كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

ولم يزل أمر ابن تومرت يعلو إلى سنة أربع وعشرين، فجهز المهدي جيشاً كثيفاً يبلغون أربعين ألفاً، أكثرهم رجالة، وجعل عليهم الونشريشي، وسير معهم عبد المؤمن، فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها، وضيقوا عليها، وبها أمير المسلمين علي بن يوسف، فبقي الحصار عليها عشرين يوماً، فأرسل أمير المسلمين إلى متولي سجلماسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش، فجمع جيشاً كثيراً وسار، فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مراكش من غير الجهة التي أقبل منها، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكثر القتل في أصحاب المهدي، فقتل الونشريشي أميرهم، فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميراً عليهم.
ولم يزل القتال بينهم عامة النهار، وصلى عبد المؤمن صلاة الخوف، الظهر والعصر، والحرب قائمة، ولم تصل بالمغرب قبل ذلك، فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين، وقوتهم، أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك، والبستان يسمى عندهم البحيرة، فلهذا قيل وقعة البحيرة، وعام البحيرة، وصاروا يقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل، وقد قتل من المصامدة أكثرهم، وحين قتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن، فطلبه المصامدة، فلم يروه في القتلى، فقالوا: رفعته الملائكة، ولما جنهم الليل سار عبد المؤمن ومن سلم من القتلى إلى الجبل.
ذكر وفاة المهدي وولاية عبد المؤمنلما سير الجيش إلى حصار مراكش مرض مرضاً شديداً، فلما بلغه خبر الهزيمة اشتد مرضه، وسأل عن عبد المؤمن، فقيل: هو سالم، فقال: ما مات أحد، الأمر قائم، وهو الذي يفتح البلاد. ووصى أصحابه باتباعه، وتقديمه، وتسليم الأمر إليه، والانقياد له، ولقبه أمير المؤمنين.
ثم مات المهدي، وكان عمره إحدى وخمسين سنة، وقيل: خمساً وخمسين سنة، ومدة ولايته عشرين سنة، وعاد عبد المؤمن إلى تين ملل، وأقام بها يتألف القلوب، ويحسن إلى الناس، وكان جواداً مقداماً في الحروب، ثابتاً في الهزاهز، إلى أن دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، فتجهز وسار في جيش كثير، وجعل يمشي مع الجبل إلى أن وصل إلى تادلة، فمانعه أهلها، وقاتلوه، فقهرهم، وفتحها وسائر البلاد التي تليها ومشى في الجبال يفتح ما امتنع عليه، وأطاعته صنهاجة الجبل.
وكان أمير المسلمين قد جعل ولي عهده ابنه سير، فمات، فأحضر أمير المسلمين ابنه تاشفين من الأندلس، وكان أميراً عليها، فلما حضر عنده جعله ولي عهده سنة إحدى وثلاثين، وجعل معه جيشاً، وصار يمشي في الصحراء قبالة عبد المؤمن في الجبال.
وفي سنة اثنتين وثلاثين كان عبد المؤمن في النواظر، وهو جبل عال مشرف، وتاشفين في الوطأة، وكان يخرج من الطائفتين قوم يترامون ويتطاردون، ولم يكن بينهما لقاء، ويسمى عام النواظر.
وفي سنة ثلاث وثلاثين توجه عبد المؤمن، مع الجبل، في الشعراء، حتى انتهى إلى جبل كرناطة، فنزل في أرض صلبة، بين شجر، ونزل تاشفين قبالته، في الوطأة، في أرض لا نبات فيها، وكان الفصل شاتياً، فتوالت الأمطار أياماً كثيرة لا تقلع، فصارت الأرض التي فيها تاشفين وأصحابه كثيرة الوحل، تسوخ فيها قوائم الخيل إلى صدورها، ويعجز الرجل عن المشي فيها، وتقطعت الطرق عنهم، فأوقدوا رماحهم، وقرابيس سروجهم، وهلكوا جوعاً وبرداً وسوء حال.
وكان عبد المؤمن وأصحابه في أرض خشنة صلبة في الجبل، لا يبالون بشيء، والميرة متصلة إليهم، وفي ذلك الوقت سير عبد المؤمن جيشاً إلى وجرة من أعمال تلمسان، ومقدمهم أبو عبد الله محمد بن رقو، وهو من أيت خمسين، فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى بن فانوا، متولي تلمسان، فخرج في جيش من الملثمين، فالتقوا بموضع يعرف بخندق الخمر، فهزمهم جيش عبد المؤمن، وقتل محمد بن يحيى وكثير من أصحابه، وغنموا ما معهم ورجعوا، فتوجه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى غمارة، فأطاعوه قبيلة بعد قبيلة، وأقام عندهم مدة.
وما برح يمشي في الجبال، وتاشفين يحاذيه في الصحاري، فلم يزل عبد المؤمن كذلك إلى سنة خمس وثلاثين، فتوفي أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش وملك بعده ابنه تاشفين، فقوي طمع عبد المؤمن في البلاد، إلا أنه لم ينزل الصحراء.

وفي سنة ثمان وثلاثين توجه عبد المؤمن إلى تلمسان، فنازلها، وضرب خيامه في جبل بأعلاها، ونزل تاشفين على الجانب الآخر من البلد، وكان بينهم مناوشة، فبقوا كذلك إلى سنة تسع وثلاثين، فرحل عبد المؤمن عنها إلى جبل تاجرة، ووجه جيشاً مع عمر الهنتاتي إلى مدينة وهران، فهاجمها بغتة، وحصل هو وجيشه فيها، فسمع بذلك تاشفين فسار إليها، فخرج منها عمر، ونزل تاشفين بظاهر وهران، على البحر، في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين، فجاءت ليلة سبع وعشرين منه، وهي ليلة يعظمها أهل المغرب، وبظاهر وهران ربوة مطلة على البحر، وبأعلاها ثنية يجتمع فيها المتعبدون، وهو موضع معظم عندهم، فسار إليه تاشفين في نفر يسير من أصحابه متخفياً، لم يعلم به إلا النفر الذين معه، وقصد التبرك بحضور ذلك الموضع مع أولئك الجماعة الصالحين، فبلغ الخبر إلى عمر بن يحيى الهنتاتي، فسار لوقته بجميع عسكره إلى ذلك المتعبد، وأحاطوا به، وملكوا الربوة، فلما خاف تاشفين على نفسه أن يأخذوه ركب فرسه وحمل عليه إلى جهة البحر، فسقط من جرف عال على الحجارة فهلك، ورفعت جثته على خشبة، وقتل كل من كان معه.
وقيل إن تاشفين قصد حصناً هناك على رابية، وله فيه بستان كبير فيه من كل الثمار، فاتفق أن عمر الهنتاتي، مقدم عسكر عبد المؤمن، سير سرية إلى ذلك الحصن، يعلمهم بضعف من فيه، ولم يعلموا أن تاشفين فيه، فألقوا النار في بابه فاحترق، فأراد تاشفين الهرب، فركب فرسه، فوثب الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور، فسقط في النار، فأخذ تاشفين، فاعترف، فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن، فمات في الحال لأن رقبته كانت قد اندقت، فصلب، وقتل كل من معه، وتفرق عسكره ولم يعد لهم جماعة. وملك بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف.
ولما قتل تاشفين أرسل عمر إلى عبد المؤمن بالخبر، فجاء من تاجَرة في يومه بجميع عسكره، وتفرق عسكر أمير المسلمين، واحتمى بعضهم بمدينة وهران، فلما وصل عبد المؤمن دخلها بالسيف، وقتل فيها ما لا يحصى. ثم سار إلى تلمسان، وهما مدينتان بينهما شوط فرس، إحداهما تاهرت، وبها عسكر المسلمين، والأخرى أقادير، وهي بناء قديم، فامتنعت أقادير، وغلقت أبوابها، وتأهب أهلها للقتال.
وأما تاهرت، فكان فيها يحيى بن الصحراوية، فهرب منها بعسكره إلى مدينة فاس، وجاء عبد المؤمن إليها، فدخلها لما فر منها العسكر، ولقيه أهلها بالخضوع والاستكانة، فلم يقبل منهم ذلك، وقتل أكثرهم، ودخلها عسكره، ورتب أمرها، ورحل عنها، وجعل على أقادير جيشاً يحصرها، وسار إلى مدينة فاس سنة أربعين فنزل على جبل مطل عليها، وحصرها تسعة أشهر، وفيها يحيى بن الصحراوية، وعسكره الذين فروا من تلمسان، فلما طال مقام عبد المؤمن عمد إلى نهر يدخل البلد فسكره بالأخشاب والتراب وغير ذلك، فمنعه من دخول البلد، وصار بحيرة تسير فيها السفن، ثم هدم السكر، فجاء الماء دفعة واحدة فخرب سور البلد، وكل ما يجاور النهر من البلد، وأراد عبد المؤمن أن يدخل البلد، فقاتله أهله خارج السور، فتعذر عليه ما قدره من دخوله.
وكان بفاس عبد الله بن خيار الجياني عاملاً عليها وعلى جميع أعمالها، فاتفق هو وجماعة من أعيان البلد، وكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس، فأجابهم إليه، ففتحوا له باباً من أبوبها، فدخلها عسكره، وهرب يحيى بن الصحراوية، وكان فتحها آخر سنة أربعين وخمسمائة، وسار إلى طنجة، ورتب عبد المؤمن أمر مدينة فاس، وأمر فنودي في أهلها: من ترك عنده سلاحاً وعدة قتال حل دمه، فحمل كل من في البلد ما عندهم من سلاح إليه، فأخذه منهم.
ثم رجع إلى مكناسة، ففعل بأهلها مثل ذلك، وقتل من بها من الفرسان والأجناد. وأما العسكر الذي كان على تلمسان فإنهم قاتلوا أهلها، ونصبوا المجانيق، وأبراج الخشب، وزحفوا بالدبابات، وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان، فدام الحصار نحو سنة، فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن، بغير علم الفقيه عثمان، وأدخلوهم البلد، فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم، فقتل أكثر أهله، وسبيت الذرية والحريم، ونهب من الأموال ما لا يحصى، ومن الجوهر ما لا تحد قيمته، ومن لم يقتل بيع بأوكس الأثمان، وكان عدة القتلى مائة ألف قتيل، وقيل: إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان، وسار منها إلى فاس، والله أعلم.

وسير عبد المؤمن سرية إلى مكناسة، فحصروها مدة، ثم سلمها إليهم أهلها بالأمان فوفوا لهم.
وسار عبد المؤمن من فاس إلى مدينة سلا ففتحها، وحضر عنده جماعة من أعيان سبتة، فدخلوا في طاعته، فأجابهم إلى بذل الأمان، وكان ذلك سنة إحدى وأربعين.
ذكر ملك عبد المؤمن مدينة مراكشلما فرغ عبد المؤمن من فاس، وتلك النواحي، سار إلى مراكش، وهي كرسي مملكة الملثمين، وهي من أكبر المدن وأعظمها، وكان صاحبها حينئذ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، وهو صبي، فنازلها، وكان نزوله عليها سنة إحدى وأربعين، فضرب خيامه في غربيها على جبل صغير، وبنى عليه مدينة له ولعسكره، وبنى بها جامعاً وبنى له بناء عالياً يشرف منه على المدينة، ويرى أحوال أهلها، وأحوال المقاتلين من أصحابه، وقاتلها قتالاً كثيراً، وأقام عليها أحد عشر شهراً، فكان من بها من المرابطين يخرجون يقاتلونهم بظاهر البلد، واشتد الجوع على أهله، وتعذرت الأقوات عندهم.
ثم زحف إليهم يوماً، وجعل لهم كميناً، وقال لهم: إذا سمعتم صوت الطبل فاخرجوا، وجلس هو بأعلى المنظرة التي بناها يشاهد القتال، وتقدم عسكره، وقاتلوا، وصبروا، ثم إنهم انهزموا لأهل مراكش ليتبعوهم إلى الكمين الذي لهم، فتبعهم الملثمون إلى أن وصلوا إلى مدينة عبد المؤمن، فهدموا أكثر سورها، وصاحت المصامدة بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبل ليخرج الكمين، فقال لهم: اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد، فلما خرج أكثر أهله أمر بالطبل فضرب وخرج الكمين عليهم، ورجع المصامدة المنهزمون إلى الملثمين فقتلوهم كيف شاءوا، وعادت الهزيمة على الملثمين، فمات في زحمة الأبواب ما لا يحصيه إلا الله سبحانه.
وكان شيوخ الملثمين يدبرون دولة إسحاق بن علي بن يوسف لصغر سنة، فاتفق أن إنساناً من جملتهم يقال له عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمناً وأطلعه على عوراتهم وضعفهم، فقوي الطمع فيهم، واشتد عليهم البلاء، ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج، وفنيت أقواتهم، وأكلوا دوابهم، ومات من العامة بالجوع ما يزيد على مائة ألف إنسان، فأنتن البلد من ريح الموتى.
وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم، فجاءوا إليهم نجدة، فلما طال عليهم الأمر راسلوا عبد المؤمن يسألون الأمان، فأجابهم إليه، ففتحوا له باباً من أبواب البلد يقال له باب أغمات، فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينة عنوة، وقتلوا من وجدوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين، فقتلوا، وجعل إسحاق يرتعد رغبة في البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقام إليه الأمير سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفاً، فبزق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمك؟ اصبر صبر الرجال، فهذا رجل لا يخاف الله ولا يدين بدين. فقام الموحدون إليه بالخشب فضربوه حتى قتلوه، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقدم إسحاق، على صغر سنه، فضربت عنقه سنة اثنتين وأربعين، وآخر ملوك المرابطين وبه انقرضت دولتهم، وكانت مدة ملكهم سبعين سنة، وولي منهم أربعة: يوسف وعلي وتاشفين وإسحاق.
ولما فتح عبد المؤمن مراكش أقام بها، واستوطنها واستقر ملكه. ولما قتل عبد المؤمن من أهل مراكش فأكثر فيهم القتل اختفى كثير من أهلها، فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنودي بأمان من بقي من أهلها، فخرجوا، فأراد أصحابه المصامدة قتلهم، فمنعهم، وقال: هؤلاء صناع، وأهل الأسواق من ننتفع به، فتركوا، وأمر بإخراج القتلى من البلد، فأخرجوهم، وبنى بالقصر جامعاً كبيراً، وزخرفه فأحسن عمله، وأمر بهدم الجامع الذي بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.
ولقد أساء يوسف بن تاشفين في فعله بالمعتمد بن عباد، وارتكب بسجنه على الحالة المذكورة أقبح مركب، فلا جرم سلط الله عليه في عقابه من أربى في الأخذ عليه وزاد، فتبارك الحي الدائم الملك، الذي لا يزول ملكه، وهذه سنة الدنيا، فأف لها، ثم أف، نسأل الله أن يختم أعمالنا بالحسنى، ويجعل خير أيامنا يوم نلقاه بمحمد وآله.
ذكر ظفر عبد المؤمن بدكالة

في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة سار بعض المرابطين من الملثمين إلى دكالة، فاجتمع إليه قبائلها، وصاروا يغيرون على أعمال مراكش، وعبد المؤمن لا يلتفت إليهم، فلما كثر ذلك منهم سار إليهم سنة أربع وأربعين، فلما سمعت دكالة بذلك انحشروا كلهم إلى ساحل البحر في مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس، وكانوا موصوفين بالشجاعة.
وكان مع عبد المؤمن من الجيوش ما يخرج عن الحصر، وكان الموضع الذي فيه دكالة كثير الحجر والحزونة، فكمنوا فيه كمناء ليخرجوا على عبد المؤمن إذا سلكه، فمن الاتفاق الحسن له أنه قصدهم من غير الجهة التي فيها الكمناء، فانحل عليهم ما قدروه، وفارقوا ذلك الموضع، فأخذهم السيف، فدخلوا البحر، فقتل أكثرهم، وغنمت إبلهم وأغنامهم وأموالهم، وسبيت نساؤهم وذراريهم، فبيعت الجارية الحسناء بدراهم يسيرة، وعاد عبد المؤمن إلى مراكش مظفراً منصوراً، وثبت ملكه، وخافه الناس في جميع المغرب، وأذعنوا له بالطاعة.
ذكر حصر مدينة كتندةفي هذه السنة، يعني سنة أربع عشرة وخمسمائة، وخرج ملك من ملوك الفرنج بالأندلس، يقال له ابن ردمير، فسار حتى انتهى إلى كتندة، وهي بالقرب من مرسية، في شرق الأندلس، فحصرها، وضيق على أهلها، وكان أمير المسلمين علي بن يوسف حينئذ بقرطبة، ومعه جيش كثير من المسلمين والأجناد المتطوعة، فسيرهم إلى ابن ردمير، فالتقوا واقتتلوا أشد القتال، وهزمهم ابن أردمير هزيمة منكرة، وكثر القتل في المسلمين، وكان فيمن قتل أبو عبد الله بن الفراء، قاضي المرية، وكان من العلماء العاملين، والزهاد في الدنيا العادلين في القضاء.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كسر بلك بن أرتق عفراس الرومي، وقتل من الروم خمسة آلاف رجل على قلعة سرمان من بلد الدكان وأسر عفراس وكثير من عسكره.
وفيها أغار جوسلين الفرنجي، صاحب الرها، على جيوش العرب والتركمان، وكانوا نازلين بصفين، غربي الفرات، وغنم من أموالهم وخيلهم ومواشيهم شيئاً كثيراً، ولما عاد خرب بزاعة.
وفيها تسلم أتابك طغتكين، صاحب دمشق، مدينة تدمر والشقيف.
وفيها أمر السلطان محمود الأمير جيوش بك بالمسير إلى حرب أخيه طغرل، فسار إليه، فسمع طغرل وأتابكه كنتغدي ذلك، فسارا إلى كنجة من بين يدي العسكر، ولم يجر قتال.
وفيها، في المحرم، توفي خالصة الدولة أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب بن السيبي صاحب المخزن ببغداد، وولي مكانه الكمال أبو الفتوح حمزة بن طلحة، المعروف بابن البقشلام، والد علم الدين الكاتب المعروف.
وفي جمادى الأولى منها توفي أبو سعد عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوزان القشيري، الإمام ابن الإمام، وكان أخذ العلم من قرابته، والطريقة أيضاً، ثم استفاد أيضاً من إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وسمع الحديث من جماعة، ورواه، وكان حسن الوعظ، سريع الخاطر، ولما توفي جلس الناس في البلاد البعيدة للعزاء به، حتى في بغداد برباط شيخ الشيوخ.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وخمسمائة

ذكر إقطاع البرسقي الموصل
في هذه السنة، في صفر، أقطع السلطان محمود مدينة الموصل وأعمالها، وما ينضاف إليها، كالجزيرة، وسنجار، وغيرهما، الأمير آقسنقر البرسقي.
وسبب ذلك: أنه كان في خدمة السلطان محمود، ناصحاً له، ملازماً له في حروبه كلها، وكان له الأثر الحسن في الحرب المذكورة بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود، وهو الذي أحضر الملك مسعوداً عند أخيه السلطان محمود، فعظم ذلك عند السلطان محمود، ولما حضر جيوش بك عند السلطان محمود وبقيت الموصل بغير أمير ولي عليها البرسقي، وتقدم إلى سائر الأمراء بطاعته، وأمره بمجاهدة الفرنج وأخذ البلاد منهم، فسار إليها في عسكر كثير وملكها، وأقام بطاعته، وأمره بمجاهدة الفرنج وأخذ البلاد منهم، فسار إليها في عسكر كثير وملكها، وأقام يدبر أمورها، ويصلح أحوالها.
ذكر وفاة الأمير علي وولاية ابنه الحسن إفريقية

في هذه السنة توفي الأمير علي بن يحيى بن تميم، صاحب إفريقية، في العشر الأخير من ربيع الآخر، وكان مولده بالمهدية، وقد تقدم من حروبه وأعماله ما يستدل به على علو همته، ولما توفي ولي الملك بعده ابنه الحسن، بعهد أبيه، وقام بأمر دولته صندل الخصي، لأنه كان عمره حينئذ اثنتي عشرة سنة لا يستقل بتدبير الملك، فقام صندل في الحفظ والاحتياط، فلم تطل أيامه حتى توفي، فوقع الاختلاف بين أصحابه وقواده، كل منهم يقول: أنا المقدم على الجميع، وبيدي الحل والشد، فلم يزالوا كذلك إلى أن فوض أمور دولته إلى قائد من أصحاب أبيه يقال له أبو عزيز موفق، فصلحت الأمور.
ذكر قتل أمير الجيوشفي هذه السنة، في الثالث والعشرين من رمضان، قتل أمير الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي، وهو صاحب الأمر والحكم بمصر، وكان ركب إلى خزانة السلاح ليفرقه على الأجناد، على جاري العادة في الأعياد، فسار معه عالم كثير من الرجالة والخيالة، فتأذى بالغبار، فأمر بالبعد عنه، وسار منفرداً، معه رجلان، فصادفه رجلان بسوق الصياقلة، فضرباه بالسكاكين فجرحاه، وجاء الثالث من ورائه، فضربه بسكين في خاصرته، فسقط عن دابته، ورجع أصحابه فقتلوا الثلاثة، وحملوه إلى دار الأفضل، فدخل عليه الخليفة، وتوجع له، وسأله عن الأموال، فقال: أما الظاهر منها فأبو الحسن بن أسامة الكاتب يعرفه، وكان من أهل حلب، وتولى أبوه قضاء القاهرة، وأما الباطن فابن البطائحي يعرفه، فقالا: صدق.
فلما توفي الأفضل نقل من أمواله ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وبقي الخليفة في داره نحو أربعين يوماً، والكتاب بين يديه، والدواب تحمل وتنقل ليلاً ونهاراً، ووجد له من الأعلاق النفيسة، والأشياء الغريبة القليلة الوجود، ما لا يوجد مثله لغيره، واعتقل أولاده، وكان عمره سبعاً وخمسين سنة، وكانت ولايته بعد أبيه ثمانياً وعشرين سنة، منها: آخر أيام المستنصر، وجميع أيام المستعلي، إلى هذه السنة من أيام الآمر.
وكان الإسماعيلية يكرهونه لأسباب منها: تضييقه على إمامهم، وتركه ما يجب عندهم سلوكه معهم، ومنها ترك معارضة أهل السنة في اعتقدهم، والنهي عن معارضتهم، وإذنه للناس في إظهار معتقداتهم والمناظرة عليها، فكثر الغرباء ببلاد مصر.
وكان حسن السيرة، عادلاً، حكي أنه لما قتل، وظهر الظلم بعده، اجتمع جماعة واستغاثوا بالخليفة، وكان من جملة قولهم: إنهم لعنوا الأفضل، فسألهم عن سبب لعنهم إياه، فقالوا: إنه عدل، وأحسن السيرة، ففارقنا بلادنا وأوطاننا، وقصدنا بلده لعدله، فقد أصابنا بعده هذا الظلم، فهو كان سبب ظلمنا. فأحسن الخليفة إليهم، وأمر بالإحسان إلى الناس.
ومنها أن صاحبه الآمر بأحكام الله، صاحب مصر، وضع منه، وسبب ذلك ما ذكرناه قبل، ففسد الأمر بينهما، فأراد الآمر أن يضع عليه من يقتله إذا دخل عليه قصره للسلام، أو في أيام الأعياد، فمنعه من ذلك ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد، وهو الذي ولي الأمر بعده بمصر، وقال له: في هذا الفعل شناعة، وسوء سمعة، لأنه قد خدم دولتنا هو وأبوه خمسين سنة، ولم يعلم الناس منهما إلا النصح لنا، والمحبة لدولتنا، وقد سار ذلك في أقطار البلاد، فلا يجوز أن يظهر منا هذه المكافأة الشنيعة، ومع هذا فلا بد وأن نقيم غيره مكانه ونعتمد عليه في منصبه، متمكن مثله، وأو ما يقاربه، فيخاف أن نفعل به مثل فعلنا بهذا، فيحذر من الدخول إلينا خوفاً على نفسه، وإن دخل علينا كان خائفاً مستعداً للامتناع، وفي هذا الفعل منهم ما يسقط المنزلة، والرأي أن تراسل أبا عبد الله البطائحي، فإنه الغالب على أمر الأفضل، والمطلع على سره، وتعده أن توليه منصبه، وتطلب منه أن يدبر الأمر في قتله لمن يقاتله، إذا ركب، فإذا ظفرنا بمن قتله قتلناه، وأظهرنا الطلب بدمه، والحزن عليه، فنبلغ غرضنا، ويزول عنا قبح الأحدوثة. ففعلوا ذلك فقتل كما ذكرناه.
ولما قتل ولي بعده أبو عبد الله بن البطائحي الأمر، ولقب المأمون، وتحكم في الدولة، فبقي كذلك حاكماً في البلاد إلى سنة تسع عشرة، فصلب كما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عصيان سليمان بن إيلغازي على أبيه

في هذه السنة عصى سليمان بن إيلغازي بن أرتق على أبيه بحلب، وقد جاوز عمره عشرين سنة، حمله على ذلك جماعة من عنده، فسمع والده الخبر، فسار مجداً لوقته، فلم يشعر به سليمان حتى هجم عليه، فخرج إليه معتذراً، فأمسك عنه، وقبض على من كان أشار عليه بذلك، منهم: أمير كان قد التقطه أرتق، والد إيلغازي، ورباه، اسمه ناصر، فقلع عينيه، وقطع لسانه، ومنهم: إنسان من أهل حماة من بيت قرناص، كان قد قدمه إيلغازي على أهل حلب، وجعل إليه الرئاسة، فجزاه بذلك، وقطع يديه ورجليه، وسمل عينيه، فمات.
وأحضر ولده، وهو، سكران، فأراد قتله، فمنعه رقة الوالد، فاستبقاه، فهرب إلى دمشق، فأرسل طغتكين يشفع فيه، فلم يجبه إلى ذلك، واستناب بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار بن أرتق، ولقبه بدر الدولة، وعاد إلى ماردين.
ذكر إقطاع ميافارقين إيلغازيفي هذه السنة أقطع السلطان محمود مدينة ميافارقين للأمير إيلغازي.
وسبب ذلك أنه أرسل ولده حسام الدين تمرتاش، وعمره سبع عشرة سنة، إلى السلطان ليشفع في دبيس بن صدقة، ويبذل عنه الطاعة، وحمل الأموال، والخيل، وغيرها، وأن يضمن الحلة كل يوم بألف دينار وفرس، وكان المتحدث عنه القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن القاسم بن الشهرزوري، فتردد الخطاب في ذلك، ولم ينفصل حال، فلما أراد العود أقطع السلطان أباه مدينة ميافارقين، وكانت مع الأمير سكمان، صاحب خلاط، فتسلمها إيلغازي، وبقيت في يده، ويد أولاده، إلى أن ملكها صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
ذكر حصر بلك بن بهرام الرها

وأسر صاحبها
في هذه السنة سار بلك بن بهرام، ولد أخي إيلغازي، إلى مدينة الرها، فحصرها وبها الفرنج، وبقي على حصرها مدة، فلم يظفر بها، فرحل عنها، فجاءه إنسان تركماني وأعلمه أن جوسلين، صاحب الرها وسروج، قد جمع من عنده من الفرنج، وهو عازم على كبسه، وكان قد تفرق عن بلك أصحابه، وبقي في أربعمائة فارس، فوقف مستعداً لقتالهم.
وأقبل الفرنج، فمن لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج وصلوا إلى أرض قد نضب عنها الماء، فصارت وحلاً غاصت خيولهم فيه فلم تتمكن، مع ثقل السلاح والفرسان، من الإسراع والجري، فرماهم أصحاب بلك بالنشاب، فلم يفلت منهم أحد، وأسر جوسلين وجعل في جلد جمل، وخيط عليه، وطلب منه أن يسلم الرها، فلم يفعل، وبذل في فداء نفسه أموالاً جزيلة، وأسرى كثيرة، فلم يجبه إلى ذلك، وحمله إلى قلعة خرتبرت فسجنه بها، وأسر معه ابن خالته، واسمه كليام، وكان من شياطين الكفار، وأسر أيضاً جماعة من فرسانه المشهورين، فسجنهم معه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفيت جدة السلطان محمود لأبيه، والدة السلطان سنجر، وكانت تركية تعرف بخاتون السفرية، وكان موتها بمرو، فجلس محمود ببغداد للعزاء بها، وكان عزاء لم يشاهد مثله الناس.
وفيها توفي الخطير محمد بن الحسين الميبذي ببلاد فارس، وهو في وزارة الملك سلجوق ابن السلطان محمد، وكان قديماً وزر للسلطانين بركيارق ومحمد، وكان جواداً حليماً، سمع أن الأبيوردي هجاه، فلما سمع الهجو مضه، فعض على إبهامه، وصفح عنه، وخلع عليه ووصله.
وفيها توفي الشهاب أبو المحاسن عبد الرزاق بن عبد الله وزير السلطان سنجر، وهو ابن أخي نظام الملك، وكان يتفقه قديماً على إمام الحرمين الجويني فكان يفتي ويوقع، ووزر بعده أبو طاهر سعد بن علي بن عيسى القمي، وتوفي بعد شهور، فوزر بعده عثمان القمي.
وفيها، في جمادى الأولى، أوقع أتابك طغتكين بطائفة من الفرنج، فقتل منهم وأسر وأرسل الأسرى والغنيمة للسلطان وللخليفة.
وفيها تضعضع الركن اليماني من البيت الحرام، زاده الله شرفاً، من زلزلة، وانهدم بعضه، وتشعث بعض حرم النبي صلى الله عليه وسلم، وتشعث غيرها من البلاد، وكان بالموصل كثير منها.
وفيها احترقت دار السلطان، كان قد بناها مجاهد الدين بهروز للسلطان محمد، ففرغت قبل وفاته بيسير، فلما كان الآن احترقت.

وسبب الحريق أن جارية كانت تختضب ليلاً، فأسندت شمعة إلى الخيش فاحترق، وعلقت النار منه في الدار، واحترق فيها من زوجة السلطان محمود بنت السلطان سنجر ما لا حد له من الجواهر، والحلى، والفرش، والثياب، وأقيم الغسالون يخلصون الذهب وما أمكن تخليصه، وكان الجوهر جميعه قد هلك إلا الياقوت الأحمر.
وترك السلطان الدار لم تجدد عمارتها، وتطير منها، لأن أباه لم يتمتع بها، ثم احترق فيها، من أموالهم، الشيء العظيم، واحترق قبلها بأسبوع جامع أصبهان، وهو من أعظم الجوامع وأحسنها، وأحرقه قوم من الباطنية ليلاً، وكان السلطان قد عزم على أخذ حق البيع، وتجديد المكوس بالعراق، بإشارة الوزير السميرمي عليه بذلك، فتجدد من هذين الحريقين ما هاله، واتعظ فأعرض عنه.
وفيها، في ربيع الآخر، انقض كوكب عشاء، وصار له نور عظيم، وتفرق منه أعمدة عند انقضاضه، وسمع عند ذلك صوت هدة عظيمة كالزلزلة.
وفيها ظهر بمكة إنسان علوي، وأمر بالمعروف، فكثر جمعه، ونازع أمير مكة ابن أبي هاشم، وقوي أمره، وعزم على أن يخطب لنفسه، فعاد بان أبي هاشم وظفر به، ونفاه عن الحجاز إلى البحرين، وكان هذا العلوي من فقهاء النظامية ببغداد.
وفيها ألزم السلطان أهل الذمة ببغداد بالغيار، فجرى فيه مراجعات انتهت إلى أن قرر عليهم للسلطان عشرون ألف دينار، وللخليفة أربعة آلاف دينار.
وفيها حضر السلطان محمود وأخوه الملك مسعود عند الخليفة، فخلع عليهما، وعلى جماعة من أصحاب السلطان، منهم: وزيره أبو طالب السميرمي، وشمس الملك عثمان بن نظام الملك، والوزير أبو نصر أحمد بن محمد بن حامد المستوفي، وعلى غيرهم من الأمراء.
وفيها، في ذي القعدة، وهو الحادي والعشرون من كانون الثاني، سقط بالعراق جميعه من البصرة إلى تكريت ثلج كبير، وبقي على الأرض خمسة عشر يوماً، وسمكه ذراع، وهلكت أشجار النارنج، والأترج، والليمون، فقال فيه بعض الشعراء:
يا صدور الزمان ليس بوفر ... ما رأيناه في نواحي العراق
إنما عماد الملك ظلمكم سائر الخل ... ق، فشابت ذوائب الآفاق
وفيها هبت بمصر ريح سوداء ثلاثة أيام، فأهلكت كثيراً من الناس، وغيرهم من الحيوانات.
وفيها توفي أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري، صاحب المقامات المشهورة، وهزارسب بن عوض الهروي، وكان قد سمع الحديث كثيراً.
ثم دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة

ذكر طاعة الملك طغرل لأخيه محمود
وفي المحرم من هذه السنة أطاع الملك طغرل أخاه السلطان محموداً، وكان قد خرج عن طاعته، كما ذكرناه، وقصد أذربيجان في السنة الخالية ليتغلب عليها، وكان أتابكه كنتغدي يحسن له ذلك، ويقويه عليه، فاتفق أنه مرض، وتوفي في شوال سنة خمس عشرة.
وكان الأمير آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، عند السلطان محمود ببغداد، فاستأذنه في المضي إلى إقطاعه، فأذن له، فلما سار عن السلطان ظن أنه يقوم مقام كنتغدي من الملك طغرل، فسار إليه، واجتمع به، وأشار عليه بالمكاشفة لأخيه السلطان محمود، وقال له: إذا وصلت إلى مراغة اتصل كب عشرة آلاف فارس وراجل. فسار معه، فلما وصلوا إلى أردبيل أغلقت أبوابها دونهم، فساروا عنها إلى قريب تبريز، فأتاهم الخبر أن السلطان محموداً سير الأمير جيوش بك إلى أذربيجان، وأقطعه البلاد، وأنه نزل مراغة في عسكر كثيف من عند السلطان.
فلما تيقنوا ذلك عدلوا إلى خونج، وانتفض عليهم ما كانوا فيه، وراسلوا الأمير شيركير الذي كان أتابك طغرل، أيام أبيه، يدعونه إلى إنجادهم، وقد كان كنتغدي قبض عليه بعد موت السلطان محمد على ما ذكرناه، ثم أطلقه السلطان سنجر، فعاد إلى إقطاعه، أبهر، وزنجان، وكاتبوه فأجابهم، واتصل بهم، وسار معهم إلى أبهر، فلم يتم لهم ما أرادوا، فراسلوا السلطان بالطاعة، فأجابهم إلى ذلك، فاستقرت القاعدة أول هذه السنة، وتمت.
ذكر حال دبيس بن صدقة وما كان منهقد ذكرنا سنة أربع عشرة حال دبيس بن صدقة، وصلحه على يد يرنقش الزكوي، ومقامه بالحلة، وعود يرنقش إلى السلطان ومعه منصور بن صدقة، أخو دبيس، وولده، رهينة، فلما علم الخليفة بذلك لم يرض به، وراسل السلطان محموداً في إبعاد دبيس عن العراق إلى بعض النواحي.

وتردد الخطاب في ذلك، وعزم السلطان على المسير إلى همذان، فأعاد الخليفة الشكوى من دبيس، وذكر أنه يطالب الناس بحقوده، منها قتل أبيه، وأشار أن يحضر السلطان آقسنقر البرسقي من الموصل، ويوليه شحنكية بغداد والعراق، ويجعله في وجه دبيس، ففعل السلطان ذلك، وأحضر البرسقي، فلما وصل إليه زوجه والدة الملك مسعود، وجعله شحنة بغداد، وأمره بقتال دبيس إن تعرض للبلاد.
وسار السلطان عن بغداد في صفر من هذه السنة، وكان مقامه ببغداد سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوماً، فلما فارق بغداد والعراق تظاهر دبيس بأمور تأثر بها المسترشد بالله، وتقدم إلى البرسقي بالمسير إليه، وإزعاجه عن الحلة، فأرسل البرسقي إلى الموصل، وأحضر عساكره، وسار إلى الحلة، وأقبل دبيس نحوه، فالتقوا عند نهر بشير، شرقي الفرات، واقتتلوا، فانهزم عسكر البرسقي.
وكان سبب الهزيمة أنه رأى في مسيرته خللاً، وبها الأمراء البكجية، فأمر بإلقاء خيمته، وأن تنصب عند الميسرة، ليقوي قلوب من بها، فلما رأوا الخيمة وقد سقطت ظنوها عن هزيمة، فانهزموا، وتبعهم الناس والبرسقي.
وقيل: بل أعطي رقعة فيها: إن جماعة من الأمراء، منهم إسماعيل البكجي، يريدون الفتك به، فانهزم،، وتبعه العسكر، ودخل بغداد ثاني ربيع الآخر، وكان في جملة العسكر نصر بن النفيس بن مهذب الدولة أحمد بن أبي الجبر، وكان ناظراً بالبطيحة لريحان محكويه، خادم السلطان، لأنها كانت من جملة إقطاعه، وحضر أيضاً المظفر بن حماد بن أبي الجبر، وبينهما عداوة شديدة، فالتقيا عند الانهزام بساباط نهر ملك، فقتله المظفر ومضى إلى واسط وسار منها إلى البطيحة، وتغلب عليها وكاتب دبيساً وأطاعه.
وأما دبيس فإنه لم يعرض لنهر ملك، ولا غيره، وأرسل إلى الخليفة أنه على الطاعة، ولولا ذلك لأخذ البرسقي وجميع من معه، وسأل أن يخرج الناظر إلى القرى التي لخاص الخليفة لقبض دخلها.
وكانت الوقعة في حزيران، وحمى البلد، فأحمد الخليفة فعله، وترددت الرسل بينهما، فاستقرت القاعدة أن يقبض المسترشد بالله على وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة ليعود إلى الطاعة، فقبض على الوزير، ونهبت داره ودور أصحابه والمنتمين إليه، وهرب ابن أخيه جلال الدين أبو الرضا إلى الموصل.
ولما سمع السلطان خبر الوقعة قبض على منصور بن صدقة، أخي دبيس، وولده ورفعهما إلى قلعة برحين وهي تجاور كرج.
ثم إن دبيساً أمر جماعة من أصحابه بالمسير إلى أقطاعهم بواسط، فساروا إليها، فمنعهم أتراك واسط، فجهز دبيس إليهم عسكراً مقدمهم مهلهل ابن أبي العسكر، وأرسل إلى المظفر بن أبي الجبر بالبطيحة ليتفق مع مهلهل ويساعده على قتال الواسطيين، فاتفقا على أن تكون الوقعة تاسع رجب، وأرسل الواسطيون إلى البرسقي يطلبون منه المدد، فأمدهم بجيش من عنده، وعجل مهلهل في عسكره دبيس، ولم ينتظر المظفر ظناً منه أنه بمفرده ينال منهم ما أراد، وينفرد بالفتح، فالتقى هو والواسطيون، ثامن رجب، فانهزم مهلهل وعسكره، وظفر الواسطيون، وأخذ مهلهل أسيراً وجماعة من أعيان العسكر، وقتل ما يزيد على ألف قتيل، ولم يقتل من الواسطيين غير رجل واحد.
وأما المظفر بن أبي الجبر فإنه أصعد من البطيحة ونهب وأفسد، وجرى من أصحابه القبيح، فلما قارب واسطاً سمع بالهزيمة، فعاد منحدراً.
وكان في جملة ما أخذ العسكر الواسطي من مهلهل تذكرة بخط دبيس يأمره فيها بقبض المظفر بن أبي الجبر ومطالبته بأموال كثيرة أخذها من البطيحة، فأرسلوا الخط إلى المظفر، وقالوا: هذا خط الذي تختاره، وقد أسخطت الله تعالى والخلق كلهم لأجله، فمال إليهم وصار معهم، فلما جرى على أصحاب دبيس من الواسطيين ما ذكرناه شمر عن ساعده في الشر، وبلغه أن السلطان كحل أخاه، فجز شعره، ولبس السواد، ونهب البلاد، وأخذ كل ما للخليفة بنهر الملك، فأجلى الناس إلى بغداد.
وسار عسكر واسط إلى النعمانية، فأجلوا عنها عسكر دبيس واستولوا عليها، وجرى بينهم هناك وقعة كان الظفر فيها للواسطيين، وتقدم الخليفة إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس، فبرز في رمضان، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل السميرمي

وفي هذه السنة قتل الوزير الكمال أبو طالب السميرمي، وزير السلطان محمود، سلخ صفر، وكان قد برز مع السلطان ليسير إلى همذان، فدخل إلى الحمام، وخرج بين يديه الرجالة والخيالة، وهو في موكب عظيم، فاجتاز بسوق المدرسة التي بناها خمارتكين التتشي، واجتاز في منفذ ضيق فيه حظائر الشوك، فتقدم أصحابه لضيق الموضع، فوثب عليه باطني وضربه بسكين، فوقعت في البغلة، وهرب إلى دجلة، وتبعه الغلمان، فخلا الموضع، فظهر رجل آخر فضربه بسكين في خاصرته، وجذبه عن البغلة إلى الأرض، وضربه عدة ضربات.
وعاد أصحاب الوزير، فحمل عليهم رجلان باطنيان، فانهزموا منهما، ثم عادوا وقد ذبح الوزير مثل الشاة، فحمل قتيلاً وبه نيف وثلاثون جراحة، وقتل قاتلوه.
ولما كان في الحمام كان المنجمون يأخذون له الطالع ليخرج، فقالوا: هذا وقت جيد، وإن تأخرت يفت طالع السعد، فأسرج وركب، وأراد أن يأكل طعاماً، فمنعوه لأجل الطالع، فقتل ولم ينفعه قولهم.
وكانت وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر، وانتهب ماله، وأخذ السلطان خزانته، ووزر بعده شمس الملك بن نظام الملك، وكانت زوجة السميرمي قد خرجت هذا اليوم في موكب كبير، معها نحو مائة جارية، وجمع من الخدم، والجميع بمراكب الذهب، فلما سمعن بقتله عدن حافيات حاسرات، وقد تبدلن بالعز هواناً، وبالمسرة أحزاناً. فسبحان من لا يزول ملكه.
وكان السميرمي ظالماً، كثير المصادرة للناس، سيء السيرة، فلما قتل أطلق السلطان ما كان جدده من المكوس، وما وضعه على التجار والباعة.
ذكر القبض على ابن صدقة وزير الخليفة

ونيابة علي بن طراد
في جمادى الأولى قبض الخليفة على وزيره جلال الدين بن صدقة، وقد تقدم ذكره قبل، وأقيم نقيب النقباء شرف الدين علي بن طراد الزينبي في نيابة الوزارة، فأرسل السلطان إلى المسترشد بالله في معنى وزارة نظام الملك أبي نصر أحمد بن نظام الملك، وكان أخو شمس الملك عثمان بن نظام الملك وزير السلطان محمود، فأجيب إلى ذلك، واستوزر في شعبان.
وكان قد وزر للسلطان محمد سنة خمسمائة، ثم عزل، ولزم داراً استجدها ببغداد إلى الآن. فلما خلع على نظام الملك، وجلس في الديوان، طلب أن يخرج ابن صدقة عن بغداد، فلما علم ابن صدقة ذلك طلب من الخليفة أن يسير إلى حديثة عانة ليكون عند الأمير سليمان بن مهارش، فأجيب إلى ما طلب.
وسار إلى الحديثة، فخرج عليه في الطريق إنسان من مفسدي التركمان يقال له يونس الحرامي، فأسره ونهب أصحابه، فخاف الوزير أن يعلم دبيس فأرسل إلى يونس وبذل له مالاً يأخذه منه للعداوة التي بينهما، فقرر أمره مع يونس على ألف دينار يعجل منها ثلاثمائة، ويؤخر الباقي إلى أن يرسله من الحديثة.
وراسل عامل بلد الفرات في تخليصه، وإنفاذ من يضمن الباقي الذي عليه، فأعمل العامل الحيلة في ذلك، فأحضر إنساناً فلاحاً وألبسه ثياباً فاخرة وطيلساناً، وأركبه وسير معه غلماناً، وأمره أن يمضي إلى يونس ويدعي أنه قاضي بلد الفرات، ويضمن الوزير منه ما بقي من المال، فسار السوادي إلى يونس، فلما حضر عند الوزير ويونس احترماه، وضمن السوادي الوزير منه، وقال له: أقيم عندك إلى أن يصل المال مع صاحب لك تنفذه مع الوزير، فاعتقد يونس صدق ذلك وأطلق الوزير ومعه جماعة من أصحابه، فلما وصل الحديثة قبض على من معه منهم، فأطلق يونس ذلك السوادي، والمال الذي أخذه، حتى أطلق الوزير أصحابه، وعلم الحيلة التي تمت عليه.
ولما سار الوزير من عند يونس لقي إنساناً أنكره، فأخذه، فرأى معه كتاباً من دبيس إلى يونس يبذل ستة آلاف دينار ليسلم الوزير إليه، وكان خلاصه من أعجب الأشياء.
ذكر قتل جيوش بكفي هذه السنة قتل الأمير جيوش بك الذي كان صاحب الموصل، وقد ذكرنا خروجه على السلطان محمود، وعوده إلى خدمته، فلما رضي عنه أقطعه أذربيجان وجعله مقدم عسكره، فجرى بينه وبين جماعة من الأمراء منافرة ومنازعات، فأغروا به السلطان، فقتله في رمضان على باب تبريز.

وكان تركياً من مماليك السلطان محمد، عادلاً، حسن السيرة، ولما ولي الموصل والجزيرة كان الأكراد بتلك الأعمال قد انتشروا، وكثر فسادهم، وكثرت قلاعهم، والناس معهم في ضيق، والطريق خائفة، فقصدهم، وحصر قلاعهم، وفتح كثيراً منها ببلد الهكارية، وبلد الزوزان، وبلد البشنوية، وخافه الأكراد، وتولى قصدهم بنفسه، فهربوا منه في الجبال والشعاب والمضايق، وأمنت الطرق، وانتشر الناس واطمأنوا وبقي الأكراد لا يجسرون أن يحملوا السلاح لهيبته.
ذكر وفاة إيلغازي وأحوال حلب بعدهفي هذه السنة، في شهر رمضان، توفي إيلغازي بن أرتق بميافارقين، وملك ابنه حسام الدين تمرتاش قلعة ماردين، وملك ابنه سليمان ميافارقين، وكان بحلب ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، فبقي بها إلى أن أخذها ابن عمه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أقطع السلطان محمود الأمير آقسنقر البرسقي مدينة واسط وأعمالها، مضافاً إلى ولاية الموصل وغيرها مما بيده، وشحنكية العراق، فلما أقطعها البرسقي سير إليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر الذي كان والده صاحب حلب، وأمره بحمايتها، فسار إليها في شعبان ووليها، وقد ذكرنا أخبار زنكي في كتاب الباهر في ذكر ملكه وملك أولاده الذين هم ملوكنا الآن، فينظر منه.
وفيها ظهر معدن نحاس بديار بكر قريباً من قلعة ذي القرنين.
وفيها زاد الفرات زيادة عظيمة لم يعهد مثلها، فدخل الماء إلى ربض قلعة جعبر، وكان الفرات، حينئذ بالقرب منها، فغرق أكثر دوره ومساكنه، وحمل فرساً من الربض وألقاه من فوق السور إلى الفرات.
وفيها بنيت مدرسة بحلب لأصحاب الشافعي.
وفيها توفيت ابنة السلطان سنجر زوج السلطان محمود.
وفيها، في شعبان، قدم إلى بغداد البرهان أبو الحسن علي بن الحسين الغزنوي وعقد مجلس الوعظ في جميع المواضع، وورد بعده أبو القاسم علي بن يعلى العلوي، ونزل رباط شيخ الشيوخ، فوعظ في جامع القصر، والتاجية، ورباط سعادة، وصار له قبول عند الحنابلة، وحصل له مال كثير لأنه أظهر موافقتهم.
وورد بعده أبو الفتوح الأسفراييني، ونزل برباط شيخ الشيوخ أيضاً، ووعظ في هذه المواضع، وفي النظامية، وأظهر مذهب الأشعري، فصار له قبول كثير عند الشافعية، وحضر مجلسه الخليفة المسترشد بالله، وسلم إليه رباط الأرجونية، والدة المقتدي بالله، بدرب زاخي.
وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن عمر أبو محمد السمرقندي، أخو أبي القاسم بن السمرقندي، ومولده بدمشق سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ونشأ ببغداد، وسمع الصريفني وابن النقور وغيرهما، وسافر الكثير، وكان حافظاً للحديث عالماً به.
وفي ذي الحجة توفي عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف أبو طالب، ومولده سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وسمع البرمكي، والجوهري، والعشاري، وكان ثقة، حافظاً للحديث.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة

ذكر مسير المسترشد بالله لحرب دبيس
في هذه السنة كانت الحرب بين الخليفة المسترشد بالله، وبين دبيس بن صدقة.
وكان سبب ذلك: أن دبيساً أطلق عفيفاً خادم الخليفة، وكان مأسوراً عنده، وحمله رسالة فيها تهديد للخليفة بإرسال البرسقي إلى قتاله، وتقويته بالمال، وأن السلطان كحل أخاه، وبالغ في الوعيد، ولبس السواد، وجز شعره، وحلف لينهبن بغداد، ويخربها، فاغتاظ الخليفة لهذه الرسالة، وغضب، وتقدم إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس، فبرز في رمضان سنة ست عشرة.
وتجهز الخليفة، وبرز من بغداد، واستدعى العساكر، فأتاه سليمان بن مهارش، صاحب الحديثة، في عقيل، وأتاه قرواش بن مسلم، وغيرهما، وأرسل دبيس إلى نهر ملك فنهب، وعمل أصحابه كل عظيم من الفساد، فوصل أهله إلى بغداد، فأمر الخليفة فنودي ببغداد لا يتخلف من الأجناد أحد، ومن أحب الجندية من العامة فليحضر، فجاء خلق كثير، ففرق فيهم الأموال والسلاح.

فلما علم دبيس الحال كتب إلى الخليفة يستعطفه ويسأله الرضاء عنه، فلم يجب إلى ذلك، وأخرجت خيام الخليفة في العشرين من ذي الحجة من سنة ست عشرة، فنادى أهل بغداد: النفير النفير، الغزاة الغزاة! وكثر الضجيج من الناس، وخرج منهم عالم كثير لا يحصون كثرة، وبرز الخليفة رابع عشر ذي الحجة، وعبر دجلة وعليه قباء أسود، وعمامة سوداء، وطرحة، وعلى كتفه البردة، وفي يده القضيب، وفي وسطه منطقة حديد صيني، ونزل الخيام ومعه وزير نظام الدين أحمد بن نظام الملك، ونقيب الطالبيين، ونقيب النقباء علي بن طراد، وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل وغيرهم من الأعيان.
وكان البرسقي قد نزل بقرية جهار طاق، ومعه عسكره، فلما بلغهم خروج الخليفة عن بغداد عادوا إلى خدمته، فلما رأوا الشمسة ترجلوا بأجمعهم، وقبلوا الأرض بالبعد منه.
ودخلت هذه السنة، فنزل الخليفة، مستهل المحرم، بالحديثة، بنهر الملك، واستدعى البرسقي والأمراء، واستحلفهم على المناصحة في الحرب، ثم ساروا إلى النيل، ونزلوا بالمباركة، وعبأ البرسقي أصحابه، ووقف الخليفة من وراء الجميع في خاصته، وجعل دبيس أصحابه صفاً واحداً، ميمنة، وميسرة، وقلباً، وجعل الرجالة بين أيدي الخيالة بالسلاح، وكان قد وعد أصحابه بنهب بغداد، وسبي النساء، فلما تراءت الفئتان بادر أصحاب دبيس، وبين أيديهم الإماء يضربن بالدفوف، والمخانيث بالملاهي، ولم ير في عسكر الخليفة غير قاريء، ومسبح، وداع، فقامت الحرب على ساق.
وكان مع أعلام الخليفة الأمير كرباوي بن خراسان، وفي الساقة سليمان ابن مهارش، وفي ميمنة عسكر البرسقي الأمير أبو بكر بن إلياس مع الأمراء البكجية، فحمل عنتر بن أبي العسكر في طائفة من عسكر دبيس على ميمنة البرسقي، فتراجعت على أعقابها، وقتل ابن أخ للأمير أبي بكر البكجي، وعاد عنتر وحمل حملة ثانية على هذه الميمنة، فكان حالها في الرجوع على أعقابها كحالها الأول، فلما رأى عسكر واسط ذلك، ومقدمهم الشهيد عماد الدين زنكي بن آقسنقر، حلم وهم معه على عنتر ومن معه، وأتوهم من ظهورهم فبقي عنتر في الوسط، وعماد الدين وعسكر واسط من ورائه، والأمراء البكجية بين يديه، فأسر عنتر، وأسر معه بريك بن زائدة وجميع من معهما ولم يفلت أحد.
وكان البرسقي واقفاً على نشز من الأرض، وكان الأمير آق بوري في الكمين في خمسمائة فارس، فلما اختلط الناس خرج الكمين على عسكر دبيس، فانهزموا جميعهم وألقوا نفوسهم في الماء، فغرق كثير منهم، وقتل كثير.
ولما رأى الخليفة اشتداد الحرب جرد سيفه وكبر وتقدم إلى الحرب، فلما انهزم عسكر دبيس وحملت الأسرى إلى بين يديه أمر الخليفة أن تضرب أعناقهم صبراً.
وكان عسكر دبيس عشرة آلاف فارس، واثني عشر ألف راجل، وعسكر البرسقي ثمانية آلاف فارس، وخمسة آلاف راجل، ولم يقتل من أصحاب الخليفة غير عشرين فارساً، وحصل نساء دبيس وسراريه تحت الأسر سوى بنت إيلغازي، وبنت عميد الدولة بن جهير، فإنه كان تركهما في المشهد.
وعاد الخليفة إلى بغداد، فدخلها يوم عاشوراء من هذه السنة. ولما عاد الخليفة إلى بغداد ثار العامة بها، ونهبوا مشهد باب التبن، وقلعوا أبوابه، فأنكر الخليفة ذلك، وأمر نظر أمير الحاج بالركوب إلى المشهد، وتأديب من فعل ذلك، وأخذ ما نهب، وفعل وأعاد البعض وخفي الباقي عليه.
وأما دبيس بن صدقة فإنه لما انهزم نجا بفرسه وسلاحه، وأدركته الخيل، ففاتها وعبر الفرات، فرأته امرأة عجوز وقد عبر، فقالت له: دبير جئت؟ فقال: دبير من لم يجيء. واختفى خبره بعد ذلك، وأرجف عليه بالقتل، ثم ظهر أمره أنه قصد غزية من عرب نجد، فطلب منهم أن يحالفوه، فامتنعوا عليه وقالوا: إنا نسخط الخليفة والسلطان، فرحل إلى المنتفق، واتفق معهم على قصد البصرة وأخذها، فساروا إليها ودخلوها، ونهبوا أهلها، وقتل الأمير سخت كمان مقدم عسكرها، وأجلي أهلها.
فأرسل الخليفة إلى البرسقي يعاتبه على إهماله أمر دبيس، حتى تم له من أمر البصرة ما أخربها، فتجهز البرسقي للانحدار إليه، فسمع دبيس ذلك، ففارق البصرة، وسار على البر إلى قلعة جعبر، والتحق بالفرنج، وحضر معهم حصار حلب، وأطمعهم في أخذها، فلم يظفروا بها، فعادوا عنها، ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل ابن السلطان محمد، وأقام معه، وحسن له قصد العراق، وسنذكره سنة تسع وعشرين، إن شاء الله تعالى.

ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب
في هذه السنة، في صفر، ملك الفرنج حصن الأثارب، من أعمال حلب.
وسبب ذلك: أنهم كانوا قد أكثروا قصد حلب وأعمالها بالإغارة، والتخريب، والتحريق، وكان بحلب حينئذ بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، وهو صاحبها، ولم يكن له بالفرنج قوة، وخافهم، فهادنهم على أن يسلم الأثارب ويكفوا عن بلاده، فأجابوه إلى ذلك، وتسلموا الحصن، وتمت الهدنة بنيهم، واستقام أمر الرعية بأعمال حلب، وجلبت إليهم الأقوات وغيرها، ولم تزل الأثارب بأيدي الفرنج إلى أن ملكها أتابك زنكي بن آقسنقر، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك بلك حران وحلبفي هذه السنة، في ربيع الأول، ملك بلك بن بهرام مدينة حران، وكان قد حصرها، فلما ملكها سار منها إلى مدينة حلب.
وسبب مسيره إليها: أنه بلغه أن صاحبها بدر الدولة قد سلم قلعة الأثارب إلى الفرنج، فعظم ذلك عليه، وعلم عجزه عن حفظ بلاده، فقوي طمعه في ملكها، فسار إليها، ونازلها في ربيع الأول، وضايقها، ومنع الميرة عنها، وأحرق زروعها، فسلم إليه ابن عمه البلد والقلعة بالأمان، غرة جمادى الأولى من السنة، وتزوج ابنة الملك رضوان، وبقي مالكاً لها إلى أن قتل على ما نذكره.
ذكر الحرب بين الفرنج والمسلمين بإفريقيةقد ذكرنا أن الأمير علي بن يحيى، صاحب إفريقية، لما استوحش من رجار صاحب صقلية، جدد الأسطول الذي له، وكثر عَدده وعُدده، وكاتب أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بمراكش بالاجتماع معه على قصد جزيرة صقلية، فلما علم رجار ذلك كف عن بعض ما كان يفعله.
فاتفق أن علياً مات سنة خمس عشرة، وولي ابنه الحسن، وقد ذكرناه، فلما دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة سير أمير المسلمين أسطولاً، ففتحوا نقوطرة بساحل بلاد قلورية، فلم يشك رجار أن علياً كان سبب ذلك، فجد في تعمير الشواني والمراكب، وحشد فأكثر، ومنع من السفر إلى إفريقية وغيرها من بلاد الغرب، فاجتمع له من ذلك ما لم يعهد مثله، قيل: كان ثلاثمائة قطعة، فلما انقطعت الطريق عن إفريقية توقع الأمير الحسن بن علي خروج العدو إلى المهدية، فأمر باتخاذ العدد، وتجديد الأسوار، وجمع المقاتلة، فأتاه من أهل البلاد ومن العرب جمع كثير.
فلما كان جمادى الآخرة سنة سبع عشرة سار الأسطول الفرنجي في ثلاثمائة قطعة، فيها ألف فارس وفرس واحد، إلا أنهم لما ساروا من مرسى علي فرقتهم الريح، وغرق منهم مراكب كثيرة، ونازل من سلم منهم جزيرة قوصرة ففتحوها، وقتلوا من بها، وسبوا وغنموا، وساروا عنها، فوصلوا إلى إفريقية، ونازلوا الحصن المعروف بالديماس أواخر جمادى الأولى، فقاتلهم طائفة من العرب كانوا هناك، والديماس حصن منيع، في وسطه حصن آخر، وهو مشرف على البحر.
وسير الحسن من عنده من الجموع إلى الفرنج، وأقام هو بالمهدية في جمع آخر يحفظها، وأخذ الفرنج حصن الديماس، وجنود المسلمين محيطة بهم، فلما كان بعد ليال اشتد القتال على الحصن الداخل، فلما كان الليل صاح المسلمون صيحة عظيمة ارتجت لها الأرض، وكبروا، فوقع الرعب في قلوب الفرنج، فلم يشكوا أن المسلمين يهجمون عليهم، فبادروا إلى شوانيهم، وقتلوا بأيديهم كثيراً من خيولهم، وغنم المسلمون منها أربعمائة فرس، ولم يسلم معهم غير فرس واحد، وغنم المسلمون جميع ما تخلف عن الفرنج، وقتلوا كل من عجز عن الطلوع إلى المراكب.
فلما صعد الفرنج إلى مراكبهم أقاموا بها ثمانية أيام لا يقدرون على النزول إلى الأرض، فلما أيسوا من خلاص أصحابهم الذين في الديماس ساروا والمسلمون يكبرون عليهم ويصيحون بهم، وأقامت عساكر المسلمين على حصن الديماس في أمير داذ لا يحصون كثرة، فحصروه، فلم يمكنهم فتحه لحصانته وقوته، فلما عدم الماء على من به من الفرنج، وضجروا من مواصلة القتال ليلاً ونهاراً، فتحوا باب الحصن وخرجوا، فقتلوا عن آخرهم، وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من السنة، وكانت مدة إقامتهم في الحصن ستة عشر يوماً.
ولما رجع الفرنج مقهورين أرسل الأمير الحسن البشري إلى سائر البلاد، وقال الشعراء في هذه الحادثة فأكثروا، تركنا ذلك خوف التطويل.
ذكر استيلاء الفرنج على خرتبرت
وأخذها منهم
في هذه السنة، في ربيع الأول، استولى الفرنج على خرتبرت من بلاد ديار بكر.

وسبب ذلك: أن بلك بن بهرام بن أرتق كان صاحب خرتبرت، فحضر قلعة كركر، وهي تقارب، خرتبرت، فسمع الفرنج بالشام الخبر، فسار بغدوين ملك الفرنج في جموعه إليه ليرحله عنها، خوفاً أن يقوى بملكها، فلما سمع بلك بقربه منه رحل إليه، والتقيا في صفر، واقتتلا، فانهزم الفرنج، وأسر ملكهم ومعه جماعة من أعيان فرسانهم، وسجنهم بقلعة خرتبرت، وكان بالقلعة أيضاً جوسلين، صاحب الرها، وغيره من مقدمي الفرنج كان قد أسرهم سنة خمس عشرة، وسار بلك عن خرتبرت إلى حران في ربيع الأول فملكها، فأعمل الفرنج الحيلة باستمالة بعض الجند، فظهروا وملكوا القلعة.
فأما الملك بغدوين فإنه اتخذ الليل جملاً ومضى إلى بلاده، واتصل الخبر ببلك صاحبها، فعاد في عساكره إليها وحصرها، وضيق على من بالقلعة، واستعادها من الفرنج، وجعل فيها من الجند من يحفظها، وعاد عنها.
ذكر قتل وزير السلطان

وعود ابن صدقة إلى وزارة الخلافة
في هذه السنة قبض السلطان محمود على وزيره شمس الملك عثمان بن نظام الملك وقتله.
وسبب ذلك: أنه لما أشار على السلطان بالعود عن حرب الكرج، وخالفه، وكانت الخيرة في مخالفته، تغير عليه، وذكره أعداؤه بالسوء، ونبهوا على تهوره، وقلة تحصيله ومعرفته بمصالح الدولة، ففسد رأي السلطان فيه.
ثم إن الشهاب أبا المحاسن، وزير السلطان سنجر، كان قد توفي، وهو ابن أخي نظام الملك، ووزر بعده أبو طاهر القمي، وهو عدو للبيت النظامي، فسعى مع السلطان سنجر، حتى أرسل إلى السلطان محمود يأمره بالقبض على وزيره شمس الملك، فصادف وصول الرسول وهو متغير عليه، فقبض عليه وسلمه إلى طغايرك، فبعثه إلى بلده خلخال، فحبسه فيها.
ثم إن أبا نصر المستوفي، الملقب بالعزيز، قال للسلطان محمود: لا نأمن أن يرسل السلطان سنجر يطلب الوزير، ومتى اتصل به لا نأمن شراً يحدث منه. وكان بينهما عداوة، فأمر السلطان بقتله، فلما دخل عليه السياف ليقتله قال: أمهلني حتى أصلي ركعتين، ففعل، فلما صلى جعل يرتعد، وقال للسياف: سيفي أجود من سيفك، فاقتلني به ولا تعذبني، فقتل ثاني جمادى الآخرة. فلما سمع الخليفة المسترشد بالله ذلك عزل أخاه نظام الدين أحمد من وزارته، وأعاد جلال الدين أبا علي بن صدقة إلى الوزارة، وأقام نظام الدين بالمثمنة التي في المدرسة النظامية ببغداد.
وأما العزيز المستوفي فإنه لم تطل أيامه حتى قتل، على ما نذكره، جزاء لسعيه في قتل الوزير.
ذكر ظفر السلطان محمود بالكرجفي هذه السنة اشتدت نكاية الكرج في بلد الإسلام، وعظم الأمر على الناس، لا سيما أهل دربند شروان، فسار منهم جماعة كثيرة من أعيانهم إلى السلطان، وشكوا إليه ما يلقون منهم، وأعلموه بما هم عليه من الضعف والعجز عن حفظ بلادهم، فسار إليهم والكرج قد وصلوا إلى شماخي، فنزل السلطان في بستان هناك، وتقدم الكرج إليه، فخافهم العسكر خوفاً شديداً.
وأشار الوزير شمس الملك عثمان بن نظام الملك على السلطان بالعود من هناك، فلما سمع أهل شروان بذلك قصدوا السلطان وقالوا له: نحن نقاتل ما دمت عندنا، وإن تأخرت عنا ضعفت نفوس المسلمين وهلكوا، فقبل قولهم، وأقام بمكانه.
وبات العسكر على وجل عظيم، وهم بنية المصاف، فأتاهم الله بفرج من عنده، وألقى بين الكرج وقفجاق اختلافاً وعداوة، فاقتتلوا تلك الليلة ورحلوا شبه المنهزمين، وكفى الله المؤمنين القتال، وأقام السلطان بشروان مدة، ثم عاد إلى همذان فوصلها في جمادى الآخرة.
ذكر الحرب بين المغاربة وعسكر مصرفي هذه السنة وصل جمع كثير من لواثة من الغرب إلى ديار مصر، فأفسدوا فيها ونهبوها، وعملوا أعمالاً شنيعة، فجمع المأمون بن البطائحي، الذي وزر بمصر بعد الأفضل، عسكر مصر، وسار إليهم فقاتلهم فهزمهم، وأسر منهم وقتل خلقاً كثيراً، وقرر عليهم خرجاً معلوماً كل سنة يقومون به، وعادوا إلى بلادهم، وعاد المأمون إلى مصر مظفراً منصوراً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، أمر المسترشد بالله بناء سور بغداد، وأن يجبى ما يخرج عليه من البلد، فشق ذلك على الناس، وجمع من ذلك مال كثير، فلما علم الخليفة كراهة الناس لذلك أمر بإعادة ما أخذ منهم، فسروا بذلك، وكثر الدعاء له.

وقيل: إن الوزير أحمد بن نظام الملك بذل من ماله خمسة عشر ألف دينار، وقال: نقسط الباقي على أرباب الدولة.
وكان أهل بغداد يعملون بأنفسهم فيه، وكانوا يتناوبون العمل: يعمل أهل كل محلة منفردين بالطبول والزمور، وزينوا البلد، وعملوا فيه القباب.
وفيها عزل نقيب العلويين، وهدمت دار علي بن أفلح، وكان الخليفة يكرمه،، فظهر أنهما عين لدبيس يطالعانه بالأخبار، وجعل الخليفة نقابة العلويين إلى علي بن طراد، نقيب العباسيين.
وفيها جمع الأمير بلك عساكره وسار إلى غزاة بالشام، فلقيه الفرنج، فاقتتلوا، فانهزم الفرنج وقتل منهم وأسر بشر كثير من مقدميهم ورجالتهم.
وفيها كان أكثر في البلاد غلاء شديد، وكان أكثره بالعراق، فبلغ ثمن كارة الدقيق الخشكار ستة دنانير وعشرة قراريط، وتبع ذلك موت كثير، وأمراض زائدة هلك فيها كثير من الناس.
وفيها، في صفر، توفي قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسني أمير مكة، وولي بعده ابنه أبو فليته، وكان أعدل منه، وأحسن السيرة، فأسقط المكوس، وأحسن إلى الناس.
وفيها توفي عبد الله بن الحسن بن أحمد بن الحسين أبو نعيم بن أبي علي الحداد الأصبهاني، ومولده سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وهو من أعيان المحدثين، سافر الكثير في طلب الحديث.
وفيها سار طغتكين، صاحب دمشق، إلى حمص، فهاجم المدينة ونهبها وأحرق كثيراً منها وحصرها، وصاحبها قرجان بالقلعة، فاستمد صاحبها طغان أرسلان، فسار إليه في جمع كثير، فعاد طغتكين إلى دمشق.
وفيها لقي أسطول مصر أسطول البنادقة من الفرنج، فاقتتلوا، وكان الظفر للبنادقة، وأخذ من أسطول مصر عدة قطع، وعاد الباقي سالماً.
وفيها سار الأمير محمود بن قراجة، صاحب حماة، إلى حصن أفامية، فهجم على الربض بغتة، فأصابه سهم من القلعة في يده، فاشتد ألمه، فعاد إلى حماة، وقلع الزج من يده، ثم عملت عليه، فمات منه، واستراح أهل عمله من ظلمه وجوره، فلما سمع طغتكين، صاحب دمشق، الخبر سير إلى حماة عسكراً، فملكها وصارت في جملة بلاده، ورتب فيها والياً وعسكراً لحمايتها.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة وخمسمائة

ذكر قتل بلك بن بهرام بن أرتق
وملك تمرتاش حلب
في هذه السنة، في صفر، قبض بلك بن بهرام بن أرتق، صاحب حلب، على الأمير حسان البعلبكي، صاحب منبج، وسار إليها فحصرها، فملك المدينة، وحصر القلعة، فامتنعت عليه، فسار الفرنج إليه ليرحلوه عنها لئلا يقوى بأخذها، فلما قاربوه ترك على القلعة من يحصرها، وسار في باقي عسكره إلى الفرنج، فلقيهم وقاتلهم، فكسرهم وقتل منهم خلقاً كثيراً، وعاد إلى منبج فحصرها، فبينما هو يقاتل من بها أتاه سهم فقتله، لا يدرى من رماه، واضطرب عسكره وتفرقوا، وخلص حسان من الحبس، فكان حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق مع ابن عمه بلك، فحمله مقتولاً إلى ظاهر حلب، وتسلمها في العشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وزال الحصار عن قلعة منبج، وعاد إليها صاحبها حسان، واستقر تمرتاش بحلب واستولى عليها.
ثم إنه جعل فيها نائباً له يثق به، ورتب عنده ما يحتاج إليه من جند وغيرهم وعاد إلى ماردين، لأنه رأى الشام كثيرة الحرب مع الفرنج، وكان رجلاً يحب الدعة والرفاهية، فلما عاد إلى ماردين أخذت حلب منه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك الفرنج مدينة صور بالشامكانت مدينة صور للخلفاء العلويين بمصر، ولم تزل كذلك إلى سنة ست وخمسمائة، فكان بها وال من جهة الأفضل أمير الجيوش، وزير الآمر بأحكام الله العلوي، يلقب عز الملك، وكان الفرنج قد حصروها، وضيقوا عليها، ونهبوا بلدها غير مرة، فلما كانت سنة ست تجهز ملك الفرنج، وجمع عساكره ليسير إلى صور، فخافهم أهل صور، فأرسلوا إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يطلبون منه أن يرسل إليهم أميراً من عنده يتولاهم ويحميهم، ويكون البلد له، وقالوا له: إن أرسلت إلينا والياً، وعسكراً، وإلا سلمنا البلد إلى الفرنج، فسير إليهم عسكراً، وجعل عندهم والياً اسمه مسعود، وكان شهماً، شجاعاً، عارفاً بالحرب ومكايدها، وأمده بعسكر، وسير إليهم ميرة ومالاً فرقه فيهم.

وطابت نفوس أهل البلد، ولم تغير الخطبة للآمر، صاحب مصر، ولا السكة، وكتب إلى الأفضل بمصر يعرفه صورة الحال، ويقول: متى وصل إليها من مصر من يتولاها، ويذب عنها، سلمتها إليه، ويطلب أن الأسطول لا ينقطع عنها بالرجال والقوة. فشكره الأفضل على ذلك، وأثنى عليه، وصوب رأيه فيما فعله، وجهز أسطولاً، وسيره إلى صور، فاستقامت أحوال أهلها. ولم يزل كذلك إلى سنة ست عشرة، بعد قتل الأفضل، فسير إليها أسطول، على جاري العادة، وأمروا المقدم على الأسطول أن يعمل الحيلة على الأمير مسعود الوالي بصور من قبل طغتكين، ويقبض عليه، ويتسلم البلد منه.
وكان السبب في ذلك: أن أهل صور أكثروا الشكوى منه إلى الآمر بأحكام الله، صاحب مصر، بما يعتمده من مخالفتهم، والإضرار بهم، ففعلوا ذلك، وسار الأسطول فأرسي عند صور، فخرج مسعود إليه للسلام على المقدم عليه، فلما صعد إلى المركب الذي فيه المقدم اعتقله، ونزل البلد، واستولى عليه، وعاد الأسطول إلى مصر، وفيه الأمير مسعود، فأكرم وأحسن إليه، وأعيد إلى دمشق.
وأما الوالي من قبل المصريين فإنه طيب قلوب الناس، وراسل طغتكين يخدمه بالدعاء والاعتضاد، وأن سبب ما فعل هو شكوى أهل صور من مسعود، فأحسن طغتكين الجواب، وبذل من نفسه المساعدة.
ولما سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قوي طمعهم فيها، وحدثوا نفوسهم بملكها، وشرعوا في الجمع والتأهب للنزول عليها وحصرها، فسمع الوالي بها للمصريين الخبر، فعلم أنه لا قوة له، ولا طاقة على دفع الفرنج عنها، لقلة من بها من الجند والميرة، فأرسل إلى الآمر بذلك، فرأى أن يرد ولاية صور إلى طغتكين، صاحب دمشق، فأرسل إليه بذلك، فملك صور، ورتب بها من الجند وغيرهم ما ظن فيه كفاية.
وسار الفرنج إليهم ونازلوهم في ربيع الأول من هذه السنة، وضيقوا عليهم، ولازموا القتال، فقلت الأقوات، وسئم من بها القتال، وضعفت نفوسهم وسار طغتكين إلى بانياس ليقرب منهم، ويذب عن البلد، ولعل الفرنج إذا رأوا قربه منهم رحلوا، فلم يتحركوا، ولزموا الحصار، فأرسل طغتكين إلى مصر يستنجدهم، فلم ينجدوه، وتمادت الأيام، وأشرف أهلها على الهلاك، فراسل حينئذ طغتكين، صاحب دمشق، وقرر الأمر على أن يسلم المدينة إليهم، ويمكنوا من بها من الجند والرعية من الخروج منها بما يقدرون عليه من أموالهم ورحالهم وغيرها، فاستقرت القاعدة على ذلك، وفتحت أبواب البلد، وملكه الفرنج، وفارقه أهله، وتفرقوا في البلاد، وحملوا ما أطاقوا، وتركوا ما عجزوا عنه، ولم يعرض الفرنج لأحد منهم، ولم يبق إلا الضعيف عجز عن الحركة.
وملك الفرنج البلد في الثالث والعشرين من جمادى الأولى من السنة، وكان فتحه وهناً عظيماً على المسلمين، فإنه من أحصن البلاد وأمنعها، فالله يعيده إلى الإسلام، ويقر أعين المسلمين بفتحه، بمحمد وآله.
ذكر عزل البرسقي عن شحنكية العراق

وولاية يرنقش الزكوي
في هذه السنة عزل البرسقي عن شحنكية العراق، ووليها سعد الدولة يرنقش الزكوي.
وسبب ذلك: أن البرسقي نفر عنه المسترشد بالله، فأرسل إلى السلطان محمود يلتمس منه أن يعزل البرسقي عن العراق ويعيده إلى الموصل، فأجابه السلطان إلى ذلك، وأرسل إلى البرسقي يأمره بالعود إلى الموصل، والاشتغال بجهاد الفرنج، فلما علم البرسقي الخبر شرع في جباية الأموال، ووصل نائب يرنقش، فسلم إليه البرسقي الأمر، وأرسل السلطان ولداً له صغيراً مع أمه إلى البرسقي ليكون عنده، فلما وصل الصغير إلى العراق خرجت العساكر والمواكب إلى لقائه، وحملت له الإقامات، وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً، وتسلمه البرسقي، وسار إلى الموصل، وهو ووالدته معه.
ولما سار البرسقي إلى الموصل كان عماد الدين زنكي بن آقسنقر بالبصرة قد سيره البرسقي إليها ليحميها، فظهر من حمايته لها ما عجب منه الناس، ولم يزل يقصد العرب ويقاتلهم في حللهم، حتى أبعدوا إلى البر، فأرسل إليه البرسقي يأمره باللحاق به، فقال لأصحابه: قد ضجرنا مما نحن فيه: كل يوم للموصل أمير جديد، ونريد نخدمه، وقد رأيت أن أسير إلى السلطان فأكون معه، فأشاروا عليه بذلك، فسار إليه، فقدم عليه بأصبهان فأكرمه، وأقطعه البصرة وأعاده إليها.
ذكر ملك البرسقي مدينة حلبفي هذه السنة، في ذي الحجة، ملك آقسنقر البرسقي مدينة حلب وقلعتها.

وسبب ذلك: أن الفرنج لما ملكوا مدينة صور، على ما ذكرناه، طمعوا، وقويت نفوسهم، وتيقنوا الاستيلاء على بلاد الشام، واستكثروا من الجموع، ثم وصل إليهم دبيس بن صدقة، صاحب الحلة، فأطمعهم طمعاً ثانياً، لا سيما في حلب، وقال لهم: إن أهلها شيعة، وهم يميلون إلي لأجل المذهب، فمتى رأوني سلموا البلد إلي. وبذل لهم على مساعدته بذولاً كثيرة، وقال: إنني أكون هاهنا نائباً عنكم ومطيعاً لكم. فساروا معه إليها وحصروها، وقاتلوا قتالاً شديداً، ووطنوا نفوسهم على المقام الطويل، وأنهم لا يفارقونها حتى يملكوها، وبنوا البيوت لأجل البرد والحر.
فلما رأى أهلها ذلك ضعفت نفوسهم، وخافوا الهلاك، وظهر لهم من صاحبهم تمرتاش الوهن والعجز، وقلت الأقوات عندهم، فلما رأوا ما دفعوا إليه من هذه الأسباب، أعملوا الرأي في طريق يتخلصون به، فرأوا أنه ليس لهم غير البرسقي، صاحب الموصل، فأرسلوا إليه يستنجدونه ويسألونه المجيء إليهم ليسلموا البلد إليه. فجمع عساكره وقصدهم، وأرسل إلى من بالبلد، وهو في الطريق، يقول: إنني لا أقدر على الوصول إليكم، والفرنج يقاتلونكم، إلا إذا سلمتم القلعة إلى نوابي، وصار أصحابي فيها، فإنني لا أدري ما يقدره الله تعالى إذا أنا لقيت الفرنج، فإن انهزمنا منهم وليست حلب بيد أصحابي حتى أحتمي أنا وعسكري بها، لم يبق منا أحد، وحينئذ تؤخذ حلب وغيرها.
فأجابوه إلى ذلك، وسلموا القلعة إلى نوابه، فلما استقروا فيها، واستولوا عليها، سار في العساكر التي معه، فلما أشرف عليها رحل الفرنج عنها، وهو يراهم، فأراد من في مقدمة عسكره أن يحمل عليهم، فمنعهم هو بنفسه، وقال: قد كفينا شرهم، وحفظنا بلدنا منهم، والمصلحة تركهم حتى يتقرر أمر حلب ونصلح حالها، ونكثر ذخائرها، ثم حينئذ نقصدهم ونقاتلهم. فلما رحل الفرنج خرج أهل حلب ولقوه، وفرحوا به، وأقام عندهم حتى أصلح الأمور وقررها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة انقطعت الأمطار في العراق، والموصل، وديار الجزيرة، والشام، وديار بكر، وكثير من البلاد، فقلت الأقوات، وغلت الأسعار في جميع البلاد، ودام إلى سنة تسع عشرة.
وفيها وصل منصور بن صدقة أخو دبيس إلى بغداد تحت الاستظهار، فمرض بها، فأحضر الخليفة الأطباء وأمرهم بمعالجته، وأحضره عنده، وجعل في حجرة، وأدخل أصحابه إليه.
وفيها سار دبيس من الشام، بعد رحيله عن حلب، وقصد الملك طغرل، فأغراه بالخليفة، وأطعمه في العراق، وكان ما نذكره سنة تسع عشرة إن شاء الله تعالى.
وفيها مات الحسن بن الصباح، مقدم الإسماعيلية، صاحب ألموت، وقد تقدم من أخباره ما يعلم به محله من الشجاعة والرأي والتجربة.
وفيها أيضاً توفي داود ملك الأبخاز، وشمس الدولة بن نجم الدين إيلغازي.
وفيها ثار أهل آمد بمن فيها من الإسماعيلية، وكانوا قد كثروا، فقتلوا منهم نحو سبعمائة رجل، فضعف أمرهم بها بعد هذه الوقعة.
وفيها، في صفر، توفي محمد بن مرزوق بن عبد الرزاق الزعفراني، وهو من أصحاب الخطيب البغدادي.
وفيها توفي أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح، الفقيه المعروف بابن الحمامي لأن أباه كان حمامياً، وكان حنبلياً، تفقه على ابن عقيل، ثم صار شافعياً، وتفقه على الغزالي والشاشي.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة

ذكر وصول الملك طغرل إلى العراق
قد ذكرنا مسير دبيس بن صدقة إلى الملك طغرل من الشام، فلما وصل إليه لقيه، وأكرمه، وأحسن إليه، وجعله من أعيان خواصه وأمرائه، فحسن له دبيس قصد العراق، وهون أمره عليه، وضمن له أنه يملكه، فسار معه إلى العراق، فوصلوا دقوقا في عساكر كثيرة. فكتب مجاهد الدين بهروز من تكريت يخبر الخليفة خبرهما، فتجهز للمسير ومنعهما، وأمر يرنقش الزكوي، شحنة العراق، أن يكون مستعداً للحرب، وجمع العساكر، والأمراء البكجية، وغيرهم، فبلغت عدة العساكر اثني عشر ألفاً سوى الرجالة، وأهل بغداد، وفرق السلاح.
وبرز خامس صفر وبين يديه أرباب الدولة رجالة، وخرج من باب النصر، وكان قد أمر بفتحه تلك الأيام، وسماه باب النصر، ونزل صحراء الشماسية، ونزل يرنقش عند السبتي، ثم سار فنزل الخالص تاسع صفر.

فلما سمع طغرل بخروج الخليفة عدل إلى طريق خراسان، وتفرق أصحابه في النهب والفساد، ونزل هو رباط جلولاء، فسار إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في عسكر كثير، فنزل الدسكرة، وتوجه طغرل ودبيس إلى الهارونية وسار الخليفة فنزل بالدسكرة هو والوزير، واستقر الأمر بين دبيس وطغرل أن يسيرا حتى يعبرا ديالى وتامرا، ويقطعا جسر النهروان، ويقيم دبيس ليحفظ المعابر، ويتقدم طغرل إلى بغداد فيملكها وينهبها، فسارا على هذه القاعدة، فعبرا تامرا، ونزل طغرل بينه وبين ديالى.
وسار دبيس على أن يلحقه طغرل، فقدر الله تعالى أن الملك طغرل لحقه حمى شديدة، ونزل عليهم من المطر ما لم يشاهدوا مثله، وزادت المياه وجاءت السيول والخليفة بالدسكرة، وسار دبيس في مائتي فارس، وقصد معرة النهروان وهو تعبان سهران، وقد لقي أصحابه من المطر والبل ما آذاهم وليس معهم ما يأكلون، ظناً منهم أن طغرل وأصحابه يلحقونهم، فتأخروا لما ذكرناه، فنزلوا جياعاً قد نالهم البرد، وإذا قد طلع عليهم ثلاثون جملاً تحمل الثياب المخيطة، والعمائم، والأقبية، والقلانس، وغيرها من الملبوس، وتحمل أيضاً أنواع الأطعمة المصنوعة، قد حملت من بغداد إلى الخليفة، فأخذ دبيس الجميع، فلبسوا الثياب الجدد، ونزعوا الثياب الندية، وأكلوا الطعام، وناموا في الشمس مما نالهم تلك الليلة.
وبلغ الخبر أهل بغداد، فلبسوا السلاح، وبقوا يحرسون الليل والنهار، ووصل الخبر إلى الخليفة والعسكر الذين معه أن دبيساً قد ملك بغداد، فرحل من الدسكرة، ووقعت الهزيمة على العسكر إلى النهروان، وتركوا أثقالهم ملقاة بالطريق لا يلتفت إليها أحد، ولولا أن الله تعالى لطف بهم بحمى الملك طغرل وتأخره لكان قد هلك العسكر، والخليفة أيضاً، وأخذوا، وكانت السواقي مملوءة بالوحل والماء من السيل، فتمزقوا، ولو لحقهم مائة فارس لهلكوا.
ووصلت رايات الخليفة ودبيس وأصحابه نيام، وتقدم الخليفة، وأشرف على ديالى، ودبيس نازل غرب النهروان، والجسر ممدودة شرق النهروان، فلما أبصر دبيس الخليفة قبل الأرض بين يدي الخليفة وقال: أنا العبد المطرود، فليعف أمير المؤمنين عن عبده. فرق الخليفة له، وهم بصلحه، حتى وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه، وركب دبيس، ووقف بإزاء عسكر يرنقش الزكوي يحادثهم ويتماجن معهم، ثم أمر الوزير الرجالة فعبروا ليمدوا الجسر آخر النهار، فسار حينئذ دبيس عائداً إلى الملك طغرل، وسير الخليفة عسكراً مع الوزير في أثره، وعاد إلى بغداد فدخلها، وكانت غيبته خمسة وعشرين يوماً.
ثم إن الملك طغرل ودبيساً عادا وسارا إلى السلطان سنجر، فاجتازا بهمذان، فقسطا على أهلها مالاً كثيراً، وأخذاه وغابا في تلك الأعمال، فبلغ خبرهم السلطان محموداً، فجد السير إليهم، فانهزموا من بين يديه، وتبعتهم العساكر، فدخلوا خراسان إلى السلطان سنجر، وشكوا إليه من الخليفة ويرنقش الزكوي.
ذكر فتح البرسقي كفر طاب

وانهزامه من الفرنج
في هذه السنة جمع البرسقي عساكره وسار إلى الشام، وقصد كفر طاب وحصرها، فملكها من الفرنج، وسار إلى قلعة عزاز، وهي من أعمال حلب من جهة الشمال، وصاحبها جوسلين، فحصرها، فاجتمعت الفرنج، فارسها وراجلها، وقصدوه ليرحلوه عنها، فلقيهم وضرب معهم مصافاً، واقتتلوا قتالاً شديداً صبروا كلهم فيه، فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر كثير.
وكان عدد القتلى أكثر من ألف قتيل من المسلمين، وعاد منهزماً إلى حلب، فخلف بها ابنه مسعوداً، وعبر الفرات إلى الموصل ليجمع العساكر ويعاود القتال، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل المأمون بن البطائحيفي هذه السنة، في رمضان، قبض الآمر بأحكام الله العلوي، صاحب مصر، على وزيره أبي عبد الله بن البطائحي، الملقب بالمأمون، وصلبه وإخوته.
وكان ابتداء أمره أن أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق، فمات ولم يخلف شيئاً، فتزوجت أمه وتركته فقيراً، فاتصل بإنسان يتعلم البناء بمصر، ثم صار يحمل الأمتعة بالسوق الكبير، فدخل مع الحمالين إلى دار الأفضل أمير الجيوش، مرة بعد أخرى، فرآه الأفضل خفيفاً رشيقاً، حسن الحركة، حلو الكلام، فأعجبه، فسأل عنه، فقيل هو ابن فلان، فاستخدمه مع الفراشين، ثم تقدم عنده، وكبرت منزلته، وعلت حالته، حتى صار وزيراً.

وكان كريماً، واسع الصدر، قتالاً، سفاكاً للدماء، وكان شديد التحرز، كثير التطلع إلى أحوال الناس من العامة والخاصة من سائر البلاد: مصر، والشام، والعراق، وكثر الغمازون في أيامه.
وأما سبب قتله فإنه كان قد أرسل الأمير جعفراً أخا الآمر ليقتل الآمر ويجعله خليفة، وتقررت القاعدة بينهما على ذلك، فسمع بذلك أبو الحسن بن أبي أسامة، وكان خصيصاً بالآمر، قريباً منه، وقد ناله من الوزير أذى واطراح، فحضر عند الآمر وأعلمه الحال، فقبض عليه وصلبه، وهذا جزاء من قابل الإحسان بالإساءة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي شمس الدولة سالم بن مالك، صاحب قلعة جعبر، وتعرف قديماً بقلعة دوس.
وفيها قتل القاضي أبو سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي بهمذان، قتله الباطنية، وكان قد مضى إلى خراسان في رسالة الخليفة إلى السلطان سنجر، فعاد فقتل، وكان ذا مروءة غزيرة، وتقدم كثير في الدولة السلجوقية.
وفي هذه السنة توفي هلال بن عبد الرحمن بن شريح بن عمر بن أحمد، وهو من ولد بلال بن رباح، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو سعد، طاف البلاد، وسمع وقرأ القرآن، وكان موته بسمرقند.
ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة

ذكر حرب الفرنج والمسلمين بالأندلس
في هذه السنة عظم شأن ابن ردمير الفرنجي بالأندلس، واستطال على المسلمين، فخرج في عساكر كثيرة من الفرنج، وجاس في بلاد الإسلام، وخاضها، حتى وصل إلى قريب قرطبة، وأكثر النهب والسبي والقتل، فاجتمع المسلمون في جيش عظيم زائد الحد في الكثرة، وقصدوه، فلم يكن له بهم طاقة، فتحصن منهم في حصن منيع له اسمه أرنيسول، فحصروه، وكبسهم ليلاً، فانهزم المسلمون، وكثر القتل فيهم، وعاد إلى بلاده.
ذكر قصد بلاد الإسماعيلية بخراسانفي هذه السنة أمر الوزير المختص أبو نصر أحمد بن الفضل، وزير السلطان سنجر، بغزو الباطنية، وقتلهم أين كانوا، وحيثما ظفر بهم، ونهب أموالهم، وسبي حريمهم، وجهز جيشاً إلى طريثيت، وهي لهم، وجيشاً إلى بيهق من أعمال نيسابور، وكان في هذه الأعمال قرية مخصوصة بهم اسمها طرز، ومقدمهم بها إنسان اسمه الحسن بن سمين.
وسير إلى كل طرف من أعمالهم جمعاً من الجند، ووصاهم أن يقتلوا من لقوه منهم، فقصد كل طائفة إلى الجهة التي سيرت إليها. فأما القرية التي بأعمال بيهق فقصدها العسكر، فقتلوا كل من بها، وهرب مقدمهم، وصعد منارة المسجد وألقى نفسه منها فهلك، وكذلك العسكر المنفذ إلى طريثيت قتلوا من أهلها فأكثروا، وغنموا من أموالهم وعادوا.
ذكر ملك الإسماعيلية قلعة بانياسفي هذه السنة عظم أمر الإسماعيلية بالشام، وقويت شوكتهم، وملكوا بانياس في ذي القعدة منها.
وسبب ذلك أن بهرام ابن أخت الأسداباذي، لما قتل خاله ببغداد، كما ذكرناه، هرب إلى الشام، وصار داعي الإسماعيلية فيه، وكان يتردد في البلاد، ويدعو أوباش الناس وطغامهم إلى مذهبه، فاستجاب له منهم من لا عقل له، فكثر جمعه، إلا أنه يخفي شخصه فلا يعرف، وأقام بحلب مدة، ونفر إلى إيلغازي صاحبها.
وأراد إيلغازي أن يعتضد به لاتقاء الناس شره وشر أصحابه، لأنهم كانوا يقتلون كل من خالفهم، وقصد من يتمسك بهم، وأشار إيلغازي على طغتكين، صاحب دمشق، بأن يجعله عنده لهذا السبب. فقبل رأيه، وأخذه إليه، فأظهر حينئذ شخصه، وأعلن دعوته، فكثر أتباعه من كل من يريد الشر والفساد، وأعانه الوزير أبو طاهر بن سعد المرغيناني قصداً للاعتضاد به على ما يريد، فعظم شره واستفحل أمره، وصار أتباعه أضعاف ما كانوا، فلولا أن عامة دمشق يغلب عليهم مذاهب أهل السنة، وأنهم يشددون عليه فيما ذهب إليه لملك البلد.
ثم إن بهرام رأى من أهل دمشق فظاظة وغلظة عليه، فخاف عاديتهم، فطلب من طغتكين حصناً يأوي إليه هو ومن اتبعه، فأشار الوزير بتسليم قلعة بانياس إليه، فسلمت إليه، فلما سار إليها اجتمع إليه أصحابه من كل ناحية، فعظم حينئذ خطبه، وجلت المحنة بظهوره، واشتد الحال على الفقهاء والعلماء وأهل الدين، لا سيما أهل السنة والستر والسلامة، إلا أنهم لا يقدرون على أن ينطقوا بحرف واحد، خوفاً من سلطانهم أولاً، ومن شر الإسماعيلية ثانياً، فلم يقدم أحد على إنكار هذه الحال، فانتظروا بهم الدوائر.
ذكر قتل البرسقي وملك ابنه عز الدين مسعود

في هذه السنة، ثامن ذي القعدة، قتل قسيم الدولة آقسنقر البرسقي، صاحب الموصل، بمدينة الموصل، قتلته الباطنية يوم جمعة بالجامع، وكان يصلي الجمعة مع العامة، وكان قد رأى تلك الليلة في منامه أن عدة كلاب ثارت به، فقتل بعضها، ونال منه الباقي ما آذاه، فقص رؤياه على أحصابه، فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام، فقال: لا أترك الجمع لشيء أبداً، فغلبوا على رأيه، ومنعوه من قصد الجمعة، فعزم على ذلك، فأخذ المصحف يقرأ فيه، فأول ما رأى: " وكان أمر الله قدراً مقدوراً " ، فركب إلى الجامع على عادته، وكان يصلي في الصف الأول، فوثب عليه بضعة عشر نفساً عدة الكلاب التي رآها، فجرحوه بالسكاكين، فجرح هو بيده منهم ثلاثة، وقتل رحمه الله.
وكان مملوكاً تركياً، خيراً، يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجداً.
حكى لي والدي، رحمه الله، عن بعض من كان يخدمه قال: كنت فراشاً معه، فكان يصلي كل ليلة كثيراً، وكان يتوضأ هو بنفسه، ولا يستعين بأحد، ولقد رأيته في بعض ليالي الشتاء بالموصل، وقد قام من فراشه، وعليه فرجية صغيرة وبر، وبيده إبريق، فمشى نحو دجلة ليأخذ ماء، فمنعني البرد من القيام، ثم إنني خفته، فقمت إلى بين يديه لآخذ الإبريق منه، فمنعني وقال: يا مسكين! ارجع إلى مكانك، فإن برد، فاجتهدت لآخذ الإبريق، فلم يعطني، وردني إلى مكاني ثم توضأ وقام يصلي.
ولما قتل كان ابنه عز الدين مسعود بحلب يحفظها من الفرنج، فأرسل إليه أصحاب أبيه بالخبر، فسار إلى الموصل ودخلها أول ذي الحجة، وأحسن إلى أصحاب أبيه بها، وأقر وزيره المؤيد أبا غالب بن عبد الخالق بن عبد الرزاق على وزارته، وأطاعه الأمراء والأجناد، وانحدر إلى خدمة السلطان محمود، فأحسن إليه وأعاده، ولم يختلف عليه أحد من أهل بلاد أبيه.
ووقع البحث عن حال الباطنية، والاستقصاء عن أخبارهم، فقيل إنهم كانوا يجلسون إلى إسكاف بدرب إيليا، فأحضر ووعد الإحسان إن أقر، فلم يقر، فهدد بالقتل، فقال: إنهم وردوا من سنين لقتله، فلم يتمكنوا منه إلى الآن، فقطعت يداه ورجلاه وذكره، ورجم بالحجارة فمات.
ومن العجب أن صاحب أنطاكية أرسل إلى عز الدين بن البرسقي يخبره بقتل والده قبل أن يصل إليه الخبر، وكان قد سمعه الفرنج قبله لشدة عنايتهم بمعرفة الأحوال الإسلامية.
ولما استقر عز الدين في الولاية قبض على الأمير بابكر بن ميكائيل، وهو من أكابر الأمراء، وطلب منه أن يسلم ابن أخيه قلعة إربل إلى الأمير فضل وأبي علي، ابني أبي الهيجاء، وكان ابن أخيه قد أخذها منه سنة سبع عشرة، فراسل ابن أخيه، فسلم إربل إلى المذكورين.
ذكر الاختلاف الواقع بين المسترشد بالله والسلطان محمودكان قد جرى بين يرنقش الزكوي، شحنة بغدادن وبين نواب الخليفة المسترشد بالله نفرة تهدده الخليفة فيها، فخافه على نفسه، فسار عن بغداد إلى السلطان محمود في رجب من هذه السنة، وشكا إليه، وحذره جانب الخليفة وأعلمه أنه قد قاد العساكر، ولقي الحروب، وقويت نفسه، ومتى مل تعاجله بقصد العراق ودخول بغداد، ازداد قوة وجمعاً، ومنعه عنه، وحينئذ يتعذر عليه ما هو الآن بيده.
فتوجه السلطان نحو العراق، فأرسل إليه الخليفة يعرفه ما هي البلاد وأهلها عليه من الضعف والوهن، بسبب دبيس، وإفساد عسكره فيها، وأن الغلاء قد اشتد بالناس لعدم الغلات والأقوات، لهرب الأكرة عن بلادهم، ويطلب منه أن يتأخر هذه الدفعة إلى أن ينصلح حال البلاد ثم يعود إليها، فلا مانع له عنها، وبذل له على ذلك مالاً كثيراً.

فلما سمع السلطان هذه الرسالة قوي عنده ما قرره الزكوي، وأبى أن يجيب إلى التأخر، وصمم العزم وسار إليها مجداً. فلما بلغ الخليفة الخبر عبر هو وأهله وحرمه ومن عنده من أولاد الخلفاء إلى الجانب الغربي في ذي القعدة، مظهراً للغضب والانتزاح عن بغداد إن قصدها السلطان، فلما خرج من داره بكى الناس جميعهم بكاء عظيماً لم يشاهد مثله. فلما علم السلطان ذلك اشتد عليه، وبلغ منه كل مبلغ، فأرسل يستعطف الخليفة، ويسأله العود إلى داره، فأعاد الجواب أنه لا بد من عودك هذه الدفعة، فإن الناس هلكى بشدة الغلاء، وخراب البلاد، وأنه لا يرى في دينه أن يزداد ما بهم، وهو يشاهدهم، فإن عاد السلطان، وإلا رحل هو عن العراق لئلا يشاهد ما يلقى الناس بمجيء العساكر.
فغضب السلطان لقوله، ورحل نحو بغداد، وأقام الخليفة بالجانب الغربي، فلما حضر عيد الأضحى خطب الناس، وصلى بهم، فبكى الناس لخطبته، وأرسل عفيفاً الخادم، وهو من خواصه، في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان، فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن آقسنقر، وكان له حينئذ البصرة، وقد فارق البرسقي، واتصل بالسلطان، فأقطعه البصرة.
فلما وصل عفيف إلى واسط سار إليه عماد الدين، فنزل بالجانب الشرقي، وكان عفيف بالجانب الغربي، فأرسل إليه عماد الدين يحذره القتال، ويأمره بالانتزاح عنها، فأبى ولم يفعل، فعبر إليه عماد الدين، واقتتلوا، فانهزم عسكر عفيف، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر مثلهم، وتغافل عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما.
ثم إن الخليفة جمع السفن جميعها إليه، ويسد أبواب دار الخلافة سوى باب التوبي، وأمر حاجب الباب ابن الصاحب بالمقام فيه لحفظ الدار، ولم يبق من حواشي الخليفة بالجانب الشرقي سواه.
ووصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ذي الحجة، ونزل بباب الشماسية، ودخل بعض عسكره إلى بغداد، ونزلوا في دور الناس، فشكا الناس ذلك إلى السلطان، فأمر بإخراجهم، وبقي فيها من له دار، وبقي السلطان يراسل الخليفة بالعود، ويطلب الصلح، وهو يمتنع.
وكان يجري بين العسكرين مناوشة، والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطان أفحش سب. ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة، ونهبوا التاج، وحجر الخليفة، أول المحرم سنة إحدى وعشرين، وضج أهل بغداد من ذلك، فاجتمعوا ونادوا الغزاة، فأقبلوا من كل ناحية، ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه، والوزير بين يديه، وأمر بضرب الكوسات والبوقات، ونادى بأعلى صوته: يا آل هاشم! وأمر بتقديم السفن، ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحدة، وكان له في الدار ألف رجل مختفين في السراديب، فظهروا، وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب، فأسر منهم جماعة من الأمراء، ونهب العامة دار وزير السلطان، ودور جماعة من الأمراء، ودار عزيز الدين المستوفي، ودار الحكيم أوحد الزمان الطبيب، وقتل منهم خلق كثير في الدروب.
ثم عبر الخليفة إلى الجانب الشرقي، ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق، فحفرت بالليل، وحفظوا بغداد من عسكر السلطان، ووقع الغلاء عند العسكر، واشتد الأمر عليهم، وكان القتال كل يوم عليهم عند أبواب البلد وعلى شاطيء دجلة، وعزم عسكر الخليفة على أن يكبسوا عسكر السلطان، فغدر بهم الأمير أبو الهيجاء الكردي، صاحب إربل، وخرج كأنه يريد القتال، فالتحق هو وعسكره بالسلطان.

وكان السلطان قد أرسل إلى عماد الدين بواسط يأمره أن يحضر هو بنفسه، ومعه المقاتلة في السفن، وعلى الدواب في البر، فجمع كل سفينة في البصرة إلى بغداد، وشحنها بالرجال المقاتلة، وأكثر من السلاح، وأصعد، فلما قارب بغداد أمر كل من معه في السفن وفي البر بلبس السلاح، وإظهار ما عندهم من الجلد والنهضة، فسارت السفن في الماء، والعسكر في البر على شاطيء دجلة قد انتشروا وملأوا الأرض براً وبحراً، فرأى الناس منظراً عجيباً، كبر في أعينهم، وملأ صدورهم، وركب السلطان والعسكر إلى لقائهم، فنظروا إلى ما لم يروا مثله، وعظم عماد الدين في أعينهم، وعزم السلطان على قتال بغداد حينئذ، والجد في ذلك في البر والماء. فلما رأى الإمام المسترشد بالله الأمر على هذه الصورة، وخروج الأمير أبي الهيجاء من عنده، أجاب إلى الصلح، وترددت الرسل بينهما، فاصطلحا، واعتذر السلطان مما جرى، وكان حليماً يسمع سبه بأذنه فلا يعاقب عليه، وعف عن أهل بغداد جميعهم.
وكان أعداء الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداد، فلم يفعل، وقال: لا تساوي الدنيا فعل مثل هذا. وأقام ببغداد إلى رابع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين، وحمل الخليفة من المال إليه كما استقرت القاعدة عليه، وأهدى له سلاحاً وخيلاً وغير ذلك، فمرض السلطان ببغداد، فأشار عليه الأطباء بمفارقتها، فرحل إلى همذان، فلما وصلها عوفي.
ذكر مصاف بين طغتكين أتابك والفرنج بالشامفي هذه السنة اجتمعت الفرنج وملوكها وقمامصتها وكنودها وساروا إلى نواحي دمشق فنزلوا بمرج الصفر عند قرية يقال لها سقحبا بالقرب من دمشق، فعظم الأمر على المسلمين واشتد خوفهم، وكاتب طغتكين أتابك صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها وجميعهم وكان هو قد سار عن دمشق إلى جهة الفرنج واستخلف بها ابنه تاج الملوك بوري فكان بها، كما جاءت طائفة أحسن ضيافتهم وسيرهم إلى أبيه، فلما اجتمعوا سار بهم طغتكين إلى الفرنج فالتقوا أواخر ذي الحجة واقتتلوا، واشتد القتال، فسقط طغتكين على فرسه، فظن أصحابه أنه قتل، فانهزموا وركب طغتكين فرسه ولحقهم وتبعهم الفرنج وبقي التركمان لم يقدروا أن يلحقوا بالمسلمين في الهزيمة فتخلفوا، فلما رأوا فرسان الفرنج قد تبعوا المنهزمين وأن معسكرهم وراجلهم ليس له منع ولا حام حملوا على الرجالة فقتلوهم ولم يسلم منهم إلا الشريد، ونهبوا معسكر الفرنج وخيامهم وأموالهم وجميع ما معهم وفي جملته كنيسة وفيها من الذهب والجواهر ما لا يقوم كثرة فنهبوا ذلك جميعه وعادوا إلى دمشق سالمين لم يعدم منهم أحد. ولما رجع الفرنج من أثر المنهزمين ورأوا رجالتهم قتلى وأموالهم منهوبة تموا منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه، وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كل واحدة منهما من صاحبتها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة حصر الفرنج رفنية من أرض الشام، وهي بيد المسلمين، وضيقوا عليها فملكوها.
وفيها توفي أبو الفتح أحمد بن محمد بن محمد الغزالي، الواعظ، وهو أخو الإمام أبي حامد محمد، وقد ذمه أبو الفرج بن الجوزي بأشياء كثيرة منها: روايته في وعظه الأحاديث التي ليست له بصحيحة، والعجب أنه يقدح فيه بهذا، وتصانيفه هو ووعظه محشو به، مملوء منه، نسأل الله أن يعيذنا من الوقيعة في الناس، ثم يا ليت شعري أما كان للغزالي حسنة تذكر مع ما ذكر من المساويء التي نسبها إليه لئلا ينسب إلى الهوى والغرض؟
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة

ذكر ولاية أتابك زنكي شحنكية العراق
في هذه السنة، في ربيع الآخر، أسند السلطان محمود شحنكية العراق إلى عماد الدين زنكي بن آقسنقر.

وكان سبب ذلك: أن عماد الدين لما أصعد من واسط في التجمل والجمع الذي ذكرناه، وقام في حفظ واسط والبصرة وتلك النواحي القيام الذي عجز غيره عنه، عظم في صدر السلطان وصدور أمرائه، فلما عزم السلطان على المسير عن بغداد نظر فيمن يصلح أن يلي شحنكية العراق ويأمن معه من الخليفة، فاعتبر أمراءه، وأعيان دولته، فلم ير فيهم من يقوم في هذا الأمر مقام عماد الدين، فاستشار في ذلك، فكل أشار به، وقالوا: لا نقدر على رفع هذا الخرق، وإعادة ناموس هذه الولاية، ولا تقوى نفس أحد على ركوب هذا الخطر غير عماد الدين زنكي. فوافق ما عنده، فأسند إليه الولاية وفوضها إليه مضافة إلى ما له من الأقطاع، وسار عن بغداد وقد اطمأن قلبه من جهة العراق، فكان الأمر كما ظن.
ذكر عود السلطان عن بغداد وزارة أنوشروان بن خالدفي هذه السنة، في عاشر ربيع الآخر، سار السلطان محمود عن بغداد، بعد تقرير القواعد بها، ولما عزم على المسير حمل إليه الخليفة الخلع، والداوب الكثيرة، فقبل ذلك جميعه وسار.
ولما أبعد عن بغداد قبض على وزيره أبي القاسم علي بن القاسم الأنساباذي في رجب، لأنه اتهمه بممالأة المسترشد بالله لقيامه في أمره وإتمام الصلح مقاماً ظهر أثره، فسعى به أعداؤه، فلما قبض عليه أرسل السلطان إلى بغداد فأحضر شرف الدين أنوشروان بن خالد، وكان مقيماً بها، فلما علم بذلك جاءته الهدايا من كلا أحد، حتى من الخليفة، وسار عن بغداد خامس شعبان، فوصل إلى السلطان، وهو بأصبهان، فخلع عليه خلع الوزارة، وبقي فيها نحو عشرة أشهر، ثم استعفى منها، وعزل نفسه، وعاد إلى بغداد في شعبان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
وأما الوزير أبو القاسم فإنه بقي مقبوضاً إلى أن خرج السلطان سنجر إلى الري سنة اثنتين وعشرين، فأخرجه من الحبس في ذي الحجة، وأعاده إلى وزارة السلطان محمود، وهي الوزارة الثانية.
ذكر وفاة عز الدين بن البرسقي

وولاية عماد الدين زنكي الموصل وأعمالها
في هذه السنة توفي عز الدين مسعود بن البرسقي، وهو صاحب الموصل، وكان موته بمدينة الرحبة، وسبب مسيره إليها: أنه لما استقامت أموره في ولايته، وراسل السلطان محموداً، وخطب له ولاية ما كان أبوه يتولاه من الموصل وغيرها، أجاب السلطان إلى ما طلب، فرتب الأمور وقررها. فكثر جنده، وكان شجاعاً، شهماً، فطمع في التغلب على بلاد الشام، فجمع عساكره وسار إلى الشام يريد قصد دمشق، فابتدأ بالرحبة، فوصل إليها ونازلها، وقام يحاصرها، فأخذه مرض حاد وهو محاصر لها، فتسلم القلعة ومات بعد ساعة، فندم من بها على تسليمها إليه.
ولما مات بقي مطروحاً على بساط لم يدفن، وتفرق عنه عسكره، ونهب بعضهم بعضاً، فشغلوا عنه، ثم دفن بعد ذلك، وقام بعده أخ له صغير، واستولى على البلاد مملوك للبرسقي يعرف بالجاولي، ودبر أمر الصبي، وأرسل إلى السلطان يطلب أن يقرر البلاد على ولد البرسقي، وبذل الأموال الكثيرة على ذلك.
وكان الرسول في هذا الأمر القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن القاسم الشهرزوري، وصلاح الدين محمد أمير حاجب البرسقي، فحضرا دركاه السلطان ليخاطبا في ذلك، وكانا يخافان جاولي، ولا يرضيان بطاعته والتصرف بما يحكم به، فاجتمع صلاح الدين، ونصير الدين جقر الذي صار نائباً عن أتابك عماد الدين بالموصل، وكان بينهما مصاهرة، وذكر له صلاح الدين ما ورد فيه، وأفشى إليه سره، فخوفه نصير الدين من جاولي، وقبح عنده طاعته، وقرر في نفسه أنه إنما أبقاه وأمثاله لحاجته إليهم، ومتى أجيب إلى مطلوبه لا يبقي على أحد منهم.

وتحدث معه في المخاطبة في ولاية عماد الدين زنكي، وضمن له الولايات والأقطاع الكثيرة، وكذلك للقاضي بهاء الدين الشهرزوري، فأجابه إلى ذلك، وأحضره معه عند القاضي بهاء الدين، وخاطباه في هذا الأمر، وضمنا له كل ما أراده فوافقهما على ما طلبا، وركب هو وصلاح الدين إلى دار الوزير، وهو حينئذ شرف الدين أنوشروان بن خالد، وقالا له: قد علمت أنت والسلطان أن ديار الجزيرة والشام قد تمكن الفرنج منها، وقويت شوكتهم بها، فاستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود ماردين إلى عريش مصر، ما عدا البلاد الباقية بيد المسلمين، وقد كان البرسقي مع شجاعته، وتجريبه، وانقياد العساكر إليه، يكف بعض عاديتهم وشرهم، فمذ قتل ازداد طمعهم، وهذا ولده طفل صغير، ولا بد للبلاد من رجل شهم، شجاع، ذي رأي وتجربة، يذب عنها ويحفظها ويحمي حوزتها، وقد أنهينا الحال لئلا يجري خلل، أو وهن على الإسلام والمسلمين، فيختص اللوم بنا، ويقال: ألا أنهيتم إلينا جلية الحال؟ .
فرفع الوزير قولهما إلى السلطان، فاستحسنه، وشكرهما عليه، وأحضرهما، واستشارهما فيمن يصلح للولاية، فذكرا جماعة منهم عماد الدين زنكي، وبذلا عنه، تقرباً إلى خزانة السلطان، مالاً جليلاً، فأجاب السلطان إلى توليته، لما يعلمه من كفايته لما يليه، فأحضره وولاه البلاد كلها، وكتب منشورة بها.
وسار فبدأ بالبوازيج ليملكها ويتقوى بها ويجعلها ظهره، لأنه خاف من جاولي أنه ربما صده عن البلاد، فلما دخل البوازيج سار عنها إلى الموصل. فلما سمع جاولي بقربه من البلد خرج إلى تلقيه ومعه جميع العسكر، فلما رآه جاولي نزل عن فرسه وقبل الأرض بين يديه، وعاد في خدمته إلى الموصل، فدخلها في رمضان، وأقطع جاولي الرحبة وسيره إليها، وأقام بالموصل يصلح أمورها، ويقرر قواعدها، فولى نصير الدين دزدارية القلعة بالموصل، وجعل إليه سائر دزدارية القلاع، وجعل صلاح الدين محمداً أمير حاجب، وبهاء الدين قاضي قضاة بلاده جميعها، وزاده أملاكاً، وأقطاعاً، واحتراماً، وكان لا يصدر إلا عن رأيه.
فلما فرغ من أمر الموصل سار عنها إلى جزيرة ابن عمر، وبها مماليك البرسقي، فامتنعوا عليه، فحصرهم وراسلهم، وبذل لهم البذول الكثيرة إن سلموا، فلم يجيبوه إلى ذلك، فجد في قتالهم، وبينه وبين البلد دجلة، فأمر الناس، فألقوا أنفسهم في الماء ليعبروه إلى البلد، ففعلوا، وعبر بعضهم سباحاً، وبعضهم في السفن، وبعضهم في الأكلاك، وتكاثروا على أهل الجزيرة، وكانوا قد خرجوا عن البلد إلى أرض بين الجزيرة ودجلة، تعرف بالزلاقة، ليمنعوا من يريد عبور دجلة، فلما عبر العسكر إليهم قاتلوهم ومانعوهم، فتكاثر عسكر عماد الدين عليهم، فانهزم أهل البلد، ودخلوه، وتحصنوا بأسواره، واستولى عماد الدين على الزلاقة، فلما رأى من بالبلد ذلك ضعفوا، ووهنوا، وأيقنوا أن البلد يملك سلماً، أو عنوة، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وكان هو أيضاً مع عسكره بالزلاقة، فسلموا البلد إليه، فدخله هو وعسكره.
ثم إن دجلة زادت تلك الليلة زيادة عظيمة لحقت سور البلد، وصارت الزلاقة ماء، فلو أقام ذلك اليوم لغرق هو وعسكره، ولم ينج منهم أحد، فلما رأى الناس ذلك أيقنوا بسعادته، وأيقنوا أن أمراً هذا بدايته لعظيم.
ثم سار عن الجزيرة إلى نصيبين، وكانت لحسام الدين تمرتاش، صاحب ماردين، فلما نازلها سار حسام الدين إلى ابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان بن أرتق، وهو صاحب حصن كيفا وغيرها، فاستنجده على أتابك زنكي. فوعده النجدة بنفسه، وجمع عسكره، وعاد تمرتاش إلى ماردين، وأرسل رقاعاً على أجنحة الطيور إلى نصيبين يعرف من بها من العسكر أنه وابن عمه سائران في العسكر الكثير إليهم، وإزاحة عماد الدين عنهم، ويأمرهم بحفظ البلد خمسة أيام.

فبينما أتابك في خيمته إذ سقط طائر على خيمة تقابله، فأمر به فصيد، فرأى فيه رقعة، فقرأها وعرف ما فيها، فأمر أن يكتب غيرها، يقول فيها: من حسام الدين إنني قصدت ابن عمي ركن الدولة، وقد وعدني النصرة وجمع العساكر، وما يتأخر عن الوصول أكثر من عشرين يوماً، ويأمرهم بحفظ البلد هذه المدة إلى أن يصلوا، وجعلها في الطائر وأرسله، فدخل نصيبين، فلما وقف من بها على الرقعة سقط في أيديهم، وعلموا أنهم لا يقدرون أن يحفظوا البلد هذه المدة، فأرسلوا إلى الشهيد وصالحوه، وسلموا البلد إليه، فبطل على تمرتاش وداود ما كانا عزما عليه، وهذا من غريب ما يسمع.
فلما ملك نصيبين سار عنها إلى سنجار، فامتنع من بها عليه، ثم صالحوه وسلموا البلد إليه، وسير منها الشحن إلى الخابور، فملكه جميعه. ثم سار إلى حران، وهي للمسلمين، وكانت الرها، وسروج، والبيرة، وتلك النواحي جميعها للفرنج، وأهل حران معهم في ضر عظيم، وضيق شديد، لخلو البلد من حام يذب عنها، وسلطان يمنعها، فلما قارب حران خرج أهل البلد وأطاعوه وسلموا إليه، فلما ملكها أرسل إلى جوسلين، صاحب الرها وتلك البلاد، وراسله، وهادنه مدة يسيرة، وكان غرضه أن يتفرغ لإصلاح البلد، وتجنيد الأجناد، وكان أهم الأمور إليه أن يعبر الفرات إلى الشام، ويملك مدينة حلب وغيرها من البلاد الشامية، فاستقر الصلح بينهم، وأمن الناس، ونحن نذكر ملك حلب، إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل معين الملك أبو نصر أحمد بن الفضل، وزير السلطان سنجر، قتلته الباطنية، وكان له في قتالهم آثار حسنة، ونية صالحة، فرزقه الله الشهادة.
وفيها ولى السلطان شحنكية بغداد مجاهد الدين بهروز، لما سار أتابك زنكي إلى الموصل.
وفيها رتب الحسن بن سليمان في تدريس النظامية ببغداد.
وفيها أوقع السلطان سنجر بالباطنية في ألموت، فقتل منهم خلقاً كثيراً، قيل كانوا يزيدون على عشرة آلاف نفس.
وتوفي هذه السنة علي بن المبرك أبو الحسن المقري، المعروف بابن الفاعوس، الحنبلي، ببغداد، في شوال، وكان صالحاً.
وفي شوال توفي محمد بن عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد أبو الحسن بن أبي الفضل الهمذاني الفرضي، صاحب التاريخ.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة

ذكر ملك عماد الدين زنكي مدينة حلب
في هذه السنة، أول المحرم، ملك عماد الدين زنكي بن آقسنقر مدينة حلب وقلعتها، ونحن نذكر كيف كان سبب ملكها، فنقول: قد ذكرنا ملك البرسقي لمدينة حلب وقلعتها سنة ثماني عشرة، واستخلافه بها ابنه مسعوداً، ولما قتل البرسقي سار مسعود عنها إلى الموصل وملكها، واستناب بحلب أميراً اسمه قومان، ثم إنه ولى عليها أميراً اسه قتلغ أبه، وسيره بتوقيع إلى قومان بتسليمها، فقال: بيني وبين عز الدين علامة لم أرها، ولا أسلم إلا بها، وكانت العلامة بينهما صورة غزال، وكان مسعود بن البرسقي حسن التصوير، فعاد قتلغ أبه إلى مسعود، وهو يحاصر الرحبة، فوجده قد مات، فعاد إلى حلب مسرعاً.
وعرف الناس موته، فسلم الرئيس فضائل بن بديع البلد، وأطاعه المقدمون به، واستنزلوا قومان من القلعة، بعد أن صح عنده وفاة صاحبه مسعود، وأعطوه ألف دينار، فتسلم قتلغ القلعة في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين، فظهر منه بعد أيام جور شديد، وظلم عظيم، ومد يده إلى أموال الناس، لا سيما التركات، فإنه أخذها، وتقرب إليه الأشرار، فنفرت قلوب الناس منه.
وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق الذي كان قديماً صاحبها، فأطاعه أهلها، وقاموا ليلة الثلاثاء ثاني شوال فقبضوا على كل من كان بالبلد من أصحاب قتلغ أبه، وكان أكثرهم يشربون في البلد صبخة العيد، وزحفوا إلى القلعة، فتحصن قتلغ أبه فيها بمن معه، فحصروه، ووصل إلى حلب حسان صاحب منبج، وحسن صاحب بزاعة، لإصلاح الأمر فلم ينصلح.
وسمع الفرنج بذلك، فتقدم جوسلين بعسكره إلى المدينة، فصونع بمال، فعاد عنها، ثم وصل بعده صاحب أنطاكية في جمع من الفرنج، فخندق الحلبيون حول القلعة، فمنع الداخل والخارج إليها من ظاهر البلد، وأشرف الناس على الخطر العظيم إلى منتصف ذي الحجة من السنة.

وكان عماد الدين قد ملك الموصل والجزيرة، فسير إلى حلب الأمير سنقرجة دراز، والأمير حسن قراقوش، وهما من أكابر أمراء البرسقي، وقد صاروا معه في عسكر قوي، ومعه التوقيع من السلطان بالموصل، والجزيرة، والشام، فاستقر الأمر أن يسير بدر الدولة بن عبد الجبار وقتلغ أبه إلى الموصل إلى عماد الدين، فسارا إليه، وأقام حسن قراقوش بحلب والياً عليها ولاية مستعارة، فلما وصل بدر الدولة وقتلغ أبه إلى عماد الدين أصلح بينهما، ولم يرد واحداً منهما إلى حلب، وسير حاجبه صلاح الدين محمداً الياغيسياني إليها في عسكر، فصعد القلعة، ورتب الأمور، وجعل فيها والياً.
وسار عماد الدين زنكي إلى الشام في جيوشه وعساكره، فملك في طريقه مدينة منبج وبزاعة، وخرج أهل حلب إليه، فالتقوه، واستبشروا بقدومه، ودخل البلد واستولى عليه، ورتب أموره، وأقطع أعماله الأجناد والأمراء، فلما فرغ من الذي أراده قبض على قتلغ أبه وسلمه إلى ابن بديع، فكحله بداره بحلب، فمات قتلغ أبه، واستوحش ابن بديع، فهرب إلى قلعة جعبر واستجار بصاحبها، فأجاره.
وجعل عماد الدين في رئاسة حلب أبا الحسن علي بن عبد الرزاق، ولولا أن الله تعالى من على المسلمين بملك أتابك ببلاد الشام لملكها الفرنج لأنهم كانوا يحصرون بعض البلاد الشامية، وإذا علم ظهير الدين طغتكين بذلك جمع عساكره وقصد بلادهم وحصرها وأغار عليها، فيضطر الفرنج إلى الرحيل لدفعه عن بلادهم، فقدر الله تعالى أنه توفي هذه السنة، فخلا لهم الشام من جميع جهاته من رجل يقوم بنصرة أهله، فلطف الله بالمسلمين بولاية عماد الدين، ففعل الفرنج ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر قدوم السلطان سنجر إلى الريفي هذه السنة خرج السلطان سنجر من خراسان إلى الري في جيش كثير.
وكان سبب ذلك: أن دبيس بن صدقة لما وصل إليه هو والملك طغرل، على ما ذكرناه، لم يزل يطمعه في العراق، ويسهل عليه قصده، ويلقي في نفسه أن المسترشد بالله والسلطان محمود متفقان على الامتناع منه، ولم يزل به حتى أجابه إلى المسير إلى العراق، فلما ساروا وصل إلى الري، وكان السلطان محمود بهمذان، فأرسل إليه السلطان سنجر يستدعيه إليه لينظر هل هو على طاعته أم قد تغير على ما زعم دبيس، فلما جاءه الرسول بادر إلى المسير إلى عمه، فلما وصل إليه أمر العسكر جميعه بلقائه، وأجلسه معه على التخت، وبالغ في إكرامه، وأقام عنده إلى منتصف ذي الحجة، ثم عاد السلطان سنجر إلى خراسان، وسلم دبيساً إلى السلطان محمود، ووصاه بإكرامه وإعادته إلى بلده، ورجع محمود إلى همذان ودبيس معه، ثم سارا إلى العراق، فلما قاربا بغداد خرج الوزير إلى لقائه، وكان قدومه تاسع المحرم سنة ثلاث وعشرين.
وكان الوزير أبو القاسم الأنساباذي قد قبض السلطان محمود عليه، فلما اجتمع بالسلطان سنجر أمر بإطلاقه فأطلقه، وقرره سنجر في وزارته ابنته التي زوجها بالسلطان محمود، فلما وصل معه إلى بغداد أعاده محمود إلى وزارته في الرابع والعشرين من المحرم، وهي وزارته الثانية.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ثامن صفر توفي أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وهو مملوك الملك تتش بن ألب أرسلان، وكان عاقلاً، خيراً، كثير الغزوات والجهاد للفرنج، حسن السيرة في رعيته، مؤثراً للعدل فيهم، وكان لقبه ظهير الدين، ولما توفي ملك بعده ابنه تاج الملوك بوري، وهو أكبر أولاده، بوصية من والده بالملك، وأقر وزير أبيه أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته.
وفيها، مستهل رجب، توفي الوزير جلال الدين أبو علي بن صدقة، وزير الخليفة، وكان حسن السيرة، جميل الطريقة، متواضعاً، محباً لأهل العلم، مكرماً لهم، وله شعر حسن ، فمنه في مدح المسترشد بالله:
وجدت الورى كالماء طعماً ورقة، ... وأن أمير المؤمنين زلاله
وصورت معنى العقل شخصاً مصوراً، ... وأن أمير المؤمنين مثاله
ولولا طريق الدين والشرع والتقى ... لقلت من الإعظام جل جلاله
وأقيم في النيابة بعده شرف الدين علي بن طراد الزينبي، ثم جعل وزيراً، وخلع عليه آخر شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وعشرين ولم يزِر للخلفاء من بني العباس هاشمي غيره.

وفيها هبت ريح شديدة اسودت لها الآفاق، وجاءت بتراب أحمر يشبه الرمل، وظهر في السماء أعمدة كأنها نار، فخاف الناس، وعدلوا إلى الدعاء والاستغفار، فانكشف عنهم ما يخافونه.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة

ذكر قدوم السلطان محمود إلى بغداد
في هذه السنة، في المحرم، قدم السلطان محمود بغداد، بعد عوده من عند عمه السلطان سنجر، ومعه دبيس بن صدقة، ليصلح حاله مع الخليفة المسترشد بالله، فتأخر دبيس عن السلطان، ثم دخل بغداد، ونزل بدار السلطان، واسترضى عنه الخليفة، فامتنع الخليفة من الإجابة إلى أن يولي دبيس شيئاً من البلاد، وبذل مائة ألف دينار لذلك.
وعلم أتابك زنكي أن السلطان يريد أن يولي دبيس الموصل، فبذل مائة ألف دينار، وحضر بنفسه إلى خدمة السلطان، فلم يشعر السلطان به إلا وهو عند الستر، وحمل معه الهدايا الجليلة، فأقام عند السلطان ثلاثة أيام، وخلع عليه، وأعاده إلى الموصل.
وخرج السلطان يتصيد، فعمل له شيخ المزرفة دعوة عظيمة امتار منها جميع عسكر السلطان، وأدخله إلى حمام في داره، وجعل فيه عوض الماء ماء الورد، فأقام السلطان إلى رابع جمادى الآخرة، وسار عنها إلى همذان، وجعل بهزور على شحنكية بغداد، وسلمت إليه الحلة أيضاً.
ذكر ما فعله دبيس بالعراق
وعود السلطان إلى بغداد
لما رحل السلطان إلى همذان ماتت زوجته، وهي ابنة السلطان سنجر، وهي التي كانت تعنى بأمر دبيس، وتدافع عنه، فلما ماتت انحل أمر دبيس.
ثم إن السلطان مرض مرضاً شديداً، فأخذ دبيس ابناً له صغيراً وقصد العراق، فلما سمع المسترشد بالله بذلك جند الأجناد وحشد، وكان بهروز بالحلة، فهرب منها، فدخلها دبيس في شهر رمضان، فلما سمع السلطان الخبر عن دبيس أحضر الأميرين قزل، والأحمديلي، وقال: أنتما ضمنتما دبيساً مني، وأريده منكما. فسار الأحمديلي إلى العراق، إلى دبيس، ليكف شره عن البلاد، ويحضره إلى السلطان، فلما سمع دبيس الخبر أرسل إلى الخليفة يستعطفه، ويقول: إن رضيت عني فأنا أرد أضعاف ما أخذت، وأكون العبد المملوك، فتردد الرسل ودبيس يجمع الأموال، والرجال، فاجتمع معه عشرة آلاف فارس، وكان قد وصل في ثلاثمائة فارس، ووصل الأحمديلي بغداد في شوال، وسار في أثر دبيس.
ثم إن السلطان سار إلى العراق، فلما سمع دبيس بذلك أرسل إليه هدايا جليلة المقدار، وبذل ثلاثمائة حصان منعلة بالذهب، ومائتي ألف دينار، ليرضى عنه السلطان والخليفة، فلم يجبه إلى ذلك، ووصل السلطان إلى بغداد في ذي القعدة، فلقيه الوزير الزينبي وأرباب المناصب، فلما تيقن دبيس وصوله رحل إلى البرية، وقصد البصرة وأخذ منها أموالاً كثيرة، وما للخليفة والسلطان هناك من الدخل، فسير السلطان إثره عشرة آلاف فارس، ففارق البصرة ودخل البرية.
ذكر قتل الإسماعيلية بدمشققد ذكرنا فيما تقدم قتل إبراهيم الأسداباذي ببغداد، وهرب ابن أخته بهرام إلى الشام، وملكه قلعة بانياس، ومسيره إليها، ولما فارق دمشق أقام له بها خليفة يدعو الناس إلى مذهبه، فكثروا وانتشروا، وملك هو عدة حصون من الجبال منها القدموس وغيره، وكان بوادي التيم، من أعمال بعلبك، وأصحاب مذاهب مختلفة من النصيرية، والدرزية، والمجوس، وغيرهم، وأميرهم اسمه الضحاك، فسار إليهم بهرام سنة اثنتين وعشرين وحصرهم وقاتلهم، فخرج إليه الضحاك في ألف رجل، وكبس عسكر بهرام فوضع السيف فيهم، وقتل منهم مقتلة كثيرة، وقتل بهرام، وانهزم من سلم، وعادوا إلى بانياس على أقبح صورة.
وكان بهرام قد استخلف في بانياس رجلاً من أعيان أصحابه اسمه إسماعيل، فقام مقامه، وجمع شمل من عاد إليه منهم، وبث دعاته في البلاد، وعاضده المزدقاني أيضاً، وقوى نفسه على ما عنده من الامتعاض بهذه الحادثة، والهم بسببها.

ثم إن المزدقاني أقام بدمشق عوض بهرام إنساناً اسمه أبو الوفاء، فقوي أمره وعلا شأنه وكثر أتباعه، وقام بدمشق، فصار المستولي على من بها من المسلمين، وحكمه أكثر من حكم صاحبها تاج الملوك. ثم إن المزدقاني راسل الفرنج ليسلم إليهم مدينة دمشق، ويسلموا إليه مدينة صور، واستقر الأمر بينهم على ذلك، وتقرر بينهم الميعاد يوم جمعة ذكروه، وقرر المزدقاني مع الإسماعيلية أن يحتاطوا ذلك اليوم بأبواب الجامع فلا يمكنوا أحداً من الخروج منه ليجيء الفرنج ويملكوا البلاد. فبلغ الخبر تاج الملوك، صاحب دمشق، فاستدعى المزدقاني إليه، فحضر، وخلا معه، فقتله تاج الملوك، وعلق رأسه على باب القلعة، ونادى في البلد بقتل الباطنية، فقتل منهم ستة آلاف نفس، وكان ذلك منتصف رمضان من السنة، وكفى الله المسلمين شرهم، ورد على الكافرين كيدهم.
ولما تمت هذه الحادثة بدمشق على الإسماعيلية خاف إسماعيل والي بانياس أن يثور به وبمن معه الناس فيهلكوا، فراسل الفرنج، وبذل لهم تسليم بانياس إليهم، والانتقال إلى بلادهم، فأجابوه، فسلم القلعة إليهم، وانتقل هو ومن معه من أصحابه إلى بلادهم، ولقوا شدة وذلة وهواناً، وتوفي إسماعيل أوائل سنة أربع وعشرين، وكفى الله المؤمنين شرهم.
ذكر حصر الفرنج دمشق وانهزامهملما بلغ الفرنج قتل المزدقاني والإسماعيلية بدمشق عظم عليهم ذلك، وتأسفوا على دمشق حيث لم يتم لهم ملكها، وعمتهم المصيبة، فاجتمعوا كلهم: صاحب القدس، وصاحب أنطاكية، وصاحب طرابلس، وغيرهم من الفرنج وقمامصتهم، ومن وصل إليهم في البحر للتجارة والزيارة، فاجتمعوا في خلق عظيم نحو ألفي فارس، وأما الراجل فلا يحصى، وساروا إلى دمشق ليحصروها.
ولما سمع تاج الملوك بذلك جمع العرب والتركمان، فاجتمع معهم ثمانية آلاف فارس، ووصل الفرنج في ذي الحجة، فنازلوا البلد، وأرسلوا إلى أعمال دمشق لجمع الميرة والإغارة على البلاد، فلما سمع تاج الملوك أن جمعاً كثيراً قد ساروا إلى حوران لنهبه، وإحضاره الميرة، سير أميراً من أمرائه، يعرف بشمس الخواص، في جمع من المسلمين إليهم، وكان خروجهم في ليلة شاتية، كثيرة المطر، ولقوا الفرنج من الغد، فواقعوهم، واقتتلوا، وصبر بعضهم لبعض، فظفر بهم المسلمون وقتلوهم، فلم يفلت منهم غير مقدمهم ومعه أربعون رجلاً، وأخذوا ما معهم، وهي عشرة آلاف دابة موقَرة، وثلاثمائة أسير، وعادوا إلى دمشق لم يمسسهم قرح. فلما علم من عليها من الفرنج ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، فرحلوا عنها شبه المنهزمين، وأحرقوا ما تعذر عليهم حمله من سلاح وميرة وغير ذلك، وتبعهم المسلمون، والمطر شديد، والبرد عظيم، يقتلون كل من تخلف منهم، فكثر القتلى منهم، وكان نزولهم ورحيلهم في ذي الحجة من هذه السنة.
ذكر ملك عماد الدين زنكي مدينة حماةفي هذه السنة ملك عماد الدين زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، مدينة حماة.
وسبب ذلك: أنه عبر الفرات إلى الشام، وأظهر أنه يريد جهاد الفرنج، وأرسل إلى تاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق، يستنجده، ويطلب منه المعونة على جهادهم، فأجاب إلى المراد، وأرسل من أخذ له العهود والمواثيق، فلما وصلت التوثقة جرد عسكراً من دمشق مع جماعة من الأمراء، وأرسل إلى ابنه سونج، وهو بمدينة حماة، يأمره بالنزول إلى العسكر، والمسير معهم إلى زنكي، ففعل ذلك، فساروا جميعهم، فوصلوا إليه، فأكرمهم، وأحسن لقاءهم، وتركهم أياماً.
ثم إنه غدر بهم، فقبض على سونج ولد تاج الملوك، وعلى جماعة الأمراء المقدمين، ونهب خيامهم وما فيها من الكراع، واعتقلهم بحلب، وهرب من سواهم، وسار من يومه إلى حماة، فوصل إليها وهي خالية من الجند الحماة الذابين، فملكها واستولى عليها، ورحل عنها إلى حمص، وكان صاحبها قرجان بن قراجة معه في عسكره، وهو الذي أشار عليه بالغدر بولد تاج الملوك، فقبض عليه، ونزل على حمص وحصرها، وطلب من قرجان صاحبها أن يأمر نوابه وولده الذين فيها بتسليمها، فأرسل إليهم بالتسليم، فلم يقبلوا منه، ولا التفتوا إلى قوله، فأقام عليها محاصراً لها، ومقاتلاً لمن فيها مدة طويلة، فلم يقدر على ملكها، فرحل عنها عائداً إلى الموصل، واستصحب معه سونج بن تاج الملوك ومن معه من الأمراء الدمشقيين.

وترددت الرسل في إطلاقهم بينه وبين تاج الملوك، واستقر الأمر على خمسين ألف دينار، فأجاب تاج الملوك إلى ذلك، ولم ينتظم بينهم أمر.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ملك بيمند، صاحب أنطاكية، حصن القدموس من المسلمين.
وفي هذه السنة أيضاً وثب الإسماعيلية على عبد اللطيف بن الخجندي، رئيس الشافعية بأصبهان، فقتلوه، وكان ذا رئاسة عظيمة وتحكم كثير.
وفي هذه السنة توفي الإمام أبو الفتح أسعد بن أبي نصر الميهني، الفقيه الشافعي، مدرس النظامية ببغداد، وله طريقة مشهورة في الخلاف، وتفقه على أبي المظفر السمعاني، وكان له قبول عظيم عند الخليفة، والسلطان، وسائر الناس.
وفيها توفي حمزة بن هبة الله بن محمد بن الحسن الشريف العلوي، الحسني، النيسابوري، سمع الحديث الكثير، ورواه، ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وجمع مع شرف النسب شرف النفس والتقوى، وكان زيدي المذهب.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وخمسمائة

ذكر ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند
من محمد خان وملك محمود بن محمد خان المذكور
في هذه السنة، في ربيع الأول، ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند.
وسبب ذلك: أنه كان قد رتب فيها، لما ملكها أولاً، أرسلان خان محمد بن سليمان بن بغراجان داود، فأصابه فالج، فاستناب ابناً له يعرف بنصرخان، وكان شهماً، شجاعاً، وكان بسمرقند إنسان علوي، فقيه، مدرس، إليه الحل والعقد، والحكم في البلد، فاتفق هو ورئيس البلد على قتل نصر خان، فقتلاه ليلاً، وكان أبوه محمد خان غائباً، فعظم عليه واشتد، وكان له ابن آخر غائب في بلاد تركستان. فأرسل إليه واستدعاه، فلما قارب سمرقند خرج العلوي ورئيس البلد إلى استقباله، فقتل العلوي في الحال، وقبض على الرئيس.
وكان والده أرسلان خان قد أرسل إلى السلطان سنجر رسولاً يستدعيه، ظناً منه أن ابنه لا يتم أمره مع العلوي والرئيس، فتجهز سنجر وسار يريد سمرقند، فلما ظفر ابن أرسلان خان بهما ندم على استدعاء السلطان سنجر، فأرسل إليه يعرفه أنه قد ظفر بالعلوي والرئيس، وأنه وابنه على الطاعة، ويسأله العود إلى خراسان، فغضب سنجر من ذلك، وأقام أياماً، فبينما هو في الصيد إذ رأى اثني عشر رجلاً في السلاح التام، فقبض عليهم وعاقبهم، فأقروا أن محمد خان أرسلهم ليقتلوه، فقتلهم، ثم سار إلى سمرقند فملكها عنوة، ونهب بعضها، ومنع من الباقي، وتحصن منه محمد خان ببعض تلك الحصون، فاستنزله السلطان سنجر بأمان، بعد مدة، فلما نزل إليه أكرمه وأرسله إلى ابنته زوجة السلطان سنجر، فبقي عندها إلى أن توفي.
وأقام سنجر بسمرقند مدة حتى أخذ المال والسلاح والخزائن، وسلم البلد إلى الأمير حسن تكين، وعاد إلى خراسان، فلم يلبث حسن تكين أن مات، فملك سنجر بعده عليها محمود بن محمد خان بن سليمان بن داود، المقدم ذكره، وقيل إن السبب غير ما ذكرناه، وسيرد ذكره سنة ست وثلاثين للحاجة إلى ذكره هناك.
ذكر فتح عماد الدين حصن الأثارب
وهزيمة الفرنج
لما فرغ عماد الدين زنكي من أمر البلاد الشامية، حلب وأعمالها، وما ملكه، وقرر قواعده، عاد إلى الموصل، وديار الجزيرة، ليستريح عسكره، ثم أمرهم بالتجهز للغزاة، فتجهزوا وأعدوا واستعدوا، وعاد إلى الشام، وقصد حلب، فقوي عزمه على قصد حصن الأثارب، ومحاصرته، لشدة ضرره على المسلمين.
وهذا الحصن بينه وبين حلب نحو ثلاثة فراسخ، بينها وبين أنطاكية، وكان من به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية، حتى على رحى لأهل حلب بظاهر باب الجنان، بينها وبين البلد عرض الطريق، وكان أهل البلد معهم في ضر شديد، وضيق، كل يوم قد أغاروا عليهم، ونهبوا أموالهم. فلما رأى الشهيد هذه الحال صمم العزم على حصر هذا الحصن، فسار إليه ونازله.
فلما علم الفرنج بذلك جمعوا فارسهم وراجلهم، وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها، فحشدوا وجمعوا، ولم يتركوا من طاقتهم شيئاً إلا استنفدوه، فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه، فاستشار أصحابه فيما يفعل، وكل أشار بالعود عن الحصن، فإن لقاء الفرنج في بلادهم خطر لا يدرى على أي شيء تكون العاقبة. فقال لهم: إن الفرنج متى رأونا قد عدنا من أيديهم طمعوا وساروا في أثرنا، وخربوا بلادنا، ولا بد من لقائهم على كل حال.

ثم ترك الحصن وتقدم إليهم، فالتقوا، واصطفوا للقتال، وصبر كل فريق لخصمه، واشتد الأمر بينهم، ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين، فظفروا، وانهزم الفرنج أقبح هزيمة، ووقع كثير من فرسانهم في الأسر، وقتل منهم خلق كثير، وتقدم عماد الدين إلى عسكره بالإنجاز، وقال: هذا أول مصاف عملناه معهم، فلنذقهم من بأسنا ما يبقى رعبه في قلوبهم، ففعلوا ما أمرهم، ولقد اجتزت بتلك الأرض سنة أربع وثمانين وخمسمائة ليلاً، فقيل لي: إن كثيراً من العظام باق إلى ذلك الوقت.
فلما فرغ المسلمون من ظفرهم عادوا إلى الحصن فتسلموه عنوة، وقتلوا وأسروا كل من فيه، وأخربه عماد الدين، وجعله دكاً، وبقي إلى الآن خراباً، ثم سار منه إلى قلعة حارم، وهي بالقرب من أنطاكية، فحصرها، وهي أيضاً للفرنج، فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم، وهادنوه، فأجابهم إلى ذلك، وعاد عنهم وقد استدار المسلمون بتلك الأعمال، وضعفت قوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حفظ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع.
ذكر ملك عماد الدين مدينة سرجيلما فرغ من أمر الأثارب وتلك النواحي، عاد إلى ديار الجزيرة، وكان قد بلغه عن حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي، صاحب ماردين، وابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان، صاحب حصن كيفا، قوارص، فعاد إليهم، وحصر مدينة سرجي، وهي بين ماردين ونصيبين، فاجتمع حسام الدين، وركن الدولة، وصاحب آمد، وغيرهم، وجمعوا خلقاً كثيراً من التركمان بلغت عدتهم عشرين ألفاً، وساروا إليه، فتصافوا بتلك النواحي، فهزمهم عماد الدين وملك سرجي.
فحكى لي ولدي وقال: لما انهزم ركن الدولة داود قصد بلد جزيرة ابن عمر ونهبه، فبلغ الخبر إلى عماد الدين، فسار نحو الجزيرة، وأراد دخول بلد داود، ثم عاد عنه لضيق مسالكه، وخشونة الجبال التي في الطريق، وسار إلى دارا فملكها، وهي من القلاع في تلك الأعمال.
ذكر وفاة الآمر وخلافة الحافظ العلويفي هذه السنة، ثاني ذي القعدة، قتل الآمر بأحكام الله أبو علي بن المستعلي العلوي، صاحب مصر، خرج إلى متنزه له، فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه، لأنه كان سيء السيرة في رعيته، وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر، وعمره أربعاً وثلاثين سنة، وهو العاشر من ولد المهدي عبيد الله الذي ظهر بسجلماسة وبنى المهدية بإفريقية، وهو أيضاً العاشر من الخلفاء العلويين من أولاد المهدي أيضاً.
ولما قتل لم يكن له ولده بعده، فولي بعده ابن عمه الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله، ولم يبايع بالخلافة، وإنما بويع له لينظر في الأمر نيابة، حتى يكشف عن حمل إن كان للآمر فتكون الخلافة فيه، ويكون هو نائباً عنه.
ومولد الحافظ بعسقلان، لأن أباه خرج من مصر إليها في الشدة، فأقام بها، فولد ابنه عبد المجيد هناك، ولما ولي استوزر أبا علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي، واستبد بالأمر، وتغلب على الحافظ، وحجر عليه، وأودعه في خزانة، ولا يدخل إليه إلا من يريده أبو علي، وبقي الحافظ له اسم لا معنى تحته، ونقل أبو علي كل ما في القصر إلى داره من الأموال وغيرها، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن قتل أبو علي سنة ست وعشرين فاستقامت أمور الحافظ، وحكم في دولته، وتمكن من ولايته وبلاده.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفيت الخاتون ابنة السلطان سنجر، وهي زوجة السلطان محمود.
وفيها قتل بيمند الفرنجي صاحب أنطاكية.
وفيها توفي نصير الدين محمود بن مؤيد الملك بن نظام الملك، في شعبان، ببغداد، ووقع الحريق في داره بعد وفاته، وفي حظائر الحطب، والسوق التتشي، فذهب من الناس أموال كثيرة.
وفيها وزر الرئيس أبو الذواد المفرج بن الحسن بن الصوفي لصاحب دمشق تاج الملوك.
وفيها كان الرصد بالدار السلطانية، شرقي بغداد، تولاه البديع الاصطرلابي، ولم يتم.
وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة ذوات شوكتين، فنال الناس منها خوف شديد، وأذى عظيم.

وفيها، في ذي الحجة، خرج الملك مسعود بن محمد من خراسان، وكان عند عمه السلطان سنجر، ووصل إلى ساوة، ووقع الإرجاف أن عزمه على مخالفة أخيه السلطان محمود قوي، وأن عمه سنجر أمره بذلك، فاستشعر السلطان محمود، وسار عن بغداد إلى همذان، فلما وصل إلى كرمانشاهان وصل إليه أخوه الملك مسعود وخدمه، ولم يظهر للإرجاف أثر، فأقطعه السلطان مدينة كنجة وأعمالها وسيره إليها.
وفيها كانت زلزلة عظيمة، في ربيع الأول، بالعراق، وبلد الجبل، والموصل، والجزيرة، فخربت كثيراً.
وفيها ملك السلطان محمود قلعة ألموت.
وفيها توفي إبراهيم بن عثمان بن محمد أبو إسحاق الغزي من أهل غزة، مدينة بفلسطين من الشام، ومولده سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وهو من الشعراء المجيدين، فمن قوله من قصيدة يصف فيها الأتراك:
في فتية من جيوش الترك ما تركت ... للرعد كراتهم صوتاً ولا صيتا
قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكةً ... حسناً، وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وله في الزهد:
إنما هذه الحياة متاع، ... والسفيه الغوي من يصطفيها
ما مضى فات والمؤمل غيبٌ ... ولك الساعة التي أنت فيها
وفيها توفي الحسين بن محمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن محمد الدباس ابو عبد الله النحوي، الشاعر، المعروف بالبارع، أخو أبي الكرم بن فاخر النحوي لأمه، ولد سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وله شعر مليح، فمنه قوله:
ردي علي الكرى ثم اهجري سكني ... فقد قنعت بطيف منك في الوسن
لا تحسبي النوم قد أوشحت أطلبه، ... إلا رجاء خيال منك يؤنسني
تركتني والهوى فرداً أغالبه، ... ونام ليلك عن هم يؤرقني
وهي طويلة.
وفيها توفي هبة الله بن القاسم بن محمد بن عطا بن محمد أبو سعد المهرواني، النيسابوري، ومولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وكان محدثاً، حافظاً، صالحاً.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة

ذكر أسر دبيس بن صدقة
وتسليمه إلى عماد الدين زنكي
في هذه السنة، في شعبان، أسر تاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق، الأمير دبيس بن صدقة، صاحب الحلة، وسلمه إلى أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر.
وسبب ذلك: أنه لما فارق البصرة، على ما ذكرناه، جاءه قاصد من الشام، من صرخد، يستدعيه إليها، لأن صاحبها كان خصياً، فتوفي هذه السنة، وخلف جارية سرية له، فاستولت على القلعة وما فيها، وعلمت أنها لا يتم لها ذلك إلا بأن تتصل برجل له قوة ونجدة، فوصف لها دبيس بن صدقة وكثرة عشيرته، وذكر لها حاله، وما هو عليه بالعراق، فأرسلت تدعوه إلى صرخد لتتزوج به، وتسلم القلعة وما فيها من مال وغيره إليه. فأخذ الأدلاء معه، وسار من أرض العراق إلى الشام، فضل به الأدلاء بنواحي دمشق، فنزل بناس من كلب كانوا شرقي الغوطة، فأخذوه وحملوه إلى تاج الملوك، صاحب دمشق، فحبسه عنده.
وسمع أتابك عماد الدين زنكي الخبر، وكان دبيس يقع فيه وينال منه، فأرسل إلى تاج الملوك يطلب منه دبيساً ليسلمه إليه، ويطلق ولده، ومن معه من الأمراء المأسورين، وإن امتنع من تسليمه سار إلى دمشق وحصرها وخربها ونهب بلدها، فأجاب تاج الملوك إلى ذلك، وأرسل أتابك سونج بن تاج الملوك، والأمراء الذين معه، وأرسل تاج الملوك دبيساً، فأيقن دبيس بالهلاك، ففعل زنكي معه خلاف ما ظن، وأحسن إليه، وحمل له الأقوات، والسلاح والدواب وسائر أمتعة الخزائن، وقدمه حتى على نفسه، وفعل معه ما يفعل أكابر الملوك.
ولما سمع المسترشد بالله بقبضه بدمشق أرسل سديد الدولة بن الأنباري، وأبا بكر بن بشر الجزري، من جزيرة ابن عمر، إلى تاج الملوك يطلب منه أن يسلم دبيساً إليه، لما كان متحققاً به من عداوة الخليفة، فسمع سديد الدولة ابن الأنباري بتسليمه إلى عماد الدين، وهو في الطريق، فسار إلى دمشق ولم يرجع، وذم أتابك زنكي بدمشق، واستخف به، وبلغ الخبر عماد الدين، فأرسل إلى طريقه من يأخذه إذا عاد، فلما رجع من دمشق قبضوا عليه، وعلى ابن بشر، وحملوهما إليه، فأما ابن بشر فأهانه وجرى في حقه مكروه، وأما ابن الأنباري فسجنه.
ثم إن المسترشد بالله شفع فيه فأطلق، ولم يزل دبيس مع زنكي حتى انحدر معه إلى العراق، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر وفاة السلطان محمود
وملك ابنه داود
في هذه السنة، في شوال، توفي السلطان محمود ابن السلطان محمد بهمذان، وكان قبل مرضه قد خاف وزيره أبو القاسم الأنساباذي من جماعة من الأمراء وأعيان الدولة، منهم: عزيز الدين أبو نصر أحمد بن حامد المستوفي، والأمير أنوشتكين المعروف بشيركير، وولده عمر، وهو أمير حاجب السلطان، وغيرهم، فأما عزيز الدين فأرسله مقبوضاً عليه إلى مجاهد الدين بهروز بتكريت، ثم قتل بها، وأما شيركير وولده فقتلا في جمادى الآخرة.
ثم إن السلطان مرض وتوفي في شوال، وأقعد ولده الملك داود في السلطنة باتفاق من الوزير أبي القاسم وأتابكه آقسنقر الأحمديلي، وخطب له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان، ووقعت الفتنة بهمذان وسائر بلاد الجبل، ثم سكنت، فلما اطمأن الناس وسكنوا سار الوزير بأمواله إلى الري، فأمن فيها حيث هي للسلطان سنجر.
وكان عمر السلطان محمود لما توفي نحو سبع وعشرين سنة، وكانت ولايته للسلطنة اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرين يوماً، وكان حليماً، كريماً، عاقلاً، يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه، مع القدرة، قليل الطمع في أموال الرعايا، عفيفاً عنها، كافاً لأصحابه عن التطرق إلى شيء منها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ثار الباطنية بتاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق، فجرحوه جرحين، فبرأ أحدهما، وتنسر الآخر، وبقي فيه ألمه، إلا أنه يجلس للناس، ويركب معهم على ضعف فيه.
وفيها توفي الأمير أبو الحسن بن المستظهر بالله أخو المسترشد بالله في رجب.
وفيها، في شوال، توفي الحسن بن سليمان بن عبد الله أبو علي الفقيه الشافعي الواعظ، مدرس النظامية ببغداد، وأصله من الزوزان.
والخطيب أبو نصر أحمد بن عبد القاهر المعروف بابن الطوسي، خطيب الموصل، توفي في ربيع الأول.
وحماد بن مسلم الدباس الرحبي الزاهد المشهور، صاحب الكرامات، وسمع الحديث، وله أصحاب وتلامذة كثيرون ساروا، ورأيت الشيخ أبا الفرج بن الجوزي قد ذمه وثلبه، ولهذا الشيخ أسوة بغيره من الصالحين، فإن ابن الجوزي قد صنف كتاباً سماه تلبيس إبليس لم يبق فيه على أحد من سادة المسلمين وصالحيهم.
وهبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني الكاتب، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، سمع أبا علي بن المهذب، وأبا طالب بن غيلان وغيرهما، وهو راوي مسند أحمد بن حنبل والغيلانيات وغيرهما.
ومحمد بن الحسن بن علي بن الحسن أبو غالب الماوردي، ولد سنة خمسين وأربعمائة بالبصرة، وسمع الحديث الكثير، وروى سنن أبي داود السجستاني، وكان صالحاً.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وخمسمائة
ذكر قتل أبي علي وزير الحافظ
ووزارة يانس وموته
في هذه السنة، في المحرم، قتل الأفضل أبو علي بن الأفضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ لدين الله العلوي، صاحب مصر.
وسبب قتله: أنه كان قد حجر على الحافظ، ومنعه أن يحكم في شيء من الأمور، قليل أو جليل، وأخذ ما في قصر الخلافة إلى داره، وأسقط من الدعاء ذكر إسماعيل الذي هو جدهم، وإليه تنسب الإسماعيلية، وهو ابن جعفر بن محمد الصادق، وأسقط من الأذان حي على خير العمل، ولم يخطب للحافظ، وأمر الخطباء أن يخطبوا له بألقاب كتبها لهم، وهي: السيد الأفضل الأجل، سيد مماليك أرباب الدول، والمحامي عن حوزة الدين، وناشر جناح العدل على المسلمين الأقربين والأبعدين، ناصر إمام الحق في حالتي غيبته وحضوره، والقائم بنصرته بماضي سيفه وصائب رأيه وتدبيره، أمين الله على عباده، وهادي القضاة إلى اتباع شرع الحق واعتماده، ومرشد دعاة المؤمنين بواضح بيانه وإرشاده، مولى النعم، ورافع الجور عن الأمم، ومالك فضيلتي السيف والقلم، أبو علي أحمد بن السيد الأجل الأفضل، شاهنشاه أمير الجيوش.
وكان إمامي المذهب، يكثر ذم الآمر، والتناقص به، فنفرت منه شيعة العلويين ومماليكهم، وكرهوه، وعزموا على قتله، فخرج في العشرين من المحرم من هذه السنة إلى الميدان يلعب بالكرة مع أصحابه، فكمن له جماعة منهم مملوك فرنجي كان للحافظ، فخرجوا عليه، فحمل الفرنجي عليه، فطعنه فقتله، وحزوا رأسه، وخرج الحافظ من الخزانة التي كان فيها، ونهب الناس دار أبي علي، وأخذ منها ما لا يحصى، وركب الناس والحافظ إلى داره، فأخذ ما بقي فيها وحمله إلى القصر.

وبويع يومئذ الحافظ بالخلافة، وكان قد بويع له بولاية العهد، وأن يكون كافلاً لحمل إن كان للآمر، فلما بويع بالخلافة استوزر أبا الفتح يانس الحافظي في ذلك اليوم بعينه، ولقب أمير الجيوش، وكان عظيم الهيبة، بعيد الغور، كثير الشر، فخافه الحافظ على نفسه، وتخيل منه أنس، فاحتاط، ولم يأكل عنده شيئاً، ولا شرب، فاحتال عليه الحافظ بأن وضع له فراشه في بيت الطهارة ماء مسموماً، فاغتسل به، فوقع الدود في سفله، وقيل له: متى قمت من مكانك هلكت، فكان يعالج بأن يجعل اللحم الطري في المحل، فيعلق به الدود فيخرج ويجعل عوضه، فقارب الشفاء، فقيل للحافظ: إنه قد صلح، وإن تحرك هلك، فركب إليه الحافظ كأنه يعوده، فقام له ومشى إلى بين يديه، وقعد الحافظ عنده، ثم خرج من عنده، فتوفي من ليلته، وكان موته في السادس والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة.
ولما مات يانس استوزر الحافظ ابنه حسناً، وخطبه له بولاية العهد، وسيرد ذكر قتله سنة تسع وعشرين.
وإنما ذكرت ألقاب أبي علي تعجباً منها، ومن حماقة ذلك الرجل، فإن وزير صاحب مصر وحدها إذا كان هكذا فينبغي أن يكون وزير السلاطين السلجوقية كنظام الملك وغيره يدعون الربوبية، على أن تربة مصر هكذا تولد، ألا ترى إلى فرعون يقول: " أنا ربكم الأعلى " ، وإلى أشياء أخر لا نطيل ذكرها.
ذكر حال السلطان مسعود والملكين سلجوقشاه وداود واستقرار السلطنة بالعراق لمسعود
لما توفي السلطان محمود ابن السلطان محمد، وخطب، ببلاد الجبل وأذربيجان، لولده الملك داود، على ما ذكرناه، سار الملك داود من همذان في ذي القعدة من سنة خمس وعشرين إلى زنجان، فأتاه الخبر أن عمه السلطان مسعوداً قد سار من جرجان ووصل إلى تبريز واستولى عليها، فسار الملك داود إليه وحصره بها، وجرى بينهما قتال، إلى سلخ المحرم سنة ست وعشرين ثم اصطلحا.
وتأخر الملك داود مرحلة، وخرج السلطان مسعود من تبريز، واجتمع عليه العساكر، وسار إلى همذان، وأرسل يطلب الخطبة ببغداد، وكانت رسل الملك داود قد تقدمت في طلب الخطبة، فأجاب المسترشد بالله أن الحكم في الخطبة إلى السلطان سنجر من أراد خطب له، وأرسل إلى السلطان سنجر أن لا يأذن لأحد في الخطبة، فإن الخطبة ينبغي أن تكون له وحده، فوقع ذلك منه موقعاً حسناً.
ثم إن السلطان مسعوداً كاتب عماد الدين زنكي، صاحب الموصل وغيرها، يستنجده، ويطلب مساعدته، فوعده النصر، فقويت بذلك نفس مسعود على طلب السلطنة.
ثم إن الملك سلجوقشاه ابن السلطان محمد سار أتابكه قراجة الساقي، صابح فارس وخوزستان، في عسكر كثير إلى بغداد، فوصل إليها قبل وصول السلطان مسعود، ونزل في دار السلطان، وأكرمه الخليفة، واستحلفه لنفسه.
ثم وصل رسول السلطان مسعود يطلب الخطبة، ويتهدد إن منعها، فلم يجب إلى ما طلبه، فسار حتى نزل عباسية الخالص، وبرز عسكر الخليفة وعسكر سلجوقشاه وقراجة الساقي نحو مسعود إلى أن يفرغ من حرب أتابك عماد الدين زنكي، وسار يوماً وليلة إلى المعشوق، وواقع عماد الدين زنكي فهزمه، وأسر كثيراً من أصحابه، وسار زنكي منهزماً إلى تكريت، فعبر فيها دجلة، وكان الدزدار بها حينئذ نجم الدين أيوب، فأقام له المعابر، فلما عبر أمن الطلب، وسار إلى بلاده لإصلاح حاله وحال رجاله، وهذا الفعل من نجم الدين أيوب كان سبباً لاتصاله به والمصير في جملته، حتى آل بهم الأمر إلى ملك مصر والشام وغيرهما على ما نذكره.
وأما السلطان مسعود فإنه سار من العباسية إلى الملكية، ووقعت الطلائع بعضها على بعض، ثم لم تزل المناوشة تجري بينه وبين أخيه سلجوقشاه يومين.
وأرسل سلجوقشاه إلى قراجة يستحثه على المبادرة، فعاد سريعاً وعبر دجلة إلى الجانب الشرقي، فلما علم السلطان مسعود بانهزام عماد الدين زنكي رجع إلى ورائه، وأرسل إلى الخليفة يعرفه وصول السلطان سنجر إلى الري، وأنه عازم على قصد الخليفة وغيره، وإن رأيتم أن نتفق على قتاله ودفعه عن العراق، ويكون العراق لوكيل الخليفة، فأنا موافق على ذلك. فأعاد الخليفة الجواب يستوقفه.

وترددت الرسل في الصلح، فاصطلحوا على أن يكون العراق لوكيل الخليفة، وتكون السلطنة لمسعود، ويكون سلجوقشاه ولي عهده، وتحالفوا على ذلك، وعاد السلطان مسعود إلى بغداد، فنزل بدار السلطان، ونزل سلجوقشاه في دار الشحنكية، وكان اجتماعهم في جمادى الأولى.
ذكر الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجرلما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر إلى بلاد الجبال، ومعه الملك طغرل ابن السلطان محمد، وكان عنده قد لازمه، فوصل إلى الري، ثم سار منها إلى همذان، فوصل الخبر إلى الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود بوصوله إلى همذان، فاستقرت القاعدة بينهما على قتاله، وأن يكون الخليفة معهم، وتجهز الخليفة، فتقدم قراجة الساقي، والسلطان مسعود، وسلجوقشاه نحو السلطان سنجر، وتأخر المسترشد بالله عن المسير معهم، فأرسل إلى قراجة، وألزمه، وقال: إن الذي تخاف من سنجر آجلاً أنا أفعله عاجلاً. فبرز حينئذ وسار على تريث، وتوقف إلى أن بلغ إلى خانقين وأقام بها.
وقطعت خطبة سنجر من العراق جميعه، ووصلت الأخبار بوصول عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة إلى قريب بغداد، فأما دبيس فإنه ذكر أن السلطان سنجر أقطعه الحلة، وأرسل إلى المسترشد بالله يضرع ويسأل الرضا عنه، فامتنع من إجابته إلى ذلك.
وأما عماد الدين زنكي فإنه ذكر أن السلطان سنجر قد أعطاه شحنكية بغداد، فعاد المسترشد بالله إلى بغداد، وأمر أهلها بالاستعداد للمدافعة عنها، وجند أجناداً جعلهم معهم.
ثم إن السلطان مسعوداً وصل إلى دادمرج، فلقيهم طلائع السلطان سنجر في خلق كثير، فتأخر السلطان مسعود إلى كرمانشاهان، ونزل السلطان سنجر في أسداباذ في مائة ألف فارس، فسار مسعود وأخوه سلجوقشاه إلى جبلين يقال لهما: كاو، وماهي، فنزلا بينهما، ونزل السلطان سنجر وكنكور، فلما سمع بانحرافهم أسرع في طلبهم، فرجعوا إلى ورائهم مسيرة أربعة أيام في يوم وليلة، فالتقى العسكران بعولان، عند الدينور، وكان مسعود يدافع الحرب انتظاراً لقدوم المسترشد، فلما نازله السلطان سنجر لم يجدا من المصاف، وجعل سنجر على ميمنته طغرل ابن أخيه محمد، وقماج، وأمير أميران، وعلى ميسرته خوارزمشاه أتسز بن محمد مع جمع من الأمراء، وجعل مسعود على ميمنته قراجة الساقي، والأمير قزل، وعلى ميسرته يرنقش بازدار، ويوسف جاووش، وغيرهما، وكان قزل قد واطأ سنجر على الانهزام.
ووقعت الحرب، وقامت على ساق، وكان يوماً مشهوداً، فحمل قراجة الساقي على القلب، وفيه السلطان سنجر في عشرة آلاف فارس من شجعان العسكر، وبين يديه الفيلة، فلما حمل قراجة على القلب، رجع الملك طغرل، وخوارزمشاه إلى وراء ظهره، فصار قراجة في الوسط، فقاتل إلى أن جرح عدة جراحات، وقتل كثير من أصحابه وأخذ هو أسيراً وبه جراحات كثيرة، فلما رأى السلطان مسعود ذلك انهزم وسلم من المعركة، وقتل يوسف جاووش، وحسنين أزبك، وهما من أكابر الأمراء، وكانت الوقعة ثامن رجب من هذه السنة.
فلما تمت الهزيمة على مسعود نزل سنجر وأحضر قراجة، فلما حضر قراجة سبه وقال له: يا مفسد أي شيء كنت ترجو بقتالي؟ قال: كنت أرجو أن أقتلك وأقيم سلطاناً أحكم عليه. فقتله صبراً، وأرسل إلى السلطان مسعود يستدعيه، فحضر عنده، وكان قد بلغ خونج، فلما رآه قبله، وأكرمه، وعاتبه على العصيان عليه، ومخالفته، وأعاده إلى كنجة، وأجلس الملك طغرل ابن أخيه محمد في السلطنة، وخطب له في جميع البلاد، وجعل في وزارته أبا القاسم الأنساباذي، وزير السلطان محمود، وعاد إلى خراسان، فوصل إلى نيسابور في العشرين من رمضان سنة ست وعشرين.
وأما المسترشد بالله فكان منه ما نذكره.
ذكر مسير عماد الدين إلى بغداد

لما سار المسترشد بالله من بغداد، وبلغه انهزام السلطان مسعود، عزم على العود إلى بغداد، فأتاه الخبر بوصول عماد الدين زنكي إلى بغداد، ومعه دبيس بن صدقة، وكان السلطان سنجر قد كاتبهما، وأمرهما بقصد العراق، والاستيلاء عليه فلما علم الخليفة بذلك أسرع العود إليها، وعبر إلى الجانب الغربي، وسار فنزل بالعباسية، ونزل عماد الدين بالمنارية من دجيل، والتقيا بحصن البرامكة في السابع والعشرين من رجب، فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة، وبها جمال الدولة إقبال، فانهزموا منه، وحمل نظر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودبيس، وحمل الخليفة بنفسه، واشتد القتال، فانهزم دبيس، وأراد عماد الدين الصبر، فرأى الناس قد تفرقوا عنه، فانهزم أيضاً، وقتل من العسكر جماعة، وأسر جماعة، وبات الخليفة هناك ليلته، وعاد من الغد إلى بغداد.
ذكر حال دبيس بعد الهزيمةوفيها عاد دبيس، بعد انهزامه المذكور، يلوذ ببلاد الحلة وتلك النواحي، وجمع جمعاً، وكانت تلك الولاية بيد إقبال المسترشدي، فأمد بعسكر من بغداد، فالتقى هو ودبيس، فانهزم دبيس واختفى في أجمة هناك، وبقي ثلاثة أيام لم يطعم شيئاً، ولم يقدر على التخلص منها، حتى أخرجه حمّاس على ظهره.
ثم جمع جمعاً وقصد واسط، وانضم إليه عسكرها، وبختيار وشاق، وابن أبي الجبر، ولم يزل فيها إلى أن دخلت سنة سبع وعشرين، فنفذ إليهم يرنقش بازدار، وأقبال الخادم المسترشدي، في عسكر، فاقتتلوا في الماء والبر، فانهزم الواسطيون ودبيس، وأسر بختيار وشاق وغيره من الأمراء.
ذكر وفاة تاج الملوك صاحب دمشقفي هذه السنة، في رجب، توفي تاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق.
وسبب موته أن الجرح الذي كان به من الباطنية، وقد ذكرناه، اشتد عليه الآن، وأضعفه، وأسقط قوته، فتوفي في الحادي والعشرين من رجب، ووصى بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل، ووصى بمدينة بعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد.
وكان بوري كثير الجهاد، شجاعاً، مقدماً، سد مسد أبيه، وفاق عليه، وكان ممدحاً، أكثر الشعراء مدائحه، لا سيما ابن الخياط، وملك بعده ابنه شمس الملوك، وقام بتدبير الأمر بني يديه الحاجب يوسف بن فيروز، شحنة دمشق، وهو حاجب أبيه، واعتمد عليه، وابتدأ أمره بالرفق بالرعية، والإحسان إليهم، فكثر الدعاء له والقصاد عليه.
ذكر ملك شمس الملوك حصن اللبوة

وحصن رأس وحصره بعلبك
في هذه السنة ملك شمس الملوك إسماعيل، صاحب دمشق، حصن اللبوة، حصن راس.
وسبب ذلك: أنهما كانا لأبيه تاج الملوك، وفي كل واحد منهما مستحفظ يحفظه، فلما ملك شمس الملوك بلغه أن أخاه شمس الدولة محمداً، صاحب بعلبك، قد راسلهما، واستمالهما إليه، فسلما الحصنين إليه، وجعل فيهما من الجند ما يكفيهما، فلم يظهر بذلك أثر بل راسل أخاه بلطف يقبح هذه الحال، ويطلب أن يعيدهما إليه، فلم يفعل، فأغضى على ذلك، وتجهز من غير أن يعلم أحداً.
وسار هو وعسكره، آخر ذي القعدة، فطلب جهة الشمال، ثم عاد مغرباً، فلم يشعر من بحصن اللبوة إلا وقد نزل عليهم، وزحف لوقته، فلم يتمكنوا من نصب منجنيق ولا غيره، فطلبوا الأمان، فبذله لهم، وتسلم الحصن من يومه، وسار من آخر النهار إلى حصن راس، فبغتهم، وجرى الأمر فيه على تلك القضية، وتسلمه، وجعل فيهما من يحفظهما.
ثم رحل إلى بعلبك وحصرها، وفيها أخوه شمس الدولة محمد، وقد استعد، وجمع في الحصن ما يحتاج إليه من رجال وذخائر، فحصرهم شمس الملوك، وزحف في الفارس والراجل، وقاتله أهل البلد على السور، ثم زحف عدة مرات، فملك البلد بعد قتال شديد، وقتلى كثيرة، وبقي الحصن، فقاتله، وفيه أخوه، ونصب المجانيق، ولازم القتال، فلما رأى أخوه شمس الدولة شدة الأمر أرسل يبذل الطاعة، ويسأل أن يقر على ما بيده، وجعله أبوه باسمه، فأجابه إلى مطلوبه، وأقر عليه بعلبك وأعمالها، وتحالفوا وعاد شمس الملوك إلى دمشق وقد استقامت له الأمور.
ذكر الحرب بين السلطان طغرل والملك داود

في هذه السنة، في رمضان، كانت الحرب بين الملك طغرل وبين أخيه الملك داود بن محمود، وكان سببها: أن السلطان سنجر أجلس الملك طغرل في السلطنة، كما ذكرناه، وعاد إلى خراسان لأنه بلغه أن صاحب ما وراء النهر أحمد خان قد عصى عليه، فبادر إلى العود لتلافي ذلك الخرق، فلما عاد إلى خراسان عصى الملك داود على عمه طغرل، وخالفه، وجمع العساكر بأذربيجان، وبلاد كنجة، وسار إلى همذان، فنزل، مستهل رمضان، عند قرية يقال لها وهان، بقرب همذان.
وخرج إليه طغرل، وعبأ كل واحد منهما أصحابه ميمنة وميسرة، وكان على ميمنة السلطان طغرل ابن برسق، وعلى ميسرته قزل، وعلى مقدمته قراسنقر، وكان على ميمنة داود يرنقش الزكوي، ولم يقاتل، فلما رأى التركمان ذلك نهبوا خيمه وبركه جميعه، ووقع الخلف في عسكر داود، فلما رأى أتابكه آقسنقر الأحمديلي ذلك ولى هرباً، وتبعه الناس في الهزيمة، وقبض طغرل على يرنقش الزكوي، وعلى جماعة من الأمراء.
وأما الملك داود فإنه لما انهزم بقي متحيزاً إلى أوائل ذي القعدة، فقدم بغداد ومعه أتابكه آقسنقر الأحمديلي، فأكرمه الخليفة وأنزله بدار السلطان، وكان الملك مسعود بكنجة، فلما سمع بانهزام الملك داود توجه نحو بغداد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض المسترشد بالله على وزيره شرف الدين علي بن طراد الزينبي، واستوزر أنوشروان بن خالد، بعد أن امتنع، وسأل الإقالة.
وفي هذه السنة قتل أحمد بن حامد بن محمد أبو نصر مستوفي السلطان محمود، الملقب بالعزيز، بقلعة تكريت، وقد تقدم سبب ذلك سنة خمس وعشرين.
وفي المحرم منها قتل محمد بن محمد بن الحسين أبو الحسين بن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي، مولده في شعبان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وسمع الحديث من الخطيب أبي بكر، وابن الحسين بن المهتدي، وغيرهما، وتفقه، قتله أصحابه غيلة، وأخذوا ماله.
وفي جمادى الأولى توفي أحمد بن عبيد الله بن كادش أبو العز العكبري، وكان محدثاً مكثراً.
وتوفي فيها أبو الفضل عبد الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء، وكان أديباً، وله شعر حسن، فمنه ما كتبه إلى جلال الدين بن صدقة الوزير:
أمولانا جلال الدين، يا من ... أذكّره بخدمتي القديمة
ألم تك قد عزمت على اصطناعي، ... فماذا صدقة عن تلك العزيمة؟
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وخمسمائة

ذكر ملك شمس الملوك بانياس
في هذه السنة، في صفر، ملك شمس الملوك، صاحب دمشق، حصن بانياس من الفرنج.
وسبب ذلك: أن الفرنج استضعفوه وطمعوا فيه، وعزموا على نقض الهدنة التي بينهم، فتعرضوا إلى أموال جماعة من تجار دمشق بمدينة بيروت وأخذوها، فشكا التجار إلى شمس الملوك، فراسل في إعادة ما أخذوه، وكرر القول فيه، فلم يردوا شيئاً، فحملته الأنفة من هذه الحالة، والغيظ، على أن جمع عسكره وتأهب، ولا يعلم أحد أين يريد.
ثم سار، وسبق خبره، أواخر المحرم من هذه السنة، ونزل على بانياس أول صفر، وقاتلها لساعته، وزحف إليها زحفاً متتابعاً، وكانوا غير متأهبين، وليس فيها من المقاتلة من يقوم بها، وقرب من سور المدينة، وترجل بنفسه، وتبعه الناس من الفارس والراجل، ووصلوا إلى السور فنقبوه ودخلوا البلد عنوة، والتجأ من كان من جند الفرنج إلى الحصن وتحصنوا به، فقتل من البلد كثير من الفرنج، وأسر كثير، ونهبت الأموال، وقاتل القلعة قتالاً شديداً ليلاً ونهاراً، فملكها رابع صفر بالأمان، وعاد إلى دمشق فوصلها سادسه.
وأما الفرنج فإنهم لما سمعوا نزوله على بانياس شرعوا يجمعون عسكراً يسيرون به إليه، فأتاهم خبر فتحها، فبطل ما كانوا فيه.
ذكر حرب بين المسلمين والفرنج

في هذه السنة، في صفر، سار ملك الفرنج، صاحب البيت المقدس، في خيالته ورجالته إلى أطراف أعمال حلب، فتوجه إليه الأمير أسوار، النائب بحلب، في من عنده من العسكر، وانضاف إليه كثير من التركمان، فاقتتلوا عند قنسرين، فقتل من الطائفتين جماعة كثيرة، وانهزم المسلمون إلى حلب، وتردد ملك الفرنج في أعمال حلب، فعاد أسوار وخرج إليه فيمن معه من العسكر، فوقع على طائفة منهم، فأوقع بهم، وأكثر القتل فيهم والأسر، فعاد من سلم منهزماً إلى بلادهم، وانجبر ذلك المصاب بهذا الظفر، ودخل أسوار حلب، ومعه الأسرى، ورؤوس القتلى، وكان يوماً مشهوداً.
ثم إن طائفة من الفرنج من الرها قصدوا أعمال حلب للغارة عليها، فسمع بهم أسوار، فخرج إليهم هو والأمير حسان البعلبكي، فأوقعوا بهم، وقتلوهم عن آخرهم في بلد الشمال، وأسروا من لم يقتل، ورجعوا إلى حلب سالمين.
ذكر عود السلطان مسعود إلى السلطنة

وانهزام الملك طغرل
قد تقدم ذكر انهزام السلطان مسعود من عمه السلطان سنجر، وعوده إلى كنجة، وولاية الملك طغرل السلطنة، وأنه تحارب هو والملك داود ابن أخيه محمود، وانهزام داود ودخوله بغداد، فلما بلغ السلطان مسعوداً انهزام داود وقصده بغداد ، سار هو إلى بغداد أيضاً، فلما قاربها لقيه داود، وترجل له وخدمه، ودخلا بغداد.
ونزل مسعود بدار السلطنة في صفر من هذه السنة، وخاطب في الخطبة له، فأجيب إلى ذلك، وخطب له ولداود بعده، وخلع عليهما، ودخلا إلى الخليفة فأكرمهما، ووقع الاتفاق على مسير مسعود وداود إلى أذربيجان، وأن يرسل الخليفة معهما عسكراً، فساروا، فلما وصلوا إلى مراغة حمل آقسنقر الأحمديلي مالاً كثيراً، وإقامة عظيمة، وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان، وانهزم من بها من الأمراء مثل آقسنقر وغيره من بين يديه، وتحصن منه كثير منهم بمدينة أردبيل، فقصدهم وحصرهم بها، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وانهزم الباقون.
ثم سار بعد ذلك إلى همذان لمحاربة أخيه الملك طغرل، فلما سمع طغرل بقربه برز إلى لقائه، فاقتتلوا إلى الظهر، ثم انهزم طغرل وقصد الري، واستولى السلطان مسعود على همذان في شعبان، ولما استقر مسعود بهمذان قُتل آقسنقر الأحمديلي، قتله الباطنية، فقيل إن السلطان مسعوداً وضع عليه من قتله.
ثم إن طغرل لما بلغ قم عاد إلى أصبهان ودخلها، وأراد التحصن بها، فسار إليه أخوه مسعود ليحاصره بها، فرأى طغرل أن أهل أصبهان لا يطاوعونه على الحصار، فرحل عنهم إلى بلاد فارس، واستولى مسعود على أصبهان، وفرح أهلها به، وسار من أصبهان نحو فاسر يقتص أثر أخيه طغرل، فوصل إلى موضع بقرب البيضاء، فاستأمن إليه أمير من أمراء أخيه معه أربعمائة فارس، فأمنه، فخاف طغرل من عسكره أن ينحازوا إلى أخيه، فانهزم من بين يديه، وقصد الري في رمضان، وقتل وزيره أبو القاسم الأنساباذي في الطريق، في شوال، قتله غلمان الأمير شيركير الذي سعى في قتله، كما تقدم ذكره.
وسار السلطان مسعود يتبعه، فلحقه بموضع يقال له ذكراور، فوقع بينهما المصاف هناك، فلما اشتبكت الحرب انهزم الملك طغرل، فوقع عسكره في أرض قد نضب عنها الماء، وهي وحل، فأسر منهم جماعة من الأمراء منهم: الحاجب تنكر، وابن بغرا، فأطلقهم السلطان مسعود، ولم يقتل في هذا المصاف إلا نفر يسير ورجع السلطان مسعود إلى همذان.
ذكر حصر المسترشد بالله الموصلفي هذه السنة حصر المسترشد بالله مدينة الموصل في العشرين من شهر رمضان، وسبب ذلك ما تقدم من قصد الشهيد زنكي بغداد على ما ذكرناه قبل. فلما كان الآن قصد جماعة من الأمراء السلجوقية باب المسترشد بالله وصاروا معه فقوي بهم.
واشتغل السلاطين السلجوقية بالخلف الواقع بينهم، فأرسل الخليفة الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الأسفراييني الواعظ إلى عماد الدين زنكي برسالة فيها خشونة وزادها أبو الفتوح زيادة ثقة بقوة الخليفة وناموس الخلافة، فقبض عليه عماد الدين زنكي وأهانه ولقيه بما يكره، فأرسل المسترشد بالله إلى السلطان مسعود يعرفه الحال الذي جرى من زنكي ويعلمه أنه على قصد الموصل وحصرها، وتمادت الأيام إلى شعبان فسار عن بغداد في النصف منه في ثلاثين ألف مقاتل.

فلما قارب الموصل فارقها أتابك زنكي في بعض عسكره وترك الباقي بها مع نائبه نصير الدين جقر دزدارها والحاكم في دولته وأمرهم بحفظها، ونازلها الخليفة وقاتلها وضيق على من بها، وأما عماد الدين فإنه سار إلى سنجار وكان يركب كل ليلة ويقطع الميرة عن العسكر ومتى ظفر بأحد من العسكر أخذه ونكل به.
وضاقت الأمور بالعسكر أيضاً وتواطأ جماعة من الجصاصين بالموصل على تسليم البلد فسعي بهم فأخذوا وصلبوا.
وبقي الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر ولم يظفر منها بشيء ولا بلغه عمن بها وهن ولا قلة ميرة وقوت، فرحل عنها عائداً إلى بغداد، فقيل إن نظر الخادم وصل إليه من عسكر السلطان وأبلغه عن السلطان مسعود ما أوجب مسيره وعوده إلى بغداد، وقيل بل بلغه أن السلطان مسعوداً عزم على قصد العراق فعاد بالجملة وأنه رحل عنها منحدراً في شبارة في دجلة فوصل إلى بغداد يوم عرفة.
ذكر ملك شمس الملوك مدينة حماةوفي هذه السنة أيضاً، في شوال، ملك شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك صاحب دمشق مدينة حماة وقلعتها، وهي لأتابك زنكي بن آقسنقر أخذها من تاج الملوك كما ذكرناه. ولما ملك شمس الملوك قلعة بانياس أقام بدمشق إلى شهر رمضان من هذه السنة وسار منها إلى حماة في العشر الأخير منه.
وسبب طمعه أنه بلغه أن المسترشد بالله يريد أن يحصر الموصل فطمع، وكان الوالي بحماة قد سمع الخبر فتحصن واستكثر من الرجال والذخائر، ولم يبق أحد من أصحاب شمس الملوك إلا وأشار عليه بترك قصدها لقوة صاحبها، فلم يسمع منهم، وسار إليها وحصر المدينة وقاتل من بها يوم العيد، وزحف إليها من وقته، فتحصنوا منه وقاتلوه فعاد عنهم ذلك اليوم.
فلما كان الغد بكر إليهم وزحف إلى البلد من جوانبه فملكه قهراً وعنوة، وطلب من به الأمان فأمنهم وحصر القلعة، ولم تكن في الحصانة والعلو على ما هي عليه اليوم، فإن تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قطع جبلها وعملها هكذا في سنين كثيرة، فلما حصرها عجز الوالي بها عن حفظها فسلمها إليه، فاستولى عليها وعلى ما بها من ذخائر وسلاح وغير ذلك، وسار منها إلى قلعة شيزر وبها صاحبها من بني منقذ فحصرها ونهب بلدها، فراسله صاحبها وصانعه بمال حمله إليه فعاد عنه إلى دمشق فوصل إليها في ذي القعدة من السنة المذكورة.
ذكر هزيمة صاحب طرابلس الفرنجيوفي هذه السنة عبر إلى الشام جمع كثير من التركمان من بلاد الجزيرة، وأغاروا على بلاد طرابلس وغنموا وقتلوا كثيراً، فخرج القمص صاحب طرابلس في جموعه فانزاح التركمان من بين يديه، فتبعهم فعادوا إليه وقاتلوه فهزموه وأكثروا القتل في عسكره، ومضى هو ومن سلم معه إلى قلعة بعرين فتحصنوا فيها وامتنعوا على التركمان، فحصرهم التركمان فيها. فلما طال الحصار عليهم نزل صاحب طرابلس ومعه عشرون فارساً من أعيان أصحابه سراً فنجوا وساروا إلى طرابلس وترك الباقين في بعرين يحفظونها، فلما وصل إلى طرابلس كاتب جميع الفرنج فاجتمع عنده منهم خلق كثير وتوجه بهم نحو التركمان ليرحلهم عن بعرين، فلما سمع التركمان بذلك قصدوهم والتقوهم وقتل بينهم خلق كثير وأشرف الفرنج على الهزيمة، فحملوا نفوسهم ورجعوا على حامية إلى رفنية فتعذر على التركمان اللحاق بهم إلى وسط بلادهم فعادوا عنهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشترى الإسماعيلية بالشام حصن القدموس من صاحبه ابن عمرون، وصعدوا إليه وقاموا بحرب من يجاورهم من المسلمين والفرنج وكانوا كلهم يكرهون مجاورتهم.
وفيها، في جمادى الآخرة، أغار الأمير أسوار مقدم عسكر زنكي بحلب على ولاية تل باشر فغنم الكثير، فخرج إليه الفرنج في جمع كثير فقاتلوه، فظفر بهم وأكثر القتل فيهم، وكان عدة القتلى نحو ألف قتيل، وعاد سالماً.
وفيها، تاسع ربيع الآخر، وثب على شمس الملوك صاحب دمشق بعض مماليك جده طغدكين، فضربه بسيف فلم يعمل فيه شيئاً، وتكاثر عليه مماليك شمس الملوك فأخذوه وقرر ما الذي حمله على ما فعل فقال: أردت إراحة المسلمين من شرك وظلمك، ولم يزل يضرب حتى أقر على جماعة أنهم وضعوه على ذلك، فقتلهم شمس الملوك من غير تحقيق، وقتل معهم أخاه سونج، فعظم ذلك على الناس ونفروا عنه.
وفيها توفي الشيخ أبو الوفاء الفارسي، وكان له جنازة مشهودة حضرها أعيان بغداد.

وفيها، في رجب، توفي القاضي أبو العباس أحمد بن سلامة بن عبد الله ابن مخلد المعروف بابن الرطبي الفقيه الشافعي قاضي الكرخ، وتفقه على أبي إسحاق وأبي نصر بن الصباغ، وسمع الحديث ورواه، وكان قريباً من الخليفة يؤدب أولاده.
وتوفي أبو الحسين علي بن عبد الله بن نصر المعروف بابن الزاغوني الفقيه الحنبلي الواعظ، وكان ذا فنون، توفي في المحرم.
وتوفي علي بن يعلى بن عوض بن القاسم الهروي العلوي، كان واعظاً، وله بخراسان قبول كثير، وسمع الحديث الكثير، ومحمد بن أحمد بن علي أبو عبد الله العثماني الديباجي، وهو من أولاد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. وكان محمد يلقب بالديباج لحسنه، وأصله من مكة، وهو من أهل نابلس، وكان مغالياً في مذهب الأشعري، وكان يعظ. توفي في صفر.
وفيها توفي أبو فليتة أمير مكة، وولي الإمارة بعده ابنه القاسم.
وفيها توفي العزيز بن هبة الله بن علي الشريف العلوي الحسيني فجأة بنيسابور. وكان جده نقيب النقباء بخراسان. وعرض على العزيز هذا نقابة العلويين بنيسابور فامتنع، وعرض عليه وزارة السلطان فامتنع، ولزم الانقطاع والاشتغال بأمر آخرته.
وفيها توفي قاضي قضاة خراسان أبو سعيد محمد بن أحمد بن صاعد، وكان خيراً صالحاً.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة

ذكر ملك شمس الملوك شقيف تيرون
ونهبه بلد الفرنج
في هذه السنة، في المحرم، سار شمس الملوك إسماعيل من دمشق إلى شقيف تيرون وهو في الجبل المطل على بيروت وصيدا، وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم، قد تغلب عليه وامتنع به، فتحاماه المسلمون والفرنج، يحتمي على كل طائفة بالأخرى، فسار شمس الملوك إليه في هذه السنة، وأخذه منه في المحرم، وعظم أخذه على الفرنج لأن الضحاك كان لا يتعرض لشيء من بلادهم المجاورة له، فخافوا شمس الملوك، فشرعوا في جمع عساكرهم، فلما اجتمعت ساروا إلى بلد حوران، فخربوا أمهات البلد، ونهبوا ما أمكنهم نهبه نهبة عظيمة.
وكان شمس الملوك، لما رآهم يجمعون، جمع هو أيضاً وحشد وحضر عنده جمع كثير من التركمان وغيرهم، فنزل بإزاء الفرنج، وجرت بينهم مناوشة عدة أيام، ثم إن شمس الملوك نهض ببعض عسكره، وجعل الباقي قبالة الفرنج، وهم لا يشعرون، وقصد بلادهم طبرية والناصرة وعكا وما يجاورها من البلاد، فنهب وخرب وأحرق وأهلك أكثر البلاد وسبى النساء والذرية، وامتلأت أيدي من معه من الغنائم، واتصل الخبر بالفرنج، فانزعجوا، ورحلوا في الحال لا يلوي أخ على أخيه وطلبوا بلادهم.
وأما شمس الملوك فإنه عاد إلى عسكره على غير الطريق الذي سلكه الفرنج، فوصل سالماً ووصل الفرنج إلى بلادهم ورأوها خراباً ففت في أعضادهم وتفرقوا، وراسلوا في تجديد الهدنة فتم ذلك في ذي القعدة للسنة.
ذكر عود الملك طغرل إلى الجبل
وانهزام الملك مسعود
في هذه السنة عاد الملك طغرل بن محمد بن ملكشاه ملك بلاد الجبل جميعها وأجلى عنها أخاه السلطان مسعوداً.
وسبب ذلك أن مسعوداً لما عاد من حرب أخيه بلغه عصيان داود ابن أخيه السلطان محمود بأذربيجان، فسار إليه وحصره بقلعة روئين دز وكان قد تحصن بها واشتغل بحصره، فجمع الملك طغرل العساكر ومال إليه بعض الأمراء الذين مع السلطان مسعود ولم يزل يفتح البلاد، فكثرت عساكره وقصد مسعوداً، فلما قارب قزوين سار مسعود نحوه، فلما تراءى العسكران فارق مسعوداً من أمرائه من كان قد استماله طغرل فبقي في قلة من العسكر، فولى منهزماً أواخر رمضان.
وأرسل المسترشد بالله في القدوم إلى بغداد، فأذن له، وكان نائبه بأصفهان البقش السلاحي، ومعه الملك سلجوقشاه، فلما سمع بانهزام مسعود قصد بغداد أيضاً، فنزل سلجوقشاه بدار السلطان، فأكرمه الخليفة، وأنفذ إليه عشرة آلاف دينار، ثم قصد مسعود بغداد وأكثر أصحابه ركاب جمال لعدم ما يركبونه، ولقي في طريقه شدة، فأرسل إليه الخليفة الدواب والخيام والآلات وغيرها من الأموال والثياب، فدخل الدار السلطانية ببغداد منتصف شوال وأقام طغرل بهمذان.
ذكر حصر أتابك زنكي آمد
والحرب بينه وبين داود وملك زنكي قلعة صور

في هذه السنة اجتمع أتابك زنكي صاحب الموصل وتمرتاش صاحب ماردين وقصدا مدينة آمد فحصراها، فأرسل صاحبها إلى داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا يستنجده، فجمع من أمكنه جمعه وسار نحو آمد ليرحلهما عنها، فالتقوا على باب آمد، وتصافوا في جمادى الآخرة، فانهزم داود، وعاد مفلولاً، وقتل جماعة من عسكره.
وأقام زنكي وتمرتاش على آمد محاصرين لها، وقطعا الشجر، وشعثا البلد وعادا عنها من غير بلوغ غرض، فقصد زنكي قلعة الصور من ديار بكر وحصرها وضايقها، فملكها في رجب من هذه السنة، واتصل به ضياء الدين أبو سعيد بن الكفرتوثي فاستوزره زنكي، وكان حسن الطريقة، عظيم الرئاسة والكفاية، محباً للخير وأهله.
ذكر ملك زنكي قلاع الأكراد الحميديةفي هذه السنة استولى عماد الدين زنكي على جميع قلاع الأكراد الحميدية منها قلاع العقر وقلعة شوش وغيرهما.
وكان لما ملك الموصل أقر صاحبها الأمير عيسى الحميدي على ولايتها وأعمالها، ولم يعترضه على شيء مما هو بيده، فلما حصر المسترشد بالله الموصل حضر عيسى هذا عنده وجمع الأكراد عنده فأكثر، فلما رحل المسترشد بالله عن الموصل أمر زنكي أن تحصر قلاعهم فحصرت مدة طويلة وقوتلت قتالاً شديداً إلى أن ملكت هذه السنة، فاطمأن إذاً أهل سواد الموصل المجاورون لهؤلاء القوم فإنهم كانوا معهم في ضائقة كبيرة من نهب أموالهم وخراب البلاد.
ذكر ملك قلاع الهكارية وكواشيوحكي عن بعض العلماء من الأكراد ممن له معرفة بأحوالهم أن أتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء بن عبد الله صاحب قلعة أشب والجزيرة ونوشي، فأرسل إلى أتابك زنكي من استحلفه له وحمل إليه مالاً، وحضر عند زنكي بالموصل فبقي مدة ثم مات فدفن بتل توبة. ولما سار عن أشب إلى الموصل أخرج ولده أحمد بن أبي الهيجاء منها خوفاً أن يتغلب عليها، وأعطاه قلعة نوشى، وأحمد هذا هو والد علي ابن أحمد المعروف بالمشطوب من أكابر أمراء صلاح الدين بن أيوب بالشام.
ولما أخرجه أبوه من أشب استناب بها كردياً يقال له باو الأرجي، فلما مات أبو الهيجاء سار ولده أحمد بن نوشى إلى أشب ليملكها، فمنعه باو، وأراد حفظها لولد صغير لأبي الهيجاء اسمه علي، فسار زنكي بعسكره فنزل على أشب وملكها.
وسبب ملكهم أن أهلها نزلوا كلهم إلى القتال، فتركهم زنكي حتى قاربوه واستجرهم حتى أبعدوا عن القلعة ثم عطف عليهم فانهزموا، فوضع السيف فيهم، فأكثر القتل والأسر، وملك زنكي القلعة في الحال وأحضر جماعة من مقدمي الأكراد فيهم باو فقتلهم وعاد عنها إلى الموصل، ثم سار عنها، ففي غيبته أرسل نصير الدين جقر نائب زنكي وخرب أشب وخلى كهيجة ونوشى وقلعة الجلاب، وهي قلعة العمادية، وأرسل إلى قلعة الشعباني وفرح وكوشر والزعفران وألقى ونيروة، وهي حصون المهرانية، فحصرها فملك الجميع، واستقام أمر الجبل والزوزان، وأمنت الرعايا من الأكراد.
وأما باقي قلاع الهكارية جل صورا، وهرور، والملاسي، ومابرما وبابوخا وباكزا ونيسباس، فإن قراجة صاحب العمادية فتحها من مدة طويلة بعد قتل زنكي، وقراجة هذا كان أميراً قد أقطعه زين الدين علي بلد الهكارية بعد قتل زنكي، ولم أعلم تاريخ فتح هذه القلاع فلهذا ذكرته هاهنا.
وحكى غير هذا بعض فضلاء الأكراد وخالف فيه فقال: إن زنكي لما فتح قلعة أشب وخربها وبنى قلعة العمادية ولم يبق في الهكارية إلا صاحب جل صورا وصاحب هرور، ولم يكن لهما شوكة يخاف منها، عاد إلى الموصل، فخافه أصحاب القلاع الجبلية، فاتفق أن عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الربية وألقى وفرح وغيرها وملكها بعده ولده علي، وكانت والدته خديجة بنت الحسن أخت إبراهيم وعيسى، وهما من الأمراء، مع زنكي، وكانا بالموصل، فأرسلها ولدها علي إلى أخويها وطلبا له الأمان من زنكي وحلفاه له ففعل، ونزل إلى خدمة زنكي وأقره على قلاعه واشتغل زنكي بفتح قلاع الهكارية، وكان الشعباني بيد أمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر، فأخذه منه وقربه منه لكبره وقلة أعماله.

وكان نصير الدين جقر يكره علياً صاحب الربية وغيرها، فحسن لزنكي القبض عليه، فأذن له في ذلك، فقبض عليه ثم ندم زنكي على قبضه فأرسل إلى نصير الدين أن يطلقه فرآه قد مات، قيل إن نصير الدين قتله. ثم أرسل العسكر إلى قلعة الربية فنازلوهاا بغتة، فملكوها في ساعة، وأسروا كل من بها من ولد علي وإخوته وأخواته، وكانت والدة علي خديجة غائبة فلم توجد، فلما سمع زنكي الخبر بفتح الربية سره، وأمر أن تيسر العساكر إلى باقي القلاع التي لعلي، فسارت العساكر، فحصروها، فرأوها منيعة، فراسلهم زنكي ووعدهم الإحسان، فأجابوه إلى التسليم على شرط أن يطلق كل من في السجن منهم، فلم يجبهم إلى ذلك، إلا أن يسلموا أيضاً قلعة كواشى، فمضت خديجة والدة علي إلى صاحب كواشى واسمه خول وهرون وهو من المهرانية، فسألته النزول عن كواشى، فأجابها إلى ذلك، وتسلم زنكي القلاع وأطلق الأسرى، فلم يسمع بمثل هذا، فقال ينزل من مثل كواشى لقول امرأة فإما أن يكون أعظم الناس مروءة لا يرد من دخل بيته، وإما أن يكون أقل الناس عقلاً، واستقامت ولاية الجبال.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أوقع الدانشمند صاحب ملطية بالفرنج الذين بالشام، فقتل كثيراً منهم وأسر كثيراً، وفيها اصطلح الخليفة وأتابك زنكي، وفيها، في ربيع الأول، عزل شرف الدين أنوشروان بن خالد عن وزارة الخليفة، وفيها توفيت أم المسترشد بالله، وفيها سير المسترشد بالله عسكراً إلى تكريت فحصروا مجاهد الدين بهروز فصانع عنها بمال فعادوا عنه.
وفيها اجتمع جمع من العساكر السنجرية مع الأمير أرغش، وحصروا قلعة كردكوه بخراسان، وهي للإسماعيلية، وضيقوا على أهلها وطال حصرها، وعدمت عندهم الأقوات، فأصاب أهلها تشنج وكزاز، وعجز كثير منهم عن القيام فضلاً عن القتال، فلما ظهرت أمارات الفتح رحل الأمير أرغش فقيل إنهم حملوا إليه مالاً كثيراً وأعلاقاً نفيسة، فرحل عنهم.
وفيها توفي الأمير سليمان بن مهارش العقيلي أمير بني عقيل وولي الإمارة بعده أولاده مع صغر سنهم، وطيف بهم في بغداد رعاية لحق جدهم مهارش، فإنه هو الذي كان الخليفة القائم بأمر الله عنده في الحديثة لما فعل به البساسيري ما ذكرنا.
وفيها، في المحرم، توفي الفقيه أبو علي الحسن بن إبراهيم بن فرهون الشافعي الفارقي، ومولده بميافارقين سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتفقه بها على أبي عبد الله الكازروني، فلما توفي الكازروني انحدر إلى بغداد وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وأبي نصر الصباغ، وولي القضاء بواسط، وكان خيراً فاضلاً لا يواري ولا يحابي أحداً في الحكم.
وفيها توفي عبد الله بن محمد بن أحمد بن الحسن أبو محمد بن أبي بكر الفقيه الشافعي، تفقه على أبيه وأفتى وناظر، وكان يعظ ويكثر في كلامه من التجانس، فمن ذلك قوله: أين القدود العالية، والخدود الوردية، ملئت بها والله العالية والوردية، وهما مقبرتان بنهر المعلى، ومن شعره:
الدمع دماً يسيل من أجفاني ... إن عشت مع البكا فما أجفاني
سجني شجني وهمني سماني ... العاذل بالملام قد سماني
والذكر لهم يزيد في أشجاني ... والنوح مع الحمام قد أشجاني
ضاقت ببعاد منيتي أعطاني ... والبين يد الهموم قد أعطاني
وفيها توفي ابن أبي الصلت الشاعر، ومن شعره يذم ثقيلاً:
لي صديق عجبت كيف استطاعت ... هذه الأرض والجبال ثقله
أنا أرعاه مكرماً وبقلبي ... منه ما ينسف الجبال أقله
هو مثل المشيب أكره رؤيا ... ه ولكن أصونه وأجله
وله أيضاً:
ساد صغار الناس في عصرنا ... لا دام من عصر ولا كانا
كالدست مهما هم أن ينقضي ... صار به البيدق فرزانا
وفيها توفي محمد بن علي بن عبد الوهاب أبو رشيد الفقيه الشافعي من أهل طبرستان، وسمع الحديث أيضاً ورواه، وكان زاهداً عابداً أقام بجزيرة في البحر سنين منفرداً يعبد الله، سبحانه وتعالى، وعاد إلى آمل فتوفي فيها وقبره يزار.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وخمسمائة

ذكر وفاة الملك طغرل
وملك مسعود بلد الجبل

قد ذكرنا قدوم السلطان مسعود إلى بغداد منهزماً من أخيه الملك طغرل بن محمد، فلما وصل إلى بغداد أكرمه الخليفة وحمل إليه ما يحتاج إليه مثله، وأمره بالمسير إلى همذان وجمع العساكر ومنازعة أخيه طغرل في السلطنة والبلاد، ومسعود يعد ويدافع الأيام، والخليفة يحثه على ذلك، ووعده أن يسير معه بنفسه، وأمر أن تبرز خيامه إلى باب الخليفة.
وكان قد اتصل الأمير البقش السلاحي وغيره من الأمراء بالخليفة، وطلبوا خدمته، فاستخدمهم واتفق معهم. واتفق أن إنساناً أخذ فوجد معه ملطفات من طغرل إلى هؤلاء الأمراء وخاتمه بالإقطاع لهم، فلما رأى الخليفة ذلك قبض على أمير منهم اسمه أغلبك ونهب ماله، فاستشعر غيره من الأمراء الذين مع الخليفة، فهربوا إلى عسكر السلطان مسعود، فأرسل الخليفة إلى مسعود في إعادتهم إليه، فلم يفعل واحتج بأشياء، فعظم ذلك على الخليفة وحدث بينهما وحشة أوجبت تأخره عن المسير معه، وأرسل إليه يلزمه بالمسير معه أمراً جزماً، فبينما الأمر على هذا إذ جاءه الخبر بوفاة أخيه طغرل، وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة، وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم، وكان خيراً عاقلاً عادلاً قريباً إلى الرعية محسناً إليها، وكان قبل موته قد خرج من داره يريد السفر إلى أخيه السلطان مسعود فدعا له الناس، فقال: ادعو بخيرنا للمسلمين.
ولما توفي ووصل الخبر إلى مسعود سار من ساعته نحو همذان، وأقبلت العساكر جميعها إليه، واستوزر شرف الدين أنوشروان بن خالد، وكان قد خرج في صحبته هو وأهله، ووصل مسعود إلى همذان واستولى عليها وأطاعته البلاد جميعها وأهلها.
ذكر قتل شمس الملوك وملك أخيهفي هذه السنة، رابع عشر ربيع الآخر، قتل شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغدكين صاحب دمشق، وسبب قتله أنه ركب طريقاً شنيعاً من الظلم ومصادرات العمال وغيرهم من أعمال البلد، وبالغ في العقوبات لاستخراج الأموال، وظهر منه بخل زائد ودناءة نفس بحيث أنه لا يأنف من أخذ الشيء الحقير بالعدوان، إلى غير ذلك من الأخلاق الذميمة وكرهه أهله وأصحابه ورعيته.
ثم ظهر عنه أنه كاتب عماد الدين زنكي يسلم إليه دمشق ويحثه على سرعة الوصول، وأخلى المدينة من الذخائر والأموال، ونقل الجميع إلى صرخد، وتابع الرسل إلى زنكي يحثه على الوصول إليه ويقول له: إن أهملت المجيء سلمتها إلى الفرنج، فسار زنكي، وظهر الخبر بذلك في دمشق فامتعض أصحاب أبيه وجده لذلك وأقلقهم، وأنهوا الحال لوالدته فساءها وأشفقت منه، ووعدتهم بالراحة من هذا الأمر.
ثم إنها ارتقبت الفرصة في الخلوة من غلمانه، فلما رأته على ذلك أمرت غلمانها بقتله فقتل، وأمرت بإلقاءه في موضع من الدار ليشاهده غلمانه وأصحابه، فلما رأوه قتيلاً سروا لمصرعه وبالراحة من شره.
وكان مولده ليلة الخميس سابع جمادى الآخرة سنة ستة وخمسمائة، وقيل كان سبب قتله أن والده كان له حاجب اسمه يوسف بن فيروز وكان متمكناً منه حاكماً في دولته، ثم في دولة شمس الملوك، فاتهم بأم شمس الملوك، ووصل الخبر إليه بذلك فهم بقتل يوسف فهرب منه إلى تدمر، وتحصن بها، وأظهر الطاعة لشمس الملوك، فأراد قتله أمه، فبلغها الخبر فقتلته خوفاً منه، والله أعلم.
ولما قتل ملك بعده أخوه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري وجلس في منصبه وحلف له الناس كلهم واستقر في الملك، والله أعلم.
ذكر حصر أتابك زنكي دمشقفي هذه السنة حصر أتابك زنكي دمشق، وكان نزوله عليها أول جمادى الأولى، وسببه ما ذكرنا من إرسال شمس الملوك صاحبها إليه واستدعاءه ليسلمها إليه، فلما وصلت كتبه ورسله بذلك سار إليها، فقتل شمس الملوك قبل وصوله، ولما عبر الفرات أرسل إليه رسلاً في تقرير قواعد التسليم، فرأوا الأمر قد فاته إلا أنهم أكرموا وأحسن إليهم وأعيدوا بأجمل جواب، وعرف زنكي قتل شمس الملوك، وأن القواعد عندهم مستقرة لشهاب الدين، والكلمة متفقة على طاعته، فلم يحفل زنكي بهذا الجواب، وسار إلى دمشق فنازلها، وأجفل أهل السواد إلى دمشق، واجتمعوا فيها على محاربته.

ونزل أولاً شماليها ثم انتقل إلى ميدان الحصار، وزحف وقاتل، فرأى قوة ظاهرة وشجاعة عظيمة واتفاقاً تاماً على محاربته، وقام معين الدين أنز مملوك جده طغدكين في الحادثة بدمشق قياماً مشهوداً، وظهر من معرفته بأمور الحصار والقتال وكفايته ما لم ير وما كان سبب تقدمه واستيلاءه على الأمور بأسرها، على ما نذكر إن شاء الله تعالى.
فبينما هو يحاصرها ووصل رسول الخليفة المسترشد بالله وهو أبو بكر بن بشر الجزري من جزيرة ابن عمر بخلع لأتابك زنكي، ويأمره بمصالحة صاحب دمشق الملك ألب أرسلان محمود الذي مع أتابك زنكي، فرحل عنها لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من السنة المذكورة.
ذكر قتل حسن بن الحافظقد ذكرنا سنة ست وخمسمائة أن الحافظ لدين الله صاحب مصر استوزر ابنه حسناً، وخطب له بولاية العهد، فبقي إلى هذه السنة ومات مسموماً، وسبب ذلك أن أباه الحافظ استوزه وكان جريئاً على سفك الدماء، وكان في نفس الحافظ على الأمراء الذين أعانوا أبا علي بن الأفضل حقد، ويريد الانتقام منهم من غير أن يباشر ذلك بنفسه، فأمر ابنه حسناً بذلك، فتغلب على الأمر جميعه، واستبد به، ولم يبق لأبيه معه حكم، وقتل من الأمراء المصريين ومن أعيان البلاد أيضاً حتى إنه قتل في ليلته واحدة أربعين أميراً.
فلما رأى أبوه تغلبه عليه أخرج له خادما من من خدم القصر الأكابر، فجمع الجموع وحشد من الرجالة خلقاً كثيرا، وتقدم إلى البلد، فأخرج إليهم حسن جماعة من خواصه وأصحابه، فقاتلوهم، فانهزم الخادم وقتل من الرجالة الذين معه خلق كثير، وعبر الباقون إلى بر الجزيرة، فاستكان الحافظ، فصبر تحت الحجر. ثم إن الباقين من الأمراء المصريين اجتمعوا واتفقوا على قتل حسن، وأرسلوا إلى أبيه الحافظ وقالوا له: إما أنك تسلم ابنك إلينا لنقتله أو نقتلكما جميعاً، فاستدعى ولده إليه واحتاط عليه، وأرسل إلى الأمراء بذلك، فقالوا: لا نرضى إلا بقتله. فرأى أنه إن سلمه إليهم طمعوا فيه وليس إلى إبقائه سبيل، فأحضر طبيبين كانا له أحدهما مسلم والآخر يهودي، فقال لليهودي: نريد سماً نسقيه لهذا الولد ليموت ونخلض من هذه الحادثة. فقال: أنا لا أعرف غير التقوع وماء الشعير وما شاكل هذا من الأدوية. فقال: أنا أريد ما أخلص به من هذه المصيبة. فقال له: لا أعرف شيئاً. فأحضر الطبيب المسلم وسأله عن ذلك، فصنع له شيئاً فسقاه الولد فمات لوقته، فأرسل الحافظ إلى الجند يقول لهم: إنه قد مات. فقالوا: نريد أن ننظر إليه، فأحضر بعضهم عنده فرأوه وظنوه قد عمل حيلة، فجرحوا أسافل رجليه فلم يجر منها دم، فعلموا موته وخرجوا.
ودفن حسن وأحضر الحافظ الطبيب المسلم وقال له: ينبغي أن تخرج من عندنا من القصر، وجميع ما لك من الإنعام والجامكية باق عليك، وأحضر اليهودي وزاده وقال له: أعلم أنك تعرف ما طلبته منك ولكنك عاقل فتقيم في القصر عندنا.
وكان حسن سيء السيرة ظالماً جريئاً على سفك الدماء وأخذ الأموال، فهجاه الشعراء، فمن ذلك ما قال المعتمد بن الأنصاري صاحب الترسل المشهور:
لم تأت يا حسن بين الورى حسناً ... ولم تر الحق في دنيا ولا دين
قتل النفوس بلا جرم ولا سبب ... والجور في أخذ أموال المساكين
لقد جمعت بلا علم ولا أدب ... تيه الملوك وأخلاق المجانين
وقيل إن الحافظ لما رأى ابنه تغلب على الملك وضع عليه من سقاه السم فمات، والله أعلم.
ولما مات حسن استوزر الحافظ الأمير تاج الدولة بهرام، وكان نصرانياً، فتحكم واستعمل الأرمن على الناس، فاستذلوا المسلمين، وسيأتي ذكر ذلك سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة إن شاء الله تعالى.
ذكر مسير المسترشد بالله إلى حرب السلطان مسعود وانهزامه

في هذه السنة كانت الحرب بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان مسعود في شهر رمضان، وسبب ذلك أن السلطان مسعوداً لما سافر من بغداد إلى همذان، بعد موت أخيه طغرل، وملكها، فارقه جماعة من أعيان الأمراء منهم يرنقش بازدار وقزل آخر وسنقر الخمارتكين والي همذان، وعبد الرحمن بن طغايرك، وغيرهم، خائفين منه، مستوحش، ومعهم عدد كثير وانضاف إليهم دبيس بن صدقة. وأرسلوا إلى الخليفة يطلبون منه الأمان ليحضروا خدمته، فقيل له: إنها مكيدة لأن دبيساً معهم، وساروا نحو خوزستان، واتفقوا مع برسق بن برسق، فأرسل الخليفة إليهم سديد الدولة ابن الأنباري بتوقيعات إلى الأمراء المذكورين بتطييب نفوسهم والأمر بحضورهم.
وكان الأمراء المذكورون قد عزموا على قبض دبيس والتقرب إلى الخليفة بحمله إليه، فبلغه ذلك فهرب إلى السلطان مسعود. وسار الأمراء إلى بغداد في رجب، فأكرمهم الخليفة وحمل إليهم الإقامات والخلع، وقطعت خطب السلطان مسعود من بغداد، وبرز الخليفة في العشرين من رجب على عزم المسير إلى قتال مسعود وأقام في الشفيعي، فعصى عليه بكبه صاحب البصرة فهرب إليها، فراسله وبذل له الأمان فلم إليه.
وتريث الخليفة عن المسير وهؤلاء الأمراء يحسنون له الرحيل، ويسهلون عليه الأمر، ويضعفون عنده أمر السلطان مسعود، فسير مقدمته إلى حلوان فنهبوا البلاد، وأفسدوا ولم ينكر عليهم أحد شيئاً، ثم سار الخليفة ثامن شعبان ولحق به في الطريق الأمير برسق بن برسق فبلغت عدتهم سبعة آلاف فارس، وتخلف بالعراق مع إقبال خادم المسترشد بالله ثلاثة آلاف فارس.
وكان السلطان مسعود بهمذان في نحو ألف وخمس مائة فارس، وكان أكثر اصحاب الأطراف يكاتبون الخليفة ويبذلون له الطاعة، فتريث في طريقه، فاستصلح السلطان مسعود اكثرهم حتى صاروا في نحو خمسة عشر الف فارس، وتسلل جماعة كثيرة من عسكر الخليفة حتى بقي في خمسة آلاف، وارسل أتابك زنكي نجدة فلم تلحق.
وأرسل الملك داود ابن السلطان محمود وهو بأذربيجان إلى الخليفة يشير بالميل إلى الدينور ليحضر بنفسه وعسكره، فلم يفعل المسترشد ذلك وسار حتى بلغ دايمرج، وعبأ أصحابه، فجعل في الميمنة يرنقش بازدار ونور الدولة سنقرجة وقزل آخر وبرسق بن برسق، وجعل في الميسرة جاولي وبرسق شراب سلار وأغلبك الذي كان الخليفة قد قبض عليه وأخرجه من محبسه.
ولما بلغ السلطان مسعوداً خبرهم سار إليه مجداً، فواقعهم بدايمرج عاشر رمضان، وانحازت ميسرة الخليفة مخامرة عليه إلى السلطان مسعود فصارت معه، واقتتلت ميمنته وميسرة السلطان قتالاً ضعيفاً، ودار به عسكر السلطان وهو ثابت لم يتحرك من مكانه، وانهزم عسكره وأخذ هو أسيراً ومعه جمع كثير من أصحابه منهم الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي وقاضي القضاة وصاحب المخزن ابن طلحة، وابن الأنباري والخطباء والفقهاء والشهود وغيرهم، وأنزل الخليفة في خيمة وغنموا ما في معسكره وكان كثيراً، فحمل الوزير وقاضي القضاة وابن الأنباري وصاحب المخزن وغيرهم من الأكابر إلى قلعة سرجهان، وباعوا الباقين بالثمن الطفيف، ولم يقتل في هذه المعركة أحد وهذا من أعجب ما يحكى.
وعاد السلطان إلى همذان وأمر فنودي: من تبعنا إلى همذان من البغداديين قتلناه، فرجع الناس كلهم على أقبح حالة لا يعرفون طريقاً وليس معهم ما يحملهم، وسير السلطان الأمير بك أبه المحمودي إلى بغداد شحنة فوصلها سلخ رمضان ومعه عبيد، فقبضوا جميع أملاك الخليفة وأخذوا غلاتها.
وثار جماعة من عامة بغداد، فكسروا المنبر والشباك، ومنعوا من الخطبة، وخرجوا إلى الأسواق يحثون التراب على رؤوسهم ويبكون ويصيحون، وخرج النساء حاسرات في الأسواق يلطمن، واقتتل أصحاب الشحنة وعامة بغداد فقتل من العامة ما يزيد على مائة وخمسين قتيلاً، وهرب الوالي وحاجب الباب.
وأما السلطان فإنه سار في شوال من همذان إلى مراغة لقتال الملك داود ابن أخيه محمود، وكان قد عصى عليه، فنزل على فرسخين من مراغة، والمسترشد معه، فترددت الرسل بين الخليفة وبين السلطان في الصلح، فاستقرت القاعدة على ما نذكره إن شاء الله، والله الموفق.
ذكر قتل المسترشد بالله

وخلافة الراشد بالله

لما قبض المسترشد بالله أبو منصور بن الفضل بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد، على ما ذكرناه، أنزله السلطان مسعود في خيمة، ووكل به من يحفظه، وقام بما يجب من الخدمة، وترددت الرسل بينهما في الصلح وتقرير القواعد على مال يؤديه الخليفة، وأن لا يعود يجمع العساكر وأن لا يخرج من داره. فأجاب السلطان إلى ذلك، وأركب الخليفة وحمل الغاشية بين يديه ولم يبق إلا أن يعود إلى بغداد. فوصل الخبر أن الأمير قران خوان قد قدم رسولاً من السلطان سنجر، فتأخر مسير المسترشد لذلك، وخرج الناس والسلطان مسعود إلى لقائه، وفارق الخليفة بعض من كان موكلاً به، وكانت خيمته منفردة عن العسكر، فقصده أربعة وعشرون رجلاً من الباطنية ودخلوا عليه فقتلوه، وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحة، ومثلوا به فجدعوا أنفه وأذنيه وتركوه عرياناً، فقتل معه نفر من أصحابه منهم أبو عبد الله بن سكينة، وكان قتله يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة، وبقي حتى دفنه أهل مراغة.
وأما الباطنية فقتل منهم عشرة، وقيل: بل قتلوا جميعهم، والله أعلم. وكان عمره لما قتل ثلاثاً وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوماً.
وأمه أم ولد، وكان شهماً شجاعاً، كثير الإقدام، بعيد الهمة، وأخباره المذكورة تدل على ما ذكرناه. وكان فصيحاً بليغاً حسن الحظ، ولقد رأيت خطه في غاية الجودة ورأيت أجوبته على الرقاع من أحسن ما يكتب وأفصحه.
ولما قتل المسترشد بالله بويع ولده أبو جعفر المنصور، ولقب الراشد بالله، وكان المسترشد قد بايع له بولاية العهد في حياته، وجددت له البيعة بعد قتله يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي القعدة، وكتب السلطان مسعود إلى بك أبه الشحنة ببغداد فبايع له، وحضر الناس البيعة، وحضر بيعته أحد وعشرون رجلاً من أولاد الخلفاء، وبايع له الشيخ أبو النجيب، ووعظه، وبالغ في الموعظة. وأما جمال الدولة إقبال فإنه كان ببغداد في طائفة من العسكر، فلما جرت هذه الحادثة عبر إلى الجانب الغربي، وأصعد إلى تكريت وراسل مجاهد الدين بهروز، وحلفه وصعد إليه بالقلعة.
ذكر مسير السلطان سنجر إلى غزنةفي هذه السنة، في ذي القعدة، سار السلطان سنجر من خراسان إلى غزنة، وسبب ذلك أنه نقل إليه عن صاحبها بهرام شاه أنه تغير عن طاعته، وأنه قد مد يده إلى ظلم الرعايا واغتصاب أموالهم.
وكان السلطان سنجر هو الذي ملك غزنة، وقد ذكرناه سنة تسع وخمسمائة، فلما سمع هذه الأخبار المزعجة سار إلى غزنة ليأخذها أو يصلحه، فلما سلك الطريق وأبعد أدركهم شتاء شديد البرد، كثير الثلج، وتعذرت عليهم الأقوات والعلوفات، فشكا العسكر إلى السلطان ذلك وذكروا له ما هم فيه من الضيق وتعذر ما يحتاجون إليه، فلم يجدوا عنده غير التقدم أمامه، فلما قارب غزنة أرسل بهرام شاه رسلاً يضرع إلى سنجر ويسأل الصفح عن جرمه، والعفو عن ذنبه، فأرسل إليه سنجر المقرب جوهراً الخادم، وهو أكبر أميرعنده، ومن جملة أقطاعه مدينة الري، في جواب رسالته يجيبه عن العفو عنه إن حضر عنده وعاد إلى طاعته، فلما وصل إلى بهرام شاه أجابه إلى ما طلب منه من الطاعة وحمل المال والحضور بنفسه في خدمته، وأظهر من الطاعة والانقياد لما يحكم به السلطان سنجر شيئاً كثيراً.

وعاد المقرب جوهر ومعه بهرام شاه إلى سنجر، فسبقه المقرب إلى السلطان سنجر وأعلمه بوصول بهرام شاه، وأنه بكرة غد يكون عنده، وعاد المقرب إلى بهرام شاه ليجيء بين يديه، وركب سنجر من الغد في موكبه لتلقيه، وتقدم بهرام شاه ومعه المقرب إلى سنجر، فلما عاين موكب سنجر والجتر على رأسه نكص على عقبيه عائداً، فأمسك المقرب عنانه وقبح فعله، وخوفه عاقبة ذلك، فلم يرجع وولى هارباً ولم يصدق بنجاته ظناً منه أن سنجر يأخذه ويملك بلده، وتبعه طائفة من أصحابه وخواصه، ولم يعرج على غزنة، وسار سنجر إلى غزنة فدخلها وملكها واحتوى على ما فيها وجبى أموالها، وكتب إلى بهرام شاه كتاباً يلومه على ما فعله ويحلف له أنه ما أراد به سوءاً، ولا له في بلده مطمع، ولا هو ممن يكدر صنيعته وتعقب حسنته معه بسيئة، وإنما قصده لإصلاحه، فأعاد بهرام شاه الجواب يعتذر ويتنصل ويقول إن الخوف منعه من الحضور، ولا لوم على من خاف مثل السلطان، ويضرع في عوده إلى الإحسان، فأجابه سنجر إلى إعادة بلده إليه وفارق غزنة عائداً إلى بلاده، فوصل إلى بلخ في شوال سنة ثلاثين وخمسمائة واستقر ملك غزنة لبهرام شاه ورجع إليها مالكاً لها ومستولياً عليها.
ذكر قتل دبيس بن صدقة بالتاريخفي هذه السنة قتل السلطان مسعود دبيس بن صدقة على باب سرادقه بظاهر خونج، أمر غلاماً أرمنياً بقتله، فوقف على رأسه وهو ينكت الأرض بإصبعه، فضرب رقبته وهو لا يشعر، وكان ابنه صدقة بالحلة، فاجتمع إليه عسكر أبيه ومماليكه، وكثر جمعه واستأمن إليه الأمير قتلغ تكين، وأمر السلطان مسعود بك أبه أن يأخذ الحلة، فسار بعض عسكره إلى المدائن، وأقاموا مدة ينتظرون لحاق بك أبه بهم فلم يسر إليهم جبناً وعجزاً عن قصد الحلة لكثرة العسكر بها مع صدقة. وبقي صدقة بالحلة إلى أن قدم السلطان مسعود إلى بغداد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فقصده وأصلح حاله معه ولزم خدمته.
ومثل هذه الحادثة تقع كثيراً وهي قرب موت المتعاديين، فإن كان دبيساً كان يعادي المسترشد بالله ويكره خلافته، ولم يكن يعلم أن السلاطين إنما كانوا يبقون عليه ليجعلوه عدة لمقاومة المسترشد، فلما زال السبب زال المسبب، والله أعلم بذلك.
ذكر حصر عسكر يحيى المهديةفي هذه السنة سير يحيى بن العزيز بن حماد صاحب بجاية عسكراً ليحصروا المهدية، وبها صاحبها الحسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس، وكان سبب ذلك أن الحسن أحب ميمون بن زياد أمير طائفة كبيرة من العرب، وزاده على سائر العرب، فحسده العرب فسار أمراؤها إلى يحيى بن العزيز بأولادهم، وجعلوهم رهائن عنده، وطلبوا منه أن يرسل معهم عسكراً ليملكوا له المهدية، فأجابهم إلى ذلك وهو متباطيء. فاتفق أنه وصله كتب من بعض مشايخ المهدية بمثل ذلك، فوثق بما أتاه وسير عسكراً كثيفاً واستعمل عليهم قائداً كبيراً من فقهاء أصحابه يقال له مطرف بن حمدون.
وكان يحيى هذا هو وآباؤه يحسدون أولاد المنصور أبي الحسن هذا، فسارت العساكر الفارس والراجل ومعهم من العرب جمع كثير حتى نزلوا على المهدية وحصروها براً وبحراً. وكان مطرف ظهر التقشف والتورع عن الدماء، وقال: إنما أتيت الآن لأتسلم البلد بغير قتال، فخاف ظنه، فبقي أياماً لا يقاتل، ثم إنهم باشروا القتال فظهر أهل المهدية عليهم وأثروا فيهم، وتوالى القتال وفي كل ذلك الظفر لأهل البلد، وقتل من الخارجين جمادى غفير.
وجمع مطرف عسكره وزحف براً وبحراً لما يئس من التسليم، وقاتل أشد قتال، فملكت شوانيه شاطيء البحر، وقربوا من السور، فاشتد الأمر، فأمر الحسن بفتح الباب من الشاطيء وخرج أول الناس، وحمل هو ومن معه عليهم وقال: أنا الحسن! فلما سمع من يقاتله دعواه سلموا عليه، وانهزموا عنه إجلالاً له، ثم أخرج الحسن شوانيه تلك الساعة من الميناء، فأخذ من تلك الشواني أربع قطع، وهزم الباقي.
ثم وصلته نجدة من رجار الفرنجي، صاحب صقلية، في البحر، في عشرين قطعة، فحصرت شواني صاحب بجاية، فأمرهم الحسن بإطلاقها فأطلقوها، ثم وصل ميمون بن زياد في جمع كثير من العرب لنصرة الحسن، فلما رأى ذلك مطرف وأن النجدات تأتي الحسن في البر والبحر، علم أنه لا طاقة له بهم، فرحل عن المهدية خائباً، وأقام رجار الفرنجي مظهراً للحسن أنه مهادنه وموافقه وهو مع ذلك يعمر الشواني ويكثر عددها.

ذكر استيلاء الفرنج على جزيرة جربة
كانت جزيرة جربة من بلاد إفريقية قد استولت في كثرة عمارتها وخيراتها، غير أن أهلها طغوا فلا يدخلون تحت طاعة السلطان، ويعرفون بالفساد وقطع الطريق، فخرج إليها جمع من الفرنج، أهل صقلية، في أسطول كثير وجم غفير، فيه من مشهوري فرسان الفرنج جماعة، فنزلوا بساحتها وأداروا المراكب بجهاتها.
واجتمع أهلها وقاتلوا قتالاً شديداً، فوقع بين الفريقين حرب شديد، فثبت أهل جربة، فقتل منهم بشر كثير، فانهزموا وملك الفرنج الجزيرة، وغنموا أموالها وسبوا نساءها وأطفالها، وهلك أكثر رجالها، ومن بقي منهم أخذوا لأنفسهم أماناً من رجار ملك صقلية، وافتكوا أسراهم وسبيهم وحريمهم، والله أعلم بذلك.
ذكر ملك الفرنج حصن روطة من بلاد الأندلسفي هذه السنة اصطلح المستنصر بالله بن هود والسليطين الفرنجي صاحب طليطلة من بلاد الأندلس مدة عشر سنين. وكان السليطين قد أدمن غزو بلاد المستنصر وقتاله، حتى ضعف المستنصر عن مقاومته لقلة جنوده وكثرة الفرنج، فرأى أن يصالحه مدة يستريح فيها هو وجنوده، ويعتدون للمعاودة، فترددت الرسل بينهم، فاستقر الصلح على أن يسلم المستنصر إلى السليطين حصن روطة من الأندلس، وهو من أمنع الحصون وأعظمها، فاستقرت القاعدة واصطلحوا وتسلم منه الفرنج الحصن، وفعل المستنصر فعلة لم يفعلها قبله أحد.
ذكر حصر ابن ردمير مدينة أفراغة وهزيمته وموتهوفي هذه السنة حصر ابن ردمير الفرنجي مدينة أفراغة من شرق الأندلس، وكان الأمير يوسف بن تاشفين بن علي بن يوسف بمدينة قرطبة، فجهز الزبير بن عمرو اللمتوني والي قرطبة ومعه ألفا فارس وسير معه ميرة كثيرة إلى أفراغة.
وكان يحيى بن غانية، الأمير المشهور، أمير مرسية وبلنسية من شرق الأندلس ووالي أمرها لأمير المسلمين علي بن يوسف، فتجهز في خمس مائة فارس، وكان عبد الله بن عياض صاحب مدينة لاردة، فتجهز في مائتي فارس، فاجتمعوا وحملوا الميرة وساروا حتى أشرفوا على مدينة أفراغة، وجعل الزبير الميرة أمامه وابن غانية أمام الميرة، وابن عياض أمام غانية، وكان شجاعاً بطلاً وكذلك جميع من معه.
وكان ابن ردمير في اثني عشر ألف فارس، فاحتقر جميع الواصلين من المسلمين، فقال لأصحابه: اخرجوا وخذوا هذه الهدية التي أرسلها المسلمون إليكم، وأدركه العجب، ونفذ قطعة كبيرة من جيشه. فلما قربوا من المسلمين حمل عليهم ابن عياض وكسرهم، ورد بعضهم على بعض، وقتل فيهم، والتحم القتال، وجاء ابن ردمير بنفسه وعساكره جميعها مدلين بكثرتهم وشجاعتهم، فحمل ابن غانية وابن عياض في صدورهم واستحر الأمر بينهم وعظم القتال فكثر القتل في الفرنج، وخرج في الحال أهل أفراغة ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، إلى خيام الفرنج، فاشتتغل الرجال بقتل من وجدوا في المخيم، واشتغل النساء بالنهب، فحمل جميع ما في المخيم إلى المدينة من قوت وعدد وآلات وسلاح وغير ذلك.
وبينما المسلمون والفرنج في القتال إذ وصل إليهم الزبير في عسكره فانهزم ابن ردمير وولى هارباً واستولى القتل على جميع عسكره فلم يسلم منهم إلا القليل، ولحق ابن ردمير بمدينة سرقسطة، فلما رأى ما قتل من أصحابه مات مفجوعاً بعد عشرين يوماً من الهزيمة، وكان أشد ملوك الفرنج بأساً، وأكثرهم تجرداً لحرب المسلمين، وأعظمهم صبراً، كان ينام على طارقته بغير وطاء، وقيل له: هلا تسريت من بنات أكابر المسلمين اللاتي سبيت؟ فقال: الرجل المحارب ينبغي أن يعاشر الرجال لا النساء، وأراح الله منه وكفى المسلمين شره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شوال، زلزت الأرض بالعراق والموصل وبلاد الجبل وغيرها، وكانت الزلزلة شديدة، وهلك فيها كثير من الناس، والله أعلم.
المجلد السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة
الحرب بين عسكر الراشد و عسكر السلطان مسعود

في المحرم من هذه السنة وصل يرنقش الزكوي من عند السلطان مسعود يطالب الخليفة بما كان قد استقر على المسترشد من المال، وهو أربعمائة ألف دينار، فذكر أنه لا شيء عنده، وأن المال جميعه كان مع المسترشد بالله، فنهب في الهزيمة المذكورة. ثم بلغ الراشد بالله أن يرنقش يريد الهجوم على دار الخلافة وتفتيشها لأخذ المال، فجمع العساكر لمنع داره، وأمر عليهم كج أبه، وأعاد عمارة السور.
فلما علم يرنقش بذلك اتفق هو و بك أبه شحنة بغداد، وهو من أمراء السلطان، على أن يهجموا على دار الخليفة يوم الجمعة، فبلغ ذلك الراشد بالله فاستعد لمنعهم، وركب يرنقش ومعه العسر السلطاني والأمراء البكجية، و محمد بن عكر، في نحو خمسة آلاف فارس، ولقيهم عسكر الخليفة و متقدمهم كج أبه واقتتلوا قتالاً شديداً، وساعد العامة عسكر الخليفة على قتال العسكر السلطاني حتى أخرجهم إلى دار السلطان، فلما جنهم الليل ساروا إلى طريق خراسان، ثم انحدر بك أبه إلى واسط، وسار يرنقش إلى البندنيجين، ونهب أهل بغداد دار السلطان.
ذكر اجتماع أصحاب الأطراف على حرب مسعود ببغداد وخروجهم عن طاعتهفي هذه السنة اجتمع كثير من الأمراء وأصحاب الأطراف على الخروج عن طاعة السلطان مسعود، فسار الملك داود ابن السلطان محمود في عسكر أذربيجان إلى بغداد، فوصلها رابع صفر، ونزل بدار السلطان، ووصل أتابك عماد الدين زنكي بعده من الموصل؛ ووصل يرنقش بازدار صاحب قزوين وغيرها، والبقش الكبير صاحب أصفهان، وصدقة بن دبيس صاحب الحلة، ومعه عنتر بن أبي العسكر الجاواني يدبره، ويتمم نقص صباه، وابن برسق، وابن الأحمديلي، وخرج إليهم من عسكر بغداد كج أبه والطرنطاوي وغيرهما، وجعل الملك داود في شحنكية بغداد يرنقش بازدار، و قبض الخليفة الراشد بالله على ناصح الدولة أبي عبد الله الحسن بن جهير أستاذ الدار، وهو كان السبب في ولايته، وعلى جمال الدولة إقبال المسترشدي، وكان قد قدم إليه من تكريت، وعلى غيرهما من أعيان دولته، فتغيرت نيات أصحابه عليه وخافوه.
فأما جمال الدولة فإن أتابك زنكي شفع فيه شفاعة تحتها إلزام، فأطلق وصار إليه ونزل عنده.
وخرج موكب الخليفة مع وزيره جلال الدين أبي الرضى بن صدقة إلى عماد الدين لتهنئته بالقدوم، فأقام الوزير عنده وسأله أن يمنعه من الخليفة، فأجابه إلى ذلك، وعاد الموكب بغير وزير، وأرسل زنكي من حرس دار الوزير من النهب، ثم أصلح حاله مع الخليفة، وأعاده إلى وزارته.
وكذلك أيضاً عبر عليه قاضي القضاة الزينبي، وسار معه إلى الموصل، ثم إن الخليفة جد في عمارة السور، فأرسل الملك داود من قلع أبوابه وأخرب قطعة منه، فانزعج الناس ببغداد، ونقلوا أموالهم إلى دار الخلافة، وقطعت خطبة السلطان مسعود، وخطب للملك داود وجرت الأيمان بين الخليفة والملك داود وعماد الدين زنكي، وأرسل الخليفة إلى أتابك زنكي ثلاثين ألف دينار لينفقها.
ووصل الملك سلجوقشاه إلى واسط فدخلها وقبض على الأمير بك أبه ونهب ماله وانحدر أتابك زنكي إليه لدفعه عنها واصطلحا وعاد زنكي إلى بغداد وعبر إلى طريق خراسان، وحث على جمع العساكر للقاء السلطان مسعود.
وسار الملك داود نحو خراسان أيضاً، فنهب العسكر البلاد وأفسدوا، ووصلت الأخبار بمسير السلطان إلى بغداد لقتال الملك، وفارق الملك داود وأتابك زنكي، فعاد أتابك زنكي إلى بغداد، وفارق الملك داود، وأظهر له أن يمضي إلى مراغة إذ فارق السلطان مسعود إلى همذان، فبرز الراشد بالله إلى ظاهر بغداد أول رمضان، وسار إلى طريق خراسان، ثم عاد بعد ثلاثة أيام ونزل عند جامع السلطان، ثم دخل إلى بغداد خامس رمضان، وأرسل إلى داود وسائر الأمراء يأمرهم بالعود إلى بغداد، فعادوا، ونزلوا في الخيام، وعزموا على قتال السلطان مسعود من داخل سور بغداد.
ووصلت رسل السلطان مسعود يبذل من نفسه الطاعة والموافقة للخليفة والتهديد لمن اجتمع عنده، فعرض الخليفة الرسالة عليهم، فكلهم رأى قتاله، فقال الخليفة: وأنا معكم على ذلك.
ذكر ملك شهاب الدين ملك حمص

في هذه السنة، في الثاني والعشرين من ربيع الأول، تسلم شهاب الدين محمود، صاحب دمشق، مدينة حمص وقلعتها. وسبب ذلك أن أصحابها أولاد الأمير خيرخان بن قراجا، والوالي بها من قبلهم، ضجروا من كثرة تعرض عسكر عماد الدين زنكي إليها وإلى أعمالها، وتضييقهم على من بها من جندي وعامي، فراسلوا شهاب الدين في أن يسلموها إليه، ويعطيهم عوضاً عنها تدمر، فأجابهم إلى ذلك، وسار إليها وتسلمها منهم في التاريخ المذكور، وسلم إليهم تدمر، وأقطع حمص مملوك جده معين الدين أنر، وجعل فيها نائباً عنه ممن يثق به من أعيان أصحابه وعاد عنها إلى دمشق.
فلما رأى عسكر زنكي الذين بحلب وحماة خروج حمص عن أيديهم تابعوا الغارات إلى بلدها والنهب له، والاستيلاء على كثير منه، فجرى بينهم عدة وقائع، وأرسل شهاب الدين إلى زنكي في المعنى واستقر الصلح بينهم، وكف كل منهم عن صاحبه.
ذكر الفتنة بدمشقفي هذه السنة وقعت الفتنة بدمشق بين صاحبها والجند. وسبب ذلك أن الحاجب يوسف بن فيروز كان أكبر حاجب عند أبيه وجده، ثم إنه خاف أخاه شمس الملوك، وهرب منه إلى تدمر، فلما كانت هذه السنة سأل أن يحضر إلى دمشق، وكان يخاف جماعة المماليك لأنه كان أساء إليهم وعاملهم أقبح معاملة، فكلهم عليه حنق، ولا سيما في الحادثة التي خرج فيها شمس الملوك، وقد تقدمت، فإنه أشار بقتل جماعه أبرياء وبقتل سونج بن تاج الملوك، فصاروا كلهم أعداء مبغضين.
فلما طلب الآن الحضور إلى دمشق أجيب إلى ذلك، فأنكر جماعة الأمراء والمماليك قربه وخافوه أن يفعل بهم مثل فعله الأول، فلم يزل يتوصل معهم حتى حلف لهم واستحلفهم وشرط على نفسه أنه لا يتولى من الأمور شيئاً.
ثم إنه جعل يدخل نفسه في كثير من الأمور، فأتفق أعدائه على قتله، فبينما هو يسير مع شمس الملوك في الميدان وإلى جانبه أمير اسمه بزاوش يحادثه، إذ ضربه بزاوش بالسيف فقتله، فحمل ودفن عند تربة والده بالعقيبة ثم إن بزاوش والمماليك خافوا شمس الملوك، فلم يدخلوا البلد، ونزلوا بظاهره، وأرسلوا يطلبون قواعد استطالوا فيها، فأجابهم إلى البعض، فلم يقبلوا منه؛ ثم ساروا إلى بعلبك، وبها شمس الدولة محمد بن تاج الملوك صاحبها، فصروا معه، فالتحق بهم كثير من التركمان وغيرهم، وشرعوا في العيث والفساد، واقتضت الحال مراسلتهم وملاطفتهم وإجابتهم إلى ما طلبوا، واستقرت الحال على ذلك، وحلف كل منهم لصاحبه. فعادوا إلى ظاهر دمشق وليدخلوا البلد.
وخرج شهاب الدين، صاحب دمشق، إليهم واجتمع بهم وتجددت الأيمان، وصار بزاوش مقدم العسكر وإليه الحل والعقد، وذلك في شعبان، وزال الخلف، ودخلوا البلد والله أعلم.
ذكر غزاة العسكر الأتابكي لبلاد الأفرنجفي هذه السنة، في شعبان، اجتمعت عسكر أتابك زنكي، صاحب حلب وحماة، مع الأمير أسوار نائبه بحلب، وقصدوا بلد الفرنج على حين غفلة منهم، وقصدوا أعمال اللاذقية بغتة، ولم يتمكن أهلها من الانتقال عنها والاحتراز، فنهبوا منها ما يزيد عن الوصف، وقتلوا وأسروا وفعلوا في بلد الفرنج ما لم يفعله غيرهم.
وكان الأسرى سبعة آلاف أسير ما بين رجل وامرأة وصبي، ومائة ألف رأس من الدواب ما بين فرس وبغل وحمار وبقر وغنم، وأما ما سوى ذلك من الأقمشة والعين والحلي فيخرج عن الحد،و أخربوا بلد اللاذقية وما جاورها ولم يسلم منها إلا القليل، وخرجوا إلى شيزر بما معهم من الغنائم سالمين،منتصف رجب، فامتلأ الشام من الأسارى والدواب، وفرح المسلمون فرحاً عظيمًا، ولم يقدر الفرنج على شيء يفعلونه مقابل هذه الحادثة، عجزاً ووهناً.
ذكر وصول السلطان مسعود إلى العراق

وتفرق أصحاب الأطراف ومسير الراشد بالله إلى الموصل وخلعه
لما بلغ السلطان مسعوداً اجتماع الأمراء والملوك، ببغداد، على خلافه، والخطبة للملك داود ابن أخيه السلطان محمود، جمع العساكر وسار إلى بغداد، فنزل بالمالكية، فسار بعض العسكر حتى شارفوا عسكره وطاردهم، وكان في الجماعة زين الدين علي أمير من أمراء أثابك زنكي، ثم عادوا، ووصل السلطان فنزل على بغداد وحصرها وجميع العساكر فيها.

وثار العيارون ببغداد وسائر محالها،وأفسدوا ونهبوا، وقتلوا حتى إنه وصل صاحب لأتابك زنكي ومعه كتب، فخرجوا عليه وأخذوها منه وقتلوه، فحضر جماعة من أهل المحال عند الأتابك زنكي، وأشاروا عليه بنهب المحال الغربية، فليس فيها غير عيار ومفسد، فامتنع من ذلك، ثم أرسل بنهب الحريم الطاهري فأخذ منه من الأموال الشيء الكثير؛ وسبب ذلك أن العيارين كثروا فيه وأخذوا أموال الناس. ونهبت العساكر غير الحريم من المحال، وحصرهم السلطان نيفاً وخمسين يوماً فلم يظفر بهم، فعاد إلى النهروان عازماً على العود إلى همذان، فوصله طرنطاي صاحب واسط ومعه سفن كثيرة، فعاد إليها وعبر فيها إلى غربي دجلة، وأراد العسكر البغدادي منعه فسبقهم إلى العبور، واختلفت كلمتهم، فعاد الملك داود إلى بلاده في ذي القعدة وتفرق الأمراء.
وكان عماد الدين زنكي بالجانب الغربي فعبر إليه الخليفة الراشد بالله وسار معه إلى الموصل في نفر يسير من أصحابه، فلما سمع السلطان مسعود بمفارقة الخليفة وزنكي بغداد سار إليها واستقر بها، ومنع أصحابه من الأذى والنهب. وكان وصوله منتصف ذي القعدة، فسكن الناس واطمأنوا بعد الخوف الشديد، وأمر فجمع القضاة والشهود والفقهاء وعرض عليهم اليمين التي حلف بها الراشد بالله لمسعود وفيها بخط يده: إني متى جندت أو خرجت أو لقيت أحداً من أصحاب السلطان بالسيف، فقد خلعت نفسي من الأمر؛ فأفتوا بخروجه من الخلافة، وقيل غير ذلك وسنذكره في خلافة المقتفي لأمر الله.
وكان الوزير شرف الدين علي بن طراد وصاحب المخزن كمال الدين بن البقشلامي وابن الأنباري قد حضروا مع السلطان لأنهم كانوا عنده مذ أسرهم مع المسترشد بالله، فقدحوا في الراشد ووافقهم على ذلك جميع أصحاب المناصب ببغداد، إلا اليسير، لأنهم كانوا يخافونه، وكان قد قبض بعضهم وصادر بعضاً، واتفقوا على ذمه، فتقدم السلطان بخلعه وإقامة من يصلح للخلافة، فخلع وقطعت خطبته في بغداد في ذي القعدة وسائر البلاد. وكانت خلافته أحد عشر شهراً وأحد عشر يوماً، وقتله الباطنيه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر خلافة المقتفي لأمر اللهلما قطعت خطبة الراشد بالله استشار السلطان جماعة من أعيان بغداد منهم الوزير علي بن طراد، وصاحب المخزن، وغيرهما، فيمن يصلح أن يلي الخلافة. فقال الوزير: أحد عمومة الراشد، وهو رجل صالح. قال. من هو ؟ قال: لا أقدر أن أفصح باسمه لئلا يقتل، فتقدم إليهم بعمل محضر في خلع الراشد، فعملوا محضراً ذكروا فيه ما ارتكبه من أخذ الأموال وأشياء تقدح في الإمامة ثم كتبوا فتوى: ما يقول العلماء فيمن هذه صفته، هل يصلح للإمامة أم لا؟ فأفتوا أن من هذه صفته لا يصلح أن يكون إماماً. فلما فرغوا من ذلك أحضروا القاضي أبا طاهر بن الكرخي، فشهدوا عنده بذلك، فحكم بفسقه وخلعه، وحكم بعده غيره، ولم يكن قاضي القضاة حاضراً ليحكم فإنه كان عند أتابك زنكي بالموصل.
ثم إن شرف الدين الوزير ذكر للسلطان أبا عبد الله الحسين، وقيل محمد ابن المستظهر بالله، ودينه، وعقله، وعفته، ولين جانبه، فحضر السلطان دار الخلافة ومعه الوزير شرف الدين الزينبي، وصاحب المخزن ابن البقشلاني وغيرهما، وأمر بإحضار الأمير أبي عبد الله بن المستظهر من المكان الذي يسكن فيه، فأحضر وأجلس في المثمنة، ودخل السلطان إليه والوزير شرف الدين وتحالفا، وقرر الوزير القواعد بينهما، وخرج السلطان من عنده وحضر الأمراء وأرباب المناصب والقضاة والفقهاء وبايعوا ثامن عشر ذي الحجة ولقب المقتفي لأمر الله.
قيل سبب اللقب أنه رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يلي الخلافة بستة أيام، وهو يقول له: إن هذا الأمر يصير إليك، فاقتف بي؛ فلقب بذلك. ولما استخلف سيرت الكتب الحكيمة بخلافته إلى سائر الأمصار واستوزر شرف الدين علي بن طراد الزينبي فأرسل إلى الموصل، وأحضر قاضي القضاة أبا القاسم علي بن الحسين الزينبي عم الوزير، وأعاده إلى منصبه، وقرر كمال الدين حمزة بن طلحة على منصبه صاحب المخزن، وجرت الأمور على أحسن نظام.

وبلغني أن السلطان مسعوداً أرسل إلى الخليفة المقتفي لأمر الله في تقرير إقطاع يكون لخاصته، فكان جوابه: إن في الدار ثمانين بغلاً تنقل الماء من دجلة، فلينظر السلطان ما يحتاج إليه من يشرب هذا الماء ويقوم به؛ فتقررت القاعدة على أن يجعل له ما كان للمستظهر بالله، فأجاب إلى ذلك.
وقال السلطان لما بلغه قوله: لقد جعلنا في الخلافة رجلاً عظيماً نسأل.
والمقتفي عم الراشد هو والمسترشد ابنا المستظهر، وليا الخلافة، وكذلك السفاح والمنصور أخوان، وكذلك المهدي والرشيد أخوان، وكذلك الواثق والمتوكل أخوان، وأما ثلاثة أخوة ولوا الخلافة فلأمين والمأمون والمعتصم أولاد الرشيد، والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المعتضد، والراضي والمتقي والمطيع بنو المقتدر، وأما أربعة إخوة ولوها فالوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك بن مروان لا يعرف غيرهم.
وحين استقرت الخلافة للمقتفي أرسل إليه الراشد بالله رسولاً من الموصل مع أتابك زنكي، فأما رسول الراشد فلم تسمع رسالته، وأما أتابك زنكي فكان كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري، فأحضر في الديوان وسمعت رسالته، وحكى لي والدي عنه قال: لما حضرت الديوان قيل لي: تبايع أمير المؤمنين ؟ فقلت: أمير المؤمنين عندنا في الموصل وله في أعناق الخلق بيعة متقدمة. وطال الكلام وعدت إلى منزلي.
فلما كان الليل جاءتني امرأة عجوز سراً، واجتمعت بي وأبلغتني رسالة عن المقتفي لأمر الله مضمونها عتابي على ما قلته واستنزالي عنه. فقلت: غداً أخدم خدمة يظهر أثرها.
فلما كان الغد أحضرت الديوان وقيل لي في معنى البيعة، فقلت: أنا رجل فقيه قاض، ولا يجوز لي أن أبايع إلا بعد أن يثبت عندي خلع المتقدم. فأحضروا الشهود وشهدوا عندي في الديوان بما أوجب خلعه، فقلت: هذا ثابت لا كلام فيه، ولكن لا بد لنا في هذه الدعوة من نصيب، لأن أمير المؤمنين قد حصل له خلافة الله في أرضه، والسلطان، فقد استراح ممن كان يقصده، ونحن بأي شيء نعود ؟ فرفع الأمر إلى الخليفة، فأمر أن يعطى أتابك زنكي صريفين ودرب هرون وحربي ملكاً، وهي من خاص الخليفة ويزاد في ألقابه، وقال: هذه قاعدة لم يسمح بها لأحد من زعماء الأطراف أن يكون لهم نصيب في خاص الخليفة.
فبايعت وعدت مقضي الحوائج قد حصل لي جملة صالحة من المال والتحف. وكانت بيعة وخطب للمقتفي في الموصل في رجب سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، ولما عاد كمال الدين بن الشهرزوري سير على يده المحضر الذي عمل بخلع الراشد، فحكم به قاضي القضاة الزينبي بالموصل، وكان عند أتابك زنكي.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل السلطان مسعود وزيره شرف الدين أنو شروان بن خالد وعاد إلى بغداد، وأقام بداره معزولاً، ووزر بعده كمال الدين أبو البركات ابن سلمة الدركزيني وهو من خراسان.
وفيها ثار العيارون ببغداد عند اجتماع العساكر بها، وقتلوا في البلد ونهبوا الأموال ظاهراً وكثر الشر، فقصد الشحنة شارع دار الرقيق، وطلب العيارين، فثار عليه أهل المحال الغربية فقاتلهم، وأحرق الشارع، فاحترق فيه خلق كثير، ونقل الناس أموالهم إلى الحريم الطاهري، فدخله الشحنة، ونهب منه مالاً كثيراً.
ثم وقعت فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج وبين أهل المأمونية، وقتل بينهم جماعة ثم اصطلحوا.
وفيها ثار قراسنقر في عساكر كثيرة في طلب الملك داود ابن السلطان محمود، فأقام السلطان مسعود ببغداد، ولم يزل قراسنقر يطلب داود حتى أدركه عند مراغة، فالتقيا وتصافا واقتتل العسكران قتالاً عظيماً، فانهزم داود وأقام قراسنقر بأذربيجان، وأما داود فإنه قصد خوزستان فاجتمع عليه هناك عساكر كثيرة من التركمان وغيرهم وبلغت عدتهم نحو عشرة آلاف فارس، فقصد تستر وحاصرها، وكان عمه الملك سلجوقشاه ابن السلطان محمد بواسط، فأرسل إلى أخيه السلطان مسعود يستنجده، فأمده بالعساكر، فسار إلى داود وهو يحاصر تستر، فتصافا، فانهزم سلجوقشاه.
وفيها توفي محمد بن حموية أبو عبد الله الجويني، وهو من مشايخ الصوفية المشهورين، وله كرامات كثيرة ورواية الحديث.
وتوفي أيضاً محمد بن عبد الله بن أحمد بن حبيب العامري الصوفي مصنف شرح الشهاب وأنشد لما حضره الموت:
ها قد مددت يدي إليك فردها ... بالفضل لا بشماتة الأعداء

وتوفي أيضاً أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الفراوي الصاعدي راوي صحيح مسلم عن عبد الغافر الفارسي، وطريقه اليوم أعلى الطرق، وإليه المرحلة من الشرق والغرب، وكان فقيهاً مناظراً ظريفاً يخدم الغرباء بنفسه، وكان يقال: الفراوي ألف راو، رحمه الله ورضي عنه.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة

ذكر تفرق العساكر عن السلطان مسعود
في هذه السنة، في المحرم، أذن السلطان مسعود للعساكر التي عنده ببغداد بالعود إلى بلادهم، لما بلغه أن الراشد بالله قد فارق أتابك زنكي من الموصل، فإنه كان يتمسك بالعساكر عنده خوفاً أن ينحدر به إلى العراق فيملكه عليه، فلما أراد أن يأذن للأمير صدقة بن دبيس،صاحب الحلة، زوجه أبنته تمسكاً به.
وقدم على السلطان مسعود جماعة من الأمراء اللذين حاربوه مع الملك داود منهم البقش السلاحي وبرسق ابن برسق صاحب تستر، وسنقر الخمارتكين شحنة همذان،فرضي عنهم، وأمنهم، وولي البقش شحنكية بغداد،فعسف الناس وظلمهم.
وكان السلطان مسعود بعد تفرق العساكر عنه قد بقي معه ألف فارس. وتزوج الخليفة فاطمة خاتون أخت السلطان مسعود في رجب، والصداق مائة ألف دينار، وكان الوكيل في قبول النكاح وزير الخليفة علي بن طراد الزينبي، والوكيل عن السلطان وزيره الكمال الدركزيني ووثق السلطان حيث صار الخليفة وصدقة بن دبيس بن صدقة صهريه، وحيث سار الراشد بالله من عند زنكي الأتابك، و الله أعلم.
ذكر عزل بهرام عن وزارة الحافظ
ووزارة رضوان
في هذه السنة في جمادى الأولى، هرب تاج الدولة بهرام وزير الحافظ لدين الله العلوي صاحب مصر، وكان قد استوزره بعد قتل أبنه حسن سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وكان نصرانياً أرمنياً فتمكن في البلاد واستعمل الأرمن وعزل المسلمين، وأساء السرة فيهم وأهانهم هو والأرمن الذين ولاهم وطمعوا فيهم، فلم يكن في أهل مصر من أنف ذلك إلا رضوان بن الريحيني،فإنه لما ساءه ذلك وأقلقه جمع جمعاً كثيراً وقصد القاهرة، فسمع به بهرام،فهرب إلى الصعيد من غير حرب ولا قتال، وقصد مدينة أسوان فمنعه واليها من الدخول إليها وقاتله فقتل السودان من الأرمن كثيراً، فلما لم يقدر على الدخول إلى أسوان أرسل إلى الحافظ يطلب الأمان، فأمنه، فعاد إلى القاهرة، فسجن بالقصر، فبقي مدة، ثم ترهب وخرج من الحبس.
وأما رضوان فإنه وزر للحافظ ولقب بالملك الأفضل، وهو أول وزير للمصريين لقب بالملك، ثم فسد ما بينه وبين الحافظ فعمل الحافظ في إخراجه، فثار الناس عليه منتصف شوال سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وهرب من داره وتركها بما فيها، فنهب الناس منها ما لا يحد ولا يحصى، وركب الحافظ فسكن الناس، ونقل ما بقي في دار رضوان إلى قصره.
وأما رضوان فإنه سار يريد الشام يستنجد الأتراك ويستنصرهم، فأرسل إليه الحافظ الأمير ابن مصال ليرده بالعهد والأمان أنه لا يؤذيه، فرجع إلى القاهرة، فحبسه الحافظ عنده في القصر، وقيل إنه توجه إلى الشام، وهو الصحيح، وقصد صرخد فوصل إليها في ذي القعدة ونزل على صاحبها أمين الدولة كمشتكين، فأكرمه وعظمه، وأقام عنده.
ثم عاد إلى مصر سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، ومعه عسكر، فقاتل المصريين عند باب النصر وهزمهم، وقتل منهم جماعة كثيرة، وأقام ثلاثة أيام، فتفرق عنه كثير ممن معه، فعزم على العود إلى الشام، فأرسل إليه الحافظ الأمير ابن مصال،فرده وحبسه عنده في القصر، وجمع بينه وبين عياله، فأقام في القصر إلى سنة ثلاث وأربعين، فنقب الحبس وخرج منه،وقد أعدت له خيل، فهرب عليها، وعبر النيل إلى الجيزة فحشد وجمع المغاربة وغيرهم، وعاد إلى القاهرة، فقاتل المصريين عند جامع ابن طولون وهزمهم، ودخل إلى القاهرة فنزل عند جامع الأقمر، فأرسل إليه الحافظ عشرين ألف دينار، فقسمها، وكثر عليه الناس، وطلب زيادة، فأرسل إليه عشرين ألف دينار أخرى، ففرقها، فتفرق الناس عنه وخفوا عنده، فإذا الصوت قد وقع، وخرج إليه جمع كثير من السودان وضعهم الحافظ عليه، فحملوا على غلمانه فقاتلوهم، فقام يركب، فقدم إليه بعض أصحابه فرساً ليركبه، فلما أراد ركوبه ضرب الرجل رأسه بالسيف فقتله، وحمل رأسه إلى الحافظ، فأرسله إلى زوجته، فوضع في حجرها، فألقته وقالت: هكذا يكون الرجال، ولم يستوزر الحافظ بعده أحداً، وباشر الأمور بنفسه إلى أن مات.

ذكر فتح المسلمين حصن وادي ابن الأحمر من الفرنج
وفي هذه السنة، فيرجب، سار عسكر دمشق مع مقدمهم الأمير بزاوش إلى طرابلس الشام، فاجتمع معه من الغزاة المتطوعة والتركمان أيضاً خلق كثير، فلما سمع القمص صاحبها بقربهم من ولايته سار إليهم في جموعه وحشوده، فقاتلهم وانهزم الفرنج وعادوا إلى طرابلس على صورة سيئة قد قتل كثير من فرسانهم وشجعانهم فنهب المسلمون من أعمالهم الكثير وحصروا حصن وادي ابن الأحمر فملكوه عنوة ونهبوا ما فيه، وقتلوا المقاتلة، وسبوا الحريم والذرية، وأسروا الرجال فاشتروا أنفسهم بمال جليل، وعادوا إلى دمشق سالمين، والله أعلم.
ذكر حصار زنكي مدينة حمصفي هذه السنة، في شعبان، سار أتابك زنكي إلى مدينة حمص وقدم إليها صلاح الدين محمد الياغيسياني، وهو أكبر أمير معه، وكان ذا مكر وحيل، أ رسله ليتوصل مع من فيها ليسلموها إليه فوصل إليها وفيها معين الدين أنز، وهو الوالي عليها والحاكم فيها، وهو أيضاً أكبر أمير بدمشق وحمص أقطاعة كما سبق ذكره، فلم ينفذ فيه مكره، فوصل حينئذ زنكي إليها وحصرها وعاود مراسلة أنز في التسليم غير مرة، تارة بالوعد وتارة بالوعيد، واحتج بأنها ملك صاحبه شهاب الدين وأنها أمانة ولا يسلمها إلا عن غلبة فأقام عليها إلى العشرين من شوال ورحل عنها من غير بلوغ غرض إلى بعرين فحصرها، وكان منه ومن الفرنج ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك زنكي قلعة بعرين وهزيمة الفرنجوفي هذه السنة من شوال، سار أتابك زنكي من الموصل إلى الشام وحصر قلعة بعرين، وهي تقارب مدينة حماة، وهي من أمنع معاقل الفرنج وأحصنها، فلما نزل عليها قاتلها، وزحف إليها، فجمع الفرنج فارسهم وراجلهم، وساروا في قضهم وقضيضهم، وملوكهم وقمامصتهم وكنودهم، إلى أتابك ليرحلوه عن بعرين، فلم يرحل وصبر لهم إلى أن وصلوا إليه، فلقيهم وقاتلهم أشد قتال رآه الناس، وصبر الفريقان ثم أجلت الوقعة عن هزيمة الفرنج، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب، واحتمى ملوكهم وفرسانهم بحصن بعرين لقربه منهم، فحصرهم زنكي فيه ومنع عنهم كل شيء حتى الأخبار فكان من به منهم لا يعلم شيئاً من أخبار بلادهم لشدة ضبط الطرق وهيبته على جنده.
ثم إن القسوس والرهبان دخلوا بلاد الروم وبلاد الفرنج وما والاها مستنفرين على المسلمين، وأعلموهم أن زنكي أخذ قلعة بعرين ومن فيها من الفرنج ملك جميع بلادهم فبأسرع وقت، وأن المسلمين ليس لهم همة إلا قصد البيت المقدس، فحينئذ اجتمعت النصرانية وساروا على الصعب والذلول، وقصدوا الشام، وكان منهم ما نذكره.
وأما زنكي فإنه جد في قتال الفرنج، فصبروا وقلت عليهم الذخيرة، فإنهم كانوا غير مستعدين، ولم يكونوا يعتقدون أن أحداً يقدم عليهم بل كانوا يتوقعون ملك باقي الشام، فلما قلت الذخيرة أكلوا دوابهم، وأذعنوا بالتسليم ليؤمنهم، ويتركهم يعودون إلى بلادهم، فلم يجبهم إلى ذلك، فلما سمع باجتماع من بقي من الفرنج ووصول من قرب إليهم أعطى لمن في الحصن الأمان، وقرر عليهم خمسين ألف دينار يحملونها إليه، فأجابوه إلى ذلك فأطلقهم فخرجوا وسلموا إليه، فلما فارقوه بلغهم اجتماع من اجتمع بسببهم، فندموا على التسليم حيث لا ينفعهم الندم، وكان لا يصلهم شيء من الأخبار البتة، فلهذا سلموا.
وكان زنكي في مدة مقامه عليهم قد فتح المعرة وكفر طاب من الفرنج فكان أهلها وأهل سائر الولايات التي بين حلب وحماة مع أهل بعرين في الخزي لأن الحرب بينهم قائمة على ساق، والنهب والقتل لا يزال بينهم، فلما ملكها أمن الناس، وعمرت البلاد وعظم دخلها، وكان فتحاً مبيناً ومن رآه علم صحة قولي.
ومن أحسن الأعمال وأعدلها ما عمله زنكي مع أهل المعرة، فإن الفرنج لما ملكوا المعرة كانوا قد أخذوا أموالهم وأملاكهم، فلما فتحها زنكي الآن حضر من بقي من أهلها ومعهم أعقاب من هلك، وطلبوا أملاكهم، فطلب منهم كتبها، فقالوا: إن الفرنج أخذوا كل ما لنا، والكتب التي للأملاك فيها. فقال: اطلبوا دفاتر حلب وكل من عليه خراج على ملك يسلم إليه، ففعلوا ذاك، وأعاد على الناس أملاكهم، وهذا من أحسن الأفعال وأعدلها.
ذكر خروج ملك الروم من بلاده إلى الشام

قد تقدم أن الفرنج أرسلوا إلى ملك القسطنطينية يستصرخون به ويعرفونه ما فعله زنكي فيهم ويحثونه على لحاق البلاد قبل أن تملك، ولا ينفعه حينئذ المجيء، فتجهز وسار مجداً فابتدأ وركب البحر وسار إلى مدينة أنطاليا، وهي له على ساحل البحر، فأرسى فيها، وأقام ينتظر وصول المراكب التي فيها أثقاله وسلاحه، فلما وصلت سار عنها إلى مدينة نيقية وحصرها، فصالحه أهلها على مال يؤدونه إليه، وقيل: بل ملكها وسار عنها إلى مدينة أدنة ومدينة المصيصة، وهما بيد ابن ليون الأرمني، صاحب قلاع الدروب، فحصرهما وملكهما.
ورحل إلى عين زربة فملكها عنوة، وملك تل حمدون، وحمل أهله إلى جزيرة قبرس، وعبر ميناء الإسكندرونة ثم خرج إلى الشام فحصر مدينة أنطاكية في ذي القعدة، وضيق على أهلها، وبها صاحبها الفرنجي ريمند، فترددت الرسل بينهما، فتصالحا ورحل عنها إلى بغراص، ودخل منها بلد ابن ليون الأرمني، فبذل له ابن ليون أموالاً كثيرة ودخل في طاعته، والله أعلم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، وفي الرابع والعشرين من أيار، ظهر بالشام سحاب أسود أظلمت له الدنيا، وصار الجو كالليل الظلم، ثم طلع بعد ذلك سحاب أحمر كأنه نار أضاءت له الدنيا، وهبت ريح عاصف ألقت كثيراً من الشجر، وكان أشد ذلك بحوران ودمشق، وجاء بعده مطر شديد وبرد كبار وفيها عاد مؤيد الدين أبو الفوارس المسيب بن علي بن الحسين المعروف بابن الصوفي من صرخد إلى دمشق. وكان قد أخرج هو وأهله من دمشق إلى صرخد، فبقوا فيها إلى الآن، وعادوا، وولي أبو الفوارس الرئاسة بدمشق، وكان محبوباً عند أهلها، وتمكن تمكناً عظيماً، وكان ذا رئاسة عظيمة ومروءة ظاهرة.
وفيها كثرت الأمراض ببغداد وكثر الموت فجأة بأصفهان وهمذان.
وفيها سار أتابك زنكي إلى دقوقا فحصرها وملكها بعد أن قاتل على قلعتها قتالاً شديداً.
وفيها توفي أبو سعيد أحمد بن محمد بن ثابت الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان، وتفقه على والده، ودرس بالنظامية بأصفهان.
وتوفي هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري، ومولده يوم عاشوراء سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وهو أخر من روى عن أبي الحسن زوج الحرة. وقد روى الخطيب أبو بكر بن ثابت عن زوج الحرة أيضاً، وكانت وفاة الخطيب سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة

ذكر ملك أتابك زنكي حمص
وغيرها من أعمال دمشق
وفي هذه السنة، في المحرم، وصل أتابك إلى حماة وسار منها إلى بقاع بعلبك، فملك حصن المجدل، وكان لصاحب دمشق، وراسله مستحفظ بانياس وأطاعه، وهو أيضاً لصاحب دمشق، وسار إلى حمص فحصرها، وأدام قتالها، فلما نازل ملك الروم حلب رحل عنها إلى سلمية، فلما انجلت حادثة الروم، على ما ذكرناه، عاود منازلة حمص، وأرسل إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمه ليتزوجها، واسمها زمرد خاتون، ابنة جاولي، وهي التي قتلت ابنها شمس الملوك، وهي التي بنت المدرسة بظاهر دمشق المطلة على وادي شقرا ونهر بردى، فتزوجها، وتسلم حمص مع قلعتها.
وحملت خاتون إليه في رمضان، وإنما حمله على التزوج بها ما رأى من تحكمها في دمشق فظن أنه يملك البلد بالاتصال بها، فلما تزوجها خاب أمله ولم يحصل على شيء فأعرض عنها.
ذكر وصول ملك الروم إلى الشام
وملكه بزاعة وما فعله بالمسلمين
قد ذكرنا سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة خروج ملك الروم من بلاده واشتغاله بالفرنج وابن ليون، فلما دخلت هذه السنة وصلت إلى الشام وخافه الناس خوفاً عظيماً، وقصد بزاعة فحصرها، وهي مدينة لطيفة على ستة فراسخ من حلب، فمضى جماعة من أعيان حلب إلى أتابك زنكي وهو يحاصر حمص، فاستغاثوا به واستنصروه، فسير معهم كثيراً من العساكر، فدخلوا إلى حلب ليمنعوها من الروم إن حصروها.
ثم إن ملك الروم قاتل بزاعة، ونصب عليها منجنبقات، وضيق على من بها فملكها بالأمان في الخامس والعشرين من رجب، ثم غدر بأهلها فقتل منهم وأسر وسبى. وكان عدة من جرح فيها من أهلها خمسة آلاف وثمانمائة نفس، وتنصر قاضيها وجماعة من أعيانها نحو أربع مائة نفس.
وأقام الروم بعد ملكها عشرة أيام يتطلبون من أختفى، فقيل لهم: إن جمعاً كثيراً من أهل هذه الناحية قد نزلوا إلى المغارات، فدخنوا عليهم، وهلكوا في المغاور.

ثم رحلوا إلى حلب فنزلوا على قويق ومعهم الفرنج الذين بساحل الشام، وزحفوا إلى حلب من الغد في خيلهم ورجلهم، فخرج إليهم أحداث حلب، فقاتلوهم قتالاً شديداً، فقتل من الروم وجرح خلق كثير، وقتل بطريق جليل القدر عندهم، وعادوا خاسرين، وأقاموا ثلاثة أيام فلم يروا فيها طمعاً، فرحلوا إلى قلعة الأثارب، فخاف من فيها من المسلمين، فهربوا عنها تاسع شعبان فملكها الروم وتركوا فيها سبايا بزاعة والأسرى ومعهم جمع من الروم يحفظونهم ويحمون القلعة وساروا، فلما سمع الأمير أسوار بحلب ذلك رحل فيمن عنده من العسكر إلى الأثارب، فأوقع بمن فيها من الروم، فقتلهم، وخلص السبي والأسرى وعاد إلى حلب.
وأما عماد الدين زنكي فإنه فارق حمص وسار إلى سلمية فنازلها، وعبر ثقله الفرات إلى الرقة، وأقام جريدة ليتبع الروم ويقطع عنهم الميرة، وأما الروم فإنهم قصدوا قلعة شيزر، فإنها من أمنع الحصون، وإنما قصدوها لأنها لم تكن لزنكي، فلا يكون له في حفظها الاهتمام العظيم، وإنما كانت للأمير أبي العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، فنازلوها وحصروها، ونصبوا عليها ثمانية عشر منجنيقاً، فأرسل صاحبها إلى زنكي يستنجده، فسار إليه فنزل على نهر العاصي بالقرب منها، بينها وبين حماة، وكان يركب كل يوم ويسير إلى شيزر هو و عساكره ويقفون بحيث يراهم الروم، ويرسل السرايا فتأخذ من ظفرت به منهم.
ثم إنه أرسل إلى ملك الروم يقول له: إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال، فأنزلوا منها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم، وإن ظفرتم استرحتم وأخذتم شيزر وغيرها. ولم يكن له بهم قوة وإنما كلن يرهبهم بهذا القول وأشباهه، فأشار فرنج الشام على ملك الروم بمصافته،وهونوا أمره عليه، فلم يفعل، وقال: أتظنون أنه ليس له من العسكر إلا ما ترون ؟إنما هو يريد أن تلقوه فيجيئه من نجدات المسلمين ما لا حد له.
وكان زنكي يرسل أيضاً إلى ملك الروم يوهمه بأن فرنج الشام خائفون منه، فلو فارق مكانه لتخلوا عنه، ويرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من ملك الروم ويقول لهم :إن ملك بالشام حصناً واحداً ملك بلادكم جميعاً؛ فاستشعر كل من صاحبه، فرحل ملك الروم عنها في رمضان، وكان مقامه عليها أربعة و عشرين يوماً، وترك المجانيق و آلات الحصار بحالها، فسار أتابك زنكي يتبع ساقة العسكر، فظفر بكثير ممن تخلف منهم، وأخذ جميع ما تركوه.
ولما كان الفرنج على بزاعة أرسل زنكي القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله بن قاسم الشهرزوري إلى السلطان مسعود يستنجده، ويطلب العساكر، فمضى إلى بغداد، وانهى الحال إلى السلطان، وعرفه عاقبة الإهمال، وأنه ليس بينه و بين الروم إلا أن يملكوا حلب و ينحدروا مع الفرات إلى بغداد، فلم يجد عنده حركة، فوضع إنساناً من أصحابه، يوم جمعة، فمضى إلى جامع القصر، و معه جماعة من رنود العجم، وأمر أن يثور بهم إذا صعد الخطيب المنبر، ويصيح و يصيحوا معه: وا إسلامه، وا دين محمداه ! ويشق ثيابه، ويرمي عمامته من رأسه، ويخرج إلى دار السلطان والناس معه يستغيثون،كذلك ووضع إنساناً آخر يفعل بجامع السلطان مثله. فلما صعد الخطيب المنبر قام ذلك الرجل ولطم رأسه، وألقى عمامته وشق ثوبه، وأولئك معه، وصاحوا، فبكى الناس وتركوا الصلاة، ولعنوا السلطان، وساروا من الجامع يتبعون الشيخ إلى دار السلطان فوجدوا الناس في جامع السلطان كذلك، وأحاط الناس بدار السلطان يستغيثون ويبكون، فخاف السلطان، فقال أحضروا إلي ابن الشهرزوري، فأحضر، فقال كمال الدين :لقد خفت منه مما رأيت، فلما دخلت عليه قال لي :أي فتنة أثرت ؟فقلت ما فعلت شيئاً. أنا كنت في بيتي، وإنما الناس يغارون للدين والإسلام، ويخافون عاقبة هذا التواني، فقال: اخرج إلى الناس ففرقهم عنا واحضر غداً واختر من العسكر من تريد، ففرقت الناس وعرفتهم ما أمر به من تجهيز العساكر وحضرت من الغد إلى الديوان، فجهزوا لي طائفة عظيمة من الجيش ن فأرسلت إلى نصير الدين بالموصل أعرفه ذلك، وأخوفه من العسكر إن طرقوا البلاد، فإنهم يملكونها، فأعاد الجواب يقول: البلاد لا شك مأخوذة فلأن يأخذها المسلمون خير من أن يأخذها الكافرون.

فشرعنا في التحميل للرحيل، وإذ قد وصلني كتاب أتابك زنكي من الشام يخبر برحيل ملك الروم ويأمرني بأن لا استصحب من العسكر أحداً، فعرفت السلطان ذلك فقال: العسكر قد تجهز، ولابد من الغزاة إلى الشام، فبعد الجهد وبذل الخدمة العظيمة له ولأصحابه أعاد العسكر.
ولما عاد ملك الروم عن شيزر مدح الشعراء أتابك زنكي وأكثروا، فمن ذلك ما قاله المسلم بن خضر بن قسيم الحموي من قصيدة أولها :
بعزمك أيها الملك العظيم ... تذل لك الصعاب وتستقيم
ومنها :
ألم تر أن كلب الروم لما ... تبين أنه الملك الرحيم
فجاء يطبق الفلوات خيلاً ... كأن الجحفل الليل البهيم
وقد نزل الزمان على رضاه ... ودان لخطبه الخطب العظيم
فحين رميته بكفي خميس ... تيقن أن ذلك لا يدوم
وأبصر في المفاضة منك جيشاً ... فأحرب لا يسير ولا يقيم
كأنك في العجاج شهاب نور ... توقد وهو شيطان رجيم
أراد بقاء مهجته فولى ... وليس سوى الحمام له حميم
وهي قصيدة طويلة، ومن عجيب ما يحكى أن ملك الروم لما عزم على حصر شيزر سمع من بها ذلك، فقال الأمير مرشد بن علي أخو صاحبها وهو يفتح مصحفاً: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بمجيء ملك الروم فاقبضني إليك ! فتوفي بعد أيام.
الحرب بين السلطان مسعود والملك داود

ذكر الحرب بين السلطان مسعود والملك داود ومن معه من الأمراء
لما فارق الراشد بالله أتابك زنكي من الموصل سار نحو أذربيجان، فوصل مراغة، وكان الأمير منكبرس صاحب فارس، ونائبه بخوزستان الأمير بوزابة، والأمير عبد الرحمن طغايرك صاحب خلخال، والملك داود ابن السلطان محمود، مستشعرين من السلطان مسعود،خائفين منه،فتجمعوا ووافقوا الراشد على الاجتماع معهم لتكون أيديهم واحدة، ويردوه إلى الخلافة، فأجابهم إلى ذلك إلا أنه لم يجتمع معهم.
ووصل الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد باجتماعهم، فسار عنها في شعبان نحوهم، فالتقوا ببنجن كشت، فاقتتلوا، فهزمهم السلطان مسعود، وأخذ الأمير منكبرس أسيرا ًفقتل بين يديه صبراً، وتفرق عسكر مسعود في النهب واتباع المنهزمين.
وكان بوزابة وعبد الرحمن طغايرك على نشز من الأرض، فرأيا السلطان مسعودا ًوقد تفرق عسكره عنه، فحملا عليه وهو في قلة فلم يثبت لهما وانهزم، وقبض بوزابة على جماعة من الأمراء: منهم صدقة بن دبيس صاحب الحلة، ومنهم ولد أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان، وعنتر بن أبي العسكر وغيرهم وتركهم عنده. فلم ا بلغه قتل صاحبه منكبرس قتلهم جميعاً وصار العسكران مهزومين، وكان هذا من أعجب الاتفاق.
وقصد السلطان مسعود أذربيجان، وقصد الملك داود همذان، ووصل إليها الراشد بعد الوقعة فاختلفت آراء الجماعة، فبعضهم أشار بقصد العراق والتغلب عليه، وبعضهم أشار باتباع السلطان مسعود للفراغ منه، فإن ما بعده يهون عليهم. وكان بوزابة أكبر الجماعة فلم ير ذلك، وكان عرضه المسير إلى بلاد فارس وأخذها بعد قتل صاحبها منكبرس قبل أن يمتنع من بها عليه، فبطل عليهم ما كانوا فيه، وسار إليها فملكها، وصارت له مع خوزستان.
وسار سلجوق شاه ابن السلطان محمد إلى بغداد ليملكها، فخرج إليه البقش الشحنة بها ونظر الخادم أمير الحاج وقاتلوه ومنعوه، وكان عاجزاً مستضعفاً، ولما قتل صدقة بن دبيس أقر السلطان مسعود الحلة على أخيه محمد بن دبيس وجعل معه مهلهل بن ابي العسكر أخا عنتر المقتول يدبر أمره.
ولما كان البقش شحنة بغداد يقاتل سلجوقشاه ثار العيارون ببغداد ونهبوا الأموال، وقتلوا الرجال، وزاد أمرهم حتى كانوا يقصدون أرباب الأموال ظاهراً، ويأخذون منهم ما يريدون، ويحملون الأمتعة على رؤوس الحمالين، فلما عاد الشحنة قتل منهم وصلب، وغلت الأسعار وكثر الظلم منه، وأخذ المستورين بحجة العيارين، فجلا الناس عن بغداد إلى المصل وغيرها من البلاد.
ذكر قتل الراشد بالله

لما وصل الراشد بالله إلى همذان، وبها الملك داود وبوزابة ومن معهما من المراء والعساكر بعد انهزام السلطان مسعود وتفرق العساكر، على ما تقدم ذكره، سار الرشد بالله إلى خوزستان مع الملك داود، ومعه خوارزم شاه، فقاربا الحويزة، فسار السلطان مسعود إلى بغداد ليمنعهم عن العراق، فعاد الملك داود إلى فارس وعاد خوارزم شاه إلى بلاده، وبقي الراشد وحده، فلما أيس من عساكر العجم سار إلى أصفهان.
فلما كان الخامس والعشرون من رمضان وثب عليه نفر من الخراسانية الذين كانوا في خدمته، فقتلوه وهو يريد القيلولة، وكان في أعقاب مرض وقد برىء منه، ودفن بظاهر أصفهان بشهرستان، فركب من معه فقتلوا الباطنية.
ولما وصل الخبر إلى بغداد جلسوا للعزاء به في بيت النوبة يوماً واحداً. وكان أبيض أشقر، حسن اللون مليح الصورة، مهيباً شديد القوة والبطش.
قال أبو بكر الصولي: الناس يقولون إن كل سادس يقوم بأمر الناس من أول الإسلام لا بد من أن يخلع، وربما قتل. قال: فتأملت ذلك، فرأيته كما قيل، فإن أول من قام بأمر هذه الأمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن، رضي الله عنهم، فخلع ثم معاوية ويزيد ابنه، ومعاوية بن يزيد، ومروان، وعبد الملك بن مروان، وعبد الله بن الزبير،فخلع وقتل؛ثم الوليد بن عبد الملك، وأخوه سليمان، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد، وهشام ابنا عبد الملك،والوليد بن يزيد ابن عبد الملك،فخلع وقتل؛ ثم لم ينتظم أمر بني أمية؛ثم ولي السفاح،والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين،فخلع وقتل؛ والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين، فخلع وقتل؛ والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي والمقتدر،فخلع، ثم رد، ثم قتل، ثم القاهر والراضي والمتقي والمستكفي والمطيع والطائع، فخلع؛ ثم القادر والقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد والراشد،، فخلع وقتل. قلت: وفي هذا نظر لأن البيعة لأبن الزبير كانت قبل البيعة لعبد الملك بن مروان ، وكونه جعله بعده لا وجه له ، والصولي إنما ذكر إلى أيام المقتدر بالله ومن بعده ذكره غيره.
ذكر حال ابن بكران العيارفي هذه السنة، في ذي الحجة، عظم أمر ابن بكران العيار بالعراق، وكثر أتباعه، وصار يركب ظاهرً في جمع من المفسدين، وخافه الشريف أبو الكرم الوالي ببغداد، فأمر ابا القاسم ابن أخيه حامي باب الأزج أن يشتد عليه ليأمن شره.
وكان ابن بكران يكثر المقام بالسواد، ومعه رفيق له يعرف بابن البزاز، فانتهى أمرهما إلى أنهما أرادا أن يضربا باسمهما سكة في الأنبار، فأرسل الشحنة والوزير شرف الدين الزينبي إلى الوالي أبي الكرم وقالا: إما أن تقتل ابن بكران، وإما أن نقتلك؛ فأحضر ابن أخيه وعرفه ما جرى، وقال له: إما أن تختارني ونفسك، وإما أن تختار أبن بكران؛ فقال أنا أقتله. وكان لابن بكران عادة يجيء في بعض الليالي إلى ابن أخي أبي الكرم، فيقيم في داره ويشرب عنده،فلما جاء على عادته وشرب، أخذ أبو القاسم سلاحه ووثب به فقتله وأراح الناس من شره، ثم أخذ بعده بيسير ، رفيقه ابن البزاز ، وصلب، وقتل معه جماعة من الحرامية، فسكن الناس واطمأنوا وهدأت الفتنة.
ذكر قتل الوزير الدركزيني ووزارة الخازنفي هذه السنة قبض السلطان مسعود على وزيره العماد أبي البركات بن سلمة الدركزيني، واستوزر بعده كمال الدين محمد بن الحسين الخازن، وكان الكمال شهماً، شجاعاً، عادلاً، نافذ الحكم، حسن السيرة، أزال المكوس ورفع المظالم، وكان يقيم مؤونة السلطان ووظائفه، وجمع له خزائن كثيرة، وكشف أشياء كثيرة كانت مستورة يخان فيها ويسرق، فثقل على المتصرفين وأرباب الأعمال، فأوقعوا بينه وبين الأمراء، لاسيما قراسنقر صاحب اذربيجان فإنه فارق السلطان وأرسل يقول: إما أن تنفذ رأس الوزير وإلا خدمنا سلطاناً آخر. فاشار من حضر من الأمراء بقتله، وحذروه فتنة لا تتلافى، فقتله على كره منه، وأرسل إلى قراسنقر فرضي. وكانت وزارته سبعة أشهر، وكان قتله سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
ووزر بعده أبو العز طاهر بن محمد البروجردي وزير قراسنقر، ولقب عز الملك، وضاقت الأمور على السلطان مسعود، واستقطع الأمراء البلاد بغير اختياره، ولم يبق له شيء من البلاد البتة إلا اسم السلطنة لا غير.؟؟؟
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ملك حسام الدين تمرتاش إيلغازي، صاحب ماردين، قلعة الهتاخ من بلاد ديار بكر، أخذها من بعض بني مروان الذين كانوا ملوك ديار بكر جميعها، وهذا أخر من بقي منهم له ولاية، فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه ولا يتطرق إليه النقص ولا التغيير.
وفيما انقطعت كسوة الكعبة، لما ذكرناه من الاختلاف، فقام بكسوتها رامشت التاجر الفارسي، كساها من الثياب الفاخرة بكل ما وجد إليه سبيل، فبلغ ثمن الكسوة ثمانية عشر ألف دينار مصرية؛ وهو من التجار المسافرين إلى الهند كثير المال.
وفيها توفيت زبيدة خاتون ابنة السلطان بركيارق، زوج السلطان مسعود، وتزوج بعدها سفري ابنة دبيس بن صدقة في جمادى الأولى، وتزوج ابنة قاروت، وهو من البيت السلجوقي، إلا أنه كان لا يزال يعاقر الخمر ليلاً ونهاراً، فلهذا سقط اسمه وذكره.
وفيها قتل السلطان مسعود ابن البقش السلاحي شحنة بغداد، وكان قد ظلم الناس وعسفهم، وفعل ما لم يفعله غيره من الظلم، فقبض عليه وسيره إلى تكريت، فسجنه بها عند مجاهد الدين بهروز، ثم أمر بقتلهن فلما أرادوا قتله ألقى بنفسه في دجلة فغرق، فأخذ رأسه وحمل إلى السلطان، وجعل السلطان شحنة العراق مجاهد الدين بهروز، فعمل أعمالاً صالحة منها: أنه عمل مسناة النهروان وأشباهها، وكان حسن السيرة كثير الإحسان.
وفيها درس الشيخ أبو منصور بن الرزاز بالنظامية في بغداد.
وأرسل إلى أتابك زنكي في إطلاق قاضي القضاة الزينبي، فأطلق وانحدر إلى بغداد، فخلع عليه الخليفة وأقره على منصبه.
وفيها كان بخراسان غلاء شديد طالت مدته، وعظم أمره، حتى أكل الناس الكلاب والسنانير وغيرهما من الدواب، وتفرق أكثر أهل البلاد من الجوع.
وفيها توفي طغان أرسلان صاحب بدليس وأرزن من ديار بكر وولي بعده ابنه فرني واستقام له الأمر.
وفيها، في شهر صفر، جاءت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وديار بكر والموصل والعراق وغيرها من البلاد، فخربت كثيراً منها، وهلك تحت الهدم عالم كثير.
وفيها توفي أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي الفتح الدينوري الفقيه الحنبلي ببغداد، وكان ينشد كثيراً هذه الأبيات:
تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظراً ... بغير عياء والجنون فنون
وليس اكتساب المال دون مشقة ... تلقيتها فالعلم كيف يكون
وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن عمر أبو الحسن الكرخي، ومولده سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وكان فقيهاً محدثاً سمع الحديث بكرخ وأصفهان وهمذان وغيرها.
وفي شعبان منها توفي القاضي أبو العلاء صاعد بن الحسين بن إسماعيل ابن صاعد، وهو ابن عم القاضي أبي سعيد، وولي القضاء بنيسابور بعد أبي سعيد.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة

ذكر الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه
في هذه السنة، في المحرم، سار السلطان سنجر بن ملكشاه إلى خوارزم محارباً لخوارزم شاه أتسز بن محمد. وسبب ذلك أن سنجر بلغه أن أتسز يحدث نفسه بالامتناع عليه وترك الخدمة له، وأن هذا الأمر قد ظهر على كثير من أصحابه وأمرائه، فأوجب ذلك قصده واخذ خوارزم منه، فجمع عساكره وتوجه نحوه،فلما قرب من خوارزم خرج خوارزم شاه إليه في عساكره، فلقيه مقابلاً وعبأ كل واحد منهما عساكره وأصحابه، فاقتتلوا، فلم يكن للخوارزمية قوة بالسلطان، فلم يثبتوا، وولوا منهزمين، وقتل منهم خلق كثير، ومن جملة القتلى ولد لخوارزم شاه، فحزن عليه أبوه حزناً عظيماً، ووجد وجداً شديداً.
وملك سنجر خوارزمن وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ولد أخيه محمد، ورتب له وزيراً وأتابكاً وحاجباً، وقرر قواعده، وعاد إلى مرو في جمادى الأخرى من هذه السنة؛ فلما فارق خوارزم عائداً انتهز خوارزم شاه الفرصة فرجع إليها، وكان أهلها يكرهون العسكر السنجري ويؤثرون عودة خوارزم شاه، فلما عاد أعانوه على ملك البلد، ففارقهم سليمان شاه ومن معه ورجع إلى عمه السلطان سنجر، وفسد الحال بين سنجر وخوارزم واختلفا بعد الاتفاق، ففعل خوارزم شاه في خراسان سنة ست وثلاثين وخمسمائة ما نذكره إن شاء الله.
ذكر قتل محمود صاحب دمشق
وملك أخيه محمد

في هذه السنة،في شوال، قتل شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري بن طغدكين،صاحب دمشق، على فراشه غيلة، قتله ثلاثة من غلمانه هم خواصه واقرب الناس منه في خلوته وجلوته،وكانوا ينامون عنده ليلاً، فقتلوه وخرجوا من القلعة وهربوا، فنجا أحدهم وأخذ الآخران فصلبا.
وكتب من بدمشق إلى أخيه جمال الدين محمد بن بوري صاحب بعلبك، بصورة الحال واستدعوه ليملك بد أخيه، فحضر في أسرع وقت، فلما دخل البلد جلس للعزاء بأخيه، وحلف له الجند وأعيان الرعية، وسكن الناس، وفوض أمر دولته إلى معين الدين أنز،مملوك جده،وزاد في علو مرتبته، وصار هو الجملة والتفصيل؛ وكان أنز خيراً عاقلاً حسن السيرة فجرت الأمور عنده على أحسن نظام.
ذكر ملك زنكي بعلبكفي هذه السنة، في ذي القعدة، سار عماد الدين أتابك زنكي بن آقسنقر إلى بعلبك،فحصرها ثم ملكها؛ وسبب ذلك أن محموداً صاحب دمشق لما قتل كانت والدته زمرد خاتون عند اتابك زنكي بحلب، قد تزوجها،فوجدت لقتل ولدها وجداً شديداً، وحزنت عليه، وأرسلت إلى زنكي وهو بديار الجزيرة تعرفه الحادثة، وتطلب منه أن يقصد دمشق ويطلب بثأر ولدها. فلما وقف على هذه الرسالة بادر في الحال من غير توقف ولا تريث، وسار مجداً ليجعل ذلك طريقاً إلى ملك البلد، وعبر الفرات عازماً على قصد دمشق، فاحتاط من بها، واستعدوا، واستكثروا من الذخائر، ولم يتركوا شيئاً مما يحتاجون إليه ألا وبذلوا الجهد في تحصيله، وأقاموا ينتظرون وصوله إليهم، فتركهم وسار إلى بعلبك.
وقيل: كان السبب في ملكها أنها كانت لمعين الدين أنز، كما ذكرناه، وكان له جارية يهواها، فلما تزوج أم جمال الدين سيرها إلى بعلبك، فلما سار زنكي إلى الشام عازماً على قصد دمشق سير إلى أنز يبذل له البذول العظيمة ليسلم إليه دمشق، فلم يفعل.
وسار أتابك إلى بعلبك فوصل إليها في العشرين من ذي الحجة من السنة فنازلها في عساكره، وضيق عليها، وجد في محاربتها، ونصب عليها من المنجنيقات أربعة عشر عدداً ترمي ليلاً ونهاراً، فأشرف من بها على الهلاك، وطلبوا الأمان، وسلموا إليه المدينة، وبقيت القلعة وبها جماعة من شجعان الأتراك، فقاتلهم، فلما أيسوا من معين ونصير طلبوا الأمان فأمنهم، فسلموا القلعة إليه، فلما نزلوا منها وملكها غدر بهم وأمر بصلبهم فصلبوا ولم ينج منهم إلا القليل، فاستقبح الناس ذلك من فعله واستعظموهن وخافه غيرهم وحذروه ولاسيما أهل دمشق فإنهم قالوا: لو ملكنا لو ملكنا لفعل بنا مثل فعله بهؤلاء؛ فازدادوا نفوراً وجداً في محاربته.
ولما ملك زنكي بعلبك أخذ الجارية التي كانت لمعين الدين أنز بها، فتزوجها بحلب، فلم تزل بها إلى أن قتل، فسيرها أبنه نور الدين محمود إلى معين الدين أنز، وهي كانت أعظم الأسباب في المودة بين نور الدين وبين أنز، والله أعلم.
ذكر استيلاء قراسنقر على بلاد فارس وعوده عنهاوفي هذه السنة جمع أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان عساكر كثيرة وحشد، وسار طالباً بثأر أبيه الذي قتله بوزابة في الصاف المقدم ذكره، فلما قارب السلطان مسوداً أرسل إليه يطلب منه قتل وزيره الكمال، فقتله كما ذكرناه، فلما قتل سار قراسنقر إلى بلاد فارس، فلما قاربها تحصن بوزابة منه في القلعة البيضاء، ووطىء قراسنقر البلاد، وتصرف فيها، وليس له فيها دافع ولا مانع إلا أنه لم يمكنه المقام، وملك المدن التي في فارس، فسلم البلاد إلى سلجوقشاه ابن السلطان محمود وقال له: هذه البلاد لك فاملك الباقي؛ وعاد إلى أذربيجان فنزل حينئذ بوزابة من القلعة سنة أربع وثلاثين، وهزم سلجوقشاه وملك البلاد، واسر سلجوقشاه وسجنه في قلعة بفارس.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، توفي الوزير شرف الدين أنو شروان بن خالد معزولاً ببغداد، وحضر جنازته وزير الخليفة فمن دونه، ودفن في داره، ثم نقل إلى الكوفة، فدفن في مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام. وكان فيه تشيع، وهو كان السبب في عمل المقامات الحريرية، وكان رجلاً عاقلاً شهماً، ديناً خيراً، ووزر للخليفة المسترشد وللسلطان محمود وللسلطان مسعود، وكان يستقيل من الوزارة فيجاب إلى ذلك ثم يخطب إليها فيجيب كارهاً.

وفيها قدم السلطان مسعود بغداد في ربيع الأول، وكان الزمان شتاء، وصار يشتي بالعراق، ويصيف بالجبال، ولما قدمها أزال المكوس، وكتب الألواح بإزالتها، ووضعت على أبواب الجوامع وفي الأسواق، وتقدم أن لا ينزل جندي في دار عامي من أهل بغداد إلا بإذن، فكثر الدعاء له والثناء عليه، وكان السبب في ذلك الكمال الخازن وزير السلطان.
وفيها، في صفر، كانت زلازل كثيرة هائلة بالشام والجزيرة وكثير من البلاد، وكان أشدها بالشام، وكانت متوالية، كل ليلة عدة دفعات، فخرب كثير من البلاد، ولاسيما حلب فإن أهلها لما كثرت عليهم فارقوا بيوتهم، وخرجوا إلى الصحراء، وعدوا ليلة واحدة جاءتهم ثمانين مرة، ولم تزل بالشام تتعاهدهم من رابع صفر إلى التاسع عشر منه، وكان معها صوت وهزة شديدة.
وفيها أغار الفرنج على أعمال بانياس، فسار عسكر دمشق في أثرهم، فلم يدركوهم فعادوا.
وفيها توفي أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي النيسابوري بها، ومولده سنة ست وأربعين وأربعمائة، وكان إماماً في الحديث، مكثراً عالي الإسناد.
وتوفي عبد الله بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف أبو القاسم ابن أبي الحسين البغدادي بها، ومولده سنة اثنتين وخمسين وأربع مائة؛ وعبد العزيز بن عثمان بن إبراهيم أبو محمد الأسدي البخاري، كان قاضي بخارى، وكان من الفقهاء أولاد الأئمة حسن السيرة.
وتوفي محمد بن شجاع بن أبي بكر بن علي بن إبراهيم اللفتواني الأصفهاني بأصفهان في جمادى الأخرة، ومولده سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير بأصفهان وبغداد وغيرهما.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وخمسمائة

ذكر حصار أتابك زنكي دمشق
في هذه السنة حصر أتابك زنكي دمشق مرتين، فأما المرة الأولى فإنه سار إليها في ربيع الأول من بعلبك بعد الفراغ من أمرها، وتقرير قواعدها وإصلاح ما تشعث منها، ليحصرها، فنزل في البقاع، وأرسل إلى جمال الدين صاحبها يبذل له بلداً يقترحه ليسلم إليه دمشق، فلم يجبه إلى ذلك، فرحل وقصد دمشق، فنزل على داريا ثالث عشر ربيع الأول فالتفت الطلائع واقتتلوا، وكان الظفر لعسكر زنكي وعاد الدمشقيون منهزمين، فقتل كثير منهم .
ثم تقدم زنكي إلى دمشق، فنزل هناك، ولقيه جمع كثير من جند دمشق وأحداثها ورجالة الغوطة، فقاتلوه، فانهزم الدمشقيون، وأخذهم السيف، فقتل فيهم وأكثر، وأسر كذلك، ومن سلم عاد جريحاً. وأشرف البلد ذلك اليوم على أن يملك، اكن عاد زنكي عن القتال وأمسك عنه عدة أيام، وتابع الرسل إلى صاحب دمشق، وبذل له بعلبك وحمص وغيرهما مما يختاره من البلاد، فمال إلى التسليم، وامتنع غيره من أصحابه من ذلك، وخوفوه عاقبة فعله، وأن يغدر به كما غدر بأهل بعلبك، فلما لم يسلموا إليه عاود القتال والزحف.
ثم إن جمال الدين صاحب دمشق مرض ومات ثامن شعبان، وطمع زنكي حينئذ في البلد، وزحف إليه زحفاً شديداً ظناً منه أنه ربما يقع بين المقدمين والأمراء خلاف فيبلغ غرضه، وكان ما أمله بعيداً، فلما مات جمال الدين ولي بعده مجير الدين أبق ولده، وتولى تدبير دولته معين الدين أنز فلم يظهر لموت أبيه أثر مع أن عدوهم على باب المدينة؛ فلما رأى أنز أن زنكي لا يفارقهم، ولا يزول عن حصرهم، راسل الفرنج، واستدعاهم إلى نصرته، وأن يتفقوا على منع زنكي عن دمشق، وبذل لهم بذولاً من جملتها أن يحصر بانياس ويأخذها ويسلمها إليهم، وخوفهم من زنكي إن ملك دمشق؛ فعملوا صحة قوله إنه إن ملكها لم يبق لهم معه بالشام مقام، فاجتمعت الفرنج وعزموا على السير إلى دمشق ليجتمعوا مع صاحبها وعسكرها على قتال زنكي، فحين علم زنكي بذلك سار إلى حوران خامس رمضان، عازماً على قتال الفرنج قبل أن يجتمعوا بالدمشقيين، فلما سمع الفرنج خبره لم يفارقوا بلادهم، فلما رآهم كذلك عاد إلى حصر دمشق ونزل بعذرا شماليها سادس شوال، فأحرق عدة قرى من المرج والغوطة ورحل عائداً إلى بلاده.

ووصل الفرنج إلى دمشق واجتمعوا بصاحبها وقد رحل زنكي، فعادوا،فسار معين الدين أنز إلى بانياس في عسكر دمشق،وهي في طاعة زنكي،كما تقدم ذكرها، ليحصرها ويسلمها إلى الفرنج؛ وكان واليها قد سار قبل ذلك منها في جمع من جمعه إلى مدينة صور للإغارة على بلادها، فصادفه صاحب أنطاكية وهو قاصد إلى دمشق نجدة لصاحبها على زنكي، فاقتتلا، فانهزم المسلمون وأخذوا والي بانياس فقتل، ونجا من سلم منهم إلى بانياس، وجمعوا معهم كثيراً من البقاع وغيرها، وحفظوا القلعة، فنازلها معين الدين، فقاتلهم، وضيق عليهم، ومعه طائفة من الفرنج، فأخذها وسلمها إلى الفرنج.
وأما الحصر الثاني لدمشق، فإن أتابك لما سمع الخبر بحصر بانياس عاد إلى بعلبك ليدفع عنها من يحصرها، فأقام هناك، فلما عاد عسكر دمشق، بعد أن ملكوها وسلموها إلى الفرنج،فرق أتابك زنكي عسكره على الإغارة على حوران وأعمال دمشق، وسار هو جريدة مع خواصه، فنازل دمشق سحراً ولم يعلم به أحد من أهلها، فلما أصبح الناس ورأوا عسكره خافوا، وارتج البلد، واجتمع العسكر والعامة على السور وفتحت الأبواب وخرج الجند، والرجالة فقاتلوه، فلم يمكن زنكي عسكره من الإقدام في القتال لأن عامة عسكره تفرقوا في البلاد للنهب والتخريب، وإنما قصد دمشق لئلا يخرج منها عسكره إلى عسكرهم وهم متفرقون، فلما اقتتلوا ذلك اليوم قتل بينهم جماعة ثم أحجم زنكي عنهم وعاد إلى خيامه ورحل إلى مرج راهط، وأقام بنتظر عودة عسكره، فعادوا إليه وقد ملأوا أيديهم من الغنائم، لأنهم طرقوا البلاد وأهلها غافلون، فلما اجتمعوا عنده رحل بهم عائداً إلى بلادهم.
ذكر ملك زنكي شهرزور وأعمالهافي هذه السنة ملك أتابك زنكي شهرزور وأعمالها وما يجاورها من الحصون، وكانت بيد قفجاق بن أرسلان تاش التركماني، وكان حكمه نافذاً على قاضي التركمان ودانيهم، وكلمته لا تخالف، يرون طاعته فرضاً، فتحامى الملوك قصده، ولم يتعرضوا لولايته لهذا ولأنها منيعة كثيرة المضايق، فعظم شأنه وازداد جمعه، وأتاه التركمان من كل فج عميق.
فلما كان هذه السنة سير إله أتابك زنكي عسكراً، فجمع أصحابه ولقيهم فتصافوا واقتتلوا، فانهزم قفجاق واستبيح عسكره، وسار الجيش الأتابكي في أعقابهم فحصروا الحصون والقلاع فملكوها جميعها وبذلوا الأمان لقفجاق فصار إليهم، وانخرط في سلك العساكرولم يزلهو وبنوه في خدمة البيت الأتابكي على أحسن فضية إلى بعد سنة ستمائة بقليل وفارقوها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جرى بين أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله وبين الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي منافرة، وسببها أن الوزير كان يعترض الخليفة في كل ما يأمر به، فنفر الخليفة من ذلك،فغضب الوزير، ثم خاف فقصد دار السلطان في سميرية، وقت الظهر، ودخل إليها واحتمى بها، فأرسل إليه الخليفة في العود إلى منصبه، فامتنع؛ وكانت الكتب تصدر باسمه، واستنيب قاضي القضاة الزينبي، وهو ابن عم الوزير، وأرسل الخليفة إلى السلطان رسلاً في معنى الوزير، فأرخص له السلطان في عزله، فحينئذ أسقط أسمه من الكتب، وأقام بدار السلطان؛ ثم عزل الزينبي من النيابة وناب سديد الدولة بن الأنباري.
وفيها قتل المقرب جوهر وهو من خدم السلطان سنجر، وكان قد حكم في دولته جميعها، ومن جملة أقطاعه الري، ومن جملة مماليكه العباس صاحب الري، وكان سائر عسكر السلطان سنجر يخدمونه ويقفون ببابه وكان قتله بيد الباطنية، وقف له جماعة منهم بزي النساء واستغثن به، فوقف يسمع كلامهم فقتلوه، فلما قتل جمع صاحبه عباس العساكر وقصد الباطنية، فقتل منهم وأكثر، وفعل بهم ما لم يفعله غيره، ولم يزل يغزوهم ويقتل منهم ويخرب بلادهم إلى أن مات.
وفيها زلزلت كنجة وغيرها من أعمال أذربيجان وأران إلا أن أشدها كان بكنجة فخرب منها الكثير وهلك عالم لا يحصون كثرة. قيل: كان الهلكى مائتي ألف وثلاثين ألف، وكان من جملة الهلكى ابنان لقرابسنقر صاحب البلاد، وتهدمت قلعة هناك لمجاهد الدين بهروز، وذهب له فيها من الذخائر والأموال الشيء الكثير.

وفيها شرع مجاهد الدين في عمل النهروانات: سكر سكراً عظيما يرد الماء إلى مجراه الأول، وحفر مجرى الماء القديم، وخرق إليه مجراة تأخذ من ديالى ثم استحال بعد ذلك وجرى الماء ناحية السكر، وبقي السكر في البئر لا ينتفع به أحدا، ولم يتعرض أحد لرده إلى مجراه عند السكر إلى وقتنا هذا.
وفيها انقطع الغيث ببغداد والعراق، ولم يجيء غير مرة واحدة في آذار، ثم انقطع، ووقع الغلاء، وعدمت الأقوات بالعراق .
وفيها، في جمادى الأخرى، دخل الخليفة بفاطمة خاتون بنت السلطان مسعود، وكان يوم حملها إلى دار الخليفة يوماً مشهوداً، أغلقت بغداد عدة أيام وزينت وتزوج السلطان مسعود بابنة الخليفة المقتفي لأمر الله، وعقد عليها، واستقر أن يتأخر زفافها خمس سنين لصغرها؛ وفيها، في ربيع الأول، توفي القاضي أبو الفضل يحيى ابن قاضي دمشق المعروف بالزكي.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة

ذكر مسير جهاردانكي إلى العراق
في هذه السنة أمر السلطان مسعود الأمير إسماعيل المعروف بجهاردانكي، والبقش كون خر، بالمسير إلى خوزستان وفارس وأذهما من بوزابة، وأطلق لهما نفقة على بغداد، فسار فيمن معهما إلى بغداد، فمنعهم مجاهد الدين بهروز من دخولها، فلم يقبلوا منه،فأرسل إلى المعابر فخسفها وغرقها، وجد في عمارة السور، وسد باب الظفرية وباب كلوازي، وأغلق باقي الأبواب، وعلق عليها السلاح وضرب الخيام للمقاتلة.
فلما علما بذلك عبرا بصرصر، وقصدا الحلة، فمنعا منها، فقصدا واسط، فخرج إليهما الأمير طرنطاي وتقاتلوا، فانهزم طرنطاي، ودخلوا واسط فنهبوها ونهبوا بلد فرسان والنعامية، وانضم طرنطاي إلى حماد بن أبي الخير صاحب البطيحة، ووافقهم عسكر البصرة، وفارق اسماعيل والبقش بعض عسكرهما وصارا مع طرنطاي، فضعف أولئك، فسار إلى تستر واستشفع إسماعيل إلى السلطان فعفا عنه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وصل رسول من السلطان سنجر، ومعه بردة النبي، صلى الله عليه وسلم، والقضيب، وكانا قد أخذا من المسترشد، فأعادهما الآن إلى المقتفي .
وفي هذه السنة توفي أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان وأرانية بمدينة أردبيل، وكان مرضه السل، وطال به، وكان من مماليك الملك طغرل، وسلمت أذربيجان وأرانية إلى الأمير جاولي الطغرلي. وكان قراسنقر علا شأنه على سلطانه وخافه السلطان.
وفيها كان بين أتابك زنكي وبين داود سقمان، بن أرتق، صاحب حصن كيفا، حرب شديدة، وانهزم داود بن سقمان، وملك زنكي من بلاده قلعة بهمرد وأدركه الشتاء فعاد إلى الموصل.
وفيها ملك الإسماعلية حصن مصيات بالشام، وكان واليه مملوكاً لبني منقذ أصحاب شيزر، فاحتالوا عليه، ومكروا به حتى صعدوا إليه وقتلوه، وملكوا الحصن، وهو بأيديهم إلى الآن.
وفيها توفي سديد الدولة بن الأنباري واستوزر الخليفة بعده نظام الدين أبا نصر محمد بن محمد بن جهير، وكان قبل ذلك أستاذ الدار ز وفيها توفي يرنقش بازدار صاحب قزوين.
وفيها، في رجب، ظفر ابن الدانشمند، صاحب ملطية وغيرها من تلك النواحي، بجمع من الروم فقتلهم وغنم ما معهم.
وفيها، في رمضان، سارت طائفة من الفرنج بالشام إلى عسقلان ليغيروا على أعمالها، وهي لصاحب مصر، فخرج إليهم العسكر الذي بعسقلان فقاتلهم، فظفر المسلمون وقتلوا من الفرنج كثيراً، فعادوا منهزمين.
وفيها بنيت المدرسة الكمالية ببغداد، بناها كمال الدين أبو الفتوح بن طلحة صاحب المخزن، ولما فرغت درس فيها الشيخ أبو الحسن بن الخل، وحضره أرباب المناصب وسائر الفقهاء.
وفيها، في رجب، مات القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، قاضي المارستان، وغيرها من علوم الأوائل، وهو أخر من ؛دث في الدنيا عن أبي إسحق البرمكي والقاضي أبي الطيب الطبري وأبي طالب العشاري وأبي محمد الجوهري وغيرهم.
وتوفي الإمام الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصفهاني عاشر ذي الحجة، ومولده سنة تسع وخمسين، وله التصانيف المشهورة.
وتوفي يوسف بن الحسن أبو يعقوب الهمذاني من أهل بروجرد، وسكن مرو، وتفقه على أبي إسحق الشيرازي، وروى الحديث واشتغل بالرياضيات والمجاهدات، ووعظ ببغداد، فقام إليه متفقه يقال له ابن السقاء وسأله وآذاه في السؤال فقال: اسكت، إني أشم فيك ريح الكفر! فسافر الرجل إلى بلد الروم وتنصر.

وفيها مات أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر المشهور.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة

انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا
ذكر انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا وملكهم ما وراء النهر
قد ذكر أصحاب التواريخ في هذه الحادثة أقاويل نحن نذكرها جميعها للخروج من عهدتها، فنقول: في هذه السنة، في المحرم، انهزم السلطان سنجر من الترك الكفار. وسبب ذلك أن سنجر كان قتل ابناً لخوارزم شاه أتسز بن محمد، كما ذكرناه قبل، فبعث خوارزم شاه إلى الخطا، وهم بما وراء النهر، يطمعهم في البلاد ويروج عليهم أمرها، وتزوج إليهم، وحثهم على قصد مملكة السلطان سنجر، فساروا في ثلاثمائة ألف فارس، وسار إليهم سنجر في عساكره، فالتقوا بما وراء النهر، واقتتلوا أشد قتال، وانهزم سنجر في جميع عساكره، وقتل منهم مائة ألف قتيل، منهم أحد عشر ألف صاحب عمامة، وأربعة آلاف امرأة، وأسرت زوجة السلطان سنجر، وتم سنجر منهزماً إلى ترمذ، وسار منها إلى بلخ.
ولما انهزم سنجر قصد خوارزم شاه مدينة مرو، فدخلها مراغمة للسلطان سنجر، وقتل بها، وقبض على أبي الفضل الكرماني الفقيه الحنفي وعلى جماعة من الفقهاء وغيرهم من أعيان البلد.
ولم يزل السلطان سنجر مسعوداً إلى وقتنا هذا لم تنهزم له راية، ولما تمت عليه هذه الهزيمة أرسل إلى السلطان مسعود وأذن له في التصرف في الري وما يجري معها على قاعدة أبيه السلطان محمد، وأمره أن يكون مقيماً فيها بعساكره بحيث أن دعت حاجة استدعاه لأجل هذه الهزيمة، فوصل عباس صاحب الري إلى بغداد بعساكره، وخدم السلطان مسعوداً خدمة عظيمة، وسار السلطان إلى الري امتثالاً لأمر سنجر.
وقيل: إن بلاد تركستان، وهي كاشغر، وبلاساغون، وختن، وطراز وغيرها مما يجاورها من بلاد ما وراء النهر كانت بيد الملوك الخانية الأتراك، وهم مسلمون من نسل افراسياب التركي، إلا أنهم مختلفون، وكان سبب إسلام جدهم اظلول واسمه سبق قراخاقان أنه رأى في منامه كأن رجلاً نزل من السماء فقال بالتركية ما معناه: أسلم تسلم في الدنيا والآخرة، فأسلم في منامه، وأصبح فأظهر إسلامه، فلما مات قام مقامه ابنه موسى بن سبق، ولم يزل الملك بتلك الناحية في أولاده إلى أرسلان خان محمد ابن سليمان بن داود يغراخان بن إبراهيم الملقب بطمغاج خان بن أيلك الملقب بنصر أرسلان بن علي بن موسى بن سبق، فخرج على قدرخان فانتزع الملك منه، فقتل سنجر قدر خان، كما ذكرناه، سنة أربع وتسعين وأربعمائة، وأعاد الملك إلى أرسلان خان، وثبت قدمه، وخرج خوارج، فاستصرخ السلطان سنجر فنصره وأعاد ملكه أيضاً.
وكان من جنده نوع من الأتراك يقال لهم الفارغلية والأتراك الغزية الذين نهبوا خراسان على ما نذكره إن شاء الله، وهم نوعان: نوع يقال لهم أجق، وأميرهم طوطى بن دادبك؛ ونوع يقال لهم برق، وأميرهم قرعوت بن عبد الحميد، فحسن الشريف الأشرف بن محمد بن أبي شجاع العلوي السمرقندي لولد أرسلان خان المعروف بنصر خان طلب الملك من أبيه وأطعمه، فسمع محمد خان الخبر، فقتل الابن والشريف الأشرف.
وجرت بين أرسلان خان وبين جنده القارغلية وحشة دعتهم إلى العصيان عليه وانتزاع الملك منه، فعاود الاستغاثة بالسلطان سنجر، فعبر جيحون بعساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكان بينهما مصاهرة، فوصل إلى سمرقند، وهرب القارغلية من بين يديه.
واتفق أن السلطان سنجر خرج إلى الصيد، فرأى خيالة، فقبض عليهم فأقروا بأن أرسلان خان وضعهم على قتله فعاد إلى سمرقند، فحصر أرسلان خان بالقلعة فملكها، وأخذه أسيراً، وسيره إلى بلخ فمات بها؛ وقيل قد غدر به سنجر، واستضعفه، فملك البلد منه فأشاع عنه ذلك.

فلما ملك سمرقند استعمل عليها بعده قلج طمغاج أبا المعلي الحسن بن علي بن علي بن عبد المؤمن المعروف بحسن تكين، وكان من أعيان بيت الخانية، إلا أ ن أرسلان خان اطرحه، فلما ولي سمرقند لم تطل أيامه، فمات عن قليل، فأقام سنجر مقامه الملك محمود بن أرسلان خان محمد بن سليمان بن داود بغراخان، و هو ابن الذي أخذ منه سنجر سمرقند، وكان محمود هذا ابن أخت سنجر، وكان قبل ذلك، سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، قد وصل الأعور الصيني إلى حدود كاشغر في عدد كثير لا يعلمهم إلا الله، فاستعد له صاحب كاشغر، وهو الخان أحمد بن الحسن، وجمع جنوده، فخرج إليه والتقوا، فاقتتلوا، وانهزم الأعور الصيني، وقتل كثير من أصحابه، ثم إنه مات، فقام مقامه كوخان الصيني.
وكو بلسان الصين لقب لأعظم ملوكهم، وخان لقب لملوك الترك فمعناه أعظم الملوك. وكان يلبس لبسة ملوكهم من المقنعة والخمار، وكان مانوي المذهب. ولما خرج من الصين إلى تركستان انضاف إليه الأتراك الخطا، وكانوا قد خرجوا قبله من الصين، وهم في خدمة الخانية أصحاب تركستان.
وكان أرسلان خان محمد بن سليمان يسير كل سنة عشرة آلاف خركاو وينزلهم على الدروب التي بينه وبين الصين، يمنعون أحداً من الملوك أن يتطرق إلى بلاده، وككان لهم على ذلك جرايات وإقطاعات، فاتفق أنه وجد عليهم في بعض السنين، فمنعهم عن نسائهم لئلا يتوالدوا، فعظم عليهم، ولم يعرفوا وجهاً يقصدونه وتحيروا، فاتفق أنه اجتاز بهم قفل عظيم فيه الأموال الكثيرة والأمتعة النفيسة، فأخذوه وأحضروا التجار وقالوا لهم: إن كنتم تريدون أموالكم فتعرفونا بلداً كثير المرعى فسيحاً يسعنا ومعنا أموالنا؛ فاتفق رأي التجارعلى بلد بلاساغون فوصفوه لهم، فأعادوا إليهم أموالهم، وأخذوا الموكلين بهم لمنعهم عن نسائهم وكتفوهم، وأخذوا نسائهم وساروا إلى بلاساغون، وكان أرسلان خان يغزوهم ويكثر جهادهم فخافوه خوفاً عظيماً.
فلما طال ذلك عليهم وخرج كوخان الصيني انضافوا إليه أيضاً، فعظم شأنهم وتضاعف جمعهم، وملكوا بلاد تركستان، وكانوا إذا ملكوا المدينة لا يغيرون على أهلها شيئاً، بل يأخذون من كل بيت ديناراً من أهل البلاد وغيرها من القرى، وأما المزروعات وغير ذلك فلأهله، وكل من أطاعهم من الملوك شد في وسطه شبه لوح فضة، فتلك علامة من أطاعهم.
ثم ساروا إلى بلاد ما راء النهر، فاستقبلهم الحاقان محمود بن محمد بن حدود خجندة في رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، واقتتلوا، فانهزم الخاقان محمود بن محمد، وعاد إلى سمرقند، فعظم الخطب على أهلها، واشتد الخوف والحزن، وانتظروا البلاء صباحاً ومساء، وكذلك أهل بخارى وغيرها من بلاد ما وراء النهر، وأرسل الخاقان محمود إلى السلطان سنجر يستمده وينهي إليه ما لقي المسلمون، ويحثه على نصرتهم، فجمع العساكر، فاجتمع عنده ملوك خراسان: صاحب سجستان والغور، وملك غزنة، وملك مازندران وغيرهم، فاجتمع له أكثر من مائة ألف فارس وبقي العرض ستة أشهر.
وسار سنجر إلى لقاء الترك، فعبر إلى ما وراء النهر في ذي الحجة سنة خمساً وثلاثين وخمسمائة، فشكا إليه محمود بن محمد خان من الأتراك القارغلية، فقصدهم سنجر، فالتجأوا إلى كوخان الصيني ومن معه من الكفار، وأقام سنجر بسمرقند، فكتب إليه كوخان كتاباً يتضمن الشفاعة في الأتراك القارغلية، ويطلب منه أن يعفوا عنهم، فلم يشفعه فيهم، وكتب إليه يدعوه إلى الإسلام ويتهدده إن لم يجب غليه ويتوعده بكثرة عساكره، ووصفهم، وبالغ في قتالهم بأنواع السلاح حتى قال: وإنهم يشقون الشعر بسهامهم؛ فلم يرض هذا الكتاب وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، فلم يصغي إليه، وسير الكتاب، فلما قرأ الكتاب على كوخان أمر بنتف لحية الرسول، وأعطاه إبرة، وكلفه شق شعرة من لحيته فلم يقدر أن يفعل ذلك، فقال: كيف يشق غيرك شعرة بسهم وأنت عاجز عن شقها بإبرة؟ واستعد كوخان للحرب، وعنده جنود الترك والصين والخطا وغيرهم، وقصد السلطان سنجر، فالتقى العسكران، وكانا كالبحرين العظيمين،بموضع يقال له قطوان، وطاف بهم كوخان حتى ألجأهم إلى واد يقال له درغم، وكان على ميمنة سنجر الأمير قماج، وعلى ميسرته ملك سجستان، والأثقال ورائهم، فاقتتلوا خامس صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة.

وكانت الأتراك القارغلية الذين هربوا من سنجر من أشد الناس قتالاً، ولم يكن ذلك اليوم من عسكر السلطان سنجر أحسن قتالاً من صاحب سجستان، فأجلت الحرب عن هزيمة المسلمين، فقتل منهم ما لا يحصى من كثرتهم، واشتمل وادي درغم على عشرة آلاف من القتلى والجرحى، ومضى السلطان سنجر منهزماً، وأمر صاحب سجستان والأمير قماج وزوجة السلطان سنجر، وهي ابنة أرسلان خان، فأطلقهم الكفار، وممن قتل الحسام عمر بن عبد العزيز بن مازة البخاري الفقيه الحنفي المشهور. ولم يكن في الإسلام وقعة أعظم من هذه ولا أكثر ممن قتل فيها بخراسان.
واستقرت دولة الخطا والترك الكفار بما وراء النهر، وبقي كوخان إلى رجب من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فمات فيه. وكان جميلاً، حسن الصورة، لا يلبس إلا الحرير الصيني ، له هيبة عظيمة على أصحابه، ولم يسلط أميراً على أقطاع بل كان يعطيهم من عنده، ويقول: متى أخذوا الأقطاع ظلموا؛ وكان لا يقدم أميرا على أكثر من مائة فارس حتى لا يقدر على العصيان عليه؛ وكان ينهى أصحابه عن الظلم، وينهى عن السكر ويعاقب عليه، ولا ينهى عن الزنا ولا يقبحه.
وملك له بعده ابنة له فلم تطل مدتها حتى ماتت ، فملك بعدها أمها زوجة كوخان وابنة عمه، وبقي ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن أخذه منهم علاء الدين محمد خوارزم شاه سنة اثنتي عشرة وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله.
ذكر ما فعله خوارزم شاه بخراسانقد ذكرنا قبل قصد السلطان سنجر خوارزم، وأخذها من خوارزم شاه أتسز،وعوده إليها،وقتل ولد خوارزم شاه،وأنه هو الذي راسل الخطا وأطمعهم في بلاد الإسلام، فلما لقيهم السلطان سنجر وعاد منهزماً سار خوارزم شاه إلى خراسان، فقصد سرخس في ربيع الأول من السنة.
فلما وصل إليها لقيه الإمام أبو محمد الزيادي، وكان قد جمع بين الزهد والعلم، فأكرمه خوارزم شاه إكراماً عظيماً، ورحل من هناك إلى مرو الشاهجان، فقصده الإمام أحمد الباخرزي، وشفع في أهل مرو، وسأل ألا يتعرض لهم أحد من العسكر، فأجابه إلى ذلك، ونزل بظاهر البلد، واستدعى أبا الفضل الكرماني الفقيه وأعيان أهلها، فثار عامة مرو وقتلوا بعض أهل خوارزم شاه، وأخرجوا أصحابه من البلد، وأغلقوا أبوابه، واستعدوا للامتناع، فقاتلهم خوارزم شاه، ودخل مدينة مرو سابع عشر ربيع الأول من السنة، وقتل كثيراً من أهلها.
وممن قتل: إبراهيم المروزي الفقيه الشافعي وعلي بن محمد بن أرسلان، وكان ذا فنون كثيرة من العلم،وقتل الشريف علي بن إسحق الموسوي، وكان رأس فتنة وملقح شر، وقتل كثيراً من أعيان أهلها وعاد إلى خوارزم، واستصحب معه علماء كثيرين من أهلها منهم: أبو الفضل الكرماني وأبو منصور العبادي والقاضي الحسين بن محمد الأرسابندي وأبو محمد الخرقي الفيلسوف وغيرهم .
ثم سار في شوال من السنة إلى نيسابور، فخرج إليه جماعة من فقهائها وعلمائها وزهادها، وسألوه ألا يفعل بأهل نيسابور ما فعل بأهل مرو، فأجابهم إلى ذلك لكنه استقصى في البحث عن أموال أصحاب السلطان فأخذها، وقطع خطبة السلطان سنجر، أول ذي القعدة، وخطبوا له؛ فلما ترك الخطيب ذكر السلطان سنجر وذكر خوارزم شاه صاح الناس وثاروا، وكادت الفتنة تثور والشر يعود جديداً، وإنما منع الناس من ذلك ذوو الرأي والعقل نظراً في العاقبة، فقطعت إلى أول المحرم سنة سبع وثلاثين ثم أعيدت خطبة السلطان سنجر.
ثم سير خوارزم شاه جيشاً إلى أعمال بيهق، فأقاموا بها يقاتلون أهلها خمسة أيام، ثم سار عنها ذلك الجيش ينهبون البلاد، وعملوا بخراسان أعمالاً عظيمة، ومنع السلطان سنجر من مقاتلة أتسز خوارزم شاه خوفاً من قوة الخطا بما وراء النهر، ومجاورتهم خوارزم وغيرها من بلاد خراسان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ملك أتابك زنكي بن آقسنقر مدينة الحديثة، ونقل من كان بها من آل مهراش إلى الموصل، ورتب أصحابه فيها.
وفيها خطب لزنكي أيضاً بمدينة آمد، وصار صاحبها في طاعته، وكان قبل ذلك موافقاً لداود على قتال زنكي، فلما رأى قوة زنكي صار معه.

وفيها عزل مجاهد الدين بهروز عن شحنكية بغداد، ووليها قزل وهو من مماليك السلطان محمود، وان له برجرد والبصرة، فأضيف إليه شحنكية بغداد، ثم وصل السلطان مسعود إلى بغداد، فرأى من تبسط العيارين وفسادهم ما ساءه، فأعاد بهروز إلى الشحنكية، فتاب كثير نهم، ولم ينتفع الناس بذلك، لأن ولد الوزير وأخا امرأة السلطان كانا يقاسمان العيارين، فلم يقدر بهروز على منعهم.
وفيها تولى عبد الرحمن طغايرك حجبة السلطان، واستولى على المملكة وعزل الأمير تتر الطغرلي عنها، وآل أمره إلى أن يمشي في ركاب عبد الرحمن.
وفيها توفي إبراهيم السهاوي مقدم الإسماعيلية، فأحرقه ولد عباس صاحب الري في تابوته.
وفيها حج كمال الدين بن طلحة صاحب المخزن، وعاد وقد لبس ثياب الصوفية، وتخلى عن جميع ما كان فيه، وأقام في داره مرعي الجانب محروس القاعدة.
وفيها وصل السلطان إلى بغداد وكان الوزير الزينبي بدار السلطان، كما ذكرناه، فسأل السلطان أن يشفع فيه ليرده الخليفة إلى داره، فأرسل السلطان وزيره إلى دار الخلافة ومعه الوزير شرف الدين الزينبي، وشفع في أن يعود إلى داره، فأذن له في ذلك، وأعيد أخوه إلى نقابة النقباء، فلزم الوزير داره، ولم يخرج منها إلا إلى الجامع.
وفيها أغار عسكر أتابك زنكي من حلب على بلاد الفرنج، فنهبوا وأحرقوا وظفروا بسرية الفرنج، فقتلوا فيهم وأكثروا، فكان عدة القتلى سبع مائة رجل.
وفيها أفسد بنو خفاجة بالعراق، فسير السلطان مسعود سرية إليهم من العسكر، فنهبوا حلتهم، وقتلوا من ظفروا به منهم وعدوا سالمين.
وفيها سير رجال الفرنجي صاحب صقية أسطولاً إلى أطراف إفريقية، فأخوا مراكب سيرت من مصر إلى الحسن صاحب إفريقية، وغدر بالحسن، ثم راسله الحسن، وجدد الهدنة لأجل حمل الغلات من صقيلية إلى إفريقية لأن الغلاء كان فيها شديداً والموت كثيراً.
وفيها توفي أبو القاسم عبد الوهاب بن عبد الواحد الحنبلي الدمشقي، وكان عالماً صالحاً.
وفيها توفي ضياء الدين أبو سعيد بن الكفرتوثي وزير أتابك زنكي، وكان حسن السيرة في وزارته كريما رئيساً.
وفيها توفي أبو محمد بن طاووس إمام الجامع بدمشق في المحرم، وكان رجلاً صالحاً فاضلاً.
وفيها توفي أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبي الأشعث المعروف بابن السمرقندي، ولد بدمشق سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة

ذكر ملك أتابك زنكي قلعة أشب
وغيرها من الهكارية
في هذه السنة أرسل أتابك زنكي جيشاً إلى قلعة أشب، وكانت أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها، وبها أموالهم وأهلهم، فحصروها وضيقوا على من بها فملكوها، فأمر بإخرابها وبناء القلعة المعروفة بالعمادية عوضاً عنها.
وكانت العمادية حصناً عظيماً من حصونهم، فخربوه لكبره لأنه كبير جداً، وكانوا يعجزون عن حفظه، فخربت آلان أشب وعمرت العمادية، وإنما سميت العمادية نسبة إلى لقبه؛ وكان نصير الدين جقر نائبه بالموصل قد فتح أكثر القلاع الجبلية.
ذكر حصر الفرنج طرابلس الغربوفي هذه السنة سارت مراكب الفرنج من صقلية إلى طرابلس الغرب فحصروها، وسبب ذلك أن أهلها في أيام الأمير الحسن صاحب إفريقية، لم يدخلوا يداً في طاعته، ولم يزالوا مخالفين مشاقين له، قد قدموا عليهم من بني مطروح مشايخ يدبرن أمرهم، فلما رآهم ملك صقيلية كذلك جهز إليهم جيشاً في البحر، فوصلوا إليهم تاسع ذي الحجة، فنازلوا البلد وقاتلوه، وعلقوا الكلاليب في سوره ونقبوه.
فلما كان الغد وصل جماعة من العرب نجدة لأهل البلد، فقوي أهل طرابلس فيهم، فخرجوا إلى الأسطولية، فحملوا عليهم حملة منكرة، فانهزموا هزيمة فاحشة، وقتل منهم خلق كثير، ولحق الباقون بالأسطول، وتركوا الأسلحة والأثقال والدواب، فنهبها العرب وأهل البلد. ورجع الفرنج إلى صقيلية، فجددوا أسلحتهم وعادوا إلى المغرب، فوصلوا إلى جيجل، فلما رآهم أهل البلد هربوا إلى البراري والجبال، فدخلها الفرنج وسبوا من أدركوا فيها وهدموها، وأحرقوا القصر الذي بناه يحيى بن عبد العزيز بن حماد للنزهة ثم عادوا.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج الأمير حسن أمير الأمراء على السلطان سنجر بخراسان.

وفيها توفي محمد بن دانشمند صاحب ملطية والثغر، واستولى على بلاده الملك مسعود بن قلج آرسلان صاحب قونية وهو من السلجوقية.
وفيها خرج من الروم عسكر كثير إلى الشام، فحصروا الفرنج بأنطاكية، فخرج صاحبها واجتمع بملك الروم وأصلح حاله معه، وعاد إلى مدينة انطاكية ومات في رمضان من هذه السنة؛ ثم إن ملك الروم بعد أن صالح صاحب أنطاكية سار إلى طرابلس فحصرها ثم سار عنها.
وفيها قبض السلطان مسعود على الأمير ترشك وهو من خواص الخليفة، ثم أطلقه السلطان حفظاً لقلب الخليفة.
وفيها كان بمصر وباء عظيم فهلك فيه أكثر أهل البلاد.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة

ذكر صلح الشهيد والسلطان مسعود
في هذه السنة وصل السلطان مسعود إلى بغداد على عادته في كل ستة، وجمع العساكر، وتجهز لقصد أتابك زنكي، وكان حقد عليه حقداً شديداً.وسبب ذلك أن أصحاب الأطراف الخارجين على السلطان مسعود كانوا يخرجون عليه على ما تقدم ذكره، فكان ينسب ذلك إلى أتابك زنكي ويقول إنه هو الذي سعى فيه وأشار به لعلمه أنهم كلهم كانوا يصدرون عن رايه؛ فكان أتابك زنكي لا شك يفعل ذلك لئلا يخلو السلطان فيتمكن منه ومن غيره؛ فلما تفرغ السلطان، هذه السنة، جمع العساكر ليسير إلى بلاده، فسير أتابك يستعطفه ويستميله، فأرسل إليه السلطان أبا عبد الله بن الأنباري في تقرير القواعد، فاستقرت القاعدة على مائة ألف دينار يحملها إلى السلطان ليعود عنه، فحمل عشرين ألف دينار أكثرها عروض؛ ثم تنقلت الأحوال بالسلطان إلى أن احتاج إلى مداراة أتابك وأطلق له الباقي استمالة له وحفظاً لقلبه، وكان أعظم الأسباب في قعود السلطان عنه ما يعلمه من حصانة بلاده وكثة عساكره وكثرة أمواله.
ومن جيد الرأي ما فعله الشهيد في هذه الحادثة، فإنه كان ولده الأكبر سيف الدين غازي لا يزال عند السلطان سفراً وحضراً بأمر والده، فأرسل إليه الآن يأمره بالهرب من عند السلطان إلى الموصل، فأرسل إلى نائبه بها نصير الدين جقر يقول له ليمنعه عن الدخول والوصول إليه، فهرب غازي. وبلغ الخبر والده، فأرسل إليه يأمره بالعود لى السلطان، ولم يجتمع به، وأرسل معه رسولاً إلى السلطان يقول له: إن ولدي هرب خوفاً من السلطان لما رأى تغيره علي، وقد أعدته إلى الخدمة، ولم أجتمع به، فإنه مملوكك، والبلاد لك، فحل ذلك من السلطان محلاً عظيماً.
ذكر ملك أتابك بعض ديار بكروفي هذه السنة سار أتابك زنكي لى ديار بكر ففتح منها عدة حصون، فمن ذلك: مدينة طنزة، ومدينة اسعرد، ومدينة حيزان، وحصن الروق، وحصن قطليس، وحصن ناتاسا، وحصن ذي القرنين، وغير ذلك مما لم يبلغ شهرة هذه الأماكن، وأخذ أيضاً من بلد ماردين مما هو بيد الفرنج حملين، والموزر، وتل موزن وغيرها من حصون جوسلين،ورتب أمور الجميع وجعل فيها من الأجناد من يحفظها، وقصد مدينة آمد وحاني فحصرهما، وأقام بتلك الناحية مصلحاً لما فتحه، ومحاصراً لما لم يفتحه.
ذكر أمر العيارين ببغدادوفي هذه السنة زاد أمر العيارين وكثروا لأمنهم من الطلب بسبب ابن الوزير وابن قاروت أخي زوجة السلطان، لأنهما كان لهما نصيب في الذي يأخذه العيارون .
وكان النائب في شحنكية بغداد يومئذ مملوك اسمه إيلدكز، وكان صارماً ، مقداماً، ظالماً، فحمله الإقدام إلى أن حضرعند السلطان، فقال له السلطان: إن السياسة قاصرة، والناس قد هلكوا، فقال: يا سلطان العالم إذا كان عقيد العيارين ولد وزيرك وأخا امرأتك فأي قدرة لي على المفسدين؟ وشرح له الحال، فقال له: الساعة تخرج وتكبس عليهما أين كانا، وتصلبهما، فإن فعلت وإلا صلبتك؛ فأخذ خاتمه وخرج فكبس على ابن الوزير فلم يجده، فأخذ من كان عنده، وكبس على ابن قاروت فأخذه وصلبه، فأصبح الناس وهرب ابن الوزير وشاع في الناس الأمر ورثي ابن قاروت مصلوباً، فهرب أكثر العيارين، وقبض على من أقام وكفى الناس شرهم،
ذكر حصر سنجر خوارزم
وصلحه مع خوارزم شاه
قد ذكرنا سنة اثنتين وثلاثين مسير سنجر إلى خوارزم، وملكه لها، وعود أتسز خوارزم شاه إليها وأخذها، وما كان منه بخراسان بعد ذلك؛ فلما كان في هذه السنة سار السلطان سنجر إلى خوارزم، فجمع خوارزم شاه عساكره، وتحصن بالمدينة، ولم يخرج منها لقتال، لعلمه أنه لا يقوى لسنجر.

وكان القتال يجري بين الفريقين من وراء السور، فاتفق في يوم من بعض الأيام ان هجم أمير من أمراء سنجر اسمه سنقر على البلد من الجانب الشرقي ودخله، ودخل أمير آخر اسمه مثقال التاجي من الجانب الغربي، فلم يبق غير ملكه قهراً وعنوة، انصرف مثقال عن البلد حسداً لسنقر، فقوي عليه خوارزم شاه أتسز، فأخرجه من البلد، وبقي سنقر وحده، واشتد في حفظه، فلما رأى السلطان قوة البلد وامتناعه عزم على العود إلى مرو، ولم يمكنه من غير قاعدة تستقر بينهما، فاتفق أن خوارزم شاه أرسل رسلاً يبذل المال والطاعة والخدمة ويعود إلى ما كان عليه من الانقياد، فأجابه إلى ذلك واصطلحا، وعاد سنجر إلى مرو وأقام خوارزم شاه بخوارزم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سير أتابك زنكي عسكراً إلى مدينة عانة من أعمال الفرات فملكوها.
وفيها، في المحرم توفي أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنباطي، الحافظ ببغداد، ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
وفيها توفي أبو الفتوح محمد بن الفضل بن محمد الأسفراييني الوعظ، من أهل اسفرايين من خراسان، وأقام مدة ببغداد يعظ، وسار إلى خراسان، فمات ببسطام، وكان إماماً فاضلاً صالحاً وكان بينه وبين علي الغزنوي تحاسد، فلما مات حضر الغزنوي عزاءه ببغداد وبكى وأكثر، فقال بعض أصحاب أبي الفتوح للغزنوي كلا ماً أغلظ له فيه، فلما قام الغزنوي لامه بعض تلامذته على حضور العزاء وكثرة البكاء وقال له: كنت مهاجراً لهذا الرجل، فلما مات حضرت عزاءه وأكثرت البكاء وأظهرت الحزن؟ قال: كنت أبكي على نفسي، كان يقال فلان وفلان، فمن يعدم النظير أيقن بالرحيل؛ وأنشد هذه الأبيات:
ذهب المبرد وانقضت أيامه ... وسينقضي بعد المبرد ثعلب
بيت من الآداب أصبح نصفه ... خرباً وباق نصفه فسيخرب
فتزودوا من ثعلب فبمثل ما ... شرب المبرد عن قليل يشرب
أوصيكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب
وفيها توفي الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي، في رمضان، معزولاً ودفن بداره بباب الآزج، ثم نقل إلى الحربية.
وفيها توفي أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري النحوي المفسر، وزمخشر إحدى قرى خوارزم.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة

ذكر فتح الرها وغيرها من بلاد الجزيرة
مما كان بيد الفرنج
في هذه السنة، سادس جمادى الأخرة، فتح أتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر مدينة الرها من الفرنج، وفتح غيرها من حصونهم بالجزيرة أيضاً، وكان ضررهم قد عم بلاد الجزيرة وشرهم قد استطار فيها، ووصلت غاراتهم إلى أدانيها وأقاصيها، وبلغت آمد ونصيبين ورأس عين والرقة.
وكانت مملكتهم بهذه الديار من قريب ماردين إلى الفرات مثل الرها، وسروج، والبيرة، وسن ابن عطير ، وحملين، والموزر والقرادي وغير ذلك. وكانت هذه الأعمال مع غيرها مما هو غرب الفرات لجوسلين، وكان صاحب رأي الفرنج والمقدم على عساكرهم، لما هو عليه من الشجاعة والمكر.
وكان أتابك يعلم أنه متى قصد حصرها اجتمع فيها من الفرنج من يمنعها، فيتعذر عليه ملكها لا هي عليه من الحصانة، فاشتغل بديار بكر ليوهم الفرنج أنه غير متفرغ لقصد بلادهم. فلما رأوا أنه غير قادر على ترك الملوك الأرتقية وغيرهم من ملوك ديار بكر، حيث أنه محارب لهم، اطمأنوا، وفارق جوسلين الرها وعبر الفرات إلى بلاد الغربية، فجاءت عيون أتابك إليه فأخبرته فنادى العسكر بالرحيل وأن لا يتخلف عن الرها أحد من غد يومه،وجمع الأمراء عنده، وقال: قدموا الطعام؛ وقال: لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن غداً معي على باب الرها؛ فلم يتقدم إليه غير أمير واحد وصبي لا يعرف، لما يعلمون من إقدامه وشجاعته، وأن أحداً لا يقدر على مجاراته في الحرب، فقال الأمير لذلك الصبي: ما أنت في هذا المقام؟ فقال أتابك: دعه فوالله إني أرى وجهاً لا يتخلف عني.

وسار والعساكر معه، ووصل إلى الرها، وكان هو أول من حمل على الفرنج ومعه ذلك الصبي، وحمل فارس من خيالة الفرنج على أتابك عرضاً، فاعترضه ذلك الأمير فطعنه فقتله، وسلم الشهيد، ونازل البلد، وقاتله ثمانية وعشرين يوماً، فزحف إليه عدة دفعات، وقدم النقابين فنقبوا سور البلد، ولج في قتاله خوفاً من اجتماع الفرنج والمسير أليه واستنقاذ البلد منه، فسقطت البدنة التي نقبها النقابون وأخذ البلد عنوة وقهراً، وحصر قلعته فملكها أيضاً، ونهب الناس الأموال وسبوا الذرية وقتلوا الرجال.
فلما رأى أتابك البلد أعجبه، ورأى أن تخريب مثله لا يجوز في السياسة، فأمر فنودي في العساكر برد من أخذوه من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم، وإعادة ما غنموه من أثاثهم وأمتعتهم، فردوا الجميع عن آخره لم يفقد منهم أحد إلا الشاذ النادر الذي أخذ وفارق من أخذه العسكر،فعاد البلد إلى حاله الأول، وجعل فيه عسكراً يحفظه، وتسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات ما عدا البيرة فإنها حصينة منيعة وعلى شاطئ الفرات، فسار إليها وحاصرها، وكانوا قد اكثروا ميرتها ورجالها، فبقي على حصارها إلى أن رحل عنها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
حكي أن بعض العلماء بالأنساب والتواريخ قال: كان صاحب جزيرة صقلية قد أرسل سرية في البحر إلى طرابلس الغرب وتلك الأعمال، فنهبوا وقتلوا، وكان بصقلية إنسان من العلماء المسلمين، وهو من أهل الصلاح، وكان صاحب صقلية يكرمه ويحترمه، ويرجع إلى قوله، ويقدمه على من عنده من القسوس والرهبان؛ وكان أهل ولايته يقولون إنه مسلم بهذا السبب.
ففي بعض الأيام كان جالساً في منظرة له تشرف على البحر وإذ قد أقبل مركب لطيف، وأخبره من فيه أن عسكر دخلوا بلاد الإسلام، وغنموا وقتلوا وظفروا؛ وكان المسلم إلى جانبه وقد أغفى، فقال له الملك: يأفلان! أما تسمع ما يقولون؟ قال: لا: إنهم يخبرون بكذا وكذا. أين كان محمد عن تلك البلاد وأهلها؟ فقال له: كان قد غلب عنهم، وشهد فتح أرها، وقد فتحها المسلمون الآن؛ فضحك منه من هناك من إفرنج، فقال الملك: لا تضحكوا، فالله ما يقول إلا الحق؛ فبعد أيام وصلت الأخبار من فزنج الشام بفتحها.
وحكى لي جماعة من أهل الدين والصلاح أن إنساناً صالحاً رأى الشهيد في منامه فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بفتح ألرها.
ذكر قتل نصير الدين جقر وولاية زين الدين علي كوجك قلعة الموصلفي هذه السنة، في ذي القعدة، قتل نظير الدين جقر نائب أتابك زنكي بالموصل والأعمال جميعها التي شرق الفرات.
وسبب قتله أن الملك ألب أرسلان المعروف بالخفاجي، ولد السلطان محمود، كان عند أتابك الشهيد، وكان يظهر للخلفاء والسلطان مسعود .أصحاب الأطراف أن هذه البلاد لهذا الملك، وأنا نائبه فيها، وكان ينتظر وفاة السلطان مسعود ليخطب له بالسلطنة، ويملك البلاد باسمه، وكان هذا الملك بالموصل، هذه السنة، ونصير الدين يقصده كل يوم ليقوم بخدمة إن عرضت له، فحسن له بعض المفسدين طلب الملك، وقال له: إن قتلت نصير الدين ملكت الموصل وغيرها من البلاد، ولا يبقى مع أتابك زنكي فارس واحد. فوقع هذا منه موقعاً حسناً وظنه صدقاً، فلما دخل نصير الدين إليه وثب عليه من عنده من أجناد أتابك ومماليكه فقتلوه، وألقوا برأسه إلى أصحابه ظناً منهم أن أصحابه يتفرقون ويخرج الملك ويملك البلد.
وكان الأمر خلاف ما ظنوه، فإن أصحابه وأصحاب أتابك الذين في خدمته لما رأوا رأسه قاتلوا من بالدار مع الملك، واجتمع معهم الخلق الكثير، وكانت دولة أتابك مملوءة بالرجال والأجلاد ذوي الرأي والتجربة، ثم دخل إليه القاضي تاج الدين يحيى الشهرزوري ولم يزل به يخدعه، وكان فيما قال له حين رآه منزعجاً: يامولانا لم تحرد من هذا الكلب؟ هذا واستاذه مماليك، والحمد لله الذي أراحنا منه ومن صاحبه على يدك، وما الذي يقعدك في هذه الدار؟ قم لتصعد القلعة وتأخذ الأموال والسلاح وتملك البلد وتجمع الجند، وليس دون البلاد بعد الموصل مانع.
فقام معه وركب القلعة، فلما قاربها أراد من بها من النقيب والأجناد القتال، فتقدم إليهم تاج الدين وقال لهم: افتحوا الباب وتسلموه، وافعلوا به ما أردتم؟ ففتحوا الباب ودخل الملك والقاضي إليها ومعهما من أعان على قتل نصير الدين، فسجنوا ونزل القاضي.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34