملته، واستحلفه لنفسه، فلما كان ثامن جمادى الآخرة عمل دعوة عظيمة في داره، وهي دار كوهرائين، ودعا السلطان إليها، وقدم له شيئاً كثيراً من جملته الحبل البلخش الذي أخذ من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك، وقد تقدم ذكر ذلك، وحضر مع السلطان سيف الدولة صدقة بن مزيد.

وكان من الاتفاق الرديء أن إياز تقدم إلى غلمانه ليلبسوا السلاح من خزانته، ليعرضهم على السلطان، فدخل عليهم رجل من أبهر يتطايب معهم، ويضحكون منه، مع كونه يتصوف، فقالوا له: لا بد من أن نلبسك درعاً ونعرضك، فألبسوه الدرع تحت قميصه، وتناولوه بأيديهم، وهو يسألهم أن يكفوا عنه، فلم يفعلوا، فلشدة ما فعلوا هرب منهم، ودخل بين خواص السلطان معتصماً بهم، فرآه السلطان مذعوراً، وعليه لباس عظيم، فاستراب به، فقال لغلام له بالتركية ليلمسه من غير أن يعلم أحد، ففعل، فرأى الدرع تحت قميصه، فأعلم السلطان بذلك، فاستشعر، وقال: إذا كان أصحاب العمائم قد لبسوا السلاح، فكيف الأجناد! وقوي استشعاره لكونه في داره، وفي قبضته، فنهض وفارق الدار وعاد إلى داره.
فلما كان ثالث عشر الشهر استدعى السلطان الأمير صدقة، وإياز، وجكرمش، وغيرهم من الأمراء، فلما حضروا أرسل إليهم: إنه بلغنا أن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش قصد ديار بكر ليتملكها، وسير منها إلى الجزيرة، وينبغي أن تجتمع أراؤهم على من يسير إليه ليمنعه ويقاتله. فقال الجماعة: ليس لهذا غير الأمير إياز، فقال إياز: ينبغي أن نجتمع أنا وسيف الدولة صدقة بن مزيد على هذا الأمر، والدفع لهذا القاصد، فقيل ذلك للسلطان، فأعاد الجواب يستدعي إياز، وصدقة، والوزير سعد الملك ليحرر الأمر في حضرته، فنهضوا ليدخلوا إليه.
وكان قد أعد جماعة من خواصه ليقتلوا إياز إذا دخل إليه، فلما دخلوا ضرب أحدهم رأسه فأبانه. فأما صدقة فغطى وجهه بكمه، وأما الوزير فإنه غشي عليه، ولف إياز في مسح وألقي على الطريق عند دار المملكة، وركب عسكر إياز، فنهبوا ما قدروا عليه من داره، فأرسل السلطان من حماها من النهب، وتفرق أصحابه من يومهم، وكان زوال تلك النعمة العظيمة، والدولة الكبيرة، في لحظة، بسبب هزل ومزاح، فلما كان من الغد كفنه قوم من المتطوعة، ودفنوه في المقابر المجاورة لقبر أبي حنيفة، رحمه الله.
وكان عمره قد جاوز أربعين سنة، وهو من جملة مماليك السلطان ملكشاه، ثم صار بعد موته في جملة أمير آخر، فاتخذه ولداً، وكان غزير المروة، شجاعاً، حسن الرأي في الحرب.
وأما وزيره الصفي فإنه اختفى، ثم أخذ وحمل إلى دار الوزير سعد الملك، ثم قتل في رمضان وعمره ست وثلاثون سنة، وكان من بيت رئاسة بهمذان.
ذكر وفاة سقمان بن أرتقكان فخر الملك بن عمار، صاحب طرابلس، قد كاتب سقمان يستدعيه إلى نصرته على الفرنج، ويبذل له المعونة بالمال والرجال، فبينما هو يتجهز للمسير أتاه كتاب طغتكين، صاحب دمشق، يخبره أنه مريض قد أشفى من الموت، وأنه يخاف إن مات، وليس بدمشق من يحميها، أن يملكها الفرنج، ويستدعيه ليوصي إليه، وبما يعتمده في حفظ البلد. فلما رأى ذلك أسرع في السير عازماً على أخذ دمشق، وقصد الفرنج في طرابلس، وإبعادهم عنها، فوصل إلى القريتين.
واتصل خبره بطغتكين، فخاف عاقبة ما صنع، ولقوة فكره زاد مرضه،. ولامه أصحابه على ما فرط في تدبيره وخوفوه عاقبة ما فعل، وقالوا له: قد رأيت سيدك تاج الدولة لما استدعاه إلى دمشق ليمنعه كيف قتله حين وقعت عينه عليه.
فبينما هم يديرون الرأي بأي حيلة يردونه أتاهم الخبر بأنه وصل القريتين، ومات، وحمله أصحابه وعادوا به، فأتاهم فرج لم يحسبوه، وكان مرضه الذي مات به الخوانيق، يعتريه دائماً، فأشار عليه صاحباه بالعود إلى حصن كيفا، فامتنع، وقال: بل أسير، فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه، ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفاً من الموت، وإن أدركني أجلي كنت شهيداً سائراً في جهاد. فساروا، فاعتقل لسانه يومين، ومات في صفر، وبقي ابنه إبراهيم في أصحابه، وجعل في تابوت وحمل إلى الحصن، وكان حازماً داهياً، ذا رأي، كثير الخير، وقد ذكرنا سبب أخذه لحصن كيفا.
وأما ملكه ماردين، فإن كربوقا خرج من الموصل، قفصد آمد، وحارب صاحبها، فاستنجد صاحبها، وهو تركماني، بسقمان، فحضر عنده، وصاف كربوقا.

وكان عماد الدين زنكي بن آقسنقر، حينئذ، صبياً قد حضر مع كربوقا، ومعه جماعة كثيرة من أصحاب أبيه، فلما اشتد القتال ظهر سقمان، فألقى أصحاب آقسنقر زنكي ولد صاحبهم بين أرجل الخيل، وقالوا: قاتلوا عن ابن صاحبكم! فقاتلوا حينئذ قتالاً شديداً، فانهزم سقمان، وأسروا ابن أخيه ياقوتي بن أرتق، فسجنه كربوقا بقلعة ماردين، وكان صاحبها إنساناً مغنياً للسلطان بركيارق، فطلب منه ماردين وأعمالها، فأقطعه إياها، فبقي ياقوتي في حبسه مدة، فمضت زوجة أرتق إلى كربوقا وسألته إطلاقه فأطلقه، فنزل عند ماردين، وكانت قد أعجبته، فأقام ليعمل في تملكها والاستيلاء عليها.
وكان من عند ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها المغني، وأغاروا على أعمال ماردين عدة دفعات، فراسله ياقوتي يقول: قد صار بيننا مودة وصداقة، وأريد أن أعمر بلدك بأن أمنع عنه الأكراد، وأغير على الأماكن، وآخذ الأموال أنفقها في بلدك وأقيم في الربض، فأذن له في ذلك، فجعل يغير من باب خلاط إلى بغداد، فصار ينزل معه بعض أجناد القلعة، طلباً للكسب، وهو يكرمهم، ولا يعترضهم، فأمنوا إليه.
فاتفق أن في بعض الأوقات نزل معه أكثرهم، فلما عادوا من الغارة أمر بقبضهم وتقييدهم، وسبقهم إلى القلعة، ونادى من بها من أهليهم: إن فتحتم الباب، وإلا ضربت أعناقهم، فامتنعوا، فقتل إنساناً منهم، فسلم القلعة من بها إليه وبقي بها.
ثم إنه جمع جمعاً وسار إلى نصيبين، وأغار على بلد جزير ابن عمر، وهي لجكرمش، فلما عاد أصحابه بالغنيمة أتاهم جكرمش، وكان ياقوتي قد أصابه مرض عجز معه عن لبس السلاح، وركوب الخيل، فحمل إلى فرسه فركبه، وأصابه سهم فسقط منه، فأتاه جكرمش، وهو يجود بنفسه، فبكى عليه، وقال له: ما حملك على ما صنعت يا ياقوتي؟ فلم يجبه، فمات، ومضت زوجة أرتق إلى ابنها سقمان، وجمعت التركمان، وطلبت بثأر ابن ابنها، وحصر سقمان نصيبين، وهي لجكرمش، فسير جكرمش إلى سقمان مالاً كثيراً سراً، فأخذه ورضي، وقال: إنه قتل في الحرب، ولا يعرف قاتله.
وملك ماردين بعد ياقوتي أخوه علي، وصار في طاعة جكرمش، واستخلف بها أميراً اسمه علي أيضاً، فأرسل علي الوالي بماردين إلى سقمان يقول له: ابن أخيك يريد أن يسلم ماردين إلى جكرمش، فسار سقمان بنفسه وتسلمها، فجاء إليه علي ابن أخيه وطلب إعادة القلعة إليه، فقال: إنما أخذتها لئلا يخرب البيت، فأقطعه جبل جور، ونقله إليه.
وكان جكرمش يعطي علياً كل سنة عشرين ألف دينار، فلما أخذ عمه سقمان ماردين منه، أرسل علي إلى جكرمش يطلب منه المال، فقال: إنما كنت أعطيتك احتراماً لماردين، وخوفاً من مجاورتك، والآن فاصنع ما أنت صانع، فلا قدرة لك علي.
ذكر حال الباطنية هذه السنة بخراسانفي هذه السنة سار جمع كثير من الإسماعيلية من طريثيت، عن بعض أعمال بيهق، وشاعت الغارة في تلك النواحي، وأكثروا القتل في أهلها، والنهب لأموالهم، والسبي لنسائهم، ولم يقفوا على الهدنة المتقدمة.
وفي هذه السنة اشتد أمرهم، وقويت شوكتهم، ولم يكفوا أيديهم عمن يريدون قتله، لاشتغال السلاطين عنهم. فمن جملة فعلهم: أن قفل الحاج تجمع، هذه السنة، مما وراء النهر، وخراسان، والهند، وغيرها من البلاد، فوصلوا إلى جوار الري، فأتاهم الباطنية وقت السحر، فوضعوا فيهم السيف، وقتلوهم كيف شاؤوا، وغنموا أموالهم ودوابهم، ولم يتركوا شيئاً.
وقتلوا هذه السنة أبا جعفر بن المشاط، وهو من شيوخ الشافعية، أخذ الفقه عن الخجندي، وكان يدرس بالري، ويعظ الناس، فلما نزل من كرسيه أتاه باطني فقتله.
ذكر حال الفرنج هذه السنة مع المسلمين بالشامفي هذه السنة، في شعبان، كانت وقعة بين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية، وبين الملك رضوان، صاحب حلب، انهزم فيها رضوان.

وسببها أن طنكري حصر حصن أرتاح، وبه نائب الملك رضوان، فضيق الفرنج على المسلمين، فأرسل النائب بالحصن إلى رضوان يعرفه ما هو فيه من الحصر الذي أضعف نفسه ويطلب النجدة، فسار رضوان في عسكر كثير من الخيالة، وسبعة آلاف من الرجالة، منهم ثلاثة آلاف من المتطوعة، فساروا حتى وصلوا إلى قنسرين، وبينهم وبين الفرنج قليل، فلما رأى طنكري كثرة المسلمين أرسل إلى رضوان يطلب الصلح، فأراد أن يجيب، فمنعه أصبهبذ صباوة، وكان قد قصده، وصار معه بعد قتل إياز، فامتنع من الصلح، واصطفوا للحرب، فانهزمت الفرنج من غير قتال، ثم قالوا: نعود ونحمل عليهم حملة واحدة، فإن كانت لنا، وإلا انهزمنا، فحملوا على المسلمين فلم يثبتوا، وانهزموا، وقتل منهم وأسر كثير.
وأما الرجالة فإنهم كانوا قد دخلوا معسكر الفرنج لما انهزموا، فاشتغلوا بالنهب، فقتلهم الفرنج، ولم ينج إلا الشريد فأخذ أسيراً، وهرب من في أرتاح إلى حلب، وملكه الفرنج، لعنهم الله تعالى، وهرب أصبهبذ صباوة إلى طغتكين أتابك بدمشق، فصار معه ومن أصحابه.
ذكر حرب الفرنج والمصريينفي ذي الحجة من هذه السنة كانت وقعة بين الفرنج والمسلمين كانوا فيها على السواء.
وسببها أن الأفضل، وزير صاحب مصر، كان قد سير ولده شرف المعالي في السنة الخالية إلى الفرنج، فقهرهم، وأخذ الرملة منهم، ثم اختلف المصريون والعرب، وادعى كل واحد منهما أن الفتح له، فأتاهم سرية الفرنج، فتقاعد كل فريق منهما بالآخر، حتى كاد الفرنج يظهرون عليهم، فرحل عند ذلك شرف المعالي إلى أبيه بمصر، فنفذ ولده الآخر، وهو سناء الملك حسين، في جماعة من الأمراء منهم جمال الملك، والنائب بعسقلان للمصريين، وأرسلوا إلى طغتكين أتابك بدمشق يطلبون منه عسكراً، فأرسل إليهم أصبهبذ صباوة ومعه ألف وثلاثمائة فارس.
وكان المصريون في خمسة آلاف، وقصدهم بغدوين الفرنجي، صاحب القدس، وعكة، ويافا، في ألف وثلاثمائة فارس، وثمانية آلاف راجل، فوقع المصاف بينهم بين عسقلان ويافا، فلم تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى، فقتل من المسلمين ألف ومائتان، ومن الفرنج مثلهم، وقتل جمال الملك، أمير عسقلان.
فلما رأى المسلمون أنهم قد تكافأوا في النكاية قطعوا الحرب وعادوا إلى عسقلان، وعاد صباوة إلى دمشق، وكان مع الفرنج جماعة من المسلمين منهم بكتاش بن تتش، وكان طغتكين قد عدل في الملك إلى ولد أخيه دقاق، وهو طفل، وقد ذكرناه، فدعاه ذلك إلى قصد الفرنج، والكون معهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عظم فساد التركمان بطريق خراسان من أعمال العراق، قد كانوا قبل ذلك ينهبون الأموال، ويقطعون الطريق، إلا أنهم عندهم مراقبة. فلما كانت هذه السنة اطرحوا المراقبة، وعملوا الأعمال الشنيعة، فاستعمل إيلغازي بن أرتق، وهو شحنة العراق، على ذلك البلد ابن أخيه بلك بن بهرام بن أرتق، وأمره بحفظه وحياطته، ومنع الفساد عنه، فقام في ذلك القيام المرضي، وحمى البلاد، وكف الأيدي المتطاولة، وسار بلك إلى حصن خانيجار، وهو من أعمال سرخاب بن بدر، فحصره وملكه.
وفيها، في شعبان، جعل السلطان محمد قسيم الدولة سنقر البرسقي شحنة بالعراق، وكان موصوفاً بالخير، والدين، وحسن العهد، لم يفارق محمداً في حروبه كلها.
وفيها أقطع السلطان محمد الكوفة للأمير قايماز، وأوصى صدقة أن يحمي أصحابه من خفاجة، فأجاب إلى ذلك.
وفيها، في شهر رمضان، وصل السلطان محمد إلى أصبهان، فأمن أهلها، ووثقوا بزوال ما كان يشملهم من الخبط، والعسف، والمصادرة، وشتان بين خروجه منها هارباً متخفياًن وعوده إليها سلطاناً متمكناً، وعدل في أهلها، وأزال عنهم ما يكرهون، وكف الأيدي المتطرقة إليهم من الجند وغيرهم، فصارت كلمة العامي أقوى من كلمة الجندي، ويد الجندي قاصرة عن العامي من هيبة السلطان وعدله.
وفيها كثر الجدري في كثير من البلدان، لا سيما العراق، فإنه كان به كله، ومات به من الصبيان ما لا يحصى، وتبعه وباء كثير، وموت عظيم.
وتوفي في هذه السنة، في شوال، أحمد بن محمد بن أحمد أبو علي البرداني، الحافظ، ومولده سنة ست وعشرين وأربعمائة، سمع ابن غيلان، والبرمكي، والعشاري وغيرهم.

وتوفي أبو المعالي ثابت بن بندار بن إبراهيم البقال، ومولده سنة ست عشرة وأربعمائة، سمع أبا بكر البرقاني، وأبا علي بن شاذان، وكانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفي رابع جمادى الأولى توفي أبو الحسن محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر، الفقيه الشافعي، ومولده سنة تسع وأربعمائة، وكان أديباً، شاعراً، فمن قوله:
من قال لي جاه، ولي حشمة، ... ولي قبول عند مولانا
ولم يعد ذاك بنفع على ... صديقه، لا كان من كانا
وفيها أيضاً توفي أبو نصر ابن أخت ابن الموصلايا، وكان كاتباً للخليفة جيد الكتابة، وكان عمره سبعين سنة، ولم يخلف وارثاً لأنه أسلم، وأهله نصارى، فلم يرثوه، وكان يبخل، إلا أنه كان كثير الصدقة، وأبو المؤيد عيسى بن عبد الله بن القاسم الغزنوي، كان واعظاً، شاعراً، كاتباً، قدم بغداد، ووعظ بها، ونصر مذهب الأشعري، وكان له قبول عظيم، وخرج منها، فمات باسفرايين.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة

ذكر خروج منكبرس على السلطان محمد
في هذه السنة، في المحرم، أظهر منكبرس ابن الملك بوربرس بن ألب أرسلان، وهو ابن عماد الملك السلطان محمد، العصيان للسلطان محمد والخلاف عليه.
وسبب ذلك: أنه كان مقيماً بأصبهان، فلحقته ضائقة شديدة، وانقطعت المواد عنه، فخرج منها وسار إلى نهاوند، فاجتمع عليه بها جماعة من العسكر، وظاهره على أمره جماعة من الأمراء، وتغلب على نهاوند، وخطب لنفسه بها، وكاتب الأمراء بني برسق يدعوهم إلى طاعته ونصرته.
وكان السلطان محمد قد قبض على زنكي بن برسق، فكاتب زنكي إخوته، وحذرهم من طاعة منكبرس، وما فيها من الأذى والخطر، وأمرهم بتدبير الأمر في القبض عليه.
فلما أتاهم كتاب أخيهم بذلك أرسلوا إلى منكبرس يبذلون له الطاعة والموافقة، فسار إليهم، وساروا إليه، فاجتمعوا به، وقبضوا عليه بالقرب من أعمالهم، وبلد خوزستان، وتفرق أصحابه، وأخذوا منكبرس إلى أصبهان، فاعتقله السلطان مع بني عمه تكش، وأخرج زنكي بن برسق، وأعاده إلى مرتبته، واستنزله وإخوته عن أقطاعهم، وهي ليشتر، وسابور خواست وغيرهما، ما بين الأهواز وهمذان، وأقطعهم عوضها الدينور وغيرها.
واتفق أن ظهر بنهاوند أيضاً، في هذه السنة، رجل من السواد ادعى النبوة، فأطاعه خلق كثير من السوادية، واتبعوه، وباعوا أملاكهم ودفعوا إليه أثمانها، فكان يخرج ذلك جميعه، وسمى أربعة من أصحابه: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وقتل بنهاوند، فكان أهلها يقولون: ظهر عندنا، في مدة شهرين، اثنان ادعى أحدهما النبوة، والآخر المملكة، فلم يتم لواحد منهما أمره.
ذكر الحرب بين طغتكين والفرنجفي هذه السنة، في صفر، كانت وقعة بين طغتكين أتابك، صاحب دمشق، وبين قمص كبير من قمامصة الفرنج.
وسبب ذلك: أنه تكررت الحروب، والمغاورات، بين عسكر دمشق وبغدوين، فتارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ففي آخر الأمر بنى بغدوين حصناً بينه وبين دمشق نحو يومين، فخاف طغتكين من عاقبة ذلك، وما يحدث به من الضرر، فجمع عسكره وخرج إلى مقاتلتهم، فسار بغدوين ملك القدس، وعكا، وغيرهما، إلى هذا القمص ليعاضده، ويساعده إلى المسلمين، فعرفه القمص غناه عنه، وأنه قادر على مقارعة المسلمين إن قاتلوه، فعاد بغدوين إلى عكا.
وتقدم طغتكين إلى الفرنج، واقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم أميران من عسكر دمشق، فتبعهما طغتكين وقتلهما، وانهزم الفرنج إلى حصنهم، فاحتموا به، فقال طغتكين: من أحسن قتالهم وطلب مني أمراً فعلته معه، ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيته خمسة دنانير. فبذل الرجالة نفوسهم، وصعدوا إلى الحصن وخربوه، وحملوا حجارته إلى طغتكين، فوفى لهم بما وعدهم، وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي، وأسروا من بالحصن، فأمر بهم فقتلوا كلهم، واستبقى الفرسان أسراء، وكانوا مائتي فارس، ولم ينج ممن كان في الحصن إلا القليل.
وعاد طغتكين إلى دمشق منصوراً، فزين البلد أربعة أيام، وخرج منها إلى رفنية، وهو من حصون الشام، وقد تغلب عليه الفرنج، وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس، فحصره طغتكين، وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج.
ذكر الحرب بين عبادة وخفاجةفي هذه السنة كانت حرب شديدة بين عبادة وخفاجة.

وسببها: أن رجلاً من عبادة أخذ منه جماعة خفاجة جملين، فجاء إليهم وطالبهم بهما، فلم يعطوه شيئاً، فأخذ منهم غارة أحد عشر بعيرا، فلحقته خفاجة، وقتلوا من أصحابه رجلاً، وقطعوا يد آخر، وكان ذلك بالموقف من الحلة السيفية، ففرق بينهم أهلها. فسمعت عبادة الخبر، فتواعدت، وانحدرت إلى العراق للأخذ بثأرها، وساروا مع جماعة من أمرائهم، فبلغت عدتهم سبعمائة فارس، وكانت خفاجة دون هذه العدة، فراسلتهم خفاجة يبذلون الدية ويصطلحون، فلم تجبهم إلى ذلك عبادة، وأشار به سيف الدولة صدقة، فلم تقبل عبادة، فالتقوا بالقرب من الكوفة، ومع عبادة الإبل والغنم بين البيوت، فكمنت لهم خفاجة ثلاثمائة فارس، وقاتلوهم مطاردة من غير جد في القتال، فداموا كذلك ثلاثة أيام، ثم إنهم اشتد بينهم القتال، واختلطوا، حتى تركوا الرماح، وتضاربوا بالسيوف.
فبينما هم كذلك، وقد أعيا الفريقان من القتال، إذ طلع كمين خفاجة، وهم مستريحون، فانهزمت عبادة، وانتصرت عليهم خفاجة، وقتل من وجوه عبادة اثنا عشر رجلاً، ومن خفاجة جماعة، وغنمت خفاجة الأموال من الخيل، والإبل، والغنم، والعبيد، والإماء.
وكان الأمير صدقة بن مزيد قد أعان خفاجة سراً، فلما وصل المنهزمون إليه هنأهم صدقة بالسلامة، فقال له بعضهم: ما زلت أقاتل، وأضارب، وأنا طامع في الظفر بهم، حتى رأيت فرسك الشقراء تحت أحدهم، فعلمت أنهم أجلبوا علينا بخيلك ورجلك، وأننا لا طاقة لنا بهم، فنصروا علينا بمعونتك، وفلونا بحدك. فلم يجبه صدقة.
ذكر ملك صدقة البصرةفي هذه السنة، في جمادى الأولى، انحدر سيف الدولة من الحلة إلى البصرة فملكها. وقد ذكرنا فيما تقدم تمكن إسماعيل بن أرسلانجق من البصرة ونواحيها، وأقام بها عشر سنين نافذ الأمر، وازداد قوة وتمكناً بالاختلاف الواقع بين السلاطين، وأخذ الأموال السلطانية، وكان قد راسل صدقة، وأظهر له أنه في طاعته وموافقته. فلما استقر الأمر للسلطان محمد أراد أن يرسل إلى البصرة مقطعاً يأخذها من إسماعيل، فخاطب صدقة في معناه، حتى أقرت البصرة عليه، فأنفذ السلطان عميداً إليها ليتولى ما يتعلق بالسلطان هناك، فمنعه إسماعيل، ولم يمكنه من عمله، وفعل ما خرج به عن حد المجاملة، فأمر السلطان صدقة بقصده، وأخذ البصرة منه، فتحرك لذلك.
فاتفق ظهور منكبرس، وخلافه على السلطان، وأنه على قصد واسط، فسر إسماعيل بذلك، وزاد انبساطه، وأرسل صدقة حاجباً له، وكان قبله قد خدم أباه وجده، إلى إسماعيل يأمره بتسليم الشرطة وأعمالها إلى مهذب الدولة بن أبي الجبر لأنها كانت في ضمانه، فوصل إلى الشرطة، وأخذ منها أربعمائة دينار، فأحضره إسماعيل وحبسه، وأخذ الدنانير منه، فلما رأى صدقة مكاشفته سار من حلته، وأظهر أنه يريد قصد الرحبة، ثم جد السير إلى البصرة، فلم يشعر إسماعيل إلا بقربه منه، ففرق أصحابه في القلاع التي استجدها بمطارا ونهر معقل، وغيرهما، واعتقل وجوه العباسيين، والعلويين، وقاضي البصرة، ومدرسها، وأعيان أهلها.
ونازلهم صدقة، فجرى قتال بين طائفة من عسكره، وطائفة من البصريين، قتل فيه أبو النجم بن أبي القاسم الورامي، وهو ابن خال سيف الدولة صدقة، فلما مدح به سيف الدولة، ورثي به أبو النجم بن أبي القاسم، قول بعضهم:
تهن، يا خير من يحمي حريم حمىً، ... فتحاً أغثت به الدنيا مع الدين
ركبت للبصرة الغراء في نخبٍ ... غرٍ، كجيش علي يوم صفين
هوى أبو النجم كالنجم المنير بها، ... لكنه كان رجماً للشياطين
وأقام صدقة محاصراً لإسماعيل بالبصرة، فأشار على سيف الدولة صدقة بعض أصحابه بالعود عنها، وأعلموه أنهم لا يظفرون بطائل، فأشار عليهم بالمقام، وقالوا: إن رحلنا كانت كسرة، وكان رأي سيف الدولة المقام، وقال: إن تعذر علي فتح البصرة لم يطعني أحد، واستعجزني الناس.

ثم إن إسماعيل خرج من البلد، وقاتل صدقة، فسار بعض أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد، ودخلوه، وقتلوا من السوادية، الذين جمعهم إسماعيل، خلقاً كثيراً وانهزم إسماعيل إلى قلعته بالجزيرة، فأدركه بعض أصحاب سيف الدولة وأراد قتله، ففداه أحد غلمانه بنفسه، فوقعت الضربة فيه فأثخنته، فنهبت البصرة، وغنم من معه من عرب البر، وغيرهم، ما فيها، ولم يسلم منهم إلا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد، فإن العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها، وحموا المربد، وعمت المصيبة لأهل البلد، سوى من ذكرنا، وامتنع إسماعيل بقلعته.
فاتفق أن المهذب بن أبي الجبر انحدر في سفن كثيرة، وأخذ القلعة التي لإسماعيل بمطارا، وقتل بها خلقاً من أصحاب إسماعيل، وحمل إلى صدقة كثيراً فأطلقهم.
فلما علم إسماعيل بذلك أرسل إلى صدقة يطلب الأمان على نفسه، وأهله، وأمواله، فأجابه إلى ذلك، وأجله سبعة أيام، فأخذ كل ما يمكنه حمله مما يعز عليه، وما لم يقدر على حمله أهلكه بالماء وغيره، ونزل إلى سيف الدولة، وأمن سيف الدولة أهل البصرة من كل أذى، ورتب عندهم شحنة، وعاد إلى الحلة ثالث جمادى الآخرة، وكان مقامه بالبصرة ستة عشر يوماً.
وأما إسماعيل فإنه لما سار صدقة إلى الحلة قصد هو الباسيان إلى أن وصله ماله في المراكب، وسار نحو فارس، وصار يتعنت أصحابه، وزوجته، وقبض على جماعة من خواصه وقال لهم: أنتم سقيتم ولدي أفراسياب السم حتى مات! وكان قد مات في صفر من هذه السنة، ففارقه كثير منهم، حتى زوجته فارقته وسارت إلى بغداد.
وأخذته الحمى، وقويت عليه، فلما بلغ رامهرمز انفرد في خيمته، ولم يظهر لأصحابه يوماً وليلة، فظهر لهم موته، فنهبوا ماله وتفرقوا، فأرسل الأمير برامهرمز فردهم وأخذ ما معهم من أمواله، ودفن بالقرب من إيذج، وكان عمره قد جاوز خمسين سنة، وكانت سيرته قد حسنت في أهل البصرة أخيراً.
ذكر حصر رضوان نصيبين وعوده عنهافي هذه السنة، في شهر رمضان، حصر الملك رضوان بن تتش نصيبين.
وسبب ذلك: أنه عزم على حرب الفرنج، واجتمع معه من الأمراء: إيلغازي بن أرتق، الذي كان شحنة بغداد، وأصبهبذ صباوة، وألبى أرسلان تاش، صاحب سنجار، وهو صهر جكرمش، صاحب الموصل، فقال إيلغازي: الرأي أننا نقصد بلاد جكرمش، وما والاها، فنملكها، ونتكثر بعسكرها والأموال. ووافقه ألبى، فسار إلى نصيبين في عشرة آلاف فارس، مستهل رمضان، وكان قد جعل فيها أميرين من أصحابه في عسكر، فتحصنوا بالبلد، وقاتلوا من وراء السور، فرمي ألي أرسلان بنشابة، فجرح جرحاً شديداً، فعاد إلى سنجار.
وأما جكرمش فإنه بلغه الخبر بنزولهم على نصيبين، وهو بالجامة، التي بالقرب من طنزة، يتداوى بمائها من مرضه، فرحل إلى الموصل، وقد أجفل إليها أهل السواد، فخيم على باب البلد، عازماً على حرب رضوان، واستعمل المخادعة، فكاتب أعيان عسكر رضوان، ورغبهم، حتى أفسد نياتهم، وتقدم إلى أصحابه بنصيبين بخدمة الملك رضوان، وبإخراج الإقامات إليه مع الاحتراز منه، وأرسل إلى رضوان يبذل له خدمته، والدخول في طاعته، ويقول له: إن السلطان محمداً قد حصرني، ولم يبلغ مني غرضاً، فترحل عن صلح، وإن قبضت على إيلغازي الذي قد عرفت أنت وغيرك فساده وشره فأنا معك، ومعينك بالرجال والأموال والسلاح.
فاتفق هذا، ورضوان قد تغيرت نيته مع إيلغازي، فازداد تغيراً، وعزم على قبضه، فاستدعاه يوماً، وقال له: هذه بلاد ممتنعة، وربما استولى الفرنج على حلب، والمصلحة مصالحة جكرمش، واستصحابه معنا، فإنه يسير بعساكر كثيرة ظاهرة التجمل، ونعود إلى قتال الفرنج، فإن ذلك مما يعود باجتماع شمل المسلمين. فقال له إيلغازي: إنك جئت بحكمك، وأنت الآن بحكمي لا أمكنك من المسير بدون أخذ هذه البلاد، فإن أقمت، وإلا بدأت بقتالك.
وكان إيلغازي قد قويت نفسه بكثرة من اجتمع عنده من التركمان، وكان الملك رضوان قد واعد قوماً من أصحابه ليقبضوا عليه، فلما جرى ما ذكرناه أمرهم رضوان فقبضوا عليه وقيدوه، فلما سمع التركمان الحال أظهروا الخلاف والامتعاض، ففارقوا رضوان والتجأوا إلى سور المدينة، وأصعد إيلغازي إلى قلعتها، وخرج من بنصيبين من العسكر فأعانوه، فلما رأى التركمان ذلك تفرقوا، ونهبوا ما قدروا عليه من المواشي وغيرها، ورحل رضوان من وقته وسار إلى حلب.

وكان جكرمش قد رحل من الموصل قاصداً لحرب القوم، فلما بلغ تل يعفر أتاه المبشرون بانصراف رضوان على اختلاف وافتراق، فرحل عند ذلك إلى سنجار، ووصلت إليه رسل رضوان تستدعي منه النجدة، ويعتد عليه ما فعل بإيلغازي، فأجابه مغالطة، ولم يف له بما وعده، ونازل سنجار ليشفي غيظه من ظهره ألبي بن أرسلان تاش بما اعتمده من معاداته، ومظاهرة أعدائه، وكان ألبي على شدة من المرض بالسهم الذي أصابه على نصيبين، فلما نزل جكرمش عليها أمر ألبي أصحابه أن يحملوه إليه، فحملوه في محفة، فحضر عنده، وأخذ يعتذر مما كان منه، وقال: جئت مذنباً، فافعل بي ما تراه. فرق له وأعاده إلى بلده، فلما عاد قضى نحبه، فلما مات عصى على جكرمش من كان بسنجار، وتمسكوا بالبلد، فقاتلهم بقية رمضان، وشوالاً، ولم يظفر منهم بشيء، فجاء تميرك أخو أرسلان تاش، عم ألبي، فأصلح حاله مع جكرمش، وبذل له الخدمة، فعاد إلى الموصل.
ذكر ملك طغتكين بصرىقد ذكرنا سنة سبع وتسعين حال بكتاش بن تتش، وخروجه من دمشق، واتصاله بالفرنج، ومعه أيتكين الحلبي، صاحب بصرى، وسيرهما إلى الرحبة، وعودهما عنها، فلما ضعفت أحوالهم سار طغتكين إلى بصرى فحصرها، وبها أصحاب أيتكين، فراسلوا طغتكين، وبذلوا له التسليم إليه، بعد أجل قرروه بينهم، فأجابهم إلى ذلك، فرحل عنهم إلى دمشق، فلما انقضى الأجل، هذه السنة، تسلمها، وأحسن إلى من بها، ووفى لهم بما وعدهم، وبالغ في إكرامهم، وكثر الثناء عليه، والدعاء له، ومالت النفوس إليه، وأحبوه.
ذكر ملك الفرنج حصن أفاميةفي هذه السنة ملك الفرنج حصن أفامية من بلد الشام.
وسبب ذلك: أن خلف بن ملاعب الكلابي كان متغلباً على حمص، وكان الضرر به عظيماً، ورجاله يقطعون الطريق، فكثر الحرامية عنده، فأخذها منه تتش بن ألب أرسلان وأبعده عنها، فتقلبت به الأحوال إلى أن دخل إلى مصر، فلم يلتفت إليه من بها، فأقام بها.
واتفق أن المتولي لأفامية من جهة الملك رضوان أرسل إلى صاحب مصر، وكان يميل إلى مذهبهم، يستدعي منهم من يسلم إليه الحصن، وهو من أمنع الحصون، وطلب ابن ملاعب منهم أن يكون هو المقيم به، وقال: إنني أرغب في قتال الفرنج، وأوثر الجهاد. فسلموه إليه، وأخذوا رهائنه، فلما ملكه خلع طاعتهم ولم يرع حقهم، فأرسلوا إليه يتهددونه بما يفعلونه بولده الذي عندهم. فأعاد الجواب: إنني لا أنزل من مكاني، وابعثوا إلي ببعض أعضاء ولدي حتى آكله، فأيسوا من رجوعه إلى الطاعة، وأقام بأفامية يخيف السبيل، ويقطع الطريق، واجتمع عنده كثير من المفسدين، فكثرت أمواله.
ثم إن الفرنج ملكوا سرمين، وهي من أعمال حلب، وأهلها غلاة في التشيع، فلما ملكها الفرنج تفرق أهلها، فتوجه القاضي الذي بها إلى ابن ملاعب وأقام عنده، فأكرمه، وأحبه، ووثق به، فأعمل القاضي الحيلة عليه، وكتب إلى أبي طاهر، المعروف بالصائغ، وهو من أعيان أصحاب الملك رضوان، ووجوه الباطنية ودعاتهم، ووافقهم على الفتك بابن ملاعب، وأن يسلم أفامية إلى الملك رضوان، فظهر شيء من هذا، فأتى إلى ابن ملاعب أولاده، وكانوا قد تسللوا إليه من مصر، وقالوا له: قد بلغنا عن هذا القاضي كذا وكذا، والرأي أن تعاجله، وتحتاط لنفسك، فإن الأمر قد اشتهر وظهر. فأحضره ابن ملاعب، فأتاه في كمه مصحف، لأنه رأى أمارات الشر، فقال له ابن ملاعب ما بلغه عنه، فقال له: أيها الأمير، قد علم كل أحد أني أتيتك خائفاً جائعاً، فأمنتني، وأغنيتني، وعززتني، فصرت ذات مال وجاه، فإن كان بعض من حسدني على منزلتي منك، وما غمرني من نعمتك سعى بي إليك، فأسألك أن تأخذ جميع ما معي، وأخرج كما جئت. وحلف له على الوفاء والنصح، فقبل عذره وأمنه.

وعاود القاضي مكاتبة أبي طاهر بن الصائغ، وأشار عليه أن يوافق رضوان على إنفاذ ثلاثمائة رجل من أهل سرمين، وينفذ معهم خيلاً من خيول الفرنج، وسلاحاً من أسلحتهم، ورؤوساً من رؤوس الفرنج، ويأتوا إلى ابن ملاعب ويظهروا أنهم غزاة ويشكوا من سوء معاملة الملك رضوان وأصحابه لهم، وأنهم فارقوه، فلقيهم طائفة من الفرنج، فظفروا بهم، ويحملوا جميع ما معهم إليه، فإذا أذن لهم في المقام اتفقت آراؤهم على إعمال الحيلة عليه، ففعل ابن الصائغ ذلك، ووصل القوم إلى أفامية، وقدموا إلى ابن ملاعب بما معهم من الخيل وغيرها، فقبل ذلك منهم، وأمرهم بالمقام عنده، وأنزلهم في ربض أفامية.
فلما كان في بعض الليالي نام الحراس بالقلعة، فقام القاضي ومن بالحصن من أهل سرمين، ودلوا الحبال وأصعدوا أولئك القادمين جميعهم، وقصدوا أولاد ابن ملاعب، وبني عمه، وأصحابه، فقتلوهم، وأتى القاضي وجماعة معه إلى ابن ملاعب، وهو مع امرأته، فأحس بهم، فقال: من أنت؟ فقال: ملك الموت جئت لقبض روحك! فناشده الله، فلم يرجع عنه، وجرحه، وقتله، وقتل أصحابه، وهرب ابناه، فقتل أحدهما، والتحق الآخر بأبي الحسن بن منقذ، صاحب شيزر، فحفظه لعهد كان بينهما.
ولما سمع ابن الصائغ خبر أفامية سار إليها، وهو لا يشك أنها له، فقال له القاضي: إن وافقتني، وأقمت معي، فبالرحب والسعة، ونحن بحكمك، وإلا فارجع من حيث جئت. فأيس ابن الصائغ منه، وكان أحد أولاد ابن ملاعب بدمشق عند طغتكين، غضبان على أبيه، فولاه طغتكين حصناً، وضمن على نفسه حفظ الطريق، وأخذ القوافل، فاستغاثوا إلى طغتكين منه، فأرسل إليه من طلبه، فهرب إلى الفرنج، واستدعاهم إلى حصن أفامية، وقال: ليس فيه غير قوت شهر، فأقاموا عليه يحاصرونه، فجاع أهله، وملكه الفرنج، وقتلوا القاضي المتغلب عليه، وأخذوا الصائغ فقتلوه، وكان هو الذي أظهر مذهب الباطنية بالشام.
هكذا ذكر بعضهم أن أبا طاهر الصائغ قتله الفرنج بأفامية، وقد قيل إن ابن بديع، رئيس حلب، قتله سنة سبع وخمسمائة، بعد وفاة رضوان، وقد ذكرناه هناك، والله أعلم.
ذكر نهب العرب البصرةقد ذكرنا استيلاء الأمير صدقة على البصرة، وأنه استناب بها مملوكاً كان لجده دبيس بن مزيد، اسمه التونتاش، وجعل معه مائة وعشرين فارساً. فاجتمعت ربيعة والمنتفق ومن انضم إليها من العرب، وقصدوا البصرة في جمع كثير، فقاتلهم التونتاش، فأسروه، وانهزم أصحابه، ولم يقدر من بها على حفظها، فدخلوها بالسيف أواخر ذي القعدة، وأحرقوا الأسواق، والدور الحسان، ونهبوا ما قدروا عليه، وأقاموا ينهبون ويحرقون اثنين وثلاثين يوماً، وتشرد أهلها في السواد، ونهبت خزانة كتب كانت موقوفة، وقفها القاضي أبو الفرج بن أبي البقاء.
وبلغ الخبر صدقة، فأرسل عسكراً، فوصلوا وقد فارقها العرب. ثم إن السلطان محمداً أرسل شحنة وعميداً إلى البصرة، وأخذها من صدقة، وعاد أهلها إليها وشرعوا في عمارتها.
ذكر حال طرابلس الشام مع الفرنجكان صنجيل الفرنجي، لعنه الله، قد ملك مدينة جبلة، وأقام على طرابلس يحصرها، فحيث لم يقدر أن يملكها، بنى بالقرب منها حصناً، وبنى تحته ربضاً، وأقام مراصداً لها، ومنتظراً وجود فرصة فيها، فخرج فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس، فأحرق ربضه، ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة، ومعه جماعة من القمامصة والفرسان، فانخسف بهم، فمرض صنجيل من ذلك عشرة أيام ومات، وحمل إلى القدس فدفن فيه.
ثم إن ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرة إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس، فحملوها في البحر، فأخرج إليها فخر الملك بن عمار أسطولاً، فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد، فظفر المسلمون بقطعة من الروم، فأخذوها، وأسروا من كان بها وعادوا.
ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين إلى هذا الوقت، فعدمت الأقوات به، وخاف أهله على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء، وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمار صبر عظيم، وشجاعة، ورأي سديد.
ومما أضر بالمسلمين فيها أن صاحبها استنجد سقمان بن أرتق، فجمع العساكر وسار إليه، فمات في الطريق، على ما ذكرناه، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه.

وأجرى ابن عمار الجرايات على الجند والضعفى، فلما قلت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد، فأخذ من رجلين من الأغنياء مالاً مع غيرهما، فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا: إن صاحبنا صادرنا، فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكرا لهم أنه تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جميعاً على ذلك الجانب يحفظه من دخول شيء إلى البلد، فأرسل ابن عمار وبذل للفرنج مالاً كثيراً ليسلموا الرجلين إليه، فلم يفعلوا، فوضع عليهما من قتلهما غيلة.
وكانت طرابلس من أعظم بلاد الإسلام وأكثرها تجملاً وثروة، فباع أهلها من الحلى، والأواني الغريبة، ما لا حد عليه، حتى بيع كل مائة درهم نقرة بدينار. وشتان بين هذه الحالة وبين حال الروم أيام السلطان ألب أرسلان، وقد ذكرت ظفره بهم سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وقد كان بعض أصحابه، وهو كمشتكين دواتي، عميد الملك، هرب منه خوفاً لما قبض على صاحبه عميد الملك، وسار إلى الرقة فملكها، وصار مع كثير من التركمان، فيهم: الأفشين وأحمد شاه، فقتلاه، وأرسلا أمواله إلى ألب أرسلان، ودخل الأفشين بلاد الروم، وقاتل الفردوس، صاحب أنطاكية، فهزمه، وقتل من الروم خلقاً كثيراً.
وسار ملك الروم من القسطنطينية إلى ملطية، فدخل الأفشين بلاده، ووصل إلى عمورية، وقتل في غزاته مائة ألف آدمي، ولما عاد إلى بلاد الإسلام وتفرق من معه خرج عليه عسكر الرها، وهي حينئذ للروم، ومعهم بنو نمير من العرب، فقاتلهم، ومعه مائتا فارس، فهزمهم ونهبهم، ونهب بلاد الروم، فأرسل ملك الروم رسولاً إلى القائم بأمر الله يسأله الصلح، فأرسل إلى ألب أرسلان في ذلك، فصالح الروم على مائة ألف دينار، وأربعة آلاف ثوب أصنافاً، وثلاثمائة رأس بغالاً. فشتان بين الحالتين.
وأقول شتان بين حال أولئك المرذولين الذين استعجزهم، وبين حال الناس في زماننا هذا، وهو سنة ست عشرة وستمائة مع الفرنج أيضاً والتتر، وسترى ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى، لتعلم الفرق، نسأل الله تعالى أن ييسر للإسلام وأهله قائماً يقوم بنصرهم، وأن يدفع عنهم بمن أحب من خلقه، وما ذلك على الله بعزيز.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ورد إلى بغداد إنسان من الملثمين، ملوك الغرب، قاصداً إلى دار الخلافة، فأكرم، وكان معه إنسان يقال له الفقيه، من الملثمين أيضاً، فوعظ الفقيه في جامع القصر، واجتمع له العالم العظيم، وكان يعظ وهو متلثم لا يظهر منه غير عينيه، وكان هذا الملثم قد حضر ابن الأفضل، أمير الجيوش بمصر، وقعته مع الفرنج، وأبلى بلاءً حسناً.
وكان سبب مجيئه إلى بغداد: أن المغاربة كانوا يعتقدون في العلويين، أصحاب مصر، الاعتقاد القبيح، فكانوا، إذا أرادوا الحج، يعدلون عن مصر، وكان أمير الجيوش بدر والد الأفضل أراد إصلاحهم، فلم يميلوا إليه، ولا قاربوه، فأمر بقتل من ظفر به منهم، فلما ولي ابنه الأفضل أحسن إليهم، واستعان بمن قاربه منهم على حرب الفرنج، وكان هذا من جملة من قاتل معه، فلما خالط المصريين خاف العود إلى بلاده، فقدم بغداد، ثم عاد إلى دمشق، ولم يكن للمصريين حرب مع الفرنج إلا وشهدها، فقتل في بعضها شهيداً، وكان شجاعاً فتاكاً مقداماً.
وفيها، في ربيع الآخر، ظهر كوكب في السماء له ذؤابة، كقوس قزح، آخذة من المغرب إلى وسط السماء، وكان يرى قريباً من الشمس قبل ظهوره ليلاً، وبقي يظهر عدة ليال، ثم غاب.
وفيها وصل الملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب بلاد الروم، إلى الرها ليحصرها، وبها الفرنج، فراسله أصحاب جكرمش المقيمون بحران ليسلموها إليه، فسار إليهم وتسلم البلد، وفرح به الناس لأجل جهاد الفرنج، فأقام بحران أياماً، ومرض مرضاً شديداً، أوجب عوده إلى ملطية، فعاد مريضاً، وبقي أصحابه بحران.
وفي هذه السنة توفي الشيخ أبو منصور الخياط المقري، إمام مسجد ابن جردة، وكان خيراً صالحاً.
وفيها قتل القاضي أبو العلاء صاعد بن أبي محمد النيسابوري الحنفي بجامع أصبهان، قتله باطني.
وفيها توفي أبو الفوارس الحسين بن علي بن الحسين بن الخازن، صاحب الخط الجيد، وعمره سبعون سنة، قيل إنه كتب خمسمائة ختمة.

وفيها، في المحرم، توفي القاضي أبو الفرج محمد بن عبيد الله بن الحسن، قاضي البصرة، وله ثلاث وثمانون سنة، وكان من الفقهاء الشافعية المشهورين، تفقه على الماوردي، وأبي إسحاق، وأخذ النحو عن الرقي، والدهان، وابن برهان، وكان عفيفاً، مقدماً عند الخلفاء والسلاطين.
وفيها، في المحرم، توفي سهل بن أحمد بن علي الأرغياني، أبو الفتح الحاكم، تفقه على الجويني، وبرز، ثم ترك المناظرة، وبنى رباطاً، واشتغل بالعبادة وقراءة القرآن.
وفيها، في صفر، توفي الأمير مهارش بن مجلي وله نحو ثمانين سنة، وهو الذي كان الخليفة القائم عنده بالحديثة، وكان كثير الصلاة والصوم، يحب الخير وأهله، ولما توفي ملك الحديثة بعده ابنه سليمان.
ثم دخلت سنة خمسمائة

ذكر وفاة يوسف بن تاشفين
وملك ابنه علي
في هذه السنة توفي أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، ملك الغرب والأندلس، وكان حسن السيرة، خيراً، عادلاً، يميل إلى أهل الدين والعلم، ويكرمهم، ويصدر عن رأيهم، ولما ملك الأندلس، على ما ذكرناه، جمع الفقهاء وأحسن إليهم، فقالوا له: ينبغي أن تكون ولايتك من الخليفة لتجب طاعتك على الكافة، فأرسل إلى الخليفة المستظهر بالله، أمير المؤمنين، رسولاً ومعه هدية كثيرة، وكتب معه كتاباً يذكر ما فتح الله من بلاد الفرنج، وما اعتمده من نصرة الإسلام، ويطلب تقليداً بولاية البلاد، فكتب له تقليد من ديوان الخلافة بما أراد، ولقب أمير المسلمين، وسيرت إليه الخلع، فسر بذلك سروراً كثيراً، وهو الذي بنى مدينة مراكش للمرابطين، وبقي على ملكه إلى سنة خمسمائة، فتوفي وملك بعده البلاد ولده علي بن يوسف، وتلقب أيضاً أمير المسلمين، فازداد في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدهم خشع عند استماع الموعظة، ولان قلبه لها، وظهر ذلك عليه.
وكان يوسف بن تاشفين حليماً، كريماً، ديناً، خيراً، يحب أهل العلم والدين، ويحكمهم في بلاده، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام، فمن ذلك أن ثلاثة نفر اجتمعوا، فتمنى أحدهم ألف دينار يتجر بها، وتمنى الآخر عملاً يعمل فيه لأمير المسلمين، وتمنى الآخر زوجته النفزاوية، وكانت من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاده، فبلغه الخبر، فأحضرهم، وأعطى متمني المال ألف دينار، واستعمل الآخر، وقال للذي تمنى زوجته: يا جاهل! ما حملك على هذا الذي لا تصل إليه؟ ثم أرسله إليها، فتركته في خيمة ثلاثة أيام تحمل إليه كل يوم طعاماً واحداً، ثم أحضرته وقالت له: ما أكلت هذه الأيام؟ قال: طعاماً واحداً، فقالت: كل النساء شيء واحد. فأمرت له بمال وكسوة وأطلقته.
ذكر قتل فخر الملك بن نظام الملكفي هذه السنة قتل فخر الملك أبو المظفر علي بن نظام الملك، يوم عاشوراء، وكان أكبر أولاده، وقد ذكرنا سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وزارته للسلطان بركيارق، فلما فارق وزارته قصد نيسابور، وأقام عند الملك سنجر بن ملكشاه، ووزر له، وأصبح يوم عاشوراء صائماً، وقال لأصحابه: رأيت الليلة في المنام الحسين بن علي، عليه السلام ، وهو يقول: عجل إلينا، وليكن إفطارك عندنا، وقد اشتغل فكري به، ولا محيد عن قضاء الله وقدره! وقالوا: يحميك الله، والصواب أن لا تخرج اليوم والليلة من دارك، فأقام يومه يصلي، ويقرأ القرآن، وتصدق بشيء كثير.
فلما كان وقت العصر خرج من الدار التي كان بها يريد دار النساء، فسمع صياح متظلم، شديد الحرقة، وهو يقول: ذهب المسلمون، فلم يبق من يكشف مظلمة، ولا يأخذ بيد ملهوف! فأحضره عنده، رحمة له، فحضر فقال: ما حالك؟ فدفع إليه رقعة، فبينما فخر الملك يتأملها إذ ضربه بسكين فقضى عليه، فمات، فحمل الباطني إلى سنجر، فقرره، فأقر على جماعة من أصحاب السلطان كذباً، وقال: إنهم وضعوني على قتله، وأراد أن يقتل بيده وسعايته، فقتل من ذكر، وكان مكذوباً عليهم، ثم قتل الباطني بعدهم، وكان عمر فخر الملك ستاً وستين سنة.
ذكر ملك صدقة بن مزيد تكريت

في هذه السنة، في صفر، تسلم الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد قلعة تكريت، وقد ذكرنا فيما تقدم أنها كانت لبني مقن العقيليين، وكانت إلى آخر سنة سبع وعشرين وأربعمائة بيد رافع بن الحسين بن مقن، فمات، ووليها ابن أخيه أبو منعة خميس بن تغلب بن حماد، ووجد بها خمسمائة ألف دينار سوى المصاغ، وتوفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، ووليها ولده أبو غشام.
فلما كان سنة أربع وأربعين وثب عليه عيسى فحبسه، وملك القلعة والأموال، فلما اجتاز به طغرلبك سنة ثمان وأربعين صالحه على بعض المال فرحل عنه.
وخافت زوجته أميرة، بعد موته، أن يعود غشام فيملك القلعة، فقتلته، وكان قد بقي في الحبس أربع سنين، واستنابت في القلعة أبا الغنائم بن المحلبان، فسلمها إلى أصحاب السلطان طغرلبك، فسارت إلى الموصل، فقتلها ابن أبي غشام بأبيه، وأخذ شرف الدولة مسلم بن قريش مالها، ورد طغرلبك أمر القلعة إلى إنسان يعرف بأبي العباس الرازي، فمات بها بعد ستة أشهر، فملكها المهرباط، وهو أبو جعفر محمد بن أحمد نب خشنام من بلد الثغر، فأقام بها إحدى وعشرين سنة ومات، ووليها ابنه سنتين، وأخذتها منه تركان خاتون، ووليها لها كوهرائين.
ثم ملكها بعد وفاة ملكشاه قسيم الدولة آقسنقر، صاحب حلب، فلما قتل صارت للأمير كمشتكين الجاندار، فجعل فيها رجلاً يعرف بأبي المصارع، ثم عادت إلى كوهرائين إقطاعاً، ثم أخذها منه مجد الملك البلاساني، فولى عليها كيقباذ بن هزارسب الديلمي، فأقام بها اثنتي عشرة سنة، فظلم أهلها، وأساء السيرة، فلما اجتاز به سقمان بن أرتق سنة ست وتسعين ونهبها، كان كيقباذ ينهبها ليلاً، وسقمان ينهبها نهاراً.
فلما استقر السلطان محمد بعد موت أخيه بركيارق أقطعها للأمير آقسنقر البرسقي، شحنة بغداد، فسار إليها وحصرها مدة تزيد على سبعة أشهر، حتى ضاق على كيقباذ الأمر، فراسل صدقة بن مزيد ليسلمها إليه، فسار إليها في صفر هذه السنة وتسلمها منه، وانحدر البرسقي ولم يملكها.
ومات كيقباذ بعد نزوله من القلعة بثمانية أيام، وكان عمره ستين سنة، واستناب صدقة بها ورام بن أبي فراس بن ورام، وكان كيقباذ ينسب إلى الباطنية، وكان موته من سعادة صدقة فإنه لو أقام عنده لعرض صدقة لظنون الناس في اعتقاده ومذهبه.
ذكر الحرب بين عبادة وخفاجةفي هذه السنة، في ربيع الأول، كانت حرب بين عبادة وخفاجة، فظفرت عبادة، وأخذت بثأرها من خفاجة.
وكان سبب ذلك أن سيف الدولة صدقة أرسل ولده بدران في جيش إلى طرف بلاده مما يلي البطيحة ليحميها من خفاجة لأنهم يؤذون أهل تلك النواحي، فقربوا منه، وتهددوا أهل البلاد، فكتب إلى أبيه يشكو منهم، ويعرفه حالهم، فأحضر عبادة، وكانت خفاجة قد فعلت بهم العام الماضي ما ذكرناه، فلما حضروا عنده قال لهم ليتجهزوا مع عسكره ليأخذوا بثأرهم من خفاجة، فساروا في مقدم عسكره، فأدركوا حلة من خفاجة من بني كليب ليلاً، وهم غارون، لم يشعروا بهم، فقالوا: من أنتم؟ فقالت عبادة: نحن أصحاب لديون، فعلموا أنهم عبادة، فقاتلوهم، وصبرت خفاجة، فبينما هم في القتال إذ سمع طبل الجيش، فانهزموا، وقتلت منهم عبادة جماعة، وكان فيهم عشرة من وجوههم، وتركوا حرمهم، فأمر صدقة بحراستهن وحمايتهن، وأمر العسكر أن يؤثروا عبادة بما غنموه من أموال خفاجة، خلفاً لهم عما أخذ منهم في العام الماضي.
وأصاب خفاجة من مفارقة بلادها، ونهب أموالها، وقتل رجالها، أمر عظيم، وانتزحت إلى نواحب البصرة، وأقامت عبادة في بلاد خفاجة.
ولما انهزمت خفاجة وتفرقت ونهبت أموالها، جاءت امرأة منهم إلى الأمير صدقة، فقالت له: إنك سبيتنا، وسلبتنا قوتنا، وغربتنا، وأضعت حرمتنا، قابلك الله في نفسك، وجعل صورة أهلك كصورتنا، فكظم الغيظ واحتمل لها ذلك، وأعطاها أربعين جملاً، ولم يمض غير قليل حتى قابل الله صدقة في نفسه وأولاده، فإن دعاء الملهوف عند الله بمكان.
ذكر مسير جاولي سقاوو إلى الموصل

وأسر صاحبها جكرمش
في هذه السنة، في المحرم، أقطع السلطان محمد جاولي سقاوو الموصل، والأعمال التي بيد جكرمش، وكان جاولي قبل هذا قد استولى على البلاد التي بين خوزستان وفارس، وأقام بها سنين، وعمر قلاعها وحصنها، وأساء السيرة في أهلها، وقطع أيديهم وجدع أنوفهم وسمل أعينهم.

فلما تمكن السلطان محمد من السلطنة خافه جاولي، وأرسل السلطان إليه الأمير مودود بن التونتكين، فتحصن منه جاولي، وحصره مودود ثمانية أشهر، فأرسل جاولي إلى السلطان: إنني لا أنزل إلى مودود، فإن أرسلت غيره نزلت. فأرسل إليه خاتمه مع أمير آخر، فنزل جاولي، وحضر الخدمة بأصبهان، فرأى من السلطان ما يحب، وأمره السلطان بالمسير إلى الفرنج ليأخذ البلاد منهم، وأقطعه الموصل وديار بكر والجزيرة كلها.
وكان جكرمش لما عاد من عند السلطان إلى بلاده، كما ذكرناه، وعد من نفسه الخدمة، وحمل المال، فلما استقر ببلاده لم يف بما قال، وتثاقل في الخدمة وحمل المال، فأقطع بلاده لجاولي، فجاء إلى بغداد، وأقام بها إلى أول ربيع الأول، وسار إلى الموصل، وجعل طريقه على البوازيج، فملكها ونهبها أربعة أيام، بعد أن أمن أهلها، وحلف لهم أنه يحميهم، فلما ملكها سار إلى إربل.
وأما جكرمش فإنه لما بلغه مسيره إلى بلاده كتب في جمع العساكر، فأتاه كتاب أبي الهيجاء موسك الكردي الهذباني، صاحب إربل، يذكر استيلاء جاولي على البوازيج، ويقول له: إن لم تعجل المجيء لنجتمع عليه ونمنعه، وإلا اضطررت إلى موافقته والمصير معه. فبادر جكرمش وعبر إلى شرقي دجلة، وسار في عسكر الموصل قبل اجتماع عساكره، وأرسل إليه أبو الهيجاء عسكره مع أولاده، فاجتمعوا بقرية باكلبا من أعمال إربل.
ووافاهم جاولي وهو في ألف فارس، وكان جكرمش في ألفي فارس، ولا يشك أنه يأخذ جاولي باليد، فلما اصطفوا للحرب حمل جاولي من القلب على قلب جكرمش فانهزم من فيه، وبقي جكرمش وحده لا يقدر على الهزيمة لفالج كان به، فهو لا يقدر أن يركب، وإنما يحمل في محفة، فلما انهزم أصحابه قاتل عنه ركابي أسود قتالاً عظيماً، فقتل، وقاتل معه واحد من أولاد الملك قاورت بك بن داود، اسمه أحمد، فقاتل بين يديه، فطعن فجرح وانهزم، فمات بالموصل، ولم يقدر أصحاب جاولي على الوصول إلى جكرمش، حتى قتل الركابي الأسود فحينئذ أخذوه أسيراً وأحضروه عند جاولي، فأمر بحفظه وحراسته.
وكانت عساكر جكرمش التي استدعاها قد وصلت إلى الموصل بعد مسيره بيومين، فساروا جرائد ليدركوا الحرب، فلقيهم المنهزمون ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ذكر حصر جاولي سقاوو الموصل

وموت جكرمش
لما انهزم العسكر، وأسر جكرمش، وصل الخبر إلى الموصل، فأقعدوا في الأمر زنكي بن جكرمش، وهو صبي عمره إحدى عشرة سنة، وخطبوا له، وأحضروا أعيان البلد، والتمسوا منهم المساعدة، فأجابوا إلى ذلك.
وكان مستحفظ القلعة مملوكاً لجكرمش اسمه غزغلي، فقام في ذلك المقام المرضي، وفرق الأموال التي جمعها جكرمش، والخيول، وغير ذلك على الجند، وكاتب سيف الدولة صدقة، وقلج أرسلان، والبرسقي، شحنة بغداد، بالمبادرة إليهم، ومنع جاولي عنهم، ووعدوا كلاً منهم أن يسلموا البلد إليه. فأما صدقة فلم يجبهم إلى ذلك، ورأى طاعة السلطان، وأما البرسقي وقلج أرسلان فنذكر حالهما.
ثم إن جاولي حصر الموصل، ومعه كرماوي بن خراسان التركماني، وغيره من الأمراء، وكثر جمعه، وأمر أن يحمل جكرمش كل يوم على بغل وينادى أصحابه بالموصل ليسلموا البلد ويخلصوا صاحبهم مما هو فيه، ويأمرهم هو بذلك، فلا يسمعون منه، وكان يسجنه في جب، ويوكل به من يحفظه لئلا يسرق، فأخرج في بعض الأيام ميتاً، وعمره نحو ستين سنة، وكان شأنه قد علا، ومنزلته قد عظمت، وكان قد شيد سور الموصل وقواه، وبنى عليه فصيلاً، وحفر خندقها، وحصنها غاية ما يقدر عليه.
وكان مع جكرمش رجل من أعيان الموصل يقال له أبو طالب بن كسيرات، وبنو كسيرات إلى الآن بالموصل من أعيان أهلها، وكان أبو طالب قد تقدم عند جكرمش، وارتفعت منزلته، واستولى على أموره، وحضر معه الحرب، فلما أسر جكرمش هرب أبو طالب إلى إربل، وكان أولاد أبي الهيجاء، صاحب إربل، قد حضروا الحرب مع جكرمش، وأسرهم جاولي، فأرسل إلى أبي الهيجاء يطلب ابن كسيرات، فأطلقه وسيره إليه، فأطلق جاولي ابن أبي الهيجاء، فلما حضر ابن كسيرات عند جاولي ضمن له فتح الموصل وبلاد جكرمش، وتحصيل الأموال، فاعتقله اعتقالاً جميلاً.

وكان قاضي الموصل أبو القاسم بن ودعان عدواً لأبي طالب، فأرسل إلى جاولي يقول له: إن قتلت أبا طالب سلمت الموصل إليك. فقتله وأرسل رأسه إليه، فأظهر الشماتة به، وأخذ كثيراً من أمواله وودائعه، فثار به الأتراك غضباً لأبي طالب ولتفرده بما أخذ من أمواله، فقتلوه، وكان بينهما شهر واحد، وقد رأينا كثيراً، وسمعنا ما لا نحصيه من قرب وفاة أحد المتعاديين بعد صاحبه.
ذكر الحرب بين ملك القسطنطينية والفرنجفي هذه السنة كانت وحشة مستحكمة بين ملك الروم، صاحب القسطنطينية، وبين بيمند الفرنجي، فسار بييمند إلى بلد ملك الروم ونهبه، وعزم على قصده، فأرسل ملك الروم إلى الملك قلج أرسلان بن سليمان، صاحب قونية وأقصرا وغيرهما من تلك البلاد، يستنجده، فأمده بجمع من عسكره، فقوي بهم، وتوجه إلى بيمند، فالتقوا وتصافوا واقتتلوا، وصبر الفرنج بشجاعتهم، وصبر الروم ومن معهم لكثرتهم، ودامت الحرب، ثم أجلت الوقعة عن هزيمة الفرنج، وأتى القتل على أكثرهم، وأسر كثير منهم، والذين سلموا عادوا إلى بلادهم بالشام، وعاد عسكر قلج أرسلان إلى بلادهم عازمين على المسير إلى صاحبهم بديار الجزيرة، فأتاهم خبر قتله، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فتركوا الحركة وأقاموا.
ذكر ملك قلج أرسلان الموصلقد ذكرنا أن أصحاب جكرمش كتبوا إلى الأمير صدقة، وقسيم الدولة البرسقي، والملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش السلجوقي، صاحب بلاد الروم يستدعون كلاً منهم إليهم ليسلموا البلد إليه. فأما صدقة فامتنع، ورأى طاعة السلطان، وأما قلج أرسلان فإنه سار في عساكره فلما سمع جاولي سقاوو بوصوله إلى نصيبين رحل عن الموصل، وأما البرسقي فإنه كان شحنة بغداد، فسار منها إلى الموصل، فوصلها بعد رحيل جاولي عنها، فنزل بالجانب الشرقي فلم يلتفت أحد إليه، ولا أرسلوا إليه كلمة واحدة، فعاد في باقي يومه.
ثم إن قلج أرسلان لما وصل إلى نصيبين أقام بها حتى كثر جمعه، فلما سمع جاولي بقربه رحل من الموصل إلى سنجار، وأودع رحله بها، واتصل به الأمير إيلغازي بن أرتق وجماعة من عسكر جكرمش، فصار معه أربعة آلاف فارس. فأتاه كتاب الملك رضوان يستدعيه إلى الشام، ويقول له: إن الفرنج قد عجز من بالشام عن منعهم، فسار إلى الرحبة.
وأرسل أهل الموصل وعسكر جكرمش إلى قلج أرسلان، وهو بنصيبين، فاستحلفوه لهم، فحلف، واستحلفهم على الطاعة له والمناصحة، وسار معهم إلى الموصل، فملكها في الخامس والعشرين من رجب، ونزل بالمعرقة، وخرج إليه ولد جكرمش وأصحابه، فخلع عليهم، وجلس على التخت، وأسقط السلطان محمداً، وخطب لنفسه بعد الخليفة، وأحسن إلى العسكر، وأخذ القلعة من غزغلي، مملوك جكرمش، وجعل له فيها دزداراً، ورفع الرسوم المحدثة في الظلم، وعدل في الناس وتألفهم، وقال: من سعى إلي بأحد قتلته، فلم يسع أحد بأحد، وأقر القاضي أبا محمد عبد الله نب القاسم بن الشهرزوري على القضاء بالموصل، وجعل الرئاسة لأبي البركات محمد بن محمد بن خميس، وهو والد شيخنا أبي الربيع سليمان.
وكان في جملة قلج أرسلان الأمير إبراهيم بن ينال التركماني، صاحب آمد، ومحمد بن جبق التركماني، صاحب حصن زياد، وهو خرتبرت.
فأما إبراهيم بن ينال فكان سبب ملكه لمدينة آمد أن تاج الدولة تتش، حين ملك ديار بكر، سلمها إليه، فبقيت بيده، وأما محمد بن جبق فكان سبب ملكه لحصن زياد أن هذا الحصن كان بيد الفلادروس الرومي، ترجمان ملك الروم، وكانت الرها وأنطاكية من أعماله، فلما ملك سليمان بن قتلمش، والد قلج أرسلان هذا، أنطاكية، وملك فخر الدولة بن جهير ديار بكر، ضعف الفلادروس عن إقامة ما يحتاج إليه حصن زياد من الميرة والإقامة، فأخذه جبق، وأسلم الفلادروس على يد السلطان ملكشاه، وأمره على الرها، فلم يزل عليها حتى مات وأخذها الأمير بزان بعده.

وكان بالقرب من حصن زياد حصن آخر بيد إنسان من الروم اسمه افرنجي، وكان يقطع الطريق، ويكثر قتل المسلمين، فأرسل إليه جبق هدية، وخطب إليه مودته، وأن يعين كل واحد منهما صاحبه، فأجابه إلى ذلك، فكان جبق يعين افرنجي على قطع الطريق وغيره، وكذلك افرنجي يعين جبق، فلما وثق كل واحد بصاحبه أرسل إليه جبق: إني أريد قصد بعض الأماكن، وطلب أن يرسل إليه أصحابه، فأرسلهم إليه، فلما ساروا معه في الطريق تقدم بكتفهم، وحملهم إلى قلعة افرنجي، وقال لأهليهم: والله لئن لم تسلموا إلي افرنجي لأضربن أعناقهم، ولآخذن الحصن عنوة، ولأقتلنكم على دم واحد. ففتحوا له الحصن، وسلموا إليه افرنجي، فسلخه، وأخذ أمواله وسلاحه، وكان عظيماً، ومات جبق، فولي بعده ابنه محمد.
ذكر قتل قلج أرسلان

وملك جاولي الموصل
قد ذكرنا أن قلج أرسلان لما وصل إلى نصيبين سار جاولي عن الموصل إلى سنجار، ثم إلى الرحبة، فوصلها في رجب، وحصرها إلى الرابع والعشرين من شهر رمضان، وكان صاحبها حينئذ يعرف بمحمد بن السباق، وهو من بني شيبان، رتبه بها الملك دقاق لما فتحها، وأخذ ولده رهينة، وحمله معه إلى دمشق، فلما توفي أرسل هذا الشيباني قوماً سرقوا ولده وحملوه إليه، فلما وصل إليه خلع الطاعة للدمشقيين، وخطب في بعض الأوقات لقلج أرسلان. فلما وصل إليها جاولي وحصرها، أرسل إلى الملك رضوان يعرفه أنه على الاجتماع به ومساعدته على من يحاربه، ويشرط عليه أنه إذا تسلم البلاد سار معه ليكشف الفرنج عن بلاده، فلما استقرت القاعدة بينهما حضر عنده رضوان، فاشتد الحصار على أهل البلد، وضاقت عليهم الأمور.
واتفق جماعة كانوا بأحد الأبراج، وأرسلوا إلى جاولي، واستحلفوه على حفظهم وحراستهم، وأمروه أن يقصد البرج الذي هم فيه عند انتصاف الليل، ففعل ذلك، فرفع من في البرج أصحابه إليهم في الجبال، فضربوا بوقاتهم وطبولهم، فخذل من في البلد، ودخله أصحاب جاولي في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان، ونهبوه إلى الظهر، ثم أمر برفع النهب، ونزل إليه محمد الشيباني صاحب البلد، وأطاعه، وصار معه.
ثم إن قلج أرسلان لما فرغ من أمر الموصل سار عنها إلى جاولي سقاوو ليحاربه، وجعل ابنه ملكشاه في دار الإمارة، وعمره إحدى عشرة سنة، ومعه أمير يدبره، وجماعة من العسكر، وكانت عدة عسكره أربعة آلاف فارس بالعدة الكاملة والخيل الجيدة.
وسمع العسكر بقوة جاولي، فاختلفوا، وكان أول من خالف عليه إبراهيم بن ينال، صاحب آمد، فإنه فارق خيامه وأثقاله وعاد من الخابور إلى بلده، وكذلك غيره، وعمل قلج أرسلان على المطاولة لما بلغه من قوة جاولي وكثرة جموعه، وأرسل إلى بلاده يطلب عساكره لأنها كانت عند ملك الروم نجدة له على قتال الفرنج، كما ذكرناه، فلما وصل إلى الخابور بلغت عدته خمسة آلاف.
وكان مع جاولي أربعة آلاف، من جملتهم الملك رضوان، وجماعة من عسكره، إلا أن شجعانه أكثر، واغتنم جاولي قلة عسكر قلج أرسلان، فقاتله قبل وصول عساكره إليه، فالتقوا في العشرين من ذي القعدة، فحمل قلج أرسلان على القوم بنفسه، حتى خالطهم، فضرب يد صاحب العلم فأبانها، ووصل إلى جاولي بنفسه، فضربه بالسيف، فقطع الكزاغند ولم يصل إلى بدنه، وحمل أصحاب جاولي على أصحابه فهزموهم، واستباحوا ثقلهم وسوادهم، فلما رأى قلج أرسلان انهزام عسكره علم أنه إن أسر فعل به فعل من يترك للصلح موضعاً، لا سيما وقد نازع السلطان في بلاده، واسم السلطنة، فألقى نفسه في الخابور، وحمى نفسه من أصحاب جاولي بالنشاب، فانحدر به الفرس إلى ماء عميق فغرق، وظهر بعد أيام فدفن بالشمسانية وهي من قرى الخابور.
وسار جاولي إلى الموصل، ولما وصل إليها فتح أهلها له بابها، ولم يتمكن من بها من أصحاب قلج أرسلان من منعهم، ونزل بظاهر البلد، وأخذ كل واحد من أصحاب جكرمش الذين حضروا الوقعة مع قلج أرسلان إلى جهة. فلما ملك جاولي الموصل أعاد خطبة السلطان محمد، وصادر جماعة من بها من أصحاب جكرمش، وسار إلى جزيرة ابن عمر، وبها حبشي بن جكرمش، ومعه أمير من غلمان أبيه اسمه غزغلي، فحصره مدة، ثم إنهم صالحوه، وحملوا إليه ستة آلاف دينار، وغيرها من الدواب والثياب، ورحل عنهم إلى الموصل، وأرسل ملكشاه بن قلج أرسلان إلى السلطان محمد.
ذكر أحوال الباطنية بأصبهان وقتل ابن عطاش

في هذه السنة ملك السلطان محمد القلعة التي كان الباطنية ملكوها بالقرب من أصبهان، واسمها شاه دز، وقتل صاحبها أحمد بن عبد الملك بن عطاش، وولده، وكانت هذه القلعة قد بناها ملكشاه، واستولى عليها بعده أحمد بن عبد الملك بن عطاش.
وسبب ذلك أنه اتصل بدزدار كان لها، فلما مات استولى أحمد عليها، وكان الباطنية بأصبهان قد ألبسوه تاجاً، وجمعوا له أموالاً، وإنما فعلوا ذلك به لتقدم أبيه عبد الملك في مذهبهم، فإنه كان أديباً بليغاً، حسن الخط، سريع البديهة، عفيفاً، وابتلي بحب هذا المذهب، وكان ابنه أحمد هذا جاهلاً لا يعرف شيئاً، وقيل لابن الصباح، صاحب قلعة ألموت: لماذا تعظم ابن عطاش مع جهله؟ قال: لمكان أبيه، لأنه أستاذي.
وصار لابن عطاش عدد كثير، وبأس شديد، واستفحل أمره بالقلعة، فكان يرسل أصحابه لقطع الطريق، وأخذ الأموال، وقتل من قدروا على قتله، فقتلوا خلقاً كثيراً لا يمكن إحصاؤهم، وجعلوا له على القرى السلطانية وأملاك الناس ضرائب يأخذونها ليكفوا عنها الأذى، فتعذر بذلك انتفاع السلطان بقراه، والناس بأملاكهم، وتمشى لهم الأمر بالخلف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد.
فلما صفت السلطنة لمحمد، ولم يبق له منازع، لم يكن عنده أمر أهم من قصد الباطنية وحربهم، والانتصاف للمسلمين من جورهم وعسفهم، فرأى البداية بقلعة أصبهان التي بأيديهم، لأن الأذى بها أكثر، وهي متسلطة على سرير ملكه، فخرج بنفسه فحاصرهم في سادس شعبان.
وكان قد عزم على الخروج أول رجب، فساء ذلك من يتعصب لهم من العسكر، فأرجفوا أن قلج أرسلان بن سليمان قد ورد بغداد وملكها، وافتعلوا في ذلك مكاتبات، ثم أظهروا أن خللاً قد تجدد بخراسان، فتوقف السلطان لتحقيق الأمر، فلما ظهر بطلانه عزم عزيمة مثله، وقصد حربهم، وصعد جبلاً يقابل القلعة من غربيها، ونصب له التخت في أعلاه، واجتمع له من أصبهان وسوادها لحربهم الأمم العظيمة للذحول التي يطالبونهم بها، وأحاطوا بجبل القلعة ودوره أربعة فراسخ، ورتب الأمراء لقتالهم، فكان يقاتلهم كل يوم أمير، فضاق الأمر بهم، واشتد الحصار عليهم، وتعذرت عندهم الأقوات.
فلما اشتد الأمر عليهم كتبوا فتوى فيها ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين في قوم يؤمنون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وإن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، حق وصدق، وإنما يخالفون في الإمام: هل يجوز للسلطان مهادنتهم وموادعتهم، وأن يقبل طاعتهم، ويحرسهم من كل أذى؟ فأجاب أكثر الفقهاء بجواز ذلك، وتوقف بعضهم، فجمعوا للمناظرة، ومعهم أبو الحسن علي بن عبد الرحمن السمنجاني، وهو من شيوخ الشافعية، فقال، بمحضر من الناس، يجب قتالهم، ولا يجوز إقرارهم بمكانهم، ولا ينفعهم التلفظ بالشهادتين، فإنهم يقال لهم: أخبرونا عن إمامكم، إذا أباح لكم ما حظره الشرع، أو حظر عليكم ما أباحه الشرع أتقبلون أمره؟ فإنهم يقولون نعم، وحينئذ تباح دماؤهم بالإجماع. وطالت المناظرة في ذلك.
ثم إن الباطنية سألوا السلطان أن يرسل إليهم من يناظرهم، وعينوا على أشخاص من العلماء منهم القاضي أبو العلاء صاعد بن يحيى، شيخ الحنفية بأصبهان، وقاضيها، وغيره، فصعدوا إليهم وناظروهم، وعادوا كما صعدوا، وإنما كان قصدهم التعلل والمطاولة، فلج حينئذ السلطان في حصرهم، فلما رأوا عين المحاقة أذعنوا إلى تسليم القلعة على أن يعطوا عوضاً عنها قلعة خالنجان، وهي على سبعة فراسخ من أصبهان، وقالوا: إنا نخاف على دمائنا وأموالنا من العامة، فلا بد من مكان نحتمي به منهم، فأشير على السلطان بإجابتهم إلى ما طلبوا، فسألوا أن يؤخرهم إلى النوروز ليرحلوا إلى خالنجان ويسلموا قلعتهم، وشرطوا أن لا يسمع قول متنصح فيهم، وإن قال أحد عنهم شيئاً سلمه إليهم، وأن ما أتاه منهم رده إليهم، فأجابهم إليه، وطلبوا أن يحمل إليهم من الإقامة ما يكفيهم يوماً بيوم، فأجيبوا إليه في كل هذا، وقصدهم المطاولة انتظاراً لفتق أو حادث يتجدد.

ورتب لهم وزير السلطان سعد الملك ما يحمل إليهم كل يوم من الطعام والفاكهة، وجميع ما يحتاجون إليه، فجعلوا هم يرسلون، ويبتاعون من الأطعمة ما يجمعونه ليمتنعوا في قلعتهم، ثم إنهم وضعوا من أصحابهم من يقتل أميراً كان يبالغ في قتالهم، فوثبوا عليه وجرحوه، وسلم منهم، فحينئذ أمر السلطان بإخراب قلعة خالنجان، وجدد الحصار عليهم، فطلبوا أن ينزل بعضهم، ويرسل السلطان معهم من يحميهم إلى أن يصلوا إلى قلعة الناظر بأرجان، وهي لهم، وينزل بعضهم، ويرسل معهم من يوصلهم إلى طبس، وأن يقيم البقية منهم في ضرس من القلعة، إلى أن يصل إليهم من يخبرهم بوصول أصحابهم، فينزلون حينئذ، ويرسل معهم من يوصلهم إلى ابن الصباح بقلعة ألموت، فأجيبوا إلى ذلك، فنزل منهم إلى الناظر، وإلى طبس، وساروا، وتسلم السلطان القلعة وخربها.
ثم إن الذين ساروا إلى قلعة الناظر وطبس منهم من أخبر ابن عطاش بوصولهم، فلم يسلم السن الذي بقي بيده، ورأى السلطان منه الغدر، والعود عن الذي قرره، فأمر بالزحف إليه، فزحف الناس عامة ثاني ذي القعدة، وكان قد قل عنده من يمنع ويقاتل، فظهر منهم صبر عظيم، وشجاعة زائدة، وكان قد استأمن إلى السلطان إنسان من أعيانهم، فقال لهم: إني أدلكم على عورة لهم، فأتى بهم إلى جانب لذلك السن لهم لا يرام، فقال لهم: اصعدوا من هاهنا، فقيل إنهم قد ضبطوا هذا المكان وشحنوه بالرجال، فقال: إن الذي ترون أسلحة وكزاغندات قد جعلوها كهيئة الرجال لقلتهم عندهم.
وكان جميع من بقي ثمانين رجلاً، فزحف الناس من هناك، فصعدوا منه، وملكوا الموضع، وقتل أكثر الباطنية، واختلط جماعة منهم مع من دخل، فخرجوا معهم، وأما ابن عطاش فإنه أخذ أسيراً، فترك أسبوعاً، ثم إنه أمر به فشهر في جميع البلد، وسلخ جلده، فتجلد حتى مات، وحشي جدله تبناً، وقتل ولده، وحمل رأساهما إلى بغداد، وألقت زوجته نفسها من رأس القلعة فهلكت، وكان معها جواهر نفيسة لم يوجد مثلها، فهلكت أيضاً وضاعت، وكانت مدة البلوى بابن عطاش اثنتي عشرة سنة.
ذكر الخلف بين سيف الدولة صدقة ومهذب الدولة صاحب البطيحةفي هذه السنة اختلف سيف الدولة صدقة بن مزيد، ومهذب الدولة السعيد ابن أبي الجبر، صاحب البطيحة، وانضاف حماد بن أبي الجبر إلى صدقة، وأظهر معاداة ابن عمه مهذب الدولة، ثم اتفقوا.
وكان سبب ذلك أن صدقة لما أقطعه السلطان محمد مدينة واسط ضمنها منه مهذب الدولة، واستناب في الأعمال أولاده وأصحابه، فمدوا أيديهم في الأموال، وفرطوا فيها، وفرقوها، فلما انقضت السنة طالبه صدقة بالمال، وحبسه، ثم سعى في خلاصه بدران بن صدقة، وهو صهر مهذب الدولة، فأخرجه من الحبس وأعاده إلى بلده البطيحة.
وضمن حماد بن أبي الجبر واسط، فانحل على مهذب الدولة كثير من أمره، فآل الأمر إلى الاختلاف بعد الاتفاق، فإن المصطنع إسماعيل، جد حماد، والمختص محمداً، والد مهذب الدولة، أخوان، وهما ابنا أبي الجبر، وكانت إليهما رئاسة أهلهما وجماعتهما، فهلك المصطنع، وقام ابنه أبو السيد المظفر، والد حماد، مقامه وهلك المختص محمد، وقام ابنه مهذب الدولة مقامه، وصارا يتنازعان ابن الهيثم، صاحب البطيحة، ويقاتلانه إلى أن أخذه مهذب الدولة، أيام كوهرائين، وسلمه إلى كوهرائين، فحمله إلى أصبهان، فهلك في طريقها. فعظم أمر مهذب الدولة، وصيره كوهرائين أمير البطيحة، فصار ابن عمه وجماعة تحت حكمه.

وكان حماد شاباً، فأكرمه مهذب الدولة، وزوجه بنتاً له، وزاد في إقطاعه، فكثر ماله، فصار يحسد مهذب الدولة، ويضمر بغضه، وربما ظهر في بعض الأوقات، وكان مهذب الدولة يداريه بجهده، فلما هلك كوهرائين انتقل حماد عن مهذب الدولة، وأظهر ما في نفسه، فاجتهد مهذب الدولة في إعادته إلى ما كان، فلم يفعل، فسكت عنه، فجمع النفيس بن مهذب الدولة جمعاً وقصد حماداً، فهرب منه إلى سيف الدولة بالحلة، فأعاده صدقة ومعه جماعة من الجند، فحشد مهذب الدولة، فأرسل حماد إلى صدقة يعرفه ذلك، فأرسل إليه كثيراً من الجند، فقوي عزم مهذب الدولة على المحاربة لئلا يظن به العجز، فأشار عليه أهله بترك الخروج من موضعه لحصانته، فلم يفعل، وسير سفنه وأصحابه في الأنهر، فجعل حماد وأخوه له الكمناء، واندفعوا من بين أيديهم، فطمع أصحاب مهذب الدولة وتبعوهم، فخرج عليهم الكمناء، فلم يسلم منهم إلا من لم يحضر أجله، فقتل منهم وأسر خلق كثير، فقوي طمع حماد، وأرسل إلى صدقة يستنجده، فأرسل إليه مقدم جيشه سعيد بن حميد العمري، وغيره من المقدمين، وجمعوا السفن ليقاتلوا مهذب الدولة، فرأوا أمراً محكماً، فلم يمكنهم الدخول إليه.
وكان حماد بخيلاً، ومهذب الدولة جواداً، فأرسل إلى سعيد بن حميد الإقامات الوافرة، والصلات الكثيرة، واستماله، فمال إليه، واجتمع به، وتقرر الأمر على أن أرسل مهذب الدولة ابنه النفيس إلى صدقة، فرضي عنه، وأصلح بينهم وبين حماد ابن عمهم، وعادوا إلى حال حسنة من الاتفاق، وكان صلحهم في ذي الحجة سنة خمسمائة.
ذكر قتل وزير السلطان أحمد بن نظام الملكفي شوال من هذه السنة قبض السلطان محمد على وزيره سعد الملك أبي المحاسن، وأخذ ماله، وصلبه على باب أصبهان، وصلب معه أربعة نفر من أعيان أصحابه والمنتمين إليه، وأما الوزير فنسب إلى خيانة السلطان، وأما الآربعة فنسبوا إلى اعتقاد الباطنية، وكانت مدة وزارته سنتين وتسعة أشهر، وكان في ابتداء حاله يصحب تاج الملك أبا الغنائم، وتعطل بعده، ثم استعمله مؤيد الملك بن نظام الملك، فجعله على ديوان الاستيفاء، وخدم السلطان محمداً لما حصره أخوه السلطان بركيارق بأصبهان خدمة حسنة، ولما فارقها محمد حفظها الحفظ التام، وقام المقام العظيم، فاستوزره محمد، ووسع له في الإقطاع، وحكمه في دولته، ثم نكبه، وهذا آخر خدمة الملوك، وما أحسن ما قال عبد الملك بن مروان: أنعم الناس عيشاً من له ما يكفيه، وزوجة ترضيه، ولا يعرف أبوابنا هذه الخبيثة فتؤذيه.
ولما قبض الوزير استشار السلطان في من يجعله وزيراً، فذكر له جماعة، فقال السلطان: إن آبائي دروا على نظام الملك البركة، ولهم عليه الحق الكثير، وأولاده أغذياء نعمتنا، ولا معدل عنهم. فأمر لأبي نصر أحمد هذا بالوزارة، ولقب ألقاب أبيه: قوام الدين، نظام الملك، صدر الإسلام.
وكان سبب قدومه إلى باب السلطان أنه لما رأى انقراض دولة أهل بيته لزم داره بهمذان، فاتفق أن رئيس همذان، وهو الشريف أبو هاشم، آذاه، فسار إلى السلطان شاكياً منه ومتظلماً، فقبض السلطان على الوزير، وحكمه ومكنه، وقوي أمره، وهذا من الفرج بعد الشدة، فإنه حضر شاكياً، فصار حاكماً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، عزل الوزير أبو القاسم علي بن جهير، وزير الخليفة، فقصد دار سيف الدولة صدقة ببغداد ملتجئاً إليها، وكانت ملجأ لكل ملهوف، فأرسل إليه صدقة من أخذه إليه إلى الحلة، وكانت وزارته ثلاث سنين وخمسة أشهر وأياماً، وأمر الخليفة بنقض داره التي بباب العامة، وفيها عبرة، فإن أباه أبا نصر بن جهير بناها بأنقاض أملاك الناس، وأخذ، بسببها، أكثر ما دخل فيها، فخربت عن قريب.
ولما عزل استنيب قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، ثم تقررت الوزارة في المحرم من سنة إحدى وخمسمائة أبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب، وخلع عليه فيه.
وفيها، في شوال، توفي الأمير أبو الفوارس سرخاب بن بدر بن مهلهل، المعروف بابن أبي الشوك الكردي، وكانت له أموال كثيرة، وخيول لا تحصى، وولي الإمرة بعده أبو منصور بن بدر، وقام مقامه، وبقيت الإمارة في بيته مائة وثلاثين سنة، وقد تقدم من أخباره ما فيه كفاية.

وفي هذه السنة توفي أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد بن سعيد الحداد الأصبهاني ابن أخت عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن مندة، ومولده سنة ثمان وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث، مشهوراً بالرواية.
وفيها توفي أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج البغدادي في صفر، وهو مكثر من الرواية، وله تصانيف حسنة، وأشعار لطيفة، وهو من أعيان الزمان، وعبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب أبو محمد الشيرازي، الفقيه، ولي التدريس بالنظامية ببغداد سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وكان يروي الحديث أيضاً، وأبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي المعروف بابن الطيوري البغدادي، ومولده سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث ثقة صالحاً عابداً، وأبو الكرم المبارك بن الفاخر بن محمد بن يعقوب النحوي، سمع الحديث من أبي الطيب الطبري، والجوهري، وغيرهما، وكان إماماً في النحو واللغة.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة

ذكر قتل صدقة بن مزيد
في هذه السنة، في رجب، قتل الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسدي، أمير العرب، وهو الذي بنى الحلة السيفية بالعراق، وكان قد عظم شأنه، وعلا قدره، واتسع جاهه، واستجار به صغار الناس وكبارهم، فأجابهم.
وكان كثير العناية بأمور السلطان محمد، والتقوية ليده، والشد منه على أخيه بركيارق، حتى إنه جاهر بركيارق بالعداوة، ولم يبرح على مصافاة السلطان محمد، وزاده محمد إقطاعاً من جملته مدينة واسط، وأذن له في أخذ البصرة. ثم أفسد ما بينهما العميد أبو جعفر محمد بن الحسين البلخي، وقال في جملة ما قال عنه: إن صدقة قد عظم أمره، وزاد حاله، وكثر إدلاله، ويبسط في الدولة حمايته على كل من يفر إليه من عند السلطان، وهذا لا تحتمله الملوك لأولادهم، ولو أرسلت بعض أصحابك لملك بلاده وأمواله.
ثم إنه تعدى ذلك حتى طعن في اعتقاده، ونسبه وأهل بلده إلى مذهب الباطنية، وكذب، وإنما كان مذهبه التشيع لا غير، ووافق أرغون السعدي أبا جعفر العميد وانتهى ذلك إلى صدقة، وكانت زوجة أرغون بالحلة وأهله، فلم يؤاخذهم بشيء مما كان له أيضاً هناك من بقايا خراج ببلده، فأمر صدقة أن يخلص ذلك إليه بأجمعه ويسلم إلى زوجته.
وأما سبب قتله فإن صدقة كان، كما ذكرنا، يستجير به كل خائف من خليفة وسلطان وغيرهما، وكان السلطان محمد قد سخط على أبي دلف سرخاب بن كيخسرو، صاحب ساوة وآبة، فهرب منه وقصد صدقة فاستجار به، فأجاره، فأرسل السلطان يطلب من صدقة أن يسلمه إلى نوابه، فلم يفعل، وأجاب: إنني لا أمكن منه بل أحامي عنه، وأقول ما قاله أبو طالب لقريش لما طلبوا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ونسلمه، حتى نصرع حوله، ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وظهر منه أمور أنكرها السلطان فتوجه إلى العراق ليتلافى هذا الأمر، فلما سمع صدقة استشار أصحابه في الذي يفعله، فأشار عليه ابنه دبيس بأن ينفذه إلى السلطان ومعه الأموال، والخيل، والتحف، ليستعطف له السلطان، وأشار سعيد بن حميد، صاحب جيش صدقة، بالمحاربة، وجمع الجند، وتفريق المال فيهم، واستطال في القول، فمال صدقة إلى قوله، وجمع العساكر، واجتمع إليه عشرون ألف فارس، وثلاثون ألف راجل، فأرسل إليه المستظهر بالله يحذره عاقبة أمره، وينهاه عن الخروج عن طاعة السلطان، ويعرض له توسط الحال، فأجاب صدقة: إنني على طاعة السلطان، لكن لا آمن على نفسي في الاجتماع به، وكان الرسول بذلك عن الخليفة نقيب النقباء علي بن طراد الزينبي.
ثم أرسل السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي إلى صدقة يطيب قلبه، ويزيل خوفه، ويأمره بالانبساط على عادته، ويعزمه عزمه على قصد الفرنج، ويأمره بالتجهز للغزاة معه. فأجاب: إن السلطان قد أفسد أصحابه قلبه علي، وغيروا حالي معه، وأزال ما كان عليه في حقي من الإنعام، وذكر سالف خدمته ومناصحته، وقال سعيد بن حميد، صاحب جيشه: لم يبق لنا في صلح السلطان مطمع، ولترون خيولنا بحلوان، وامتنع صدقة من الاجتماع بالسلطان.
ووصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ربيع الآخر، ومعه وزيره نظام الملك بن أحمد بن نظام الملك، وسير البرسقي، شحنة بغداد، في جماعة من الأمراء إلى صرصر، فنزلوا عليها.

وكان وصول السلطان، جريدة، لا يبلغ عسكره ألفي فارس، فلما تيقن ببغداد مكاشفة صدقة، أرسل إلى الأمراء يأمرهم بالوصول إليه والجد في السير، وتعجيل ذلك، فوردوا إليه من كل جانب.
ثم وصل كتاب صدقة إلى الخليفة، في جمادى الأولى، يذكر أنه واقف عند ما يرسم له ويقرر من حاله مع السلطان، ومهما أمرته من ذلك امتثله، فأنفذ الخليفة الكتاب إلى السلطان، فقال السلطان: أنا ممتثل ما يأمر به الخليفة، ولا مخالفة عندي. فأرسل الخليفة إلى صدقة يعرفه إجابة السلطان إلى ما طلب منه، ويأمره بإنفاذ ثقته ليستوثق له، ويحلف السلطان على ما يقع الاتفاق عليه. فعاد صدقة عن ذلك الرأي، وقال: إذا رحل السلطان عن بغداد أمددته بالمال والرجال، وما يحتاج إليه في الجهاد، وأما الآن، وهو ببغداد، وعسكره بنهر الملك، فما عندي مال ولا غيره، وإن جاولي سقاوو، وإيلغازي بن أرتق، قد أرسلا إلي بالطاعة لي والموافقة معي على محاربة السلطان وغيره، ومتى أردتهما وصلا إلي في عساكرهما.
وورد إلى السلطان قرواش بن شرف الدولة، وكرماوي بن خراسان التركماني، وأبو عمران فضل بن ربيعة بن حازم بن الجراح الطائي، وأباؤه كانوا أصحاب البلقاء والبيت المقدس منهم: حسان بن المفرج الذي مدحه التهامي، وكان فضل تارة مع الفرنج، وتارة مع المصريين، فلما رآه طغتكين أتابك على هذه الحال طرده من الشام، فلما طرده التجأ إلى صدقة وعاقده، فأكرمه صدقة، وأهدى له هدايا كثيرة منها سبعة آلاف دينار عيناً.
فلما كانت هذه الحادثة بني صدقة والسلطان سار في الطلائع، ثم هرب إلى السلطان، فلما وصل خلع عليه وعلى أصحابه، وأنزله بدار صدقة ببغداد، فلما سار السلطان إلى قتال صدقة استأذنه فضل في إتيان البرية ليمنع صدقة من الهرب إن أراد ذلك، فأذن له، فعبر بالأنبار وكان آخر العهد به.
وأنفذ السلطان في جمادى الأولى إلى واسط الأمير محمد بن بوقا التركماني، فأخرج عنها نائب صدقة، وأمن الناس كلهم، إلا أصحاب صدقة، فتفرقوا، ولم ينهب أحد، وأنفذ خيله إلى بلد قوسان، وهو من أعمال صدقة، فنهبه أقبح نهب، وأقام عدة أيام، فأرسل صدقة إليه ثابت بن سلطان، وهو ابن عم صدقة، ومعه عسكر، فلما وصلوا إليها خرج منها الأتراك، وأقام ثابت بها، وبينه وبينهم دجلة.
ثم إن بوقا عبر جماعة من الجند ارتضاهم، وعرف شجاعتهم، فوقفوا على موضع مرتفع على نهر سالم، يكون ارتفاعه نحو خمسين ذراعاً، فقصدهم ثابت وعسكره فلم يقدروا أن يقربوا الترك من النشاب، والمدد يأتيهم من ابن بوقا، وجرح ثابت في وجهه، وكثرت الجراح في أصحابه، فانهزم هو ومن معه، وتبعهم الأتراك، فقتلوا منهم وأسروا، ونهب طائفة من الترك مدينة واسط، واختلط بهم رجالة ثابت، فنهبت معهم، فسمع ابن بوقا الخبر، فركب إليهم ومنعهم، وقد نهبوا بعض البلد، ونادى في الناس بالأمان، وأقطع السلطان، أواخر جمادى الأولى، مدينة واسط لقسيم الدولة البرسقي وأمر ابن بوقا بقصد بلد صدقة ونهبه، فنهبوا فيه ما لا يحد.
وأما السلطان محمد فإنه سار عن بغداد إلى الزعفرانية، ثاني جمادى الآخرة، فأرسل إليه الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب يأمره بالتوقف، وترك العجلة خوفاً على الرعية من القتل والنهب، وأشار قاضي أصبهان بذلك، واتباع أمر الخليفة، فأجاب السلطان إلى ذلك، فأرسل الخليفة إلى صدقة نقيب النقباء علي بن طراد، وجمال الدولة مختصاً الخادم، فسارا إلى صدقة فأبلغاه رسالة الخليفة يأمره بطاعة السلطان، وينهاه عن المخالفة، فاعتذر صدقة، وقال: ما خالفت الطاعة، ولا قطعت الخطبة في بلدي. وجهز ابنه دبيساً ليسير معهما إلى السلطان.
فبينما الرسل وصدقة في هذا الحديث، إذ ورد الخبر أن طائفة من عسكر السلطان قد عبروا من مطيراباذ، وأن الحرب بينهم وبين أصحاب صدقة قائمة على ساق، فتجلد صدقة لأجل الرسل، وهو يشتهي الركوب إلى أصحابه خوفاً عليهم، وكان الرسل إذا سمعوا ذلك ينكرونه لأنهم قد تقدموا إلى العسكر، عند عبورهم عليهم، أنه لا يتعرض أحد منهم إلى حرب، حتى نعود، فإن الصلح قد قارب. فقال صدقة للرسول: كيف أثق أرسل ولدي الآن، وكيف آمن عليه، وقد جرى ما ترون؟ فإن تكفلتم برده إلي أنفذته. فلم يتجاسروا على كفالته، فكتب إلى الخليفة يعتذر عن إنفاذ ولده بما جرى.

وكان سبب هذه الوقعة أن عسكر السلطان لما رأوا الرسل اعتقدوا وقوع الصلح، فقال بعضهم: الرأي أننا ننهب شيئاً قبل الصلح، فأجاب البعض وامتنع البعض، فعبر من أجاب النهر، ولم يتأخر من لم يجب لئلا ينسب إلى خور وجبن، ولئلا يتم على من عبر وهن، فيكون عاره وأذاه عليهم، فعبروا بعدهم أيضاً، فأتاهم أصحاب صدقة وقاتلوهم، فكانت الهزيمة على الأتراك، وقتل منهم جماعة كثيرة، وأسر جماعة من أعيانهم، وكثير من غيرهم، وغرق جماعة منهم: الأمير محمد بن باغي سيان الذي كان أبوه صاحب أنطاكية، وكان عمره نيفاً وعشرين سنة، وكان محباً للعلماء وأهل الدين، وبنى بإقطاعه من أذربيجان عدة مدارس. ولم يجسر الأتراك على أن يعرفوا السلطان بما أخذ منهم من الأموال والدواب خوفاً منه، حيث فعلوا ذلك بغير أمره.
وطمع العرب بهذه الهزيمة، وظهر منهم الفخر والتيه والطمع، وأظهروا أنهم باعوا كل أسير بدينار، وأن ثلاثة باعوا أسيراً بخمسة قراريط وأكلوا خبزاً وهريسة، وجعلوا ينادون: من يتغدى بأسير، ويتعشى بآخر؟ وظهر من الأتراك اضطراب عظيم.
وأعاد الخليفة مكاتبة صدقة بتحرير أمر الصلح، فأجاب أنه لا يخالف ما يؤمر به، وكتب صدقة أيضاً إلى السلطان يعتذر مما نقل عنه، ومن الحرب التي كانت بين أصحابه وبين الأتراك، وأن جند السلطان عبرت إلى أصحابه، فمنعوا عن أنفسهم بغير علمه، وأنه لم يحضر الحرب، ولم ينزع يداً من طاعة، ولا قطع خطبته من بلده.
ولم يكن صدقة كاتبه قبل هذا الكتاب، فأرسل الخليفة نقيب النقباء، وأبا سعد الهروي إلى صدقة، فقصدا السلطان أولاً، وأخذا يده بالأمان لمن يقصده من أقارب صدقة، فلما وصلا إلى صدقة وقالا له عن الخليفة: إن إصلاح قلب السلطان موقوف على إطلاق الأسرى، ورد جميع ما أخذ من العسكر المنهزم، فأجاب أولاً بالخضوع والطاعة، ثم قال: لوقدرت على الرحيل من بين يدي السلطان لفعلت، لكن ورائي من ظهري، وظهر أبي وجدي، ثلاثمائة امرأة، ولا يحملهن مكان، ولو علمت أنني إذا جئت السلطان مستسلماً قبلني واستخدمني لفعلت، لكنني أخاف أنه لا يقبل عثرتي، ولا يعفو عن زلتي.
وأما ما نهب فإن الخلق كثير، وعندي من لا أعرفه، وقد نهبوا ودخلوا البر، فلا طاقة لي عليهم، ولكن إذا كان السلطان لا يعارضني فيما في يدي، ولا فيمن أجرته، وأن يقر سرخاب بن كيخسرو على إقطاعه بساوة، وأن يتقدم إلى ابن بوقا بإعادة ما نهب من بلادي، وأن يخرج وزير الخليفة يحلفه بما أثق به من الأيمان على المحافظة فيما بيني وبينه، فحينئذ أخدم بالمال، وأدوس بساطه بعد ذلك.
فعادوا بهذا، ومعهم أبو منصور بن معروف، رسول صدقة، فردهم الخليفة، وأرسل السلطان معهم قاضي أصبهان أبا إسماعيل، فأما أبو إسماعيل فلم يصل إليه، وعاد من الطريق، وأصر صدقة على القول الأول. فحينئذ سار السلطان، ثامن رجب، من الزعفرانية، وسار صدقة في عساكر إلى قرية مطر، وأمر جنده بلبس السلاح، واستأمن ثابت بن سلطان بن دبيس بن علي بن مزيد، وهو ابن عم صدقة، إلى السلطان محمد، وكان يحسد صدقة، وهو الذي تقدم ذكره أنه كان بواسط، فأكرمه السلطان، وأحسن إليه، ووعده الإقطاع.
ووردت العساكر إلى السلطان منهم: بنو برسق، وعلاء الدولة أبو كاليجار كرشاسب بن علي بن فرامرز أبي جعفر بن كاكويه وآباؤه كانوا أصحاب أصبهان، وفرامرز هو الذي سلمها إلى طغرلبك، وقتل أبوه مع تتش.
وعبر عسكر السلطان دجلة، ولم يعبر هو، فصاروا مع صدقة على أرض واحدة، بينهما نهر، والتقوا تاسع رجب، وكانت الريح في وجوه أصحاب السلطان، فلما التقوا صارت في ظهورهم، وفي وجوه أصحاب صدقة، ثم إن الأتراك رموا بالنشاب، فكان يخرج في كل رشقة عشرة آلاف نشابة، فلم يقع سهم إلا في فرس أو فارس، وكان أصحاب صدقة كلما حملوا منعهم النهر من الوصول إلى الأتراك والنشاب، ومن عبر منهم لم يرجع، وتقاعدت عبادة وخفاجة، وجعل صدقة ينادي: يا آل خزيمة، يا آل ناشرة، يا آل عوف، ووعد الأكراد بكل جميل لما ظهر من شجاعتهم، وكان راكباً على فرسه المهلوب، ولم يكن لأحد مثله، فجرح الفرس ثلاث جراحات، وأخذه الأمير أحمديل بعد قتل صدقة، فسيره إلى بغداد في سفينة، فمات في الطريق.

وكان لصدقة فرس آخر قد ركبه حاجبه أبو نصر بن تفاحة، فلما رأى الناس وقد غشوا صدقة هرب عليه، فناداه صدقة، فلم يجبه، وحمل صدقة على الأتراك، وضربه غلام منهم على وجهه فشوهه، وجعل يقول: أنا ملك العرب، أنا صدقة! فأصابه سهم في ظهره، وأدركه غلام اسمه بزغش، كان أشل، فتعلق به، وهو لا يعرفه، وجذبه عن فرسه، فسقط إلى الأرض هو والغلام، فعرفه صدقة، فقال: يا بزغش ارفق، فضربه بالسيف فقتله، وأخذ رأسه وحمله إلى البرسقي، فحمله إلى السلطان، فلما رآه عانقه، وأمر لبزغش بصلة.
وبقي صدقة طريحاً إلى أن سار السلطان، فدفنه إنسان من المدائن. وكان عمره تسعاً وخمسين سنة، وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة، وحمل رأسه إلى بغداد، وقتل من أصحابه ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس، فيهم جماعة من أهل بيته، وقتل من بني شيبان خمسة وتسعون رجلاً، وأسر ابنه دبيس بن صدقة، وسرخاب بن كيخسرو الديلمي الذي كانت هذه الحرب بسببه، فأحضر بين يدي السلطان، فطلب الأمان، فقال: قد عاهدت الله أنني لا أقتل أسيراً، فإن ثبت عليك أنك باطني قتلتك، وأسر سعيد بن حميد العمري، صاحب جيش صدقة، وهرب بدران بن صدقة إلى الحلة، فأخذ من المال وغيره ما أمكنه، وسير أمه ونساءه إلى البطيحة إلى مهذب الدولة أبي العباس أحمد بن أبي الجبر، وكان بدران صهر مهذب الدولة على ابنته، ونهب من الأموال ما لا حد عليه.
وكان له من الكتب المنسوبة الخط شيء كثير، ألوف مجلدات، وكان يحسن يقرأ، ولا يكتب، وكان جواداً، حليماً، صدوقاً، كثير البر والإحسان، ما برح ملجأ لكل ملهوف، يلقى من يقصده بالبر والتفضل، ويبسط قاصديه، ويزورهم، وكان عادلاً، والرعايا معه في أمن ودعة، وكان عفيفاً لم يتزوج على امرأته، ولا تسرى عليها، فما ظنك بغير هذا؟ ولم يصادر أحداً من نوابه، ولا أخذهم بإساءة قديمة، وكان أصحابه يودعون أموالهم في خزانته، ويدلون عليه إدلال الولد على الوالد، ولم يسمع برعية أحبت أميرها كحب رعيته له.
وكان متواضعاً، محتملاً، يحفظ الأشعار، ويبادر إلى النادرة، رحمه الله، لقد كان من محاسن الدنيا.
وعاد السلطان إلى بغداد، ولم يصل إلى الحلة، وأرسل إلى البطيحة أماناً لزوجة صدقة، وأمرها بالظهور فأصعدت إلى بغداد، فأطلق السلطان ابنها دبيساً، وأنفذ معه جماعة من الأمراء إلى لقائها، فلما لقيها ابنها بكيا بكاء شديداً، ولما وصلت إلى بغداد أحضرها السلطان، واعتذر من قتل زوجها، وقال: وددت أنه حمل إلي حتى كنت أفعل معه ما يعجب الناس به من الجميل والإحسان، لكن الأقدار غلبتني. واستحلف ابنها دبيساً أنه لا يسعى بفساد.
ذكر وفاة تميم بن المعز صاحب إفريقية وولاية ابنه يحيىفي هذه السنة، في رجب، توفي تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وكان شهماً، شجاعاً، ذكياً، له معرفة حسنة، وكان حليماً، كثير العفو عن الجرائم العظيمة، وله شعر حسن، فمنه أنه وقعت حرب بين طائفتين من العرب، وهم عدي، ورياح، فقتل رجل من رياح، ثم اصطلحوا، وأهدروا دمه، وكان صلحهم مما يضر به وببلاده، فقال أبياتاً يحرض على الطلب بدمه، وهي:
متى كانت دماؤكم تطل ... أما فيكم بثأر مستقل
أغانم ثم سالم إن فشلتم، ... فما كانت أوائلكم تذل
وتمتم عن طلاب الثأر، حتى ... كأن العز فيكم مضمحل
وما كسرتم فيه العوالي، ... ولا بيض تفل، ولا تسل
فعمد إخوة المقتول فقتلوا أميراً من عدي، واشتد بينهم القتال، وكثرت القتلى، حتى أخرجوا بني عدي من إفريقية.
قيل: إنه اشترى جارية بثمن كثير، فبلغه أن مولاها الذي باعها ذهب عقله وأسف على فراقها، فأحضره تميم إلى بين يديه، وأرسل الجارية إلى داره، ومعها من الكسوات، والأواني الفضة، وغيرها، ومن الطيب، وغيره، شيء كثير، ثم أمر مولاها بالانصراف، وهو لا يعلم بذلك، فلما وصل إلى داره ورآها على تلك الحال وقع مغشياً عليه لكثرة سروره، ثم أفاق. فلما كان الغد أخذ الثمن، وجميع ما كان معها، وحمله إلى دار تميم، فانتهره، وأمره بإعادة جميع ذلك إلى داره.

وكان له في البلاد أصحاب أخبار يجري عليهم أرزاقاً سنية ليطالعوه بأحوال أصحابه لئلا يظلموا الناس، فكان بالقيروان تاجر له مال وثروة، فذكر في بعض الأيام التجار تميماً، ودعوا له، وذلك التاجر حاضر، فترحم على أبيه المعز، ولم يذكره، فرفع ذلك إلى تميم، فأحضره إلى قصره وسأله: هل ظلمتك؟ فقال: لا! قال: فهل ظلمك بعض أصحابي؟ قال: لا! قال: فلم أطلقت لسانك أمس بذمي؟ فسكت، فقال: لولا أن يقال شره في ماله لقتلتك، ثم أمر به فصفع في حضرته قليلاً، ثم أطلقه فخرج، وأصحابه ينتظرونه، فسألوه عن خبره، فقال: أسرار الملوك لا تذاع، فصارت بإفريقية مثلاً.
ولما توفي كان عمره تسعاً وسبعين سنة، وكانت ولايته ستاً وأربعين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً، وخلف من الذكور ما يزيد على مائة، ومن البنات ستين بنتاً، ولما توفي ملك بعده ابنه يحيى بن تميم، وكانت ولادته بالمهدية لأربع بقين من ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وكان عمره حين ولي ثلاثاً وأربعين سنة وستة أشهر وعشرين يوماً، ولما ولي فرق أموالاً جزيلة، وأحسن السيرة في الرعية.
ذكر ملك يحيى قلعة قليبيةلما ملك يحيى بن تميم بعد أبيه، جرد عسكراً كثيفاً إلى قلعة قليبية، وهي من أحصن قلاع إفريقية، فنزل عليها، وحصرها حصاراً شديداً، ولم يبرح حتى فتحها وحصنها، وكان أبوه تميم قد رام فتحها، فلم يقدر على ذلك، ولم يزل مظفراً، منصوراً، لم يهزم له جيش.
ذكر قدوم ابن عمار بغداد مستنفراً
في هذه السنة، في شهر رمضان، ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس الشام، إلى بغداد، قاصداً باب السلطان محمد، مستنفراً على الفرنج، طالباً تسيير العساكر لإزاحتهم، والذي حثه على ذلك أنه لما طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس، على ما ذكرناه، ضاقت عليه الأقوات وقلت، واشتد الأمر عليه وعلى أهل البلد، فمن الله عليهم، سنة خمسمائة، بميرة في البحر من جزيرة قبرس، وأنطاكية، وجزائر البنادقة، فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد، بعد أن كانوا استسلموا.
فلما بلغ فخر الملك انتظام الأمور للسلطان محمد وزوال كل مخالف رأى لنفسه وللمسلمين قصده والانتصار به، فاستناب بطرابلس ابن عمه ذا المناقب، وأمره بالمقام بها، ورتب معه الأجناد براً وبحراً، وأعطاهم جامكية ستة أشهر سلفاً، وجعل كل موضع إلى من يقوم بحفظه، بحيث أن ابن عمه لا يحتاج إلى فعل شيء من ذلك، وسار إلى دمشق، فأظهر ابن عمه الخلاف له، والعصيان عليه، ونادى بشعار المصريين، فلما عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه، وحمله إلى حصن الخوابي، ففعلوا ما أمرهم.
وكان ابن عمار قد استصحب معه من الهدايا ما لم يوجد عند ملك مثله من الأعلاق النفيسة، والأشياء الغريبة، والخيل الرائقة، فلما وصلها لقيه عسكرها، وطغتكين أتابك، وخيم على ظاهر البلد، وسأله طغتكين الدخول إليه، فدخل يوماً واحداً إلى الطعام، وأدخله حمامه، وسار عنها ومعه ولد طغتكين يشيعه.
فلما وصل إلى بغداد أمر السلطان الأمراء كافة بتلقيه وإكرامه، وأرسل إليه شبارته وفيها دسته الذي يجلس عليه ليركب فيها، فلما نزل إليها قعد بين يدي موضع السلطان، فقال له من بها من خواص السلطان: قد أمرنا أن يكون جلوسك في دست السلطان، فلما دخل على السلطان أجلسه، وأكرمه، وأقبل عليه بحديثه.
وسير الخليفة خواصه، وجماعة أرباب المناصب، فلقوه، وأنزله الخليفة وأجرى عليه الجراية العظيمة، وكذلك أيضاً فعل السلطان، وفعل معه ما لم يفعل مع الملوك الذين معهم أمثاله، وهذا جميعه ثمرة الجهاد في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر.

ولما اجتمع بالسلطان قدم هديته، وسأله السلطان عن حاله، وما يعانيه في مجاهدة الكفار، ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم، فذكر له حاله، وقوة عدوه، وطول حصره، وطلب النجدة، وضمن أنه إذا سيرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه، فوعده السلطان بذلك، وحضر دار الخلافة، وذكر أيضاً نحواً مما ذكره عند السلطان، وحمل هدية جميلة نفيسة، وأقام إلى أن رحل السلطان عن بغداد في شوال، فأحضره عنده بالنهروان، وقد تقدم إلى الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين ليسير معه العساكر التي سيرها إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال جاولي سقاوو، ليمضوا معه إلى الشام، وخلع عليه السلطان خلعاً نفيسة، وأعطاه شيئاً كثيراً، وودعه، وسار ومعه الأمير حسين فلم يجد ذلك نفعاً، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما أهل طرابلس فإنهم راسلوا الأفضل أمير الجيوش بمصر يلتمسون منه والياً يكون عندهم، ومعه الميرة في البحر، فسير إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب والياً، ومعه الغلة وغيرها مما تحتاج إليه البلاد في الحصار، فلما صار فيها قبض على جماعة من أهل ابن عمار وأصحابه، وأخذ ما وجده من ذخائره وآلاته وغير ذلك، وحمل الجميع إلى مصر في البحر.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شعبان، أطلق السلطان محمد الضرائب والمكوس، ودار البيع، والاجتيازات، وغير ذلك مما يناسبه بالعراق، وكتبت به الألواح، وجعلت في الأسواق.
وفيها، في شهر رمضان، ولي القاضي أبو العباس بن الرطبي الحسبة ببغداد.
وفيه أيضاً عزل الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب برسالة من السلطان بذلك، ثم أعيد إلى الوزارة بإذن السلطان، وشرط عليه شروطاً منها: العدل، وحسن السيرة، وأن لا يستعمل أحداً من أهل الذمة.
وفيها عاد أصبهبذ صباوة من دمشق، وكان هرب عند قتل إياز، فلما قدم أكرمه السلطان، وأقطعه رحبة مالك بن طوق.
وفيها، سابع شوال، خرج السلطان إلى ظاهر بغداد، عازماً على العود إلى أصبهان، وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر وسبعة عشر يوماً.
وفيها، في ذي الحجة، احترقت خرابة ابن جردة، فهلك فيها كثير من الناس، وأما الأمتعة، والأموال، وأثاث البيوت، فهلك ما لا حد عليه، وخلص خلق بنقب نقبوه في سور المحلة إلى مقبرة باب أبرز، وكان بها جماعة من اليهود، فلم ينقلوا شيئاً لتمسكهم بسبتهم، وكان بعض أهله قد عبروا إلى الجانب الغربي للفرجة، على عادتهم في السبت الذي يلي العيد، فعادوا فوجدوا بيوتهم قد خربت، وأهلهم قد احترقوا، وأموالهم قد هلكت.
ثم تبع ذلك حريق في عدة أماكن منها: درب القيار، وقراح ابن رزين، فارتاع الناس لذلك، وبطلوا معايشتهم، وأقاموا ليلاً ونهاراً يحرسون بيوتهم في الدروب، وعلى السطوح، وجعلوا عندهم الماء المعد لإطفاء النار، فظهر أن سبب هذا الحريق أن جارية أحبت رجلاً، فوافقته على المبيت عندها في دار مولاها سراً، وأعدت له ما يسرقه إذا خرج، ويأخذها هي أيضاً معه، فلما أخذها طرحا النار في الدار، فخرجا، فأظهر الله عليهما، وعجل الفضيحة لهما، فأخذا وحبسا.
وفيها جمع بغدوين ملك الفرنج عسكره وقصد مدينة صور وحصرها، وأمر ببناء حصن عندها، على تل المعشوقة، وأقام شهراً محاصراً لها، فصانعه واليها على سبعة آلاف دينار، فأخذها ورحل عن المدينة، وقصد مدينة صيدا، فحصرها براً وبحراً ونصب عليها البرج الخشب، ووصل الأسطول المصري في الدفع عنها، والحماية لمن فيها، فقاتلهم أسطول الفرنج، فظهر المسلمون عليهم، فاتصل الفرنج مسير عسكر دمشق نجدة لأهل صيدا، فرحلوا عنها بغير فائدة.
وفيها ظهر كوكب عظيم له ذوائب، فبقي ليالي كثيرة ثم غاب.
توفي في هذه السنة، في شعبان، إبراهيم بن مياس بن مهدي أبو إسحاق القشيري الدمشقي، سمع الحديث الكثير من الخطيب البغدادي وغيره.
وتوفي في ذي القعدة أبو سعيد إسماعيل بن عمرو بن محمد النيسابوري المحدث، كان يقرأ الحديث للغرباء، قرأ صحيح مسلم على عبد الغافر الفارسي عشرين مرة.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسمائة

ذكر استيلاء مودود على الموصل

في هذه السنة، في صفر، استولى مودود، والعسكر الذي أرسله السلطان معه، على مدينة الموصل، وأخذوها من أصحاب جاولي سقاوو، وقد ذكرنا سنة خمسمائة استيلاء جاولي عليها، وما جرى بينه وبين جكرمش والملك قلج أرسلان، وهلاكهما على يده، وصار معه بعد ذلك العسكر الكثير، والعدة التامة، والأموال الكثيرة، وكان السلطان محمد قد جعل إليه ولاية كل بلد يفتحه، فاستولى على كثير من البلاد والأموال.
وكان سبب أخذ البلاد منه: أنه لما استولى عليها، وعلى الأموال الكثيرة منها، لم يحمل إلى السلطان منها شيئاً، فلما وصل السلطان إلى بغداد، لقصد بلاد سيف الدولة صدقة، أرسل إلى جاولي يستدعيه إليه بالعساكر، وكرر الرسل إليه، فلم يحضر، وغالط في الانحدار إليه، وأظهر أنه يخاف أن يجتمع به، ولم يقنع بذلك، حتى كاتب صدقة، وأظهر له أنه معه، ومساعده على حرب السلطان، وأطمعه في الخلاف والعصيان.
فلما فرغ السلطان من أمر صدقة، وقتله، كما ذكرناه، تقدم إلى الأمراء بني برسق، وسكمان القطبي، ومودود نب التونتكين، وآقسنقر البرسقي، ونصر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي، وأبي الهيجاء، صاحب إربل، بالمسير إلى الموصل، وبلاد جاولي، وأخذها منه، فتوجهوا نحو الموصل، فوجدوا جاولي عاصياً قد شيد سور الموصل، وأحكم ما بناه جكرمش، وأعد الميرة والأقوات والآلات، واستظهر على الأعيان بالموصل، فحبسهم، وأخرج من أحداثها ما يزيد على عشرين ألفاً، ونادى: متى اجتمع عاميان على الحديث في هذا الأمر قتلتهما، وخرج عن البلد، ونهب السواد.
وترك بالبلد زوجته ابنة برسق، وأسكنها القلعة، ومعها ألف وخمسمائة فارس من الأتراك، سوى غيرهم، وسوى الرجالة، ونزل العسكر عليها في شهر رمضان سنة إحدى وخمسمائة، وصادرت زوجته من بقي بالبلد، وعسفت نساء الخارجين عنه، وبالغت في الاحتراز عليهم، فأوحشهم ذلك، ودعاهم إلى الانحراف عنها، وقوتل أهل البلد قتالاً متتابعاً، فتمادى الحصار بأهلها من خارج، والظلم من داخل إلى آخر المحرم، والجند بها يمنعون عامياً من القرب من السور.
فلما طال الأمر على الناس، اتفق نفر من الجصاصين، ومقدمهم جصاص يعرف بسعدي، على تسليم البلد، وتحالفوا على التساعد، وأتوا وقت صلاة الجمعة، والناس بالجامع، وصعدوا برجاً، وأغلقوا أبوابه، وقتلوا من به من الجند، وكانوا نياماً، فلم يشعروا بشيء، حتى قتلوا، وأخذوا سلاحهم، وألقوهم إلى الأرض، وملكوا برجاً آخر.
ووقعت الصيحة، وقصدهم مائتا فارس من العسكر، ورموهم بالنشاب، وهم يقاتلون، وينادون بشعار السلطان، فزحف عسكر السلطان إليهم، ودخلوا البلد من ناحيتهم، وملكوه، ودخله الأمير مودود، ونودي بالسكون والأمن، وأن يعود الناس إلى دورهم وأملاكهم، وأقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية أيام، وراسلت الأمير مودود في أن يفرج لها عن طريقها، وأن يحلف لها على الصيانة والحراسة، فحلف، وخرجت إلى أخيها برسق بن برسق، ومعها أموالها وما استولت عليه، وولي مودود الموصل وما ينضاف إليها.
ذكر حال جاولي مدة الحصاروأما جاولي فإنه لما وصل عسكر السلطان إلى الموصل، وحصرها، سار عنها، وأخذ معه القمص، صاحب الرها، الذي كان قد أسره سقمان وأخذه منه جكرمش، وقد ذكرنا ذلك، وسار إلى نصيبين، وهي حينئذ للأمير إيلغازي بن أرتق، وراسله، وسأله الاجتماع به، واستدعاه إلى معاضدته، وأن يكونا يداً واحدة، وأعلمه أن خوفهما من السلطان ينبغي أن يجمعهما على الاحتماء منه. فلم يجبه إيلغازي إلى ذلك، ورحل عن نصيبين، ورتب بها ولده، وأمره بحفظهما من جاولي، وأن يقاتله إن قصده، وسار إلى ماردين.
فلما سمع جاولي ذلك عدل عن نصيبين، وقصد دارا، وأرسل إلى إيلغازي ثانياً في المعاني، وسار بعد الرسول، فبينما رسوله عند إيلغازي بمادرين، لم يشعر إلا وجاولي معه في القلعة وحده، وقصد أن يتألفه ويستميله، فلما رآه إيلغازي قام إليه وخدمه، ولما رأى جاولي محسناً للظن فيه، غير مستشعر منه، لم يجد إلى دفعه سبيلاً، فنزل معه، وعسكرا بظاهر نصيبين، وسارا منها إلى سنجار، وحاصراها مدة، فلم يجبهما صاحبها إلى صلح، فتركاه وسارا نحو الرحبة، وإيلغازي يظهر لجاولي المساعدة، ويبطن الخلاف، وينتظر فرصة لينصرف عنه، فلما وصلا إلى عرابان، من الخابور، هرب إيلغازي ليلاً وقصد نصيبين.

ذكر إطلاق جاولي للقمص الفرنجي
لما هرب إيلغازي من جاولي سار جاولي إلى الرحبة، فلما وصل إلى ماكسين أطلق القمص الفرنجي، الذي كان أسيراً بالموصل، وأخذه معه، وسمه بردويل، وكان صاحب الرها وسروج وغيرهما، وبقي في الحبس إلى الآن، وبذل الأموال الكثيرة، فلم يطلق، فلما كان الآن أطلقه جاولي، وخلع عليه، وكان مقامه في السجن ما يقارب خمس سنين، وقرر عليه أن يفدي نفسه بمال، وأن يطلق أسرى المسلمين الذين في سجنه، وأن ينصره متى أراد ذلك منه بنفسه وعسكره وماله.
فلما اتفقا على ذلك سير القمص إلى قلعة جعبر، وسلمه إلى صاحبها سالم بن مالك، حتى ورد عليه ابن خالته جوسلين، وهو من فرسان الفرنج وشجعانها، وهو صاحب تل باشر وغيره، وكان أسر مع القمص في تلك الوقعة، ففدى نفسه بعشرين ألف دينار، فلما وصل جوسلين إلى قلعة جعبر أقام رهينة عوض القمص، وأطلق القمص، وسار إلى أنطاكية، وأخذ جاولي جوسلين من قلعة جعبر فأطلقه، وأخذ عوضه أخا زوجته، وأخا زوجة القمص، وسيره إلى القمص ليقوى به، وليحثه على إطلاق الأسرى، وإنفاذ المال وما ضمنه، فلما وصل جوسلين إلى منبج أغار عليها ونهبها، وكان معه جماعة من أصحاب جاولي، فأنكروا عليه ذلك، ونسبوه إلى الغدر، فقال: إن هذه المدينة ليست لكم.
ذكر ما جرى بين هذا القمص وبين صاحب أنطاكيةلما أطلق القمص وسار إلى أنطاكية أعطاه طنكري صاحبها ثلاثين ألف دينار، وخيلاً، وسلاحاً، وثياباً، وغيره ذلك، وكان طنكري قد أخذ الرها من أصحاب القمص حين أسر، فخاطبه الآن في ردها عليه، فلم يفعل، فخرج من عنده إلى تل باشر، فلما قدم عليه جوسلين، وقد أطلقه جاولي، سره ذلك، وفرح به.
وسار إليهما طنكري، صاحب أنطاكية، بعساكره ليحاربهما، قبل أن يقوى أمرهما، ويجمعا عسكراً، ويلتحق بهما جاولي وينجدهما، فكانوا يقتتلون، فإذا فرغوا من القتال اجتمعوا وأكل بعضهم مع بعض وتحادثوا.
وأطلق القمص من الأسرى المسلمين مائة وستين أسيراً كلهم من سواد حلب، وكساهم وسيرهم.
وعاد طنكري إلى أنطاكية من غير فصل حال في معنى الرها، فسار القمص وجوسلين وأغارا على حصون طنكري، صاحب أنطاكية والتجأ إلى ولاية كواسيل، وهو رجل أرمني، ومعه خلق كثير من المرتدين وغيرهم، وهو صاحب رعبان، وكيسوم، وغيرهما من القلاع، شمالي حلب، فأنجد القمص بألف فارس من المرتدين، وألفي راجل، فقصدهم طنكري، فتنازعوا في أمر الرها، فتوسط بينهم البطرك الذي لهم، وهو عندهم كالإمام الي للمسلمين، لا يخالف أمره، وشهد جماعة من المطارنة والقسيسين: أن بيمند خال طنكري قال له، لما أراد ركوب البحر، والعود إلى بلاده، ليعيد الرها إلى القمص، إذا خلص من الأسر، فأعادها عليه طنكري تاسع صفر، وعبر القمص الفرات، ليسلم إلى أصحاب جاولي المال والأسرى، فأطلق في طريقه خلقاً كثيراً من الأسرى من حران وغيرها.
وكان بسروج ثلاثمائة مسلم ضعفى، فعمر أصحاب جاولي مساجدهم، وكان رئيس سروج مسلماً قد ارتد، فسمعه أصحاب جاولي يقول في الإسلام قولاً شنيعاً، فضربوه، وجرى بينهم وبين الفرنج بسببه نزاع، فذكر ذلك للقمص، فقال: هذا لا يصلح لنا ولا للمسلمين، فقتله.
ذكر حال جاولي بعد إطلاق القمصلما أطلق جاولي القمص بماكسين سار إلى الرحبة، فأتاه أبو النجم بدران، وأبو كامل منصور، ابنا سيف الدولة صدقة، وكانا، بعد قتل أبيهما بقلعة جعبر، عند سالم بن مالك، فتعاهدوا على امساعدة والمعاضدة، ووعدهما أنه يسير معهما إلى الحلة، وعزموا أن يقدموا عليهم بكتاش بن تكش بن ألب أرسلان. فوصل إليهم، وهم على هذا العزم، أصبهبذ صباوة، وكان قد قصد السلطان فأقطعه الرحبة وقد ذكرناه، فاجتمع بجاولي، وأشار عليه أن يقصد الشام، فإن بلاده خالية من الأجناد، والفرنج قد استولوا على كثير منها، وعرفه أنه متى قصد العراق، والسلطان بها، أو قريباً منها، لم يأمن شراً يصل إليه. فقبل قوله، وأصعد عن الرحبة، فوصل إليه رسل سالم بن مالك، صاحب قلعة جعبر، يستغيث به من بني نمير، وكانت الرقة بيد ولده علي بن سالم، فوقب جوشن النميري، ومعه جماعة من بني نمير، فقتل علياً وملك الرقة.

فبلغ ذلك الملك رضوان، فسار من حلب إلى صفين، فصادف تسعين رجلاً من الفرنج معهم مال من فدية القمص، صاحب الرها، قد سيره إلى جاولي، فأخذه، وأسر عدداً منهم، وأتى الرقة، فصالحه بنو نمير على مال، فرحل عنهم إلى حلب، فاستنجد سالم بن مالك جاولي، وسأله أن يرحل إلى الرقة ويأخذها، ووعده بما يحتاج إليه. فقصد الرقة، وحصرها سبعين يوماً، فضمن له بنو نمير مالاً وخيلاً، فأرسل إلى سالم: إنني في أمر أهم من هذا، وأنا بإزاء عدو، ويجب التشاغل به دون غيره، وأنا عازم على الانحدار إلى العراق، فإن تم أمري فالرقة وغيرها لك، ولا أشتغل عن هذا المهم بحصار خمسة نفر من بني نمير.
ووصل إلى جاولي الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين، وكان أبوه أتابك السلطان محمد، فقتله، وتقدم ولده هذا عند السلطان، واختص به، فسيره السلطان مع فخر الملك بن عمار ليصلح الحال مع جاولي، ويأمر العساكر بالمسير مع ابن عمار إلى جهاد الكفار، فحضر عند جاولي، وأمر بتسليم البلاد، وطيب قلبه عن السلطان، وضمن الجميل، إذا سلم البلاد، وأظهر الطاعة والعبودية، فقال جاولي: أنا مملوك السلطان، وفي طاعته، وحمل إليه مالاً وثياباً لها مقدار جليل، وقال له: سر إلى الموصل ورحّل العسكر عنها، فإني أرسل معك من يسلم ولدي إليك رهينة، وينفذ السلطان إليها من يتولى أمرها وجباية أموالها، ففعل حسين ذلك، وسار ومعه صاحب جاولي، فلما وصلا إلى العسكر الذي على الموصل، وكانوا لم يفتحوها بعد، أمرهم حسين بالرحيل، فكلهم أجاب، إلا الأمير مودود فإنه قال: لا أرحل إلا بأمر السلطان، وقبض على صاحب جاولي، وأقام على الموصل، حتى فتحها كما ذكرناه.
وعاد حسين بن قتلغ تكين إلى السلطان، فأحسن النيابة عن جاولي عنده، وسار جاولي إلى مدينة بالس، فوصلها ثالث عشر صفر، فاحتمى أهلها منه، وهرب من بها من أصحاب الملك رضوان، صاحب حلب، فحصرها خمسة أيام، وملكها بعد أن نقب برجاً من أبراجها، فوقع على النقابين، فقتل منهم جماعة، وملك البلد، وصلب جماعة من أعيانه عند النقب، وأحضر القاضي محمد بن بد العزيز بن إلياس فقتله، وكان فقيهاً صالحاً، ونهب البلد، وأخذ منه مالاً كثيراً.
ذكر الحرب بين جاولي والفرنجوفي هذه السنة، في صفر، كان المصاف بين جاولي سقاوو وبين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية.
وسبب ذلك أن الملك رضوان كتب إلى طنكري، صاحب أنطاكية، يعرفه ما هو جاولي عليه من الغدر، والمكر، والخداع، ويحذره منه، ويعلمه أنه على قصد حلب، وأنه إن ملكها لا يبقي للفرنج معه بالشام مقام، وطلب منه النصرة، والاتفاق على منعه. فأجابه طنكري إلى منعه وبرز من أنطاكية، فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس، فلما سمع جاولي الخبر أرسل إلى القمص، صاحب الرها، يستدعيه إلى مساعدته، وأطلق له ما بقي عليه من مال المفاداة، فسار إلى جاولي فلحق به، وهو على منبج، فوصل الخبر إليه، وعلى هذه الحال، بأن الموصل قد استولى عليها عسكر السلطان، وملكوا خزائنه وأمواله، فاشتد ذلك عليه، وفارقه كثير من أصحابه منهم أتابك زنكي بن آقسنقر، وبكتاش النهاوندي، وبقي جاولي في ألف فارس، وانضم إليه خلق من المطوعة، فنزل بتل باشر.
وقاربهم طنكري، وهو في ألف وخمسمائة فارس من الفرنج، وستمائة من أصحاب الملك رضوان، سوى الرجالة، فجعل جاولي في ميمنته الأمير أقسيان، والأمير التونتاش الابري، وغيرهما، وفي الميسرة الأمير بدران بن صدقة، وأصبهبذ صباوة، وسنقر دراز، وفي القلب القمص، صاحب الرها، واشتد القتال، فأزاح طنكري القلب عن موضعه، وحملت ميسرة جاولي على رجالة صاحب أنطاكية، فقتلت منهم خلقاً كثيراً، ولم يبق غير هزيمة صاحب أنطاكية، فحينئذ عمد أصحاب جاولي إلى جنائب القمص، وجوسلين، وغيرهما من الفرنج، فركبوها وانهزموا، فمضى جاولي وراءهم ليردهم، فلم يرجعوا، وكانت طاعته قد زالت عنهم حين أخذت الموصل منه، فلما رأى أنهم لا يعودون معه أهمته نفسه، وخاف من المقام، فانهزم، وانهزم باقي عسكره.

فأما أصبهبذ صباوة فسار نحو الشام، وأما بدران بن صدقة فسار إلى قلعة جعبر، وأما ابن جكرمش فقصد جزيرة ابن عمر، وأما جاولي فقصد الرحبة، وقتل من المسلمين خلق كثير، ونهب صاحب أنطاكية أموالهم وأثقالهم، وعظم البلاء عليهم من الفرنج، وهرب القمص وجوسلين إلى تل باشر والتجأ إليهما خلق كثير من المسلمين، ففعلا معهم الجميل، وداويا الجرحى، وكسوا العراة، وسيراهم إلى بلادهم.
ذكر عود جاولي إلى السلطانلما انهزم جاولي سقاوو قصد الرحبة، فلما قاربها بات دونها في عدة فوارس، فاتفق أن طائفة من عسكر الأمير مودود، الذين أخذوا الموصل منه، أغاروا على قوم من العرب يجاورون الرحبة، فقاربوا جاولي ولا يشعرون به، ولو علموا لأخذوه.
فلما رأى الحال كذلك، علم أنه لا يقدر أن يقيم بالجزيرة، ولا بالشام، ولا يقدر على شيء يحفظ به نفسه، ويرجع إليه، ويداوي به مرضه، غير قصد باب السلطان محمد عن رغبة واختيار، وكان واثقاً بالأمير حسين بن قتلغتكين، فرحل من مكانه وهو خائف حذر، قد أخفى شخصه وكتم أمره، وسار إلى عسكر السلطان، وكان بالقرب من أصبهان، فوصل إليه في سبعة عشر يوماً من مكانه لجده في السير، فلما وصل المعسكر قصد الأمير حسيناً، فحمله إلى السلطان، فدخل إليه وكفنه تحت يده، فأمنه، وأتاه الأمراء يهنونه بذلك، وطلب منه السلطان الملك بكتاش بن تكش، فسلمه إليه، فاعتقله بأصبهان.
ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج

والهدنة بعدها.
في هذه السنة كانت حرب شديدة بين طغتكين أتابك والفرنج، وسببها أن طغتكين سار إلى طبرية، وقد وصل إليها ابن أخت بغدوين الفرنجي، ملك القدس، فتحاربا واقتتلا، وكان طغتكين في ألفي فارس، وكثير من الرجالة، وكان ابن أخت ملك الفرنج في أربعمائة فارس وألفي رجل.
فلما اشتد القتال انهزم المسلمون، فترجل طغتكين، ونادى بالمسلمين، وشجعهم، فعادوا الحرب، وكسروا الفرنج، وأسروا ابن أخت الملك، وحمل إلى طغتكين، فعرض طغتكين عليه الإسلام، فامتنع منه، وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار، وإطلاق خمسمائة أسير، فلم يقنع طغتكين منه بغير الإسلام، فلما لم يجب قتله بيده، وأرسل إلى الخليفة والسلطان الأسرى، ثم اصطلح طغتكين وبغدوين ملك الفرنج على وضع الحرب أربع سنين، وكان ذلك من لطف الله تعالى بالمسلمين، ولولا هذه الهدنة لكان الفرنج بلغوا من المسلمين، بعد الهزيمة الآتي ذكرها، أمراً عظيماً.
ذكر انهزام طغتكين من الفرنجفي هذه السنة، في شعبان، انهزم أتابك طغتكين من الفرنج.
وسبب ذلك أن حصن عرقة، وهو من أعمال طرابلس، كان بيد غلام للقاضي فخر الملك أبي علي بن علي بن عمار، صاحب طرابلس، وهو من الحصون المنيعة، فعصى على مولاه، فضاق به القوت، وانقطعت عنه الميرة، لطول مكث الفرنج في نواحيه، فأرسل إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وقال له: أرسل من يتسلم هذا الحصن مني، قد عجزت عن حفظه، ولأن يأخذه المسلمون خير لي دنيا وآخرة من أن يأخذه الفرنج. فبعث إليه طغتكين صاحباً له، اسمه إسرائيل، في ثلاثمائة رجل، فتسلم الحصن، فلما نزل غلام ابن عمار منه رماه إسرائيل، في الأخلاط، بسهم فقتله، وكان قصده بذلك أن لا يطلع أتابك طغتكين على ما خلفه بالقلعة من المال.
وأراد طغتكين قصد الحصن للاطلاع عليه، وتقويته بالعساكر، والأقوات، وآلات الحرب، فنزل الغيث والثلج مدة شهرين، ليلاً ونهاراً، فمنعه، فلما زال ذلك سار في أربعة آلاف فارس، ففتح حصوناً للفرنج، منها حصن الأكمة. فلما سمع السرداني الفرنجي بمجيء طغتكين، وهو على حصار طرابلس، توجه في ثلاثمائة فارس، فلما أشرف أوائل أصحابه على عسكر طغتكين انهزموا، وخلوا ثقلهم ورحلهم ودوابهم للفرنج، فغنموا، وقووا به، وزاد في تجملهم.
ووصل المسلمون إلى حمص، على أقبح حال من التقطع، ولم يقتل منهم أحد لأنه لم تجر حرب، وقصد السرداني إلى عرقة، فلما نازلها طلب من كان بها الأمان، فأمنهم على نفوسهم، وتسلم الحصن، فلما خرج من فيه قبض على إسرائيل، وقال: لا أطلقه إلا بإطلاق فلان، وهو أسير كان بدمشق من الفرنج، منذ سبع سنين، ففودي به وأطلقا معاً.

ولما وصل طغتكين إلى دمشق، بعد الهزيمة، أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظن أنني أنقص الهدنة للذي تم عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثر مما نالك، ثم تعود أمورهم إلى الانتظام والاستقامة، وكان طغتكين خائفاً أن يقصده بعد هذه الكسرة فينال من بلده كل ما أراد.
ذكر صلح السنة والشيعة ببغدادفي هذه السنة، في شعبان، اصطلح عامة بغداد السنة والشيعة، وكان الشر منهم على طول الزمان، وقد اجتهد الخلفاء، والسلاطين، والشحن في إصلاح الحال، فتعذر عليهم ذلك، إلى أن أذن الله تعالى فيه، وكان بغير واسطة.
وكان السبب ذي ذلك أن السلطان محمداً لما قتل ملك العرب صدقة، كما ذكرناه، خاف الشيعة ببغداد، أهل الكرخ وغيرهم، لأن صدقة كان يتشيع هو وأهل بيته، فشنع أهل السنة عليهم بأنهم نالهم غم وهم لقتله، فخاف الشيعة، وأغضوا على سماع هذا، ولم يزالوا خائفين إلى شعبان، فلما دخل شعبان تجهز السنة لزيارة قبر مصعب بن الزبير، وكانوا قد تركوا ذلك سنين كثيرة، ومنعوا منه لتقطع الفتن الحادثة بسببه.
فلما تجهزوا للمسير، اتفقوا على أن يجعلوا طريقهم في الكرخ، فأظهروا ذلك، فاتفق رأي أهل الكرخ على ترك معارضتهم، وأنهم لا يمنعونهم، فصارت السنة تسير أهل كل محلة منفردين، ومعهم من الزينة والسلاح شيء كثير، وجاء أهل باب المراتب، ومعهم فيل قد عمل من خشب، وعليه الرجال بالسلاح، وقصدوا جميعهم الكرخ ليعبروا فيه، فاستقبلهم أهله بالبخور والطيب، والماء المبرد، والسلاح الكثير، وأظهروا بهم السرور، وشيعوهم حتى خرجوا من المحلة.
وخرج الشيعة، ليلة النصف منه، إلى مشهد موسى بن جعفر وغيره، فلم يعترضهم أحد من السنة، فعجب الناس لذلك، ولما عادوا من زيارة مصعب لقيهم أهل الكرخ بالفرح والسرور، فاتفق أن أهل باب المراتب انكسر فيلهم عند قنطرة باب حرب، فقرأ لهم قوم: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " إلى آخر السورة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عاد منصور بن صدقة بن مزيد إلى باب السلطان، فتقبله وأكرمه وكان قد هرب، بعد قتل والده، إلى الآن، والتحق أخوه بدران بن صدقة بالأمير مودود الذي أقطعه السلطان الموصل، فأكرمه وأحسن صحبته.
وفيها، في نيسان، زادت دجلة زيادة عظيمة، وتقطعت الطرق، وغرقت الغلات الشتوية والصيفية، وحدث غلاء عظيم بالعراق، بلغت كارة الدقيق الخشكار عشرة دنانير إمامية، وعدم الخبز رأساً، وأكل الناس التمر والباقلاء الخضراء، وأما أهل السواد فإنهم لم يأكلوا جميع شهر رمضان، ونصف شوال، سوى الحشيش والتوت.
وفيها، في رجب، عزل وزير الخليفة أبو المعالي هبة الله بن المطلب، ووزر أبو القاسم علي بن أبي نصر بن جهير.
وفيها، في شعبان، تزوج الخليفة المستظهر بالله ابنة السلطان ملكشاه، وهي أخت السلطان محمد، وكان الذي خطب خطبة النكاح القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد النيسابوري، الحنفي، وكان المتولي لقبول العقد نظام الملك أحمد بن نظام الملك، وزير السلطان، بوكالة من الخليفة، وكان الصداق مائة ألف دينار، ونثرت الجواهر والدنانير، وكان العقد بأصبهان.
وفيها توفي مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد، وكان سبب ذلك أن السلطان محمداً كان قبض على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد، صاحب المخزن، وعلى أبي الفرج بن رئيس الرؤساء، واعتقلهما عنده، ثم أطلقهما الآن، وقرر عليهما مالاً يحملانه إليه، فأرسل مجاهد الدين بهروز لقبض المال، وأمره السلطان بعمارة دار المملكة، ففعل ذلك وعمر الدار، وأحسن إلى الناس، فلما قدم السلطان إلى بغداد ولاه شحنكية العراق جميعه، وخلع على سعيد بن حميد العمري، صاحب جيش صدقة، وولاه الحلة السيفية، وكان صارماً، حازماً، ذا رأي وجلد.
وفيها، في شوال، ملك الأمير سكمان القطبي، صاحب خلاط، مدينة ميافارقين بالأمان، بعد أن حصرها وضيق على أهلها عدة شهور، فعدمت الأقوات بها، واشتد الجوع بأهلها فسلموها.

وفي هذه السنة، في صفر، قتل قاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي بهمذان، وكان قد تجرد، في أمر الباطنية، تجرداً عظيماً، وصار يلبس درعاً حذراً منهم، ويحتاط، ويحترز، فقصده إنسان أعجمي، يوم جمعة، ودخل بينه وبين أصحابه فقتله، وقتل صاعد بن محمد بن عبد الرحمن أبو العلاء قاضي نيسابور، يوم عيد الفطر، قتله باطني، وقتل الباطني، ومولده سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث، وكان حنفي المذهب.
وفي هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر، فأتى الخبر إلى ملك الفرنج، فسار إليه وعارضه في البر، وأخذ كل من فيه، ولم يسلم منهم إلا القليل، ومن سلم أخذه العرب.
وفيها، في فصح النصارى، ثار جماعة من الباطنية في حصن شيزر على حين غفلة من أهله في مائة رجل، فملكوه، وأخرجوا من كان فيه، وأغلقوا بابه، وصعدوا إلى القلعة فملكوها، وكان أصحابها بنو منقذ قد نزلوا منها لمشاهدة عيد النصارى، وكانوا قد أحسنوا، إلى هؤلاء الذين أفسدوا، كل الإحسان، فبادر أهل المدينة الباشورة، فأصعدهم النساء في الحبال من الطاقات، وصاروا معهم، وأدركهم الأمراء بنو منقذ، أصحاب الحصن، فصعدوا إليهم، فكبروا عليهم وقاتلوهم، فانخذل الباطنية، وأخذهم السيف من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، وقتل من كان على مثل رأيهم في البلد.
وفيها وصل إلى المهدية ثلاثة نفر غرباء، فكتبوا إلى أميرها يحيى بن تميم يقولون: إنهم يعملون الكيمياء، فأحضرهم عنده، وأمرهم أن يعملوا شيئاً يراه من صناعتهم، فقالوا: نعمل النقرة، فأحضر لهم ما طلبوا من آلة وغيرها، وقعد معهم هو والشريف أبو الحسن، وقائد جيشه واسمه إبراهيم، وكانا يختصان به، فلما رأى الكيماوية المكان خالياً من جمع ثاروا بهم، فضرب أحدهم يحيى بن تميم على رأسه، فوقعت السكين في عمامته فلم تصنع شيئاً، ورفسه يحيى فألقاه على ظهره، ودخل يحيى باباً وأغلقه على نفسه، فضرب الثاني الشريف فقتله، وأخذ القائد إبراهيم السيف فقاتل الكيماوية، ووقع الصوت، فدخل أصحاب الأمير يحيى فقتلوا الكيماوية، وكان زيهم زي أهل الأندلس، فقتل جماعة من أهل البلد على مثل زيهم، وقيل للأمير يحيى: إن هؤلاء رآهم بعض الناس عند المقدم بن خليفة، واتفق أن الأمير أبا الفتوح بن تميم، أخا يحيى، وصل تلك الساعة إلى القصر في أصحابه وقد لبسوا السلاح، فمنع من الدخول، فثبت عند الأمير يحيى أن ذلك بوضع منهما، فأحضر المقدم بن خليفة، وأمر أولاد أخيه فقتلوه قصاصاً، لأنه قتل أباهم، وأخرج الأمير أبا الفتوح وزوجته بلارة بنت القاسم بن تميم، وهي ابنة عمه، ووكل بهما في قصر زيادة بين المهدية وسفاقس، فبقي هناك إلى أن مات يحيى، وملك بعده ابنه علي سنة تسع وخمسمائة، فسير أبا الفتوح وزوجته بلارة إلى ديار مصر في البحر، فوصلا إلى إسكندرية، على ما نذكره إن شاء الله.
وفيها، في المحرم، قتل عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد أبو المحاسن الروياني الطبري، الفقيه الشافعي، ومولده سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان حافظاً للمذهب، ويقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من قلبي.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الخطيب أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي، الشيباني، اللغوي، صاحب التصانيف المشهورة، وله شعر ليس بالجيد.
وفيها، في رجب، توفي السيد أبو هاشم زيد الحسني، العلوي، رئيس همذان، وكان نافذ الحكم، ماضي الأمر، وكانت مدة رئاسته لها سبعاً وأربعين سنة، وجده لأمه الصاحب أبو القاسم بن عباد، وكان عظيم المال جداً، فمن ذلك أنه أخذ منه السلطان محمد في دفعة واحدة سبع مائة ألف دينار لم يبع لأجلها ملكاً ولا استدان ديناراً، وأقام بعد ذلك بالسلطان محمد، عدة شهور، في جميع ما يريده، وكان قليل المعروف.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو الفوارس الحسن بن علي الخازن، الكاتب المشهور بجودة الخط، وله شعر منه: من المديد
عنت الدنيا لطالبها، ... واستراح الزاهد الفطن
عرف الدنيا، فلم يرها ... وسواه حظاً الفتن
كل ملك نال زخرفها ... حظه مما حوى كفن
يقتني مالاً، ويتركه، ... في كلا الحالين مفتتن
أملي كوني على ثقة ... من لقاء الله مرتهن

أكره الدنيا، وكيف بها، ... والذي تسخو به وسن
لم تدم قبلي على أحد، ... فلماذا الهم والحزن؟
وقيل توفي سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وقد ذكر هناك.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة

ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت
من الشام
في هذه السنة، حادي عشر ذي الحجة، ملك الفرنج طرابلس.
وسبب ذلك أن طرابلس كانت قد صارت في حكم صاحب مصر ونائبه فيها، والمدد يأتي إليها منه، وقد ذكرنا ذلك سنة إحدى وخمسمائة. فلما كانت هذه السنة، أول شعبان، وصل أسطول كبير من بلد الفرنج في البحر، ومقدمهم قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل ومراكبه مشحونة بالرجال، والسلاح، والميرة، فنزل على طرابلس، وكان نازلاً عليها قبله السرداني ابن أخت صنجيل، وليس بابن أخت ريمند هذا، بل هو قمص آخر، فجرى بينهما فتنة أدت إلى الشر والقتال، فوصل طنكري صاحب أنطاكية إليها، معونة للسرداني، ووصل الملك بغدوين، صاحب القدس، في عسكره، فأصلح بينهم، ونزل الفرنج جميعهم على طرابلس، وشرعوا في قتالها، ومضايقة أهلها، من أول شعبان، وألصقوا أبراجهم بسورها، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك سقط في أيديهم، وذلت نفوسهم، وزادهم ضعفاً تأخر الأسطول المصري عنهم بالميرة والنجدة.
وكان سبب تاخره: أنه فرغ منه، والحث عليه، واختلفوا فيه أكثر من سنة، وسار، فردته الريح، فتعذر عليهم الوصول إلى طرابلس ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ومد الفرنج القتال عليها من الأبراج والزحف، فهجموا على البلد وملكوه عنوة وقهراً يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة، ونهبوا ما فيها، وأسروا الرجال، وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال، وغنموا من أهلها من الأموال، والأمتعة، وكتب دور العلم الموقوفة، ما لا يحد ولا يحصى، فإن أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالاً وتجارة، وسلم الوالي الذي كان بها، وجماعة من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها، فوصلوا إلى دمشق، وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات، وأخذت دفائنهم وذخائرهم في مكامنهم.
ذكر ملك الفرنج جبيل وبانياسلما فرغ الفرنج من طرابلس سار طنكري، صاحب أنطاكية، إلى بانياس، وحصرها، وافتتحها، وأمن أهلها، ونزل مدينة جبيل، وفيها فخر الملك بن عمار، الذي كان صاحب طرابلس، وكان القوت فيها قليلاً، فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة بالأمان، وخرج فخر الملك بن عمار سالماً.
ووصل، عقيب ملك طرابلس، الأسطول المصري بالرجال، والمال، والغلال، وغيرها، ما يكفيهم سنة، فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيام للقضاء النازل بأهلها، وفرقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور، وصيدا، وبيروت.
وأما فخر الملك بن عمار فإنه قصد شيزر، فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني، واحترمه، وسأله أن يقيم عنده، فلم يفعل، وسار إلى دمشق، فأنزله طغتكين صاحبها، وأجزل له في الحمل والعطية، وأقطعه أعمال الزبداني، وهو عمل كبير من أعمال دمشق، وكان ذلك في المحرم سنة اثنتين وخمسمائة.
ذكر الحرب بين محمد خان وساغربكفي هذه السنة عاد ساغربك وجمع العساكر الكثيرة من الأتراك وغيرهم وقصد أعمال محمد خان بسمرقند وغيرها، فأرسل محمد إلى سنجر يستنجده، فسير إليه الجنود، واجتمع معه أيضاً كثير من العساكر، وسار إلى ساغربك فالتقوا بنواحي الخشب واقتتلوا فانهزم ساغربك وعساكره وأخذت السيوف منهم مأخذها وكثر الأسر فيهم والنهب، فلما فرغوا من حربهم وأمن محمد خان من شر ساغربك عاد العسكر السنجري إلى خراسان فعبروا النهر إلى بلخ.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، سير السلطان وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك إلى قلعة ألموت لقتال الحسن بن الصباح ومن معه من الإسماعيلية، فحصروهم، وهجم الشتاء عليهم فعادوا ولم يبلغوا منه غرضاً.
وفيها، في ربيع الآخر، قدم السلطان إلى بغداد، وعاد عنها في شوال من السنة أيضاً.
وفيها، في شعبان، توجه الوزير نظام الملك إلى الجامع، فوثب به الباطنية، فضربوه بالسكاكين، وجرح في رقبته، فبقي مريضاً مدة، ثم برأ، وأخذ الباطني الذي جرحه فسقي الخمر حتى سكر، ثم سئل عن أصحابه، فأقر على جماعة بمسجد المأمونية، فأخذوا وقتلوا.

وفيها عزل وزير الخليفة، وهو أبو المعالي بن المطلب، ووزر بعده الزعيم أبو القاسم بن جهير، فخرج ابن المطلب من دار الخليفة مستتراً هو وأولاده واستجار بدار السلطان.
وفيها جهز يحيى بن تميم، صاحب إفريقية، خمسة عشر شينياً وسيرها إلى بلاد الروم، فلقيها أسطول الروم، وهو كبير، فقاتلوهم، وأخذوا ست قطع من شواني المسلمين، ولم ينهزم بعد ذلك ليحيى جيش في البحر والبر.
وسير ابنه أبا الفتوح إلى مدينة سفاقس والياً عليها، فثار به أهلها، فنهبوا قصره، وهموا بقتله، فلم يزل يحيى يعمل الحيلة عليهم، حتى فرق كلمتهم، وبدد شملهم، وملك رقابهم فسجنهم، وعفا عن دمائهم وذنوبهم.
وفيها توفي الأمير إبراهيم ينال، صاحب آمد، وكان قبيح السيرة، مشهوراً بالظلام، فجلا كثير من أهلها لجوره، وملك بعده ولده، وكان أصلح حالاً منه.
وفيها، في ثامن ذي القعدة، ظهر في السماء كوكب من الشرق له ذؤابة ممتدة إلى القبلة، وبقي يطلع إلى آخر ذي الحجة، ثم غاب.
ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة

ذكر ملك الفرنج مدينة صيدا
في هذه السنة، في ربيع الآخر، ملك الفرنج مدينة صيدا، من ساحل الشام.
وسبب ذلك: أنه وصل في البحر إلى الشام ستون مركباً للفرنج مشحونة بالرجال والذخائر مع بعض ملوكهم ليحج البيت المقدس وليغزو بزعمه المسلمين، فاجتمع بهم بغدوين ملك القدس، وتقررت القاعدة بينهم أن يقصدوا بلاد الإسلام، فرحلوا من القدس، ونزلوا مدينة صيدا ثالث ربيع الآخر من هذه السنة، وضايقوها براً وبحراً.
وكان الأسطول المصري مقيماً على صور، فلم يقدر على إنجاد صيدا، فعمل الفرنج برجاً من الخشب، وأحكموه، وجعلوا عليه ما يمنع النار عنه والحجارة، وزحفوا به، فلما عاين أهل صيدا ذلك ضعفت نفوسهم، وأشفقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت، فأرسلوا قاضيها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج، وطلبوا من ملكهم الأمان فأمنهم على أنفسهم، وأموالهم، والعسكر الذي عندهم، ومن أراد المقام بها عندهم أمنوه، ومن أراد المسير عنهم لم يمنعوه، وحلف لهم على ذلك، فخرج الوالي، وجماعة كثيرة من أعيان أهل البلد، في العشرين من جمادى الأولى إلى دمشق، وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان، وكانت مدة الحصار سبعة وأربعين يوماً.
ورحل بغدوين عنها إلى القدس، ثم عاد إلى صيدا، بعد مدة يسيرة، فقرر على المسلمين الذين أقاموا بها عشرين ألف دينار، فأفقرهم، واستغرق أموالهم.
ذكر استيلاء المصريين على عسقلانكانت عسقلان للعلويين المصريين، ثم إن الخليفة الآمر بأحكام الله استعمل عليها إنساناً يعرف بشمس الخلافة، فراسل بغدوين ملك الفرنج بالشام، وهادنه، وأدى إليه مالاً وعروضاً، فامتنع به من أحكام المصريين عليه، إلا فيما يريد من غير مجاهدة بذلك.
فوصلت الأخبار بذلك إلى الآمر بأحكام الله، صاحب مصر، وإلى وزيره الأفضل، أمير الجيوش، فعظم الأمر عليهما، وجهزا عسكراً وسيراه إلى عسقلان مع قائد كبير من قواده، وأظهرا أنه يريد الغزاة، ونفذا إلى القائد سراً أن يقبض على شمس الخلافة إذا حضر عندهم، ويقيم هو عوضه بعسقلان أميراً. فسار العسكر، فعرف شمس الخلافة الحال، فامتنع من الحضور عند العسكر المصري، وجاهر بالعصيان، وأخرج من كان عنده من عسكر مصر خوفاً منهم.
فلما عرف الأفضل ذلك خاف أن يسلم عسقلان إلى الفرنج، فأرسل إليه وطيب قلبه، وسكنه، وأقره على عمله، وأعاد عليه إقطاعه بمصر.
ثم إن شمس الخلافة خاف أهل عسقلان، فأحضر جماعة من الأرمن واتخذهم جنداً، ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة أربع وخمسمائة، فأنكر الأمر أهل البلد، فوثب به قوم من أعيانه، وهو راكب، فجرجروه، فانهزم منهم إلى داره، فتبعوه وقتلوه، ونهبوا داره وجميع ما فيها، ونهبوا بعض دور غيره من أرباب الأموال بهذه الحجة، وأرسلوا إلى مصر بجلية الحال إلى الآمر والأفضل، فسرا بذلك، وأحسنا إلى الواصلين بالبشارة، وأرسلا إليه والياً يقيم به، ويستعمل مع أهل البلد الإحسان وحسن السيرة، فتم ذلك، وزال ما كانوا يخافونه.
ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب

في هذه السنة جمع صاحب أنطاكية عساكره من الفرنج، وحشد الفارس والراجل، وسار نحو حصن الأثارب، وهو بالقرب من مدينة حلب بينهما ثلاثة فراسخ، وحصره، ومنع عنه الميرة، فضاق الأمر على من به من المسلمين، فنقبوا من القلعة نقباً، قصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكية فيقتلوه، فلما فعلوا ذلك وقربوا من خيمته استأمن إليه صبي أرمني، فعرفه الحال، فاحتاط، واحترز منهم، وجد في قتالهم، حتى ملك الحصن قهراً وعنوة، وقتل من أهله ألفي رجل، وسبى وأسر الباقين.
ثم سار إلى حصن زردنا، فحصره، ففتحه، وفعل بأهله مثل الأثارب، فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفاً من الفرنج، وكذلك أهل بالس، وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس، فعادوا عنهما.
وسار عسكر من الفرنج إلى مدينة صيدا، فطلب أهلها منهم الأمان، فأمنوهم وتسلموا البلد، فعظم خوف المسلمين منهم، وبلغت القلوب الحناجر، وأيقنوا باستيلاء الفرنج على سائر الشام لعدم الحامي له والمانع عنه، فشرع أصحاب البلاد الإسلامية بالشام في الهدنة معهم، فامتنع الفرنج من الإجابة إلا على قطيعة يأخذونها إلى مدة يسيرة، فصالحهم الملك رضوان، صاحب حلب، على اثنين وثلاثين ألف دينار، وغيرها من الخيول والثياب، وصالحهم صاحب صور على سبعة آلاف دينار، وصالحهم ابن منقذ، صاحب شيزر، على أربعة آلاف دينار، وصالحهم علي الكردي، صاحب حماة، على ألفي دينار، وكانت مدة الهدنة إلى وقت إدراك الغلة وحصادها.
ثم إن مراكب أقلعت من ديار مصر، فيها التجار ومعهم الأمتعة الكثيرة، فوقع عليها مراكب الفرنج، فأخذوها، وغنموا ما مع التجار، وأسروهم، فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد، مستنفرين على الفرنج. فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء وغيرهم فقصدوا جامع السلطان، واستغاثوا، ومنعوا من الصلاة، وكسروا المنبر، فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد، وسير من دار الخلافة منبراً إلى جامع السلطان. فلما كان الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة، ومعهم أهل بغداد، فمنعهم حاجب الباب من الدخول، فغلبوه على ذلك، ودخلوا الجامع، وكسروا شباك المقصورة، وهجموا إلى المنبر فكسروه، وبطلت الجمعة أيضاً، فأرسل الخليفة إلى السلطان في المعنى يأمره بالاهتمام بهذا الفتق ورتقه، فتقدم حينئذ إلى من معه من الأمراء بالمسير إلى بلادهم، والتجهز للجهاد، وسير ولده الملك مسعوداً مع الأمير مودود، صاحب الموصل، وتقدموا إلى الموصل ليلحق بهم الأمراء ويسيروا إلى قتال الفرنج، وانقضت السنة، وساروا في سنة خمس وخمسمائة، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل نظام الملك أحمد من وزارة السلطان، ووزر بعده الخطير محمد بن الحسين الميبذي.
وفيها ورد رسول ملك الروم إلى السلطان يستنفره على الفرنج، ويحثه على قتالهم ودفعهم عن البلاد، وكان وصول أهل حلب، وكان أهل حلب يقولون للسلطان: أما تتقي الله تعالى أن يكون ملك الروم أكثر حمية منك للإسلام، حتى قد أرسل إليك في جهادهم.
وفيها، في رمضان، زفت ابنة السلطان ملكشاه إلى الخليفة، وزينت بغداد، وغلقت، وكان بها فرحة عظيمة لم يشاهد الناس مثلها.
وفيها هبت بمصر ريح سوداء أظلمت بها الدنيا، وأخذت بأنفاس الناس، ولم يقدر أحد أن يفتح عينيه، ومن فتحهما لا يبصر يده، ونزل على الناس رمل، ويئس الناس من الحياة، وأيقنوا بالهلاك، ثم تجلى قليلاً، وعاد إلى الصفوة، وكان ذلك من أول وقت العصر إلى بعد المغرب.
وفيها، في المحرم، توفي الكيا الهراس الطبري واسمه أبو الحسن علي بن محمد بن علي، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية، أخذ الفقه عن إمام الحرمين الجويني، ودرس بعده في النظامية ببغداد، وتوفي بها، ودفن عند تربة الشيخ أبي إسحاق، ودرس بعده في النظامية الإمام أبو بكر الشاشي.
وفيها توفي أبو الحسين إدريس بن حمزة بن علي الرملي الفقيه الشافعي من أهل الرملة بفلسطين، تفقه على أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، وعلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ودخل خراسان، وولي التدريس بسمرقند، فتوفي بها.
ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة

ذكر مسير العساكر إلى قتال الفرنج

في هذه السنة اجتمعت العساكر التي أمرها السلطان بالمسير إلى قتال الفرنج، فكانوا: الأمير مودود، صاحب الموصل، والأمير سكمان القطبي، صاحب تبريز وبعض ديار بكر، والأميرين إيلبكي وزنكي ابني برسق، ولهما همذان وما جاورها، والأمير أحمديل، وله مراغة، وكوتب الأمير أبو الهيجاء، صاحب إربل، والأمير إيلغازي، صاحب ماردين، والأمراء البكجية، باللحاق بالملك مسعود، ومودود، فاجتمعوا، ما عدا الأمير إيلغازي فإنه سير ولده إياز وأقام هو، فلما اجتمعوا ساروا إلى بلدة سنجار، ففتحوا عدة حصون للفرنج، وقتل من بها منهم، وحصروا مدينة الرها مدة، ثم رحلوا عنها من غير أن يملكوها.
وكان سبب رحيلهم عنها أن الفرنج اجتمعت جميعها، فارسها وراجلها، وساروا إلى الفرات ليعبروه ليمنعوا الرها من المسلمين، فلما وصلوا إلى الفرات بلغهم كثرة المسلمين، فلم يقدموا عليه، وأقاموا على الفرات، فلما رأى المسلمون ذلك رحلوا عن الرها إلى حران ليطمع الفرنج ويعبروا الفرات إليهم ويقاتلوهم. فلما رحلوا عنها جاء الفرنج، ومعهم الميرة والذخائر، إلى الرها، فجعلوا فيها كل من فيه عجز وضعف وفقر، وعادوا إلى الفرات فعبروه إلى الجانب الشامي، وطرقوا أعمال حلب، فأفسدوا ما فيها، ونهبوها، وقتلوا فيها وأسروا، وسبوا خلقاً كثيراً.
وكان سبب ذلك أن الفرنج لما عبروا إلى الجزيرة خرج الملك رضوان، صاحب حلب، إلى ما أخذه الفرنج من أعمالها، فاستعاد بعضه، ونهب منهم وقتل، فلما عادوا وعبروا الفرات فعلوا بأعماله ما فعلوا.
وأما العسكر السلطاني فلما سمعوا بعود الفرنج وعبورهم الفرات، رحلوا إلى الرها وحصروها، فرأوا أمراً محكماً، قد قويت نفوس أهلها بالذخائر التي تركت عندهم، وبكثرة المقاتلين عنهم، ولم يجدوا فيهم مطمعاً، فرحلوا عنها، وعبروا الفرات، فحصروا قلعة تل باشر خمسة وأربعين يوماً، ورحلوا عنها ولم يبلغوا غرضاً.
ووصلوا إلى حلب، فأغلق الملك رضوان أبواب البلد، ولم يجتمع بهم، ثم مرض هناك الأمير سكمان القطبي، فعاد مريضاً، فتوفي في بالس، فجعله أصحابه في تابوت، وحملوه عائدين إلى بلاده، فقصدهم إيلغازي ليأخذهم، ويغنم ما معهم، فجعلوا تابوته في القلب، وقاتلوا بين يديه، فانهزم إيلغازي، وغنموا ما معه، وساروا إلى بلادهم.
ولما أغلق الملك رضوان أبواب حلب، ولم يجتمع بالعساكر السلطانية، رحلوا إلى معرة النعمان، واجتمع بهم طغتكين، صاحب دمشق، ونزل على الأمير مودود، فاطلع من الأمراء على نيات فاسدة في حقه، فخاف أن تؤخذ منه دمشق، فشرع في مهادنة الفرنج سراً وكانوا قد نكلوا عن قتال المسلمين، فلم يتم ذلك، وتفرقت العساكر.
وكان سبب تفرقهم أن الأمير برسق بن برسق الذي هو أكبر الأمراء كان به نقرس، فهو يحمل في محفة، ومات سكمان القطبي، كما ذكرنا، وأراد الأمير أحمديل، صاحب مراغة، العود، ليطلب من السلطان أن يقطعه ما كان لسكمان من البلاد، وأتابك طغتكين، صاحب دمشق، خاف الأمراء على نفسه، فلم ينصحهم، إلا أنه حصل بنيه وبين مودود، صاحب الموصل، مودة وصداقة، فتفرقوا لهذه الأسباب، وبقي مودود وطغتكين بالمعرة، فساروا منها، ونزلوا على نهر العاصي.
ولما سمع الفرنج بتفرق عساكر الإسلام طمعوا، وكانوا قد اجتمعوا كلهم، بعد الاختلاف والتباين، وساروا إلى أفامية، فسمع بهم سلطان بن منقذ، صاحب شيزر، فسار إلى مودود وطغتكين، وهون عليهما أمر الفرنج، وحرضهما على الجهاد، فرحلوا إلى شيزر، ونزلوا عليها، ونزل الفرنج بالقرب منهم، فضيق عليهم عسكر المسلمين الميرة، ولزوهم بالقتال، والفرنج يحفظون نفوسهم، ولا يعطون مصافاً، فلما رأوا قوة المسلمين عادوا إلى أفامية وتبعهم المسلمون، فتخطفوا من أدركوه في ساقتهم وعادوا إلى شيزر في ربيع الأول.
ذكر حصر الفرنج مدينة صورلما تفرقت العساكر اجتمعت الفرنج على قصد مدينة صور وحصرها، فساروا إليها مع الملك بغدوين، صاحب القدس، وحشدوا، وجمعوا، ونازلوها وحصروها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى، وعملوا عليها ثلاثة أبراج خشب، علو البرج سبعون ذراعاً، وفي كل برج ألف رجل، ونصبوا عليها المجانيق، وألصقوا أحدها إلى سور البلد، وأخلوه من الرجال.

وكانت صور للآمر بأحكام الله العلوي ونائبه بها عز الملك الأعز، فأحضر أهل البلد، واستشارهم في حيلة يدفعون بها شر الأبراج عنهم، فقام شيخ من أهل طرابلس وضمن على نفسه إحراقها، وأخذ معه ألف رجل بالسلاح التام، ومع كل رجل منهم حزمة حطب، فقاتلوا الفرنج إلى أن وصلوا إلى البرج الملتصق بالمدينة، فألقى الحطب من جهاته، وألقى فيه النار، ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين في البرج بإطفاء النار، ويتخلصوا، فرماهم بجرب كان قد أعدها، مملوءة من العذرة، فلما سقطت عليهم اشتغلوا بها وبما نالهم من سوء الرائحة والتلويث، فتمكنت النار منه، فهلك كل من به، إلا القليل، وأخذ منه المسلمون ما قدروا عليه بالكلاليب، ثم أخذ سلال العنب الكبار، وترك فيها الحطب الذي قد سقاه بالنفط، والزفث، والكتان، والكبريت، ورماهم بسبعين سلة، وأحرق البرجين الآخرين.
ثم إن أهل صور حفروا سراديب تحت الأرض ليسقط فيها الفرنج إذا زحفوا إليهم، ولينخسف برج إن عملوه وسيروه إليهم، فاستأمن نفر من المسلمين إلى الفرنج، وأعلموهم بما عملوه، فحذروا منها.
وأرسل أهل البلد إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يستنجدونه، ويطلبونه ليسلموا البلد إليه، فسار في عساكره إلى نواحي بانياس، وسير إليهم نجدة مائتي فارس، فدخلوا البلد، فامتنع من في بهم، واشتد قتال الفرنج خوفاً من اتصال النجدات، ففني نشاب الأتراك، فقاتلوا بالخشب، وفني النفط، فظفروا بسرب تحت الأرض فيه نفط لا يعلم من خزنه.
ثم إن عز الملك، صاحب صور، أرسل الأموال إلى طغتكين ليكثر من الرجال، ويقصدهم ليملك البلد، فأرسل طغتكين طائراً فيه رقعة ليعلمه وصول المال، ويأمره أن يقيم مركباً بمكان ذكره لتجيء الرجال إليه، فسقط الطائر على مركب الفرنج، فأخذه رجلان: مسلم وفرنجي، فقال الفرنجي: نطلقه لعل فيه فرجاً لهم، فلم يمكنه المسلم، وحمله إلى الملك بغدوين، فلما وقف عليه سير مركباً إلى المكان الذي ذكره طغتكين، وفيه جماعة من المسلمين الذين استأمنوا إليه من صور، فوصل إليهم العسكر، فكلموهم بالعربية، فلم ينكرونهم، وركبوا معهم، فأخذوهم أسرى، وحملوهم إلى الفرنج، فقتلوهم وطمعوا في أهل صور، فكان طغتكين يغير على أعمال الفرنج من جميع جهاتها، وقصد حصن الحبيس في السواد، من أعمال دمشق، وهو للفرنج، فحصره، وملكه بالسيف، وقتل كل من فيه، وعاد إلى الفرنج الذين على صور.
وكان يقطع الميرة عنهم في البر، فأحضروها في البحر، وخندقوا عليهم، ولم يخرجوا إليه، فسار إلى صيدا، وأغار على ظاهرها، فقتل جماعة من البحرية، وأحرق نحو عشرين مركباً على الساحل، وهو مع ذلك يواصل أهل صور بالكتب يأمرهم بالصبر والفرنج يلازمون قتالهم، وقاتل أهل صور قتال من أيس من الحياة، فدام القتال إلى أوان إدراك الغلات، فخاف الفرنج أن طغتكين يستولي على غلات بلادهم، فساروا عن البلد، عاشر شوال، إلى عكة، وعاد عسكر طغتكين إليه، وأعطاهم أهل صور الأموال وغيرها، ثم أصلحوا ما تشعث من سورها وخندقها، وكان الفرنج قد طموه.
ذكر انهزام الفرنج بالأندلسفي هذه السنة خرج أذفونش الفرنجي، صاحب طليطلة بالأندلس، إلى بلاد الإسلام بها، يطلب ملكها، والاستيلاء عليها، وجمع وحشد فأكثر، وكان قد قوي طمعه فيها بسبب موت أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فسمع أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين الخبر، فسار إليه في عساكره وجموعه، فلقيه، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكان الظفر للمسلمين، وانهزم الفرنج، وقتلوا قتلاً ذريعاً، وأسر منهم بشر كثير، وسبى منهم، وغنم من أموالهم ما يخرج من الأحصاء، فخرج الفرنج، بعد ذلك، وامتنعوا من قصد بلاده، وذل أذفونش حينئذ وعلم أن في البلاد حامياً لها، وذاباً عنها.
وفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، الإمام المشهور.
ثم دخلت سنة ست وخمسمائةفي هذه السنة، في المحرم، سار مودود، صاحب الموصل، إلى الرها، فنزل عليها، ورعى عسكره زروعها، ورحل عنها إلى سروج، وفعل بها كذلك وأهمل الفرنج، ولم يحترز منهم، فلم يشعر إلا وجوسلين، صاحب تل باشر، قد كبسهم، وكانت دواب العسكر منتشرة في المرعى، فأخذ الفرنج كثيراً منها، وقتلوا كثيراً من العسكر، فلما تأهب المسلمون للقائه، عاد عنهم إلى سروج.

وفيها رحل السلطان محمد من بغداد، وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر، فلما وصل إلى أصبهان قبض على زي الملك أبي سعد القمي، وسلمه إلى الأمير كاميار لعداوة بينهما، فلما وصل إلى الري أركبه كاميار على ردابة بمركب ذهب، وأظهر أن السلطان خلع عليه على مال قرره عليه، فحصل بذلك مالاً كثيراً من أهل القمي، ثم صلبه، وكان سبب قبضه أنه كان يكثر الطعن على الخليفة والسلطان.
وفيها كان ببغداد رجل مغربي يعمل الكيمياء، بزعمه، اسمه أبو علي، فحمل إلى دار الخلافة، وكان آخر العهد به.
وفيها ورد إلى بغداد يوسف بن أيوب الهمذاني، الواعظ، وكان من الزهاد العابدين، فوعظ الناس بها، فقام إليه رجل متفقه، يقال له ابن السقاء، فآذاه في مسألة، وعاوده، فقال له: اجلس، فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك تموت على غير دين الإسلام، فاتفق بعد مديدة أن ابن السقاء خرج إلى بلاد الروم، وتنصر.
وفيها، في ذي القعدة، سمع ببغداد صوت هدة عظيمة، ولم يكن بالسماء غيم حتى يظن أنه صوت رعد، ولم يعلم أحد أي صوت كان.
وفيها توفي بسيل الأرمني، صاحب الدروب، ببلاد ابن لاون، فسار طنكري، صاحب أنطاكية، أول جمادى الآخرة، إلى بلاده طمعاً في أن يملكها، فمرض في طريقه، فعاد إلى أنطاكية، فمات ثامن جمادى الآخرة، وملكها بعده ابن أخته سرخالة، واستقام الأمر فيها، بعد أن جرى بين الفرنج خلف بسببه، فأصلح بينهم القسوس والرهبان.
وفيها توفي قراجة، صاحب حمص، وكان ظالماً، وقام ولده قرجان مكانه، وكان مثله في قبح السيرة.
وفي هذه السنة توفي المعمر بن علي أبو سعد بن أبي عمامة الواعظ البغدادي، ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وكان له خاطر حاد، ومجون حسن، وكان الغالب على وعظه أخبار الصالحين.
وتوفي أحمد بن الفرج بن عمر الدينوري، والد شهدة، وكان يروي عن أبي يعلى بن الفراء، وابن المأمون، وابن المهتدي، وابن النقور، وغيرهم، وكان حسن السيرة متزهداً.
وتوفي أبو العلاء صاعد بن منصور بن إسماعيل بن صاعد، الخطيب النيسابوري، وكان من أعيان الفقهاء، وولي قضاء خوارزم، وكان يروي الحديث.
ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة

ذكر قتال الفرنج وانهزامهم وقتل مودود
في هذه السنة، في المحرم، اجتمع المسلمون، وفيهم الأمير مودود بن التونتكين، صاحب الموصل، وتميرك، صاحب سنجار، والأمير إياز بن إيلغازي، وطغتكين، صاحب دمشق.
وكان سبب اجتماع المسلمين أن ملك الفرنج بغدوين تابع الغارات على بلد دمشق، ونهبه، وخربه، أواخر سنة ست وخمسمائة، وانقطعت المواد عن دمشق، فغلت الأسعار فيها، وقلت الأقوات، فأرسل طغتكين صاحبها إلى الأمير مودود يشرح له الحال، ويستنجده، ويحثه على سرعة الوصول إليه، فجمع عسكراً، وسار فعبر الفرات آخر ذي القعدة سنة ست وخمسمائة، فخافه الفرنج.
وسمع طغتكين خبره، فسار إليه، ولقيه بسلمية، واتفق رأيهم على قصد بغدوين، ملك القدس، فساروا إلى الأردن، فنزل المسلمون عند الأقحوانة، ونزل الفرنج مع ملكهم بغدوين وجوسلين، صاحب جيشهم، وغيرهما من المقدمين، والفرسان المشهورين، ودخلوا بلاد الفرنج مع مودود، وجمع الفرنج، فالتقوا عند طبرية ثالث عشر المحرم، واشتد القتال، وصبر الفريقان، ثم إن الفرنج انهزموا، وكثر القتل فيهم والأسر، وممن أسر ملكهم بغدوين، فلم يعرف، فأخذ سلاحه وأطلق فنجا، وغرق منهم في بحيرة طبرية ونهر الأردن كثير، وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم، ووصل الفرنج إلى مضيق دون طبرية، فلقيهم عسكر طرابلس وأنطاكية، فقويت نفوسهم بهم، وعاودوا الحرب، فأحاط بهم المسلمون من كل ناحية، وصعد الفرنج إلى جبل غرب طبرية، فأقاموا به ستة وعشرين يوماً، والمسلمون بإزائهم يرمونهم بالنشاب فيصيبون من يقرب منهم، ومنعوا الميرة عنهم لعلهم يخرجون إلى قتالهم، فلم يخرج منهم أحد، فسار المسلمون إلى بيسان، ونهبوا بلاد الفرنج بين عكا إلى القدس، وخربوها، وقتلوا من ظفروا به من النصارى، وانقطعت المادة عنهم لبعدهم عن بلادهم، فعادوا ونزلوا بمرج الصفر.

وأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة، ثم الاجتماع في الربيع لمعاودة الغزاة، وبقي في خواصه ودخل دمشق في الحادي والعشرين من ربيع الأول ليقيم عند طغتكين إلى الربيع. فدخل الجامع يوم الجمعة في ربيع الأول، ليصلي فيه وطغتكين، فلما فرغوا من الصلاة، وخرج إلى صحن الجامع، ويده في يد طغتكين، وثب عليه باطني فضربه فجرحه أربح جراحات وقتل الباطني، وأخذ رأسه، فلم يعرفه أحد، فأحرق.
وكان صائماً، فحمل إلى دار طغتكين، واجتهد به ليفطر، فلم يفعل، وقال: لا لقيت الله إلا صائماً، فمات من يومه، رحمه الله، فقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله.
وكان خيراً، عادلاً، كثير الخير، حدثني والدي قال: كتب ملك الفرنج إلى طغتكين، بعد قتل مودود، كتاباً من فصوله: أن أمّة قتلت عميدها. يوم عيدها. في بيت معبودها. لحقيق على الله أن يبيدها.
ولما قتل تسلم تميرك، صاحب سنجار، ما معه من الخزائن والسلاح وحملها إلى السلطان، ودفن مودود بدمشق في تربة دقاق صاحبها، وحمل بعد ذلك إلى بغداد، فدفن في جوار أبي حنيفة، ثم حمل إلى أصبهان.
ذكر الخلف بين السلطان سنجر ومحمد والصلح بينهمافي هذه السنة كثر الحديث عند سنجر: أن محمد خان بن سليمان بن داود قد مد يده إلى أموال الرعايا، وظلمهم ظلما كثيراً، وأنه خرب البلاد بظلمه وشره، وأنه قد صار يستخف بأوامر سنجر، ولا يلتفت إلى شيء منها، فتجهز سنجر وجمع عساكره وسار يريد قصده بما وراء النهر، فخاف محمد خان، فأرسل إلى الأمير قماج، وهو أكبر أمير مع سنجر، يسأله أن يصلح الحال بينه وبين سنجر، وأرسل أيضاً إلى خوارزمشاه بمثل ذلك، وسألهما في إرضاء السلطان عنه، واعترف بأنه أخطأ، فأجاب سنجر إلى صلحه على شرط أن يحضر عنده ويطأ بساطه، فأرسل محمد خان يذكر خوفه لسء صنيعه، ولكنه يحضر الخدمة، ويخدم السلطان، وبينهما نهر جيحون، ثم يعاود بعد ذلك الحضور عنده، والدخول إليه، فحسنوا الإجابة إلى ذلك، والاشتغال بغيره، فامتنع، ثم أجاب.
وكان سنجر على شاطيء جيحون من الجانب الغربي، وجاء محمد خان إلى الجانب الشرقي، فترجل وقبل الأرض وسنجر راكب، وعاد كل واحد منهما إلى خيامه، ورجعوا إلى بلادهم، وسكنت الفتنة بينهما.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر، فأتى الخبر إلى بغدوين ملك الفرنج، فسار إليه، وعارضه في البر، فأخذهم أجمعين، ولم ينج منهم إلا القليل، ومن سلم أخذه العرب.
وفي هذه السنة توفي الوزير أبو القاسم علي بن محمد بن جهير، وزير الخليفة المستظهر بالله، ووزر بعده الربيب أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان.
وفيها توفي الملك رضوان بن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، صاحب حلب، وقام بعده بحلب ابنه ألب أرسلان الأخرس، وعمره ست عشرة سنة، وكانت أمور رضوان غير محمودة: قتل أخويه أبا طالب وبهرام، وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه، ولما ملك الأخرس استولى على الأمور لؤلؤ الخادم، ولم يكن للأخرس معه إلا اسم السلطنة، ومعناه للؤلؤ، ولم يكن ألب أرسلان أخرس، وإنما في لسانه حبسة وتمتمة، وأمه بنت باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية، وقتل الأخرس أخوين له أحدهما اسمه ملكشاه، وهو من أبيه وأمه، واسم الآخر مباركشاه، وهو من أبيه، وكان أبوه فعل مثله، فلما توفي قتل ولداه، مكافأة لما اعتمده مع أخويه.
وكان الباطنية قد كثروا بحلب في أيامه، حتى خافهم ابن بديع رئيسها، وأعيان أهلها، فلما توفي قال ابن بديع لألب أرسلان في قتلهم والإيقاع بهم، فأمره بذلك، فقبض على مقدمهم أبي طاهر الصائغ، وعلى جميع أصحابه، فقتل أبا طاهر وجماعة من أعيانهم، وأخذ أموال الباقين وأطلقهم، فمنهم من قصد الفرنج، وتفرقوا في البلاد.
وفي هذه السنة توفي ببغداد أبو بكر أحمد بن علي بن بدران الحلواني الزاهد، منتصف جمادى الأولى، روى الحديث عن القاضي أبي الطيب الطبري، وأبي محمد الجوهري، وأبي طالب العشاري وغيرهم، وروى عنه خلق كثير، ومن آخرهم أبو الفضل عبد الله بن الطوسي، خطيب الموصل.

وإسماعيل بن أحمد بن الحسين بن علي أبو علي بن أبي بكر البيهقي الإمام ابن الإمام، ومولده سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وتوفي بمدينة بيهق، ولوالده تصانيف كثيرة مشهورة.
وشجاع بن أبي شجاع فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ، ومولده سنة ثلاثين وأربعمائة، وروى عن أبيه، وأبي القاسم، وابن المهتدي والجوهري وغيرهم.
والأديب أبو المظفر محمد بن أحمد بن محمد الأبيوردي الشاعر المشهور، وله ديوان حسن، ومن شعره:
تنكر لي دهري، ولم يدر أنني ... أعز، وأحداث الزمان تهون
وظل يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكون
وله أيضاً:
ركبت طرفي، فأذرى دمعه أسفاً ... عند انصرافي منهم، مضمر الياس
وقال: حتام تؤذيني، فإن سنحت ... حوائج لك، فاركبني إلى الناس
وكانت وفاته بأصبهان، وهو ولد عنبسة بن أبي سفيان بن حرب الأموي.
وتوفي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي، الإمام الفقيه الشافعي، في شوال، مولده سنة سبع وعشرين وأربعمائة، سمع أبا بكر الخطيب، وأبا يعلى بن الفراء، وغيرهما، وتفقه على أبي عبد الله محمد بن الكازروني بديار بكر، وعلى أبي إسحاق الشيرازي ببغداد، وعلى أبي نصر بن الصباغ.
وفيها توفي أبو نصر المؤتمن بن أحمد بن الحسن الساجي، الحافظ المقدسي، ومولده سنة خمس وأربعين وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث، وتفقه على أبي سحاق، وكان ثقة.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة

ذكر مسير آقسنقر البرسقي إلى الشام لحرب الفرنج
في هذه السنة سير السلطان محمد الأمير آقسنقر البرسقي إلى الموصل وأعمالها، والياً عليها، لما بلغه قتل مودود، وسير معه ولده الملك مسعوداً في جيش كثيف، وأمره بقتال الفرنج، وكتب إلى سائر الأمراء بطاعته، فوصل إلى الموصل، واتصلت به عساكرها، وفيهم عماد الدين زنكي بن آقسنقر، الذي ملك هو وأولاده الموصل بعد ذلك، وكان له الشجاعة في الغاية.
واتصل به أيضاً تميرك صاحب سنجار وغيرهما، فسار البرسقي إلى جزيرة ابن عمر، فسلمها إليه نائب مودود بها، وسار معه إلى ماردين، فنازلها البرسقي، حتى أذعن له إيلغازي صاحبها، وسير معه عسكراً مع ولده إياز، فسار عنه البرسقي إلى الرها في خمسة عشر ألف فارس، فنازلها في ذي الحجة، وقاتلها، وصبر له الفرنج، وأصابوا من بعض المسلمين غرة، فأخذوا منهم تسعة رجال وصلبوهم على سورها، فاشتد القتال حينئذ، وحمي المسلمون، وقاتلوا، فقتلوا من الفرنج خمسين فارساً من أعيانهم، وأقام عليها شهرين وأياماً.
وضاقت الميرة على المسلمين، فرحلوا من الرها إلى سميساط، بعد أن خربوا بلد الرها وبلد سروج وبلد سميساط وأطاعه صاحب مرعش على ما نذكره، ثم عاد إلى شحنان، فقبض على إياز بن إيلغازي، حيث لم يحضر أبوه، ونهب سواد ماردين.
ذكر طاعة صاحب مرعش وغيرها البرسقيفي هذه السنة توفي بعض كنود الفرنج، ويعرف بكواسيل، وهو صاحب مرعش، وكيسوم، ورعبان وغيرها، فاستولت زوجته على المملكة، وتحصنت من الفرنج، وأحسنت إلى الأجناد، وراسلت آقسنقر البرسقي، وهو على الرها، واستدعت منه بعض أصحابه لتطيعه، فسير إليها الأمير سنقرجة دزدار، صاحب الخابور، فلما وصل إليها أكرمته، وحملت إليه مالاً كثيراً.
وبينما هو عندها إذ جاء جمع من الفرنج، فواقعوا أصحابه، وهم نحو مائة فارس، واقتتلوا قتالاً شديداً ظفر فيه المسلمون بالفرنج، وقتلوا منهم أكثرهم، وعاد سنقرجة دزدار، وقد أصحبته الهدايا للملك مسعود والبرسقي، وأذعنت بالطاعة، ولما عرف الفرنج ذلك عاد كثير ممن عندها إلى أنطاكية.
ذكر الحرب بين البرسقي وإيلغازي وأسر إيلغازيلما قبض البرسقي على إياز بن إيلغازي سار إلى حصن كيفا، وصاحبها الأمير ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان، فاستنجده، فسار معه في عسكره وأحضر خلقاً كثيراً من التركمان، وسار إلى البرسقي، فلقيه، أواخر السنة، واقتتلوا قتالاً شديداً صبروا فيه، فانهزم البرسقي وعسكره، وخلص إياز بن إيلغازي من الأسر، فأرسل السلطان إليه يتهدده، فخافه، وسار إلى الشام إلى حميه طغتكين، صاحب دمشق، فأقام عنده أياماً.

وكان طغتكين أيضاً قد استوحش من السلطان لأنه نسب إليه قتل مودود، فاتفقا على الامتناع، والالتجاء إلى الفرنج، والاحتماء بهم، فراسلا صاحب أنطاكية، وحالفاه، فحضر عندهما على بحيرة قدَس، عند حمص، وجددوا العهود، وعاد إلى أنطاكية، وعاد طغتكين إلى دمشق، وسار إيلغازي إلى الرستن على عزم قصد ديار بكر، وجمع التركمان والعود، فنزل بالرستن ليستريح، فقصده الأمير قرجان بن قراجة، صاحب حمص، وقد تفرق عن إيلغازي أصحابه، فظفر به قرجان وأسره ومعه جماعة من خواصه، وأرسل إلى السلطان يعرفه ذلك، ويسأله تعجيل إنفاذ العساكر لئلا يغلبه طغتكين على إيلغازي.
ولم بلغ طغتكين الخبر عاد إلى حمص، وأرسل في إطلاقه، فامتنع قرجان، وحلف: إن لم يعد طغتكين لنقتلن إيلغازي، فأرسل إيلغازي إلى طغتكين: إن الملاجة تؤذيني، وتسفك دمي، والمصلحة عودك إلى دمشق. فعاد.
وانتظر قرجان وصول العساكر السلطانية، فتأخرت عنه، فخاف أن ينخدع أصحابه لطغتكين، ويسلموا إليه حمص، فعدل إلى الصلح مع إيلغازي على أن يطلقه، ويأخذ ابنه إياز رهينة، ويصاهره، ويمنعه من طغتكين وغيره، فأجابه إلى ذلك، فأطلقه، وتحالفا، وسلم إليه ابنه إياز، وسار عن حمص إلى حلب، وجمع التركمان، وعاد إلى حمص، وطالب بولده إياز، وحصر قرجان إلى أن وصلت العساكر السلطانية، فعاد إيلغازي على ما نذكره.
ذكر وفاة علاء الدولة بن سبكتكين

وملك ابنه وما كان منه مع السلطان سنجر
في هذه السنة، في شوال، توفي الملك علاء الدولة أبو سعد مسعود بن أبي المظفر إبراهيم بن أبي سعد مسعود بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، بها، وملك بعده ابنه أرسلانشاه، وأمه سلجوقية، وهي أخت السلطان ألب أرسلان بن داود، فقبض على إخوته وسجنهم، وهرب أخ له اسمه بهرام إلى خراسان، فوصل إلى السلطان سنجر بن ملكشاه، فأرسل إلى أرسلانشاه في معناه، فلم يسمع منه، ولا أصغى إلى قوله، فتجهز سنجر للمسير إلى غزنة، وإقامة بهرامشاه في الملك.
فأرسل أرسلانشاه إلى السلطان محمد يشكو من أخيه سنجر، فأرسل السلطان إلى أخيه سنجر يأمره بمصالحة أرسلانشاه، وترك التعرض له، وقال للرسول: إن رأيت أخي وقد قصدهم، وسار نحوهم، أو قارب أن يسير، فلا تمنعه، ولا تبلغه الرسالة، فإن ذلك يفت في عضده ويوهنه، ولا يعود، ولأن يملك أخي الدنيا أحب إلي. فوصل الرسول إلى سنجر، وقد جهز العساكر إلى غزنة، وجعل على مقدمته الأمير أنر، متقدم عسكره، ومعه الملك بهرامشاه، فساروا حتى بلغوا بست، واتصل بهم فيها أبو الفضل نصر بن خلف، صاحب سجستان.
وسمع أرسلانشاه الخبر، فسير جيشاً كثيفاً، فهزماه، ونهباه، وعاد من سلم إلى غزنة على أسوأ حال، فخضع حينئذ أرسلانشاه وأرسل إلى الأمير أنر يضمن له الأموال الكثيرة ليعود عنه، ويحسن للملك سنجر العود عنه، فلم يفعل.
وتجهز السلطان سنجر، بعد أنر، للمسير بنفسه، فأرسل إليه أرسلانشاه امرأة عمه نصر تسأله الصفح والعود عن قصده، وهي أخت الملك سنجر من السلطان بركيارق، وكان علاء الدولة أبو سعد قد قتل زوجها، ومنعها من الخروج عن غزنة وتزوجها، فسيرها الآن أرسلانشاه، فلما وصلت إلى أخيه أوصلت ما معها من الأموال والهدايا، وكان معها مائتا ألف دينار، وغير ذلك، وطلب من سنجر أن يسلم أخاه بهرام إليه.

وكانت موغرة الصدر من أرسلانشاه، فهونت أمره على سنجر، وأطمعته في البلاد، وسهلت الأمر عليه، وذكرت له ما فعل بإخوته، وكان قتل بعضاً وكحل بعضاً من غير خروج منهم عن الطاعة. فسار الملك سنجر، فلما وصل إلى بست أرسل خادماً من خواصه إلى أرسلانشاه في رسالة، فقبض عليه في بعض القلاع، فسار حينئذ سنجر مجداً، فلما سمع بقربه منه أطلق الرسول، ووصل سنجر إلى غزنة، ووقع بينهما المصاف على فرسخ من غزنة، بصحراء شهراباذ، وكان أرسلانشاه في ثلاثين ألف فارس، وخلق كثير من الرجالة، ومعه مائة وعشرون فيلاً، على كل فيل أربعة نفر، فحملت الفيلة على القلب، وفيه سنجر، فكان من فيه ينهزمون، فقال سنجر لغلمانه الأتراك ليرموها بالنشاب، فتقدم ثلاثة آلاف غلام، فرموا الفيلة رشقاً واحداً جميعاً، فقتلوا منها عدة، فعدلت الفيلة عن القلب إلى الميسرة، وبها أبو الفضل صاحب سجستان، وجالت عليهم، فضعف من في الميسرة، فشجعهم أبو الفضل، وخوفهم من الهزيمة مع بعد ديارهم، وترجل عن فرسه بنفسه، وقصد كبير الفيلة ومتقدمها، ودخل تحتها فشق بطنها، وقتل فيلين آخرين.
ورأى الأمير أنر، وهو في الميمنة، ما في الميسرة من الحرب، فخاف عليها، فحمل من وراء عسكر غزنة، وقصد الميسرة، واختلط بهم، وأعانهم، فكانت الهزيمة على الغزنوية، وكان ركاب الفيلة قد شدوا أنفسهم عليها بالسلاسل، فلما عضتهم الحرب، وعمل فيهم السيف، ألقوا أنفسهم، فبقوا معلقين عليها.
ودخل السلطان سنجر غزنة في العشرين من شوال سنة عشر وخمسمائة، ومعه بهرامشاه. فأما القلعة الكبيرة المشتملة على الأموال، وبينها وبين البلد تسعة فراسخ، وهي عظيمة، فلا مطمع فيها، ولا طريق عليها.
وكان أرسلانشاه قد سجن فيها أخاه طاهراً الخازن، وهو صاحب بهرامشاه، واعتقل بها أيضاً زوجة بهرامشاه، فلما انهزم أرسلانشاه استمال أخوه طاهر المستحفظ بها، فبذل له وللأجناد الزيادات، فسلموا القلعة إلى الملك سنجر.
وأما قلعة البلد فإن أرسلانشاه كان اعتقل بها رسول سنجر، فلما أطلقه بقي غلمانه بها، فسلموا القلعة أيضاً بغير قتال.
وكان قد تقرر بين بهرامشاه وبين سنجر أن يجلس بهرام على سرير جده محمود بن سبكتكين وحده، وأن تكون الخطبة بغزنة للخليفة، وللسلطان محمد، وللملك سنجر، وبعدهم لبهرامشاه. فلما دخلوا غزنة كان سنجر راكباً، وبهرامشاه بين يديه راجلاً، حتى جاء السرير، فصعد بهرامشاه فجلس عليه، ورجع سنجر، وكان يخطب له بالملك، ولبهرامشاه بالسلطان، على عادة آبائه، فكان هذا من أعجب ما يسمع به.
وحصل لأصحاب سنجر من الأموال ما لا يحد ولا يحصى من السلطان والرعايا، وكان في دور لملوكها عدة دور على حيطانها ألواح الفضة، وسواقي المياه إلى البساتين من الفضة أيضاً، فقلع من ذلك أكثره، ونهب، فلما سمع سنجر ما يفعل منه عنه بجهده، وصلب جماعة حتى كف الناس.
وفي جملة ما حصل للملك سنجر خمسة تيجان قيمة أحدها تزيد على ألفي ألف دينار، وألف وثلاثمائة قطعة مصاغة مرصعة، وسبعة عشر سريراً من الذهب والفضة. وأقام بغزنة أربعين يوماً، حتى استقر بهرامشاه، وعاد نحو خراسان، ولم يخطب بغزنة لسلجوقي قبل هذا الوقت، حتى إن السلطان ملكشاه مع تمكنه وكثرة ملكه لم يطمع فيه، وكان كلما رام ذلك منع منه نظام الملك.
وأما أرسلانشاه فإنه لما انهزم قصد هندوستان واجتمع عليه أصحابه، فقويت شوكته، فلما عاد سنجر إلى خراسان توجه إلى غزنة، فلما عرف بهرامشاه قصده إياه توجه إلى باميان، وأرسل إلى الملك سنجر يعلمه الحال، فأرسل إليه عسكراً.
وأقام أرسلانشاه بغزنة شهراً واحداً، وسار يطلب أخاه بهرامشاه، فبلغه وصول عسكر سنجر، فانهزم بغير قتال للخوف الذي باشر قلوب أصحابه، ولحق بجبال أوغنان، فسار أخوه بهرامشاه وعسكر سنجر في أثره، وخربوا البلاد التي هو فيها، وأرسلوا إلى أهلها يتهددونهم، فسلموه بعد المضايقة، فأخذه متقدم جيش الملك سنجر، وأراد حمله إلى صاحبه، فخاف بهرامشاه من ذلك، فبذل له مالاً، فسلمه إليه، فخنقه ودفنه بتربة أبيه بغزنة، وكان عمره سبعاً وعشرين سنة، وكان أحسن إخوته صوراً، وكان قتله في جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وإنما ذكرناه هاهنا لتتصل الحادثة.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، كانت زلزلة شديدة بديار الجزيرة، والشام، وغيرها، فخربت كثيراً من الرها، وحزان، وسميساط، وبالس وغيرها، وهلك خلق كثير تحت الهدم.
وفيها قتل تاج الدولة ألب أرسلان بن رضوان، صاحب حلب، قتله غلمانه بقلعة حلب، وأقاموا بعده أخاه سلطان شاه بن رضوان، وكان المستولي عليه لؤلؤ الخادم.
وفيها توفي الشريف النسيب أبو القاسم علي بن إبراهيم بن العباس الحسيني، في ربيع الآخر بدمشق.
ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة

ذكر انهزام عسكر السلطان من الفرنج
قد ذكرنا ما كان من عصيان إيلغازي وطغتكين على السلطان، وقوة الفرنج، فلما اتصل ذلك بالسلطان محمد جهز عسكراً كثيراً، وجعل مقدمهم الأمير برسق بن برسق، صاحب همذان، ومعه الأمير جيوش بك والأمير كنتغدي، وعساكر الموصل والجزيرة، وأمرهم بالبداية بقتال إيلغازي وطغتكين، فإذا فرغوا منهما قصدوا بلاد الفرنج، وقاتلوهم، وحصروا بلادهم.
فساروا في رمضان من سنة ثمان وخمسمائة، وكان عسكراً كثير العدة، وعبروا الفرات، آخر السنة، عند الرقة، فلما قاربوا حلب راسلوا المتولي لأمرها لؤلؤاً الخادم، ومقدم عسكرها المعروف بشمس الخواص، يأمرونهما بتسليم حلب، وعرضوا عليهما كتب السلطان بذلك، فغالطا في الجواب، وأرسلا إلى إيلغازي وطغتكين يستنجدانهما، فسارا إليهم في ألفي فارس، ودخلا حلب، فامتنع من بها حينئذ عن عسكر السلطان، وأظهروا العصيان، فسار الأمير برسق بن برسق إلى مدينة حماة، وهي في طاعة طغتكين، وبها ثقله، فحصرها، وفتحها عنوة، ونهبها ثلاثة أيام، وسلمها إلى الأمير قرجان، صاحب حمص.
وكان السلطان قد أمر أن يسلم إليه كل بلد يفتحونه، فلما رأى الأمراء ذلك فشلوا وضعفت نياتهم في القتال، بحيث تؤخذ البلاد وتسلم إلى قرجان، فلما سلموا حماة إلى قرجان سلم إليهم إياز بن إيلغازي، وكان قد سار إيلغازي، وطغتكين، وشمس الخواص، إلى أنطاكية واستجاروا بصاحبها روجيل، وسألوه أن يساعدهم على حفظ مدينة حماة، ولم يكن بلغهم فتحها.
ووصل إليهم بأنطاكية بغدوين، صاحب القدس، وصاحب طرابلس، وغيرهما من شياطين الفرنج، واتفق رأيهم على ترك اللقاء لكثرة المسلمين، وقالوا إنهم عند هجوم الشتاء يتفرقون، واجتمعوا بقلعة أفامية، وأقاموا نحو شهرين، فلما انتصف أيلول، ورأوا عزم المسلمين على المقام، تفرقوا، فعاد إيلغازي إلى ماردين، وطغتكين إلى دمشق، والفرنج إلى بلادها.
وكانت أفامية وكفرطاب للفرنج، فقصد المسلمون كفرطاب وحصروها، فلما اشتد الحصر على الفرنج، ورأوا الهلاك، قتلوا أولادهم ونساءهم وأحرقوا أموالهم، ودخل المسلمون البلد عنوة وقهراً، وأسروا صاحبه، وقتلوا من بقي فيه من الفرنج، وساروا إلى قلعة أفامية، فرأوها حصينة، فعادوا عنها إلى المعرة، وهي للفرنج أيضاً، وفارقهم الأمير جيوش بكل إلى وادي بزاعة فملكه.
وسارت العساكر عن المعرة إلى حلب، وتقدمهم ثقلهم ودوابهم، على جاري العادة، والعساكر في أثره متلاحقة، وهم آمنون لا يظنون أحداً يقدم على القرب منهم.
وكان روجيل، صاحب أنطاكية، لما بلغه حصر كفرطاب، سار في خمسمائة فارس وألفي راجل للمنع، فوصل إلى المكان الذي ضربت فيه خيام المسلمين، على غير علم بها، فرآها خالية من الرجال المقاتلة، لأنهم لم يصلوا إليها، فنهب جميع ما هناك، وقتل كثيراً من السوقية، وغلمان العسكر، ووصلت العساكر متفرقة، فكان الفرنج يقتلون كل من وصل إليهم.
ووصل الأمير برسق في نحو مائة فارس، فرأى الحال، فصعد تلاً هناك، ومعه أخوه زنكي، وأحاط بهم من السوقية والغلمان، واحتموا بهم، ومنعوا الأمير برسق من النزول، فأشار عليه أخوه ومن معه بالنزول والنجاة بنفسه، فقال: لا أفعل، بل أقتل في سبيل الله، وأكون فداء المسلمين، فغلبوه على رأيه، فنجا هو ومن معه، فتبعهم الفرنج نحو فرسخ، ثم عادوا وتمموا الغنيمة والقتل، وأحرقوا كثيراً من الناس. وتفرق العسكر، وأخذ كل واحد جهة.
ولما سمع الموكلون بالأسرى المأخوذين من كفرطاب ذلك قتلوهم، وكذلك فعل الموكل بإياز بن إيلغازي قتله أيضاً، وخاف أهل حلب وغيرها من بلاد المسلمين التي بالشام، فإنهم كانوا يرجون النصر من جهة هذا العسكر، فأتاهم ما لم يكن في الحساب، وعادت العساكر عنهم إلى بلادها.

وأما برسق وأخوه زنكي فإنهما توفيا في سنة عشر وخمسمائة، وكان برسق خيراً، ديناً، وقد ندم على الهزيمة، وهو يتجهز للعود إلى الغزاة، فأتاه أجله.
ذكر ملك الفرنج رفنية وأخذها منهمفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، ملك الفرنج رفنية من أرض الشام، وهي لطغتكين، صاحب دمشق، وقووها بالرجال والذخائر، وبالغوا في تحصينها، فاهتم طغتكين لذلك، وقوي عزمه على قصد بلاد الفرنج بالنهب لها والتخريب، فأتاه الخبر عن رفنية بخلوها من عسكر يمنع عنها، وليس هناك إلا الفرنج الذين رتبوا لحفظها، فسار إليها جريدة، فلم يشعر من بها إلا وقد هجم عليهم البلد فدخله عنوة وقهراً، وأخذ كل من فيه من الفرنج أسيراً، فقتل البعض، وترك البعض، وغنم المسلمون من سوادهم، وكراعهم، وذخائرهم ما امتلأت منه أيديهم، وعادوا إلى بلادهم سالمين.
ذكر وفاة يحيى بن تميم

وولاية ابنه علي
في هذه السنة توفي يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، يوم عيد الأضحى، فجأة، وكان منجم قد قال له في منستير مولده إن عليه قطعاً في هذا اليوم، فلا يركب، فلم يركب، وخرج أولاده وأهل دولته إلى المصلى، فلما انقضت الصلاة حضروا عنده للسلام عليه وتهنئته، وقرأ القراء، وأنشد الشعراء، وانصرفوا إلى الطعام، فقام يحيى من باب آخر ليحضر معهم على الطعام، فلم يمش غير ثلاث خطا حتى وقع ميتاً وكان ولده علي بمدينة سفاقس، فأحضر وعقدت له الولاية، ودفن يحيى بالقصر، ثم نقل إلى التربة بمنستير، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وخمسة عشر يوماً، وكانت ولايته ثماني سنين وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوماً، وخلف ثلاثين ولداً، فقال عبد الجبار بن محمد بن حمديس الصقلي يرثيه ويهنيء ابنه علياً بالملك:
ما أغمد العضب إلا جرد الذكر، ... ولا اختفى قمر حتى بدا قمر
بموت يحيى أميت الناس كلهم، ... حتى إذا ما علي جاءهم نشروا
إن يبعثوا بسرور من تملكه ... فمن منية يحيى بالأسى قبروا
أوفى علي، فسن الملك ضاحكة، ... وعينها من أبيه دمعها همر
شقت جيوب المعالي بالأسى فبكت ... في كل أفق عليه الأنجم الزهر
وقل لابن تميم حزن ما دهما، ... فكل حزن عظيم فيه محتقر
قام الدليل ويحيى لا حياة له، ... إن المنية لا تبقي، ولا تذر
وكان يحيى عادلاً في رعيته، ضابطاً لأمور دولته، مدبراً لجميع أحواله، رحيماً بالضعفاء والفقراء، يكثر الصدقة عليهم، ويقرب أهل العلم والفضل، وكان عالماً بالأخبار، وأيام الناس، والطب، وكان حسن الوجه، أشهل العين، إلى الطول ما هو.
ولما استقر علي في الملك جهز أسطولاً إلى جزيرة جربة، وسببه أن أهلها كانوا يقطعون الطريق، ويأخذون التجار، فحصرها، وضيق على من فيها فدخلوا تحت طاعته، والتزموا ترك الفساد، وضمنوا إصلاح الطريق، وكف عنهم عند ذلك، وصلح أمر البحر، وأمن المسافرون.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في رجب، قدم السلطان محمد بغداد، ووصل إليه أتابك طغتكين، صاحب دمشق، في ذي القعدة، وسأل الرضا عنه، فرضي عنه السلطان، وخلع عليه، ورده إلى دمشق.
وفيها أمر الإمام المستظهر بالله ببيع البدرية، وهي منسوبة إلى بدر غلام المعتضد بالله، وكانت من أحسن دور الخلفاء، وكان ينزلها الراضي بالله، ثم تهدمت وصارت تلاً، فأمر القادر بالله أن يسور عليها سور، لأنها مع الدار الإمامية، ففعل ذلك، فلما كان الآن أمر ببيعها فبيعت، وعمرها الناس.
وفيها، في شعبان، وقعت الفتنة بين العامة، وسببها أن الناس لما عادوا من زيارة مصعب اختصموا على من يدخل أولاً، فاقتتلوا، وقتل بينهم جماعة، وعادت الفتن بين أهل المحال كما كانت، ثم سكنت.
وفيها أقطع السلطان محمد الموصل وما كان بيد آقسنقر البرسقي للأمير جيوش بك، وسير ولده الملك مسعوداً، وأقام البرسقي بالرحبة، وهي إقطاعه، إلى أن توفي السلطان محمد، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها توفي إسماعيل بن محمد بن أحمد بن ملة الأصبهاني، أبو عثمان بن أبي سعيد الواعظ، سمع الكثير، وحدس ببغداد وغيرها، وعبد الله بن المبارك بن موسى السقطي، أبو البركات، له رحلة، وله تصانيف، وكان أديباً.

ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة
ذكر قتل أحمديل بن وهسوذان
في هذه السنة، أول المحرم، حضر أتابك طغتكين، صاحب دمشق، دار السلطان محمد ببغداد، وحضر جماعة الأمراء، ومعهم أحمديل بن إبراهيم بن وهسوذان الروادي، الكردي، صاحب مراغة وغيرها من أذربيجان، وهو جالس إلى جانب طغتكين، فأتاه رجل متظلم، وبيده رقعة، وهو يبكي، ويسأله أن يوصلها إلى السلطان، فأخذها من يده، فضربه الرجل بسكين، فجذبه أحمديل وتركه تحته، فوثب رفيق للباطني وضرب أحمديل سكيناً أخرى، فأخذتهما السيوف، وأقبل رفيق لهما وضرب أحمديل ضربة أخرى، فعجب الناس من إقدامه بعد قتل صاحبيه، وظن طغتكين والحاضرون أن طغتكين كان المقصود بالقتل، وأنه بأمر السلطان، فلما علموا أنهم باطنية زال هذا الوهم.
ذكر وفاة جاولي سقاوو
وحال بلاد فارس معه
في هذه السنة توفي جاولي سقاوو، وكان السلطان ببغداد عازماً على المقام بها، فاضطر إلى المسير إلى أصبهان ليكون قريباً من فارس، لئلا تختلف عليه، وقد ذكرنا حال جاولي بالموصل إلى أن ملكت منه وأخذها السلطان، فلما قصد السلطان ورضي عنه أقطعه بلاد فارس، فسار جاولي إليها، ومعه ولد السلطان جغري، وهو طفل له من العمر سنتان، وأمره بإصلاحها، وقمع المفسدين بها، فسار إليها، فأول ما اعتمده فيها أنه لم يتوسط بلاد الأمير بلدجي، وهو من كبار مماليك السلطان ملكشاه، ومن جملة بلاده كليل وسرماه، وكان متمكناً بتلك البلاد.
وراسله جاولي ليحضر خدمة جغري، ولد السلطان، وعلم جغري أن يقول بالفارسية خذوه، فلما دخل بلدجي قال جغري، على عادته: خذوه، فأخذ وقتل، ونهبت أمواله.
وكان لبلدجي، من جملة حصونه، قلعة إصطخر، وهي من أمنع القلاع وأحصنها، وكان بها أهله وذخائره، وقد استناب في حفظها وزيراً له يعرف بالجهرمي، فعصى عليه، وأخرج إليه أهله وبعض المال، ولم تزل في يد الجهرمي حتى وصل جاولي إلى فارس فأخذها منه، وجعل فيها أمواله.
وكان بفارس جماعة من أمراء الشوانكارة، وهم خلق كثير لا يحصون، ومقدمهم الحسن بن المبارز، المعروف بخسرو، وله فسا وغيرها، فراسله جاولي ليحضر خدمة جغري، فأجاب: إنني عبد السلطان، وفي طاعته، فأما الحضور فلا سبيل إليه، لأنني قد عرفت عادتك مع بلدجي وغيره، ولكنني أحمل إلى السلطان ما يؤثره. فلما سمع جاولي جوابه علم أنه لا مقام له بفارس معه، فأظهر العود إلى السلطان، وحمل أثقاله على الدواب، وسار كأنه يطلب السلطان، ورجع الرسول إلى خسرو فأخبره، فاغتر وقعد للشرب، وأمن.
وأما جاولي فإنه عاد من الطريق إلى خسرو جريدة في نفر يسير، فوصل إليه وهو مخمور نائم، فكبسه، فأنبهه أخوه فضلوه، فلم يستيقظ، فصب عليه الماء البارد، فأفاق، وركب من وقته وانهزم، وتفرق أصحابه، ونهب جاولي ثقله وأمواله، وأكثر القتل في أصحابه، ونجا خسرو إلى حصنه، وهو بين جبلين، يقال لأحدهما أنج.
وسار جاولي إلى مدينة فسا فتسلمها، ونهب كثيراً من بلاد فارس منها جهرم، وسار إلى خسرو، وحصره مدة، وضيق عليه، فرأى من امتناع حصنه وقوته، وكثرة ذخائره ما علم معه أن المدة تطول عليه، فصالحه ليشتغل بباقي بلاد فارس، ورحل عنه إلى شيراز، فأقام بها، ثم توجه إلى كارزون فملكها، وحصر أبا سعد محمد بن مما في قلعته، وأقام عليها سنتين صيفاً وشتاء، فراسله جاولي في الصلح، فقتل الرسول، فأرسل إليه قوماً من الصوفية، فأطعمهم الهريسة والقطائف، ثم أمر بهم فخيطت أدبارهم وألقوا في الشمس فهلكوا، ثم نفذ ما عند أبي سعد، فطلب الأمان فأمنه، وتسلم الحصن.
ثم إن جاولي أساء معاملته، فهرب، فقبض على أولاده، وبث الرجال في أثره، فرأى بعضهم زنجياً يحمل شيئاً، فقال: ما معك؟ فقال: زادي، ففتشه، فرأى دجاجاً، وحلواء السكر، فقال: ما هذا من طعامك! فضربه، فأقر على أبي سعد، وأنه يحمل ذلك إليه، فقصدوه، وهو في شعب جبل، فأخذه الجندي وحمله إلى جاولي فقتله.
وسار إلى داربجرد، وصاحبها اسمه إبراهيم، فهرب صاحبها منه إلى كرمان خوفاً منه، وكان بينه وبين صاحب كرمان صهر، وهو أرسلانشاه بن كرمانشاه بن أرسلان بك بن قاورت، فقال له: لو تعاضدنا لم يقدر علينا جاولي، وطلب منه النجدة.

وسار جاولي بعد هربه منه إلى حصار رتيل رننه، يعني مضيق رننه، وهو موضع لم يؤخذ قهراً قط، لأنه واد نحو فرسخين، وفي صدره قلعة منيعة على جبل عال، وأهل داربجرد يتحصنون به إذا خافوا، فأقاموا به، وحفظوا أعلاه.
فلما رأى جاولي حصانته سار يطلب البرية نحو كرمان، كاتماً أمره، ثم رجع من طريق كرمان إلى داربجرد، مظهراً أنه من عسكر الملك أرسلانشاه، صاحب كرمان، فلم يشك أهل الحصن أنهم مدد لهم مع صاحبهم، فأظهروا السرور، وأذنوا له في دخول المضيق، فلما دخله وضع السيف فيمن هناك، فلم ينج غير القليل، ونهب أموال أهل داربجرد وعاد إلى مكانه، وراسل خسرو يعلمه أنه عازم على التوجه إلى كرمان، ويدعوه إليه، فلم يجد بداً من موافقته، فنزل إليه طائعاً، وسار مع إلى كرمان، وأرسل إلى صاحبها القاضي أبا طاهر عبد الله بن طاهر قاضي شيراز، يأمره بإعادة الشوانكارة لأنهم رعية السلطان، يقول: إنه متى أعادهم عاد عن قصد بلاده، وإلا قصده، فأعاد صاحب كرمان جواب الرسالة يتضمن الشفاعة فيهم، حيث استجاروا به.
ولما وصل الرسول إلى جاولي أحسن إليه، وأجزل له العطاء، وأفسده على صاحبه، وجعله عيناً له عليه، وقرر معه إعادة عسكر كرمان ليدخل البلاد وهم غارون، فلما عاد الرسول وبلغ السيرجان، وبها عساكر صاحب كرمان، ووزيره مقدم الجيش، أعلم الوزير ما عليه جاولي من المقاربة، وأنه يفارق ما كرهوه، وأكثر من هذا النوع، وقال: لكنه مستوحش من اجتماع العساكر بالسيرجان، وإن أعداء جاولي طمعوا فيه بهذا العسكر، والرأي أن تعاد العساكر إلى بلادها.
فعاد الوزير والعساكر، وخلت السيرجان، وسار جاولي في أثر الرسول، فنزل بفرج، وهي الحد بين فارس وكرمان، فحاصرها، فلما بلغ ذلك ملك كرمان أحضر الرسول وأنكر عليه إعادة العسكر، فاعتذر إليه. وكان مع الرسول فراش لجاولي ليعود إليه بالأخبار، فارتاب به الوزير، فعاقبه، فأقر على الرسول، فصلب، ونهبت أمواله، وصلب الفراش، وندب العساكر إلى المسير إلى جاولي، فساروا في ستة آلاف فارس.
وكانت الولاية التي هي الحد بين فارس وكرمان بيد إنسان يسمى موسى، وكان ذا رأي ومكر، فاجتمع بالعسكر، وأشار عليهم بترك الجادة المسلوكة، وقال: إن جاولي محتاط منها، وسلك بهم طريقاً غير مسلوكة، بين جبال ومضايق.
وكان جاولي يحاصر فرج، وقد ضيق على من بها، وهو يدمن الشرب، فسير أميراً في طائفة من عسكره ليلقى العسكر المنفذ من كرمان، فسار الأمير، فلم ير أحداً، فظن أنهم قد عادوا، فرجع إلى جاولي وقال: إن العسكر كان قليلاً، فعاد خوفاً منا، فاطمأن حينئذ جاولي، وأدمن شرب الخمر.
ووصل عسكر كرمان إليه ليلاً، وهو سكران، نائم، فأيقظه بعض أصحابه وأخبره، فقطع لسانه، فأتاه غيره وأيقظه وعرفه الحال، فاستيقظ وركب وانهزم، وقد تفرق عسكره منهزمين، فقتل منهم وأسر كثير، وأدركه خسرو وابن أبي سعد الذي قتل جاولي أباه، فسارا معه في أصحابهما، فلم ير معه أحداً من أصحابه الأتراك، فخاف على نفسه منهم، فقالا له: إنا لا نغدر بك، ولن ترى منا إلا الخير والسلامة، وسارا معه، حتى وصل إلى مدينة فسا، واتصل به المنهزمون من أصحابه، وأطلق صاحب كرمان الأسرى وجهزهم، وكانت هذه الوقعة في شوال سنة ثمان وخمسمائة.
وبينما جاولي يدبر الأمر ليعاود كرمان، ويأخذ بثأره، توفي الملك جغري ابن السلطان محمد، وعمره خمس سنين، وكانت وفاته في ذي الحجة سنة تسع وخمسمائة، ففت ذلك في عضده، فأرسل ملك كرمان رسولاً إلى السلطان، وهو ببغداد، يطلب منه منع جاولي عنه، فأجابه السلطان أنه لا بد من إرضاء جاولي وتسليم فرج إليه، فعاد الرسول في ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة، فتوفي جاولي، فأمنوا ما كانوا يخافونه، فلما سمع السلطان سار عن بغداد إلى أصبهان، خوفاً على فارس من صاحب كرمان.
ذكر فتح جبل وسلات وتونسفي هذه السنة حصر عسكر علي بن يحيى، صاحب إفريقية، مدينة تونس، وبها أحمد بن خراسان، وضيق على من بها، فصالحه على ما أراد.

وفيها فتح أيضاً جبل وسلات بإفريقية، واستولى عليه، وهو جبل منيع، ولم يزل أهله، طول الدهر، يفتكون بالناس، ويقطعون الطريق، فلما استمر ذلك منهم سير إليهم جيشاً، فكان أهل الجبل ينزلون إلى الجيش، ويقاتلون أشد قتال، فعمل قائد الجيش الحيلة في الصعود إلى الجبل من شعب لم يكن أحد يظن أنه يصعد منه، فلما صار في أعلاه، في طائفة من أصحابه، ثار إليه أهل الجبل، فصبر لهم، وقاتلهم فيمن مع أشد قتال، وتتابع الجيش في الصعود إليه، فانهزم أهل الجبل، وكثر القتل فيهم، ومنهم من رمى نفسه فتكسر، ومنهم من أفلت، واحتمى جماعة كثيرة بقصر في الجبل، فلما أحاط بهم الجيش طلبوا أن يرسل إليهم من يصلح حالهم، فأرسل إليهم جماعة من العرب والجند، فثار بهم أولئك بالسلاح، فقتلوا بعضهم، وطلع الباقون إلى أعلى القصر، ونادوا أصحابهم من الجيش، فأتوهم وقاتلوهم: بعضهم من أعلى القصر، وبعضهم من أسفله، فألقى من فيه من أهل الجبل أيديهم، فقتلوا كلهم.
ذكر الفتنة بطوسفي هذه السنة، في عاشوراء، كانت فتنة عظيمة بطوس، في مشهد علي بن موسى الرضا عليه السلام.
وسببها: أن علوياً خاصم، في المشهد، يوم عاشوراء، بعض فقهاء طوس، فأدى ذلك إلى مضاربة، وانقطعت الفتنة، ثم استعان كل منهما بحزبه، فثارت فتنة عظيمة حضرها جميع أهل طوس، وأحاطوا بالمشهد وخربوه، وقتلوا من وجدوا، فقتل بينهم جماعة ونهبت أموال جمة، وافترقوا.
وترك أهل المشهد الخطبة أيام الجمعات فيه، فبنى عليه عضد الدين فرامرز بن علي سوراً منيعاً يحتمي به من بالمشهد على من يريده بسوء، وكان بناؤه سنة خمس عشرة وخمسمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقعت النار في الحظائر المجاورة للمدرسة النظامية ببغداد، فاحترقت الأخشاب التي بها، واتصل الحريق إلى درب السلسلة، وتطاير الشرر إلى باب المراتب، فاحترقت منه عدة دور، واحترقت خزانة كتب النظامية، وسلمت الكتب، لأن الفقهاء لما أحسوا بالنار نقلوها.
وفيها توفي عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول أبو محمد الأندلسي، السرقسطي، وكان فقيهاً، فاضلاً، ورد العراق نحو سنة خمسمائة، وسار إلى خراسان، فسكن مرو الروذ، فمات بها، وله شعر حسن، فمنه:
ومهفهف يختال في أبراده، ... مرح القضيب اللدن تحت البارح
أبصرت في مرآة فكري خده، ... فحكيت فعل جفونه بجوارحي
ما كنت أحسب أن فعل توهمي ... يقوى تعديه، فيجرح جارحي
لا غرو إن جرح التوهم خده، ... فالسحر يعمل في البعيد النازح
وفيها، في شعبان، توفي أبو القاسم علي بن محمد بن أحمد بن بيان الرزاز، ومولده في صفر سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وهو آخر من حدث عن أبي الحسن بن مخلد، وأبي القاسم بن بشران.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني، رئيس الشافعية، بمرو، ومولده سنة ست وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير وصنف فيه، وله فيه أمال حسنة، وتكلم على الحديث، فأحسن ما شاء.
وفيها توفي محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني أبو الخطاب الفقيه الحنبلي، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتفقه على أبي يعلى بن الفراء.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة

ذكر وفاة السلطان محمد
وملك ابنه محمود
في هذه السنة، في الرابع والعشرين من ذي الحجة، توفي السلطان محمد ابن ملكشاه بن ألب أرسلان، وكان ابتداء مرضه في شعبان، وانقطع عن الركوب، وتزايد مرضه، ودام، وأرجف عليه بالموت، فلما كان يوم عيد النحر حضر السلطان، وحضر ولده السلطان محمود على السماط، فنهبه الناس، ثم أذن لهم فدخلوا إلى السلطان محمد، وقد تكلف القعود لهم، وبين يديه سماط كبير، فأكلوا وخرجوا. فلما انتصف ذو الحجة أيس من نفسه، فأحضر ولده محموداً، وقبله، وبكى كل واحد منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة، وينظر في أمور الناس، وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة، فقال لوالده: إنه يوم غير مبارك، يعني من طريق النجوم، فقال: صدقت، ولكن على أبيك، وأما عليك فمبارك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين.

وفي يوم الخميس الرابع والعشرين أحضر الأمراء وأعلموا بوفاته، وقرئت وصيته إلى ولده محمود يأمره بالعدل والإحسان، وفي الجمعة الخامس والعشرين منه خطب لمحمود بالسلطنة.
وكان مولد السلطان محمود ثامن عشر شعبان من سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وكان عمره سبعاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وأول ما دعي له بالسلطنة، ببغداد، في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين، وقطعت خطبته عدة دفعات على ما ذكرناه، ولقي من المشاق والأخطار ما لا حد له، فلما توفي أخوه بركيارق صفت له السلطنة، عظمت هيبته، وكثرت جيوشه وأمواله، وكان اجتمع الناس عليه اثنتي عشرة سنة وستة أشهر.
ذكر بعض سيرتهكان عادلاً، حسن السيرة، شجاعاً، فمن عدله أنه اشترى مماليك من بعض التجار، وأحالهم بالثمن على عامل خوزستان، فأعطاهم البعض، ومطل بالباقي، فحضروا مجلس الحكم، وأخذوا معهم غلمان القاضي، فلما رآهم السلطان قال لحاجبه: انظر ما حال هؤلاء، فسألهم عن حالهم، فقالوا: لنا خصم يحضر معنا مجلس الحكم، فقال: من هو؟ قالوا: السلطان، وذكروا قصتهم، فأعلمه ذلك، فاشتد عليه وأكره، وأمر بإحضار العامل، وأمره بإيصال أموالهم، والجعل الثقيل، ونكل به حتى يمتنع غيره عن مثل فعله، ثم إنه كان يقول بعد ذلك: لقد ندمت ندماً عظيماً حيث لم أحضر معهم مجلس الحكم، فيقتدي بي غيري، ولا يمتنع أحد عن الحضور فيه وأداء الحق.
فمن عدله: أنه كان له خازن يعرف بأبي أحمد القزويني قتله الباطنية، فلما قتل أمر بعرض الخزانة، فعرض عليه فيها درج فيه جوهر كثير نفيس، فقال إن هذا الجوهر عرضه علي، منذ أيام، وهو في ملك أصحابه، وسلمه إلي خادم ليحفظه وينظر من أصحابه فيسلم إليهم، فسأل عنهم، وكانوا تجاراً غرباء، وقد تيقنوا ذهابه وأيسوا منه، فسكتوا، فأحضرهم وسلمه إليهم.
ومن عدله، أنه أطلق المكوس والضرائب في جميع البلاد، ولم يعرف منه فعل قبيح، وعلم الأمراء سيرته، فلم يقدم أحد منهم على الظلم، وكفوا عنه.
ومن محاسن أعماله ما فعله مع الباطنية على ما نذكره.
ذكر حال الباطنية أيام السلطان محمدقد تقدم ذكر ما اعتمده من حصر قلاعهم، ونحن نذكر هاهنا زيادة اهتمامه بأمرهم، فإنه، رحمه الله تعالى، لما علم أن مصالح البلاد والعباد منوطة بمحو آثارهم، وإخراب ديارهم، وملك حصونهم وقلاعهم، جعل قصدهم دأبه.
وكان، في أيامه، المقدم عليهم، ولقيهم بأمرهم الحسن بن الصباح الرازي، صاحب قلعة ألموت، وكانت أيامه قد طالت، وله منذ ملك قلعة ألموت ما يقارب ستاً وعشرين سنة، وكان المجاورون له في أقبح صورة من كثرة غزاته عليهم، وقتله وأسره رجالهم، وسبي نسائهم، فسير إليه السلطان العساكر، على ما ذكرناه، فعادت من غير بلوغ غرض. فلما أعضل داؤه ندب لقتاله الأمير أنوشتكين شيركير، صاحب آبة، وساوة، وغيرهما، فملك منهم عدة قلاع منها قلعة كلام، ملكها في جمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة، وكان مقدمها يعرف بعلي بن موسى، فأمنه ومن معه، وسيرهم إلى ألموت، وملك منهم أيضاً قلعة بيرة، وهي على سبعة فراسخ من قزوين، وأمنهم، وسيرهم إلى ألموت أيضاً.
وسار إلى قلعة ألموت فيمن معه من العساكر، وأمده السلطان بعدة من الأمراء، فحصرهم، وكان هو، من بينهم، صاحب القريحة والبصيرة في قتالهم، مع جودة رأي وشجاعة، فبنى عليها مساكن يسكنها هو ومن معه، وعين لكل طائفة من الأمراء أشهراً يقيمونها، فكانوا ينيبون، ويحضرون، وهو ملازم الحصار، وكان السلطان ينقل إليه الميرة، والذخائر، والرجال، فضاق الأمر على الباطنية، وعدمت عندهم الأقوات وغيرها، فلما اشتد عليهم الأمر نزلوا نساءهم وأبناءهم مستأمنين، وسألوا أن يفرج لهم ولرجالهم عن الطريق، ويؤمنوا، فلم يجابوا إلى ذلك، وأعادهم إلى القلعة، قصداً، ليموت الجميع جوعاً.

وكان ابن الصباح يجري لكل رجل منهم، في اليوم، رغيفاً، وثلاث جوزات، فلما بلغ بهم الأمر إلى الحد الذي لا مزيد عليه، بلغهم موت السلطان محمد، فقويت نفوسهم، وطابت قلوبهم، ووصل الخبر إلى العسكر المحاصر لهم بعدهم بيوم، وعزموا على الرحيل، فقال شيركير: إن رحلنا عنهم، وشاع الأمر، نزلوا إلينا، وأخذوا ما أعددناه، من الأقوات والذخائر، والرأي أن نقيم على قلعتهم حتى نفتحها، وإن لم يكن المقام، فلا بد من مقام ثلاثة أيام، حتى ينفد منا ثقلنا وما أعددناه، ونحرق ما نعجز عن حمله لئلا يأخذه العدو.
فلما سمعوا قوله علموا صدقه، فتعاهدوا على الاتفاق والاجتماع، فلما أمسوا رحلوا من غير مشاورة، ولم يبق غير شيركير، ونزل إليه الباطنية من القلعة، فدافعهم وحمى من تخلف من سوقة العسكر وأتباعه، ولحق بالعسكر، فلما فارق القلعة غنم بالباطنية ما تخلف عندهم.
؟؟

ذكر حصار قابس والمهدية
في هذه السنة جهز علي بن يحيى، صاحب إفريقية، أسطولاً في البحر إلى مدينة قابس، وحصرها.
وسبب ذلك أن صاحبها رافع بن مكن الدهماني أنشأ مركباً بساحلها ليحمل التجار في البحر، وكان ذلك آخر أيام الأمير يحيى، فلم ينكر يحيى ذلك، جرياً على عادته في المداراة، فلما ولي علي الأمر، بعد أبيه، أنف من ذلك وقال: لا يكون لأحد من أهل إفريقية أن يناوئني في إجراء المراكب في البحر بالتجار، فلما خاف رافع أن يمنعه علي التجأ إلى اللعين رجار ملك الفرنج بصقلية، واعتضد به، فوعده رجار أن ينصره ويعينه على إجراء مركبه في البحر، وأنفذ في الحال أسطولاً إلى قابس، فاجتازوا بالمهدية، فحينئذ تحقق علي اتفاقهما، وكان يكذبه.
فلما جاز أسطول رجار بالمهدية أخرج علي أسطوله في أثره، فتوافى الجميع إلى قابس، فلما رأى صاحبها أسطول الفرنج والمسلمين لم يخرج مركبه، فعاد أسطول الفرنج، وبقي أسطول علي يحصر رافعاً بقابس مضيقاً عليها.
ثم عادوا إلى المهدية، وتمادى رافع في المخالفة لعلي، وجمع قبائل العرب، وسار بهم، حتى نزل على المهدية محصراً لها، وخادع علياً، وقال: إنني إنما جئت للدخول في الطاعة، وطلب من يسعى في الصلح، وأفعاله تكذب أقواله، فلم يجبه عن ذلك بحرف، وأخرج العساكر، وحملوا على رافع ومن معه حملة منكرة، فألحقوهم بالبيوت، ووصل العسكر إلى البيوت، فلما رأى ذلك النساء صحن، وولولن، فغارت العرب، وعاودت القتال، واشتد حينئذ الأمر إلى المغرب، ثم افترقوا، وقد قتل من عسكر رافع بشر كثير، ولم يقتل من جند علي غير رجل واحد من الرجالة.
ثم خرج عسكر علي مرة أخرى، فاقتتلوا أشد من القتال الأول، وكان الظهور فيه لعسكر علي، فلما رأى رافع أنه لا طاقة له بهم رحل عن المهدية ليلاً إلى القيروان، فمنعه أهلها من دخولها، فقاتلهم أياماً قلائل، ثم دخلها، فأرسل علي إليه عسكراً من المهدية، فحصروه فيها إلى أن خرج عنها، وعاد إلى قابس، ثم إن جماعة من أعيان إفريقية، من العرب وغيرهم، سألوا علياً في الصلح، فامتنع، ثم أجاب إلى ذلك، وتعاهد عليه.
ذكر الوحشة بين رجار والأمير عليكان رجار، صاحب صقلية، بينه وبين الأمير علي، صاحب إفريقية، مودة وكيدة، إلى أن أعان رافعاً كما تقدم قبل، فاستوحش كل منهما من صاحبه، ثم بعد ذلك خاطبه رجار بما لم تجر عادتهم به، فتأكدت الوحشة، فأرسل رجار رسالة فيها خشونة، فاحترز علي منه، وأمر بتجديد الأسطول، وإعداد الأهبة للقاء العدو، وكاتب المرابطين بمراكش في الاجتماع معه على الدخول إلى صقلية، فكف رجار عما كان يعتمده.
ذكر قتل صاحب حلب واستيلاء إيلغازي عليهافي هذه السنة قتل لؤلؤ الخادم، وكان قد استولى على قلعة حلب وأعمالها، بعد وفاة الملك رضوان، وولي أتابكية ولده ألب أرسلان، فلما مات أقام بعده في الملك سلطانشاه بن رضوان، وحكم في دولته أكثر من حكمه في دولة أخيه، فلما كانت هذه السنة سار منها إلى قلعة جعبر ليجتمع بالأمير سالم بن مالك صاحبها، فلما كان عند قلعة نادر نزل يريق الماء، فقصده جماعة من أصحابه الأتراك، وصاحوا: أرنب، أرنب! وأوهموا أنهم يتصيدون، ورموه بالنشاب، فقتل، فلما هلك نهبوا خزانته، فخرج إليهم أهل حلب، فاستعادوا ما أخذوه.

وولي أتابكية سلطانشاه بن رضوان شمس الخواص يارو قتاش، فبقي شهراً، وعزلوه، وولي بعده أبو المعالي بن الملحي الدمشقي، ثم عزلوه وصادروه.
وقيل: كان سبب قتل لؤلؤ أنه أراد قتل سلطانشاه، كما قتل أخاه ألب أرسلان قبله، ففطن به أصحاب سلطانشاه، فقتلوه، وقيل كان قتله سنة عشر وخمسمائة، والله أعلم.
ثم إن أهل حلب خافوا من الفرنج، فسلموا البلد إلى نجم الدين إيلغازي، فلما تسلمه لم يجد فيه مالاً، ولا ذخيرة، لأن الخادم كان قد فرق الجميع، وكان الملك رضوان قد جمع فأكثر، فرزقه الله غير أولاده، فلما رأى إيلغازي خلو البلد من الأموال صادر جماعة من الخدم بمال صانع به الفرنج، وهادنهم مدة يسيرة تكون بمقدار مسيره إلى ماردين، وجمع العساكر والعود، لما تمت الهدنة سار إلى ماردين، على هذا العزم، واستخلف بحلب ابنه حسام الدين تمرتاش.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في رابع عشر، انخسف القمر انخسافاً كلياً.
وفي هذه الليلة هجم الفرنج على ربض حماة من الشام، وقتلوا من أهلها ما يزيد على مائة رجل وعادوا.
وفيها، في يوم عرفة، كانت زلزلة بالعراق، والجزيرة، وكثير من البلاد، وخربت ببغداد دور كثيرة بالجانب الغربي.
وفيها مات أحمد العربي ببغداد، وكان من عباد الله الصالحين، له كرامات، وقبر يزار بها.
وفي هذه السنة، في شوال، توفي أبو علي محمد بن سعد بن إبراهيم بن نبهان الكاتب، وعمره مائة سنة، وكان عالي الإسناد، وروى عن أبي علي بن شاذان وغيره، والحسن بن أحمد بن جعفر أبو عبد الله الشقاق الفرضي، الحاسب، وكان واحد عصره في علم الفرائض والحساب، وسمع الحديث من أبي الحسين بن المهتدي وغيره.
وفيها مات الكزايكس ملك القسطنطينية، وملك بعده ابنه يوحنا، وسلك سيرته.
وفيها مات دوقس أنطاكية، وكفى الله شره.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة

ذكر ما فعله السلطان محمود بالعراق
وولاية البرسقي شحنكية بغداد
لما توفي السلطان محمد، وملك بعده ابنه محمود، ودبر دولته الوزير الربيب أبو منصور، أرسل إلى الخليفة المستظهر بالله يطلب أن يخطب له ببغداد، فخطب له في الجمعة ثالث عشر المحرم، وكان شحنة بغداد بهروز.
ثم إن الأمير دبيس بن صدقة كان عند السلطان محمد، مذ قتل والده، على ما ذكرناه، فأحسن إليه، وأقطعه إقطاعاً كثيراً، فلما توفي السلطان محمد خاطب السلطان محموداً في العود إلى بلده الحلة، فأذن له في ذلك، فعاد إليها، فاجتمع عليه خلق كثير من العرب، والأكراد، وغيرهم، وكان آقسنقر البرسقي مقيماً بالرحبة، وهي إقطاعه، وليس بيده من الولايات شيء، فاستخلف عليها ابنه عز الدين مسعود، وسار إلى السلطان محمد، قبل موته، عازماً على مخاطبته في زيادة إقطاعه، فبلغه وفاة السلطان محمد قبل وصوله إلى بغداد.
وسمع مجاهد الدين بهروز بقربه من بغداد، فأرسل إليه يمنعه من دخولها، فسار إلى السلطان محمود، فلقيه توقيع السلطان بولاية شحنكية بغداد، وهو بحلوان، وعزل بهروز.
وكان الأمراء عند السلطان يريدون البرسقي، ويتعصبون له، ويكرهون مجاهد الدين بهروز، ويحسدونه للقرب الذي كان له عند السلطان محمد، وخافوا أن يزداد تقدماً عند السلطان محمود وحكماً. فلما ولي البرسقي شحنكية بغداد هرب بهروز إلى تكريت، وكانت له.
ثم إن السلطان ولى شحنكية بغداد الأمير منكوبرس، وهو من أكابر الأمراء، وقد حكم في دولة السلطان محمود، فلما أعطي الشحنكية سير إليها ربيبه الأمير حسين بن أزبك، أحد الأمراء الأتراك، وهو صاحب أسداباذ، لينوب عنه ببغداد والعراق، وفارق السلطان من باب همذان، واتصل به جماعة الأمراء البكجية وغيرهم.
فلما سمع البرسقي خاطب الخليفة المستظهر بالله ليأمره بالتوقف إلى أن يكاتب السلطان، ويفعل ما يرد به الأمر عليه، فأرسل إليه الخليفة، فأجاب: إن يرسم الخليفة بالعود عدت، وإلا فلا بد من دخول بغداد. فجمع البرسقي أصحابه وسار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فقتل أخ لحسين، وانهزم هو ومن معه، وعادوا إلى عسكر السلطان، فكان ذلك في شهر ربيع الأول، قبل وفاة المستظهر بالله بأيام.
ذكر وفاة المستظهر بالله

في هذه السنة، سادس عشر ربيع الآخر، توفي المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله، وكان مرضه التراقي، وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر وستة أيام، وخلافته أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً، ووزر له عميد الدولة أبو منصور بن جهير، وسديد الملك أبو المعالي المفضل بن عبد الرزاق الأصبهاني، وزعيم الرؤساء أبو القاسم بن جهير، ومجد الدين أبو المعالي هبة الله بن المطلب، ونظام الدين أبو منصور الحسين بن محمد، وناب عن الوزارة أمين الدولة أبو سعد بن الموصلايا، وقاضي القضاة أبو الحسن علي بن الدامغاني، ومضى، في أيامه، ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة، وهم: تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، والسلطان بركيارق، ومحمد ابنا ملكشاه.
ومن غريب الاتفاق أنه لما توفي السلطان ألب أرسلان توفي بعده القائم بأمر الله، ولما توفي السلطان ملكشاه توفي بعده المقتدي بأمر الله، ولما توفي السلطان محمد توفي بعده المستظهر بالله.
ذكر بعض أخلاقه وسيرتهكان، رضي الله عنه، لين الجانب، كريم الأخلاق، يحب اصطناع الناس، ويفعل الخير، ويسارع إلى أعمال البر والمثوبات، مشكور المساعي لا يرد مكرمة تطلب منه.
وكان كثير الوثوق بمن يوليه، غير مصغ إلى سعاية ساع، ولا ملتفت إلى قوله، ولم يعرف منه تلون، وانحلال عزم، بأقوال أصحاب الأغراض.
وكانت أيامه أيام سرور للرعية، فكأنها من حسنها أعياد، وكان إذا بلغه ذلك فرح به وسره، وإذا تعرض سلطان أو نائب له لأذى أحد بالغ في إنكار ذلك والزجر عنه.
وكان حسن الحظ، جيد التوقعات، لا يقاربه فيها أحد، يدل على فضل غزير، وعلم واسع، ولما توفي صلى عليه ابنه المسترشد بالله، وكبر أربعاً، ودفن في حجرة له كان يألفها. ومن شعره قوله:
أذاب حر الهوى في القلب ما جمدا ... لما مددت إلى رسم الوداع يدا
وكيف أسلك نهج الاصطبار وقد ... أرى طرائق في مهوى الهوى قددا
قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به، ... من بعد ما قد وفى دهري بما وعدا
إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي ... من بعد هذا، فلا عاينته أبدا
ذكر خلافة الإمام المسترشد باللهلما توفي المستظهر بالله بويع ولده المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد بن المستظهر بالله، وكان ولي عهد قد خطب له ثلاثاً وعشرين سنة، فبايعه أخواه ابنا المستظهر بالله، وهما أبو عبد الله محمد، وأبو طالب العباس، وعمومته بنو المقتدي بأمر الله، وغيرهم من الأمراء، والقضاة، والأئمة، والأعيان.
وكان المتولي لأخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغاني، وكان نائباً عن الوزارة، فأقره المسترشد بالله عليها، ولم يأخذ البيعة قاض غير هذا، وأحمد بن أبي داود، فإنه أخذها للواثق بالله، والقاضي أبو علي إسماعيل بن إسحاق، أخذها للمعتضد بالله.
ثم إن المسترشد عزل قاضي القضاة عن نيابة الوزارة، واستوزر أبا شجاع محمد بن الربيب أبي منصور، وزير السلطان محمود، وكان والده خطب في معنى ولده، حتى استوزر، وقبض على صاحب المخزن أبي طاهر يوسف بن أحمد الحزي.
ذكر هرب الأمير أبي الحسن

أخي المسترشد وعوده
لما اشتغل الناس ببيعة المسترشد بالله، ركب أخوه الأمير أبو الحسن بن المستظهر بالله سفينة، ومعه ثلاثة نفر، وانحدر إلى المدائن، وسار منها إلى دبيس بن صدقة بالحلة، فكرمه دبيس، وعلم منه وفاة المستظهر بالله، وأقام له الإقامات الكثيرة، فلما علم المسترشد بالله خبره أهمه ذلك وأقلقه، وأرسل إلى دبيس يطلب منه إعادته، فأجاب بأنني عبد الخليفة، وواقف عند أمره، ومع هذا، فقد استذم بي، ودخل منزلي، فلا أكرهه على أمر أبداً.
وكان الرسول نقيب النقباء شرف الدين علي بن طراد الزينبي، فقصد الأمير أبا الحسن، وتحدث معه في عوده، وضمن له عن الخليفة كل ما يريده، فأجاب إلى العود، وقال: إنني لم أفارق أخي لشر أريده، وإنما الخوف حملني على مفارقته، فإذا أمنتني قصدته. وتكفل دبيس بإصلاح الحال بنفسه، والمسير معه إلى بغداد، فعاد النقيب وأعلم الخليفة الحال، فأجاب إلى ما طلبه منه.
ثم حدث من أمر البرسقي ودبيس ومنكوبرس ما ذكرناه، فتأخر الحال.

وأقام الأمير أبو الحسن عند دبيس إلى ثاني عشر صفر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، ثم سار عن الحلة إلى واسط، وكثر جمعه وقوي الإرجاف بقوته، وملك مدينة واسط، وخيف جانبه، فتقدم الخليفة المسترشد بالله بالخطبة لولي عهده ولده أبي جعفر المنصور، وعمره حينئذ اثنتا عشرة سنة، فخطب له ثاني ربيع الآخر ببغداد، وكتب إلى البلاد بالخطبة له، وأرسل إلى دبيس بن مزيد في معنى الأمير أبي الحسن، وأنه الآن فارق جواره، ومد يده إلى بلاد الخليفة وما يتعلق به، وأمره بقصده ومعاجلته قبل قوته، فأرسل دبيس العساكر إليه، ففارق واسط، وقد تحير هو وأصحابه، فضلوا الطريق، ووصلت عساكر دبيس، فصادفوهم عند الصلح، فنهبوا أثقاله، وهرب الأكراد من أصحابه، والأتراك، وعاد الباقون إلى دبيس.
وبقي الأمير أبو الحسن في عشرة من أصحابه وهو عطشان، وبينه وبين الماء خمسة فراسخ، وكان الزمان قيظاً، فأيقن بالتلف، وتبعه بدويان، فأراد الهرب منهما، فلم يقدر، فأخذاه، وقد اشتد به العطش، فسقياه، وحملاه إلى دبيس، فسيره إلى بغداد، وحمله إلى الخليفة، بعد أن بذل له عشرين ألف دينار، فحمل إلى الدار العزيزة، وكان بين خروجه عنها وعوده إليها أحد عشر شهراً.
ولما دخل على المسترشد بالله قبل قدمه، وقبله المسترشد، وبكيا، وأنزله داراً حسنة كان هو يسكنها قبل أن يلي الخلافة، وحمل إليه الخلع، والتحف الكثيرة، وطيب نفسه وأمنه.
ذكر مسير الملك مسعود وجيوش بك إلى العراق وما كان بينهما وبين البرسقي ودبيس
في هذه السنة، في جمادى الأولى، برز البرسقي، ونزل بأسفل الرقة، في عسكره ومن معه، وأظهر أنه على قصد الحلة وإجلاء دبيس بن صدقة عنها.
وجمع دبيس جموعاً كثيرة من العرب والأكراد، وفرق الأموال الكثيرة والسلاح.
وكان الملك مسعود ابن السلطان محمد بالموصل مع أتابكه أي أبه جيوش بك، فأشار عليهما جماعة ممن عندهما بقصد العراق فإنه لا مانع دونه، فسارا في جيوش كثيرة، ومع الملك مسعود وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس، وقسيم الدولة زنكي بن آقسنقر جد ملوكنا الآن بالموصل، وكان من الشجاعة في الغاية، ومعهم أيضاً صاحب سنجار، وأبو الهيجاء، صاحب إربل، وكرباوي بن خراسان التركماني، صاحب البوازيج. فلما علم البرسقي قربهم خافهم.
وكان البرسقي قديماً قد جعله السلطان محمد أتابك ولده مسعود، على ما ذكرناه، وإنما كان خوفه من جيوش بك، فلما قاربوا بغداد سار إليهم ليقاتلهم ويصدهم، فلما علم مسعود وجيوش بك ذلك أرسلا إليه الأمير كرباوي في الصلح، وأعلمه أنهم إنما جاءوا نجدة له على دبيس، واصطلحوا، وتعاهدوا، واجتمعوا.
ووصل مسعود إلى بغداد، ونزل بدار المملكة، ووصلهم الخبر بوصول الأمير عماد الدين منكبرس، المقدم ذكره، في جيش كثير، فسار البرسقي عن بغداد ليحاربه ويمنعه عنها، فلما علم به منكبرس قصد النعمانية، وعبر دجلة هناك، واجتمع هو ودبيس بن صدقة.
وكان دبيس قد خاف من الملوك مسعود والبرسقي، فبنى أمره على المحاجزة والملاطفة، فأهدى لمسعود هدية حسنة، وللبرسقي، وجيوش بك، فلما وصله خبر وصول منكبرس راسله، واستماله، واستحلفه، واتفقا على التعاضد والتناصر، واجتمعا، وكل واحد منهما قوي بصاحبه، فلما اجتمعا سار الملك مسعود، والبرسقي، وجيوش بك، ومن معهم، إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس، فلما وصلوا المدائن أتتهم الأخبار بكثرة الجمع معهما، فعاد البرسقي، والملك مسعود، وعبرا نهر صرصر، وحفظا المخاضات عليه، ونهبت الطائفتان السواد نهباً فاحشاً: نهر الملك، ونهر صرصر، ونهر عيسى، وبعض دجيل، واستباحوا النساء.
فأرسل المسترشد بالله إلى الملك مسعود والبرسقي ينكر هذه الحال، ويأمرهما بحقن الدماء، وترك الفساد، ويأمر بالموادعة والمصالحة، وكان الرسل: سديد الدولة بن الأنباري، والإمام الأسعد الميهني، مدرس النظامية، فأنكر البرسقي أن يكون جرى منهما شيء من ذلك، وأجاب إلى العود إلى بغداد، فوصل من أخبره أن منكبرس ودبيساً قد جهزا ثلاثة آلاف فارس مع منصور أخي دبيس، والأمير حسين بن أزبك، ربيب منكبرس، وسيروهم، وعبروا عند درزيجان ليقطعوا مخاضة عند ديالى إلى بغداد، لخلوها من عسكر يحميها ويمنع عنها.

فعاد البرسقي إلى بغداد، وعبر الجسر لئلا يخاف الناس، ولم يعلموا الخبر، وخلف ابنه عز الدين مسعوداً على عسكره بصرصر، واستصحب معه عماد الدين زنكي بن آقسنقر، فوصل إلى ديالى، ومنع عسكر منكبرس من العبور، فأقام يومين، فأتاه كتاب ابنه عز الدين مسعود يخبره أن الصلح قد استقر بين الفريقين، فانكسر نشاطه، حيث جرى هذا الأمر ولم يعلم به، وعاد نحو بغداد، وعبر إلى الجانب الغربي، وعبر منصور وحسين فسارا في عسكرهما خلفه، فوصلا بغداد عند نصف الليل، فنزلا عند جامع السلطان.
وسار البرسقي إلى الملك مسعود فأخذ بركه وماله وعاد إلى بغداد، فخيم عند القنطرة العتيقة، وأصعد الملك مسعود، وجيوش بك، فنزلا عند البيمارستان، وأصعد دبيس ومنكبرس فخيما تحت الرقة، وأقام عز الدين مسعود بن البرسقي عند منكبرس منفرداً عن أبيه.
وكان سبب هذا الصلح أن جيوش بك كان قد أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيادة له وللملك مسعود، فوصل كتاب الرسول من العسكر يذكر أنه لقي من السلطان إحساناً كثيراً، وأنه أقطعهما أذربيجان، فلما بلغه رحيلهما إلى بغداد اعتقد أنهما قد عصيا عليه، فعاد عما كان استقر، ويقول إن السلطان قد جهز عسكراً إلى الموصل. فوقع الكتاب بيد منكبرس، فأرسله إلى جيوش بك، وضمن له إصلاح السلطان له وللملك مسعود، وكان منكبرس متزوجاً بأم الملك مسعود، واسمها سرجهان، وكان يؤثر مصلحته لذلك، واستقر الصلح، وخافا من البرسقي أن يمنع منه، فاتفقا على إرسال العسكر إلى درزيجان لينفذ في مقابلته البرسقي ليخلو العسكر منه، ويقع الاتفاق، فكان الأمر في مسيره على ما تقدم.
وكان البرسقي محبوباً لدى أهل بغداد لحسن سيرته فيهم، فلما استقر الصلح، ووصلوا إلى بغداد تفرق عن البرسقي أصحابه وجموعه، وبطل ما كان يحدث به نفسه من التغلب على العراق بغير أمر السلطان، وسار عن العراق إلى الملك مسعود، فأقام معه، واستقر منكبرس في شحنكية بغداد، وودعه دبيس بن صدقة، وعاد إلى الحلة، بعد أن طالب بدار أبيه بدرب فيروز، وكانت قد دخلت في جامع القصر ببغداد، فصولح عنها بمال.
وأقام منكبرس ببغداد يظلم ويعسف بالرعية، ويصادرهم، فاختفى أرباب الأموال، وانتقل جماعة إلى حريم دار الخلافة خوفاً منه، وبطلت معايش الناس، وأكثر أصحابه الفساد، حتى إن بعض أهل بغداد زفت إليه امرأة تزوجها، فعلم بعض أصحاب منكبرس، فأتاه وكسر الباب وجرح الزوج عدة جراحات، وابتنى بزوجته، فكثر الدعاء ليلاً ونهاراً، واستغاث الناس لهذه الحال، وأغلقوا الأسواق، فأخذ الجندي إلى دار الخلافة فاعتقل أياماً ثم أطلق.
وسمع السلطان بما يفعله منكبرس ببغداد، فأرسل إليه يستدعيه، ويحثه على اللحوق به، وهو يغالط ويدافع، وكلما طلبه السلطان لج في جمع الأموال والمصادرات. فلما علم أهل بغداد تغير السلطان عليه، واستدعاءه إياه، طمعوا فيه، فسار حينئذ منكبرس عنهم خوفاً أن يثوروا به، وكفى الناس شره، وظهر من كان مستتراً.
ذكر وفاة ملك الفرنج

وما كان بين الفرنج وبين المسلمين
في ذي الحجة من سنة إحدى عشرة وخمسمائة توفي بغدوين ملك القدس، وكان قد سار إلى ديار مصر في جمع الفرنج، قاصداً ملكها والتغلب عليها، وقوي طمعه في الديار المصرية، وبلغ مقابل تنيس، وسبح في النيل، فانتقض جرح كان به، فلما أحس بالموت عاد إلى القدس، فمات، ووصى ببلاده للقمص صاحب الرها، وهو الذي كان أسره جكرمش، وأطلقه جاولي سقاوو، واتفق أن هذا القمص كان قد سار إلى القدس يزور بيعة قمامة، فلما وصى إليه بالملك قبله، واجتمع له القدس والرها.
وكان أتابك طغتكين قد سار عن دمشق لقتال الفرنج، فنزل بين دير أيوب وكفر بصل باليرموك، فخفيت عنه وفاة بغدوين، حتى سمع الخبر بعد ثمانية عشر يوماً، وبينهم نحو يومين، فأتته رسل ملك الفرنج يطلب المهادنة، فاقترح عليه طغتكين ترك المناصفة التي بينهم من جبل عوف، والحنانة، والصلت، والغور، فلم يجب إلى ذلك، وأظهر القوة، فسار طغتكين إلى طبرية فنهبها وما حولها، وسار منها نحو عسقلان.

وكانت للمصريين وبها عساكرهم، كانوا قد سيروها لما عاد ملك القدس المتوفى عن مصر، وكانوا سبعة آلاف فارس، فاجتمع بهم طغتكين، وأعلمه المقدم عليهم أن صاحبهم تقدم إليه بالوقوف عند رأي طغتكين، والتصرف على ما يحكم به، فأقاموا بعسقلان نحو شهرين، ولم يؤثروا في الفرنج أثراً، فعاد طغتكين إلى دمشق، فأتاه الصريخ بأن مائة وثلاثين فارساً من الفرنج أخذوا حصناً من أعماله يعرف بالحبس، يعرف بحصن جلدك، سلمه إليهم المستحفظ به وقصدوا أذرعات فنهبوها، فأرسل إليهم تاج الملوك بوري بن طغتكين، فانحازوا عنه إلى جبل هناك، فنازلهم، فأتاه أبوه ونهاه عنهم، فلم يفعل، وطمع فيهم، فلما أيس الفرنج قاتلوا قتال مستقتل، فنزلوا من الجبل وحملوا على المسلمين حملة صادقة هزموهم بها، وأسروا وقتلوا خلقاً كثيراً، وعاد الفل إلى دمشق على أسوأ حال.
فسار طغتكين إلى حلب، وبها إيلغازي، فاستنجده، وطلب منه التعاضد على الفرنج، فوعده بالمسير معه، فبينما هو بحلب أتاه الخبر بأن الفرنج قصدوا حوران من أعمال دمشق، فنهبوا وقتلوا وسبوا وعادوا، فاتفق رأي طغتكين وإيلغازي على عود طغتكين إلى دمشق، وحماية بلاده، وعود إيلغازي إلى ماردين، وجمع العساكر، والاجتماع على حرب الفرنج، فصالح إيلغازي من يليه من الفرنج على ما تقدم ذكره، وعبر إلى ماردين لجمع العساكر، وكان ما نذكره سنة ثلاث عشرة، إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة انقطع الغيث، وعدمت الغلات في كثير من البلاد، وكان أشده بالعراق، فغلت الأسعار، وأجلى أهل السواد، وتقوت الناس بالنخالة، وعظم الأمر على أهل بغداد بما كان يفعله منكبرس بهم.
وفيها أسقط المسترشد بالله من الإقطاع المختص به كل جور، وأمر أن لا يؤخذ إلا ما جرت به العادة القديمة، وأطلق ضمان غزل الذهب، وكان صناع السقلاطون، والممزج، وغيرهم ممن يعمل منه، يلقون شدة من العمال عليها، وأذى عظيماً.
وفيها تأخر مسير الحجاج تأخراً أرجف بسببه بانقطاع الحج من العراق، فرتب الخليفة الأمير نظر، خادم أمير الجيوش يمن، وولاه من أمر الحج ما كان يتولاه أمير الجيوش، وأعطاه من المال ما يحتاج إليه في طريقه، وسيره، فأدركوا الحج وظهرت كفاية نظر.
وفيها وصل مركبان كبيران فيهما قوة ونجدة للفرنج بالشام، فغرقا، وكان الناس قد خافوا ممن فيهما.
وفيها وصل رسول إيلغازي، صاحب حلب وماردين، إلى بغداد يستنفر على الفرنج، ويذكر ما فعلوا بالمسلمين في الديار الجزرية، وأنهم ملكوا قلعة عند الرها، وقتلوا أميرها ابن عطير، فسيرت الكتب بذلك إلى السلطان محمود.
وفيها نقل المستظهر إلى الرصافة، وجميع من كان مدفوناً بدار الخلافة، وفيهم جدة المستظهر أم المقتدي، وكانت وفاتها بعد المستظهر، ورأت البطن الرابع من أولادها.
وفيها كثر أمر العيارين بالجانب الغربي من بغداد، فعبر إليهم نائب الشحنة في خمسين غلاماً أتراكاً، فقاتلهم، فانهزم منهم، ثم عبر إليهم من الغد في مائتي غلام، فلم يظفر بهم، ونهب العيارون يومئذ قطفتا.
وفي هذه السنة، في شعبان، توفي أبو الفضل بكر بن محمد بن علي بن الفضل الأنصاري من ولد جابر بن عبد الله، وهو من بلد بخارى، وكان من أعيان الفقهاء الحنفية، حافظاً للمذهب.
وتوفي أبو طالب الحسين بن محمد بن علي بن الحسن الزينبي، نقيب النقباء ببغداد، في صفر، واستقال من النقابة، فوليها أخوه طراد، وكان من أكابر الحنفية، وروى الحديث الكثير.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو زكرياء يحيى بن عبد الوهاب بن مندة الأصبهاني، المحدث المشهور من بيت الحديث، وله فيه تصانيف حسنة.
وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن الخازن، وكان أديباً، ظريفاً، له شعر حسن، فمنه قوله، وقد قصد زيارة صديق له، فلم يره، فأدخله غلمانه إلى بستان في الدار، وحمام، فقال في ذلك:
وافيت منزله، فلم أر صاحباً ... إلا تلقاني بوجه ضاحك
والبشر في وجه الغلام نتيجة ... لمقدمات ضياء وجه المالك
ودخلت جنته، وزرت جحيمه ... فشكرت رضواناً ورأفة مالك
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة

ذكر عصيان الملك طغرل على أخيه
السلطان محمود

كان الملك طغرل بن محمد لما توفي والده بقلعة سرجهان، وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم، وأقطعه والده، سنة أربع، ساوة وآوة وزنجان، وجعل أتابكه الأمير شيركير الذي تقدم ذكره في حصار قلاع الإسماعيلية، فازداد ملك طغرل بما فتحه شيركير من قلاعهم، فأرسل إليه السلطان محمود الأمير كنتغدي ليكون أتابكاً له، ومدبراً لأمره، ويحمله إليه، فلما وصل إليه حسن له مخالفة أخيه، وترك المجيء إليه، واتفقا على ذلك.
وسمع السلطان محمود الخبر، فأرسل شرف الدين أنوشروان بن خالد، ومعه خلع وتحف وثلاثون ألف دينار، ووعد أخاه بإقطاع كثير، زيادة على ما له، إذا قصده، واجتمع به، فلم تقع الإجابة إلى الاجتماع، وأجاب كنتغدي بأننا في طاعة السلطان، وأي جهة أراد قصدناها، ومعنا من العساكر ما نقاوم بها من يرسم بقصده.
فبينما الخوض معهم في ذلك ركب السلطان محمود من باب همذان في عشرة آلاف فارس، جريدة، في جمادى الأولى، وكتم مقصده، وعزم على أن يكبس أخاه، والأمير كنتغدي، فرأى أحد خواصه تركياً من أصحاب الملك طغرل، فأعلم السلطان به، فقبض عليه، فعلم رفيق كان معه الحال، فسار عشرين فرسخاً في ليلة، ووصل إلى الأمير كنتغدي، وهو سكران، فأيقظه بعد جهد، وأعلمه الحال، فقصد الملك طغرل، فعرفه ذلك، وأخذ متخفياً، وقصد قلعة سميران، فضلاً عن الطريق إلى قلعة سرجهان، وكانا قد فارقاها، وجمع العساكر، وكان ضلالهما هداية لهما إلى السلامة، فإن السلطان محموداً جعل طريقه على سميران، وقال: إنها حصنهما الذي فيه الذخائر والأموال، وإذا علما بوصوله إليهما سارا إليها، فربما صادفهما في الطريق، فسلما منه بما ظناه عطباً لهما.
ووصل السلطان إلى العسكر، فكبسه، ونهبه، وأخذ من خزانة أخيه ثلاثمائة ألف دينار، وذلك المال الذي أنفذه له، وأقام السلطان محمود بزنجان، وتوجه منها إلى الري، ونزل طغرل من سرجهان، ولحق هو وكنتغدي بكنجة وقصده أصحابه، فقويت شوكته، وتمكنت الوحشة بينه وبين أخيه محمود.
ذكر الحرب بين سنجر والسلطان محمودفي هذه السنة، في جمادى الأولى، كانت حرب شديدة بين سنجر وابن أخيه السلطان محمود، ونحن نذكر سياقة ذلك: قد ذكرنا سنة ثمان وخمسمائة مسير السلطان سنجر إلى غزنة، وفتحها وما كان منه فيها، ثم عاد عنها إلى خراسان، فلما بلغه وفاة أخيه السلطان محمد، وجلوس ولده السلطان محمود في السلطنة، وهو زوج ابنة سنجر، لحقه حزن عظيم لموت أخيه، وأظهر من الجزع والحزن ما لم يسمع بمثله، وجلس للعزاء على الرماد، وأغلق البلد سبعة أيام، وتقدم إلى الخطباء بذكر السلطان محمد بمحاسن أعماله من قتال الباطنية، وإطلاق المكوس، وغير ذلك.
وكان سنجر يلقب بناصر الدين، فلما توفي أخوه محمد تلقب بمعز الدين، وهو لقب أبيه ملكشاه، وعزم على قصد بلد الجبال والعراق وما بيد محمود ابن أخيه، فندم على قتل وزيره أبي جعفر محمد بن فخر الملك أبي المظفر بن نظام الملك.
وكان سبب قتله أنه وحش الأمراء، واستخف بهم، فأبغضوه وكرهوه، وشكوا منه إلى السلطان، وهو بغزنة، فأعلمهم أنه يؤثر قتله، وليس يمكنه فعل ذلك بغزنة.
وكان سنجر قد تغير على وزيره لأسباب منها: أنه أشار عليه بقصد غزنة، فلما وصل إلى بست أرسل أرسلانشاه صاحبها إلى الوزير، وضمن له خمسمائة ألف دينار ليثني سنجر عن قصده، فأشار عليه بمصالحته والعود عنه، وفعل مثل ذلك بما وراء النهر، ومنها: أنه نقل عنه أنه أخذ من غزنة أموالاً جليلة عظيمة المقدار، ومنها: ما ذكر من إيحاشه الأمراء وغير هذه الأسباب.
فلما عاد إلى بلخ قبض عليه، وقتله وأخذ ماله، وكان له من الجواهر والأموال ما لا حد عليه، والذي وجد له من العين ألفا ألف دينار، فلما قتله استوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرزاق ابن أخي نظام الملك، ويعرف بابن الفقيه، إلا أنه لم تكن له منزلة ابن فخر الملك عند الناس في علو المنزلة. فلما اتصل به وفاة أخيه ندم على قتله لأنه كان يبلغ به من الأغراض والملك ما لا يبلغه بكثرة العساكر لميل الناس إليه، ومحله عندهم.

ثم إن السلطان محموداً أرسل إلى عمه سنجر شرف الدين أنوشروان بن خالد وفخر الدين طغايرك بن اليزن، ومعهما الهدايا والتحف، وبذل له النزول عن مازندران، وحمل مائتي ألف دينار كل سنة، فوصلا إليه وأبلغاه الرسالة، فتجهز ليسير إلى الري، فأشار عليه شرف الدين أنوشروان بترك القتال والحرب، فكان جوابه في ذلك: أن ولد أخي صبي، وقد تحكم عليه وزيره والحاجب علي.
فلما سمع السلطان محمود بمسير عمه نحوه، ووصول الأمير أنر في مقدمته إلى جرجان، تقدم إلى الأمير علي بن عمر، وهو أمير حاجب السلطان محمد، وبعده صار أمير حاجب السلطان محمود، بالمسير، وضم إليه جمعاً كثيراً من العساكر والأمراء، فاجتمعوا في عشرة آلاف فارس، فساروا إلى أن قاربوا مقدمة سنجر التي عليها الأمير أنر، فراسله الأمير علي بن عمر يعرفه وصية السلطان محمد بتعظيم سنجر والرجوع إلى أمره ونهيه، والقبول منه، وأنه ظن أن سنجر يحفظ السلطنة على ولده السلطان محمود، وأخذ علينا بذلك العهود، فليس لنا أن نخالفه، وحيث جئتم إلى بلادنا لا نحتمل ذلك، ولا نغضي عليه، وقد علمت أن معك خمسة آلاف فارس، فأنا أرسل إليك أقل منهم لتعلم أنكم لا تقاوموننا، ولا تقوون بنا.
فلما سمع الأمير أنر ذلك عاد عن جرجان ولحقه بعض عسكر السلطان محمود. فأخذوا قطعة من سواده، وأسروا عدة من أصحابه.
وكان السلطان محمود قد وصل إلى الري، وهو بها، وعاد الأمير علي بن عمر إليه، فشكره على فعله، وأثنى عليه وعلى عسكره الذين معه.
وأشير على السلطان محمود بملازمة الري، والمقام بها، وقيل: إن عساكر خراسان إذا علموا بمقامك فيها لا يفارقون حدودهم، ولا يتعدون ولايتهم. فلم يقبل ذلك وضجر المقام، وسار إلى جرجان.
ووصل السلطان محمود والأمير منكبرس من العراق في عشرة آلاف فارس، والأمير منصور بن صدقة أخو دبيس، والأمراء البكجية، وغيرهم، وسار محمود إلى همذان، وتوفي بها وزيره الربيب، واستوزر أبا طالب السميرمي، وبلغه وصول عمه سنجر إلى الري، فسار نحوه قاصداً قتاله، فالتقيا بالقرب من ساوة ثاني جمادى الأولى من السنة، وكان عسكر السلطان محمود قد عرفوا المفازة التي بين يدي عسكر سنجر، وهي ثمانية أيام، فسبقوهم إلى الماء وملكوه عليهم.
وكان العسكر الخراساني في عشرين ألفاً، ومعهم ثمانية عشر فيلاً اسم كبيرها باذهو، ومن الأمراء الكبار: ولد الأمير أبي الفضل، صاحب سجستان. وخوارزمشاه محمد، والأمير أنر، والأمير قماج، واتصل به علاء الدولة كرشاسف بن فرامرز بن كاكويه، صاحب يزد، وهو صهر السلطان محمد وسنجر على أختهما، وكان أخص الناس بالسلطان محمد، فلما تولى السلطان محمود تأخر عنه، فأقطع بلده لقراجة الساقي الذي صار صاحب بلاد فارس، فسار حينئذ علاء الدولة إلى سنجر، وهو من ملوك الديلم، وعرف سنجر الأحوال، والطريق إلى قصد البلاد، وما فعله الأمراء من أخذ الأموال، وما هم عليه من اختلاف الأهواء، وحسن قصد البلاد، وما فعله الأمراء من أخذ الأموال، وما هم عليه من اختلاف الأهواء، وحسن قصد البلاد.
وكان عسكر السلطان محمود ثلاثين ألفاً، ومن الأمراء الكبار: الأمير علي بن عمر، أمير حاجب، والأمير منكبرس، وأتابكه غزغلي، وبنو برسق، وسنقر البخاري، وقراجة الساقي، ومعه تسعمائة حمل من السلاح.
واستهان عسكر محمود بعسكر عمه بكثرتهم وشجاعتهم، وكثرة خيلهم، فلما التقوا ضعفت نفوس الخراسانية لما رأوا لهذا العسكر من القوة والكثرة، فانهزمت ميمنة سنجر وميسرته، واختلط أصحابه، واضطرب أمرهم، وساروا منهزمين لا يلوون على شيء، ونهب من أثقالهم شيء كثير، وقتل أهل السواد كثيراً منهم.

ووقف سنجر بين الفيلة في جمع من أصحابه، وبإزائه السلطان محمود، ومعه أتابكه غزغلي، فألجأت سنجر الضرورة، عند تعاظم الخطب عليه، أن يقدم الفيلة للحرب، وكان من بقي معه قد أشاروا عليه بالهزيمة، فقال: إما النصر أو القتل، وأما الهزيمة فلا. فلما تقدمت الفيلة، ورآها خيل محمود، تراجعت بأصحابها على أعقابها، فأشفق سنجر على السلطان محمود في تلك الحال، وقال لأصحابه: لا تفزعوا الصبي بحملات الفيلة، فكفوها عنهم، وانهزم السلطان محمود ومن معه في القلب، وأسر أتابكه غزغلي، فكان يكاتب السلطان، ويعده أنه يحمل إليه ابن أخيه، فعاتبه على ذلك، فاعتذر بالعجز، فقتله، وكان ظالماً قد بالغ في ظلم أهل همذان، فعجل الله عقوبته.
ولما تم النصر والظفر للسلطان سنجر أرسل من أعاد المنهزمين من أصحابه إليه، ووصل الخبر إلى بغداد في عشرة أيام، فأرسل الأمير دبيس بن صدقة إلى المسترشد بالله في الخطبة للسلطان سنجر، فخطب له في السادس والعشرين من جمادى الأولى، وقطعت خطبة السلطان محمود.
وأما السلطان محمود فإنه سار من الكسرة إلى أصبهان، ومعه وزيره أبو طالب السميري، والأمير علي بن عمر وقراجة.
وأما سنجر فإنه سار إلى همذان، فرأى قلة عسكره، واجتماع العساكر على ابن أخيه، فراسله في الصلح، وكانت والدته تشير عليه بذلك، وتقول: قد استوليت على غزنة وأعمالها، وما وراء النهر، وملكت ما لا حد عليه، وقررت الجميع على أصحابه، فاجعل ولد أخيك كأحدهم.
وكانت والدة سنجر هي جدة السلطان محمود، فأجاب إلى قولها، ثم كثرت العساكر عند سنجر منهم البرسقي، وكان عند الملك مسعود بأذربيجان من حين خروجه عن بغداد إلى هذه الغاية، فقوي بهم. فعاد الرسول وأبلغه عن الأمراء الذين مع السلطان محمود أنهم لا يصالحونه حتى يعود إلى خراسان، فلم يجب إلى ذلك، وسار من همذان إلى كرج، وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح، ووعده أن يجعله ولي عهده، فأجاب إلى ذلك، واستقر الأمير بينهما، وتحالفا عليه.
وسار السلطان محمود إلى عمه سنجر في شعبان، فنزل على جدته والدة سنجر، وأكرمه عمه، وبالغ في ذلك، وحمل له السلطان محمود هدية عظيمة، فقبلها ظاهراً، وردها باطناً، ولم تقبل منه سوى خمسة أفراس عربية، وكتب السلطان سنجر إلى سائر الأعمال التي بيده كخراسان وغزنة، وما وراء النهر، وغيرها من الولايات، بأن يخطب للسلطان محمود بعده، وكتب إلى بغداد مثل ذلك، وأعاد عليه جميع ما أخذ من البلاد سوى الري، وقصد بأخذها أن تكون له في هذه الديار لئلا يحدث السلطان محمود نفسه بالخروج.
ذكر غزاة إيلغازي بلاد الفرنجفي هذه السنة سار الفرنج من بلادهم إلى نواحي حلب، فملكوا بزاعة وغيرها، وخربوا بلد حلب ونازلوها، ولم يكن بحلب من الذخائر ما يكفيها شهراً واحداً، وخافهم أهلها خوفاً شديداً، ولوا مكنوا من القتال لم يبق بها أحد، لكنهم منعوا من ذلك، وصانع الفرنج أهل حلب على أن يقاسموهم على أملاكهم التي بباب حلب. فأرسل أهل البلد إلى بغداد يستغيثون، ويطلبون النجدة، فلم يغاثوا.
وكان الأمير إيلغازي، صاحب حلب، ببلد ماردين يجمع العساكر والمتطوعة للغزاة، فاجتمع عليه نحو عشرين ألفاً، وكان معه أسامة بن المبارك بن شبل الكلابي، والأمير طغان أرسلان بن المكر، صاحب بدليس وأرزن، وسار بهم إلى الشام، عازماً على قتال الفرنج.
فلما علم الفرنج قوة عزمهم على لقائهم، وكانوا ثلاثة آلاف فارس، وتسعة آلاف راجل، ساروا فنزلوا قريباً من الأثارب، بموضع يقال له تل عفرين، بين جبال ليس لها طريق إلا من ثلاث جهات، وفي هذا الموضع قتل شرف الدولة مسلم بن قريش.

وظن الفرنج أن أحداً لا يسلك إليهم لضيق الطريق، فأخلدوا إلى المطاولة، وكانت عادة لهم، إذا رأوا قوة من المسلمين، وراسلوا إيلغازي يقولون له: لا تتعب نفسك بالمسير إلينا، فنحن واصلون إليك، فأعلم أصحابه بما قالوه، واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بالركوب من وقته، وقصدهم، ففعل ذلك، وسار إليهم، ودخل الناس من الطرق الثلاثة، ولم تعتقد الفرنج أن أحداً يقدم عليهم، لصعوبة المسلك إليهم، فلم يشعروا إلا وأوائل المسلمين قد غشيتهم، فحمل الفرنج حملة منكرة، فولوا منهزمين، فلقوا باقي العسكر متتابعة، فعادوا معهم، وجرى بينهم حرب شديدة، وأحاطوا بالفرنج من جميع جهاتهم، وأخذهم السيف من سائر نواحيهم، فلم يفلت منهم غير نفر يسير، وقتل الجميع، وأسروا.
وكان من جملة الأسرى نيف وسبعون فارساً من مقدميهم، وحملوا إلى حلب، فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار، فلم يقبل منهم، وغنم المسلمون منهم الغنائم الكثيرة.
وأما سيرجال، صاحب أنطاكية، فإنه قتل وحمل رأسه، وكانت الوقعة منتصف شهر ربيع الأول، فمما مدح به إيلغازي في هذه الوقعة قول العظيمي:
قل ما تشاء، فقولك المقبول، ... وعليك بعد الخالق التعويل
واستبشر القرآن حين نصرته، ... وبكى لفقد رجاله الإنجيل
ثم تجمع من سلم من المعركة مع غيرهم، فلقيهم إيلغازي أيضاً، فهزمهم، وفتح منهم حصن الأثارب، وزردنا، وعاد إلى حلب، وقرر أمرها، وأصلح حالها، ثم عبر الفرات إلى ماردين.
ذكر وقعة أخرى من الفرنجفي هذه السنة سار جوسلين، صاحب تل باشر، في جمع من الفرنج، نحو مائتي فارس، من طبرية، فكبس طائفة من طي يعرفون ببني خالد، فأخذهم، وأخذ غنائمهم، وسألهم عن بقية قومهم من بني ربيعة، فأخبروه أنهم من وراء الحزن، بوادي السلالة، بين دمشق وطبرية، فقدم جوسلين مائة وخمسين فارساً من أصحابه، وسار هو في خمسين فارساً على طريق آخر، وواعدهم الصبح ليكبسوا بني ربيعة، فوصلهم الخبر بذلك، فأرادوا الرحيل، فمنعهم أميرهم من بني ربيعة، وكانوا في مائة وخمسين فارساً، فوصلهم المائة وخمسون من الفرنج، معتقدين أن جوسلين قد سبقهم أو سيدركهم، فضل الطريق، وتساوت العدتان، فاقتتلوا، وطعنت العرب خيولهم، فجعلوا أكثرهم رجالة، وظهر من أميرهم شجاعة، وحسن تدبير، وجودة رأي، فقتل من الفرنج سبعون، وأسر اثنا عشر من مقدميهم، بذل كل واحد منهم في فداء نفسه مالاً جزيلاً وعدة من الأسرى.
وأما جوسلين فإنه ضل في الطريق، وبلغه خبر الوقعة، فسار إلى طرابلس، فجمع جمعاً، وأسرى إلى عسقلان، فأغار على بلدها، فهزمه المسلمون هناك، فعاد مفلولاً.
ذكر قتل منكوبرسفي هذه السنة قتل الأمير منكوبرس الذي كان شحنة بغداد، وقد تقدم حاله.
وكان سبب قتله: أنه لما انهزم مع السلطان محمود وعاد إلى بغداد، ونهب عدة مواضع من طريق خراسان، وأراد دخول بغداد، فسير إليه دبيس بن صدقة من منعه ، فعاد وقد استقر الصلح بين السلطانين سنجر ومحمود، فقصد السلطان سنجر، فدخل إليه ومعه سيف وكفن، فقال له: أنا لا أؤاخذ أحداً، وسلمه إلى السلطان محمود، وقال: هذا مملوكك، فاصنع به ما تريد! فأخذه.
وكان في نفسه منه غيظ شديد لأسباب منها: أنه لما توفي السلطان محمد أخذ سريته، والدة الملك مسعود، قهراً، قبل انقضاء عدتها، ومنها: جرأته عليه، واستبداده بالأمور دونه، ومسيره إلى شحنكية بغداد، والسلطان كاره لذلك لكنه لم يقدر على منعه، ومنها: ما فعله بالعراق من الظلم، إلى غير ذلك، فقتله صبراً، وأراح العباد والبلاد من شره.
ذكر قتل الأمير علي بن عمرفي هذه السنة أيضاً قتل الأمير علي بن عمر، حاجب السلطان محمد، وكان قد صار أكبر أمير مع السلطان محمود، وانقادت العساكر له، فحسده الأمراء، وأفسدوا حاله مع السلطان محمود، وحسنوا له قتله، فعلم، فهرب إلى قلعة برجين، وهي بين بروجرد وكرج، وكان بها أهله وماله، وسار منها في مائتي فارس إلى خوزستان، وكانت بيد أقبوري بن برسق، وابني أخويه: أرغلي بن يلبكي، وهندو بن زنكي، فأرسل إليهم وأخذ عهودهم بأمانه وحمايته.

فلما سار إليهم أرسلوا عسكراً منعوه من قصدهم، فلقوه على ستة فراسخ من تستر، فاقتتلوا، فانهزم هو وأصحابه، فوقف به فرسه، فانتقل إلى غيره، فتشبث ذيله بسرجه الأول، فأزاله، فعاود التعلق، فأبطأ، فأدركوه وأسروه، وكاتبوا السلطان محموداً في أمره، فأمرهم بقتله، فقتل وحمل رأسه إليه.
ذكر الفتنة بين المرابطين وأهل قرطبةفي هذه السنة، وقيل سنة أربع عشرة، كانت فتنة بني عسكر أمير المسلمين علي بن يوسف وبين أهل قرطبة.
وسببها: أن أمير المسلمين استعمل عليها أبا بكر يحيى بن رواد، فلما كان يوم الأضحى خرج الناس متفرجين، فمد عبد من عبيد أبي بكر يده إلى امرأة فأمسكها، فاستغاثت بالمسلمين، فأغاثوها، فوقع بين العبيد وبين أهل البلد فتنة عظيمة، ودامت جميع النهار، والحرب بينهم قائمة على ساق، فأدركهم الليل، فتفرقوا، فوصل الخبر إلى الأمير أبي بكر، فاجتمع إليه الفقهاء والأعيان، فقالوا: المصلحة أن تقتل واحداً من العبيد الذين أثاروا الفتنة، فأنكر ذلك، وغضب منه، وأصبح من الغد، وأظهر السلاح والعدد يريد قتال أهل البلد، فركب الفقهاء والأعيان والشبان من أهل البلد، وقاتلوه فهزموه، وتحصن بالقصر، فحصروه، وتسلقوا إليه، فهرب منهم بعد مشقة وتعب، فنهبوا القصر، وأحرقوا جميع دور المرابطين، ونهبوا أموالهم، وأخرجوهم من البلد على أقبح صورة.
واتصل الخبر بأمير المسلمين فكره ذلك واستعظمه، وجمع العساكر من صنهاجة، وزناتة، والبربر، وغيرهم، فاجتمع له منهم جمع عظيم، فعبر إليهم سنة خمس عشرة وخمسمائة، وحصر مدينة قرطبة، فقاتله أهلها قتال من يريد أن يحمي دمه وحريمه وماله، فلما رأى أمير المسلمين شدة قتالهم دخل السفراء بينهم، وسعوا في الصلح، فأجابهم إلى ذلك على أن يغرم أهل قرطبة المرابطين ما نهبوه من أموالهم، واستقرت القاعدة على ذلك، وعاد عن قتالهم.
ذكر ملك علي بن سكمان البصرةفي هذه السنة استولى علي بن سكمان على البصرة.
وسبب ذلك: أن السلطان محمداً كان قد أقطع البصرة الأمير آقسنقر البخاري، فاستخلف بها نائباً يعرف بسنقر البياتي، فأحسن السيرة إلى حد أن الماء بالبصرة ملح، فأقام سفناً وجراراً للضعفاء والسابلة، تحمل لهم الماء العذب. فلما توفي السلطان محمد عزم هذا الأمير سنقر على القبض على أمير اسمه غزغلي، مقدم الأتراك الإسماعيلية، وهو مذكور، وحج بالناس على البصرة عدة سنين، وعلى أمير آخر اسمه سنقر ألب، وهو مقدم الأتراك البلدقية، فاجتمعا عليه، وقبضاه وقيداه، وأخذا القلعة وما وجداه له.
ثم إن سنقر ألب أراد قتله، فمنعه غزغلي، فلم يقبل منه، فلما قتله وثب غزغلي على سنقر ألب فقتله، ونادى في الناس بالسكون، واطمأنوا.
وكان أمير الحاج من البصرة هذه السنة، أمير اسمه علي بن سكمان أحد الأمراء البلدقية، وكان في نفس غزغلي عليه حقد، حيث تم الحج على يده، ولأنه خاف أن يأخذ بثأر سنقر ألب، إذ هو مقدم البلدقية، فأرسل غزغلي إلى عرب البرية يأمرهم بقصد الحجاج ونهبهم، فطمعوا بذلك، وقصدوا الحجاج فقاتلوهم، وحماهم ابن سكمان، وأبلى بلاء حسناً، وجعل يقاتلهم وهو سائر نحو البصرة إلى أن بقي بينه وبين البصرة يومان، فأرسل إليه غزغلي يمنعه من قصد البصرة، فقصد العوني، أسفل دجلة، هذا، والعرب يقاتلونه، فلما وصل إلى العوني حمل على العرب حملة صادقة، فهزمهم.
وسار غزغلي إلى علي بن سكمان في عدد كثير، وكان علي في قلة، فتحاربا، واقتتلت الطائفتان، فأصابت فرس غزغلي نشابة فسقط وقتل، وسار علي إلى البصرة، فدخلها، وملك القلعة، وأقر عمال آقسنقر البخاري ونوابه، وكاتبه بالطاعة، وكان عند السلطان، وسأله أن يكون نائباً عنه بالبصرة، فلم يجبه آقسنقر إلى ذلك، فطرد حينئذ نواب آقسنقر، واستولى على البلد، وتصرف تصرُّف الأصحاب، مستبداً، واستقر فيه، وأحسن السيرة إلى سنة أربع عشرة، فسير السلطان محمود الأمير آقسنقر البخاري في عسكر إلى البصرة، فأخذها من علي بن سكمان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الدين بهروز سجنكية العراق، وكان بها نائب دبيس بن صدقة، فعزل عنها.

وفيها، في ربيع الأول، توفي الوزير ربيب الدولة، وزير السلطان محمود، ووزر بعده الكمال السميرمي، وكان ولد ربيب الدولة، وزير المسترشد، فعزل، واستعمل بعده عميد الدولة أبو علي بن صدقة، ولقب جلال الدين، وهذا الوزير، وهو عماد الملك الوزير جلال الدين أبي الرضا صدقة، الذي وزر للراشد، والأتابك زنكي على ما نذكره.
وفيها ظهر قبر إبراهيم الخليل، وقبرا ولديه إسحاق ويعقوب، عليهم السلام، بالقرب من البيت المقدس، ورآهم كثير من الناس لم تبلَ أجسادهم، وعندهم في المغارة قناديل من ذهب وفضة، هكذا ذكره حمزة بن أسد التميمي في تاريخه، والله أعلم.
وفيها، في المحرم، توفي قاضي القضاة أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني، ومولده في رجب سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وولي القضاء بباب الطاق من بغداد إلى الموصل وله من العمر ست وعشرون سنة، وهذا شيء لم يكن لغيره، ولما توفي ولي قضاء القضاة الأكمل أبو القاسم علي بن أبي طالب الحسين بن محمد الزينبي، وخلع عليه ثالث صفر.
وفيها هدم تاج الخليفة على دجلة للخوف من انهدامه، وهذا التاج بناه أمير المؤمنين المكتفي بعد سنة تسعين ومائتين.
وفيها تأخر الحج، فاستغاث الناس، وأرادوا كسر المنبر بجامع القصر، فأرسل الخليفة إلى دبيس بن صدقة ليساعد الأمير نظر على تسيير الحجاج، فأجاب إلى ذلك، وكان خروجهم من بغداد ثاني عشر ذي القعدة، وتوالت عليهم الأمطار إلى الكوفة.
وفيها أرسل دبيس بن صدقة القاضي أبا جعفر عبد الواحد بن أحمد الثقفي، قاضي الكوفة، إلى إيلغازي بن أرتق بماردين، يخطب ابنته، فزوجها منه إيلغازي، وحملها الثقفي معه إلى الحلة، واجتاز بالموصل.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي أبو الوفا علي بن عقيل بن محمد بن عقيل، شيخ الحنابلة، في وقته، ببغداد، وكان حسن المناظرة، سريع الخاطر، وكان قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته على أبي الوليد، فأراد الحنابلة قتله، فاستجار بباب المراتب عدة سنين، ثم أظهر التوبة حتى تمكن من الظهور، وله مصنفات من جملتها كتاب الفنون.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة

ذكر عصيان الملك مسعود على أخيه محمود
والحرب بينهما
في هذه السنة، في ربيع الأول، كان المصاف بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود، ومسعود حينئذ له الموصل وأذربيجان.
وكان سبب ذلك أن دبيس بن صدقة كان يكاتب جيوش بك أتابك مسعود، يحثه على طلب السلطنة للملك مسعود، ويعده المساعدة، وكان غرضه أن يختلفوا فينال من الجاه وعلو المنزلة ما ناله أبوه باختلاف السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه على ما ذكرناه.
وكان قسيم الدولة البرسقي، أتابك الملك مسعود، قد فارق شحنكية بغداد، وقد أقطعه مسعود مراغة، مضافة إلى الرحبة، وبينه وبين دبيس عداوة محكمة، فكاتب دبيس جيوش بك يشير عليه بقبض البرسقي، وينسبه إلى الميل إلى السلطان محمود، وبذل له مالاً كثيراً على قبضه، فعلم البرسقي ذلك، ففارقهم إلى السلطان محمود، فأكرمه وأعلى محله وزاد في تقديمه.
واتصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني الطغرائي بالملك مسعود، فكان ولده أبو المؤيد، محمد بن أبي إسماعيل، يكتب الطغراء مع الملك، فلما وصل والده استوزره مسعود، بعد أن عزل أبا علي بن عمار، صاحب طرابلس، سنة ثلاث عشرة بباب خوي، فحسن ما كان دبيس يكاتب به من مخالفة السلطان محمود والخروج عن طاعته.
وظهر ما هم عليه من ذلك، فبلغ السلطان محموداً الخبر، فكتب إليهم يخوفهم إن خالفوه، ويعدهم الإحسان إن أقاموا على طاعته وموافقته، فلم يصغوا إلى قوله، وأظهروا ما كانوا عليه، وما يسرونه، وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة، وضربوا له النوب الخمس، وكان ذلك على تفرق من عساكر السلطان محمود، فقوي طمعهم، وأسرعوا السير إليه ليلقوه وهو مخفف من العساكر، فاجتمع إليه خمسة عشر ألفاً، فسار أيضاً إليهم، فالتقوا عند عقبة أسداباذ، منتصف ربيع الأول، واقتتلوا من بكرة إلى آخر النهار.

وكان البرسقي في مقدمة السلطان محمود، وأبلى يومئذ بلاء حسناً، فانهزم عسكر الملك مسعود، آخر النهار، وأسر منهم جماعة كثيرة من أعيانهم ومقدميهم، وأسر الأستاذ أبو إسماعيل وزير مسعود، فأمر السلطان بقتله، وقال: قد ثبت عندي فساد دينه واعتقاده، فكانت وزارته سنة وشهراً، وقد جاوز ستين سنة، وكان حسن الكتابة والشعر، يميل إلى صنعة الكيمياء، وله فيها تصانيف قد ضيعت من الناس أموالاً لا تحصى.
وأما الملك مسعود فإنه لما انهزم أصحابه وتفرقوا قصد جبلاً بينه وبين الوقعة اثنا عشر فرسخاً، فاختفى فيه ومعه غلمان صغار، فأرسل ركابية عثمان إلى أخيه يطلب له الأمان، فسار إلى السلطان محمود وأعلمه حال أخيه مسعود، فرق له، وبذل له الأمان، وأمر آقسنقر البرسقي بالمسير إليه، وتطييب قلبه، وإعلامه بعفوه عنه، وإحضاره، فكان مسعود بعد أن أرسل يطلب الأمان قد وصل بعض الأمراء إليه، وحسن له اللحاق بالموصل، وكانت له، ومعها أذربيجان، وأشار عليه بمكاتبة دبيس بن صدقة ليجتمع به، ويكثر جمعه، ويعاود طلب السلطنة، فسار معه من مكانه.
ووصل البرسقي فلم يره، فأخبر بمسيره، فسار في أثره، وعزم على طلبه ولو إلى الموصل، وجد في السير، فأدركه على ثلاثين فرسخاً من مكانه ذلك، وعرفه عفو أخيه عنه، وضمن له ما أراد، وأعاده إلى العسكر، فأمر السلطان محمود العساكر باستقباله وتعظيمه، ففعلوا ذلك، وأمر السلطان أن ينزل عند والدته، وجلس له، وأحضره، واعتنقا، وبكيا، وانعطف عليه محمود، ووفى له بما بذله، وخلطه بنفسه في كل أفعاله، فعد ذلك من مكارم محمود، وكانت الخطبة بالسلطنة لمسعود بأذربيجان، وبلد الموصل، والجزيرة، ثمانية وعشرين يوماً.
وأما أتابكه جيوش بك فإنه سار إلى عقبة أسادباذ، وانتظر الملك مسعوداً، فلم يره، وانتظر بمكان آخر، فلم يصل إليه، فلما أيس منه سار إلى الموصل، ونزل بظاهرها، وجمع الغلات من السواد إليها، واجتمع إليه عسكره، فلما سمع بما فعله السلطان مع أخيه، وأنه عنده، علم أنه لا مقام له على هذا الحال، فسار كأنه يريد الصيد، فوصل إلى الزاب، وقال لمن معه: إنني قد عزمت على قصد السلطان محمود، وأخاطر بنفسي، فسار إليه، فوصل وهو بهمذان، ودخل إليه، فطيب قلبه وأمنه، وأحسن إليه.
وأما دبيس بن مزيد فإنه كان بالعراق، فلما بلغه خبر انهزام الملك مسعود نهب البلاد وخربها، وفعل فيها الأفاعيل القبيحة، إلى أن أتاه رسول السلطان محمود، وطيب قلبه، فلم يلتفت.
ذكر حال دبيس وما كان منهلما كان منه ببغداد وسوادها من النهب والقتل والفساد ما لم يجر مثله، أرسل إليه الخليفة المسترشد بالله رسالة ينكر عليه، ويأمره بالكف، فلم يفعل، فأرسل إليه السلطان وطيب قلبه، وأمره بمنع أصحابه عن الفساد، فلم يقبل، وسار بنفسه إلى بغداد، وضرب سرادقه بإزاء دار الخلافة، وأظهر الضغائن التي في نفسه، وكيف طيف برأس أبيه، وتهدد الخليفة، وقال: إنك أرسلت تستدعي السلطان، فإن أعدتموه، وإلا فعلت وصنعت. فأعيد جواب رسالته: أن عود السلطان، وقد سار عن همذان، غير ممكن، ولكنا نصلح حالك معه.
وكان الرسول شيخ الشيوخ إسماعيل، فكف على أن تسير الرسل في الاتفاق بينه وبين السلطان، وعاد عن بغداد في رجب.
ووصل السلطان في رجب إلى بغداد، فأرسل دبيس زوجته ابنة عميد الدولة بن جهير إليه، ومعها مال كثير، وهدية نفيسة، وسأل الصفح عنه، فأجيب إلى ذلك على قاعدة امتنع منها، ولزم لجاجه، ونهب جشيراً للسلطان. فسار السلطان عن بغداد، في شوال، إلى قصد دبيس بالحلة، واستصحب ألف سفينة ليعبر فيها، فلما علم دبيس مسير السلطان أرسل يطلب الأمان، فأمنه، وكان قصده أن يغالطه ليتجهز، فأرسل نساءه إلى البطيحة، وأخذ أمواله وسار عن الحلة، بعد أن نهبها، إلى إيلغازي ملتجأً إليه، ووصل السلطان إلى الحلة، فلم ير أحداً، فبات بها ليلة واحدة وعاد.

وأقام دبيس عند إيلغازي، وتردد معه، ثم إنه أرسل أخاه منصوراً في جيش من قلعة جعبر إلى العراق، فنظر الحلة، والكوفة، وانحدر إلى البصرة، وأرسل إلى يرنقش الزكوي يسأله أن يصلح حاله مع السلطان، فلم يتم أمره، فأرسل إلى أخيه دبيس يعرفه ذلك، ويدعوه إلى العراق، فسار من قلعة جعبر إلى الحلة سنة خمس عشرة، فدخلها وملكها، وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر، ويعد من نفسه الطاعة، فلم يجب إلى ذلك.
وسيرت إليه العساكر، فلما قاربوه فارق الحلة، ودخل إلى الأزير، وهو نهر سنداد، ووصل العسكر إليها وهي فارغة قد أجلي أهلها عنها، وليس بها إقامة، فكانت الميرة تنقل من بغدد، وكان مقدم العسكر سعد الدولة يرنقش الزكوي، فترك بالحلة خمسمائة فارس، وبالكوفة جماعة أخرى تحفظ الطريق على دبيس، وأرسل إلى عسكر واسط يحفظ طريق البطيحة، ففعلوا ذلك، وعبر عسكر السلطان إلى دبيس، فبقي بين الطائفتين نهر يخاض فيه مواضع، فتراسل يرنقش ودبيس، واتفقا على أن يرسل دبيس أخاه منصوراً رهيناً، ويلازم الطاعة، ففعل، وعاد العسكر إلى بغداد سنة ست عشرة.
ذكر خروج الكرج إلى بلاد الإسلام وملك تفليسفي هذه السنة خرج الكرج، وهم الخزر، إلى بلاد الإسلام، وكانوا قديماً يغيرون، فامتنعوا أيام السلطان ملكشاه إلى آخر أيام السلطان محمد، فلما كانت هذه السنة خرجوا ومعهم قفجاق وغيرهم من الأمم المجاورة لهم، فتكاتب الأمراء المجاورون لبلادهم، واجتمعوا، منهم: الأمير إيلغازي، ودبيس بن صدقة، وكان عنده، والملك طغرل بن محمد، وأتابكه كنتغدي، وكان لطغرل بلد أران، ونقجوان إلى أرس، فاجتمعوا وساروا إلى الكرج، فلما قاربوا تفليس، وكان المسلمون في عسكر كثير يبلغون ثلاثين ألفاً، التقوا واصطفت الطائفتان للقتال، فخرج من القفجاق مائتا رجل، فظن المسلمون أنهم مستأمنون، فلم يحترزوا منهم، ودخلوا بينهم، ورموا بالنشاب، فاضطرب صف المسلمين، فظن من بعد أنها هزيمة، فانهزموا، وتبع الناس بعضهم بعضاً منهزمين، ولشدة الزحام صدم بعضهم بعضاً، فقتل منهم عالم عظيم.
وتبعهم الكفار عشرة فراسخ يقتلون ويأسرون، فقتل أكثرهم، وأسروا أربعة آلاف رجل، ونجا الملك طغرل، وإيلغازي، ودبيس، وعاد الكرج فنهبوا بلاد الإسلام، وحصروا مدينة تفليس، واشتد قتالهم لمن بها، وعظم الأمر، وتفاقم الخطب على أهلها، ودام الحصار إلى سنة خمس عشة فملكوها عنوة.
وكان أهلها لما أشرفوا على الهلاك قد أرسلوا قاضيها وخطيبها إلى الكرج في طلب الأمان، فلم تصغ الكرج إليهما فأخرقوا بهما، ودخلوا البلد قهراً وغلبة، واستباحوه ونهبوه، ووصل المستنفرون منهم إلى بغداد مستصرخين ومستنصرين سنة ست عشرة، فبلغهم أن السلطان محموداً بهمذان، فقصدوه واستغاثوا به فسار إلى أذربيجان، وأقام بمدينة تبريز شهر رمضان، وأنفذ عسكراً إلى الكرج، وسيرد ذكر ما كان منهم، إن شاء الله تعالى.
ذكر غزوات إيلغازي هذه السنةفي هذه السنة أرسل المسترشد بالله خلعاً مع سديد الدولة بن الأنباري لنجم الدين إيلغازي، وشكره على ما يفعله من غزو الفرنج، ويأمره بإبعاد دبيس عنه، وسار أبو علي بن عمار الذي كان صاحب طرابلس، مع ابن الأنباري إلى إيلغازي ليقيم عنده، يعبر الأوقات بما ينعم به عليه، فاعتذر عن إبعاد دبيس، ووعد به، ثم سار إلى الفرنج، وكان قد جمع لهم جمعاً، فالتقوا بموضع اسمه ذات البقل من أعمال حلب، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكان الظفر له.
ثم اجتمع إيلغازي وأتابك طغتكين، صاحب دمشق، وحصروا الفرنج في معرة قنسرين يوماً وليلة، ثم أشار أتابك طغتكين بالإفراج عنهم، كيلا يحملهم الخوف على أن يستقتلوا ويخرجوا إلى المسلمين، فربما ظفروا، وكان أكثر خوفه من دبر خيل التركمان، وجودة خيل الفرنج، فأفرج لهم إيلغازي، فساروا عن مكانهم وتخلصوا، وكان إيلغازي لا يطيل المقام في بلد الفرنج لأنه كان يجمع التركمان للطمع، فيحضر أحدهم ومعه جراب فيه دقيق، وشاة، ويعد الساعات لغنيمة يتعجلها، ويعود، فإذا طال مقامهم تفرقوا، ولم يكن له من الأموال ما يفرقها فيهم.
ذكر ابتداء أمر محمد بن تومرت

وعبد المؤمن وملكهما

في هذه السنة كان ابتداء أمر المهدي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت العلوي، الحسني، وقبيلته من المصامدة، تعرف بهرغة في جبل السوس، من بلاد المغرب، نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير، ونذكر أمره وأمر عبد المؤمن هذه السنة إلى أن فرغ من ملك المغرب لنتبع بعض الحادثة بعضاً.
وكان ابن تومرت قد رحل في شبيبته إلى بلاد الشرق في طلب العلم، وكان فقيهاً، فاضلاً، عالماً بالشريعة، حافظاً للحديث، عارفاً بأصولي الدين والفقه، متحققاً بعلم العربية، وكان ورعاً، ناسكاً، ووصل في سفره إلى العراق، واجتمع بالغزالي، والكيا، واجتمع بأبي بكر الطرطوشي بالإسكندرية، وقيل إنه جرى له حديث مع الغزالي فيما فعله بالمغرب من التملك، فقال له الغزالي: إن هذا لا يتمشى في هذه البلاد، ولا يمكن وقوعه لأمثالنا.
كذا قال بعض مؤرخي المغرب، والصحيح أنه لم يجتمع به، فحج من هناك وعاد إلى المغرب، ولما ركب البحر من الإسكندرية، مغرباً، غير المنكر في المركب، وألزم من به بإقامة الصلاة، وقراءة القرآن، حتى انتهى إلى المهدية، وسلطانها حينئذ يحيى بن تميم، سنة خمس وخمسمائة، فنزل بمسجد قبلي مسجد السبت، وليس له سوى ركوة، وعصاً، وتسامع به أهل البلد، فقصدوه يقرأون عليه أنواع العلوم، وكان إذا مر به منكر غيره وأزاله، فلما كثر ذلك منه أحضره الأمير يحيى مع جماعة من الفقهاء، فلما رأى سمته وسمع كلامه أكرمه واحترمه، وسأله الدعاء.
ورحل عن المدينة وأقام بالمنستير مع جماعة من الصالحين، مدة، وسار إلى بجاية ففعل فيها مثل ذلك، فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملالة، فلقيه بها عبد المؤمن بن علي، فرأى فيه من النجابة والنهضة ما تفرس فيه التقدم، والقيام بالأمر، فسأله عن اسمه وقبيلته، فأخبره أنه من قيس عيلان، ثم من بني سليم، فقال ابن تومرت: هذا الذي بشر به النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قال: " إن الله ينصر هذا الدين، في آخر الزمان، برجل من قيس " ، فقيل: من أي قيس؟ فقال: " من بني سليم " . فاستبشر بعبد المؤمن وسر بلقائه، وكان مولد عبد المؤمن في مدينة تاجرة، من أعمال تلمسان، وهو عائذ، قبيل من كومرة، نزلوا بذلك الإقليم سنة ثمانين ومائة.
ولم يزل المهدي ملازماً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في طريقه إلى أن وصل إلى مراكش دار مملكة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فرأى فيها من المنكرات أكثر مما عاينه في طريقه، فزاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فكثر أتباعه، وحسنت ظنون الناس فيه، فبينما هو في بعض الأيام في طريقه، إذ رأى أخت أمير المسلمين في موكبها، ومعها من الجواري الحسان عدة كثيرة، وهن مسفرات، وكانت هذه عادة الملثمين يسفر نساؤهم عن وجوههن، ويتلثم الرجال، فحين رأى النساء كذلك أنكر عليهن، وأمرهن بستر وجوههن وضرب هو وأصحابه دوابهن، فسقطت أخت أمير المسلمين عن دابتها، فرفع أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فأحضره، وأحضر الفقهاء ليناظروه، فأخذ يعظه ويخوفه، فبكى أمير المسلمين، وأمر أن يناظره الفقهاء، فلم يكن فيهم من يقوم له لقوة أدلته في الذي فعله.
وكان عند أمير المسلمين بعض وزرائه يقال له مالك بن وهيب، فقال: يا أمير المسلمين، إن هذا والله لا يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يريد إثارة فتنة، والغلبة على بعض النواحي، فاقتله وقلدني دمه. فلم يفعل ذلك، فقال: إن لم تقتله فاحبسه، وخلده في السجن، وإلا أثار شراً لا يمكن تلافيه. فأراد حبسه، فمنعه رجل من أكابر الملثمين يسمى بيان بن عثمان، فأمر بإخراجه من مراكش، فسار إلى أغمات، ولحق بالجبل، فسار فيه، حتى التحق بالسوس الذي فيه قبيلة هرغة وغيرهم من المصامدة سنة أربع عشرة، فأتوه، واجتمعوا حوله.

وتسامع به أهل تلك النواحي، فوفدوا عليه، وحضر أعيانهم بين يديه، وجعل يعظهم، ويذكرهم بأيام الله، ويذكر لهم شرائع الإسلام، وما غير منها، وما حدث من الظلم والفساد، وأنه لا يجب طاعة دولة من هذه الدول لاتباعهم الباطل، بل الواجب قتالهم، ومنعهم عما هم فيه، فأقام على ذلك نحو سنة، وتابعته هرغة قبيلته، وسمى أتباعه الموحدين، وأعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، بشر بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، وأن مكانه الذي يخرج منه المغرب الأقصى، فقام إليه عشرة رجال، أحدهم عبد المؤمن، فقالوا لا يوجد هذا إلا فيك فأنت المهدي، فبايعوه على ذلك.
فانتهى خبره إلى أمير المسلمين، فجهز جيشاً من أصحابه وسيرهم إليه، فلما قربوا من الجبل الذي هو فيه قال لأصحابه: إن هؤلاء يريدونني، وأخاف عليكم منهم، فالرأي أن أخرج بنفسي إلى غير هذه البلاد لتسلموا أنتم. فقال له ابن توفيان من مشايخ هرغة: هل تخاف شيئاً من السماء؟ فقال: لا، بل من السماء تنصرون، فقال ابن توفيان: فليأتنا كل من في الأرض. ووافقه جميع قبيلته، فقال المهدي: أبشروا بالنصر بهذه الشرذمة، وبعد قليل تستأصلون دولتهم، وترثون أرضهم. فنزلوا من الجبل، ولقوا جيش أمير المسلمين، فهزموهم، وأخذوا أسلابهم، وقوي ظنهم في صدق المهدي، حيث ظفروا كما ذكر لهم.
وأقبلت إليه أفرواج القبائل، من الحلل التي حوله، شرقاً وغرباً، وبايعوه، وأطاعته قبيلة هنتانة، وهي من أقوى القبائل، فأقبل عليهم، واطمأن إليهم، وأتاه رسل أهل تين ملل بطاعتهم، وطلبوه إليهم، فتوجه إلى جبل تين ملل واستوطنه، وألف لهم كتاباً في التوحيد، وكتاباً في العقيدة، ونهج لهم طريق الأدب بعضهم مع بعض، والاقتصار على القصير من الثياب، القليل الثمن، وهو يحرضهم على قتال عدوهم، وإخراج الأشرار من بين أظهرهم.
وأقام بتين ملل وبنى له مسجداً خارج المدينة، فكان يصلي فيه وجمع ممن معه عنده، ويدخل البلد بعد العشاء الآخرة، فلما رأى كثرة أهل الجبل، وحصانة المدينة، خاف أن يرجعوا عنه، فأمرهم أن يحضروا بغير سلاح، ففعلوا ذلك عدة أيام، ثم أمر أصحابه أن يقتلوهم، فخرجوا عليهم وهم غارون فقتلوهم في ذلك المسجد، ثم دخل المدينة فقتل فيها وأكثر، وسبى الحريم ونهب الأموال، فكان عدة القتلى خمسة عشر ألفاً، وقسم المساكن والأرض بين أصحابه، وبنى على المدينة سوراً، وقلعة على رأس جبل عال.
وفي جبل تين ملل أنهار جارية، وأشجار، وزروع، والطريق إليه صعب، فلا جبل أحصن منه، وقيل: إنه لما خاف أهل تين ملل نظر، فرأى كثير من أولادهم شقراً زرقاً، والذي يغلب على الآباء السمرة، وكان لأمير المسلمين عدة كثيرة من المماليك الفرنج والروم، ويغلب على ألوانهم الشقرة، وكانوا يصعدون الجبل في كل عام مرة، ويأخذون ما لهم فيه من الأموال المقررة لهم من جهة السلطان، فكانوا يسكنون بيوت أهله، ويخرجون أصحابها منها، فلما رأى المهدي أولادهم سألهم: مالي أراكم سمر الألوان، وأرى أولادكم شقراً، زرقاً؟ فأخبروه خبرهم مع مماليك أمير المسلمين، فقبح الصبر على هذا، وأزرى عليهم، وعظم الأمر عندهم، فقالوا له: فكيف الحيلة في الخلاص منهم، وليس لنا بهم قوة؟ فقال: إذا حضروا عندكم في الوقت المعتاد، وتفرقوا في مساكنهم، فليقم كل رجل منكم إلى نزيله فيقتله، واحفظوا جبلكم، فإنه لا يرام ولا يقدر عليه. فصبروا حتى حضر أولئك العبيد، فقتلوهم على ما قرر لهم المهدي، فلما فعلوا ذلك خافوا على نفوسهم من أمير المسلمين، فامتنعوا في الجبل، وسدوا ما فيه من طريق يسلك إليهم، فقويت نفس المهدي بذلك.
ثم إن أمير المسلمين أرسل إليهم جيشاً قوياً، فحصروهم في الجبل، وضيقوا عليهم، ومنعوا عنهم الميرة، فقلت عند أصحاب المهدي الأقوات، حتى صار الخبز معدوماً عندهم، وكان يطبخ لهم كل يوم من الحساء ما يكفيهم، فكان قوت كل واحد منهم أن يغمس يده في ذلك الحساء ويخرجها، فما علق عليها قنع به ذلك اليوم، فاجتمع أعيان أهل تين مل، وأرادوا إصلاح الحال مع أمير المسلمين، فبلغ الخبر بذلك المهدي بن تومرت، وكان معه إنسان يقال له أبو عبد الله الونشريشي، يظهر البله، وعدم المعرفة بشيء من القرآن والعلم، وبزاقه يجري على صدره، وهو كأنه معتوه، ومع هذا فالمهدي يقربه، ويكرمه، ويقول: إن لله سراً في هذا الرجل سوف يظهر.

وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم في السر بحيث لا يعلم أحد ذلك منه، فلما كان سنة تسع عشرة وخاف المهدي من أهل الجبل، خرج يوماً لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنساناً حسن الثياب، طيب الريح، فأظهر أنه لا يعرفه، وقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو عبد الله الونشريشي! فقال له المهدي: إن أمرك لعجب! ثم صلى، فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا، فقال: إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي، فانظروه، وحققوا أمره. فلما أضاء النهار عرفوه، فقال له المهدي: ما قصتك؟ قال: إنني أتاني الليلة ملك من السماء، فغسل قلبي، وعلمني الله القرآن، والموطأ، وغيره من العلوم والأحاديث. فبكى المهدي بحضرة الناس، ثم قال له: نحن نمتحنك، فقال: افعل.
وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أي موضع سئل، وكذلك الموطأ، وغيره من كتب الفقه والأصول، فعجب الناس من ذلك، واستعظموه.
ثم قال لهم: إن الله تعالى قد أعطاني نوراً أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار، وتتركوا أهل الجنة، وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي.
فسار المهدي، والناس معه وهم يبكون، إلى تلك البئر، وصلى المهدي عند رأسها، وقال: يا ملائكة الله، إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت، فقال من بها: صدق! وكان قد وضع فيها رجالاً يشهدون بذلك، فلما قيل ذلك من البئر، قال المهدي: إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة، والمصلحة أن تطم لئلا يقع فيها نجاسة، أو ما لا يجوز، فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طمها، ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان، فحضروا للتمييز، فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته، فيقول: هذا من أهل النار، فيلقى من الجبل مقتولاً، وإلى الشاب الغر، ومن لا يخشى، فيقول: هذا من أهل الجنة، فيترك على يمينه، فكان عدة القتلى سبعين ألفاً. فلما فرغ من ذلك أمن على نفسه وأصحابه واستقام أمره.
هكذا سمعت جماعة من فضلاء المغاربة يذكرون في التمييز، وسمعت منهم من يقول: إن ابن تومرت لما رأى كثرة أهل الشر والفساد في أهل الجبل، أحضر شيوخ القبائل، وقال لهم: إنكم لا يصح لكم دين، ولا يقوى إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخراج المفسد من بينكم، فابحثوا عن كل ما عندكم من أهل الشر والفساد، فانهوهم عن ذلك، فإن انتهوا، وإلا فاكتبوا أسماءهم وارفعوها إلي لأنظر في أمرهم. ففعلوا ذلك، وكتبوا له أسماءهم من كل قبيلة، ثم أمرهم بذلك مرة ثانية، وثالثة، ثم جمع المكتوبات فأخذه منها ما تكرر من الأسماء فأثبتها عنده، ثم جمع الناس قاطبة، ورفع الأسماء التي كتبها، ودفعها إلى الونشريشي المعروف بالبشير، وأمره أن يعرض القبائل، ويجعل أولئك المفسدين في جهة الشمال، ومن عداهم في جهة اليمين، ففعل ذلك، وأمر أن يكتف من على شمال الونشريشي، فكتفوا، وقال: إن هؤلاء أشقياء قد وجب قتلهم، وأمر كل قبيلة أن يقتلوا أشقياءهم، فقتلوا عن آخرهم فكان يوم التمييز.
ولما فرغ ابن تومرت من التمييز، رأى أصحابه الباقين على نيات صادقة، وقلوب متفقة على طاعته، فجهز منهم جيشاً وسيرهم إلى جبال أغمات، وبها جمع من المرابطين، فقاتلوهم، فانهزم أصحاب ابن تومرت، وكان أميرهم أبو عبد الله الونشريشي، وقتل منهم كثير، وجرح عمر الهنتاتي، وهو من أكبر أصحابه، وسكن حسه ونبضه، فقالوا: مات! فقال الونشريشي: أما إنه لم يمت، ولا يموت حتى يملك البلاد. فبعد ساعة فتح عينيه، وعادت قوته إليه، فافتتنوا به، وعادوا منهزمين إلى ابن تومرت، فوعظهم، وشكرهم على صبرهم.
ثم لم يزل بعدها يرسل السرايا في أطراف بلاد المسلمين، فإذا رأوا عسكراً تعلقوا بالجبل فأمنوا. وكان المهدي قد رتب أصحابه مراتب، فالأولى يسمون أيت عشرة يعني أهل عشرة، وأولهم عبد المؤمن، ثم أبو حفص الهنتاتي، وغيرهما، وهم أشرف أصحابه، وأهل الثقة عنده، والسابقون إلى متابعته، والثانية: أيت خمسين، يعني أهل خمسين، وهم دون تلك الطبقة، وهم جماعة من رؤساء القبائل، والثالثة: أيت سبعين، يعني أهل سبعين، وهم دون التي قبلها، وسمي عامة أصحابه والداخلين في طاعته موحدين، فإذا ذكر الموحدون في أخبارهم فإنما يعنى أصحابه وأصحاب عبد المؤمن بعده.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34