كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

فاجتمع محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة، والحارث بن أوس بن معاذ، وكان أخا كعب من الرضاعة، وعباد بن بشر، وأبو عبس بن جبر، ثم قدموا إلى ابن الأشرف أبا نائلة، فتحدث معه ثم قال له: يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة فاكتمها عي. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل شؤماً على العرب، قطع عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت البهائم. فقال كعب: قد كنت أخبرتك بهذا. قال أبو نائلة: وأريد أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك. قال: ترهنونني أبنائكم ؟ قال: أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابي على مثل رأيي تبيعهم وتحسن ونجعل عندك رهناً من الحلقة ما فيه وفاء، وأراد أبو نائلة بذكر الحلقة، وهي السلاح، أن لا ينكر السلاح إذا جاء مع أصحابه. فقال: إن في الحلقة لوفاء.
فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم، فأخذوا السلاح وساروا إليه، وشيعهم النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى بقيع الغرقد ودعا لهم. فلما انتهوا إلى حصن كعب هتف به أبو نائلة، وكان كعب قريب عهدٍ بعرس، فوثب إليه، وتحدثوا ساعةً، وسار معهم إلى شعب العجوز. ثم إن أبا نائلة أخذ برأس كعب وشم بيده وقال: ما رأيت كالليلة طيباً أعرف قط. ثم مشى ساعة وعاد لمثلها حتى اطمأن كعب، ثم مشى ساعة وأخذ بفود رأسه ثم قال: اضربوا عدو الله ! فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئاً. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولاً في سيفي فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، قال: فوضعته في ثندوئته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله.
وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ، أصابه بعض أسيافنا، قال: فخرجنا على بعاث وقد أبطأ علينا صاحبنا فوقفنا له ساعة وقد نزفه الدم، ثم أتانا فاحتلمناه وجئنا به النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا وعدنا إلى أهلينا فأصبحنا وقد خافت يهود، ليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه.
قال: وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه. فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة اليهودي وهو من تجار يهود، فقتله، وكان يبايعهم، فقال لهم أخوه حويصة، وهو مشرك: يا عدو الله قتلته ؟! أما والله لرب شحمٍ في بطنك من ماله ! وضربه، فقال محيصة: لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك. قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة. فقال: إن ديناً بلغ بك ما أرى لعجب. ثم أسلم.
عبس بن جبر بفتح العين المهملة، وسكون الباء الموحدة. وجبر بالجيم، والباء الموحدة. وسنينة تصغير سن.
وفي ربيع الأول منها تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت النبي، صلى الله عليه وسلم، وبنى بها في جمادى الآخرة. وفيها ولد السائب بن يزيد ابن أخت نمير. وقال الواقدي: وفيها غزا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غزوة أنمار يقال لها دوام، وقد ذكرنا قول ابن إسحاق قبل ذلك.
وفيها كان غزوة القردة، وكان أميرها زبد بن حارثة، وهي أول سرية خرج فيها زيد أميراً.
وكان من حديثها أن قريشاً خافت من طريقها التي كانت تسلك إلى الشام بعد بدر، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم جماعةٌ فيهم صفوان بن أمية وأبو سفيان. وكان عظيم تجارتهم الفضة، وكان دليلهم فرات بن حيان من بكر بن وائل، فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زيداً، فلقيهم على ماء يقال له الفردة، فأصاب العير وما فيها، وأعجزه الرجال، فقدم بها على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان الخمس عشرين ألفاً، وقسم الأربعة الأخماس على السوية، وأتي بفرات بن حيان أسيراً فأسلم، فأطلقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
الفردة: ماء بنجد، وقد اختلف العلماء في ضبطه، فقيل فردة بالفاء المفتوحة والراء الساكنة، وبه مات زيد الخيل، ويرد ذكره، وضبطه ابن الفرات في غير موضع قردة بالقاف، وقال ابن إسحاق: وسير زيد بن حارثة إلى الفردة، ماء من مياه نجد، ضبطه ابن الفرات أيضاً بفتح الفاء والراء، فإن كانا مكانين وإلا فقط ضبط ابن الفرات أحدهما خطأ.
ذكر قتل أبي رافع

في هذه السنة في جمادي الآخرة قتل أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي، وكان يظاهر كعب بن الأشرف على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما قتل كعب بن الأشرف، وكان قتلته من الأوس، قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها علينا عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكانا يتصاولان تصاول الفحلين، فتذاكر الخزرج من يعادي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحقيق، وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قتله، فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج عبد الله بن عتيك ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة وخزاعي بن الأسود حليف لهم وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، فخرجوا حتى قدموا خيبر فأتوا دار أبي رافع ليلاً، فلم يدعوا باباً في الدار إلا أغلقوه على أهله، وكان في علية فاستأذنوا عليه، فخرجت امرأته فقالت: من أنتم ؟ قالوا: نفر من العرب يلتسمون الميرة. قالت: ذاك صاحبكم فادخلوا عليه، فدخلوا. فلما دخلوا أغلقوا باب العلية ووجدوه على فراشه وابتدروه، فصاحت المرأة، فجعل الرجل منهم يريد قتلها، فيذكر نهي النبي، صلى الله عليه وسلم، إياهم عن قتل النساء والصبيان، فيمسك عنها، وضربوه بأسيافهم، وتحامل على عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، ثم خرجوا من عنده. وكان عبد الله بن عتيك سيئ البصر، فوقع من الدرجة فوثئت رجله وثأً شديداً، فاحتملوه واختفوا، وطلبتهم يهود في كل وجه فلم يروهم، فرجعوا إلى صاحبهم، فقال المسلمون: كيف نعلم أن عدو الله قد مات ؟ فعاد بعضهم ودخل في الناس فرأى الناس حوله وهو يقول: لقد عرفت صوت ابن عتيك، ثم قلت: أين ابن عتيك ؟ ثم صاحت امرأته وقالت: مات والله. قال: فما سمعت كلمة ألذ إلى نفسي منها. ثم عاد إلى أصحابه وأخبرهم الخبر وسمع صوت الناعي يقول: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز. وساروا حتى قدموا على النبي، صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في قتله. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: هاتوا أسيافكم، فجاؤوا بها، فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر العظام.
وقيل في قتله: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعث إلى أبي رافع اليهودي، وكان بأرض الحجاز، رجالاً من الأنصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما دنوا منه غربت الشمس وراح الناس بسرجهم، فقال عبد الله بن عتيك لأصحابه: أقيموا مكانكم فإني أنطلق وأتلطف للبواب لعلي أدخل. فانطلق فأقبل حتى دنا من الباب فتقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، فهتف به البواب: إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخل وأغلق الباب وعلق المفاتيح على وتد، قال: فقمت فأخذتها ففتحت بها الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده في علالي. فلما أراد النوم ذهب عنه السمار، فصعدت إليه فجعلت كلما فتحت باباً أغلقته علي من داخل، فقلت: إن علموا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله. قال: فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو. فقلت: أبا رافع ؟! قال: من هذا ؟ فأهويت نحو الصوت فضربته ضربة بالسيف وأنا دهشٌ، فما أغنى عني شيئاً وصاح، فخرجت من البيت غير بعيد ثم دخلت عليه فقلت: ما هذا الصوت ؟ قال: لأمك الويل! إن رجلاً في البيت ضربني بالسيف. قال: فضربته بأثخنته فلم أقتله، ثم وضعت حد السيف في بطنه حتى أخرجته من ظهره، فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب وأخرج حتى انتهيت إلى درجة فوضعت رجلي وأنا أظن أني انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة وانكسرت ساقي فعصبتها بعمامتي وجلست عند الباب فقلت: والله لا أبرح حتى أعلم أقتلته أم لا. فلما صاح الديك قام الناعي فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء ! قد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فحدثته. قال: ابسط رجلك. فبسطتها فمسحها فكأني لم أشتكها قط.
قيل: كان قتل أبي رافع في ذي الحجة سنة أربع من الهجرة، والله أعلم.
سلام بتشديد اللام. وحقيق بضم الحاء المهملة، وفتح القاف الأولى، تصغير حق.

وفيها تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حفصة بنت عمر بن الخطاب في شعبان، وكانت قبله تحت خنيس بضم الخاء المعجمة، وبالنون المفتوحة، وبالياء المعجمة باثنتين من تحت، وبالسين المهملة وهو ابن حذافة السهمي، فتوفى فيها.
ذكر غزوة أحدوفيها في شوال لسبع ليالٍ خلون منه كانت وقعة أحد، وقيل للنصف، وكان الذي هاجها وقعة بدر، فإنه لما أصيب من المشركين من أصيب ببدر مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم بها، فكلموا أبا سفيان ومن كان له في تلك العير تجارة وسألوهم أن يعينوهم بذلك المال على حرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليدركوا ثأرهم منهم، ففعلوا وتجهز الناس وأرسلوا أربعة نفر، وهم: عمرو بن العاص، وهبيرة بن وهب، وأبن الزبعرى، وأبو عزة الجمحي، فساروا في العرب ليستنفروهم، فجمعوا جمعاً من ثقيف وكنانة وغيرهم، واجتمعت قريش بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وتهامة، ودعا جبير بن مطعم غلامه وحشي بن حرب، وكان حبشياً يقذف بالحربة قل ما يخطئ، فقال له: اخرج مع الناس فإن قتلت عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق.
وخرجوا معهم بالظعن لئلا يفروا، وكان أبو سفيان قائد الناس، فخرج بزوجته هند بنت عتبة، وغيره من رؤساء قريش خرجوا بنسائهم، خرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وخرج الحارث بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد، وخرج صفوان بن أمية ببريرة، وقيل برزة بنت مسعود الثقفية أخت عروة بن مسعود، وهي أم ابنه عبد الله بن صفوان، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم ولده عبد الله بن عمرو، وخرج طلحة بن أبي طلحة بسلافة بنت سعد، وهي أم بنيه مسافع والحلاس وكلاب وغيرهم. وكان مع النساء الدفوف يبكين على قتلى بدر يحرضن بذلك المشركين.
وكان مع المشركين أبو عامر الراهب الأنصاري، وكان خرج إلى مكة مباعداً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعه خمسون غلاماً من الأوس، وقيل كانوا خمسة عشر، وكان يعد قريشاً أنه لو لقي محمداً لم يتخلف عنه من الأوس رجلان. فلما التقى الناس بأحد كان أبو عامر أول من لقي في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر. فقالوا: فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق ! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر قاتلهم قتالاً شديداً حتى راضخهم بالحجارة. وكانت هند كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت له: يا أبا دسمة اشف واستشف، وكان يكنى أبا دسمة. فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة.
فلما سمع بهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون قال: إني رأيت بقراً فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماُ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم فإن أقاموا بشر مقام وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
وكان رأي عبد الله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يكره الخروج، وأشار بالخروج جماعةٌ ممن استشهد يومئذٍ.
وأقامت قريش يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين صلى الجمعة فالتقوا يوم السبت نصف شوال. فلما لبس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سلاحه وخرج ندم الذين كانوا أشاروا بالخروج إلى قريش وقالوا: استكرهنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونشير عليه، فالوحي يأتيه فيه، فاعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما شئت. فقال: لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل.

فخرج في ألف رجل، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فلما كان بين المدينة وأحد عاد عبد الله بن أبي بثلث الناس، فقال: أطاعهم وعصاني، وكان من تبعه أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن حرام أخو بني سلمة يذكرهم الله أن لا يخذلوا نبيهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، وانصرفوا. فقال: أبعدكم الله أعداء الله ! فسيغني الله عنكم ! وبقي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في سبعمائة، فسار في حرة بني حارثة وبين أموالهم، فمر بمال رجل من المنافقين يقال له مربع بن قيظي، وكان ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن معه قام يحثي التراب في وجوههم ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وأخذ حفنة من تراب في يده وقال: لو أعلم أني لا أصيب غيرك لضربت به وجهك. فابتدروه ليقتلوه، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا فهذا الأعمى البصر والقلب. فضربه سعد بن زيد بقوس فشجه.
وذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف صاحبه، فاستله، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: سيوفكم، فإني أرى السيوف ستسل اليوم.
وسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى نزل بعدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وكان المشركون ثلاثة آلاف، منهم سبعمائة دارع، والخيل مائتي فرس والظعن خمس عشرة امرأة، وكان المسلمون مائة دارع ولم يكن من الخيل غير فرسين، فرس لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة بن نيار، وعرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المقاتلة فرد زيد بن ثابت وابن عمر وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب وعرابة بن أوس وأبا سعيد الخدري وغيرهم، وأجاز جابر بن سمرة ورافع بن خديج.
وأرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول: خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم فلا حاجة بنا إلى قتالكم. فردوا عليه بما يكره.
وتعبأ المشركون فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، وكان لواؤهم مع بني عبد الدار، فقال لهم أبو سفيان: إنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، فإما أن تكفونا وإما أن تخلوا بيننا وبين اللواء، يحرضهم بذلك. فقالوا: ستعلم إذا التقينا كيف نصنع، وذلك أراد.
واستقبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة وترك أحد خلف ظهره وجعل وراءه الرمادة، وهم خمسون رجلاً، وأمر عليهم عبدالله بن جبير، أخا خوات بن جبير، وقال له: انضح عنا الخيل بالنيل لا يأتونا من خلفنا واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا. وظاهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين درعين وأعطى اللواء مصعب بن عمير، وأمر الزبير على الخيل ومع المقداد، وخرج حمزة بالجيش بين يديه.
وأقبل خالد وعكرمة فلقيهما الزبير والمقداد فهزما المشركين، وحمل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فهزموا أبا سفيان، وخرج طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين وقال: يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم. إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة أو يعجلني سيفه إلى النار ؟ فبرز إليه علي بن أبي طالب، فضربه علي فقطع رجله، فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله والرحم فتركه، فكبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال لعلي: ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال: إنه ناشدني الله والرحم فاستحييت منه.
وكان بيد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سيف، فقال: من يأخذه بحقه ؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم حتى قام أبو دجانة فقال: وما حقه يا رسول الله ؟ قال: تضرب به العدو حتى تثخن. قال: أنا آخذه. فأعطاه إياه. وكان شجاعاً، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء علم الناس أنه يقاتل، فعصب رأسه بها وأخذ السيف وجعل يتبختر بين الصفين. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)، فجعل لا يرتفع له شيء إلا حطمه حتى انتهى إلى نسوةٍ في سفح الجبل معهن دفوفٌ لهن فيهن امرأة تقول:
نحن بنات طارق ... نمشي على النّمارق
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النّمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
وتقول أيضاً:
إيها بني عبد الدّار ... إيها حماة الدّيار
ضرباً بكلّ بتّار

فرفع السف ليضربها، ثم أكرم سيف الله، صلى الله عليه وسلم، أن يضرب به امرأة. وكانت المرأة هند، والنساء معها يضربن بالدفوف خلف الرجال يحرضن.
واقتتل الناس قتالاً شديداً، وأمعن في الناس حمزة وعلي وأبو دجانة في رجال من المسلمين، وأنزل الله نصره على المسلمين، وكانت الهزيمة على المشركين، وهرب النساء مصعدات في الجبل، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون. فلما نظر بعض الرماة إلى العسكر حين انكشف الكفار عنه أقبلوا يريدون النهب، وثبتت طائفة وقالوا: نطيع رسول الله ونثبت مكاننا، فأنزل الله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ) آل عمران: 152؛ يعني اتباع أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
قال ابن مسعود: وما علمت أن أحداً من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يريد الدنيا حتى نزلت الآية.
فلما فارق بعض الرماة مكانهم رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة، فحمل عليهم فقتلهم، وحمل على أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، من خلفهم. فلما رأى المشركون خيلهم تقاتل تبادروا فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم، وقد كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء، فبقي مطروحاً لا يدنو منه أحدٌ، فأخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته، فاجتمعت قريش حوله، وأخذه صؤاب فقتل عليه، وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي، قاله أبو رافع، قال: فلما قتلهم أبصر النبي، صلى الله عليه وسلم، جماعة من المشركين، فقال لعلي: احمل عليهم، ففرقهم وقتل فيهم، ثم أبصر جماعةً أخرى فقال له: احمل عليهم، فحمل عليهم وفرقهم وقتل فيهم، فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المؤاساة ؟! فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنه مني وأنا منه. فقال جبرائيل: وأنا منكما. قال: فسمعوا صوتاً: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتىً إلا علي.
وكسرت رباعية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، السفلى وشقت شفته وكلم في وجنته وجبهته في أصول شعره، وعلاه بن قمئة بالسيف، وكان هو الذي أصابه، وقيل: أصابه عتبة بن وقاص، وقيل: عبد الله بن شهاب الزهري جد محمد بن مسلم.
وقيل: إن عتبة بن أبي وقاص، وابن قمئة الليثي الأدرمي، من بني تيم بن غالب، وكان أدرم ناقص الذقن، وأبي بن خلف الجمحي، وعبد الله بن حميد الأسدي، أسد قريش، تعاقدوا على قتل رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ فأما ابن شهاب فأصاب جبهته، وأما عتبة فرماه بأربعة أحجار فكسر رباعتيه اليمنى وشق شفته، وأما ابن قمئة فكلم وجنته ودخل من حلق المغفر فيها وعلاه بالسيف فلم يطق أن يقطعه فسقط رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فجحشت ركبته، وأما أبي بن خلف فشد عليه بحربة، فأخذها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منه وقتله بها، وقيل: بل كانت حربة الزبير أخذها منه، وقيل: أخذها من الحارث بن الصمعة، وأما عبد الله بن حميد فقتله أبو دجانة الأنصاري.
ولما جرح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل الدم يسيل على وجه وهو يمسحه ويقول: كيف يفلح قومٌ خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله ! وقاتل دونه نفرٌ خمسة من الأنصار فقتلوا، وترس أبو دجانة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بنفسه، فكان يقع النبل في ظهره وهو منحنٍ عليه، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يناوله السهم ويقول: ارم فداك أبي وأمي.
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، فردها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيده، فكانت أحسن عينيه. وقاتل مصعب بن عمير ومعه لواء المسلمين فقتل، قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه النبي، صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش وقال: قتلت محمداً. فجعل الناس يقولون: قتل محمد، قتل محمد.
ولما قتل مصعب أعطى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اللواء علي بن أبي طالب. وقاتل حمزة حتى مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني، فقال له حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور ! وكانت أمه أم أنمار ختانة بمكة فلما التقيا ضربه حمزة فقتله، قال وحشي، إني والله لأنظر إلى حمزة وهو يهذ الناس بسيفه هذا ما يلقى شيئاً يمر به إلا قتله، وقتل سباع بن عبد العزى. قال: فهززت حربتي ودفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه وأقبل نحوي فغلب فوقع، فأمهلته حتى مات فأخذت حربتي ثم تنحيت إلى العسكر، فرضي الله عن حمزة وأرضاه.

وقتل عاصم بن ثابت مسافع بن طلحة وأخاه كلاب بن طلحة بسهمين، فحملا إلى أمها سلافة وأخبراها أن عاصماً قتلهما، فنذرت إن أمكنها الله من رأسه أن تشرب فيه الخمر.
وبرز عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان مع المشركين، وطلب المبارزة، فأراد أبو بكر أن يبرز إليه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: شم سيفك وأمتعنا بك.
وانتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يحبسكم قالوا: قد قتل النبي، صلى الله عليه وسلم. قال: فما تصنعون بالحياة بعده ! قوموا فموتوا على ما مات عليه. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل، فوجد به سبعون ضربة وطعنة، وما عرفه إلا أخته، عرفته بحسن بنانه.
وقيل: إن أنس بن النضر سمع نفراً من المسلمين يقولون، لما سمعوا أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قتل: ليت لنا من يأتي عبد الله بن أبي بن سلول ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان قبل أن يقتلونا. فقال لهم أنس: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد. اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ! ثم قاتل حتى قتل.
وكان أول من عرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كعب بن مالك، قال: فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا ! هذا رسول الله حي لم يقتل، فأشار إليه: أنصت. فلما عرفه المسلمون نهضوا نحو الشعب ومعه علي وأبو بكر وعمر وطلحة والزبير والحارث بن الصمة وغيرهم. فلما أسند إلى الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: يا محمد لا نجوت إن نجوت ! فعطف عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فطعنه بالحربة في عنقه، وكان أبي يقول بمكة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن عندي العود أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه. فيقول له النبي، صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى. فلما رجع إلى قريش وقد خدشه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خدشاً غير كبير قال: قتلني محمد. قالوا: والله ما بك بأسٌ. قال: إنه قد كان قال لي أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني ! فمات عدو الله بسرف.
وقاتل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم أحد قتالاً شديداً، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه وانقطع وتره. ولما جرح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل علي ينقل له الماء في درقته من المهراس ويغسله، فلم ينقطع الدم، فأتت فاطمة وجعلت تعانقه وتبكي، وأحرقت حصيراً وجعلت على الجرح من رماده فانقطع الدم.
ورمى مالك بن زهير الحشمي النبي، صلى الله عليه وسلم، فاتقاه طلحة بيده فأصاب السهم خنصره، وقيل: رماه حبان بن العرقة، فقال: حس، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لو قال: باسم الله، لدخل الجنة، والناس ينظرون إليه، إن يده شلت إلا السبابة والوسطى؛ والأول أثبت.
وصعد أبو سفيان ومعه جماعة من المشركين في الجبل، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ليس لهم أن يعلونا، فقاتلهم عمر وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوهم، ونهض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الصخرة ليعلوها، وكان عليه درعان، فلم يستطع، فجلس تحته طلحة حتى صعد، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أوجب طلحة.
وانتهت الهزيمة بجماعة المسلمين، فيهم عثمان بن عفان وغيره، إلى الأعوص، فأقاموا به ثلاثاً ثم أتوا النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال لهم حين رآهم: لقد ذهبتم فيها عريضة.
والتقى حنظلة بن أبي عامر، غسيل الملائكة، وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود وهو ابن شعوب، فدعاه أبو سفيان، فأتاه، فضرب حنظلة فقتله، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنه لتغسله الملائكة. فسلوا أهله فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب، سمع الهائعة، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لذلك غسلته الملائكة. وقال أبو سفيان يذكر صبره ومعاونة ابن شعوب إياه على قتل حنظلة:
ولو شئت نجّتني كميت طمرّةٌ ... ولم أحمل النّعماء لابن شعوب
فما زال مهري مزجر الكلب منهم ... لدن غدوةً حتى دنت لغروب
أقاتلهم وأدّعي بال غالبٍ ... وأدفعهم عني بركن صليب
فبكّي ولا ترعي مقالة عاذلٍ ... ولا تسأمي من عبرةٍ ونحيب

أباك وإخواناً لنا قد تتابعوا ... وحقّ لهم من عبرةٍ بنصيب
وسلّى الذي قد كان في النفس أنّني ... قتلت من النّجّار كلّ نجيب
ومن هاشمٍ قرناً نجيباً ومصعباً ... وكان لدى الهيجاء غير هيوب
ولو أنّني لم أشف منهم قرونتي ... لكانت شجاً في القلب ذات ندوب
فأجابه حسان بقوله:
ذكرت القروم الصّيد من آل هاشم ... ولست لزورٍ قلته بمصيب
أتعجب أن أقصدت حمزة منهم ... عشاء وقد سمّيته بنجيب
ألم يقتلوا عمراً وعتبة وابنه ... وشيبة والحجّاج وابن حبيب
غداة دعا العاصي علياً فراعه ... بضربة عضبٍ بلّه بخضيب
ووقعت هند وصواحباتها على القتلى يمثلن بهم، واتخذت هند من آذان الرجال وآنافهم خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وحشياً، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
ثم أشرف أبو سفيان على المسلمين فقال: أفي القوم محمد ؟ ثلاثاً، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاثاً. ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاثاً. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فقال عمر: كذبت أي عدو الله قد أبقى الله لك ما يخزيك. فقال: اعل هبل، اعل هبل. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قولوا الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: إنا لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمداً ؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك. فقال: أنت أصدق من ابن قمئة ! ثم قال: هذا بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في قتلاكم مثلاً، والله ما رضيت ولا سخطت ولا نهيت ولا أمرت واجتاز به الحيس بن زبان سيد الأحابيش وهو يضرب في شدق حمزة بزج الرمح ويقول: ذق عقق ! فقال الحليس: يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه كما ترون. فقال أبو سفيان: اكتمها عني فإنها زلة.
وكانت أم أيمن حاضنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونساء من الأنصار يسقين الماء، فرماها حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيلها، فضحك، فدفع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى سعد بن أبي وقاص سهماً وقال: ارمه. فرماه فأصابه، فضحك النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال: استقاد لها سعد، أجاب الله دعوتك وسدد رميتك.
ثم انصرف أبو سفيان ومن معه وقال: إن موعدكم العام المقبل. ثم بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً في أثرهم وقال: انظر فإن جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في أثرهم، فامتطوا الإبل وجنبوا الخيل يريدون مكة، فأقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمره بالكتمان.
وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رجلاً أن ينظر في القتلى، فرأى سعد بن الربيع الأنصاري وبه رمق، فقال للذي رآه: أبلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عني السلام وقل له جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومي السلام وقل لهم لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أذىً وفيكم عين تطرف. ثم مات.
ووجد حمزة ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ومثل به، فحين رآه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: لولا أن تحزن صفية أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم. وقال المسلمون: لنمثلن بهم مثلةً لم يمثلها أحد من العرب، فأنزل الله في ذلك: (وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) الآية النحل: 126، فعفا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصبر ونهى عن المثلة.

وأقبلت صفية بنت عبد المطلب، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لابنها الزبير ليردها لئلا ترى ما بأخيها حمزة، فلقيها الزبير فأعلمها بأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنه بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله قليل ! فما أرضانا بما كان من ذلك ! لأحتسبن ولأصبرن. فأعلم الزبير النبي، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فقال: خل سبيلها، فأتته وصلت عليه واسترجعت، وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، به فدفن.
وكان في المسلمين رجلٌ اسمه قزمان، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول إنه من أهل النار، فقاتل يوم أحد قتالاً شديداً، فقتل من المشركين ثمانية أو تسعة، ثم جرح فحمل إلى داره، وقال له المسلمون: أبشر قزمان ! قال: بم أبشر، وأنا ما قاتلت إلا عن أحساب قومي ؟ ثم اشتد عليه جرحه فأخذ سهماً فقطع رواهشه فنزف الدم، فمات، فأخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أني رسول الله.
وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق اليهودي، قال ذلك اليوم ليهود: يا معشر يهود، لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق. فقالوا: إن اليوم السبت. فقال: لا سبت، وأخذ سيفه وعدته وقال: إن قتلت فما لي لمحمد يصنع به ما يشاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود.
وقتل اليمان أبو حذيفة، قتله المسلمون، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رفعه وثابت بن قيس بن وقش مع النساء، فقال أحدهما لصاحبه، وهما شيخان: ما ننتظر ؟ أفلا نأخذ أسيافنا فنلحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم ؟ لعل الله يرزقنا الشهادة. ففعلا ودخلا في الناس ولا يعلم بهما، فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فاختلفت عليه سيوف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه، فقال حذيفة: أبي أبي ؟! فقالوا: والله ما عرفناه. فقال: يغفر الله لكم. وأراد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين.
واحتمل بعض النساء قتلاهم إلى المدينة، فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بدفنهم حيث صرعوا، وأمر أن يدفن الاثنان والثلاثة في القبر الواحد، وأن يقدم إلى القبلة أكثرهم قرآناً، وصلى عليهم، فكان كلما أتي بشهيد جعل حمزة معه وصلى عليهما، وقيل: كان يجمع تسعة من الشهداء وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم، ونزل في قبره علي وأبو بكر وعمر والزبير، وجلس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على حفرته وأمر أن يدفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام في قبر واحد، وقال: كانا متصافيين في الدنيا.
فلما دفن الشهداء انصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلقيته حمنة بنت جحش، فنعى لها أخاها عبد الله، فاسترجعت له، ثم نعى لها خالها حمزة، فاستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير، فولولت وصاحت، فقال: إن زوج المرأة منها لبمكان.
ومر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بدار من دور الأنصار فسمع البكاء والنوائح، فذرفت عيناه فبكى وقال: لكن حمزة لا بواكي له ؟! فرجع سعد بن معاذ إلى دار عبد الأشهل فأمر نساءهم أن يذهبن فيبكين على حمزة.
ومر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بامرأة من الأنصار قد أصيب أبوها وزوجها، فلما نعيا لها قالت: ما فعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم ؟ قال: هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه، فلما نظرت إليه قالت: كل مصيبة بعدك جللٌ.
وكان رجوعه إلى المدينة يوم السبت يوم الوقعة.
ينار بالنون المكسورة، والياء تحتها نقطتان، وآخره راء. وجبير بضم الجيم، تصغير جبر. وخوات بالخاء المعجمة، والواو المشددة، وبعد الألف تاء فوقها نقطتان. وحبان بكسر الحاء المهملة، وبالباء الموحدة، وآخره نون. والحليس بضم الحاء المهملة، تصغير حلس. وزبان بالزاي، والباء الموحدة وآخره نون.
ذكر غزوة حمراء الأسد

لما كان الغد من يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالغزو وقال: لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فخرج ليظن الكفار به قوة، وخرج معه جماعة جرحى يحملون نفوسهم وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد، وهي من المدينة على سبعة أميال، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ومر به معبد الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، بتهامة، وكان معبد مشركاً، فقال: يا محمد لقد عز علينا ما أصابك. ثم خرج من عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فلقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليستأصلوا المسلمين بزعمهم، فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراءك ؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله، قد جمع معه من تخلف عنه وندموا على ما صنعوا، وما ترحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله قد أجمعنا الرجعة لنستأصل بقيتهم. قال: إني أنهاك عن هذا، فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه.
ومر بأبي سفيان ركب من عبد القيس فقال لهم: بلغوا عني محمداً رسالة وأحمل لكم إبلكم هذه زبيباً بعكاظ. قالوا: نعم. قال: أخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصلهم. فمروا بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وهو بحمراء الأسد فأخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم عاد إلى المدينة وظفر في طريقه بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وبأبي عزة عمرو بن عبيد الله الجمحي، وكان قد تخلف عن المشركين بحمراء الأسد، ساروا وتركوه نائماً، وكان أبو عزة قد أسر يوم بدر، فأطلقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم بغير فداء لأنه شكا إليه فقراً وكثرة عيال، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليه العهود أن لا يقاتله ولا يعين على قتاله، فخرج معهم يوم أحد وحرض على المسلمين، فلما أتي به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال له: يا محمد امنن علي. قال: المؤمن لا يلدغ من حجر مرتين. وأمر به فقتل.
وأما معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وهو الذي جدع أنف حمزة ومثل به مع من مثل به، وكان قد أخطأ الطريق، فلما أصبح أتى دار عثمان بن عفان، فلما رآه قال له عثمان: أهلكتني وأهلكت نفسك. فقال: أنت أقربهم مني رحماً وقد جئتك لتجيرني. وأدخله عثمان داره، وقصد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليشفع فيه، فسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: إن معاوية بالمدينة فاطلبوه؛ فأخرجوه من منزل عثمان، وانطلقوا به إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان: والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له أماناً فهبه لي، فوهبه له وأجله ثلاثة أيام وأقسم لئن أقام بعدها ليقتلنه، فجهزه عثمان وقال له: ارتحل.
وسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى حمراء الأسد وأقام معاوية ليعرف أخبار النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما كان اليوم الرابع قال النبي، صلى الله عليه وسلم: إن معاوية أصبح قريباً ولم يبعد، فاطلبوه، فطلبه زيد بن حارثة وعمار فأدركاه بالحماة فقتلاه.
وهذا معاوية جد عبد الملك بن مروان بن الحكم لأمه.
وفيها قيل ولد الحسن بن علي في النصف من شهر رمضان. وفيها علقت فاطمة بالحسين، وكان بين ولادتها وحملها خمسون يوماً. وفيها حملت جميلة بنت عبد الله بن أبي عامر غسيل الملائكة في شوال.
؟

ودخلت السنة الرابعة من الهجرة
ذكر غزوة الرجيع

في هذه السنة في صفر كانت غزوة الرجيع. وكان سببها أن رهطاً من عضل والقارة قدموا على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فينا إسلاماً فابعث لنا نفراً يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن. فبعث معهم ستة نفر وأمر عليهم عاصم بن ثابت، وقيل: مرثد بن أبي مرثد، فلما كانوا بالهدأة غدروا واستصرخوا عليهم حياً من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فبعثوا لهم مائة رجل، فالتجأ المسلمون إلى جبل فاستنزلوهم وأعطوهم العهد، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، اللهم خبر نبيك عنا ! وقاتلهم هو مرثد وخالد بن البكير، ونزل إليهم ابن الدثنة وخبيب بن عدي ورجل آخر فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أتبعكم ! فقتلوه وانطلقوا بخبيب وابن الدثنة فباعوهما بمكة، فأخذ خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بأحد، فأخذوه ليقتلوه بالحارث، فبينما خبيب عند بنات الحارث استعار من بعضهن موسى يستحد بها للقتل، فدب صبي لها فجلس على فخذ خبيب والموسى في يده، فصاحت المرأة، فقال خبيب: أتخشين أن أقتله ؟ إن الغدر ليس من شأننا. فكانت المرأة تقول: ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، لقد رأيته وما بمكة ثمرة وإن في يده لقطفاً من عنب يأكله ما كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً.
فلما خرجوا من الحرم بخبيب ليقتلوه قال: ردوني أصل ركعتين، فتركوه، فصلاهما، فجرت سنة لمن قتل صبراً، ثم قال خبيب: لولا أن تقولوا جزع لزدت، وقال أبياتاً، منها:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أيّ شيء كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلوٍ ممزّع
اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً ! ثم صلبوه.
وأما عاصم بن ثابت فإنهم أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكانت نذرت أن تشرب الخمر في رأس عاصم لأنه قتل ابنيها بأحد، فجاءت النحل فمنعته، فقالوا: دعوه حتى يمسي فنأخذه. فبعث الله الوادي فاحتمل عاصماً، وكان عاهد الله أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فمنعه الله في مماته كما منع في حياته.
وأما ابن الدثنة فإن صفوان بن أمية بعث به مع غلامه نسطاس إلى التنعيم ليقتله بابنيه، فقال نسطاس: أنشدك الله أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ قال: ما أحب أن محمداً الآن مكانه الذي هو فيه شوكة تؤذيه وأنا جالسٌ في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يجب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً. ثم قتله نسطاس.
خبيب بضم الخاء المعجمة، وفتح الباء الموحدة، بعدها ياء تحتها نقطتان، وآخره باء موحدة أيضاً. والبكير بضم الباء الموحدة، تصغير بكر.
ذكر إرسال عمرو بن أمية لقتل أبي سفيانولما قتل عاصم وأصحابه بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو ابن أمية الضمري إلى مكة مع رجل من الأنصار وأمرهما بقتل أبي سفيان بن حرب، قال عمرو: فخرجت أنا ومعي بعير لي وبرجل صاحب علةٌ، فكنت أحمله على بعيري حتى جئنا بطن يأجج، فعقلنا بعيرنا في الشعب وقلت لصاحبي: انطلق بنا إلى أبي سفيان لنقتله، فإن خشيت شيئاً فاحلق بالبعير فاركبه والحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخبره الخبر عني. وأوغل بالبلد يحث السياق.

فدخلنا مكة ومع يخنجر قد أعددته إن عاقني إنسان ضربته به، فقال لي صاحبي: هل لك أن نبدأ فنطوف ونصلي ركعتين ؟ فقلت: إن أهل مكة يجلسون بأفنيتهم وأنا أعرف بها. فلم نزل حتى أتينا البيت فطفنا وصلينا ثم خرجنا فمررنا بمجلس لهم، فعرفني بعضهم فصرخ بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية ! فثار أهل مكة إلينا وقالوا: ما جاء إلا لشر، وكان فاتكاً متشيطناً في الجاهلية، فقلت لصاحبي: النجاء ! هذا الذي كنت أحذر، أما أبو سفيان فليس إليه سبيل، فانج بنفسك. فخرجنا نشتد حتى صعدنا الجبل فدخلنا غاراً فبتنا فيه ليلتنا ننتظر أن يسكن الطلب. قال: فوالله إني لفيه إذ أقبل عثمان بن مالك التيمي يختل بفرس له، فقام على باب الغار، فخرجت إيه فضربته بالخنجر، فصاح صيحةً أسمع أهل مكة، فأقبلوا إليه ورجعت إلى مكاني، فوجدوه وبه رمق، فقالوا: من ضربك ؟ قال: عمرو بن أمية، ثم مات ولم يقدر يخبرهم بمكاني، وشغلهم قتل صاحبهم عن طلبي، فاحتلموه ومكثنا في الغار يومين حتى سكن عنا الطلب، ثم خرجنا إلى التنعيم، فإذا بخشبة خبيب وحوله حرس، فصعدت خشبته واحتملته على ظهري، فما مشيت به إلا نحو أربعين خطوة حتى نذروا بي فطرحته، فاشتدوا في أثري، فأخذت الطريق فأعيوا ورجعوا، وانطلق صاحبي فركب البعير وأتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره. وأما خبيب فلم ير بعد ذلك وكأن الأرض ابتلعته.
قال: وسرت حتى دخلت غاراً بضجنان ومعي قوسي وأسهمي، فبينا أنا فيه إذ دخل علي رجل من بني الدئل أعور طويل يسوق غنماً فقال: من الرجل ؟ قلت: من بني الدئل، فاضطجع معي ورفع عقيرته يتغنى ويقول:
وست بمسلمٍ ما دمت حيّاً ... ولست أدين دين المسلمينا
ثم نام فقتله ثم سرت، فإذا رجلان بعثتهما قريش يتجسسان أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرميت أحدهما بسهم فقتلته وأستأسرت الآخر، فقدمت على النبي، صلى الله عليه وسلم، وأخبرته الخبر، فضحك ودعا لي بخير.
وفي هذه السنة تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زينب بنت خزيمة أم المساكين من بني هلال في شهر رمضان، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها.
وولي المشركون الحج في هذه السنة.
ذكر بئر معونةفي هذه السنة في صفر قتل جمع من المسلمين ببئر معونة. وكان سبب ذلك أن أبا براء بن عازب بن عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة، سيد بني عامر بن صعصعة، قدم المدينة وأهدى للنبي، صلى الله عليه وسلم، هدية فلم يقبلها وقال: يا أبا براء لا أقبل هدية مشرك، ثم عرض عليه الإسلام فلم يبعد عنه ولم يسلم، وقال: إن أمرك هذا حسنٌ، فلو بعثت رجلاً من أصحابك إلى أهل نجد يدعوهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخشى عليهم أهل نجد. فقال أبو براء: أنا لهم جارٌ.
فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبعين رجلاً، فيهم: المنذر بن عمرو الأنصاري المعنق ليموت، والحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعامر بن فهيرة، وغيرهم، وقيل: كانوا أربعين، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي، صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر إلى الكتاب وعدا على حرام فقتله، فلما طعنه قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة ! واستصرخ بني عامر، فلم يجيبوه وقالوا: لن نخفر أبا براء، فقد أجارهم، فاستصرخ بني سليم: عصية ورعلاً وذكوان، فأجابوه وخرجوا حتى أحاطوا بالمسلمين فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد الأنصاري، فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قتل يوم الخندق.

وكان في سرح القوم عمرو بن أمية ورجل من الأنصار، فرأيا الطير تحوم على العسكر فقالا: إن لها شأناً، فأقبلا ينظران، فإذا صرعى، وإذا الخيل واقفة، فقال عمرو: نلحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنخبره الخبر. فقال الأنصاري: لا أرغب بنفسي عن موطن فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل، فأخذوا عمرو بن أمية أسيراً. فلما علم عامر أنه من سعد أطلقه، وخرج عمرو حتى إذا كان بالقرقرة لقي رجلين من بني عامر فنلا معه ومعهما عقد من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يعلم به عمرو فقتلهما، ثم أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، الخبر، فقال له: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. ثم قال رسول الله: هذا عمل أبي براء، فشق عليه ذلك.
وكان فيمن قتل عامر بن فهيرة، فكان عامر بن الطفيل يقول: من الرجل منهم لما قتل رفع بين السماء والأرض ؟ قالوا: هو عامر بن فهيرة. وقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي براء على عامر بن الطفيل:
بني أمّ ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكّم عامرٍ بأبي براء ... ليخفره وما خطأٌ كعمد
في أبيات له. فقال كعب بن مالك:
لقد طارت شعاعاً كلّ وجهٍ ... خفارة ما أجار أبو براء
في أبيات أخرى.
فلما بلغ ربيعة بن أبي براء ذلك حمل على عامر بن الطفيل فطعنه، فخر عن فرسه، فقال: إن مت فدمي لعمي. وأنزل الله عز وجل، في أهل بئر معونة قرآناً: بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه، ثم نسخت.
معونة بفتح الميم، وضم العين المهملة، وبعد الواو نون. وحرام بالحاء المهملة، والراء. وملحان بكسر الميم، وبالحاء المهملة.
ذكر إجلاء بني النضيروكان سبب ذلك أن عامر بن الطفيل أرسل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يطلب دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية، وقد ذكرنا ذلك.
فخرج النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى بني النضير يستعينهم فيها ومعه جماعة من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي، فقالوا: نعم نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض وتآمروا على قتله، وهو جالسٌ إلى جنب جدار، فقالوا: من يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيقتله ويريحنا منه ؟ فانتدب له عمرو بن جحاش، فنهاهم عن ذلك سلام بن مشكم وقال: هو يعلم، فلم يقبلوا منه، وصعد عمرو بن جحاش، فأتى الخبر من السماء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما عزموا عليه، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعاً إلى المدينة، فلما أبطأ قام أصحابه في طلبه، فأخبرهم الخبر وأمر المسلمين بحربهم، ونزل بهم، فتحصنوا منه في الحصون، فقطع النخل وأحرق وأرسل إليهم عبد الله بنأبي وجماعة معه أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من الأموال إلا السلاح، فأجابهم إلى ذلك، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام، فكان ممن سار إلى خيبر كنانة بن الربيع وحيي بن أخطب، وكان فيهم يومئذ أم عمرو صاحبة عروة بن الورد التي ابتاعوا منه، وكانت غفارية.
فكانت أموال النضير لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحده يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقراً فأعطاهما. ولم يسلم من بني النضير إلا يامين بن عمير بن كعب، وهو ابن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعيد بن وهب، وأحرزا أموالهما.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وكانت رايته على علي بن أبي طالب.
سلام بتشديد اللام. ومشكم بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة، والكاف.
؟

غزوة ذات الرقاع
أقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة بعد بني النضير شهري ربيع ثم غزا نجداً يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلاً، وهي غزوة الرقاع، سميت بذلك لأجل جبل كانت الوقعة به فيه سواد وبياض وحمرة، فاستخلف على المدينة عثمان بن عفان، فلقي المشركين ولم يكن قتال، وخاف الناس بعضهم بعضاً، فنزلت صلاة الخوف، وقد اختلف الرواة في صلاة الخوف، وهو مستقصى في كتب الفقه.

وجاء رجل من محارب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فطلب منه أن ينظر إلى سيفه، فأعطاه السيف، فلما أخذه وهزه قال: يا محمد أما تخافني ؟ قال: لا. قال: أما تخافني وفي يدي السيف ؟ قال: لا، يمنعني الله منك، فرد السيف إليه.
وأصاب المسلمون امرأة منهم، وكان زوجها غائباً، فلما أتى أهله أخبر الخبر، فحلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، دماً، وخرج يتبع أثر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: من يحرسنا الليلة ؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فأقاما بفم شعب نزله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واضطجع المهاجري وحرس الأنصاري أول الليل وقام يصلي، وجاء زوج المرأة فرأى شخصه فعرف أنه ربيئة القوم فرماه بسهم فوضعه فيه فانتزعه وثبت قائماً يصلي، ثم رماه بسهم آخر فأصابه فنزعه وثبت يصلي، ثم رماه بالثالث فوضعه فيه فانتزعه ثم ركع وسد، ثم أيقظ صاحبه وأعلمه، فوثب، فلما رآهما الرجل علم أنهما علما به، فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري قال: سبحان الله ألا أيقظتني أول ما رماك ؟ قال: كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها، فلما تابع علي الرمي أعلمتك، وايم الله لولا خوفي أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها.
وقيل: إن هذه الغزوة كانت في المحرم سنة خمس من الهجرة.
ذكر غزوة بدر الثانيةسميت أيضاً غزوة السويق وفي شعبان منها خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى بدر لميعاد أبي سفيان بن حرب حتى نزل بدراً فأقام عليها ثماني ليالٍ ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة إلى مر الظهران، وقيل: إلى عسفان، ثم رجع ورجعت قريش معه، فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
واستخلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المدينة عبد الله بن رواحة.
وفيها تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أم سلمة.
وفيها أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود.
وفيها، في جمادى الأولى، مات عبد الله بن عثمان بن عفان، وأمه رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صلى عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان عمره ست سنين. وفيها ولد الحسين بن علي بن أبي طالب، في قولٍ. وولي الحج فيها المشركون.
الأحداث في السنة الخامسة من الهجرةفيها تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زينب بنت جحش، وهي ابنة عمته، كان زوجها مولاه زيد بن حارثة، وكان يقال له زيد بن محمد. فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يريده وعلى الباب ستر من شعر، فرفعته الريح فرآها وهي حاسرة فأعجبته وكرهت إلى زيد، فلم يستطع أن يقربها، فجاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: أرابك فيها شيء ؟ قال: لا والله. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله) الأحزاب: 37. ففارقها زيد وحلت، وأنزل الوحي على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: من يبشر زينب أن الله قد زوجنيها ؟ وقرأ عليهم قوله تعالى: (وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) الآية؛ فكانت زينب تفخر على نسائه وتقول: زوجكن أهلوكن وزوجني الله من السماء.
وفيها كانت غزوة دومة الجندل في ربيع الأول، وسببها أنه بلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، أن بها جمعاً من المشركين، فغزاهم، فلم يلق كيداً، وخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وغنم المسلمون إبلاً وغنماً وجدت لهم.
ومات أم سعد بن عبادة وسعد مع النبي، صلى الله عليه وسلم، في هذه الغزاة. وفيها وادع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عيينة بن حصن الفزاري أن يرعى بتغلمين وما والاها.
عيينة بضم العين، تصغير عين.
ذكر غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب

وكانت في شوال، وكان سببها أن نفراً من يهود من بني النضير، منهم: سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة ابن الربيع بن أبي الحقيق، وغيرهم، حزبوا الأحزاب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: نكون معكم حتى نستأصله، فأجابوهم إلى ذلك، ثم أتوا على غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخبروه أن قريشاً معهم على ذلك، فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في مرة، ومسعر بن رخيلة الأشجعي في الأشجع.
فلما سمع بهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمر بحفر الخندق، وأشار به سلمان الفارسي، وكان أول مشهد شهده مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ حر، فعمل فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رغبة في الأجر وحثاً للمسمين، وتسلل عنه جماعة من المنافقين بغير علم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله في ذلك: (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً) النور: 63 الآية. وكان الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة لحاجة لا بد منها يستأذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيقضي حاجته ثم يعود، فأنزل الله تعالى: (إنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) الآية الفتح 15.
وقسم الخندق بين المسلمين. فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان كل يدعيه أنه منهم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: سلمان منا، سلمان من أهل البيت. وجعل لكل عشرة أربعين ذراعاً، فكان سلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وعمرو بن عوف وستة من الأنصار يعملون، فخرجت عليهم صخرة كسرت المعول، فأعلموا النبي، صلى الله عليه وسلم، فهبط إليها ومعه سلمان فأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما ين لابتي المدينة، فكبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون، ثم الثانية كذلك، ثم الثالثة كذلك، ثم خرج وقد صدعها، فسأله سلمان عما رأى من البرق، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الأولى، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عيها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا، فاستبشر المسلمون.
وقال المنافقون: ألا تعجبون ؟ يعدكم الباطل، ويخبركم أنه ينظر من يثرب الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا، فأنزل الله: (وَإذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُوراً) الأحزاب: 12.
فأقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وتهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم حتى نزلوا إلى جنب أحد، وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون فجعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف، فنزل هناك ورفع الذراري والنساء في الآطام.
وخرج حيي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد سيد قريظة، وكان قد وادع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على قومه، فأغلق كعب حصنه ولم يأذن له وقال: إنك امرؤ مشؤوم، وقد عاهدت محمداً ولم أر منه إلا الوفاء. قال حيي: يا كعب قد جئتك بعز الدهر وببحر طامٍ، جئتك بقريش وقادتها وسادتها، وغطفان بقادتها، وقد عاهدوني أنهم لا يبرحون حتى يستأصلوا محمداً وأصحابه. قال كعب: جئتني بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي ! دعني ومحمداً. ولم يزل معه يفتله في الذروة والغارب حتى حمله على الغدر بالنبي، صلى الله عليه وسلم، ففعل ونكث العهد، وعاهده حيي إن عادت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل.

فلما اشتد البلاء بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري، قائدي غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأجابا إلى ذلك، فاستشار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: يا رسول الله شيء تحب أن تصنعه أم شيء أمرك الله به أو شيء تصنعه لنا ؟ قال: بل لكم، رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم. فقال سعد بن معاذ: قد كنا نحن وهم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرىً أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا ! ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فترك ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ثم إن فوارس من قريش، منهم: عمرو بن عبد ود أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطاب الفهري، خرجوا على خيولهم واجتازوا ببني كنانة وقالوا: تجهزوا للحرب وستعلمون من الفرسان. وكان عمرو بن عبد ود قد شهد بدراً كافراً وقاتل حتى كثرت الجراح فيه، فلم يشهد أحداً وشهد الخندق معلماً حتى يعرف مكانه، وأقبل هو وأصحابه حتى وقفوا على الخندق، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً فاقتحموه، فجالت بهم خيولهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين، فأخذوا عليهم الثغرة، وكان عمرو قد خرج معلماً، فقال له علي: يا عمرو إنك عاهدت أن لا يدعوك رجل من قريش إلى خصلتين إلا أخذت إحداهما ؟ قال: أجل. قال له عليك فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى النزال. قال: والله ما أحب أن أقتلك. قال علي: ولكني أحب أن أقتلك. فحمي عمرو عند ذلك فنزل عن فرسه وعقره ثم أقبل على علي، فتجاولا، وقتله علي، وخرجت خيلهم منهمة، وقتل مع عمرو رجلان، قتل علي أحدهما وأصاب آخر سهم فمات منه بمكة.
ورمي سعد بن معاذ بسهم قطع أكحله، رماه حبان بن قيس بن العرقة بن عبد مناف من بني معيص من عامر بن لؤي، والعرقة أمه، وإنما قيل لها العرقة لطيب ريح عرقها، وهي قلابة بنت سعد بن سهم وهي جدة خديجة أم أبيها أو هي أم عبد مناف بن الحارث. فلما رمى سعداً قال: خذها وأنا ابن العرقة. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: عرق الله وجهك في النار، ولم يقطع الأكحل من أحد إلا مات. فقال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أقاتلهم من قوم آذوا نبيك وكذبوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية.
وقيل: إن الذي رمى سعداً هو أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم. فلما قال سعد ما قال انقطع الدم.
وكانت صفية عمة النبي، صلى الله عليه وسلم، في فارع، حصن حسان ابن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء لأنه كان جباناً، قالت: فأتانا آتٍ من اليهود فقلت لحسان: هذا اليهودي يطوف بنا ولا نأمنه أن يدل على عوراتنا فانزل إليه فاقتله. فقال: والله ما أنا بصاحب هذا. قالت: فأخذت عموداً ونزلت إليه فقتلته، ثم رجعت فقلت لحسان: انزل إليه فخذ سلبه فإنني يمنعني منه أنه رجل. فقال: والله ما لي بسلبه من حاجة.
ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت ولم يعلم قومين فمرني بما شئت. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة). فخرج حتى أتى بني قريظة، وكان نديماً لهم في الجاهلية، فقال لهم: قد عرفتم ودي إياكم. فقالوا: لست عندنا بمتهم. قال: قد ظاهرتم قريشاً وغطفان على حرب محمد، وليسوا كأنتم، البلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه، وإن قريشاً وغطفان إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين محمد ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم ثقةً لكم حتى تناجزوا محمداً. قالوا: أشرت بالنصح.

ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً، وقد بلغني أن قريظة ندموا وقد أرسلوا إلى محمد: هل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم ؟ فأجابهم: أن نعم، فإن طلبت قريظة منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: أنتم أهلي وعشيرتي. وقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم.
فلما كان ليلة السبت من شوال سنة خمسٍ كان مما صنع الله لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان وقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقامٍ، قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً. فأرسلوا إليهم: إن اليوم السبت لا نعمل فيه شيئاً ولسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً ثقةً لنا فإنا نخشى أن ترجعوا إلى بلادكم وتتركونا والرجل ونحن ببلاده. فلما أبلغتهم الرسل هذا الكلام قالت قريش وغطفان: والله لقد صدق نعيم بن مسعود، فأرسلوا إلى قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً. فقالت قريظة عند ذلك: إن الذي ذكر نعيم بن مسعود لحقٌ. وخذل الله بينهم، وبعث الله عليهم ريحاً في ليالٍ شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم.
فلما انتهى إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، اختلاف أمرهم دعا حذيفة بن اليمان ليلاً فقال: انطلق إليهم وانظر حالهم ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا. قال حذيفة: فذهبت فدخلت فيهم والريح وجنود الله تفعل فيهم ما تفعل لا يقر لهم قدر ولا بناء ولا نار. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر الرجل أمر جليسه، قال: فأخذت بيد الرجل الذي بجانبي فقلت: من أنت ؟ قال: أنا فلان، ثم قال أبو سفيان: والله لقد هلك الخف والحافر وأخلفتنا قريظة ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائم، ولولا عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إي أن لا أحدث شيئاً لقتلته.
قال حذيفة: فرجعت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه، فأدخلني بين رجله وطرح علي طرف المرط، فلما سلم خبرته الخبر.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فعادوا راجعين إلى بلادهم، فلما عادوا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا). فكان كذلك حتى فتح الله مكة.
ذكر غزوة بني قريظةلما أصبح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عاد إلى المدينة ووضع المسلمون السلاح وضرب على سعد بن معاذ قبة في المسجد ليعوده من قريب، فلما كان الظهر أتى جبرائيل النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: أقد وضعت السلاح ؟ قال: نعم. قال جبرائيل: ما وضعت الملائكة السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم. فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منادياً فنادى: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. وقدم علياً إليهم برايته وتلاحق الناس، ونزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأتاه رجال بعد العشاء الأخيرة فصلوا العصر بها، وما عابهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وحاصر بني قريظة شهراً أو خمساً وعشرين ليلة، فما اشتد عليهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تبعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، وهو أنصاريٌ من الأوس، نستشيره، فأرسله، فلما رأوه قام إليه الرجال وبكى النساء والصبيان، فرق لهم، فقالوا: ننزل على حكم رسول الله. فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح. فال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله وقلت: والله لا أقمت بمكان عصيت الله فيه. وانطلق على وجهه حتى ارتبط في المسجد وقال: لا أبرح حتى يتوب الله علي. فتاب الله عليه وأطلقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

ثم نزلوا على حكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال الأوس: يا رسول الله افعل في موالينا مثل ما فعلت في موالي الخزرج، يعني بني قينقاع، وقد تقدم ذكرهم. فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم سعد بن معاذ ؟ قالوا: بلى. فأتاه قومه فاحتملوه على حمار ثم أقبلوا معه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك. فلما كثروا عليه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فعلم كثير منهم أنه يقتلهم، فلما انتهى سعد إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: قوموا إلى سيدكم، أو قال: خيركم، فقاموا إليه وأنزلوه وقالوا: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك فقد رد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الحكم فيهم إليك. فقال سعد: عليكم عهد الله وميثاقه، إن الحكم فيهم إلي ؟ قالوا: نعم، فالتفت إلى الناحية الأخرى التي فيها النبي، صلى الله عليه وسلم، وغض بصره عن رسول الله إجلالاً وقال: وعلى من ههنا العهد أيضاً ؟ فقالوا: نعم. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية والنساء وتقسم الأموال، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
ثم استنزلوا فحبسوا في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار. ثم خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم فيها، وفيهم حيي بن أخطب وكعب بن أسد سيدهم، وكانوا ستمائة أو سبعمائة، وقيل: ما بين سبعمائة وثمانمائة، وأتي بحيي بن أخطب وهو مكتوف، فلما رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل. ثم قال للناس: إنه لا بأس بأمر الله، كتابٌ وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل. فأجلس وضربت عنقه. ولم تقتل منهم إلا امرأة واحدة قتلت بحدث أحدثته، وقتلت أرفة بنت عارضة منهم.
وأسلم منهم ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد.
ثم قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أموالهم، فكان للفارس ثلاثة أسهم، للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل ممن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرساً، وأخرج منها الخمس، وكان أول فيء وقع فيه السهمان والخمس. واصطفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لنفسه ريحانة بنت عمرو بنخنافة من بني قريظة، فأراد أن يتزوجها فقالت: اتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك. فلما انقضى أمر قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ واستجاب الله دعاءه، وكان في خيمته التي في المسد، فحضره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، وقالت عائشة: سمعت بكاء أبي بكر وعمر عليه وأنا في حجرتي، وأما النبي، صلى الله عليه وسلم، فكان لا يبكي على أحد، كان إذا اشتد وجده أخذ بلحيته.
وكان فتح قريظة في ذي القعدة وصدر ذي الحجة، وقتل من المسلمين في الخندق ستة نفر، وفي قريظة ثلاثة نفر.
ودخلت سنة ست من الهجرة

ذكر غزوة بني لحيان
في جمادى الأولى منها خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع، خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرةً، وأغذ السير حتى نزل على غران منازل بني لحيان، وهي بين أمج وعسفان، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فلما أخطأه ما أراد منهم خرج في مائتي راكب حتى نزل بعسفان تخويفاً لأهل مكة، وأرسل فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم عاد قافلاً.
غران بفتح الغين المعجمة، وفتح الراء، وبعد الألف نون. وأمج بفتح الهمزة، والميم، وآخره جيم.
ذكر غزوة ذي قردثم قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة فلم يقم إلا أياماً قلائل حتى أغار عيينة بن حصن الفزاري في خيل غطفان على لقاح النبي، وأول من نذر بهم سلمة بن الأكوع الأسلمي؛ هكذا ذكرها أبو جعفر بعد غزوة بني لحيان عن ابن إسحاق، والرواية الصحيحة عن سلمة: أنها كانت بعد مقدمة المدينة منصرفاً من الحديبية، وبين الوقعتين تفاوت.

قال سلمة بن الأكوع: أقبلنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة بعد صلح الحديبية، فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بظهره مع رباح غلامه وخرجت معه بفرس طلحة بن عبيد الله، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن ابن عيينة بن حصن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع وقتل راعيه، قلت: يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة وأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن المشركين قد أغاروا على سرحه؛ ثم استقبلت الأكمة فناديت ثلاثة أصوات: يا صباحاه ! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز وأقول:
خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضّع
قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا خرج إلي فارس قعدت في اصل شجرة فرميته فعقرت به، وإذا دخلوا في مضايق الجبل رميتهم بالحجارة من فوقهم، فما زلت كذلك حتى ما تركت من ظهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعيراً إلا جعلته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه وألقوا أكثر من ثلاثين رمحاً وثلاثين بردة يستخفون بها، لا يلقون شيئاً إلا جعلت عليه أمارة، أي علامة، حتى يعرفه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى إذا انتهوا إلى متضايق من ثنية أتاهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ممداً، فقعدوا يتضحون، فلما رآني قال: ما هذا ؟ قالوا: لقينا منه البرح وقد استنفذ كلما بأيدينا، فما برحت مكاني حتى أبصرت فوارس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتخللون الشجر، أولهم الأخرم الأسدي واسمه محرز بن نضلة من أسد بن خزيمة وعلى أثره أبو قتادة وعلى أثرهما المقداد بن عمرو الكندي، فأخذت بعنان الأخرم وقلت: احذر القوم لا يقتطعوك حتى تلحق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فقال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة. قال: فخليته، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة، فعقر الأخرم بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، ولحق أبو تقادة فارس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعبد الرحمن فطعنه، فانطلقوا هاربين، قال سلمة: فوالذي كرم وجه محمد لأتبعنهم أعدو على رجلي حتى ما أرى من أصحاب محمد ولا غبارهم شيئاً.
وعدلوا قبل غروب الشمس إلى غار فيه ماء يقال له ذو قرد يشربون منه وهم عطاش، فنظروا إلي أعدو في آثارهم فحليتهم فما ذاقوا منه قطرة، قال: واشتدوا في ثنية ذي أبهر فأرشق بعضهم بسهم فيقع في نغض كتفه، فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع. وإذا فرسان على الثنية فجئت بهما أقودهما إلى النبي، صلى الله عليه وسلم.
ولحقني عمي عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وصليت وشربت ثم جئت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو على الماء الذي أجليتهم عنه بذي قرد، وإذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أخذ تلك الإبل التي استنقذت من العدو وكل رمح وكل بردة، وإذا بلال قد نحر لهم ناقة من الإبل وه يشوي منها، فقلت: يا رسول الله خلني أنتخب مائة رجل فلا يبقى منه عين تطرف. فضحك وقال: إنهم ليقرون بأرض غطفان. فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلان جزوراً، فلما كشطوا عنها جلدها رأوا غباراً فقالوا: أتيتم، فخرجوا هاربين.
فلما أصبحنا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالنا سلمة بن الأكوع، ثم أعطاني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سهم الفارس وسهم الراجل، ثم أردفني وراءه على العضباء. فبينما نحن نسير، وكان رجل من الأنصار لا يسبق شداً، فقال: ألا من مسابق ؟ مراراً، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إيذن لي فلأسابق الرجل. قال: إن شئت. قال: فطفرت وربطت شرفاً أو شرفين فألحقه فقلت: سبقتك والله ! فسبقته إلى المدينة، فلم نمكث بها إلا ثلاثاً حتى خرجنا إلى خيبر.
وفي هذه الغزوة نودي: يا خيل الله اركبي، ولم يكن يقال قبلها.
قرد بفتح القاف والراء.
ذكر غزوة بني المصطلق من خزاعة

ذكرت هذه الغزوة بعد غزوة ذي قرد، وكانت في شعبان من السنة سنة ست، وكان بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن بني المصطلق تجمعوا له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بهم خرج إليهم فلقيهم بماء لهم يقال له المريسيع بنحية قديد، فاقتتلوا، فانهزم المشركون وقتل من قتل منهم وأصيب رجل من المسلمين من بني ليث بن بكر اسمه هشام بن صبابة أخو مقيس بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت بسهم وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ، وأصاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبايا كثيرة فقسمها في المسلمين، وفيهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له، فكاتبته عن نفسها، فأتت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاستعانته في كتابتها، فقال لها: هل لك في خير من ذلك ؟ قالت: وما هو يا رسول الله ؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله. ففعل، وسمع الناس الخبر فقالوا: أصهار رسول الله؛ فأعتقوا أكثر من مائة بيت من أهل بني المصطلق، فما كانت امرأة أعظم بركة على قومها منها.
وبينما الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجيرٌ له من بني غفار يقال له جهجاه، فازدحم هو وسنان الجهني، حليف بني عوف من الخزرج، على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار ! وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين ! فغضبت عبد الله بن أبي بن سلول، وعند رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السن. فقال: أقد فعلوها ! قد كاثرونا في بلادنا ! أما والله (لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينَة لَيُخْرِجَنَّ الأعزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) المنافقون: 8 ! ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم ! أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم ! والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم.
فسمع ذلك زيد، فمشى به إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من غزوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ! ولكن أذن بالرحيل. فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه.
فلقيه أسيد بن حضير فسلم عليه وقال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها. فقال: أوما بلغك ما قال عبد الله بن أبي ؟ قال: وماذا ؟ قال: زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت فإنك العزيز وهو الذليل، ثم قال: يا رسول الله ارفق به فوالله لقد من الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً.
وسمع عبد الله بن أبي زيداً أعلم النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله فمشى إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان عبد الله في قومه شريفاً، فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أخطأ، وأنزل الله: (إذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ) المنافقون: 1؛ تصديقاً لزيد، فلما نزلت أخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأذن زيد وقال: هذا الذي أوفى الله بأذنه.
وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ما كان من أمر أبيه النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثاً عاتبه قومه وعنفوه وتوعدوه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم: كيف ترى ذلك يا عمر ؟ أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر: أمر رسول الله أعظم بركة من أمري.

وفيها قدم مقيس بن صبابة مسلماً فيما يظهر، فقال: يا رسول الله جئت مسلماً وجئت أطلب دية أخي، وكان قتل خطأً؛ فأمر له بدية أخيه هشام بن صبابة، وقد تقدم ذكر قتله آنفاً، فأقام عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ثم خرج إلى مكة مرتداً فقال:
شفى النفس أن قد بات في القاع مسنداً ... تضرّج ثوبيه دماء الأخادع
وكانت هموم النّفس من قبل قتله ... تلمّ فتحميني وطاء المضاجع
حللت به نذري وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأصنام أوّل راجع
مقيس بكسر الميم، وسكون القاف، وفتح الياء تحتها نقطتان. وصبابة بصاد مهملة، وببائين موحدتين بينهما ألف. وأسيد بهمزة مضمومة. وحضير بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد.
حديث الإفكوكان حديث الإفك في غزوة المصطلق: لما رجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان ببعض الطريق قال أهل الإفك ما قالوا، وكان من حديثه ما روي عن عائشة، قالت: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه فخرج سهمي فخرج بي معه، وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يتفكهن باللحم، وكنت إذا وصل بعيري جلست في هودجي ثم يأتي القوم الذين يرحلون بعيري فيحملون الهودج وأنا فيه فيضعونه على ظهر البعير ثم يأخذون برأس البعير ويسيرون. قالت: فلما قفل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من سفره ذلك، وكان قريباً من المدينة، بات بمنزلٍ بعض الليل ثم ارتحل هو والناس، وكنت قد خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقدٌ لي من جزع ظفار انسل من عنقي ولا أدري، فلما رجعت التمست العقد فلم أجده، وأخذ الناس بالرحيل، فرجعت إلى المكان الذي كنت فيه ألتمسه فوجدته، وجاء القوم الذين يرحلون بعيري فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه، فاحتملوه على عادتهم وانطلقوا، ورجعت إلى المعسكر وما فيه داعٍ ولا مجيب، فتلففت بجلبابي واضطجعت مكاني وعرفت أنهم يرجعون إلي إذا افتقدوني.
قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وكان تخلف عن العسكر لحاجته، فلم يبت مع الناس، فلما رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني، وكان رآني قبل أن يضرب الحجاب، فلما رآني استرجع وقال: ما خلفك ؟ قالت: فما كلمته، ثم قرب البعير وقال: اركبي. فركبت وأخذ برأس البعير مسرعاً.
فلما نزل الناس واطمأنوا طلع الرجل يقودني، فقال أهل الإفك ما قالوا، فارتعج العسكر ولم أعلم بشيء من ذلك، ثم قدمنا المدينة فاشتكيت شكوى شديدة، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلى أبوي ولا يذكران لي منه شيئاً، إلا أني أنكرت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعض لطفه، فكان إذا دخل علي وأمي تمرضني قال: كيف تيكم ؟ لا يزيد على ذلك، فوجدت في نفسي مما رأيت من جفائه، فاستأذنته في الانتقال إلى أمي لتمرضني، فأذن لي، وانتقلت ولا أعلم بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة.
قالت: وكنا قوماً عرباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف نعافها ونكرهها، إنما كان النساء يخرجن كل ليلة، فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب، وكانت أمها خالة أبي بكر الصديق، قالت: فوالله إنها لتمشي إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطحٌ. قالت: قلت: لعمر الله بئس ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدراً ! قالت: أوما بلغك الخبر ؟ قلت: وما الخبر ؟ فأخبرتني بالذي كان. قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي فرجعت فما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي، وقلت لأمي: تحدث الناس بما تحدثوا ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً ؟ قالت: أي بنية خفضي عليك، فوالله قل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها. قالت: وقد قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الناس فخطبهم ولا أعلم بذلك، ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهن غير الحق، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت عليه إلا خيراً وما دخل بيتاً من بيوتي إلا معي.

وكان كبر عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج، مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن زينب أختها كانت عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني لأختها، فلما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تلك المقالة قال أسيد بن حضير: يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك. فقال سعد بن عبادة: والله ما قلت هذه المقالة إلا وقد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد: كذبت ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. وتثاور الناس حتى كاد يكون بينهم شر، ونزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيراً وأما علي فقال: إن النساء لكثير وسل الخادم تصدقك، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بريرة يسألها، فقام إليها علي فضربها ضرباً شديداً وهو يقول: اصدقي رسول الله. فقالت: والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب عليها إلا أنها كانت تنام عن عجينها فيأتي الداجن فيأكله.
ثم دخل علي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعندي أبواي وامرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فإن كنت قارفت سوءاً فتوبي إلى الله.
قالت: فوالله لقد تقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئاً، وانتظرت أبوي أن يجيباه، فلم يفعلا، فقلت: ألا تجيبانه ؟ فقالا: والله ما ندري بماذا نجيبه ! وما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على أبي بكر تلك الأيام. فلما استعجبا بكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله لئن أقررت - والله يعلم إني منه بريئة - لتصدقني، ولئن أنكرت لا تصدقني. ثم التمست اسم يعقوب فلم أجده فقلت: ولكني أقول كما قال أبو يوسف: (فَصَبْرٌ جَميلٌ وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ) يوسف: 18، ولشأني كأني أصغر في نفسي أن ينزل الله في قرآناً يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رؤيا يكذب الله بها عني.
قالت: فوالله ما برح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من مجلسه حتى جاءه الوحي، فسجي بثوبه، فأما أنا فوالله ما فزعت ولا باليت، وقد عرفت أني بريئة وأن الله ظالمي، وأما أبواي فما سري عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً من أن يحقق الله ما قال الناس. قالت: ثم سري عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنه ليتحدر عنه مثل الجمان، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك. فقلت: بحمد الله ! ثم خرج إلى الناس فخطبهم وذكر لهم ما أنزل الله في من القرآن، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم، وحلف أبو بكر لا ينفق على مسطح أبداً، فأنزل الله: (وَلا يَأتَلِ أُولُو الفَضْلِ منْكُمْ) الآية النور: 22؛ فقال أبو بكر: إني أحب أن يغفر الله لي؛ ورجع إلى مسطح نفقته. ثم إن صفوان بن المعطل اعترض حسان بن ثابت بالسيف فضربه، ثم قال:
تلقّ ذباب السّيف عنّي فإنّني ... غلامٌ إذا هوجيت لست بشاعر
فوثب ثابت بن قيس بن شماس فجمع يديه إلى عنقه وانطلق به إلى الحارث ابن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا ؟ فقال: ضرب حسان وما أراه إلا قتله. فقال عبد الله: هل علم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشيء مما صنعت ؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل، فأطلقه، فذكر ذلك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعا حسان وصفوان بن المعطل، فقال صفوان: هجاني يا رسول الله وآذاني فضربته. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لحسان: أحسن يا حسان. قال: هي لك يا رسول الله، فأعطاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عوضاً منها بيرحاء، وهي قصربني حديلة، بالحاء المهملة؛ وأعطاه شيرين، أمة قبطية، وهي أخت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، فولدت له ابنه عبد الرحمن، وكان صفوان حصوراً لا يأتي النساء، ثم قتل بعد ذلك شهيداً.
مسطح بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وبالطاء والحاء المهملتين.
ذكر عمرة الحديبية

في هذه السنة خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معتمراً في ذي القعدة لا يريد حرباً ومع جماعة من المهاجرين والأنصار ومن تبعه من الأعراب ألف وأربعمائة، وقيل: ألف وخمسمائة، وقيل: ثلاثمائة، وساق الهدي معه سبعين بدنه ليعلم الناس أنه إنما جاء زائراً للبيت. فلما بلغ عسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فاجتمعوا بذي طوىً يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبداً، وقد قدموا خالد بن الوليد إلى كراع الغميم.
وقيل: إن خالداً كان مع النبي، صلى الله عليه وسلم، مسلماً، وإنه أرسله، فلقي عكرمة بن أبي جهل فهزمه؛ والأول أصح.
ولما بلغه بسر ما فعلت قريش قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب ! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين، والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.
ثم خرج على غير الطريق التي هم بها وسلك ذات اليمين حتى سلك ثنية المرار على مهبط الحديبية، فبركت به ناقته، فقال الناس: خلأت. فقال: ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم قال للناس: انزلوا. فقالوا: ما بالوادي ماء. فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه، فجاش الماء بالري حتى ضرب الناس عنه بعطن، وكان اسم الذي أخذ السهم ناجية بن عمير سائق بدن النبي، صلى الله عليه وسلم.
فبينما هم كذلك أتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه خزاعة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من تهامة، فقال: تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إنا لم نأتي لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن شاءت قريش ماددناهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي.
فانطلق بديل إلى قريش فأعلمهم ما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إن هذا الرجل عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، دعوني آته. فقالوا: ائته. فأتاه وكلمه، فقال له: يا محمد جمعت أوشاب لناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أنك لا تدخلها عليهم عنوةً أبداً، وايم الله بكأني بهؤلاء قد تكشفوا عنك غداً. فقال أبو بكر: امصص بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟ قال: من هذا يا محمد ؟ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أبي قحافة. فقال: أما والله لولا يد لك عندي لكافأتك بها. ثم جعل يتناول لحية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحديد، فجعل يقرع يده إذا تناولها ويقول له: اكفف يدك قبل أن لا تصل إليك. فقال عروة: من هذا ؟ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أخيك المغيرة. فقال: أي غدر ! وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ؟ وكان المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك وهرب، فتهايج الحيان بن و مالك رهط المقتولين والأحلاف رهط المغيرة، فودى عروة للمقتولين ثلاث عشرة ديةً وأصلح ذلك الأمر.
وطال الكلام بينهما، فقال له النبي؛ صلى الله عليه وسلم، نحو مقالته لبديل، فقال له عروة: يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وجعل يرمق أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فوالله لا يتنخم النبي نخامةً إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه وجلده وإن أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له.
فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم قد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي فوالله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً ! وحدثهم ما رأى وما قال النبي، صلى الله عليه وسلم.

فقال رجل من كنانة اسمه الحليس بن علقمة، وهو سيد الأحابيش: دعوني آته. فقالوا: ائته فلما رآه النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوا الهدي في وجهه فلما رأى الهدي رجع إلى قريش ولم يصل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا قوم قد رأيت ما لا يحل صده، الهدي في قلائده. فقالوا: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك. فقال: والله ما على هذا حالفناكم أن تصدوا عن البيت من جاء معظماً له، والذي نفسي بيده لتخلن بين محمد وبين البيت أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا: مه ! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا.
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: افعل. فلما أشرف على النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: هذا رجل فاجر، فجعل يكلم النبي، صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، فلما جاء قال النبي: سهل أمركم.
وقال ابن إسحاق: إن قريشاً إنما بعثت سهيلاً بعد رسالة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع عثمان بن عفان، قال: لما رجع عروة بن مسعود إلى قريش بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش على جمل له يقال له الثعلب ليبلغ عنه، فعقروا به جمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش وخلوا سبيله حتى أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمر ليرسله إلى مكة، فقال: ليس بمكة من بني عدي من يمنعني، وقد علمت قريش عداوتي لها وأخافها على نفسي فأرسل عثمان فهو أعز بها مني. فدعا عثمان فأرسله ليبلغ عنه، فانطلق، فلقيه أبان ابن سعيد بن العاص فأجاره، فأتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا لعثمان حين فرغ من أداء الرسالة: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به النبي، صلى الله عليه وسلم. فاحتبسته قريش عندها، فبلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قد قتل، فقال: لا نبرح حتى نناجز القوم.
ثم دعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة، وهي سمرة، لم يتخلف منهم أحد إلا الجد بن قيس، وكان أول من بايعه رجل من بني أسد يقال له أبو سنان. ثم أتى الخبر أن عثمان لم يقتل.
ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا عامر بن لؤي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، ليصالحه على أن يرجع عنهم عامه ذلك، فأقبل سهيل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأطال معه الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهم الصلح، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب، فقال: اكتب باسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو - فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال لعلي: امح رسول الله. فقال: لا أمحوك أبداً. فأخذه رسول الله، صلى الله عليه وسلمن وليس يحسن يكتب فكتب موضع رسول الله: محمد بن عبد الله، وقال لعلي: لتبلين بمثلها - اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين وأنه من أتى منهم رسول الله بغير إذن وليه رده إليهم ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله لم يردوه عليه، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وأن يرجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عنهم عامة ذلك، فإذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً وسلاح الراكب السيوف في القرب.

فبينا النبي، صلى الله عليه وسلم، يكتب الكتاب إذ جاء أبو جندل ابن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان أصحاب النبي لا يشكون في افتح لرؤيا رآها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل أخذه وقال: يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت، وأخذه ليرده إلى قريش، فصاح أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين ليفتنوني عن ديني ! فزاد الناس شراً إلى ما بهم، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد أعطينا القوم عهودنا على ذلك فلا نغدر بهم. قال: فوثب عمر بن الخطاب يمشي مع أبي جندل ويقول له: اصبر واحتسب فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب ! وأدنى قائم السيف منه رجاء أن يأخذه فيضرب به أباه، قال: فبخل الرجل بأبيه.
وشهد على الصلح جماعة من المسلمين فيهم أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، وجماعة من المشركين.
فلما فرغ النبي، صلى الله عليه وسلم، من قضيته قال: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فما قام أحد حتى قال ذلك مراراً، فلما لم يقم أحد منهم دخل على أم سلمة فذكر لها ذلك، فقالت: يا نبي الله اخرج ولا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك وتحلق شعرك، ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. فما فتح في الإسلام قبله فتح كان أعظم منه، حيث أمن الناس كلهم فدخل في الإسلام تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك وأكثر.
فلما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة جاءه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي، وهو مسلم، وكان ممن حبس بمكة، فكتب فيه الأزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق وبعثا فيه رجلاً من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد علمت أنا قد أعطينا هؤلاء القوم عهداً ولا يصلح الغدر في ديننا. فانطلق معهما إلى ذي الحليفة فجلسوا، وأخذ أبو بصير سيف أحدهما فقتله به وخرج المولى سريعاً إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقتل صاحبه، ثم أقبل أبو بصير فقال: يا رسول الله قد وفت ذمتك وأنجاني الله منهم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ويل امه مسعر حرب لو كان له رجال ! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج أبو بصير حتى نزل بناحية ذي المروة على ساحل البحر على طريق قريش إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة ذلك فخرجوا إلى أبي بصير، منهم أبو جندل، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً، فضيقوا على قريش يعترضون العير تكون لهم، فأرسلت قريش إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وفيها نزلت سورة الفتح، وهاجر إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نسوة مؤمنات فيهن أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط، فجاء أخواها عمارة والوليد يطلبانها، فأنزل الله: (فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُن إلى الكُفّارِ) الممتحنة: 10 الآية؛ فلم يرسل امرأة مؤمنة إلى مكة، وأنزل الله: (وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ)؛ فطلق عمر بن الخطاب امرأتين له، إحداهما قريبة بنت أبي أمية، والثانية أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعي، وهما مشركتان، فتزوج أم كلثوم أبو جهم بن حذيفة ابن غانم.
بسر بضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة، وآخره راء. بصير بالباء الموحدة المفتوحة، والصاد المهملة المكسورة، والياء الساكنة تحتها نقطتان، وآخره راء أيضاً. وأسيد بفتح الهمزة، وكسر السين. وجارية بالجيم، وآخره راء أيضاً. والحليس بضم الحاء المهملة، وفتح اللام، وبعده ياء تحتها نقطتان، وآخره سين مهملة.
وفيها كانت عدة من سرايا وغزوات: منها سرية عكاشة بن محصن أربعين رجلاً إلى الغمر، فنذر بهم القوم فهربوا، فسعت الطلائع فوجدوا مائتي بعير فأخذوها إلى المدينة، وكانت في ربيع الآخر.
ومنها سرية محمد بن مسلمة، أرسله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في عشرة فوارس في ربيع الأول إلى بني ثعلبة بن سعد، فكمن القوم له حتى نام هو وأصحابه وظهروا عليهم، فقتل أصحابه ونجا هو وحده جريحاً.

ومنها سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر في أربعين رجلاً، فهرب أهله منهم وأصابوا نعماً ورجلاً واحداً أسلم فتركه رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ومنها سرية زيد بن حارثة بالجموم، فأصاب امرأة من مزينة اسمها حليمة، فدلتهم على محلة من حال بني سليم، فأصابوا نعماً وشاء وأسرى فيهم زوجها، فأطلقها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وزوجها معها.
ومنها سرية زيد أيضاً إلى العيص في جمادى الأولى، وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع، واستجار بزينب بنت النبي، صلى الله عليه وسلم، فأجارته. وقد تقدم ذكره في غزوة بدر.
ومنها سرية زيد أيضاً إلى الطرف في جمادى الآخرة إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلاً، فهربوا منه، وأصاب من نعمهم عشرين بعيراً.
ومنها سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في جمادى الآخرة.
وسببها أن رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبي قدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، في هدنة الحديبية وأهدى لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، غلاماً وأسلم فحسن إسلامه، وكتب له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتاباً إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، ثم ساروا إلى حرة الرجلاء.
ثم إن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من اشام من عند قيصر، حتى إذا كان بأرض جذام أغار عليه الهنيد بن عوص بن الهنيد الضليعيان، وهو بطن من جذام، فأخذا كل شيء معه، فبلغ ذلك نفراً من بني الضبيب قوم رفاعة ممن كان أسلم، فنفروا إلى الهنيد وابنه، فلقوهما واقتتلوا، فظفر بنو الضبيب واستنقذوا كل شيء أخذ من دحية وردوه عليه، فخرج دحية حتى قدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبره وطلب منه دم الهنيد وابنه عوص، فأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليهم زيد بن حارثة في جيش، فأغاروا بالفضافض وجمعوا ما وجدوا من مال وقتلوا الهنيد وابنه.
فلما سمع بذلك بنو الضبيب رهط رفاعة بن زيد سار بعضهم إلى زيد بن حارثة فقالوا: إنا قوم مسلمون. فقال زيد: فاقرأوا أم الكتاب، فقرأها حسان بن ملة. فقال زيد: نادوا في الجيش: إن الله حرم علينا ما أخذ من طريق القوم التي جاؤوا منها، وأراد أن يسلم إليهم سباياهم، فأخبره بعض أصحابه عنهم بما أوجب أن يحتاط، فتوقف في تسليم السبايا وقال: هم في حكم الله، ونهى الجيش أن يهبطوا واديهم.
وعاد أولئك الركب الجذاميون إلى رفاعة بن زيد وهو بكراع ربة لم يشعر بشيء من أمرهم، فقال له بعضهم: إنك لجالسٌ تحلب المعزى ونساء جذام أسارى قد غرهن كتابك الذي جئت به. فسار رفاعة والقوم معه إلى المدينة وعرض كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف أصنع بالقتلى ؟ فقالوا: لنا من كان حياً ومن قتل فهو تحت أقدامنا، يعنون تركوا الطلب به. فأجابهم إلى ذلك وأرسل معهم علي بن أبي طالب إلى زيد بن حارثة فرد على القوم مالهم حتى كانوا ينتزعون ليد المرأة تحت الرجل، وأطلق الأسارى.
ربة بالراء والباء الموحدة. والضبيب بضم الضاد المعجمة، تصغير ضب - وقيل: هو بفتح الضاد، وكسر الباء، وآخره نون - نسبة إلى ضبيبة.
ومنها سرية زيد أيضاً إلى وادي القرى في رجب.
ومنها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان، فأسلموا، فتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ رئيسهم، وهي أم أبي سلمة.
ومنها سرية علي بن أبي طالب إلى فدك في شعبان في مائة رجل، وذلك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بلغه أن حياً من بني سعد قد تجمعوا له يريدون أن يمدوا أهل خيبر، فسار إليهم علي فأصاب عيناً لهم، فأخبره أنه سار إلى أهل خيبر يعرض عليهم نصرهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر.
ومنها سرية زيد بن حارثة إلى أم فرقة في رمضان، وكانت عجوزاً كبيرة، فلقي زيد بن فزارة بوادي القرى فأصيب أصحابه وارتث زيد من بين القتلى فنذر أن لا يمس ماء من جنابة حتى يغزو فزارة، فبعثه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليهم، فلقيهم بوادي القرى فأصاب منهم وقتل وأسر أم قرفة، وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر، عجوز كبيرة، وبنتاً لها، فربط أم قرفة بين بعيرين فشقاها نصفين، وقدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، بابنتها، وكانت لسلمة بن الأكوع، فأخذها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منه هبةً وأرسلها إلى حرب بن أبي وهب فولدت له عبد الله بن حرب.

وأما سلمة بن الأكوع فإنه جعل أمير هذه السرية أبا بكر، فروي عنه أنه قال: أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علينا أبا بكر، فغزونا ناساً من بني فزارة، فشننا عليهم الغارة صلاة الصبح، فأخذت منهم جماعة وسقتهم إلى أبي بكر وفيها امرأة من بني فزارة معها بنت لها من أحسن العرب، فنفلني أبو بكر بنتها، فقدمت المدينة فلقيت النبي، صلى الله عليه وسلم، بالسوق فقال لي: يا أبا سلمة لله أبوك هب لي المرأة. فقلت: والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً. فسكت ثم عاد من الغد فوهبتها له، فبعث بها إلى مكة ففادى بها أسارى من المسلمين.
ومنها سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي النبي، صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل في شوال. وبعثه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في عشرين فارساً.
وفيها تزوج عمر بن الخطاب جميلة بنت ثابت بن أبي الأفلح أخت عاصم، فولدت له عاصماً، فطلقها وتزوجها بعده يزيد بن جارية فولدت له عبد الرحمن بن يزيد، فهو أخو عاصم لأمه.
جارية بالجيم وبعد الراء ياء تحتها نقطتان.
وفيها أجدب الناس جدباً شديداً فاستسقى رسول الله بالناس في رمضان.
؟

ذكر مكاتبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم الملوك
وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الرسل إلى كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم، وأرسل حاطب بن بلتعة إلى المقوقس بمصر، وأرسل شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وأرسل دحية إلى قيصر، وأرسل سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى، وأرسل عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، وأرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى أخي عبد القيس، وقيل: إن إرساله كان سنة ثمان، والله أعلم.
فأما المقوقس فإنه قبل كتاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وأهدى إليه أربع جوار، منهن مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وأما قيصر، وهو هرقل، فإنه قبل كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجعله بين فخذيه وخاصرته، وكتب إلى رجل برومية كان يقرأ الكتب يخبره شأنه، فكتب إليه صاحب رومية: إنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه فاتبعه وصدقه. فجمع هرقل بطارقة الروم في الدسكرة وغلقت أبوابها ثم اطلع عليهم من علية وخافهم على نفسه وقال لهم: قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه والله النبي الذي نجده في كتابنا، فهلم فلنتبعه ونصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا. فنخروا نخرة رجل واحد ثم ابتدروا الأبواب ليخرجوا، فقال: ردوهم علي، وخافهم على نفسه وقال لهم: إنما قلت لكم ما قلت لأنظر كيف صلابتكم في دينكم، وقد رأيت منكم ما سرني، فسجدوا له، وانطلق وقال لدحية: إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسلٌ ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لا تبعته، فاذهب إلى ضغاطر الأسقف الأعظم في الروم واذكر له أمر صاحبك وانظر ما يقول لك.
فجاء دحية وأخبره بما جاء به من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له ضغاطر: والله إن صاحبك نبي مرسل نعرفه بصفته ونجده في كتابنا. ثم أخذ عصاه وخرج على الروم وهم في الكنيسة فقال: يا معشر الروم قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا إلى الله، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. قال: فوثبوا عليه فقتلوه.

فرجع دحية إلى هرقل وأخبره الخبر. قال: قد قلت إنا نخافهم على أنفسنا. وقال قيصر للروم: هلموا نعطيه الجزية، فأبوا، فقال: نعطيه أرض سورية، وهي الشام، ونصالحه، فأبوا، واستدعى هرقل أبا سفيان، وكان بالشام تاجراً، إلى الشام في الهدنة، فحضر عنده ومعه جماعة من قريش أجلسهم هرقل خلفه وقال: إني سائله فإن كذب فكذبوه. فقال أبو سفيان: لولا أن يؤثر عني الكذب لكذبت، فسأله عن النبي، قال: فصغرت له شأنه، فلم يلتفت إلى قولي وقال: كيف نسبه فيكم ؟ قلت: هو أوسطنا نسباً. هل كان من أهل بيته من يقول مثل قوله ؟ قلت: لا. قال: فهل له فيكم ملك سلبتموه إياه ؟ قلت: لا. قال: فمن اتبعه منكم ؟ قلت: الضعفاء والمساكين والأحداث. قال: فهل يحبه من يتبعه ويلزمه أو يقليه ويفارقه ؟ قلت: ما تبعه رجل ففارقه. قال: فكيف الحرب بينكم وبينه ؟ قلت: سجال يدال عينا وندال عليه. قال: هل يغدر ؟ قال: فلم أجد شيئاً أغمز به غيرها، قلت: لا، ونحن منه في هدنة، ولا نأمن غدره. قال: فما التفت إليها.
قال أبو سفيان: فقال لي هرقل: سألتك عن نسبه فزعمت أنه من أوسط الناس وكذلك الأنبياء، وسألتك هل قال أحد من أهل بيته مثل قوله فهو متشبه به فزعمت أن لا وسألتك هل سلبتموه ملكه فجاء بهذا لتردوا عليه ملكه، فزعمت أن لا، وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين، وكذلك أتباع الرسل، وسألتك عمن يتبعه أيحبه أم يفارقه فزعمت أنهم يحبونه ولا يفارقونه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه، وسألتك هل يغدر فزعمت أن لا، ولئن صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل قدميه. انطلق لشأنك.
قال: فخرجت وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى وأقول: أي عباد الله لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، أصبح ملوك الروم يهابونه في سلطانهم.
قال: وقدم عليه دحية بكتاب النبي: صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتّبع الهدى، أسلمْ تسلمْ، وأسلمْ يؤتِك الله أجرك مرّتين، وإن تولّيت فإن إثم الأكّارين عليك).
وأما الحارث بن أبي شمر الغساني فأتاه كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع شجاع بن وهب، فلما قرأه قال: أنا سائر إليه، فلما بلغ قوله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: باد ملكه.
وأما النجاشي فإنه لما جاءه كتاب النبي، صلى الله عليه وسلم، آمن به واتبعه وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب وأرسل إليه ابنه في ستين من الحبشة فغرقوا في البحر، وأرسل إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مهاجرة بالحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش، فتنصر وتوفي بالحبشة، فخطبها النجاشي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأجابت، وزوجها، وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار، فلما سمع أبو سفيان تزويج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أم حبيبة قال: ذاك الفحل لا يقدع أنفه.
وأما كسرى فجاءه كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع عبد الله بن حذافة فمزق الكتاب، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: مزق ملكه. وكان كتابه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى كرسى عظيم فارس، سلام على من اتّبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وإنّي أدعوك بدعاء الله، وإنّي رسول الله إلى النّاس كافّة لأُنذر (مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحقَّ القَوْلُ عَلى الكافرين) يس: 70، فأسلمْ تسلمْ، وإن تولّيت فإنّ إثم المجوس عليك).

فلما قرأه شقه، قال: يكتب إلي بهذا وهو عبدي ! ثم كتب إلى باذان، وهو باليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به. فبعث باذان بابويه، وكان كاتباً حاسباً، ورجلاً آخر من الفرس يقال له خرخسره، وكتب معهما يأمره بالمسير معها إلى كسرى، وتقدم بابويه أن يأتيه بخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسمعت قريش بذلك ففرحوا وقالوا: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل. فخرجا حتى قدما على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا ؟ قالا: ربنا، يعنيان الملك. فقال: لكن ربي أمرني أن أعفي لحيتي وأقص شاربي، فأعلماه بما قدما له وقالا: إن فعلت كتب باذان فيك إلى كسرى، وإن أبيت فهو يهلكك ويهلك قومك. فقال لهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ارجعا حتى تأتياني غداً. وأتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الخبر من السماء: إن الله قط سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله، فدعاهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخبرهما بقتل كسرى وقال لهما: إن ديني وسلطاني سيبلغ ملك كسرى وينتهي منتهى الخف والحافر، وأمرهما أن يقولا لباذان: أسلم، فإن أسلم أقره على ما تحت يده وأملكه على قومه. ثم أعطى خرخسره منطقة ذهب وفضة أهداها له بعض الملوك.
وخرجا فقدما على باذان وأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا كلام ملك وإني لأراه نبياً، ولننظرن فإن كان ما قال حقاً فإنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فنرى فيه رأينا. فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه يخبره بقتل كسرى وأنه قتله غضباً للفرس لما استحل من قتل أشرافهم، ويأمره بأخذ الطاعة له باليمن وبالكف عن النبي، صلى الله عليه وسلم. فلما أتاه كتاب شيرويه أسلم وأسلم معه أبناء من فارس. وكانت حمير تسمى خرخسره صاحب المعجزة، والمعجزة بلغة حمير المنطقة.
وأما هوذة بن علي فكان ملك اليمامة، فلما أتاه سليط بن عمرو يدعوه إلى الإسلام، وكان نصرانياً، أرسل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وفداً فيهم مجاعة بن مرارة والرجال بن عنفوة يقول له: إن جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه نصره، وإلا قصد حربه. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا ولا كرامة، اللهم اكفنيه ! فمات بعد قليل.
وأما مجاعة والرجال فأسلما، وأقام الرجال عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى قرأ سورة البقرة وغيرها وتفقه وعاد إلى اليمامة فارتد وشهد أن رسول الله أشرك مسيلمة معه، فكانت فتنته أشد من فتنة مسيلمة.
مجاعة بضم الميم وتشديد الجيم. والرجال بالجيم المشددة، وقيل بالحاء المهملة المشددة. وعنفوة بضم العين، وسكون النون، وضم الفاء، وفتح الواو.
وأما المنذر بن ساوى، والي البحرين، فلما أتاه العلاء بن الحضرمي يدعوه ومن معه بالبحرين إلى الإسلام أو الجزية، وكانت ولاية البحرين للفرس، فأسلم المنذر بن ساوى وأسلم جميع العرب بالبحرين.
فأما أهل البلاد من اليهود والنصارى والمجوس فإنهم صالحوا العلاء والمنذر على الجزية من كل حالم دينار، ولم يكن بالبحرين قتال إنما بعضهم أسلم وبعضهم صالح.
وولي الحج في هذه السنة المشركون.
وفي هذه السنة ماتت أم رومان، وهي أم عائشة زوجة النبي، صلى الله عليه وسلم.
ودخلت سنة سبع

ذكر غزوة خيبر
لما عاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الحديبية أقام بالمدينة ذا الحجة وبعض المحرم وسار إلى خيبر في ألف وأربعمائة رجل معهم مائتا فارس، وكان مسيره إلى خيبر في المحرم سنة سبع، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، فمضى حتى نزل بجيشه بالرجيع ليحول بين أهل خيبر وغطفان لأنهم كانوا مظاهرين لهم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقصدت غطفان خيبر ليظاهروا يهود عليه، ثم خافوا المسلمين أن يخلفوهم في أهليهم وأموالهم، فرجعوا ونزلوا بين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويهود، فسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال في مسيره لعامر بن الأكوع، عم سلمة بن عمرو بن الأكوع: احد لنا، فنزل وحداهم يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينةً علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا

فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: رحمك الله ! فقال له عمر: هلا امتعتنا به يا رسول الله ! وكان إذا قالها لرجل قتل، فلما نازلوا خيبر بارز عامر فعاد عليه سيفه فجرحه جرحاً شديداً، فمات منه، فقال الناس: إنه قتل نفسه. فقال سلمة ابن أخيه للنبي، صلى الله عليه وسلم، ما قالوا فقال: كذبوا بل له أجره مرتين. فلما أشرف عليها قال لأصحابه: قفوا. ثم قال: (اللهمّ ربّ السموات وما وما أظلَلْلنَ، وربّ الأرضين وما أقلَلْلنَ، وربّ الشياطين وما أضلَلْنَ، وربّ الرياح وما أذرَيْنَ، نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها، أقدموا بسم الله). وكان يقول ذلك لكل قرية يقدمها.
ونزل على خيبر ليلاً ولم يعلم أهلها فخرجوا عند الصباح إلى عملهم بمساحيهم، فلما رأوا عادوا وقالوا: محمد والخميس، يعنون الجيش، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم (فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ) الصافات: 177. ثم حصرهم وضيق عليهم وبدأ بالأموال يأخذها مالاً مالاً ويفتحها حصناً حصناً، فكان أول حصن افتتحه حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن سلمة، ألقي عليه منه رحىً فقتلته، ثم القموص حصن بني أبي الحقيق، وأصاب منهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبايا، منهم صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فاصطفاها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لنفسه، وفشت السبايا في المسلمين وأكلوا لحوم الحمر الإنسية، فنهاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عنها.
وكان الزبير بن باطا القرظي قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث، فأطلقه، فلما كان الآن أتاه ثابت فقال له: أتعرفني ؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك ! قال: أريد أن أجزيك بيدك عندي. قال: إن الكريم يجزي الكريم. فأتى ثابت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: كان للزبير عندي يد أريد أن أجزيه بها فهبه به لي. فوهبه له. فأتاه فقال له: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد وهب لي دمك فهو لك. قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد؛ فاستوهب ثابت أهله وولده من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فوهبهم له. فقال الزبير: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم؛ فاستوهب ثابت ماله من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فوهبه له، فمن عليه بالجميع.
فقال الزبير: أي ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صقيلة يتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد ؟ قال: قتل. فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب ؟ قال: قتل. قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا كررنا عزال بن سموال ؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان ؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة. قال: ذهبوا. قال: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ما ألحقتني بهم، فوالله ما في العيش بعدهم خير فقتله.
ثم افتتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حصن الصعب، وهو أكثرها طعاماً وودكاً، ثم قصد حصنهم الوطيح والسلالم، وكانا آخر ما افتتحه فخرج منه مرحب اليهودي وهو يقول:
قد علمت خيبر أنّي مرحب ... شاكي السّلاح بطلٌ مجرّب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب ... إذا اللّيوث أقبلت تلهّب
كان حمادى كالحمى لا يقرب
وسأل المبارزة، فخرج إليه محمد بن مسلمة وقال: أنا والله الموتور الثائر، قتلوا أخي بالأمس. فأقره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمبارزته وقال: اللهم أعنه عليه، فخرج إليه فتقاتلا طويلاً، ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فضربه، فاتقاه بالدرقة، فوقع سيفه فيها، فعضت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله. ثم خرج بعده أخوه ياسر وهو يقول:
قد علمت خيبر أنّي ياسر ... شاكي السّلاح بطلٌ مغاور
وطلب المبارزة، فخرج إليه الزبير بن العوام، فقتله الزبير.
وقيل: إن الذي قتل مرحباً وأخذ الحصن علي بن أبي طالب؛ وهو الأشهر والأصح.

قال بريدة الأسلمي: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ربما أخذته الشقيقة فيلبث اليوم اليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته فلم يخرج إلى الناس، فأخذ أبو بكر الراية من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً، ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول؛ ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: (أمَا والله لأعطينّها غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، يأخذها عنوةً). وليس ثم علي، كان قد تخلف بالمدينة لرمد لحقه، فلما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مقالته هذه تطاولت لها قريش، فأصبح فجاء علي على بعير له حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو أرمد قد عصب عينيه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما لك ؟؟ قال: رمدت بعدك. فقال له: ادن مني. فدنا منه، فتفل في عينيه، فما شكا وجعاً حتى مضى لسبيله. ثم أعطاه الراية، فنهض بها وعليه حلة حمراء، فأتى خيبر، فأشرف عليه رجل من يهود فقال: من أنت ؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. فقال اليهودي: غلبتم يا معشر يهود. وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني قد نقبه مثل البيضة على رأسه وهو يقول:
قد علمت خيبر أنّي مرحب ... شاكي السّلاح بطلٌ مجرّب
فقال علي:
أنا الذي سمّتني أمّي حيدره ... أكيلكم بالسّيف كيل السّندره
ليثٌ بغاباتٍ شديدٌ قسورة
فاختلفا ضربتين، فبدره علي فضربه فقد الحجفة والمغفر ورأسه حتى وقع في الأرض؛ وأخذ المدينة.
قال أبو رافع مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم: خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، برايته إلى خيبر، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله، فقاتلهم فضربه يهودي فطرح ترسه من يده فتناول علي باباً كان عند الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده؛ فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه. وكان فتحها في صفر.
فلما فتحت خيبر جاء بلال بصفية وأخرى معها على قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صرخت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فاصطفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صفية وأبعد الأخرى وقال: إنها شيطانة، لأجل فعلها. وقال لبلال: أنزعت منك الرحمة؟ جئت بهما على قتلاهما ! وكانت صفية قد رأت في منامها وهي عروس لكنانة بن أبي الحقيق أن قمراً وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها، فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين محمداً. ولطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها، فأتي بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبها أثر منها، وسألها فأخبرته، ودفع كنانة ابن أبي الحقيق إلى محمد بن مسلمة فقتله بأخيه محمود.
فلما سمع بذلك أهل فدك بعثوا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يسألونه أن يسيرهم ويخلوا له الأموال. ففعل ذلك، ولما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يعاملهم في الأموال على النصف وأن يخرجهم إذا شاء، فساقاهم على الأموال على الشرط الذي طلبوا، وفعل مثل ذلك أهل فدك، وكانت خيبر فيئاً للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب. ولما استقر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية مسمومة فوضعتها بين يديه، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منها مضغة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور، فأكل بشر منها، وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة، ثم دعا المرأة فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك ؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقتل: إن كان نبياً فسيخبر، وإن كان ملكاً استرحنا منه. فتجاوز عنها. ومات بشر من تلك الأكلة.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مرضه الذي مات فيه: هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من أكلة خيبر. فكان المسلمون يرون أنه مات شهيداً مع كرامة النبوة.

ولما فرغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من خير انصرف إلى وادي القرى فحاصر أهله ليالي فافتتحه عنوة، وفي حصارة قتل مدعم مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي أهداه له رفاعة بن زيد الجذامي، فقال المسلمون: هنيئاً له الجنة. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كلا، والذي نفس محمد بيده إن شملته الآن لتشتعل عليه ناراً، وكان غلها من فيء المسلمين يوم خيبر. فسمعه رجل فقال: يا رسول الله أصبت شراكين لنعلين لي كنت أخذتهما. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يقد لك مثلهما من النار.
وترك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، النخل والأرض في أيدي أهل الوادي وعاملهم نحو ما عامل أهل خيبر، فبقوا كذلك إلى أن ولي عمر الخلافة فأجلاهم، وقيل: إنه يجلهم لأنها خارجة عن الحجاز.
وفي هذه السفرة، أعني خيبر، نام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، والقصة مشهورة.
وشهد معه نساء من نساء المسلمين فرضخ لهن من الفيء.
وفي هذه السفرة قال الحجاج بن علاط السلمي لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: لي بمكة مالٌ عند صاحبتي أم شيبة ابنة أبي طلحة، وهي أم ابنه معرض بن الحجاج، ومال متفرق بمكة، فأذن لي يا رسول الله. فأذن له. فقال: إنه لا بد من أن أقول. قال: قل. فقدم الحجاج مكة، فسأله أهل مكة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما صنع بخيبر، ولم يكونوا علموا بإسلامه، فقال لهم: إن يهود هزمته وأصحابه وقتل أصحابه قتلاً ذريعاً وأسر محمد، وقالت يهود: لن نقتله حتى نبعث به إلى مكة فقتلوه. فصاحوا بمكة بذلك، فقال: أعينوني في جمع مالي حتى أقدم خيبر فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار. فجمعوه كله كأحث شيء. فأتاه العباس وسأله عن الخبر، فأخبره، بعد أن جمع ماله، بفتح خيبر وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، أخذ صفية بنت حيي لنفسه، وأنه قدم لجمع ماله، وسأله أن يكتم عنه ثلاثاً خوف الطلب. فكتم العباس الخبر ثلاثاً بعد مسيره، ثم لبس حلة له وخرج فطاف بالكعبة، فلما رأته قريش قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلد. قال: كلا والله ! لقد افتتح محمد خيبر وأخذ ابنة ملكهم وأموالهم. وأخبرهم بخبر الحجاج. فقالوا: لو علمنا لكان له ولنا شأن.
وقسم من أموال خيبر الشق والنطاة بين المسلمين، وكانت الكتيبة خمس الله والرسول وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فطعم أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، وطعم رجال مشوا بين رسول الله وأهل فدك بالصلح، وقسمت خيبر على أهل الحديبية، فأعطي الفرس سهمين والرجل سهماً. وأقر النبي، صلى الله عليه وسلم، أهل خيبر بخيبر، وأبو بكر بعده، وعمر صدراً من إمارته حتى بلغه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال في مرضه الذي مات فيه: لا يجتمع بجزيرة العرب دينان، فأجلى عمر من يهود من لم يكن معه عهد من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
سلام بن مشكم بتشديد اللام، ومشكم بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة. والحقيق بضم الحاء المهملة، وبقافين. وأخطب بالخاء المعجمة، وآخره باء موحدة. ومعمرور بالعين المهملة، وبعده راءان مهملتان. وعلاط بكسر العين المهملة، وطاء مهملة.
ذكر فدكلما انصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من خيبر بعث محصة بن مسعود إلى أهل فدك يدعوهم إلى الإسلام ورئيسهم يومئذ يوشع بن نون اليهودي، فصالحوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على نصف الأرض، فقبل منهم ذلك، وكان نصف فدك خالصاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، يصرف ما يأتيه منها على أبناء السبيل، ولم يزل أهلها بها حتى استخلف عمر بن الخطاب، وأجلى يهود الحجاز، فبعث أبا الهيثم بن التيهان وسهل بن أبي خيثمة وزيد بن ثابت، فقوموا نصف تربتها بقيمة عدل، فدفعها إلى يهود وأجلاهم إلى الشام، ولم يزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي يصنعون صنيع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد وفاته.

فلما ولي معاوية الخلافة أقطعها مروان بن الحكم، فوهبها مروان ابنيه عبد الملك وعبد العزيز، ثم صارت لعمر بن عبد العزيز وللوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان، فلما ولي الوليد الخلافة وهب نصيبه عمر بن عبد العزيز، ثم ولي سليمان الخلافة فوهب نصيبه منها أيضاً عمر بن عبد العزيز، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب الناس وأعلمهم أمر فدك وأنه قد ردها إلى ما كانت عليه مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فوليها أولاد فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم أخذت منهم.
فلما كانت سنة عشر ومائتين ردها المأمون إليهم.
محيصة بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الياء المثناة من تحت وكسرها، وآخره صاد مهملة. والتيهان بفتح التاء فوقها نقطتان، وتشديد الياء تحتها نقطتان وكسرها.
وفي هذه السنة رد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع، زوجها، في المحرم. وفيها قدم حاطب من عند المقوقس بمارية أم إبراهيم ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأختها شيرين، وبغلته دلدل، وحماره يعفور، وكسوة، فأسلمت مارية وأختها قدومهما على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخذ مارية لنفسه ووهب شيرين حسان بن ثابت الأنصاري، فهي أم ابنه عبد الرحمن، فهو وإبراهيمابنا خالةٍ. وفيها اتخذ منبره، وقيل: إنه عمل سنة ثمان، وهو الثبت.
وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمر بن الخطاب في ثلاثين رجلاً إلى عجز هوازن، فهربوا منه ولم يلق كيداً.
وفيها كانت سرية بشير بن سعد والد النعمان بن بشير الأنصاري إلى بني مرة بفدك في شعبان في ثلاثين رجلاً أصيب أصحابه وارتث في القتلى، ثم رجع إلى المدينة.
وفيها كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى أرض بني مرة، فأصاب مرداس بن نهيك حليفاً لهم من جهينة قتله أسامة بن زيد ورجل من الأنصار. قال أسامة: لما غشيناه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما قدمنا على النبي، صلى الله عليه وسلم، أخبرناه الخبر فقال: كيف تصنع بلا إله إلا الله ! وفيها كانت سرية غالبة بن عبد الله أيضاً في مائة وثلاثين راكباً إلى بني عبد بن ثعلبة، فأغار عليهم واستاق النعم إلى المدينة. وفيها كانت سرية بشير بن سعد إلى اليمن والجناب في شوال.
وكان سببها أن جبيل بن نويرة الأشجعي كان دليل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى خيبر، قدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن جمعاً من غطفان بالجناب قد أمدهم عيينة بن حصن وأمرهم بالمسير إلى المدينة، فبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، بشيراً فأصابوا نعماً وقتلوا مولى لعيينة، ثم لقوا جمع عيينة، فهزمهم المسلمون، وانهزم عيينة، فلقيه الحارث بن عوف منهزماً، فقال له: قد آن لك أن تقصر عما مضى.
حاطب بالحاء المهملة، وآخره باء موحدة. وبشير بفتح الباء الموحدة، وكسر الشين المعجمة، وآخره راء، والد النعمان بن بشي. وعيينة بضم العين، وفتح الياء المثناة تحتها نقطتان، وسكون الياء الثانية، وبعدها نون، تصغير عين.
ذكر عمرة القضاءلما عاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من خيبر أقام بالمدينة جماديين ورجب وشعبان ورمضان وشوالاً يبعث السرايا، ثم خرج في ذي الحجة معتمراً عمرة القضاء وساق معه سبعين بدنةً وخرج معه المسلمون ممن كان معه في عمرته الأولى. فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه وتحدثت قريش بينها أن النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في عسر وجهد، فاصطفوا له عند دار الندرة، فلما دخلها اضطبع بردائه فأخرج عضده اليمنى ثم قال: (رحم الله أمرأً أراهم اليوم من نفسه قوّةً)! ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه، وكان بين يديه لما دخل مكة عبد الله بن رواحة آخذاً بخطام ناقته وهو يقول:
خلّوا بني الكفّار عن سبيله ... خلّوا فكلّ الخير في رسوله
يا ربّ إنّي مؤمنٌ بقيله ... أعرف حقّ الله في قبوله
نحن قتلناكم على تأويله ... ويذهل الخليل عن خليله

وتزوج النبي، صلى الله عليه وسلم، في سفره هذا بميمونة بنت الحارث وأقام بمكة ثلاثاً، فأرسل المشركون إليه مع علي بن أبي طالب ليخرج عنهم. فقال: ما عليهم لو أعرست بين أظهرهم وصنعنا لهم طعاماً فحضروه معنا ؟ فقالوا: لا حاجة لنا في طعامه. فخرج عنهم وبنى بميمونة بسرف، ثم انصرف إلى المدينة فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع، وبعث جيشه الذي أصيب بمؤتة، وولي تلك الحجة المشركون.
وفيها كانت غزوة ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في ذي القعدة، فلقوه فأصيب هو وأصحابه، وقيل: بل نجا وأصيب أصحابه.
؟

ودخلت سنة ثمان
فيها توفيت زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ قاله الواقدي. وفيها كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي الكلبي، كلب الليث، إلى بن الملوح، فلقيه الحارث بن البرصاء الليثي فأخذوه أسيراً، فقال: إنما جئت لأسلم. فقال له غالب: إن كنت صادقاً فلن يضرك رباط ليلة، وإن كنت كاذباً استوثقنا منك. ووكل به بعض أصحابه وقال له: إن نازعك فخذ رأسه؛ وأمره بالمقام إلى أن يعود، ثم ساروا حتى أتوا بطن الكديد فنزلوا بعد العصر وأرسلوا جندب بن مكيث الجهني ربيئة لهم، قال: فقصدت تلاً هناك يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه، فخرج لي منهم رجلٌ فرآني منبطحاً، فأخذ قوسه وسهمين فرماني بأحدهما، فوضعه في جنبي، قال: فنزعته ولم أتحرك، ثم رماني بالثاني فوضعه في رأس منكبي، قال: فنزعته ولم أتحرك. قال: أما والله لقد خالطه سهماي ولو كان ربيئة لتحرك. قال: فأمهلناهم حتى راحت مواشيهم واحتلبوا فشننا عليهم الغارة فقتلنا منهم واستقنا منهم النعم ورجعنا سراعاً. وأتى صريخ القوم فجاءنا ما لا قبل لنا به حتى إذا لم يكن بيننا إلا بطن الوادي من قديد بعث الله من حيث شاء سحاباً ما رأينا قبل ذلك مطراً مثله، فجاء الوادي بما لا يقدر أحد يجوزه، فلقد رأيتهم ينظرون إلينا ما يقدر أحد يتقدم، وقدمنا المدينة. وكان شعار المسلمين: أمت أمت، وكان عدتهم بضعة عشر رجلاً.
وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وبها المنذر بن ساوى، فصالح المنذر على أن على المجوس الجزية ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. وقيل: إن إرساله كان سنة ست من الهجرة مع الرسل الذين أرسلهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الملوك، وقد تقدم ذلك.
وفيها كانت سرية شجاع بن وهب إلى بني عامر في ربيع الأول في أربعة عشر رجلاً، فأصابوا نعماً، فكان سهم كل رجل منهم خمسة عشر بعيراً.
وفيها كانت سرية عمرو بن كعب الغفاري إلى ذات الأطلاح في خمسة عشر رجلاً، فوجد بها جمعاً كثيراً فدعاهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا وقتلوا أصحاب عمرو ونجا حتى قدم المدينة.
وذات الأطلاح من ناحية الشام، وكانوا من قضاعة ورئيسهم رجل يقال له سدوس.
ذكر إسلام خالد بن الوليد
وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة
في هذه السنة في صفر قدم عمرو بن العاص مسلماً على النبي، صلى الله عليه وسلم، وقدم معه خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة العبدري.

وكان سبب إسلام عمرو أنه قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق قلت لأصحابي: إني أرى أمر محمد يعلو علواً منكراً، وإني قد رأيت أن نلحق بالنجاشي، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، وإن ظهر قومنا على محمد فنحن من قد عرفوا. قالوا: إن هذا الرأي. قال: فجمعنا له أدماً كثيراً وخرجنا إلى النجاشي، فإنا لعنده إذ وصل عمرو بن أمية الضمري رسولاً من النبي، صلى الله عليه وسلم، في أمر جعفر وأصحابه. قال: فدخلت على النجاشي وطلبت منه أن يسلم إلي عمرو بن أمية الضمري لأقتله تقرباً إلى قريش بمكة. فلما سمع كلامي غضب وضرب أنفه ضربةً ظننت أنه قد كسره، يعني النجاشي، فخفته ثم قلت: والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه. قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله ؟ قال: قلت: أيها الملك أكذلك هو ؟ قال: ويحك يا عمرو أعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قال: فقلت: فبايعني له على الإسلام. فبسط يده فبايعته ثم خرجت إلى أصحابي وكتمتهم إسلامي وخرجت عائداً إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولقيني خالد بن الوليد، وذلك قبل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان ؟ قال: والله لقد استقام المنسم، إن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم فحتى متى ! فقلت: ما جئت إلا للإسلام، فقدمنا على النبي، صلى الله عليه وسلم، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم، ثم دنوت فأسلمت، وتقدم عثمان بن طلحة فأسلم.
ذكر غزوة ذات السلاسلوفيها أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص إلى أرض بلي وعذرة يدعو الناس إلى الإسلام، وكانت أمه من بلي، فتألفهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فسار حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل، وبه سميت تلك الغزوة ذات السلاسل، فلما كان به خاف فبعث إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يستمده، فبعث إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين، فيهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. فخرج أبو عبيدة، فلما قدم عليه قال عمرو: إنما جئت مدداً إلي. فقال له أبو عبيدة: يا عمرو إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: لا تختلفا، فإن عصيتني أطعتك. قال: فأنا أمير عليك. قال: فدونك. فصلى عمرو بالناس.
وفيها أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص إلى جيفر وعياذ ابني الجلندى بعمان، فآمنا وصدقا. وأخذ الجزية من المجوس.
ذكر غزوة الخبط وغيرهاوفيها كانت غزوة الخبط، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح، في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وكانت في رجب، وزودهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جراباً من تمر، فكان أبو عبيدة يقبض لهم قبضة ثم تمرة تمرة، فكان أحدهم يلوكها ويشرب عليها الماء، فنفد ما في الجراب، فأكلوا الخبط وجاعوا جوعاً شديداً، فنحر لهم قيس بن سعد بن عبادة تسع جزائر فأكلوها، فنهاه أبو عبيدة، فانتهى. ثم إن البحر ألقى إليهم حوتاً ميتاً فأكلوا منها حتى شبعوا، ونصب أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، فيمر الراكب تحته. فلما قدموا المدينة ذكروا ذلك للنبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: كلوا رزقاً أخرجه الله لكم، وأكل منه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذكروا صنيع قيس بن سعد، فقال: إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت.

وفيها كانت سرية وجهها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في شعبان أميرها أبو قتادة ومعه عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي؛ وكان سببها أن رفاعة بن قيس، أو قيسس بن رفاعة، في بطن عظيم من جشم نزل بالغابة يجمع لحرب النبي، صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، أبا قتادة ومن معه ليأتوا منه بخير، فوصلوا قريباً من الحاضر مع غروب الشمس، فكمن كل واحد منهم في ناحية، وكانوا ثلاثة، وقيل: كانوا ستة عشر رجلاً، قال عبد الله بن أبي حدرد: فكان لهم راعٍ أبطأ عليهم، فخرج رفاعة بن قيس في طلبه ومعه سلاحه، فرميته بسهم في فؤاده، فما تكلم، قال: فأخذت رأسه ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت وكبر صاحباي، فوالله ما كان إلا النجاء، فأخذوا نساءهم وأبناءهم وما خف عليهم واستقنا الإبل الكثيرة والغنم فجئنا بها رسول الله وبرأسه معي، فأعطاني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من تلك الإبل عشر بعيراً، وكنت قد تزوجت وأخذت أهلي. وعدل البعير بعشر من الغنم.
وفيها أغزى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا قتادة أيضاً إلى إضم ومعه محلم بن جثامة الليثي قبل الفتح، فلقيهم عامر بن الأضبط الأشجعي على بعير له ومعه متاعه، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فأمسكوا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينهما فقتله وأخذ بعيره، فلما قدمنا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخبره الخبر، فنزل: (يَا أيُّهَا الَّذيِنَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ في سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) النساء: 93؛ الآية؛ وقيل: كانت هذه السرية حين خرج إلى مكة في رمضان. وكانوا ثمانية نفر.
؟

ذكر غزوة مؤتة
كان ينبغي أن نقدم هذه الغزوة على ما تقدم، وإنما أخرناها لتتصل الغزوات العظيمة فيتلوا بعضها بعضاً. وكانت في جمادى الأولى من سنة ثمان، واستعمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة. فقال جعفر: ما كنت أذهب أن تستعمل علي زيداً. فقال: امض فإنك لا تدري أي ذلك خير. فبكى الناس وقالوا: هلا متعتنا بهم يا رسول الله ؟ فأمسك، وكان إذا قال: فإن أصيب فلان فالأمير فلان، أصيب كل من ذكره.
فتجهز الناس، وهم ثلاثة آلاف، وودعهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والناس. فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى عبد الله، فقال له الناس: ما يبكيك ؟ فقال: ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكن سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقرأ آية، وهي: (وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) مريم: 71؛ فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا سالمين. فقال عبد الله:
لكنّني أسأل الرّحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرغٍ تقذف الزّبدا
أو طعنةً بيدي حرّان مجهزةً ... بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مرّوا علي جدثي ... أرشدك الله من غازٍ وقد رشدا
فلما ودعهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعاد قال عبد الله:
خلف السّلام على امرءٍ ودّعته ... في النّخل خير مشيّع وخليل
ثم ساروا حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل سار إليهم في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبلي، عليهم رجل من بلي يقال له مالك بن رافلة، ونزلوا مآب من أرض البلقاء، فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نخبره الخبر وننتظر أمره، فشجعهم عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين، فانطلقوا فما هي إلا إحدى الحسنيين. فقال الناس: صدق والله، وساروا، وسمعه زيد بن أرقم، وكان يتيماً في حجره، وقد أردفه في مسيره ذلك على حقيبته، وهو يقول:
إذا أدّيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربعٍ بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذمّ ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني ... بأرض الشّام مشتهي الثّواء
وردّك كلّ ذي نسب قريبٍ ... من الرّحمن منقطع الإخاء

هنالك لا أبالي طلع بعلٍ ... ولا نخلٍ أسافلها رواء
فلما سمعها زيد بكى، فخفقه بالدرة وقال: ما عليك يا لكع ! يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل ؟ ثم ساروا، فالتقتهم جموع الروم والعرب بقرية من البلقاء يقال لها مشارف، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، وكان على ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري، وعلى ميسرتهم عباية بن مالك الأنصاري، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر بن أبي طالب فقاتل بها وهو يقول:
يا حبّذا الجنّة واقترابها ... طيّبةً وبارداً شرابها
والرّوم رومٌ قد دنا عذابها، ... عليّ، إذ لاقيتها، ضرابها
فلما اشتد القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل، وكان كعفر أول من عقر فرسه في الإسلام، فوجدوا به بضعاً وثمانين بين رمية وضربة وطعنة، فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم تقدم، فتردد بعض التردد، ثم قال يخاطب نفسه:
أقسمت يا نفس لتنزلنّه ... طائعةً أو لا لتكرهنّه
إن أجلت النّاس وشدّوا الرّنّه ... ما لي أراك تكرهين الجنّه
قد طال ما قد كنت مطمئنّه ... هل أنت نطفةٌ في شنّه
وقال أيضاً:
يا نفس إن لم تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنّيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
ثم نزل عن فرسه، وأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال له: شد بهذا صلبك، فقد لقيت ما لقيت. فأخذه فانتهش منه نهشةً ثم سمع الحطمة في ناحية العسكر فقال لنفسه: وأنت في الدنيا ! ثم ألقاه وأخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قتل.
واشتد الأمر على المسلمين وكلب عليهم العدو، وقد كان قطبة بن قتادة قتل قبل ذلك مالك بن رافلة قائد المستعربة. ثم إن الخبر جاء من السماء في ساعته إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر وأمر فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فقال: باب خير ! ثلاثاً أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؛ إنهم لقوا العدو فقتل زيد شهيداً، فاستغفر له، ثم أخذ اللواء جعفرٌ فشد على القوم حتى قتل شهيداً، فاستغفر له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، وصمت حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان من عبد الله ما يكرهون، ثم قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فقاتل القوم حتى قتل شهيداً، ثم قال: لقد رفعوا إلى الجنة على سر من ذهب، فرأيت في سرير ابن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا ؟ فقيل: مضيا، وتردد بعض التردد ثم مضى. ولما قتل ابن رواحة أخذ الراية ثابت بن أقرم الأنصاري وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: رضينا بك. فقال: ما أنا بفاعل. فاصطلحوا على خالد بن الوليد، فأخذ الراية ودافع القوم وانحازوا عنه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد، فعاد بالناس، فمن يومئذٍ سمي خالد سيف الله.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: مر بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة له جناحان مختضب القوادم بالدم.
قالت أسماء: أتاني النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد فرغت من اشتغالي وغسلت أولاد جعفر ودهنتهم فأخذهم وشمهم ودمعت عيناه، فقلت: يا رسول الله أبلغك عن جعفر شيء ؟ قال: نعم، أصيب هذا اليوم. ثم عاد إلى أهله فأمرهم أن يصنعوا لآل جعفر طعاماً، فهو أول ما عمل في دين الإسلام. قالت أسماء بنت عميس: فقمت أصنع، واجتمع إلي النساء. فلما رجع الجيش ودنا من المدينة لقيهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون، فأخذ عبد الله بن جعفر فحمله بين يديه، فجعل الناس يحثون التراب على الجيش ويقولون: يا فرار ؟! ويقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليسوا بالفُرّار ولكنّهم الكُرّار إن شاء الله تعالى).
ذكر فتح مكة

وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد غزوة مؤتة جمادى الآخرة ورجباً، ثم إن بني بكر بن عبد مناة عدت على خزاعة وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له: الوتير، وكانت خزاعة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبكر في عهد قريش في صلح الحديبية؛ وكان سبب ذلك أن رجلاً من بني الحضرمي اسمه مالك بن عباد وكان حليفاً للأسود بن رزن الدثلي ثم البكري في الجاهلية خرج تاجراً، فلما كان بأرض خزاعة قتلوه وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة على بني الأسود بن رزن، وهم سلمى وكلثوم وذؤيب، فقتلوهم بعرفة، وكانوا من أشراف بني بكر، فبينما خزاعة وبكر على ذلك جاء الإسلام واشتغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية ودخلت خزاعة في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ودخلت بكر في عهد قريش، اغتنمت بكر تلك الهدنة وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأرهم بقتل بني الأسود، فخرج نوفل بن معاوية الدثلي بمن تبعه من بكر حتى بيت خزاعة على ماء الوتير.
وقيل: كان سبب ذلك أن رجلاً من خزاعة سمع رجلاً من بكر ينشد هجاء النبي، صلى الله عليه وسلم، فشجه، فهاج الشر بينهم وثارت بكر بخزاعة حتى بيتوهم باوتير، وأعانت قريش بني بكر على خزاعة بسلاح ودواب وقاتل معهم جماعة من قريش مختفين، منهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهل بن عمرو، فانحازت خزاعة إلى الحرم وقتل منهم نفر. فلما دخلت خزاعة الحرم قالت بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك ! فقال: لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه ؟ فلما نقضت بكر وقريش العهد الذي بينهم وبين النبي، صلى الله عليه وسلم، خرج عمرو بن سالم الخزاعي ثم الكعبي حتى قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة فوقف عليه ثم قال:
لا همّ إنّي ناشدٌ محمّداً ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فوالداً كنّا وكنت ولدا ... ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر رسول الله نصراً أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجرّدا ... أبيض مثل البدر ينمي صعدا
إن سيم خسفاً وجهه تربّدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا
وجعلوا لي في كداءٍ رصدا ... وزعموا أن لست أدعوا أحدا
وهم أذلّ وأقلّ عددا ... هم بيّتونا بالوتير هجّدا
فقتّلونا ركّعاً وسجّدا
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد نصرت يا عمرو بن سالم ! ثم عرض لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، عنان من السماء فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.
وكان بين عبد المطلب وخزاعة حلف قديم، فلهذا قال عمرو بن سالم: حلف أبينا وأبيه الأتلدا.
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على النبي، صلى الله عليه وسلم، المدينة فنادوه وهو يغتسل فقال: يا لبيكم ! وخرج إليهم، فأخبروه الخبر ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد قال: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليجدد العهد خوفاً ويزيد في المدة. ومضى بديل فلقي أبا سفيان بعسفان يريد النبي، صلى الله عليه وسلم، ليجدد العهد خوفاً منه، فقال لبديل: من أين أقبلت ؟ قال: من خزاعة في الساحل وبطن هذا الوادي. قال: أوما أتيت محمداً ؟ قال: لا. فقال أبو سفيان لأصحابه لما راح بديل: انظروا بعر ناقته، فإن جاء المدينة لقد علف النوى. فنظروا بعر الناقة فرأوا فيه النوى.

ثم خرج أبو سفيان حتى أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي، فلما أراد أن يجلس على فراش رسول الله طوته عنه. فقال: أرغبت به عني أم رغبت بي عنه ؟ فقالت: هو فراش رسول الله وأنت مشرك نجسٌ فلم أحب أن تجلس عليه، فقال: لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فكلمه، فلم يرد عليه شيئاًن ثم أتى أبا بكر فكلمه ليكلم له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل ثم أتى عمر فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم ! والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم خرج حتى أتى علياً، وعنده فاطمة والحسن غلام، فكلمه في ذلك، فقال له: والله لقد عزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أمر لا نستطيع أن نكلمه فيه. فقال لفاطمة: يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا أن يجير بين الناس فيكون سيد العرب ؟ فقالت: ما بلغ ابني أن يجير بين الناس، وما يجير على رسول الله أحد. فالتفت إلى علي فقال له: أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني. قال: أنت سيد كنانة فقم فأجر بين الناس والحق بأرضك فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره وقدم مكة وأخبر قريشاً ما جرى له وما أشار به علي عليه. فقالوا له: والله ما زاد على أن يسخر بك.
ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تجهز وأمر الناس بالتجهز إلى مكة وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يعلمهم الخبر وسيره مع امرأة من مزينة اسمها كنود، وقيل: مع سارة مولاة لبني المطلب. فأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً والزبير، فأدركاها وأخذا منها الكتاب وجاءا به إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأحضر حاطباً وقال له: ما حملك على هذا ؟ فقال: والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما بدت ولا غيرت ولكن لي بين أظهرهم أهل وولد وليس لي عشيرة فصانعتهم عليهم. فقال عمر: دعني أضرب عنقه فإنه قد نافق. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر ؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم، وأنزل الله في حاطب: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاءَ) إلى آخر الآية الممتحنة: 1.
ثم مضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان، وفتح مكة لعشر بقين منه، فصام حتى بلغ ما بين عسفان وأمج، فأفطروا، واستوعب معه المهاجرون والأنصار، فسبعت سليم وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأدركه عيينة بن حصن الفزاري بالعرج والأقرع بن حابس بالسقيا، ولقيه العباس بن عبد المطلب باحجفة، وقيل: بذي الحليفة، مهاجراً، فأمره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يرسل رحله إلى المدينة ويعود معه، وقال له: أنت آخر المهاجرين، وأنا آخر الأنبياء.
ولقيه أيضاً محرمة بن نوفل، وأبو سيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بنيق العقاب، فالتمسا الدخول على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكلمته أم سلمة فيهما وقالت له: ابن عمك وابن عمتك. قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال بمكة ما قال. فلما سمعا ذلك وكان مع أبي سفيان ابن له اسمه جعفر فقال: والله ليأذن لي أو لآخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. فرق لهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأدخلهما إليه فأسلما.
وقيل: إن علياً قال لأبي سفيان بن الحارث: إيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: (تَاللهِ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإنْ كَنّا لَخَاطِئِينَ) يوسف: 91 فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه فعلاً ولا قولاً، ففعل ذلك. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يوسف: 92، وقربهما، فأسلما، وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما مضى:
لعمرك إنّي يوم أحمل رايةً ... لتغلب خيل اللاّت خيل محمّد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى وأهتدي

وهادٍ هداني غير نفسي ونالني ... مع الله من طردت كلّ مطرّد
الأبيات. فضرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صدره وقال: (أنت طرّدتني كلَّ مطرَّد). وقيل: إن أبا سفيان لم يرفع رأسه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، حياء منه.
وقدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مر الظهران في عشرة آلاف فارس، من بني غفار أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، ومن بني سليم سبعمائة، ومن جهينة ألف وأربعمائة، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف من العرب، ثم من تميم وأسد وقيس.
فلما نزل مر الظهران قال العباس بن عبد المطلب: يا هلاك قريش ؟! والله لئن بغتها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بلادها فدخل عنوة إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. فجلس على بغلة النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال: أخرج لعلي أرى حطاباً أو رجلاً يدخل مكة فيخبرهم بكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيأتونه ويستأمنونه. قال: فخرجت أطوف في الأراك إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي قد خرجوا يتجسسون. فقال أبو سفيان: ما رأيت نيراناً أكثر من هذه. فقال بديل: هذه نيران خزاعة. فقال أبو سفيان: خزاعة أذل من ذلك. فقلت: يا أبا حنظلة، يعني أبا سفيان كان يكنى بذلك، فقال: أبو الفضل ! قلت: نعم. قال: لبيك فداك أبي وأمي، ما وراءك ؟ فقلت: هذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المسلمين أتاكم في عشرة آلاف. قال: ما تأمرني ؟ قلت: تركب معي فأستأمن لك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فردفني، فخرجت أركض به نحو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين يقولون: عم رسول الله على بغلة رسول الله، حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب، فقال أبو سفيان: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ! ثم اشتد نحو النبي، صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقت عمر، ودخل عمر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره وقال: دعني أضرب عنقه. فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته. ثم أخذت برأس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقلت: لا يناجيه اليوم أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلاً يا عمر، فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة. فقال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اذهب فقد آمناه حتى تغدو علي به بالغداة. فرجعت به إلى منزلي وغدوت به على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ قال: بلى، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لو كان مع الله غيه لقد أغنى عني شيئاً. فقال: ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ فقال: بأبي أنت وأمي، أما هذه ففي النفس منها شيء. قال العباس: فقلت له: ويحكم تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك ! قال: فتشهد، وأسلم معه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للعباس: اذهب فاحبس أبا سفيان عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله. فقلت: يا رسول الله إنه يحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه. فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن.
قال: فخرجت به فحبسته عند خطم الجبل، فمرت عليه القبائل فيقول: من هؤلاء ؟ فأقول: أمسلم. فيقول: ما لي ولأسلم. ويقول: من هؤلاء ؟ فأقول: جهينة. فيقول: ما لي ولجهينة. حتى مر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في كتيبته الخضراء مع المهاجرين والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق. فقال: من هؤلاء ؟ فقلت: هذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المهاجرين والأنصار. فقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. فقلت: ويحك إنها النبوة. فقال: نعم إذن. فقلت: الحق بقومك سريعاً فحذرهم. فخرج حتى أتى مكة ومعه حكيم بن حزام، فصرخ في المسجد: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. فقالوا: فمه. قال: من دخل داري فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن؛ ثم قال: يا معشر قريش أسلموا تسلموا.

فأقبلت امرأته هند فأخذت بلحيته وقالت: يا آل غالب اقتلوا هذا الشيخ الأحمق. فقال: أرسلي لحيتي وأقسم لئن أنت لم تسلمي لتضربن عنقك، ادخلي بيتك ! فتركته.
وبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أثرهما الزبير وأمره أن يدخل ببعض الناس من كداء، وكان على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل ببعض الناس من كداء، فقال سعد حين وجهه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستح الحرمة. فسمعها رجل من المهاجرين فأعلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال لعلي بن أبي طالب: أدركه فخذ الراية منه وكن أنت الذي تدخل بها، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة من الليط في بعض الناس، وكان معه أسلم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من العرب، وهو أول يوم أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد.
ولما وصل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى ذي طوىً وقف على راحلته وهو معتجر ببرد خز أحمر وقد وضع رأسه تواضعاً لله تعالى حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن أسفل لحيته ليمس واسطة الرحل، ثم تقدم ودخل من أذاخر بأعلاها وضربت قبته هناك.
وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو قد جمعوا ناساً بالخندمة ليقاتلوا ومعهم الأحابيش وبنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناة، فلقيهم خالد بن الوليد فقاتلهم فقتل من المسلمين جابر بن جبيل الفهري وحبيش بن خالد، وهو الأشعر الكعبي، وسلمة بن الميلاء، وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلاً ثم انهزم المشركون.
وكان مع عكرمة حماس بن خالد الدثلي، وكان قد قال لأمرأته: لآتينك بخادم من أصحاب محمد، فلما عاد إليها منهزماً قالت له تستهزئ به: أين الخادم ؟ فقال:
فأنت لو شهدتنا بالخندمه ... إذ فرّ صفوانٌ وفرّ عكرمه
وأبو يزيد كالعجوز المؤتمه ... لم تنطقي في اللّوم أدنى كلمه
إذ ضربتنا بالسّيوف المثلمه ... لهم زفيرٌ خلفنا وغمغمه
أبو يزيد هذا هو سهيل بن عمرو.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد عهد إلى امرائه أن لا يقتلوا أحداً إلا من قاتلهم. فلما انهزم المشركون وأراد المسلمون دخول مكة قام في وجوههم نساء مشركات يلطمن وجوه الخيل بالخمر وقد نشرن شعورهن، فرآهن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلى جنبه أبو بكر، فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أبا بكر كيف قال حسان ؟ فأنشده:
تكاد جيادنا مستمطرات ... يلطّمهنّ بالخمر النّساء
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أمر بقتل ثمانية رجال وأربع نسوة، فأما الرجال فمنهم عكرمة بن أبي جهل، كان يشبه أباه في إيذاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعداوته والإنفاق على محاربته، فلما فتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة خافه على نفسه فهرب إلى اليمن وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فاستأمنت له وخرجت في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فأطعمته ولم تمكنه حتى أتت حياً من العرب فاستعانتهم عليه، فأوثقوه، وأدركت عكرمة وهو يريد ركوب البحر فقالت: جئتك من عند أوصل الناس وأحملهم وأكرمهم وقد آمنك، فرجع، وأخبرته خبر الرومي، فقتله قبل أن يسلم. فلما قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سر به، فأسلم وسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يستغفر له، فاستغفر.
ومنهم صفوان بن أمية بن خلف، وكان أيضاً شديداً على النبي، صلى الله عليه وسلم، فهرب خوفاً منه إلى جدة، فقال بن وهب الجمحي: يا رسول الله إن صفوان سيد قومي وقد خرج هارباً منك فآمنه. قال: هو آمنٌ، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ليعرف بها أمانه، فخرج بها عمير فأدركه بجدة فأعلمه بأمانه وقال: إنه أحلم الناس وأوصلهم، وإنه ابن عمك وعزه عزك وشرفه شرفك. قال: إني أخافه على نفسي. قال: هو أحلم من ذلك. فرجع صفوان وقال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن هذا يزعم أنك آمنتني. قال: صدق. قال: اجعلني بالخيار شهرين. قال: أنت فيه أربعة أشهر، فأقام معه كافراً وشهد معه حنيناً والطائف ثم أسلم وحسن إسلامه وتوفي بمكة عند خروج الناس إلى البصرة ليوم الجمل.

ومنهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤي، وكان قد أسلم وكتب الوحي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه: عزيز حكيم، يكتب: عليم حكيم، وأشباه ذلك، ثم ارتد وقال لقريش: إني أكتب أحرف محمدٍ في قرآنه حيث شئت ودينكم خير من دينه؛ فلما كان يوم الفتح فر إلى عثمان بن عفان، وكان أخاه من الرضاعة، فغيبه عثمان حتى اطمأن الناس، ثم أحضره عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وطلب له الأمان، فصمت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، طويلاً ثم آمنه، فأسلم وعاد، فلما انصرف قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه: لقد صمت ليقتله أحدكم. فقال أحدهم: هلا أومأت إلينا ؟ فقال: ما كان للنبي أن يقتل بالإشارة، إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين.
ومنهم عبد الله بن خطل، وكان قد أسلم، فأرسله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مصدقاً ومعه رجل من الأنصار وغلامٌ له رومي قد أسلم، فكان الرومي يخدمه ويصنع الطعام، فنسي يوماً أن يصنع له طعاماً، فقتله وارتد، وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقتله سعيد بن حريث المخزومي، أخو عمرو بن حريث، وأبو برزة الأسلمي.
ومنهم الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، وكان يؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة وينشد الهجاء فيه، فلما كان يوم الفتح هرب من بيته، فلقيه علي بن أبي طالب فقتله.
ومنهم مقيس بن صبابة، وإنما أمر بقتله لأنه قتل الأنصاري الذي قتل أخاه هشاماً خطأً وارتد، فلما انهزم أهل مكة يوم الفتح اختفى بمكان هو وجماعة وشربوا الخمر، فعلم به نميلة بن عبد الله الكناني، فأتاه فضربه بالسيف حتى قتله.
ومنهم عبد الله بن الزبعري السهمي، وكان يهجو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة ويعظم القول فيه، فهرب يوم الفتح هو وهبيرة بن أبي وهب المخزومي زوج أم هانئ بنت أبي طالب إلى نجران، فأما هبيرة فأقام بها مشركاً حتى هلك، وأما ابن الزبعري فرجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واعتذر، فقبل عذره، فقال حين أسلم:
يا رسول المليك إنّ لساني ... راتقٌ ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشّيطان في سنن الغ ... يّ ومن نال مثله مثبور
آمن اللّحم والعظام بربّي ... ثمّ نفسي الشهيد أنت النّذير
في أشعار له كثيرة يعتذر بها.
ومنهم وحشي بن حرب قاتل حمزة، فهرب يوم الفتح إلى الطائف، ثم قدم في وفد أهله على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، أوحشي ؟ قال: نعم. قال: أخبرني كيف قتلت عمي ؟ فأخبره، فبكى وقال: غيب وجهك عني. وهو أول من جلد في الخمر، وأول من لبس المعصفر المصقول في الشام.
وهرب حويطب بن عبد العزى، فرآه أبو ذر في حائط فأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، بمكانه، فقال: أوليس قد آمنا الناس إلا من قد أمرنا بقتله ؟ فأخبره بذلك، فجاء إلى النبي فأسلم. قيل: إنه دخل يوماً على مروان بن الحكم وهو على المدينة فقال له مروان: يا شيخ تأخر إسلامك. فقال: لقد هممت به غير مرة فكان يصدني عنه أبوك.
فأما النساء فمنهن هند بنت عتبة، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمر بقتلها لما فعلت بحمزة ولما كانت تؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة، فجاءت إليه النساء متخفية فأسلمت وكسرت كل صنم في بيتها وقالت: لقد كنا منكم في غرور، وأهدت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جديين، واعتذريت من قلة ولادة غنمها، فدعا لها بالبركة في غنمها فكثرت، فكانت تهب وتقول: هذا من بركة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام.
ومنهن سارة، وهي مولاة عمرو بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وهي التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة في قول بعضهم، وكانت قدمت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مسلمة فوصلها فعادت إلى مكة مرتدة، فأمر بقتلها، فقتلها علي بن أبي طالب.

ومنهن قينتا عبد الله بن خطل، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما، فقتلت إحداهما واسمها قريبة، وفرت الأخرى وتنكرت وجاءت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسلمت وبقيت إلى خلافة عمر بن الخطاب، فأوطأها رجل فرسه خطأً فماتت، وقيل: بقيت إلى خلافة عثمان، فكسر رجل ضلعاً من أضلاعها خطأً فماتت، فأغرمه عثمان ديتها.
ولما دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة كانت عليه عمامة سوداء، فوقف على باب الكعبة وقال: لا إله إلا الله وحده، وصدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل دم أو مأثرة أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحج. ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخٍ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فعفا عنهم، وكان الله قد أمكنه منهم، وكانوا له فيئاً، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء. وطاف بالكعبة سبعاً، ودخلها وصلى فيها، ورأى فيها صور الأنبياء، فأمر بها فمحيت، وكان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وكان بيده قضيب، فكان يشير به إلى الأصنام وهو يقرأ: (وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) الاسراء: 81؛ فلا يشير إلى صنم منها إلا سقط لوجهه. وقيل بل أمر بها وخذمت وكسرت.
ثم جلس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للبيعة على الصفا، وعمر بن الخطاب تحته، واجتمع الناس لبيعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على الإسلام، فكان يبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، فكانت هذه بيعة الرجال.
وأما بيعة النساء فإنه لما فرغ من الرجال بايع النساء، فأتاه منهن نساء من نساء قريش، منهن أم هانئ بنت أبي طالب، وأم حبيب بنت العاص بن أمية، وكانت عند عمرو بن عبد ود العامري، وأروى بنت أبي العيص عمة عتاب بن أسيد، وأختها عاتكة بنت أبي العيص، وكانت عند الطلب بن أبي وداعة السهمي، وأمه بنت عفان بن العاص أخت عثمان، وكانت عند سعد حليف بني مخزوم، وهند بنت عتبة، وكانت عند أبي سفيان، ويسيرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت عند عكرمة بن أبي جهل، وفاختة بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد، وكانت عند صفوان بن أمية بن خلف، وريطة بنت الحجاج، وكانت عند عمرو بن العاص في غيرهن وكانت هند متنكرة لصنيعها بحمزة، فهي تخاف أن تؤخذ به، وقال لهن: تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئاً. قالت هند: إنك والله لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال فسنؤتيكه. قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأصبت من مال أبي سفيان الهنة والهنة. فقال أبو سفيان، وكان حاضراً: أما ما مضى فأنت منه في حل. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أهند ؟ قالت: أنا هند فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تزنين. قالت: وهي تزني الحرة ؟ قال: ولا تقتلن أولادكن. قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً فأنت وهم أعلم. فضحك عمر. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن. قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح ولبعض التجاوز أمثل. قال: ولا تعصينني في معروف. قالت: ما جلسنا هذا المجس ونحن نريد أن نعصيك. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمر: بايعهن. وإستغفر لهن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يمس النساء ولا يصافح امرأة ولا تمسه امرأة إلا امرأة أحلها له أو ذات محرم منه.
ولما جاء وقت الظهر أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بلالاً أن يؤذن على ظهر الكعبة وقريش فوق الجبال، فمنهم من يطلب الأمان ومنهم من قد أمن، فلما أذن وقال: أشهد أن محمداً رسول الله، قالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة. وقيل: إنها قالت: لقد رفع الله ذكر محمد، وأما نحن فسنصلي ولكنا لا نحب من قتلالأحبة. وقال خالد بن أسد، أخو عثمان بن أسد: لقد أكرم الله أبي فلم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: ليتني مت قبل هذا اليوم. وقال جماعة نحو هذا القول. ثم أسلموا وحسن إسلامهم ورضي الله عنهم.

وأما الأسماء المشكلة: فحاطب بن أبي بلتعة بالحاء والطاء المهملتين، والباء الموحدة، وبلتعة بالباء الموحدة، وبعد اللام تاء مثناة من فوقها. وعيينة بن حصن بضم العين المهملة، ويائين مثناتين من تحت، ثم نون، تصغير عين. وبديل بن ورقاء بضم الباء الموحدة. وعتاب بالتاء فوقها نقطتان، وآخره باء موحدة. وأسيد بفتح الهمزة، وكسر السين.
وقول أم سلمة: ابن عمك وابن عمتك، فتعني بابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، وهو أخوها لأبيها، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب. وقوله: قال في مكة ما قال، فإنه قال بمكة: لن نؤمن لك حتى ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه وقد غلط هنا بعض العلماء الكبار فقال: معنى قول أم سلمة: ابن عمتك، أن جدة النبي أم عبد الله كانت مخزومية وعبد الله بن أبي أمية مخزومي، فعلى هذا يكون ابن خالته لا ابن عمته، والصواب ما ذكرناه.
وحبيش بن خالد بضم الحاء المهملة، وبالباء الموحدة، ثم بالياء المثناة من تحت، وآخره شين معجمة. ومقيس بن صبابة بكسر الميم، وسكون القاف، وبالياء المثناة من تحت المفتوحة، وآخره سين مهملة. وصبابة بضم الصاد المهملة، وبائين موحدتين بينهما ألف.
خطم الجبل روي بالخاء المعجمة، وبالحاء المهملة، فأما بالخاء المعجمة فهو الأنف الخارج من الجبل، وأما بالحاء المهملة فهو الموضع الذي ثلم منه وقطع فبقي منقطعاً، وقد روي حطم الخيل بالحاء المهملة، والخيل هذه هي التي تركب، يعني أنه يحبسه في الموضع الضيق الذي يحطم الخيل فيه بعضها بعضاً لضيقه.
ذكر غزوة خالد بن الوليد بني جذيمةوفي هذه السنة كانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد بعث السرايا بعد الفتح فيما حول مكة يدعون الناس إلى الإسلام ولم يأمرهم بقتال، وكان ممن بعث خالد بن الوليد، بعثه داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، فنزل على الغميصاء من مياه جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت جذيمة أصابت في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف، والفاكه بن المغيرة عم خالد، كانا أقبلا تاجرين من اليمن، فأخذت ما معهما وقتلتهما، فلما نزل خالد ذلك الماء أخذ بنو جذيمة السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا. فوضعوا السلاح، فأمر خالد بهم فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل منهم من قتل.
فلما انتهى الخبر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، رفع يديه إلى السماء ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ! ثم أرسل علياً ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم، فودى لهم الدماء والأموال حتى إنه ليدي ميلغة الكلب، وبقي معه من المال فضله، فقال لهم علي: هل بقي لكم مال أو دم لم يود ؟ قالوا: لا. قال: فإني أعطيكم هذه البقية احتياطاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ففعل. ثم رجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: أصبت وأحسنت.
وقيل: إن خالداً اعتذر وقال إن عبد الله بن حذافة السهمي أمره بذلك عن رسول الله، وكان بين عبد الرحمن بن عوف وخالد كلام في ذلك، فقال له: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام. فقال خالد: إنما ثأرت بأبيك. فقال عبد الرحمن: كذبت، قد قتلت أنا قاتل أبي ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه، حتى كان بينهما شر، فبلغ ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: مهلاً يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحدٌ ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة أحدهم ولا روحته.
قال عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي: كنت يومئذٍ في جند خالد فأثرنا في أثر ظعن مصعدة يسوق بهن فتية، فقال: أدركوا أولئك. قال: فخرجنا في أثرهم حتى أدركناهم مضوا، ووقف لنا غلام شاب على الطريق، فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا ويقول:
ارفعن أطراف الذيول وارتعن ... مشي حييّاتٍ كأن لم تفزعن
إن تمنع اليوم النّساء تمنعن
فقاتلناه طويلاً فقتلناه ومضينا حتى لحقنا الظعن، فخرج إلينا غلام كأنه الأول فجعل يقاتلنا ويقول:
أقسم ما إن خادرٌ ذو لبده ... يروم بين أثلةٍ ووهده
يفرس شبّان الرّجال وحده ... بأصدق الغداة مني نجده

فقاتلناه حتى قتلناه، وأدركنا الظعن فأخذناهن، فإذا فيهن غلام وضيء الوجه به صفرة كالمنهوك، فربطناه بحبل وقدمناه لنقتله، فقال لنا: هل لكم في خير ؟ قلنا: ما هو ؟ قال: تدركون بي الظعن في أسفل الوادي ثم تقتلوني. قلنا: نفعل، فعارضنا الظعن، فلما كان بحيث يسمعن الصوت نادى بأعلى صوته: اسلمي حبيش، على فقد العيش. فأقبلت إليه جارية بيضاء حسانة وقالت: وأنت فاسلم على كثرة الأعداء، وشدة البلاء. قال: سلام عليك دهراً، وإن بقيت عصراً. قالت: وأنت سلام عليك عشرا، وشفعاً تترى، وثلاثاً وترا. فقال:
إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع ... هواك لهم مني سوى غلّة الصدر
فأنت التي أخليت لحمي من دمي ... وعظمي، وأسبلت الدموع على نحري
فقالت له:
ونحن بكينا من فراقك مرّةً ... وأخرى وواسيناك في العسر واليسر
وأنت فلم تبعد فنعم فتى الهوى ... جميل العفاف والمودّة في ستر
فقال لها:
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو ألفيتكم بالخوانق
ألم يك حقّاً أن ينوّل عاشقٌ ... تكلّف إدلاج السّرى في الودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرةٌ ... أثيبي بودٍّ قبل إحدى الصّفائق
أثيبي بودٍّ قبل أن تشحط النّوى ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق
فإني لا آبه بالذي ادعيته ... ولا منظرٌ مذ غبت عني برائق
على أنّ ما ناب العشيرة شاغلٌ ... ولا ذكر إلاّ أن يكون لوامق
فقدموه فضربوا عنقه. هذا الشعر لعبد الله بن علقمة الكناني، وكان من جذيمة مع حبيشة بنت حبيش الكنانية أنه خرج مع أمه، وهو غلام، نحو المحتلم لتزور جارة لها، وكان لها ابنة اسمها حبيشة بنت حبيش. فلما رآها عبد الله هويها ووقعت في نفسه، وأقامت أمه عند جارتها، وعاد عبد الله إلى أهله. ثم عاد ليأخذ أمه بعد يومين، فوجد حبيشة قد تزينت لأمر كان في الحي، فازداد بها عجباً، وانصرفت أمه، فمشى معها وهو يقول:
وما أدري، بلى إنّي لأدري ... أصوب القطر أحسن أم حبيش
حبيشة والذي خلق البرايا ... وما إن عندنا للصّبّ عيش
فسمعت أمه فتغافلت عنه. ثم إنه رأى ظبياً على ربوةٍ فقال:
يا أمّنا خبّريني غير كاذبةٍ ... وما يريد سؤول الحقّ بالكذب
أتلك أحسن أم ظبيٌ برابيةٍ ... لا بل حبيشة في عيني وفي أربي
فزجرته أمه وقالت: ما أنت وهذا ؟ وأنا زوجتك ابنة عمك فهي من أجل تلك النساء. وأتت امرأة عمير فأخبرتها الخبر وقالت: زيني ابنتك له، ففعلت وأدخلتها عليه، فأطرق. فقالت أمه: أيهما الآن أحسن ؟ فقال:
إذا غيّبت عني حبيشة مرّةً ... من الدّهر لا أملك عزاء ولا صبرا
كأنّ الحشا حرّ السّعير تحسّه ... وقود الغضا والقلب مضطرمٌ جمرا
وجعل يراسل الجارية وتراسله، فعلقته كما عقلها، وأكثر قول الشعر فيها، فمن ذلك:
حبيّشةٌ جدّي وجدّك جامعٌ ... بشملكم شملي وأهلكم أهلي
وهل أنا ملتفّ بثوبك مرّةً ... بصحراء بين الألبتين إلى النّحل
فلما علم أهلها خبرهما حجبوها عنه، فازداد غرامه. فقالوا لها: عديه السرحة، فإذا أتاك فقولي له: نشدتك الله أحببتني فوالله ما على الأرض أبغض إلي منك، ونحن قريب نسمع ما تقولين، فوعدته وجلسوا قريباً، فأقبل لموعدٍ لها. فلما دنا منها دمعت عيناها والتفتت إلى جنب أهلها وهم جلوس فعرف أنهم قريب وبلغه الحال فقال:
فإن قلت ما قالوا لقد زدتني جوًى ... على أنّه لم يبق سرٌّ ولا ستر
ولم يك حتى عن فواك بذلته ... فيسلبني عنك التّجنّب والهجر
وما أنس ملأشياء أنس ومقها ... ونظرتها حتى يغيّبني القبر
وبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، إثر ذلك خالد بن الوليد، فكان منه ما تقدم ذكره.
وفي هذه السنة تزوج النبي، صلى الله عليه وسلم، مليكة ابنة داود الليثية، وكان أبوها قتل يوم فتح مكة، فجاء إليها بعض أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلن لها: ألا تستحين تزوجين رجلاً قتل أباك ؟ فاستعاذت منه، ففارقها.

وفيها هدم خالد بن الوليد العزى ببطن نخلة لخمس ليال بقين من رمضان، وكان هذا البيت تعظه قريش وكنانة ومضر كلها، وكان سدنتها بنو شيبان ابن سليم حلفاء بني هاشم، فلما سمع صاحبها بمسير خالد بن الوليد إليها علق عليها سيفه وقال:
أبا عزّ شدّي شدّةً لا شوى لها ... على خالدٍ ألقي القناع وشمّري
فلما انتهى خالد إليها جعل السادن يقول: أعزى بعض غضباتك، فخرجت امرأة سوداء حبشية عريانة مولولة، فتقها وكسر الصنم وهدم البيت ثم رجع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: تلك العزى لا تعبد أبداً.
وفيها هدم عمرو بن العاص سواع، وكان برهاط لهذيل، فلما كسر الصنم أسلم سادنه، ولم يجد في خزانته شيئاً.
وفيها هدم سعد بن زيد الأشهلي مناة بالمشلل.
ذكر غزوة هوازن بحنينوكانت في شوال، وسببها أنه لما سمعت هوازن بما فتح الله على رسوله من مكة جمعها مالكبن عوف النصري من بني نصر بن معاوية بن بكر، وكانوا مشفقين من أن يغزوهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد فتح مكة، وقالوا: لا مانع لهمن غزونا، والرأي أن نغزوه قبل أن يغزونا. واجتمع إليه ثقيف يقودها قارب بن الأسود بن مسعود سيد الأحلاف، وذو الخمار سبيع بن الحارث، وأخوه الأحمر بن الحارث سيد بني مالك، ولم يحضرها من قيس عيلان إلا نصر وجشم وسعد بن كر وناس من بني هلال، ولم يحضرها كعب ولا كلاب، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه، وكان شيخاً مجرباً.
فلما أجمع مالك بن عوف المسير إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حط مع الناس أموالهم ونساءهم، فلما نزلوا أوطاس جمع الناس، وفيهم دريد بن الصمة، فقال دريد: بأي وادس أنتم ؟ فقالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل لا حزنٌ ضرسٌ، ولا سهلٌ دهسٌ؛ ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء وبكاء الصغير ؟ قالوا: ساق مالك مع الناس ذلك. فقال: يا مالك إن هذا يوم له ما بعده، ما حملك على ما صنعت ؟ قال: سقتهم مع الناس ليقاتل كل إنسان عن حريمه وماله. قال دريد: راعي ضأنٍ والله، هل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعل إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. وقال: ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الجد والحد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب، ووددت أنكم فعلتم ما فعلا. ثم قال: يا مالك ارفع من معك إلى عليا بلادهم ثم الق الصباء على الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. قال مالك: والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت وكبر علمك، والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكين على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده لوم يفتني. ثم قال مالك: أيها الناس إذا رأيتم القوم فاكسروا جفون سيوفكم وشدوا عليهم شدة رجل واحد.
وبعث مالك عيونه ليأتوه بالخبر، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ما شأنكم ؟ قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن حل بنا ما ترى ! فلم ينهه ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
ولما بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خبر هوازن أجمع المسير إليهم، وبلغه أن عند صفوان بن أمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ مشرك: أعرنا سلاحك نلق فيه عدونا. فقال له صفوان: أغصباً يا محمد ؟ فقال: بل عاريةً مضمونةً نؤديها إليك. قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح. ثم سار النبي، صلى الله عليه وسلم، ومعه ألفان من مسلمة الفتح مع عشرة آلاف من أصحابه، فكانوا اثني عشر ألفاً، فلما رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كثرة من معه قال: لن نغلب اليوم من قلة، وذلك قوله تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) التوبة: 25؛ وقيل: إنما قالها رجل من بكر.

واستعمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على من بمكة عتاب بن أسيد. قال جابر: فلما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في وادٍ أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحداراً في عماية الصبح وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه، قد تهيأوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد، فانهزم الناس أجمعون لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذات اليمين ثم قال: أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، قاله ثلاثاً، ثم احتملت الإبل بعضها فعضاً، إلا أنه قد بقي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، منهم: أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث وربيعة بن الحارث وأيمن ابن أم أيمن وأسامة بن زيد. قال: وكان رجل من هوازن على جلم أحمر بيده راية سوداء أمام الناس، فإذا أدرك رجلاً طعنه ثم رفع رايته لمن وراءه فاتبعوه، فحمل عليه علي فقتله.
ولما انهزم الناس تكلم رجال من أهل مكة بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، والأزلام معه. وقال كلدة بن النبل، وهو أخو صفوان بن أمية لأمه، وكان صفوان بن أمية يومئذ مشركاً: الآن بطل السحر. فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن ! وقال شيبة بن عثمان: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل بأحد، قال: فأدرت به لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك.
وكان العباس مع النبي، صلى الله عليه وسلم، آخذاً بحكمة بغلته دلدل وهو عليها، وكان العباس جسيماً شديد الصوت، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة ! ففعل، فأجابوه: لبيك لبيك ! فكان الرجل يريد أن يثني بعيره فلا يقدر، فيأخذ سلاحه ثم ينزل عنه ويؤم الصوت، فاجتمع على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مائة رجل فاستقبل بهم القوم وقاتلهم، فلما رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، شدة القتال قال:
أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب
الآن حمي الوطيس؛ وهو أول من قالها. واقتتل الناس قتالاً شديداً، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لبغلته دلدل: البدي دلدل، فوضعت بطنها على الأرض، فأخذ حفنة من تراب فرمى به في وجوههم، فكانت الهزيمة، فما رجع الناس إلا والأسارى في الحبال عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل أقبل شيء أسود من السماء مثل البجاد حتى سقط بين القوم، فإذا نمل أسود مبثوث، فكانت الهزيمة.
ولما انهزمت هوازن قتل من ثقيف وبني مالك سبعون رجلاً، فأما الأحلاف من ثقيف فلم يقتل منهم غير رجلين لأنهم انهزموا سريعاً. وقصد بعض المشركين الطائف ومعهم مالك بن عوف، واتبعت خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المشركين فقتلتهم، فأدرك ربيعة بن رفيع السلمي دريد ابن الصمة ولم يعرفه لأنه كان في شجار لكبره، وأناخ بعيره فإذا هو شيخ كبير، فقال له دريد: ماذا تريد ؟ قال: أقتلك. قال: ومن أنت ؟ فانتسب له، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئاً. فقال دريد: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي فاضرب به، ثم ارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أقتل الرجال، وإذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب يوم قد منعت فيه نساءك. فقتله. فلما أخبر أمه قالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثاً. وساتلب أبو طلحة الأنصاري يوم حنين عشرين رجلاً وحده، وقتلهم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قتل قتيلاً فله سلبه). وقتل أبو قتادة الأنصاري قتيلاً وأجهضه القتال عن أخذ سلبه فأخذه غيره، فلما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك قام أبو قتادة فقال: قتلت قتيلاً وأخذ غيري سلبه. فقال الذي أخذ السلب: هو عندي فارضه مني يا رسول الله. فقال أبو بكر: لا والله لا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله تقاسمه، فرد عليه السلب.
وكان لبعض ثقيف غلامٌ نصراني، فقتل، فبينما رجل من الأنصار يستلب قتلي ثقيف إذ كشف العبد فرآه أغزل، فصرخ بأعلى صوته: يا معشر العرب إن ثقيفاً لا تختتن. فقال له المغيرة بن شعبة: لا تقل هذا، إنما هو غلامٌ نصراني، وأراه قتلى ثقيف مختتنين.

ومر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الطريق بامرأة مقتولة، فقال: من قتلها ؟ قالوا: خالد بن الوليد. فقال لبعض من معه: أدرك خالداً فقل له إن رسول الله ينهاك أن تقتل امرأة أو وليداً أو عسيفاً. والعسيف الأجير.
وكان بعض المشركين بأوطاس فأرسل إليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا عامر الأشعري، عم أبي موسى، فرمي أبو عامر بسهم، قيل رماه سلمة بن دريد بن الصمة، وقتل أبو موسى سلمة هذا بعمه أبي عامر، وانهزم المشركون بأوطاس، وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا، فساقوا في السبي الشيماء ابنة الحارث بن عبد العزى، فقالت لهم: إني والله أخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها حتى أتوا بها النبي، صلى الله عليه وسلم. فقالت له: إني أختك. قال: وما علامة ذلك ؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك. فعرفها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه خيرها فقال: إن أحببت فعندي مكرمة محببة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك. قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، ففعل.
وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالسبايا والأموال، فجمعت إلى الجعرانة، وجعل عليها بديل بن ورقاء الخزاعي.
واستشهد من المسلمين بحنين أيمن بن أم أيمن، ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى وغيرهما.
؟

ذكر حصار الطائف
لما قدم المنهزمون من ثقيف ومن انضم إليهم من غيرهم إلى الطائف أغلقوا عليهم مدينتهم واستحصروا وجمعوا ما يحتاجون إليه. فسار إليهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما كان ببحرة الرغاء قبل وصوله إلى الطائف قتل بها رجلاً من بني ليث قصاصاً، كان قد قتل رجلاً من هذيل فأمر بقتله، وهو أول دم أقيد به في الإسلام، وسار إلى ثقيف فحصرهم بالطائف نيفاً وعشرين يوماً ونصب عليهم منجنيقاً أشار به سلمان الفارسي، وقاتلهم قتالاً شديداً، حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد المحماة، فخرجوا من تحتها، فرماهم من بالطائف بالنبل فقتلوا رجالاً. فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقطع أعناب ثقيف، فقطعت، ونزل إلى رسول الله نفر من رقيق أهل الطائف فأعتقهم، منهم أبو بكرة نفيع بن مسروح وكان للحارث بن كلدة، وإنما قيل له أبو بكرة ببكرة نزل فيها، وغيره. فلما أسلم أهل الطائف تكلمت سادات أولئك العبيد في أن يردهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الرق فقال: لا أفعل، أولئك عتقاء الله.
ثم إن خويلة بنت حكيم السلمية، وهي امرأة عثمان بن مظعون، قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك الطائف حلي بادية بنت غيلان أو حلي الفارغة بنت عقيل، وكانتا من أكثر النساء حلياً. فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة ؟ فخرجت فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب. فدخل عليه عمر وقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خويلة أنك قد قلته ؟ قال: قد قلته. قال: أفلا أؤذن بالرحيل يا رسول الله ؟ قال: بلى. فأذن بالرحيل.
وقيل: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، استشار نوفل بن معاوية الدثلي في المقام عليهم. فقال: يا رسول الله ثعلبٌ في جحر إن أقمت عليه أخذته إن تركته لم يضرك، فأذن بالرحيل. فلما رجع الناس قال رجل: يا رسول الله ادع على ثقيف. قال: اللهم اهد ثقيفاً وأت بهم. فلما رأت ثقيفٌ الناس قد رحلوا عنهم نادى سعيد بن عبيد الثقفي: ألا إن الحي مقيم. فقال عيينة بن حصن: أجل والله مجدةً كراماً. فقال رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة أتمدحهم بالامتناع من رسول الله، صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إني والله ما جئت لأقاتل معكم ثقيفاً، ولكني أردت أن أصيب من ثقيف جارية لعلها تلد لي رجلاً، فإن ثقيفاً قوم مناكير.
واستشهد بالطائف اثنا عشر رجلاً، منهم عبد الله بن أبي أمية المخزومي، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، وعبد الله بن أبي بكر الصديق، رمي بسهم فمات منه بالمدينة بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والسائب بن الحارث بن عدي، وغيرهم.

وهذه بادية بنت غيلان قال فيها هيت المخنث لعبد الله بن أبي أمية: إن فتح الله عيكم الطائف فسل رسول الله أن ينفلك بادية بنت غيلان فإنها هيفاء شموعٌ نجلاء، إن تكلمت تغنت، وإن قامت تثنت، وإن مشت ارتجت، وإن قعدت تبنت، تقبل بأربع وتدبر بثمان، بثغر كالأقحوان، بين رجليها كالقعب المكفأ. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: لقد علمت الصفة، ومنعه من الدخول إلى نسائه.
ذكر قسمة غنائم حنينلما رحل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الطائف سار حتى نزل الجعرانة، وأتته وفود هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله إنا أصلٌ وعشيرة، وقد أصابنا ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. وقام زهير بن صرد من بني سعد بن بكر، وهم الذين أرضعوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك، ولو أنا أرضعنا الحارث بنأبي شمر الغساني أو النعمان بن المنذر لرجونا عطفه، وأنت خير المكفولين ! ثم قال:
امنن علينا رسول الله في كرمٍ ... فإنّك المرء نرجوه وندّخر
امنن على نسوةٍ قد عاقها قدرٌ ... ممزّقٌ شملها في دهرها غير
في أبيات. فخيرهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين أبنائهم ونسائهم وبين أموالهم، فاختاروا أبناءهم ونساءهم، فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا أنا صليت بالناس فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم وأسأل فيكم. فلما صلى الظهر فعلوا ما أمرهم به، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله. وقال الأقرع بن حابس: ما كان لي ولبني تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: ما كان لي ولفزارة فلا. وقال عباس بن مرداس: ما كان لي ولسليم فلا. فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله. فقال: وهنتموني. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من تمسك بحقه من السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه، فردوا على الناس أبناءهم ونساءهم.
وسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن مالك بن عوف، فقيل: إنه بالطائف. فقال: أخبروه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة بعير. فأخبر مالك بذلك، فخرج من الطائف سراً ولحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، واستعمله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل التي حول الطائف، فأعطاه أهله وماله ومائة بعير. وكان يقاتل بمن أسلم معه من ثمالة وفهم وسلمة ثقيفاً، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه، حتى ضيق عليهم.
ولما فرغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من رد سبايا هوازن ركب واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله اقسم علينا فيئنا، حتى ألجؤه إلى شجرة، فاختطف رداؤه، فقال: ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالله لو كان لي عدد شجر تهامة نعمٌ لقسمتها عليكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً. ثم رفع وبرة من سنام بعير وقال: ليس لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس وهو مردود عليكم. ثم أعطى المؤلفة قلوبهم، وكانوا من أشراف الناس، يتألفهم على الإسلام، فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والعلاء بن جارية الثقفي، والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، ومالك بن عوف النصري، كل واحد منهم مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالاً، منهم: مخرمة بن نوفل الزهري، وعمير بن وهب، وهشام بن عمرو، وسعيد بن يربوع، وأعطى العباس بن مرداس أباعر، فسخطها وقال:
كانت نهاباً تلافيتها ... بكرّي على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع النّاس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإٍ ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع
إلاّ أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع
وما كان حصنٌ ولا حابسٌ ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرءٍ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع

فأعطاه حتى رضي.
وقال رجل من الصحابة: يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع وتركت جعيل بن سراقة. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله ؟ فقال: دعوه، ستكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث الدم وقيل: إن هذا القول إنما كان في مال بعث به علي من اليمن إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقسمه بين جماعة، منهم: عيينة والأقرع وزيد الخيل.
قال أبو سعيد الخدري: لما أعطى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما أعطى من تلك الغنائم في قريش وقبائل العرب ولم يعط الأنصار شيئاً وجدوا في أنفسهم حتى قال قائلهم: لقي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قومه. فأخبر سعد بن عبادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فقال له: فأين أنت يا سعد ؟ قال: أنا من قومي. قال: فاجمع قومك لي، فجمعهم. فأتاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: ما حديث بلغني عنكم ؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي ؟ وفقراء فأغناكم الله بي ؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم بي ؟ قالوا: بلى والله يا رسول الله، ولله ورسوله المن والفضل. فقال: ألا تجيبوني ؟ قالوا: بماذا نجيبك ؟ فقال: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ والذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت أمرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً. وتفرقوا.
ثم اعتمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الجعرانة وعاد إلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد، وترك معه معاذ بن جبل يفقه الناس، وحج عتاب بن أسيد بالناس، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج وعاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة في ذي القعدة أو ذي الحجة.
وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص إلى جيفر وعياذ ابني الجلندى من الأزد بعمان مصدقاً، فأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم، وأخذ الجزية من المجوس، وهم كانوا أهل البلد، وكان العرب حولها، وقيل سنة سبع.
وفيها تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الكلابية، واسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فاختارت الدنيا، وقيل: إنها استعاذت منه ففارقها. وفيها ولدت مارية إبراهيم ابن النبي، صلى الله عليه وسلم، في ذي الحجة، فدفعه إلى أم بردة بنت المنذر الأنصارية فكانت ترضعه، وزوجها البراء بن أوس الأنصاري. وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأرسلت أبا رافع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يبشره بإبراهيم، فوهب له مملوكاً، وغار نساء النبي، صلى الله عليه وسلم، وعظم عليهن حين رزقت مارية منه ولداً.
وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كعب بن عمير إلى ذات إطلاح من الشام إلى نفر من قضاعة يدعوهم إلى الإسلام ومعه خمسة عشر رجلاً، فوصل إليهم فدعاهم إلى الاسلام، فلم يجيبوه، وكان رئيس قضاعة رجلاً يقال له سدوس، فقتلوا المسلمين ونجا عمير فتقدم إلى المدينة. وفيها بعث أيضاً عيينة بن حصن الفزاري إلى بني العنبر من تميم، فأغار عليهم وسبى منهم نساء، وكان على عائشة عتق رقبة من بني إسماعيل، فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: هذا سبي بني العنبر يقدم علينا فنعطيك إنساناً فتعتقينه.
ثم دخلت سنة تسع

ذكر إسلام كعب بن زهير
قيل: خرج كعب بن زهير بن أبي سلمى، وأبو سلمى ربيعة المزني، ومعه أخوه بجير حتى أتيا أبرق العزاف، فقال له بجير: اثبت في غنمنا حتى آتي هذا الرجل، يعني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسمع منه. فأقام كعب وسار بجير إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وبلغ ذلك كعباً فقال:

ألا أبلغا عني بجيراً رسالةً ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
ففارقت أسباب الهدى واتبعته ... على أي شيء ويب غيرك دلكا
على خلقٍ لم تلف أمّاً ولا أباً ... عليه ولم تدرك عليه أخاً لكا
سقاك بها المأمور كأساً رويّةٍ ... فأنهلك المأمور منها وعلّكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ... ولا قائل أما عثرت لعالكا
فلما بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قوله غضب وأهدر دمه، فكتب بذلك بجير إلى أخيه بعد عود رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الطائف وقال: النجاء النجاء، وما أدري أن تتفلت، ثم كتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا فأسلم وأقبل إليه فإنه لا يأخذ مع الإسلام بما كان قبله. فأسلم كعب وجاء حتى أناخ راحلته بباب المسجد، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع أصحابه، قال كعب: فعرفته بالصفة فتخطيت الناس إليه فأسلمت وقلت: الأمان يا رسول الله، هذا مقام العائذ بك. قال: من أنت ؟ فقلت: كعب بن زهير. قال: الذي يقول، ثم التفت إلى أبي بكر فقال: كيف قال ؟ فأنشده أبو بكر الأبيات التي أولها:
ألا أبلغا عني بجيراً رسالةً
فقال كعب: ما هكذا قلت يا رسول الله، إنما قلت:
سقاك أبو بكرٍ بكأسٍ رويّةٍ ... فأنهلك المأمون منها وعلّكا
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مأمون والله. فتجهمته الأنصار وأغلظت له، ولانت له قريش وأحبت إسلامه، فأنشده قصيدته التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّمٌ عندها لم يفد مكبول
فلما انتهى إلى قوله:
وقال كلّ خليلٍ كنت آمله ... لا ألهينّك إنّي عنك مشغول
نبّئت أنّ رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
في فتيةٍ من قريشٍ قال قائلهم ... ببطن مكّة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاسٌ ولا كشفٌ ... عند اللّقاء ولا ميلٌ معازيل
لا يقع الطّعن في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل
نظر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى قريش فأومأ إليهم أن اسمعوا، حتى قال:
يمشون مشي الجمال الزّهر يعصمهم ... ضربٌ إذا عرّد السّود التّنابيل
يعرض بالأنصار لغلظتهم التي كانت عليه، فأنكرت قريش قوله وقالوا: لم تمدحنا إذ هجوتهم، ولم يقبلوا ذلك منه، وعظم على الأنصار هجوه، فشكوه، فقال يمدحهم:
من سرّة كرم الحياة فلا يزل ... في مقنبٍ من صالحي الأنصار
ورثوا المكارم كاراً عن كابرٍ ... إن الخيار هم بنو الأخيار
الباذلين نفوسهم ودماءهم ... يوم الهياج وسطوة الجبّار
يتطهّرون يرونه نسكٌ لهم ... بدماء من قتلوا من الكفّار
في أبيات. فكساه النبي، صلى الله عليه وسلم، بردةً كانت عليه، فلما كان زمن معاوية أرسل إلى كعب: أن بعنا بردة رسول الله. فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله أحداً. فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم، وهي البردة التي عند الخلفاء الآن.
وقيل: إنما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقتله وقطع لسانه لنه تشبب بأم هانئ بنت أبي طالب.
أبو سلمى بضم السين والإمالة، والمأمور بالراء، قال بعض العلماء: إنما كره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك لن العرب كانت تقول لكل من يتكلم بالشيء من تلقاء نفسه مأمور، بالراء، يريدون أن الذي يقوله تأمره به الجن وإن كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مأموراً من الله تعالى ولكنه كره لعادتهم، فلما قال: المأمون بالنون، رضي به لأنه مأمون على الوحي. وبجير بالباء الموحدة المضمومة وبالجيم.
ذكر غزوة تبوكلما عاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أقام بالمدينة بعد عوده من الطائف ما بين ذي الحجة إلى رجب، ثم أمر الناس بالتجهز لغزو الروم وأعلم الناس مقصدهم لبعد الطريق وشدة الحر وقوة العدو، وكان قبل ذلك إذا أراد غزوة ورى بغيرها.

وكان سببها أن النبي، صلى الله عليه وسلم، بلغه أن هرقل ملك الروم ومن عنده من متنصرة العرب قد عزموا على قصده، فتجهز هو والمسلمون وساروا إلى الروم. وكان الحر شديداً، والبلاد مجدبة، والناس في عسرة، وكانت الثمار قد طابت، فأحب الناس المقام في ثمارهم فتجهزوا على كره، فكان ذلك الجيش يسمى العسرة. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للجد بن قيس، وكان من رؤساء المنافقين: هل لك في جلاد بني الأصفر ؟ فقال: والله لقد عرف قومي حبي للنساء، وأخشى أن لا أصبر على نساء بني الأصفر، فإن رأيت أن تأذن لي ولا تفتني. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد أذنت لك، فأنزل الله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّ) الآية التوبة: 49؛ وقال قائل من المنافين: لا تنفروا في الحر، فنزل قوله تعالى: (وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا في الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أشَدُّ حَرّاً) التوبة: 81.
ثم إن النبي، صلى الله عليه وسلم، تجهز وأمر بالنفقة في سبيل الله، وأنفق أهل الغنى، وأنفق أبو بكر جميع ما بقي عنده من ماله، وأنفق عثمان نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم منها، قيل: كانت ثلاثمائة بعير وألف دينار.
ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا النبي، صلى الله عليه وسلم، وهم البكاؤون، وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، وكانوا أهل حاجة، فاستحملوه. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا يبكون، فلقيهم يامين بن عمير بن كعب النضري فسألهم عما يبكيهم فأعلموه، فأعطى أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل المزني بعيراً، فكانا يعتقبانه مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يعذرهم الله، وكان عدة من المسلمين تخلفوا من غير شك، منهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة.
فلما سار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تخلف عنه عبد الله بن أبي المنافق فيمن تبعه من أهل النفاق، واستخلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المدينة سباع بن عرفطة، وعلى أهله علي بن أبي طالب، فأجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالاً له. فلما سمع علي ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره ما قال المنافقون، فقال: (كذبوا وإنّما خلّفتُك لما ورائي، فارجعْ فاخلفْني في أهلي وأهلك، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي). فرجع. فسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ثم إن أبا خيثمة أقام أياماً، فجاء يوماً إلى أهله، وكانت له امرأتان، وقد رشت كل امرأة منهما عريشها وبردت له ماء وصنعت طعاماً، فلما رآه قال: يكون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحر والريح وأبو خيثمة في الظل البارد والماء البارد مقيم ! ما هذا بالنصف، والله ما أحل عريشاً منهما حتى ألحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم. فهيأ زاده وخرج إلى ناضحه فركبه، وطلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأدركه بتبوك، فقال الناس: يا رسول الله هذا راكب مقبلٌ. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة. فقالوا: هو والله أبو خيثمة. وأتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره بخبره، فدعا له.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين مر بالحجر، وهو بطريقه، وهو منزل ثمود، قال لأصحابه: لا تشربوا من هذا الماء شيئاً ولا تتوضأوا منه، وما كان من عجين فألقوه واعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يخرج الليلة أحد إلا مع صاحب له. ففعل ذلك الناس ولم يخرج أحدٌ إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته فأصابه جنون، وأما الذي طلب بعيره فاحتمله الريح إلى جبلي طيء، فأخبر بذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم أنهكم أن لا يخرج أحد إلا مع صاحب له ؟ فأما الذي خنق فدعا له فشفي، وأما الذي حملته الريح فأهدته طيء إلى رسول الله بعد عوده إلى المدينة. وأصبح الناس بالحجر ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فدعا الله فأرسل سحابةً فأمطرت حتى روي الناس.
وكان بعض المنافقين يسير مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما جاء المطر قال له بعض المسلمين: هل بعد هذا شيء ؟ قال: سحابة مارة.

وضلت ناقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الطريق فقال لأصحابه، وفيهم عمارة بن حزم، وهو عقبي بدري: إن رجلاً قال إن محمداً يخبركم الخبر من السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله عز وجل، وهي في الوادي في شعب كذا قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا فأتوه بها، فرجع عمارة إلى أصحابه فخبرهم بما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الناقة تعجباً مما رأى. وكان زيد بن لصيت القينقاعي منافقاً وهو في رحل عمارة قد قال هذه المقالة، فأخبر عمارة بأن زيداً قد قالها، فقام عمارة يطأ عنقه وهو يقول: في رحلي داهية ولا أدري ! اخرج عني يا عدو الله ! فزعم بعض الناس أن زيداً تاب بعد ذلك وحسن إسلامه، وقيل: لم يزل متهماً حتى هلك.
ووقف بأبي ذر جمله فتخلف عليه، فقيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر. فقال: ذروه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم. فكان يقولها لكل من تخلف عنه، فوقف أبو ذر على جمله، فلما أبطأ عليه أخذ رحله عنه وحمله على ظهره وتبع النبي، صلى الله عليه وسلم، ماشياً. فنظر الناس فقالوا: يا رسول الله هذا رجل على الطريق وحده، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر. فلما تأمله الناس قالوا: هو أبو ذر. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أبا ذرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبْعَث وحده)، ويشهده عصابة من المؤمنين.
فلما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة أصابه بها أجله ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن يغسلاه ويكفناه ثم يضعاه على الطريق، فأول ركب يمر بهما يستعينان بهم على دفنه؛ ففعلا ذلك، فاجتاز بهما عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق، فأعلمته امرأة أبي ذر بموته. فبكى ابن مسعود وقال: صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك؛ ثم واروه.
وانتهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى تبوك، فأتى يوحنا ابن رؤبة صاحب أيلة فصالحه على الجزية وكتب له كتاباً، فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار، ثم زاد فيها الخلفاء من بني أمية. فلما كان عمر بن عبد العزيز لم يأخذ منهم غير ثلاثمائة، وصالح أهل أذرح على مائة دينار في كل رجب، وصالح أهل جرباء على الجزية، وصالح أهل مقنا على ربع ثمارهم.
وأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكان نصرانياً من كندة، فقال لخالد: إنك تجده يصيد البقر. فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه على منظر العين وأكيدر على سطح داره فباتت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فقالت امرأته: هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال: لا والله، ثم نزل وركب فرسه ومعه نفر من أهل بيته، ثم خرج يطلب البقر، فتلقتهم خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخذته وقتلوا أخاه حساناً، وأخذ خالد من أكيدر قباء ديباج مخوص بالذهب فأرسله إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فجعل المسلمون يلمسونه ويتعجبون منه. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا ؟ لمناديل سعد بن عبادة في الجنة أحسن من هذا. وقدم خالد بأكيدر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحقن دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله.

وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها، ولم يقدم عليه الروم والعرب المتنصرة، فعاد إلى المدينة. وكان في الطريق ماء يخرج من وشل لا يروي إلا الراكب والراكبين بوادٍ يقال له وادي المشقق، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من سبقنا فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه، فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما جاءه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخبروه بفعلهم، فلعنهم ودعا عليهم، ثم نزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليه فوضع يده تحته وجعل يصب إليها يسيراً من الماء، فدعا فيه ونضحه في الوشل، فانخرق الماء جرياً شديداً، فشرب الناس واستقوا. وسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى قارب المدينة، فأتاه خبر مسجد الضرار، فأرسل مالك بن الدخشم فحرقه وهدمه وأنزل الله فيه: (وَالَّذِينَ اتَّخّذوُا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ) التوبة: 107 الآيات. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً، وكان قد أخرج من دار خذام بن خالد من بني عمرو بن عوف. وقدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان قد تخلف عنه رهط من المنافقين، فأتوه يحلفون له ويعتذرون، فصفح عنهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يعذرهم الله ورسوله، وتخلف أولئك النفر الثلاثة، وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، تخلفوا من غير شك ولا نفاق، فنهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن كلامهم، فاعتزلهم الناس، فبقوا كذلك خمسين ليلة، ثم أنزل الله توبتهم: (وَعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ) الآيات؛ إلى قوله: (صَادِقِينَ) التوبة: 118، وكان قدوم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة من تبوك في رمضان.
يامين النضري بالنون، والضاد المعجمة. وعبد الله بن مغفل بالغين المعجمة، والفاء المشددة المفتوحة. وزيد بن لصيت باللام المضمومة، والصاد المهملة المفتوحة، وآخره تاء مثناة من فوقها. وخذام بن خالد بالخاء المكسورة، والذال المعجمتين. وأكيدر بالهمزة المضمومة، والكاف المفتوحة، والدال المهملة المكسورة، وآخره راء مهملة.
؟

ذكر قدوم عروة بن مسعود الثقفي
على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيها قدم عروة بن مسعود الثقفي على النبي، صلى الله عليه وسلم، مسلماً، وقيل: بل أدركه في الطريق مرجعه من الطائف، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنهم قاتلوك. فقال: أنا أحب إليهم من أبكارهم، ورجا أن يوافقوه لمنزلته فيهم، فلما رجع إلى الطائف صعد إلى علية له وأشرف منها عليهم وأظهر الإسلام ودعاهم إليهم، فرموه بالنبل، فأصابه سهم فقتله، فقيل له: ما ترى في دمك ؟ فقال: كرامةً أكرمني الله بها وشهادةً ساقها إلي، ليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله، فادفنوني معهم. فلما مات دفنوه معهم. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيه: (إنّ مثَله في قومه كمثَل صاحب يس في قومه).
ذكر قدوم وفد ثقيفوفي هذه السنة في رمضان قدم وفد ثقيف على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وسبب ذلك أنهم رأوا أن من يحيط بهم من العرب قد نصبوا لهم القتال وشنوا الغارات عليهم، وكان أشدهم في ذلك مالك بن عوف النصري، فلا يخرج منهم مال إلا نهب، ولا إنسان إلا أخذ، فلما رأوا عجزهم اجتمعوا وأرسلوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، والحكم بن عمرو بن وهب، وشرحبيل بن غيلان، وهؤلاء من الأحلاف، وأرسلوا من بني مالك عثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف، ونمير بنخرشة، فخرجوا حتى قدموا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنزلهم في قبة في المسجد، فكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي بينهم وبين النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يرسل إليهم ما يأكلونه مع خالد، وكانوا لا يأكلون طعاماً حتى يأكل خالد منه، حتى أسلموا.

وكان فيما سألوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يدع الطاغية، وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم، وكان قصدهم بذلك أن يتسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم، فنزلوا إلى شهر فلم يجبهم، وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال: لا خير في دين لا صلاة فيه، فأجابوا وأسلموا. وأمر عليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عثمان بن أبي العاص، وكان أصغرهم، لما رأى من حرصه على الإسلام والتفقه في الدين. ثم رجعوا إلى بلادهم، وأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب ليهدما الطاغية، فتقدم المغيرة فهدمها، وقام قومه من بني شعيب دونه خوفاً أن يرمى بسهم، وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها، وأخذ حليها ومالها.
وكان أبو مليح بن عروة بن مسعود وقارب بن الأسود بن مسعود قدما على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما قتل عروة والأسود، فأمرهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يقضيا منه دين عروة والأسود ابني مسعود، ففعلا، وكان الأسود مات كافراً، فسأل ابنه قارب بن الأسود رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يقضي دين أبيه، فقال: إنه كافر. فقال: يصل مسلمٌ ذا قرابته، يعني أنه أسلم فيصل أباه وإن كان مشركاً.
؟

ذكر غزوة طيء
وإسلام عدي بن حاتم
في هذه السنة في شهر ربيع الآخر أرسل النبي، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب في سرية إلى ديار طيء وأمره أن يهدم صنمهم الفلس، فسار إليهم وأغار عليهم، فغنم وسبى وكسر الصنم، وكان متقلداً سيفين يقال لأحدهما مخذم وللآخر رسوب، فأخذهما علي وحملهما إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان الحارث بن أبي شمر أهدى السيفين للصنم، فعلقا عليه، وأسر بنتاً لحاتم الطائي، وحملت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة فأطلقها.
وأما إسلام عدي بن حاتم فقال عدي: جاءت خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخذوا أختي وناساً فأتوا بهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت أختي: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك. فقال: ومن وافدك ؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: الذي فر من الله ورسوله ! فمن عليها، وإلى جانبه رجل قائم وهو علي بن أبي طالب، قال: سليه حملاناً. فسألته، فأمر لها به وكساها وأعطاها نفقة. قال عدي: وكنت ملك طيء آخذ منهم المرباع وأنا نصراني، فلما قدمت خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هربت إلى الشام من الإسلام وقلت أكون عند أهل ديني، فبينا أنا بالشام إذ جاءت أختي وأخذت تلومني على تركها وهربي بأهلي دونها، ثم قالت لي: أرى أن تلحق بمحمد سريعاً فإن كان نبياً كان للسابق فضله، وإن كان ملكاً كنت في عز وأنت أنت. قال: فقدمت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه وعرفته نفسي، فانطلق بي إلى بيته، فلقيته امرأة ضعيفة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها، فقلت: ما هذا بملكٍ، ثم دخلت بيته فأجلسني على وسادة وجلس على الأرض، فقلت في نفسي: ما هذا ملك. فقال لي: يا عدي إنك تأخذ المرباع وهو لا يحل في دينك، ولعلك إنما يمنعك من الإسلام ما ترى من حاجتنا وكثرة عدونا، والله ليفيضن المال فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ووالله لتسمعن بالمرأة تسير من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله، ووالله لتسمعن بالقصور البيض من بابل وقد فتحت. قال: فأسلمت، فقد رأيت القصور البيض وقد فتحت، ورأيت المرأة تخرج إلى البيت لا تخاف إلا الله، ووالله لتكونن الثالثة ليفيضن المال حتى لا يقبله أحد.
ذكر قدوم الوفود على رسول الله
صلى الله عليه وسلم

لما افتتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة وأسلمت ثقيف وفرغ من تبوك ضربت إليه وفودٌ من كل وجه، وإنما كانت العرب تنتظر بإسلامها قريشاً إذ كانوا أمام الناس وأهل الحرم وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، لا تنكر العرب ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخلافه، فلما فتحت مكة وأسلمت قريش عرفت العرب أنها لا طاقة لها بحرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا عداوته، فدخلوا في الدين أفواجاً، كما قال الله تعالى: (إذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ وَرَأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كَانَ تَوّاباَ) النصر: 1 - 3.
وقدمت وفودهم في هذه السنة، قدم وفد بني أسد على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أتيناك قبل أن ترسل إلينا رسولاً، فأنزل الله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا)؛ الآية الحجرات: 17. وفيها قدم وفد بلي في شهر ربيع الأول. وفيها قدم وفد الزاريين، وهم عشرة نفر. وفيها قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفد بني تميم مع عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس، وفيهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم والختات ومعتمر بن زيد في وفد عظيم ومعهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من وراء حجراته أن اخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخرج إليهم، فقالوا: جئنا نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فأذن لهم، فقام عطارد فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكاً ووهب لنا أموالاً عظاماً نفعل فيها المعروف وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم عدداً، فمن يفاخرنا فليعدد مثل عددنا.
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لثابت بن قيس: أجب الرجل. فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي له السماوات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يكن شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً، واصطفى من خير خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً، وأصدقهم حديثا، وأفضلهم حسباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله تعالى من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس نسباً وجوهاً وخير الناس فعالاً. ثم كان أول الخلق استجابة لله حين دعاه نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله عينا يسيراً، والسلام عليكم.
فقالوا: يا رسول الله ائذن لشاعرنا، فأذن له، فقام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حيٌّ يعادلنا ... منّا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلّهم ... عند النّهاب وفضل العرب يتّبع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا ... من الشّواء إذا لم يؤنس القزع
بما ترى النّاس تأتينا سراتهم ... من كلّ أرضٍ هويّاً ثمّ نصطنع
فننحر الكوم عبطاً في أرومتنا ... للنّازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حيٍّ نفاخرهم ... إلاّ استقادوا وكاد الرّأس يقتطع
إنّا أبينا ولن يأبى لنا أحدٌ ... إنّا كذلك عند الفخر نرتفع
فمن يفاخرنا في ذاك يعرفنا ... فيرجع القول والأخبار تستمع
قال: وكان حسان بن ثابت غائباً، فدعاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليجيب شاعرهم. قال حسان: فلما سمعت قوله قلت على نحوه:
إن الذّوائب من فهرٍ وإخوتهم ... قد بيّنوا سنّةً للنّاس تتّبع
قومٌ إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم ... أو حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا
يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله، وكلّ البرّ يصطنع
سجيّةٌ تلك منهم غير محدثةٍ ... إنّ الخلائق، فاعلم، شرّها البدع
إن كان في النّاس سبّاقون بعدهم ... فكلّ سبقٍ لأدنى سبقهم تبع

لا يرقع النّاس ما أوهت أكفّهم ... عند الدّفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن سابقوا النّاس يوماً فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجدٍ بالنّدى متعوا
أعفّةٌ ذكرت في الوحي عفّتهم ... لا يطمعون ولا يزري بهم طمع
لا يبخلون على جارٍ بفضلهم ... ولا يمسّهم من مطمعٍ طبع
إذا نصبنا لحيٍّ لم ندبّ لهم ... كما يدبّ إلى الوحشيّة الذّرع
كأنّهم في الوغى والموت مكتنعٌ ... أسدٌ بحلية في أرساغها فدع
أكرم بقومٍ رسول الله شيعتهم ... إذا تفرّقت الأهواء والشّيع
فإنّهم أفضل الأحياء كلّهم ... إن جدّ بالناس جدّ القول أو شمعوا
فلما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس: إن هذا الرجل لمؤتىً له، خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا؛ ثم أسلموا وأجازهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفيهم أنزل الله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاء الحُجُرَاتِ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الآيات الحجرات: 4.
الختات بالخاء المعجمة، وتائين كل واحدة منهما معجمة باثنتين من فوق. وعيينة بضم العين المهملة، وبائين كل واحدة منهما مثناة من تحت، ونون.
وفيها قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتب ملوك حمير مقرين بالإسلام مع رسولهم الحارث بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وهمدان، فأرسل إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم، وكتب إليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يأمرهم بما عليهم في الإسلام وينهاهم عما حرم عليهم.
وفيها قدم وفد بهراء على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على المقداد بن عمرو. وفيها قدم وفد بني البكاء. وفيها قدم وفد بني فزارة فيهم خارجة بن حصن. وفيها قدم وفد ثعلبة بن منقذ. وفيها قدم وفد سعد بن بكر، وكان وافدهم ضمام بن ثعلبة، فسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن شرائع الإسلام وأسلم، فلما رجع إلى قومه قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة؛ فلما قدم على قومه اجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى ! فقالوا: اتق البرص والجذام والجنون. فقال: ويحكم إنهما لا يضران ولا ينفعان، وإن الله قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً وقد استنقذكم به مما كنتم فيه؛ وأظهر إسلامه، فما أمسى ذلك اليوم في حاضره رجل مشرك ولا امرأة مشركة، فما سمع بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.
ذكر حج أبي بكر رضي الله عنهوفيها حج أبو بكر بالناس ومعه عشرون بدنة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولنفسه خمس بدنات، وكان في ثلاثمائة رجل، فلما كان بذي الحليفة أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أثره علياً وأمره بقراءة سورة براءة على المشركين فأدركه بالعرج، وأخذها منه فعاد أبو بكر وقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شيء ؟ قال: لا، ولكن لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني، ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وصاحبي على الحوض ؟ قال: بلى، فسار أبو بكر أميراً على الموسم، فأقام الناس الحج وحجت العرب الكفار على عادتهم في الجاهلية، وعلي يؤذن ببراءة، فنادى يوم الأضحى: لا يحجن بعد العام مشركٌ ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عهد فأجله إلى مدته فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب، ورجع المشركون، فلام بعضهم بعضاً وقالوا: ما تصنعون وقد أسلمت قريش ؟ فأسلموا.
وفي هذه السنة فرضت الصدقات، وفرق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيها عماله.
وفيها في شعبان توفيت أم كلثوم بنت النبي، صلى الله عليه وسلم، وهي زوج عثمان بن عفان وغسلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبد المطلب، وقيل: غسلتها نسوة من الأنصار، منهن أم عطية، وصلى عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونزل في حفرتها أبو طلحة.

وفيها مات عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وكان ابتداء مرضه في شوال، فلما توفي جاء ابنه عبد الله إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فسأله قميصه، فأعطاه، فكفنه فيه، وجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليصلي عليه، فقام عمر في صدره وقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد قال يوم كذا وكذا وكذا ! يعدد أيامه، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتبسم ثم قال: أخر عني عمر، قد خيرت فاخترت، قد قيل لي: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) التوبة: 80؛ ولو علمت أن لو زدت على السبعين غفر لهم لزدت، ثم صلى عليه وقام على قبره حتى فرغ منه، فأنزل الله تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنْهُمٍ مَاتَ أبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) الآية التوبة: 84. وفيها نعى النبي، صلى الله عليه وسلم، النجاشي للمسلمين، وكان موته في رجب سنة تسع، وصلى عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفيها توفي أبو عامر الراهب عند النجاشي.
ذكر الأحداث في سنة عشر

ذكر وفد نجران مع العاقب والسيد
وفيها أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب بنجران في شهر ربيع الآخر وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثاً، فإن أجابوا أقام فيهم وعلمهم شرائع الإسلام، وإن لم يفعوا قاتلهم. فخرج إليهم ودعاهم إلى الإسلام، فأجابوا وأسلموا، فأقام فيهم وكتب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعلمه إسلامهم، وعاد خالد ومعه وفدهم فيهم قيس بن الحصين بن يزيد بن قينان ذي الغصة ويزيد بن عبد المدان وغيرهما، فقدموا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا عنه في بقية شوال أو في ذي الحجة، وأرسل إليهم عمرو بن حزم يعلمهم شرائع الإسلام ويأخذ صدقاتهم، وكتب معه كتاباً، وتوفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن حزم على نجران.
وأما نصارى نجران فإنهم أرسلوا العاقب والسيد في نفر إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأرادوا مباهلته، فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين، فلما رأوهم قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على الله أن يزيل الجبال لأزالها، ولم يباهلوه وصالحوه على ألفي حلة ثمن كل حلة أربعون درهماً، وعلى أن يضيفوا رسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجعل لهم ذمة الله تعالى وعهده ألا يفتنوا عن دينهم ولا يعشروا، وشرط عيهم أن لا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به. فلما استخلف أبو بكر عاملهم بذلك، فلما استخلف عمر أجلى أهل الكتاب عن الحجاز وأجلى أهل نجران، فخرج بعضهم إلى الشام وبعضهم إلى نجرانية الكوفة، واشترى منهم عقارهم وأموالهم. وقيل: إنهم كانوا قد كثروا فبلغوا أربعين ألفاً فتحاسدوا بينهم، فأتوا عمر بن الخطاب وقالوا: أجلنا، وكان عمر بن الخطاب قد خافهم على المسلمين فاغتنما فأجلاهم، فندموا بعد ذلك ثم استقالوه فأبى، فبقوا كذلك إلى خلافة عثمان. فلما ولي علي أتوه وقالوا: ننشدك الله خطك بيمينك. فقال: إن عمر كان رشيد الأمر وأنا أكره خلافه، وكان عثمان قد أسقط عنهم مائتي حلة، وكان صاحب النجرانية بالكوفة يبعث إلى من بالشام والنواحي من أهل نجران بجبونهم الحلل.

فلما ولي معاوية ويزيد بن معاوية شكوا إليه تفرقهم وموت من مات منهم وإسلام من أسلم منهم، وكانوا قد قلوا، وأروه كتاب عثمان، فوضع عنهم مائتي حلة تكملة أربعمائة حلة. فلما ولي الحجاج العراق وخرج عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث اتهم الدهاقين بموالاته واتهمهم معهم فردهم إلى ألف وثلاثمائة حلة وأخذهم بحلل وشيٍ. فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا إليه فناءهم ونقصهم وإلحاح العرب عليهم بالغارة وظلم الحجاج، فأمر بهم فأحصوا ووجدوا على العشر من عدتهم الأولى، فقال: أرى هذا الصلح جزيةً وليس على أرضهم شيء وجزية المسلم والميت ساقطة، فألزمهم مائتي حلة. فلما تولى يوسف بن عمر اثقفي ردهم إلى أمرهم الأول عصبية للحجاج. فلما استخلف السفاح عمدوا إلى طريقه يوم ظهوره من الكوفة فألقوا فيها الريحان ونثروا عليه، فأعجبه ذلك من فعلهم، ثم رفعوا إليه أمرهم وتقربوا إليه بأخواله بني الحارث بن كعب، فكلمه فيهم عبد الله بن الحارث فردهم إلى مائتي حلة. فلما ولي الرشيد شكوا إليه العمال فأمر أن يعفوا من العمال وأن يكون مؤداهم بيت المال.
وفيها قدم وفد سلامان في شوال، وهم سبعة نفر، رأسهم حبيب السلاماني. وفيها قدم وفد غبشان في رمضان، ووفد عامر في شهر رمضان أيضاً. وفيها قدم وفد الأزد رسأهم صرد بن عبد الله في بضعة عشر رجلاً، فأسلم، وأمره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد المشركين، فسار إلى مدينة جرش، وفيها قبائل من ايمن فيهم خثعم، فحاصرهم قريباً من شهر فامتنعوا منه فرجع حتى كان بجبل يقال له كشر، فظن أهل جرش أنه منهزم فخرجوا في طلبه فأدركوه، فعطف عليهم فقاتلهم قتالاً شديداً، وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينظران حاله. فبينما هما عنده إذ قال: بأي بلاد الله شكر ؟ فقالا: ببلادنا جبل يقال له كشر. فقال: إنه ليس بكشر ولكنه شكر، وإن بدن الله لتنحر عنده الآن. فقال لهما أبو بكر أبو عثمان: ويحكما إنه ينعى لكما قومكما فاسألاه أن يدعوا الله يرفع عنهم، ففعلا، فقال: اللهم ارفع عنهم، فخرجا من عنده إلى قومهما فوجداهم قد أصيبوا ذلك اليوم في تلك الساعة التي ذكر فيها النبي، صلى الله عليه وسلم، حالهم، وخرج وفد جرش إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسلموا.
وفيها قدم وفد مراد مع فروة بن مسيك المرادي على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مفارقاً لملوك كندة، وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة ظفرت فيها همدان وأكثروا القتل في مراد، وكان يقال لذلك اليوم يوم الرزم، وكان رئيس همدان الأجدع بن مالك والد مسروق، وفي ذلك يقول فروة:
فإن نغلب فغلاّبون قدماً ... وإن نهزم فغير مهزّمينا
وما إن طبّنا جبنٌ ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
كذاك الدّهر دولته سجالٌ ... تكرّ صروفه حينا وحينا
فبينا ما يسرّ به ويرضى ... ولو لبست غضارته سنينا
إذ انقلبت به كرّات دهرٍ ... فألفى للأولى غبطوا طحينا
ومن يغبط بريب الدّهر منهم ... يجد ريب الزّمان له خؤونا
فلو خلد الملوك إذاً خلدنا ... ولو بقي الكرام إذاً بقينا
فأفنى ذلكم سروات قومٍ ... كما افنى القرون الأوّلينا
ولما توجه فروة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مفارقاً لقومه قال:
لّما رأيت ملوك كندة أعرضت ... كالرّجل خان الرّجل عرق نسائها
يمّمت راحلتي أؤمّ محمّداً ... أرجو فضائلها وحسن ثرائها
فلما انتهى إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال له: يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الرزم ؟ فقال: يا رسول الله من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي ولم يسؤه ذلك ؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يزيد قومك في الإسلام إلا خيراً، فاستعمله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على مراد وزبيد ومذحج كلها وبعث معه خالد بن سعيد ابن العاص، فكان على الصدقات إلى أن توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وفيها أرسل فروة بن عمرو الجذامي ثم النفاثي رسولاً إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بإسلامه وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان في أرض الشام، فلما بلغ الروم إسلامه طلبوه حتى أسروه فحبسوه، فقال في محبسه ذلك:
طرقت سليمى موهناً فشجاني ... والرّوم بين الباب والقربان
صدّ الخيال وساءه ما قد رأى ... وهممت أن أغفي وقد أبكاني
لا تكحلنّ العين بعدي إثمداً ... سلمى ولا تدننّ للإنسان
فلما اجتمعت الروم لصلبه على ماء لهم يقال له عفرى بفلسطين قال:
ألا هل أتى سلمى بأنّ خليلها ... على ماء عفرى فوق إحدى الرّواحل
على ناقةٍ لم يلقح الفحل أمّها ... مشذّبةٍ أطرافها بالمناجل
وهذا من أبيات المعاني. فلما قدموه ليصلبوه قال:
بلّغ سراة المسلمين بأنّني ... سلمٌ لربّي أعظمي ومقامي
ثم ضربوا عنقه وصلبوه.
وفيها قدم وفد زبيد على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع عمرو بن معدي كرب، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد استعمل على زبيد ومراد فروة بن مسيك في هذه السنة قبل قدوم عمرو، فلما عاد عمرو من عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أقام في قومه بني زبيد وعليهم فروة، فلما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ارتد عمرو.
وفيها قدم وفد عبد القيس على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفيهم الجارود بن عمرو، وكان نصرانياً فأسلم وأسلم من معه، وكان الجارود حسن الإسلام، نهى قومه عن الردة بعد موت النبي، صلى الله عليه وسلم، لما ارتدوا مع الغرور، وهو المنذر بن النعمان، وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعث العلاء بن الحضرمي قبل الفتح إلى المنذر بن ساوى العبدي فأسلم وحسن إسلامه، ثم هلك بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقبل ردة أهل البحرين، والعلاء أمير لرسول الله على البحرين.
وفيها قدم وفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة، وكان منزله في دار ابنة الحارث امرأة من الأنصار، واجتمع مسيلمة برسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى اليمامة وتنبأ وتكذب لهم وادعى أنه شريك رسول الله في النبوة، فاتبعه بنو حنيفة.
وفيها قدم وفد كندة مع الأشعث بن قيس، وكانوا ستين راكباً، فقال الأشعث: نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار. فقال النبي: صلى الله عليه وسلم: (نحن بنو النضر بن كِنانة لا نَقْفُز أمّنا ولا ننتفي من أبينا).
وفيها قدم وفد محارب. وفيها قدم وفد الرهاويين، وهم بطن من مذحج.
ورهاء بفتح الراء، قاله عبد الغني بن سعيد. وفيها قدم وفد عبس. وفيها قدم وفد صدف، وافوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع. وفيها قدم وفد خولان، وكانوا عشرة.
وفيها قدم وفد بني عامر بن صعصعة فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمى، بضم السين وبالإمالة، بن مالك بن جعفر وكان هؤلاء الثلاثة رؤوس القوم وشياطينهم، وكان عامر يريد الغدر برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له قومه: إن الناس قد أسلموا فأسلم. فقال: لا أتبع عقب هذا الفتى، ثم قال لأربد: إذا قدمنا عليه فإني شاغله فاعله بالسيف من خلفه. فلما قدموا جعل يكلم النبي، صلى الله عليه وسلم، يشغله ليفتك به أربد، فلم يفعل أربد شيئاً، فقال عامر للنبي، صلى الله عليه وسلم: لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً فلما ولى قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني عامراً فلما خرجوا قال عامر لأربد: لم لم تقتله ؟ قال: كلما هممت بقتله دخلت بيني وبينه حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف ؟ ورجعوا، فلما كانوا ببعض الطريق أرسل الله على عامر بن الطفيل الطاعون فقتله، وإنه لفي بيت امرأة سلولية، فمات وجعل يقول: يا بني عامر أغدة كغدة البعير وموتٌ في بيت سلولية ؟! وأرسل الله على أربد صاعقة فأحرقته، وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه.

وفيها قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفد طيء فيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فأسلموا وحسن إسلامهم. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ما ذُكر لي رجل من العرب بفضلٍ ثمّ جاءني إلاّ رأيتُهُ دون ما يقال فيه إلاّ ما كان من زيد الخيل)، ثم سماه زيد الخير وأقطع له فيد وأرضين معها. فلما رجع أصابته الحمى بقرية من نجد فمات بها.
وفيها كتب مسيلمة الكذاب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يذكر أنه شريكه في النبوة، وأرسل الكتاب مع رسولين، فسألهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عنه، فصدقاه. فقال لهما: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما.
وكان كتاب مسيلمة: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإني قد أشركت معك في الأمر وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون.
فكتب إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (بسم اله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب، أمّا بعد فالسّلام على مَنِ اتّبع الهُدى، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين).
وقيل: إن دعوى مسيلمة وغيره النبوة كانت بعد حجة الوداع ومرضته التي مات فيها. فلما سمع الناس بمرضه وثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة باليمامة، وطليحة في بني أسد.
ذكر إرسال علي إلى اليمن وإسلام همدانفي هذه السنة بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً إلى اليمن، وقد كان أرسل قبله خالد بن الوليد إليهم يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأرسل علياً وأمره أن يعقل خالداً ومن شاء من أصحابه، ففعل، وقرأ علي كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أهل اليمن، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، فكتب بذلك إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام على همدان، يقوله ثلاثاً، ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام، وكتب بذلك إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسجد شكراً لله تعالى.
ذكر بعث رسول الله

صلى الله عليه وسلم أمراءه على الصدقات
وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمراءه وعماله على الصدقات، فبعث المهاجرين بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنسي وهو بها، وبعث زياد بن لبيد الأنصاري إلى حضرموت على صدقاتهم، وبعث عدي بن حاتم الطائي على صدقات طيء وأسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وجعل الزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم على صدقات سعد بن زيد مناة بن تميم، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويعود، ففعل وعاد، ولقي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة في حجة الوداع، واستخلف على الجيش الذي معه رجلاً من أصحابه، وسبقهم إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فلقيه بمكة، فعمد الرجل إلى الجيش فكساهم كل رجل حلة من البز الذي مع علي، فلما دنا الجيش خرج علي ليتلقاهم فرأى عليهم الحلل، فنزعها عنهم، فشكاه الجيش إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقام النبي، صلى الله عليه وسلم، خطيباً فقال: (أيّها النّاس لا تشكو عليّاً فوالله إنه لأخْشَنُ في ذات الله وفي سبيل الله).
ذكر حجة الوداعخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الحج لخمس بقين من ذي القعدة لا يذكر الناس إلا الحج، فلما كان بسرف أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدي، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد ساق الهدي وناس مع، وكان علي بن أبي طالب قد لقيه محرماً، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: حل كما حل أصحابك. فقال: إني قد أهللت بما أهل به رسول الله، فبقي على إحرامه، ونحر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الهدي عنه وعن علي وحج بالناس فأراهم مناسكهم وعلمهم سنن حجهم وخطب خطبته التي بين فيها للنا ما بين، وكان الذي يبلغ عنه بعرفه ربيعة بن أمية بن خلف لكثرة الناس، فقال بعد حمد الله:

أيها الناس اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، وكل رباً موضوع كلم رؤوس أموالكم، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوعٌ كله، وكل دم كان في الجاهلية موضوعٌ، وأول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل. أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ولكنه يطاع فيما سوى ذلك وقد رضي بما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس (إنَّمَا النَّسيءُ زِيَادَةٌ في الكُفْرِ) التوبة: 37، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، و(إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً) التوبة: 36. أيها الناس استوصوا بالنساء خيراً. وهي خطبة طويلة.
وقال حين وقف بعرفة: هذا الموقف - للجبل الذي هو عليه - وكل عرفة موقف. وقال بالمزدلفة: هذا الموقف وكل مزدلفة موقف. ولما نحر بمنى قال: هذا المنحر وكل منى منحر. فقضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الحج، وكانت حجة الوداع وحجة البلاغ، وذلك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يحج بعدها، وأرى الناس مناسكهم وعلمهم حجتهم.
ذكر عدد غزواته

صلى الله عليه وسلم وسراياه
وكان آخر غزوة غزاها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بنفسه غزوة تبوك، وجميع غزواته بنفسه تسع عشرة غزوة. قال الواقدي: هكذا يرويه أهل العراق عن زيد بن أرقم، وهو خطأ لأنه زيداً غزا مؤتة مع عبد الله بن رواحة وهو رديفه على رحله، ولم يغز مع النبي، صلى الله عليه وسلم، غير ثلاث غزوات أو أربع، وقيل: غزا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ستاً وعشرين غزوة، وقيل: سبعاً وعشرين، فمن قال: ستاً وعشرين جعل غزوة خيبر ووادي القرى واحدة لأنه لم يرجع من خيبر إلى منزله، ومن فرق بينهما جعل غزواته سبعاً وعشرين، جعل خيبر غزوة ووادي القرى غزوة.
وأول غزوة غزاها ودان، وهي الأبواء، ثم بواط بناحية رضوى، ثم العشيرة، ثم بدر الأولى لطلب كرز بن جابر، ثم بدر التي قتل فيها قريشاً، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة السويق، ثم غزوة غطفان، وهي غزوة ذي أمر، ثم غزوة بحران بالحجاز، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع، ثم غزوة بدر الآخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان من هذيل، ثم غزة ذي قرد، ثم غزوة بني المصطلق، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم غزوة فتح مكة، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك؛ قاتل منها في تسع غزوات: بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف.
واختلف في عدد سراياه، فقيل: كانت خمساً وثلاثين ما بين سرية وبعث، وقيل: ثمانياً وأربعين.
وفي هذه السنة قدم جرير بن عبد الله البجلي في رمضان مسلماً، فبعثه إلى ذي الخلصة فهدمها، وكان من حجر أبيض بتبالة، وهو صنم بجيلة وخثعم وأزد السراة، فلما أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خبر هدمه سجد شكراً لله تعالى.
وفيها أسلم باذان باليمن وبعث بإسلامه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ذكر عدد حج النبي
صلى الله عليه وسلم وعمره
قال جابر: حج النبي، صلى الله عليه وسلم، حجتين، حجة قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر معها عمرة. وقال ابن عمر: اعتمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثلاث عمر، وقالت عائشة: أربع عمر، وروي مثل ذلك عن ابن عمر.
ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم
وأسمائه وخاتم النبوة
قال علي بن أبي طالب: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخم الرأس واللحية، شئن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس، مشرباً وجهه حمرةً، طويل المسربة، إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب، لم أر قبله ولا بعده مثله، وكان أدعج العينين، سبط الشعر، سهل الخدين، ذا وفرة، كأن عنقه إبريق فضة، وإذا التفت التفت جميعاً، كأن العرق في وجهه اللؤلؤ الرطب لطيب عرقه وريحه.

قال أبو عبيدة وغيره: شئت الكفين والقدمين، يعني أنهما إلى الغلظ أقرب، وقوله: ضخم الكراديس، يعني ألواح الأكتاف، والمسربة الشعر ما بين السرة واللبة، والصبب الانحدار، والدعج في العين السواد، والسبط من الشعر ضد الجعد.
وكان بين كتفيه، صلى الله عليه وسلم، خاتم النبوة، وهي بضعة ناشزة حولها شعر.
وأما أسماؤه فهي كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أنا محمّد، وأنا أحمد والمقفّي والحاشر ونبّي الرحمة ونبّي التوبة ونبّي الملحمة والعاقب والماحي الذي يمحو الله به الكُفْر. والحاشر الذي يحشر النّاس على قدمه. والعاقب آخر الأنبياء.
وأما شعره وشيبه فقال أنس: لم يشنه الله بالشيب، وقيل: كان في مقدم لحيته عشرون شعرة بيضاء ولم يخضب. قال جابر بن سمرة: وكان في مفرق رأسه شعرات بيض إذا دهنه غطاهن الدهن، وأخرجت أم سلمة شعره مخضوباً بالحناء والكتم. وقال أبو رمثة: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخضب، وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه. وقالت أم هانئ: كان له ضفائر أربع.
ذكر شجاعته صلى الله عليه وسلم

وجوده
قال أنس: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أشجع الناس، وأسمح الناس، وأحسن الناس، وقع في المدينة فزع فركب فرساً عرياً فسبق الناس إليه فجعل يقول: أيها الناس لم تراعوا. وقال علي بن أبي طالب: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان أقربنا إلى العدو، وكفى بهذا شجاعةً أن مثل علي الذي هو هو في شجاعته يقول هذا، وقد تقدم في غزواته ما يستدل به على تمكنه من الشجاعة وأنه لم يقاربه فيها أحدٌ.
ذكر عدد أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم وسراريه وأولاده
قال ابن الكلبي: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، تزوج خمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة، وجمع بين إحدى عشرة، وتوفي عن تسع. وأول امرأة تزوجها خديجة بنت خويلد، وكان تزوجها قبله عتيق بن عائذ بن عبد الله بن مخزوم ومات عنها، وتزوجها بعد عتيق أبو هالة بن زرارة بن نباش التميمي، فولدت له هند بن أبي هالة، ثم مات عنها، فتزوجها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فولدت له ثمانية: القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، فأما الذكور فماتوا وهم صغار، وأما الإناث فبلغن ونكحن وولدن، ولم يتزوج على خديجة في حياتها أحداً وكان موتها قبل الهجرة بثلاث سنين، ولم يولد له ولد من غيرها إلا إبراهيم.
فلما توفيت خديجة نكح بعدها سودة بنت زمعة، وقيل عائشة، فأما عائشة فكانت يوم تزوجها صغيرة بنت ست سنين، وأما سودة فكانت امرأة ثيباً، وكانت قبله عند السكران بن علمرو بن شمس أخي سهيل بن عمرو، وكان من مهاجرة الحبشة فتنصر بها ومات، فخلف عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة، وكان الذي خطبها عليه خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون، فدخل بسودة بمكة، زوجها منه أبوها زمعة بن قيس، فلما تزوجها كان أخوها عبد بن زمعة غائباً، فلما قدم جعل يحثي التراب على رأسه، فلما أسلم قال: إني سفيهٌ حيث فعلت ذلك، وندم على ما كان منه.
وأما عائشة فدخل بها بالمدينة وهي ابنة تسع سنين، ومات عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، ولم يتزوج بكراً غيرها، ومات سنة ثمان وخمسين.
ثم تزوج بعدها حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله عند خنيس بن حذافة السهمي خنيس بالخاء المعجمة والنون والسين المهملة، وكان بدرياً، ولم يشهد من بني سهم بدراً غيره، ولم تلد له شيئاً، وماتت بالمدينة في خلافة عثمان.
ثم تزوج بعدها أم سلمة ابنة أبي أمية زاد الركب المخزومية، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، شهد بدراً وأصابته جراحة يوم أحد فمات منها، وتزوجها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل الأحزاب، وماتت سنة تسع وخمسين، وقيل: بعد قتل الحسين، رضي الله عنه.
ثم تزوج زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة، ويقال لها أم المساكين، وتوفيت في حياته، ولم يمت في حياته غيرها وغير خديجة بنت خويلد، وكانت زينب قبله عند الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب.
ثم تزوج عام المريسيع جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار الخزاعية من بني المصطلق، وكانت قبله عند مالك بن صفوان المصطلقي، لم تلد له شيئاً.

ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت عند عبيد الله بن جحش، وكان من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها، فأرسل النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى النجاشي فخطبها عليه وتزوجها وهي بالحبشة، وزوجها منه خالد بن سعيد بن العاص، وقيل: بل خطبها إلى عثمان بن عفان فزوجها منه، وبعث فيها إلى النجاشي فساق منه المهر أربعمائة دينار وأرسلها إليه، وتوفيت في خلافة أخيها معاوية فلم تلد له شيئاً.
ثم تزوج زينب بنت جحش، وكانت قبله عند زيد بن حارثة مولاه، فلم تلد له شيئاً، فزوجها الله إياه وبعث في ذلك جبرائيل، وكانت تفخر على نساء النبي، صلى الله عليه وسلم، وتقول: أنا أكرمهن ولياً وسفيراً، وهي أول من توفي من أزواجه، توفيت بعده في خلافة عمر.
ثم تزوج عام خيبر صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت قبله تحت سلام بن مشكم فتوفي عنها، وخلف عليها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فقتله محمد بن مسلمة صبراً بأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم أعتقها النبي، صلى الله عليه وسلم، وتزوجها سنة ست، وماتت سنة ست وثلاثين.
ثم تزوج ميمونة ابنة الحارث الهلالية، وكانت قبله عند عمير بن عمرو الثقفي، ولم تلد له شيئاً، ثم خلف عليها أبو زهير بن عبد العزى بعد عمير، ثم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعده، وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد، وتزوجها في عمرة القضاء بسرف.
ثم تزوج امرأة من بني كلاب يقال لها النشا بنت رفاعة، وقيل: هي شنبا ابنة أسماء بن الصلت، وقيل: ابنة الصلت بن حبيب، توفيت قبل أن يدخل بها.
ثم تزوج الشنبا ابنة عمرو الغفارية، وقيل الكنانية، فمات إبراهيم ابنه قبل أن يدخل بها، فقالت: لو كان نبياً ما مات ابنه، فطلقها.
ثم تزوج غزية ابنة جابر الكلابية، خطبها عليه أبو أسيد، بضم الهمزة، الساعدي، فلما قدمت على النبي، صلى الله عليه وسلم، استعاذت بالله منه ففارقها.
ثم تزوج أسماء ابنة النعمان بن الأسود بن شراحل الكندي، فلما دخل بها وجد بها بياضاً فمتعها وردها إلى أهلها، وقيل: بل استعاذت منه أيضاً فردها.
والعالية ابنة ظبيان فجمعها ثم فارقها.
وقتيلة بنت قيس أخت الأشعث فتوفي عنها قبل أن يدخل بها، فارتدت.
وفاطمة ابنة سرع.
وقال ابن الكلبي: غزية هي أم شريك. قال: وقيل: إنه تزوج خولة ابنة الهذيل بن هبيرة، وليلى ابنة الخطيم الأنصارية عرضت نفسها عليه فتزوجها، فأخبرت قومها، فقالوا: أنتِ غيور وله نساء فاستقيليه فأقالته ففارقها.
وأما من خطب النبي، صلى الله عليه وسلم، من النساء، ولم ينكحها فمنهن أم هانئ بنت أبي طالب خطبها ولم يتزوجها. ومنهن ضباعة بنت عامر من بني قشير. ومنهن صفية بنت بشامة أخت الأعور العنبري. ومنهن أم حبيبة ابنة عمة العباس، فوجد العباس أخاه من الرضاعة فتركها. ومنهن جمرة ابنة الحارث بن أبي حارثة خطبها، فقال أبوها: بها سوء، ولم يكن بها، فرجع إليها فوجدها قد برصت.
وأما سراريه فهي مارية ابنة شمعون القبطية، وولدت له إبراهيم؛ وريحانة ابنة زيد القرظية، وقيل: هي من بني النضير.
ذكر موالي رسول الله

صلى الله عليه وسلم
فمنهم زيد بن حارثة، وابنه أسامة بن زيد، وثوبان، ويكنى أبا عبد الله، أصله من السراة، وسكن حمص بعد موت النبي، صلى الله عليه وسلم، ومات سنة سبع وخمسين، وقيل: سكن الرملة، ولا عقب له.
وشقران، وكان من الحبشة، وقيل من الفرس، واسمه صالح بن عيد، واختلف في أمره، فقيل: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورثه من أبيه، وقيل: كان لعبد الرحمن بن عوف فوهبه للنبي، صلى الله عليه وسلم، وأعقب.
وأبو رافع، واسمه إبراهيم، وقيلأو يقع، فقيل: كان للعباس فوهبه للنبي، صلى الله عليه وسلم، فأعتقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان لأبي أحيحة سعيد بن العاص فأعتق ثلاثةٌ من بنيه أنصباءهم منه، وشهد معهم بدراً وهم كفار، وقتلوا يومئذٍ، ووهب خالد بن سعيد نصيبه منه للنبي، صلى الله عليه وسلم، فأعتقه وابنه البهي، واسمه رافع، وأخوه عبيد اله بن أبي رافع، كان يكتب لعلي بن أبي طالب.
وسلمان الفارسي، وكنيته أبو عبد الله، من أهل أصبهان، وقيل: من أهل رامهرمز، أصابه سبياً بعض من كلب وبيع من يهودي بوادي القرى، فكاتب اليهودي وأعانه النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى عتق.

وسفينة، كان لأم سلمة، فأعتقته وشرطت عليه خدمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حياته. قيل: اسمه مهران، وقيل: رباح، وقيل: كان من عجم الفرس.
وأنسة يكنى أبا مسروح، وهو من مولدي السراة، وكان يأذن على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشهد معه بدراً وأحداً والمشاهد كلها، وقيل: كان من الفرس.
وأبو كبشة، واسمه سليم، قيل: كان من موالي مكة، وقيل: كان من مولدي أرض دوس، اشتراه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعتقه، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وتوفي يوم استخلف عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة.
ورويقع أبو مويهبة، كان من مولدي مزينة، فاشتراه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعتقه.
ورباح الأسود، كان يأذن على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وفضالة نزل الشام.
ومدعم قتل بوادي القرى.
وأبو ضميرة، قيل: كان من الفرس من ولد بشتاسب الملك، فأصابه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بعض وقائعه فأعتقه، وهو جد أبي حسين.
ويسار وكان نوبياً، أصابه في بعض غزواته فأعتقه، وهو الذي قتله العرنيون الذين أغاروا على لقاح رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ومهران مولاه، حدث عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
وكان له خصي يقال له مابوز، أهداه له المقوقس مع مارية وشيرين، قيل: إنه الذي قذفت مارية به، فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً ليقتله، فرآه خصياً فتركه. وخرج إليه من الطائف وهو محاصرهم أربعة أعبد فأعتقهم، منهم أبو بكرة.
ذكر من كان يكتب لرسول الله

صلى الله عليه وسلم
ذكر أن عثمان بن عفان كان يكتب له أحياناً وعلي بن أبي طالب أحياناً، وخالد بن سعيد، وأبا بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي. وأول من كتب له أبي بن كعب، وكتب له زيد بن ثابت، وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم ارتد ورجع إلى الإسلام يوم الفتح. وكتب له معاوية بن أبي سفيان، وحنظلة الأسيدي بضم الهمزة، وتشديد الياء، كذلك يقوله المحدثون، وهو منسوب إلى أسيد بن عمرو بن تميم، بالتشديد إجماعاً.
ذكر أسماء خيله صلى الله عليه وسلمقيل: أول فرس ملكه، صلى الله عليه وسلم، فرس اشتراه بالمدينة من أعرابي من فزارة بعشر أواق، وسماه السكب، وأول غزوة غزاها عليه أحد. وفرس لأبي بردة بن نيار اسمه ملاوح. وكان له فرس يدعى المرتجز، وهو الفرس الذي شهد به خزيمة بن ثابت، وكان صاحبه من بني مرة. وكان له ثلاثة أفراس: لزاز والظرب واللحيف، وأما لزاز فأهداه له المقوقس، وأما اللحيف فأهداه له ربيعة بن أبي البراء، وأما الظرب فأهداه له فروة بن عمرو الجذامي. وكان له فرس يقال له الورد، أهداه له تميم الداري، فوهبه النبي، صلى الله عليه وسلم، لعمر بن الخطاب، فحمل عليه في سبيل الله فوجده يباع. وقيل: كان له فرس اسمه اليعسوب.
تفسير هذه الأسماء: السكب الكثير الجري، كأنما يصب جريه صباً. واللحيف سمي به لطول ذنبه كأنه يلحف الأرض بذنبه. أي يغطيها. ولزاز سمي به لشدة تلززه. والظرب سمي به لشدة خلقه، سمي بالجبل الصغير. والمرتجز سمي به لحسن صهيله. واليعسوب سمي به لأنه أجود خيله، لأن اليعسوب الرئيس.
؟
ذكر بغاله وحميره وإبله
صلى الله عليه وسلم
كانت له دلدل، وهي أول بغلة رؤيت في الإسلام، أهداها له المقوقس ومعها حمار اسمه عفير، وبقيت البلغة إلى زمن معاوية، وأهدى له فروة بن عمرة بغلة يقال لها فضة، فوهبها لأبي بكر، وحماره يعفور بقي بعد منصرفه من حجة الوداع.
وأما إبله فكانت له القصوى، وهي التي أخذها من أبي بكر بأربعمائة درهم وهاجر عليها، وكانت من نعم بني الحريش، وبقيت مدة، وهي العضباء والجدعاء أيضاً. قال ابن المسيب: كان في طرف أذنها جدع، وقيل: لم يكن بها جدع.
وأما لقاحه فكان له عشرون لقحة بالغابة، وهي التي أغار عليها القوم، يأتي لبنها أهله كل ليلة، وكان له لقاح غزار، منهن: الحناء والسمراء والعريس والسعدية والبغوم واليسيرة والريا ومهرة والشقراء.
وأما منائحه، فكانت له سبع منائح من الغنم: عجوة وزمزم وسقيا وبركة وورسة وأطلال وأطراف، وسبع أعنز يرعاهن أيمن بن أم أيمن.

تفسير هذه الأسماء: عفير تصغير ترخيم الأعفر، وهو الأبيض بياضاً غير خالص، ومنه أيضاً اسم حماره يعفور، كأخضر ويخضور. البغام صوت الإبل، ومنه البغوم. والباقي لا يحتاج إلى شرح.
ذكر أسماء سلاحه صلى الله عليه وسلمكان له ذو الفقار، غنمه يوم بدر، وكان لمنبه بن الحجاج، وقيل لغيره، وغنم من بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيفاً قلعياً وسيفاً يدعى بتاراً وسيفاً يدع الحتف، وكان له المخذم ورسوب، وقدم معه المدينة سيفان شهد بأحدهما بدراً يسمى العضب. وكان له ثلاثة أرماح وثلاث قسي، قوس اسمها الروحاء وقوس تدعى البيضاء، وقوس نبع تدعى الصفراء، وكان له درع يقال لها الصعدية، وكان له درع يقال لها فضة، غنمها من بني قينقاع، وكان له درع تسمى ذات الفضول، كانت عليه يوم أحد، يه وفضة. وكان له ترس فيه تمثال رأس كبش، فكرهه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأصبح وقد أذهبه الله عز وجل.
تفسير هذه الأسماء: سمي السيف ذو الفقار لحفر فيهز والسيف المخذم القاطع. والرسوب الذي يمضي في الضربة ويثبت فيها.
المجلد الثاني

ذكر أحداث سنة إحدى عشرة
في المحرم من هذه السنة ضرب النبي، صلى الله عليه وسلم، بعثاً إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد مولاه، وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتكلم المنافقون في إمارته وقالوا: أمر غلاماً على جلة المهاجرين والأنصار. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وإنه لخليق للإمارة، وكان أبوه خليقاً لها)، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون، منهم: أبو بكر وعمر، فبينما الناس على ذلك ابتدىء برسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرضه.
ذكر مرض رسول الله
صلى الله عليه وسلم ووفاته
ابتدىء برسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرضه أواخر صفر في بيت زينب بنت جحش، وكان يدور على نسائه حتى اشتد مرضه في بيت ميمونة، فجمع نساءه فاستأذنهن أن يتمرض في بيت عائشة، ووصلت أخبار بظهور الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة باليمامة، وطليحة في بني أسد، وعسكر بسميراء، وسيجيء ذكر أخبارهم إن شاء الله تعالى.
فتأخر مسير أسامة لمرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولخبر الأسود العنسي ومسيلمة، فخرج النبي، صلى الله عليه وسلم، عاصباً رأساً من الصداع فقال: إني رأيت فيما يرى النائم أن في عضدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما بكذاب اليمامة وكذاب صنعاء. وأمر بإنفاذ جيش أسامة وقال: (لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
وخرج أسامة فضرب بالجرف العسكر وتمهل الناس، وثقل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يشغله شدة مرضه على إنفاذ أمر الله، فأرسل إلى نفر من الأنصار في أمر الأسود، فأصيب الأسود في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل وفاته بيوم، فأرسل إلى جماعة من الناس يحثهم على جهاد من عنهم من المرتدين.
وقال أبو مويهبة مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أيقظني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليلة وقال: إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي فانطلقت معه فسلم عليهم ثم قال: ليهنئكم ما أصبحتم فيه، قد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم. ثم قال: قد أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد بها، ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي. ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف، فبدىء بمرضه الذي قبض فيه.
قالت عائشة: فلما رجع من البقيع وجدتي وأنا أجد صداعاً وأنا أقول: وارأساه! قال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه! ثم قال: ما ضرك لو مت قبل فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟ فقلت: كأني بك والله لو فعلت ذلك فرجعت إلى بيتي فعرست ببعض نسائك. فتبسم وتتام به وجعه وتمرض في بيتي.

فخرج منه يوماً بين رجلين أحدهما الفضل بن العباس والآخر علي، قال الفضل: فأخرجته حتى جلس على المنبر فحمد الله، وكان أول ما تكلم به النبي، صلى الله عليه وسلم، أن صلى على أصحاب أحد فأكثر واستغفر لهم، ثم قال: أيها الناس إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستفد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخش الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقاً إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس. ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى. فادعى عليه رجلٌ بثلاثة دراهم، فأعطاه عوضها. ثم قال: أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة. ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم، ثم قال: إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده. فبكى أبو بكر وقال: فديناك بأنفسنا وآبائنا! فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم. لا بيقين في المسجد باب إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم أحداً أفضل في الصحبة عندي منه، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام. ثم أوصى بالأنصار فقال: يا معشر المهاجرين أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد، والأنصار عيبتي التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم.
قال ابن مسعود: نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر. فلما دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة فنظر إلينا فشدد ودمعت عيناه وقال: مرحباً بكم، حياكم الله، رحمكم الله، آواكم الله، حفظم الله، رفعكم الله، وفقكم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم، وأؤديكم إليه، إني لكم منه نذير وبشير ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإنه قال لي ولكم: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين) القصص: صلى الله عليه وسلم. قلنا: فمتى أجلك؟ قال: دنا الفراق والمنقلب إلى الله وسدرة المنتهى والرفيق الأعلى وجنة المأوى. فقلنا: من يغسلك؟ قال: أهلي الأدنى فالأدنى. قلنا: فيم نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض. قلنا: فمن يصلي عليك؟ قال: مهلاً، غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيراً. فبكينا وبكى، ثم قال: إذا غسلمتوني وكفتنتموني فضعوني على سريري على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعةً ليصلي علي جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت مع الملائكة، ثم ادخلوا علي فوجاً فوجاً فصلوا علي ولا تؤذوني بتزكية ولا رنة وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد، أقرئوا أنفسكم مني السلام، ومن غاب من أصحاب فاقرئوه مني السلام، وما تابعكم على ديني فاقرئوه السلام.
قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس - ثم جرت دموعه على خديه - اشتد برسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرضه ووجعه، فقال: إيتوني بدواة وبيضاء أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً. فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع - فقالوا: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يهجر. فجعلوا يعيدون عليه، فقال: دعوني فما أنا فيه خيرٌ مما تدعونني إليه. فأوصى بثلاث: أن يخرج المشركون من جزيرة العرب، وأن يجاز الوفد بنحو مما كان يجيزهم. وسكت عن الثالثة عمداً أو قال: نسيتها.
وخرج علي بن أبي طالب من عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مرضه. فقال الناس: كيف أصبح رسول الله؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً. فأخذ بيده العباس فقال: أنت بعد ثلاث عبد العصا، وإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سيتوفى في مرضه هذا، وإني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب، فاذهب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاسأله فيمن يكون هذا الأمر، فإن كان فينا علمناه، وإن كان في غيرنا أمره أوصى بنا. فقال علي: لئن سألناها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً، والله لا أسألها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبداً.

قال: فما اشتد الضحى حتى توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: قالت أسماء بنت عميس: ما وجعه إلا ذات الجنب، فلو لددتموه، ففعلوا. فلما أفاق قال: لم فعلتم هذا؟ قالوا: ظننا أن بك ذات الجنب: قال: لم يكن الله ليسلطها علي. ثم قال: لا تبقن أحداً لددتموه إلا عمي، وكان العباس حاضراً، ففعلوا.
قال أسامة: لما ثقل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هبطت أنا ومن معي إلى المدينة فدخلنا عليه وقد صمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي، فعلمت أنه يدعو لي.
قالت عائشة: وكنت أسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول كثيراً: إن الله لم يقبض نبياً حتى يخيره. قالت: فلما احتضر كان آخر كلمة سمعتها منه وهو يقول: بل الرفيق الأعلى. قالت: قلت: إذاً والله لا يختارنا، وعلمت أنه تخير.
ولما اشتد مرضه أذنه بلال بالصلاة فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس. قالت عائشة: فقلت: إنه رجل رقيق وإنه متى يقوم مقامك لا يطيق ذلك. فقال: مروا أبا بكر فيصلي بالناس. فقلت مثل ذلك، فغضب، وقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلي بالناس. فتقدم أبو بكر، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خفة فخرج بين رجلين، فلما دنا من أبي بكر، تأخر أبو بكر، فأشار إليه أن قم مقامك، فقعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يصلي إلى جنب أبي بكر جالساً، فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي والناس يصلون بصلاة أبي بكر وصلى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة، وقيل: ثلاثة أيام. ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خرج في اليوم الذي توفي فيه إلى الناس في صلاة الصبح، فكاد الناس يفتتنون في صلاتهم فرحاً برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرحاً لما رأى من هيئتهم في الصلاة، ثم رجع وانصرف الناس وهم يظنون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أفاق من وجعه، ورجع أبو بكر إلى منزله بالسنح. قالت عائشة: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يموت وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت. قال: ثم دخل بعض آل أبي بكر وفي يده سواك، فنظر إليه نظراً عرفت أنه يريده، فأخذت فلينته ثم ناولته إياه، فاستن به ثم وضعه، ثم ثفل في حجري، قالت: فذهبت أنظر في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو يقول: بل الرفيق الأعلى، فقبض، قالت: توفي وهو بين سحري ونحري، وحداثة سني أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبض في حجري، فوضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي.
ولما اشتد برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجعه ونزل به الموت جعل يأخذ الماء بيده ويجعله على وجهه ويقول: واكرباه! فتقول فاطمة: واكربي لكربك يا أبتي! فيقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم. لا كرب على أبيك بعد اليوم، فلما رأى شدة جزعها استدناها وسارها، فبكت، ثم سارها الثانية فضحكت، فلما توفي رسول الله سألتها عائشة عن ذلك، قالت: أخبرني أنه ميت فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به، فضحكت. وروي عنها أنها قالت: ثم سارني الثاني وأخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة، فضحكت.
وكان موته يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ودفن من الغد نصف النهار، وقيل: مات نصف النهار يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول.

ولما توفي كان أبو بكر بمنزله بالسنح، وعمر حاضر، فلما توفي قام عمر فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، توفي وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ابن عمران، والله ليرجعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات. وأقبل أبو بكر وعمر يكلم الناس، فدخل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو مسجىًّ في ناحية البيت فكشف عن وجهه ثم قبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها. ثم رد الثوب على وجهه ثم خرج، وعمر يكلم الناس، فأمره بالسكوت فأبى، فأقبل أبو بكر على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: (وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) آل عمران: النبي، صلى الله عليه وسلم، . قال: فوالله لكأن الناس ما سمعوها إلا منه. قال عمر: فوالله ما هو إلا إذ سمعتها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وقد علمت أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد مات.
ولما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووصل خبره إلى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب وارتجت مكة وكاد أهلها يرتدون، فقام سهيل بن عمرو على باب الكعبة وصاح بهم، فاجتمعوا إليه، فقال: يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد، والله ليتمن الله هذا الأمر كما ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلقد ررأيته قائماً مقامي هذا وحده وهو يقول: قولوا معي لا إله إلا الله تدن لكم العرب وتؤد إليكم العجم الجزية، والله لتنفقن كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله، فمن بين مستهزىء ومصدق فكان ما رأيتم، والله ليكونن الباقي. فامتنع الناس من الردة. وهذا المقام الذي قاله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما أسر سهيل بن عمرو في بدر لعمر بن الخطاب، وقد ذكر هناك.
حديث السقيفة وخلافة أبي بكر

رضي الله عنه وأرضاه
لما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبو بكر: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمة. فقال عمر: أيكم يطيبب نفساً أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم؟ فبايعه عمر وبايعه الناس. فقالت الأنصار أبو بعض الأنصار: لا نبايع إلا علياً. قال: وتخلف علي وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة. وقال الزبير: لا أغمد سيفاً حتى يبايع علي. فقال عمر: خذوا سيفه واضربوا به الحجر، ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة.
وقيل: لما سمع علي بيعة أبي بكر خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً حتى بايعه، ثم استدعى إزاره ورداءه فتجلله.
والصحيح: أن أمير المؤمنين ما بايع إلا بعد ستة أشهر، والله أعلم.
وقيل: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: إني لأرى عجاجةً لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟ ثم قال لعلي: ابسط يدك أبايعكم، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجلاً. فأبى علي، رضي الله عنه، فتمثل بشعر المتلمس:
ولن يقيم على خسفٍ يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يبكي له أحد
فزجره علي وقال: والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت للإسلام شراً! لا حاجة لنا في نصيحتك.

وقال ابن عباس: كنت أقرىء عبد الرحمن بن عوف القرآن فحج وحججنا معه، فقال لي عبد الرحمن: شهدت أمير المؤمنين اليوم بمنىً، وقال له رجل: سمعت فلاناً يقول: لو مات عمر لبايعت فلاناً، فقال عمر: إني لقائم العشية في الناس أحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا الناس أمرهم. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وهم الذين يغلبون على مجلسك، وأخاف أن تقول مقالةً لا يعوها ولا يحفظوها ويطيروا بها، ولن أمهل حتى تقدم المدينة وتخلص بأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فتقول ما قلت فيعوا مقاتلك. فقال: والله لأقومن بها أول مقام أقومه بالمدينة.
قال: فلما قدمت المدينة هجرت يوم الجمعة لحديث عبد الرحمن، فلما جلس عمر على المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال بعد أن ذكر الرجم وما نسخ من القرآن فيه: إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: لو مات أمير المؤمنين بايعت فلاناً، فلا يغرن أمراً أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فتنة، فقد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه كان خيرنا حين توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإن علياً والزبير ومن تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلفت عنا الأنصار واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نحوهم فلقينا رجلان صالحان من الأنصار، أحدهما عويم بن ساعدة، والثاني معن بن عدي، فقالا لنا: ارجعوا أقضوا أمركم بينكم. قال: فأتينا الأنصار وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة وبين أظهرهم رجل مزمل، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة وجع، فقام رجل منهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهط بيننا وقد دفت إلينا دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يغصبونا الأمر. فلما سكت وكنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك! فقام فحمد الله وما ترك شيئاً كنت زورت في نفسي إلا جاء به أو بأحسن منه وقال: يا معشر الأنصار إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش، هم أوسط العرب داراً ونسباً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين. وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وإني والله ما كرهت من كلامه كلمة غيرها، إن كنت أقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر.
فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال: أنا جذيلها المحكم وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير. وارتفعت الأصوات واللغط، فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك؛ فبسط يده فبايعه وبايعه الناس، ثم نزونا على سعد بن عبادة، فقال قائلهم: قتلتم سعداً. فقلت: قتل الله سعداً، وإنا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى من بيعة أبي بكر، خشيت إن فارقت القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى به، وإما أن نخالفهم فيكون فساداً.
وقال أبو عمرة الأنصاري: لما قبض النبي، صلى الله عليه وسلم، اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وأخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الأمر، وكان مريضاً، فقال بعد أن حمد الله: يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لأحد من العرب، إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان فما آمن به إلا القليل، ما كانوا يقدرون على منعه ولا على إعزاز دينه ولا على دفع ضيم، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ورزقكم الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه والجهاد لأعدائه فكنتم أشد الناس على عدوه حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً وأعطى البعيد المقادة صاغراً فدانت لرسوله بأسيافكم العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راضٍ وبكم قرير العين. استبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنه لكم دونهم.

فأجابوا بأجمعهم: أن قد وفقت وأصبت الرأي ونحن نوليك هذا الأمر فإنك مقنعٌ ورضاً للمؤمنين. ثم إنهم ترادوا الكلام فقالوا: وإن أبى المهاجرون من قريش وقالوا نحن المهاجرون وأصحابه الأولون وعشيرته وأولياؤه! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا أبداً. فقال سعد: هذا أول الوهن.
وسمع عمر الخبر فأتى منزل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر فيه، فأرسل إليه أن اخرج إلي. فأرسل إليه. إني مشتغل. فقال عمر: قد حدث أمر لابد لك من حضوره. فخرج إليه فأعلمه الخبر، فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة. قال عمر: فأتيناهم وقد كنت زورت كلاماً أقوله لهم، فلما دنوت أقول أسكتني أبو بكر وتكلم بكل ما أردت أن أقول، فحمد الله وقال: إن الله قد بعث فينا رسولاً إلى خلقه شهيداً على أمته ليعبدوه ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهةً شتى من حجر وخشب، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم. فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالفٌ زارٍ عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم، فهم أول من عبد الله في هذه الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده لا ينازعهم إلا ظالم، وأنتم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده لا ينازعهم إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله وجعل إليكم هجرته وفيكم جلة أزواجه وأصحابه فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفاوتون بمشورة ولا تقضي دونكم الأمور.
فقام حباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم ولن يجترىء مجترىء على خلافكم ولا يصدروا إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز وأولو العدد والمنعة وذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم، أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنكم أمير.
فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك الحجة الظاهرة، من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته! فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب! أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله لئن شئتم لنعيدنها جذعةً.
فقال عمر: إذاً ليقتلك الله! فقال: بل إياك يقتل.
فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر فلا تكونوا أول من بدل وغير! فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضى ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فيما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك ولا نبتغي به الدنيا، ألا إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، من قريش وقومه أولى به، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة فإن شئتم فبايعوا. فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الصلاة، وهي أفضل دين المسلمين، ابسط يدك نبايعك. فلما ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: عققت عقاقاً ما أحوجك إلى ما صنعت! أنفست على ابن عمك الإمارة؟ فقال: لا والله ولكني كرهت أن أنازع القوم حقهم.
ولما رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد قال بعضهم لبعض، وفيهم أسيد بن حضير، وكان نقيباً: والله لئن وليتها الخزرج مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم فيها نصيباً أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه، وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب.

ثم تحول سعد بن عبادة إلى داره فبقي أياماً، وأرسل إليه ليبايع فإن الناس قد بايعوا، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني، ولو اجتمع معكم الجن والإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي. فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع. فقال بشير بن سعد: إنه قد لج وأبى ولا يبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته، فاتركوه ولا يضركم تركه، وإنما هو رجل واحد. فتركوه.
وجاءت أسلم فبايعت، فقوي أبو بكر بهم، وبايع الناس بعد.
قيل إن عمرو بن حريث قال لسعيد بن زيد: متى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة.
قال الزهري: بقي علي وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتى ماتت فاطمة، رضي الله عنها، فبايعوه.
فلما كان الغد من بيعة أبي بكر جلس على المنبر وبايعه الناس بيعة عامة، ثم تكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ من الحق إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله.
أسيد بن حضير بضم الهمزة، وبالحاء المهملة المضمومة، وبالضاد المعجمة، وآخره راء.
ذكر تجهيز النبي

صلى الله عليه وسلم ودفنه
فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل: بقي ثلاثة أيام لم يدفن، والأول أصح. وكان الذي يلي غسله علي والعباس والفضل وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحضرهم أوس بن خولي الأنصاري، وكان بدرياً، وكان العباس وابناه يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله وعليه قميصه وهو يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وميتاً! ولم ير من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما يرى من ميت.
واختلفوا في غسله في ثيابه أو مجرداً، فألقى الله عليهم النوم ثم كلمهم مكلمٌ لا يدرى من هو أن غسلوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعليه ثيابه، ففعلوا ذلك.
وكفن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ثلاثة أثواب: ثوبين صحاريين وبرد حبرة أدرج فيها إدراجاً.
واختلفوا في موضع دفنه فقال أبو بكر: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، فرفع فراشه ودفن موضعه، وحفر له أبو طلحة الأنصاري لحداً ودخل الناس يصلون عليه أرسالاً: الرجال ثم النساء ثم الصبيان ثم العبيد، ودفن ليلة الأربعاء. وكان الذي نزل قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابنا العباس وشقران. وقال أوس بن خولي الأنصاري لعلي: أنشدك الله وحظنا من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأمره بالنزول فنزل.
وكان المغيرة بن شعبة يدعي أنه أحدث الناس عهداً برسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويقول: ألقيت خاتمي في قبره عمداً فنزلت لآخذه، وسأل ناس من أهل العراق علياً عن ذلك فقال: كذب المغيرة، أحدثنا عهداً به قثم به العباس.
واختلفوا في عمره يوم مات فقال ابن عباس وعائشة ومعاوية وابن المسيب: كان عمره ثلاثاً وستين سنة. وقال ابن عباس أيضاً ودغفل بن حنظلة: كان عمره خمساً وستين سنة. وقال عروة بن الزبير: كان عمره ستين سنة.
ذكر إنفاذ جيش أسامة بن زيد

قد ذكرنا استعمال النبي، صلى الله عليه وسلم، أسامة بن زيد على جيش وأمره بالتوجه إلى الشام، وكان قد ضرب البعث على أهل المدينة ومن حولها وفيهم عمر بن الخطاب، فتوفي النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يسر الجيش، وارتدت العرب إما عامة أو خاصةً من كل قبيلة، وظهر النفاق، واشرأبت يهود والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة لفقد نبيهم وقلتهم وكثرة عدوهم. فقال الناس لأبي بكر: إن هؤلاء، يعنون جيش أسامة، جند المسلمين، والعرب - على ما ترى - قد انتقضت بك فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك. فقال أبو بكر: والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تختطفني لأنفذت جيش أسامة كما أمر النبي، صلى الله عليه وسلم. فخاطب الناس وأمرهم بالتجهز للغزو وأن يخرج كل من هو من جيش أسامة إلى معسكره بالجرف، فخرجوا كما أمرهم، وجيش أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم، فصاروا مسايح حول قبائلهم، وهم قليل.
فلما خرج الجيش إلى معسكرهم بالجرف وتكاملوا أرسل أسامة عمر بن الخطاب، وكان معه في جيشه، إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس وقال: إن معي وجوه الناس وحدهم، ولا آمن على خليفة رسول الله وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون. وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر بن الخطاب: إن أبا بكر خليفة رسول الله، فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة.
فخرج عمر بأمر أسامة إلى أبي بكر فأخبره بما قال أسامة. فقال: (لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنقذته كما أمر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا أرد قضاء قضى به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته. قال عمر: فإن الأنصار تطلب إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة. فوثب أبو بكر، وكان جالساً، وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتأمرني أن أعزله؟ ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم وأشخصهم وشيعهم وهو ماشٍ وأسامة راكب، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن! فقال: (والله لا نزلت ولا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعةً في سبيل الله! فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترفع له، وسبعمائة سيئة تمحى عنه).
فلما أراد أن يرجع قال لأسامة: إن رأيت أن تعينني بعمرٍ فافعل، فأذن له، ثم وصاهم فقال: لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم الله.
وأوصى أسامة أن يفعل ما أمر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فسار وأوقع بقبائل من ناس قضاعة التي ارتدت وغنم وعاد، وكانت غيبته أربعين يوماً، وقيل: سبعين يوماً.
وكان إنفاذ جيش أسامة أعظم الأمور نفعاً للمسلمين، فإن العرب قالوا: لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه.
ذكر أخبار الأسود العنسي باليمنواسمه عيهلة بن كعب بن عوف العنسي، بالنون؛ وعنس بطن من مذحج، وكان يلقب ذا الخمار لأنه كان معتماً متخمراً أبداً.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34