كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

وبلغ الخبر أتابك زنكي وهو يحاصر قلعة البيرة، وقد أشرف على ملكها، فخاف أن تختلف البلاد الشرقية بعد قتل نصير الدين، ففارق البيرة وأرسل زين الدين علي بن بكتكين إلى قلعة الموصل والياً على ما كان نصير الدين يتولاه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض السلطان مسعود على وزيره البروجردي، ووزر بعده المرزبان ابن عبيد الله بن نصر الأصفهاني، وسلم إليه البروجردي، فاستخرج أمواله، ومات مقبوضاً.
وفيها كان أتابك عماد الدين زنكي يحاصر البيرة، وهي للفرنج شرق الفرات بعد ملك الرها، وهي من أمنع الحصون، وضيق عليها وقارب أن يفتحها، فجاءه خبر قتل نصير الدين نائبه بالموصل، فرحل عنها، وأرسل نائباً إلى الموصل، وأقام ينتظر الخبر، فخاف من بالبيرة من الفرنج أن يعود إليهم، وكانوا يخافونه خوفاً شديداً، فأرسلوا إلى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها له، فملكها المسلمون.
وفيها خرج أسطول الفرنج من صقلية إلى ساحل إفريقية والغرب، ففتحوا مدينة برشك وقتلوا أهلها، وسبوا حريمهم وباعوه بصقلية على المسلمين.
وفيها توفي تاشفين بن علي بن يوسف صاحب الغرب، وكانت ولايته تزيد على أربع سنين، وولي بعده أخوه، وضعف أمر الملثمين، وقوي عبد المؤمن، وقد ذكرنا ذلك سنة أربع عشرة وخمسمائة.
وفيها، في شوال ظهر كوكب عظيم له ذنب من جانب المشرق، وبقي إلى نصف ذي القعدة، ثم غاب، ثم طلع من جانب الغرب، فقيل هو هو وقيل بل غيره.
وفيها كانت فتنة عظيمة بين الأمير هاشم بن فليتة بن القاسم العلوي الحسيني، أمير مكة، والأمير نظر الخادم أمير الحاج، فنهب أصحاب هاشم الحجاج وهم في المسجد يطوفون ويصلون، ولم يرقبوا فيهم إلاً ولا ذمة.
وفيها في ذي الحجة، توفي عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حمدويه أبو المعالي المروزي بمرو، وسافر الكثير، وسمع الحديث الكثير، وبنى بمرو رباطاً، ووقف فيه كتباً كثيرة، وكان كثير الصدقة والعبادة.
وتوفي محمد بن عبد الملك بن حسن بن إبراهيم بن خيرون أبو منصور المقري، ومولده في رجب سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وهو آخر من روى عن الجوهري بالإجازة، وتوفي في رجب.
وفي ذي الحجة منها توفي أبو منصور سعيد بن محمد بن عمر المعروف بابن الرزاز مدرس النظامية ببغداد، ومولده سنة اثنتين وأربعمائة، وتفقه على الغزالي والشامي ودفن في تربة الشيخ أبي إسحق.
ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة

ذكر اتفاق بوزابة وعباس على منازعة السلطان
في هذه السنة سار بوزابة، صاحب فارس وخوزستان، وعساكره إلى قاشان، ومعه الملك محمد ابن السلطان محمود، ووصل إليهما الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد، واجتمع بوزابة والأمير عباس صاحب الري، واتفقا على الخروج عن طاعة السلطان مسعود وملكا كثيراً من بلاده.
ووصل الخبر إليه وهو ببغداد ومعه الأمير عبد الرحمن طغايرك، وهو أمير حاجب، حاكم في الدولة، وكان ميله إليهما، فسار السلطان في رمضان عن بغداد، ونزل بها الأمير مهلهل، ونظر،وجماعة من غلمان بهروز؛ وسار السلطان وعبد الرحمن معه، فتقارب العسكران، ولم يبق إلا المصاف، فلحق سليمان شاه بأخيه مسعود ، وشرع عبد الرحمن في تقرير الصلح على القاعدة التي أرادوها، وأضيف إلى عبد الرحمن ولاية أذربيجان وأرانية إلى ما بيده، وصار أبو الفتح بن دارست وزير السلطان مسعود، وهو وزير بوزابة، فصار السلطان معهم تحت الحجر، وأبعدوا بك أرسلان بن بلنكري المعروف بخاص بك، وهو ملازم السلطان وتربيته، وصار في خدمة عبد الرحمن ليحقن دمه، وصار الجماعة في خدمة السلطان صورة لا معنى تحتها والله أعلم .
ذكر استيلاء علي بن دبيس على الحلةفي هذه السنة سار علي بن دبيس هارباً، فملكها؛ وكان سبب ذلك أن السلطان لما أراد الرحيل من بغداد أشار عليه المهلهل أن يحبس علي ابن دبيس بقلعة تكريت، فعلم ذلك، فهرب في جماعة يسيرة نحو خمسة عشر، فمضى إلى الأزيز، وجمع بني أسد وغيرهم،وسار إلى الحلة وبها أخوه محمد بن دبيس، فقاتله، فانهزم محمد، وملك علي الحلة.
واستهان السلطان أمره أولاً، فاستفحل وضم إليه جمعاً من غلمانه وغلمان أبيه وأهل بيته وعساكرهم، وكثر جمعهم، فسار إليه مهلهل فيمن معه في بغداد من العسكر، وضربوا معه مصافاً، فكسرهم وعادوا منهزمين إلى بغداد.

وكان أهلها يتعصبون لعلي بن دبيس، وكانوا يصيحون، إذا ركب مهلهل وبعض أصحابه: يا علي! كله. وكثر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل من الركوب.
ومد علي يده في أقطاع الأمراء بالحلة، وتصرف فيها، وصار شحنة بغداد ومن فيها على وجل منه، وجمع الخليفة جماعة وجعلهم على السور لحفظه، وراسل علياً، فأعاد الجواب بأنني العبد المطيع مهما رسم لي فعلت؛ فسكن الناس، ووصلت الأخبار بعد ذلك أن السلطان مسعوداً تفرق خصومه عنه، فازداد سكون الناس
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة حج بالناس قايماز الأرجواني صاحب أمير الحاج نظر، واحتج نظر بأن بركة نهب في كسرة الحلة، وأن بينه وبين أمير مكة من الحروب ما لا يمكنه معه الحج.
وفيها اتصل بالخليفة عن أخيه أبي طالب ما كرهه، فضيق عليه، واحتاط على غيرهمن أقربه.
وفيها ملك الفرنج، لعنهم الله، مدينة شنترين، وباجة، وماردة، وأشبونة، وسائر المعاقل المجاورة لها من بلاد الأندلس، وكانت للمسلمين، فاختلفوا، فطمع العدو، وأخذ هذه المدن وقوي بها قوة تمكن معها وتيقن ملك سائر البلاد الإسلامية بالأندلس، فخيب الله ظنه وكان ما نذكره.
وفيها سار أسطول الفرنج من صقلية، ففتحوا جزيرة قرنة من إفريقية، فقتلوا رجالها، وسبوا حريمهم، فأرسل الحسن صاحب إفريقية إلى رجار ملك صقلية يذكره العهود التي بينهم، فاعتذر بأنهم غير مطيعين له.
وفي هذه السنة توفي مجاهد الدين بهروز الغياثي، وكان حاكماً قي العراق نيفاً وثلاثين سنة؛ ويرنقش الزكوي، صاحب أصفهان، وكان أيضاً شحنة بالعراق، وهو خادم أرمني لبعض التجار.
وتوفي الأمير إيلدكز شحنة بغداد، والشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي اللغوي، ومولده في ذي الحجة سنة خمس وستين وأربعمائة، وأخذ اللغة عن أبي زكرياء التبريزي، وكان يؤم بالمقتفي أمير المؤمنين.
وتوفي أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن أحمد بن سليمان أبو سعيد ابن أبي الفضل الأصفهاني، ومولده سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وروى الحديث الكثير، وكان على سيرة السلف، كثير الاتباع للسنة، رحمة الله عليه.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة

ذكر ملك الفرنج طرابلس الغرب
في هذه السنة ملك الفرنج، لعنهم الله، طرابلس الغرب، وسبب ذلك أن رجار ملك صقيلية جهز أسطولاً كثيراً وسيره إلى طرابلس الغرب، فأحاطوا بها براً وبحراً، ثالث المحرم، فخرج إليهم أهلها وأنشبوا القتال، فدامت الحرب بينهم ثلاثة أيام.
فلما كان اليوم الثالث سمع الفرنج بالمدينة ضجة عظيمة، وخلت الأسوار من المقاتلة، وسبب ذلك أن أهل طرابلس كانوا قبل وصول الفرنج بأيام يسيرة قد اختلفوا، فأخرج طائفة منهم بني مطروح، وقدموا عليهم رجلاً ملثماً قدم يريد الحج ومعه جماعة، فولوه أمرهم، فلما نازلهم الفرنج أعادت الطائفة الأخرى بني مطروح، فوقعت الحرب بين الطائفتين، وخلت الأسوار فانتهز الفرنج الفرصة ونصبوا السلالم، وصعدوا على السور، واشتد القتال فملكت الفرنج المدينة عنوة بالسيف، فسفكوا دماء أهلها وسبوا نساءهم، وهرب من قدر على الهرب، والتجأ إلى البربر والعرب، فنودي بالأمان في الناس كافة، فرجع كل من فر منها.
وأقام الفرنج ستة أشهر حتى حصنوا أسوارها وحفروا خندقها، ولما عادوا أخذوا رهائن أهلها، ومعهم بنو مطروح والملثم، ثم أعادوا رهائنهم، وولوا عليها رجلاً من بني مطروح، وتركوا رهائنه وحده، واستقامت أمور المدينة وألزم أهل صقيلية والروم بالسفر إليها فانعمرت سريعاً وحسن حالها.
ذكر حصر زنكي حصني جعبر وفنكوفي هذه السنة سار أتابك إلى حصن جعبر، وهو مطل على الفرات، وكان بيد سالمبن مالك العقيلي سلمه السلطان ملك شاه إلى أبيه لما أخذ منه حلب، وقد ذكرناه، فحصره وسير جيشاً إلى قلعة فنك، وهي تجاور جزيرة ابن عمر، بينها فرسخان، فحصرها أيضاً، وصاحبها حينئذ الأمير حسام الدين الكردي البشنوي.

وكان سبب ذلك أنه كان لا يريد أن يكون في وسط بلاده ما هو ملك غيره، حزماً واحتياطاً، فنازل قلعة جعبر وحصرها، وقاتله بها، فلما طال عليه ذاك أرسل إلىصاحبها، مع الأمير حسان المنبجي لمودة كانت بينهما، في معنى تسليمها، وقال له: تضمن عني الأقطاع الكثير والمال الجزيل، فإن أجاب إلى التسليم، وإلا فقلله: والله لأقيمن عليك إلى أن أملكها عنوة، ثم لا أبقي عليك، ومن الذي يمنعك مني؟ فصعد إليه حسان وأدى إليه الرسالة، ووعده، وبذل له ما قيل له، فامتنع من التسليم، فقال له حسان: فهو يقول لك من يمنعك مني؟ فقال: يمنعني منه الذي منعك من الأمير بللك. فعاد حسان وأخبر الشهيد بامتناعه، ولم يذكر لن هذا، فقتل أتابك بعد أيام.
وكانت قصة حسان مع بللك ابن أخي إيلغازي أن حسان كان صاحب منبج، فحصره بللك وضيق عليه، فبينما هو في بعض الأيام يقاتله، جاءه سهم لا يعرف من رماه فقتله، وخلص حسان من الحصر، وقد تقدم ذكره، وكان هذا القول من الاتفاق الحسن.ولما قتل أتابك زنكي رحل العسكر الذين كانوا يحاصرون قلعة فنك عنها، وهي بيد أعقاب صاحبها إلى الآن، وسمعتهم يذكرون أن لهم بها نحو ثلاثمائة سنة، ولهم مقصد، وفيهم وفاء وعصبية، يأخذون بيد كل من يلتجىء إليهم ويقصدهم، ولا يسلمونه كائن من كان.
ذكر قتل أتابك زنكي وشيء من سيرتهفي هذه السنة لخمس مضين من ربيع الأخر،قتل أتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل والشام، وهو يحاصر قلعة جعبر، على ما ذكرناه، قتله جماعة من مماليكه غيلة، وهربوا إلى قلعة جعبر، فصاح من بها من أهلها إلى العسكر يعلمونهم بقتله، وأظهروا الفرح، فدخل أصحابه إليه، فأدركوه وبه رمق.
حدثني والدب عن بعض خواصه قال: دخلت إليه في الحال وهو حي، فحين رآني ظن أني أريد قتله، فأشار إلي بإصبعه السبابة يستعطفني، فوقعت مني هيبته، فقات يا مولاي من فعل بك هذا؟ فلم يقدر على الكلام، وفاضت نفسه لوقته، رحمه الله.
قال: وكان حسن الصورة ، أسمر اللون، مليح العينين، قد وخطه الشيب، وكان قد زاد عمره على ستين سنة، لأنه كان لما قتل والده صغيراً، كما ذكرناه قبل، ولما قتل دفن بالرقة.
وكان شديد الهيبة على عسكره ورعيته، عظيم السياسة، لا يقدر القوي على ظلم الضعيف؛ وكانت البلاد، قبل أن يملكها، خراباً من الظلم، وتنقل الولاة، ومجاورة الفرنج، فعمرها وامتلأت أهلاً وسكاناً.
حكى لي والدي قال: رأيت الموصل وأكثرها خراب، بحيث يقف الإنسان قريب محلة الطبالين ويرى الجامع العتيق، والعرصة ودار السلطان، ليس بين ذلك عمارة؛ وكان الإنسان لا يقدر على المشي إلى الجامع العتيق إلا ومعه من يحميه، لبعده عن العمارة، وهو الأن في وسط العمارة وليس في هذه البقاع المذكورة كلها أراض براح،وحدثني أيضاً أنه وصل إلى الجزيرة في الشتاء، فدخل الأمير عز الدين الدبيسي، هو من أكابر أمرائه، ومن جملة أقطاعه مدينة دقوقا،ونزل في دار إنسان يهودي، فاستغاث اليهودي إلى اتابك، وأنهى حاله إليه، فنظر إلى الدبيسي، فتأخر، ودخل البلد، وأخرج بركه وخيامه. قال: فلقد رأيت غلمانه ينصبون خيامه في الوحل، وقد جعلوا على الأرض تبناً يقيهم الطين، وخرج فنزلها، وكانت سياسته إلى هذا الحد.
وكانت الموصل من أقل بلاد الله فاكهة، فصارت في أيامه وما بعدها، من أكثر البلاد فواكه ورياحين وغير ذلك.
وكان أيضاً شديد الغيرة ولا سيما على نساء الأجناد، وكان يقول: إن لم نحفظ نساء الأجناد بالهيبة، وإلا فسدن لثرة غيبة أزواجهن في الأسفار.
وكان أشجع خلق الله؛ أما قبل أن يملك فيكفيه أنه حضر مع الأمير مودود صاحب الموصل مدينة طبرية، وهي للفرنج، فوصلت طعنته باب البلد وأثر فيه، وحما أيضاً على قلعة عقر الحميدية، وهي على جبل عال، فوصلت طعنته إلى سورها، إلى أشياء أخر.

وأما بعد الملك فقد كان الأعداء محدقين ببلاده، وكلهم يقصدها، ويريد أخذها، وهو لا يقنع بحفظها، حتى أنه لا ينقضي عليه عام إلا ويفتح من بلادهم. فقد كان الخليفة المسترشد بالله مجاوره في ناحية تكريت، وقصد الموصل وحصرها، ثم إلى جانبه ، من ناحية شهرزور ويلك الناحية، السلطان مسعود؛ ثم ابن سقمان صاحب خلاط؛ ثم داود بن سقمان صاحب حصن كيفا؛ ثم صاحب آمد وماردين؛ ثم الفرنج من مجاورة ماردين إلى دمشق؛ ثم أصحاب دمشق، فهذه الولايات قد أحاطت بولايته من كل جهاتها، فهو يقصد هذا مرة وهذا مرة، ويأخذ من هذا ويصنع هذا، إلى أن ملك من كل من يليه طرفاً من بلاده. وقد أتينا على أخباره في كتاب الباهر في تاريخ دولته ودولة أولاده، فيطلب من هناك.
ذكرملك ولديه سيف الدين ونور الدينلما قتل أتابك زنكي أخذ نور الدين محمود ولده خاتمه من يده، وكان حاضراً معه، وسار إلى حلب فملكها.
وكان حينئذ يتولى ديوان زنكي، ويحكم في دولته من أصحاب العمائم جمال الدين محمد بن علي وهو المنفرد بالحكم، ومعه أمير حاجب صلاح الدين محمد الياغيسياني، فاتفقا على حفظ الدولة، وكان مع الشهيد أتابك الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود، فركب ذلك اليوم، وأجمعت العساكر عليه، وحضر عنده جمال الدين وصلاح الدين وحسنا له الأشتغال بالشرب والمغنيات والجواري، وأدخلاه الرقة، فبقي فيها أياماً لا يظهر، ثم سار إلى ماكسين، فدخلها، وأقام بها أياماً، وجمال الدين يحلف الأمراء لسيف الدين غازي بن أتابك زنكي، ويسيرهم إلى الموصل.
ثم سار من ماكسين إلى سنجار، وكان سيف الدين قد وصل إلى الموصل، فلما وصلوا إلى سنجار أرسل جمال الدين إلى الدزدار يقول له ليرسل إلى ولد السلطان يقول له: إني مملوكك، ولكني تبع الموصل، فمتى ملكتها سلمت إليك سنجار. فسار إلى الموصل، فأخذه جمال الدين وقصد به مدينة بلد، وقد بقي معه من العسكر القليل، فأشار عليه بعبور دجلة، فعبرها إلى الشرق في نفر يسير.
وكان سيف الدين غازي بمدينة شهرزور، وهي إقطاعه،فأرسل إليه زين الدين بن علي كوجك نائب أبيه بالموصل أرسل إليه يعرفه قلة من مع الملك، فأرسل إليه بعض عسكره، فقبضوا عليه، وحبس في قلعة الموصل، واستقر ملك سيف الدين البلاد، وبقي أخوه نور الدين بحلب وهي له، وسار إليه صلاح الدين الياغسياني يدبر أمره ويقوم بحفظ دولته، وقد استقصينا شرح هذه الحادثة في التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية،
ذكر عصيان الرها لما قتل أتابككان جوسلين الفرنجي الذي كان صاحب الرها في ولايته، وهي تل باشر وما يجاورها، فراسل أهل الرها وعامتهم من الأرمن وحملهم على العصيان، والامتناع على المسلمين، وتسليم البلد، فأجابوه إلى ذلك، وواعدهم يوماً يصل إليهم فيه، وسار في عساكره إلى الرها، وملك البلد، وامتنعت القلعة عليه بمن فيها من المسلمين، فقاتلهم، فبلغ الخبر إلى نور الدين محمود بن زنكي، وهو بحلب، فسار مجداً إليه في عسكره، فلما قاربها خرج جوسلين هارباً عائداً إلى بلده، ودخل نور الدين المدينة، ونهبها حينئذ، وسبى لأهلها.
وفي هذه الدفعة نهبت وخلت من أهلها، ولم يبق بها منهم إلا القليل، وكثير من الناس يظن أنها نهبت لما فتحها الشهيد، وليس كذلك.
وبلغ الخبر إلى سيف الدين غازي بعصيان الرها، فسير العساكر إليها، فسمعوا بملك نور الدين البلد واستباحته، وهم في الطريق، فعادوا.
ومن أعجب ما يروى أن زين الدين علياً، الذي كان نائب الشهيد وأولاده بقلعة الموصل، جاءه هدية أرسلها إليه نور الدين من هذا الفتح، وفي الجملة جارية، فلما دخل إليها، وخرج من عندها وقد اغتسل، قال لمن عنده: تعلمون ما جرى لي في يومنا هذا؟ قالوا لا! قال: لما فتحنا الرها مع الشهيد وقع في يدي من النهب جارية رائقة أعجبني حسنها ومال قلبي إليها، فلم يكن بأسرع من أن أمر الشهيد فنودي برد السبي والمال المنهوب، وكان مهيباً مخوفاً، فرددتها وقلبي متعلق بها، فلما كان الأن جاءتني هدية نور الدين وفيها عدة جوار منهن تلك الجارية فوطئتها خوفاً أن يقع رد تلك الدفعة.
ذكر استيلاء عبد المؤمن على جزيرة الأندلس

في هذه السنة سير عبد المؤمن جيشاً إلى جزيرة الأندلس، فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام. وسبب ذلك أن عبد المؤمن لما كان يحاصر مراكش جاء إليه جماعة من أعيان الأندلس منهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن حمدين، ومعهم مكتوب يتضمن بيعة أهل البلاد التي هم فيها لعبد المؤمن ودخولهم في زمرة أصحابه الموحدين، وإقامتهم لأمره، فقبل عبد المؤمن ذلك منهم، وشكرهم عليه، وطيب قلوبهم، وطلبوا منه النصرة على الفرنج، فجهز جيشاً كثيفاً وسيره معهم، وعمر أسطولاً وسيره في البحر، فسار الأسطول إلى الأندلس، وقصدوا مدينة إشبيلية،وصعدوا في نهرها، وبها جيش من الملثمين، فحصروها براً وبحراً وملكوها عنوة، وقتل فيها جماعة وأمن الناس فسكنوا واستولت العساكر على البلاد، وكان لعبد المؤمن من بها
ذكر قتل عبد الرحمن طغايرك

وعباس صاحب الري
في هذه السنة قتل السلطان مسعود أمير حاجب عبد الرحمن طغايرك، وهو صاحب خلخال وبعض أذربيجان والحاكم في دولة السلطان، وليس للسلطان معه حكم.
وكان سبب قتله لما ضيق عليه عبد الرحمن بقي معه شبه الأسير ليس له في البلاد حكم، حتى إن عبد الرحمن قصد غلاماً كان للسلطان، وهو بك أرسلان، المعروف بخاص بك بن بلنكري، وقد رباه السلطان وقربه فأبعده عنه، وصار لا يراه، وكان في خاص بك عقل وتدبير وجودة قريحة، وتوصل لما يريد أن يفعله، فجمع عبد الرحمن العساكر وخاص بك فيهم، وقد استقر بينه وبين السلطان مسعود أن يقتل عبد الرحمن، إلا رجلاً اسمه زنكي وكان جانداراً، فإنه بذل من نفسه أن يبدأه بالقتل،ووافق خاص بك على القيام في الأمر جماعة من الأمراء، فبينما عبد الرحمن في موكبه ضربه زنكي الجاندار بمقرعة حديد كانت في يده على رأسه، فسقط إلى الأرض، فأجهز عليه خاص بك، وأعانه على حماية زنكي والقائمين معه من كان واطأه على ذلك من الأمراء، وكان قتله بظاهر جنزة.
وبلغ الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد، ومعه الأمير عباس صاحب الري، وعسكره أكثر من عسكر السلطان، فأنكر ذلك، وامتعض منه، فداراه السلطان ولطف به، واستدعى الأمير البقش كونخر من اللحف وتتر الذي كان حاجباً فلما قوي بهما أحضر عباساً إليه في داره،فلما دخل إليه منع أصحابه من الدخول معه، وعدلوا به إلى حجرة، وقالوا له: اخلع الرزية؛ فقال: إن لي مع السلطان أيماناً وعهوداً؛ فلكموه، وخرج له غلمان أعدوا لذلك، فحينئذ تشاهد وخلع الرزية وألقاها، وضربوه بالسيوف، واحتزوا رأسه وألقوه إلى أصحابه، ثم ألقوا جسده، ونهب رحله وخيمه وانزعج البلد لذلك.
وكان عباس من غلمان السلطان محمود، حسن السيرة، عادلاً في رعيته، كثير الجهاد للباطنية، قتل منهم خلقاً كثيراً، وبنى من رؤوسهم منارة بالري، وحصر قلعة ألموت، ودخل إلى قرية من قراهم فألقى فيها النار فأحرق كل من فيها من رجل وامرأة وصبي وغير ذلك؛ فلما قتل دفن بالجانب الغربي، ثم أرسلت ابته فحملته إلى الري فدفنته هناك، وكان مقتله في ذي القعدة.
ومن الاتفاق العجيب أن العبادي كان يعظ يوماً، فحضره عباس، فأسمع بعض من في المجلس ورمى بنفسه نحو الأمير عباس ، فضربه أصحابه ومنعوه خوفاً عليه لأنه كان شديد احتراس من الباطنية لا يزال لابساً الزردية لا تفارقه الغلمان الأجلاد، فقال له العبادي: يا أمير إلام هذا الاحتراز؟ والله لئن قضي عليك بأمر لتحلن أنت بيدك أزرار الزردية فينفذ القضاء فيك.
وكان كما قال، وقد كان السلطان استوزر ابن دارست، وزير بوزابة، كارهاً على ما تقدم ذكره، فعزله الآن لأنه اختار العزل والعود إلى صاحبه بوزابة فلما عزله قرر معه أن يصلح له بوزابة، ويزيل ما عنده من الاستشعار بسبب قتل عبد الرحمن وعباس، فسار الوزير وهو لا يعتقد النجاة، فوصل إلى بوزابة وكان ما نذكره.
؟
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت.
وفيها توفي الأمير جاولي الطغرلي صاحب آرانية وبعض أذربيجان، وكان قد تحرك للعصيان، وكان موته فجأة، مد قوساً فنزف دماً فمات.
وتوفي شيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل بن أبي سعد الصوفي، مات ببغداد ودفن بظاهر رباط الزوزني بباب البصرة، ومولده سنة أربع وستين وأربعمائة، وقام في منصبه ولده صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم.

وفيها توفي نقيب النقباء محمد بن طراد الزينبي أخو شرف الدين الوزير.
وفيها ولي مسعود بن بلال شحنكية بغداد، وسار السلطان عنها.
وفيها كان بالعراق جراد كثير أحل أكثر البلاد.
وفيها ورد العبادي الواعظ رسولاً من السلطان سنجر إلى الخليفة، ووعظ ببغداد، وكان له قبول بها، وحضر مجلسه السلطان مسعود فمن دونه، وأما العامة فإنهم كانوا يتركون أشغالهم لحضور مجلسه والمسابقة إليه.
وفيها بعد قتل الشهيد زنكي بن آقسنقر قصد صاحب دمشق حصن بعلبك وحصره وكان به نجم الدين أيوب بن شاذي مستحفظاً لها، فخاف أن أولاد زنكي لا يمكنهم إنجاده بالعاجل، فصالحه وسلم القلعة إليه، وأخذ منه إقطاعاً ومالاً، وملكه عدة قرى من بلد دمشق، وانتقل أيوب إلى دمشق فسكنها وأقام فيها.
وفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي عبد الله بن علي بن أحمد أبو محمد المقري ابن بنت الشيخ أبي منصور، ومولده في شعبان سنة أربع وستين وأربعمائة، وكان مقرئاً نحوياً محدثاً، وله تصانيف في القراءات.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة
ذكر قتل بوزابة
لما اتصل بالأمير بوزابة قتل عباس جمع عساكره من فارس وخوزستان وسار إلى أصفهان فحصرها، وسير عسكراً آخر إلى همذان، وعسكراً ثالثاً إلى قلعة الماهكي من بلد اللحف، فأما عسكره الذي بالماهكي فإنه سار إليهم الأمير البقش كون خر فدفعهم عن أعماله وكانت أقطاعة، ثم إن بوزابة سار عن أصفهان يطلب السلطان مسعوداً، فراسله السلطان في الصلح، فلم يجب إليه، وسار مجداً فالتقيا بمرج قراتكين، وتصافا، فاقتتل العسكران، فانهزمت ميمنة السلطان مسعود وميسرته؟ ، واقتتل القلبان أشد قتال وأعظمه، صبر فيه الفريقان، ودامت الحرب بينهما، فسقط بوزابة عن فرسه بسهم أصابه، وقيل بل عثر به الفرس فأخذ أسيراً وحمل إلى السلطان وقتل بين يديه، وانهزم أصحابه لما أخذ هو أسيراً.
وبلغت هزيمة العسكر السلطاني من الميمنة والميسرة إلى همذان، وقتل بين الفريقين خلق كثير، وكانت هذه الحرب من أعظم الحروب بين الأعاجم.
؟
ذكر طاعة أهل قابس للفرنج
وغلبة المسلمين عليها
كان صاحب مدينة قابس، قبل هذه السنة، إنساناً اسمه رشيد، توفي وخلف أولاداً، فعمد مولى له اسمه يوسف إلى ولده الصغير، واسمه محمد، فولاه الأمر، وأخرج ولده الكبير واسمه معمر، واستولى يوسف على البلد، وحكم على محمد لصغر سنه.
؟؟؟؟؟؟وجرى منه أشياء من التعرض إلى حرم سيده، والعهدة على ناقله، وكان من جملتهم امرأة من بني قرة، فأرسلت إلى أخوتها تشكو إليهم ما هي فيه، فجاء أخوتها لأخذهم فمنعهم، وقال: هذه حرمة مولاي؛ ولم يسلمها، فسار بنو قرة ومعمر بن رشيد إلى الحسن صاحب إفريقية،وشكوا إليه ما يفعل يوسف، فكاتبه الحسن في ذلك، فلم يجب إليه، وقال: ائن لم يكف الحسن عني وإلا سلمت قابس إلى صاحب صقيلية؛ فجهز الحسن العسكر إليه، فلما سمع يوسف بذلك أرسل إلى رجار الفرنجي، صاحب صقيلية، وبذل له الطاعة، وقال له: أريد منك خلعة وعهداً بولاية قابس لأكون نائباً عنك كما فعلت مع بني مطروح في طرابلس؛ فسير إليه رجار الخلعة والعهد، فلبسها وقرىء العهد بمجمع من الناس.
فجد حينئذ الحسن في تجهيز العسكر إلى قابس، فساروا إليها ونازلوها وحصروها، فثار أهل البلد بيوسف لما اعتمده من طاعة الفرنج، وسلموا البلد إلى عسكر الحسن، وتحصن يوسف في القصر، فقاتلوه حتى فتحوه، وأخذ يوسف أسيراً، فتولى عذابه معمر بن رشيد وبنو قرة، فقطعوا ذكره وجعلوه في فمه وعذب بأنواع العذاب.
وولي معمر قابس مكان أخيه محمد، وأخذ بنو قرة أختهم، وهرب عيسى أخو يوسف وولد يوسف وقصدوا رجار، صاحب صقيلية، فاستجاروا به وشكوا إليه ما لقوا من الحسن، فغضب لذلك، وكان ما نذكره سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة من فتح المهدية، إن شاء الله تعالى.
ذكر حادثة ينبغي أن يحتاط العاقل من مثلها

كان يوسف هذا صاحب قابس قد أرسل رسولاً إلى رجار بصقيلية، فاجتمع هو ورسول الحسن صاحب المهدية عنده، فجرى بين الرسولين مناظرة، فذكر رسول يوسف الحسن وما نال منه وذمه، ثم إنهما عادا في وقت واحد، وركبا البحر كل واحد منهما في مركبه ، فأرسل رسول الحسن رقعة إلى صاحبه على جناح طائر يخبره بما كان من رسول يوسف، فسير الحسن جماعة من أصحابه في البحر، فأخذوا رسول يوسف وأحضروه عند الحسن، فسبه وقال: ملكت الفرنج بلاد المسلمين وطولت لسانك بذمي! ثم أركبه جملاً وعلى رأسه طرطور بجلاجل وطيف به في البلد ونودي عليه: هذا جزاء من سعى أن يملك بلاد المسلمين؛ فلما توسط المهدية ثار به العامة فقتلوه بالحجارة،
ذكر ملك الفرنج المرية

وغيرها من بلاد الأندلس
في هذه السنة، في جمادى الأولى، حصر الفرنج مدينة المرية من الأندلس، وضيقوا عليها براً وبحراً، فملكوها عنوة، وأكثروا القتل بها والنهب، وملكوا أيضاً مدينة بياسة وولاية جيان، وكلها بالأندلس، ثم استعادها المسلمون بعد ذلك منهم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك نور الدين محمود بن زنكي عدة مواضع من بلد الفرنجفي هذه السنة دخل محمود بن زنكي صاحب حلب، بلد الفرنج، ففتح منه مدينة ارتاح باسيف ونهبها وحصن مابولة وبصرفون وكفر لاثا. وكان الفرنج بعد قتل والده زنكي قد طمعوا، وظنوا أنهم بعده يستردون ما أخذه، فلما رأوا من نور الدين هذا الجد في أول أمره علموا أن ما أملوه بعيد.
ذكر أخذ الحلة من علي بن دبيس
وعوده إليها
في هذه السنة كثر فساد علي بن دبيس بالحاة وما جاورها، وكثرت الشكاوى منه، فأقطع السلطان مسعود الحلة للأمير سلار كرد، فسار إليها من همذان ومعه عسكر وانضاف إليهم جماعة من عسكر بغداد، وقصدوا الحلة، واحتاط على أهل علي ورجعت العساكر، وأقام هو بالحلة في مماليكه وأصحابه، وسار عليبن دبيس فلحق بالبقش كون خر، وكان بإقطاعه، في اللحف، متجنياً على السلطان، فاستنجده، فسار معه إلى واسط، واتفق هو والطرنطاي، وقصدوا الحلة فاستنقذوها من سلار كرد في ذي الحجة، وفارقها سلار كرد وعاد إلى بغداد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الأولى، خطب للمستنجد بالله يوسف بن المقتفي لأمر الله بولاية العهد.
وفيها ولي عون الدين يحيى بن هبيرة كتابة ديوان الزمام ببغداد، وولي زعيم الدين يحيى بن جعفر المخزن.
وفيها، في ربيع الأول ، مات أبو القاسم طاهر بن سعيد بن أبي سعيد بن أبي الخير الميهني شيخ رباط البسطامي ببغداد، وفي ربيع الآخر توفيت فاطمة خاتون بنت السلطان محمد زوجة المقتفي لأمر الله.
وفي رجب منها مات أبو الحسن محمد بن المظفر علي بن المسلمة، ابن رئيس الرؤساء، ومولده سنة أربع وثمانين، وكان قد تصوف، وجعل داره التي في القصر رباطاً للصوفية.
وفيها سار سيف الدين غازي بن زنكي إلى قلعة دارا، فملكها وغيرها من بلد ماردين، ثم سار إلى ماردين وحصرها وخرب بلدها ونهبه.
وكان سبب ذلك أن أتابك زنكي لما قتل تطاول صاحب ماردين وصاحب الحصن إلى ما كان قد فتحه من بلادهما فأخذاه، فلما ملك سيف الدين وتمكن سار إلى ماردين وحصرها، وفعل ببلدها الأفاعيل العظيمة، فلما رأى صاحبها، وهو حينئذ حسام الدين تمرتاش، ما يفعل في بلده قال: كنا نشكو من أتابك الشهيد، وأين أيامه؟ لقد كانت أعياداً. قد حصرنا غير مرة، فلم يأخذ هو ولا أحد من عسكره مخلاة تبن بغير ثمن، ولا تعد هو وعسكره حاصل السلطان، وأرى هذا ينهب البلاد ويخربها.
ثم راسله وصالحه، وزوجه ابنته، ورحل سيف الدين عنه وعاد إلى الموصل، وجهزت ابنة حسام الدين وسيرت إليه، فوصلت وهو مريض قد أشفى على الموت، فلم يدخل بها وبقيت عنده إلى أن توفي وملك قطب الدين مودود، فتزوجها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها أشتد الغلاء بإفريقية ودامت أيامه، فإن أوله كان سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وعظم الأمر على أهل البلاد حتى أكل بعضهم بعضاً، وقصد أهل البوادي المدن من الجوع، فأغلقها أهلها دونهم، وتبعه وباء وموت كثير، حتى خلت البلاد، وكان أهل البيت لا يبقى منهم أحد، وسار كثير منهم إلى صقيلية في طلب القوت، ولقوا أمراً عظيماً.
؟؟؟
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة

ذكر ملك الفرنج مدينة المهدية بإفريقية
قد ذكرنا سنة إحدى وأربعين وخمسمائة مسير أهل يوسف، صاحب قابس، إلى رجار ملك صقلية، واستغاثتهم به، فغضب لذلك، وكان بينه وبين الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية، صلح وعهود إلى مدة سنتين، وعلم أنه فاته فتح لبلاد في هذه الشدة التي أصابتهم، وكانت الشدة دوام الغلاء في جميع المغرب من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة، وكان أشد ذلك سنة اثنتين وأربعين، فأن الناس فارقوا البلاد والقرى، ودخل أكثرهم إلى مدينة صقيلية، وأكل الناس بعضهم بعضاً، وكثر الموت في الناس، فاغتنم رجار هذه الشدة، فعمر الأسطول، وأكثر منه، فبلغ نحو مائتين وخمسين شينياً مملوءة رجالاً وسلاحاً وقوتاً.
وسار الأسطول عن صقلية إلى جزيرة قوصرة، وهي بين المهدية وصقلية، فصادفوا بها مركباً وصل من المهدية، فأخذ أهله وأحضروا بين يدي جرجي مقدم الأسطول، فسألهم عن حال إفريقية، ووجد في المركب قفص حمام، فسألهم هل أرسلوا منها، فحلفوا أنهم لم يرسلوا منها شيئاً، فأمر الرجل الذي كان الحمام صحبته أن يكتب بخطه: إننا لما وصلنا جزيرة قوصرة وجدنا بها مراكب من صقلية، فسألناهم عن الأسطول المخذول، فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينية.
وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية، فسر الأمير الحسن والناس؛ وأراد جرجي بذلك أن يصل بغتة، ثم سار، وقدر وصولهم إلى المهدية وقت السحر ليحيط بها قبل أن يخرج أهلها، فلو تم له ذلك لم يسام منهم أحد، فقدر الله تعالى أن أرسل عليهم ريحاً هائلة عكستهم، فلم يقدروا على المسير إلا بالمقاذيف، فطلع النهار ثاني صفر في هذه السنة قبل وصولهم، فرآهم الناس، فلما وصلوا رأى جرجي ذلك وأن الخديعة فاتته، أرسل إلى الأمير الحسن يقول: إنما جئت بهذا الأسطول طالباً بثأر محمد بن رشيد صاحب قابس ورده إليها، وأما أنت فبيننا وبينك عهود وميثاق إلى مدة، ونريد منك عسكراً يكون معنا، فجمع الحسن الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم، فقالوا: نقاتل عدونا، فإن بلدنا حصين. فقال: أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا براً وبحراً، ويحول بيننا وبين الميرة، وليس عندنا ما يقوتنا شهراً، فنؤخذ قهراً . وأنا أرى سلامة المسلمين من الأسر والقتل خيراً من الملك، وقد طلب مني عسكراً إلى قابس، فإذا فعلت فما يحل لي معونة الكفار على المسلمين، وإذا امتنعت يقول، انتقض ما بيننا من الصلح، وليس يريد إلا أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر، وليس لنا بقتاله طاقة، والرأي أن نخرج بالأهل والولد ونترك البلد، فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا.
وأمر في الحال بالرحيل، وأخذ معه من حضره وما خف حمله، وخرج الناس على وجوههم بأهليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم، ومن الناس من اختفى عند النصارى وفي الكنائس، وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية إلى ثلثي النهار، فلم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد، فوصل الفرنج ودخلوا البلدبغير مانع ولا دافع، ودخل جرجي القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه إلا ما خف من ذخائر الملوك، وفيه جماعة من حظاياه، ورأى الخزائنمملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيىء غريب يقل وجود مثله، فختم عليه، وجمع سراري الحسن في قصره.وكان عدة من ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحسن تسعة ملوك، ومدة ولايتهم مائتا سنة وثماني سنوات، من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة؛ وكان بعض القواد قد أرسله الحسن إلى رجار برسالة، فأخذ لنفسه وأهله منه أماناً، فلم يخرج معهم، ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين، ونودي بالأمان ، فخرج من كان مستخفياً، وأصبح جرجي من الغد، لفأرسل إلى من قرب من العرب، فدخلوا إليه، فأحسن إليهم وأعطاهم أموالاً جزيلة، وأرسل من جند المهدية الذين تخافوا بها جماعة، ومعهم أمان لأهل المهدية الذين خرجوا منها، ودواب يحملون عليها الأطفال والنساء، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع، ولهم بالمهدية خبايا وودائع، فلما وصل إليهم الأمان رجعوا، فلم تمض جمعة حتى رجع أكثر أهل البلد.

وأما الحسن فإنه سار بأهله وأولاده، وكانوا اثني عشر ولداً ذكراً غير الإناث، وخواص خدمه، قاصداً إلى محرز بن زياد، وهو بالمعلقة ، فلقيه في طريقه أمير من العرب يسمى حسن بن ثعلب ، فطلب منه مالاً انكسر له في ديوانه، فلم يمكن الحسن إخراج مال لئلا يؤخذ، فسلم إليه ولده يحي رهينة وسار، فوصل في اليوم الثاني إلى محرز، وكان الحسن قد فضله على جميع العرب وأحسن إليه، ووصله بكثير من المال، فلقيه محرز لقاء جميلاً، وتوجع لما حل به، فأقام عنده شهوراً، والحسن كاره للإقامة، فأراد المسير فأراد المسير إلى ديار مصر إلى الخليفة الحافظ العلوي، واشترى مركباً لسفره، فسمع جرجي الفرنجي، فجهز شواني ليأخذه، فعاد الحسن عن ذلك، وعزم على المسير إلى عبد المؤمن بالمغرب، فأرسل كبار أولاده يحيى وتميماً وعلياً إلى يحيا بن عبد العزيز، وهو من بني حماد، وهما أولاد عم، يستأذنه في الوصول إليه، وتجديد العهد به، والمسير من عنده إلى عبد المؤمن، فأذن له يحيى، فسار إليه، فلما وصل لم يجتمع به يحيى وسيره إلى جزيرة بني مزغناي هو وأولاده ووكل به من يمنعهم من التصرف، فبقوا كذلك إلى أن ملك عبد المؤمن بجاية سنة سبع وأربعين، فحضر عنده وقد ذكرنا حاله هناك .
ولما استقر جرجي بالمهدية سير اسطولاً، بعد أسبوع، إلى مدينة سفاقس، وسير أسطولاً آخر إلى مدينة سوسة، فأما سوسة فإن أهلها لما سمعوا خبر المهدية، وكان واليها علي بن الحسن الأمير، فخرج إلى أبيه، وخرج الناس لخروجه، فدخلها الفرنج بلا قتال ثاني عشر صفر؛ وأما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من العرب، فامتنعوا بهم، فقاتلهم الفرنج، فخرج إليهم أهل البلد فأظهر الفرنج الهزيمة، وتبعهم الناس حتى أبعدوا عن البلد، ثم عطفوا عليهم، فانهزم قوم إلى البلد وقوم إلى البرية، وقتل منهم جماعة، ودخل الفرنج البلد فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثيرة، وأسر من بقي من الرجال وسبي الحريم، وذلك في الثالث والعشرين من صفر، ثم نودي بالأمان، فعاد أهلها إليها، وافتكوا حرمهم وأولادهم، ورفق بهم وبأهل سوسة والمهدية، وبعد ذلك وصلت كتب من رجار لجميع أهل إفريقية بالأمان والمواعيد الحسنة.
ولما استقرت أحوال البلاد سار جرجي في أسطول إلى قلعة إقليبية، وهي قلعة حصينة، فلما وصل إليها سمعته العرب، فاجتمعوا إليها، ونزل إليهم الفرنج، فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم خلق كثير، فرجعوا خاسرين إلى المهدية، وصار للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس ومن المغرب إلى دون القيروان، والله أعلم.
ذكر حصر الفرنج دمشق

وما فعل سيف الدين غازي بن زنكي
في هذه السنة سار ملك الألمان من بلاده في خلق كثير وجمع عظيم من الفرنج، عازماً على قصد بلاد الإسلام، وهو لا يشك في ملكها بأيسر قتال لكثرة جموعه، وتوفر أمواله وعدده، فلما وصل إلى الشام قصده من به من الفرنج وخدموه، وامتثلوا أمره ونهيه، فأمرهم بالمسير معهم إلى دمشق ليحصرها ويملكها بزعمه، فساروا معه ونازلوها وحصروها، وكان صاحبها مجير الدين أبق بن نوري بن طغدكين، وليس له من الأمر شيء، وإنما الحكم في البلدلمعين الدين أنر مملوك جده طغدكين، وهو الذي أقام مجير الدين؛ وكان معين الدين عاقلاً، عادلاً خيراً، حسن السيرة، فجمع العساكر وحفظ البلد.
وأقام الفرنج يحاصرونهم، ثم إنهم زحفوا سادس ربيع الأول بفارسهم وراجلهم، فخرج إليهم أهل البلد والعسكر فقاتلوهم، وصبروا لهم، وفيمن خرج للقتال الفقيه حجة الدين يوسف بن دي ناس الفندلاوي المغربي، وكان شيخاً كبيراً، فقيهاً عالماً، فلما رآه معين الدين،وهو راجل، قصده وسلم عليه، وقال له: ياشيخ أنت معذور لكبر سنك، ونحن نقوم بالذب عن المسلمين؛ سأله أن يعود، فلم يفعل وقال له: قد بعت واشترى مني، فوالله لا أقلته ولا استقلته؛ فعنى قول الله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) وتقدم فقاتل الفرنج حتى قتل عند النيرب نحو نصف فرسخ عن دمشق

وقوي الفرنج وضعف السلمين، فتقدم ملك الألمان حتى نزل بالميدان الأخضر، فأيقن الناس بأنه يملك البلد. وكان معين الدين قد أرسل إلى سيف الدين غازي بن أتابك يدعوه إلى نصرة المسلمين وكف العدو عنهم، فجمع عساكره وسار إلى الشام، واستصحب معه أخاه نور الدين محمود من حلب، فنزلوا بمدينة حمص، وأرسل إلى معين الدين يقول له: قد حضرت ومعي كل من يحمل السلاح من بلادي، فأريد أن يكون نوابي بمدينة دمشق لأحضر وألقى الفرنج، فإن انهزمت دخلت أنا وعسكري البلد، واحتمينا به، وإن ظفرت فالبلد لكم لا أنازعكم فيه.
فأرسل إلى الفرنج يتهددهم إن لم يرحلوا عن البلد، فكف الفرنج عن القتال خوفاً من كثرة الجراح، وربما اضطروا إلى قتال سيف الدين، فأبقوا على نفوسهم، فقوي أهل البلد على حفظه، واستراحوا من لزوم الحرب، وأرسل معين الدين إلى الفرنج الغرباء: إن ملك المشرق قد حضر، فإن رحلتم، وإلا سلمت البلد إليه، وحينئذ تندمون؛ وأرسل إلى فرنج الشام يقوللهم: بأي عقل تساعدون هؤلاء علينا، وأنتم تعلمون أنهم إن ملكوا دمشق أخذوا ما بأيديكم من البلاد الساحلية، وأما أنا فإن رأيت الضعف عن حفظ البلد سلمته إلى سيف الدين،وأنتم تعلمون أنه إن ملك دمشق لا يبقى لكم معه مقام في الشام؛ فأجابوه إلى التخلي عن ملك الألمان، وبذل لهم تسليم حصن بانياس إليهم.
واجتمع الساحلية بملك الألمان، وخوفوه من سيف الدين وكثرة عساكره وتتابع الأمداد إليه، وأنه ربما أخذ دمشق وتضعف عن مقاومته؛ ولم يزالوا به حتى رحل عن البلد، وتسلموا قلعة بانياس، وعاد الفرنج الألمانية إلى بلادهم وهي من وراء القسطنطينية، وكفى الله المؤمنين شرهم.
وقد ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق: أن بعض العلماء حكى له أنه رأى الفندلاوي في المنام، فقال له: ما فعل الله بك، وأين أنت؟ فقال غفر لي، وأنا في جنات عدن على سرر متقابلين.
ذكر ملك نور الدين محمود حصن العريمةلما سار الفرنج عن دمشق رحل نور الدين إلى حصن العريمة، وهو للفرنج، فملكه.
وسبب ذلك أن ملك الألمان لما خرج إلى الشام كان معه ولد الفنش، وهو من أولاد ملوك الفرنج، وكان جده هو الذي أخذ طرابلس الشام من المسلمين، فأخذ حصن العريمة وتملكه، وأظهر أته يريد أخذ طرابلس من القمص، فأرسل القمص إلى نور الدين محمود، وقد اجتمع هو ومعين الدين أنر ببعلبك، يقول له ولمعين الدين ليقصدا حصن العريمة ويملكاه من ولد الفنش،فسارا إليه مجدين في عساكرهما، وأرسلا إلى سيف الدين وهو بحمص يستنجدانه، فأمدهما بعسكر كثير مع الأمير عز الدين أبي بكر الدبيسي، صاحب جزيرة ابن عمر وغيرها، فنازلوا الحصن وحصروه، وبه ابن الفنش، فحماه وامتنع به، فزحف المسلمون إليه غير مرة، وتقدم إليه النقابون فنقبوا السور، فستسلم حينئذ من به من الفرنج، فملكه المسلمون وأخذوا كل من به من فارس وراجل وصبي وامرأة، وفيهم ابن الفنش كما قيل: خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين،
ذكر الخلف بين السلطان مسعود وجماعة من الأمراء

ووصولهم إلى بغداد وما كان منهم في العراق
في هذه السنة فارق السلطان مسعوداً جماعة من أكابر الأمراء، وهم من أذربيجان:إيلدكرالمسعودي، صاحب كنجة وأرانية، وقيصر، ومن الجبل: البقش كون خر، وتتر الحاجب، وهو من مماليك مسعود أيضًا، وطرنطاي المحمودي، شحنة واسط، والدكز، وقرقوب وابن طغايرك.
وكان سبب ذلك ميل السلطان إلى خاص بك واطراحه لهم، فخافوا أن يفعل بهم مثل فعله بعبد الرحمن وعباس وبوزابة، ففارقوه وساروا نحو العراق، وغلت الأسعار، وتقدم الإمام المقتفي لأمر الله بإصلاح السور وترميمه، وأرسل الخليفة إليهم بالعبادي الواعظ، فلم يرجعوا إلى قوله، ووصلوا إلى بغداد في ربيع الأخر، والملك محمد ابن السلطان محمود معه من ونزلوا بالجانب الشرقي، وفارق مسعود بلال شحنة بغداد البلد خوفاً من الخليفة، وسار إلى تكريت وكانت له، فعظم الأمر على أهل بغداد، ووصل إليهم علي بن دبيس صاحب الحلة، فنزل بالجانب الغربي، فجند الخليفة أجناداً يحتمي بهم.

ووقع القتال بين الأمراء وبين عامة بغداد ومن بها من العسكر، واقتتلوا عدة دفعات، ففي بعض الأيام انهزم الأمراء الأعاجم من عامة بغداد مكراً وخديعة، وتبعهم العامة، فلما أبعدوا عادوا عليهم وصار بعض العسكر من ورائهم، ووضعوا السيف فقتل من العامة خلق كثير، ولم يبقوا على صغير ولا كبير، وفتكوا فيهم، فأصيب أهل بغداد بما لم يصابوا بمثله، وكثر القتلى والجرحى وأسر منهم خلق كثير فقتل البعض وشهر البعض، ودفن الناس من عرفوا، ومن لم يعرف ترك طريحاً بالصحراء، وتفرق العسكر في المحال الغربية، فأخذوا من أهلها الأموال الكثيرة، ونهبوا بلد دجيل وغيره، وأخذوا النساء والولدان.
ثم إن الأمراء اجتمعوا ونزلوا مقابل التاج وقبلوا الأرض واعتذروا، وترددت الرسل بينهم وبين الخليفة إلى آخر النهار،وعادوا إلى خيامهم، ورحلوا إلى النهروان، فنهبوا البلاد، وافسدوا فيها، وعاد مسعود بلال شحنة بغداد من تكريت إلى بغداد.
ثم إن هؤلاء الأمراء تفرقوا وفارقوا العراق، وتوفي الأمير قيصر بأذربيجان، هذا كله والسلطان مسعود مقيم ببلد الجبل، والرسل بينه وبين عمه السلطان سنجر متصلة؛ وكان السلطان سنجر قد أرسل إليه يلومه على تقديم خاص بك، ويأمره بإبعاده، ويتهدده بأنه إن لم يفعل فسيقصده ويزيله عن السلطنة؛ وهو يغالط ولا يفعل، فسار السلطان سنجر إلى الري، فلما علم السلطان مسعود بوصوله سار إليه وترضاه، واستنزله عما في نفسه فسكن. وكان اجتماعهما سنة أربع وأربعين على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
؟؟

ذكر انهزام الفرنج بيغرى
في هذه السنة هزم نور الدين محمود بن زنكي الفرنج بمكان اسمه يغرى من أرض الشام ، وكانوا قد تجمعوا ليقصدوا أعمال حلب ليغيروا عليها، فعلم بهم، فسار إليهم في عسكره، فالتقوا بيغرى واقتتلوا قتالاً شديداً وأجلت المعركة عن انهزام الفرنج، وقتل كثير منهم، وأسر جماعة من مقدميهم، ولم ينج من ذلك الجمع إلا القليل؛ وأرسل من الغنيمة والأسارى إلى أخيه سيف الدين وإلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان مسعود وغيرهم.
وفي هذه الوقعة يقول ابن القيسراني في قصيدته التي أولها:
ياليت أن الصد مصدود ... أولا، فليت النوم مردود
ومنها في ذكر نور الدين:
وكيف لا نثني على عيشنا ال ... محمود والسلطان محمود
وصارم الإسلام لا ينثني ... إلا وشلو الكفر مقدود
مكارم لم تك موجودة ... إلا ونور الدين موجود
وكم له من وقعة يومها ... عند الملوك ، الكفر مشهود
ذكر ملك الغورية غزنة وعودهم عنهافي هذه السنة قصد سوري بن الحسين ملك الغور مدينة غزنة فملكها. وسبب ذلك أن أخاه ملك الغورية قبله محمد بن الحسين كان قد صاهر بهرام شاه مسعود بن إبراهيم، صاحب غزنة، وهو من بيت سبكتكين، فعظم شأنه بالمصاهرة، وعلت همته، فجمع جموعاً كثيرة وسار إلى غزنة ليملكها، وقيل: إنما سار إليها مظهراً الخدمة والزيارة، وهو يريد المكر والغدر، فعلم به بهرام شاه، فأخذه وسجنه، ثم قتله، فعظم قتله على الغورية ، ولم يمكنهم الأخذ بثأره.
ولما قتل ملك بعده أخاه سام بن الحسين، فمات بالجدري، وملك بعده أخوه الملك سوري بن الحسين بلاد الغور، وقوي أمره، وتمكن في ملكه، فجمع عسكره من الفارس ومن الراجل وسار إلى غزنة طالباً بثأر أخيه المقتول وقاصداً ملك غزنة، فلما وصل إليها ملكها في جمادى الأولى، سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
وفارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند ، وجمع جموعاً كثيرة ، وعاد إلى غزنة وعلى مقدمته السلار الحسن بن إبراهيم العلوي أمير هندوستان. وكان عسكر غزنة، الذين أقاموا مع سوري بن الحسين الغوري وخدموه، قلوبهم مع بهرام شاه، وإنما هم بظواهرهم مع سوري، فلما التقى سوري وبهررام شاه رجع عسكر غزنة إلى بهرام شاه وصاروا معه، وسلموا إلى سوري ملك الغورية، وملك بهرام شاه غزنة في المحرم سنة أربع وأربعين، وصلب الملك سوري مع السيد الماهياني في المحرم أيضاً من السنة.
وكان سوري أحد الأجواد، له الكرم الغزير، والمروءة العظيمة، حتى أنه كان يرمي الدراهم في المقاليع إلى الفقراء لتقع بيد من يتفق له.

ثم عاود الغورية وملكوها، وخربوها، وقد ذكرناه سنة سبع وأربعين وذكرنا هناك ابتداء دولة الغورية لأنهم في ذلك الوقت عظم محلهم، وفارقوا الجبال وقصدوا خراسان، وعلا شأنهم، وفي بعض الخلف كما ذكرناه، والله أعلم.
ذكر ملك الفرنج مدناً من الأندلس
في هذه السنة ملك الفرنج بالأندلس مدينة طرطوشة، وملكوا معها جميع قلاعها وحصون لاردة وأفراغة، ولم يبق للمسلمين في تلك الجهات شيء إلا واستولى الفرنج على جميعه لاختلاف المسلمين بينهم، وبقي بأيديهم إلى الآن.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي أبو بكر المبارك بن الكامل بن أبي غالب البغدادي المعروف أبوه بالخفاف، سمع الحديث الكثير وكان مفيد بغداد.
وفيها غلت الأسعار بالعراق وتعذرت الأقوات بسبب العسكر الوارد، وقدم أهل السواد إلى بغداد منهزمين قد أخذت أموالهم، وهلكوا جوعاً وعرياً، وكذلك أيضاً كان الغلاء في أكثر البلاد: خراسان، وبلاد الجبل، وأصفهان، وديار فارس، والجزيرة والشام، وأما المغرب فكان أشد غلاء بسبب انقطاع الغيث ودخول العدو إليها.
وفيها توفي إبراهيم بن نبهان الغنوي الرقي، ومولده سنة تسع وخمسين وأربعمائة، وصحب الغزالي والشاشي، وروى الجمع بين الصحيحين للحميدي عن مصنفه.
وفيها ، في ذي القعدة، توفي الأمام أبو الفضل الكرماني الفقيه الحنفي إمام خراسان.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة

ذكر وفاة سيف الدين بن أتابك زنكي
وبعض سيرته وملك أخيه قطب الدين
في هذه السنة توفي سيف الدين غازي بن أتابك زنكي صاحب الموصل بها بمرض حاد، ولما اشتد مرضه أرسل إلى بغداد واستدعى أوحد الزمان، فحضر عنده، فرأى شدة مرضه، فعالجه فلم ينجع فيه الدواء، وتوفي أواخر جمادى الأجرة، وكانت ولايته ثلاث سنين وشهراَ وعشرين يوماً؛ وكان حسن الصورة والشباب، وكانت ولادته سنة خمسمائة، ودفن بالمدرسة التي بناها بالموصل، وخلف ولداً ذكراً، فرباه عمه نور الدين محمود، وأحسن تربيته، وزوجه ابنة أخيه قطب الدين مودود، فلم تطل أيامه وتوفي في عنفوان شبابه، فانقرض عقبه.
وكان كريماً شجاعاً عاقلاً، وكان يصنع لعسكره كل يوم طعاماً كثيراً مرتين بكرة وعشية، فأما الذي بكرة فيكون مائة رأس غنم جيدة، وهو أول من حمل على رأسه السنجق، وأمر الأجناد ألا يركبوا إلا بالسيف في أوساطهم والدبوس تحت ركبهم، فلما فعل ذلك اقتدى به أصحاب الأطراف ، بني المدرسة الأتابكية العتيقة بالموصل، وهي من أحسن المدارس، ووقفها على الفقهاء الحنفية والشافعية، وبنى رباطاً للصوفية بالموصل أيضاً على باب المشرعة، ولم تطلأيامه ليفعل ما في نفسه من الخير، وكان عظيم الهمة، ومن جملة كرمه أنه قصده شهاب الدين الحيص بيص وامتدحه بقصيدته التي أولها:
إلام يراك المجد في زي شاعر ... وقد نحلت شوقاً فروع المنابر
فوصله بألف دينار عيناً سوى الخلع وغيرها.
ولما توفي سيف الدين غازي كان أخوه قطب الدين مقيماً بالموصل، فاتفق جمال الدين الوزير وزين الدين علي أمير الجيش على تمليكه، فأحضروه، واستحلفوه وحلفوا له، وأركبوه إلى دار السلطنة، وزين الدين في ركابه، وأطاعه جميع بلاد أخيه سيف الدين كالموصل والجزيرة والشام.
ولما ملك تزوج الخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش التي كان قد تزوجها أخوه سيف الدين وتوفي قبل الدخول بها، وهي أم أولاد قطب الدين : سيف الدين وعز الدين، وغيرهما من أولاده.
ذكر استيلاء نور الدين على سنجارلما ملك قطب الدين مودود الموصل بعد أخيه سيف الدين غازي كان أخوه الأكبر نور الدين محمود بالشام، وله حلب وحماة، فكاتبه جماعة من الأمراء وطلبوه، وفيمن كاتبه المقدم عبد الملك والد شمس الدين محمد، وكان حينئذ مسحفظاً بسنجار، فأرسل إليه يستدعيه ليتسلم سنجار، فسار جريدة في سبعين فارساً من أمراء دولته، فوصل إلى ماكسين في نفر يسير قد سبق أصحابه.
وكان يوماً شديد المطر، فلم يعرفهم الذي يحفظ الباب، فأخبر الشحنة أن نفر من التركمان المجندين قد دخلوا البلد، فلم يستتم كلامه حتى دخل نور الدين الدار على الشحنة، فقام إليه وقبل يده، ولحق به باقي أصحابه، ثم سار إلى سنجار، فوصلها وليس معه سوى ركابي وسلاح دار، ونزل بظاهر البلد

وأرسل إلى المقدم يعلمه بوصوله، فرآه الرسول وقد سار إلى الموصل وترك ولده شمس الدين محمداً بالقلعة، فأعلمه بمسير والده إلى الموصل، وأقام من لحق أباه بالطريق، فأعلمه بوصول نور الدين، فعاد إلى سنجار فسلمها إليه، فدخلها نور الدين، وأرسل إلى فخر الدين قرا أرسلان، صاحب الحصن، يستدعيه إليه لمودة كانت بينهما، فوصل إليه في عسكره؛ فلما سمع أتابك قطب الدين، وجمال الدين وزين الدين بالموصل بذلك جمعوا عساكرهم وساروا نحو سنجار، فوصلوا إلى تل يعفر، وترددت الرسل بينهم بعد أن كانوا عازمين على قصده بسنجار، فقال لهم جمال الدين: ليس من الرأي محاقته وقتاله، فإننا نحن قد عظمنا محله عند السلطان وما هو بصدده من الغزاة، وجعلنا أنفسنا دونه، وهو يظهر للفرنج تعظيماً وأنه تبعنا، ولا يزال يقول لهم: إن كنتم كما يجب، وإلا سلمت البلاد إلى صاحب الموصل وحينئذ يفعل بكم ويصنع، فإذا لقيناه، فأن هزمناه طمع السلطان فينا، ويقول: هذا الذي كانوا يعظمونه ويحتمون به أضعف منهم، وقد هزموه، وإن هو هزمنا طمع فيه الفرنج، ويقولون إن الذي كان يحتمي بهم أضعف منه، وقد هزمهم، وبالجملة فهو ابن أتابك الكبير.
وأشار بالصلح، وسار هو إليه فاصطلح وسلم سنجار إلى أخيه قطب الدين، وسلم مدينة حمص والرحبة بأرض الشام وبقي الشام له، وديار الجزيرة لأخيه، واتفقا، وعاد نور الدين إلى الشام، وأخذ معه ما كان قد ادخره أبوه أتابك الشهيد فيها من الخزائن وكانت كثيرة جداً.
ذكر وفاة الحافظ وولاية الظافر

ووزارة ابن السلار
في هذه الستة، في جمادى الآخرة، توفي الحافظ لدين الله عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر. وكانت خلافته عشرين ستة إلا خمسة أشهر، وعمره نحو من سبع وسبعين سنة، ولم يزل في جميعها محكوماً عليه، يحكم عليه وزراؤه، حتى إنه جعل أبنه حسناً وزيراً وولي عهده فحكم عليه واستبد بالأمر دونه، وقتل كثيراً من أمراء دولته وصادر كثيراً، فلما رأى الحافظ ذلك سقاه سماً فمات، وقد ذكرناه.
ولم يل الأمر من العلويين المصريين من أبوه غير خليفة غير الحافظ العاضد، وسيرد ذكر نسب العاضد؛ وولي الخلافة بعده في مصر ابنه الظافر بأمر الله أبو منصور إسماعيل بن عبد المجيد الحافظ، واستوزر ابن مصال، فبقي أربعين يوماً يدبر الأمور، فقصده العادل بن السلار من ثغر الأسكندرية، ونازعه في الوزارة، وكان ابن مصال قد خرج من القاهرة في طلب بعض المفسدين من السودان، فحلفه العادل بالقاهرة وصار وزيراً.
وسير عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي في عسكر وهو ربيب العادل، إلى ابن مصال، فظفر به وقتله، وعاد إلى القاهرة، واستقر العادل وتمكن، ولم يكن للخليفة معه حكم.
وأما سبب وصول عباس إلى مصر فإن جده يحيى أخرج أباه أبا الفتوح من المهدية، فلما توفي يحيى وولي بعده بلاد إفريقية ابنه علي بن يحيى بن تميم بن يحيى صاحب إفريقية، أخرج أخاه أبا الفتوح بن يحيى والد عباس من إفريقية سنة تسع وخمسمائة، فسار إلى الديار المصرية ومعه زوجته بلارة ابنة القاسم بن تميم بن المعز بن باديس، وولده عباس هذا وهو صغير يرضع؛ ونزل أبو الفتوح بالأسكندرية فأرم وأقام بها مدة يسيرة، وتوفي وتزوجت بعده امرأته بلارة بالعدل بن السلار.
وشب العباس، وتقدم عند الحافظ، حتى ولي الوزارة بعد العادل؛ فأن العادل قتل في المحرم سنة ثمان وأربعين. قيل: وضع عليه عباس من قتله، فلما قتل ولي الوزارة بعده، وتمكن فيها، وكان جلداً حازماً، ومع هذا أخذ الفرنج في أيامه عسقلان، واشتد وهن الدولة بذلك؛ وفي أيامه أخذ نور الدين محمود دمشق من مجير الدين آبق، وصار الأمر بعد هذا إلى إن أخذت مصر منهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عود جماعة من الأمراء إلى العراقفي هذه السنة، في رجب، عاد البقش كون خر والطرنطاي وابن دبيس ومعهم ملكشاه ابن السلطان محمود إلى العراق، وراسلوا الخليفة في الخطبة لملكشاه، فلم يلتفت إليهم وجمع العساكر وحصن بغداد، وأرسل إلى السلطان مسعود يعرفه الحال، فوعده بالوصول إلى بغداد ولم يحضر.

وكان سبب ذلك ما ذكرناه من وصول عمه السلطان سنجر إلى الريفي معنى خاص بك، فلما وصل إلى الري سار إليه السلطان مسعود، ولقيه واسترضاه، فرضي عنه؛ فلما علم البقش بمراسلة الخليفة إلى مسعود نهب النهروان، وقبض على الأمير علي بن دبيس في رمضان، فلما علم الطرنطاي بذلك هرب إلى النعمانية.
ووصل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف شوال، ورحل البقش كون خر من النهروان، وأطلق علي بن دبيس، فلما وصل السلطان إلى بغداد قصده علي، وألقى بنفسه بين يديه واعتذر، فرضي عنه. وذكر بعض المؤرخين هذه الحادثة سنة أربع وأربعين، وذكر أيضاً مثلها سنة ثلاث وأربعين، فظنهما حادثتين، وأنا أظنها واحدة ولكنا تبعناه في ذلك ونبهنا عليه.
ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية وهزيمة الفرنجفي هذه السنة غزا نور الدين محمود بن زنكي بلاد الفرنج من ناحية أنطاكية، وقصد حصن حارم، وهو للفرنج، فحصره وخرب ربضه، ونهب سواده، ثم رحل إلى حصن أنب فحصره أيضاً، فاجتمع الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وحارم وتلك الأعمال، وساروا إلى نور الين ليرحلوه عن إنب، فلقيهم واقتتلوا قتالاً عظيماً.
وباشر نور الدين القتال ذلك اليوم، فانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم جمع كثير، وأسر مثلهم.
وكان ممن قتل البرنس صاحب أنطاكية، وكان عاتياً من عتاة الفرنج وعظيماً من عظمائهم، ولما قتل البرنس ملك بعده ابنه بيمند، وهو طفل، فتزوجت أمه ببرنس أخر ليدبر البلد إلى أن يكبر أبنها، وأقام معها بأنطاكية.
ثم إن نور الدين غزاهم غزوة أخرى، فاجتمعوا ولقوه، فهزمهم وقتل فيهم وأسر، وكان فيمن أسر البرنس الثاني زوج أم بيمند، فتمكن حينئذ بيمند بأنطاكية؛ وأكثر الشعراء بمديح نور الدين وتهنئته بهذا الظفر، فإن قتل البرنس كان عظيماً عند الطائفتين؛ وممن قال فيه القيسراني في قصيدته المشهورة التي أولها:
هذي العزائم لا ما تدعي القضب ... وذي المكارم لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم االلاتي متى خطبت ... تعثرت خلفها الأشعار والخطب
صافحت ياابن عماد الدين ذروتها ... براحة للمساعي دونها تعب
مازال جدك يبني كل شاهقة ... حتى بنى قبة أوتادها الشهب
أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة ... فؤاد رومية الكبرى لها يجب
ضربت كبشهم منها بقاصمة ... أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب
طهرت أرض الأعادي من دمائهم ... طهارة كل سيف عندها جنب
ذكر الخلف بين صاحب صقلية وملك الرومفي هذه السنة اختلف رجار الفرنجي صاحب صقلية وملك القسطنطينية، وجرى بينهما حروب كثيرة دامت عدة سنين، فاشتغل بعضهم ببعض عن المسلمين، ولولا ذلك لملك رجار جميع بلاد إفريقية.
وكان القتال بينهم براً وبحراً، والظفر في جميع ذلك لصاحب صقلية، حتى إن أسطوله، في بعض السنين، وصل إلى مدينة القسطنطينية، ودخل فم الميناء، وأخذوا عدة شوان من الروم، وأسروا جمعاً منهم؛ ورمى الفرنج طاقات قصر الملك بالنشاب، وكان الذي يفعل هذا بالروم والمسلمين جرجي وزير صاحب صقلية، فمرض عدة أمراض منها البواسير والحصى، ومات سنة ست وأربعين وخمسمائة، فسكنت الفتنة، واستراح الناس من شره وفساده، ولم يكن عند صاحب صقلية من يقوم مقامه بعده.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة زلزلت الأرض زلزلة عظيمة، فقيل أن جبلاً مقابل حلوان ساخ في الأرض.
وفيها ولي أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزارة الخليفة المقتفي لأمر الله، وكان قبل ذلك صاحب ديوان الزمام، وظهر له كفاية عظيمة عندما نزل العساكر بظاهر بغداد، وحسن قيام في ردهم، فرغب الخليفة فيه، فاستوزره يوم الأربعاء رابع ربيع الآخر سنة أربع وأربعين، وكان القمر على تربيع زحل، فقيل له: لو أخرت لبس الخلعة لهذه التربيعات؟ فقال: وأي سعادة أكبر من وزارة الخليفة؟ ولبسها ذلك اليوم.
وفيها، في المحرم، توفي قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي، وولي القضاء عماد الدين أبو الحسن علي بن أحمد الدامغاني.
وفيها، في المحرم، رخصت الأسعار بالعراق، وكثرت الخيرات، وخرج أهل السواد إلى قراهم.

وفيها توفي الأمير نظر أمير الحاج، وكان قد سار بالحاج إلى الحلة، فمرض واشتد مرضه، واستخلف على الحاج قايماز الأرجواني، وعاد إلى بغداد مريضاً، فتوفي في ذي القعدة، وكان خصياً عاقلاً خيراً له معروف كثير وصدقات وافرة.
وفيها توفي أحمد بن نظام الملك الذي كان وزير السلطان محمد والمسترشد بالله.
وفيها توفي علي بن رافع بن خليفة الشيباني، وهو من أعيان خراسان، وله مائة وسبع سنين شمسية.
ومات الإمام مسعود الصوابي في المحرم منها وفيها توفي معين الدين أنر نائب أبق صاحب دمشق، وهو كان الحاكم والأمر إليه، وكان أبق صورة أمير لا معنى تحتها.
وفيها توفي القاضي أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني أبو بكر قاضي تستر، وله شعر حسن فمنه قوله:
ولما بلوت الناس أطلب عندهم ... أخاً ثقة عند اعتراض الشدائد
تطلعت في حالي رخاء وشدة ... وناديت في الأحياء: هل من مساعد
فلم أر فيما ساءني غير شامت ... ولم أر فيما سرني غير حاسد
تمتعتما ياناظري بنظرة ... وأوردتما قلبي أمر الموارد
أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد
وفيها توفي أبو عبد الله عيسى بن هبة الله بن عيسى البزاز، وكان ظريفاً، وله شعر حسن؛ كتب إليه صديق له رقعة وزاد في خطابه فأجابه:
قد زدتني في الخطاب حتى ... خشيت نقصاً من الزيادة
فاجعل خطابي خطاب مثلي ... ولا تغير علي عاده
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة

ذكر أخذ العرب الحجاج
في هذه السنة، رابع عشر المحرم، خرج العرب، زعب ومن انضم إليها، على الحجاج بالغرابي، بين مكة والمدينة، فأخذوهم ولم يسلم منهم إلا القليل.
وكان سبب ذلك أن نظر أمير الحاج لما عاد من الحلة على ما ذكرناه وسار على الحاج قايماز الأرجواني، وكان حدثاً غراً، سار بهم إلى مكة، فلما رأى أمير مكة قايماز استصغره وطمع في الحاج، وتلطف قايماز الحال معه إلى أن عادوا.
فلما سار عن مكة سمع باجتماع العرب، فقال للحاج: المصلحة أنا لا نمضي إلى المدينة؛ وضج العجم وتهدده بالشكوى منه إلى السلطان سنجر ، فقال لهم: فأعطوا العرب مالاً نستكف به شرهم! فامتنعوا من ذلك، فسار بهم إلى الغرابي، وهو منزل يخرج إليه من مضيق بين جبلين، فوقفوا على فم مضيق، وقاتلهم قايماز ومن معه، فلما رأى عجزه أخذ لنفسه أماناً، وظفروا بالحجاج، وغنموا أموالهم وجميع ما عندهم، وتفرق الناس في البر، وهلك منهم خلق كثير لا يحصون كثرة، ولم يسلم إلا القليل، فوصل بعضهم إلى المدينة وتحملوا منها إلى البلاد، وأقام بعضهم مع العرب حتى توصل إلى البلاد.
ثم إن الله تعالى انتصر للحاج من زعب فلم يزالوا في نقص وذلة، ولقد رأيت شاباً منهم بالمدينة سنة ست وسبعين وخمسمائة، وجرى بيني وبينه مفاوضة قلت له فيها: إنني والله كنت أميل إليك حتى سمعت أنك من زعب فنفرت وخفت شرك. فقال: ولم؟ فقلت: بسبب أخذكم الحاج. فقال لي: أنل لم أدرك ذلك الوقت، وكيف رأيت الله صنع بنا؟ والله ما أفلحنا، ولا نجحنا، قل العدد وطمع العدو فينا.
ذكر فتح حصن فاميافي هذه السنة فتح نور الدين محمود ابن الشهيد زنكي حصن فاميا من الفرنج وهو مجاور شيزر وحماة على تل عال من أحصن القلاع وأمنعها، فسار إليه نور الدين وحصره وبه الفرنج وقاتلهم وضيق على من به منهم، فاجتمع من الشام من الفرنج وساروا نحوه ليرحلوه عنهم فلم يصلوا إلا وقد ملكه وملأه ذخائر وسلاحاً ورجالاً وجميع ما يحتاج إليه، فلما بلغه مسير الفرنج إليه، رحل عنه وقد فرغ من أمر الحصن وسار إليهم يطلبهم، فحين رأوا أن الحصن قد ملك وقوة عزم نور الدين على لقائهم عدلوا عن طريقه ودخلوا بلادهم وراسلوه في المهادنة وعاد سالماً مظفراً ومدحه الشعراء وذكروا هذا الفتح، فمن ذلك قول ابن الرومي من قصيدة أولها:
أسنى الممالك ما أطلت منارها ... وجعلت مرهفة الدسار دسارها
وأحق من ملك البلاد وأهلها ... رؤف تكنف عدله أقطارها
ومنها في وصف الحصن:
أدركت ثأرك في البغاة وكنت يا ... مختار أمة أحمد مختارها

طابت نجومك فوقها ولربما ... باتت تنافثها النجوم سرارها
عارية الزمن المعير شمالها ... منك المعيرة واسترد معارها
أمست مع الشعري العبور وأصبحت ... شعراء تستغلي الفحول شوارها
وهي طويلة.
ذكر حصر الفرنج قرطبة ورحيلهم عنهافي هذه السنة سار السليطين، وهو الأذوفونش، وهو ملك طليطلة وأعمالها، وهو من ملوك الجلالقة، نوع من الفرنج، في أربعين ألف فارس إلى مدينة قرطبة، فحصرها، وهي في ضعف وغلاء، فبلغ الخبر إلى عبد المؤمن وهو في مراكش، فجهز عسكراً كثيراً، وجعل مقدمهم أبا ذكرياء يحيى بن يرموز ونفذهم إلى قرطبة، فلما قربوا منها لم يقدروا أن يلقوا عسكر السليطين في الوطاء وأرادوا الاجتماع بأهل قرطبة ليمنعوها لخطر العاقبة بعد القتال، فسلكوا الجبال الوعرة والمضايق المتشعبة، فساروا نحو خمسة وعشرين يوماً في الوعر في مسافة أربعة أيام في السهل، فوصلوا إلى جبل مطل على قرطبة، فلما رآهم السليطين وتححق أمرهم رحل عن قرطبة.
وكان فيها القائد أبو الغمرالسائبمن ولد القائد ابن غلبون، وهو من أبطال أهل الأندلس وأمرائها فلما رحل الفرنج خرج منها لوقته وصعد إلى ابن يرموز، وقال له:انزلوا عاجلاً وادخلوا البلد؛ ففعلوا، وباتوا فيها، فلما أصبحوا من الغد رأوا عسكر السليطين على رأس الجبل الذي كان فيه عسكر عبد المؤمن، فقال لهم أبو الغمر: هذا الذي خفته عليكم لأني علمت أن السليطين ما أقلع إلا طالباً لكم، فإن من الموضع الذي كان فيه إلى الجبل طريقاً سهلة، ولو لحقكم هناك لنال مراده منكم ومن قرطبة، فلما رأى السليطين أنهم قد فاتوه علم أنه لم يبق له طمع في قرطبة، فرحل عائداً إلى بلاده، وكان حصره لقرطبة ثلاثة أشهر، والله أعلم.
ذكر ملك الغورية هراةفي هذه السنة سار ملك الغور الحسن بن الحسين من بلاد الغور إلى هراة فحصرها، وكان أهلها قد كاتبوه، وطلبوا ان يسلموا إليه البلد هرباً من ظلم الأتراك لهم، وزوال هيبة السلطنة عنهم، فامتنع أهل هراة عليه ثلاثة أيام، ثم خرجوا إليه وسلموا البلد وأطاعوه، فأحسن إليهم، وأفاض عليهم النعم، وغمرهم بالعدل، وأظهر طاعة السلطان سنجر والقيام على الوفاء له والأنقياد إليه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أمر علاء الدين محمود بن مسعود، الغالب على أمر طريثيث التي بيد الإسماعيلية، بإقامة الخطبة للخليفة، ولبس السواد، ففعل الخطيب ذلك، فثار به عمه وأقاربه ومن وافقهم، وقاتلوه ، وكسروا المنبر وقتلوا الخطيب.
وكان فعل علاء الدين هذا لأن أباه كان مسلماً، فلما تغلب الإسماعيلية على طريثيث أظهر موافقتهم، وأبطن اعتقاد الشريعة، وكان يناظر على مذهب الشافعي، وازداد تقدماً بطريثيث وجرت أمورها بإرادته؛ فلما حضره الموت أوصى أن يغسله فقيه شافعي، وأوصى إلى ابنه علاء الدين، إن أمكنه أن يعيد فيها إظهار شريعة الإسلام فعل. فلما رأى من نفسه قوة فعله فلم يتم له.
وفيها كثر المرض بالعراق لا سيما بغداد، وكثر الموت أيضاً فيها، ففارقها السلطان مسعود.
وفيها توفي الأمير علي بن دبيس بن صدقة صاحب الحلة بأسدباد، واتهم طبيبه محمد بن صالح بالمواطأة عليه، فمات الطبيب بعده بقريب.وفيها استوزر عبد المؤمن صاحب بلاد المغرب أبا جعفر بن أبي أحمد الأندلسي، وكان ماسوراً عنده، فوصف له بالعقل وجودة الكتابة، فأخرجه من الحبس واستوزره، وهو أول وزير كان للموحدين.
وفي هذه السنة، في المحرم، جلس يوسف الدمشقي مدرساً في النظامية ببغداد، وكان جلوسه بغير أمر الخليفة، فمنع، يوم الجمعة، من دخول الجامع، فصلى في جامع السلطان ومنع من التدريس، فتقدم السلطان مسعود إلى الشيخ أبي النجيب بأن يدرس فيها، فامتنع بغير أمر الخليفة، فاستخرج السلطان إذن الخليفة في ذلك، فدرس منتصف المحرم من السنة.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن علي مهران الفقيه الشافعي، تفقه على الهراسي، و ولي قضاء نصيبين، ثم ترك القضاء وتزهد فأقام بجزيرة ابن عمر، ثم انتقل إلى جبل ببلد الحصن، في زاوية ، وكان له كرامات ظاهرة.

وفيها مات الحسن بن ذي النون بن أبي القاسم بن أبي الحسن المسعري أبو المفاخر النيسابوري، سمع الحديث، سمع الحديث الكثير، وكان فقيهاً دائم الأشغال يعظ الناس، وكان مما ينشد:
مات الكرام وولوا وانقضوا ومضوا ... ومات من بعدهم تلك الكرامات
وخلفوني في قوم ذوي سفه ... لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا
ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة

ذكر انهزام نور الدين من جوسلين
وأسر جوسلين بعد ذلك
في هذه السنة جمع نور الدين محمود عسكره وسار إلى بلاد جوسلين الفرنجي، وهي شمالي حلبن منها تل باشر، وعين تاب، وإعزاز وغيرها، وعزم على محاصرتها وأخذها، وكان جوسلين لعنه الله، فارس الفرنج غير مدافع، قد جمع الشجاعة والرأي، فلما علم بذلك جمع الفرنج فأكثر، وسار نحو نور الدين فالتقوا واقتتلوا، فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر جمع كثير، وكان في جملة من أسر سلاح دار نور الدين، فأخذه جوسلين، ومعه سلاح نور الدين، فسيره إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان، صاحب قونية، وأقصرا، وقال له : هذا سلاح زوج ابنتك، وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه.
فلما علم نور الدين الحال عظم عليه ذلك، وأعمل الحيلة على جوسلين، وهجر الراحة ليأخذ بثأره، وأحضر جماعة من أمراء التركمان، وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين وسلموه إليه إما قتيلاً أو أسيراً لأنه علم أنه متى قصده بنفسه احتمى بجموعه وحصونه، فجعل التركمان عليه العيون،فخرج متصيداً، فلحقت به طائفة منهم وظفروا به فأخذوه أسيراً، فصانعهم على مال يؤديه إليهم، فأجابوه إلى إطلاقه إذا حضر المال، فأرسل في إحضاره،فمضى بعضهم إلى أبو بكر بن الداية، نائب نور الدين بحلب، فأعلمه الحال، فسير عسكراً معه، فكسبوا أولئك التركمان وجوسلين معهم، فأخذوه أسيراً وأحضروه عنده، وكان أسره من أعظم الفتوح لأنه كان شيطاناً عاتياً، شديداً على المسلمين، قاسي القلب، وأصيبت النصرانية كافة بأسره.
ولما أسر سار نور الدين إلى قلاعه فملكها، وهي تل باشر، وعين تاب، وإعزاز، وتل خالد، وقورس، والراوندان،وبرج الرصاص، وحصن البارة، وكفرسود، وكفرلاثا، ودلوك، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك من أعماله، في مدة يسيرة يرد تفصيلها.
وكان نور الدين كلما فتح منها حصناً نقل إليه من كل ما تحتاج إليه الحصون، خوفاً من نكسة تلحق بالمسلمين من الفرنج، فتكون بلادهم غير محتاجة إلى ما يمنعها من العدو؛ ومدحه الشعراء، فممن قال فيه القيسراني من قصيدة في ذكر جوسلين:
كما أهدت الأقدار للقمص أسره ... وأسعد قرن من حواه لك اسر
طغى وبغى عدواً على غلوائه ... فأوبقه الكفران عدواه والكفر
وأمست عزاز كاسمها بك عزة ... تشق على النسرين لو أنها وكر
فسر واملإ الدنيا ضياء وبهجة، ... فبالأفق الداجي إلى ذا السنة قفر
كأني بهذا العزم لا فل حده ... وأقصاه بالأقصى وقد قضي الأمر
وقد أصبح البيت المقدس طاهراً ... وليس سوى جاري الماء له طهر
ذكر حصر غرناطة والمرية من بلاد الأندلسفي هذه السنة سير عبد المؤمن جيشاً كثيفاً، نحو عشرين ألف فارس، إلى الأندلس مع أبي حفص عمر بن أبي يحيى الهنياتي، وسير معهم نساءهم، فكن يسرن مفردات عليهن البرانس السود، ليس معهن غير الخدم، ومتى قرب منهن رجل ضرب بالسياط.
فلما قطعوا الخليج ساروا إلى غرناطة وبها جمع المرابطون، فحصرها عمر وعسكره، وضيقوا عليها، فجاء إليه أحمد بن ملحان، صاحب مدينة آش وأعمالها، بجماعته، ووحدوا، وصاروا معه، وأتاهم إبراهيم ابن همشك ابن مردنيش، صاحب جيان، وأصحابه، ووحدوا، وصاروا أيضاً معه، فكثر جيشه، وحرضوه على المسارعة إلى ابن مردينش، ملك بلاد شرق الأندلس، ليبغته بالحصار قبل أن يتجهز.

فلما سمع ابن مردنيش ذلك خاف على نفسه، فأرسل إلى ملك برشلونة، من بلاد الفرنج، يخبره، ويستنجده، ويستحثه على الوصول إليه، فسار إليه الفرنجي في عشرة آلاف فارس، وسار عسكر عبد المؤمن، فوصلوا إلى حمة بلقوارة، وبينها وبين مرسية، التي هي مقر ابن مردنيش، مرحاة، فسمعوا بةصول الفرنج، فرجع وحصر مدينة المرية، وهي للفرنج، عدة شهور، فاشتد الغلاء بالعسكر، وعدمت الأقوات، فرحلوا عنها وعادوا إلى إشبيلية فأقاموا بها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي العبادي الواعظ، واسمه المظفر ابن أردشير، بخوزستان، وكان الخليفة المقتفي أمر اللهقد سيره في رسالة إلى الملك محمد ابن السلطان محمود ليصلح بينه وبين الحويزي، فتوفي هناك وجلس ولده ببغداد للعزاء، وأقيم بحاجب من الديوان العزيز.
وكان يجلس ويعظ ويذكر والده ويبكي هو والناس كافة، ونقل العبادي إلى بغداد ودفن بالشويزي، ومولد سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وسمع الحديث من أبي بكر الشيروي، وزاهر الشحامي وغيرهما، ورواه.
وفيها انفجر بثق النهروان الذي أتمه بهروز بكثرة الزيادة في تامرا وإهمال أمرها، حتى عظم ذلك وتضرر به الناس.
وفيها سار الأمير قجق في طائفة من عسكر السلطان سنجر إلى طريثيث بخراسان، وأغار على بلاد الإسماعيلية، فنهب، وسبى وخرب، وأحرق المساكن، وفعل بهم أفاعيل عظيمة وعاد سالماً.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة

ذكر ملك عبد المؤمن بجاية وملك بني حماد
في هذه السنة سار عبد المؤمن بن علي إلى بجاية وملكها، وملك جميع ممالك بني حماد. وكان لما أراد قصدها سار من مراكش إلى سبتة سنة ست وأربعين، فأقام مدة يعمر الأسطول، ويجمع العساكر القريبة منه.
وأما ما هو على طريقه إلى بجاية من البلاد، فكتب إليهم ليتجهزوا ويكونوا على الحركة أي وقت طلبهم، والناس يظنون أنه يريد العبور إلى الأندلس، فأرسل في قطع السابلة عن بلاد شرق المغرب براً وبحراً.
وسار من سبتة في صفر سنة سبع وأربعين، فأسرع السير وطوى المراحل، والعساكر تلقاه في طريقه، فلم يشعر أهل بجاية إلا وهو في أعمالها، وكان ملكها يحيى بن العزيز بن حماد آخر ملوك بني حماد، وكان مولعاً بالصيد واللهم لا ينظر في شيء من أمور مملكته ، قد حكم فيها بني حمدون، فلما اتصل الخبر بميمون بن حمدون جمع العساكر وسار عن بجاية نحو عبد المؤمن، فلقيهم مقدمته، وهو يزيد على عشرين ألف فارس، فانهزم أهل بجاية من غير قتال، ودخلت مقدمة عبد المؤمن بجاية قبل وصول عبد المؤمن بيومين، وتفرق جميع عسكر يحيى بن عبد العزيز، وهبوا براً وبحراً، وتحصن يحيى بقلعة قسنطينة الهواء، وهرب أخواه الحارث وعبد الله إلى صقلية، ودخل عبد المؤمن بجاية، وملك جميع بلاد ابن العزيز بغير قتال.
ثم إن يحيى نزل إلى عبد المؤمن بالأمان، فأمنه، وكانيحيى قد فرح لما أخذت بلاد إفريقية من الحسن بن علي فرحاُ ظهر عليه، فكان يذمه، ويذكر معايبه، فلم تطل المدة حتى أخذت بلاده، ووصل الحسن بن علي إلى عبد المؤمن في جزائر بني مزغنان، وقد ذكرنا سنة ثلاث وأربعين سبب مصيره إليها، واجتمعا عنده، فأرسل عبد المؤمن يحيى ابن العزيز إلى بلاد المغرب، وأقام بها، وأجرى عليه شيئاً كثيراً.
وأما الحسن بن علي فإنه أحسن إليه، وألزمه صحبته، وأعلى مرتبته، فلزمه إلى أن فتح عبد المؤمن المهدية فجعله فيها، وأمر واليها أن يقتدي برأيه ويرجع إلى قوله.
ولما فتح عبد المؤمن بجاية لم يتعرض إلى مال أهلها ولا غيره، وسبب ذلك أن بني حمدون استأمنوا فوفى بأمانه.
ذكر ظفر المؤمن بصنهاجةلما ملك عبد المؤمن بجاية تجمعت صنهاجة في أمم لا يحصيها إلا الله تعالى، وتقدم عليهم رجل اسمه ابو قصبة، واجتمع معهم من كتامة ولواتة وغيرهما خلق كثير، وقصدوا حرب عبد المؤمن، فأرسل إليهم جيشاً كثيراً، ومقدمهم ابو سعيد يخلف، وهو من الخمسين، فالتقوا في عرض الجبلن شرقي بجاية، فانهزم أبو قصبة وقتل أكثر من معه، ونهبت اموالهم، وسبيت نسائهم وذراريهم.

ولما فرغوا من صنهاجة ساروا إلى قلعة بني حماد، وهي من أحصبن القلاع وأعلاها لا ترام، على رأس جبل شاهق يكاد الطرف لا يحققها لعلوها، ولكن القدر إذا جاء لا يمنع منه معقل ولا جيوش، فلما رأى أهلها عساكر الموحدين هربوا منها في رؤوس الجبال، وملكت القلعة، وأخذ جميع ما فيها من مال وغيره وحمل إلى عبد المؤمن فقسمه.
ذكر وفاة السلطان مسعود

وملك ملكشاه محمد بن محمود
في هذه السنة، أول رجب، توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمذان، وكان مرضه حمى حادة نحو أسبوع، وكان مولده سنة اثنتين وخمسمائة في ذي القعدة، ومات معه سعادة البيت الجوقي لم يقم له بعده راية يعتد بها ولا يلتفت إليها:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وكان رحمه الله حسن الأخلاق، كثير المزاح والانبساط مع الناس، فمن ذلك أن أتابك زنكي، صاحب الموصل، أرسل إليه القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري في رسالة، فوصل إليه وأقام معه في العسكر، فوقف يوماً على خيمة الوزير، حتى قارب أذان المغرب، فعاد إلى خيمته، فأذن المغرب وهو في الطريق، فرأى أنساناً فقيهاً في خيمة، فنزل إليه فصلى معه المغرب، ثم سأله كمال الدين من أين هو؟ فقال: أنا قاضي مدينة كذا. فقال له كمال الدين: القضاة ثلاثة قاضيان في النار، وهو أنا وأنت، وقاض في الجنة وهو من لم يعرف أبواب هؤلاء الظلمة ولا يراهم؛ فلما كان الغد أرسل السلطان وأحضر كمال الدين إليه،فلما دخل عليه ورآه ضحك وقال: القضاة ثلاثة. فقال كمال الدين: نعم يا مولانا. فقال: والله صدقت، ما أسعد من لا يرانا ولا نراه! ثم أمر أن تقضى حاجته وأعاده من يومه.وكان كريماً عفيفاً عن الأموال التي للرعايا، حسن السيرة فيهم، من أصلح السلاطين سيرة وألينهم عريكة، سهل الأخلاق لطيفاً، فمن ذلك أنه أجتاز يوماً في بعض أطراف بغداد، فسمع امرأة تقول لأخرى: تعالي انظري إلى السلطان؛ فوقف وقال: حتى تجيء هذه الست تنظر إلينا.
وله فضائل كثيرة ومناقب جمة، وكان عهد إلى ملكشاه ابن أخيه السلطان محمود، فلما توفي خطب لم الأمير خاص بك بن بلنكري بالسلطنة، ورتب الأمور، وقررها بين يديه، وأذعن له جميع العسكر بالطاعة.
ولما وصل الخبر إلى بغداد بموت السلطان مسعود هرب الشحنة بها، وهو مسعود بلال، إلى تكريت، واستظهر الخليفة المقتفي لأمر الله على داره، ودور أصحاب السلطان ببغداد، وأخذ كل ما لهم فيها، وكل من كان عنده وديعة لأحد منهم أحضرها بالديوان، وجمع الخليفة الرجال والعساكر وأكثر التجنيد، وتقدم بإراقة الخمور من مساكن أصحاب السلطان، ووجد في دار مسعود بلال، شحنة بغداد، كثير من الخمر، فأريق، ولم يكن الناس يظنون أنه شرب الخمر بعد الحج، وقبض على المؤيد الألوسي الشاعر، وعلى الحيص بيص الشاعر، ثم أطلق الحيص بيص، وأعيد عليه ما أخذ منه.
ثم إن السلطان ملكشاه سير سلار كرد في عسكر إلى الحلة، فدخلها، فسار إليه مسعود بلال ، شحنة بغداد، وأظهر له الأتفاق معه، فلما اجتمعا قبض عليه مسعود بلال وغرقه، واستبد بالحلة، فلما علم الخليفة ذلك سير العساكر إليه مع الوزير عون الدين بن هبيرة، فسار إليه، فلما قاربوا الحلة عبر مسعود بلال الفرات إليهم وقاتلهم، فانهزم من عسكر الخليفة، ونادى أهل الحلة بشعار الخليفة، فلم يدخلها، وتمت الهزيمة عليه وعلى أصحابه، فعاد إلى تكريت، وملك عسكر الخليفة الحلة، وسير الوزير عسكراً إلى الكوفة وعسكراً إلى واسط، فملكوها.
ثم إن عساكر السلطان وصلت إلى واسط، ففارقها عسكر الخليفة، فلما سمع الخليفة ذلك تجهز بنفسه وسار عن بغداد إلى واسط، ففارقها العسكر السلطاني، وملكها الخليفة، وسار منها إلى الحلة، ثم عاد إلى بغداد، فوصلها تاسع عشر ذي القعدة، وكانت غيبته خمسة وعشرين يوماً.
ثم إن خاص بك بن بلنكري قبض على الملك ملك شاه الذي خطب له بالسلطنة بعد مسعود، وأرسل إلى أخيه الملك محمد سنة ثمان وأربعين وهو بخوزستان يستدعيه، وكان قصده أن يحضر عنده فيقبضه ويخطب لنفسه بالسلطنة، فسار الملك محمد إليه، فلما وصل أجلسه على تخت السلطنة أوائل صفر، وخطب له بالسلطنة، وخدمه، وبالغ في خدمته، وحمل له هدايا عظيمة جليلة المقدار.

ثم إنه دخل الملك محمد ثاني يوم وصوله، فقتله محمد، وقتل معه زنكي الجاندار، وألقى برأسيهما، فتفرق أصحابهما، ولم ينتطح فيها عنزان، وكان إيدغدي التركماني المعروف بشملة مع خاص بك، فنهاه عن الدخول إلى الملك محمد، فلم ينته، فقتل ونجا شملة، فنهب جشير الملك محمد، ومضى طالباً خوزستان، وأخذ محمد من أموال خاص بك شيئاً كثيراً واستقر محمد في السلطنة وتمكن، وبقي خاص بك ملقى حتى أكلته الكلاب؛ وكان صبياً تركمانياً اتصل بالسلطان مسعود، فتقدم على سائر الأمراء وكان هذا خاتمة أمره.
ذكر الحرب بين نور الدين محمود والفرنجفي هذه السنة تجمعت الفرنج، وحشدت الفارس والراشد، وساروا نحو نور الدين، وهو ببلاد جوسلين، ليمنعوه عن ملكها، فوصلوا إليه وهو بدلوك، فلما قربوا منه رجع إليهم ولقيهم، وجرى المصاف بينهم عند دلوك، واقتتلوا أشد قتال رآه الناس، وصبر الفريقان، ثم انهزم الفرنج، وقتل منهم وأسر كثير، وعاد نور الدين إلى دلوك، فملكها واستولى عليها، ومما قيل في ذلك:
أعدت بعصرك هذا الأني ... ق فتوح النبي وأعصارها
فواطأت يا حبذا حديها ... وأسررت من بدر أبدارها
وكان مهاجرها تابعي ... ك وأنصار رأيك أنصارها
فجددت إسلام سلمانها ... وعمر جدك عمارها
وما يوم إنب إلا كذا ... ك بل طال بالبوع أشبارها
صدمت عزيمتها صدمة ... أذابت مع الماء أحجارها
وفي تل باشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها
وإن دالكتهم دلوك فقد ... شددت فصدقت أخبارها
ذكر الحرب بين سنجر والغوريةفي هذه السنة كان بين السلطان سنجر والغورية حرب، وكانت دولتهم أول ما قد ظهرت، وأول من ملك منهم رجل أسمه الحسين بن الحسين ملك جبال الغور ومدينة فيروز كوه، وهي تقارب أعمال غزنة، وقوي أمره، وتلقب بعلاء الدين، وتعرض إلى أعمال؛ ثم جمع جيشاً عظيماً وقصد هراة محاصراً لها، فنهب عسكره ناب وأوبة ومارباج من هراة والروز، وسار إلى بلخ وحصرها، فقاتله الأمير قماج، ومعه جمع من الغز، فغدروا به، وصاروا مع الغوري فملك بلخ، فلما سمع السلطان سنجر بذلك سار إليه ليمنعه، فثبت له علاء الدين، واقتتلوا، فانهزم الغورية، وأسر علاء الدين، وقتل من الغورية خلق كثير ، لاسيما الرجالة، وأحضر السلطان سنجر علاء الدين بين يديه، وقال له يا حسين لو ظفرت بي ما كنت تفعل بي؟ فأخرج له قيد فضة وقال: كنت أقيدك بهذا وأحملك إلى فيروز كوه؛ فخلع عليه سنجر ورده إلى فيروز كوه فبقي بها مدة.
ثم إنه قصد غزنة وملكها حينئذ بهرام شاه بن إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين فلم يثبت بها بين يدي علاء الدين، بل فارقها إلى كرمان، وهي مدينة بين غزنة والهند وسكانها قوم يقال لهم أبغان، وليست هذه بالولاية المعروفة بكرمان. فلما فارق بهرام شاه غزنة ملكها علاء الدين الغوري، وأحسن السيرة في اهلها واستعمل عليهم أخاه سيف الدين سوري، وأجلسه على تخت المملكة، وخطب لنفسه ولأخيه سيف الدين بعده.
ثم عاد علاء الدين إلى بلد الغور، وأمر أخاه أن يخلع على أعيان البلد خلعاً نفيسة، ويصلهم بصلات سنية، ففعل ذلك وأحسن إليهم، فلما جاء الشتاء، ووقع الثلج، وعلم أهل غزنة أن الطريق قد انقطع إليهم كاتبو بهرام شاه الذي كان صاحبها،واستدعوه إليهم، فسار نحوهم في عسكره فلما قارب البلد ثار أهله على سيف الدين فأخذوه بغير قتال، وكان العلويون هم الذين تولوا أسره، وانهزم الذين كانوا معه، فمنهم من نجا ، ومنهم من أخذ، ثم إنهم سودوا وجه سيف الدين، وأركبوه بقرة وطافوا به البلد، ثم صلبوه، وقالوا فيه أشعاراً يهجونه بها وغنى بها حتى النساء

فلما بلغ الخبر إلى أخيه علاء الدين الحسين قال شعراً معناه: إن لم أقلع غزنة في مرة واحدة، فليت الحسين بن الحسين؛ ثم توفي بهرام شاه وملك بعده ابنه خسروشاه، وتجهز علاء الدين الحسين وسار إلى غزنة سنة خمسين وخمسمائة، فلما بلغ الخبر إلى خسروشاه سار عنها إلى لهاوور، وملكها علاء الدين، ونهبها ثلاثة أيام، واخذ العلويين الذين أسروا أخاه فألقاهم من رؤوس الجبال، وخرب المحلة التي صلب فيها أخوه، وأخذ النساء اللواتي قيل عنهم إنهن كن يغنين بهجاء أخيه والغورية، فأدخلهن حماماً ومنعهن من الخروج حتى متن فيه.
وأقام بغزنة حتى أصلحها، ثم عاد إلى فيروزكوه، ونقل معه من أهل غزنة خلقاً كثيراً،وحملهم المخالي مملوءة تراباً، فبنى به قلعة في فيروزكوه، وهي موجودة إلى الآن، وتلقب بالسلطان المعظم وحمل الجتر على عادة السلاطين السلجوقية، وقد تقدم سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة من أخبارهم، وفيه مخالفة لهذا في بعض الأمر، وكلا سمعناه ورأيناه في مصنفاتهم، فلهذا ذكرنا الأمرين، وأقام الحسين على ذلك مدة، واستعمل ابني أخيه، وهما غياث الدين وشهاب الدين.
ذكر ملك غياث الدين وشهاب الدين الغوريينلما قوي أمر عمهما علاء الدين الحسين بن الحسين استعمل العمال والأمراء على البلاد، وكان ابنا أخيه، وهما غياث الدين ابو الفتح محمد بن سام، وشهاب الدين أبو المظفر محمد بن شام، فيمن استعمل على بلد من بلاد الغور اسمه سنجة، وكان غياث الدين يلقب حينئذ شمس الدين، ويلقب الأخر شهاب الدين، فلما استعملهما احسنا السيرة في عملهما وعدلا، وبذلا الأموال، فمال الناس إليهما، وانتشر ذكرهما، فسعى بهما يحسدهما إلى عمهما علاء الدين، وقال: إنهما يريدان الوثوب بك، وقتلك، والاستيلاء على الملك، فأرسل عمهما يستدعيهما إليه، فامتنعا، وكانا قد بلغهما الخبر، فلما امتنعا عليه جهز إليهما عسكراً مع قائد يسمى خروش الغوري، فلما التقوا انهزم خروش ومن معه، وأسر هو، وأبقيا عليه، وأحسنا إليه، وخلعا عليه، وأظهرا عصيان عمهما وقطعا خطبته؛ فتوجه إليهما علاء الدين، وسارا هما أيضاً إليه، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم علاء الدين وأخذ أسيراً وانهزم عسكرهن فنادى فيهم ابنا أخيه بالأمان، فأحضرا عمهما وأجلساه على التخت، ووقفا في خدمته، فبكى علاء الدين وقال: هذان صبيان قد فعلا ما لو قدرت عليه منهما لم أفعله؛ ثم أحضر عمهما القاضي في الحال، وزوج غياث الدين بنتاً له، وجعله ولي عهده، وبقي كذلك إلى أن مات.
فلما توفي ملك غياث الدين بعده وخطب لنفسه في الغور وغزنة بالملك، وبقي كذلك إلى أن ملك الغز غزنة بعد موت علاء الدين، معوا فيها بموته، وبقيت بأيديهم خمس عشرة سنة يصبون على أهلها العذاب، ويتابعون اللم كعادتهم في كل بلدة ملكوها، ولو انهم لما ملكوا احسنوا السيرة في الرعايا لدام ملكهم، فلم يزل الغز بغزنة هذه المدة، وغياث الدين يقوي أمره، ويحسن السيرة، والناس يميلون إليه ويقصدونه.
ذكر ملك غياث الدين غزنة وما جاورهالما قوي أمر غياث الدين جهز جيشاً كثيفاً مع أخيه شهاب الدين إلى غزنة، فيه أصناف الغورية والخلج والخراسانية، فساروا إليها، فلقيهم الغز وقاتلوهم، فانهزم الغورية، وثبت شهاب الدين وسار الغز خلف المنهزمين فعطف شهاب الدين فيمن ثبت معه على صاحب علمهم فقتله وأخذ العلم، وتركه على حاله، فتراجع الغز، ولم يكونوا علموا ماكان من شهاب الدين، فجاؤوا يطلبون علمهم، فكلما جاء إليه طائفة قتلهم، فأتى على أكثرهم، ودخل غزنة وتسلمها واحسن السيرة في أهلها وأفاض العدل.
وسار من غزنة إلى كرمان وشنوران فملكهما، ثم تعدى إلى ماء السند وعمل على العبور إلى بلد الهند، وقصد لهاوور، وبها يومئذ خسروشاه ابن بهرام شاه المقدم ذكر والده؛ فلما سمع خسروشاه بذلك سار فيمن معه إلى ماء السند، فمنعه من العبور، فرجع عنه وقصد خرشابور فملكها وما يليها من جبال الهند، وأعمال الأبغان، والله أعلم.
ذكر ملك شهاب الدين لهاوور

لما ملك شهاب الدين جبال الهند قوي أمره وجنانه، وعظمت هيبته في قلوب الناس، وأحبوه لحسن سيرته، فلما خرج الشتاء، وأقبل الربيع من سنة تسع وسبعين وخمسمائة، سار نحو لهاوور في جمع عظيم، وحشد كثير من خراسان والغور وغيرهما، فعبر إلى لهاوور وحصرها، وأرسل إلى صاحبها خسروشاه وإلى أهلها يتهددهم إن منعوه، وأعلمهم أنه لايزول حتى يملك البلد، وبذل لخسروشاه الأمان على نفسه وأهله وماله، ومن الأقطاع ما أراد، وأن يزوج ابنته بابن خسروشاه على أن يطأ بساطه ويخطب لأخيه، فامتنع عليهن وأقام شهاب الدين محاصراً له، مضيقاً عليه، فلما رأى أهل البلد والعسكر ذلك ضعفت نياتهم في نصرة صاحبهم، فخذلوه،فأرسل لما رأى ذلك القاضي والخطيب يطلبان له الأمان، فأجابه شهاب الدين إلى ذلك وحلف له، وخرج إليه، ودخل الغورية إلى المدينة، وبقي كذلك شهرين مكرماً عند شهاب الدين، فورد رسول من غياث الدين إلى شهاب الدين يامره بإنفاذ خسروشاه إليه.
ذكر انقراض دولة سبكتكينلما أنفذ غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين يطلب إنفاذ خسروشاه إليه أمره شهاب الدين بالتجهيز والمسير، فقال: أنا لا أعرف أخاك، ولا لي حديث إلا معك، ولا يمين إلا في عنقك، فمناه وطيب قلبه، وجهزه وسيره وسير معه ولده، وأصحبهما جيشاً يحفظونهما، فسارا كارهين؛ فلما بلغا فرشابور خرج أهلها إليهما يبكون ويدعون لهما، فزجرهم الموكلون بهما، وقالوا: سلطان يزور سلطان أخر، لأي شيء تبكون؟ وضربوهم فعادوا، وخرج ولد خطيبها إلى خسروشاه عن أبيه متوجعاً له، قال: فلما دخلت عليه أعلمته رسالة أبي، وقلت: أنه قد اعتزل الخطابة، ولا حاجة به إلى خدمة غيركم. فقال لي : سلم عليه. وأعطاني فرجية فوطاً ومصلى من عمل الصوفية، وقال: هذه تذكرة ابيه عند أبي، فسلمها إليه وقل له: در مع الدهر كيف دار؛ وأنشد بلسان فصيح:
وليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
قال: فانصرفت إلى أبي وعرفته الحال، فبكى، وقال: قد أيقن الرجل بالهلاك، ثم رحلوا. فلما بلغوا بلد الغور لم يجتمع بهما غياث الدين بل أمر بهما فرفعا إلى بعض القلاع، فكان آخر العهد بهما.
وهو آخر ملوك آل سبكتكين، وكان ابتداء دولتهم سنة ست وستين وثلاثمائة، فتكون مدة ولايتهم مائتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريباً. وكان ملوكهم من أحسن الملوك سيرة، ولا سيما جده محمود، فإن آثاره في الجهاد معروفة، وأعماله للآخرة مشهورة:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
فتبارك الذي لا يزول ملكه، ولا تغيره الدهور، فأف لهذه الدنيا الدنية، وكيف تفعل هذا بأبنائها؛ نسأل الله تعالى أن يكشف عن قلوبنا حتى نراها بعين الحقيقة، وأن يقبل بنا إليه، وأن يشغلنا به عما سواه، إنه على كل شيء قدير.
هكذا ذكر بعض فضلاء خراسان أن خسروشاه آخر ملوك آل سبكتكين،وقد ذكر غيره أنه توفي في الملك، وملك بعده ابنه ملكشاه. وسنذكره في سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وبالجملة فابتداء دولة الغورية عندي فيه خلف لو ينكشف الحق فأصلحه إن شاء الله تعالى.
ذكر الخطبة لغياث الدين بالسلطنةلما استقر ملكهم بلهاوور واتسعت مملكتهم وكثرت عساكرهم وأمالهم كتب غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين، فتلقب غياث الدين والدنيا معين الإسلام قسيم أمر المؤمنين؛ ولقب أخاه معز الدين، ففعل شهاب الدين ذلك وخطب له بالسلطنة.
ذكر ملك غياث الدين هراة

وغيرها من خراسان
لما فرغ شهاب الدين من إصلاح أمر لهاوور وتقرير قواعدها، سار إلى أخيه غياث الدين، فلما اجتمع به استقر رأيهما على المسير إلى خراسان وقصد مدينة هراة ومحاصرتها، فسارا في العساكر الكثيرة إليها، وكان بها جماعة من الأتراك السنجرية، فنازلا البلد وحصراه، وضيقا على من به، فاستسلموا إليهما، وأرسلوا يطلبون الأمان منهما، فأجاباهم إلى ذلك وأمناهم، فتسلما البل

وأخرجا من به من الأمراء السنجرية، واستناب فيه غياث الدين خزنك الغوري، وسار غياث الدين وأخوه إلى فوشنج فملكاها، ثم إلى باذغيس وكالين وبيوار فملكاها أيضاً، وتسلم ذلك جميعه غياث الدين وأحسن السيرة في أهل البلاد، ورجع إلى فيروزكوه، ورجع شهاب الدين إلى غزنة، وكان ينبغي أن حوادث الغورية تذكر بالسنين، وإنما جمعناها ليتلو بعضها بعضاً ولأن فيه ما لم يعرف تاريخه فتركناه بحاله.
ذكر ملك شهاب الدين مدينة آجرةلما رجع شهاب الدين من خراسان إلى غزنة أقام بها حتى أراح واستراح هو وعساكره، ثم سار إلى بلد الهند، فحاصر مدينة آجرة، وبها ملك من ملوك الهند، فلم يظفر منه بطائل، وكان للهندي زوجة غالبة على أمره، فراسلها شهاب الدين أنه يتزوجها، فأعادت الجواب أنها لا تصلح له، وأن لها ابنة جميلة تزوجه إياها، فأرسل إليها يجيبها إلى التزوج بابنتها، فسقت زوجها سماً فمات وسلمت البلد إليه.
فلما أخذ الصبية فأسلمت، وتزوجها وحماها إلى غزنة، وأجرى عليها الجرايات الوافرة، ووكل بها من علمها القرآن، وتشاغل عنها، فتوفيت والدتها، ثم توفيت هي بعد عشر سنين، ولم يرها ولم يقربها، فبنى لها مشهداً ودفنها فيه، وأهل غزنة يزورون قبرها.
ثم عاد إلى بلد الهند، فذل له صعابها، وتيسر له فتح الكثير من بلادهم، ودوخ ملوكهم، وبلغ منه ما لم يبلغه أحد قبله من ملوك المسلمين.
ذكر ظفر الهند على المسلمينلما اشتدت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند وإثخانه في أهلها واستيلائه عليها، اجتمع ملوكهو وتآمروا بينهم، ووبخ بعضهم بعضاً، فاتفق رأيهم على الاجتماع والتعاضد على حربه، فجمعوا عساكرهم وحشدوا، وأقبل إليهم الهنود من كل فج عميق على الصعب والذلول، وجاؤوا بحدهم وحديدهم، وكان الحاكم على جميع الملوك المجتمعين امرأة هي من أكبر ملوكهم.
فلما سمع باجتماعهم ومسيرهم إليه تقدم هو إليهم في عسكر عظيم من الغورية والخلج والخراسانية وغيرهم، فالتقوا واقتتلوا، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم المسلمون وركبهم الهنود يقتلون ويأسرون، وأثخنوا فيهم، وأصاب شهاب الدين ضربة بطلت منها يده اليسرى، وضربة أخرى على رأسه سقط منها على الأرض، وحجز الليل بين الفريقين، فأحس شهاب الدين جماعة من غلمانه الأتراك في ظلمة الليل وهم يطلبونه في القتلى ويبكون، وقد رجع الهنود إلى ورائهم، وكلمهم وهو على ما به من الجند، فجاؤوا إليه مسرعين، وحملوه على رؤوسهم رجالة يتناوبون حماه، حتى بلغوا مدينة آجرة مع الصباح.
وشاع خبر سلامته في الناس، فجاؤوا إليه يهنئونه من أقطار البلاد، فأول ما عمل أنه أخذ أمراؤهم وسألوه أن يكف عنهم، ويتركهم في مراعيهم، ويعطونه من كل بيت مائتي درهم فضة، فلم يجبهم إلى ذلك وشدد عليهم في الأنتزاح عن بلده، فعادوا عنه، واجتمعوا وقاتلوه، فانهزم قماج ونهبوا ماله ومال عسكره، وأكثروا القتل في العسكر والرعايا، واسترقوا النساء والأطفال، وعملوا كل عظيمة ، وقتلوا الفقهاء وخربوا المدارس.

وانتهت الهزيمة بقماج إلى مرو، وبها السلطان سنجر، فأعلمه الحال، فراسلهم سنجر ، يتهددهم، فأمرهم بمفارقة بلاده، فاعتذروا، وبذلوا بذلاً كثيراً ليكف عنهم ويتركهم في مراعيهم، فلم يجبهم إلى ذلك، وجمع عسلكره من أطراف البلاد، واجتمع معه ما يزيد على مائة ألف فارس، وقصدهم ووقع بينهم حرب شديدة، فانهزمت عساكر سنجر، وانهزم هو أيضاً، وتبعهم الغز قتلاً وأسراً، فصار قتلى العسكر كالتلال، وقتل علاء الدين قماج، وأسر السلطان سنجر، وأسر معه جماعة من الأمراء، فأما الأمراء فضربوا أعناقهم، وأما السلطان سنجر، فإن أمراء الغز اجتمعوا، وقبلوا الأرض بين يديه، وقالوا : نحن عبيدك لا نخرج عن طاعتك، فقد علمنا أنك لا ترد قتالنا، وإنما حملت عليه، فأنت السلطان ونحن العبيد؛ فمضى على ذلك شهران، أو ثلاثة، ودخلوا معه إلى مرو وهي كرسي ملك خراسان، وطلبها منه بختيار إقطاعاً، فقال السلطان: هذه دار الملك ولا يجوز أن تكون إقطاعاً لأحد. فضحكوا منه وحبق له بختيار بفمه، فلما رأى ذلك نزل عن سرير الملك ودخل خانكاه مرو وتاب عن الملك.واستولى الغز على البلاد، وظهر منهم من الجور ما لم يسمع بمثله، وولوا على نيسابور والياً، فقسط على الناس كثيراً وعصفهم وضربهم، وعلق في الأسواق ثلاث غرائر، وقال: أريد ملء هذه ذهباً، فثار عليه العامة وقتلوه ومن معه، فركب الغز ودخلوا نيسابور ونهبوها نهباً مجحفاً، وجعلوها قاعاً صفصفاً، وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوها، وقتلوا القضاة والعلماء في البلاد كلها، فممن قتل الحسين بن محمد الأرسابندي، والقاضي علي بن مسعود، والشيخ محمد بن يحيى، وأكثر الشعراء في مراثي محمد بن يحيى فممن قال فيه علي بن إبراهيم الكاتب:
مضى الذي كان يجنى الدر من فيه ... يسيل بالفضل والإفضال واديه
مضى ابن يحيىالذي قد كان صوب حياً ... لأبرشهر ومصباحاً لداجيه
خلا خراسان من علم ومن ورع ... لما نعاه إلى الآفاق ناعيه
لما أماتوه مات الدين واأسفاً ... من ذا الذي بعد محي الدين يحييه
ويتعذر وصف ما جرى منهم على تلك البلاد جميعها، ولم يسلم من خراسان شيء لم تنهبه الغز غير هراة ودهستان لأنها كانت حصينة فامتنعت.
وقد ذكر بعض مؤرخي خراسان من أخبارهم ما فيه زيادة وضوح فقال: إن هؤلاء الغز قوم انتقلوا من ضواحي الثغر من أقاصي الترك إلى ما وراء النهر في أيام المهدي، وأسلموا واستنصر بهم المقنع صاحب المخاريق والشعبذة، حتى تم أمره، فلما سارت العساكر إليه خذله الغز وأسلموه، وهذه عادتهم في كل دولة كانوا فيها؛ وفعلوا مثل ذلك مع الملوك الخاقانية، إلا أن الأتراك القارغلية قمعوهم، وطردوهم عن أوطانهم، فجعاهم الأمير زنكي بن خليفة الشيباني المستولي على حدود طخارستان إليه، وأنزلهم بلاده، وكانت بينه وبين الأمير قماج عداوة أحكمتها الأيام للمجاورة التي بينهما، وكل منهما يريد أن يعلو على الآخر ويحكم عليه، فتقوى بهم زنكي، وساروا معه إلى بلخ لمحاربة قماج، فكاتبهم قماج، فمالوا إليه، وخذلوا زنكي عند الحرب، فأخذ زنكي وابنه أسيرين، فقتل قماج ابن زنكي، وجعل يطعم أباه لحمه، ثم قتل الأب أيضاً، وأقطع قماج الغز مواضع، وأباحهم مراعي بلاده.
فلما قام الحسين بن الحسين الغوري بغزنة وقصد بلخ خرج إليه قماج وعساكره ومعه الغز، ففارقه الغز وانضموا إلى الغوري حتى ملك مدينة بلخ، فسار السلطان سنجر إلى بلخ، ففارقها الغوري بعد قتال وانهزم منه، ثم دخل على السلطان سنجر لعجزه عن مقاومته، فرده إلى غزنة.
وبقي الغز بنواحي طخارستان وفي نفس قماج منهم الغيظ العظيم لما فعلوه معهن فأراد صرفهم عن بلاده، فتجمعوا، وانضم إليهم طوائف من الترك، وقدموا عليهم أرسلان بوقا التركي، فجمع قماج عسكره ولقيهم فاقتتلوا يوماً كاملاً إلى الليل، فانهزم قماج وعسكره، وأسر هو وابنه بكر، فقتلوهما، واستولوا على نواحي بلخ، وعاثوا فيها وافسدوا بالنهب والقتل والسلب.

وبلغ السلطان سنجر الخبر، فجمع عساكره وسار إليهم، فراسلوه يعتذرون ويتنصلون، فلم يقبل عذرهم، ووصل إليهم مقدمة السلطان، وفيها محمد بن أبي بكر بن قماج المقتول، والمؤيد أي أبه في المحرم من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ووصل بعدهم السلطان سنجر، فالتقاه الغز بعد أن أرسلوا يعتذرون ويبذلون الأموال والطاعة والانقياد إلى كل ما يؤمرون به، فلم يقبل سنجر ذلك منهم، وسار إليهم، فلقوه وقاتلوه وصبروا له، ودام قتالهم، فانهزم عسكر سنجر وهو معهم، فتوجهوا إلى بلخ على أقبح صورة،وتبعهم الغز، واقتتلوا ثانية، فانهزم السلطان سنجر أيضاً، ومضى منهزماً إلى مرو في صفر من السنة، فقصد الغز إليها، فلما سمع أمراء الغورية الذين انهزموا عنه وأسلموه، فملأ مخالي خيلهم شعيراً، وحاف لئن لم يأكلوه ليضربن أعناقهم، فأكلوه ضرورة.
وبلغ الخبر إلى أخيه غياث الدين فكتب إليه يلومه على عجلته وإقدامه وانفذ إليه جيشاً عظيماً.
ذكر ظفر المسلمين بالهندلما سلم شهاب الدين وعاد إلى آجرة، وأتاه المدد من أخيه غياث الدين، عاد الهنود فجددوا سلاحهم، ووفروا جمعهم، وأقاموا عوض من قتل منهم، وسارت ملكتهم وهم معها في عدد يضيق عنه الفضاء، فراسلها شهاب الدين يخدعها بأنه يتزوجها، فلم تجبه إلى ذلك، وقالت: إما الحرب وإما أن تسلم بلاد الهند وتعود إلى غزنة؛ فأجابها إلى العود إلى غزنة، وأنه يستأذن أخاه غياث الدين فعل ذلك مكراً وخديعة.
وكان بين العسكرين نهر، وقد حفظ الهنود المخاضات، فلا يقدر أحد من المسلمين أن يجوزه، وأقاموا ينتظرون ما يكون من جواب غياث الدين بزعمهم، فبينما هم كذلك إذ وصل إنسان هندي إلى شهاب الدين وأعلمه بأنه يعرف مخاضاً قريباً من عسكر الهنود، وطلب أن يحضر جيشاً يعبرهم المخاض، ويكسبون الهنود وهم غارون غافلون، فخاف شهاب الدين أن تكون خديعة ومكراً، فأقام له ضمناء من أهل آجرة والمولتان، فأرسل معه جيشاً كثيفاً ، وجعل عليهم الأمير الحسين بن خرميل الغوري، وهو الذي صار بعد صاحب هراة، وكان من الشجاعة والرأي بالمنزلة المشهورة.
فسار الجيش مع الهندي، فعبروا النهر، فلم يشعر الهنود إلا وقد خالطهم المسلمون ووضعوا السيف فيهم، فاشتغل الموكلون بحفظ المخاضات، فعبر شهاب الدين وباقي العساكر، وأحاطوا بالهنود، وأكثروا القتل فيهم، ونادوا بشعار الإسلام، فلم ينج من الهنود إلا من عجز المسلمون عن قتله وأسره، وقتلت ملكتهم، وتمكن شهاب الدين بعد هذه الوقعة من بلاد الهند، وأمن معرة فسادهم، والتزموا له بالأموال وسلموا الرهائن وصالحوه، وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك مدينة دهلي، وهي كرسي الممالك التي فتحها من الهند، فأرسل عسكراً من الخلج مع محمد بن بختيار، فملكوا من بلاد الهند مواضع ما وصل إليها مسلم قبله، حتى قاربوا حدود الصين من جهة المشرق.
وقد حدثني صديق لي من التجار بوقعتين تشبهان هاتين الوقعتين المذكورتين وبينهما بعض الخلاف، وقد ذكرناهما سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي يعقوب الكاتب ببغداد، وكان يسكن بالمدرسة النظامية، وحضر متولي المتروكات وختم على الغرفة التي كان يسكنها بالمدرسة، فثار الفقهاء وضربوا المتولي وأخذوا التركة، وهذه عادتهم فيمن يموت بها وليس له وارث، فقبض حاجب الباب على رجلين من الفقهاء وعاقبهما، وحبسهما، فأغلق الفقهاء المدرسة، وألقوا كرسي الوعاظ في الطريق، وصعدوا سطح المدرسة ليلاً، واستغاثوا وتركوا الأدب.
وكان حينئذ مدرسهم الشيخ أبا النجيب، فجاء وألقى نفسه تحت التاج يعتذر، فعفي عنه.
وفيها توفي حام الدين تمرتاش صاحب ماردين وميافارقين، وكانت ولايته نيفاً وثلاثين سنة، وتولى بعده ابنه نجم الدين البي.
وفيها مات أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي الشافعي المحدث، ومولده سنة تسع وخمسين وأربعمائة.
وفيها توفي أبو الأسعد عبد الرحمن القشيري في شوال، وهو شيخ شيوخ خراسان.
وفيها، في المحرم باض ديك ببغداد بيضة.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة

ذكر انهزام سنجر من الغز
ونهبهم خراسان وما كان منهم

في هذه السنة، في المحرم، انهزم السلطان سنجر من الأتراك الغز، وهم طائفة من الترك مسلمون، كانوا بما وراء النهر، فلما ملك الخطا أخرجوهم منه، كما ذكرنا، فقصدوا خراسان وكانوا خلقاً كثيراً، فأقاموا بنواحي بلخ يرعون في مراعيها، وكان لهم أمراء اسم أحدهم دينار، والآخر بختيار، والآخر طوطى، والآخر جغر، والآخر محمود، فأراد الأمير قماج وهو مقطع بلخ، إبعادهم، فصانعوه بشيء بذلوه له، فعاد عنهم، فأقاموا على حالة حسنة لا يؤذون أحداً، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.
ثم إن قماج عاودهم وأمرهم بالانتقال عن بلده، فامتنعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، واجتمع معهم غيرهم من طوائف الترك، فسار قماج إليهم في عشرة آلاف فارس، فجاء إليه العسكر الخراساني بقربهم منهم أجفلوا من بين يديه هاربين لما دخل قلوبهم من خوفهم والرعب منهم؛ فلما فارقها السلطان والعسكر دخلها الغز ونهبوها أفحش نهب وأقبحه، وذلك في جمادى الأولى من السنة، وقتل بها كثير من أهلها وأعيانها، منهم قاضي القضاة الحسن بن محمد الأرسابندي، والقاضي علي بن مسعود وغيرهما من الأئمة والعلماء.
ولما خرج سنجر من مرو قصد اندرابة وأخذه الغز أسيراً، وأجلسوه على تخت السلطنة على عادته، وقاموا بين يديه، وبذلوا له الطاعة، ثم عاودوا الغارة على مرو في رجب من السنة، فمنعهم أهلها،وقاتلوهم قتالاً بذلوا فيه جهدهم وطاقتهم، ثم إنهم عجزوا، فاستسلموا إليهم، فنهبوها أقبح من النهب الأول ولم يتركوا بها شيئاً.
وكان قد فارق سنجر جميع أمراء خراسان ووزيره طاهر بن فخر الملك ابن نظام الملك، ولم يبق عنده غير نفر يسير من خواصه وخدمه؛ فلما وصلوا إلى نيسابور أحضروا الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد، فوصل إلى نيسابور تاسع عشر من جمادى الآخرة من السنة، فاجتمعوا عليه، وخطبوا له بالسلطنة، وسار في هذا الشهر جماعة من العسكر السلطاني إلى طائفة كثيرة من الغز ، فأوقعوا بهم، وقتلوا منهم كثيراً، وانهزم الباقون إلى أمرائهم الغزية فاجتمعوا معهم.
ولما اجتمعت العساكر على الملك سليمان شاه ساروا إلى مرو يطلبون الغز، فبرز الغز إليهم، فساعة رآهم العسكر الخراساني انهزموا وولوا على أدبارهم، وقصدوا نيسابور، وتبعهم الغز، فمروا بطوس، وهي معدن العلماء والزهاد فنهبوها، وسبوا نسائها، وقتلوا رجالها، وخربوا مساجدها ومساكن أهلها، ولم يسلم من جميع ولاية طوس إلا البلد الذي فيه مشهد علي بن موسى الرضي، ومواضع أخر لها اسوار.
وممن قتل من أعيان أهلها محمد المارشكي، ونقيب العلويين بها علي الموسوي، وخطيبها إسماعيل بن المحسن، وشيخ شيوخها محمد بن محمد، وأفنوا من بها من الشيوخ الصالحين، وساروا منها إلى نيسابور، فوصلوا إليها في شوال سنة تسع وأربعين، ولم يجدوا دونها مانعاً ولا مدافعاً، فنهبوها نهباً ذريعاً ، وقتلوا أهلها، فأكثروا حتى ظنوا انهم لم يبقوا بها أحداً، حتى إنه أحصي في محلتين خمسة عشر ألف قتيل من الرجال دون النساء والصبيان، وسبوا نسائها وأطفالها، وأخذوا أموالهم، وبقي القتلى في الدروب كالتلال بعضهم فوق بعض، واجتمع أكثر أهلها بالجامع المنيعي وتحصنوا به، فحصرهم الغز فعجز أهل نيسابور عن منعهم، فدخل الغز إليهم فقتلوهم عن آخرهم، وكانوا يطلبون من الرجل المال، فإذا أعطاهم الرجل ماله قتلوه، وقتلوا كثيراً من أئمة العلماء والصالحين، منهم محمد بن يحيى الفقيه الشافعي الذي لم يكن في زمانه مثله، كان رحلة الناس من أقصى الغرب والشرق إليه، ورثاه جماعة من العلماء، منهم أبو الحسن علي بن أبي القاسم البيهقي فقال:
ياسافكاً دم عالم متبحر ... قد طار أقصى في الممالك صيته
بالله قل يا ظلوم ولا تخف ... من كان يحيي الدين كيف تميته

ومنهم الزاهد عبد الرحمن بن عبد الصمد الأكاف، وأحمد بن الحسين الكاتب سبط القشيري، وأبو البركات الفراوي، والإمام علي الصباغ المتكلم، وأحمد بن محمد بن حامد، وعبد الهاب الملقاباذي، والقاضي صاعد بن عبد الملك بن صاعد، والحسن بن عبد الحميد الرازي وخلق كثير من الأئمة والزهاد والصالحين، واحرقوا ما بها من خزائن الكتب ولم يسلم إلا بعضها.وحصروا شارستان، وهي منيعة، فأحاطوا بها، وقاتلهم أهلها من فوق سورها، وقصدوا جوين فنهبوها، وقاتلهم أهل بحراباذ من أعمال جوين، وبذلوا نفوسهم لله تعالى، وحموا بيضتهم والباقي أتى النهب والقتل عليه؛ ثم قصدوا أسفرايين فنهبوها وخربوها، وقتلوا في أهلها فأكثروا.
وممن قتل عبد الرشيد الأشعثي، وكان من أعيان دولة السلطان، فتركها وأتى على الاشتغال بالعلم وطلب الآخرة؛ وأبو الحسن الفندروجي، وكان من ذوي الفضائل لا سيما في علم الأدب.
ولما فرغ الغز من جوين وأسفرايين عاودوا نيسابور، فنهبوا ما بقي فيها بعد النهب الأول، وكان قد لحق بشهرستان كثير من أهلها، فحصرهم الغز واستولوا عليها، ونهبوا ما كان فيها لأهلها ولأهل نيسابور، ونهبوا الحرم والأطفال، وفعلوا ما لم يفعله الكفار مع المسلمين، وكان العيارون أيضاً ينهبون نيسابور أشد من نهب الغز ويفعلون أقبح من فعلهم.
ثم إن أمر الملك سليمان شاه ضعف، وكان قبيح السيرة سيء التدبير، وإن وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك توفي في شوال سنة ثمان وأربعين فضعف أمره، واستوزر سليمان شاه بعده ابنه نظم الملك أبا علي الحسن بن طاهر وانحل أمر دولته بالكلية، ففارق خراسان في صفر سنة تسع وأربعين وعاد إلى جرجان، فاجتمع الأمراء وراسلوا الخان محمود بن محمد بن بغراخان، وهو ابن أخت السلطان سنجر ، وخطبوا له على منابر خراسان، واستدعوه إليهم، فملكوه أمورهم، وانقادوا له في شوال سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وساروا معه إلى الغز وهم يحاصرون هراة، وجرت بينهم حروب كان الظفر في أكثرها للغز، ورحلوا في جمادى الأولى من سنة خمسين وخمسمائة من على هراة إلى مرو وعاودوا المصادرة لأهلها.
وسار خاقان محمود بن محمد إلى نيسابور وقد غلب عليها المؤيد، على ما نذكره، وراسل الغز في الصلح، فاصطلحوا في رجب من سنة خمسين وخمسمائة، هدنة على دخن، وسيرد باقي أخبارهم سنة اثنتين وخمسين.
ذكر ملك المؤيد نيسابور وغيرهاكان للسلطان سنجر مملوك اسمه أي أبه، ولقبه المؤيد ، فلما كانت هذه الفتنة تقدم، وعلا شأنه، وأطاعه كثير من الأمراء، واستولى على نييسابور وطوس ونسا وأبيورد وشهرستان والدامغان، وأزاح الغز عن الجميع، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وأحسن السيرة ، وعدل في الرعية، واستمال الناس، ووفر الخراج على أهله، وبالغ في مراعاة أرباب البيوت، فاستقرت البلاد له، ودانت له الرعية لحسن سيرته، وعظم شأنه وكثرت جموعه، فراسله خاقان محمود بن محمد في تسليم البلاد والحضور عنده، فامتنع، وترددت الرسل بينهم، حتى استقر على المؤيد مال يحمله إلى الملك محمود، فكف عنه محمود، وأقام المؤيد بالبلاد هو والملك محمود
ذكر ملك إينانج الريكان إينانج أحد مماليك السلطان سنجر، فلما كان من فتنة الغز، ما ذكرناه هرب من خراسان، ووصل إلى الري، فاستولى عليها وأقام بها، فأرسل إلى السلطان محمد شاه بن محمود صاحب همذان، وأصفهان، وغيرهما، خدمه وهداه هدايا فأرضاه بها، وأظهر له الطاعة، وبقي بها إلى أن مات الملك محمود، فاستولى عليها وعلى عدة بلاد تجاور الري، فملكها، فعظم أمره وعلا شأنه وصارت عساكره عشرة آلاف فارس.
فلما ملك سليمان شاه همذان، على ما نذكره، حضر عنده ، وأطاعه لأنسه به. كان أيام مقام سليمان شاه بخراسان، فتقوى أمره بذلك.
ذكر قتل ابن السلار وزير الظافر

ووزارة عباس
في هذه السنة، وفي المحرم، قتل العادل بن السلار وزير الظافر بالله، قتله ربيبه عباس بن أبي الفتوح بن يحيى الصنهاجي، وأشار عليه بذلك الأمير أسامة بن منقذ، ووافق عليه الخليفة الظافر بالله، فأمر ولده نصراً، فدخل على العادل وهو عند جدته أم عباس، فقتله وولي الوزارة بعده ربيبه عباس.

وكان عباس قد قدم من المغرب، كما ذكرناه، إلى مصر، وتعلم الخياطة، وكان خياطاً حسناً، فلما تزوج ابن السلار بأمه أحبه، وأحسن تربيته، فجازاه بأن قتله وولي بعده.
وكانت الوزارة في مصر لمن غلب، والخلفاء من وراء الحجاب، والوزراء كالمتملكين، وقل أن وليها أحد بعد الأفضل إلا بحرب وقتل وشاكل ذلك، فلذلك ذكرناهم في تراجم مفردة، والله أعلم.
ذكر الحرب بين العرب وعساكر عبد المؤمنفي هذه السنة، في صفر، كانت الحرب بين عسكر عبد المؤمن والعرب عند مدينة سطيف.
وسبب ذلك أن العرب، وهم بنو هلال والأبتح وعدي ورياح وزغب، وغيرهم من العرب، لما ملك عبد المؤمن بلاد حماد اجتمعوا من أرض طرابلس إلى أقصى المغرب، وقالوا: إن جاورنا عبد المؤمن أجلانا من المغرب، وليس الرأي إلا إلقاء الجد معه، وإخراجه من البلاد قبل أن يتمكن.
وتحالفوا على التعاون والتضافر، وأن لا يخون بعضهم بعضاً، وعزموا على لقائه بالرجال والأهل والمال ليقاتلوا قتال الحريم.
واتصل الخبر بالملك رجار الفرنجي، صاحب صقلية، فأرسل إلى أمراء العرب، وهم محرز بن زياد، وجبارة بن كامل، وحسن بن ثعلب، وعيسى ابن حسن وغيرهم، يحثهم على لقاء عبد المؤمن ويعرض عليهم أن يرسل إليهم خمسة آلف فارس من الفرنج يقاتلون معهم على شرط أن يرسلوا إليه الرهائن؛ فشكروه وقالوا: ما بنا حاجة إلى نجدته ولا نستعين بغير المسلمين.
وساروا في عدد لا يحصى، وكان عبد المؤمن قد رحل من بجاية إلى بلاد المغرب، فلما بلغه خبرهم جهز جيشاً من الموحدين يزيد على ثلاثين ألف فارس، واستعمل عليهم عبد الله بن عمر الهنتاني، وسعد الله بن يحيى، وكان العرب أضعافهم، فاستجرهم الموحدون وتبعهم العرب إلى أن وصلوا إلى أرض سطيف، بين جبال، فحمل عليهم جيش عبد المؤمن فجاءه والعرب على غير أهبة، والتقى الجمعان، واقتتلوا أشد قتال وأعظمه، فانجلت المعركة عن انهزام العرب ونصرة الموحدين.
وترك العرب جميع ما لهم من أهل ومال وأثاث ونعم، فأخذ الموحدون جميع ذلك، وعاد الجيش إلى عبد المؤمن بجميعه، فقسم جميع الأموال على عسكره، وترك النساء والأولاد تحت الاحتياط، وكل بهم من الخدم الخصيان من يخدمهم ويقوم بحوائجهم، وأمر بصيانتهم، فلما وصلوا معه إلى مراكش أنزلهم في المساكن الفسيحة، وأجرى لهم النفقات الواسعة، وأمر عبد المؤمن ابنه محمداً أن يكاتب أمراء العرب ويعلمهم أن نسائهم تحت الحفظ والصيانة، وأمرهم أن يحضروا ليسلم إليهم أبوه ذلك جميعه، وأنه قد بذل لهم الأمان والكرامة.
فلما وصل كتاب محمد إلى العرب سارعوا إلى المسير إلى مراكش، فلما وصلوا إليها أعطاهم عبد المؤمن نسائهم وأولادهم وأحسن إليهم وأعطاهم أموالاً جزيلة، فاسترق قلوبهم بذلك، وأقاموا عنده، وكان بهم حفياً، واستعان بهم على ولاية أبنه محمد للعهد، على ما نذكره سنة إحدى وخمسين.
ذكر ملك الفرنج مدينة بونة وموت رجار وملك ابنه غليالمفي هذه السنة سار أسطول رجار ملك الفرنج بصقلية إلى مدينة بونة، وكان المقدم عليهم فتاه فيلب المهدوي فحصرها واستعان بالعرب عليها، فأخذها في رجب، وسبى أهلها، وملك ما فيها، غير أنه أغضى عن جماعة من العلماء والصالحين، حتى خرجوا بأهليهم وأموالهم إلى القرى، فأقام بها عشرة أيام، وعاد إلى المهدية وبعض الأسرى معه، وعاد إلى صقلية فقبض رجار عليه لما اعتمده من الرفق بالمسلمين في بونة.
وكان فيلب، يقال أنه وجميع فتيانه مسلمون، يكتمونه ذلك، وشهدوا عليه أنه لا يصوم مع الملك، وأنه مسلم، فجمع رجار الأساقفة والقسوس والفرسان، فحكموا بأن يحرق، فأحرق في رمضان، وهذا أول وهن دخل على المسلمين بصقلية. ولم يمهل الله رجار بعده إلا يسيراً حتى مات في العشر الأول من ذي الحجة من السنة، وكان مرضه الخوانيق، وكان عمره قريب ثمانين سنة، وكان ملكه نحو ستين سنة؛ ولما مات ملك بعده ابنه غليالم، وكان فاسد التدبير سيء التصوير، فاستوزر مايو البرصاني، فأساء التدبير، فاختلفت عليه حصون من جزيرة صقلية، وبلاد فلورية، وتعدى الأمر إلى إفريقية على ما نذكره.
ذكر وفاة بهرام شاه صاحب غزنة

في هذه السنة، في رجب ، توفي السلطان بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم أبن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بها ، وقام بل ملك بعده ولد نظام الدين خسرو شاه ، وكانت ولاية بهرام شاه ستا وثلاثين سنة ، وكان عادلاً، حسن السيرة ، جميل الطريقة، محباً للعلماء، مكرماً لهم، باذلاً لهم الأموال الكثيرة ، جامعاً للكتب تقرأ بين يديه، ويفهم مضمونها؛ ولما مات ملك ولده خسروشاه.
ذكر ملك الفرنج مدينة عسقلانفي هذه السنة ملك الفرنج بالشام مدينة عسقلان، وكانت من جملة مملكة الظافر بالله العلوي المصري، وكان الفرنج كل سنة يقصدونها ويحصرونها، فلا يجدون إلى ملكها سبيلاً، وكان الوزراء بمصر لهم الحكم في البلاد،والخلفاء معهم اسم لا معنى تحته، وكان الوزراء كل سنة يرسلون إليها الذخائر والأسلحة والأموال والرجال من يقوم بحفظها، فلما كان في هذه السنة قتل ابن السلار الوزير، على ما ذكرناه، واختلفت الأهواء في مصر، وولي عباس الوزارة، إلى أن استقرت قاعدة، اغتنم الفرنج اشتغالهم عن عسقلان، فاجتمعوا وحصروها، فصبر أهلها، وقاتلوهم قتالاً شديداً، حتى إنهم بعض الأيام قاتلوا خارج السور، وردوا الفرنج إلى خيامهم مقهورين، وتبعهم أهل البلد إليها فأيس حينئذ الفرنج من ملكه.
فبينما هم على عزم الرحيل إذ أتاهم الخبر ان الخلف قد وقع بين أهله، وقتل بينهم قتلى، فصبروا؛ وكان سبب هذا الاختلاف أنهم لما عادوا عن قتال الفرنج قاهرين منصورين، أدعت كل طائفة منهم أن النصرة من جهتهم كانت، وأنهم هم الذين ردوا الفرنج خاسرين، فعظم الخصام بينهم إلى أن قتل من إحدى الطائفتين قتيل، واشتد الخطب حينئذ، وتفاقم الشر، ووقعت الحرب بينهم، فقتل بينهم قتلى، فطمع الفرنج، وزحفوا إليه وقاتلوهم عليه، فلم يجدوا من يمنعهم فملكوه.
ذكر حصر عسكر الخليفة تكريت وعودهم عنهافي هذه السنة سير الخليفة المقتفي لأمر الله عسكراً إلى تكريت ليحصروها، وأرسل معهم مقدماً عليهم أبا البدر ابن الوزير عون الدين بن هبيرة وترشك، وهو من خواص الخليفة،وغيرهما ، فجرى بين أبي البدر وترشك منافرة أوجبت أن كتب ابن الوزير يشكو من ترشك ، فأمر الخليفة بالقبض على ترشك ، فعرف ذلك ، فأرسل إلى مسعود بلال ، صاحب تكريت ، وصالحه وقبض على ابن الوزير ومن معه من المتقدمين ، وسلمهم إلى مسعود بلال فانهزم العسكر وغرق منه كثير وسار مسعود بلال وترشك من تكريت إلى طريق خراسان فنهبا وأفسدا ، فسار المقتفي عن بغداد لدفعهما، فهربا من بين يديه، فقصد تكريت، فحصرها أياماً وجرى له مع أهلها حروب من وراء السور، فقتل من العسكر جماعة بالنشاب، فعاد الخليفة عنها، ولم يملكها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وصلت مراكب من صقلية، فيها جمع من الفرنج، فنهبوا مدينة تنيس بالديار المصرية.
وفيها كان بين الكرج بأرمينية وبين صليق، صاحب أرزن الروم، مصاف وحرب شديدة، وانهزم صليق وأسره الكرخ ثم أطلقوه.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن أبي غالب الوراق المعروف بابن الطلاية الزاهد البغدادي بها، وكان من الصاحين، وله حديث ورواية.
وتوفي عبد الملك بن عبد الله بن أبي سهل أبو الفتح بن أبي القاسم الكروخي الهروي، راوي جامع الترمذي، ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتفي ببغداد في ذي الحجة.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة

ذكر قتل الظافر وخلافة ابنه الفائز
في هذه السنة، في المحرم، قتل الظاهر بالله أبو إسماعيل بن الحافظ لدين الله عبد المجيد العلوي، صاحب مصر.

وكان سبب قتله أن وزيره عباساً كان له ولد اسمه نصر، فأحبه الظافر، وجعله من ندمائه واحبابه الذين لا يقدر على فراقهم ساعة واحدة، فاتفق أن قدم من الشام مؤيد الدولة الأمير أسامة بن منقذ الكناني في وزارة ابن السلار، واتصل بعباس، فحسن له قتل العادل بن السلار زوج أمه، فقتله، وولاه الظافر الوزارة، فاستبد بالأمر، وتم له ذلك.وعلم الأمراء والأجناد أن ذلك من فعل أبن منقذ، فعزموا على قتله، فخلا بعباس وقال له: كيف تصبر على ما أسمع من قبيح القول؟ قال: وما ذلك؟ قال: الناس يزعمون أن الظافر يفعل بابنك نصر؛ وكان نصر خصيصاً بالظافر، وكان ملازماً له ليله ونهاره، وكان من أجمل الناس صورة، وكان الظافر يتهم به، فانزعج لذلك وعظم عليه، وقال: كيف الحيلة؟ قال: تقتله فيذهب عنك العار؛ فذكر الحال لولده نصر، فاتفقا على قتله .
وقيل أن الظافر أقطع نصر بن عباس قرية قليوب، وهي من أعظم قرى مصر، فدخل إليه مؤيد الدولة بن منقذ، وهو عند أبيه عباس. قال له نصر: قد أقطعني مولانا قرية قليوب. فقال له مؤيد الدولة: ما هي في مهرك بكثير؛ فعظم عليه وعلى أبيه، وأنف من هذه الحال، وشرع في قتل الظافر بأمر أبيه، فحضر نصر عند الظافر وقال له: أشتهي أن تجيء إلى داري لدعوة صنعتها، ولا تكثر من الجمع؛ فمشى معه في نفر يسير من الخدم ليلاً، فلما دخل الدار قتله وقتل من معه، وأفلت خادم صغير اختبأ فلم يروه، ودفن القتلى في داره.
وأخبر أخاه عباساً الخبر، فبكر إلى القصر، وطلب إلى الخدم الخصيصين بخدمة الظافر أن يطلبوا له إذناً في الدخول عليه لأمر يريد أن يأخذ رأيه فيه. فقالوا: إنه ليس في القصر. فقال: لا بد منه. وكان غرضه أن يفني التهمة عنه بقتله، وأن يقتل من بالقصر ممن يخاف أن ينازعه فيمن يقيمه في الخلافة؛ فلما ألح عليهم عجزوا عن إحضاره.
فبينما هم يطلبونه حائرين دهشين لا يدرون ما الخبر إذ وصل إليهم الخادم الصغير الذي شاهد قتله، وقد هرب من دار عباس عند غفلتهم عنه، وأخبرهم بقتل الظافر، فخرجوا إلى عباس، وقالوا له: سل ولدك عنه فإنه يعرف أين هو لأنهما خرجا جميعاً. فلما سمع ذلك منهم قال: أريد أن أعتبر القصر لئلا يكون قد اغتاله أحد من أهله؛ فاستعرض القصر، فقتل أخوين للظافر، وهما يوسف وجبريل، وأجلس الفائز بنصر الله أبا القاسم عيسى ابن الظافر بأمر إسماعيل ثاني يوم قتل أبوه، وله من العمر خمس سنين، فحمله عباس على كتفه وأجلسه على سرير الملك وبايع له الناس، وأخذ عباس من القصر من الأموال والجواهر والأعلاق النفيسة ما أراد، ولم يترك فيه إلا ما لا خير فيه.
ذكر وزارة الصالح طلائع بن رزيككان السبب في وزارة الصالح طلائع بن رزيك أن عباساً، لما قتل الظافر وأقام الفائز، ظن أن الأمر لم يتم له على ما يريده، فكان الحال خلاف ما أعتقده، فإن الكلمة اختلفت عليه، وثار به الجند والسودان، وصار إذا أمر بالأمر لا يلتفت إليه ولا يسمع قوله، فأرسل من بالقصر من النساء والخدم إلى الصالح طلائع بن رزيك يستغيثون به، وأرسلوا شعورهم طي الكتب؛ وكان في منية بني خصيب والياً عليها وعلى أعمالها، وليست من الأعمال الجليلة، وإنما كانت أقرب الأعمال إليهم،وكان فيه شهامة، فجمع ليقصد عباساً، وسار إليه، فلما سمع عباس ذلك خرج من مصر نحو الشام بما معه من الأموال التي لا تحصى كثرة، والتحف والأشياء التي لا توجد إلا هناك مما كان أخذه من القصر. فلما سار وقع به الفرنج فقتلوه وأخذوا جميع ما معه فتقووا به.
وسار الصالح فدخل القاهرة بأعلام سود وثياب سود حزناً على الظافر، والشعور التي أرسلت إليه من القصر على رؤوس الرماح، وكان هذا من الفأل العجيب، فإن الأعلام السود العباسية دخلتها وأزالت الأعلام العلوية بعد خمس عشر سنة.
ولما دخل الصالح القاهرة خلع عليه خلع الوزارة، واستقر في الأمر وأحضر الخادم الذي شاهد قتل الظافر، فأراه موضع دفنه، فأخرجه ونقله إلى مقابرهم في القصر.
ولما قتل الفرنج عباساً أسروا ابنه، فأرسل الصالح إلى الفرنج وبذل لهم مالاً وأخذه منهم، فسار من الشام مع أصحاب الصالح، فلم يكلم أحداً منهم كلمة إلى أن رأى القاهرة فأنشد:
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر

وادخل القصر، فكان أخر العهد به، فإنه قتل، وصلب على باب زويلة، واستقصى الصالح بيوت الكبار والأعيان بالديار المصرية فأهلك أهلها وأبعدهم عن ديارهم، وأخذ أموالهم، فمنهم من هلك ومنهم من تفرق في بلاد الحجاز واليمن وغيرهما؛ فعل ذلك خوفاً من أن يثوروا عليه وينازعوه في الوزارة؛ وكان ابن منقذ قد هرب مع عباس، فلما قتل هرب إلى الشام.
ذكر حصر تكريت ووقعة بكمزافي هذه السنة أرسل الخليفة المقتفي لأمر الله رسولاً إلى والي تكريت، بسبب من عندهم من المأسورين، وهم ابن الوزير وغيره، فقبضوا على الرسول، فسير الخليفة عسكراً إليهم، فخرج أهل تكريت، فقاتلوا العسكر ومنعوه من الدخول إلى البلد؛ فسار الخليفة بنفسه مستهل صفر فنزل على البلد، فهرب أهله، فدخل العسكر فشعثوا ونهبوا بعضه، ونصب على القلعة ثلاث عشر منجنيقاً، فسقط من أسوارها برج وبقي الحصر كذلك إلى الخامس والعشرين من ربيع الأول.
وأمر الخليفة بالقتال والزحف، فاشتد القتال، وكثر القتلى، ولم يبلغ منها غرضاً فرحل عائداً إلى بغداد، فدخلها أخر الشهر، ثم أمر الوزير عون الدين بن هبيرة بالعود إلى محاصرتها، والاستعداد، والاستكثار من الآلات للحصار، فسار إليها سادس ربيع الآخر، ونازلها وضيق عليها، فوصل الخبر بأن مسعود بلال وصل إلى شهربان ومعه البقش كون خر وترشك في عسكر كثير ونهبوا البلاد، فعاد الوزير إلى بغداد.
وكان سبب وصول هذا العسكر أنهم حثوا الملك محمداً ابن السلطان محمود على قصد العراق، فلم يتهيأ له ذلك، فسير هذا العسكر، وانضاف إليهم خلق كثير من التركمان ، فخرج الخليفة إليهم، فأرسل مسعود بلال إلى تكريت، وأخرج منها الملك أرسلان بن السلطان طغرل بن محمد، وكان محبوساً بتكريت، وقال: هذا السلطان نقاتل بين يديه إزاء الخليفة.
والتقى العسكران عند بكمزا بالقرب من بعقوبا، ودام بينهم المناوشة والمحاربة ثمانية عشر يوماًن ثم إنهم التقوا أخر رجب فاقتتلوا، فانهزمت ميمنة عسكر الخليفة وبعض القلب، حتى بلغت الهزيمة بغداد، ونهبت خزائنه، وقتل خازنه، فحمل الخليفة بنفسه هو وولي عهده وصاح: يا آل هاشم ! كذب الشيطان؛ وقرأ: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً)؛ وحمل باقي العسكر معه فانهزم مسعود والبقش وجميع من معهم، وتمت الهزيمة، وظفر الخليفة بهم، وغنم عسكره جميع مال التركمان من دواب وغنم وغير ذلك، فبيع كل كبش بدانق؛ وكانوا قد حضروا بنسائهم وأولادهم وخركاتهم وجميع ما لهم، فأخذ جميعه، ونودي: من أخذ من مال التركمان شيئاً فليرده؛ فردوه، فأخذ البقش كون خر الملك أرسلان، وانهزم إلى البلد اللحف وقلعة الماهكي.
وفي هذه الحرب غدر بنو عوف من عسكر الخليفة، ولحقوا بالعجم، ومضى هندي الكردي أيضاً معهم. وكان الملك محمد قد أرسل عسكراً مع خاص بك بن آقسنقر نجدة لكون خر، فلما وصلوا إلى الراذان بلغهم خبر الهزيمة فعادوا، ورجع الخليفة إلى بغداد فدخلها أوائل شعبان، فوصله الخبر أن مسعود بلال وترشك قصدا مدينة واسط فنهبا وخربا، فسير الخليفة الوزير بن هبيرة في عسكر خامس عشر شعبان، فانهزم العجم، فلقيهم عسكر الخليفة ونب نهم شيئاً كثيراً، وعادوا إلى بغداد، فلقب الوزير سلطان العراق ملك الجيوش.
وسير الخليفة عسكرأ إلى بلد اللحف فأخذه وصار في جملته، وأما الملك ألب أرسلان بن طغرل فإن البقش أخذه معه إلى بلده، فأرسل إليه الملك محمد يقول له ليحضر عنده وأرسلان معه، فمات البقش كون خر في رمضان في هذه السنة، وبقي أرسلان مع ابن البقش وحسن الجاندار، فحملاه إلى الجبل، فخاف الملك محمد أن يصل أرسلان إلى زوج أمه فصار معه، وهو أخو البهلوان بن إيلدكز لأمه، وطغرل الذي قتله خوارزمشاه ولد أرسلان هذا، وكان طغرل آخر السلجوقية.
ذكرملك نور الدين محمود مدينة دمشقفي هذه السنة، في صفر ، نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر مدينة دمشق، وأخذها من صاحبها مجير الدينأبق بن محمد بن بوري بن طغدكين أتابك.

وكان سبب جده في ملكها أن الفرنج لما ملكوا في العام الماضي مدينة عسقلان لم يكن انور الدين طريق إلى أزعاجهم عنها لاعتراض دمشق بينه وبين عسقلان، فلما ملك الفرنج عسقلان طمعوا في دمشق، حتى أنهم استعرضوا كل من بها من مملوك وجارية من النصارى، فمن أراد المقام بها تركوه، ومن أراد العود إلى وطنه أخذوه قهراً شاء صاحبه أم أبى.
وكان لهم على أهلها كل سنة قطيعة يأخذونها منهم، فكان رسلهم يدخلون البلد ويأخذونها منهم، فلما رأى نور الدين ذلك خاف أن يملكها الفرنج فلا يبقى حينئذ بالشام مقام، فأعمل الحيلة في أخذها حيث علم أنها لا تملك قوة، لأن صاحبها متى رأى غلبه راسل الفرنج واستعان بهم فأعانوه لئلا يملكها من يقوى على قتالهم؛ فراسل مجير الدين صاحبها واستماله، وواصله بالهدايا، وأظهر له المودة حتى وثق به فكان نور الدين يقول له في بعض الأوقات: إن فلاناً قد كاتبني في تسليم دمشق؛ يعني بعض أمراء مجير الدين؛ فكان يبعد الذي قيل عنه ويأخذ أقطاعه، فلما لم يبق عنده من الأمراء أحد قدم أميراً يقال له عطا بن حفاظ السلمي الخادم، وكان شهماً شجاعاً، وفوض إليه أمر دولته، فكان نور الدين لا يتمكن معه من أخذ دمشق، فقبض عليه مجير الدين وقتله، فسار نور الدين حينئذ إلى دمشق، وكان قد كاتب من بها من الأحداث واستمالهم، فوعدوه بالتسليم إليه، فلما حصر نور الدين البلد أرسل مجير الدين إلى الفرنج يبذل لهم الأموال وتسليم قلعة بعلبك إليهم لينجدوه وليرحلوا نور الدين عنه، فشرعوا في جمع فارسهم وراجلهم ليرحلوا نور الدين عن البلد، فإلى أن اجتمع لهم ما يريدون تسلم نور الدين البلد، فعادوا بخفي حنين.
وأما كيفية تسليم دمشق فإنه لما حصرها ثار الأحداث الذين راسلهم، فسلموا إليه البلد من الباب الشرقي وملكه، وحصر مجير الدين في القلعة، وراسله في تسليمها وبذل له أقطاعاً من جملته مدينة حمص، فسلمها إليه وسار إلى حمص، ثم إنه راسل أهل دمشق ليسلموا إليه، فعلم نور الدين ذلك فخافه، فأخذ منه حمص، وأعطاه عوضاً عنها بالس، فلم يرضها، وسار منها إلى العراق، وأقام ببغداد وابتنى بها داراً بالقرب من النظامية، وتوفي بها.
ذكر قصد الإسماعيلية خراسان والظفر بهمفي هذه السنة، في ربيع الأخر، اجتمع جمع كثير من الإسماعيلية من قهستان، بلغت عدتهم سبعة آلاف رجل ما بين فارس وراجل، وساروا يريدون خراسان لاشتغال عساكرها بالغز، وقصدوا أعمال خواف وما يجاورها، فلقيهم الأمير فرخشاه بن محمود الكاساني في جماعة من حشمه وأصحابه، فعلم أنه لا طاقة له بهم، فتركهم وسار عنهم، وأرسل إلى الأمير محمد بن أنر، وهو من أكابر أمراء خراسان وأشجعهم، يعرفه الحال، وطلب منه المسير إليهم بعسكره ومن قدر عليه من الأمراء ليجتمعوا عليه ويقاتلوهم.
فسار محمد بن أنر في جماعة من الأمراء وكثير من العسكر، واجتمعوا هم وفرخشاه، وواقعوا الإسماعلية وقاتلوهم، وطالت الحرب بينهم، ثم نصر الله المسلمين وانهزم الإسماعيلية، وكثر القتل فيهم، وأخذهم بالسيف من كل مكان،وهلك أعيانهم وسادتهم: بعضهم قتل، وبعضهم أسر، ولم يسلم منهم إلا القليل الشريد، وخلت قلاعهم وحصونهم من حام ومانع، فلولا أشتغال العساكر بالغز لكانوا ملكوها بلا تعب ولا مشقة، وأراحوا المسلمين منهم، ولكن لله أمر هو بالغه.
ذكر ملك نور الدين تل باشرفي هذه السنة أو التي بعدها، ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة تل باشر، وهي شمالي حلب من أمنع القلاع.
وسبب ملكها أن الفرنج لما رأوا ملك نور الدين دمشق خافوه، وعلموا أنه يقوى عليهم، ولا يقدرون على الانتصاف منه، لما كانوا يرون منه قبل ملكها، فراسله من بهذه القلعة من الفرنج، وبذلوا له تسليمها، فسير إليهم الأمير حسان المنبجي، وهو من أكابر أمراءه، وكان أقطاعه ذلك الوقت مدينة منبج، وهي تقارب تل باشر، وأمره أن يسير إليها ويتسلمها، فسار إليهم وتسلمها منهم، وحصنها ورفع إليها من الذخائر ما يكفيها سنين كثيرة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة مات أستاذ الدار أبو الفتوح عبد اله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء، وكان له صدقات، ومعروف كثير، ومجالسة للفقراء. ولما مات ولى الخليفة ابنه الأكبر عضد الدين أبا الفرج محمد بن عبد الله ما كان إلى أبيه.

وتوفي عبد الرحمن بن عبد الصمد بن أحمد بن علي أبو القاسم الأكاف النيسابوري. كان زاهداً، عابداً، فقيهاً، مناظراً، وكان السلطان سنجر يزوره ويتبرك بدعائه، وكان ربما حجبه فلا يمكنه من الدخول إليه.
وفيها توفي ثقة الدولة أبو الحسن علي بن محمد الدويني، وكان يخدم أبا نصر أحمد بن الفرج الأبري، فرباه حتى قيل ابن الأبري، وزوجه ابنته شهدة الكاتبة، فقربه المقتفي لأمر الله، ووكله فبنى مدرسة بباب الأزج.
ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائةفي هذه السنة سار الخليفة المقتفي لأمر الله إلى دقوتا فحصرها وقاتل من بها، ثم رحل عنها لأنه بلغه أن عسكر الموصل قد تجهزوا للمسير لمنعه عنها، فرحل ولم يبلغ غرضاً.
وفيها استولى شملة التركماني على خوزستان، وكان قد جمع جمعاً كثيراً من التركمان وسار يريد خوزستان، وصاحبه حينئذ ملكشاه بن محمد، فسير الخليفة إليه عسكراً، فلقيهم شملة في رجب، وقاتلهم، فانهزم عسكر الخليفة، وأسر وجوههم، ثم أحسن إليهم وأطلقهم، وأرسل يعتذر، فقبل عذره، وسار إلى خوزستان فملكها وأزاح عنها ملكشاه ابن السلطان محمود.
وفيها سار الغز إلى نيسابور، فملكوها بالسيف، فدخلوها وقتلوا محمد ابن يحيى الفقيه الشافعي ونحواً من ثلاثين ألفاً، وكان السلطان سنجر له اسم السلطنة، وهو معتقل لا يلتفت إليه، حتى إنه أراد كثيراً من الأيام أن يركب، فلم يكن له من يحمل سلاحه، فشده على وسطه وركب.
وكان إذا قدم له طعام يدخر منه ما يأكله وقتاً آخر، خوفاً من انقطاعه عنه، لتقصيرهم في واجبه، ولأنهم ليس هذا مما يعرفونه.
وفيها وثب قسوس الأرمن بمدينة آني فاخذوها من الأمير شداد وسلموها إلى أخيه فضلون.
وفيها، في ذي الحجة، قتل الأتراك القارغلية طمغاج خان بن محمد بما وراء النهر، وألقوه في الصحراء، ونسبوه ألى أشياء قبيحة؛ وكان مدة ملكه مستضعفاً غير مهيب.
وفيها كان في العراق وما جاوره من البلاد زلزلة كبيرة في ذي الحجة.
وفيها توفي يحيى الغساني النحوي الموصلي وكان فاصلاً خيراً؛ وتاج الدين أبو طاهر يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، قاضي جزيرة ابن عمر.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة

عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج
ذكر عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج بصقلية وما كان منهم
قد ذكرنا سنة ثمان وأربعين وخمسمائة موت رجار ملك صقلية وملك ولده غليالم، وأنه كان فاسد التدبير، فخرج من حكمه عدة من حصون صقلية.
فلما كان هذه السنة قوي طمع الناس فيه، فخرج عن طاعته جزيرة جربة وجزيرة قرقنة، وأظهروا الخلاف عليه، وخالف عليه أهل إفريقية، فأول من أظهر الخلاف عليه، وخالف عليه أهل إفريقية، فأول من أظهر الخلاف عليه عمر بن أبي الحسين الفرياني بمدينة سفاقس، وكان رجار قد استعمل عليها، لما فتحها، أباه أبا الحسن، وكان من العلماء الصالحين، فأظهر العجز والضعف وقال: استعمل ولدي فاستعمله، وأخذ أباه رهينة إلى صقلية.
فلما أراد المسير إليها قال لولده عمر: إنني كبير السن، وقد قارب أجلي، فمتى أمكنتك الفرصة في الخلاف على العدو فافعل، ولا تراقبهم، ولا تنظر في أنني أقتل واحسب أني قد مت؛ فلما وجد هذه الفرصة دعا أهل المدينة إلى الخلاف وقال: يطلع جماعة منكم إلى السور، وجماعة يقصدون مساكن الفرنج والنصارى جميعهم، ويقتلونهم كلهم. فقالوا له : إن سيدنا الشيخ والدك نخاف عليه. قال: هو أمرني بهذا، وإذا قتل بالشيخ ألوف من الأعداء فما مات؛ فلم تطلع الشمس حتى قتلوا الفرنج عن آخرهم، وكان ذلك أول سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
ثم أتبعه أبو محمد بن مطروح بطرابلس وبعدهما محمد بن رشيد بقابس، وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها وخرج جميع إفريقية عن حكم الفرنج ما عدا المهدية وسوسة.

وأرسل عمر بن إبي الحسين إلى زويلة، وهي مدينة بينها وبين المهدية نحو ميدان، يحرضهم على الوثوب على من معهم فيها من النصارى، ففعلوا ذلك، وقدم عرب البلاد إلى زويلة، فأعانوا أهلها على من بالمهدية من الفرنج، وقطعوا الميرة عن المهدية.فلما اتصل الخبر بغليالم ملك صقلية أحضر أبا الحسين وعرفه ما فعل ابنه، فأمر أن يكتب إليه ينهاه عن ذلك، ويأمره بالعود إلى طاعته، ويخوفه عاقبة فعله، فقال: من قدم على هذا لم يرجع بكتاب؛ فأرسل ملك صقلية إليه رسولاً يتهدده، ويأمره بترك ما ارتكبه، فلم يمكنه عمر من دخول البلد يومه ذلك، فلما كان الغد خرج أهل البلد جميعهم ومعهم جنازة، والرسول يشاهدهم، فدفنوها وعادوا، وأرسل عمر إلى الرسول يقول له: هذا أبي قد دفنته، وقد جلست للعزاء به، فاصنعوا به ما أردتم.
فعاد الرسول إلى غليالم فأخبره بما صنع عمر بن أبي الحسين، فأخذ أباه وصلبه، فلم يزل يذكر الله تعالى حتى مات.
وأما أهل زويلة فإنهم كثر جمعهم بالعرب وأهل سفاقس وغيرهم، فحصروا المهدية وضيقوا عليها، وكانت الأقوات بالمهدية قليلة، فسير إليهم صاحب صقلية عشرين شينياً فيها الرجال والطعام والسلاح، فدخلوا البلد، وأرسلوا إلى العرب وبذلوا لهم مالاً لينهزموا، وخرجوا من الغد، فاقتتلوا هم وأهل زويلة، فانهزمت العرب، وبقي أهل زويلة وأهل سفاقس يقاتلون الفرنج بظاهر البلد، وأحاط بهم الفرنج، فانهزم أهل سفاقس وركبوا في البحر فنجوا، وبقي أهل زويلة، فحمل عليهم الفرنج فانهزموا إلى زويلة، فوجدوا أبوابها مغلقة فقاتلوا تحت السور، وصبروا حتى قتل أكثرهم ولم ينج إلا القليل فتفرقوا، ومضى بعضهم إلى عبد المؤمن.
فلما قتلوا هرب من بها من الحرم والصبيان والشيوخ في البر، ولم يعرجوا على شيء من أموالهم، ودخل الفرنج زويلة وقتلوا من وجدوا فيها من النساء والأطفال، ونهبوا الأموال، واستقر الفرنج بالمهدية إلى أن أخذها عبد المؤمن منهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر القبض على سليمان شاه وحبسه بالموصلفي هذه السنة قبض زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين مودود ابن زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، على الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه عند عمه السلطان سنجر قديماً، وقد جعله ولي عهده، وخطب له في منابر خراسان، فلما جرى لسنجر مع الغز ما ذكرناه، وتقد م على عسكر خراسان، وضعفوا عن الغز، مضى إلى خوارزمشاه فزؤجه ابنة أخيه أقسيس، ثم بلغه عنه ما كرهه فأبعده، فجاء إلى أصفهان فمنعه شحنتها من الدخول، فضى إلى قاشان، فسير إليه محمد شاه ابن أخيه محمود بن محمد عسكراً أبعدوه عنها،فسار إلى خوزستان، فمنعه ملكشاه عنها، فقصد اللحف ونزل البندنيجين، وأرسل رسولاً إلى المقتفي يعلمه بوصوله، وترددت الرسل بينهما، إلى أن أستقر الأمر على أن يرسل زوجته تكون رهينة، فأرسلها إلى بغداد ومعها كثير من الجواري والأتباع، وقال: قد أرسلت هؤلاء رهائن، فإن أذن أمير المؤمنين في دخول بغداد فعلت وإلا رجعت.
فأكرم الخليفة زوجته ومن معها، وأذن له في القدوم إليه، فقدم ومعه عسكر خفيف يبلغون ثلاثمائة رجل، فخرج ولد الوزير ابن هبيرة يلتقيه، ومعه قاضي القضاة والنقيبان، ولم يترجل له ابن الوزير، ودخل بغداد وعلى رأسه الشمسة، وخلع عليه الخليفة، وأقام ببغداد إلى أن دخل المحرم من سنة إحدى وخمسين وخمسمائة فأحضر فيه سليمان شاه إلى دار الخلافة، وأحضر قاضي القضاة والشهود وأعيان العباسيين، وحلف للخليفة على النصح والموافقة ولزوم الطاعة، وأنه لا يتعرض إلى العراق بحال.
فلما حاف خطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه غياث الدنيا والدين وباقي ألقابه، وخلع عليه خلع السلطنة، وسير معه من عسكر بغداد ثلاثة آلاف فارس، وجعل الأمير قويدان صاحب الحلة أمير حاجب معه، وسار نحو بلاد الجبل في ربيع الأول، وسار الخليفة إلى حلوان، وأرسل إلى ملكشاه ابن السلطان محمود اخي السلطان محمد صاحب همذانوغيرها يدعوه إلى موافقته، فقدم في ألفي فارس، فحلف كل منهما لصاحبه وجعل ملكشاه ولي عهد سليمان شاه، وقواهما الخليفة بالمال والأسلحة وغيرها، فساروا واجتمعوا هم وإيلدكز، فصاروا في جمع كبير.

فلما سمع السلطان محمد خبرهم أرسل إلى قطب الدين مودود، صاحب الموصل ونائبه زين الدين يطلب منهما المساعدة والمعاضدة، ويبذل لهما البذول الكثيرة إن ظفر، فأجاباه إلى ذلك ووافقا، فقويت نفسه وسار إلى لقاء سليمان شاه ومن اجتمع معه من عساكره، ووقعت الحرب بينهم في جمادى الأولى، واشتد القتال بين الفريقين، فانهزم سليمان شاه ومن معه، وتشتت العسكر ووصل من عسكر الخليفة، وكانوا ثلاثة آلاف رجل، نحو من خمسين رجلاً، ولم يقتل منهم أحد، وإنما أخذت خيولهم وأموالهم، وتشتتوا وجاؤوا متفرقين.
وفارق سليمان شاه إيلدكز وسار نحو بغداد على شهرزور، فخرج إليه زين الدين علي في جماعة من عسكر الموصل، وكان بشهرزور الأمير بزان مقطعاً لها من جهة زين الدين، فخرج زين الدين وسار، فوقفا على طريق سليمان شاه، فأخذاه أسيراً، وحمله زين الدين إلى قلعة الموصل وحبسه بها مكرماً محترماً، إلى أن كان من أمره ما نذكره سنة خمس وخمسين أن شاء الله؛ فلما قبض سليمان شاه أرسل زين الدين إلى السلطان محمود يعرفه ذلك، ووعده المعاضدة على كل ما يريده منه.
ذكر حصر نور الدين قلعة حارمفي هذه السنة سار نور الدين محمود بن زنكي إلى قلعة حارم، وهي للفرنج، ثن لبيمند، صاحب أنطاكية، وهي تقارب أنطاكية من شرقيها، وحصرها وضيق على أهلها، وهي قلعة منيعة في نحور المسلمين، فاجتمعت الفرنج بالقرب منها ومن بعد، وساروا نحوه ليرحلوه عنها.
وكان بالحصن شيطان من شياطينهم يعرفون عقله ويرجعون إلى رأيه، فأرسل إليهم يقول: إننا نقدر على حفظ القلعة، وليس بنا ضعف، فلا تخاطروا أنتم باللقاء، فإنه إن هزمكم أخذها وغيرها، والرأي مطاولته؛ فأرسلوا إليه وصالحوه على أن يعطوه نصف أعمال حارم، فاصطلحوا على ذلك،ورحل عنهم، فقال بعض الشعراء:
ألبست دين محمد يا نوره ... عزاً له فوق السها آساد
ما زلت تشمله بمياد القنا ... حتى تثقف عوده المياد
لم يبق مذ أرهفت عزمك دونه ... عدد يراع به، ولا استعداد
إن المنابر لو تطيق تكلماً ... حمدتك عن خطبائها الأعواد
ملق بأطراف القريحة كلكلاً ... طرفاه ضرب صادق وجلاد
حاموا فلما عاينوا خطب الردى ... حاموا فرائس كيدهم أو كادوا
ورأى البرنس وقد تبرنس ذلة ... حزماً لحارم والمصاد مصاد
من منكر أن ينسف السيل الربى ... وأبوه ذلك العارض المداد
أو أن يعيد الشمس كاسفة السنا ... نار لها ذاك الشهاب زناد
لا ينفع الآباء ما سمكوا من ال ... علياء حتى يرفع الأولاد
وهي طويلة.
ذكر وفاة خوارزم شاه أتسز وغيره من الملوكفي هذه السنة، تاسع جمادى الآخرة، توفي خوارزمشاه أتسز بن محمد أبن أنوشتكين، وكان قد أصابه فالج، فتعالج منه، فلم يبرأ، فاستعمل أدوية شديدة الحرارة بغير أمر الأطباء، فاستد مرضه، وضعفت قوته، فتوفي، وكان يقول عند الموت: (ما أغنى عني ماليه. هلك عني سلطانيه). وكانت ولادته في رجب سنة تسعين وأربعمائة.
ولما توفي ملك بعده ابنه أرسلان، فقتل نفراً من أعمامه، وسمل أخاً له فمات بعد ثلاثة أيام؛ وقيل بل قتل نفسه.
وأرسل إلى السلطان سنجر، وكان قد هرب من أسر الغز، على ما نذكره، ببذل الطاعة والأنقياد، فكتب له منشوراً بولاية خوارزم، وسير له الخلع في رمضان، فبقي في ولايته ساكناً أمناً.
وكان أتسز حسن السيرة، كافأ عن أموال رعيته، منصفاً لهم محبوباً إليهم، مؤثراً للإحسان والخير إليهم، وكان الرعية معه بين أمن غامر وعدل شامل.
وفي سابع عشر الشهر الذكور توفي أبو الفوارس بن محمد بن أرسلان شاه ملك كرمان، وملك بعده ابنه سلجوقشاه.
وفيها توفي الملك مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب قونية وما يجاورها من بلاد الروم، وملك بعده ابنه قلج أرسلان.
ذكر هرب السلطان سنجر من الغز

في هذه السنة ، في رمضان، هرب السلطان سنجر بن ملكشاه من أسر الغز هو وجماعة من الأمراء الذين معه، وسار إلى ترمذ، واستظهر بها على الغز،وكان خوارزمشاه أتسز بن محمد بن أنوشتكين، والخاقان محمود بن محمد، يقصدان الغز فيقاتلانهم فيمن معهما، فكانت الحرب بينهم سجالاً، وغلب كل واحد من الغز والخراسانيين على ناحية من خراسان، فهو يأكل دخلها، لا رأس لهم يجمعهم.
وسار السلطان سنجر من ترمذ إلى جيحون يريد العبور إلى خراسان، فاتفق أن مقدم الأتراك القارغلية، اسمه علي بك، توفي، وكان أشد شيء على السلطان سنجر وعلى غيره، من سائر الأمم من أقاصي البلاد وأدانيها، وعاد إلى دار ملكه في رمضان؛ فكانت مدة أسره مع الغز من سادس جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين إلى رمضان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
ذكر البيعة لمحمد بن عبد المؤمن

بولاية عهد أبيه
في هذه السنة أمر عبد المؤمن بالبيعة لولده محمد بولاية عهده، وكان الشرط والقاعدة بين عبد المؤمن وبين عمر هنتاني أن يلي عمر الأمر بعد عبد المؤمن؛ فلما تمكن عبد المؤمن من الملك وكثر أولاده أحب أن ينقل الملك إليهم، فأحضر أمراء العرب من هلال ورعبة وعبدي وغيرهم إليه ووصلهم وأحسن إليهم، ووضع عليهم من يقول لهم ليطلبوا من عبد المؤمن، ويقولوا له: نريد أن نجعل لنا ولي عهد من ولدك يرجع الناس إليه بعدك، ففعلوا ذلك، فلم يجبهم إكراماً لعمر هنتاني لعلو منزلته في الموحدين، وقال لهم: إن الأمر لأبي حفص عمر؛ فلما علم عمر ذلك خاف على نفسه، فحضر عند عبد المؤمن وأجاب إلى خلع نفسه، فحينئذ بويع لمحمد بولاية العهد، وكتب إلى جميع بلاده بذلك، وخطب له فيها جميعها، فأخرج عبد المؤمن من الأموال في ذلك اليوم شيئاً كثيراً.
ذكر استعمال عبد المؤمن أولاده على البلادفي هذه السنة استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد، فاستعمل ولده أبا محمد عبد الله على بجاية وأعمالها؛ واستعمل ابنه ابا الحسن علياً على فاس وأعمالها، واستعمل ابنه ابا حفص عمر على مدينة تلمسان وأعمالها، وولى ابنه ابا سعيد سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة؛ وكذلك غيرهم.
ولقد سلك في استعمالهم طريقاً عجيباً، وذلك أنه كان قد استعمل على اللاد شيوخ الموحدين المشهورين من أصحاب المهدي محمد بن تومرت، وكان يتعذر عليه أن يعزلهم، فأخذ أولادهم، وتركهم عنده يشتغلون ي العلوم، فلما مهروا فيها وصاروا يقتدى بهم قال لآبائهم: إني أريد أن تكونوا عندي أستعين بكم على ما أنا بصدده، ويكون ألوادكم في الأعمال لأنهم علماء فقهاء؛ فأجابوا إلى ذلك وهم فرحون مسرورون، فولى أولادهم ثم وضع عليهم بعضهم ممن يعتمد عليه، فقال لهم: إني أرى أمراً عظيماً قد فعلتموه؛ فارقتم فيه الحزم والأدب. فقالوا وما هو؟ فقال: أولادكم في الأعمال وأولاد أمير المؤمنين ليس لهم منها شيء مع ما فيهم من العلم وحسن السياسة، وأني أخاف أن ينظر في هذا فتسقط منزلتكم عنده؛ فعلموا صدق القائل، فحضروا عند عبد المؤمن وقالوا: نحب أن تستعمل على البلاد السادة أولادك. فقال لا أفعل؛ فلم يزالوا به حتى فعل ذلك بسؤالهم.
ذكر حصر السلطان محمد بغدادفي هذه السنة، في ذي الحجة، حصر السلطان محمد بغداد، وسبب ذلك أن السلطان محمد بن محمود كان قد أرسل إلى الخليفة يطلب أن يخطب له ببغداد والعراق، فامتنع الخليفة من إجابته إلى ذلك، فسار من همذان في عساكر كثيرة نحو العراق، ووعده أتابك قطب الدين، صاحب الموصل، ونائبه زين الدين علي بإرسال العساكر إليه نجدة له على حصر بغداد، فقدم العراق في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، واضطرب الناس ببغداد، وأرسل الخليفة يجمع العساكر فأقبل خطلبرس من واسط وعصى أرغش، صاحب البصرة، وأخذ واسط، ورحل مهلهل إلى الحلة فأخذها، واهتم الخليفة وعمن الدين بن هبيرة بأمر الحصار، وجمع جميع السفن وقطع الجسر وجعل الجميع تحت التاج، ونودي، منتصف المحرم سنة اثنتين وخمسين، أن لا يقيم أحد بالجانب الغربي، فأجفل الناس وأهل السواد، ونقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة، وخرب الخليفة قصر عيسى والمربعة والقرية والمستجدة والنجمي، ونهب أصحابه ما وجدوا؛ وخرب أصحاب محمد شاه نهر القلابين، والتوثة، وشارع ابن رزق الله وباب الميدان وقطفتا.

وأما أهل الكرخ وأهل باب البصرة فإنهم خرجوا إلى عسكر محمد، وكسبوا معهم أموالاً كثيرة.
وعبر السلطان محمد فوق حربي إلى الجانب الغربي، ونهبت أوانا، واتصل به زين الدين هناك، وساروا، فنزل محمد شاه عند الرملة، وفرق الخليفة السلاح على الجند والعامة، ونصب المجانيق والعرادات.
فلما كان في العشرين من المحرم ركب عسكر محمد شاه وزين الدين علي، ووقفوا عند الرقة، ورموا بالنشاب إلى ناحية التاج، فعبر إليهم عامة بغداد فقاتلوهم، ورموهم بالنفط وغيره، ثم جرى بينهم عدة حروب.
وفي ثالث صفر عاودوا القتال، واشتدت الحرب، وعبر كثير من أهل بغداد سباحة وفي السفن، فقتلوا؛ وكان يوماً مشهوداً.
ولم تزل الحرب بينهم كل وقت، وعمل الجسر على دجلة وعبر عليه أكثر العسكر إلى الجانب الشرقي، وصار القتال في الجانبين، وبقي زين الدين في الجانب الغربي، وأمر الخليفة فنودي: كل من جرح فله خمسة دنانير؛ فكان كلما جرح إنسان يحضر عند الوزير فيعطيه خمسة دنانير، فاتفق أن بعض العامة جرح جرحاً ليس بكبير، فحضر يطلب الدنانير، فقال له الوزير ليس هذا الجرح بشيء؛ فعاود القتال، فضرب فانشق جوفه وخرج شيء من شحمه، فحمل إلى الوزير فقال: يامولانا الوزير أيرضيك هذا؟ فضحك منه، وأضعف له، ورتب له من يعالج جراحته إلى أن برىء.
وتعذرت الأقوات في العسكر إلا أن اللحم والفواكه والخضر كثيرة، وكانت الغلات في بغداد كثيرة لأن الوزير كان يفرقها في الجند عوض الدنانير فيبيعونها، فلم تزل الأسعار عندهم رخيصة، إلا أن اللحم والخضر والفاكهة قليلة عندهم.
واشتد الحصار على أهل بغداد لانقطاع المواد عنهم وعدم المعيشة لأهلها؛ وكان زين الدين وعسكر الموصل غير مجدين في القتال لأجل الخليفة والمسلمين؛ وقيل لأن نور الدين محمودبن زنكي، وهو أخو قطب الدين، صاحب الموصل الأكبر، أرسل إلى زين الدين يلومه على قتال الخليفة، ففتر وأقصر.
فلم تزل الحروب في أكثر الأيام، وعمل السلطان محمد أربعمائة سلم ليصعد الرجال فيها إلى السور، وزحفوا، وقاتلوا، ففتح أهل بغداد أبواب البلد وقالوا: أي حاجة بكم إلى السلاليم؟ هذه الأبواب مفتحة فأدخلوا منها؛ فلم يقدروا على أن يقربوها. فبينما الأمر على ذلك إذ وصل الخبر إلى السلطان محمد أن أخاه ملكشاه وإيلدكز، صاحب بلاد آران، ومعه الملك أرسلان ابن الملك طغرل بن محمد، وهو ابن امرأة إيلدكز، قد دخلوا همذان واستولوا عليها، وأخذوا أهل الأمراء الذين مع محمد شاه وأموالهم، فلما سمع محمد شاه ذلك جد في القتال لعله يبلغ غرضاً، فلم يقدر على شيء ورحل عنها نحو همذان في الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
وعاد زين الدين إلى الموصل، وتفرق ذلك الجمع على عزم العود إذا فرغ محمد شاه من إصلاح بلاده، فلم يعودوا يجتمعون؛ وفي كثرة حروبهم لم يقتل منهم إلا نفر يسير، وإنما الجراح كانت كثيرة، ولما ساروا نهبوا بعقوبا وغيرها من طريق خراسان.
ولما رحل العسكر من بغداد أصاب أهلها أمراض شديدة حادة، وموت كثير للشدة التي مرت بهم؛ وأما ملكشاه وإيلدكز ومن معهما فإنهم ساروا من همذان إلى الري، فخرج إليهم إينانج شحنتها وقاتلهم فهزموه، فأنفذ السلطان محمد الأمير سقمس بن قيماز الحرامي في عسكر نجدة لإينانج، فسار سقمس، وكان إيلدكز وملكشاه ومن معهما قد عادوا من الري يريدون محاصرة الخليفة، فلقيهم سقمس وقاتلهم، فهزموه ونهبوا عسكره وأثقالهم، فاحتاج السلطان محمد إلى الإسراع، فسار، فلما بلغ حلوان بلغه أن إيلدكز بالدينور، وأتاه رسول من نائبه إينانج أنه دخل همذان، وأعاد الخطبة له فيها، فقويت نفسه وهرب شملة،صاحب خوزستان، إلى بلاده، وتفرق أكثر جمع إيلدكز وملكشاه، وبقيا في خمسة آلاف فارس، فعاد إلى بلادهما شبه الهارب.
ولما رحل محمد شاه إلى همذان أراد التجهز لقصد بلاد إيلدكز، فابتدأ به مرض السل، وبقي به إلى أن مات.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، أطلق أبو البدر ابن الوزير ابن هبيرة من حبس تكريت؛ ولما قدم بغداد خرج أخوه والموكب يتلقونه، وكان يوماً مشهوداً، وكان مقامه في الحبس يزيد على ثلاث سنين.

وفيها احترقت بغداد في ربيع الآخر، وكثر الحريق بها، واحترق درب فراشا، ودرب الدواب ودرب اللبان، وخرابة ابن حربة، والظفرية، والخاتونية، ودار الخلافة، وباب الأزج، وسوق السلطان وغير ذلك.
وفيها في شوال، قصد الإسماعيلية طبس في خراسان، فأوقعوا بها وقعة عظيمة، وأسروا جماعة من أعيان دولة السلطان، ونهبوا أموالهم ودوابهم وقتلوا فيهم.
وفيها، في ذي القعدة، توفي شيخ الإسلام أبو المعالي الحسن بن عبيد الله بن أحمد بن محمد المعروف بابن الرزاز بنيسابور، وهو من أعيان الأفاضل.
وفي هذه السنة توفي مريد الدين بن نيسان رئيس آمد والحاكم فيها على صاحبها، وولي ما كان إليه بعده ابنه كمال الدين أبو القاسم.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن الحسين الغزنوي، الواعظ المشهور، ببغداد، وكان قدم إليها سنة ستة عشرة وخمسمائة، وكان له قبول عظيم عند السلاطين والعامة والخلفاء، إلا أن المقتفي أعرض عنه بعد موت السلطان مسعود لإقبال السلطان عليه، وكان موته في المحرم.
وتوفي أبو الحسن بن الخل الفقيه الشافعي، شيخ الشافعية ببغداد، وهو من أصحاب أبي بكر الشاشي، وجمع بين العلم والعمل، وكان يؤم بالخليفة في الصلاة.
وتوفي ابن الآمدي الشاعر، وهو من أهل النيل من أعيان الشعراء في طبقة الغزي والأرجاني، وكان عمره قد زاد على تسعين سنة.
وفيها قتل مظفر بن حماد بن أبي الخير صاحب البطيحة، قتله نفيس ابن فضل بن أبي الخير في الحمام، وولي ابنه بعده.
وفيها توفي الوأواء الحلبي الشاعر المشهور.
وفيها، في رمضان، توفي الحكيم أبو جعفر محمد البخاري بأسفرايين، وكان صاحب معرفة بعلوم الحكماء الأوائل.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة

ذكر الزلازل بالشام
في هذه السنة، في رجب، كان بالشام زلازل كثيرة قوية خربت كثيراً من البلاد، وهلك فيها ما لا يحصى كثرة، فخرب منها بالمرة حماة وشيزر وكفر طاب والمعرة وأفاميا وحمص وحصن الأكراد وعرقة واللاذقية وطرابلس وأنطاكية.
وأما ما لم يكثر فيه الخراب ولكن خرب أكثره فجميع الشام، وتهدمت أسوار البلاد والقلاع، فقال نور الدين محمود في ذلك المقام المرضي، وخاف على بلاد الإسلام من الفرنج حيث خربت الأسوار، فجمع عساكره وأقام بأطراف بلاده يغير على بلاد الفرنج ويعمل في الأسوار في سائر البلاد، فلم يزل كذلك حتى فرغ من جميع أسوار البلاد.
وأما كثرة القتلى، فيكفي فيه أن معلماً كان بالمدينة، وهي مدينة حماة، ذكر أنه فارق المكتب لمهم عرض له فجاءت الزلزلة فخربت البلد، وسقط المكتب على الصبيان جميعهم. قال المعلم: فلم يأت أحد يسأل عن صبي كان له.
ذكر ملك نور الدين حصن شيزرنبتدىء بذكر هذا الحصن، ولمن كان قبل أن يملكه نور الدين محمود بن زنكي، فنقول: هذا الحصن قريب من حماة، بينهما نصف نهار، وهو على جبل عال نميع لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة. وكان لآل منقذ الكنانيين يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس إلى أن انتهى الأمر إلى أبي المرهف بنصر بن علي بن المقلد بعد أبيه أبي الحسن علي، فبقي بيده إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وكان شجاعاَ كريماً؛ فلما حضره الموت استخلف أخاه أبا سلامة مرشد بن علي، فقال: والله لا وليته ولأخرجن من الدنيا كما دخلتها.
وكان عالماً بالقرآن والأدب، وهو والد مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، فولاها أخاه الأصغر سلطان بن علي، واصطحبا أجمل صحبة مدة من الزمان، فأولد مرشد عدة أولاد ذكور، وكبروا وسادوا، منهم: عز الدولة أبو الحسن علي، ومؤيد الدولة أسامة وغيرهما؛ ولم يولد لأخيه سلطان ولد ذكر إلى أن كبر فجاءه أولاد ذكور، فحسد أخاه على ذلك، وخاف أولاد أخيه على أولاده، وسعى بينهم المفسدون فغيروا كل اً منهما على أخيه، فكتب سلطان إلى أخيه مرشد شعر يعاتبه على أشياء بلغته عنه، فأجابه بشعر في معناه رأيت إثبات ما تمس الحاجة إليه منه، وهي هذه الأبيات:
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا ... وفي الصد والهجان إلا تناهيا
شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجباً من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين في وطالما ... عصيت عذولاً في هواها وواشيا

ومال بها تيه الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا
ولا ناسياً ما أودعت من عهودها ... وإن هي أبدت جفوة وتناسيا
ولما أتاني من قريضك جوهر ... جمعت المعالي فيه والمعانيا
وكنت هجرت الشعر حيناً لأنه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا
وأين من الستين لفظ مفوق ... إذا رمت منه أدنى القول عصانيا
وقلت: أخي يرعى بني وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا
ويجزيهم ما لم أكلفه فعله ... لنفسي فقد أعددته من تراثيا
فما لك لما أن حنى الدهر صعدتي ... وثلم مني صارماً كان ماضيا
تنكرت حتى صار برك قسوة ... وقربك منهم جفوة وتنابيا
وأصبحت صفر الكف مما رجوته ... أرى اليأس قد عفى سبيل رجائيا
على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي السنون وداديا
فلا غرو عند الحادثات، فإنني ... أراك يميني والأنام شماليا
تحل بها عذراء لو قرنت بها ... نجوم السماء لم تعد دراريا
تحلت بدر من صفاتك زانها ... كما زان منظوم اللآلي الغوانيا
وعش بانياً للمجد ما كان واهياً ... مشيداً من الإحسان ما كان هاويا
وكان الأمر بينهما فيه تماسك، فلما توفي مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة قاب أخوه لأولاده ظهر المجن، وبادأهم بما يسوءهم، وأخرجهم من شيزر، فتفرقوا، وقصد أكثرهم نور الدين وشكوا إليه ما لقوا من عمهم، فغاظه ذلك، ولم يمكنه قصده والأخذ بثأرهم وإعادتهم إلى وطنهم لاشتغاله بجهاد الفرنج، ولخوفه أن يسلم شيزر إلى الفرنج.
ثم توفي سلطان وبقي بعده أولاده، فبلغ نور الدين عنهم مراسلة الفرنج، فاشتد حنقه عليهم، وانتظر فرصة تمكنه، فلما خربت القلعة في هذه السنة بما ذكرناه من الزلزلة لم ينج من بني منقذ الذين بها أحد.
وسبب هلاكهم أجمعين أن صاحبها منهم كان قد ختن ولداً له، وعمل دعوة للناس، وأحضر جميع بني منقذ عنده في داره، وكان له فرس يحبه، ويكاد لا يفارقه، وإذا كان في مجلس أقيم الفرس على بابهن وكان المهر في ذلك اليوم على باب الدار فجاءت الزلزلة، فقام الناس ليخرجوا من الدار، فلما وصلوا مجفلين إلى الباب ليخرجوا من الدار رمح الفرس رجلاً كان أولهم فقتله، وامتنع الناس من الخروج، فسقطت الدار عليهم كلهم، وخربت القلعة وسقط سورها وكل بناء فيها، ولم ينج منها إلا الشريد، فبادر إليها بعض أمرائه، وكان بالقرب منها فملكها وتسلمها نور الدين منه، فملكها وعمر أسوارها ودورها، وأعادها جديدة.
ذكر وفاة الدبيسي صاحب جزيرة ابن عمر واستيلاء قطب الدين مودود على الجزيرة
كانت الجزيرة لأتابك زنكي، فلما قتل سنة إحدى وأربعين أقطعها أبنه سيف الدين غازي للأمير أبي بكر الدبيسي، وكان من أكابر أمراء والدهن فبقيت بيده إلى الآن، وتمكن منها وصار بحيث يتعذر على قطب الدين أخذها منه، فمات في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، ولم يخلف ولداً، فاستولى عليها مملوك له اسمه غلبك، وأطاعه جندها، فحصرهم مودود ثلاثة أشهر ثم تسلمها من غلبك في صفر من سنة ثلاث وخمسين، وأعطاه عوضها إقطاعاً كثيراً.
ذكر وفاة السلطان سنجرفي هذه السنة في ربيع الأول توفي السلطان سنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان، أبو الحرث، أصابه قولنج، ثم بعده إسهال، فمات منه، ومولده سنجار، من ديار الجزيرة، في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وسكن خراسان، واستوطن مدينة مرو، ودخل بغداد مع أخيه السلطان محمد، واجتمع معه بالخليفة المستظهر بالله، فعهد إلى محمد بالسلطنة وجعل سنجر ولي عهد.
فلما مات محمد خوطب سنجر بالسلطان، واستقام أمره، وأطاعه السلاطين، وخطب له على أكثر منابرالإسلام بالسلطنة نحو أربعين سنة، وكان قبلها يخاطب بالملك عشرين سنةئئن ولم يزل أمره عالياً وجده متراقياً إلى أن أسره الغز على ما ذكرناه، ثم إنه خلص بعد مدة وجمع إليه أطرافه بمرو، وكاد يعود إليه ملكه، فأدركه أجله، وكان مهيباً رفيقاً بالرعية، وكانت البلاد في زمانه آمنة.

ولما مات دفن في قبة بناها لنفسه سماها دار الآخرة؛ ولما وصل خبر موته إلى بغداد قطعت خطبته، ولم يجلس له في الديوان للعزاء .
ولما حضر السلطان سنجر الموت استخلف على خراسان الملك محمود بن محمد بن بغراجان وهو ابن أخت السلطان سنجر، فأقام بها خائفاً من الغز، فقصد جرجان يستظهر بها، وعاد الغز إلى مرو وخراسان، واجتمع طائفة من عساكر خراسان على أي أبه المؤيد، فاستولى على طرف من خراسان، وبقيت خراسان على هذا الاختلال إلى سنة أربع وخمسين.
وأرسل الغز إلى الملك محمود بن محمد وسألوه أن يحضر عندهم ليملكوه عليهم، فلم يثق بهم، وخافهم على نفسه؛ فأرسل أبنه إليهم فأطاعوه مديدة ثم لحق بهم الملك محمود على ما نذكره سنة ثلاث وخمسين.
ذكر ملك المسلمين مدينة المرية

وانقراض دولة الملثمين بالأندلس
في هذه السنة انقرضت دولة الملثمين بالأندلس، وملك أصحاب عبد المؤمن المرية من الفرنج.
وسبب ذلك أن عبد المؤمن لما استعمل ابنه أبا سعيد علي على الجزيرة الخضراء ومالقة عبر أبو سعيد البحر إلى مالقة، واتخذها داراً، وكاتبه ميمون بن بدر اللمتوني، صاحب غرناطة، أن يوحد ويسلم إليه غرناطة، فقبل أبو سعيد ذلك منه وتسلم غرناطة، فسار ميمون إلى مالقة بأهله وولده، فتلقاه أبو سعيد، وأكرمه، ووجهه إلى مراكش، فأقبل عليه عبد المؤمن وانقرضت دولة الملثمين ولم يبق لهم إلا جزيرة ميورقة مع حمو بن غانية.
فلما ملك أبو سعيد غرناطة جمع الجيوش وسار إلى مدينة المرية، وهي بأيدي الفرنج، أخذوها من المسلمين سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، فلما نازلها وافاه الأسطول من سبتة وفيه خلق كثير من المسلمين، فحصروا المرية براً وبحراً، وجاء الفرنج إلى حصنها، فحصرهم فيها ونزل عسكره على الجبل المشرف عليها، وبنى أبو سعيد سوراً على الجبل المذكور إلى البحر، وعمل عليه خندقاً، فصارت المدينة والحصن الذي فيه الفرنج محصورين بهذا السور والخندق، ولا يمكن من ينجدهما أن يصل إليهما، فجمع الأذفونش ملك الفرنج بالأندلس، والمعروف بالسليطين، وفي اثني عشر ألف فارس من الفرنج، ومعه محمد بن سعد بن مردنيش في ستة آلاف فارس من المسلمين، وراموا الوصول إلى مدينة المرية ودفع المسلمين عنها، فلم يطيقوا ذلك، فرجع السليطين وابن مردنيش خائبين، فمات السليطين في عوده فبل أن يصل إلى طليطلة.
وتمادى الحصار على المرية ثلاثة أشهر، فضاقت الميرة، وقلت الأقوات على الفرنج، فطلبوا الأمان ليسلموا الحصن، فأجابهم أبو سعيد إليه وأمنهم، وتسلم الحصن، ورحل الفرنج في البحر عائدين إلى بلادهم فكان ملكهم المرية عشر سنين.
ذكر غزو صاحب طبرستان الإسماعيليةفي هذه السنة جمع شاه مازندران رستم بن علي بن شهريار عسكره، وسار ولم يعلم أحد جهة مقصده، وسلك المضايق، وجد السير إلى بلد الموت، وهي للإسماعيلية، فأغار عليها وأحرق القرى والسواد، وقتل فأكثر، وغنم أموالهم، وسبى نسائهم، واسترق أبنائهم فباعهم في السوق وعاد سالماً غانماً، وانخذل الإسماعيلية، ودخل عليهم من الوهن ما لم يصابوا بمثله، وخرب من بلادهم ما لا يعمر في السنين الكثيرة.
ذكر أخذ حجاج خراسانفي هذه السنة، في ربيع الأول، سار حجاج خراسان، فلما رحلوا عن بسطام أغار عليهم جمع من الجند الخراسانية قد قصدوا طبرستان، فأخذوا من أمتعتهم، وقتلوا نفراً منهم، وسلم الباقون وساروا من موضعهم.
فبينما هم سائرون إذ طلع عليهم الإسماعيلية، فقاتلهم الحجاج قتالاً عظيماً، وصبروا صبراً عظيماً، فقتل أميرهم، فانخذلوا، وألقوا بأيديهم، واستسلموا وطلبوا الأمان، وألقوا أسلحتهم مستأمنين، فأخذهم الإسماعيلية وقتلوهم، ولم يبقوا منهم إلا شرذمة يسيرة؛ وقتل فيهم من الأئمة والعلماء والزهاد والصلحاء جمع كثير، وكانت مصيبة عظيمة عمت بلاد الإسلام، وخصت خراسان، ولم يبق بلد إلا وفيه المأتم.
فلما كان الغد طاف شيخ في القتلى والجرحى ينادي: يا مسلمون، يا حجاج، ذهب الملاحدة، وأنا رجل مسلم، فمن أراد الماء سقيته؛ فمن كلمه قتله وأجهز عليه، فهلكوا جميعهم إلا من سلم وولى هارباً؛ وقليل ما هم.
ذكر الحرب بين المؤيد والأمير إيثاق

قد ذكرنا تقدم الأمير المؤيد أي أبه مملوك السلطان سنجر، وتقدمه على عسكر خراسان، فحسده جماعة من الأمراء السنجرية، وانحرف عنه، وكان تارة يقصد خوارزمشاه، وتارة شاه مازندران، وتارة يظهر الموافقة للمؤيد، ويبطن المخالفة.
فلما كان الآن فارق مازندران ومعه عشرة آلاف فارس، وقد اجتمع معه كل من يريد الغارة على البلاد، وكل منحرف عن المؤيد، وقصد خراسان، وأقام بنواحي نسا وأبيورد، لا يظهر المخالفة للمؤيد بل يراسله بالموافقة والمعاضدة له، ويبطن ضدها.
وانتقل المؤيد من المكاتبة إلى المكافحة، وسار إليه جريدة، فأغار عليه وأوقع به، فتفرق عنه جموعه ونجا بحشاشة نفسه، وغنم المؤيد وعسكره كل ما لا يثاق، ومضى منهزماً إلى مازندران؛ وكان ملكها رستم بينه وبين أخ له اسمه علي تنازع على الملك، وقد قوي رستم، فلما وصل إلى مازندران قتل علياً وحمل رأسه إلى أخيه رستم، فعظم ذلك على رستم، واشتد واستشاط غضباً، وقال: أكل لحمي ولا أطعمه غيري.
ولم يزل إيثاق يتردد في خراسان بالنهب والغارة، لا سيما مدينة اسفرايين فإنه أكثر من قصدها حتى خربت، فراسله السلطان محمود بن محمد والمؤيد يدعوانه إلى الموافقة، فامتنع، فسارا إليه في العساكر، فلما قارباه أتاهما كثير من عسكره، فمضى من بين أيديهما إلى طبرستان في صفر سنة ثلاث وخمسين فتبعاه في عساكرهما، فأرسل شاه مازندران يطلب الصلح، فأجاباه واصطلحوا، وحمل شاه مازندران أموالاً جليلة وهدايا نفيسة، وسير إيثاق ابنه رهينة فعادا عنه.
ذكر الحرب بين المؤيد وسنقر العزيريكان سنقر العزيري من أمراء السلطان سنجر، وممن يناوىء أيضاً المؤيد أي أبه، فلما اشتغل المؤيد بحرب إيثاق سار ستقر من عسكر السلطان محمود بن محمد إلى هراة ودخلها وبها جماعة من الأتراك وتحصن بها، فأشير عليه بأن يعتضد بالملك الحسين ملك الغورية، فلم يفعل، واستبد بنفسه منفرداً لأنه رأى اختلاف الأمراء على السلطان محمود بن محمد، فطمع وحدث نفسه بالقوة، فقصده المؤيد إلى هراة، فلما وصل إليها قاتل من بها شيئاً من قتال، ثم عن الأتراك مالوا إلى المؤيد وأطاعوه، وانقطع خبر سنقر العزيري من ذلك الوقت، ولم يعلم ما كان منه، فقيل: إنه سقط من فرسه فمات، وقيل: بل اغتاله الأتراك فقتلوه.
وتقدم السلطان محمود إلى ولاية هراة في عساكره وجنوده، والتحق جماعة من عسكر سنقر بالأمير إيثاق، وأغاروا على طوس وقراها، فبطلت الزروع والحرث، واستولى الخراب على البلاد وعمت الفتن أطراف خراسان، وأصابتهم العين، فإنهم كانوا أيام السلطان سنجر في أرغد عيش وأمنه، وهذا دأب الدنيا لا يصفوا نعيمها وخيرها من كدر وشوائب وآفات، وقلما يخلص شرها من خير، نسأل الله أن يحسن لنا العقبى بمحمد وآله.
ذكر ملك نور الدين بعلبكفي هذه السنة ملك نور الدين محمد بعلبك وقلعتها، وكانت بيد إنسان يقال له ضحاك البقاعي، منسوب إلى بقاع بعلبك، وكان قد ولاه إياها صاحب دمشق؛ فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك بها، فلم يمكن نور الدين محاصرته لقربه من الفرنج، فتلطف الحال معه إلى الآن، فملكها واستولى عليها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قلع الخليفة المقتفي لأمر الله باب الكعبة، وعمل عوضه باباً مصفحاً بالنقرة المذهبة، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتاً يدفن فيه إذا مات.
وفيها توفي محمد بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت أبو بكر الخجندي، رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان، وسمع الحديث بها من أبي علي الحداد، وكان صدراً مقدماً عند السلاطين، وكان ذا حشمة عظيمة وجاه عريض، ووقعت لموته فتنة عظيمة بأصفهان وقتل فيها خلق كثير.
وفيها كان بخراسان غلاء شديد أكلت فيه سائر الدواب، حتى الناس، وكان بنيسابور طباخ، فذبح إنساناً علوياً وطبخه، وباعه في الطبيخ، ثم ظهر عليه انه فعل ذلك، فقتل؛ وأسفر الغلاء، وصلحت أحوال الناس.
وفيها توفي القاضي أبو العباس أحمد بن بختيار بن علي المانداي الواسطي قاضيها، وكان فقيهاً عالماً.
وفيها، في ربيع الآخر، توفي القاضي برهان الدين أبو القاسم منصور ابن أبي سعد محمد بن أبي نصر أحمد الصاعدي قاضي نيسابور، وكان من أئمة الفقهاء الحنفية.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة

ذكر الحرب بين سنقر وأرغش

في هذه السنة كانت حرب شديدة بين سنقر الهمذاني وأرغش المسترشدي، وسببها أن سنقر الهمذاني كان قد نهب سواد بغداد بطريق خراسان، وكثر جمعه، فخرج الخليفة المقتفي لأمر الله، جمادى الأولى، بنفسه يطلبه، فلما وصل إلى بلد اللحف قال له الأمير خطلبرس: أنا أكفيك هذا المهم؛ وكان بينه وبين سنقر مودة، فركب إليه، وتلاقيا وجرى بينهما عتاب طويل لأجل خرجه عن طاعة الخليفة، فأجاب سنقر إلى الطاعة، وعاد خطلبرس وأصلح حاله مع الخليفة وأقطعه بلد اللحف له وللأمير أرغش المسترشدي.
فلما توجها إلى اللحف جرى بينهما منازعة، فأراد سنقر قبض أرغش، فرآه محترزاً، فتحارباً، واقتتلا قتالاً شديداً، وغدر بأرغش أصحابه، فعاد منهزماً إلى بغداد، وانفرد سنقر ببلد اللحف وخطب فيه للملك محمد، فسير من بغداد عسكراً لقتاله مقدمهم خطلبرس، فجرت بينهما حرب شديدة انهزم في أخرها سنقر، وقتلت رجاله، ونهبت أمواله التي في العسكر، وسار هو إلى قلعة الماهكي وأخذ ما كان بها، واستخلف فيها بعض غلمانه، وسار هو إلى همذان، فلم يلتفت إليه الملك محمد شاه، فعاد إلى قلعة الماهكي وأقام بها.
ذكر الحرب بين شملة وقايماز السلطانيفي هذه السنة أيضاً كان قتال بين شملة صاحب خوزستان، ومعه ابن مكلية، وبين قايماز السلطاني في ناحية بادرايا، فجمعا عسكرهما وسارا إليه، فأتاه البر بذلك وهو يشرب، فلم يحفل بذلك، وركب إليهم في نحو ثلاثمائة فارس، وكان معجباً بنفسه فحمل عليهم واختلط بهم، فأحدقوا به، وقاتل أشد قتال، فانهزم أصحابه، وأخذ هو أسيراً، فتسلمه إنسان تركماني كان له عليه دم، لأنه قتل ابناً للتركماني، فقتله بابنه وأرسل برأسه إلى محمد شاه.
وأرسل الخليفة عسكراً ليقاتل شملة ومن معه فانزاحوا من بين أيديهم، ولحقوا بالملك ملكشاه بخوزستان فهلك كثير منهم بالبرد.
ذكر معاودة الغز الفتنة بخراسانكان الأتراك الغزية قد أقاموا بمدينة بلخ واستوطنوها، وتركوا النهب والقتل ببلاد خراسان، واتفقت الكلمة بها على طاعة السلطان خاقان محمود بن أرسلان، وكان المتولي لأمور دولته المؤيد أي أبه، وعن رأيه يصدر محمود.
فلما كان هذه السنة، في شعبان، سار الغز من بلخ إلى مرو، وكان السلطان محمود بسرخس في العساكر، فسار المؤيد بطائفة من العسكر إليهم، فأوقع بطائفة منهم، وظفر بهم، ولم يزل يتبعهم إلى أن دخلوا إلى مرو أوائل رمضان وغنم من أموالهم، وقتل كثيراً وعاد إلى سرخس، فاتفق هو والسلطان محمود على قصد الغز وقتالهم، فجمعا العساكر وحشدا، وسارا إلى الغز، فالتقوا سادس شوال من هذه السنة، وجرت بينهم حرب طال مداها، فبقوا يقتتلون من يوم الاثنين تاسع شوال إلى نصف الليل من ليلة الأربعاء الحادي عشر من الشهر، تواقعوا عدة وقعات متتابعة، ولم يكن بينهم راحة، ولا نزول، إلا لما لا بد منه؛ انهزم الغز فيها ثلاث دفعات، وعادوا إلى الحرب. فلما أسفر الصبح يوم الأربعاء انكشف الحرب عن هزيمة عسكر خراسان وتفرقهم في البلاد، وظفر الغز بهم، وقتلوا فأكثروا فيهم، وأما الأسرى والجرحى فأكثر من ذلك.
وعاد المؤيد ومن سلم معه إلى طوس، فاستولى الغز على مرو، وأحسنوا السيرة، وأكرموا العلماء والأئمة مثل تاج الدين أبي سعيد السمعاني وشيخ الإسلام علي البلخي وغيرهما؛ وأغاروا على سرخس، وخربت القرى، وجلا أهلها وقتل من أهل سرخس عشرة آلاف قتيل، ونهبوا طوس أيضاً وقتلوا أهلها وعادوا إلى مرو.
وأما السلطان محمود بن محمد الخان والعساكر التي معه فلم يقدروا على المقام بخراسان من الغز، فساروا إلى جرجان ينتظرون ما يكون من الغز؛ فلما دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة أرسل الغز ألى السلطان محمود يسألونه أن يحضر عندهم ليملكوه أمرهم، فلم يثق بهم وخافهم على نفسه، فأرسلوا يطلبون منه أن يرسل أبنه جلال الدين محمداً إليهم ليملكوه أمرهم، ويصدروا عن أمره ونهيه في قليل الأمور وكثيرها، وترددت الرسل واتاط السلطان محمود لولده بالعهد والمواثيق، وتقرير القواعد، ثم سيره من جرجان إلى خراسان، فلما سمع الأمراء الغزية بقدومه ساروا من مرو إلى طريقه، فالتقوه بنيسابور، وأكرموه وعظموه، وجخل نيسابور، واتصلت به العساكر الغزية، واجتمعوا عنده في الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وخمسمائة.

ثم إن السلطان محموداً سار من جرجان إلى خراسان في الجيوش التي معه من الأمراء السنجرية، وتخلف عه المؤيد أي أبه، فوصل إلى حدود النسا وأبيورد، وأقطع نسا لأمير اسمه عمر بن حمزة النسوي، فقام في حفظها المقام المرضي، ومنع عنها أيدي المفسدين، وأقام السلطان محمود بظاهر نسا حتى انسلخ جمادى الآخرى من السنة.
ولما كان الغز بنيسابور هذه السنة أرسلوا إلى أهل طوس يدعونهم إلى الطاعة والموافقة فامتنع أهل رايكان من إجابتهم إلى ذلك، واغتروا بسور بلدهم وبما عندهم من الشجاعة والقوة والعدة الوافرة والذخائر الكثيرة، فقصدها طائفة من الغز وحصروهم، وملكوا البلد، وقتلوا فيهم ونهبوا وأكثروا، ثم عادوا إلى نيسابور، وساروا مع جلال الدين محمد ابن السلطان محمود الخان إلى بيهق، وحصروا سابزوار سابع عشر جمادى الآخرى سنة أربع وخمسين وخمسمائة، فامتنع أهلها عليهم وقام بأمرهم النقيب عماد الدين بن محمد بن يحيى العلوي الحسيني، نقيب العلويين، واجمعوا معه، ورجعوا إلى أمره ونهيه، ووقفوا عند إشارته، فامتنعوا على الغز، وحفظوا البلد منهم، وصبروا على القتال.
فلما رأى الغز امتناعهم عليهم وقوتهم أرسلوا إليهم يطلبون الصلح، فاصطلحوا، ولم يقتل من أهل سابزوار، في تلك الحروب، غير رجل واحد، ورحل الملك جلال الدين والغز عن سابزوار في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وساروا إلى نسا وأبيورد.
ذكر أسر المؤيد وخلاصهقد ذكرنا أن المؤيد أي أبه تخلف عن السلطان ركن الدين محمود بن محمد بجرجان، فلما كان الآن سار من جرجان إلى خراسان، فنزل بقرية من قرى خبوشان، اسمها زانك، وبها حصن، فسمع الغز بوصوله إلى زانك، فساروا إليه وحصروه بها، فخرج منه هارباً، فرآه واحد من الغز، فأخذه، فوعده بمال جزيل إن أطلقه، فقال الغزي: وأين المال؟ فقال: هو مودع في بعض هذه الجبال.
فسار هو والغزي، فوصلا إلى جدار قرية فيها بساتين وعيون، فقال للفارس: المال هاهنا؛ وصعد الجدار ونزل من ظهره ومضى هارباً، فرأى الغز قد ملأوا الأرض، فدخل قرية، فعرفه طحان فيها، فأعلم زعيم القرية به، وطلب منه مركباً، فأتاه بما أراد، وأعانه على الوصول إلى نيسابور، فوصل إليها، واجتمعت عليه العساكر وقوي أمره وعاد إلى حاله، وأحسن إلى الطحان، وبالغ في الإحسان إليه.
ذكر اجتماع السلطان محمود مع الغز

وعودهم إلى نيسابور
لما عاد الغز ومعهم الملك محمد بن محمود الخان إلى نسا وأبيورد، كما ذكرناه، خرج والده السلطان محمود الجان، وكان هناك فيمن معه من العساكر الخراسانية، فاجتمع بهم واتفقت الكلمة على طاعته،وأراد عمارة البلاد وحفظها، فلم يقدر على ذلك، فلما اجتمعوا ساروا إلى نيسابور، وبها المؤيد أي أبه، في شعبان، فلما سمع بقربهم منه رحل عنها إلى خواف في السادس عشر منه، ووصلوا إليها في الحادي والعشرين منه ونزلوا فيه، وخافهم الناس خوفاً عظيماً، فلم يفعلوا بهم شيئاً، وساروا عنها في السادس والعشرين منه إلى سرخس ومرو، وكان بها الفقيه المؤيد بن الحسين الموفقي، رئيس الشافعية، وله بيت قديم، وهو من أحفاد الإمام أبي سهل الصعلوكي، وله مصاهرة إلى بيت أبي المعالي الجويني، وهو المقدم في البلد والمشار إليه، وله من الأتباع ما لا يحصى.
فاتفق أن بعض أصحابه قتل إنساناً من الشافعية، اسمه أبو الفتوح الفستقاني، خطأ، وأبو الفتوح هذا له تعلق بنقيب العلويين بنيسابور، وهو ذخر الين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني، وكان هذا النقيب هو الحاكم هذه المدة في نيسابور، فغضب من ذلك وأرسل إلى الفقيه المؤيد يطلب منه القاتل ليقتص منه، ويتهدده إن لم يفعل، فامتنع المؤيد من تسليمه، وقال: لا مدخل لك مع أصحابنا، إنما حكمك على الطائفة العلويين؛ فجمع النقيب أصحابه ومن يتبعه وقصد الشافعية، فاجتمعوا له وقاتلوه، فقتل منهم جماعة، ثم أن النقيب أحرق سوق العطارين، وأحرقوا سكة معاذ أيضاً وسكة باغ ظاهر، ودار إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وكان الفقيه المؤيد الشافعي بها للصهر الذي بينهم.

وعظمت المصيبة على الناس كافة، وجمع بعد ذلك المؤيد الفقيه جموعاً من طوس واسفرايين وجوين وغيرهم، وقتلوا واحداً من اتباع النقيب زيد يعرف بابن الحاجي الأشناني، فأهم العلوية ومن معهم، فاقتتلوا ثامن عشر شوال من سنة أربع وخمسين، وقامت الحرب على ساق وأحرقت المدارس والأسواق والمساجد وكثر القتل في الشافعية، فالتجأ المؤيد إلى قلعة فرخك، وقصر باع الشافعية عن القتال، ثم انتقل المؤيد إلى قرية من قرى طوس، وبطلت دروس الشافعية بنيسابور، وخرب البلد وكثر القتل فيه.
ذكر حصر صاحب ختلان ترمذ

وعوده وموته
في هذه السنة، في رجب، سار الملك أبو شجاع فرخشاه وهو يزعم أنه من أولاد بهرام جور، وقد تقدم ذكره أيام كسرى أبرويز، إلى ترمذ وحصرها.
وكان سبب ذلك أنه في طاعة السلطان سنجر. فلما خرج عليه الغز طلبه ليحضر معه حربه لهم، فجمع عسكره، وأظهر أنه واصل فيمن عنده من العساكر إليه، وأقام ينتظر ما يكون منه، فلما ظفر حضر، وقال له: سبقتني بالحرب؛ وإن كان الظفر للغز قال: إنما تأخرت محبة وإرادة أن تملكوا! فلما انهزم سنجر، وكان ما ذكرناه، بقي إلى الآن، فسار إلى ترمذ ليحصرها، فجمع صاحبها فيروز شاه أحمد بن أبي بكر بن قماج عسكره، ولقيه ليمنعه، فاقتتلوا فانهزم فيروزشاه، ومضى منهزماً لا يلوي على شيء، فأصابه في الطريق قولنج فمات منه.
ذكر عود المؤيد إلى نيسابور
وتخريب ما بقي مها
في هذه السنة عاد المؤيد أي أبه إلى نيسابور في عساكره ومعه الإمام المؤيد الموفقي الشافعي الذي تقدم ذكر الفتنة بينه وبين ذخر الدين نقيب العلويين وخروجه من نيسابور، فلما خرج منها صار مع المؤيد وحضر معه حصار نيسابور، وتحصن النقيب العلوي بشارستان واشتد الخطب وطالت الحرب وسفكت الدماء وهتكت الأستار وخربوا ما بقي من نيسابور من الدور وغيرها، وبالغ الشافعية ومن معهم بالانتقام فخربوا المدرسة الصندلية لأصحاب أبي حنيفة وخربوا غيرها وحصروا قهندز، وهذه الفتنة استأصلت نيسابور، ثم رحل المؤيد أي أبه عنها إلى بيهق في شوال من سنة أربع وخمسين وخمسمائة؛ كان ينبغي أن تكون هذه الحوادث الغزية الواقعة سنة أربع وخمسين مذكورة في سنتها وإنما قدمناها هاهنا ليتلو بعضها بعضاً فيكون أحسن لسياقتها.
ذكر ملك ملكشاه خوزستانفي هذه السنة ملك ملكشاه ابن السلطان محمود بلد خوزستان وأخذه من شملة التركماني، وسبب ذلك أن الملك محمداً بن السلطان محمود لما عاد من حصار بغداد، كما ذكرناه، مرض وبقي مريضاً في همذان، ومضى أخوه ملكشاه إلى قم وقاشان وما والاها، فنهبها جميعها، وصادر أهلها وجمع أموالاً كثيرة، فراسله أخوه محمد شاه يأمرم بالكف عن ذلك ليجعله ولي عهده في الملك، فلم يفعل، ومضى إلى أصفهان، فلما قاربها أرسل رسولاً إلى ابن الخجندي وأعيان البلد في تسليم البلد إليه، فامتنعوا من ذلك، وقالوا لأخيك في رقابنا يمين، ولا نغدر به، فحينئذ شرع ملكشاه في الفساد والمصادرة لأهل القرى.
فلما سمع محمد شاه الخبر سار عن همذان، وعلى مقدمته كرد بازوه الخادم، فتفرقت جموع ملكشاه فانهزم إلى بغداد، فلم يتبعه محمد شاه لمرضه، فنزل ملكشاه عند قرمسين، فلحق به قويدان، وكان قد فارق المقتفي لأمر الله، واتفق مع سنقر الهمذاني، فلحق كلاهما به، وحسنا له قصد بغداد، فسار عن بلد خزستان إلى واسط، ونزل بالجانب الشرقي، وهم على غاية الضر من الجوع ومن البرد، فنهبوا القرى نهباً فاحشاً، ففتح بثق بتلك الناحية فغرق منهم كثير، ونجا ملكشاه ومن سلم معه، وساروا إلى خوزستان، فمنعه شملة من العبور، فراسله ليمكنه من العبورإلى أخيه الملك محمد شاه، فلم يجبه إلى ذلك، وكاتب حينئذ الأكراد الكر الذين هناك، واستدعاهم إليه، ففرحوا به، ونزل إليه من تلك الجبال خلق كثير، فأطاعوه، فرحل ونزل على كرخايا، وطلب من شملة الحرب، فألان له شملة القول، وقال: أنا أخطب لك وأكون معك؛ فلم يقبل منه، فاضطر شملة إلى الحرب، فجمع عسكره وقصده، فلقيه ملكشاه ومعه سنقر الهمذاني وقويدان، وغيرهما من الأمراء، فاقتتلوا فانهزم شملة، وقتل كثير من أصحابه، وصعد إلى قلعة دندرزين، وملك ملك شاه البلاد، وجبى الأموال الكثيرة وأظهر العدل وتوجه إلى أرض فارس.
ذكر الحرب بين التركمان والإسماعيلية بخراسان

كان بنواحي قهستان طائفة من التركمان، فنزل إليهم جمع من الإسماعيلية من قلاعهم، وهم ألف وسبعمائة، فأوقعوا بالتركمان، فلم يجدوا الرجال، وكانوا قد فارقوا بيوتهم، فنهبوا الأموال، وأخذوا النساء والأطفال، وأحرقوا ما لم يقدروا على حمله.
وعاد التركمان ورأوا ما فعل بهم، فتبعوا أثر الإسماعيلية، فأدركوهم وهم يقتسمون الغنيمة، فكبروا وحملوا عليهم، ووضعوا فيهم السيف، فقتلوهم كيف شاؤوا، فانهزم الإسماعيلية وتبعهم التركمان حتى أفنوهم قتلاً وأسراً، ولم ينج إلا تسعة رجال.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كثر فساد التركمان أصحاب برجم الإيوائي بالجبل، فسير إليهم من بغداد عسكر مقدمهم منكبرس المسترشدي، فلما قاربهم اجتمع التركمان، فالتقوا واقتتلوا هم ومنكبرس، فانهزم التركمان أقبح هزيمة، وقتا بعضهم ، وأسر بعض، وحملت الرؤوس والأسارى إلى بغداد.
وفيها حج الناس، فلما وصلوا إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، أتاهم الخبر أن العرب قد اجتمعت لتأخذهم، فتركوا الطريق وسلكوا طريق خيبر، فوجدوا مشقة شديدة، ونجوا من العرب.
وفيها توفي الشيخ نصر بن منصور بن الحسين العطار أبو القاسم الحراني، ومولده بحران سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وأقام ببغداد وكثر ماله وصدقاته أيضاً، وكان يقرأ القرآن؛ وهو والد ظهير الدين الذي حكم في دولة المستضيء بالله على ما نذكره إنشاء الله.
وفيها توفي أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي ببغداد، وهو سجزي الأصل، هروي المنشأ، وكان قدم إلى بغداد سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة يريد الحج، فسمع الناس به عليه صحيح البخاري؛ وكان عالي الأسناد، فتأخر لذلك عن الحج، فلما كان هذه السنة عزم على الحج فمات.
وفيها توفي يحيى بن سلامة بن الحسن بن محمد أبو الفضل الحصكفي الأديب بميافارقين، وله شعر حسن ورسائل جيدة مشهورة، وكان يتشيع؛ ومولده بطنزة، فمن شعره.
وخليع بت اعذله ... ويرى عذلي من العبث
قلت: إن الخمر مخبثة ... قال: حاشاها من الخبث
قلت: فالأرفاث تتبعها ... قال: طيب العيش في الرفث
قلت: منها القيء، قال: أجل ... شرفت عن مخرج الحدث
وسأسلوها، فقلت: متى؟ ... قال: عند الكون في الجدث
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة

ذكر ملك عبد المؤمن مدينة المهدية من الفرنج وملكه جميع إفريقية
قد ذكرنا سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ملك الفرنج مدينة المهدية من صاحبها الحسن بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، وقد ذكرنا أيضاً سنة إحدى وخمسين ما فعله الفرنج بالمسلمين في زويلة المدينة المجاورة للمهدية من القتل والنهب، فلما قتلهم الفرنج، ونهبوا أموالهم، هرب منهم جماعة وقصدوا عبد المؤمن صاحب المغرب، وهو بمراكش، يستجيرونه، فلما وصلوا إليه ودخلوا عليه أكرمهم، وأبروه بما جرى على المسلمين، وأنه ليس من ملوك الإسلام من يقصد سواه، ولا يكشف هذا الكرب غيره، فدمعت عيناه وأطرق، ثم رفع رأسه وقال: أبشروا، لأنصرنكم ولو بعد حين.
وأمر بإنزالهم وأطلق لهم ألفي دينار، ثم أمر بعمل الروايا والقرب والحياض وما يحتاج إليه العسكر في السفر، وكتب إلى جميع نوابه في المغرب، وكان قد ملك إلى قريب تونس، يأمرهم بحفظ ما يتحصل من الغلات، وأن يترك في سنبله، ويخزن في مواضعه، وأن يحفروا الأبار في الطرق، ففعلوا جميع ما أمرهم به، وجمعوا الغلات ثلاث سنين ونقلوها إلى المنازل، وطينوا عليها، فصارت كأنها تلال.
فلما كان في صفر من هذه السنة سار عن مراكش، وكان أكثر أسفاره في صفر، فسار يطلب إفريقية، واجتمع من العساكر مائة ألف مقاتل، ، ومن الأتباع والسوقة أمثالهم، وبلغ من حفظه لعساكره أنهم كانوا يمشون بين الزروع فلا تتأذى منهم سنبلة، وإذا نزلوا صلوا جميعهم مع إمام واحدد بتكبيرة واحدة، لا يتخلف منهم أحد كائن من كان.

وقدم بين يديه الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، الذي كان صاحب المهدية وإفريقية، وقد ذكرنا سبب مصيره عند عبد المؤمن، فلم يزل يسير إلى أن وصل إلى مدينة تونس في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة، وبها صاحبها أحمد بن خراسان، وأقبل أسطوله في البحر في سبعين شينياً وطريدة وشلندى، فلما نازلها أرسل إلى أهلها يدعوهم إلى طاعته، فامتنعوا، فقاتلهم من الغد أشد قتال، فلم يبق إلا أخذها، ودخول الأسطول إليها، فجاءت ريح عاصف منعت الموحدين من دخول البلد، فرجعوا ليباكروا القتال ويملكوه.
فلما جن الليل نزل سبعة عشر رجلاً من أعيان أهلها إلى عبد المؤمن يسألونه الأمان لأهل بلدهم، فأجابهم إلى الأمان لهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لمبادرتهم إلى الطاعة، وأما ما عداهم من أهل البلد فيؤمنهم في أنفسهم وأهاليهم، ويقاسمهم على أموالهم وأملاكهم نصفين، وأن يخرج صاحب البلد هو وأهله؛ فاستقر ذلك، وتسلم البلد، وأرسل إليه من يمنع العسكر من الدخول، وأرسل أمناءه ليقاسموا الناس على أموالهم، وأقام عليها ثلاثة أيام، وعرض الإسلام على من بها من اليهود والنصارى، فمن أسلم سلم، ومن امتنع قتل، وأقام أهل تونس بها بأجرة تؤخذ عن نصف مساكنهم.
وسار عبد المؤمن منها إلى المهدية والأسطول يحاذيه في البحر، فوصل إليها ثامن عشر رجب، وكان حينئذ بالمهدية أولاد ملوك الفرنج وأبطال الفرسان، وقد أخلوا زويلة، وبينها وبين المهدية غلوة سهم، فدخل عبد المؤمن زويلة، وامتلأت بالعساكر والسوقة فصارت مدينة معمورة في ساعة، ومن لم يكن له موضع من العسكر نزل بظاهرها، وانضاف إليه من صنهاجة والعرب وأهل البلاد ما يخرج عن الإحصاء، وأقبلوا يقاتلون المهدية مع الأيام، فلا يؤثر فيها لحصانتها وقوة سورها وضيق موقع القتال عليها، لأن البحر دائر بأكثرها، فكأنها كف في البحر، وزندها متصل بالبر.
وكانت الفرنج تخرج شجعانهم إلى أطراف العسكر، فتنال منه وتعود سريعاً؛ فأمر عبد المؤمن أن يبنى سور من غرب المدينة يمنعهم من الخروج، وأحاط الأسطول بها في البحر، وركب عبد المؤمن في شيني، ومعه الحسن ابن علي الذي كان صاحبها، وطاف بها في البحر، فهاله ما رأى من حصانتها، وعلم أنها لا تفتح بقتال براً ولا بحراً، وليس لها إلا المطاولة، وقال للحسن: كيف نزلت عن مثل هذا الحصن؟ فقال: لقلة ما يوثق به، وعدم القوت، وحكم القدر. فقال: صدقت! وعاد من البحر، وأمر بجمع الغلات والأقوات وترك القتال، فلم يمض غير قليل حتى صار في العسكر كالجبلين من الحنطة والشعير، فكان من يصل إلى العسكر من بعيد يقولون: متى حدثت هذه الجبال هاهنا؟ فيقال لهم: هي حنطة وشعير؛ فيعجبون من ذلك.
وتمادى الحصار، وفي مدته أطاع سفاقس عبد المؤمن، وكذلك مدينة طرابلس، وجبال نفوسة، وقصور إفريقية وما والاها، وفتح مدينة قابس بالسيف، وسير ابنه أبا محمد عبد الله في جيش ففتح بلاداً، ثم أن أهل مدينة قفصة لما رأوا تمكن عبد المؤمن أجمعوا على المبادرة إلى طاعته، وتسليم المدينة إليه، فتوجه صاحبها يحيى بن تميم بن المعز، ومعه جماعة من أعيانها، وقصدوا عبد المؤمن، فلما أعلمه حاجبه بهم قال له عبد المؤمن: قد اشتبه عليك، ليس هؤلاء أهل قفصة؛ فقال له: لم يشتبه علي؛ قال له عبد المؤمن: كيف يكون ذلك والمهدي يقول إن أصحابنا يقطعون أشجارها ويهدمون أسوارها، ومع هذا فنقبل منهم ونكف عنهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.فأرسل إليهم طائفة من أصحابه، ومدحه شاعر بقصيدة أولها:
ما هز عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي

فوصله بألف دينار، ولما كان في الثاني والعشرين من شعبان، من السنة جاء اسطول صاحب صقلية في مائة وخمسين شينياً غير الطرائد، وكان قدومه من جزيرة يابسة من بلاد الأندلس وقد سبى أهلها وأسرهم وحملهم معه، فأرسل إليهم ملك الفرنج يأمرهم بالمجيء إلى المهدية، فقدموا في التاريخ، فلما قاربوا المهدية حطوا شراعهم ليدخلوا الميناء، فخرج إليهم أسطول عبد المؤمن، وركب العسكر جميعه، ووقفوا على جانب البحر، فاستعظم الفرنج ما رأوه من كثرة العساكر، ودخل الرعب قلوبهم، وبقي عبد المؤمن يمرغ وجهه على الأرض، ويبكي ويدعوا للمسلمين بالنصر، واقتتلوا في البحر، فانهزمت شواني الفرنج، وأعادوا القلوع، وتبعهم المسلمون، فأخذوا منهم سبع شوان، ولو كان معهم قلوع لأخذوا أكثرها، وكان أمراً عجيباً، وفتحاً قريباً.
وعاد أسطول المسلمين مظفراً منصوراً، وفرق فيهم عبد المؤمن الأموال؛ ويئس أهل المهدية حينئذ من النجدة، وصبروا على الحصار ستة أشهر إلى آخر شهر ذي الحجة من السنة، فنزل حينئذ من فرسان الفرنج إلى عبد المؤمن عشرة، وسألوا الأمان لمن فيها من الفرنج على أنفسهم وأموالهم ليخرجوا منها ويعودوا إلى بلادهم، وكان قوتهم قد فني حتى أكلوا الخيل، فعرض عليهم الإسلام، ودعاهم إليه فلم يجيبوا، ولم يزالوا يترددون إليه أياماً واستعطفوه بالكلام اللين، فأجابهم إلى ذلك، وأمنهم وأعطاهم سفناً فركبوا فيها وساروا، وكان الزمان شتاء، فغرق أكثرهم ولم يصل منهم إلى صقلية غلا النفر اليسير.
وكان صاحب صقلية قد قال: إن قتل عبد المؤمن أصحابنا في المهدية قتلنا المسلمين الذين هم بجزيرة صقلية، وأخذنا حرمهم وأموالهم؛ فأهلك الله الفرنج غرقاً، وكانت مدة ملكهم المهدية اثنتي عشرة سنة.
ودخل عبد المؤمن المهدية بكرة عاشوراء من المحرم سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وسماها عبد المؤمن سنة الأخماس، وأقام بالمهدية عشرين يوماً، فرتب أحوالها، وأصلح ما انثلم من سورها، ونقل إليها الذخائر من القوات والرجال والعدد، واستعمل عليها بعض أصحابه، وجعل معه الحسن بن علي الذي كان صاحبها، وأمره أن يقتدي برأيه في أفعاله، وأقطع الحسن بها أقطاعاً، وأعطاه دوراً نفيسة يسكنها، وكذلك فعل بأولاده، ورحل من المهدية أول صفر من السنة إلى بلاد الغرب.
ذكر إيقاع عبد المؤمن بالعربلما فرغ عبد المؤمن من أمر المهدية وأراد العود إلى الغرب جمع أمراء العرب من بني رياح الذين كانوا بإفريقية، وقال لهم: قد وجبت علينا نصرة الإسلام، فإن المشركين قد استفحل أمرهم بالأندلس، واستولوا على كثير من البلاد التي كانت بأيدي المسلمين، وما يقاتلهم أحد مثلكم، فبكم فتحت البلاد أول الإسلام، وبكم يدفع عنها العدو الآن، ونريد منكم عشرة ألاف فارس من أهل النجدة والشجاعة يجاهدون في سبيل الله. فأجابوا بالسمع والطاعة، فحلفهم على ذلك بالله تعالى، وبالمصحف، فحلفوا، ومشوا معه إلى مضيق جبل زغوان.
وكان منهم إنسان يقال له يوسف بن مالكن وهو من أمرائهم ورؤوس القبائل فيها، فجاء إلى عبد المؤمن بالليل وقال له سراً: إن العرب قد كرهت المسير إلى الأندلس، وقالوا ما غرضه إلا إخراجنا من بلادنا، وإنهم لا يفون بما حلفوا عليه؛ فقال: يأخذ الله، عز وجل الغادر. فلما كانت الليلة الثانية هربوا إلى عشائرهم، ودخلوا البر، ولم يبق منهم إلا يوسف بن مالك، فسماه عبد المؤمن يوسف الصادق.
ولم يحدث عبد المؤمن في أمرهم شيء، وسار مغرياً يحث السير حتى قرب القسنطينة، فنزل في موضع خصب يقال له. وادي النساء، والفصل ربيع، والكلأ مستحسن، فأقام به وضبط الطرق، فلا يسير من العسكر أحد البتة، ودام ذلك عشرين يوماً، فبقي الناس في جميع البلاد لا يعرفون لهذا العسكر خبراً مع كثرته وعظمه، ويقولون: ما أزعجه إلا خبر وصله من الأندلس، فحث لأجله السير، فعادت العرب الذين جفلوا منه من البرية إلى البلاد لما أمنوا جانبه، وسكنوا البلاد التي ألفوها، واستقروا في البلاد.
فلما علم عبد المؤمن برجوعهم جهز إليهم ولديه أبا محمد وأبا عبد الله في ثلاثين ألف مقاتل من أعيان الموحدين وشجعانهم، فجدوا السير، وقطعوا المفاوز، فما شعر العرب إلا والجيش قد أقبل بغتة من ورائهم، من جهة الصحراء، ليمنعوهم الدخول إليها إن راموا ذلك.

وكانوا قد نزلوا جنوباً من القيروان عند جبل يقال له جبل القرن، وهم زهاء ثمانين ألف بيت، والمشاهير من مقدميهم: أبو محفوظ محرز بن زياد، ومسعود بن زمام، وجبارة بن كامل، وغيرهم، فلما أطلت عليهم عساكر عبد المؤمن أضطربوا، واختلفت كلمتهم، ففر مسعود وجبارة بن كامل ومن معهما من عشائرهما، وثبت محرز بن زياد، وأمرهم بالثبات والقتال ، فلم يلتفتوا إليه، فثبت هو ومن معه من جمهور العرب ، فناجزهم الموحدون القتال في العشر الأوسط من ربيع الآخر من السنة، وثبت الجمعان، واشتد العراك بينهما وكثر القتل، فاتفق أن محرز بن زياد قتل، ورفع رأسه على رمح، فانهزمت جموع العرب عند ذلك، وأسلموا البيوت والحريم والأولاد والأموال، وحمل جميع ذلك إلى عبد المؤمن وهو بذلك المنزل، فأمر بحفظ النساء العربيات الصرائح، وحملهن معه تحت الحفظ والبر والصيانة إلى بلاد الغرب، وفعل معهم مثل ما فعل في حريم الأبثج.
ثم أقبلت إليه وفود رياح مهاجرين في طلب حريمهم كما فعل الأبثج، فأجمل الصنيع لهم، ورد الحريم إليهم، فلم يبق منهم أحد إلا وصار عنده، وتحت حكمه، وهو يخفض لهم الجناح ويبذل فيهم الإحسان، ثم إنه جهزهم إلى ثغور الأندلس على الشرط الأول، وجمعت عظام العرب المقتولين في هذه المعركة عند جبل القرن، فبقيت دهراً طويلاً كالتل العظيم يلوح للناظرين من مكان بعيد، وبقيت إفريقية مع نواب عبد المؤمن آمنة ساكنة لم يبق فيها من أمراء العرب خارجاً عن طاعته إلا مسعود بن زمام، وطائفته في أطراف البلاد.
ذكر غرق بغدادفي هذه السنة ، ثامن ربيع الآخر، كثرت الزيادة في دجلة، وخرق القورج فوق بغداد، وأقبل الد إلى البلد، فامتلأت الصحاري وخندق البلد، وأفسد الماء السور وأحدث فيه فتحة يوم السبت تاسع عشر الشهر، فوقع بعض السور عليها فسدها، ثم فتح الماء فتحة أخرى، وأهملوها ظناً أنها تنفث عن السور لئلا يقع، فغلب الماء، وتعذر سده، فغرق قراح ظفر، والأجمة، والمختارة، والمقتدية، ودرب القبار، وخرابة ابن جردة، والريان، وقراح القاضي، وبعض القطيعة، وبعض باب الأزج، وبعض المأمونية، وقراح أبي الشحم، وبعض قراح ابن رزين، وبعض الظفرية.
ودب الماء تحت الأرض إلى أماكن فوقعت وأخذ الناس يعبرون إلى الجانب الغربي، فبلغت المعبرة عدة دنانير، ولم يكن يقدر عليها، ثم نقص الماء وتهدم السور وبقي الماء الذي داخل السور يدب في المحال التي لم يركبها الماء، فكثر الخراب، وبقيت المحال لا تعرف إنما هي تلول، فأخذ الناس حدود دورهم بالتخمين.
وأما الجانب الغربي فغرقت فيه مقبرة أحمد بن حنبل وغيرها من المقابر، وانخسفت القبور المبنية، وخرج الموتى على رأس الماء، وكذلك المشهد والحربية، وكان أمراً عظيماً.
ذكر عود سنقر الهمذاني إلى اللحف وانهزامهفي هذه السنة عاد سنقر الهمذاني إلى إقطاعه، وهو قلعة الماهكي وبلد اللحف، وكان الخليفة قد أقطعه للأمير قايماز العميدي، ومعه أربعمائة فارس، فأرسل إليه يقول له: ارحل عن بلدي؛ فامتنع، فسار إليه، وجرى بينهم قتال شديد انهزم فيه العميدي، ورجع إلى بغداد بأسوء حال.
فبرز الخليفة، وسار في عساكره إلى سنقر، فوصل إلى العمانية وسير العساكر مع ترشك ورجع إلى بغداد، ومضى ترشك نحو سنقر الهمذاني، فتوغل سنقر في الجبال هارباً، ونهب ترشك ما وجد له ولعسكره من مال وسلاح وغير ذلك، وأسر وزيره، وقتل من رأى من أصحابه، ونزل على الماهكي وحصرها أياماً، ثم عاد إلى البندنيجين، وأرسل إلى بغداد بالبشارة.
وأما سنقر فإنه لحق بملكشاه فاستنجده، فسير معه خمس مائة فارس، فعاد ونزل على قلعة هناك، وأفسد أصحابه في البلاد، وأرسل ترشك إلى بغداد يطلب نجدة، فجاءته، فأراد سنقر أن يكبس ترشكن فعرف ذلك، فاحترز، فعدل سنقر إلى المخادعة، فأرسل رسولاً إلى ترشك يطلب منه أن يصلح حاله مع الخليفة، فاحتبس ترشك الرسول عنده وركب فيمن خف من أصحابه، فكبس سنقر ليلاً، فانهزم هو وأصحابه، وكثر القتل فيهم، وغنم ترشك أموالهم ودوابهم وكل ما لهم ونجا سنقر جريحا.
ذكر الفتنة بين عامة استراباذ

في هذه السنة وقع في استراباذ فتنة عظيمة بين العلويين ومن يتبعهم من الشيعة وبين الشافعية ومن معهم. وكان سببها أن الإمام محمداً الهروي وصل إلى استراباذ، فعقد مجلس الوعظ، وكان قاضيها أبو نصر سعد بن محمد بن إسماعيل النعيمي شافعي المذهب أيضاً فثار العلويين ومن يتبعهم من الشيعة بالشافعية ومن يتبعهم باستراباذ، ووقعت بين الطائفتين فتنة عظيمة انتصر فيها العلويون، فقتل من الشافعية جماعة، وضرب القاضي ونهبت داره ودور من معه، وجرى عليهم من الأمور الشنيعة ما لا حد عليه.
فسمع شاه مازندران الخبر فاستعظمه، وأنكر على العلويين فعلهم، وبالغ في الإنكار مع أنه شديد التشيع، وقطع عنهم جرايات كانت لهم، ووضع الجبايات والمصادرات على العامة، فتفرق كثير منهم وعاد القاضي إلى منصبه وسكنت الفتنة.
ذكر وفاة الملك محمد بن محمود بن ملكشاهفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد، وهو الذي حاصر بغداد طالباً السلطنة وعاد عنها، فأصابه سل، وطال بهن فمات بباب همذان، وكان مولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
فلما حضره الموت أمر العساكر فركبت وأحضر أمواله وجواهره وحظاياه ومماليكه، فنظر إلى الجميع من طيارة تشرف على ما تحتها، فلما رآه بكى، وقال: هذه العساكر والأموال والمماليك والسراري ما أرى يدفعون عني مقدار ذرة، ولا يزيدون في أجلي لحظة. وأمر بالجميع فرفع بعد أن فرق منه شيئاً كثيراً.
وكان حليماً كريماً عاقلاً كثير التأني في أموره؛ وكان له ولد صغير، فسلمه إلى آقسنقر الأحمديلي وقال له: أنا أعلم أن العساكر لا تطيع مثل هذا الطفل، وهو وديعة عندك، فارحل به إلى بلادك. فرحل إلى مراغة، فلما مات اختلفت الأمراء، فطائفة طلبوا ملكشاه أخاه، وطائفة طلبوا سليمان شاه، وهم الأكثر، وطائفة طلبوا أرسلان الذي مع إيلدكز؛ فإما ملكشاه فإنه سار من خوزستان، ومعه دكلا صاحب فارسن وشملة التركماني وغيرهما، فوصل إلى أصفهان، فسلمها إليه ابن الخجندي، وجمع له مالاً أنفقه عليه، وأرسل إلى العساكر بهمذان يدعوهم إلى طاعته، فلم يجيبوه لعدم الاتفاق بينهم، ولأن أكثرهم كان يريد سليمان شاه.
ذكر أخذ حران من نور الدين

وعوده إليها
في هذه السنة مرض نور الدين محمود بن زنكي، صاحب حلب، مرضاً شديداً وأرجف بموته؛ وكان بقلعة حلب، ومعه أخوه الأصغر أمير أميران، فجمع الناس وحصر القلعة، وكان شيركوه، وهو أكبر أمرائه بحمص، فبلغه خبر موته، فسار إلى دمشق ليتغلب عليها وبها أخوه نجم الدين أيوب، فأنكر عليه أيوب ذلك وقال: أهلكتنا! والمصلحة أن تعود إلى حلب، فإن كان نور الدين حياً خدمته في هذا الوقت، وإن كان قد مات فإنا في دمشق نفعل ما نريد من ملكها، فعاد إلى حلب مجداً وصعد القلعة، وأجلس نور الدين في مكان يراه فيه الناس، وكلمهم، فلما رأوه حياً تفرقوا عن أخيه أمير أميران، فسار إلى حران فملكها.
فلما عوفي نور الدين قصد حران ليخلصها، فهرب أخوه منه، وترك أولاده بحران في القلعة، فملكها نور الدين، وسلمها إلى زين الدين علي نائب أخيه قطب الدين، صاحب الموصل، ثم سار نور الدين بعد أخذ حران إلى الرقة، وبها أولاد أميرك الجاندار، وهو من أعيان الأمراء، وقد توفي وبقي أولاده، فنازلها، فشفع جماعة من الأمراء فيهم، فغضب من ذلك، وقال: هلا شفعتم في أولاد أخي لما أخذت منهم حران، وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلي! فلم يشفعهم وأخذها منهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة مرض الخليفة المقتفي لأمر الله، واشتد مرضه، وعوفي فضربت البشائر ببغداد، وفرقت الصدقات من الخليفة ومن أرباب الدولة، وغلق البلد أسبوعاً.
وفيها عاد ترشك إلى بغداد، ولم يشعر به أحد إلا وقد ألقى نفسه تحت التاج ومعه سيف وكفن، وكان قد عصى الخليفة والتحق بالعجم، فعاد الآن فرضي عنه، وأذن له في دخول دار الخلافة وأعطي مالاً.

وفيها، في جمادى الأولى، أرسل محمد بن أنز صاحب قهستان عسكراً إلى بلد الإسماعيلية ليأخذ نهم الخراج الذي عليهم، فنزل عليهم الإسماعيلية من الجبال، فقتلوا كثيراً من العسكر، وأسروا الأمير الذي كان مقدماً عليهم اسمه قتيبة، وهو صهر ابن أنز، فبقي أسيراً عندهم عدة شهور، حتى زوج ابنته من رئيس الإسماعيلية علي بن الحسن، وخلص من الأسر.
وفيها توفي شرف الدين علي بن أبي القاسم منصور بن أبي سعيد الصاعدي قاضي نيسابور في شهر رمضان، وكان موته بالري، ودفن في مقبرة محمد ابن الحسن الشيباني، صاحب أبي حنيفة، رضي الله عنهما، وكان القاضي حنفياً أيضاً.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة

ذكر مسير سليمان شاه إلى همذان
في هذه السنة سار سليمان شاه من الموصل إلى همذان ليتولى السلطنة، وقد تقدم سبب قبضه وأخذه إلى الموصل.
وسبب مسيره إليها أن الملك محمدا ًابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه لما مات أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى أتابك قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، يطلبون منه إرسال الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه إليهم ليولوه السلطنة، فاستقرت القاعدة بينهم أن يكون سليمان شاه سلطاناً وقطب الدين أتابكه، وجمال الدين وزير قطب الدين وزيراً للملك سليمان شاه، وزين الدين علي أمير العساكر الموصلية مقدم جيش سليمان شاه، وتحالفوا على هذا وجهز سليمان شاه بالأموال الكثيرة والبرك والدواب والآلات وغير ذلك مما يصلح للسلاطين، وسار ومعه زين الدين علي في عسكر الموصل إلى همذان .
فلما قاربوا بلاد الجبل أقبلت العساكر إليهم إرسالاً كل يوم يلقاه طائفة وأمير، فاجتمع مع سليمان شاه عسكر عظيم، فخافهم زين الدين على نفسه لأنه رأى من تسلطهم على السلطان واطراحهم للأدب معه ما أوجب الخوف منه، فعاد إلى الموصل، فحين عاد عنه لم ينتظم أمره، ولم يتم له ما أراده، وقبض العسكر عليه بهمذان في شوال سنة ست وخمسين، وخطبوا لأرسلان شاه ابن الملك طغرل، وهو الذي تزوج إيلدكز بأمه، وسيذكر مشروحاً إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة الفائز وولاية العاضد العلويينفي هذه السنة، في صفر، توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر، صاحب مصر، وكانت خلافته ست سنين ونحو شهرين؛ وكان له لما ولي خمس سنين، كما ذكرناه. ولما مات دخل الصالح بن رزيك القصر، واستدعى خادماً كبيراً، وقال له: من هاهنا يصلح للخلافة؟ فقال: هاهنا جماعة؛ وذكر أسمائهم، وذكر له منهم إنسان كبير السن، فأمر بإحضاره، فقال له بعض أصحابه سراً: لا يكون عباس أحزم منك حيث اختار الصغير وترك الكبار واستبد بالأمر؛ فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه، وأمر حينئذ بإحضار العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ، ولم يكن أبوه خليفة، وكان العاضد في ذلك الوقت مراهقاً قارب البلوغ، فبايع له بالخلافة، وزوجه الصالح ابنته، ونقل معها من الجهاز ما لا يسمع بمثله، وعاشت بعد موت العاضد وخروج الأمر من العلويين إلى الأتراك وتزوجت
؟
ذكر موت الخليفة المقتفي لأمر الله
وشيء من سيرته
في هذه السنة، ثاني ربيع الأول، توفي أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله، رضي الله عنه، بعلة التراقي؛ وكان مولده ثاني عشر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وأمه أم ولد تدعى ياعي؛ وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً، ووافق أباه المستظهر بالله في علة التراقي وماتا جميعاً في ربيع الأول.
وكان حليماً كريماً عادلاً حسن السيرة من الرجال ذوي الرأي والعقل الكثير. وهو أول من استبد بالعراق منفرداً عن سلطان يكون معه من أول أيام الدليم إلى الآن، وأول خليفة تمكن من الخلافة وحكم على عسكره وأصحابه من حين تحكم المماليك على الخلفاء من عهد المستنصر إلى الآن، إلا أن يكون المعتضد، وكان شجاعاً مقداماً مباشراً للحروب بنفسه، وكان يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار في جميع البلاد حتى كان لا يفوته شيءمنها.
؟
ذكر خلافة المستنجد بالله

وفي هذه السنة بويع المستنجد بالله أمير المؤمنين، واسمه يوسف، وأمه أم ولد تدعى طاووس، بعد موت والده؛ وكان للمقتفي حظية، وهي أم ولده أبي علي، فلما اشتد مرض المقتفي وأيست منه أرسلت إلى جماعة من الأمراء وبذلت لهم الإقطاعات الكثيرة والأموال الجزيلة ليساعدوها على أن يكون ولدها الأمير أبو علي خليفة. قالوا: كيف الحيلة مع ولي العهد؟ فقالت: إذا دخل على والده قبضت عليه. وكان يدخل على أبيه كل يوم. فقالوا: لا بد لنا من أحد من أرباب الدولة؛ فوقع اختيارهم على ابي المعالي ابن الكيا الهراسي، فدعوه إلى ذلك، فأجابهم على أن يكون وزيراً، فبذلوا له ما طلب.
فلما استقرت القاعدة بينهم وعلمت أم أبي علي أحضرت عدة من الجواري وأعطتهن السكاكين، وأمرتهن بقتل ولي العهد المستنجد بالله. وكان له خصي صغير يرسله كل وقت يتعرف أخبار والده، فرأى الجواري بأيديهن السكاكين، ورأى بيد أبي علي وأمه سيفين، فعاد إلى المستنجد فأخبره، وأرسلت هي إلى المستنجد تقول له إن والده قد حضره الموت ليحضر ويشاهده، فاستدعى أستاذ الدار عضد الدين وأخذه معه وجماعة من الفراشين، ودخل الدار وقد لبس الدرع وأخذ بيده السيف، فلما دخل ثارت به الجواري، فضرب واحدة منهن فجرحها، وكذلك أخرى، فصاح ودخل أستاذ الدار ومعه الفراشون، فهرب الجواري وأخذ أخاه أبا علي وأمه فسجنهما، وأخذ الجواري فقتل منهن، وغرق منهن ودفع الله عنه.
فلما توفي المقتفي لأمر الله جلس للبيعة، فبايعه أهله وأقاربه، وأولهم عمه أبو طالب، ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفي، وكان أكبر من المستنجد، ثم بايعه الوزير بن هبيرة، وقاضي القضاة، وأرباب الدولة والعلماء، وخطب له يوم الجمعة، ونثرت الدراهم والدنانير.
حكى عنه الوزير عون الدين بن هبيرة أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المنام منذ خمس عشرة سنة، وقال لي: يبقى أبوك في الخلافة خمس عشرة سنة؛ فكان كما قال، صلى الله عليه وسلم. قال: ثم رأيته قبل موت أبي المقتفي بأربعة أشهر، فدخل بي في باب كبير، ثم ارتقى إلى رأس جبل، وصلى بي ركعتين، ثم ألبسني قميصاً، ثم قال لي: قل اللهم اهدني فيمن هديت؛ وذكر دعاء القنوت.
ولما ولي الخلافة أقر ابن هبيرة على وزارته وأصحاب الولايات على ولاياتهم، وأزال المكوس والضرائب، وقبض على القاضي ابن الرخم وقال: وكان بئس الحاكم، وأخذ منه مالاً كثيراً، وأخذت كتبه فأحرق منها في الرحبة ما كان من علوم الفلاسفة، فكان منها كتاب الشفاء لابن سينا، وكتاب أخوان الصفا، وما شاكلهما، وقدم عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وكان أستاذ الدار يمكنه، وتقدم إلى الوزير أن يقوم له، وعزل قاضي القضاة أبا الحسن علي بن أحمد الدامغاني، ورتب مكانه أبا جعفر عبد الواحد الثقفي، وخلع عليه.
ذكر الحرب بين عسكر خوارزم والأتراك البرزيةفي هذه السنة، في ربيع الأول، سار طائفة من عسكر خوارزم إلى أجحه، وهجموا على يغمر خان بن أودك ومن معه من الأتراك البرزية، فأوقعوا بهم، وأكثروا القتل، فانهزم يغمرخان، وقصد السلطان محمد بن محمد الخان والأتراك الغزية الذين معه وتوسل إليهم بالقرابة، وظن يغمرخان أن أختيار الدين إيثاق هو الذي هيج الخوارزمية عليه، فطلب من الغز إنجاده.
ذكر أحوال المؤيد بخراسان هذه السنةقد ذكرنا سنة ثلاث وخمسين عود المؤيد أي أبه إلى نيسابور، وتمكنه منها، وأن ذلك كان سنة أربع وخمسين؛ فلما دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ورأى المؤيد تحكمه في نيسابور وتمكنه في دولته، وكثرة جنده وعسكره، أحسن السيرة في الرعية، ولا سيما أهل نيسابور، فإنه جبرهم وبالغ في الإحسان إليهم، وشرع في إصلاح أعمالها وولاياتها، فسير طائفة من عسكره إى ناحية اسقيل، وكان بها جمع قد تمردوا أكثروا العيث والفساد في البلاد، وطال تماديهم في طغيانهم، فأرسل إليهم المؤيد يدعوهم إلى ترك الشر والفساد ومعاودة الطاعة والصلاح، فلم يقبلوا، ولم يرجعوا عما هم عليه، فسير إليهم سرية كثيرة، فقاتلهم وأذاقهم عاقبة ما صنعوا فأكثروا القتل فيهم وخربوا حصنهم.

وسار المؤيد من نيسابور إلى بيهق، فوصلها رابع عشر ربيع الأخر من السنة، وقصد منها حصن خسروجرد، وهو حصن منيع بناه كيخسرو الملك قبل فراغه من قتل افراسياب، وفيه رجال شجعان، فامتنعوا على المؤيد، فحصرهم ونصب عليهم الجانيق، وجد في القتال، فصبر أهل الحصن حتى نفذ صبرهم، ثم ملك المؤيد القلعة وأخرج كل من فيها ورتب فيها من يحفظها، وعاد منها إلى نيسابور في الخامس والعشرين من جمادى الأولى من السنة.
ثم سار إلى هراة، فلم يبلغ منها غرضاً، فعاد إلى نيسابور، وقصد مدينة كندر، وهي من أعمال طريثيث، وقد تغلب عليها رجل اسمه أحمد كان خربندة، واجتمع معه جماعة من الرنود وقطاع الطريق والمفسدين، فخربوا الكثير من البلاد، وقتلوا كثيراً من الخلق، وغنموا من الأموال ما لا يحصى.
وعظمت المصيبة بهم على خراسان وزاد البلاء، فقصدهم المؤيد، فتحصنوا بالحصن الذي لهم، فقوتلوا أشد قتال، ونصب عليهم العرادات والمنجنيقات، فأذعن هذا الخربندة أحمد إلى طاعة المؤيد والانخراط في سلك أصحابه وأشياعه، فقبله أحسن قبول، وأحسن إليه وأنعم عليه.
ثم إنه عصى المؤيد، وتحصن بحصنه، فأخذه منه المؤيد قهراً وعنوة، وقيده، واحتاط عليه، ثم قتله وأراح المسلمين منه ومن شره وفساده، وقصد المؤيد في شهر رمضان ناحية بيهق عازماً على قتالهم لخروجهم عن طاعته، فلما قاربها أتاه زاهد من أهلها ودعاه إلى العفو عنهم والحلم عن ذنوبهم، ووعظه وذكره، فأجابه إلى ذلك ورحل عنهم؛ فأرسل السلطان ركن الدين محمود بن محمد الخان إلى المؤيد بتقرير نيسابور وطوس وأعمالها عليه، ورد الحكم فيها إليه، فعاد إلى نيسابور رابع ذي القعدة من السنة، ففرح الناس بما تقرر بينه وبين الملك محمود وبين الغز من إبقاء نيسابور عليه ليزول الخلف والفتن عن الناس.
ذكر الحرب بين شاه مازندران ويغمرخانلما قصد يغمرخان الغز وتوسل إليهم لينصروه على إيثاق لظنه انه هو الذي حسن للخوارزمية قصده، أجابوه إلى ذلك، وساروا معه على طريق نسا وأبيورد، ووصلوا إلى الأمير إيثاق فلم يجد لنفسه بهم قوة، فاستنجد شاه مازندران، فجاءه ومعه من الأكراد والديلم والأتراك والتركمان الذين يسكنون نواحي ابسكون جمع كثير، فاقتتلوا ودامت الحرب بينهم، وانهزم الأتراك الغزية والبرزية من شاه مازندران خمس مرات ويعودون.
وكان على ميمنة الأمير مازندران الأمير إيثاق، فحملت الأتراك الغزية عليه لما أيسوا من الظفر بقلب شاه مازندران، فانهزم إيثاق وتبعه باقي العسكر، ووصل شاه مازندران إلى سارية، وقتل من عسكره أكثرهم.
وحكي أن بعض التجار كفن ودفن من هؤلاء القتلى سبعة آلاف رجل.
وأما إيثاق فإنه قصد في هربه خوارزم وأقام بها، وسار الغز من المعركة إلى دهستان، وكان الحرب قريباً منها، فنقبوا سورها، وأوقعوا بأهلها ونهبوهم أوائل سنة ست وخمسين وخمسمائة، بعد أن خربوا جرجان وفرقوا أهلها وعادوا إلى خراسان.
ذكر وفاة خسرشاه صاحب غزنة وملك ابنه بعدهفي هذه السنة، في رجب، توفي السلطان خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود سبكتكين، صاحب غزنة، وكان عادلاً، حسن السيرة في رعيته، محباً للخير وأهله، مقرباً للعلماء محسناً إليهم راجعاً إلى قولهم؛ وكان ملكه تسع سنين.
وملك بعده ابنه ملكشاه فلما ملك نزل علاء الدين الحسين، ملك الغور، إلى غزنة فحصرها، وكان الشتاء شديداً والثلج كثيراً، قلم يمكنه المقام عليها، فعاد إلى بلاده في صفر سنة ست وخمسين.
ذكر الحرب بين إيثاق وبغراتكينفي هذه السنة، منتصف شعبان، كان بين الأمير إيثاق والأمير بغراتكين برغش الجركاني حرب، وكان إيثاق قد سار إلى بغراتكين في آخر أعمال جوين، فنهبه، واخذ أمواله وكل ما له، وكان ذا نعمة عظيمة وأموال جسيمة، فانهزم بغراتكين عنها وخلاها فافتتحها إيثاق واستغنى بها، وقويت نفسه بسببها، وكثرت جموعه، وقصده الناس. وأما بغراتكين فإنه راسل المؤيد صاحب نيسابور، وصار في جملته ومعدوداً من أصحابه، فتلقاه المؤيد بالقبول.
ذكر وفاة ملكشاه بن محمود

في هذه السنة توفي ملكشاه ابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بأصفهان مسموماً؛ وكان سبب ذلك انه لما كثر جمعه بأصفهان أرسل إلى بغداد وطلب أن يقطعوا خطبة عمه سليمان شاه ويخطبوا له ويعيدوا القواعد بالعراق إلى ما كانت عليه أولاً، وإلا قصدهم، فوضع الوزير عون الدين بن هبيرة خصياً كان خصيصاً به، يقال له أغلبك الكوهراييني، فمضى إلى بلاد العجم، واشترى جارية من قاضي همذان بألف دينار، وباعها من ملكشاه، وكان قد وضعها على سمه ووعدها أموراً عظيمة، ففعلت ذلك وسمته في لحم مشوي فأصبح ميتاً، وجاء الطبيب إلى دكلا وشملة فعرفهما انه مسموم، فعرفوا أن ذلك من فعل الجارية، فأخذت وضربت وأقرت، وهرب أغلبك، ووصل إلى بغداد، ووفى له الوزير بجميع ما استقر الحال عليه.
ولما مات أخرج أهل أصفهان أصحابه من عندهم، وخطبوا لسليمان شاه واستقر ملكه بتلك البلاد، وعاد شملة إلى خوزستان فأخذ ما كان ملكشاه تغلب عليه منها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة حج أسد الدين شيركوه بن شاذي مقدم جيوش نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام؛ وشيركوه هذا هو الذي ملك الديار المصرية، وسير ذكره إن شاء اله تعالى.
وفيها أرسل زين الدين علي نائب قطب الدين، صاحب الموصل، رسولاً إلى المستنجد يعتذر مما جناه من مساعدة محمد شاه في حصار بغداد، ويطلب أن يؤذن له في الحج، فأرسل إليه يوسف الدمشقي، مدرس النظامية، وسليمان بن قتلمش يطيبان قلبه عن الخليفة ويعرفانه الإذن في الحج، فحج ودخل إلى الخليفة، فأكرمه وخلع عليه.
وفيها توفي قايماز الأرجواني أمير الحاج، سقط عن الفرس وهو يلعب بالأكرة، فسال مخه من منخريه وأذنيه فمات.
وفيها، في ربيع الأول، توفي محمد بن يحيى بن علي بن مسلم أبو عبد الله الزبيدي، من أهل زبيد وهي مدينة مشهورة باليمن، وقدم بغداد سنة تسع وخمسمائة، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ وكان نحوياً واعظاً، وصحبه الوزير ابن هبيرة مدة، وكان موته ببغداد.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة

ذكر الفتنة ببغداد
في هذه السنة ، في ربيع الأول، خرج الوزير ابن هبيرة من داره إلى الديوان، والغلمان يطرقون له، وأرادوا أن يردوا باب المدرسة الكمالية بدار الخليفة، فمنعهم الفقهاء وضربوهم بالآجر، فشهر أصحاب الوزير السيوف وأرادوا ضربهم، فمنعهم الوزير، ومضى إلى الديوان، فكتب الفقهاء مطالعة يشكون أصحاب الوزير، فأمر الخليفة بضرب الفقهاء وتأديبهم ونفيهم من الدار، فمضى أستاذ الدار وعاقبهم هناك، واختفى مدرسهم الشيخ أبو طالب، ثم إن الوزير أعطى كل فقير ديناراً، واستحل منهم، وأعادهم إلى المدرسة وظهر مدرسهم.
ذكر قتل ترشكفي هذه الأيام قصد جمع من التركمان إلى البندنيجين، فأمر الخليفة بتجهيز عسكر إليهم، وأن يكون مقدمهم الأمير ترشك، وكان في أقطاعه بلد اللحف، فأرسل إلى الخليفة يستدعيه، فامتنع من المجيء إلى بغداد وقال: يحضر العسكر فأنا أقاتل بهم؛ وكان عازماً على الغدر؛ فجهز العسكر وساروا إليه، وفيهم جماعة من الأمراء، فلما اجتمعوا بترشك قتلوه، وأرسلوا رأسه إلى بغداد، وكان قتل مملوكاً للخليفة، فدعا أولياء القتيل وقيل لهم: إن أمير المؤمنين قد اقتص لأبيكم ممن قتله.
ذكر قتل سليمان شاه والخطبة لأرسلان

في هذه السنة، في ربيع الآخر، قتل السلطان سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه، وسبب ذلك أنه كان فيه تهور وخرق، وبلغ به شرب الخمر حتى أنه شربها في رمضان نهاراً، وكان يجمع المساخر ولا يلتفت إلى الأمراء، فأهمل العسكر أمره، وصاروا لا يحضرون بابه، وكان قد رد جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم، وهو من مشايخ الخدم السلجوقية يرجع إلى دين وعقل وحسن تدبير، فكان الأمراء يشكون إليه وهو يسكنهم.فاتفق أنه شرب يوماً بظاهر همذان في الكشك الأخضر فحضر عنده كردبازو، فلامه على فعله، فأمر سليمان شاه من عنده من المساخر فعبثوا بكردبازو، حتى أن بعضهم كشف له عن سوءته، فخرج مغضباً، فلما صحا سليمان أرسل له يعتذر، فقبل عذره، إلا أنه تجنب الحضور عنده، فكتب سليمان إلى إينانج صاحب الري يطلب منه أن ينجده على كردبازو، فوصل الرسول وإينانج مريض، فأعاد الجواب يقول: إذا أفقت من مرضي حضرت إليك بعسكري؛ فبلغ الخبر كردبازو، فازداد استيحاشاً، فأرسل إليه سليمان يوماً يطلبه، فقال: إذا جاء إينانج حضرت؛ وأحضر الأمراء واستحلفهم على طاعته، وكانوا كارهين لسليمان، فحلفوا له، فأول ما عمل أن قتل المساخرة الذين لسليمان، وقال: إنما أفعل ذلك صيانة لملكك؛ ثم اصطلحا، وعمل كردبازو دعوة عظيمة حضرها السلطان والأمراء، فلما صار السلطان سليمان شاه في داره قبض عليه كردبازو وعلى وزيره ابن القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي، وعلى أصحابه، في شوال سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فقتل وزيره وخواصه، وحبس سليمان شاه في قلعة، ثم أرسل إليه من خنقه؛ وقيل بل حبسه في دار مجد الدين العلوي رئيس همذان، وفيها قتل؛ وقيل بل سقي سماً فمات، والله اعلم.
وأرسل إلى إيلدكز، صاحب آران وأكثر بلاد أذربيجان، يستدعيه إليه ليخطب للملك أرسلان شاه الذي معه، وبلغ الخبر إلى إينانج صاحب بلاد الري، فسار ينهب البلاد إلى أن وصل إلى همذان، فتحصن كردبازو، فطلب منه إينانج أن يعطيه مصافاً، فقال: أنا لا أحاربك حتى يصل الأتابك الأعظم إيلدكز. وسار إيلدكو في عساكره جميعاً يزيد على عشرين ألف فارس، ومعه أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، فوصل إلى همذان، فلقيهم كردبازو، وأنزله دار المملكة، وخطب لأرسلان شاه بالسلطنة بتلك البلاد، وكان إيلدكز قد تزوج بأم أرسلان شاه، وهي أم البهلوان بن إيلدكز، وكان إيلدكز أتابكه، والبهلوان حاجبه، وهو أخوه لأمه، وكان إيلدكز هذا أحد مماليك السلطان مسعود واشتراه في أول أمره، فلما ملك أقطعه أران وبعض أذربيجان؛ واتفق الحروب والاختلاف، فلم يحضر عنده أحد من السلاطين السلجوقية، وعظم شأنه وقوي أمره، وتزوج بأم الملك أرسلان شاه، فولدت له أولاداً منهم البهلوان محمد، وقزل أرسلان عثمان.
وقد ذكرنا سبب انتقال أرسلان شاه إليهن وبقي عنده إلى الآن، فلما خطب له بهمذان أرسل إيلدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه أيضاً، وأن تعاد القواعد إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود، فأهين رسوله وأعيد إليه على أقبح حالة؛ وأما إيناننج صاحب الري فإن إيلدكز راسله ولاطفه فاصطلحا وتحالفا على الاتفاق، وتزوج البهلوان بن إيلدكز بابنة إينانج ونقلت إليه بهمذان.
ذكر الحرب بين ابن آقسنقر وعسكر إيلدكزلما استقر الصلح بين إيلدكز وإينانج أرسل إلى ابن آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، يدعوه إلى الحضور في خدمة السلطان أرسلان شاه، فامتنع من ذلك وقال: إن كففتم عني، وإلا فعندي سلطان، وكان عنده ولد محمد شاه بن محمود، كما ذكرناه، وكان الوزير ابن هبيرة قد كاتبه يطمعه بالخطبة لولد محمد شاه، فجهز إيلدكز عسكراً مع ولده البهلوان، فبلغ الخبر إلى ابن آقسنقر فأرسل إلى شاه أرمن، صاحب خلاط، وحالفه، وصارا يداً واحدة، فسير إليه شاه أرمن عسكراً كثيراً، واعتذر عن تأخره بنفسه لأنه في ثغر لا يمكنه مفارقته، فقوي بهم ابن آقسنقر، وكثر جمعه، وسار نحو البهلوان، فالتقيا على نهر اسبيرود، فاشتد القتال بينهم، فانهزم البهلوان أقبح هزيمةن ووصل هو وعسكره إلى همذان على أقبح صورة، واستأمن أكثر أصحابه إلى أقسنقر، وعاد إلى بلده منصوراً.
ذكر الحرب بين إيلدكز وإينانج

لما مات ملكشاه ابن السلطان محمود، كما ذكرناه، أخذ طائفة من أصحابه ابنه محموداً وانصرفوا به نحو بلاد فارس، فخرج عليهم صاحبها زنكي بن دكلا السلغري فأخذه منهم وتركه في قلعة إصطخر، فلما ملك إيلدكز والسلطان أرسلان شاه الذي معه البلاد، وأرسل إيلكز إلى بغداد يطلب الخطبة للسلطان، كما ذكرناهن شرع الوزير عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة، وزير الخليفة، في إثارة أصحاب الأطراف عليه، وراسل الأحمديلي، وكان ما ذكرناه، وكاتب زنكي بن دكلا صاحب بلاد فارس يبذل له أن يخطب للملك الذي عندهن وهو ابن ملكشاه، وعلق الخطبة له بظفره بإيلدكزن فخطب ابن دكلا للملك الذي عنده، وأنزله من القلعة، وضرب الطبل على بابه خمس نوب، وجمع عساكره وكاتب إينانج صاحب الري يطلب منه الموافقة.
وسمع الخبر إيلدكز، فحشد وجمع، وكثر عسكره وجموعه فكانت أربعين ألفاً، وسار إلى أصفهان يريد بلاد فارس، وأرسل إلى زنكي بن دكلا يطلب منه الموافقة على أن يعود يخطب لأرسلان شاه، فلم يفعل، وقال: إن الخليفة قد أقطعني بلاده وأنا سائر إليه، فرحل إيلدكز، وبلغه أن لأرسلان بوقا، وهو أمير من أمراء زنكي، وفي أقطاعه أرجان، بالقرب منه، فأنفذ سرية للغارة عليه، فاتفق أن أرسلان بوقا عزم على تغيير الخيل التي معه لضعفها، وأخذ عوضها من ذلك الجشير، فسار في عسكره إلى الجشير، فصادف العسكر الذي سيره إيلدكز لأخذ دوابه، فقاتلهم وأخذهم وقتلهم، وأرسل الرؤوس إلى صاحبه، فكتب بذلك إلى بغداد وطلب المدد، فوعد بذلك.
وكان الوزير عون الدين أيضاً قد كاتب الأمراء الذين مع إيلدكز يوبخهم على طاعته، ويضعف رأيهم، ويحرضهم على مساعدة زنكي ابن دكلا وإينانج؛ وكان إينانج قد برز من الري في عشرة آلاف فارس، فأرسل إليه ابن آقسنقر الأحمديلي خمسة آلاف فارس، وهرب ابن البازدار، صاحب قزوين، وابن طغيرك وغيرهما، فلحقوا بإينانج وهو في صحراء ساوة.
واما إيلدكز فإنه استشار نصحائه، فأشاروا بقصد إينانج لأنه أهم، فرحل إليه، ونهب زنكي بن دكلا سهيرم وغيرها، فرد إيلدكز إليه أميراً في عسرة آلاف فارس لحفظ البلاد. فسار زنكي إليهم، فلقيهم وقاتلهم، فانهزم عسكر إيلدكز إليه، فتجلد لذلك وأرسل يطلب عساكر أذربيجان، فجاءته مع ولده قزل أرسلان.
وسير زنكي بن دكلا عسكراً كثيراً إلى إينانج، واعتذر عن الحضور بنفسه عنده لخوفه على بلاده من شملة، صاحب خوزستان، فسار إيلدكز إلى إينانج وتدانى العسكران، فالتقوا تاسع شعبان وجرى بينهم حرب عظيمة أجلت عن هزيمة إينانج، فانهزم أقبح هزيمة وقتلت رجاله ونهبت أمواله، ودخل الري، وتحصن في قلعة طبرك، وحصر إيلدكز الري، ثم شرع في الصلح، واقترح إينانج أقتراحات، فأجابه إيلدكز إليها، وأعطاه جرباذقان وغيرها، وعاد إيلدكو إلى همذان؛ كان ينبغي أن تتأخر هذه الحادثة والتي قبلها، وإنما قدمت لتتبع أخواتها.
ذكر وفاة ملك الغور وملك ابنه محمدفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي الملك علاء الدين الحسين بن الحسين الغوري ملك الغور بعد انصرافه عن غزنة؛ وكان عادلاً من أحسن الملوك سيرة في رعيته، ولما مات ملك بعده ابنه سيف الدين محمد، وأطاعه الناس وأحبوه، وكان قد صار في بلادهم جماعة من دعاة الإسماعيلية، وكثر أتباعهم، فأخرجوا من تلك الديار جميعها، ولم يبق فيها منهم أحداً، وراسل الملوك وهاداهم، واستمال المؤيد أي أبه، صاحب نيسابور، وطلب موافقته.
ذكر الفتنة بنيسابور وتخريبهاكان أهل العيث والفساد بنيسابور قد طمعوا في نهب الأموال وتخريب البيوت، وفعل ما أرادوا، فإذا نهوا لم ينتهوا، فلما كان الآن تقدم المؤيد أي أبه بقبض أعيان نيسابور، منهم نقيب العلويين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني وغيره، وحبسهم في ربيع الآخر سنة ست وخمسين، وقال: أنتم الذين أطمعتم الرنود والمفسدين حتى فعلوا هذه الفعال، ولو أردتم منعهم لامتنعوا.
وقتل من أهل الفساد جماعة، فخربت نيسابور بالكلية، ومن جملة ما خرب مسجد عقيل، كان مجمعاً لأهل العلم، وفيه خزائن الكتب الموقوفة، وكان من أعظم منافع نيسابور؛ وخرب أيضاً من مدارس الحنفية ثماني مدارس، ومن مدارس الشافعية سبع عشرة مدرسة، وأحرق خمس خزائن للكتب، ونهب سبع خزائن كتب وبيعت بأبخس الأثمان؛ هذا ما أمكن إحصاؤه سوى ما لم يذكر.

ذكر خلع السلطان محمود ونهب طوس
وغيرها من خراسان
في هذه السنة، في جمادى الآخرة، قصد السلطان محمود بن محمد الخان، وهو ابن أخت السلطان سنجر، وقد ذكرنا أنه ملك خراسان بعده، ففي هذه السنة حصر المؤيد صاحب نيسابور بشاذياخ، وكان الغز مع السلطان محمود، فدامت الحرب إلى سنة ست وخمسين وخمسمائة.
ثم إن محموداً أظهر أنه يريد دخول الحمام، فدخل إلى شهرستان، آخر شعبان، كالهارب من الغز، وأقاموا على نيسابور إلى أخر شوال، ثم عادوا راجعين، فعاثوا في القرى ونهبوها، ونهبوا طوس نهباً فاحشاً، وحضروا المشهد الذي لعلي بن موسى، وقتلوا كثيراً ممن فيه ونهبوهم، ولم يعرضوا للقبة التي فيها القبر.
فلما دخل السلطان محمود إلى نيسابور أمهله المؤيد إلى أن دخل رمضان منسنة سبع وخمسين وخمسمائة وأخذه وكحله وأعماه، وأخذ ما كان معه من الأموال والجواهر والأعلاق النفيسةن وكان يخفيها خوفاً عليها من الغز، لما كان معهم، وقطع المؤيد خطبته من نيسابور وغيرها مما هو في تصرفه، وخطب لنفسه، بعد الخليفة المستنجد بالله، وأخذ ابنه جلال الدين محمداً الذي كان قد ملكه الغز أمرهم قبل أبيه، وقد ذكرنا ذلك، وسلمه أيضا، وسجنهما، ومعهما جواريهما وحشمهما ، وبقيا فيها فلم تطل أيامهما، ومات السلطان محمود، ثم مات ابنه بعده من شدة وجده لموت أبيه، والله أعلم.
ذكر عمارة شاذياخ نيسابوركانت شاذياخ قد بناها عبد الله بن طاهر بن الحسين، لما كان أميراً على خراسان للمأمون، وسبب عمارتها أنه رأى امرأة جميلة تقود فرساً تريد سقيه، فسألها عن زوجها، فأخبرته به، فأحضره وقال له: خدمة الخيل بالرجال أشبه، فلما تقعد أنت في دارك وترسل امرأتك مع فرسك؟ فبكى الرجل، وقال له: ظلمك يحملنا على ذلك. فقال: وكيف؟ قال: لأنك تنزل الجند معنا في دورنا، فإن خرجت أنا وزوجتي بقي البيت فارغاًن فيأخذ الجندي ما لنا فيه، وإن سقيت أنا الفرس فلا آمن على زوجتي من الجندي، فرأيت أن أقيم أنا في البيت وتخدم زوجتي الفرس.
فعظم الأمر عليه وخرج من البلد لوقته، ونزل في الخيام، وأمر الجند فخرجوا من دور الناس، وبنى شاذياخ داراً له ولجنده وسكنها وهم معه، ثم إنها دثرت بعد ذلك.
فلما كان أيام السلطان ألب أرسلان، ذكرت له هذه القصة فأمر بتجديدها، ثم إنها تشعثت بعد ذلك، فلما كان الآن وخربت نيسابور ولم يمكن حفظها، والغز تطرق البلاد وتنهبها، وأمر المؤيد حينئذ بعمل سورها، وسد ثلمه وسكناه، ففعل ذلك وسكنها هو والناس وخربت حينئذ نيسابور كل خراب، ولم يبق فيها أنيس.
ذكر قتل الصالح بن رزيك ووزارة ابنه زريكفي هذه السنة، في شهر رمضان، قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك الأرمني، وزير العاضد العلوي، صاحب مصر ، وكان سبب قتله أنه تحكم بالدولة التحكم العظيم، واستبد بالأمر والنهي وجباية الأموال إليه، لصغر العاضد، ولأنه هو الذي ولاه، ووتر الناس، فإنه أخرج كثيراً من أعيانه وفرقهم في البلاد ليأمن وثوبهم عليه؛ ثم إنه زوج أبنته من العاضد فعاداه أيضاً الحريم من القصر،فأرسلت عمة العاضد الأموال إلى الأمراء المصريين، ودعتهم إلى قتله.
وكان أشدهم في ذلك إنسان يقال له ابن الراعي، فوقفوا في دهليز القصر، فلما دخل ضربوه بالسكاكين على دهش منه فجرحوه جراحات مهلكة، إلا أنه حمل إلى داره وفيه حياة، فأرسل إلى العاضد يعاتبه على الرضى في قتله مع أثره في خلافته، فأقسم العاضد بأنه لا يعلم بذلك، ولم يرضى به. فقال : إن كنت بريئاً فسلم عمتك إلي حتى انتقم منها؛ فأمر بأخذها، فأرسل إليها قهراً، وأحضرت عنده فقتلها ووصى بالوزارة لابنه رزيك ولقب العادل، فانتقل الأمر إليه بعد وفاة والده. وللصالح أشعار حسنة بليغة تدل على فضل غزير، فمنها في الأفتخار:
أبى الله إلا أن يدوم لنا الدهر ... ويخدمنا في ملكنا العز والنصر
علمنا بأن المال تفنى ألوفه ... ويبقى لنا من بعده الأجر والذكر
خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا ... سحاب لديه البرق والرعد والقطر
قرانا إذا رحنا إلى الحرب مرة ... يرانا ومن أضيافنا الذئب والنسر
كما أنا في السلم نبذل جودنا ... ويرتع في إنعامنا العبد والحر
وهي طويلة.

وكان الصالح كريماً فيه أدب، وله شعر جيد، وكان لأهل العلم عنده أنفاق، ويرسل إليهم العطاء الكثير، بلغه أن الشيخ أبا محمد الدهان النحوي البغدادي المقيم بالموصل قد شرح بيتاً من شعره وهو هذا:
تجنب سمعي ما يقول العواذل ... وأصبح لي شغل من الغزو شاغل
فجهز إليه هدية سنية ليرسلها إليه، فقتل قبل إرسالها.
وبلغه أيضاً أن إنساناً من أهل الموصل قد أثنى عليه بمكة، فأرسل إليه كتاباً يشكره ومعه هدية.
وكان الصلح إمامياً لم يكن على مذهب العلويين المصريين، ولما ولي العاضد الخلافة؛ ركب سمع الصالح ضجة عظيمة، فقال: ما الخبر؟ فقيل: إنهم يفرحون بالخليفة . فقال: كأني بهؤلاء الجهلة وهم يقولون ما مات الأول حتى استخلف هذا، وما علموا أنني كنت من ساعة أستعراضهم استعراض الغنم.
قال عمارة: دخلت إلى الصالح قبل قتله بثلاثة أيام، فناولني قرطاساً فيه بيتان من شعره وهما:
نحن في غفلة ونوم وللمو ... ت عيون يقظانة لا تنام
قد رحلنا إلى الحمام سنيناً ... ليت شعري متى يكون الحمام
فكان آخر عهدي به. وقال عمارة أيضاً: ومن عجيب الاتفاق أنني أنشدت ابنه قصيدة أقول فيها.
أبوك الذي تسطو الليالي بحده ... وأنت يمين إن سطا وشمال
لرتبته العظمى وإن طال عمره ... إليك مصير واجب ومنال
تخالسك اللحظ المصون ودونها ... حجاب شريف لا انقضا وحجال
فانتقل الأمر إليه بعد ثلاثة أيام.
ذكر الحرب بين العرب وعسكر بغدادفي هذه السنة، في شهر رمضان، اجتمعت خفاجة إلى الحلة والكوفة، وطالبوا برسومهم من الطعام والتمر وغير ذلك، فمنعهم أمير الحاج أرغش، وهو مقطع الكوفة، ووافقه على قطعه الأمير قيصر شحنة الحلة، وهما من مماليك الخليفة، فأفسدت خفاجة، ونهبوا سواد الكوفة والحلة، فأسرى إليهم الأمير قيصر، شحنة الحلة، في مائتين وخمسين فارساً، وخرج إليه أرغش في عسكر وسلاح، فانتزحت خفاجة من بين أيديهم، وتبعهم العسكر إلى رحبة الشام، فأرسل خفاجة يعتذرون ويقولون: قد قنعنا بلبن الإبل وخبز الشعير، وأنتم تمنعوننا رسومنا؛ وطلبوا الصلح، فلم يجبهم أرغش وقيصر.
وكان قد اجتمع مع خفاجة كثير من العرب، فتصافوا واقتتلوا، وأرسلت العرب طائفة إلى خيام العسكر وخيامهم فحالوا بينهم وبينها، وحمل العرب حملة منكرة، فانهزم العسكر، وقتل كثير منهم، وقتل الأمير قيصر، وأسرت جماعة أخرى، وجرح أمير الحاج جراحة شديدة، وخل الرحبة، فحماه شيخها وأخذ له الأمان وسيره إلى بغداد، ومن نجا مات عطشاً في البرية.
وكان إماء العرب يخرجن بالماء يسقين الجرحى، فإذا طلبه منهن أحد من العسكر أجهزن عليه. وكثر النوح والبكاء ببغداد على القتلى، وتجهز الوزير عون الدين بن هبيرة والعساكر معه، فخرج في طلب خفاجة فدخلوا البر وخرجوا إلى البصرة، ولما دخلوا البر عاد الوزير إلى بغداد، وأرسل بنو خفاجة يعتذرون ويقولون: بغي علينا، وفارقنا البلاد، فتبعونا واضطررنا إلى القتال وسألوا العفو عنهم، فأجيبوا إلى ذلك.
ذكر حصر المؤيد شارستانفي هذه السنة حصر المؤيد أي أبه مدينة شارستان، قرب نيسابور، وقاتله أهلها، وبصب المجانيق والعرادات، فصبر أهلها خوفاً على أنفسهم من المؤيد، وكان معه جلال الدين المؤيد الموفقي الفقيه الشافعي، فبينما هو راكب إذ وصل إليه حجر منجنيق فقتله خامس جمادى الآخرة من السنة، وتعدى الحجر منه إلى شيخ من شيوخ بيهق فقتله، فعظمت المصيبة بقتل جلال الدين على أهل العلم، وخصوصاً أهل السنة والجماعة، وكان في عنفوان شبابه رحمه الله لما قتل .
ودام الحصار إلى شعبان سنة سبع وخمسين وخمسمائة، فنزل خواجكي صاحبها بعد ما كثر القتل، ودام الحصر، وكان لهذه القلعة ثلاثة رؤساء هم أصحاب النهي والأمر، هم الذين حفظوها وقاتلوا عنها، أحدهم خواجكي هذا، والثاني داعي بن محمد بن أخي حرب العلوي، والثالث الحسين بن أبي طالب العلوي الفارسي، فنزلوا كلهم أيضاً إلى المؤيد أي أبه، فيمن معهم من أشياعهم وأتباعهم. فأما خواجكي فإنه ثبت عليه بأنه قتل زوجته ظلماً وعدواناً وأخذ مالها، فقتل بها وملك المؤيد شارستان، وصفت له، فنهبها عسكره إلا انهم لم يقتلوا امرأة ولا سبوها.

ذكر ملك الكرج مدينة آني
في هذه السنة، في شعبان، اجتمعت الكرج مع ملكهم، وساروا إلى مدينة آني من بلاد آران وملكوها، وقتلوا فيها خلقاً كثيراً، فانتدب لهم شاه أرمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط، وجمع العساكر، واجتمع معه من المتطوعة خلق كثير، وسار إليهم، فلقوه وقاتلوه، فانهزم المسلمون، وقتل أكثرهم، وأسر كثير منهم، وعاد شاه ارمن مهزوماً لم يرجع معه غير أربع مائة فارس من عسكره.
ذكر ولاية عيسى مكة حرسها اللهكان أمير مكة، هذه السنة، قاسم بن فليتة بن قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسنين فلما سمع بقرب الحجاج من مكة صادر المجاورين وأعيان أهل مكة، وأخذ كثيراً من أموالهم، وهرب من مكة خوفاً من أمير الحاج أرغش.
وكان قد حج هذه السنة زين الدين علي بن بكتكين، صاحب جيش الموصل، ومعه طائفة صالحة من العسكر، فلما وصل أمير الحاج إلى مكة رتب مكان قاسم بن فليتة عمه عيسى بن قاسم بن أبي هاشم، فبقي كذلك إلى شهر رمضان، ثم إن قاسم بن فليتة جمع جمعاً كثيراً من العرب أطمعهم في مال له في مكة، فاتبعوه، فسار بهم إليها، فلما سمع عمه عيسى فارقها، ودخلها قاسم فأقام بها أميراً أياماً، ولم يكن له مال يوصله إلى العرب، ثم إنه قتل قائداً كان معه أحسن السيرة، فتغيرت نيات أصحابه عليه، وكاتبوا عمه عيسى، فقدم عليهم، فهرب وصعد جبل أبي قبيس، فسقط عن فرسه، فأخذه أصحاب عيسى وقتلوه، فعظم عليه قتله، فأخذه وغسله ودفنه بالمعلى عند أبيه فليتة، واستقر الأمر لعيسى، والله أعلم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار عبد المؤمن، صاحب المغرب، إلى جبل طارق، وهو على ساحل الخليج مما يلي الأندلس، فعبر المجاز إليه، وبنى عليه مدينة حصينة، وأقام بها عدة شهور، وعاد إلى مراكش.
وفيها، في المحرم، ورد نيسابور جمع كثير من التركمان بلاد فارس ومعهم أغنام كثيرة للتجارة فباعوها وأخذوا الثمن وساروا ونزلوا على مرحلتين من طابس كنكلي، وناموا هناك، فنزل إليهم الإسماعيلية وكبسوهم ليلاً، ووضعوا السيف فيهم، فقتلوا وأكثروا، ولم ينجو منهم إلا الشريد، وغنم الإسماعيلية جميع ما معهم من مال وعروض، وعادوا إلى قلاعهم.
وفيها كثرت الأمطار في أكثر البلاد، ولا سيما خراسان، فإن الأمطار توالت فيها من العشرين من المحرم إلى منتصف صفر لم تنقطع، ولا رأى الناس فيها شمساً.
وفيها كان بين الكرج وبين الملك صلتق بن علي، صاحب أرزن الروم، قتال وحرب انهزم فيه صلتق وعسكره، وأسر هو، وكانت أخته شاه بانوار قد تزوجها شاه أرمن سكمان بن ابراهيم بن سكمان صاحب خلاط، فأرسلت إلى ملك الكرج هدية جليلة المقدار، وطلبت منه أن يفاديها بأخيها، فأطلقه، فعاد إلى ملكه.
وفيها قصد صاحب صيدا من الفرنج نور الدين محمود، صاحب الشام، ملتجئاً إليه، فأمنه وسير معه عسكراً يمنعه من الفرنج أيضاً، فظهر عليهم في الطريق كميناً للفرنج، فقتلوا من المسلمين جماعة وانهزم الباقون.
وفيها ملك قرا أرسلان، صاحب حصن كيفا، قلعة شاتان، وكانت لطائفة من الأكراد يقال لهم الجونيه، فلما ملكها خربها وأضاف ولايتها إلى حصن طالب.
وفيها توفي الكمال حمزة بن علي بن طلحة صاحب المخزن، كان جليل القدر أيام المسترشد بالله، وولي المقتفي، وبنى مدرسة لأصحاب الشافعي بالقرب من داره، ثم حج وعاد وقد لبس الفوط وزي الصوفية وترك الأعمال، فقال بعض الشعراء به:
يا عضد الإسلام يا من سمت ... إلى العلا همته الفاخرة
كانت لك الدنيا، فلم ترضها ... ملكاً فأخلدت إلى الآخرة
وبقي منقطعاً في بيته عشرين سنة، ولم يزل محترماً يغشاه الناس كافة.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة
ذكر فتح المؤيد طوس وغيرها
في هذه السنة، في السابع والعشرين من صفر، نازل المؤيد أي أبه أبا بكر جاندار بقلعة وسكره خوي من طوس وكان قد تحصن بها، وهي حصينة منيعة لا ترام، فقاتله وأعانه أهل طوس على أبي بكر لسوء سيرته فيهم وظلمه، فلما رأى أبو بكر ملازمة المؤيد ومواصلة القتال عليه خضع وذل واستكان، ونزل من القلعة بالأمان في العشرين من ربيع الأول من السنة، فلما نزل منها حبسه المؤيد وأمر بتقييده.

ثم سار منها إلى كرستان، وصاحبها أبو بكر فاخر، فنزل من قلعته، وهي من أمنع الحصون على رأس جبل عال، وصار في طاعة المؤيد، ودان له ووافقه، وسير جيشاً في جمادى الآخرة منها إلى أسفرايين، فتحصن رئيسها عبد الرحمن بن محمد بن علي الحاج بالقلعة، وكان أبوه كريم خراسان على الإطلاق، ولكن كان عبد الرحمن هذا بئس الخلف، فلما تحصن أحاط به العسكر المؤيدي، واستنزلوه من الحصن، وحملوه مقيداً إلى شاذياخ وحبس فيها؛ وقيل في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
وملك المؤيد أيضاً قهندز نيسابور، واستدارت مملكة المؤيد حول نيسابور وعادت إلى ما كانت عليه قبل، إلا أن أهلها انتقلوا إلى شاذياخ، وخربت المدينة العتيقة.
وسير المؤيد جيشاً إلى خواف، وبها عسكر مع بعض الأمراء اسمه أرغش، فكمن أرغش جمعاً في تلك المضايق والجبال، وتقدم إلى عسكر المؤيد فقاتلهم وطلع الكمين، فانهزم عسكر المؤيد وقتل منهم جمع، وعاد الباقون إلى المؤيد بنيسابور.
وسير جيشاً إلى بوشنج هراة، وهي في طاعة الملك محمد بن الحسين الغوري، فحصروها، واشتد الحصار عليها، ودام القتال والزحف، فسير الملك محمد الغوري جيشاً إليها ليمنع عنها، فلما قاربوا هراة فارقها العسكر الذي يحصرها، وعاودوا عنها وصفت تلك الولاية للغورية.
ذكر أخذ ابن مردنيش غرناطة من عبد المؤمن وعودها إليهفي هذه السنة أرسل أهل غرناطة من بلاد الأندلس، وهي لعبد المؤمن، إلى الأمير إبراهيم بن همشك صهر ابن مردنيشن فاستدعوه إليهم ليسلموا إليه البلد؛ وكان قد وحد، وصار من أصحاب عبد المؤمن، وفي طاعته، وممن يحرضه على قتل ابن مردنيش. ففارق طاعة عبد المؤمن وعاد إلى موافقة ابن مردنيش. فامتنعوا بحصنها، فبلغ الخبر أبا سعيد عثمان بن عبد المؤمن وهو بمدينة مالقة، فجمع الجيش الذي كان عنده وتوجه إلى غرناطة لنصرة من فيها من أصحابهم، فعلم بذلك إبراهيم بن همشك فاستنجد ابن مردنيش، ملك البلاد بشرق الأندلس، فأرسل إليه ألفي فارس من أنجاد أصحابه ومن الفرنج الذين جندهم معه، فاجتمعوا بضواحي غرناطة، فالتقوا هم ومن بغرناطة من عسكر عبد المؤمن قبل وصول أبي سعيد إليهم، فاشتد القتال بينهم فانهزم عسكر عبد المؤمن، وقدم أبو سعيد، واقتتلوا أيضاً، فانهزم كثير من أصحابه، وثبت معه طائفة من الأعيان والفرسان المشهورين، والرجالة الأجلاد، حتلا قتلوا عن آخرهم وانهزم حينئذ أبو سعيد ولحق بمالقة.
وسمع عبد المؤمن الخبر، وكان قد سار إلى مدينة سلا، فسير إليهم في الحال ابنه ابا يعقوب يوسف في عشرين ألف مقاتل، فيهم جماعة من شيوخ الموحدين، فجدوا المسير، فبلغ ذلك ابن مردنيش فسار بنفسه وجيشه إلى غرناطة ليعين ابن همشك، فاجتمع منهم بغرناطة جمع كثير، فنزل ابن مردنيش في الشريعة بظاهرها، ونزل العسكر الذي كان أمد به ابن همشك أولاًن وهم ألفا فارس، بظاهر القلعة الحمراء، ونزل ابن همشك بباطن القلعة الحمراء بمن معه، ووصل عسكر عبد المؤمن إلى جبل قريب من غرناطة، فأقاموا في سفحه أياماً ثم سيروا سرية أربعة ألاف فارس، فبينوا العسكر الذي بظاهر القلعة الحمراء، وقاتلوهم من جهاتهم، فما لحقوا يركبون، فقتلوهم عن آخرهم.
وأقبل عسكر عبد المؤمن بجملته، فنزلوا بضواحي غرناطة، فعلم ابن مردنيش وابن همشك أنهم لا طاقة لهم بهم، ففروا في الليلة الثانية، ولحقوا ببلادهم، واستولى الموحدون على غرناطة في باقي السنة المذكورة، وعاد عبد المؤمن من مدينة سلا إلى مراكش.
ذكر حصر نور الدين حارمفي هذه السنة جمع نور الدين بن محمود بن آقسنقر، صاحب الشام، العساكر بحلب، وسار إلى قلعة حارم، وهي للفرنج غربي حلب، ، فحصرها وجد في قتالها، فامتنعت عليه بحصانتها، وكثرة من بها من فرسان الفرنج ورجالتهم وشجعانهم، فلما علم الفرنج ذلك جمعوا فارسهم وراجلهم من سائر البلاد، وحشدوا، واستعدوا، وساروا نحوها ليرحلوه عنها، فلما قاربوه طلب منهم المصاف، فلم يجيبوه إليه، وراسلوه، وتلطفوا الحال معه، فلما رأى أنه لا يمكنه أخذ الحصن، ولا يجيبونه إلى المصاف، عاد إلى بلاده

وممن كان معه في هذه الغزوة مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ الكناني، وكان من الشجاعة في الغاية، فلما عاد إلى حلب دخل إلى مسجد شيزر، وكان قد دخله في العام الماضي سائراً إلى الحج، فلما دخله الآن كتب على حائطه:
لك الحمد يا مولاي كم لك منة ... علي وفضلاً لا يحيط به شكري
نزلت بهذا المسجد العام قافلاً ... من الغزو موفور النصيب من الأجر
ومنه رحلت العيس في عامي الذي ... مضى نحو بيت الله والركن والحجر
فأديت مفروضي وأسقطت ثقل ما ... تحملت من وزر الشبيبة عن ظهري
ذكر ملك الخليفة قلعة الماهكيفي هذه السنة، في رجب، ملك الخليفة المستنجد بالله قلعة الماهكي، وسبب ذلك أن سنقر الهمذاني، صاحبها، سلمها إلى أحد مماليكه ومضى إلى همذان، فضعف هذا المملوك عن مقاومة ما حولها من التركمان والأكراد، فأشير عليه ببيعها من الخليفة، فراسل في ذلك، فاستقرت على خمسة عشر ألف دينار وسلاح وغير ذلك من الأمتعة، وعدة من القرى، فسلمها واستلم ما استقر له، وأقام ببغداد. وهذه القلعة لم تزل من أيام المقتدر بالله بأيدي التركمان والأكراد وإلى الآن.
ذكر الحرب بين المسلمين والكرجفي هذه السنة، في شعبان، اجتمعت الكرج في خلق كثير يبلغون ثلاثين ألف مقاتل، ودخلوا بلاد الإسلام، وقصدوا مدينة دوين من أذربيجان، فملكوها ونهبوها، وقتلوا من أهلها وسوادها نحو عشرة آلاف قتيل، وأخذوا النساء سبايا، وأسروا كثيراً، وأعروا النساء وقادوهم حفاة عراة، وأحرقوا الجوامع والمساجد؛ فلما وصلوا إلى بلادهم أنكر نساء الكرج مافعلوا بنساء المسلمين، وقلن لهم: قد أحوجتم المسلمين أن يفعلوا بنا مثل ما فعلتم بنسائهم؛ وكسونهن.ولما بلغ الخبر إلى شمس الدين إيلدكز، صاحب أذربيجان والجبل وأصفهان، جمع عساكره وحشدها، وانضاف إليه شاه أرمن بن سكمان القطبي، صاحب خلاط، وابن آقسنقر، صاحب مراغة وغيرها، فاجتمعوا في عسكر كثير يزيدون على خمسين ألف مقاتل، وساروا إلى بلاد الكرج في صفر سنة ثمان وخمسين ونهبوها، وسبوا النساء والصبيان، وأسروا الرجال، ولقيهم الكرج، واقتتلوا أشد قتال صبر فيه الفريقان، ودامت الحرب بينهم أكثر من شهر، وكان الظفر للمسلمين، فانهزم الكرج وقتل منهم كثير وأسر كذلك.
وكان سبب الهزيمة ان بعض الكرج حضر عند إيلدكز، فأسلم على يديه، وقال له: تعطيني عسكراً حتى أسير بهم في طريق أعرفها وأجيء إلى الكرج من ورائهم وهم لا يشعرون! فاستوثق منه، وسير معه عسكراً وواعده يوماً يصل فيه إلى الكرج، فلما كان ذلك اليوم قاتل المسلمون الكرج، فبينما هم في القتال وصل ذلك الكرجي الذي أسلم ومعه العسكر، وكبروا وحملوا على الكرج من ورائهم، فانهزموا، وكثر القتل فيهم والسر، وغنم المسلمون من أموالهم ما لا يدخل تحت الإحصاء لكثرته، فإنهم كانوا متيقنين النصر لكثرتهم، فخيب الله ظنهم، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثة أيام بلياليها، وعاد المسلمون منصورين قاهرين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، وصل الحجاج إلى منى، ولم يتم الحج لأكثر الناس لصدهم عن دخول مكة والطواف والسعي، فمن دخل يوم النحر مكة وطاف وسعى كمل حجه، ومن تأخر عن ذلك منع دخول مكة لفتنة جرت بين أمير الحاج وأمير مكة. كان سببها أن جماعة من عبيد مكة أفسدوا في الحاج بمنى، فنفر عليهم بعض أصحاب أمير الحاج فقتلوا منهم جماعة، ورجع من سلم إلى مكة، وجمعوا جمعاً وأغاروا على جمال الحاج، واخذوا منها قريباً من ألف جمل، فنادى أمير الحاج في جنده، فركبوا بسلاحهم، ووقع القتال بينهم، فقتل جماعة، ونهب جماعة من الحاج وأهل مكة، فرجع أمير الحاج ولم يدخل مكة، ولم يقم بالزاهر غير يوم واحد، وعاد كثير من الناس رجالة لقلة الجمال، ولقوا شدة.
وممن حج في هذه السنة جدتنا أم أبينا، ففاتها الطواف والسعي، فاستفتي لها الإمام الشيخ أبو القاسم بن البرري، فقال: تدوم على ما بقي عليها من إحرامها إلى قابل، وتعود إلى مكة، فتطوف وتسعى، فكمل الحجة الأولى، ثم تحرم إحراماً ثانياً، وتعود إلى عرفات، فتقف وترمي الجمار، وتطوف وتسعى، فتصير لها حجة ثانية؛ فبقيت على إحرامها إلى قابل، وحجت وفعلت كما قال، فتم حجها الأول والثاني.

وفيها نزل بخراسان برد كثير عظيم المقدار، أواخر نيسان، وكان أكثره بجوين ونيسابور وما والاهما، فأهلك الغلات، ثم جاء بعده مطر كثير دام عشرة أيام.
وفيها في جمادى الآخرة، وقع الحريق ببغداد، احترق سوق الطيوريين والدور التي تليه مقابله إلى سوق الصفر الجديد، والخان الذي في الرحبة، ودكاكين البزورين وغيرها.
وفيها توفي الكيا الصباحي، صاحب الموت، مقدم الإسماعيلية، وقام ابنه مقامه، فأظهر التوبة، وأعاد هو ومن معه الصلوات وصيام شهر رمضان، وأرسلوا إلى قزوين يطلبون من يصلي بهم، ويعلمهم حدود الإسلام، فأرسلوا إليهم.
وفيها في رجب، درس شرف الدين يوسف الدمشقي في المدرسة النظامية ببغداد؛ وفيها توفي شجاع الفقيه الحنفي ببغداد، وكان مدرساً بمدرسة أبي حنيفة، وكان موته في ذي القعدة.
وفيها توفي صدقة بن وزير الواعظ.
وفيها، في المحرم، توفي الشيخ عدي بن مسافر الزاهد المقيم ببلد الهكارية من أعمال الموصل، وهو من الشام، من بلد بعلبك، فانتقل إلى الموصل، وتبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي وأطاعوه، وحسنوا الظن فيه، وهو مشهور جداً.
؟

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة
؟؟
ذكر وزارة شاور للعاضد بمصر
ثم وزارة الضرغام بعده
في هذه السنة، في صفر، وزر شاور للعاضد لدين الله العلوي صاحب مصر، وكان ابتداء أمره ووزارته أنه كان يخدم الصالح بن رزيك ولزمه، فأقبل عليه الصالح وولاه الصعيد، وهو أكبر الأعمال بعد الوزارة، فلما ولي الصعيد ظهرت منه كفاية عظيمة وتقدم زائد، واستمال الرعية والمقدمين من العرب وغيرهم، فعسر أمره على الصالح، ولم يمكنه عزله، فاستدام استعماله لئلا يخرج عن طاعته. فلما جرح الصالح كان من جملة وصيته لولده العادل: إنك لا تغير على شاور، فإنني أنا أقوى منك وقد ندمت على استعماله، ولم يمكنّي عزله، فلا تغيروا ما به فيكون لكم منه ما تكرهون.
فلما توفي الصالح من جراحته وولي ابنه العادل الوزارة حسن له أهله عزل شاور واستعمال بعضهم مكانه، وخوفوه منه إن أقروه على عمله، فأرسل إليه بالعزل، فجمع جموعاً كثيرة وسار إلى القاهرة بهم، فهرب منه العادل ابن الصالح بن زريك فأخذ وقتل، فكانت مدة وزارته ووزارة أبيه قبله تسع سنين وشهراً وأياماً، وصار شاور وزيراً، وتلقب بأمير الجيوش، وأخذ أموال بني رزيك وودائعهم وذخائرهم، وأخذ منه أيضاً طي والكامل ابنا شاور والمصريين إلى الأتراك.
ثم إن الضرغام جمع جموعاً كثيرة، ونازع شاور بالوزارة في شهر رمضان، وظهر أمره، وانهزم شاور منه إلى الشام، على ما نذكره سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وصار ضرغام وزيراً.
وكان هذه السنة ثلاثة وزراء: العادل بن زريك، وشاور ، وضرغام، فلما تمكن ضرغام من الوزارة قتل كثيراً من الوزراء المصريين لتخلو له البلاد من منازع، فضعفت الدولة بهذا السبب حتى خرجت البلاد عن أيديهم.
ذكر وفاة عبد المؤمن وابنه يوسففي هذه السنة، في العشرين من جمادى الآخرة، توفي عبد المؤمن بن علي، صاحب بلاد المغرب، وإفريقية، والأندلس، وكان قد سار من مراكش إلى سلا، فمرض بها ومات.
ولما حضره الموت جمع شيوخ الموحدين من أصحابه، وقال لهم: قد جربت ابني محمداً، فام أره يصلح لهذا الأمر، وإنما يصلح له ابني يوسف، وهو أولى بها، فقدموه لها، ووصاهم بها، وبايعوه ودعي بأمير المؤمنين، وكتما موت عبد المؤمن، وحمل فمن سلا في محفة بصورة أنه مريض إلى أن وصل إلى مراكش.
وكان ابنه أبو حفص في تلك المدة حاجباً لأبيه، فبقي مع أخيه على مثل حاله مع أبيه يخرج فيقول للناس: أمير المؤمنين أمر بكذا، ويوسف لم يقعد مقعد أبيه إلى أن كملت المبايعة له في جميع البلاد، واستقرت قواعد الأمور له، ثم أظهر موت أبيه عبد المؤمن، فكانت ولايته ثلاثاً وثلاثين سنة وشهوراً، وكان عاقلاً، حازماً، سديد الرأي، حسن السياسة للأمور، كثير البذل للأموال، إلا أنه كان كثير السفك لدماء المسلمين على الذنب الصغير.
وكان يعظم أمر الدين ويقويه، ويلزم الناس في سائر بلاده بالصلاة، ومن رؤي وقت الصلاة غير تصل قتل وجمع الناس على مذهب مالك في الفروع، وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول، وكان الغالب على مجلسه أهل العلم والدين، المرجع إليهم، والكلام معهم ولهم.

ذكر ملك المؤيد أعمال قومس
والخطبة للسلطان أرسلان بخراسان
في هذه السنة، سار المؤيد أي أبه، صاحب نيسابور إلى بلاد قومس، فملك بسطام ودامغان، واسنناب بقومس مملوكه تنكز، فأقام تنكز بمدينة بسطام، فجرى بين تنكز وبين شام مازندران اختلاف أدى إلى الحرب، فجمع كل منهما عسكره، والتقوا أوائل ذي الحجة في هذه السنة، واقتتلوا، فانهزم عسكر مازندران، وأخذت أسلابهم، وقتل منه طائفة كبيرة.
ولما ملك المؤيد بلاد قومس أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه خلعاً نفيسة، وألوية معقودة، وهدية جليلة، وأمره أن يهتم باستيعاب بلاد خراسان ويتولى ذلك أجمع، وأن يخطب له، فلبس المؤيد الخلع، فخطب له في البلاد التي هي بيده.
وكان السبب في هذا أتابك شمس الدين إيلدكز، فانه كان هو الذي يحكم في مملكة أرسلان، وليس لأرسلان غير الاسم؛ وكان بين إيلدكز وبين المؤيد مودة عظيمة ذكرناها عند قتل المؤيد، فلما أطاع المؤيد السلطان أرسلان خطب له ببلاده، مهي بلاد قومس ونيسابور وطوس وأعمال نيسابور جميعها، ومن نسا إلى طبس كنكلي، وكان يخطب لنفسه بعد أرسلان، وكانت الخطبة في جرجان ودهستان لخوارزم شاه أيل أرسلان بن أتسز، وبعده للأمير إيثاق؛ وكانت الخطبة في مرو وبلخ وهراة وسرخس، وهذه البلاد بيد الغز، إلا هراة فكانت بيد الأمير ايتكين، وهو مسالم للغز، فكانوا يخطبون للسلطان سنجر فيقولون: اللهم اغفر للسلطان السعيد المبارك على المسلمين سنجر، وبعده للأمير الذي هو حاكم على تلك البلاد.
ذكر قتل الغز ملك الغورفي هذه السنة، في رجب، قتل سيف الدين محمد بن الحسين الغور، ملك الغور، قتله الغز.
وسبب ذلك أنه جمع عساكره وحشد فأكثر، وسار في بلاد الغور يريد الغز وهم ببلخ، واجتمعوا، وتقدموا إليه، فاتفق أن ملك الغور خرج من معسكره في جماعة من خاصته، جريدة، فسمع به أمراء الغز، فساروا يطلبونه مجدين قبل أن يعود إلى معسكره، فأوقعوا به، فقاتلهم أشد قتال رآه الناس، فقتل ومعه نفر ممن كانوا معه، واسر طائفة، وهربت طائفة، فلحقوا بمعسكرهم وعادوا إلى بلادهم منهزمين لا يقف الأب على ابنه ولا الولد على أخيه، وتركوا كل ما معهم بحاله ونجوا بنفوسهم.
فكان عمر ملك الغور لما قتل عشرين سنة، وكان عادلاً حسن السيرة، فمن عدله وخوفه عاقبة الظلم انه حاصر أهل هراة، فلما ملكها أراد عسكره أن ينهبوها، فنزل على درب المدينة، وأحضر الأموال والثياب، فأعطى جميع عسكره منها، وقال: هذا خير لكم من أن تنهبوا أموال المسلمين وتسخطوا الله تعالى، فإن الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم؛ ولما قتل عاد الغز إلى بلخ ومرو وقد غنموا من العسكر الغوري الشيء الكثير لأن أهله تركوه ونجوا.
ذكر انهزام نور الدين محمود من الفرنجفي هذه السنة انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج، تحت حصن الأكراد، وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة، وسببها أن نور الدين جمع عساكره دخل بلاد الفرنج ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد، محاصراً له عازما على قصد طرابلس ومحاصرتها، فبينما الناس يوماً في خيامهم، وسط النهار، لم يرعهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد، وذلك أن الفرنج اجتمعوا واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهاراً، فإنهم يكونوا آمنين، فركبوا من وقتهم، ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم، وساروا مجدين، فلم يشعر بذلك المسلمين إلا وقد قربوا منهم، فأرادوا منعهم، فلم يطيقوا ذلك، فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونه الحال، فرهقهم الفرنج بالحملة، فلم يثبت المسلمون، وعادوا يطلبون معسكر المسلمين، والفرنج في ظهورهم، فوصلوا معاً إلى العسكر النوري، فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل، وأخذ السلاح، إلا وقد خالطوهم، فأكثروا القتل والأسر.
وكان أشدهم على المسلمين الدوقس الرومي، فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم، فقاتلوا محتسبين في زعمهم، فلم يبقوا على أحد، وقصدوا خيمة نور الدين وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه، ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله، فنزل إنسان كردي قطعها، فنجا نور الدين، وقتل الكردي، فأحسن نور الدين إلى مخلفيه، ووقف عليهم الوقوف.

ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص، وبينه وبين المعركة أربعة فراسخ، وتلاحق به من سلم من العسكر، وقال له بعضهم ليس من الرأي أن تقيم هاهنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا، فنؤخذ ونحن على هذه الحال؛ فوبخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم، ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام؛ ثم أرسل إلى حلب ودمشق، وأحضر الأموال والثياب والخيام والسلاح والخيل، فأعطى اللباس عوض ما أخذ منهم جميعه بقولهم، فعاد العسكر كأن لم تصبه هزيمة، وكل من قتل أعطى أقطاعه لأولاده.
وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة لأنها أقرب البلاد إليهم، فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا: لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها.
ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خرجه قال له بعضهم: إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء وغيرهم، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح؛ فغضب من ذلك وقال: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم؛ كيف أقطع صلات قوم يدافعون عني، وأنا نائم على فراشي، بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟ ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلح، فلم يجبهم، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم.
ذكر إجلاء بني أسد من العراقفي هذه السنة أمر الخليفة المستنجد بالله بإهلاك بني أسد أهل الحلة المزيدية، لما ظهر من فسادهم، ولما كان في نفس الخليفة منهم من مساعدتهم السلطان محمداً لما حصر بغداد، فأمر يزدن بن قماج بقتالهم وإجلائهم عن البلاد، وكانوا منبسطين في البطائح، فلا يقدر عليهم، فتوجه يزدن إليهم، وجمع عساكر كثيرة من راجل وفارس، وأرسل إلى ابن معروف مقدم المنتفق، وهو بأرض البصرة، فجاء في خلق كثير فحصرهم وسد عليهم الماء، وصابرهم مدة، فأرسل الخليفة إلى يزدن يعتب عليه ويعجزه وينسبه إلى موافقتهم في التشيع، وكان يزدن يتشيع، فجد هو وابن معروف في قتالهم والتضييق عليهم، وسد مسالكهم في الماء ، فاستسلموا حينئذ، فقتل منهم أربعة آلاف قتيل، ونادى فيمن بقي: من وجد بعد هذا في المزيدية فقد حل دمه؛ فتفرقوا في البلاد، ولم يبق منهم في العراق من يعرف، وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقع في بغداد حريق في باب درب فراشا إلى مشرعة الصباغين من الجانبين.
وفيها، في رجب، توفي سديد الدولة أبو عبد الله مجمد بن عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم المعروف بابن الأنباري، كاتب الإنشاء بديوان الخليفة، وكان فاضلاً أديباً ذا تقدم كثير عند الخلفاء والسلاطين، وخدم من سنة ثلاثين وخمسمائة إلى الآن في ديوان الخلافة، وعاش حتى قارب تسعين سنة.
وتوفي في رمضان هبة الله بن الفضل بن عبد العزيز بن محمد أبو القاسم المتوثي، سمع الحديث؛ وهو من الشعراء المشهورين، إلا أنه كثير الهجو، ومن شعره:
يا من هجرت ولا تبالي ... هل ترجع دولة الوصال
هل أطمع يا عذاب قلبي ... أن ينعم في هواك بالي
الطرف كما عهدت بالي ... والجسم كما ترين بال
ما ضرك أن تعلليني ... في الوصل بموعد المحال
أهواك وأنت حظ غيري ... يا قاتلتي فما احتيالي
وهي أكثر من هذا.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة

ذكر مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى ديار مصر وعودهم عنها
في هذه السنة، في جمادى الأولى، سير نور الدين محمود بن زنكي عسكراً كثيراً إلى مصر، وجعل عليهم الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي، وهو مقدم عسكره، وأكبر أمراء دولته، وأشجعهم، وسنذكر سنة أربع وستين سبب اتصاله بنور الدين وعلو شأنه عنده إن شاء الله تعالى.

وكان سبب إرسال هذا الجيش أن شاور وزير العاضد لدين الله العلوي، صاحب مصر، نازعه في الوزارة ضرغام، وغلب عليها، فهرب شاور منه إلى الشام، ملتجئاً إلى نور الدين ومستجيراً به، فأكرم مثواه، وأحسن إليه، وأنعم عليه، وكان وصوله في ربيع الأول من السنة، وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العسكر، ويكون شيركوه مقيماً بعساكره في مصر، ويتصرف هو بأمر نور الدين واختياره؛ فبقي نور الدين يقدم إلى هذا العرض رجلاً ويؤخر أخرى، فتارة يحمله رعاية لقصد شاور بابه، وطلب الزيادة من الملك والتقوي على الفرنج، وتارة يمنعه خطر الطريق، وأن الفرنج فيه؛ وتخوف أن شاور إن استقرت قاعدته ربما لا يفي.
ثم قوى عزمه على إرسال الجيوش، فتقدم بتجهيزها وإزالة عللها، وكان هوى أسد الدين في ذلك، وعنده من الشجاعة وقوة النفس ما لا يبالي بمخافة، فتجهز، وساروا جميعاً وشاور في صحبتهم، في جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين، وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه، وينتقم له ممن نازعه فيه.
وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره ليمنع الفرنج من التعرض لأسد الدين ومن معه، فكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين، ووصل أسد الدين ومن معه من العساكر إلى مدينة بلبيس، فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم، فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزوماً.
ووصل أسد الدين فنزل على القاهرة أواخر جمادى الآخرة، فخرج ضرغام من القاهرة سلخ الشهر فقتل عند مشهد السيدة نفيسة، وبقي يومين، ثم حمل ودفن بالقرافة، وقتل أخوه فارس المسلمين، وخلع عن شاور مستهل رجب، وأعيد إلى الوزارة، وتمكن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر به شاور، وعاد كما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية، ولأسد الدين أيضاً، وأرسل إليه يأمره بالعود إلى الشام، فأعاد الجواب بالامتناع، وطلب ما كان قد استقر بينهم، فلم يجبه شاور إليه، فلما رأى ذلك أرسل نوابه فتسلموا مدينة بلبيس، وحكم على البلاد الشرقية، فأرسل شاور إلى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين إن ملك مصر.
وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن تم ملكه لها، فلما أرسل شاور يطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه، وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته وطمعوا في ملك الديار المصرية، وكان قد بذل لهم مالاً على المسير إليه، وتجهزوا وساروا، فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكره إلى أطراف بلادهم ليمتنعوا عن المسير، فلم يمنعهم ذلك لعلمهم أن الخطر في مقامهم، إذا ملك أسد الدين مصر، أشد، فتركوا في بلادهم من يحفظها، وسار ملك القدس في الباقين إلى مصر.
وكان قد وصل إلى الساحل جمع كثير من الفرنج في البحر لزيارة البيت المقدس، فاستعان بهم الفرنج الساحلية، فأعانوهم، فسار بعضهم معهم، وأقام بعضهم في البلاد لحفظها، فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين، وقصد مدينة بلبيس، فأقام بها هو وعسكره، وجعلها له ظهراً يتحصن به، فاجتمعت العساكر المصرية والفرنج، ونازلوا أسد الدين شيركوه بمدينة بلبيس، وحصروه بها ثلاثة أشهر، وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جداً، وليس لها خندق، ولا فصيل يحميها، وهو يغاديهم القتال ويراوحهم، فلم يبلغوا منه غرضاً، ولا نالوا منه شيئاً.
فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج على حارم وملك نور الدين حارم ومسيره إلى بانياس، على ما نذكره عن شاء الله تعالى،فحينئذ سقط في أيديهم ، وأرادوا العودة إلى بلادهم، ليحفظوها، فراسلوا أسد الدين في الصلح والعد إلى الشام، ومفارقة مصر، وتسليم ما بيده منها إلى المصريين، فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم ما فعله نور الدين بالشام بالفرنج، ولأن الأقوات والذخائر قلت عليهن وخرج من بلبيس في ذي الحجة.

فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس قال: أخرج أصحابه بين يديه، وبقي في آخرهم وبيده لت من حديد يحمي ساقتهم، والمسلمون والفرنج ينظرون إليه. قال: فأتاه فرنجي من الغرباء الذين خرجوا من البحر، فقال له:أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك، ولا يبقى لكم بقية؟ فقال شيركوه: يا ليتهم علوه حتى كنت ترى ما أفعله؛ كنت والله أضع السيف، فلا يقتل منا رجل حتى يقتل منهم رجالاً، وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين ، وقد ضعفوا وفني شجعانهم، فنملك بلادهم ويهلك من بقي منهم، والله لو أطاعني هؤلاء لخرجت إليكم من أول يوم، ولكنهم امتنعوا.
فصلب على وجهه، وقال: كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك، والآن فقد عذرناهم؛ ثم رجع عنه.
وسار شيركوه إلى الشام، فوصل سالماً، وكان الفرنج قد وضعوا له على مضيق في الطريق رصداً ليأخذوه أو ينالوا منه ظفراً، فعلم بهم فعاد عن ذلك الطريق، ففيه يقول عمارة التميمي:
أخذتم على الإفرنج كل ثنية ... وقلتم لأيدي الخيل مري على مري
لئن نصبوا في البر جسراً فإنكم ... عبرتم ببحر من حديد على الجسر
ولفظة مري في أخر البيت الأول اسم ملك الفرنج.
ذكر هزيمة الفرنج وفتح حارمفي هذه السنة، في شهر رمضان، فتح نور الدين محمود زنكي قلعة حارم من الفرنج؛ وسبب ذلك أن نور الدين لما عاد منهزماً من البقيعة، تحت حصن الأكراد، كما ذكرناه من قبل، فرق الأموال والسلاح، وغير ذلك من الآلات على ما تقدم، فعاد العسكر كأنهم لم يصابوا وأخذوا في الاستعداد للجهاد والأخذ بثأره.
واتفق مسير بعض الفرنج مع ملكهم في مصر، كما ذكرناه، فأراد أن يقصد بلادهم ليعودوا عن مصر،فأرسل إلى أخيه قطب الدين مودود، صاحب الموصل وديار الجزيرة، وإلى فخر الدين قرا أرسلان، صاحب حصن كيفا، وإلى نجم الدين ألبي، صاحب ماردين، وغيرهم من أصحاب الأطراف يستنجدهم؛ فأما قطب الدين فإنه جمع عسكره وسار مجداً، وفي مقدمته زين الدين علي أمير جيشه؛ وأما فخر الدين، صاحب الحصن، فبلغني عنه أنه قال له ندماؤه وخواصه: على أي شيء عزمت؟ فقال: فقال: على القعود، فإن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة، وهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك، فكلهم وافقه على هذا الرأي، فلما كان الغد أمر بالتجهز للغزاة، فقال له أولئك: ما عدا مما بدا؟ فارقناك أمس على حالة، فنرى اليوم ضدها؟ فقال: إن نور الدين قد سلك معي طريقاً إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي، واخرجوا البلاد عن يدي، فإنه قد كاتب زهادها وعبادها والمنقطعين عن الدنيا، فلم يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر، ويستمد نهم الدعاء، ويطلب أن يحثوا المسلمين على الغزاة فقد قعد كل واحد من اولئك، ومعه أصحابه وأتباعه، وهم يقرؤون كتب نور الدين، ويبكون ويلعنونني، ويدعون علي، فلا بد من المسير إليه؛ ثم تجهز وسار بنفسه.
وأما نجم الدين فإنه سير عسكراً، فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فحصرها ونصب عليها المجانيق وتابع الزحف إليها، فاجتمع من بقي بالساحل من الفرنج، فجاؤوا في حدهم وحديدهم، وملوكهم وفرسانهم، وقسيسهم ورهبانهم، وأقبلوا إليه من كل حدب ينسلون، وكان المقدم عليهم البرنس بيمند، صاحب أنطاكية، وقمص، صاحب طرابلس وأعمالها، وابن جوسلين، وهو من مشاهير الفرنج، والدوك، وهو مقدم كبير من الروم، وجمعوا الفارس والراجل، فلما قاربوه رحل عن حارم إلى أرتاح طمعاً أن يتبعوه فيتمكن منهم لبعدهم عن بلادهم إذا لقوه، فساروا، فنزلوا على غمر ثم علموا عجزهم عن لقائه، فعادوا إلى حارم، فلما عادوا تبعهم نور الدين في أبطال المسلمين على تعبئة الحرب.

فلما تقاربوا اصطفوا للقتال، فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين، وفيها عسكر حلب وصاحب الحصن، فانهزم المسلمون فيها، وتبعهم الفرنج، فقيل كانت تلك الهزيمة من الميمنة على اتفاق ورأي دبروه، وهو أن يتبعهم الفرنج فيبعدوا عن راجلهم، فيميل عليهم من بقي من المسلمين بالسيوف فيقتلوهم، فإذا عاد فرسانهم لم يلقوا راجلاً يلجأون إليه، ولا وزراً يعتمدون عليه، ويعود المنهزمون في أثارهم، فيأخذهم المسلمون من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فكان الأمر على ما دبروه: فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدين علي في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلاً وأسراً، وعاد خيالتهم، ولم يمعنوا في الطلب خوفاً على راجلهم، فعاد المنهزمون في آثارهم، فلما وصل الفرنج رأوا رجالهم قتلى وأسرى، فسقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد هلكوا وبقوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب، فاشتدت الحرب، وقامت على ساق، وكثر القتل في الفرنج، وتمت عليهم الهزيمة، فعدل حينئذ المسلمون من القتل إلى الأسر، فأسروا ما لا يحد، وفي جملة الأسرى صاحب أنطاكية والقمص، صاحب طرابلس، وكان شيطان الفرنج، وأشدهم شكيمة على المسلمين، والدوك مقدم الروم، وابن جوسلين، وكانت عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل.
وأشار المسلمون على نور الدين بالمسير إلى أنطاكية وتملكها لخلوها من حام يحميها ومقاتل يذب عنها، فلم يفعلن وقال: أما المدينة فأمرها سهل، وأما القلعة فمنيعة، وربما سلموها إلى ملك الروم لأن صاحبها ابن أخيه ومجاوره بيمند أحب إلي من مجاورة صاحب قسطنطينية؛ وبث السرايا في تلك الأعمال فنهبوها وأسروا أهلها وقتلوهم، ثم إنه فادى بيمند البرنس، صاحب أنطاكية، بمال جزيل وأسرى من المسلمين كثيرة أطلقهم.
ذكر ملك نور الدين قلعة بانياس من الفرنج أيضاً
في ذي الحجة من هذه السنة فتح نور الدين محمود قلعة بانياس، وهي بالقرب من دمشق، وكانت بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ولما فتح حارم أذن لعسكر الموصل وديار بكر بالعود إلى بلادهم، وأظهر أنه يريد طبرية، فجعل من بقي من الفرنج همتهم حفظها وتقويتها، فسار محمود إلى بانياس لعلمه بقلة من فيها من الحماة الممانعين عنها، ونازلها، وضيق عليها وقاتلها، وكان في جملة عسكره أخوه نصرة الدين أمير أميران، فأصابه سهم فأذهب إحدى عينيه، فلما رآه نور الدين قال له: لو كشف لك عن الآجر الذي أعد لك لتمنيت ذهاب الأخرى، وجد في حصارها، فسمع الفرنج، فجمعوا، فلم تتكامل عدتهم، حتى فتحها؛ على أن الفرنج كانوا قد ضعفوا بقتل رجالهم بحارم وأسرهم فملك القلعة، وملأها ذخائر وعدة ورجالاً وشاطر الفرنج في أعمال طبرية، وقرروا له على الأعمال التي لم يشاطرهم عليها مالاً في كل سنة.
ووصل خبر ملك حارم وحصر بانياس إلى الفرنج بمصر، فصالحوا شيركوه، وعادوا ليدركوا بانياس، فلم يصلوا إلا وقد ملكها، ولما عاد منها إلى دمشق كان بيده خاتم بفص ياقوت من أحسن الجوهر، وكان يسمى الجبل لكبره وحسنه، فسقط من يده في شعاري بانياس، وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان، فلما أبعد عن المكان الذي ضاع فيه علم به، فأعاد بعض أصحابه في طلبه ودلهم على المكان الذي كان آخر عهده به فيه، وقال: أظن هناك سقط؛ فعادوا إليه فوجدوه، فقال بعض الشعراء الشاميين أظنه ابن منير يمدحه ويهنئه بهذه الغزاة ويذكر الجبل الياقوت:
إن يمتر الشكاك فيك بأنك ال ... مهدي مطفي جمرة الدجال
فلعودة الجبل الذي أضللته ... بالأمس بين غياطل وجبال
لم يعطها إلا سليمان وقد ... الربا بموشك الأعجال
رحرحى لسرير ملكك إنه ... كسريره على كل حد عال
فلو البحار السبعة استهوينه ... وأمرتهن قذفنه في الحال
ولما فتح الحصن كان معه ولد معين الدين أنز الذي سلم بانياس إلى الفرنج، فقال له: للمسلمين بهذا الفتح فرحة واحدة، ولك فرحتان؛ فقال : كيف ذاك؟ قال: لأن اليوم برد الله جلد والدك من نار جهنم.
ذكر أخذ الأتراك غزنة من ملكشاه وعوده إليها

في هذه السنة قصد بلاد غزنة الأتراك المعروفون بغز ونهبوها وخربوها، وقصدوا غزنة وبها صاحبها ملكشاه بن خسروشاه المحمودي، فعلم أنه لا طاقة له بهم، ففارقها وسار إلى مدينة لهاور، وملك الغز مدينة غزنة، وكان القيم بأمرهم أمير اسمه زنكي بن علي بن خليفة الشيباني؛ ثم إن صاحبها ملكشاه جمع وعاد إلى غزنة، ففارقها زنكي وعاد ملكها ملكشاه ودخلهافي جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة وتمكن من دار ملكه.
ذكر وفاة جمال الدين الوزير

وشيء من سيرته
في هذه السنة توفي جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني، وزير قطب الدين، صاحب الموصل، في شعبان مقبوضاً، وكان قد قبض عليه سنة ثمان وخمسين، فبقي في الحبس نحو سنة، حكى لي أنسان صوفي يقال له أبو القاسم كان مختصاً بخدمته في الحبس قال: لم يزل محبوساً في محبسه بأمر آخرته ،وكان يقول: كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر؛ فلما مرض قال لي في بعض الأيام: يا أبا القاسم! إذا جاء طائر أبيض إلى الدار فعرفني. قال: فقلت في نفسي قد اختلط عقله؛ فلما كان الغد أكثر السؤال عنه، وإذا طائر أبيض لم أرى مثله قد سقط، فقلت: جاء الطائر؛ فاستبشر ثم قال: جاء الحق؛ وأقبل على الشهادة وذكر الله تعالى، إلى أن توفي فلما توفي طار ذلك الطائر، فعلمت أنه رأى شيئاً في معناه.
ودفن بالموصل عند فتح الكرامي، رحمة الله عليهما، نحو سنة، ثم نقل إلى المدينة فدفن بالقرب من حرم النبي صلى الله عليه وسلم، في رباط بناه لنفسه هناك، وقال لأبي القاسم: بيني وبين أسد الدين شيركوه عهد، من مات منا قبل صاحبه حمله إلى المدينة النبوية فدفنه بها في التربة التي عملها، فإذا أنا مت فامض إليه وذكره؛ فلما توفي سار أبا القاسم إلى شيركوه في المعنى، فقال له:شيركوه: كم تريد؟ فقال: أريد أجرة جمل يحمله وجمل يحملني وزادي؛ فانتهره وقال: مثل جمال الدين يحمل هكذا إلى مكة! وأعطاه مالاً صالحاً ليحمل معه جماعة يحجون عن جمال الدين، وجماعة يقرأون عليه بين يدي تابوته إذا حمل، وإذا نزل عن الجمل؛ وإذا وصل مدينة يدخل أولئك القراء ينادون للصلاة عليه، فيصلى عليه من كل بلدة يجتاز بها، وأعطاه أيضاً مالاً للصدقة عنه، فصلي عليه في تكريت وبغداد والحلة، وفيد مكة والمدينة، وكان يجتمع له في كل بلد من الخلق ما لا يحصى، ولما أرادوا الصلاة عليه بالجلة صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد بأعلى صوته:
سرى نعشه فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله
يمر على الوادي فتثني رماله ... عليه وبالنادي فتثني أرامله
فلم نر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ثم وصلوا به إلى مكة فطافوا به حول الكعبة، وصلوا عليه بالحرم الشريف؛ وبين قبره وقبر النبي، صلى الله عليه وسلم، نحو خمسة عشر ذراعاً.
وأما سيرته فكان رحمه الله، أسخى الناس، وأكثرهم بذلاً للمال، رحيماً بالخلق، متعطفاً عليهم، عادلاً فيهم؛ فمن أعماله الحسنة أنه جدد بناء مسجد الخيف بمنى، وغرم عليه أموالاً جسيمة، وبنى الحجر بجانب الكعبة، وزخرف الكعبة وذهبها، وعملها بالرخام؛ ولما أراد ذلك أرسل إلى المقتفي لأمر الله هدية جليلة، وطلب منه ذلك، وأرسل إلى الأمير عيسى أمير مكة هدية كثيرة، وخلعاً سنية، منها عمامة مشتراها ثلاثمائة دينار، حتى مكنه من ذلك.وعمر أيضاً المسجد الذي على جبل عرفات والدرج التي يصعد فيها إليه، وكان الناس يلقون شدة في صعودهم، وعمل بعرفات أيضاً مصانع للماء، وأجرى الماء إليها من نعمان في طرق معمولة تحت الأرض، فخرج عليها مال كثير. وكان يجري الماء في المانع كل سنة أيام عرفات؛ وبنى سوراً على مدينة النبي ، صلى الله عليه وسلم، وعلى فيد، وبنى لها أيضاً فصيلاً.
وكان يخرج من باب داره، كل يوم، للصعاليك والفقراء مائة دينار أميري، هذا سوى الإدارات والتعهدات للأئمة والصالحين وأرباب البيوتات.

ومن أبنيته العجيبة التي لم ير الناس مثلها الجسر الذي بناه على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس، فقبض قبل أن يفرغ؛ وبنى عندها أيضاً جسراً كذلك على النهر المعروف بالارباد، وبنى الربط، وقصده الناس من أقطار الأرض، ويكفيه أن ابن الخجندي رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان، قصده وابن الكافي قاضي قضاة همذان، فاخرج عليهما مالاً عظيماً، وكانت صدقاته وصلاته من أقاصي خراسان إلى حدود اليمن.
وكان يشتري الأسرى كل سنة بعشرة آلاف دينار، هذا من الشام حسب، سوى ما يشتري من الكرج.
حكى لي وادي عنه قال: كثيراً ما كنت أرى جمال الدين، إذا قدم إليه الطعام، يأخذ منه ومن الحلوى ويتركه في خبز بين يديه، فكنت أنا ومن يراه يظن أنه يحمله إلى أم ولده علي، فاتفق أنه في بعض السنين جاء إلى الجزيرة مع قطب الدين، وكنت أتولى ديوانها، وحمل جاريته أم ولده إلى داري لتدخل الحمام، فبقيت في الدار أياماً، فبينما أنا عنده في الخيام وقد أكل الطعام، فعل كما كان يفعل ثم تفرق الناس، فقمت، فقال: اقعد. فقعدت، فلما خلا المكان قال لي: قد آثرتك اليوم على نفسي، فإنني في الخيام ما يمكنني أن أفعل ما كنت أفعله؛ خذ هذا الخبز واحمله أنت في كمك في هذا المنديل، واترك الحماقة من رأسك، وعد إلى بيتك، فإذا رأيت في طريقك فقيراً يقع في نفسك أنه مستحق فاقعد أنت بنفسك وأطعمه هذا الطعام. قال: ففعلت ذلك. وكان معي جمع كثير، ففرقتهم في الطريق لئلا يروني أفعل ذلك، وبقيت في غلماني، فرأيت في موضع إنساناً أعمى، وعنده أولاده وزوجته، وهم من الفقر في حال شديد، فنزلت عن دابتي إليهم، وأخرجت الطعام وأطعمتهم إياه، وقلت للرجل: تجيء غداً بكرة إلى دار فلان، أعني داري، ولم أعرفه نفسي، فإنني أخذ لك من صدقة جمال الدين شيئاً؛ ثم ركبت إليه العصر، فلما رآني قال: ما الذي فعلت في الذي قلت لك ؟ فأخذت أذكر له شيئاً يتعلق بدولتهم؛ فقال: ليس عن هذا أسألك إنما أسألك عن الطعام الذي سلمته إليك؛ فذكرت له الحال، ففرح ثم قال: بقي أنك لو قلت للرجل يجيء إليك هو وأهله فتكسوهم وتعطيهم دنانير،وتجري لهم كل شهر ديناراً. قال: فقلت له: قد قلت للرجل حتى بجيء إلي؛ فازداد فرحاً، وفعلت بالرجل ما قال، ولم يزل يصل إليه رسمه حتى قبض. وله من هذا كثير، فمن ذلك أنه تصدق بثيابه من على بدنه في بعض السنين التي تعذرت الأقوات فيها.
ذكر إجلاء القارغلية من وراء النهركان خان خانان الصيني ملك الخطا قد فوض ولاية سمرقند وبخارى إلى الخان جغري خان ابن حين تكين، واستعمله عليها، وهو من بيت الملك، قديم الأبوة، فبقي فيها مدبر لأمورها، فلما كان الآن أرسل إليه ملك الخطا بإجلاء الأتراك القارغلية من أعمال بخارى وسمرقند إلى كاشغر، وأن يتركوا حمل السلاح ويشتغلوا بالزراعة وغيرها من الأعمال، فتقدم جغري خان إليهم بذلك، فامتنعوا، فالزمهم وألح عليهم بالانتقال ، فاجتمعوا وصارت كلمتهم واحدة، فكثروا وساروا إلى بخارى، فأرسل الفقيه محمد بن عمر بن برهان الدين عبد العزيز بن مازة، رئيس بخارى، إلى جغري خان يعلمه ذلك ويحثه على الوصول إليهم بعساكره قبل أن يعظم شرهم، وينهبوا البلاد.
وأرسل إليهم ابن مازة يقول لهم: إن الكفار بالأمس لما طرقوا هذه البلاد امتنعوا عن النهب والقتل، وأنتم مسلمون، غزاة، يقبح منكم مد الأيدي إلى الأموال والدماء، وأنا أبذل لكم من الأموال ما ترضون به لتكفوا عن النهب والغارة؛ فترددت الرسل بينهم في تقرير القاعدة، وابن مازة يطاول بهم ويمادي الأيام إلى أن وصل جغري خان، فلم يشعر الأتراك القارغلية إلا وقد دهمهم جغري خان في جيوشه وجموعه بغتة ووضع السيف فيهم، فانهزموا وتفرقوا، وكثر القتل فيهم والنهب، واختفى طائفة منهم في الغياض والآجام ثم ظفر بهم أصحاب جغري خان فقطعوا دابرهم، ودفعوا عن بخارى وضواحيها ضررهم، وخلت تلك الأرض منهم.
ذكر استيلاء سنقر على الطالقان وغرشستانفي هذه السنة استولى الأمير صلاح الدين سنقر، وهو من مماليك السنجرية، وعلى بلاد الطالقان، وأغار على حدود غرشستان، وتابع الغارات عليها حتى ملكها، فصارت الولايتان له وبحكمه، وله فيها حصون منيعة، وقلاع حصينة، وصالح الأمراء الغزية وحمل لهم الإتاوة كل سنة.
ذكر قتل صاحب هراة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34