كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

ومن محاسنه أنّه جرى ذكر أصحاب الأدب، وطلبة الحديث، وما هم عليه من الفقر والتعفّف، فقال: أنا أحقّ مَن أعانهم؛ وأطلق لأصحاب الحديث عشرين ألف درهم، وللشعراء عشرين ألف درهم، ولأصحاب الأدب عشرين ألف درهم، وللفقهاء عشرين ألف درهم، وللصوفيّة عشرين ألف درهم، فذلك مائة ألف درهم.
وكان إذا وليَ الوزارة ارتفعت أسعار الثلج، والشمع، والسكر، والقراطيس، لكثرة ما كان يستعملها ويخرج من داره للناس، ولم يكن فيه ما يعاب به إلاّ أن أصحابه كانوا يفعلون ما يريدون، ويظلمون، فلا يمنعهم، فمن ذلك أنّ بعضهم ظلم امرأة في ملك لها، فكتبت إليه تشكو منه غير مرّة، وهو لا يردّ لها جواباً، فلقيته يوماً، وقالت له: أسألك بالله أن تسمع منيّ كلمة ! فوقف لها، فقالت: قد كتبتُ إليك في ظُلامتي غير مرّة، ولم تُجبني، وقد تركتك وكتبتها إلى الله تعالى. فلمّا كان بعد أيّام، ورأى تغيّر حاله، قال لمن معه من أصحابه: ما أظن إلاّ جواب رقعة تلك المرأة المظلومة قد خرج؛ فكان كما قال.
ذكر دخول القرامطة الكوفةوفي هذه السنة دخل أبو طاهر القُرمطيُّ إلى الكوفة، وكان سبب ذلك أنّ أبا طاهر أطلقَ مَن كان عنده من الأسرى الذين كان أسرهم من الحّجّاج، وفيهم ابن حمدان وغيره، وأرسل إلى المقتدر يطلب البصرة والأهواز، فلم يجبه إلى ذلك، فسار من هَجَر يريد الحاجّ.
وكان جعفر بن ورقاء الشيبانيُّ متقلّداً أعمال الكوفة وطريق مكّة، فلمّا سار الحُجّاج من بغداد سار جعفر بين أيديهم خوفاً من أبي طاهر، ومعه ألف رجل من بني شيبان، وسار مع الحُجّاج من أصحاب السلطان ثَمل صاحب البحر، وجنّيّ الصفوانيُّ، وطريف السبكريُّ وغيرهم، في ستّة آلاف رجل، فلقي أبو طاهر القُرمطيُّ جعفراً الشيبانيَّ، فقاتله جعفر.
فبينما هو يقاتله إذ طلع جمع من القرامطة عن يمينه، فانهزم من بين أيديهم، فلقي القافلة الأولى وقد انحدرت من العقبة، فردّهم إلى الكوفة ومعهم عسكر الخلفية، وتبعهم أبو طاهر إلى باب الكوفة، فقاتلهم، فانهزم عسكر الخليفة، وقتل منهم، وأسر جنّيّاً الصفوانيَّ، وهرب الباقون والحُجّاج من الكوفة، ودخلها أبو طاهر، وأقام ستّة أيّام بظاهر الكوفة يدخل البلد نهاراً فيقيم في الجامع إلى الليل، ثمّ يخرج يبيت في عسكره، وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب وغير ذلك، وعاد إلى هَجَر.
ودخل المنهزمون بغداد، فتقدّم المقتدر إلى مؤنس المظفَّر بالخروج إلى الكوفة، فسار إليها، فبلغها وقد عاد القرامطة عنها، فاستخلف عليها ياقوتاً، وسار مؤنس إلى واسط خوفاً عليها من أبي طاهر، وخاف أهل بغداد، وانتقل الناس إلى الجانب الشرقيّ؛ ولم يحجّ في هذه السنة من الناس أحد.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة خلع المقتدر على نُجح الطولونيّ، ووليّ أصبهان.
وفيها ورد رسول ملك الروم بهدايا كثيرة، ومعه أبو عمر بن عبد الباقي، فطلبا من المقتدر الهدنة وتقرير الفداء، فأجيبا إلى ذلك بعد غزاة الصائفة.
وفي هذه السنة خُلع على جنّيّ الصفوانيّ بعد عوده من ديار مصر.
وفيها استُعمل سعيد بن حمدان على المعاون والحرب بنهاوند.
وفيها دخل المسلمون بلاد الروم، فنهبوا، وسبوا، وعادوا.
وفيها ظهر عند الكوفة رجل ادّعى أنه محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وهو رئيس الإسماعيليّة، وجمع جمعاً عظيماً من الأعراب وأهل السواد، واستفحل أمره في شوّال، فسُيّر إليه جيش من بغداد، فقاتلوه، فظفروا به وانهزم، وقُتل كثير من أصحابه.
وفيها، في شهر ربيع الأوّل، توفّي محمّد بن نصر الحاجب، وقد كان استعمل على الموصل، وتقدّم ذلك.
وفيها توفّي شفيع اللؤلؤيُّ وكان على البريد وغيره من الأعمال، فوليَ ما كان عليه شفيع المقتدريُّ.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائةذكر عزل الخاقانيّ عن الوزارة
ووزارة الخصيبيّ
في هذه السنة، في شهر رمضان، عُزل أبو القاسم الخاقانيُّ عن وزارة الخليفة.

وكان سبب ذلك أنّ أبا العبّاس الخصيبيَّ علم بمكان امرأة المحسن بن الفرات، فسأل أن يتولّى النظر في أمرها، فأذن له المقتدر في ذلك، فاستخلص منها سبع مائة ألف دينار وحملها إلى المقتدر، فصار له معه حديث، فخافه الخاقانيُّ، فوضع مَن وقع عليه وسعى به، فلم يصغ المقتدر إلى ذلك، فلمّا علم الخصيبيُّ بالحال كتب إلى المقتدر يذكر معايب الخاقانيّ وابنه عبد الوهّاب وعجزهما، وضياع الأموال، وطمع العمّال.
ثمّ إنّ الخاقانيَّ مرض مرضاً شديداً، وطال به، فوقفت الأحوال، وطلب الجند أرزاقهم، وشغبوا، فأرسل المقتدر إليه في ذلك، فلم يقدر على شيء، فحينئذ عزله، واستوزر أبا العبّاس الخصيبيَّ وخلع عليه، وكان يكتب لأمّ المقتدر، فلمّا وزَر كتب لها بعده أبو يوسف عبد الرحمن بن محمّد، وكان قد تزهّد وترك عمل السلطان، ولبس الصوف والفوط، فلمّا أُسند إليه هذا العمل ترك ما كان عليه من الزهد، فسمّاه الناس المرتدّ.
فلمّا وليَ الخصيبيُّ أقرّ عليَّ بن عيسى على الإشراف على أعمال مصر والشام، فكان يتردّد من مكّة إليها في الأوقات، واستعمل العُمّال في الأعمال، واستعمل أبا جعفر محمّد بن القاسم الكرخيَّ بعد إن صادره بثمانية وخمسين ألف دينار على الإشراف على الموصل وديار ربيعة.
ذكر ما فتحه أهل صقلّية
في هذه السنة سار جيش صِقلّية مع أميرهم سالم بن راشد وأرسل إليهم المهديُّ جيشاً من إفريقية، فسار إلى أرض انكبردة، ففتحوا غيران وأبرجة، وغنموا غنائم كثيرة، وعاد جيش صقلّية، وساروا إلى أرض قِلَّوريَة، وقصدوا مدينة طارنت، فحصروها وفتحوها بالسيف في شهر رمضان ووصلوا إلى مدينة أدرنت، فحصروها، وخرّبوا منازلها، فأصاب المسلمين مرض شديد كبير، فعادوا، ولم يزل أهل صقلّية يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلّية، وقِلّوريَة، وينهبون ويخربون.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة فتح إبراهيم المِسْمعيُّ ناحية القُفص، وهي من حدود كَرْمان، وأسر منهم خمسة آلاف إنسان وحملهم إلى فارس وباعهم.
وفيها كثرت الأرطاب ببغداد، حتّى عملوا منها التمور، وحُملت إلى واسط والبصرة، فنُسب أهل بغداد إلى البغي.
وفيها كتب ملك الروم إلى أهل الثغور يأمرهم بحمل الخراج إليه، فإن فعلوا، وإلاّ قصدهم فقتل الرجال، وسبى الذريّة، وقال: إنّني صحّ عندي صعف ولاتكم؛ فلم يفعلوا ذلك، فسار إليهم، وأخرب البلاد، ودخل مَلَطْيَة في سنة أربع عشرة وثلاثمائة، فأخربوها، وسبوا منها، ونهبوا، وأقام فيها ستة عشر يوماً.
وفيها اعترض القرامطة الحاجَّ بزبالة فقاتلهم أصحاب الخليفة، فانهزموا، ووضع القرامطة على الحاجّ قطيعة، فأخذوها، وكفوا عنهم، فساروا إلى مكّة.
وفيها انقضّ كوكب كبير وقت المغرب، له صوت مثل الرعد الشديد، وضوء عظيم أضاءت له الدنيا.
وفيها توفّي محمّد بن محمّد بن سليمان الباغنديُّ في ذي الحجّة، وهو من حفّاظ المحدّثين، وأبو العبّاس محمّد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران السرّاج النَّيسابوريُّ وعمره تسع وتسعون سنة، وكان من العلماء الصالحين، وعبد الله بن محمّد بن عبد العزيز البَغَويُّ، توفّي ليلة الفِطر، وكان عمره مائة سنة وسنتين، وهو ابن بنت أحمد بن منيع.
وفيها توفّي عليُّ بن محمّد بن بشّار أبو الحسن الزاهد.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة

ذكر مسير ابن أبي الساج إلى واسط
وفي هذه السنة قلّد المقتدرُ يوسفَ بن أبي الساج نواحي المشرق، وأذن له في أخذ أموالها وصرفها إلى قوّاده وأجناده، وأمره بالقدوم إلى بغداد من أذربيجان، والمسير إلى واسط، ليسير إلى هَجَر لمحاربة أبي طاهر القُرمطيّ، فسار إلى واسط، وكان بها مؤنس المظفَّر، فلمّا قاربها يوسف صعد مؤنس إلى بغداد ليقيم بها، وجعل له أموال الخراج بنواحي هَمذان، وساوةَ، وقُمّ، وقَاشان، وماه البَصرة، وماه الكوفة، وماسَبَذان، لينفقها على مائدته، ويستعين بذلك على محاربة القرامطة؛ وكان هذا كلّه من تدبير الخصيبيّ.
ذكر الحرب بين عبد الله بن حَمدان والأكراد والعرب

وفي هذه السنة أفسد الأكراد والعرب بأرض الموصل وطريق خُراسان، وكان عبد الله بن حَمدان يتولّى الجميع وهو ببغداد، وابنه ناصر الدولة بالموصل، فكتب إليه أبوه يأمره بجمع الرجال، والانحدار إلى تكريت، ففعل وسار إليها، فوصل إليها في رمضان، واجتمع بأبيه، وأحضر العرب، وطالبهم بما أحدثوا في عمله بعد أن قتل منهم، ونكّل ببعضهم، فردّوا على الناس شيئاً كثيراً، ورحل بهم إلى شَهرزور، فوطئ الأكراد الجلالّية فقاتلهم، وانضاف إليهم غيرهم، فاشتدّت شوكتهم، ثمّ إنّهم انقادوا إليه لّما رأوا قوّته، وكفّوا عن الفساد والشرّ.
ذكر عزل الخصيبيّ
ووزارة عليّ بن عيسى
في هذه السنة، في ذي القعدة، عزل المقتدر أبا العبّاس الخصيبيَّ عن الوزارة.
وكان سبب ذلك أنّ الخصيبيّ أضاف إضافة شديدة، ووقفت أمور السلطان لذلك، واضطرب أمر الخصيبيّ.
وكان حين وليَ الوزارة قد اشتغل بالشرب كلّ ليلة؛ وكان يصبحُ سكران لا قصد فيه لعمل وسماع حديث؛ وكان يترك الكتب الواردة الدواوين لا يقرأها إلاّ بعد مدة ويهمل الأجوبة عنها، فضاعت الأموال، وفاتت المصالح، ثمّ إنّه لضجره وتبرُّمه بها وبغيرها من الأشغال، وكَل الأمورَ إلى نوابه، وأهمل الاطلاع عليها، فباعوا مصلحته بمصلحة نفوسهم.
فلمّا صار الأمر إلى هذه الصورة أشار مؤنس المظفَّر بعزله، وولاية عليّ ابن عيسى، فقَبض عليه، وكانت وزارته سنة وشهرين، وأخذ ابنه وأصحابه فحُبسوا، وأرسل المقتدر بالله بالغد إلى دمشق يستدعي عليَّ بن عيسى، وكان بها. وأمر المقتدر أبا القاسم عبيدالله بن محمّد الكلوذانيَّ بالنيابة عن عليّ ابن عيسى إلى أن يحضر، فسار عليُّ بن عيسى إلى بغداد، فقدمها أوائل سنة خمس عشرة، واشتغل بأمور الوزارة، ولازم النظر فيها، فمشت الأمور، واستقامت الأحوال.
وكان من أقوم الأسباب في ذلك أنّ الخصيبيّ كان قد اجتمع عند رقاع المصادرين، وكفالات مَن كفل منهم، وضمانات العمّال بما ضمنوا من المال بالسواد، والأهواز، وفارس، والمغرب، فنظر فيها عليٌّ، وأرسل في طلب تلك الأموال، فأقبلت إليه شيئاً بعد شيء، فأدّى الأرزاق، وأخرج العطاء، وأسقط من الجند مَن لا يحمل السلاح، ومن أولاد المرتزقة من هو في المهد، فإنّ آباءهم أثبتوا أسماءهم، ومن أرزاق المغنّين، والمساخرة، والندماء، والصفاعنة، وغيرهم، مثل الشيخ الهرم، ومن ليس له سلاح، فإنّه أسقطهم، وتولّى الأعمال بنفسه ليلاً ونهاراً، واستعمل العمّال في الولايات، واختار الكفاة.
وأمر المقتدر بالله بمناظرة أبي العبّاس الخصيبيّ، فأحضره، وأحضر الفقهاء والقضاة والكتّاب وغيرهم، وكان عليٌّ وقوراً لا يسفه، فسأله عما صحّ من الأموال من الخراج، والنواحي، والأصقاع والمصادرات والمتكلّفين بها، ومن البواقي القديمة إلى غير ذلك، فقال: لا أعلمه.
وسأله عن الإخراجات، والواصل إلى المخزن، فقال: لا أعرفه؛ وقال له: لِمَ أحضرت يوسف بن أبي الساج، وسلّمت إليه أعمال المشرق، سوى أصبهان، وكيف تعتقد أنّه يقدر هو وأصحابه، وهم قد ألفوا البلاد الباردة الكثيرة المياه، على سلوك البرية القفراء، والصبر على حرّ بلاد الإحساء والقطيف، ولِمَ لَمْ تجعل معه منفقاً يخرج المال على الأجناد ؟ فقال: ظننتُ أنّه يقدر على قتال القرامطة، وامتنع من أن يكون معه منفق.
فقال له: كيف استجزتَ في الدين والمروءة ضرب حُرِمَ المصادَرين وتسليمهنّ إلى أصحابك، كامرأة ابن الفرات وغيره، فإن كانوا فعلوا ما لا يجوز ألستَ أنت السبب في ذلك ؟ ثمّ سأله عن الحاصل له، وعن إخراجاته، فخلّط في ذلك، فقال له: غرّرت بنفسك، وغرّرتَ بأمير المؤمنين، ألا قلت له إنّني لا أصلح للوزارة، فقد كان الفُرس، إذا أرادوا أن يستوزروا وزيراً، نظروا في تصرّفه لنفسه فإن وجدوه حازماً، ضابطاً، ولّوه، وإلاّ قالوا: من لا يحسن يدبّر نفسه فهو من غير ذلك أعجز، وتركوه؛ ثم أعاده إلى محبسه.
ذكر استيلاء السامانيّة على الرَّيّ

لّما استدعى المقتدرُ يوسفَ بن أبي الساج إلى واسط كتب إلى السعيد نصر ابن أحمد السامانيّ بولاية الرَّيّ، وأمره بقصدها، وأخذها من فاتك، غلام يوسف، فسار نصر بن أحمد إليها، أوائل سنة أربع عشرة وثلاثمائة، فوصل إلى جبل قارن، فمنعه أبو نصر الطبريُّ من العبور، فأقام هناك، فراسله، وبذل له ثلاثين ألف دينار حتّى مكّنه من العبور، فسار حتّى قارب الرَّيّ، فخرج فاتك عنها، واستولى نصر بن أحمد عليها في جمادى الآخرة، وأقام بها شهرَيْن، وولّى عليها سيمجور الدواتيَّ وعاد عنها.
ثمّ استعمل عليها محمّد بن عليّ صعلوك، وسار نصر إلى بخارى، ودخل صعلوك الرَّيّ، فأقام بها إلى أوائل شعبان سنة ست عشرة وثلاثمائة فمرض، فكاتب الحسنَ الدَّاعي، وما كان بن كالي في القدوم عليه ليسلّم الريّ إليهما، فقدما عليه، فسلّم الريّ إليهما وسار عنها، فلّما بلغ الدامغان مات.
ذكر عدّة حوادث
وفي هذه السنة ضمن أبو الهيجاء عبدُ الله بن حمدان أعمال الخراج والضِّياع بالموصل، وقَرْدَى، وبازَبْدَى، وما يجري معها.
وفيها سار ثمل إلى عمله بالثغور، وكان في بغداد.
وفيها، في ربيع الآخر، خرجت الروم إلى مَلَطْية وما يليها مع الدُّمُسْتُق، ومعه مليح الأرمنيُّ صاحب الدُّروب، فنزلوا على مَلَطْية، وحصروها، فصبر أهلها، ففتح الروم أبواباً من الربض، فدخلوا، فقاتلهم أهله، وأخرجوهم منه، ولم يظفروا من المدينة بشيء، وخرّبوا قرى كثيرة من قراها، ونبشوا الموتى، ومثلوا بهم، ورحلوا عنهم؛ وقصد أهل مَلَطْية بغداد مستغيثين، في جُمادى الأولى، فلم يعانوا، فعادوا بغير فائدة، وغزا أهل طَرَسُوس صائفة، فغنموا وعادوا.
وفيها جمدت دجلة عند الموصل من بلدَ إلى الحَدِيثة، حتّى عبر عليها الدّواب لشدّة البرد.
وفيها توفّي الوزر أبو القاسم الخاقانيُّ، وهرب ابنه عبد الوهّاب، ولم يحضر غسل أبيه ولا الصلاة عليه، وكان الوزير قد أُطلق من محبسه قبل موته.
وفيها توجّه أبو طاهر القُرمُطيُّ نحو مكّة،؛ فبلغ خبره إلى أهلها، فنقلوا حُرَمَهم وأموالهم إلى الطائف وغيره خوفاً منه.
وفيها كتب الكلوذانيُّ إلى الوزير الخصيبيّ، قبل عزله، بأنّ أبا طالب النُّوبَنْدَجَانيَّ قد صار يجري مجرى أصحاب الأطراف، وأنّه قد تغلّب على ضياع السلطان، واستغل منها جملة عظيمة، فصودر أبو طالب على مائة ألف دينار.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة

ذكر ابتداء الوحشة بين المقتدر ومؤنس
في هذه السنة هاجت الروم، وقصدوا الثغور، ودخلوا سُمَيساط، وغنموا جميع ما فيها من مال وسلاح وغير ذلك، وضربوا في الجامع بالناقوس أوقاتَ الصلوات.
ثمّ إنّ المسلمين خرجوا في أثر الروم، وقاتلوهم، وغنموا منهم غنيمة عظيمة، فأمر المقتدر بالله بتجهيز العساكر مع مؤنس المظفَّر، وخلع المقتدر عليه، في ربيع الآخر، ليسير، فلمّا لم يبق إلاّ الوداع امتنع مؤنس من دخول دار الخليفة للوداع، واستوحش من المقتدر بالله وظهر ذلك.
وكان سببه أنّ خادماً من خدّام المقتدر حكى لمؤنس أنّ المقتدر بالله أمر خواصّ خدمه أن يحفر واجُبّاً في دار الشجرة، ويغطوه ببُراية وتراب، وذكر أنّه يجلس فيه لوداع مؤنس، فإذا حضر وقاربها ألقاه الخدم فيها، وخنقوه، وأظهروه ميّتاً، فامتنع مؤنس من دخول دار الخليفة، وركب إليه جميع الأجناد، وفيهم عبدالله بن حَمدان وإخوته، وخلت دار الخليفة، وقالوا لمؤنس: نحن نقاتل بين يديك إلى أن تنبت لك لحية، فوجّه إليه المقتدر رقعة بخطّة يحلف له على بطلان ما بلغه، فصرف مؤنس الجيش، وكتب الجواب أنه العبد المملوك، وأنّ الذي أبلغه ذلك قد كان وضعه مَن يريد إيحاشه من مولاه، وأنّه ما استدعى الجند، وإنّما هم حضروا، وقد فرَّقهم.
ثمّ إنّ مؤنساً قصد دار المقتدر في جمع من القوّاد، ودخل غليه، وقبّل يده، وحلف المقتدر على صفاء نيّته له، وودّعه وسار إلى الثغر في العشر الآخر من ربيع الآخرة، وخرج لوداعه أبو العبّاس بن المقتدر، وهو الراضي بالله، والوزير عليُّ بن عيسى.
ذكر وصول القرامطة إلى العراق
وقتل يوسف بن أبي الساج

في هذه السنة وردت الأخبار بمسير أبي طاهر القُرامُطيّ من هَجَر نحو الكوفة، ثم وردت الأخبار من الصرة بأنّه اجتاز قريباً منهم نحو الكوفة. فكتب المقتدر إلى يوسف بن أبي الساج يعرّفه هذا الخبر، ويأمره بالمبادرة إلى الكوفة، فسار إليها عن واسط، آخر شهر رمضان، وقد أعدّ له بالكوفة الأنزال له ولعسكره، فلمّا وصلها أبو طاهر الهجَريُّ هرب نوّاب السلطان عنها، واستولى عليها أبو طاهر، وعلى تلك الأنزال والعلوفات، وكان فيها مائة كرّ دقيقاً، وألف كرّ شعيراً، وكان قد فني ما معه من الميرة والعلوفة، فقووا بما أخذوه.
ووصل يوسف إلى الكوفة بعد وصول القُرمُطيّ بيوم واحد، فحال بينه وبينها، وكان وصوله يوم الجمعة ثامن شوّال، فلمّا وصل إليهم أرسل إليهم يدعوهم إلى طاعة المقتدر، فإن أبوا فموعدهم الحرب يوم الأحد؛ لا طاعة علينا إلاّ لله تعالى، والموعد بيننا للحرب بُكرة غد.
فلمّا كان الغد ابتدأ أوباش العسكر بالشتم ورمي الحجارة، ورأى يوسف قلّة القَرامطة، فاحتقرهم، وقال: إنّ هؤلاء الكلاب بعد ساعة في يدي ! وتقدّم بأن يكتب كتاب الفتح والبشارة بالظفر قبل اللقاء تهاوناً بهم.
وزحف الناس بعضهم إلى بعض، فسمع أبو طاهر أصوات البوقات والزعقات، فقال لصاحب له: ما هذا ؟ فقال: فشل ! قال: أجَلْ، لم يزد على هذا. فاقتتلوا من ضحوة النهار، يوم السبت، إلى غروب الشمس، وصبر الفريقان، فلمّا رأى أبو طاهر ذلك باشر الحرب بنفسه، ومعه جماعة يثق بهم، وحمل بهم، فطحن أصحاب يوسف، ودقّهم، فانهزموا بين يديه، وأسر يوسفَ وعدداً كثيراً من أصحابه، وكان أسره وقت المغرب، وحملوه إلى عسكرهم، ووكّل به أبو طاهر طبيباً يعالج جراحه.
وورد الخبر إلى بغداد بذلك، فخاف الخاصّ والعامّ من القرامطة خوفاً شديداً، وعزموا على الهرب إلى حُلوان وهَمَذان، ودخل المنهزمون بغداد، أكثرهم رجّالة، حفاة، عراة، فبرز مؤنس المظفَّر ليسير إلى الكوفة، فأتاهم الخبر بأنّ القرامطة قد ساروا إلى عين التمر، فأنفذ من بغداد خمس مائة سُمَيريّة فيها المقاتلة لتمنعهم من عبور الفرات، وسيّر جماعة من الجيش إلى الأنبار لحفظها، ومنع القرامطة من العبور هنالك.
ثمّ إنّ القرامطة قصدوا الأنبار، فقطع أهلها الجسر، ونزل القرامطة غرب الفرات، وأنفذ أبو طاهر أصحابه إلى الحديثة، فأتوه بسفن، ولم يعلم أهل الأنبار بذلك، وعبر فيها ثلاثمائة رجل من القرامطة، فقاتلوا عسكر الخليفة، فهزموهم، وقتلوا منهم جماعة، واستولى القرامطة على مدينة الأنبار، وعقدوا الجسر، وعبر أبو طاهر جريدة وخلّف سواده بالجانب الغربيّ.
ولّما ورد الخبر بعبور أبي طاهر إلى الأنبار، خرج نصر الحاجب في عسكر جرّار، فلحق بمؤنس المظفَّر، فاجتمعا في نيّف وأربعين ألف مقاتل، سوى الغلمان ومَن يريد النَّهب، وكان ممّن معه أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان، ومن إخوته أبو الوليد، وأبو السرايا في أصحابهم، وساروا حتّى بلغوا نهر زبارا، على فرسخين من بغداد، عند عَقْرَقُوف، فأشار أبو الهيجاء بن حمدان بقطع القَنطرة التي عليه، فقطعوها، وسار أبو طاهر ومَن معه نحوهم، فبلغوا نهر زبارا، وفي أوائلهم رجل أسود، فما زال الأسود يدنو من القنطرة، والنشاب يأخذه، ولا يمتنع، حتّى أشرف عليها، فرآها مقطوعة، فعاد وهو مثل القنفذ.
وأراد القرامطة العبور فلم يمكنهم لأن النهر لم يكن فيه مخاضة، ولّما أشرفوا على عسكر الخليفة هرب منهم خلق كثير إلى بغداد من غير أن يلقوهم، فلّما رأى ابن حَمدان ذلك قال لمؤنس: كيف رأيت ما أشرت به عليكم ؟ فوالله لو عبر القرامطة النهر لأنهزم كلّ مَن معك ولأخذوا بغداد؛ ولّما رأى القرامطة ذلك عادوا إلى الأنبار، وسيّر مؤنس المظفَّر صاحبَهُ بُليقاً، في ستّة آلاف مقاتل، إلى عسكر القرامطة، غربيّ الفرات، ليغنموه ويخلصوا ابن أبي الساج، فبلغوا إليهم، وقد عبر أبو طاهر الفرات في زورق صيّاد، وأعطاه ألف دينار، فلمّا رآه أصحابه قويت قلوبهم، ولّما أتاهم عسكر مؤنس كان أبو طاهر عندهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الخليفة.

ونظر أبو طاهر إلى ابن أبي الساج وهو قد خرج من الخيمة ينظر ويرجو الخلاص، وقد ناداه أصحابه: أبشر بالفرج ! فلّما انهزموا أحضره وقتله، وقتل جميع الأسرى من أصحابه. وسلمت بغداد من نهب العيّارين، لأنّ نازوك كان يطوف هو وأصحابه ليلاً ونهاراً، ومَن وجدوه بعد العَتمة قتلوه، فامتنع العيّارون، واكترى كثير من أهل بغداد سفناً، ونقلوا إليها أموالهم، وربطوها لينحدروا إلى واسط، وفيهم مَن نقل متاعه إلى واسط إلى حُلوان ليسيروا إلى خُراسان. وكان عدّة القرامطة ألف رجل وخمسمائة رجل منهم سبعمائة فارس وثمانمائة راجل، وقيل كانوا ألفَينْ وسبعمائة.
وقصد القرامطة مدينة هَيت، وكان المقتدر قد سيّر إليها سعيد بن حمدان، وهارون بن غريب، فلّما بلغها القرامطة رأوا عسكر الخليفة قد سبقهم، فقاتلوهم على السور، فقتلوا من القرامطة جماعة كثيرة، فعادوا عنها.
ولّما بلغ أهلَ بغداد عودهم من هَيت سكنت قلوبهم؛ ولّما علم المقتدر بعدّة عسكره وعسكر القرامطة قال: لعن الله نيّفاً وثمانين ألفاً يعجزون عن ألفين وسبعمائة.
وجاء إنسان إلى عليّ بن عيسى، وأخبره أنّ في جيرانه رجلاً من شِيراز على مذهب القرامطة يكاتب أبا طاهر بالأخبار، فأحضره، وسأله واعترف، وقال: ما صحبتُ أبا طاهر إلا لما صحّ عندي أنّه على الحقّ وأنت وصاحبك كفّار تأخذون ما ليس لكم، ولا بدّ لله من حجّة في أرضه، وإمامنا المهديُّ محمّد بن فلان بن فلان بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق المقيم ببلاد المغرب، ولسنا كالرافضة والاثني عشريّة الذين يقولون بجهلهم إن لهم إماماً ينتظرونه، ويكذب بعضهم لبعض فيقول: قد رأيتُه وسمعتُه وهو يقرأ، ولا ينكرون بجهلهم وغباوتهم أنه لا يجوز أن يعطى من العمر ما يظنّونه، فقال له: قد خالطتَ عسكرنا وعرفتهم، فمن فيهم على مذهبك ؟ فقال: وأنت بهذا العقل تدبّر الوزارة، كيف تطمع مني أنّني أسلّم قوماً مؤمنين إلى قوم كافرين يقتلونهم ؟ لا أفعل ذلك. فأمر به فضرب ضرباً شديداً، ومُنع الطعام والشراب فمات بعد ثلاثة أيّام.
وقد كان ابن أبي الساج قبل قتاله القرامطة قد قبض على وزيره محمّد ابن خلف النِّيرَمانيّ وجعل مكانه أبا عليّ الحسن بن هارون، وصادر محمّداً على خمسمائة ألف دينار، وكان سبب ذلك أنّ النِّيرَمانيَّ عظم شأنه، وكثر ماله، فحدّث نفسه بوزارة الخليفة، فكتب إلى نصر الحاجب يخطب الوزارة، ويسعى بابن أبي الساج، ويقول له: إنّه قُرمُطيٌّ يعتقد إمامة العلويّ الذي بإفريقية، وإنّني ناظرتُه على ذلك، فلم يرجع عنهن وإنّه لا يسير إلى قتال أبي طاهر القُرمُطيّ، وإنّما يأخذ المال بهذا السبب، ويقوى به على قصد حضرة السلطان، وإزالة الخلافة عن بني العبّاس؛ وطوّل في ذلك وعرّض.
وكان لمحمّد بن خلف أعداء قد أساء إليهم من أصحاب ابن أبي الساج فسعوا به، فأعلموا يوسفَ بن أبي الساج ذلك، وأروه كتباً جاءته من بغداد في المعنى من نصر الحاجب، وفيها رموز إلى قواعد قد تقدّمت وتقرّرت، وفيها الوعد له بالوزارة، وعزْل عليّ بن عيسى الوزير، فلمّا علم ذلك ابن أبي الساج قبض عليه، فلمّا أُسر ابن أبي الساج تخلّص من الحبس؛ وكان ابن أبي الساج يسمّى الشيخ الكريم لما جمع الله فيه من خلال الكمال والكرم.
ذكر استيلاء أسفار على جرجانفي هذه السنة استولى أسفار بن شيرويه الدّيلَميُّ على جُرجان، وكان ابتداء أمره أنّه كان من أصحاب ما كان بن كالي الديلميّ، وكان سيئ الخُلق والعِشْرة، فأخرجه ما كان من عسكره، فاتّصل ببكر بن محمّد بن ألِيسَعَ، وهو بنَيسابور، وخدمه، فسيّره بكر بن محمّد إلى جُرجان ليفتحها.

وكان ما كان بن كالي، ذلك الوقت، بطَبرِستان، وأخوه أبو الحسن بن كالي بجُرجان، وقد اعتقل أبا عليّ بن أبي الحسين الأطروش العلويّ عنده، فشرب أبو الحسن بن كالي ليلة ومعه أصحابه ففرّقهم، وبقي في بيت هو والعلويُّ، فقام إلى العلويُّ ليقتله، فظفر به العلويُّ وقتلهن وخرج من الدار واختفى، فلّما أصبح أرسل إلى جماعة من القوّاد يعرّفهم الحال، ففرحوا بقتل أبي الحسن بن كالي، وأخرجوا العلويَّ، وألبسوه القَلَنْسُوة وبايعوه، فأمسى أسيراً، وأصبح أميراً، وجعل مقدّم جيشه عليَّ بن خرشيد، ورضي به الجيش، وكاتبوا أسفار بن شيرويه، وعرّفوه الحال، واستقدموه إليهم، فاستأذن بكرَ بن محمّد وسار إلى جُرجان، واتّفق مع عليّ بن خرشيد، وضبطوا تلك الناحية، فسار إليهم ما كان بن كالي، من طبرستان، في جيشه، فحاربوه وهزموه وأخرجوه عن طَبَرستان، وأقاموا بها ومعهم العلويُّ، فلعب يوماً بالكرة، فسقط عن دابّته فمات.
ثمّ مات عليُّ بن خرشيد صاحب الجيش، وعاد ما كان بن كالي إلى أسفار، فحاربه، فانهزم أسفار منه، ورجع إلى بكر بن محمّد بن ألِيسَعَ، وهو بجُرجان، وأقام بها إلى أن توفّي بكر بها، فولاّها الأميرُ السعيد نصرُ بن أحمد أسفارَ بن شيرويه، وذلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة، وأرسل أسفار إلى مَرداويج بن زيار الجيليّ يستدعيه، فحضر عنده، وجعله أمير الجيش، وأحس إليه، وقصدوا طَبرستان واستولوا عليها.
ونحن نذكر حال ابتداء مرداويج وكيف تقلّبت به الأحوال.
ذكر الحرب بين المسلمين والرومفي هذه السنة خرجت سَرِيّة من طَرَسُوس إلى بلاد الروم، فوقع عليها العدوّ، فاقتتلوا فاستظهر الروم وأسروا من المسلمين أربعمائة رجل، فقُتلوا صبراً.
وفيها سار الدُّمُسْتُق في جيش عظيم من الروم إلى مدينة دَبيل، وفيها نصر السُّبُكيُّ في عسكر يحميها، وكان مع الدُّمُستُق دَبابات ومجانيق معه مِزراق يزرق بالنار عدّة اثنى عشر رجلاً، فلا يقر بين يديه أحد من شدّة ناره واتّصاله، فكان من أشدّ شيء على المسلمين.
وكان الرامي به، مباشرُ القتال من أشجعهم، فرماه رجل من المسلمين بسهم فقتله، وأراح الله المسلمين من شرّه.
وكان الدمستق يجلس على كرسي عالٍ يشرف على البلد وعلى عسكره، فأمرهم بالقتال على ما يراه، فصبر له أهل البلد، وهو ملازم القتال، حتى وصلوا إلى سور المدينة، فنقبوا فيه نقوباً كثيرة، ودخلوا المدينة، فقاتلهم أهلها ومَن فيها من العسكر قتالاً شديداً، فانتصر المسلمون، وأخرجوا الروم منها، وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف رجل.
وفيها، في ذي القعدة، عاد ثمل إلى طَرَسُوس من الغزاة الصائفة سالماً هو ومَن معه فلقوا جمعاً كثيراً من الروم، فاقتتلوا فانتصر المسلمون عليهم وقتلوا من الروم كثيراً، وغنموا ما لا يحصى.
وكان من جملة ما غنموا أنّهم ذبحوا من الغنم في بلاد الروم ثلاثمائة ألف رأس، سوى ما سلم معهم، ولقيهم رجل يُعرف بابن الضحّاك، وهو من رؤساء الأكراد، وكان له حصن يُعرف بالجعفريّ، فارتدّ عن الإسلام وصار إلى ملك الروم فأجزل له العطية، وأمره بالعود إلى حصنه، فلقيه المسلمون، فقاتلوه، فأسروه، وقتلوا كلّ مَن معه.
ذكر مسير جيش المهديّ إلى المغرب
في هذه السنة سيّر المهديُّ العلويُّ، صاحب أفريقية، ابنه أبا القاسم من المهديّة إلى المغرب في جيش كثير، في صفر، لسبب محمّد بن خرز، الزناتيّ، وذلك أنّه ظفر بعسكر من كُتامة، فقتل منهم خلقاً كثيراً، فعظم ذلك على المهديّ، فسيّر ولده، فلمّا خرج تفرّق الأعداء، وسار حتّى وصل إلى ما وراء تاهَرت، فلّما عاد من سفرته هذه خطّ برُمحه في الأرض صفة مدينة وسمّاها المحمدّية، وهي المسيلة.
وكانت خطّته لبني كملان، فأخرجهم منها، ونقلهم إلى فَحص القَيروان، كالمتوقّع منهم أمراً، فلذلك أحبذ أن يكونوا قريباً منه، وهم كانوا أصحاب أبي يزيد الخارجيّ، وانتقل خلق كثير إلى المحمّديّة، وأمر عاملها أن يُكثر من الطعام ويخزنه ويحتفظ به ففعل ذلك، فلم يزل مخزناً إلى أن خرج أبو يزيد ولقيه المنصور، ومن المحمّديّة كان يمتار ما يريد إذ ليس بالموضع مدينة سواها.
ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة مات إبراهيم بن المسمعي من حمّى حادّة، وكان موته بالنُّوبَنْدَجان، فاستعمل المقتدر مكانه على فارس ياقوتاً، واستعمل عوضه على كَرْمان أبا طاهر محمّد بن عبد الصمد، وخلع عليهما.
وفيها شغب الفرسان ببغداد، وخرجوا إلى المصلّى، ونهبوا القصر المعروف بالثريا، وذبحوا ما كان فيه من الوحش، فخرج إليهم مؤنس، وضمن لهم أرزاقهم، فرجعوا إلى منازلهم.
وفيها ظفر عبد الرحمن بن محمّد بن عبدالله الناصر لدين الله الأمويُّ، صاحب الأندلس، بأهل طُليطُلة وكان قد حصرها مدّة لخلاف كان عليه فيها، فلّما ظفر بهم أخرب كثيراً من عماراتها وشعّثها، وكانت حينئذ دار إسلام.
وفيها قصد الأعراب سواد الكوفة فنهبوه خرّبوه، ودخلوا الحيرة فنهبوها، فسيّر إليهم الخليفة جيشاً فدفعوهم عن البلاد.
وفيها، في ربيع الأوّل، انقضّ كوكب عظيم، وصار له صوت شديد على ساعتين بقيتا من النهار.
وفيها، في جُمادى الآخرة، احترق كثير من الرُّصافة ووصيف الجوهريُّ ومُرَبّعة الخُرسي ببغداد.
وفيها توفّي أبو بكر محمّد بن السرّيّ، المعروف بابن السرّاج النحويَّ، صاحب كتاب الأصول في النحو وقيل توفّي سنة ست عشرة.
وفيها، في شعبان، توفّي أبو الحسن عليُّ بن سليمان الأخفش فجأة.
ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة

ذكر أخبار القرامطة
لّما سار القرامطة من الأنبار عاد مؤنس الخادم إلى بغداد، فدخلها ثالث المحرّم، وسار أبو طاهر القُرمُطيُّ إلى الدالية من طريق الفرات، فلم يجد فيها شيئاً، فقتل من أهلها جماعة، ثم سار إلى الرحبة، فدخلها ثامن المحرّم، بعد أن حاربه أهلها، فوضع فيهم السيف بعد أن ظفر بهم، فأمر مؤنس المظفَّر بالمسير إلى الرَّقّة، فسار إليها في صفر، وجعل طريقه على الموصل، فوصل إليها في ربيع الأوّل، ونزل بها، وأرسل أهل قَرقِيسيا يطلبون من أبي طاهر الأمان، فأمّنهم وأمرهم أ، لا يظهر أحد منهم بالنهار، فأجابوه إلى ذلك.
وسيّر أبو طاهر سريّة إلى الأعراب بالجزيرة، فنهبوهم، وأخذوا أموالهم، فخافه الأعراب خوفاً شديداً وهربوا من بين يديه، وقرّر عليهم إتاوة على كلّ رأس دينار يحملونه إلى هَجَر، ثمّ أصعد أبو طاهر من الرَّحبة إلى الرَّقّة، فدخل أصحابه الربض وقتلوا منهم ثلاثين رجلاً، وأعان أهلُ الرّقّة أهلّ الربض، وقتلوا من القرامطة جماعة، فقاتلهم ثلاثة أيّام، ثمّ انصرفوا آخر ربيع الآخر.
وبثّت القرامطة سريّة إلى رأس عين، وكفر توثا، فطلب أهلها الأمان، فأمّنوهم، وساروا أيضاً إلى سنجار، فنهبوا الجبال، ونازلوا سِنجار، فطلب أهلها الأمان، فأمّنوهم.
وكان مؤنس قد وصل إلى الموصل، فبلغه قصد القرامطة إلى الرَّقّة فجدّ السير إليها، فسار أبو طاهر عنها، وعاد إلى الرحبة، ووصل مؤنس إلى الرّقّة بعد انصراف القرامطة عنها، ثمّ إنّ القرامطة ساروا إلى هَيت، وكان أهلها قد أحكموا سورها، فقاتلوه، فعاد عنهم إلى الكوفة؛ فبلغ الخبر إلى بغداد، فأُخرج هارون بن غريب، وبنّيّ بن نفيس ونصر الحاجب إليها، ووصلت خيل القُرمُطيّ إلى قصر ابن هُبَرة، فقتلوا منه جماعة.
ثمّ إنّ نصراً الحاجب حُمّ في طريقه حمّى حادّى، فتجلّد وسار، فلمّا قاربهم القُرمطيُّ لم يكن في نصر قوة على النهوض والمحاربة، فاستخلف أحمد بن كَيْغَلَغ، واشتدّ مرض نصر، وأمسك لسانه لشدّة مرضهن فردّوه إلى بغداد، فمات في الطريق أواخر شهر رمضان، فجُعل مكانه على الجيش هارون بن غريب، ورُتّب ابنه أحمد بن نصر في الحجبة للمقتدر مكان أبيه، فانصرف القرامطة إلى البرّية، وعاد هارون إلى بغداد في الجيش، فدخلها لثمان بقين من شوّال.
ذكر عزل عليّ بن عيسى
ووزارة أبي عليّ بن مقلة
في هذه السنة عُزل عليُّ بن عيسى عن وزارة الخليفة، ورُتّب فيها أبو عليّ بن مقلة.
وكان سبب ذلك أنّ عليّاً لّما رأى نقص الارتفاع، واختلال الأعمال بوزارة الخاقانيّ والخُصيبيّ، وزيادة النفقات، وأنّ الجند لّما عادوا من الأنبار زادهم المقتدر في أرزاقهم مائتَيْ ألف وأربعين ألف دينار في السنة، ورأى أيضاً كثرة النفقات للخدم والحُرَم، لا سيّما والدة المقتدر، هاله ذلك، وعظم عليه.

ثمّ إنّه رأى نصراً الحاجب يقصده، وينحرف عنه لميل مؤنس إليه، فإنّ نصراً كان يخالف مؤنساً في جميع ما يشير به، فلمّا تبينّ له ذلك استعفى من الوزارة، واحتجّ بالشيخوخة وقلّة النهضة، فأمره المقتدر بالصبر، وقال له: أنت عندي بمنزلة والدي المعتضد؛ فألحّ عليه في الاستعفاء، فشاور مؤنساً في ذلك، وأعلمه أنّه قد سُمّي للوزارة ثلاثة نفر: الفضل بن جعفر بن الفُرات الذي أمّه حيرانة، وأخته زوجة المحسن بن الفرات، وأبو عليّ بن مقلة، ومحمّد بن خلف النِّيرَمانيّ الذي كان وزير ابن أبي الساج؛ فقال مؤنس: أمّ الفضل فقد قتلنا عمّه الوزير أبا الحسن، وابن عمّه زوج أخته المحسن ابن الوزير، وصادرنا أخته فلا نأمنه؛ وأمّا ابن مقلة فحدَثٌ غِرٌ لا تجربَة له بالوزارة، ولا يصلح لها؛ وأمّا محمّد بن خلف فجاهل متهوّر لا يُحسن شيئاً، والصواب مداراة عليّ بن عيسى.
ثمّ لقي مؤنس عليَّ بن عيسى، وسكّنه، فقال عليٌّ: لو كنتَ مقيماً لاستعنتُ بك، ولكنّك سائرٌ إلى الرَّقّة ثمّ إلى الشام.
وبلغ الخبر أبا عليّ بن مقلة، فجدّ في السعي، وضمن على نفسه الضمانات، وشاور المقتدرُ نصراً الحاجب في هؤلاء الثلاثة، فقال: أمّا الفضل بن الفرات فلا يُدفع عن صناعة الكتابة، والمعرفة، والكفاية، ولكنّك بالأمس قتلتَ عمّه وابن عمّه وصهره، وصادرتَ اخته وأمّه؛ ثمّ إنّ بني الفرات يدينون بالرفض، ويُعرفون بولاء آل عليّ وولده، وأمّا أبو عليّ بن مقلة فلا هيبة له في قلوب الناس، ولا يُرجَع إلى كفاية، ولا تجربة، وأشار بمحمّد بن خلف لمودّة كانت بينهما، فنفر المقتدر من محمّد بن خلف لما علمه من جهله وتهوّره، وواصل ابن مقلة بالهديّة إلى نصر الحاجب، فأشار على المقتدر به، فاستوزره.
وكان ابن مقلة لّما قرب الهَجَريُّ من الأنبار قد أنفذ صاحباً له معه خمسون طائراً، وأمره بالمقام بالأنبار، وإرسال الأخبار إليه وقتاً بوقت، ففعل ذلك، فكانت الأخبار ترد من جهته إلى الخليفة على يد نصر الحاجب، فقال نصر: هذا فعله فيما لا يلزمه، فكيف يكون إذا اصطنعته ! فكان ذلك من أقوى الأسباب في وزارته.
وتقدّم المقتدر في منتصف ربيع الأوّل بالقبض على الوزير عليّ بن عيسى، وأخيه عبد الرحمن، وخلع على أبي عليّ بن مقلة، وتولّى الوزارة، وأعانه عليها أبو عبدالله البريديُّ لمودّة كانت بينهما.
ذكر ابتداء حال أبي عبد الله البريديّ وإخوته
لّما وليَ عليُّ بن عيسى الوزارة كان أبو عبد الله بن البريديّ قد ضمن الخاصّة، وكان أخوه أبو يوسف على سُرّق، فلمّا استعمل عليُّ بن عيسى العمّال، ورتّبهم في الأعمال، قال أبو عبد الله: تُقلِّد مثل هؤلاء على هذه الأعمال الجليلة، وتقتصر بي على ضمان الخاصّة بالأهواز، وبأخي أبي يوسف على سُرق ! لعن الله مَن يقنع بهذا منك، فإنّ لطبلي صوتاً سوف يُسْمع بعد أيّام.
فلمّا بلغه اضطراب أمر عليّ بن عيسى أرسل أخاه أبا الحسين إلى بغداد وأمره أن يخطب له أعمال الأهواز وما يجري معها إذا تجدّدت وزارة لمن يأخذ الرّشى، ويرتفق؛ فلمّا وزَر أبو عليّ بن مقلة بذل له عشرين ألف دينار على ذلك، فقلّد أبا عبد الله الأهواز جميعها، سوى السُّوس وجُنْدَيْسابور، وقلّد أخاه أبا الحسين الفراتيّة، وقلّد أخاهما أبا يوسف الخاصّة والأسافل، على أن يكون المال في ذمّة أبي أيّوب السمسار إلى أن يتصرّفوا في الأعمال.
وكتب أبو عليّ بن مقلة إلى أبي عبد الله في القبض على ابن أبي السلاسل، فسار بنفسه فقبض عليه بتُستَر، وأخذ منه عشرة آلاف دينار ولم يوصلها، وكان متهوّراً لا يفكّر في عاقبة أمر، وسيرد من أخبراه ما يُعلم به دهاؤه، ومكره، وقلّة دينه، وتهوّره.
ثمّ إنّ أبا عليّ بن مقلة جعل أبا محمّد الحسين بن أحمد الماذرائي مشرفاً على أبي عبدالله، فلم يلتفت إليه.
البريديُّ بالباء الموحدة والراء المهملة منسوب إلى البَريد، هكذا ذكره الأمي ابن ماكولا، وقد ذكره ابن مِسكويه بالياء المعجمة باثنتين من تحت، والزي، وقال: كان جدّه يخدم يزيد بن منصور الحميريّ، فنُسب إليه، والأوّل أصحّ، وما ذكرنا قول ابن مِسكويه إلاّ حتّى لا يظنّ ظانّ أنّنا لم نقف عليه، وأخطأنا الصواب.
ذكر من ظهر بسواد العراق من القرامطة

لّما كان من أمر أبي طاهر القُرمُطيّ ما ذكرناه، اجتمع من كان بالسواد ممّن يعتقد مذهب القرامطة فيكتم اعتقاده خوفاً، فأظهروا اعتقادهم، فاجتمع منهم بسواد واسط أكثر من عشرة آلاف رجل، وولّوا أمرَهم رجلاً يُعرف بحُرَيث بن مسعود، واجتمع طائفة أخرى بعين التمر ونواحيها في جمع كثير، وولّوا أمرَهم إنساناً يسمّى عيسى بن موسى، وكانوا يدعون إلى المهديّ.
وسار عيسى إلى الكوفة، ونزل بظاهرها، وجبى الخراج، وصرف العمّال عن السواد.
وسار حُريث بن مسعود إلى أعمال الموفقي وبنى بها داراً سمّاها دار الهجرة، واستولى على تلك الناحية، فكانوا ينهبون، ويسبون، ويقتلون، وكان يتقلّد الحرب بواسط بنّيّ بن نفيس، فقاتلهم، فهزموه، فسيّر المقتدر بالله إلى حُريث ابن مسعود ومَن معه هارونَ بن غريب، وإلى عيسى بن موسى ومَن معه بالكوفة صافياً البصريَّ، فأوقع بهم هارون، وأوقع صافي بمن سار إليهم، فانهزمت القرامطة، وأُسر منهم كثير، وقُتل أكثر ممّن أُسر، وأُخذت أعلامهم، وكانت بيضاً، وعليها مكتوب: (وَنُريدُ أنْ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين) القصص:5 فأُدخلت بغداد منكوسة، واضمحل أمر من بالسواد منهم، وكفى الله الناس شرّهم.
ذكر الحرب بين نازوك وهارون بن غريبوفيها وقعت الفتنة بين نازوك، صاحب الشُّرطة، وهارون بن غريب.
وسبب ذلك أنّ ساسة دوابّ هارون بن غريب وساسة نازوك تغايروا على غلام أمرد، وتضاربوا بالعصى، فحبس نازوك ساسة دوابّ هارون، بعد أن ضربهم، فسار أصحاب هارون إلى محبس الشُّرطة، ووثبوا على نائب نازوك به، وانتزعوا أصحابهم من الحبس، فركب نازوك، وشكا إلى المقتدر وقال: كلاكما عزيز عليّ ولست أدخل بينكما؛ فعاد وجمع رجاله، وجمع هارون رجاله، وزحف أصحاب نازوك إلى دار هارون، فأغلق بابه، وبقي بعض أصحابه خارج الدار، فقتل منهم أصحاب نازوك، وجرحوا، ففتح هارون الباب، وخرج أصحابه، فوضعوا السلاح في أصحاب نازوك فقتلوا منهم، وجرحوا، واشتبكت الحرب بينهم، فكفّ نازوك أصحابه.
وأرسل الخليفة إليهما ينكر عليهما ذلك، فكفّا، وسكنت الفتنة، واستوحش نازوك، واستدّل بذلك على تغيّر المقتدر، ثمّ ركب إليه هارون وصالحه، وخرج بأصحابه، ونزل بالبستان النجميّ ليبعد عن نازوك، فأكثر الناس الأراجيف وقالوا: قد صار هارون أمير الأمراء؛ فعظم ذلك على أصحاب مؤنس، وكتبوا إليه بذلك، وهو بالرَّقّة، فأسرع العود إلى بغداد فنزل بالشّمّاسيّة في أعلى بغداد، ولم يلق المقتدر، فصعد إليه الأمير أبو العبّاس ابن المقتدر، والوزير ابن مقلة، فأبلغاه سلام المقتدر واستيحاشه له، وعاد فاستشعر كلّ واحد من المقتدر ومؤنس من صاحبه، وأحضر المقتدر هارون ابن غريب، وهو ابن خاله، فجعله معه في داره، فلمّا علم مؤنس بذلك ازداد نفوراً واستيحاشاً، وأقبل أبو الهيجاء بن حَمدان من بلاد الجبل، فنزل عند مؤنس ومعه عسكر كبير، وصارت المراسلات بين الخليفة ومؤنس تتردّد، والأمراء يخرجون إلى مؤنس، وانقضت السنة وهم على ذلك.
ذكر قتل الحسن بن القاسم الداعيفي هذه السنة قُتل الحسن بن القاسم الداعي العلويُّ، وقد ذكرنا استيلاء أسفار بن شيرويه الدَّيلميّ على طَبَرِستان، ومعه مرداويج، فلمّا استولوا عليها كان الحسن بن القاسم بالرَّيّ، واستولى عليها، وأخرج منها أصحاب السعيد نصر بن أحمد، واستولى على قَزوين، وزنجان، وأبهر، وقُمّ، وكان معه ما كان بن كالي الديلميُّ، فسار نحو طَبَرستان، والتقوا هم وأسفار عند سارية، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الحسن وما كان بن كالي، فلُحق الحسن فقُتل، وكان انهزام معظم أصحاب الحسن على تعمُّدٍ منهم للهزيمة.
وسبب ذلك أنّه كان يأمر أصحابه بالاستقامة، ومنعهم عن ظلم الرعبّية، وشرب الخمور، وكانوا يبغضونه لذلك، ثمّ اتّفقوا على أن يستقدموا هروسندان وهو أحد رؤساء الجيل، وكان خال مردوايج ووشمكير، ليقدّموه عليهم، ويقبضوا على الحسن الداعي، وينصِّبوا أبا الحسين بن الأطروش، ويخطبوا له.

وكان هروسندان مع أحمد الطويل بالدَّامَغان بعد موت صُعلوك، فوقف أحمد على ذلك، فكتب إلى الحسن الداعي يعلمه، فأخذ حذره، فلمّا قدم هروسندان لقيه مع القوّاد، وأخذهم إلى قصره بجرجان ليأكلوا طعاماً، ولم يعلموا أنّه قد اطلع على ما عزموا عليه، وكان قد وافق خواصّ أصحابه على قتلهم، وأمرهم بمنع أصحاب أولئك القوّاد من الدخول؛ فلمّا دخلوا داره قابلهم على ما يريدون أن يفعلوه، وما أقدموا عليه من المنكرات التي أحلّت له دماءهم، ثمّ أمر بقتلهم عن آخرهم، وأخبر أصحابهم الذين ببابه بقتلهم، وأمرهم بنهب أموالهم، فاشتغلوا بالنهب، وتركوا أصحابهم، وعظم قتلهم على أقربائهم ونفروا عنه، فلمّا كانت هذه الحادثة تخلّوا عنه حتّى قُتل.
ولّما قُتل استولى أسفار على بلاد طَبرستان، والرَّيّ، وجُرجان، وقَزوين، وزنجان، وأبهر، وقُمّ، والكَرْخ، ودعا لصاحب خُراسان، وهو السعيد نصر بن أحمد، وأقام بسارية، واستعمل على آمل هارون بن بَهرام، وكان هارون يحتاج أن يُخطب فيها لأبي جعفر العلويّ، وخاف أسفار ناحية أبي جعفر أن يجدّد له فتنة وحرباً، فاستدعى هارون إليه، وأمره أن يتزوّج إلى أحد أعيان آمل، ويُحضر عرسه أبا جعفر وغيره من رؤساء العلويّين، ففعل ذلك في يوم ذكره أسفار، ثمّ سار أسفار من سارية مجدّاً فوافى آمل وقت الموعد، وهجم على دار هارون على حين غفلة، وقبض على أبي جعفر وغيره من أعيان العلويّين، وحملهم إلى بخارى، فاعتُقلوا بها إلى أن خلصوا أيّام فتنة أبي زكرياء، على ما نذكره.
ولّما فرغ أسفار من أمر طَبَرِستان سار إلى الرَّيّ، وبها ما كان بن كالي، فأخذها منه، واستولى عليها، وسار ما كان إلى طَبرستان، فأقام هناك.
وأحبّ أسفار أن يستولي على قلعة أَلُموت، وهي قلعة على جبل شاهق من حدود الديلم، وكانت لسياه جشم بن مالك الديلمي، ومعناه الأسود العين لأنّه كان على إحدى عينَيْه شامة سوداء، فراسله أسفار وهنّأه، فقدم عليه، فسأله أن يجعل عياله في قلعة أَلُموت، وولاّه قَزوين، فأجابه إلى ذلك، فنقلهم إليها، ثمّ كان يرسل إليهم من يثق به من أصحابه، فلمّا حصل فيها مائة رجل استدعاه من قَزوين فلمّا حضر عنده قبض عليه، وقتله بعد أيّام.
وكان أسفار لّما اجتاز بسُمْنَان استأمن إليه ابن أمير كان صاحب جبل دنباوند، وامتنع محمّد بن جعفر السُّمنانيُّ من النزول إليهن وامتنع بحصن بقرية رأس الكلب، فحقدها عليه أسفار، فلمّا استولى على الرَّيّ أنفذ إليه جيشاً يحصرونه، وعليهم إنسان يقال له عبد الملك الديلميُّ، فحصروه، ولم يمكنهم الوصول إليه، فوضع عليه عبد الملك مَن يشير عليه بمصالحته، ففعل، وأجابه عبد الملك إلى المسألة، ثمّ وضع عليه من يحسّن له أن يضيف عبد الملك، فأضافه، فحضر في جماعة من شجعان أصحابه، فتركهم تحت الحسن، وصعد وحده إلى محمّد بن جعفر، فتحادثا ساعة، ثمّ استخلاه عبد الملك ليشير إليه شيئاً، ففعل ذلك، ولم يبق عندهما أحد غير غلام صغير، فوثب عليه عبد الملك فقتله، وكان محمّد منقرساً زمناً، وأخرج حبل إبرِيسَم كان قد أعدّه فشدّه في نافذة في تلك الغرفة ونزل وتخلّص.
واستغاث ذلك الغلام، فجاء أصحاب محمّد بن جعفر وكسروا الباب، وكان عبد الملك قد أغلقه، فلمّا دخلوا رأوه مقتولاً، فقتلوا به كلّ من عندهم من الديلم، وحفظوا نفوسهم.
وعظمت جيوش أسفار، وجلّ قدره، فتجبّر وعصى على الأمير السعيد، صاحب خُراسان، وأراد أن يجعل على رأسه تاجاً وينصب بالرَّيّ سرير ذهب للسلطنة، ويحارب الخليفة، وصاحب خُراسان، فسير المقتدر إليه هارون بن غريب في عسكر نحو قَزوين، فحاربه أصحاب أسفار بها، فانهزم هارون، وقُتل من أصحابه جمع كثير بباب قَزوين، وكان أهل قزوين قد ساعدوا أصحاب هارون، فحقدها عليهم أسفار.
ثمّ إنّ الأمير السعيد، صاحب خُراسان، سار من بخارى قاصداً نحو أسفار ليأخذ بلاده، فبلغ نَيسابور، فجمع أسفار عسكره وأشار على أسفار وزيره مُطَرّف بن محمّد الجُرجانيُّ بمراسلة صاحب خُراسان، والدخول في طاعته، وبذل المال له، فإنّ أجاب، وإلاّ فالحرب بين يديه.

وكان في عسكره جماعة من أتراك صاحب خُراسان قد ساروا معه، فخوّفه وزيره منهم، فرجع إلى رأيه وراسله، فأبى أن يجيبه إلى ذلك، وعزم على المسير إليه، فأشار عليه أصحابه أن يقبل الأموال، وإقامة الخطبة له، وخوّفوه الحرب وأنّه لا يدري لمن النصر، فرجع إلى قولهم، وأجاب أسفار إلى ما طلب، وشرط عليه شروطاً من حمل الأموال وغر ذلك، واتّفقا، فشرع أسفار بعد إتمام الصلح، وقسّط على الريّ وأعمالها، على كلّ رجل ديناراً، سواء كان من أهل البلاد أم من المجتازين، فحصل له مال عظيم أرضى صاحب خُراسان ببعضه، ورجع عنه.
فعظم أمر أسفار خلاف ما كان، وزار تجبُّره، وقصد قَزوين لما في نفسه على أهلها، فأوقع بهم وقعة عظيمة أخذ فيها أموالهم، وعذّبهم، وقتل كثيراً منهم، وعسفهم عَسفاً شديداً، وسلَّط الديلم عليهم، فضاقت الأرض عليهم، وبلغت القلوب الحناجر، وسمع مؤذّن الجامع يؤذّن، فأمر به فأُلقي من المنارة إلى الأرض، فاستغاث الناس من شرّه وظلمه، وخرج أهل قزوين إلى الصحراء: الرجال: والنساء، والولدان يتضرّعون ويدعون عليه ويسألون الله كشف ما هم فيه، فبلغه ذلك، فضحك منهم، وشتمهم استهزاء بالدعاء، فلمّا كان الغد انهزم على ما نذكره.
ذكر قتل أسفاركان في أصحاب أسفار قائد من أكبر قوّاده يقال له مَرداويج بن زيار الديلميّ، فأرسله إلى سلار صاحب شميران الطرم يدعوه إلى طاعته، وسلار هذا هو الذي صار ولده فيما بعد صاحب أذربيجان وغيرها، فلّما وصل مرداويج إليه تشاكيا ما كان الناس فيه من الجهد والبلاء، فتحالفا، وتعاقدا على قصده، والتساعد على حربه.
وكان أسفار قد وصل إلى قزوين، وهو ينتظر وصول مرداويج بجوابه، فكتب مرداويج إلى جماعة من القوّاد يثق بهم يعرّفهم ما اتّفق هو وسلار عليه، فأجابوه إلى ذلك؛ وكان الجند قد سئموا أسفار لسوء سيرته، وظلمه، وجوره، وكان في جملة من أجاب إلى مساعدة مَرداويج مطرّف بن محمّد، وزير أسفار، وسار مرداويج وسلار نحو أسفار، وبلغه الخبر، وأن أصحابه قد بايعوا مرداويج، فأحسّ بالشرّ، وكان ذلك عقيب حادثته مع أهل قزوين ودعائهم، وثار الجند بأسفار، فهرب منهم في جماعة من غلمانه وورد الريّ، فأراد أن يأخذ من مال كان عند نائبه بها شيئاً، فلم يعطه غير خمسة آلاف دينار، وقال له: أنت أمير ولا يعوزك مال؛ فتركه وانصرف إلى خُراسان، فأقام بناحية بَيهق.
وأمّا مرداويج فإنّه عاد من قزوين نحو الرَّي، وكتب إلى ما كان بن كالي، وهو بَطَبرستان، يستدعيه ليتساعدا ويتعاضدا، فسرى ما كان بن كالي إلى أسفار، وكان قد عسف أهل الناحية التي هو بها، فلّما أحسّ بما كان سار إلى بُست، وركب المفازة نحو الريّ ليقصد قلعة أَلْموت التي بها أهله وأمواله، فانقطع عنه بعض أصحابه، وقصد مرداويج فأعلمه خبره، فخرج مرداويج من ساعته في أثره، وقدّم بعض قوّاده بين يديه، فلحقه ذلك القائد وقد نزل يستريح، فسلّم عليه بالإِمْرة، فقال له أسفار: لعلّكم اتّصل بكم خبري وبُعثتَ في طلبي ؟ قال: نعم ؟! فبكى أصحابه، فأنكر عليهم أسفار ذلك، وقال: بمثل هذه القلوب تتجنّدون ! أما علمتم أنّ الولايات مقرونة بالبليّات ؟ ثمّ أقبل على ذلك القائد وهو يضحك، وسأله عن قوّاده الذين أسلموه وخذلوه، فأخبره مرداويج قتلهم، فتهلّل وجهه وقال: كانت حياة هؤلاء غصّة في حلقي، وقد طابت الآن نفسي، فامض في ما أُمرتَ به، وظنّ أنّه أُمر بقتله، فقال: ما أُمرتُ فيك بسوء؛ وحمله إلى مرداويج، فسلّمه إلى جماعة أصحابه ليحمله إلى الريّ، فقال له بعض أصحابه: إنّ أكثر مَن معك كانوا أصحاب هذا، فانحرفوا عنه إليك، وقد أوحشتَ أكثرهم بقتل قوّادهم فما يؤمنك أن يرجعوا إليه غداً ويقبضوا عليك ؟ فحينئذ أمر بقتله وانصرف إلى الريّ.
وقيل في قتله: أنّه لمّا عاد نحو قلعة أَلْموت نزل في وادٍ هناك يستريح، فاتّفق أنّ مَرداويج خرج يتصيّد، ويسأل عن أخباره، فرأى خيلاً يسيرة في وادٍ هناك، فأرسل بعض أصحابه ليأخذ خبرها، فرأوا أسفار بن شِيرويه في عدّة يسيرة من أصحابه، يريد الحصن ليأخذ ما له فيه ويستعين به على جمع الجيوش، ويعود إلى محاربة مرداويج، فأخذوه ومن معه، وحملوه إلى مرداويج، فلمّا رآه نزل إليه فذبحه.

واستقرّ أمر مرداويج في البلاد، وعاد إلى قَزوين بعد قتل أسفار، فأحسن إلى أهلها، ووعدهم الجميل.
وقيل: بل دخل أسفار إلى رحى، وقد نال منه الجوع، فطلب من الطحّان شيئاً يأكله، فقدّم له خبزاً ولبناً، فأكل منه هو وغلام له ليس معه غيره، فأقبل مرداويج إلى تلك الناحية، فأشرف على الرحى فرأى أثر حوافر الدوابّ، فسأل عنها، فقيل له: قد دخل فارسان إلى هذه الرحى؛ فكبس مرداويج الرحى، فرآه وقتله.
ذكر ملك مرداويجولّما انهزم أسفار من مرداويج ابتدأ في ملك البلاد، ثمّ إنّه ظفر بأسفار فتمكّن ملكه وثبت، وتنقّل في البلاد يملكها مدينة مدينةً، وولايةً ولايةً، فملك قَزوين، ووعدهم الجميل فأحبّوه، ثمّ سار إلى الرَّي فملكها، وملك هَمَذان، وكَنْكُور، والدِّينَور، وبُروجَرد، وقُمّ، وقاشان، وأصبهان، وجرباذقان وغيرهما.
ثمّ إنّه أساء السيرة في أهل أصبهان خاصّة، وأخذ الأموال، وهتك المحارم، وطغى، وعمل له سريراً من ذهب يجلس عليه، وسريراً من فضّة يجلس عليه أكابر قوّاده، وإذا جلس على السرير يقف عسكره صفوفاً بالعبد منه، ولا يخاطبه أحد ألاّ الحجّاب الذين رتّبهم لذلك، وخافه الناس خوفاً شديداً.
ذكر ملك مرداويج طبرستانقد ذكرنا اتّفاق ما كان بن كالي مع مرداويج، ومساعدته على أسفار، فلّما استقرّ ملك مرداويج، وقوي أمره، وكثرت أمواله وعساكره، طمع في جُرجان، وطَبَرِستان، وكانتا مع ما كان بن كالي، فجمع عساكره وسار إلى طَبرِستان، فثبت له ما كان، فاستظهر عليه مرداويج، واستولى على طبرستان ورتّب فيها بلْقاسم بن بانجين، وهو اسفهسلار، وعسكره، وكان حازماً، شجاعاً، جيّد الرأي.
ثمّ سار مرداويج نحو جُرجان، وكان بها من قبل ما كان شيرزيل ابن سلار، وأبو عليّ بن تركي، فهربا من مرداويج، وملكها مرداويج، ورتّب فيها سرخاب بن باوس، خال ولد بلاسم بن بانجين، خليفة عن بلقاسم، فجمع بلقاسم جُرجان، وطبرستان، وعاد مرداويج إلى أصبهان ظافراً غانماً.
وسار ما كان إلى الديلم واستنجد أبا الفضل الثائر بها، فأكرمه، وسار معه إلى طبرستان فلقيهما بلقاسم، وتحاربوا، فانهزم ما كان والثائر، فأمّا الثائر فقصد الديلم، وأمّا ما كان فسار إلى نَيسابور، فدخل في طاعة السعيد نصر، واستنجده، فأمّده بأكثر جيشه، وبالغ في تقويته، ووصل إليه ما كان وأبو عليّ، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أبو عليّ وما كان وعادا إلى نَيسابور، ثمّ عاد ما كان بن كالي إلى الدَّامَغان ليتملّكها، فسار نحوه بلقاسم فصدّه عنها، فعاد إلى خُراسان، وسنذكر باقي أخبار ما كان فيما بعد.
ذكر عدّة حوادث
فيها كان ابتداء أمر أبي يزيد الخارجيّ بالمغرب، وسنذكر أمره سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة مستقصى.
وفيها ظهر بسِجِستان خارجيٌّ، وسار في جمع إلى بلاد فارس يريد التغلّب عليها، فقتله أصحابه قبل الوصول إليها، وتفرّقوا.
وفيها صُرف أحمد بن صر العشوريُّ عن حجبة الخليفة وقُلّدها ياقوت، وكان يتولّى الحرب بفارس، وهو بها، فاستخلف على الحجبة ابنه أبا الفتح المظفَّر.
وفيها وصل الدُّمُسْتُق في جيش كثير من الروم إلى أرمينية، فحصروا خلاط، فصالحه أهلها، ورحل عنهم بعد أن أخرج لمنبر من الجامع وجعل مكانه صليباً، وفعل بَبدْلِيس كذلك، وخافه أهل أرْزَن وغيرهم، ففارقوا بلادهم، وانحدر أعيانهم إلى بغداد، واستغاثوا إلى الخليفة، فلم يُغاثوا.
وفيها وصل سبعمائة رجل من الروم والأرمن إلى مَلَطْية ومعهم الفؤوس والمعاول، وأظهروا أنّهم يتكسّبون بالعمل، ثم ظهر أنّ مليحاً الأرمنيّ، صاحب الدروب، وضعهم ليكونوا بها، فإذا حصرها سلّموها إليه، فعلم بهم أهل مَلَطْية، فقتلوهم وأخذوا ما معهم.
وفيها، في منتصف ربيع الأوّل، قُلّد مؤنس المؤنسيُّ الموصل وأعمالها.
وفيها مات أبو بكر بن أبي داود السِّجِستانيُّ، وأبو عُوانة يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم الأسفراينيُّ، وله مسند مخرج على صحيح مسلم.
وفيها توفيّ أبو بكر محمّد بن السريّ النحويُّ المعروف بابن السّراج، صاحب كتاب الأصول في النحو.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة

ذكر خلع المقتدر
في هذه السنة خُلع المقتدر بالله من الخلافة، وبويع أخوه القاهر بالله محمّد ابن المعتضد، فبقي يومَيْن ثمّ أُعيد المقتدر.

وكان سبب ذلك ما ذكرنا في السنة التي قبلها من استيحاش مؤنس ونزوله بالشَّمّاسيّة، وخرج إليه نازوك، صاحب الشُّرطة، في عسكره، وحضر عنده أبو الهيجاء بن حَمدان في عسكره من بلد الجبل، وبنّيّ بن نفيس، وكان المقتدر قد أخذ منه الدِّينَور، فأعادها إليه مؤنس عند مجيئه إليه.
وجمع المقتدر عنده، في داره، هارون بن غريب، وأحمد بن كَيْغَلَغ، والغلمان الحجريّة، والرجّالة المصافيّة، وغيرهم، فلّما كان آخر النهار ذلك اليوم انقضّ أكثر مَن عند المقتدر، وخرجوا إلى مؤنس، وكان ذلك أوائل المحرّم.
ثم كتب مؤنس إلى المقتدر رقعة يذكر فيها أنّ الجيش عاتبٌ منكرٌ للسرف فيما يُطلق باسم الخدم والحُرَم من الأموال والضِّياع، ولدخولهم في الرأي وتدبير المملكة، ويطالبون بإخراجهم من الدار، وأخذ ما في أيديهم من الأموال والأملاك، وإخراج هارون بن غريب من الدار.
فأجابه المقتدر أنّه يفعل من ذلك ما يمكنه فعله، ويقتصر على ما لا بدّ له منه، واستعطفهم، وذكّرهم بيعته في أعناقهم مرّة بعد أخرى، وخوّفهم عاقبة النكث، وأمر هارون بالخروج من بغداد، وأقطعه الثغور الشاميّة والجزريّة، وخرج من بغداد تاسع المحرّم من هذه السنة، وراسلهم المقتدر، وذكّرهم نعمه عليهم وإحسانه إليهم، وحذرهم كفر إحسانه، والسعي في الشرّ والفتنة.
فلمّا أجابهم إلى ذلك دخل مؤنس وابن حَمدان ونازوك إلى بغداد، وأرجف الناس بأنّ مؤنساً ومن معه قد عزموا على خلع المقتدر وتولية غيره، فلمّا كان الثاني عشر من المحرّم خرج مؤنس والجيش إلى باب الشَّمّاسيّة، فتشاوروا ساعة، ثم رجعوا إلى دار الخليفة بأسرهم، فلّما زحفوا إليها، وقربوا منها، وهرب المظفَّر بن ياقوت، وسائر الحجّاب والخدم وغيرهم، والفرّاشون، وكلّ مَن في الدار؛ وكان الوزير أبو عليّ بن مقلة حاضراً، فهرب ودخل مؤنس والجيش دار الخليفة، وأخرج المقتدر، ووالدته، وخالته، وخواصّ جواريه، وأولاده، من دار الخلافة، وحُملوا إلى دار مؤنس، فاعتُقلوا بها.
وبلغ الخبر هارون بن غريب، وهو بقُطْرَبُّل، فدخل بغداد واستتر، ومضى ابن حَمدان إلى دار ابن طاهر، فأحضر محمّد بن المعتضد، وبايعوه بالخلافة، ولقّبوه القاهر بالله، وأحضروا القاضي أبا عمر عند المقتدر ليشهد عليه بالخلع، وعنده مؤنس، ونازوك، وابن حَمدان، وبنّيّ بن نفيس، فقال مؤنس للمقتدر ليخلع نفسه من الخلافة، فأشهد عليه القاضي بالخلع، فقام ابن حَمدان وقال للمقتدر: يا سيّدي يعزّ عليّ أن أراك على هذه الحال، وقد كنتُ أخافها عليك، وأحذرها، وأنصح لك، وأحذّرك عاقبة القبول من الخدم، والنساء، فتؤثر أقوالهم على قولي، وكأنّي كنتُ أرى هذا، وبعد، فنحن عبيدك وخدمك.
ودمعت عيناه وعينا المقتدر، وشهد الجماعة على المقتدر بالخلع، وأودعوا الكتاب بذلك عند القاضي أبي عمر، فكتمه ولم يُظهر عليه أحداً، فلمّا عاد المقتدر إلى الخلافة سلّمه إليه، وأعلمه أنّه لم يطلع عليه غيره، فاستحسن ذلك منه، وولاّه قضاء القضاة.
ولّما استقرّ الأمر للقاهر أخرج مؤنس المظفَّر عليَّ بن عيسى من الحبس، ورتّب أبا عليّ بن مقلة في الوزارة، وأضاف إلى نازوك مع الشُّرطة حجبة الخليفة، وكتب إلى البلاد بذلك، وأقطع ابن حَمدان، مضافاً إلى ما بيده من أعمال طريق خُراسان، وحُلوان، والدينور، وهَمَذان، وكَنكور، وكَرْمان، وشاهان، والرّاذنات، ودقُوقَا، وخَانيجار، ونَهاوَنْد، والصّيمرة، والسِّيروان، وماسَبَذان وغيرها، ونُهبت دار الخليفة، ومضى بنّيّ بن نفيس إلى تربة لوالدة المقتدر، فأخرج من قبر فيها ستّمائة ألف دينار، وحملها إلى دار الخليفة.
وكان خلع المقتدر النصف من المحرّم، ثمّ سكن النهب، وانقطعت الفتنة؛ ولّما تقلّد نازوك حجبة الخليفة أمر الرجّالة المصافيّة بقلع خيامهم من دار الخليفة، وأمر رجاله وأصحابه أن يقيموا بمكان المصافيّة، فعظم ذلك عليهم، وتقدّم إلى خلفاء الحجّاب أن لا يمكنوا أحداً من الدخول إلى دار الخليفة، إلاّ من له مرتبة، فاضطربت الحجبة من ذلك.
ذكر عود المقتدر إلى الخلافة

لّما كان يوم الاثنين سابع عشر المحرّم بكّر الناس إلى دار الخليفة لأنّه يوم موكب دولة جديدة، فامتلأت الممرّات، والمراحات، والرَّحاب، وشاطئ دجلة من الناس، وحضر الرجّالة المصافيّة في السلاح الشاكّ، يطالبون بحقّ البيعة، ورزق سنة، وهم حنقون بما فعل بهم نازوك، ولم يحضر مؤنس المظفَّر ذلك اليوم.
وارتفعت زعقات الرجّالة، فسمع بها نازوك، فأشفق أن يجري بينهم وبين أصحابه فتنة وقتال، فتقدّم إلى أصحابه، وأمرهم أن لا يعرضوا لهم، ولا يقاتلوهم، وزاد شغب الرجّالة، وهجموا يريدون الصحن التسعينيّ، فلم يمنعهم أصحاب نازوك، ودخل من كان على الشطّ بالسلاح، وقربت زعقاتهم من مجلس القاهر بالله، وعنده أبو عليّ بن مقلة الوزير، ونازوك، وأبو الهيجاء بن همدان، فقال القاهر لنازوك: اخرج إليهم فسكّنهم، وطيّب قلوبهم ! فخرج إليهم نازوك وهو مخمور، وقد شرب طول ليلته، فلمّا رآه الرجّالة تقدّموا إليه ليشكوا حالهم إليه في معنى أرزاقهم، فلمّا رآهم بأيديهم السيوف يقصدونه خافهم على نفسه فهرب، فطمعوا فيه، فتبعوه، فانتهى به الهرب إلى باب كان هو سدّة أمس، فأدركوه عنده، فقتلوه عند ذلك الباب، وقتلوا قبله خادمه عجيباً، وصاحوا: أي مقتدر، يا منصور ! فهرب كلّ مَن كان في الدار من الوزير، والحجّاب، وسائر الطبقات وبقيت الدار فارغة، وصلبوا نازوك وعجيباً بحيث يراهما مَن على شاطئ دجلة.
ثمّ صار الرجّالة إلى دار مؤنس يصيحون، ويطالبونه بالمقتدر، وبادر الخدم فأغلقوا أبواب دار الخليفة، وكانوا جميعهم خدم المقتدر، ومماليكه، وصنائعه، وأراد أبو الهيجاء بن حَمدان أن يخرج من الدار، فتعلق به القاهر وقال: أنا في ذمامك؛ فقال: والله لا أسلّمك أبداً؛ وأخذ بيد القاهر وقال: قم بنا نخرج جميعاً، وأدعو أصحابي وعشيرتي فيقاتلون معك ودونك.
فقاما ليخرجا، فوجدا الأبواب مغلقة، فتبعهما فائق وجه القصعة يمشي معهما، فأشرف القاهر من سطح، فرأى كثرة الجمع، فنزل هو وابن حمدان وفائق، فقال ابن حَمدان للقاهر، قف حتّى أعود إليك؛ ونزع سواده وثيابه، وأخذ جبّة صوف لغلام هناك، فلبسها ومشى نحو باب النوبى، فرآه مغلقاً والناس من ورائه، فعاد إلى القاهر، وتأخّر عنهما وجه القصعة ومَن معه من الخدم، فأمرهم وجه القصعة بقتلهما أخذاً بثأر المقتدر وما صنعا به، فعاد إليهما عشرة من الخدم بالسلاح، فعاد إليهم أبو الهيجاء وسيفه بيده، ونزع الجبّة الصوف، وأخذها بيده الأخرى، وحمل عليهم، فانجفلوا بين يديه، وغشيهم، فرموه بالنشاب ضرورة، فعاد عنهم، وانفرد عنه القاهر ومشى إلى آخر البستان فاختفى فيه.
ودخل أبو الهيجاء إلى بيت من ساج، وتقدّم الخدم إلى ذلك البيت، فخرج إليهم أبو الهيجاء، فولّوا هاربين، ودخل إليهم بعض أكابر الغلمان الحجريّة، ومعه أسودان بسلاح، فقصدوا أبا الهيجاء، فخرج إليهم فرُمي بالسهام فسقط، فقصده بعضُهم فضربه بالسيف فقطع يده اليمنى، وأخذ رأسه فحمله بعضهم، ومشى وهو معه.
وأمّا الرجّالة فإنّهم لّما انتهوا إلى دار مؤنس وسمع زعقاتهم قال: ما الذي تريدون ؟ فقيل له: نريد المقتدر؛ فأمر بتسليمه إليهم، فلمّا قيل للمقتدر ليخرج خاف على نفسه أن تكون حيلة عليه، فامتنع، وحُمل وأُخرج إليهم، فحمله الرجّالة على رقابهم حتّى أدخلوه دار الخلافة، فلمّا حصل في الصحن التسعينيّ اطمأنّ وقعد، فسأل عن أخيه القاهر، وعن ابن حَمدان، فقيل: هما حيّان؛ فكتب لهما أماناً بخطّه، وأمر خادماً بالسُّرعة بكتاب الأمان لئلاّ يحدث على أبي الهيجاء حادث، فمضى بالخطّ إليه، فلقيه الخادم الآخر ومعه رأسه، فعاد معه، فلمّا رآه المقتدر، وأخبره بقتله، قال: أنا لله وإنّا إليه راجعون ! مَن قتله ؟ فقال الخدم: ما نعرف قاتله؛ وعظم عليه قتله: وقال: ما كان يدخل عليّ ويسلّيني، ويُذهب عنّي الغمّ هذه الأيّام غيره.

ثمّ أُخذ القاهر وأُحضر عند المقتدر، فاستدناه، فأجلسه عنده وقبّل جبينه وقال له: يا أخي قد علمتُ أنّه لا ذنب لك، وأنّك قُهرتَ، ولو لقّبوك بالمقهور لكان أولى من القاهر؛ والقاهر يبكي ويقولك يا أمير المؤمنين ! نفسي، نفسي، اذكر الرّحِم التي بيني وبينك ! فقال له المقتدر: وحقّ رسول الله لا جرى عليك سوءٌ منّي أبداً، ولا وصل أحد إلى مكروهك وأنا حيّ ! فسكن، وأُخرج رأس نازوك، ورأس أبي الهيجاء، وشُهرا، ونودي عليهما: هذا جزاء من عصى مولاه.
وأمّا بني بن نفيس فإنّه كان من أشدّ القوم على المقتدر، فأتاه الخبر برجوعه إلى الخلافة، فركب جواداً وهرب عن بغداد، وغيّر زيّه، وسار حتى بلغ الموصل، وسار منها إلى أرمينية، وسار حتّى دخل القسطنطينيّة وتنصّر.
وهرب أبو السَّرايا نصر بن حَمدان أخو أبي الهيجاء إلى الموصل، وسكنت الفتنة، وأحضر المقتدر أبا عليّ بن مقلة، وأعاده إلى وزارته، وكتب إلى البلاد بما تجدّد له، وأطلق للجند أرزاقهم وزادهم، وباع ما في الخزائن من الأمتعة والجواهر، وأذن في بيع الأملاك من الناس، فبيع ذلك بأرخص الأثمان، ليتم أعطيات الجند.
وقد قيل إنّ مؤنساً المظفَّر لم يكن مؤثراً لما جرى على المقتدر من لخلع، وإنّما وافق الجماعة مغلوباً على رأيه، ولعلمه أنّه إن خالفهم لم ينتفع به المقتدر، ووافقهم ليؤمنوه، وسعى مع الغلمان المصافيّة والحجريّة، ووضع قوّادهم على أن عملوا ما عملوا، وأعادوا المقتدر إلى الخلافة، وكان هو قد قال للمقتدر، لمّا كان في داره: ما تريدون أن نصنع ؟ فلهذا أمّنه المقتدر، ولّما حملوه إلى دار الخلافة من دار مؤنس ورأى فيها كثرة الخلق والاختلاف عاد إلى دار مؤنس لثقته به، واعتماده عليه، ولولا هوى مؤنس مع المقتدر لكان حضر عند القاهر مع الجماعة، فإنّه لم يكن معهم كما ذكرناه، ولكان أيضاً قتل المقتدر لّما طُلب من داره ليعاد إلى الخلافة.
وأمّا القاهر فإنّ المقتدر حبسه عند والدته، فأحسنت إليه، وأكرمته، وسعت عليه النفقة، واشترت له السراري والجواري للخدمة، وبالغت في إكرامه والإحسان إليه بكلّ طريق.
ذكر مسير القرامطة إلى مكّة
وما فعلوه بأهلها وبالحجّاج وأخذهم الحجر الأسود
حجّ بالناس في هذه السنة منصور الديلميُّ، وسار بهم من بغداد إلى مكّة، فسلموا في الطريق، فوافاهم أبو طاهر القرمطيُّ بمكّة يوم التروية، فنهب هو وأصحابه أموال الحجّاج، وقتلوهم حتّى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه، وقلع الحجر الأسود ونفّذه إلى هَجَر، فخرج إليه ابن محلب، أمير مكّة، في جماعة من الأشراف، فسألوه في أموالهم، فلم يشفّعهم، فقاتلوه، فقتلهم أجمعين، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام حيث قُتلوا بغير كفن، ولا غسل، ولا صُلّي على أحد منهم، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه، ونهب دور أهل مكّة.
فلّما بلغ ذلك المهديَّ أبا محمّد عبيدالله العلويَّ بأفريقية كتب إليه ينكر عليه ذلك، ويلومه، ويلعنه، ويقيم عليه القيامة، ويقول: قد حققتَ على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإِلحاد بما فعلتَ، وإن لم تردّ على أهل مكّة وعلى الحجّاج وغيرهم ما أخذتَ منهم، وتردّ الحجر الأسود إلى مكانه، وتردّ كسوة الكعبة، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة.
فلمّا وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود على ما نذكره، واستعاد ما أمكنه من الأموال من أهل مكّة، فردّه، وقال: إنّ الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأوال الحُجّاج، ولا أقدر على منعهم.
ذكر خروج أبي زكريّاء وإخوته بخراسان
في هذه السنة خرج أبو زكرياء يحيى، وأبو صالح منصور، وأبو إسحاق إبراهيم، وأولاد أحمد بن إسماعيل السامانيّ، على أخيهم السعيد نصر ابن أحمد، وقيل كان ذلك سنة ثماني عشرة وهو الصحيح.

وكان سبب ذلك أنّ أخاهم نصراً كان قد حبسهم في القَهندز ببخارى، ووكّل بهم مَن يحفظهم، فتخلّصوا منه؛ وكان سبب خلاصهم أنّ رجلاً يُعرف بأبي بكر الخبّاز الأصبهانيّ كان يقول، إذا جرى ذكر السعيد نصر بن أحمد: أنّ له منّي يوماً طويلاً البلاء والعناء، فكان الناس يضحكون منه، فخرج السعيد إلى نَيسابور، واستخلف ببخارى أبا العبّاس الكوسج، وكانت وظيفة إخوته تُحمل إليهم من عند أبي بكر الخبّاز هذا وهم في السجن، فسعى لهم أبو بكر مع جماعة من أهل العسكر ليخرجوهم، فأجابوه إلى ذلك، وأعلمهم ما سعى لهم فيه.
فلمّا سار السعيد عن بخارى تواعد هؤلاء للاجتماع بباب القَهندز يوم جمعة، وكان الرسم أن لا يفتح باب القهندز أيّام الجمع إلاّ بعد العصر، فلّما كان الخميس دخل أبو بكر الخبّاز إلى القهندرّ قبل الجمعة التي اتّعدوا الإِجتماع فيها بيوم، فبات فيه، فلّما كان الغد، وهو الجُمعة، جاء الخبّاز إلى باب القهندز، وأظهر للبّواب زهداً وديناً، وأعطاه خمسة دنانير ليفتح له الباب ليخرجه لئلاّ تفوته الصلاة، ففتح له الباب، فصاح أبو بكر الخبّاز بمن وافقه على إخراجهم، وكانوا على الباب، فأجابوه، وقبضوا على البوّاب، ودخلوا وأخرجوا يحيى، ومنصوراً، وإبراهيم بني أحمد بن إسماعيل من الحبس، مع جميع مَن فيه من الديلم، والعلويّين، والعيّارين، فاجتمعوا، واجتمع إليهم من كان وافقهم من العسكر، ورأسهم شروين الجيليُّ وغيره من القوّاد.
ثمّ إنّهم عظمت شوكتهم، ونبهوا خزائن السعيد نصر بن أحمد ودوره وقصوره، واختصّ يحيى بن أحمد أبا بكر الخبّاز وقدّمه وقوّده، وكان السعيد إذ ذاك بنَيسابور، وكان أبو بكر محمّد بن المظفَّر، صاحب جيش خُراسان، بجُرجان، فلمّا خرج يحيى وبلغ خبره السعيد، عاد من نَيسابور إلى بخارى، وبلغ الخبز إلى محمّد بن المظفَّر، فراسل ما كان بن كالي، وصاهره، وولاّه نَيسابور، وأمره بمنعها مّمن يقصدها، فسار ما كان إليها، وكان السعيد قد سار من نَيسابور إلى بخارى، وكان يحيى وكّل بالنهر أبا بكر الخبّاز، فأخذه السعيد أسيراً، وعبر النهر إلى بخارى فبالغ في تعذيب الخبّاز، ثم ألقاه في التنور الذي كان يخبز فيه، فاحترق.
وسار يحيى من بخارى إلى سَمَرْقَنْد، ثمّ خرج منها واجتاز بنواحي الصَّغانيان وبها أبو عليّ بن أبي بكر محمّد بن المظفَّر، وسار يحيى إلى ترمذ، فعبر النهر إلى بلَخ وبها قراتكين، فوافقه قراتكين، وخرجا إلى مرو، ولّما ورد محمد بن المظفَّر بِنَيسابور كاتبه يحيى، واستماله، فأظهر له محمّد الميل إليه، ووعده المسير نحوه، ثمّ سار عن نَيسابور، واستخلف بها ما كان بن كالي، وأظهر أنّه يريد مَرو، ثمّ عدل عن الطريق نحو بوشنج وهَراة مسرعاً في سيره واستولى عليهما.
وسار محمّد عن هراة نحو الصَّغانيان على طريق غَرِشسْتان، فبلغ خبره يحيى فسيّر إلى طريقه عسكراً فلقيهم محمّد فهزمهم وسار عن غَرشِستان، واستمدّ ابنه أبا عليّ من الصغانيان، فأمدّه بجيش، وسار محمّد بن المظفّر إلى بلخ، وبها منصور بن قراتكين، فالتقيا، واقتتلا قتالاً شديداً، فانهزم منصور إلى جَوزَجان، وسار محمّد إلى الصغانيان، فاجتمع بولده، وكتب إلى السعيد بخبره، فسرّه ذلك وولاّه بلخ، وطُخَارِستان واستقدمه فولاّهما محمّدٌ ابنه أبا علي أحمد، وأنفذه إليهما، ولحق محمّد بالسعيد، فاجتمع به ببلخ رستاق، وهو في أثر يحيى وهو بهَراة.
وكان يحيى قد سار إلى نَيسابور، وبها ما كان بن كالي، فمنعه عنها، ونزلوا عليها، فلم يظفروا بها، وكان مع يحيى محمّد بن إلياس، فاستأمن إلى ما كان، واستأمن منصور وإبراهيم أخو يحيى إلى السعيد نصر، فلمّا قارب السعيد هراة، وبها يحيى وقراتكين، وسارا عن هراة إلى بلخ، فاحتال قراتكين ليصرف السعيد عن نفسه، فأنفذ يحيى من بلخ إلى بخارى، وأقام هو ببلخ، فعطف السعيد إلى بخارى، فلمّا عبر النهر هرب يحيى من بخارى إلى سَمَرْقَنْد، قمّ عاد من سَمَرْقَنْد ثانياً، فلم يعاونه قراتكين، فسار إلى نَيسابور، وبها محمّد بن إلياس قد قوي أمره، وسار عنها ما كان إلى جُرجان؛ ووافقه محمّد بن إلياس، وخطب له، وأقاموا بنَيسابور.

وكان السعيد في أثر يحيى لا يمكنه من الاستقرار، فلمّا بلغهم خبر مجيء السعيد إلى نَيسابور تفرّقوا، فخرج ابن إلياس إلى كَرْمان وأقام بها، وخرج قراتكين ومعه يحيى إلى بست والرخجّ، فأقاما بها، ووصل نصر بن أحمد نَيسابور في سنة عشرين وثلاثمائة، فأنفذ إلى قراتكين، وولاّه بلخ، وبذل الأمان ليحيى، فجاء إليه، وزالت الفتنة، وانقطع الشر وكان قد دام هذه المدّة كلها.
وأقام السعيد بنَيسابور إلى أن حضر عنده يحيى، فأكرمه، وأحسن إليه، ثمّ مضى بها لسبيله هو وأخوه أبو صالح منصور، فلمّا رأى أخوهما إبراهيم ذلك هرب من عند السعيد إلى بغداد، ثمّ منها إلى الموصل، وسيأتي خبره إنّ شاء الله تعالى.
وأمّا قراتكين فإنّه مات ببُست، ونُقل إلى أسبيجاب، فدُفن بها في رباطه المعروف برباط قراتكين، ولم يملك ضيعة قطّ، وكان يقول: ينبغي للجنديّ أن يصحبه كلّ ما ملك أين سار، حتّى لا يعتقله شيء.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة، منتصف المحرّم، وقعت فتنة بالموصل بين أصحاب الطعام وبين أهل المربّعة والبزّازين، فظهر أصحاب الطعام عليهم أوّل النهار، فانضمّ الأساكفة إلى أهل المربّعة والبزّازين فاستظهروا بهم، وقهروا أصحاب الطعام وهزموهم وأحرقوا أسواقهم.
وتتابعت الفتنة بعد هذه الحادثة واجترأ أهل الشر، وتعاقد أصحاب الخُلقان والأساكفة على أصحاب الطعام، واقتتلوا قتالاً شديداً دام بينهم، ثمّ ظفر أصحاب الطعام فهزموا الأساكفة ومَن معهم، وأحرقوا سوقهم، وقتلوا منهم، وركب أمير الموصل، وهو الحسن بن عبد الله بن حَمدان الذي لُقّب بعدُ بناصر الدولة ليسكن الناس، فلم يسكنوا ولا كفّوا، ثمّ دخل بينهم ناس من العلماء وأهل الدين، فأصلحوا بينهم.
وفيها وقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المَرْوَزيّ الحَنبليّ وبين غيرهم من العامّة، ودخل كثير من الجند فيها؛ وسبب ذلك أنّ أصحاب المَرْوَزيّ قالوا في تفسير قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) الاسراء:79؛ هو أنّ الله سبحانه يُقعد النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، معه على العرش؛ وقالت الطائفة الأخرى: إنّما هو الشفاعة، فوقعت الفتنة واقتتلوا، فقُتل بينهم قتلى كثيرة.
نوفيها ضعفت الثغور الجزريّة عن دفع الروم عنهم، منها مَلَطْية وميّافارقين وآمِد وأرزَن وغيرها، وعزموا على طاعة ملك الروم والتسليم إليه لعجز الخليفة المقتدر بالله عن نصرهم، وأرسلوا إلى بغداد يستأذنون في التسليم، ويذكرون عجزهم، ويستمدّون العساكر لتمنع عنهم، فلم يحصلوا على فائدة، فعادوا.
وفيها قُلّد القاضي أبو عمر محمّدُ بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن حمّاد بن زيد قضاء القضاة. وفيها قُلّد ابنا رائق شُرطة بغداد مكان نازوك.
وفيها مات أحمد بن منيع، وكان مولده سنة أربع عشرة ومائتين.
وفيها أقرّ المقتدر بالله ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان على ما بيده من أعمال قَرْدَى وبازَبْدَى، وعلى إقطاع أبيه وضياعه.
وفيها قُلّد نحرير الصغير أعمال الموصل، فسار إليها، فمات بها في هذه السنة، ووليها بعده ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حَمدان في المحرّم من سنة ثماني عشرة وثلاثمائة.
وفيها سار حاجّ العراق إلى مكّة على طريق الشام فوصلوا إلى الموصل أوّل شهر رمضان، ثمّ منها إلى الشام، لانقطاع الطريق بسبب القُرمطّي، وكانت كسوة الكعبة مع ابن عبدوس الجهشياريّ لأنّه كان من أصحاب الوزير.
وفيها، في شعبان، ظهر بالموصل خارجيٌّ يُعرف بابن مطر، وقصد نَصِيبين، فسار إليها ناصر الدولة بن حَمدان، فقاتله، فأسره. وظهر فيها أيضاً خارجيٌّ اسمه محمّد بن صالح بالبوازيج، فسار إليه أبو السرايا نصر بن حَمدان، فأخذه أيضاً.
وفيها التقى مفلح الساجيُّ والدّمُسْتُق، فاقتتلا، فانهزم الدمستق ودخل مُفلح وراءه إلى بلاد الروم.
وفيها، آخر ذي القعدة، انقضّ كوكب عظيم، وصار له ضوء عظيم جدّاً.
وفيها هبّت ريح شديدة، وحملت رملاً أحمر شديد الحمرة، فعمّ جانبَيْ بغداد، وامتلأت منه البيوت والدروب؛ يشبه رمل طريق مكّة.
وفيها توفّي أبو بكر أحمد بن الحسن بن الفرج بن سقير النجويُّ، كان عالماً بمذهب الكوفّيين، وله فيه تصانيف.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة وثلاثمائةذكر هلاك الرجّالة المصافيّة

في هذه السنة، في المحرّم، هلك الرجّالة المصافيّة، وأُخرجوا من بغداد، بعد ما عظم شرّهم، وقوي أمرهم.
وكان سبب ذلك أنّهم لّما أعادوا المقتدر إلى الخلافة، على ما ذكرناه، زاد إدلالهم واستطالتهم، وصاروا يقولون أشياء لا يحتملها الخلفاء، منها أنّهم يقولون: مَن أعان ظالماً سلّطه الله عليه، ومن يُصعد الحمار إلى السطح يقدر يحطّه، وأن لم يفعل المقتدر معنا ما نستحقّهُ، قاتلناه بما يستحقّ، إلى غير ذلك.
وكثر شغبهم ومطالبتهم، وأدخلوا في الأرزاق أولادهم، وأهليهم، ومعارفهم، وأثبتوا أسماءهم، فصار لهم في الشهر مائة ألف وثلاثون ألف دينار.
واتّفق أن شغب الفرسان في طلب أرزاقهم، فقيل لهم: إنّ بيت المال فارغ وقد انصرف الأموال إلى الرجّالة، فثار بهم الفرسان، فاقتتلوا، فقُتل من الفرسان جماعة، واحتجّ المقتدر بقتلهم على الرجّالة، وأمر محمّد بن ياقوت فركب، وكان قد استعمل على الشُّرطة؛ فطرد الرجّالة عن دار المقتدر، ونودي فيهم بخروجهم عن بغداد، ومن أقام قُبض عليه وحُبس؛ وهُدمت دور زُعمائهم، وقُبضت أملاكهم، وظَفر، بعد النداء، بجماعة منهم، فضربهم، وحلق لحاهم، وشهّر بهم.
وهاج السودان تعصُّباً للرجّالة، فركب محمّد أيضاً في الحجريّة، وأوقع بهم، وأحرق منازلهم، فاحترق فيها جماعة كثيرة منهم، ومن أولادهم، ومن نسائهم، فخرجوا إلى واسط، واجتمع بها منهم جمع كثير، وتغلّبوا عليها، وطرحوا عامل الخليفة، فسار إليهم مؤنس، فأوقع بهم، وأكثر القتل فيهم، فلم تقم لهم بعدها راية.
ذكر عزل ناصر الدولة بن حمدان عن الموصل وولاية عمّيه سعيد ونصر
في هذه السنة، في ربيع الأوّل، عُزل ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حمدان عن الموصل، ووليها عمّاه سعيد ونصر ابنا حمدان، ووليَ ناصر الدولة ديار ربيعة، ونَصِيبين، وسِنجار، والخابور، ورأس عين، ومعها، من ديار بكر، ميّافَارقين وأرزن، ضمن ذلك بمال مبلغه معلوم، فسار إليها، ووصل سعيد إلى الموصل في ربيع الآخر.
ذكر عزل ابن مقلة

ووزارة سليمان بن الحسن
وفي هذه السنة عُزل الوزير أبو عليّ محمّد بن مقلة من وزارة الخليفة.
وكان سبب عزله أنّ المقتدر كان يتّهمه بالميل إلى مؤنس المظفَّر، وكان المقتدر مستوحشاً من مؤنس، ويُظهر له الجميل، فاتّفق أنّ مؤنساً خرج إلى أوانا، وعُكبرا، فركب ابن مقلة إلى دار المقتدر آخر جمادى الأولى، فقُبض عليه.
وكان بين محمّد بن ياقوت وبين ابن مقلة عداوة، فأنفذ إلى داره بعد أن قبض عليه، وأحرقها ليلاً.
وأراد المقتدر أن يستوزر الحسين بن القاسم بن عبدالله، وكان مؤنس قد عاد فأنفذ إلى المقتدر مع عليّ بن عيسى يسأل أن يُعاد ابن مقلة، فلم يجب المقتدر إلى ذلك، وأراد قتل ابن مقلة، فردّه عن ذلك، فسأل مؤنس أن لا يستوزر الحسين، فتركه، واستوزر سليمان بن الحسن منتصف جمادى الأولى، وأمر المقتدر بالله عليَّ بن عيسى بالاطلاّع على الدواوين، وأن لا ينفرد سليمان عنه بشيء، وصودر أبو عليّ بن مقلة بمائتَي ألف دينار، وكانت مدّة وزارته سنتَين وأربعة أشهر وثلاثة أيّام.
ذكر القبض على أولاد البريديّ
كان أولاد البريديّ، وهم أبو عبدالله، وهم أبو عبدالله، وأبو يوسف، وأبو الحسين، قد ضمنوا الأهواز، كما تقدّم، فلمّا عُزل الوزير ابن مقلة كتب المقتدر بخطّ يده إلى أحمد بن نصر القشوريّ الحاجب يأمره بالقبض عليهم، ففعل، وأودعهم عنده في داره. ففي بعض الأيّام سمع ضجّة عظيمة، وأصواتاً هائلة، فسأل: ما الخبر ؟ فقيل: إنّ الوزير قد كتب بإطلاق بني البريديّ، وأنفذ إليه أبو عبدالله كتاباً مزوّراً يأمره فيه بإطلاقهم، وإعادتهم إلى أعمالهم، فقال لهم أحمد: هذا كتاب الخليفة بخطّه، يقول فيه: لا تطلقهم حتّى يأتيك كتاب آخر بخطيّ.
ثمّ ظهر أنّ الكتاب مزوَّر، ثمّ أنفذ المقتدر فاستحضرهم إلى بغداد، وصودروا على أربعمائة ألف دينار، وكان لا يطمع فيها منهم، وإنّما طلب منهم هذا القدر ليجيبوا إلى بعضه، فأجابوا إليه جميعه ليتخلّصوا ويعودوا إلى عملهم.
ذكر خروج صالح والأغرّ

وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، خرج خارجيٌّ من بجيلة، من أهل البوازيج، اسمه صالح بن محمود، وعبر إلى البريّة، واجتمع إليه جماعة من بني مالك، وسار إلى سِنجار فأخذ من أهلها مالاً، فلقيه قوافل، فأخذ عُشرها، وخطب بسنجار، فذكّر بأمر الله، وحذّر، وأطال في هذا، ثمّ قال: نتولّى الشيخَيْن، ونبرأ من الخبيثَيْن، ولا نرى المسح على الخفّيْن.
وسار منها إلى الشجاجية، من أرض الموصل، فطالب أهلَها وأهل أعمال الفَرَج بالعُشر، وأقام أيّاماً، وانحدر إلى الحديثة، تحت الموصل، فطالب المسمين بزكاة أموالهم، والنصارى بجزية رؤوسهم، فجرى بينهم حرب، فقُتل من أصحابه جماعة، ومنعوه من دخولها، فأحرق لهم ستّ عُروب، وعبر إلى الجانب الغربيّ، وأسر أهلُ الحديثة ابناً لصالح اسمه محمّد، فأخذه نصر بن حمدان بن حمدون، وهو الأمير بالموصل، فأدخله إليها، ثمّ سار صالح إلى السنّ، فصالحه أهلها على مال أخذه منهم، وانصرف إلى البوازيج، وسار منها إلى تلْ خوسا، قرية من أعمال الموصل عند الزاب الأعلى، وكاتب أهل الموصل في أمر ولده، وتهدّدهم أن لم يردّوه إليه، ثمّ رحل إلى السلاميّة، فسار إليه نصر بن حمدان لخمس خلون من شعبان من هذه السنة، ففارقها صالح إلى البوازيج، فطلبه نصر، فأدركه بها، فحاربه حرباً شديدة قُتل فيها من رجال صالح نحو مائة رجل، وقُتل من أصحاب نصر جماعة، وأُسر صالح ومعه ابنان له، وأُدخلوا إلى الموصل، وحُملوا إلى بغداد فأُدخلوا مشهورين.
وفيها، في شعبان، خرد بأرض الموصل خارجيٌّ اسمه الأغر بن مطرة الثعلبيُّ، وكان يذكر أنّه من ولد عتّاب بن كلثوم التغلبي أخي عمرو بن كلثوم الشاعر، وكان خروجه بنواحي رأس العين، وقصد كفَر توثا وقد اجتمع معه نحو ألفَيْ رجل، فدخلها ونهبها وقتل فيها.
وسار إلى نَصِيبين، فنزل بالقرب منها، فخرج إليه وإليها ومعه جمع من الجند ومن العامّة، فقاتلوه، فقتل الشاريُّ منهم مائة رجل، وأسر ألف رجل، فباعهم نفوسهم، وصالحه أهل نصيبين على أربعمائة ألف درهم.
وبلغ خبره ناصر الدولة بن حمدان، وهو أمير ديار ربيعة، فسيّر إليه جيشاً، فقاتلوه، فظفروا به وأسروه، وسيّره ناتصر الدولة إلى بغداد.
ذكر مخالفة جعفر بن أبي جعفركان جعفر بن أبي جعفر بن أبي داود مقيماً بالخُتَّل، والياً عليها للسامانيّة، فبدت منه أمور نُسبت بسببها إلى الإستعصاء، فكوتب أبو عليّ أحمد بن محمّد بن المظفَّر بقصده، فسار إليه، وحاربه، فقبض عليه، وحمله إلى بخارى، وذلك قبل مخالفة أبي زكرياء يحيى، فلّما حُمل إلى بخارى حُبس فيها، فلمْا خالف أبو زكرياء يحيى أخرجه من الحبس وصحبه، ثمّ استأذنه في العود إلى ولاية الخُتَّل وجمْع الجيوش له بها، فأذن له فسار إليها، وأقام بها، وتمسّك بطاعة السعيد نصر بن أحمد، فصلح حاله، وذلك سنة ثماني عشرة وثلاثمائة.
الخُتَّل بالخاء المعجمة والتاء فوقها نقطتان والخاء مضمومة والتاء مشدّدة مفتوحة.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة شغب الفرسان، وتهدّدوا بخلع الطاعة، فأحضر المقتدر قوّادهم بين يديه، ووعدهم الجميل، وأن يطلق أرزاقهم في الشهر المقبل، فسكنوا، ثمّ شغب الرجّالة، فأُطلقت أرزاقهم.
وفيها خلع المقتدر على ابنه هارون، وركب معه الوزير، والجيش، وأعطاه ولاية فارس وكَرْمَان وسِجِستان ومكران.
وفيها أيضاً خلع على ابنه أبي العبّاس، وأقطعه بلاد الغرب، ومصر، والشام، وجعل مؤنساً المظفَّر يخلفه فيها.
وفيها صُرف ابنا رائق عن الشُّرطة، وقُلّدها أبو بكر محمّد بن ياقوت.
وفيها وقعت فتنة بنَصِيبين بين أهل باب الروم والباب الشرقيّ، واقتتلوا قتالاً شديداً، وأدخلوا إليهم قوماً من العرب والسواد، فقُتل بينهم جماعة، وأُحرقت المنازل والحوانيت، ونُهبت الأموال، ونزل بهم قافلة عظيمة تريد الشام، فنهبوها.
وفيها توفّي يحيى بن محمّد بن صاعد البغداديُّ وكان عمره تسعين سنة، وهو من فضلاء المحدّثين، والقاضي أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخيُّ الفقيه الحنفيُّ، وكان عالماً بالأدب ونحو الكوفّيين، وله شعر حسن.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائةذكر تجدُّد الوحشة بين مؤنس والمقتدر
في هذه السنة تجدّدت الوحشة بين مؤنس المظفَّر وبين المقتدر بالله.

وكان سببها أنّ محمّد بن ياقوت كان منحرفاً على الوزير سليمان، ومائلاً إلى الحسين بن القاسم، وكان مؤنس يميل إلى سليمان، بسبب عليّ بن عيسى، وثقتهم به، وقوي أمر محمّد بن ياقوت، وقُلّد، مع الشُّرطة، الحِسبة، وضمّ إليه رجالاً، فقوي بهم، فعظم ذلك على مؤنس، وسأل المقتدر صرف محمّد عن الحسبة، وقال: هذا شغل لا يجوز أن يتولاّه غير القضاة والعدول؛ فأجابه المقتدر.
وجمع مؤنس إليه أصحابه، فلمّا فعل ذلك جمع ياقوت وابنه الرجال في دار السلطان، وفي دار محمّد بن ياقوت، وقيل لمؤنس: إنّ محمّد بن ياقوت قد عزم على كبس دارك ليلاً؛ ولم يزل به أصحابه حتّى أخرجوه إلى باب الشَّمّاسيّة فضربوا مضاربهم هناك، وطالب المقتدر بصرف ياقوت عن الحجبة وصرف ابنه عن الشُّرطة، وإبعادهما عن الحضرة، فأُخرجا إلى المدائن.
وقلّد المقتدر ياقوتاً أعمال فارس وكرمان، وقلّد ابنه المظفَّر بن ياقوت أصبهان، وقلّد أبا بكر محمّد بن ياقوت سِجِستان، وتقلّد ابنا رائق إبراهيم ومحمّد مكان ياقوت وولده الحجبة والشُّرطة، وأقام ياقوت بشِيراز مدّة.
وكان عليُّ بن خلف بن طياب ضامناَ أموال الضياع والخراج بها، فتظافرا، وتعاقدا، وقطعا الحمل على المقتدر، إلى أن ملك عليُّ بن بُوَيْه الديلميُّ بلاد فارس سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
ذكر قبض الوزير سليمان

ووزارة أبي القاسم الكلوذاني
ّ
وفي هذه السنة قبض المقتدر على وزيره سليمان بن الحسن.
وكان سبب ذلك أن سليمان ضاقت الأموال عليه إضافة شديدة، وكثرت عليه المطالبات، ووقفت وظائف السلطان، واتّصلت رقاع مَن يُرَشّح نفسه للوزارة بالسعاية به، والضمان بالقيام بالوظائف، وأرزاق الجند، وغير ذلك، فقبض عليه، ونقله إلى داره.
وكان المقتدر كثير الشهوة لتقليد الحسين بن القاسم الوزارة، فامتنع مؤنس من ذلك، وأشار بوزارة أبي القاسم الكلْوذانيّ، فاضطر المقتدر إلى ذلك، فاستوزره لثلاث بقين من رجب، فكانت وزارة سليمان سنة واحدة وشهَريْن، وكانت وزارته غير متمكّنة أيضاً، فإنّه كان عليُّ بن عيسى معه على الدواوين وسائر الأمور، وأُفرد عليُّ بن عيسى عنه بالنظر في المظالم، واستعمل على ديوان السواد غيره، فانقطعت موادّ الوزير، فإنّه كان يقيم مِن قبله من يشتري توقيعات أرزاق جماعة لا يمكنهم مفارقة ما هم عليه بصدده من الخدمة، فكان يعطيهم نصف المبلغ، وكذلك إدرارات الفقهاء وأرباب البيوت إلى غير ذلك.
وكان أبو بكر بن قرابة منتمياً إلى مُفلح الخادم، فأوصله إلى المقتدر، فذكر له أنّه يعرف وجوه مرافق الوزراء، فاستعمله عليها ليصلحها للخليفة، فسعى في تحصيل ذلك من العمّال، والضُّمّان، والتُّنّاء وغيرهم، فأخلق بذلك الخلافة، وفضح الديوان، ووقفت أحوال الناس، فإنّ الوزراء وأرباب الولايات لا يقومون بأشغال الرعايا والتعب معهم إلاّ لرفق يحصل لهم، وليس لهم من الدين ما يحملهم على النظر في أحوالهم، فإنّه بعيد منهم، فإذا منعوا تلك المرافق تركوا الناس يضطربون، ولا يجدون مَن يأخذ بأيديهم، ولا يقضي حوائجهم، فإنّي قد رأيتُ هذا عياناً في زماننا هذا، وفات به من المصالح العامّة والخاصّة ما لا يحصى.
ذكر الحرب بين هارون وعسكر مرداويجقد ذكرنا فيما تقدّم قتل أسفار وملك مرداويج، وأنّه استولى على بلد الجبل والرَّيّ وغيرهما، وأقبلت الدَّيلم إليه من كلّ ناحية لبذله وإحسانه إلى جنده، فعظمت جيوشه، وكثرت عساكره، وكثر الخرج عليه، فلم يكفه ما في يده، ففرّق نوّابه في النواحي المجاورة له.
فكان مّمن سيّره إلى همَذان ابن أخت له في جيش كثير، وكان بها أبو عبد الله محمّد بن خلف في عسكر الخليفة، فتحاربوا حروباً كثيرة، وأعان أهل همذان عسكر الخليفة، فظفروا بالديلم، وقُتل ابن أخت مرداويج، فسار مرداويج من الرَّيّ إلى همذان، فلمّا سمع أصحاب الخليفة بمسيره انهزموا من همذان، فجاء إلى همذان، ونزل على باب الأسد، فتحصّن منه أهلها، فقاتلهم، فظفر بهم وقتل منهم خلقاً كثيراً، وأحرق وسبى، ثم رفع السيف عنهم وأمّن بقيتهم.

فأنفذ المقتدر هارونَ بن غريب الخال في عساكر كثيرة إلى محاربته، فالتقوا بنواحي همذان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم هارون وعسكر الخلية، واستولى مرداويج على بلاد الجبل جميعها، وما وراء همذان، وسيّر قائداً كبيراً من أصحابه يُعرف بابن علاّن القزوينيّ إلى الدّينَور، ففتحها بالسيف، وقتل كثيراً من أهلها، وبلغت عساكره إلى نواحي حُلوان، فغنمت، ونهبت، وقتلت، وسبت الأولاد والنساء، وعادوا إليه.
ذكر ما فعله لشكري من المخالفةكان لشكري الديلميُّ من أصحاب أسفار، واستأمن إلى الخليفة، فلمّا انهزم هارون بن غريب من مرداويج سار معه إلى قَرْمِيسين، وأقام هارون بها، واستمدّ المقتدر ليعاود محاربة مرداويج وسيّر هارون لشكري هذا إلى نهاوند لحمل مالٍ بها إليه، فلمّا صار لشكري بنَهاوند، ورأى غنى أهلها طمع فيهم، وصادرهم على ثلاثة آلاف ألف درهم، واستخرجها في مدّة أُسبوع، وجنّد بها جُنداً، ثمّ مضى إلى أصبهان هارباً من هارون في الجند الذين انضمّوا إليه في جُمادى الآخرة.
وكان الوالي على أصبهان حينئذ أحمد بن كَيْغَلغ، وذلك قبل استيلاء مرداويج عليها، فخرج إليه أحمد فحاربه، فانهزم أحمد هزيمة قبيحة، وملك لشكري أصبهان، ودخل أصحابه إليها، فنزلوا في الدور والخانات وغيرها ولم يدخل لكري معهم؛ ولّما انهزم أحمد نجا إلى بعض قرى أصبهان في ثلاثين فارساً، وركب لشكري يطوف بسُور أصبهان من ظاهره، فنظر إلى أحمد في جماعته، فسأل عنه فقيل: لا شكّ أنه من أصحاب أحمد ابن كَيْغَلغ، فسار فيمن معه من أصحابه نحوهم، وكانوا عدّة يسيرة، فلمّا قرب منهم تعارفوا، فاقتتلوا، فقُتل لشكري، قتله أحمد بن كَيْغَلغ، ضربه بالسيف على رأسهن فقدّ المغفر والخّوذة، ونزل السيف حتّى خالط دماغه، فسقط ميّتاً.
وكان عمر أحمد إذ ذاك قد جاوز السبعين؛ فلمّا قُتل لشكري انهزم مَن معه، فدخلوا أصبهان، وأعلموا أصحابهم، فهربوا على وجوههم، وتركوا أثقالهم وأكثر رحالهم، ودخل أحمد إلى أصبهان، وكان هذا قبل استيلاء مرداويج على أصبهان؛ وكان هذا من الفتح الظريف، وكان جزاؤه أن صُرف عن أصبهان، ووليَ عليها المظفَّر بن ياقوت.
ذكر ملك مرداويج أصبهانثمّ أنفذ مرداويج طائفة أخرى إلى أصبهان، فملكوها واستولوا عليها، وبنوا له فيها مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف العِجليّ، والبساتين، فسار مرداويج إليها فنزلها وهو في أربعين ألفاً، وقيل خمسين ألفاً، وأرسل جمعاً آخر إلى الأهواز، فاستولوا عليها وعلى خوزستان، وجبوا أموال هذه البلاد والنواحي، وقسمها في أصحابه، وجمع منها الكثير فاذخره.
ثمّ إنّه أرسل إلى المقتدر رسولاً يقرّر على نفسه مالاً على هذه البلاد كلّها، ونزل للمقتدر عن هَمذان وماه الكوفة، فأجابه المقتدر إلى ذلك، وقوطع على مائتَيْ ألف دينار كلّ سنة.
ذكر عزل الكَلْوَذانيّ ووزارة الحسين بن القاسم
في هذه السنة عُزل أبو القاسم الكّلْوذانيُّ عن وزارة الخليفة ووزر الحسين ابن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب.
وكان سبب ذلك أنّه كان ببغداد إنسان يُعرف بالدانياليّ، وكان زرّاقاً، ذكيّاً محتالاً، وكان يعتّق الكاغد، ويكتب فيه بخطّة ما يشبه الخطّ العتيق، ويذكر فيه إشارات ورموزاً يودعها أسماء أقوام من أرباب الدولة، فيحصل له بذلك رفق كثير.
فمن جملة ما فعله أنّه وضع في جملة كتاب: ميم ميم ميم، يكون منه كذا وكذا، وأحضره عند مفلح، وقال: هذا كناية عنك، فإنّك مفلح مولى المقتدى، وذكر له علامات تدلّ عليه، فأغناه، فتوصّل الحسين بن القاسم معه، حتّى جعل اسمه في كتاب وضعه، وعتّقه، وذكر فيه علامة وجهه، وما فيه من الآثار، ويقول إنّه يزر للخليفة الثامن عشر من خلفاء بني العبّاس، وتستقيم الأمور على يدَيْه، ويقهر الأعادي، وتتعمّر الدنيا في أيّامه، وجعل هذا كلّه في جملة كتاب ذكر فيه حوادث قد وقعت، وأشياء لم تقع بعد، ونسب ذلك إلى دانيال، وعتّق الكتاب وأخذه وقرأه على مفلح، فلمّا رأى ذلك أخذ الكتاب وأحضره عنده المقتدر وقال له: أتعرف في الكُتّاب من هو بهذه الصفة ؟ فقال: ما أعرفه إلاّ الحسين بن القاسم؛ فقال: صدقت وإنّ قلبي ليميل إليه، فإن جاءك منه رسول برقعة فاعرضها عليّ، واكتم حاله ولا تطلع على أمره أحداً.

وخرج مفلح إلى الدانياليّ فسأله: هل تعرف أحداً من الكتّاب بهذه الصفة ؟ فقال: لا أعرف أحداً؛ قال: فمن أين وصل إليك هذا الكتاب ؟ فقال: من أبي، وهو ورثه من آبائه، وهو من ملاحم دانيال، عليه السلام؛ فأعاد ذلك على المقتدر، فقبله، فعرّف الدانياليُّ ذلك الحسين بن القاسم، فلمّا أعلمه كتب رقعة إلى مفلح، فأوصلها إلى المقتدر، ووعده الجميل، وأمره بطلب الوزارة وإصلاح مؤنس الخادم، فكان ذلك من أعظم الأسباب في وزارته مع كثرة الكارهين له.
ثمّ اتفق أنّ الكَلْوذانيَّ عمل حِسْبةً بما يحتاج إليه من النفقات، وعليها خطّ أصحاب الديوان، فبقي محتاجاً إلى سبعمائة ألف دينار، وعرضها على المقتدر، وقال: ليس لهذه جهة إلاّ ما يطلقه أمير المؤمنين لأنفقه، فعظم ذلك على المقتدر.
وكتب الحسين بن القاسم لّما بلغه ذلك يضمن جميع النفقات، ولا يطالبه بشيء من بيت المال، وضمن أنّه يستخرج سوى ذلك ألف ألف دينار يكون في بيت المال، فعُرضت رقعته على الكَلْوذانيّ فاستقال، وأذن في وزارة الحسين، ومضى الحسين إلى بُلَيق، وضمن له مالاً ليصلح له قلب مؤنس، ففعل، فعُزل الكَلْوذانيُّ في رمضان، وتولّى الحسين الوزارة لليلتَينْ بقيتا من رمضان أيضاً، وكانت ولاية الكَلْوذانيّ شهرَيْن وثلاثة أيّام، واختصّ بالحسين بنو البَرِيديّ وابنُ قَرابة، وشرط أن لا يطلع معه عليّ بن عيسى، فأُجيب إلى ذلك، وشرع في إخراجه من بغداد، فأُجيب إلى ذلك، فأُخرج إلى الصافية.
ذكر تأكّد الوحشة بين مؤنس والمقتدر
في هذه السنة، في ذي الحجّة، تجدّدت الوحشة بين مؤنس والمقتدر، حتى آل ذلك إلى قتل المقتدر.
وكان سببها ما ذكرنا أوّلاً في غير موضع، فلمّا كان الآن بلغ مؤنساً أنّ الوزير الحسين بن القاسم قد وافق جماعة من القوّاد في التدبير عليه، فتنكّر له مؤنس، وبلغ الحسين أنّ مؤنساً قد تنكّر له، وأنّه يريد أن يكبس داره ليلاً ويقبض عليه، فتنقّل في عدة مواضع، وكان لا يحضر داره إلاّ بُكرة، ثمّ إنّه انتقل إلى داره الخلافة، فطلب مؤنس من المقتدر عزل الحسين ومصادرته، فأجاب إلى عزله ولم يصادره، وأمر الحسين بلزوم بيته، فلم يقنع مؤنس بذلك فبقي في وزارته.
وأوقع الحسين عند المقتدر أنّ مؤنساً يريد أخذ ولده أبي العبّاس، وهو الراضي، من داره بالمخرّم، والمسير به إلى الشام، والبيعة له، فردّه المقتدر إلى دار الخلافة، فعلم ذلك أبو العبّاس؛ فلمّا أفضت الخلافة إليه فعل بالحسين ما نذكره.
وكتب الحسن إلى هارون، وهو بدير العاقول، بعد انهزامه من مرداويج، ليتقدمه إلى بغداد، وكتب إلى محمّد بن ياقوت، وهو بالأهواز، يأمره بالإسراع إلى بغداد، فزاد استشعار مؤنس، وصح عنده أنّ الحسين يسعى في التدبير عليه، وسنذكر تمام أمره سنة عشرين وثلاثمائة.
ذكر الحروب بين المسلمين والرومفي هذه السنة، في ربيع الأوّل، غزا ثمل والي طَرَسُوس بلاد الروم، فعبر نهراً، ونزل عليهم ثلجٌ إلى صدور الخيل، وأتاهم جمع كثير من الروم، فواقعوهم، فنصر الله المسلمين، فقتلوا من الروم ستّمائة، وأسروا نحواً من ثلاثة آلاف، وغنموا من الذهب والفضّة والديباج وغيره شيئاً كثيراً.
وفيها في رجب عاد ثمل إلى طَرَسُوس، ودخل بلاد الروم صائفة في جمع كثير من الفارس والراجل، فبلغوا عَمّورية، وكان قد تجمّع إليها كثير من الروم، ففارقوها لّما سمعوا خبر ثمل، ودخلها المسلمون، فوجدوا فيها من الأمتعة والطعام شيئاً فأخذوه، وأحرقوا ما كانوا عمّروه منها، وأوغلوا في بلاد الروم ينهبون، ويقتلون ويخرّبون، حتى بلغوا أنقِرَة، وهي التي تسمّى الآن أنكورية، وعادوا سالمين لم يلقوا كيداً، فبلغت قيمة السبي مائة ألف دينار وستّة وثلاثين ألف دينار، وكان وصولهم إلى طَرَسُوس آخر رمضان.

وفيها كاتب ابن الدَّيرانيّ وغيره من الأرمن، وهم بأطراف أرمينية، الروم، وحثّوهم على قصد بلاد الإسلام، ووعدوهم النصرة، فسارت الروم في خلق كثير، فخرّبوا بَزكرى وبلاد خلاط وما جاورها، وقُتل من المسلمين خلق كثير، وأسروا كثيراً منهم، فبلغ خبرهم مُفلحاً، غلام يوسف بن أبي الساج، وهو والي أذربيجان، فسار في عسكر كبير، وتبعه كثير من المتطوّعة إلى أرمينية، فوصلها في رمضان، وقصد بلد ابن الدَّيرانيّ ومن وافقه لحربه، وقتل أهله، ونهب أموالهم، وتحصّن ابن الدًَّيرانيّ بقلعة له، وبالغ الناس في كثرة القتلى من الأرمن، حتّى قيل إنّهم كانوا مائة ألف قتيل، والله أعلم.
وسارت عساكر الروم إلى سُمَيساط فحصروها، فاستصرخ أهلها بسعيد بن حَمدان، وكان المقتدر قد ولاّه الموصل وديار ربيعة، وشرط عليه غزو الروم، وأن يستنقذ مَلَطْية منهم، وكان أهلها قد ضعفوا، فصالحوا الروم، وسلّموا مفاتيح البلد إليهم، فحكموا على المسلمين، فلمّا جاء رسول أهل سُمَيساط إلى سعيد بن حمدان تجهّز وسار إليهم مسرعاً، فوصل وقد كاد الروم يفتحونها، فلمّا قاربهم هربوا منه، وسار منها إلى مَلَطية وبها جمع من الروم ومن عسكر مليح الأرمنيّ ومعهم بنْيّ بن نفيس، صاحب المقتدر، وكان قد تنصّر، وهو مع الروم، فلمّا أحسّوا بإقبال سعيد خرجوا منها، وخافوا أن يأتيهم سعيد في عسكره من خارج المدينة، ويثور أهلها بهم فيهلكوا، ففارقوها.
ودخلها سعيد ثمّ استخلف عليها أميراً، وعاد عنها، فدخل بلد الروم غازياً في شوّال، وقدّم بين يديه سَريّتَيْن فقتلتا من الروم خلقاً كثيراً قبل دخوله إليها.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة، في شوّال، جاء إلى تكريت سيل كبير من المطر نزل في البرّ، فغرق منها أربعمائة دار ودكّان، وارتفع الماء في أسواقها أربعة عشر شبراً، وغرق خلق كثير من الناس ودُفن المسلمون والنصارى مجتمعين لا يُعرف بعضهم من بعض.
وفيها هاجت بالموصل ريح شديد فيها حمرة شديدة، ثمّ اسودّت حتّى لا يعرف الإنسان صاحبه، وظنّ الناس أنّ القيامة قد قامت، ثمّ جاء الله تعالى بمطر فكشف ذلك.
وفيها توفّي أبو القاسم عبدالله بن أحمد بن محمود البلخيُّ في شعبان، وهو من متكلّمي المعتزلة البغداديّين.
ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة

ذكر مسير مؤنس إلى الموصل
في هذه السنة، في المحرّم، سار مؤنس المظفَّر إلى الموصل مغاضباً للمقتدر.
وسبب مسيره أنّه لّما صحّ عنده إرسال الوزير الحسين بن القاسم إلى هارون ابن غريب ومحمّد بن ياقوت يستحضرهما، زاد استيحاشه، ثم سمع بأنّ الحسين قد جمع الرجال والغلمان الحجريّة في دار الخليفة، وقد اتّفق فيهم، وأنَّ هارون بن غريب قد قرب من بغداد، فأظهر الغضب، وسار نحو الموصل ووجّه خادمه بُشرى برسالة إلى المقتدر، فسأله الحسين عن الرسالة، فقال: لا أذكرها إلاّ لأمير المؤمنين؛ فأنفذ إليه المقتدر يأمره بذكر ما معه من الرسالة للوزرن فامتنع، وقال: ما أمرني صاحبي بهذا؛ فسبّه الوزير، وشتم صاحبه، وأمر بضربه، وصادره بثلاثمائة ألف دينار، وأخذ خطّه بها، وحبسه ونهب داره.
فلمّا بلغ مؤنساً ما جرى على خادمه، وهو ينتظر أن يطيّب المقتدر قلبه، ويعيده، فلمّا علم ذلك سار نحو الموصل ومعه جميع قُوّاده، فكتب الحسين إلى القوّاد والغلمان يأمرهم بالرجوع إلى بغداد، فعاد جماعة، وسار مؤنس نحو الموصل في أصحابه ومماليكه، ومعه من الساجيّة ثماني مائة رجل، وتقدّم الوزير بقبض إقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك مَن معه، وضرب اسمه على الدينار والدرهم، وتمكّن من الوزارة، وولّى وعزل.
وكان فيمن تولّى أبو يوسف يعقوب بن محمّد البريديُّ، ولاّه الوزر البصرة وجميع أعمالها بمبلغ لا يفي بالنفقات على البصرة وما يتعلّق بها، بل فضل لأبي يوسف مقدار ثلاثين ألف دينار أحاله الوزير بها، فلّما علم ذلك الفضل بن جعفر بن محمّد بن الفرات استدرك على أبي يوسف، وأظهر له الغلط في الضمان، وأنّه لا يمضيه، فأجاب إلى أن يقوم بنفقات البصرة، ويحمل إلى بيت المال كلّ سنة ثمانين ألف دينار، وانتهى ذلك إلى المقتدر، فحسُن موقعه عنده، فقصده الوزير، فاستتر، وسعى بالوزير إلى المقتدر إلى أن أفسد حاله.
ذكر عزل الحسين عن الوزارة

وفيها عُزل الحسين بن القاسم عن الوزارة. وسبب ذلك أنّه ضاقت عليه الأموال، وكثرت الإخراجات، فاستسلف في هذه السنة جملة وافرة أخرجها في سنة تسع عشرة، فأنهى هارون بن غريب ذلك إلى المقتدر، فرتّب معه الخصيبيّ، فلمّا تولّى معه نظر في أعماله، فرآه قد عمل حِسبة إلى المقتدر ليس فيها عليه وجه، وموّه وأظهر ذلك للمقتدر، فأمر بجمع الكتّاب وكشف الحال، فحضروا، واعترفوا بصدق الخصيبيّ بذلك، وقابلوا الوزير بذلك، فقُبض عليه في شهر ربيع الآخر، وكانت وزارته سبعة أشهر، واستوزر المقتدر أبا الفتح الفضل بن جعفر، وسلّم إليه الحسين، فلم يؤاخذه بإساءتهِ.
ذكر استيلاء مؤنس على الموصلقد ذكرنا مسير مؤنس إلى الموصل فلمّا سمع الحسين الوزير بمسيره كتب إلى سعيد وداود ابنَيْ حمدان، وإلى ابن أخيهما ناصر الدولة الحسن بن عبد الله ابن حمدان، يأمرهم بمحاربة مؤنس، وصدّه عن الموصل.
وكان مؤنس كتب في طريقه إلى رؤساء العرب يستدعيهم، ويبذل لهم الأموال والخِلع، ويقول لهم: إنّ الخليفة قد ولاّه الموصل وديار ربيعة.
واجتمع بنو حمدان على محاربة مؤنس، إلاّ داود بن حمدان فإنّه امتنع من ذلك لإحسان مؤنس إليه، فإنّه كان قد أخذه بعد أبيه، وربّاه في حجره، أحسن إليه إحساناً عظيماً، فلمّا امتنع من محاربته لم يزل به إخوته حتّى وافقهم على ذلك، وذكروا له إساءة الحسين وأبي الهيجاء ابنَيْ حمدان إلى المقتدر مرّةً بعد مرّة، وأنّهم يريدون أن يغسلوا تلك السيّئة، ولّما أجابهم قال لهم: والله إنّكم لتحملونني على البغي وكفران الإحسان، وما آمن أن يجيئني سهم عائر فيقع في نحري فيقتلني؛ فلمّا التقوا أتاه سهم كما وصف فقتله.
وكان مؤنس إذا قيل له: إنّ داود عازم على قتالك، ينكره ويقول: كيف يقاتلني وقد أخذتُه طفلاً وربّيته في حجري ! ولّما قرب مؤنس من الموصل كان في ثمانمائة فارس، واجتمع بنو حمدان في ثلاثين ألفاً، والتقوا واقتتلوا، فانهزم بنو حمدان، ولم يُقتل منهم غير داود، وكان يلقّب بالمجفجف وفيه يقول بعض الشعراء وقد هجا أميراً:
لو كنتَ في ألف ألف كلّهم بطلٌ ... مِثل المُجَفْجَفِ داود بن حمدانِ
وتحتكَ الريحُ تجري حيثُ تأمرُها، ... وفي يمينك سيفَ غيرُ خَوَّان
لكنتَ أوّل فَرّارٍ إلى عَدَنٍ ... إذا تحرّك سيفٌ من خُراسانِ
وكان داود هذا من أشجع الناس، ودخل مؤنس الموصل ثالث صفر، واستولى على أموال بني حمدان وديارهم، فخرج إليه كثير من العساكر من بغداد، والشام، ومصر، من أصناف الناس لإحسانه الذي كان إليهم، وعاد إليه ناصر الدولة بن حمدان، فصار معه، وأقام بالموصل تسعة أعر، وعزم على الانحدار إلى بغداد.
ذكر قتل المقتدرلّما اجتمعت العساكر على مؤنس بالموصل قالوا له: اذهبْ بنا إلى الخليفة، فإنا أنصفنا، وأجرى أرزاقنا، وإلاّ قاتلناه؛ فانحدر مؤنس من الموصل في شوّال، وبلغ خبره جند بغداد، فشغبوا وطلبوا أرزاقهم، ففرّق المقتدر فيهم أموالاً كثيرة، إلاّ أنّه لم يسعهم، وأنفذ أبا العلاء سعيد بن حَمدان وصافياً البصريّ في خيل عظيمة إلى سُرّ من رأى، وأنفذ أبا بكر محمّد بن ياقوت في ألفَيْ فارس، ومعه الغلمان الحجريّة، إلى المعشوق.
فلمّا وصل مؤنس إلى تكريت أنفذ طلائعه، فلمّا قربوا من المعشوق جعل العسكرُ الذين مع ابن ياقوت يتسلّلون ويهربون إلى بغداد، فلمّا رأى ذلك رجع إلى عُكْبَرا، وسار مؤنس، فتأخّر ابن ياقوت وعسكره، وعادوا إلى بغداد، فنزل مؤنس بباب الشّمّاسيّة ونزل ابن ياقوت وغيره مقابلهم، واجتهد المقتدر بابن خاله هارون بن غريب ليخرج، فلم يفعل، وقال: أخاف من عسكري، فإنّ بعضهم أصحاب مؤنس، وبعضهم قد انهزم أمس من مرداويج، فأخاف أن يسلّموني وينهزموا عنّي؛ فأنفذ إليه الوزير، فلم يزل به حتّى أخرجه، وأشاروا على المقتدر بإخراج المال منه ومن والدته ليرضى الجند، ومتى سمع أصحاب مؤنس بتفريق الأموال تفرّقوا عنه واضطرّ إلى الهرب؛ فقال: لم يبق ولا لوالدتي جهة شيء.

وأراد المقتدر أن ينحدر إلى واسط، ويكاتب العساكر من جهة البصرة، والأهواز، وفارس، وكرمان، وغيرها، ويترك بغداد لمؤنس إلى أن يجتمع عليه العساكر، ويعود إلى قتاله، فردّه ابن ياقوت عن ذلك، وزيّن له اللقاء، وقوّى نفسه بأنّ القوم متى رأوه عادوا بأجمعهم إليه، فرجع إلى قوله وهو كاره.
ثم أشار عليه بحضور الحرب، فخرج وهو كاره، وبين يديه الفقهاء، والقراء معهم المصاحف مشهورة، وعليه البردة، والناس حوله، فوقف على تلّ عالٍ بعيد عن المعركة، فأرسل قوّاد أصحابه يسألونه التقدّم مرّة بعد أخرى، وهو واقف، فلمّا ألحّوا عليه تقدّم من موضعه، فانهزم أصحابه قبل وصوله إليهم، وكان قد أمر فنودي: مَن جاء بأسير فله عشرة دنانير، ومَن جاء برأس فله خمسة دنانير، فلمّا انهزم أصحابه لقيه عليُّ بن بُليق، وهو من أصحاب مؤنس، فترجّل وقبّل الأرض وقال له: إلى أين تمضي ؟ ارجع، فلعن الله من أشار عليك بالحضور ! فأراد الرجوع، فلقيه قوم من المغاربة والبربر، فتركه عليٌّ معهم وسار عنه، فشهروا عليه سيوفهم، فقال: ويحكم أنا الخليفة ! فقالوا: قد عرفناك يا سِفْلَةُ، أنت خليفة إبليس، تبذل في كلّ رأس خمسة دنانير، وفي كلّ أسير عشرة دنانير ! وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض وذبحه بعضهم، فقيل إنّ عليَّ بن بليق غمز بعضهم فقتله.
وكان المقتدر ثقيل البدن، عظيم الجثّة، فلمّا قتلوه رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبّرون ويلعنونه، وأخذوا جميع ما عليه حتّى سراويله، وتركوه مكشوف العورة إلى أن مرّ به رجل من الأكرة، فستره بحشيش، ثم حفر له موضعه، ودُفن، وعُفي قبره.
وكان مؤنس في الراشديّة لم يشهد الحرب، فلمّا حُمل رأس المقتدر إليه بكى، ولطم وجهه ورأسه، وقال: يا مفسدون ! ما هكذا أوصيتُكم؛ وقال: قتلتموه، وكان هذا آخر أمره، والله لنُقتَلنّ كلّنا، وأقلّ ما في الأمر أنّكم تُظهرون أنّكم قتلتموه خطأ، ولم تعرفوه.
وتقدّم مؤنس إلى الشّمّاسيّة، وأنفذ إلى دار الخليفة مَن يمنعها من النهب، ومضى عبد الواحد بن المقتدر، وهارون بن غريب، ومحمّد بن ياقوت، وابنا رائق إلى المدائن، وكان ما فعله مؤنس سبباً لجرأة أصحاب الأطراف على الخلفاء وطمعهم فيما لم يكن يخطر لهم على بالٍ، وانخرقت الهيبة وضعف أمر الخلافة حتّى صار الأمر إلى ما نحكيه.
على أن المقتدر أهمل من أحوال الخلافة كثيراً، وحكّم فيها النساء والخدم، وفرّط في الأموال، وعزل من الوزراء وولّى ممّا أوجب طمع أصحاب الأطراف والنوّاب، وخروجهم عن الطاعة.
وكان جملة ما أخرجه من الأموال، تبذيراً وتضييعاً في غير وجه، نيِّفاً وسبعين ألف ألف دينار، سوى ما أنفقه في الوجوه الواجبة؛ وإذا اعتبرت أحوال الخلافة في أيّامه وأيّام أخيه المكتفي ووالده المعتضد، رأيت بينهم تفاوتاً بعيداً، وكانت مدّة خلافته أربعاً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً وستّة عشر يوماً؛ وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة ونحواً من شهرين.
ذكر خلافة القاهر باللهلّما قُتل المقتدر بالله عظم قتله على مؤنس، وقال: الرأي أن ننصِّب ولده أبا العبّاس أحمد في الخلافة، فإنّه تربيتي، وهو صبيّ عاقل، وفيه دين وكرم، ووفاء بما يقول، فإذا جلس في الخلافة سمحت نفس جدّته، والدة المقتدر، وإخوته، وغلمان أبيه ببذل الأموال، ولم ينتطح في قتل المقتدر عنزان؛ فاعترض عليه أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النُّوبختيُّ وقال: بعد الكدّ والتعب استرحنا من خليفة له أمّ، وخالة، وخدم يدبّرونه، فنعود إلى تلك الحال ! والله لا نرضى إلاّ برجل كامل، يدبّر نفسه، ويدبّرنا. وما زال حتّى ردّ مؤنساً عن رأيه، وذكر له أبو منصور محمّد بن المعتضد، فأجابه مؤنس إلى ذلك، وكان النُّوبختيُّ في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه، فإن القاهر قتله، كما نذكره (وَعَسَى أنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ) البقرة: 216.
وأمر مؤنس بإحضار محمّد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافة لليلَتين بقيتا من شوّال، ولقّبوه القاهر بالله، وكان مؤنس كارهاً لخلافته، والبيعة له، ويقول: إنّني عارف بشرّه، وسوء نيّته، ولكن لا حيلة.

ولّما بويع استحْلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه بُلَيق، ولعلّي بن بليق، وأخذوا خطّة بذلك، واستقرّت الخلافة له، وبايعه الناس، واستوزر أبا عليّ بن مُقلة، وكان بفارس، فاستقدمه، ووزَر له، واستحجب القاهرُ عليَّ بن بُلَيق، وتشاغل القاهر بالبحث عمّن استتر من أولاد المقتدر وحُرَمه، وبمناظرة والدة المقتدر، وكانت مريضة قد ابتدأ بها الاستسقاء، وقد زاد مرضها بقتل ابنها، ولّما سمعت أنّه بقي مكشوف العورة جزعت جزعاً شديداً، وامتنعت عن المأكول والمشروب حتّى كادت تهلك، فوعظها النساء حتّى أكلت شيئاً يسيراً من الخبز والملح.
ثمّ أحضرها القاهر عنده، وسألها عن مالها، فاعترفت له بما عندها من المَصُوغ والثياب، ولم تعترف بشيء من المال والجوهر، فضربها أشدّ ما يكون من الضرب، وعلّقها برجلها، وضرب المواضع الغامضة من بدنها، فحلفت أنّها لا تملك غير ما أطلعته عليه، وقالت: لو كان عندي مال لما أسلمتُ ولدي للقتل؛ ولم تعترف بشيء.
وصادر جميع حاشية المقتدر وأصحابه، وأخرج القاهر والدة المقتدر لتُشهد على نفسها القضاة والعدول بأنّها قد حلّت أوقافها، ووكّلت في بيعها، فامتنعت عن ذلك، وقالت: قد أُوقفها على أبواب البرّ والقرب بمكّة والمدينة والثغور، وعلى الضعفى والمساكين، ولا أستحلّ حلّها ولا بيعها، وإنّما أوكل على بيع أملاكي.
فلمّا علم القاهر بذلك أحضر القاضي والعدول، وأشهدهم على نفسه أنّه قد حلّ وقوفها جميعها، ووكّل في بيعها، فبيع ذلك جميعه مع غيره، واشتراه الجند من أرزاقهم؛ وتقدّم القاهر بكبس الدور التي سُعي إليه أنّه اختفى فيها ولد المقتدر، فلم يزل كذلك إلى أن وجدوا منهم أبا العبّاس الراضي، وهارون، وعليّاً، والعبّاس، وإبراهيم، والفضل، فحُملوا إلى دار الخليفة، فصودروا على مالٍ كثير، وسلّمهم عليُّ بن بُليق إلى كاتبه الحسن بن هارون، فأحسن صحبتهم.
واستقرّ أبّو عليّ بن مقلة في الوزارة، وعزل وولّى، وقبض على جماعة من العمّال، وقبض على بني البريدي، وعزلهم عن أعمالهم وصادرهم.
ذكر وصول وشمكير إلى أخيه مرداويجوفيها أرسل مرداويج إلى أخيه وشمكير، وهو ببلاد جِيلان، يستدعيه إليه، وكان الرسول بن الجعد، قال: أرسلني مرداويج، وأمرني بالتلطّف لإخراج أخيه وشمكير إليه، فلمّا وصلتُ سألتُ عنه، فدُللتُ عليه، فإذا هو مع جماعة يزرعون الأرزّ، فلمّا رأوني قصدوني وهم حفاة عراة، عليهم سراويلات ملوّنة الخرق، وأكيسة ممزقة، فسلّمتُ عليه، وأبلغتهُ رسالة أخيه، وأعلمتُه بما ملك من البلاد والأموال وغرها، فضرط بفمه في لحية أخيه وقال: إنّه لبس السواد، وخدم المسوِّدة، يعني الخلفاء من بني العبّاس.
فلم أزل أمنّيه وأطمعه حتّى خرج معي، فلمّا بلغنا قَزوين اجتهدتُ به ليلبس السواد، فامتنع ثمّ لبس بَعد الجهد. قال: فرأيتُ من جهله أشياء أستحيي من ذكرها، ثمّ أعطته السعادة ما كان له في الغيب، فصار من أعرف الملوك بتدبير الممالك وسياسة الرعايا.
ذكر عدّة حوادث
فيها توفّي القاضي أبو عمر محمّد بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل ابن حمّاد بن زيد، وكان عالماً فاضلاً حليماً، وأبو عليّ الحسين بن صالح ابن خيران الفقيه الشافعيُّ، وكان عابداً ورِعاً، أُريد على القضاة، فلم يفعل.
وفيها توفّي أبو نعيم عبد الملك بن محمّد بن عديّ الفقيه الشافعيُّ الجرجانيُّ، المعروف بالأسْتراباذيّ.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة

ذكر حال عبد الواحد بن المقتدر
ومن معه
قد ذكرنا هرب عبد الواحد بن المقتدر، وهارون بن غريب، ومفلح، ومحمّد بن ياقوت، وابني رائق، بعد قتل المقتدر، إلى المدائن، ثمّ إنّهم انحدروا منها إلى واسط، وأقاموا بها، وخافهم الناس؛ فابتدأ هارون بن غريب وكتب إلى بغداد يطلب الأمان، ويبذل مصادرة ثلاثمائة ألف دينار على أن يطلق له أملاكه، وينزل عن الأملاك التي استأجرها، ويؤدّي من أملاكه حقوق بيت المال القديمة؛ فأجابه القاهر ومؤنس إلى ذلك، وكتبا له كتاب أمان وقُلّد أعمال ماه الكوفة، وماسَبَذان، ومهرجان قذَق، وسار إلى بغداد.
وخرج عبد الواحد بن المقتدر من واسط فيمن بقي معه، ومضوا إلى السُّوس وسوق الأهواعز، وجبوا المال، وطردوا العمّال، وأقاموا بالأهواز، فجهّز مؤنس إليهم جيشاً كثيفاً، وجعل عليهم بُليقاً.

وكان الذي حرّضهم على إنفاذ الجيش أبو عبدالله البرِيديُّ، فإنّه كان قد خرج من الحبس فخوّفهم عاقبةَ إهمال عبد الواحد ومَن معه، وبذلل مساعدة معجّلة خمسية ألفَ دينار على أن يتولّى الأهواز، وعند استقراره بتلك البلاد يعجّل باقي المال، وأمر مؤنس بالتجهّز، وأنفق ذلك المال، وسار العسكر وفيهم أبو عبدالله.
وكان محمّد بن ياقوت قد استبدّ بالأموال والأمر، فنفرت لذلك قلوب مَن معه من القوّاد والجند، فلمّا قرب العسكر من واسط أظهر مَن معه من القوّاد ما في نفوسهم، وفارقوه، ولّما وصل بُليق إلى السُّوس فارق عبدُ الواحد ومحمّد بن ياقوت الأهواز وسارا إلى تُستَر، فعمل القراريطيُّ، وكان مع العسكر، فأهل الأهواز ما لم يفعله أحد: نهب أموالهم، وصادرهم جميعهم، ولم يسلم منهم أحد.
ونزل عبد الواحد وابن ياقوت بتُستر، وفارقهما من معهما من القوّاد إلى بُلّيق بأمان، وبقي مفلح وسرور الخادم مع عبد الواحد، فقالا لمحمّد بن ياقوت: أنت معتصم بهذه المدينة، وبمالك ورجالك، ونحن فلا مال معنا، ولا رجال، ومقامنا معك يضرّك ولا ينفعك، وقد عزمنا على أخذ الأمان لنا ولعبد الواحد بن المقتدر؛ فأذن لهما في ذلك، فكتبا إلى بليق فأمّنهم، فعبروا إليه وبقي محمّد بن ياقوت منفرداً، فضعفت نفسه، وتحيّر، فتراسل هو وبُليق، واستقرّ بينهما أنّه يخرج إلى بُلَيق على شرط أنّه يؤمِّنه، ويضمن له أمان مؤنس والقاهر، ففعل ذلك وحلف له، وخرج محمّد بن ياقوت معه إلى بغداد، واستولى أبو عبدالله البريديُّ على البلاد، وعسف أهلها، وأخذ أموال التجار، وعمل بأهل البلاد ما لا يعلمه الفرنج، ولم يمنعه أحد عمّا يريد؛ ولم يكن عنده من الدين ما يزعه عن ذلك، وعاد إخوته إلى أعمالهم؛ ولّما عاد عبد الواحد ومحمّد بن ياقوت وفي لهم القاهر، وأطلق لعبد الواحد أملاكه، وترك لوالدته المصادرة التي صادرها بها.
ذكر استيحاش مؤنس وأصحابه من القاهرفي هذه السنة استوحش مؤنس المظفَّر وبُليق الحاجب وولده عليّ والوزير أبو عليّ بن مقلة من القاهر، وضيّقوا عليه وعلى أسبابه.
وكان سبب ذلك أنّ محمّد بن ياقوت تقدّم عند القاهر، وعلت منزلته، وصار يخلو به ويشاورهن فغلظ ذلك على ابن مقلة لعداوة كانت بينه وبين محمّد، فألقى إلى مؤنس أنّ محمّداً يسعى به عند القاهر، وأنّ عيسى الطبيب يسفر بينهما في التدبر عليه، فوجّه مؤنس عليَّ بن بُليق لإحضار عيسى الطبيب، فوجده بين يدي القاهر، فأخذه وأحضره عند مؤنس، فسيّره من ساعته إلى الموصل، واجتمعوا على الإيقاع بمحمّد بن ياقوت، وكان في الخيام، فركب عليُّ بن بُليق في جنده ليكبسه، فوجده قد اختفى، فنهب أصحابه واستتر محمّد بن ياقوت.
ووكّل عليُّ بن بُليق على دار الخليفة أحمدَ بن زيرك، وأمرهُ بالتضييق على القاهر، وتفتيش كلّ من يدخل الدار ويخرج منها، وأن يكشف وجوه النساء المنقّبات، وإن وجد مع أحد رقعة دفعها إلى مؤنس، ففعل ذلك، وزاد عليه، حتّى إنّه حُمل إلى دار الخليفة لبَن، فأدخل يدَه فيه لئلاّ يكون فيه رقعة، ونقل بُليق من كان بدار القاهر محبوساً إلى داره كوالدة المقتدر وغيرها، وقطع أرزاق حاشيته.
فأمّا والدة المقتدر فإنّها كانت قد اشتدّت علّتها لشدّة الضرب الذي ضربها القاهر، فأكرمها عليُّ بن بُليق وتركها عند والدته، فماتت في جمادى الآخرة، وكانت مكرّمة مرفّهة، ودُفنت بتربتها بالرُّصافة.
وضيّق عليُّ بن بُليق على القاهر، فعلم لقاهر أنّ العتاب لا يفيد، وأن ذلك بأري مؤنس وابن مقلة، فأخذ في الحيلة والتدبير على جماعتهم.
وكان قد عرف فساد قلب طريق السبكريّ وبشرى خادم مؤنس لبليق وولده عليّ، وحسدهما على مراتبهما، فشرع في أغرائهما ببليق وابنه.

وعلم أيضاً أنّ مؤنساً وبُليقاً أكثر اعتمادهما على الساجيّة، أصحاب يوسف بن أبي الساج وغلمانه المنتقلين إليهما بعده، وكانا قد وعدا الساجيّة بالموصل مواعيد أخلفاها، فأرسل القاهر إليهم يغريهم بمؤنس وبُليق، ويحلف لهم على الوفاء بما أخلفاهم، فتغيّرت قلوب الساجيّة، ثمّ إنّه راسل أبا جعفر محمّد بن القاسم بن عُبيد الله، وكان من أصحاب ابن مقلة وصاحب مشورته، ووعده الوزارة، فكان يطالعه بالأخبار، وبلغ ابن مقلة أنّ القاهر قد تغيّر عليه، وأنّه مجتهد في التدبير عليه وعلى مؤنس، وبليق، وابنه عليّ، والحسن ابن هارون، فأخبرهم ابن مقلة بذلك.
ذكر القبض على مؤنس وبُليق
في هذه السنة، أوّل شعبان، قبض القاهر بالله على بُليق وابنه، ومؤنس المظفَّر.
وسبب ذلك أنّه لّما ذكر ابن مقلة لمؤنس وبُليق ما هو عليه القاهر من التدبير في استئصالهم خافوه، وحملهم الخوف على الجدّ في خلعه، واتّفق رأيهم على استخلاف أبي أحمد بن المكتفي وعقدوا له الأمر سرّاً، وحلف له بُليق وابنه عليٌّ، والوزير أبو عليّ بن مقلة، والحسن بن هارون، وبايعوه، ثمّ كشفوا الأمر لمؤنس فقال لهم: لستُ أشكّ في شرّ القاهر وخبثه، ولقد كنتُ كارهاً لخلافته، وأشرتُ بابن المقتدر، فخالفتم وقد بالغتم الآن في الاستهانة به، وما صبر على الهوان إلاّ من خبث طويّته ليدبّر عليكم، فلا تعجلوا على أمر حتّى تؤنسوه وينبسط إليكم، ثم فتّشوا لتعرفوا من مواطأة من القوّاد ومن الساجيّة والحجريّة، ثم اعملوا على ذلك، فقال عليُّ بن بُليق، والحسن بن هارون: ما يحتاج إلى هذا التطويل، فإنّ الحجبة لنا، والدار في أيدينا، وما يحتاج أن نستعين في القبض عليه بأحدٍ لأنّه بمنزلة طائر في قفص.
وعملوا على معاجلته، فاتّفق أن سقط بُليق من الدابّة، فاعتلّ ولزم منزله، واتّفق ابنه علٌّيُّ وأبو عليّ بن مقلة وزيّنا لمؤنس خلع القاهر، هوّنا عليه الأمر، فأذن لهما، فاتّفق رأيهما على أن يُظهروا أنّ أبا طاهر القرمطيّ قد ورد الكوفة في خلق كثير، وأنّ عليَّ بن بُليق سائر إليه في الجيش ليمنعه عن بغداد، فإذا دخل على القاهر ليودّعه ويأخذ أمره فيما يفعل قبض عليه.
فلمّا اتّفقا على ذلك جلس ابن مقلة، وعنده الناس، فقال لأبي بكر ابن قرابة: أعلمتَ أنّ القُرمُطيَّ قد دخل الكوفة في ستّة آلاف مقاتل بالسلاح التامّ ؟ قال: لا ! قال ابن مقلة: قد وصلَنا كتب النوّاب بها بذلك؛ فقال ابن قرابة: هذا كذب ومُحال، فإنّ في جوارنا إنساناً من الكوفة، وقد أتاه اليوم كتاب على جَناح طائر تاريخه اليوم يخبر فيه بسلامته، فقال له ابن مقلة: سبحان الله، أنتم أعرف منّا بالأخبار ؟ فسكت ابن قرابة، وكتب ابن مقلة إلى الخليفة يعرّفه ذلك، ويقول له: إنّي قد جهّزت جيشاً مع عليّ بن بُليق ليسير يومنا هذا، والعصرَ يحضر إلى الخدمة ليأمره مولانا بما يراه، فكتب القاهر في جوابه يشكره، ويأذن له في حضور ابن بُليق، فجاءت رقعة القاهر وابن مقلة نائم، فتركوها ولم يوصلوها إليه، فلمّا استيقظ عاد وكتب رقعة أخرى في المعنى، فأنكر القاهر الحال، حيث قد كتب جوابه، وخاف أن يكون هناك مكرٌ.
وهو في هذا إذ وصلت رقعة طريق السبكريّ يذكر أنّ عنده نصيحة، وأنّه قد حضر في زيّ إمرأة لينهيها إليه، فاجتمع به القاهر، فذكر له جميع ما قد عزموا عليه، وما فعلوه من التدبير ليقبض ابن بليق عليه إذا اجتمع به، وأنّهم قد بايعوا أبا أحمد بن المكتفي، فلمّا سمع القاهر ذلك أخذ حذره، وأنفذ إلى الساجيّة فأحضرهم متفرّقين، وكمّنهم في الدهاليز، والممرّات، والرواقات، وحضر عليُّ بن بُليق بعد العصر، وفي رأسه نبيذ، ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف، في طيارة، وأمر جماعة من عسكره بالركوب إلى أبواب دار الخليفة، وصعد من الطيارة، وطلب الإذن، فلم يأذن له القاهر، فغضب وأساء أدبه، وقال: لا بدّ من لقائه شاء أو أبى.
وكان القاهر قد أحضر الساجيّة، كما ذكرنا، وهم عنده في الدار، فأمرهم القاهر بردّه، فخرجوا إليه وشتموه وشتموا أباه، وشهروا سلاحهم وتقدّموا إليه جميعهم ففرّ أصحابه عنه، وألقى نفسه في الطيارة وعبر إلى الجانب الغربيّ واختفى من ساعته، فبلغ ابن مقلة الخبر، فاستتر واستتر الحسن بن هارون أيضاً.

فلمّا سمع طريق الخبر ركب في أصحابه، وعليهم السلاح، وحضروا دار الخليفة، ووقف القاهر، فعظم الأمر حينئذٍ على ابن بُليق وجماعتهم، وأنكر بُليق ما جرى على ابنه، وسبّ الساجيّة، وقال: لا بدّ من المضي إلى دار الخليفة، فإن كان الساجيّة فعلوا هذا بغير تقدُّم قابلتُهم بما يستحقّونه، وإن كان بتقدم سألته عن سبب ذلك.
فحضر دار الخليفة ومعه جميع القوّاد الذين بدار مؤنس، فلم يوصله القاهر إليه، وأمر بالقبض عليه وحبسه، وأمر بالقبض على أحمد بن زيرك، صاحب الشُّرطة، وحصل الجيش كلّهم في الدار، فأنقذ القاهر وطيّب نفوسهم، ووعدهم الزيادة، وأنّه يوقف هؤلاء على ذنوبهم ثمّ يطلقهم ويحسن إليهم، فعادوا، وراسل القاهر مؤنساً يسأله الحضور عنده ليعرض عليه ما رفع عليهم ليفعل ما يراه، وقال: إنّه عندي بمنزلة الوالد، وما أُحبُّ أن أعمل شيئاً إلاّ عن رأيه؛ فاعتذر مؤنس عن الحركة، ونهاه أصحابه عن الحضور عنده.
فلمّا كان الغد أحضر القاهر طريفاً السبكريَّ وناوله خاتمه وقال له: قد فوّضتُ إلى ولدي عبد الصمد ما كان المقتدر فوّضه إلى ابنه محمّد، وقلّدتُك خلافته، ورئاسة الجيش، وإمارة الأمراء، وبيوت الأموال، كما كان ذلك إلى مؤنس، ويجب أن تمضي إليه وتحمله إلى الدار، فإنّه ما دام في منزله يجتمع إليه من يريد الشرّ ولا نأمن تولُّد شغل، فيكون ها هنا مرفهاً، ومعه من أصحابه من يخدمه على عادته.
فمضى إلى دار مؤنس، وعنده أصحابه في السلاح، وهو قد استولى عليه الكبر والضعف، فسأله أصحاب مؤنس عن الحال، فذكر سوء صنيع بُليق وابنه، فكلّهم سبّهما، وعرّفهم ما أخذ لهم من الأمان والعهود، فسكتوا، ودخل إلى مؤنس وأشار عليه بالحضور عند القاهر، وحمله عليه، وقال له: إنّ تأخّرت طمع، ولو رآك نائماً ما تجاسر أن يوقظك؛ وكان موافقاً على مؤنس وأصحابه لما نذكره، فسار مؤنس إليه، فلمّا دخل الدار قبض القاهر عليه وحبسه ولم يره.
قال طريف: لّما أعلمتُ القاهر بمجيء مؤنس ارتعد، وتغيّرتْ أحواله، وزحف من صدر فراشه، فخفتُه أن أكلّمه في معناه، وعلمتُ أنّني قد أخطأتُ، وندمتُ، وتيقّنتُ أنّني لاحق بالقوم عن قريب، وذكرتُ قول مؤنس فيه إنّه يعرفه بالهوج، والشرّ، ولإقدام، والجهل؛ وكان أمر الله مقدوراً؛ وكانت وزارة ابن مقلة هذه تسعة أشهر وثلاثة أيّام.
واستوزر القاهر أبا جعفر محمّد بن القاسم بن عبيدالله، مستهلّ شعبان، وخلع عليه، وأنفذ القاهر وختم على دور مؤنس، وبُليق وابنه عليّ، وابن مقلة، وأحمد بن زيرك، والحسن بن هارون، ونقل دوابّهم، ووكّل بحرمهم، وأنفذ فاستقدم عيسى المتطّبب من الموصل، وأمر بنقل ما في دار ابن مقلة وإحراقها، فنُهبت وأُحرقت، ونُهبت دور المتعلّقين بهم، وظهر محمّد ابن ياقوت وقام بالحجبة، ثمّ رأى كراهية طريق السبكريّ والساجيّة له، فاختفى وهرب إلى أبيه بفارس، فكاتبه القاهر يلومه على عجلته بالهرب، وقلّده كور الأهواز.
وكان السبب في ميل طريف السبكريّ، والساجيّة، والحجريّة، إلى القاهر، ومواطأتهم على مؤنس وبُليق وابنه ما نذكره، وهو أن طريفاً كان قد أخذ قوّاد مؤنس وأعلاهم منزلة، وكان بُليق وابنه ممّن يقبّل يده ويخدمه، فلمّا استخلف القاهر بالله تقدّم بُليق وابنه، وحكما في الدولة كما ذكرناه، وأهمل ابن بُليق جانب طريف، وقصده وعطله من أكثر أعماله؛ فلمّا طالت عُطلته استحيا منه بُليق، وخاف جانبه، فعزم على استعماله على ديار مصر ليقضي حقّه، ويبعده، ومعه أعيان رفقائه ليأمنهم، وقال ذلك للوزير أبي عليّ بن مقلة، فرآه صواباً، فاعتذر بُليق إلى طريق لسبب عُطلته، وأعلمه بحديث مصر، فشكره، وشكر الوزير أيضاً، فمنع عليَّ بن بُليق من إتمامه، وتولّيى هو العمل، وأرسل إليه من يخلفه فيه، فصار طريف عدوّاً يتربّص بهم الدوائر.
وأمّا الساجيّة فإنّهم كانوا عُدّة مؤنس وعضده، وساروا معه إلى الموصل، وعادوا معه إلى قتال المقتدر، ووعدهم مؤنس المظفَّر بالزيادة؛ فلمّا قُتل المقتدر لم يروا لميعاده وفاء، ثناه عنه ابن بُليق، وطرّحهم ابن بُليق أيضاً، وأعرض عنهم.

وكان من جملتهم خادم أسود اسمه صندل، وكان من أعيانهم، وكان له خادم اسمه مؤتَمَن، فباعه، فاتّصل بالقاهر قبل خلافته، فلمّا استخلف قدّمه وجعله لرسائله، فلمّا بُلي القاهر بابن بُليق وسوء معاملته كان كالغريق يتمسّك بكلّ شيء، وكان خبيراً بالدهاء والمكر، فأمر مؤتمناً أن يقصد صَندلاً الساجيَّ الذي باعه، ويشكو من القاهر، فإن رأى منه ردّاً لما يقوله أعلمه بحال القاهر وما يقاسي من ابن بُليق وابنه، وإن رأى منه خلاف ذلك سكت، فجاء إليه وفعل ما أمره.
فلمّا شكا قال له صندل: وفي أيّ شيء هو الخليفة حتّى يعطيك، ويوسّع عليك ؟ إن فرّج الله عنه من هذا المفسد احتجتُ أنا وغيري إليك، ولله عليّ صوم وصدقة أن ملك الخليفة أمره، واستراح، وأراحنا من هذا الملعون؛ فأعاد المؤتمن الحديث على القاهر، فأرسل على يده هدية جميلة من طيب وغيره، إلى زوجة صندل، وقال له: تحمله إليها، وزوجها غائب عنها، وتقول لها: إنّ الخليفة قسم فينا شيئاً، وهذا من نصيبي أهديتُه إليكم، ففعل هذا، فقبلته، ثمّ عاد إليها من الغد وقال: أيّ شيء قال صندل لّما رأى انبساطي عليكم ؟ فقالت: اجتمع هو وفلان وفلان، وذكرتْ ستّة نفر من أعيانهم، ورأوا ما أهديتَ إلينا فاستعملوا منه ودعوا للخليفة.
فبينما هو عندها إذ حضر زوجها، فشكر مؤتمناً، وسأله عن أحوال الخليفة، فأثنى عليه، ووصفه بالكرم، وحُسن الأخلاق، وصلابته في الدين، فقال صندل إنّ ابن بليق نسبَه إلى قلّة الدين، ويرميه بأشياء قبيحة، فحلف مؤتمن على بُطلان ذلكن وأن جميعه كذبٌ.
ثمّ أمر القاهر مؤتّمناً أن يقصد زوجة صندل، ويستدعيها إلى قهرمانة القاهر، فتحضر متنكرة على أنّها قابلة يأنس بها مَن عند القاهر، لّما كانوا بدار ابن طاهر، وقد حضرت لحاجة بعض أهل الدار إليها، ففعلت ذلك، ودخلت الدار وباتت عندهم، فحملها القاهر رسالة إلى زوجها ورفقائه، وكتب إليهم رقعة بخطّة يعدهم بالزيادة في الإقطاع والجاري، وأعطاها لنفسها مالاً، فعادت إلى زوجها وأخبرته بما كان جميعه، فوصل الخبر إلى ابن بُليق أنّ امرأة من دار ابن طاهر دخلت إلى دار الخليفة، فلهذا منع ابن بُليق من دخول امرأة حتّى تُبصَر وتُعرف.
وكان للساجيّة قائد كبير اسمه سيما، وكلّهم يرجعون إلى قوله، فاتّفق صندل ومَن معه على إعلام سيما بذلك إذ لا بدّ لهم منه، وأعلموه برسالة القاهر إليهم، فقال: هذا صواب، والعاقبة فيه جميلة، ولكن لا بدّ من أن يُدخلوا في الأمر بعض هؤلاء القوم، يعني أصحاب بُليق ومؤنس، وليكن من أكابرهم، فاتّفقوا على طريق السبكريّ، وقالوا: هو أيضاً متسخّط؛ فحضروا عنده وشكوا إليه ما هم فيه، وقالوا: لو كان الأستاذ، يعنون مؤنساً، يملك أمره لبلغنا مرادنا، ولكن قد عجز وضعف، واستبدّ عليه ابن بُليق بالأمور؛ فوجدوا عنده من كراهتهم أضعاف ما أرادوا، فأعلموه حينئذ حالهم، فأجابهم إلى موافقتهم، واستحلفهم أنّه لا يلحق مؤنساً وبُليقاً وابنه مكروه وأذى في أنفسهم وأبدانهم وأموالهم، وإنّما يلزم بُليق وابنه بيوتهم، ويكون مؤنس على مرتبته لا يتغيّر، فحلفوا على ذلك، وحلف لهم على الموافقة، وطلب خطّ القاهر بما طلب، فأرسلوا إلى القاهر بما كان، فكتب إليهم بما أرادوا، وزاد بأن قال: إنّه يصلّي بالناس، ويخطب أيّام الجمع، ويحجّ بهم، ويغزو معهم، ويقعد للناس، ويكشف مظالمهم إلى غير ذلك من حُسن السيرة.
ثم إنّ طريفاً اجتمع بجماعة من رؤساء الحجريّة، وكان ابن بُليق قد أبعدهم عن الدار وأقام بها أصحابه، فهم حنقون عليه، فلمّا أعلمهم طريف الأمر أجابوه إليه، فظهر شيء من هذا الحديث إلى ابن مقلة وابن بليق، ولم يعلموا تفصيله، فاتّفقوا على أن يقبضوا على جماعة من قوّاد الساجيّة والحجريّة، فلم يقدموا عليهم خوف الفتنة.

وكان القاهر قد أظهر مرضاً من دماميل وغيرها، فاحتجب عن الناس خوفاً منهم، فلم يكن يراه أحدٌ إلاّ خواصّ خدمه من الأوقات النادرة، فتعذّر على ابن مقلة وابن بليق الاجتماع به ليبلغوا منه ما يريدون، فوضعا ما ذكرناه من أخبار القرامطة ليظهروا لهم ويفعلوا به ما أرادوا؛ ولّما قبض القاهر على مؤنس وجماعته استعمل القاهرّ على الحجَبة سلامة الطولونيَّ، وعلى الشُّرطة أبا العبّاس أحمد بن خاقن، واستوزر أبا جعفر محمّد بن القاسم ابن عبيدالله، وأمر بالنداء على المستترين، وأباحة مال من أخفاهم وهدْم داره، وجدّ في طلب أحمد بن المكتفي، فظفر به، فبنى عليه حائطاً وهو حيّ فمات، وظفر بعليّ بن بليق فقتله.
ذكر قتل مؤنس وبُليق
وولده عليّ والنوبختيّ
وفيها، في شعبان، قتل القاهر مؤنساً المظفَّر، وبُليقاً، وعليَّ بن بُليق.
وكان سبب قتلهم أنّ أصحاب مؤنس شغبوا وثاروا، وتبعهم سائر الجند، وأحرقوا روشَن دار الوزير أبي جعفر، ونادوا بشعار مؤنس، وقالوا: لا نرضى إلاّ بإطلاق مؤنس.
وكان القاهر قد ظفر بعليّ بن بليق، وأفرد كلّ واحد منهم في منزل، فلمّا شغب الجند دخل القاهر إلى عليّ بن بليق، فأمر به فذُبح واحتُزّ رأسه، فوضعوه في طشت، ثم مضى القاهر والطشت يُحمَل بين يديه حتّى دخل على بليق فوضع الطشت بين يديه، وفيه رأسه ابنه، فلمّا رآه بكى، وأخذه يقبّله ويترشفه، فأمر به القاهر فذُبح أيضاً، وجُعل رأسه في طشت، وحُمل بين يدي القاهر، ومضى حتّى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه، فلمّا رأى الرأسَيْن تشهَّد واسترجع، ولعن قاتلهما؛ فقال القاهر: جُرّوا برجل الكلب الملعون ! فجرّوه وذبحوه وجعلوا رأسه في طشت، وأمر فطيفَ بالرؤوس في جانبَيْ بغداد، ونودي عليها: هذا جزاء من يخون الإمام، ويسعى في فساد دولته؛ ثم أُعيدت ونُظِّفت وجُعلت في خزانة الرؤوس، كما جرت العادة.
وقيل إنّه قتل يُليقاً وابنه مستخفٍ، ثمّ ظفر بابنه بعد ذلك، فأمر به فضُرب، فأقبل ابن بُليق على القاهر، وسبّه أقبح سبّ، وأعظم شتم، فأمر به القاهر فقُتل، وطيف برأسه في جانبَيْ بغداد، ثمّ أرسل إلى ابن يعقوب النّوبختيّ، وهو في مجلس وزيره محمّد بن القاسم، فأخذه وحبسه؛ ورأى الناس من شدّة القاهر ما علموا معه أنّهم لا يسلمون من يده، وندم كلّ من أعانه من سُبُك، والساجيّة، والحجريّة، حيث لم ينفعهم الندم.
ذكر وزارة محمّد بن القاسم للخليفة
وعزله ووزارة الخصيبيّ
لّما قبض القاهر بالله على مؤنس وبُليق وابنه سأل عمّن يصلح للوزارة، فدُل على أبي جعفر محمّد بن القاسم بن عبيدالله، فاستوزره، فبقي وزيراً إلى يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة من السنة، فأرسل القاهر فقبض عليه، وعلى أولاده، وعلى أخيه عبيدالله، وحُرَمه، وكان مريضاً بقُولَنْج، فبقي محبوساً ثمانية عشر يوماً، ومات، فحُمل إلى منزله، وأطلق أولاده، واستوزر أبا العبّاس أحمد بن عبيدالله بن سليمان الخصيبيّ، وكانت وزارة أبي جعفر ثلاثة أشهر واثني عشر يوماً.
ذكر القبض على طريف السبكريّ
لّما تمكّن القاهر، وقبض على مؤنس وأصحابه، وقتلهم، ولم يقف على اليمين والأمان اللذين كتبهما لطريف، وكان القاهر يُسمع طريفاً ما يكره، ويستخفّ به، ويعرض له بالأذى، فلمّا رأى ذلك خافه، وتيقّن القبض عليه والقتل، فوصَّى وفرغ من جميع ما يريده.
واشتغل القاهر عنه بقبض مَن قبض عليه من وزير وغيره، ثم أحضره بعد أن قبض على وزيره أبي جعفر، فقبض عليه، فتيقّن القتل أُسوةً بمن قتل من أصحابه ورفقائه، فبقي محبوساً يتوقّع القتل صباحاً ومساء إلى أن خُلع القاهر.
ذكر أخبار خُراسان
في هذه السنة سار مرداويج من الرَّيّ إلى جُرجان، وبها أبو بكر محمّد ابن المظفَّر مريضاً، فلمّا قصده مرداويج عاد إلى نَيسابور، وكان السعيد نصر بن أحمد بنَيسابور، فلمّا بلغها محمّد بن المظفّر سار السعيد نحو جُرجان، وكاتب محمّدُ بن عبيدالله البلغميُّ مطرفَ بن محمّد وزير مرداويج، واستماله، فمال إليه، فانتهى الخبر بذلك إلى مرداويج، فقبض على مطرف وقتله.

وأرسل محمّدُ بن عبيدالله البلغميُّ إلى مرداويج يقول له: أنا أعلم أنّك لا تستحسن كفر ما يفعله معك الأمير السعيد، وأنّك أنّما حملك على قصد جُرجان وزيرك مطرفٌ ليرى أهلُها محلّه منك، كما فعله أحمد بن أبي ربيعة كاتب عمرو بن الليث، حمل عَمراً على قصد بلْخْ ليشاهد أهلها منزلته من عمرو، فكان منه ما بلغك، وأنا لا أرى لك مناصبة ملكٍ يطيف به مائة ألف رجل من غلمانه ومواليه وموالي أبيه، والصواب أنّك تترك جُرجان له، وتبذل عن الريّ مالاً تصالحه عليه؛ ففعل مرداويج ذلك، وعاد من جُرجان، وبذل عن الريّ مالاً، وعاد إليها، وصالحه السعيد عليها.
ذكر ولاية محمّد بن المظفَّر على خُراسان
ولّما فرغ السعيد من أمر جُرجان، وأحكمه، استعمل أبا بكر محمّد ابن المظفَّر بن محتاج على جيوش خراسان، وردّ إليه تدبير الأمور بنواحي خراسان جميعها، وعاد إلى بخارى مقرّ عزّه، وكرسيّ ملكه.
وكان سبب تقدُّم محمّد بن المظفَّر أنّه كان يوماً عند السعيد، وهو يحادثه في بعض مهمّاته خالياً، فلسعته عقرب في إحدى رجليه عدّة لسعات، فلم يتحرّك، ولم يظهر عليه أثر ذلك، فلمّا فرغ من حديثه، وعاد محمّد إلى منزله، نزع خفّه فرأى العقرب فأخذها.
فانتهى خبر ذلك إلى السعيد، فأُعجب به وقال: ما عجبتُ إلاّ من فراغ بالك لتدبير ما قلتُه لك، فهلاّ قمتَ وأزلتَها ! فقال: ما كنت لأقطعَ حديث الأمير بسبب عقرب، وإذا لم أصبر بين يديك على لسعة عقرب فكيف أصبر، وأنا بعيد منك، على حدّ سيوف أعداء دولتك إذا دفعتهم عن مملكتك ؟ فعظم محلّه عنده، وأعطاه مائتَيْ ألف درهم.
ذكر ابتداء دولة بني بُوَيْه
وهم عماد الدولة أبو الحسن عليّ، وركن الدولة أبو عليّ الحسن، ومعزّ الدولة أبو الحسن أحمد، أولاد أبي شجاع بُوَيه بن فنّاخَسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزيل الأصغر بن شير كنده بن شيرزيل الأكبر بن شيران شاه ابن شيرويه بن سشتان شاه بن سيس فيروز بن شيروزيل بن سنباد ابن بهرام جول الملك ابن يزدجرد الملك ابن هُرمُز الملك ابن شابور الملك ابن شابور ذي الأكتاف، وباقي النسب قد تقدّم في أوّل الكتاب عند ذكر ملوك الفرس؛ هكذا ساق نسبهم الأمير أبو نصر بن ماكولا، رحمه الله.
وأمّا ابن مِسكويه فإنه قال إنّهم يزعمون أنّهم من ولد يزدجُرد بن شَهريَار، آخر ملوك الفرس، إلاّ أنّ النفس أكثر ثقة بنقل ابن ماكولا لأنّه الإمام العالم بهذه الأمور، وهذا نسب عريق في الفرس، ولا شكّ أنّهم نُسبوا إلى الديلم حيث طال مقامهم ببلادهم.
وأمّا ابتداء أمرهم، فإنّ والدهم أبا شجاع بُوَيه كان متوسّط الحال، فماتت زوجته وخلّفت له ثلاثة بنين، وقد تقدّم ذكرهم، فلمّا ماتت اشتدّ حزنه عليها، فحكى شهريار بن رستم الديلميّ قال: كنتُ صديقاً لأبي شجاع بويه، فدخلتُ إليه يوماً فعذلتُه على كثرة حزنه، وقلتُ له: أنت رجل يحتمل الحزن، وهؤلاء المساكين أولادك يهلكهم الحزن، وربّما مات أحدهم، فيجدّد ذلك من الأحزان ما ينسيك المرأة؛ وسلّيتُه بجهدي، وأخذتُه ففرّجته، وأدخلتُه ومعه أولاده إلى منزلي ليأكلوا طعاماً، وشغلتُه عن حزنه.
فبينما هم كذلك اجتاز بنا رجل يقول عن نفسه: أنّه منجّم، ومعزّم، ومعبّر للمنَامات، ويكتب الرُّقى والطلّسمات، وغير ذلك، فأحضره أبو شجاع وقال له: رأيتُ في منامي كأنّني أبول، فخرج من ذكري نار عظيمة استطالت وعلت حتّى كادت تبلغ السماء، ثم انفجرت فصارت ثلاث شعب، وتولّد من تلك الشعب عدّة شعب، فأضاءت الدنيا بتلك النيران، ورأيت البلاد والعباد خاضعين لتلك النيران.
فقال المنجّم: هذا مَنام عظيم لا أفسّره إلاّ بخلعة، وفرس، ومركب؛ فقال أبو شجاع: والله ما أملك إلاّ الثياب التي على جسدي، فإن أخذتَها بقيتُ عرياناً؛ قال المنجّم: بعشرة دنانير؛ قال: والله ما أملك ديناراً فكيف عشرة ! فأعطاه شيئاً، فقال المنجّم: اعلم أنّه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومَن عليها، ويعلو ذكرهم في الآفاق كما علت تلك النار، ويولد لهم جماعة ملوك بقدر ما رأيتَ من تلك الشعب.
فقال أبو شجاع: أما تستحي تسخر منّا ؟ أنا رجل فقير وأولادي هؤلاء فقراء مساكين كيف يصيرون ملوكاً ؟ ؟

فقال المنجّم: أخبرني بوقت ميلادهم؛ فأخبره، فجعل يحسب، ثم قبض على يد أبي الحسن عليّ فقبّلها وقال: هذا والله الذي يملك البلاد، ثم هذا من بعده، وقبض على يد أخيه أبي عليّ الحسن، فاغتاظ منه أبو شجاع، وقال لأولاده: إصفعوا هذا الحكيم، فقد أفرط في السخرية بنا ! فصفعوه، وهو يستغيث، ونحن نضحك منه، ثم أمسكوا، فقال لهم: اذكروا لي هذا إذا قصدتُكم وأنتم ملوك؛ فضحكنا منه وأعطاه أبو شجاع عشرة دراهم.
ثم خرج من بلاد الديلم جماعة تقدّم ذكرهم ليملك البلاد منهم ما كان بن كالي، وليلى بن النُّعمان، وأسفار بن شيرويه، ومرداويج بن زيار، وخرج مع كلّ واحد منهم خلق كثير من الدَّيلم، وخرج أولاد أبي شجاع في جملة من خرج، وكانوا من جملة قوّاد ما كان بن كالي، فلمّا كان من أمر كان ما ذكرناه من الإتفاق ثم الإختلاف، بعد قتل أسفار، واستيلاء مرداويج على ما كان بيد ما كان من طَبَرِستان وجُرجان، وعود ما كان مرّة أخرى إلى جُرجان والدامغان، وعوده إلى نَيسابور مهزوماً.
فلمّا رأى أولاد بُويه ضعفه وعجزه قال له عماد الدولة وركن الدولة: نحن في جماعة، وقد صرنا ثقلاً عليك وعيالاً، وأنت مضيق، والأصلح لك أن نفارقك لنخفّف عنك مؤونتنا، فإذا صلح أمرنا عُدنا إليك؛ فأذن لهما، فسارا إلى مرداويج، واقتدى بهما جماعة من قوّاده ما كان وتبعوهما، فلمّا صاروا إليه قبلهم أحسن قبول، وخلع على ابني بويه، وأكرمهما، وقلّد كلّد واحد من قوّاد ما كان الواصلين إليه ناحية من نواحي الجبل، فأمّا عليُّ بن بويه فإنّه قلّده كَرَج.
ذكر سبب تقدُّم عليّ بن بويه
كان السبب في ارتفاع عليّ بن بويه من بينهم، بعد الأقدار، أنّه كان سَمحاً، حليماً، شجاعاً، فلمّا قلّده مرداويج كَرَج، وقلّد جماعة القوّاد المستأمنة معه الأعمال، وكتب لهم العهود، ساروا إلى الريّ، وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج، ومعه الحسين بن محمّد الملقّب بالعميد، وهو والد أبي الفضل الذي وزر لركن الدولة بن بويه، وكان العميد يومئذ وزير مرداويج.
وكان مع عماد الدولة بغلة شهباء من أحسن ما يكون، فعرضها للبيع، فبلغ ثمنها مائتَيْ دينار، فعُرضت على العميد فأخذها وأنفذ ثمنها، فلمّا حمل الثمن إلى عماد الدولة أخذ منه عشرة دنانير وردّ الباقي، وجعل معه هدية جميلة.
ثم أنّ مرداويج ندم على ما فعل من تولية أولئك القوّاد البلاد، فكتب إلى أخيه وشمكر وإلى العميد يأمرهما بمنعهم من المسير إلى أعمالهم، وأن كان بعضهم قد خرج فيردّ.
وكانت الكتب تصل إلى العميد قبل وشمكير، فيقراها ثمّ يعرضها على وشمكير، فلمّا وقف العميد على هذا الكتاب أنفذَ إلى عماد الدولة يأمره بالمسير من ساعته إلى عمله، ويطوي المنازل، فسار من وقته، وكان المغرب، وأمّا العميد فلمّا أصبح عرض الكتاب على وشمكير، فمنع سائر القوّاد من الخروج من الريّ، واستعاد التوقيعات التي معهم بالبلاد، وأراد وشمكير أن يُنفذ خلف عماد الدولة من يردّه، فقال العميد: إنّه لا يرجع طوعاً، وربّما قاتل من يقصده وخرج عن طاعتنا؛ فتركه.
وسار عماد الدولة إلى كَرَج، وأحسن إلى الناس، ولطف بعمّال البلاد، فكتبوا إلى مرداويج يشكرونه، ويصفون ضبطه البلد، وسياسته، وافتتح قِلاعاً كانت للخُرّميّة، وظفر منها بذخائر كثيرة صرفها جميعها إلى استمالة الرجال، والصلات، والهبات، فشاع ذكره، وقصده الناس وأحبّوه.
وكان مرداويج ذلك الوقت بَطَبرِستان، فلمّا عاد إلى الريّ أطلق مالاً لجماعة من قوّاده على كَرَج، فاستمالهم عماد الدولة، ووصلهم، وأحسن إليهم، حتّى مالوا إليه، وأحبّوا طاعته.

وبلغ ذلك مرداويج، فاستوحش وندم على إنفاذ أولئك القوّاد إلى الكرج، فكتب إلى عماد الدولة وأولئك يستدعيهم إليه، وتلطّف بهم، فدافعه عماد الدولة، واشتغل بأخذ العهود عليهم، وخوّفهم من سطوة مرداويج، فأجابوه جميعهم، فجبى مال كرَج، واستأمن إليه شيرزاد، وهو من أعيان قوّاد الدَّيلم، فقويت نفسه بذلك، وسار بهم عن كرج إلى أصبهان، وبها المظفَّر ابن ياقوت، في نحو من عشرة آلاف مقاتل، وعلى خراجها أبو عليّ بن رستم، فأرسل عماد الدولة إليهما يستعطفهما، ويستأذنهما في الانحياز إليهما، والدخول في طاعة الخليفة، ليمضي إلى الحضرة ببغداد، فلم يجيباه إلى ذلك، وكان أبو عليّ أشدّهما كراهة، فاتّفق للسعادة أنّ أبا عليّ مات في تلك الأيّام، وبرز ابن ياقوت عن أصبهان ثلاثة فراسخ، وكان في أصحابه جيل وديلم مقدار ستمائة رجل، فاستأمنوا إلى عماد الدولة لما بلغهم من كرمه، فضعف قلب ابن ياقوت، وقوي جنان عماد الدولة، فواقعه، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم ابن ياقوت، واستولى عماد الدولة على أصبهان، وعظم في عيون الناس لأنّه كان في تسعمائة رجل هزم بهم ما يقارب عشرة آلاف رجل، وبلغ ذلك الخليفة فاستعظمه، وبلغ خبر هذه الوقعة مرداويج فأقلقه، وخاف على ما بيده من البلاد واغتم لذلك غمّاً شديداً.
ذكر استيلاء ابن بُوَيْه على أرّجان
وغيرها وملك مرداويج أصبهانلّما سار الرسول جهّز مرداويج أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبس ابن بويه، وهو مطمئن إلى الرسالة التي تقدّمت، فعلم ابن بويه بذلك، فرحل عن أصبهان بعد أن جباها شهرَيْن، توجّه إلى أرّجان، وبها أبو بكر بن ياقوت، فانهزم أبو بكر من غير قتال، وقصد رامهرمُز، واستولى ابن بويه على أرّجان في ذي الحجّة؛ ولّما سار عن أصبهان دخلها وشمكير وعسكر أخيه مرداويج وملكوها، فلّما سمع القاهر أرسل إلى مرداويج قبل خلعه ليمنع أخاه عن أصبهان ويسلّمها إلى محمّد بن ياقوت، ففعل ذلك ووليها محمّد.
وأمّا ابن بويه فإنّه لّما ملك أرّجان استخرج منها أموالاً فقوي بها، ووردت عليه كتب أبي طالب زيد بن عليّ النوبندجانيّ يستدعيه ويشير عليه بالمسير إلى شِيراز، ويهوّن عليه أمر ياقوت وأصحابه، ويعرّفه تهوره، واشتغاله بجباية الأموال، وكثرة مؤونته ومؤونة أصحابه، وثقل وطأتهم على الناس، مع فشلهم وجُبنهم، فخاف ابن بويه أن يقصد ياقوتاً مع كثرة عساكره وأمواله، ويحصل بين ياقوت وولده، فلم يقبل مشورته، ولم يبرح من مكانه، فعاد أبو طالب وكتب إليه يشجّعه، ويعلمه أنّ مرداويج قد كتب إلى ياقوت يطلب مصالحته، فإنّ تمّ ذلك اجتمعا على محاربته، ولم يكن له بهما طاقة، ويقول له إنّ الرأي لمن كان في مثل حاله أن يعاجل مَن بين يديه، ولا ينتظر بهم الاجتماع والكثرة وأن يحدقوا به من كلّ جانب، فإنّه إذا هزم مَن بين يديه خافه الباقون ولم يقدموا عليه.
ولم يزل أبو طالب يراسله إلى أن سار نحو النُّوبَندجان في ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وقد سبقه إليهما مقدّمه ياقوت في نحو ألفَيّ فارس من شجعان أصحابه، فلّما وافاهم ابن بويه لم يثبتوا له لّما لقيهم، وانهزموا إلى كرَكان، وجاءهم ياقوت في جميع أصحابه إلى هذا الموضع، وتقدّم أبو طالب إلى وكلائه بالنُّوبندجان بخدمة ابن بويه، والقيام بما يحتاج إليه، وتنحى هو عن البلد إلى بعض القرى، حتّى لا يعتقد فيه المواطأة له، فكان مبلغ ما خسر عليه في أربعين يوماً مقدار مائتَيْ ألف دينار.
وأنفذ عماد الدولة أخاه ركن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس، فاستخرج منها أموالاً جليلة، فأنفذ ياقوت عسكراً إلى كازرون، فواقعهم ركن الدولة، فهزمهم وهو في نفر يسير، وعاد غانماً سالماً إلى أخيه.
ثمّ أنّ عماد الدولة انتهى إليه مراسلة مرداويج وأخيه وشمكير إلى ياقوت ومراسلته إليهما، فخاف اجتماعهم؛ فاسر من النّوبندجان إلى إصْطَخْر ثم إلى البيضاء وياقوت يتبعه، وانتهى إلى قنطرة على طريق كَرمان، فسبقه ياقوت إليها ومنعه من عبورها، واضطر إلى الحرب، وذلك في آخر سنة إحدى وعشرين، ودخلت سنة اثنتين وعشرين.
ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة اجتمعت بنو ثعلبة إلى بني أسد القاصدين إلى ارض الموصل ومن معهم من طيّ، فصاروا يداً واحدة على بني مالك ومَن معهم من تغلب، وقرب بعضهم من بعض للحرب، فركب ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حَمدان في أهله ورجاله، ومعه أبو الأغرّ بن سعيد بن حَمدان للصلح بينهم، فتكلّم أبو الأغرّ، فطعنه رجل من حزب بني ثعلبة فقتله، فحمل عليهم ناصر الدولة ومن معه، فانهزموا وقُتل منهم، ومُلكت بيوتهم، وأُخذ حريمهم وأموالهم ونجوا على ظهور خيولهم، وتبعهم ناصر الدولة إلى الحديثة، فلمّا وصلوا إليها لقيهم يأنس غلام مؤنس، وقد وليَ الموصل، وهو مُصعد إليها، فانضمّ إليه بنو ثعلبة وبنو أسد وعادوا إلى ديار ربيعة.
وفيها ورد الخبر إلى بغداد بوفاة تكين الخاصّة بمصر، وكان أميراً عليها، فوليَ مكانه ابنه محمد، وأرسل له القاهر بالله الخِلع، شارد الجند بمصر، فقاتلهم محمّد وظفر بهم.
وفيها أمر عليٌّ بن بليق، قبل قبضه، وكاتبه الحسن بن هارون بلعن معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد على المنابر ببغداد، فاضطربت العامّة، فأراد عليُّ بن بليق أن يقبض على البربهاريّ رئيس الحنابلة، وكان يثير الفتن هو وأصحابه، فعلم بذلك فهرب، فأُخذ جماعة من أعيان أصحابه وحُبسوا وجُعلوا في زورق وأحدروا إلى عُمان.
وفيها أمر القاهر بتحريم الخمر والغناء وسائر الأنبذة، ونفى بعض مَن كان يُعرف بذلك إلى البصرة والكوفة؛ وأمّا الجواري المغنّيات فأمر ببيعهنّ على أنهنّ سواذج لا يعرفن الغناء، ثم وضع من يشتري له كلّ حاذقة في صنعه الغناء، فاشترى منهنّ ما أراد بأرخص الأثمان، وكان القاهر مشتهراً بالغناء والسّماع، فجعل ذلك طريقاً إلى تحصيل غرضه رخيصاً، نعوذ بالله من هذه الأخلاق التي لا يرضاها عامّة الناس.
وفيها توفّي أبو بكر محمّد بن الحسن بن دُريد اللغويُّ في شعبان، وأبو هاشم بن أبي عليّ الجُبّائيُّ المتكلّم المعتزليُّ في يوم واحد، ودْفنا بمقابر الخيزران.
وفيها توفّي محمّد بن يوسف بن مطر الفربريُّ، وكان مولده سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وهو الذي روي صحيح البخاريّ عنه، وكان قد سمعه عشرات ألوف من البخاري فلم ينتشر إلاّ عنه، وهو منسوب إلى فربر بالفاء والرّاءَين المهملتين وبينهما باء معجمة موحدة وهي من قرى بخارى.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائةذكر استيلاء ابن بويه على شِيراز
في هذه السنة ظفر عماد الدولة بن بويه بياقوت، وملك شيراز، وقد ذكرنا مسير عماد الدولة بن بويه إلى القنطرة، وسبق ياقوت إليها، فلّما وصلها ابن بويه وصدّه ياقوت عن عبورها اضطّر إلى محاربته، فتحاربا في جمادى الآخرة، وأحضر عليُّ بن بويه أصحابه، ووعدهم أنّه يترجّل معهم عند الحرب ويقاتل كأحدهم، ومنّاهم ووعدهم الإحسان.
وكان من سعادته أنّ جماعة من أصحابه استأمنوا إلى ياقوت، فحين رآهم ياقوت أمر بضرب رقابهم، فأيقن مَن مع ابن بويه أنّهم لا أمان لهم عنده، فقاتلوا قتال مستقتل.
ثم إنّ ياقوتاً قدّم أمام أصحابه رجّالة كثيرة يقاتلون بقوارير النفط، فانقلبت الريح في وجوههم، واشتدّت، فلمّا ألقوا النار عادت النار عليهم، فعلقت بوجوههم وثيابهم، فاختلطوا وأكبّ عليهم أصحاب ابن بويه، فقتلوا أكثر الرجّالة، وخالطوا الفرسان فانهزموا، فكانت الدائرة على ياقوت وأصحابه.
فلمّا انهزم صعد على نشَز مرتفع، ونادى في أصحابه الرجعة، فاجتمع إليه نحو أربعة آلاف فارس، فقال لهم: اثبتوا فإنّ الديلم يشتغلون بالنهب، ويتفرّقون، فنأخذهم، فثبتوا معه، فلمّا رأى ابن بويه ثباتهم نهى أصحابه عن النهب، وقال: إنّ عدوّكم يرصدكم لتشتغلوا بالنهب، فيعطف عليكم ويكون هلاككم، فاتركوا هذا، وافرغوا من المنهزمين ثم عودوا إليه؛ ففعلوا ذلك، فلمّا رأى ياقوت أنّهم على قصده ولّى منهزماً، واتّبعه أصحاب ابن بويه يقتلون ويأسرون ويغنمون الخيل والسلاح.

وكان معزُّ الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه في ذلك اليوم من أحسن الناس أثراً، وكان صبيّاً لم تنبت لحيته، وكان عمره تسع عشرة سنة، ثم رجعوا إلى السواد، فغنموا ووجدوا في سواده برانس لبود عليها أذناب الثعالب، ووجدوا قيوداً وأغلالاً، فسألوا عنها، فقال أصحاب ياقوت: إنّ هذه أُعدّت لكم لتُجعل عليكم، ويطاف بكم في البلاد؛ فأشار أصحاب ابن بويه أن يفعل بهم مثل ذلك، فامتنع وقال: إنّه بغيٌ، ولؤم ظفر، ولقد لقي ياقوت بغيه.
ثم أحسن إلى الأسارى وأطلقهم وقال: هذه نعمة والشكر عليها واجب يقتضي المزيد؛ وخيّر الأسارى بين المقام عنده واللحوق بياقوت، فاختارو المقام عنده فخلع عليهم وأحسن إليهم.
وسار من موضع الوقعة حتّى نزل بشيراز، ونادى في الناس بالأمان، وبثّ العدل، وأقام لهم شحنة يمنع من ظلمهم، واستولى على تلك البلاد، وطلب الجند أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم، فكاد ينحلّ أمره، فقعد في غرفة في دار الإمارة بشيراز يفكر في أمره، فرأي حيّة خرجت من موضع في سقف تلك الغرفة ودخلت في ثقب هناك، فخاف أن تسقط عليه، فدعا الفرّاشين، ففتحوا الموضع، فرأوا وراءَه باباً فدخلوه إلى غرفة أخرى، وفيها عشرة صناديق مملوءة مالاً ومصوغاً، وكان فيها ما قيمته خمس مائة ألف دينار، فأنفقها، وثبت ملكه بعد أن كان قد أشرف على الزوال.
وحُكي أنّه أراد أن يفصّل ثياباً، فدلّوه على خياط كان لياقوت، فأحضره، فحضر خائفاً، وكان أصمّ، فقال له عماد الدولة: لا تخف، فإنّما أحضرناك لتفصّل ثياباً؛ فلم يعلم ما قال، فابتدأ وحلف بالطلاق والبراءة من دين الإسلام أنّ الصناديق التي عنده لياقوت ما فتحها، فتعجّب الأمير من هذا الاتّفاق، فأمره بأحضارها، فأحضر ثمانية صناديق فيما مال وثياب قيمته ثلاثمائة ألف دينار، ثم ظهر له من ودائع ياقوت وذخائر يعقوب وعمروا ابنَي الليث جملةٌ كثيرة، فامتلأت خزائنه وثبت ملكه.
فلمّا تمكّن من شِيراز وفارس كتب إلى الراضي بالله، وكانت قد أفضت إليه الخلافة، على ما نذكره، وإلى وزيره أبي عليّ بن مقلة يعرّفهما أنّه على الطاعة ويطلب منه أن يقاطع على ما بيده من البلاد، وبذلك ألف ألف درهم، فأُجيب إلى ذلك، فأنفذوا له الخِلع، وشرطوا على الرسول أن لا يسلّم إليه الخِلع إلاّ بعد قبض المال.
فلمّا وصل الرسول خرج عماد الدولة إلى لقائه، وطلب منه الخلع واللواء، فذكر له الشرط، فأخذهما منه قهراً، ولبس الخلع، ونشر اللواء بين يديه، ودخل البلد، وغالط الرسول بالمال، فمات الرسول عنده سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وعظم شأنه، وقصده الرجال من الأطراف.
ولّما سمع مرداويج بما ناله من ابن بويه قام لذلك وقعد وسار إلى أصبهان للتدبير عليه، وكان بها أخوه وشمكير لأنّه لّما خلع القاهر، وتأخّر محمّد بن ياقوت عنها، عاد إليها وشمكير بعد أن بقيت تسعة عشر يوماً خالية من أمير، فلمّا وصلها مرداويج ردّ أخاه وشمكير إلى الريّ.
ذكر استيلاء نصر بن أحمد على كَرْمان
في هذه السنة خرج أبو عليّ محمّد بن إلياس من ناحية كَرْمان إلى بلاد فارس، وبلغ إصطَخر، فأظهر لياقوت أنّه يريد أن يستأمن إليه حيلةً ومكراً، فعلم ياقوت مكره، فعاد إلى كَرمان، فسيّر إليه السعيدُ نصر بن أحمد، صاحب خُراسان، ما كانَ بن كالي في جيش كثيف، فقاتله، فانهزم ابن إلياس، واستولى ما كان على كَرمان، نيابةً عن صاحب خراسان.
وكان محمّد بن إلياس هذا من أصحاب نصر بن أحمد، فغضب عليه وحبسه، ثم شفع فيه محمّد بن عبيدالله البلغميُّ، فأخرجه، وسيّره مع محمّد ابن المظفَّر إلى جرجان، فلمّا خرج يحى بن أحمد وإخوته ببخارى، على ما ذكرناه، سار محمّد بن إلياس إليه فصار معه، فلمّا أدبر أمْره سار محمّد من نَيسابور إلى كَرمان فاستولى عليها إلى هذه الغاية، فأزاله ما كان عنها، فسار إلى الدِّينَوَر، وأقام مكان بكَرمان، فلمّا عاد عنها، على ما نذكره، رجع إليها محمّد بن إلياس.
ذكر خلع القاهر باللهوفيها خُلع القاهر بالله في جُمادى الأولى.

وكان سبب ذلك أنّ أبا عليّ بن مقلة كان مستتراً من القاهر، والقاهر يتطلّبه، وكذلك الحسن بن هارون، فكانا يراسلان قوّاد الساجيّة، والحجريّة، ويخوّفانهم من شرّه، ويذكران لهم غدره ونكثه مرّة بعد أخرى: كقتل مؤنس، وبُليق، وابنه عليّ بعد الأيمان لهم، وكقبضه على طريف السُّبكريّ بعد اليمين له، مع نصح طريف له، إلى غير ذلك.
وكان ابن مقلة يجتمع بالقوّاد ليلاً، تارة في زيّ أعمى، وتارة في زيّ مُكَدٍّ، وتارة في زيّ إمرأة ويغريهم به.
ثمّ إنّه أعطى منجّماً كان لسيما مائتَيْ دينار، وأعطاه الحسن مائة دينار، وكان يذكر لسيما أن طالعه يقتضي أن ينكبه القاهر ويقتله، وأعطى ابن مقلة أيضاً لمعبّر كان لسيما يعبّر له المنَامات، فكان يحذره أيضاً من القاهر، ويعبّر له على ما يريد، فازداد نفوراً من القاهر.
ثم إنّ القاهر شرع في عمر مطامير في الدار، فقيل لسيما ولجماعة قوّاد الساجيّة والحجريّة: إنّما علمها لأجلكم؛ فازداد نفوراً، ونقل إلى سيما أنّ القاهر يريد قتله، فجمع الساجيّة، وكان هو رئيسهم المقدّم عليهم، وأعطاهم السلاح، وأنفذوا إلى الحجريّة: إنْ كنتم موافقين لنا فجيئوا إلينا حتّى نحلف بعضنا لبعض، وتكون كلمتنا واحدة، فاجتمعوا جميعهم وتحالفوا على اجتماع الكلمة وقَتْل من خالف منهم.
فاتّصل ذلك بالقاهر ووزيره الحُصيبيّ، فأرسل إليهم الوزير: ما الذي حملكم على هذا ؟ فقالوا: قد صحّ عندنا أنّ القاهر يريد القبض على سيما، وقد عمل مطامير ليحبس فيها قوّادنا ورؤساءنا. فلمّا كان يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى اجتمع الساجيّة والحجريّة عند سيما، وتحالفوا على الاجتماع على القبض على القاهر، فقال لهم سيما: قوموا بنا الساعة حتى نمضي هذا العزم، فإنّه إن تأخّر علم به، واحترز وأهلكَنا.
وبلغ ذلك الوزير، فأرسل الحاجبَ سلامة وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك، فواجداه نائماً قد شرب أكثر ليلته، فلم يقدرا على إعلامه بذلك.
وزحف الحجريّة والساجيّة إلى الدار، ووكّل سيما بأبوابها مَن يحفظها، وبقي هو على باب العامّة، وهجموا إلى الدار من سائر الأبواب، فلمّا سمع القاهر الأصوات والجَلَبة استيقظ مخموراً، وطلب باباً يهرب منه، فقيل له إن الأبواب جميعها مشحونة بالرجال، فهرب إلى سطح حمّام، فلمّا دخل القوم لم يجدوه، فأخذوا الخدم وسألوهم عنه، فدلّهم عليه خادم صغير، فقصدوه، فرأوه وبيده السيف، فاجتهدوا به فلم ينزل لهم، فألانوا له القول، وقالوا: نحن عبيدك، وإنّما نريد أن نأخذ عليك العهود؛ فلم يقبل منهم وقال: مَن صعد إليّ قتلتُه ! فأخذ بعضهم سهماً وقال: إن نزلت، وإلاّ وضعتُه في نحرك ! فنزل حينئذ إليهم، فأخذوه وساروا به إلى الموضع الذي فيه طريف السبكريُّ، ففتحوه وأخرجوه منه وحبسوا القاهر مكانه، ثمّ سملوه، وهرب وزيره الخصيبيُّ وسلامة حاجبه.
وقيل في سبب خلعه وقيام الساجيّة والحجريّة غير ما تقدّم، وهو أنّ القاهر لّما تمكّن من الخلافة أقبل ينقص الساجيّة والحجريّة على ممرّ الأيّام، ولا يقضي لأكابرهم حاجة، ويُلزمهم النوبة في داره، ويؤخّر أعطياتهم، ويغلظ لمن يخاطبه منهم في أمر، ويحرمه، فأقبل بعضهم ينذر بعضاً، ويتشاكون بينهم، ثم إنّه كان يقول لسلامة حاجبه: يا سلامة ! أنت بين يديّ كنزل مال يمشي، فأيّ شيء يبين في مالك لو أعطَيتَني ألف ألف دينار ؟ فيحمل ذلك منه على الهزل.
وكان وزيره الخصيبيُّ أيضاً خائفاً لما يرى منه، ثم أنّه حفر في الدار نحو خمسين مطمورة تحت الأرض، وأحكم أبوابها، فكان يقال: إنّه عملها لمقدّمي الساجيّة والحجريّة، فازداد نفورهم منه وخوفهم؛ ثم إنّ جماعة من القرامطة أُخذوا بفارس وأُرسلوا إلى بغداد، كما تقدّم، فحُبسوا في تلك المطامير، ثم تقدّم سرّاً بفتح الأبواب عليهم، والإحسان إليهم، وعزم على أن يقوى بهم على القبض على مقدّمي الحجريّة والساجيّة، وبمن معه من غلمانه.
وأنكر الحجريّة والساجيّة حال القرامطة، وكونهم معه في داره محسناً إليهم، وقالوا لوزيره الخصيبيّ، وحاجبه سلامة، في ذلك، فقالا له، فأخرجهم من الدار، فسلّمهم إلى محمّد بن ياقوت، وهو على شُرطة بغداد، فأنزلهم في دار، وأحسن إليهم، وكان يدخل إليهم من يريد، فعظم استيحاشهم.

ثمّ صار يذمّهم في مجلسه، ويُظهر كراهتهم، حتّى تبيّنوا ذلك في وجهه وحركاته معهم، فأظهروا أنّ لبعض قوّادهم عرساً، فاجتمعوا بحجّته، وقرّروا بينهم ما أرادوا، وافترقوا، وأرسلوا إلى سابور خادم والدة لمقتدر، فقالوا له: قد علمتَ ما فعله بمولاتك، وقد ركبتَ في موافقته كلّ عظيم، فإنّ وافقتنا على ما نحن عليه، وتقدّمتَ إلى الخدم بحفظه، فعفا الله عمّا سلف منك، وإلاّ فنحن نبدأ بك؛ فأعلمهم ما عنده من الخوف والكراهة للقاهر، وأنّه موافقهم، وكان ابن مقلة مع هذا يصنع عليه ويسعى فيه إلى أن خُلع، كما ذكرنا، وكانت خلافته سنة واحدة وستّة أشهر وثمانية أيّام
ذكر خلافة الراضي باللههو أبو العبّاس أحمد بن المقتدر بالله، ولّما قُبض القاهر سألوا الخدم عن المكان الذي فيه أبو العبّاس بن المقتدر، فدلّوهم عليه، وكان هو ووالدته محبوسين، فقصدوه، وفتحوا عليه ودخلوا فسلّموا عليه بالخلافة، وأخرجوه وأجلسوه على سرير القاهر يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى، ولقبوه بالراضي بالله، وبايعه القوّاد والناس، وأمر بإحضار عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن، وصدر عن رأيهما فيما يفعله، واستشارهما وأراد عليَّ بن عيسى على الوزارة، فامتنع لكبره، وعجزه، وضعفه، وأشار بابن مقلة.
ثم إنّ سيما قال للراضي: إنّ الوقت لا يحتمل أخلاق عليّ، وابن مقلة أليق بالوقت؛ فكتب له أماناً وأحضره واستوزره، فلمّا وزر أحسن إلى كلّ مَن أساء إليه، وأحسن سيرته، وقال: عاهدت الله عند استتاري بذلك؛ فوفى به، وأحضر الشهود والقضاة وأرسلهم إلى القاهر ليشهدوا عليه بالخلع، فلم يفعل، فسُمل، من ليلته، فبقي أعمى لا يبصر.
وأرسل ابن مقلة إلى الخصيبيّ وعيسى المتطبب بالأمان فظهرا وأحسن إليهما واستعمل الخصيبيَّ وولاّه؛ واستعمل الراضي بالله على الشُّرطة بدراً الخَرشَنيَّ، واستعمل ابنُ مقلة أبا الفضل بن جعفر بن الفرات، في جمادى الأولى، نائباً عنه على سائر العمّال بالموصل، وقَرْدَى، وبازَبْدي، وماردين، وطور عَبدين، وديار الجزيرة، وديار بكر، وطريق الفرات، والثغور الجزريّة والشاميّة، وأجناد الشام، وديار مصر، يصرف من يرى، ويستعمل مَن يرى في الخراج، والمعاون، والنفقات، والبريد وغير ذلك.
وأرسل إلى محمّد بن رائق يستدعيه ليولّيه الحجبة، وكان قد استولى على الأهواز وأعمالها، ودفع عنها ابن ياقوت، ولم يبق بيد ابن ياقوت من تلك الولاية إلاّ السُّوس، وجُندَيسابور، وهو يريد المسير إلى أصبهان أميراً عليها، على ما ذكرناه، وكان ذلك آخر أيّام القاهر، فلمّا وليَ الراضي، واستحضره، سار إلى واسط، وأرسل محمّد بن ياقوت يخطب الحجبة، فأُجيب إليها فسار في أثر ابن رائق؛ وبلغ ابن رائق الخبر، فلم يقف، وسار من واسط مصعداً إلى بغداد يسابق ابن ياقوت، فلمّا وصل إلى المدائن لقيه توقيع الراضي يأمره بترك دخول بغداد، وتقليده الحرب، والمعاون بواسط، مضافاً إلى ما بيده من البصرة وغيرها، فعاد منحدراً في دجلة، ولقيه ابن ياقوت مصعداً فيها أيضاً، فسلّم بعضهم على بعض، وأصعد ابن ياقوت إلى بغداد فتولّى الحجبة على ما نذكره.
ذكر وفاة المهديّ صاحب إفريقية
وولاية ولده القائمفي هذه السنة، في شهر ربيع الأوّل، توفّي المهديُّ أبو محمّد عبيدالله العلويُّ بالمهديّة، واخفى ولده أبو القاسم موته سنة لتدبير كان له، وكان يخاف أن يختلف الناس عليه إذا علموا بموته، وكان عمر المهديّ لّما توفّي ثلاثاً وستّين سنة، وكانت ولايته منذ دخل رقّاده ودُعي له بالإمامة إلى أن توفّي أربعاً وعشرين سنة وشهراً وعشرين يوماً.
ولّما توفّي ملك بعده ابنه أبو القاسم محمّد، وكان أبوه قد عهد إليه، ولّما أظهر وفاة والده كان قد تمكّن وفرغ من جميع ما أراده، واتَّبع سُنّة أبيه، وثار عليه جماعة، فتمكّن منهم؛ وكان من أشدّهم رجل يقال له ابن طالوت القرشيُّ، في ناحية طرابلس، ويزعم أنّه ولد المهديّ، فقاموا معه، وزحف إلى مدينة طرابلس، فقاتله أهلها، ثم تبينّ للبربر كذبه، فقتلوه وحملوا رأسه إلى القائم.

وجهّز القائم أيضاً جيشاً كثيفاً مع ميسور الفتى إلى المغرب، فانتهى إلى فاس، وإلى تَكرور، وهزم خارجيّاً هناك، وأخذ ولده أسيراً، وسيّر أيضاً جيشاً في البحر وقدّم عليهم رجلاً اسمه يعقوب بن إسحاق إلى بلد الروم، فسبى، وغنم في بلد جَنَوة؛ وسيّر جيشاً آخر مع خادمه زيدان، وبالغ في النفقة عليهم وتجهيزهم، إلى مصر، فدخلوا الإسكندريّة، فأخرج إليهم محمّد الإخشيد عسكراً كثيفاً، فقاتلهم، وهزموا المغاربة، وقتلوا فيهم، وأسروا، وعاد المغاربة مفلولين.
ذكر استيلاء مرداويج على الأهوازلما بلغ مَرداويجَ استيلاء عليّ بن بويه على فارس اشتدّ ذلك عليه، فسار إلى أصبهان للتدبير على ابن بويه، فرأى أن ينفذ عسكراً إلى الأهواز ليستولي عليها، ويسدّ الطريق على عماد الدولة بن بويه إذا قصده، فلا يبقى له طريق إلى الخليفة، ويقصده هو من ناحية أصبهان، ويقصده عسكره من ناحية الأهواز، فلا يثبت لهم.
فسارت عساكر مرداويج في شهر رمضان، حتّى بلغت إيذَجَ، فخاف ياقوت أن يحصل بينهم وبين ابن بويه، فسار إلى الأهواز ومعه ابنه المظفَّر، وكتب إلى الراضي ليقلّده أعمال الأهواز، فقلّده ذلك، وصار أبو عبدالله ابن البريديّ كاتبه مضافاً إلى ما بيده من أعمال الخراج بالأهواز، وصار أخوه أبو الحسين يخالف ياقوتاً ببغداد.
ثم استولى عسكر مَرداويج على رامهرمز، أوّل شوّال من هذه السنة، وساروا نحو الأهواز، فوقف لهم ياقوت على قنطرة أرْبَقَ، فلم يمكنهم من العبور لشدة جرية الماء، فأقاموا بإزائه أربعين يوماً، ثم رحلوا فعبروا على الأطواف نهر المسرُقان، فبلغ الخبر إلى ياقوت، وقد أتاه مدد من بغداد قبل ذلك بيومَيْن، فسار بهم إلى قرية الرِّيخ، وسار منها إلى واسط، وبها حينئذ محمّد بن رائع، فأخلى له غربيَّ واسط، فنزل فيه ياقوت.
ولّما بلغ عمادَ الدولة استيلاءُ مرداويج على الأهواز كاتب نائب مرداويج يستميله، ويطلب منه أن يتوسّط الحال بينه وبين مرداويج، ففعل ذلك، وسعى فيه، فأجابه مرداويج إلى ذلك على أن يطيعه ويخطب له، فاستقرّ الحال بينهما، وأهدى له ابن بويه هدية جليلة، وأنفذ أخاه ركن الدولة رهينة، وخطب لمرداويج في بلاده، فرضي مرداويج منه، واتّفق أنّه قُتل على ما نذكره، فقوي أمر ابن بويه.
ذكر عود ياقوت إلى الأهوازولّما وصل ياقوت إلى واسط أقام بها إلى أن قُتل مرداويج، ومعه أبو عبد الله البريديُّ يكتب له، فلمّا قُتل مرداويج عاد ياقوت إلى الأهواز، واستولى على تلك الولاية، ولّما وصل ياقوت إلى عسكر مُكْرَم، بعد قتل مرداويج، كانت عساكر ابن بويه قد سبقته، فالتقوا بنواحي أرّجان، وكان ابن بويه قد لحق بأصحابه، واشتدّ قتالهم بين يديه، فانهزم ياقوت، ولم يفلح بعدها.
وراسل أبو عبدالله البريديُّ ابنَ بُوَيه في الصلح، فأجاب إلى ذلك، وكتب به إلى الراضي، فأجاب إلى ذلك، وقرّر بلاد فارس على ابن بُوَيه، واستقرّ بشِيراز، واستقرّ ياقوت بالأهواز ومعه ابن البريديّ.
وكان محمّد بن ياقوت قد سَار إلى بغداد وتولّى الحجبة، وخلع الراضي عليه، وتولّى مع الحجبة رئاسة الجيش، وأدخل يده في أمر الدواوين، وتقدّم إليهم بأن لا يقبلوا توقيعاً بولاية ولا عزْل وإطلاق إلاّ إذا كان خطّه عليه، وأمرهم بحضور مجلسه، فصبر أبو عليّ بن مقلة على ذلك، وألزم نفسه بالمصير إلى دار ابن ياقوت، في بعض الأوقات، وبقي كالمتعطّل.
ولقد كان في هذه الأيّام القليلة حوادث عظيمة منها: انصراف وشمكير أخي مرداويج عن أصبهان بكتاب القاهر، بعد أن ملكها، واستعمال القاهر محمّد بن ياقوت عليها، وخلع القاهر، وخلافة الراضي، وأمر الحجبة لمحمّد ابن رائق، ثم انفساخه، ومسير محمّد بن ياقوت من رامَهُرْمُز إلى بغداد، وولايته الحجبة، بعد أن كان سائراً إلى أصبهان ليتولاّها، وإعادة مرداويج أخاه وشمكير إليها؛ وملك عليُّ بن بويه أرّجان؛ هذا جميعه في هذه اللحظة القريبة في سبعين يوماً، فتبارك الله الذي بيده الملك والملكوت يُصرِّف الأمور كيف يشاء، لا أله إلاّ هو.
ذكر قتل هارون بن غريب

في هذه السنة قُتل هارون بن غريب، وكان سبب قتله أنّه كان، كما ذكرنا، قد استعمله القاهر على ماه الكوفة، وقصبتها الدِّينَور، وعلى ماسَبذان وغيرها، فلمّا خُلع القاهر واستُخلف الراضي رأى هارون أنّه أحقّ بالدولة من غيره لقرابته من الراضي، حيث هو ابن خال المقتدر، فكاتب القوّاد ببغداد يعدهم الإحسان والزيادة في الأرزاق، ثمّ سار من الدِّينَور إلى خانِقين، فعظم ذلك على ابن مقلة وابن ياقوت والحجريّة والساجيّة، واجتمعوا، وشكوه إلى الراضي، فأعلمهم أنّه كاره له، وأذن لهم في منعه، فراسلوه أوّلاً، وبذلوا له طريق خراسان زيادة على ما في يده، فلم يقنع به، وتقدّم إلى النَّهروان، وشرع في جباة الأموال، وظلم الناس، وعسفهم، وقويت شوكته.
فخرج إليه محمّد بن ياقوت في سائر جيوش بغداد، ونزل قريباً منه، ووقعت الطلائع بعضها على بعض، وهرب بعض أصحاب محمّد بن ياقوت إلى هارون، وراسله محمّد يستميله، ويبذل له، فلم يجب إلى ذلك، وال: لا بدّ من دخول بغداد.
فلمّا كان يوم الثلاثاء لست بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران، واشتدّ القتال، واستظهر أصحاب هارون لكثرتهم، فانهزم أكثر أصحاب ابن ياقوت ونُهب أكثر سوادهم، وكثر فيهم الجراح والقتل، فسار محمّد بن ياقوت حتّى قطع قنطرة نهر بين، فبلغ ذلك هارون، فسار نحو القنطرة منفرداً عن أصحابه، طمعاً في قتل محمّد بن ياقوت، أو أسره، فتقنطر به فرسه، فسقط عنه في ساقية، فلحقه غلام له اسمه يمن، فضربه بالطَّبرِزين حتّى أثخنه، وكسّر عظامه، ثم نزل إليه فذبحه ثم رفع رأسه وكبّر، فانهزم أصحابه وتفرّقوا، ودخل بعضهم بغداد سرّاً، ونهب سواد هارون، وقتل جماعة من قوّاده وأسر جماعة.
وسار محمّد إلى موضع جثّة هارون، فأمر بحملها إلى مضربه، وأمر بغسله وتكفينه، ثم صلّى عليه ودفنه، وأنفذ إلى داره من بحفظها من النهب، ودخل بغداد ورأس هارون بين يديه ورؤوس جماعة من قوّاده، فنُصب ببغداد.
ذكر ظهور إنسان ادّعى النبوّة
في هذه السنة ظهر بباسِند، من أعمال الصغانيان، رجل ادّعى النبوة، فقصده فوج بعدَ فوج، واتّبعه خلق كثير، وحارب من خالفه، فقتل خلقاً كثيراً مّمن كذّبه، فكثر أتباعه من أهل الشاش خصوصاً.
وكان صاحب حيل ومخاريق، وكان يدخل يده في حوض ملآن ماء، فيخرجها مملوءة دنانير، إلى غير ذلك من المخاريق، فكثر جمعه، فأنفذ إليه أبو عليّ بن محمّد بن المظفَّر جيشاً، فحاربوه، وضيّقوا عليه، وهو فوق جبل عالٍ، حتّى قبضوا عليه وقتلوه وحملوا رأسه إلى أبي عليّ، وقتلوا خلقاً كثيراً مّمن اتّبعه وآمن به؛ وكان يدّعي أنّه متى مات عاد إلى الدنيا، فبقي بتلك الناحية جماعة كثيرة على ما دعاهم إليه مدّة طويلة ثم اضمحلّوا وفنوا.
ذكر قتل الشَّلمغانيّ وحكاية مذهبه
وفي هذه السنة قُتل أبو جعفر محمّد بن عليّ الشَّلمغانيُّ المعروف بابن أبي القراقر، وشلْمَغانُ التي يُنسب إليها قرية بنواحي واسط.
وسبب ذلك أنّه قد أحدث مذهباً غالياً في التشيع، والتناسخ، وحلول الإلهيّة فيه، وإلى غير ذلك ممّا يحكيه، وأظهر ذلك من فعله أبو القاسم الحسين ابن رَوْح، الذي تسمّيه الإمامية الباب، متداول وزارة حامد بن العبّاس، ثم اتّصل أبو جعفر الشلمغانيُّ بالمحسن بن أبي الحسن بن الفرات في وزارة حامد بن العبّاس، ثم اتّصل أبو جعفر الشلمغانيُّ بالمحسن بن أبي الحسن بن الفرات في وزارة أبيه الثالثة، ثم إنّه طُلب في زارة الخاقانيّ، فاستتر وهرب إلى الموصل، فبقي سنين عند ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حَمدان في حياة أبيه عبدالله بن حَمدان، ثم انحدر إلى بغداد واستتر، وظهر عنه ببغداد أنّه يدّعي لنفسه الربوبيّة، وقيل أنّه اتّبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبدالله بن سليمان بن وهب الذي وزر للمقتدر بالله، وأبو جعفر، وأبو عليّ ابنا بِسطام، وإبراهيم ابن محمّد بن أبي عون، وابن شبيب الزيّات، وأحمد بن محمّد بن عبدوس، كانوا يعتقدون ذلك فيه، وظهر ذلك عنهم، وطُلبوا أيّام وزارة ابن مقلة للمقتدر بالله، لم يوجدوا.

فلمّا كان في شوّال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ظهر الشلمغانيُّ، فقبض عليه الوزير ابن مقلة وسجنه، وكبس داره فوجد فيها رقاعاً وكتباً مّمن يدّعي عليه أنّه على مذهبه، يخاطبونه بما لا يخاطب به البشر بعضهم بعضاً، وفيها خطّ الحسين بن القاسم، فعُرضت الخطوط فعرفها الناس، وعُرضت على الشلمغانيّ فأقرّ أنّها خطوطهم، وأنكر مذهبه، وأظهر الإسلام، وتبرّأ ممّا يقال فيه، وأُخذ ابن أبي عون، وابن عبدوس معه، وأُحضروا معه عند الخليفة، وأُمرا بصفعه فامتنعا، فلمّا أُكرها مدّ ابن عبدوس يده وصفعه، وأمّا ابن أبي عون فأنّه مدّ يده إلى لحيته ورأسه، فارتعدت يده، فقبّل لحية الشلمغانيّ ورأسه، ثم قال: ألهي، وسيدي، ورازقي؛ فقال له الراضي: قد زعمتَ أنّك لا تدّعي الإلهيّة، فما هذا ؟ فقال: وما عليّ من قول ابن أبي عون والله يعلم أنّني ما قُلتُ له أنّني إله قط ! فقال ابن عبدوس: إنّه لم يدّع الإلهيّة وإنّما ادّعى أنّه الباب إلى الإمام المنتظر، مكان ابن رَوْح، وكنتُ أظنّ أنّه يقول ذلك تقيّةٍ، ثم أُحضروا عدّة مرّات، ومعهم الفقهاء، والقضاة، والكتّاب، والقوّاد، وفي آخر الأيّام أفتى الفقهاء بإباحة دمه، فصُلب ابن الشلمغانيّ، وابن أبي عون، في ذي القعدة فأُحرقا بالنار.
وكان من مذهبه أنّه إله الآلهة يحقّ الحقّ، وأنّه الأوّل القديم، الظاهر، الباطن، الرازق، التامّ، المومأ إليه بكلّ معنى؛ وكان يقول: إنّ الله، سبحانه وتعالى، يحلّ في كلّ شيء على قدر ما يحتمل، وإنّه خلق الضدّ ليدلّ على لمضدود، فمن ذلك أنّه حلّ في آدم لّما خلقه، وفي إبليسه أيضاً، وكلاهما ضدّ لصاحبه لمضادته إيّاه في معناه، وأنّ الدليل على الحقّ أفضل من الحقّ، وإنّ الضدّ أقرب إلى الشيء من شبهه، وإنّ الله عز وجلّ، إذا حلّ في جسد ناسوتيّ ظهر من القدرة والمعجزة ما يدلّ على أنّه هو، وإنّه لّما غاب آدم ظهر اللاهوت في خمسة ناسوتيّة، كلّما غاب منهم واحد ظهر مكانه آخر، وفي خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة، ثم اجتمعت اللاهوتيّة في إدريس وإبليسه، وتفرّقت بعدهما كما تفرّقت بعد آدم، واجتمعت في نوح، عليه السّلام، وإبليسه، وتفرّقت بعدهما كما تفرّقت بعد آدم، واجتمعت في نوح، عليه السّلام، وإبليسه، وتفرّقت عند غيبتهما، واجتمعت في هود وإبليسه، وتفرّقت بعدهما، واجتمعت في صالح، عليه السّلام، وإبليسه عاقر الناقة، وتفرّقت بعدهما، واجتمعت في إبراهيم، عليه السّلام، وإبليسه نمرود، وتفرّقت لّما غاب واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون، وتفرّقت بعدهما، واجتمعت في سليمان وإبليسه، وتفرّقت بعدهما، واجتمعت في عيسى وإبليسه، فلمّا غابا تفرّقت في تلاميذ عيسى وأبالستهم، ثم اجتمعت في عليّ ابن أبي طالب وإبليسه.
ثمّ أنّ الله يظهر في كلّ شيء، وكلّ معنى، وإنّه في كلّ أحد بالخاطر الذي يخطر بقلبه، فيتصوّر له ما يغيب عنه، حتّى كأنّه يشاهده؛ وإن الله اسم لمعنى وأنّ من احتاج الناس إليه فهو إلهٌ، ولهذا المعنى يستوجب كلّ أحد أن يسمّى إلهاً، وإنّ كّل أحد من أشياعه يقول: إنّه ربّ لمن هو في دون درجته، وإنّ الرجل منهم يقول: أنا ربّ لفلان، وفلان ربّ لفلان، وفلان ربّ ربّي، حتّى يقع الانتهاء إلى ابن أبي القراقر فيقول: أنا ربّ الأرباب، لا ربوبيّة بعده.
ولا ينسبون الحسن والحسين، رضي الله عنهما، إلى عليّ، كرّم الله وجهه، لأنّ من اجتمعت له الربوبيّة لا يكون له ولد، ولا والد، وكانوا يسمّون موسى ومحمّداً، صلى الله عليه وسلم، الخائنين، لأنّهمِ يدّعون أنّ هارون أرسل موسى، وعليّاً أرسل محمّداً، فخاناهما، ويزعمون أنّ عليّاَ أمهل محمّداَ عدّة سني أصحاب الكهف، فإذا انقضت هذه العدّة، وهي ثلاثمائة وخمسون سنة، انتقلت الشريعة؛ ويقولون أنّ الملائكة كلّ من ملك نفسه، وعرف الحقّ، وإنّ الجنّة معرفتهم وانتحال مذهبهم، والنار الجهل بهم، والعدول عن مذهبهم.

ويعتقدون ترك الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات، ولا يتناكحون بعقد، ويبيحون الفروج، ويقولون إنّ محمّداً، صلى الله عليه وسلم، بعث إلى كبراء قريش وجبابرة العرب، ونفوسهم أبيّة، فأمرهم بالسجود، وإنّ الحكمة الآن أن يمتحن الناس بأباحة فروج نسائهم، وإنّه يجوز أن يجامع الإنسان من شاء من ذوي رحمه، وحرم صديقه، وابنه، بعد أن يكون على مذهبه، وإنّه لا بدّ للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النور فيه، ومن امتنع من ذلك قُلب في الدور الذي يأتي بعد هذا العالم امرأةً، إذ كان مذهبهم التناسخ، وكانوا يعتقدون أهلاك الطالبيّين والعبّاسيّين، تعالى الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً.
وما أشبه هذه المقالة بمقالة النصيريّة، ولعلّها هي هي، فإن النصيرية يعتقدون في ابن الفرات،! ويجعلونه رأساً في مذهبهم.
وكان الحسين بن القاسم بالرَّقّة، فأرسل الراضي بالله إليه، فقُتل آخر ذي القعدة، وحُمل رأسه إلى بغداد.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة أرسل محمّد بن ياقوت حاجب الخليفة رسولاً إلى أبي طاهر القُرمُطيّ يدعوه إلى طاعة الخلفة، ليقرّه على ما بيده من البلاد، ويقلّده بعد ذلك ما شاء من البلدان، ويحسن إليه، ويلتمس منه أن يكفّ عن الحاجّ جميعهم، وأن يردّ الحجر الأسود إلى موضعه بمكّة، فأجاب أبو طاهر إلى أنّه لا يتعرّض للحاجّ، ولا يصيبهم بمكروه، ولم يجْب إلى ردّ الحجر الأسود إلى مكّة، وسأل أن يطلق له الميرة من البصرة ليخطب للخليفة في أعمال هجَر، فسار الحاجّ إلى مكّة وعاد ولم يتعرّض لهم القرامطة.
وفيها، في ذي القعدة، عزم محمّد بن ياقوت على المسير إلى الأهواز لمحاربة عسكر مرداويج، فتقدّم إلى الجند الحجريّة والساجيّة بالتجهّز للمسير معه، وبذل مالاً يتجهّزون به، فامتنعوا وتجمّعوا وقصدوا دار محمّد بن ياقوت، فأغلظ لهم في الخطاب، فسبّوا، ورموا داره بالحجارة، ولّما كان الغد قصدوا داره أيضاً، وأغلظوا له في الخطاب، وقاتلوا من بادره من أصحابه، فرماهم أصحابه وغلمانه بالنشاب، فانصرفوا وبطلت الحركة إلى الأهواز.
وفيها سار جماعة من أصحاب أبي طاهر القرمطي إلى نواحي تَوّج في مراكب وخرجوا منها إلى تلك الأعمال، فلمّا بعدوا عن المراكب أرسل الوالي في البلاد إلى المراكب وأحرقها، وجمع الناس وحارب القرامطة، فقتل بعضاً، وأسر بعضاً، فيهم ابن الغمر، وهو من أكابر دُعاتهم، وسيّرهم إلى بغداد أيّام القاهر، فدخلوها مشهورين، وسُجنوا، وكان من أمرهم ما ذكرناه في خلع القاهر.
وفيها قتل القاهرُ بالله إسحاق بن إسماعيل النوبختيَّ، وهو الذي أشار باستخلافه، فكان كالباحث عن حتفه بظلفه، وقتل أيضاً أبا السرايا بن حَمدان، وهو أصغر ولد أبيه؛ وسبب قتلهما أنّه أراد أن يشتري مغنّيتَيْن قبل أن يلي الخلافة، فزادا عليه في ثمنهما، فحقد ذلك عليهما، فلمّا أراد قتلهما استدعاهما للمنادمة، فتزيّنا، وتطيّبا، وحضرا عنده فأمر بإلقائهما إلى بئر في الدار، وهو حاضر، فتضرّعا وبكيا، فلم يلتفت إليهما وألقاهما فيها وطمّها عليهما.
وفيها أُحضر أبو بكر بن مُقسم ببغداد في دار سلامة الحاجب، وقيل له إنّه قد ابتدع قِراءة لم تُعرف، وأُحضر ابن مجاهد والقضاة والقراء وناظروه، فاعترف بالخطإ وتاب منه، واحترقت كتبه.
وفيها سار الدّمُسْتُق قَرَقَاش في خمسين ألفاً من الروم، فنازل مَلَطْية وحصرها مدّة طويلة، وهلك أكثر أهلها بالجوع، وضرب خيمتَيْن على إحداهما صليب، وقال: من أراد النصرانيّة انحاز إلى خيمة الصليب ليردّ عليه أهله وماله، ومن أراد الإسلام انحاز إلى الخيمة الأخرى، وله الأمان على نفسه ونبلغه مأمنه؛ فانحاز أكثر المسلمين إلى الخيمة التي عليها الصليب، طمعاً في أهليهم وأموالهم، وسيّر مع الباقين بطريقاً يبلغهم مأمنهم، وفتحها بالأمان، مستهلّ جمادى الآخرة، يوم الأحد، وملكوا سُمَيساط، وخرّبوا الأعمال، وأكثروا القتل، وفعلوا الأفاعيل الشنيعة، وصار أكثر البلاد في أيديهم.
وفيها توفّي عبد الملك بن محمّد بن عديّ أبو نُعيم الفقيه الجرجانيُّ الاستراباذيُّ، وأبو عليّ الروذباريُّ الصوفيُّ، واسمه محمّد بن أحمد بن القاسم، وقيل توفّي سنة ثلاث وعشرين.

وفيها توفّي خير بن عبدالله النسّاج الصوفيُّ من أهل سامرّا، وكان من الأبدال، ومحمّد بن عليّ بن جعفر أبو بكر الكنانيُّ الصوفيُّ المشهور، وهو من أصحاب الجُنيد، وأبي سعيد الخرّاز الخرّاز بالخاء المعجمة والراء والزاي.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة

ذكر قتل مرداويج
في هذه السنة قُتل مرداويج الديلميُّ صاحبُ بلاد الجبل وغيرها.
وكان سبب قتله أنّه كان كثير الإساءة للأتراك، وكان يقول أنّ رُوح سليمان بن داود، عليه السلام، حلّت فيه، وإنّ الأتراك هم الشياطين والمردة، فإن قهرهم، وإلاّ أفسدوا؛ فثقلت وطأته عليهم وتمنّوا هلاكه.
فلمّا كان ليلة الميلاد من هذه السنة، وهي ليلة الوَقود، أمر بأن يُجمع الحطب من الجبال والنواحي، وأن يُجعل على جانَبي الوادي المعروف بزندروذ كالمنابر والقباب العظيمة، ويُعمل مثل ذلك على الجبل المعروف بكريم كوه المشرف على أصبهان، من أسفله إلى أعلاه، بحيث إذا اشتعلت تلك الأحطاب يصير الجبل كلّه ناراً، وعمل مثل ذلك بجميع الجبال والتلال التي هناك، وأمر فجُمع له النِّفط ومن يلعب به، وعمل من الشموع ما لا يحصى، وصِيدَ له من الغِربان والحدإ زيادة على ألفَيْ طائر ليجعل في أرجلها النِّفط وترسل لتطير بالنار في الهواء، وأمر بعمل سماط عظيم كان من جملة ما فيه: مائة فرس، ومئتان من البقر مشوية، صحاحاً، سوى ما شُوي من الغنم فإنّها كانت ثلاثة آلاف رأس، سوى المطبوخ، وكان فيه من الدجاج وغيره من أنواع الطير زيادة على عشرة آلاف عدد، وعمل من ألوان الحَلواء ما لا يُحدّ، وعزم على أن يجمع الناس على ذلك السماط، فإذا فرغوا قام إلى مجلس الشراب ويشعل النيران فيتفرّج.
فلمّا كان آخر النهار ركب وحده، وغلمانه رجّالة، وطاف بالسماط ونظر إليه وإلى تلك الأحطاب، فاستحقر الجميع لسعة الصحراء، فتضجّر وغضب، ولعن من صنعه ودبّره، فخافه من حضر، فعاد ونزل ودخل خركاة له فنام، فلم يجسر أحد أن يكلّمه.
واجتمع الأمراء والقوّاد وغيرهم، وأرجفوا عليه، فمن قائل أنّه غضب لكثرته لأنّه كان بخيلاً، ومن قائل أنّه قد اعتراه جنون؛ وقيل بل أوجعه فؤاده؛ وقيل غير ذلك، وكادت الفتنة تثور.
وعرف العميد وزره صورة الحال فأتاه ولم يزل حتّى استيقظ وعرّفه ما الناس فيه، فخرج وجلس على الطعام، وأكل ثلاث لقم ثم قام ونهب الناس الباقي، ولم يجلس للشراب، وعاد إلى مكانه، وبقي في معسكره بظاهر أصبهان ثلاثة أيّام لا يظهر.
فلمّا كان اليوم الرابع تقدّم بإسراج الدوابّ ليعود من منزلته إلى داره بأصبهان، فاجتمع ببابه خلق كثير، وبقيت الدوابّ مع الغلمان، وكثر صهيلها ولعبها، والغلمان يصيحون بها لتسكن من الشغب، وكانت مزدحمة فارتفع من الجميع أصوات هائلة.
وكان مرداويج نائماً، فاستيقظ، فصعد فنظر فرأى ذلك، فسأل فعرف الحال، فازداد غضباً، وقال: أما كفى من خرق الحرمة ما فعلوه في ذلك الطعام، وما أرجعوا به، حتّى انتهى أمري إلى هؤلاء الكلاب ؟ ثم سأل عن أصحاب الدوابّ، فقيل: أنّها للغمان الأتراك، وقد نزلوا إلى خدمتك، فأمر أن تُحطّ السروج عن الدوابّ وتجعل على ظهور أصحابها الأتراك، ويأخذوا بأرسان الدوابّ إلى الإسطبلات، ومن امتنع من ذلك ضربه الدَّيلم بالمقارع حتّى يطيع، ففعلوا ذلك بهم وكانت صورة قبيحة يأنف منها أحقر الناس.
ثم ركب هو بنفسه مع خاصّته، وهو يتوعّد الأتراك، حتّى صار إلى داره قرب العِشاء، وكان قد ضرب قبل ذلك جماعة من أكابر الغلمان الأتراك، فحقدوا عليه، وأرادوا قتله، فلم يجدوا أعواناً، فلمّا جرت هذه الحادثة انتهزوا الفرصة، وقال بعضهم: ما وجه صبرنا على هذا الشيطان ؟ فاتّفقوا، وتحالفوا على الفتك به، فدخل الحمّام، وكان كورتكين، يحرسه في خلواته وحمّامه، فأمره ذلك اليوم أن لا يتبعه، فتأخرّ عنه مغضباً، وكان هو الذي يجمع الحرس، فلشدة غضبه لم يأمر أحداً أن يحضر حراسته؛ وإذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه.

وكان له أيضاً خادم أسود يتولى خدمته بالحمّام، فاستمالوه، فمال إليهم، فقالوا للخادم ألاّ يحمل معه سلاحاً، وكانت العادة أن يحمل معه خنجراً طوله نحو ذراع ملفوفاً في منديل، فلمّا قالوا ذلك للخادم قال: ما أجسر؛ فاتّفقوا على أن كسروا حديد الخنجر وتركوا النصاب في الغلاف بغير حديد، فلفّوه في المنديل كما جرت العادة لئلاَّ ينكر الحال.
فلمّا دخل مرداويج الحمّام فعل الخادم ما قيل له، وجاء خادم آخر، وهو أستاذ داره، فجلس على باب الحمّام، فهجم الأتراك إلى الحمّام، فقام أستاذ داره ليمنعهم، وصاح بهم، فضربه بعضهم بالسيف فقطع يده، فصاح بالأسود وسقط، وسمع مرداويج الضجة، فبادر إلى الخنجر ليدفع به عن نفسه، فوجده مكسوراً، فأخذ سريراً من خشب كان يجلس عليه إذا اغتسل، فترّس به باب الحمّام من داخل، ودفع الأتراك الباب، فلم يقدروا على فتحه، فصعد بعضهم إلى السطح، وكسروا الجامات، ورموه بالنشاب، فدخل البيت الحارّ، وجعل يتلطّفهم، ويحلف لهم على الإحسان، فلم يلتفتوا إليه، وكسروا باب الحمّام ودخلوا عليه فقتلوه.
وكان الذين ألّبوا الناس عليه وشرعوا في قتله توزون، وهو الذي صار أمير العساكر ببغداد وياروق، وابن بغرا، ومحمّد بن ينال الترجمان، ووافقهم بجكم، وهو الذي وليَ أمر العراق قبل توزون، وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. فلمّا قتلوه بادروا فأعلموا أصحابهم، فركبوا ونهبوا قصره وهربوا، ولم يعلم بهم الديلم لأنّ أكثرهم كانوا قد دخلوا المدينة ليلحق بهم وتخلف الأتراك معه لهذا السبب.
فلمّا علم الديلم والجيل ركبوا في أثرهم، فلم يلحقوا منهم إلاّ نفراً يسيراً وقفت دوابّهم، فقتلوهم، وعادوا لينهبوا الخزائن، فرأوا العميد قد ألقى النار فيها، فلم يصلوا إليها، فبقيت بحالها.
ومن عجيب ما يحكى أنّ العساكر في ذلك اليوم لّما رأوا غض مرداويج قعدوا يتذاكرون ما هم فيه معه من الجور، وشدّة عتوّه، وتمرّده عليهم، ودخل بينهم رجل شيخ لا يعرفه منهم أحد، وهو راكب، فقال: قد زاد أمر هذا الكافر، واليوم تكفنونه ويأخذه الله؛ ثمّ سار، فلحقت الجماعة دهشة، ونظر بعضهم في وجوه بعض، ومرّ الشيخ، فقالوا: المصلحة أنّنا نتبعه ونأخذه ونستعيده الحديث، لئلاّ يسمع مرداويج ما جرى، فلا نلقى منه خيراً؛ فتبعوه فلم يروا أحداً.
وكان مرداويج قد تجبّر قبل أن يُقتل وعتا، وعمل له كرسيّاً من ذهب يجلس عليه، وعمل كراسي من فضّة يجلس عليها أكابر قوّاده، وكان قد عمل تاجاً مرصّعاً على صفة تاج كسرى، وقد عزم على قصد العراق والاستيلاء عليه، وبناء المدائن ودور كسرى ومساكنه، وأن يخاطَب، إذا فُعل ذلك، بشاهنشاه، فأتاه أمرُ الله وهو غافل عنه، واستراح الناس من شرّه، ونسأل الله تعالى أن يريحَ الناس من كلّ ظالم سريعاً.
ولّما قُتل مرداويج اجتمع أصحابه الديلم والجيل وتشاوروا، وقالوا: إن بقينا بغير رأس هلكنا؛ فاجتمعوا على طاعة أخيه وشمكير بن زيار، وهو والد قابوس، وكان بالرَّيّ، فحملوا تابوت مرداويج، وساروا نحو الريّ، فخرج من بها من أصحابه مع أخيه وشمكير، فالتقوه على أربعة فراسخ مشاة، حفاة، وكان يوماً مشهوداً.
وأمّا أصحابه الذين كانوا بالأهواز وأعمالها فإنّهم لّما بلغهم الخبر كتموه، وساروا نحو الريّ، فأطاعوا وشمكير أيضاً، واجتمعوا عليه.
ولذما قُتل مرداويج كان ركن الدولة بن بويه رهينة عنده، كما ذكرناه، فبذل للموكّلين مالاً فأطلقوه، فخرج إلى الصحراء ليفكّ قيوده، فأقبلت بغال عليها تبن، وعليها أصحابه وغلمانه، فأُلقي التبن، وكسر أصحابه قيودَه، وركبوا الدوابّ، ونجوا إلى أخيه عماد الدولة بفارس.
ذكر ما فعله الأتراك بعد قتلهلّما قتل الأتراك مرداويج هربوا وافترقوا فرقَتيْن، ففرقة سارت إلى عِماد لدولة بن بُوَيه مع خَجخج الذي سلمه تُوزون فيما بعد، وسنذكره.

وفرقة سارت نحو الجبل مع بَجكم، وهي أكثرها، فجبَوا خراج الدّيَنور وغيرِها، وساروا إلى النَّهروان، فكاتبوا الراضي في المسير إلى بغداد، فأذن لهم، فدخلوا بغداد، فظنّ الحجريّة أنّها حيلة عليهم، فطلبوا ردّ الأتراك إلى بلد الجبل، فأمرهم ابن مُقلة بذلك، وأطلق لهم مالاً، فلم يرضوا به، وغضبوا، فكاتبهم ابن رائق، وهو بواسط، وله البصرة أيضاً، فاستدعاهم، فمضوا إليه، وقدّم عليهم بجكم، وأمره بمكاتبة الأتراك والديلم من أصحاب مرداويج، فكاتبهم، فأتاه منهم عدّة وافرة، فأحسن إليهم، وخلع عليهم، وإلى بجكم خاصّة، وأمره أن يكتب إلى الناس بجكم الرائقيّ، فأقام عنده، وكان من أمرهما ما نذكره.
ذكر حال وشمكير بعد قتل أخيهوأمّا وشمكير فإنّه لَما قُتل أخوه، وقصدته العساكر التي كانت لأخيه، وأطاعته، أقام بالريّ، فكتب الأمير نصر بن أحمد السامانيُّ إلى أمير جيشه بخُراسان، محمّد بن المظفَّر بن محتاج، بالمسير إلى قُومِس، وكتب إلى ما كان ابن كالي، وهو بكَرمان، بالمسير عنها إلى محمّد بن المظفَّر، ليقصدوا جُرجان والرَّيّ.
فسار ما كان إلى الدامغان على المفازة، فتوجّه إليه بانجين الديلميُّ، من أصحاب وشمكير، في جيش كثيف، واستمدّ ما كان محمّدَ بن المظفّر، وهو ببِسطام، فأمدّه بجمع كثير أمرهم بترك المحاربة إلى أن يصل إليهم، فخالفوه وحاربوا بانجين، فلم يتعاونوا، وتخاذلوا فهزمهم بانجين، فرجعوا إلى محمّد بن المظفّر، وخرجوا إلى جُرجان، فسار إليهم بانجين ليصدّهم عنها، فانصرفوا إلى نَيسابور وأقاموا بها وجُعلت ولايتها لما كان ابن كالي وأقام بها، وكان ذلك آخر سنة ثلاث وعشرين وأوّل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
ولّما سار ما كان عن كَرمان عاد إليها أبو عليّ محمّد بن إلياس فاستولى عليها، وصفت له بعد حروب له مع جنود نصر بكَرمان، وكان الظفر له أخيراً، وسنذكر باقي خبرهم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
ذكر القبض على ابنَيْ ياقوت
في هذه السنة، في جمادى الأولى، قبض الراضي بالله على محمّد والمظفَّر ابنَيْ ياقوت.
وكان سبب ذلك أنّ الوزير أبا عليّ بن مُقلة كان قد قلق لتحكّم محمّد بن ياقوت في المملكة بأسرها، وأنّه هو ليس له حكم في شيء، فسعى به الراضي، وأدام السعاية، فبلغ ما أراده.
فلّما كان خامس جمادى الأولى ركب جميع القوّاد إلى دار الخليفة على عادتهم، وحضر الوزير، وأظهر الراضي أنّه يريد أن يقلّد جماعة من القوّاد أعمالاً، وحضر محمّد بن ياقوت للحجبة، ومعه كاتبه أبو إسحاق القراريطيُّ، فخرج الخدم إلى محمّد بن ياقوت فاستدعوه إلى الخليفة، فدخل مبادراً، فعدلوا به إلى حجرة هناك، فحبسوه فيها، ثم استدعوا القراريطيَّ فدخل فعدلوا به إلى حجرة أُخرى، ثمّ استدعوا المظفَّر بن ياقوت من بيته، وكان مخموراً، فحضر، فحبسوه أيضاً.
وأنفذ الوزير أبو عليّ بن مُقلة إلى دار محمّد يحفظها من النهب، وكان ياقوت حينئذ مقيماً بواسط، فلمّا بلغه القبض على ابَنيه انحدر يطلب فارس ليحارب ابن بُوَيه، وكتب إلى الراضي يستعطفه، ويسأله إنفاذ ابنَيْه ليساعداه على حروبه، فاستبدّ ابن مقلة بالأمر.
ذكر حال البريديّ
وفيها قوي أمر عبدالله البريديَّ، وعظم شأنه.
وسبب ذلك أنّه كان ضامناً أعمال الأهواز، فلمّا استولى عليها عسكر مرداويج وانهزم ياقوت، كما ذكرنا، عاد البريديُّ إلى البصرة، وصار يتصرّف في أسافل أعمال الأهواز، مضافاً إلى كتابة ياقوت، وسار إلى ياقوت فأقام معه بواسط.
فلمّا قبض على ابنَيْ ياقوت كتب ابن مُقلة إلى ابن البريديّ يأمره أن يسكّن ياقوتاً، ويعرّفه أنّ الجند اجتمعوا وطلبوا القبض على ولدَيْه، فقُبضا تسكيناً للجند، وأنّهما يسيران إلى أبيهما عن قريب، وأنّ الرأي أن يسير هو لفتح فارس، فسار ياقوت من واسط على طريق السُّوس، وسار البريديُّ على طريق الماء إلى الأهواز، وكان إلى أخويه أبي الحسين وأبي يوسف ضمان السوس وجُندَيسَابور، وادّعيا أنّ دَخْل البلاد لسنة اثنتين وعشرين أخذه عسكر مرداويج، وأنّ دَخْل سنة ثلاث وعشرين لا يحصل منه شيء لأنّ نوّاب مرداويج ظلموا الناس، فلم يبق لهم ما يزرعونه.

وكان الأمر بضدّ ذلك في السنتين، فبلغ ذلك الوزير ابن مُقلة، فأنفذ نائباً له ليحقّق الحال، فواطأ ابنَي البريديّ، وكتب يصدّقهم، فحصل لهم بذلك مال عظيم، وقويت حالهم، وكان مبلغ ما أخذوه أربعة آلاف ألف دينار.
وأشار ابن البريديّ على ياقوت بالمسير إلى أرّجان لفتح فارس، وقام هو بجباية الأموال من البلاد، فحصل منها ما أراد.
فلمّا سار ياقوت إلى فارس في جموعه لقيه ابن بُويه بباب أرّجان، فانهزم أصحاب ياقوت، وبقي إلى آخرهم، ثم انهزم وسار ابن بُويه خلفه إلى رَامَهُرْمُز، وسار ياقوت إلى عسكر مُكرَم، وأقام ابن بويه برَامَهُرْمُز إلى أن وقع الصلح بينهما.
ذكر فتنة الحنابلة ببغدادوفيها عظم أمر الحنابلة، وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون من دور القوّاد والعامّة، وإن وجدوا نبيذاً أراقوه، وإن وجدوا مغنيّة ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء، ومشى الرجال مع النساء والصبيان، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه مَن هو، فأخبرهم، وإلاّ ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة، وشهدوا عليه بالفاحشة، فأرهجوا بغداد.
فركب بدر الخرشَنيُّ، وهو صاحب الشُّرطة، عاشر جمادى الآخرة، ونادى في جانبَيْ بغداد، في أصحاب أبي محمّد البربهاريّ الحنابلة، ألاّ يجتمع منهم اثنان ولا يتناظروا في مذهبهم ولا يصلّي منهم إمام إلاّ إذا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الصبح والعشاءَين، فلم يفد فيهم، وزاد شرّهم وفتنتهم، واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون المساجد، وكانوا إذا مرّ بهم شافعيُّ المذهب أغروا به العميان، فيضربونه بعصيهم، حتّى يكاد يموت.
فخرج توقيع الراضي بما يُقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم، ويوبّخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه تارة أنّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين، وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون الكفّ والأصابع والرجلَيْن والنعلَيْن المُذهّبَين، والشعر القطط، والصعود إلى السماء، والنزول إلى الدنيا، تبارك الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون، علوّاً كبيراً، ثم طعنكم على خيار الأئمّة، ونسبتكم شيعة آل محمّد، صلى الله عليه وسلم، إلى الكفر والضلال، ثمّ استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن، وإنكاركم زيارة قبور الأئمّة، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوامّ ليس بذي شرف، ولا نسب، ولا سبب برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتأمرون بزيارته، وتدّعون له معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، فلعن الله شيطاناً زيّن لكم هذه المنكرات، وما أغواه.
وأمير المؤمنين يقسم بالله قسماً جهداً إليه يلزمه الوفاء به لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقتكم ليوسعنّكم ضرباً وتشريداً، وقتلاً وتبديداً، وليستعملنّ السيف في رقابكم، والنار في منازلكم ومحالّكم.
ذكر قتل أبي العلاء بن حمدانوفيها قتل ناصرُ الدولة أبو محمّد الحسن بن عبدالله بن حَمدان عمّه أبا العلاء بن حمدان.
وسبب ذلك أنّ أبا العلاء سعيد بن حمدان ضمن الموصل وديار ربيعة سرّاً، وكان بها ناصر الدولة ابن أخيه أميراً، فسار عن بغداد في خمسين رجلاً، وأظهر أنّه متوجّه ليطلب مال الخليفة من ابن أخيه، فلمّا وصل إلى الموصل خرج ابن أخيه إلى تلقّيه، وقصد مخالفة طريقه، فوصل أبو العلاء، ودخل دار ابن أخيه، وسأل عنه فقيل: إنّه خرج إلى لقائك، فقعد ينتظره، فلمّا علم ناصر الدولة بمقامه في الدار أنفذ جماعة من غلمانه، فقبضوا عليه ثم أنفذ جماعة غيرهم فقتلوه.
ذكر مسير ابن مقلة إلى الموصل وما كان بينه وبين ناصر الدولةلّما قتل ناصر الدولة عمّه أبا العلاء واتّصل خبره بالراضي عظم ذلك عليه وأنكره، وأمر ابن مُقلة بالمسير إلى الموصل، فسار إليها في العسكر، في شعبان، فلمّا قارها رحل عنها ناصر الدولة بن حَمدان، ودخل الزَّوَزَان، وتبعه الوزير إلى جبل التِّنّين، ثم عاد عنه وأقام بالموصل يجبي مالها.

ولما طال مقامه بالموصل احتال بعض أصحاب ابن حمدان على ولد الوزير، وكان ينوب عنه في الوزارة ببغداد، فبذل له عشرة آلاف دينار ليكتب إلى أبيه يستدعيه، فكتب إليه يقول إنّ الأمور بالحضرة قد اختلّت، وإن تأخّر لم يأمن حدوث ما يبطل به أمرهم، فانزعج الوزير لذلك، واستعمل على الموصل عليَّ بن خلف بن طباب وماكرد الديلميَّ، وهو من الساجيّة، وانحدر إلى بغداد منتصف شوّال.
فلمّا فارق الموصل عاد إليها ناصر الدولة بن حمدان فاقتتل هو وماكرد الديلميُّ، فانهزم ابن حمدان، ثم عاد وجمع عسكراً آخر، فالتقوا على نصيبين في ذي الحجّة، فانهزم ماكرد إلى الرَّقّة، وانحدر منها إلى بغداد، وانحدر أيضاً ابن طبّاب، واستولى ابن حمدان على الموصل والبلاد، وكتب إلى الخليفة يسأله الصفح، وأن يضمن البلاد، فأُجيب إلى ذلك واستقرّت البلاد عليه.
ذكر فتح جنوة وغيرهافي هذه السنة سيّر القائم العلويُّ جيشاً من إفريقية في البحر إلى ناحية افرنج، ففتحوا مدينة جَنوة ومرّوا بسَردَانية فأوقعوا بأهلها، وأحرقوا مراكب كثيرة، ومرّوا بقَرقِيسيا فأحرقوا مَراكبها وعادوا سالمين.
ذكر القرامطةفي هذه السنة خرج الناس إلى الحجّ، فلمّا بلغوا القادسية اعترضهم أبو طاهر القُرمُطيُّ ثاني عشر ذي القعدة، فلم يعرفوه، فقاتله أصحاب الخليفة، وأعانهم الحجّاج، ثم التجأوا إلى القادسية، فخرج جماعة من العلويّين بالكوفة إلى أبي طاهر، فسألوه أن يكفّ عن الحجّاج، فكفّ عنه من وشرط عليهم أن يرجعوا إلى بغداد، فرجعوا، ولم يحجّ بهذه السنة من العراق أحد، وسار أبو طاهر إلى الكوفة فأقام بها عدّة أيّام ورحل عنها.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة، في المحرّم، قلّد الراضي بالله ولدَيه أبا جعفر وأبا الفضل ناحيتَي المشرق والمغرب ممّا بيده، وكتب بذلك إلى البلاد.
وفيها، في ليلة الثاني عشر من ذي القعدة، وهي الليلة التي أوقع القُرمُطيُّ بالحجّاج، انقضّت الكواكب من أوّل الليل إلى آخره انقضاضاً دائماً مسرفاً جدّاً لم يُعهد مثله.
وفيها مات أبو بكر محمّد بن ياقوت، في الحبس، بنفث الدم، فأحضر القاضي والشهود، وعُرض عليهم، فلم يروا به أثر ضرب ولا خنق، وجذبوا شعره فلم يكن مسموماً، فسُلّم إلى أهله، وأخذوا ماله وأملاكه ومعامليه ووكلاءه وكلّ من يخالطه.
وفيها كان بخراسان غلاء شديد، ومات من أهلها خلق كثير من الجوع، فعجز الناس عن دفنهم، فكانوا يجمعون الغرباء والفقراء في دار إلى أن يتهيّأ لهم تكفينهم ودفنهم.
وفيها جهّز عماد الدولة بن بويه أخاه ركن الدولة الحسن إلى بلاد الجبل، وسيّر معه العساكر بعد عوده لّما قُتل مرداويج، فسار إلى أصبهان، فاستولى عليها، وأزال عنها وعن عدّة من بلاد الجبل نوّاب وشمكير، وأقبل وشمكير وجهّز العساكر نحوه، وبقي هو ووشمكير يتنازعان تلك البلاد، وهي أصبهان، وهَمَذان، وقُمّ، وقاجَان، وكرَج، والرَّيّ، وكنكور، وقَزوين وغيرها.
وفيها، في آخر جمادى الآخرة، شغب الجند ببغداد، وقصدوا دار الوزير أبي عليّ بن مقلة وابنه، وزاد شغبهم، فمنعهم أصحاب ابن مقلة، فاحتال الجند ونقبوا دار الوزير من ظهرها، ودخلوها، وملكوها وهرب الوزير وابنه إلى الجانب الغربيّ، فلمّا سمع الساجيّة بذلك ركبوا إلى دار الوزير، ورفقوا بالجند فردّوهم، وعاد الوزير وابنه إلى منازلهما.
واتّهم الوزير بإثارة هذه الفتنة بعض أصحاب ابن ياقوت، فأمر فنودي أن لا يقيم أحد منهم بمدينة السلام، ثم عاود الجند الشغب حادي عشر ذي الحجّة، ونقبوا دار الوزير عدّة نقوب، فقاتلهم غلمانه ومنعوهم، فركب صاحب الشُّرطة، وحفظ السجون حتّى لا تُفتح، ثم سكنوا من الشغب.
وفي هذه السنة أُطلق المظفَّر بن ياقوت من حبس الراضي بالله بشفاعة الوزير ابن مقلة، وحلف للوزير أنّه يواليه ولا ينحرف عنه، ولا يسعى له ولا لولده بمكروه، فلم يفِ له ولا لولده ووافق الحجريّة عليه، فجرى في حقّه ما يكره.
وكان المظفَّر حقد على الوزير حين قُتل أخوه لأنّه اتّهمه أنّه سمّه.

وفيها أرسل ابن مقلة رسولاً إلى محمّد بن رائق بواسط، وكان قد قطع الحمل عن الخليفة، فطالبه بارتفاع البلاد واسط والبصرة وما بينهما، فأحسن إلى الرُّسل وردّهم برسالة ظاهرة إلى ابن مقلة مغالطة، وأخرى باطنة إلى الخليفة الراضي بالله وحده، مضمونها أنّه إن استدعي إلى الحضرة وفُوّضت إليه الأمور وتدبير الدولة قام بكلّ ما يحتاج إليه من نفقات الخليفة وأرزاق الجند، فلمّا سمع الخليفة الرسالة لم يُعد إليه جوابها.
وفيها توفّي أبو عبد الله محمّد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس الهذليُّ من ولد عتبة بن مسعود بالكوفة، وهو من نَيسابور، وإبراهيم بن محمّد بن عرفة المعروف بنفطويه النحويّ، وله مصنّفات، وهو من ولد المهلَّب بن أبي صُفرة.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة

ذكر القبض على ابن مقلة
ووزارة عبد الرحمن بن عيسى
لّما عاد الرُّسل من عند ابن رائق بغير مال رأى الوزير أن يسيّر ابنه، فتجهّز، وأظهر أنّه يريد الأهواز، فلمّا كان منتصف جمادى الأولى حضر الوزر دار الراضي لينفذ رسولاً إلى ابن رائق يُعرّفه عزمه على قصد الأهواز لئلاّ يستوحش لحركته فيحتاط، فلمّا دخل الدار قبض عليه المظفَّر بن ياقوت والحجريّة، وكان المظفَّر قد أُطلق من محبسه على ما نذكره.
ووجهوا إلى الراضي يعرّفونه ذلك، فاستحسن فعلهم، واختفى أبو الحسين بن أبي عليّ بن مقلة وسائر أولاده وحُرَمه وأصحابه، وطلب الحجريّة والساجيّة من الراضي أن يستوزر وزيراً، فردّ الأختيار إليهم، فأشاروا بوزارة عليّ بن عسى، فأحضره الراضي للوزارة، فامتنع وأشار بأخيه عبد الرحمن فاستوزره، وسلّم إليه ابن مقلة فصادره وصرف بدراً الخَرشنيَّ عن الشُّرطة، ثم عجز عبد الرحمن عن تمشية الأمور وضاق عليه، فاستعفى من الوزارة.
ذكر القبض على عبد الرحمنووزارة أبي جعفر الكَرخيّ
لّما ظهر عجز عبد الرحمن للراضي، ووقوف الأمور، قبض عليه وعلى أخيه عليّ بن عيسى، فصادره على مائة ألف دينار، وصادر أخاه عبد الرحمن بسبعين ألف دينار.
ذكر قتل ياقوتوفي هذه السنة قُتل ياقوت بعسكر مُكَرم. وكان سبب قتله ثقته بأبي عبدالله البريديّ فخانه، وقابل إحسانه بالإساءة على ما نذكره.
وقد ذكرنا أنّ أبا عبدالله ارتسم بكتابة ياقوت مع ضمان الأهواز، فلمّا كتب إليه وثق به وعوّل على ما يقوله، وكان إذا قيل له شيء في أمره وخُوّف من شرّه يقول: أنّ أبا عبدالله ليس كما تظنّون، لأنّه لا يحدّث نفسه بالإمرة، وقود العساكر، وإنّما غايته الكتابة. فاغترّ بهذا منه.
وكان، رحمه الله، سليم القلب، حسن الاعتقاد، فلهذا لم يخرج عن طاعة الخليفة حين قبض على ولدَيْه بل دام على الوفاء.
فأمّا حاله مع البريديّ، فإنّه لّما عاد مهزوماً من عماد الدولة بن بويه إلى عسكر مُكرَم كتب إليه أبو عبدالله أن يقيم بعسكر مُكرَم ليستريح، ويقع التدبير بعد ذلك، وكان بالأهواز، وهو يكره الاجتماع معه في بلد واحد، فسمع ياقوت قوله وأقام، فأرسل إليه أخاه أبا يوسف البريديَّ يتوجّع له ويهنّيه بالسلامة، وقرّر القاعدة على أن يحمل له أخوه من مال الأهواز خمسين ألف دينار، واحتجّ بأنّ عنده من الجند خلقاً كثيراً منهم البربر، والشفيعيّة، والنازوكيّة، والبليقيّة، والهارونيّة. كان ابن مقلة قد ميّز هذه الأصناف من عسكر بغداد وسيّرهم إلى الأهواز ليخفّ عليه مؤونتهم، فذكر أبو يوسف أنّ هؤلاء متى رأوا المال يخرج عنهم إليك شغبوا، ويحتاج أبو عبدالله إلى مفارقة الأهواز، ثم يصير أمرهم إلى أنّهم يقصدونك ولا نعلم كيف يكون الحال؛ ثم قال له: إنّ رجالك مع سوء أثرهم يقنعون بالقليل.
فصدّقه ياقوت فيما قال، وأخذ ذلك المال وفرّقه، وبقي عدّة شهور لم يصله منه شيء، إلى أن دخلت سنة أربع وعشرين فضاق الرزق على أصحاب ياقوت، واستغاثوا، وذكروا ما فيه أصحاب البريديّ بالأهواز من السعة، وما هم فيه من الضيق.
وكان قد اتّصل بياقوت طاهر الجيليُّ، وهو من كبار أصحاب ابن بويه، في ثمانمائة رجل، وهو من أرباب المراتب العالية، وممّن يسمو إلى معالي الأمور.

وسبب اتّصاله به خوفه من ابن بويه أن يقبض عليه خوفاً منه، فلمّا رأى حال ياقوت انصرف عنه إلى غربيّ تُستَر، وأراد أن يتغلّب على ماه البصرة، وكان معه أبو جعفر الصَّيمريُّ، وهو كاتبه، فسمع به عماد الدولة بن بويه، فكبسه، فانهزم هو وأصحابه، واستولى ابن بويه على عسكره وغنمه، وأسر الصَّيمريَّ، فأطلقه الخيّاط وزير عماد الدولة بن بويه، فمضى إلى كَرمان، واتّصل بالأمير معزّ الدولة أبي الحسن بن بويه وكان ذلك سبب أقباله.
فلمّا سار طاهر من عند ياقوت ضعفت نفسه، واستطال عليه أصحابه، فخافهم، وراسل البريديَّ، وعرّفه ما هو فيه، وأعلمه أنّ معوّله على ما يدبّره به، فأنفذ إليه البريديُّ يقول: إنّ عسكرك قد فسدوا، وفيهم مَن ينبغي أن يخرج، والرأي أن يُنفذهم إليه ليستصلحهم، فإنّه له أشغال تمنعه أن يحضر عنده، ولبو حضر عنده، والجند مجتمعون، لم يتمكّن منه الانتصاف منهم لأنّهم يظاهر بعضهم بعضاً، وإذا حضروا عنده بالأهواز متفرّقين فعل بهم ما أراد ولا يمكنهم خلافه.
ففعل ذلك ياقوت، وأنفذ أصحابه إليه، فاختار منهم مَن أراد لنفسه، وردّ مَن لا خير فيه إلى ياقوت، بعد أن كسرهم وأسقط من أرزاقهم، فقيل ذلك لياقوت، فأشير عليه بمعاجلة البريديّ قبل أن يستفحل أمره، فلم يلتفت وقال: إنّما جعلتُهم عنده عدّة لي.
وأحسن البريديُّ إلى من عنده من الجند، فقال أصحاب ياقوت له في ذلك، وطلوا أرزاقهم التي قرّرها البريديُّ، فكتب إليه فلم ينفذ شيئاً، فراجعه فلم ينفذ شيئاً، فسار ياقوت إليه جريدة لئلاّ يستوحش منه، فلمّا بلغه ذلك خرج إلى لقائه، وقبّل يده وقدمه، وأنزله داره، وقام بين يديه، وقدّم بنفسه الطعام ليأكل.
وكان قد وضع الجند على إثارة الفتنة، فحضروا الباب وشغبوا واستغاثوا، فسأل ياقوت عن الخبر، فقيل له: إن الجند بالأبواب قد شغبوا، ويقولون قد اصطلح ياقوت والبريديُّ، ولا بدّ لنا من قتل ياقوت؛ فقال له البريديُّ: قد ترى ما دُفعنا إليه، فانجُ بنفسك وإلاّ قُتلنا جميعاً ! فخرج من باب آخر خائفاً يترقّب، ولم يفاتح البريديَّ بكلمة واحدة، وعاد إلى عسكر مُكرَم؛ فكتب إليه البريديُّ يقول له: إنّ العسكر الذين شغبوا قد اجتهدتُ في إصلاحهم وعجزتُ عن ذلك، ولست آمنهم أن يقصدوك، وبين عسكر مُكرَم والأهواز ثمانية فراسخ، والرأي أن تتأخّر إلى تُستَر لتبعد عنهم، وهي حصينة؛ وكتب له على عامل تُستَر بخمسين ألف دينار.
فسار ياقوت إليها، وكان له خادم اسمه مؤنس، فقال: أيّها الأمير أن البريديَّ يحزُّ مفاصلنا ويفعل بنا ما ترى، وأنت مُغْتَرّ به، وهو الذي وضع الجند بالأهواز حتّى فعلوا ذلك، وقد شرع في إبعادك بعد أن أخذ وجوه أصحابك، وقد أطلق لك ما لا يقو بأوَد أصحابك الذين عندك، وما أعطاك ذلك أيضاً إلاّ حتّى تتبلّغ به، وتضيق الأرزاق علينا، ويفنى ما لنا من دابّة وعُدّة فننصرف عنك على أقبح حالٍ، فحينئذ يبلغ منك ما يريده، فاحفظ نفسك منه، ولا تأمنه، ولم يثق للجند الحجريّة ببغداد شيخ غيرك، وقد كاتبوك، فسِرْ إليهم، فكلّ من ببغداد يسلّم إليك الرئاسة، فإن فعلتَ، وإلاّ فسرْ بنا إلى الأهواز لنطرد البريديَّ عنها وإن كان أكثر منّا، فأنت أمير وهو كاتب.
فقال: لا تقُل في أبي عبدالله هذا، فلو كان لي أخ ما زاد على محبّته.
ثم إنّ ياقوتاً ظهر منه ما يدلّ على ضعفه وعجزه عن البريديّ، فضعفت نفوس أصحابه، وصار كلّ ليلة يمضي منهم طائفة إلى البريديّ، فإذا قيل ذلك لياقوت يقول: إلى كاتبي يمضون؛ فلم يزل كذلك حتّى بقي ثمانمائة رجل.
ثم إنّ الراضي قبض على المظفَّر بن ياقوت في جمادى الأولى، وسجنه أسبوعاً ثم أطلقه وسيّره إلى أبيه، فلمّا اجتمع به بتُستَر أشار عليه بالمسير إلى بغداد، فإن دخلها فقد حصل له ما يريد، وإلاّ سار إلى الموصل وديار ربيعة فاستولى عليها، فلم يسمع منه، ففارقه ولده إلى البريديّ، فأكرمه وجعل مؤكَّلين يحفظونه.

ثم إنّ البريديَّ خاف مَن عنده من أصحاب ياقوت أن يعاودوا الميل والعصبية له، وينادوا بشعاره، فيهلك، فأرسل إلى ياقوت يقول له: إن كتاب الخليفة ورد عليّ يأمرني أن لا أتركك تقيم بهذه البلاد، وما يمكنني مخالفة السلطان، وقد أمرني أن أخيّرك إمّا أن تمضي إلى حضرته في خمسة عشر غلاماً، وإمّا إلى بلاد الجبل ليولّيك بعض الأعمال، فإن خرجتَ طائعاً، وإلاّ أخرجتُك قهراً.
فلمّا وصلت الرسالة إلى ياقوت تحيّر في أمره، واستشار مؤنساً غلامه، فقال له: قد نهيتُك عن البريديّ وما سمعتَ، وما بقي للرأي وجه؛ فكتب ياقوت يستمهله شهراً ليتأهّب، وعلم حينئذٍ خبث البريديّ حيث لا ينفعه علمه.
فلمّا وصل كتاب ياقوت يطلب المهلمة أجابه أنّه لا سبيل إلى المهلة، وسيّر العساكر من الأهواز إليه، فأرسل ياقوت الجواسيس ليأتوه بالأخبار، فظفر البريديُّ بجاسوس، فأعطاه مالاً على أن يعود إلى ياقوت ويخبره أن البريديَّ وأصحابه قد وافوا عسكر مُكرَم، ونزلوا في الدور متفرّقين مطمئنّين، فمضى الجاسوس وأخبر ياقوتاً بذلك، فأحضر مؤنساً وقال: قد ظفرنا بعدوّنا وكافر نعمتنا؛ وأخبره بما قال الجاسوس، وقال: نسير من تُستَر العتمة، ونصبح عسكر مُكرَم وهو غارّون، فنكبسهم في الدور، فإن وقع البريديُّ فالله مشكور، وإن هرب اتّبعناه.
فقال مؤنس: ما أحسن هذا أن صحّ وأن كان الجاسوس صادقاً ! فقال ياقوت: إنّه يحبّني ويتولاّني وهو صادق؛ فسار ياقوت فوصل إلى عسكر مُكَرم طلوع الشمس، فلم يرَ للعسكر أثراً، فعبر البلد إلى نهر جارود، وخيّم هناك، وبقي يومه ولا يرى لعسكر البريديّ أثراً، فقال له مؤنس: إنّ الجاسوس كذبنا، وأنت تسمع كلام الكاذبين، وإنّني خائف عليك.
فلمّا كان بعد العصر أقبلت عساكر البريديّ، فنزلوا على فرسخ من ياقوت، وحجز بينهم الليل، وأصبحوا الغد، فكانت بينهم مناوشة، واتّعدوا للحرب الغد.
وكان البريديُّ قد سيّر عسكراً من طريق أخرى ليصيروا وراء ياقوت من حيث لا يشعر، فيكون كميناً يظهر عند القتال فهم ينتظرونه، فلمّا كان الموعد باكروا القتال، فاقتتلوا من بُكرة إلى الظهر، وكان عسكر البريديّ قد أشرف على الهزيمة مع كثرتهم، وكان مقدّمهم أبا جعفر الحمّال. فلمّا جاء الظُّهر ظهر الكمين من وراء عسكر ياقوت، فردّ إليهم مؤنساً في ثلاثمائة رجل، فقاتلهم وهم في ثلاثة آلاف رجل، فعاد مؤنس منهزماً، فحينئذ انهزم أصحاب ياقوت، وكانوا، سوى الثلاثمائة، خمسمائة، فلمّا رأى ياقوت ذلك نزل عن دابّته، وألقى سلاحه، وجلس بقميص إلى جانب جدار رِباط. ولو دخل الرباط واستتر فيه لخفي أمره، وكان أدركه الليل، فربّما سلم، ولكنّ الله إذا أراد أمراً هيّأ أسبابه، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
فلمّا جلس مع الحائط غطى وجهه بكمّه، ومدّ يده كأنّه يتصدّق ويستحيي أن يكشف وجهه، فمرّ به قوم من البربر من أصحاب البريديّ فأنكروه، فأمروه بكشف وجهه فامتنع، فنخسه أحدهم بمزارق معه، فكشف وجهه وقال: أنا ياقوت، فما تريدون منّي ؟ احملوني إلى البريديّ؛ فاجتمعوا عليه فقتلوه وحملوا رأسه إلى العسكر، وكتب أبو جعفر الحمّال كتاباً إلى البريديّ على جناح طائر يستأذنه في حمل رأسه إلى العسكر، فأعاد الجواب بأعادة الرأس إلى الجثة وتكفينه ودفنه، وأُس غلامه مؤنس وغيره من قوّاده فقُتلوا، وأرسل البريديّ إلى تُستَر فحمل ما فيها لياقوت من جوارٍ ومال وغير ذلك، فلم يظهر لياقوت غير اثني عشر ألف دينار، فحُمل الجميع إليه، وقبض على المظفَّر بن ياقوت فبقي في حبس البريديّ مدّة ثم نفذه إلى بغداد.
وتجبّر البريديُّ بعد قتل ياقوت وعصى، وقد أطلنا في ذكر هذه الحادثة وأنّما ذكرناها على طولها لما فيها من الأسباب المحرِّضة على الاحتياط والاحتراز، فإنّها من أوّلها إلى آخرها فيها تجارب وأمور يكثر وقوع مثلها.
ذكر عزل أبي جعفر

ووزارة سليمان بن الحسن
لّما تولّى الوزير أبو جعفر الكرخيُّ، على ما تقدّم، رأى قلّة الأموال وانقطاع الموادّ، فازداد عجزاً إلى عجزه، وضاق عليه الأمر.

وما زالت الإضافة تزيد، وطمع مَن بين يديه من المعاملين فيما عنده من الأموال، وقطع ابن رائق حمل واسط والبصرة، وقطع البريديُّ حمل الأهواز وأعمالها، وكان ابن بويه قد تغلّب على فارس، فتحيّر أبو جعفر، وكثرت المطالبات عليه، ونقصت هيبته، واستتر بعد ثلاثة أشهر ونصف من وزارته، فلمّا استتر استوزر الراضي أبا القاسم سليمان بن الحسن، فكان في الوزارة كأبي جعفر في وقوف الحال وقلّة المال.
ذكر استيلاء ابن رائق على أمر العراق وتفرّق البلاد
لّما رأى الراضي وقوف الحال عنده ألجأته الضرورة إلى أن راسل أبا بكر محمّد بن رائق، وهو بواسط، يعرض عليه إجابته إلى ما كان بذله من القيام بالنفقات وأرزاق الجند ببغداد، فلمّا أتاه الرسول بذلك فرح به، وشرع يتجهّز للمسير إلى بغداد، فأنفذ إليه الراضي الساجيّة، وقلّده إمارة الجيش، وجعله أمير الأمراء، وولاّه الخراج والمعاون في جميع البلاد والدواوين، وأمر بأن يخطب له على جميع المنابر، وأنفذ إليه الخِلَع.
وانحدر إليه أصحاب الدواوين والكتّاب والحجّاب، وتأخّر الحجريّة عن الانحدار، فلمّا استقرّ الذين انحدروا إلى واسط قبض ابن رائق على الساجيّة سابع ذي الحجّة، ونهب رحلهم ومالهم ودوابّهم، وأظهر أنّه إنّما فعل ذلك لتتوفّر أرزاقهم على الحجريّة، فاستوحش الحجريّة من ذلك وقالوا: اليوم لهؤلاء وغداً لنا؛ وخيّموا بدار الخليفة، فأُصعد ابن رائق إلى بغداد ومعه بجكم، وخلع الخليفة عليه أواخر ذي الحجّة، وأتاه الحجريّة يسلّمون عليه، فأمرهم بقلع خيامهم، فقلعوها وعادوا إلى منازلهم.
وبطلت الدواوين من ذلك الوقت، وبطلت الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من الأمور إنما كان ابن رائق وكاتبه ينظران في الأمور جميعها، وكذلك كلّ من تولّى إمرة الأمراء بعده، وصارت الأموال تُحمل إلى خزائنهم فيتصرّفون فيها كما يريدون ويطلقون للخليفة ما يريدون، وبطلت بيوت الأموال، وتغلب أصحاب الأطراف، وزالت عنهم الطاعة، ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها، والحكم في جميعها لابن رائق ليس للخليفة حكم.
وأمّا باقي الأطراف فكانت البصرة في يد ابن رائق؛ وخوزستان في يد البريديّ؛ وفارس في يد عماد الدولة بن بويه؛ وكرمان في يد أبي عليّ محمّد بن إلياس؛ والرَّيّ وأصبهان والجبل في يد ركن الدولة بن بويه ويد وشمكر أخي مرداوجي يتنازعان عليها؛ والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد بني حَمدان؛ ومصر والشام في يد محمّد بن طُغْج؛ والمغرب وإفريقية في يد أبي القاسم القائم بأمر الله بن المهديّ العلويّ، وهو الثاني منهم، ويلقّب بأمير المؤمنين؛ والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمّد الملقّب بالناصر الأموي؛ وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن أحمد السامانيّ؛ وطبرستان وجُرجان في يد الديلم؛ والبحرين واليمامة في يد أبي طاهر القُرمُطيّ.
ذكر مسير مُعزّ الدولة بن بويه إلى كرمان وما جرى عليه بها
في هذه السنة سار أبو الحسين أحمد بن بُويه، الملقّب بمُعزّ الدولة، إلى كَرمان.
وسبب ذلك أنّ عماد الدولة بن بويه وأخاه ركن الدولة لّما تمكّنا من بلاد فارس وبلاد الجبل، وبقي أخوهما الأصغر أبو الحسين أحمد بغير ولاية يستبدّ بها، رأيا أن يسيّراه إلى كَرمان، ففعلا ذلك، وسار إلى كَرمان في عسكر ضخم شجعان،؛ فلمّا بلغ السيرجان استولى عليها، وجبى أموالها وأنفقها في عسكره.
وكان إبراهيم بن سيمجور الدواتيُّ يحاصر محمّد بن إلياس بن ألِيسع بقلعة هناك، بعساكر نصر بن أحمد صاحب خُراسان، فلمّا بلغه إقبال معزّ الدولة سار عن كَرمان إلى خُراسان، ونفّس عن محمّد بن إلياس، فتخلّص من القلعة، وسار إلى مدينة بَمّ، وهي على طرف المفازة بين كَرمان وسِجشسْتان، فسار إليه أحمد بن بويه، فرحل من مكانه إلى سِجِسْتان بغير قتال، فستار أحمد إلى جِيرَفْت، وهي قصبة كَرمان، واستخلف على بَمّ بعض أصحابه.

فلمّا قارب جِيرفت أتاه رسول عليّ بن الزنجيّ المعروف بعليّ كلويه، وهو رئيس القُفْص، والبَلُوص، وكان هو وأسلافه متغلّبين على تلك الناحية، إلاّ أنّهم يجاملون كلّ سلطان يرد البلاد، ويطيعونه، ويحملون إليه مالاً معلوماً ولا يطأون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع أحمد من قبوله إلاّ بعد جِيرَفت، فتأخّر عليُّ بن كلويه نحو عشرة فراسخ، ونزل بمكان صعب المسلك، ودخل أحمد بن بويه جِيرَفت واصطلح هو وعليّ، وأخذ رهائنه وخطب له.
فلمّا استقرّ الصلح وانفصل الأمر أشار بعض أصحاب ابن بويه عليه بأن يقصد عليّاً ويغدر به، ويسري إليه سرّاً على غفلة، وأطمعه في أمواله، وهوّن عليه أمره بسكونه إلى الصلح، فأصغى الأمير أبو الحسين أحمد إلى ذلك، لحداثة سنّه، وجمع أصحابه وأسرى نحوهم جريدة.
وكان عليّ محترزاً ومَن معه قد وضعوا العيون على ابن بويه، فساعة تحرّك بلغتْه الأخبار، فجمع أصحابه ورتّبهم بمضيق على الطريق، فلمّا اجتاز بهم ابن بويه ثاروا به ليلاً من جوانبه، فقتلوا في أصحابه، وأسروا، ولم يُفلت منهم إلاّ اليسير، ووقعت بالأمير أبي الحسين ضربات كثيرة، ووقعت ضربة منها في يده اليسرى فقطعتها من نصف الذراع، وأصاب يده اليمنى ضربة أخرى سقط منها بعض أصابعه، وسقط مثخناً بالجراح بين القتلى، وبلغ الخبر بذلك إلى جِيرَفت فهرب كلّ من كان بها من أصحابه.
ولّما أصبح عليّ كلويه تتّبع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين قد أشرف على التلف، فحمله إلى جِيرَفت، وأحضر له الأطباء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رسله يعتذر إلى أخيه عماد الدولة بن بويه، ويعرّفه غدر أخيه، ويبذل من نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقرّ بينهما الصلح، وأطلق عليّ كلّ مَن عنده من الأسرى وأحسن إليهم.
ووصل الخبر إلى محمّد بن إلياس بما جرى على أحمد بن بويه، فسار من سِجِستان إلى البلد المعروف بجنّابة، فتوجّه إليه ابن بويه، وواقعه ودامت الحرب بينهما عدّة أيّام، فانهزم ابن إلياس، وعاد أحمد بن بويه ظافراً، وسار نحو عليّ كلويه لينتقم منه، فلمّا قاربه أسرى إليه في أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلاً في ليلة شديدة المطر، فأثّروا فيهم وقتلوا ونهبوا وعادوا، وبقي ابن بويه باقي ليلته؛ فلمّا أصبح سار نحوهم، فقتل منهم عدداً كثيراً، وانهزم عليّ كلويه.
وكتب ابن بويه إلى أخيه عماد الدولة بما جرى له معه ومع ابن إلياس وهزيمته، فأجابه أخوه يأمره بالوقوف بمكانه ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائداً من قوّاده يأمره بالعود إليه إلى فارس، ويُلزمه بذلك، فعاد إلى أخيه، وأقام عنده بإصطَخْر إلى أن قصدهم أبو عبدالله البريديُّ منهزماً من ابن رائق وبجكم، فأطمع عماد الدولة في العراق، وسهّل عليه ملكه، فسيّر معه أخاه معزّ الدولة أبا الحسين، على ما نذكره سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة.
ذكر استيلاء ما كان على جُرجان
وفي هذه السنة استولى ما كان بن كالي على جُرجان.
وسبب ذلك أنّنا ذكرنا أوّلاً ما كان لّما عاد من جرجان أقام بنَيسابور، وأقام بانجين بجُرجان، فلمّا كان بعد ذلك خرج بانجين يلعب بالكرة، فسقط عن دابّته فوقع ميّتاً.
وبلغ خبره ما كان بن كالي، وهو بنَيسابور، وكان قد استوحش من عارض جيش خراسان، فاحتجّ على محمّد بن المظفّر صاحب الجيش بخراسان بأنّ بعض أصحابه قد هرب منه، وأنّه قد يخرج في طلبه، فأذن له في ذلك، وسار عن نَيسابور إلى أسفرايين، فأنفذ جماعة من عسكره إلى جُرجان واستولوا عليها، فأظهر العصيان على محمّد بن المظفَّر، وسار من أسفرايين إلى نَيسابور، مغافصةً، وبها محمّد بن المظفّر، فخذل محمّداً أصحابُه ولم يعاونوه، وكان في قلّة من العسكر غير مستعدّ له، فسار نحو سَرْخَس، وعاد ما كان من نَيسابور خوفاً من اجتماع العساكر عليه، وكان ذلك في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
ذكر وزراة الفضل بن جعفر للخليفةوفيها كتب ابن رائق كتاباً عن الراضي إلى أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفُرات يستدعيه ليجعله وزيراً، وكان يتولّى الخراج بمصر والشام؛ وظنّ ابن رائق أنّه إذا استوزره جبى له أموال الشام ومصر، فقدم إلى بغداد، ونفذت له الخلع قبل وصوله، فلقيته بهَيْت، فلبسها ودخل بغداد، وتولّى وزراة الخليفة ووزارة ابن رائق جميعاً.

ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة قلّد الراضي محمّدَ بن طُغْج أعمال مصر مضافاً إلى ما بيده من الشام، وعزل أحمد بن كَيْغَلَغ عن مصر.
وفيها انخسف القمر جميعه ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من ربيع الأوّل، وانخسف جميعه أيضاً لأربع عشرة خلت من شوّال.
وفيها قُبض على أبي عبدالله بن عبدوس الجهشياريّ، وصودر على مائتَيْ ألف دينار.
وفيها وُلد عضد الدولة أبو شجاع فنّاخَسرُو بن ركن الدولة أبي عليّ الحسن بن بويه بأصبهان.
وفيها توفّي أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، المعروف بجحظه، وله شِعر مطبوع، وكان عارفاً بفنون شتّى من العلوم.
وفيها توفّي أبو بكر أحمد بن موسى بن العبّاس بن مجاهد في شعبان، وكان إماماً في معرفة القراءات؛ وعبد الله بن أحمد بن محمّد بن المغلِّس أبو الحسن الفقيه الظاهريُّ، صاحب التصانيف المشهورة.
وفيها توفّي عبدالله بن محمّد بن زياد بن واصل أبو بكر النَّيسابوريُّ الفقيه الشافعيُّ في ربيع الأوّل، وكان مولده سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وكان قد جالس الربيع بن سليمان والمزنيَّ ويونس بن عبد الأعلى أصحاب الشافعيّ، وكان إماماً.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة

ذكر مسير الراضي بالله إلى حرب البريدي
ّ
في هذه السنة أشار محمّد بن رائق على الراضي بالله بالانحدار معه إلى واسط ليقرب من الأهواز، ويراسل أبا عبدالله بن البريديّ، فإن أجاب إلى ما يطلب منه، وإلاّ قرّب قصده عليه، فأجاب الراضي إلى ذلك، وانحدر أوّل المحرّم، فخالف الحجريّة وقالوا: هذه حيلة علينا ليعمل بنا مثل ما عمل بالساجيّة؛ فلم يلتفت ابن رائق إليهم، وانحدر، وتبعه بعضهم، ثمّ انحدروا بعده، فلمّا صاروا بواسط اعترضهم ابن رائق، فأسقط أكثرهم، فاضطروا وثاروا، فقاتلهم قتالاً شديداً، فانهزم الحجريّة، وقتل منهم جماعة.
ولّما وصل المنهزمون إلى بغداد ركب لؤلؤ صاحب الشُّرطة ببغداد ولقيهم، فأوقع بهم، فاستتروا، فنُهبت دورهم، وقُبضت أموالهم وأملاكهم، وقُطعت أرزاقهم.
فلّما فرغ منهم ابن رائق قتل من كان اعتقله من الساجيّة سوى صافي الخازن، وهارون بن موسى، فلّما فرغ أخرج مضاربه ومضار الراضي نحو الأهواز لإجلاء ابن البريديّ عنها، فأرسل إليه في معنى تأخير الأموال، وما قد ارتكبه من الاستبداد بها وإفساد الجيوش وتزيين العصيان لهم، إلى غير ذلك من ذكر معايبه، ثم يقول بعد ذلك: وإنّه إن حمل الواجب عليه وسلّم الجند الذين أفسدهم أُقرّ على عمله، وإن أبى قوبل بما استحقّه.
فلمّا سمع الرسالة جدّد ضمان الأهواز، كل سنة بثلاثمائة وستّين ألف دينار، يحمل كلّ شهر بقسطه، وأجاب إلى تسليم الجيش إلى من يؤمر بتسليمهِ إليه مّمن يسير به إلى قتال ابن بوَيْه، إذ كانوا كارهين للعود إلى بغداد لضيق الأموال بها واختلاف الكلمة، فكتب الرسل ذلك إلى ابن رائق، فعرضه على الراضي، وشاور فيه أصحابه، فأشار الحسين بن عليّ النُّوبختيُّ بأن لا يقبل منه ذلك، فإنّه خداع ومكر للقرب منه، ومتى عُدتم عنه لم يقف على ما بذله.
وأشار أبو بكر بن مقابل بإجابته إلى ما التمس من الضمان، وقال: إنّه لا يقوم غيره مقامه، وكان يتعصّب للبريديّ، فسمع قوله وعقد الضمان على البريديّ وعاد هو والراضي إلى بغداد، فدخلاها ثامن صفر.
فأمّا المال فما حمل منه ديناراً واحداً، وأمّا الجيش فإنّ ابن رائق أنفذ جعفر بن ورقاء ليتسلّمه منه وليسير بهم إلى فارس، فلّما وصل إلى الأهواز لقيه ابن البريديّ في الجيش جمعيه، ولّما عاد سار الجيش مع البريديّ إلى داره واستصحب معه جعفراً وقدّم لهم طعاماً كثيراً، فأكلوا وانصرفوا، وأقام جعفر عدّة أيّام.
ثم إنّ جعفراً أمر الجيش فطالبوه بمال يفرّقه فيهم ليتجهّزوا به إلى فارس، فلم يكن معه شيء، فشتموه وتهدّدوه بالقتل، فاستتر منهم ولجأ إلى البريديّ، وقال له البريديُّ: ليس العجب ممّن أرسلك، وإنّما العجب منك كيف جئتَ بغير شيء، فلو أن الجيش مماليك لما ساروا إلاّ بمال ترضيهم به؛ ثم أخرجه ليلاً وقال: انجُ بنفسك؛ فسار إلى بغداد خائباً.

ثم إنّ ابن مقاتل شرع مع ابن رائق في عزل الحسين بن عليّ النوبختيّ وزيره، وأشار عليه بالاعتضاد بالبريديّ، وأن يجعله وزيراً له عوض النوبختيّ، وبذل له ثلاثين ألف دينار، فلم يجبه إلى ذلك، فلم يزل ابن مقاتل يسعى ويجتهد إلى أن أجابه إليه، فكان من أعظم الأسباب في بلوغ ابن مقاتل غرضه أنّ النوبختيّ كان مريضاً، فلّما تحدّث ابن مقاتل مع ابن رائق في عزله امتنع من ذلك، وقال له: عليّ حقّ كثير، هو الذي سعى لي حتّى بلغتُ هذه الرتبة، فلا أبتغي به بديلاً.
فقال ابن مقاتل: فإنّ النوبختيّ مريض لا مطمع في عافيته.
قال له ابن رائق: فإنّ الطبيب قد أعلمني أنّه قد صلح وأكل الدُّرّاج.
فقال: إنّ الطبيب يعلم منزلته منك وأنّه وزير الدولة فلا يلقاك في أمره بما تكره، ولكن أحضر ابن أخي النوبختيّ وصهره عليَّ بن أحمد واسأله عنه سرّاً، فهو يخبرك بحاله.
فقال: أفعل.
وكان النوبختيُّ قد استناب ابن أخيه هذا عند ابن رائق ليقوم بخدمته في مرضه، ثم إنّ مقاتل فارق ابن رائق على هذا، واجتمع بعليّ بن أحمد وقال له: قد قرّرت لك مع الأمير ابن رائق الوزارة، فإذا سألك عن عمّك فأعلمه أنّه على الموت ولا يجيء منه شيء لتتمّ لك الوزارة.
فلّما اجتمع ابن رائق بعليّ بن أحمد سأله عن عمّه، فغشي عليه، ثم لطم برأسه ووجهه وقال: يبقي الله الأمير ويعظّم أجره فيه، فلا يعدّه الأمير إلاّ في الأموات ! فاسترجع وحوقل وقال: لو فُدي بجميع ما أملكه لفعلتُ.
فلمّا حضر عنده ابن مقاتل قال له ابن رائق: قد كان الحقّ معك، وقد يئسنا من النوبختيّ فاكتب إلى البريديّ ليرسل من ينوب عنه في وزارتي؛ ففعل وكتب إلى البريديّ بإنفاذ أحمد بن عليّ الكوفيّ لينوب عنه في وزارة ابن رائق، فأنفذه، فاستولى على الأمور، وتمشّى حال البريديّ بذلك، فإنّ النوبختيَّ كان عارفاً به لا يتمشّى معه محاله.
فلّما استولى الكوفّي وابن مقاتل شرعاً في تضمين البصرة من أبي يوسف ابن البريديّ، أخي أبي عبدالله، فامتنع ابن رائق من ذلك، فخدعاه إلى أن أجاب إليه، وكان نائب ابن رائق بالبصرة محمّد بن يزداد، وقد أساس السيرة وظلم أهلها، فلّما ضمنها البريديُّ حضر عنده بالأهواز جماعة من أعيان أهلها، فوعدهم ومنّاهم، وذمّ ابن رائق عندهم بما كان يفعله ابن يزداد، فدعوا له.
ثم أنفذ البريديُّ غلامه إقبالاً في ألفَيْ رجل، وأمرهم بالمقام بحصن مهديّ إلى أن يأمرهم بما يفعلون، فلّما علم ابن يزداد بهم قامت قيامته من ذلك وعلم أنّ البريديَّ يريد التغلّب على البصرة، وإلاّ لو كان يريد التصرّف في ضمانه لكان يكفيه عامل في جماعته.
وأمر البريديُّ بإسقاط بعض ما كان ابن يزداد يأخذه من أهل البصرة، حتّى اطمأنّوا، وقاتلوا معه عسكر ابن رائق، ثم عطف عليهم، فعمل بهم أعمالاً تمدنوا معها أيّام ابن رائق وعدّوها أعياداً.
ذكر ظهور الوحشة بين ابن رائق والبريديّ والحرب بينهما
في هذه السنة أيضاً ظهرت الوحشة بين ابن رائق والبريديّ، وكان لذلك عدّة أسباب منها أنّ رائق لّما عاد من واسط إلى بغداد أمر بظهور مَن اختفى من الحجريّين، فظهروا، فاستخدم منهم نحو ألفَيْ رجل، وأمر الباقين بطلب الرزق أين أرادوا، فخرجوا من بغداد، واجتمعوا بطريق خراسان، ثم ساروا إلى أبي عبدالله البريديّ فأكرمهم وأحسن إليهم، وذمّ ابن رائق وعابه، وكتب إلى بغداد يعتذر عن قبولهم، ويقول: إنّني خفتهم، فلهذا قبلتُهم، وجعلهم طريقاً إلى قطع ما استقرّ عليه من المال، وذكر أنّهم اتّفقوا مع الجيش الذي عنده ومنعوه من حمل المال الذي استقرّ عليه، فأنفذ إليه ابن رائق يُلزمه بإبعاد الحجريّة، فاعتذر ولم يفعل.
ومنها أنّ ابن رائق بلغه ما ذمّه به ابن الريديّ عند أهل البصرة، فساءه ذلك، وبلغه مقام إقبال في جيشه بحصن مهديّ، فعظم عليه، واتّهم الكوفيَّ بمحاباة البريديّ، وأراد عزله، فمنعه عنه أبو بكر محمّد بن مقاتل، وكان مقبول القول عند ابن رائق، فأمر الكوفيَّ أن يكتب إلى البريديّ يعاتبه على هذه الأشياء، ويأمره بإعادة عسكره من حصن مهديّ، فكتب إليه في ذلك، فأجاب بأنّ أهل البصرة يُخفون القرامطة، وابن يزداد عاجز عن حمايتهم، وقد تمسّكوا بأصحابي لخوفهم.

وكان أبو طاهر الهجريُّ قد وصل إلى الكوفة في الثالث والعشرين من ربيع الآخر، فخرج ابن رائق في عساكره إلى قصر ابن هُبيرة، وأرسل إلى القُرمُطيّ، فلم يستقرّ بينهم أمر، فعاد القُرمُطيُّ إلى بلده؛ فعاد حينئذ ابن رائق وسار إلى واسط، فبلغ ذلك البريديَّ، فكتب إلى عسكره بحصن مهديّ يأمرهم بدخول البصرة، وقتال مَن منعهم، وأنفذ إليهم جماعة من الحجريّة معونة لهم، فأنفذ ابن يزداد جماعة من عنده ليمنعهم من دخول البصرة، فاقتتلوا بنهر الأمير، فانهزم أصحاب ابن يزداد، فأعادهم، وزاد في عدّتهم كلّ متجنّد بالبصرة، واقتتلوا ثانياً فانهزموا أيضاً.
ودخل إقبال وأصحاب البريديّ البصرة، وانهزم ابن يزداد إلى الكوفة، وقامت القيامة على ابن رائق، وكتب إلى أبي عبدالله البريديّ يتهدّده، ويأمره بإعادة أصحابه من البصرة، فاعتذر ولم يفعل، وكان أهل البصرة في أوّل الأمر يريدون البريديَّ لسوء سيرة ابن يزداد.
ذكر استيلاء بجكم على الأهوازلّما وصل جواب الرسالة من البريديّ إلى ابن رائق بالمغالطة عن إعادة جنده من البصرة، استدعى بدراً الخَرشنيَّ وخلع عليه، وأحضر بجكم أيضاً وخلع عليه، وسيّرهما في جيش، وأمرهم أن يقيموا بالجامدة، فبادر بجكم، ولم يتوقف على بدر ومَن معه، وسار إلى السُّوس.
فبلغ ذلك البريديَّ، فأخرج إليه جيشاً كثيفاً في ثلاثة آفلا مقاتل، ومقدّمهم غلامه محمّد المعروف بالحمّال، فاقتتلوا بظاهر السُّوس، وكان مع بجكم مائتان وسبعون رجلاً من الأتراك، فانهزم أصحاب البريديّ وعادوا إليه، فضرب البريديُّ محمّداً الحمّال وقال: انهزمتَ بثلاثة آلاف من ثلاثمائة ؟ فقال له: أنت ظنَنتَ أنّك تحارب ياقوتاً المدبر، قد جاءك خلاف ما عهدتَ؛ فقام إليه وجعل يلكمه بيديه.
ثم رجع عسكره، وأضاف إليهم من لم يشهد الوقعة، فبلغوا ستّة آلاف رجل، وسيّرهم مع الحمّال أيضاً، فالتقوا عند نهر تُستَر، فبادر بجكم فعبر النهر هو وأصحابه، فلّما رآه أصحاب البريديِّ انهزموا من غير حرب، فلّما رآهم أبو عبدالله البريديُّ ركب هو وإخوته ومن يلزمه في السفن، فأخذ معه ما بقي عنده من المال، وهو ثلاثمائة ألف دينار، فغرقت السفينة بهم، فأخرجهم الغوّاصون وقد كادوا يغرقون، وأُخرج بعض المال، وأُخرج باقي المال لبجكم، ووصلوا إلى البصرة، فأقاموا بالأُبُلّة، وأعدّوا المراكب للهرب أن انهزم إقبال.
وسيّر أبو عبدالله البريديُّ غلامه إقبالاً إلى مطارا، وسيّر معه جمعاً من فتيان البصرة، فالتقوا بمطارا مع أصحاب ابن رائق، فانهزمت الرائقيّة، وأُسر منهم جماعة، فأطلقهم البريديُّ، وكتب إلى ابن رائق يستعطفه، وأرسل إليه جماعة من أعيان أهل البصرة، فلم يجبهم، وطلبوا منه أن يحلف لأهل البصرة ليكونوا معه، ويساعدوه، فامتنع وحلف لئن ظفر بها ليحرقنّها، ويقتل كلّ من فيها، فازدادوا بصيرة في قتاله.
واطمأنَّ البريدّيون بعد انهزام عسكر ابن رائق، وأقاموا حينئذ بالبصرة، واستولى بجكم على الأهواز، فلّما بلغ ابن رائق هزيمة أصحابه جهّز جيشاً آخر وسيّره إلى البرّ والماء، فالتقى عسكره الذي على الظهر مع عسكر البريديّ، فانهزم الرائقيّة، وأمّا العسكر الذي في الماء فإنّهم استولوا على الكلاّء، فلمّا رأى ذلك أبو عبدالله البريديُّ ركب في السفن وهرب إلى جزيرة أُوال، وترك أخاه أبا الحسين بالبصرة في عسكر يحميها، فخرج أهل البصرة مع أبي الحسين لدفع عسكر ابن رائق عن الكلاّء، فقاتلوهم حتّى أجلوهم عنه.
فلّما اتصل ذلك بابن رائق سار بنفسه من واسط إلى البصرة على الظهر، وكتب إلى بَجكم ليلحق به، فأتاه فيمن عنده من الجند، فتقدموا وقاتلوا أهل البصرة، فاشتدّ القتال، وحامى أهل البصرة، وشتموا ابن رائق، فلّما رأى بجكم ذلك هاله، وقال لابن رائق: ما الذي عملتَ بهؤلاء القوم حتى أحوجتَهم إلى هذا ؟ فقال: والله لا أدري ! وعاد ابن رائق وبجكم إلى معسكرهما.
وأمّا أبو عبدالله البريديُّ فأنّه سار من جزيرة أوال إلى عماد الدولة ابن بويه، واستجار به، وأطمعه في العراق، وهوّن عليه أمر الخليفة وإبن رائق، فنفّذ معه أخاه معزّ الدولة على ما نذكره.
فلّما سمع ابن رائق بإقبالهم من فارس إلى الأهواز سيّر بجكم إليها، فامتنع من المسير إلاّ أن يكون إليه الحرب والخراج، فأجابه إلى ذلك وسيّره إليها.

ثم إن جماعة من أصحاب البريديّ قصدوا عسكر ابن رائق ليلاً، فصاحوا في جوانبه، فانهزموا، فلّما رأى ابن رائق ذلك أمر بإحراق سواده وآلاته لئلا يغنمه البريديُّ، وسار إلى الأهواز جريدة، فأشار جماعة على بجكم بالقبض عليه فلم يفعل، وأقام ابن رائق أيّاماً، وعاد إلى واسط، وكان باقي عسكره قد سبقوه إليها.
ذكر الفتنة بين أهل صقلّية وأمرائهم
في هذه السنة خالف أهل جُرجنت، وهي من بلاد صِقلّية، على أميرهم سالم بن راشد، وكان استعمله عليهم القائم العلويُّ، صاحب أفريقية، وكان سيئ السيرة في الناس، فأخرجوا عامله عليهم، فسيّر إليهم سالم جيشاً كثيراً من أهل صِقلّية وأفريقية، فاقتتلوا أشدّ قتال، فهزمهم أهل جرجنت، وتبعهم فخرج إليهم سالم، ولقيهم، واشتدّ القتال بينهم وعظم الخطب، فانهزم أهل جرجنت في شعبان.
فلمّا رأى أهل المدينة خلاف أهل جرجنت خرجوا أيضاً على سالم، وخالفوه، وعظم شغبهم عليه، وقاتلوه في ذي القعدة من هذه السنة، فهزمهم، وحصرهم بالمدينة، فأرسل إلى القائم بالمهديّة يعرّفه أنّ أهل صِقلّية قد خرجوا عن طاعته، وخالفوا عليه، ويستمدّه، فأمدّه القائم بجيش، واستعمل عليهم خليل بن إسحاق، فساروا حتّى وصلوا إلى صِقلّية، فرأى خليل من طاعة أهلها ما سرّه، وشكوا إليه مِن ظُلم سالم وجوره، وخرج إليه النساء والصبيان يبكون ويشكون، فرقّ الناس لهم، وبكوا لبكائهم.
وجاء أهل البلاد إلى خليل وأهل جرجنت، فلمّا وصلوا اجتمع بهم سالم، وأعلمهم أنّ القائم قد أرسل خليلاً لينتقم منهم بمن قتلوا من عسكره، فعاودوا الخلاف، فشرع خليل في بناء مدينة على مَرسى المدينة، وحصّنها، ونقض كثيراً من المدينة، وأخذ أبوابها، وسمّاها الخالصة.
ونال الناس شدّة في بناء المدينة، فبلغ ذلك أهل جرجنت، فخافوا، وتحقّق عندهم ما قال لهم سالم، وحصّنوا مدينتهم واستعدّوا للحرب، فسار إليهم خليل في جمادى الأولى سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة، وحصرهم، فخرجوا إليه، والتحم القتال، واشتدّ الأمر، وبقي محاصراً لهم ثمانية أشهر لا يخلو يوم من قتال، وجاء الشتاء فرحل عنهم في ذي الحجّة إلى الخالصة فنزلها.
ولّما دخلت سنة سبع وعشرين خالف على خليل جميع القلاع وأهل مَازَر، كلّ ذلك بسعي أهل جرجنت، وبثّوا سراياهم، واستفحل أمرهم، وكاتبوا ملك القُسطنطينيّة يستنجدونه، فأمدّهم بالمراكب فيها الرجال والطعام، فكتب خليل إلى القائم يستنجده، فبعث إليه جيشاً كثيراً، فخرج خليل بمن معه من أهل صِقلّية فحصروا قلعة أبي ثَور، فملكوها وكذلك أيضاً البلّوط ملكوها، وحصروا قلعة أبلاطنوا، وأقاموا عليها حتّى انقضت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
فلمّا دخلت سنة ثمان وعشرين رحل خليل عن أبلاطنوا، وحصر جرجنت وأطال الحصار، ثم رحل عنها وترك عليها عسكراً يحاصرها، مقدّمهم أبو خلف بن هارون، فدام الحصار إلى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، فسار كثير من أهلها إلى بلاد الروم، وطلب الباقون الأمان، فأمّنهم على أن ينزلوا من القلعة، فلمّا نزلوا غدر بهم وحملهم إلى المدينة.
فلمّا رأى أهل سائر القلاع ذلك أطاعوا، فلمّا عادت البلاد الإسلامية إلى طاعته رحل إلى إفريقية في ذي الحجّة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وأخذ معه وجوه أهل جرجنت، وجعلهم في مركب، وأمر بنقبه وهو في لّجة البحر فغرقوا.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة خرجت الفرنج إلى بلاد الأندلس التي للمسلمين، فنهبوا وقتلوا وسبوا، ومّمن قُتل من المشهورين جحّاف بن يُمن قاضي بلنسية.
وفيها توفّي عبدالله بن محمّد بن سفيان أبو الحسين الجزّاز النحوي في ربيع الأول، وكان صحب ثعلباً والمُبرد، وله تصانيف في علوم القرآن.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائةذكر استيلاء معزّ الدولة على الأهواز
في هذه السنة سار معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه إلى الأهواز وتلك البلاد، فملكها واستولى عليها.

وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير أبي عبدالله البريديّ إلى عماد الدولة، كما سبق، فلّما وصل إليه أطمعه في العراق والاستيلاء عليه، فسير معه أخاه معز الدولة إلى الأهواز، وترك أبو عبدالله البريدي، ولديه: أبا الحسن محمداً، وأبا جعفر الفياض عند عماد الدولة بن بويه رهينةً وساروا، فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان، فسار لحربهم، فانهزم من بين أيديهم.
وكان سبب الهزيمة أن المطر اتصل أياماً كثيرة، فعطلت أوتار قسي الأتراك، فلم يقدروا على رمي النشاب، فعاد بجكم وأقام بالأهواز، وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم، فقاتلوا معز الدولة بها ثلاثة عشر يوماً، ثم انهزموا إلى تستر، فاستولى معز الدولة على عسكر مكرم؛ وسار بجكم إلى تستر من الأهواز، وأخذ معه جماعة من أعيان الأهواز، وسار هو وعسكره إلى واسط، وأرسل من الطريق إلى ابن رائق يعلمه الخبر، ويقول له: إن العسكر محتاج إلى المال، فإن كان معك مائتا ألف دينار، فتقيم بواسط حتى نصل إليك، وتنفق فيهم المال، وإن كان المال قليلاً فالرأي أنك تعود إلى بغداد لئلا يجري من العسكر شغب.
فلما بلغ الخبر إلى ابن رائق عاد من واسط إلى بغداد، ووصل بجكم إلى واسط فأقام بها، واعتقل من معه من الأهوازيين، وطالبهم بخمسين ألف دينار، وكان فيهم أبو زكرياء يحيى بن سعيد السوسي.
قال أبو زكرياء: أردت أن أعلم ما في نفس بجكم، فأنفذت إليه أقول: عندي نصيحة، فأحضرني عنده، فقتل: أيها الأمير أنت تحدث نفسك بمملكة الدنيا، وخدمة الخلافة، وتدبير الممالك، كيف يجوز أن تعتقل قوماً منكوبين قد سلبوا نعمتهم وتطالبهم بمال وهم في بلد غربة، وتأمر بتعذيبهم حين جعل أمس طشت فيه نار على بطن بعضهم ؟ أما تعلم أن هذا إذا سمع عنك استوحش منك الناس وعاداك من لا يعرفك ؟ وقد أنكرت على ابن رائق إيحاشه لأهل البصرة، أتراه أساء إلى جميعهم ؟ لا والله، بل أساء إلى بعضهم، فأبغضوه كلهم، وعوام بغداد لا تحتمل أمثال هذا. وذكرت له فعل مرداويج، فلما سمع ذلك قال: قد صدقتني، ونصحتني؛ ثم أمر بإطلاقهم.
ولّما استولى ابن بويه والبريدي على عسكر مكرم سار أهل الأهواز إلى البريدي يهنونه، وفيهم طبيب حاذق، وكان البريدي يحم بحمى الربع، فقال لذلك الطبيب: أما ترى يا أبا زكرياء حالي وهذه الحمى ؟ فقال له: خلطٌ، يعني في المأكول، فقال له: أكثر من هذا التخليط، قد رهجت الدنيا.
ثم ساروا إلى الأهواز فأقاموا بها خمسة وثلاثين يوماً، ثم هرب البريدي من ابن بويه إلى الباسيان، فكاتبه بعتب كثير، ويذكر غدره في هربه.
وكان سبب هربه أن ابن بويه طلب عسكره الذين بالبصرة ليسيروا إلى أخيه ركن الدولة بأصبهان، معونةً له على حرب وشمكير، فأحضر منهم أربعة آلاف، فلما حضروا قال لمعز الدولة: إن أقاموا وقع بينهم وبين الديلم فتنة، والرأي أن يسيروا إلى السوس ثم يسيروا إلى أصبهان؛ فأذن له في ذلك، ثم طالبه بأن يحضر عسكره الذين بحصن مهدي ليسيرهم في الماء إلى واسط، فخاف البريدي أن يعمل به مثل ما عمل هو بياقوت.
وكان الديلم يهينونه ولا يلتفتون إليه، فهرب وأمر جيشه الذي بالسوس فساروا إلى البصرة، وكاتب معز الدولة بالافراج له عن الأهواز حتّى يتمكن من ضمانه، فأنه كان قد ضمن الأهواز والبصرة من عماد الدولة بن بويه، كل سنة بثمانية عشر ألف ألف درهم، فرحل عنها إلى عسكر مكرم خوفاً من أخيه عماد الدولة لئلا يقول له: كسرت المال؛ فانتقل البريدي إلى بناباذ، وأنفذ خليفته إلى الأهواز، وأنفذ إلى معز الدولة يذكر له حاله وخوفه منه، ويطلب أن ينتقل إلى السوس من عسكر مكرم ليبعد عنه ويأمن بالأهواز.
فقال له أبو جعفر الصيمري وغيره: إن البريدي يريد أن يفعل بك كما فعل بياقوت، ويفرق أصحابك عنك، ثم يأخذك فيتقرب بك إلى بجكم وابن رائق، ويستعيد أخاك لأجلك؛ فامتنع معز الدولة من ذلك.

وعلم بجكم بالحال، فأنفذ جماعة من أصحابه، فاستولوا على السوس وجنديسابور، وبقيت الأهواز بيد البريدي، ولم يبق بيد معز الدولة من كور الأهواز إلا عسكر مكرم، فاشتد الحال عليه، وفارقه بعض جنده، وأرادوا الرجوع إلى فارس، فمنعم أصفهدوست وموسى قياده، وهما من أكابر القواد، وضمنا لهم أرزاقهم ليقيموا شهراً، فأقاموا وكتب إلى أخيه عماد الدولة يعرفه حاله، فأنفذ له جيشاً، فقوي بهم، وعاد فاستولى على الأهواز، وهرب البريدي إلى البصرة واستقر فيها فاستقر ابن بويه بالأهواز.
وأقام بجكم بواسط طامعاً في الاستيلاء على بغداد ومكان ابن رائق، ولا يظهر له شيئاً من ذلك، وأنفذ ابن رائق علي بن خلف بن طياب إلى بجكم ليسير مع إلى الأهواز ويخرج منها ابن بويه، فإذا فعل ذلك كانت ولايتها لبجكم والخراج إلى علي بن خلف، فلما وصل عليٌ إلى بجكم بواسط استوزره بجكم، وأقام معه، وأخذ بجكم جميع مال واسط.
ولما رأى أبو الفتح الوزير ببغداد إدبار الأمور أطمع ابن رائق في مصر والشام، وصاهره، وعقد بينه وبين ابن طغج عهداً وصهراً، وقال لابن رائق: أنا أجبي إليك مال مصر والشام أن سيرتني إليهما، فأمره بالتجهز للحركة، ففعل وسار أبو الفتح إلى الشام في ربيع الآخر.
ذكر الحرب بين بجكم والبريدي والصلح بعد ذلكلما أقام بجكم بواسط وعظم شأنه خافه ابن رائق لأنه ظن ما فعله بجكم من التغلب على العراق، فراسل أبا عبدالله البريدي وطلب منه الصلح على بجكم، فإذا انهزم تسلم البريدي واسطاً وضمنها بستمائة ألف دينار في السنة على أن ينفذ أبو عبدالله عسكراً.
فسمع بجكم بذلك، فخاف واستشار أصحابه في الذي يفعله، فأشاروا عليه بأن يبتديء بأبي عبدالله البردي، وأن لا يهجم إلى حضرة الخلافة، ولا يكاشف ابن رائق إلا بعد الفراغ من البريدي، فجمع عسكره، وسار إلى البصرة يريد البريدي، فسير أبو عبدالله جيشاً بلغت عدتهم عشرة آلاف رجل، عليهم غلامه أبو جعفر محمد الحمال، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عسكر البريدي، ولم يتبعهم بجكم بل كف عنهم.
وكان البريديون بمطارا ينتظرون ما ينكشف من الحال، فلما انهزم عسكرهم خافوا، وضعفت نفوسهم، إلا أنه لما رأى عسكره سالماً لم يقتل منهم أحد ولا غرق طاب قلبه.
وكانت نية بجكم إذلال البريدي وقطعه عن ابن رائق، ونفسه معلقة بالحضرة، فأرسل ثاني يوم الهزيمة إلى البريدي يعتذر إليه مما جرى، ويقول له: أنت بدأت وتعرضت بي، وقد عفوت عنك وعن أصحابك، ولو تبعتهم لغرق وقتل أكثرهم، وأنا أصالحك على أن أقلدك واسطاً إذا ملكت الحضرة، وأصاهرك؛ فسجد البريدي شكراً لله تعالى، وحلف لبجكم وتصالحا، وعاد إلى واسط، وأخذ في التدبير على ابن رائق، والاستيلاء على الحضرة ببغداد.
ذكر قطع يد ابن مقلة ولسانهفي هذه السنة، في منتصف شوال، قطعت يد الوزير أبي عليّ بن مقلة.
وكان سبب قطعها أن الوزير أبا الفتح بن جعفر بن الفرات لما عجز عن الوزارة وسار إلى الشام استوزر الخليفة الراضي بالله أبا علي بن مقلة، وليس له من الأمر شيء إنما الأمر جميعه إلى ابن رائق، وكان ابن رائق قبض أموال ابن مقلة وأملاكه، وأملاك ابنه، فخاطبه فلم يردها، فاستمال أصحابه، وسألهم مخاطبته في ردها، فوعدوه، فلم يقضوا حاجته، فلما رأى ذلك سعى بابن رائق، فكاتب بجكم يطمعه في موضع ابن رائق، وكتب إلى وشمكير بمثل ذلك، وهو بالري، وكتب إلى الراضي يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأصحابه ويضمن أنه يستخرج منهم ثلاثة آلاف ألف دينار، وأشار عليه باستدعاء بجكم وإقامته مقام ابن رائق، فأطمعه الراضي وهو كاره لما قاله، فعجل ابن مقلة وكتب إلى بجكم يعرفه إجابة الراضي، ويستحثه على الحركة والمجيء إلى بغداد.

وطلب ابن مقلة من الراضي أن ينتقل ويقيم عنده بدار الخلافة إلى أن يتم على ابن رائق ما اتفقا عليه، فأذن له في ذلك، فحضر متنكراً ليلة من رمضان، وقال: أن القمر تحت الشعاع، وهو يصلح للأسرار؛ فكان عقوبته حيث نظر إلى غير الله أن ذاع سره وشهر أمره، فلما حصل بدار الخليفة لم يوصله الراضي إليه، واعتقله في حجرة، فلما كان الغد أنفذ إلى ابن رائق يعرفه الحال، ويعرض عليه خط ابن مقلة، فشكر الراضي، وما زالت الرسل تتردد بينهما في معنى ابن مقلة إلى منتصف شوال، فأُخرج ابن مقلة من محبسه، وقطعت يده ثم عولج فبرأ، فعاد يكاتب الراضي، ويخطب الوزارة، ويذكر أن قطع يده لم يمنعه من عمله، وكان يشد القلم على يده المقطوعة ويكتب.
فلما قرب بجكم من بغداد سمع الخدم يتحدثون بذلك، فقال: أن وصل بجكم فهو يخلصني، وأكافئ ابن رائق؛ وصار يدعو على من ظلمه وقطع يده، فوصل خبره إلى الراضي وإلى ابن رائق، فأمرا بقطع لسانه، ثم نقل إلى محبس ضيق، ثم لحقه ذرب في الحبس، ولم يكن عنده من يخدمه، فآل به الحال إلى أن كان يستقي الماء من البئر بيده اليسرى ويمسك الحبل بفيه، ولحقه شقاء شديد إلى أن مات ودفن بدار الخليفة، ثم إن أهله سألوا فيه، فنبش وسلم إليهم، فدفنوه في داره، ثم نبش فنقل إلى دار أخرى.
ومن العجب أنه ولي الوزارة ثلاث دفعات، ووزر لثلاثة خلفاء، وسافر ثلاث سفرات: اثنتين منفياً إلى شيراز، وواحدة في وزارته إلى الموصل، ودفن بعد موته ثلاث مرات وخص به من خدمة ثلاثة.
ذكر استيلاء بجكم على بغدادوفي هذه السنة دخل بجكم بغداد، ولقي الراضي، وقلد إمرة الأمراء مكان ابن رائق، ونحن نذكر ابتداء أمر بجكم، وكيف بلغ إلى هذه الحال، فإن بعض أمره قد تقدم، وإذا افترق لم يحصل الغرض منه.
كان بجكم هذا من غلمان أبي علي العارض، وكان وزيراً لما كان بن كالي الديلمي، فطلبه منه ما كان، فوهبه له، ثم إنه فارق ما كان مع من فارقه من أصحابه والتحق بمرداويج، وكان في جملة من قتله، وسار إلى العراق، واتصل بابن رائق، وسيره إلى الأهواز فاستولى عليها وطرد البريدي عنها.
ثم خرج البريدي مع معز الدولة بن بويه من فارس إلى الأهواز، فأخذوها من بجكم، وانتقل بجكم من الأهواز إلى واسط، وقد تقدم ذكر ذلك مفصلاً، فلما استقر بواسط تعلقت همته بالاستيلاء على حضرة الخليفة، وهو مع ذلك يظهر التبعية لابن رائق، وكان على أعلامه وتراسه بجكم الرائقي، فلما وصلته كتب ابن مقلة يعرفه أنه قد استقر مع الراضي أن يقلده إمرة الأمراء، طمع في ذلك، وكاشف ابن رائق، ومحا نسبته إليه من أعلامه، وسار من واسط نحو بغداد غرة ذي القعدة.
واستعد ابن رائق له، وسأل الراضي أن يكتب إلى بجكم يأمره بالعود إلى واسط، فكتب الراضي إليه، وسير الكتاب، فلما قرأه ألقاه عن يده ورمى به، وسار حتى نزل شرقي نهر ديالي، وكان أصحاب ابن رائق على غربيه، فألقى أصحاب بجكم نفوسهم في الماء فانهزم أصحاب ابن رائق، وعبر أصحاب بجكم وساروا إلى بغداد، وخرج ابن رائق عنها إلى عكبرا ودخل بجكم بغداد ثالث عشر ذي القعدة، ولقي الراضي من الغد، وخلع عليه، وجعله أمير الأمراء، وكتب كتباً عن الراضي إلى القواد الذين مع ابن رائق يأمرهم بالرجوع إلى بغداد، ففارقوه جميعهم وعادوا.
فلما رأى ابن رائق ذلك عاد إلى بغداد واستتر، ونزل بجكم بدار مؤنس، واستقر أمره ببغداد، فكانت مدة إمارة أبي بكر بن رائق سنة واحدة وعشرة أشهر وستة عشر يوماً، ومن مكر بجكم أنه كان يراسل ابن رائق على لسان أبي زكرياء يحيى بن سعيد السوسي، قال أبو زكرياء: أشرت على بجكم أنه لا يكاشف ابن رائق، فقال: لم أشرت بهذا ؟ فقلت له: أنه قد كان له عليك رئاسة وإمرة، وهو أقوى منك وأكثر عدداً، والخليفة معه، والمال عنده كثير؛ فقال: أما كثرة رجاله فهم جوز فارغ، وقد بلوتهم، فما أبالي بهم قلوا أم كثروا؛ وأما كون الخليفة معه، فهذا لا يضرني عند أصحابي؛ وأما قلة المال معي فليس الأمر كذلك، وقد وفيت أصحابي مستحقهم، ومعي ما يستظهر به، فكم تظن مبلغه ؟ فقلت: لا أدري ؟! فقال: على كل حال؛ فقلت: مائة ألف درهم؛ فقال: غفر الله لك، معي خمسون ألف دينار لا أحتاج إليها.

فلما استولى على بغداد قال لي يوماً: أتذكر إذ قلت لك: معي خمسون ألف دينار ؟ والله لم يكن معي غير خمسة آلاف درهم؛ فقلت: هذا يدلّ على قلة ثقتك بي؛ قال: لا ولكنك كنت رسولي إلى ابن رائق، فإذا علمت قلة المال معي ضعفت نفسك فطمع العدو فينا فأردت أن تمضي إليه بقلب قوي، فتكلمه بما تخلع به قلبه وتضعف نفسه. قال: فعجبت من مكره وعقله.
ذكر استيلاء لشكري على أذربيجان وقتلهوفيها تغلب لشكري بن مردى على أذربيجان، ولشكري هذا أعظم من الذي تقدم ذكره، فإن هذا كان خليفة وشمكير على أعمال الجبل، فجمع مالاً ورجالاً وسار إلى أذربيجان، وبها يومئذ ديسم بن إبراهيم الكردي، وهو من أصحاب ابن أبي الساج، فجمع عسكراً وتحارب هو ولشكري، فانهزم ديسم، ثم عاد وجمع، وتصافا مرة ثانية، فانهزم أيضاً واستولى لشكري على بلاده، إلا أردبيل، فإن أهلها امتنعوا بها لحصانتها، ولهم بأس ونجدة، وهي دار المملكة بأذربيجان، فراسلهم لشكري، ووعدهم الإحسان لما كان يبلغهم من سوء سيرة الديلم مع بلاد الجبل همذان وغيرها، فحصرهم وطال الحصار، ثم صعد أصحابه السور ونقبوه أيضاً في عدة مواضع ودخلوا البلد.
وكان لشكري يدخله نهاراً، ويخرج منه ليلاً إلى عسكره، فبادر أهل البلد وأصلحوا ثلم السور، وأظهروا العصيان، وعاودوا الحرب، فندم على التفريط وإضاعة الحزم؛ فأرسل أهل أردبيل إلى ديسم يعرفونه الحال ويواعدونه يوماً يجيء فيه ليخرجوا فيه إلى قتال لشكري، ويأتي هو من ورائه، ففعل وسار نحوهم، وظهروا يوم الموعد في عدد كثير، وقاتلوا لشكري، وأتاه ديسم من خلف ظهره، فانهزم أقبح هزيمة، وقتل من أصحابه خلق كثير، وانحاز إلى موقان، فأكرمه أصبهبذها ويعرف بابن دولة، وأحسن ضيافته.
وجمع لشكري وسار نحو ديسم، وساعده ابن دولة، فهرب ديسم وعبر نهر أرس، وعبر بعض أصحاب لشكري إليه، فانهزم ديسم، وقصد وشمكير، وهو بالري، وخوفه من لشكري، وبذل له مالاً كل سنة ليسير معه عسكراً، فأجابه إلى ذلك وسير معه عسكراً، وكاتب عسكر لكشري وشمكير يعلمونه بما هم عليه من طاعته، وأنهم متى رأوا عسكره صاروا معه على لشكري، فظفر لشكري بالكتب، فكتم ذلك عنهم، فلما قرب منه عسكر وشمكير جمع أصحابه وأعلمهم ذلك وأنه لا يقوى بهم، وأنه يسير بهم نحو الزوزان، وينهب من على طريقه من الأرمن، ويسير نحو الموصل ويستولي عليها وعلى غيرها، فأجابوه إلى ذلك، فسار بهم إلى أرمينية وأهلها غافلون، فنهب وغنم وسبى، وانتهى إلى الزوزان ومعهم الغنائم؛ فنزل بولاية إنسان أرمني، وبذل له مالاً ليكف عنه وعن بلاده، فأجابه إلى ذلك.
ثم إن الأرمني كمن كميناً في مضيق هناك، وأمر بعض الأرمن أن ينهب شيئاً من أموال لشكري ويسلك ذلك المضيق، ففعلوا، وبلغ إلى لشكري، فركب في خمسة أنفس، فسار وراءهم، فخرج عليه الكمين فقتلوه ومن معه، ولحقه عسكره، فرأوه قتيلاً ومن معه، فعادوا وولوا عليهم ابنه لشكرستان، واتفقوا على أن يسيروا على عقبة التنين، وهي تجاوز الجودي، ويحرزوا سوادهم، ويرجعوا إلى بلد الأمني فيدركوا آثارهم، فبلغ ذلك طرم فرتب الرجال على تلك المضايق يرمونهم بالحجارة، ويمنعونهم العبور، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وسلم القليل منهم، وفيمن سلم لشكرستان، وسار فيمن معه إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل، فأقام بعضهم عنده وانحدر بعضهم إلى بغداد.
فأما الذين أقاموا بالموصل فسيرهم مع ابن عم أبي عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان إلى ما بيده من أذربيجان لما أقبل نحوه ديسم ليستولي عليه، وكان أبو عبدالله من قبل ابن عمه ناصر الدولة على معاون أذربيجان، فقصده ديسم وقاتله فلم يكن لابن حمدان به طاقة، ففارق أذربيجان واستولى عليها ديسم.
ذكر اختلال أمور القرامطةفي هذه السنة فسد حال القرامطة، وقتل بعضهم بعضاً.

وسبب ذلك أنه كان رجل منهم يقال له ابن سنبر، وهو من خواص أبي سعيد القرمطي والمطلعين على سره وكان له عدو من القرامطة اسمه أبو حفص الشريك، فعمد ابن سنبر إلى رجل من أصبهان وقال له: إذا ملكتك أمر القرامطة أريد منك أن تقتل عدوي أبا حفص؛ فأجابه إلى ذلك وعاهده عليه، فأطلعه على أسرار أبي سعيد، وعلامات كان يذكر أنها في صاحبهم الذي يدعون إليه، فحضر عند أولاد أبي سعيد، وذكر لهم ذلك، فقال أبو طاهر: هذا هو الذي يدعون إليه، فحضر عند أولاد أبي سعيد، وذكر لهم ذلك، فقال أبو طاهر: هذا هو الذي يدعو إليه؛ فأطاعوه، ودانوا له، حتى كان يأمر الرجل بقتل أخيه فيقتله، وكان إذا كره رجلاً يقول له إنه مريض، يعني أنه قد شك في دينه، ويأمر بقتله.
وبلغ أبا طاهر أن الأصبهاني يريد قتله ليتفرد بالملك، فقال لإخوته: لقد أخطأنا في هذا الرجل، وسأكتشف حاله، فقال له: إن لنا مريضاً، فانظر إليه ليبرأ، فحضروا وأضجعوا والدته وغطوها بإزار، فلما رآها قال: أن هذا المريض لا يبرأ فاقتلوه ! فقالوا له: كذبت، هذه والدته؛ ثم قتلوه بعد أن قتل منهم خلق كثير من عظمائهم وشجعانهم. وكان هذا سبب تمسكهم بهجر، وترك قصد البلاد، والإفساد فيها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة، وكان القيم به ابن ورقاء الشيباني، وكان عدة من فودي من المسلمين ستة آلاف وثلاثمائة من بين ذكر وأنثى، وكان الفداء على نهر البدندون.
وفيها ولد الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة

ذكر مسير الراضي وبجكم إلى الموصل
وظهور ابن رائق ومسيره إلى الشام
في هذه السنة، في المحرم، سار الراضي بالله وبجكم إلى الموصل وديار ربيعة.
وسبب ذلك أن ناصر الدولة بن حمدان أخر المال الذي عليه من ضمان البلاد التي بيده، فاغتاظ الراضي منه لسبب ذلك، فسار هو وبجكم إلى الموصل، ومعهما قاضي القضاة أبو الحسين عمر بن محمد، فلما بلغوا تكريت أقام الراضي بها، وسار بجكم، فلقيه ناصر الدولة بالكحيل على ستة فراسخ من الموصل، فاقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم أصحاب ناصر الدولة، وساروا إلى نصيبين، وتبعهم بجكم ولم ينزل بالموصل.
فلما بلغ نصيبين سار ابن حمدان إلى آمد، وكتب بجكم إلى الراضي بالفتح، فسار من تكريت في الماء يريد الموصل، وكان مع الراضي جماعة من القرامطة، فانصرفوا عنه إلى بغداد قبل وصول كتاب بجكم، وكان ابن رائق يكاتبهم، فلما بلغوا بغداد ظهر ابن رائق من استتاره واستولى على بغداد، ولم يعرض لدار الخليفة.
وبلغ الخبر إلى الراضي، فأصعد من الماء إلى البر، سار إلى الموصل، وكتب إلى بجكم بذلك، فعاد عن نصيبين، فلما بلغ خبر عوده إلى ناصر الدولة سار من آمد إلى نصيبين، فاستولى عليها وعلى ديار ربيعة، فقلق بجكم لذلك، وتسلل أصحابه إلى بغداد، فاحتاج أن يحفظ أصحابه، وقال: قد حصل الخليفة وأمير الأمراء على قصبة الموصل حسب.
وأنفذ ابن حمدان قبل أن يتصل به خبر ابن رائق، يطلب الصلح ويعجل خمسمائة ألف درهم، ففرح بجكم بذلك، وأنهاه إلى الراضي، فأجاب إليه، واستقر الصلح بينهم، وانحدر الراضي وبجكم إلى بغداد. وكان قد راسلهم ابن رائق مع أبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد يلتمس الصلح، فسار إليهم إلى الموصل وأدى الرسالة إلى بجكم، فأكرمه بجكم وأنزله معه، وأحسن إليه، وقدمه إلى الراضي فأبلغه الرسالة أيضاً، فأجابه الراضي وبجكم إلى ما طلب وأرسل في جواب رسالته قاضي القضاة أبا الحسين عمر بن محمد، وقلده طريق الفرات وديار مضر: حران والرها وما جاورها وجند قنسرين والعواصم، فأجاب ابن رائق أيضاً إلى هذه القاعدة، وسار عن بغداد إلى ولايته، ودخل الراضي وبجكم بغداد تاسع ربيع الآخر.
ذكر وزارة البريدي للخليفةفي هذه السنة مات الوزير أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بالرملة، وقد ذكرنا سبب مسيره إلى الشام، فكانت وزارته سنة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوماً، ولما سار إلى الشام استناب بالحضرة عبد الله بن علي النقري.

وكان بجكم قد قبض على وزيره علي بن خلف بن طباب، فاستوزر أبا جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد، فسعى أبو جعفر في الصلح بين بجكم والبريدي، فتم ذلك، ثم ضمن البريدي أعمال واسط بستمائة ألف دينار كل سنة، ثم شرع ابن شيرزاد أيضاً، بعد موت أبي الفتح الوزير بالرملة، في تقليد أبي عبدالله البريدي الوزارة؛ فأرسل إليه الراضي في ذلك، فأجاب إليه في رجب، واستناب بالحضرة عبدالله بن علي النقري أيضاً كما كان يخلف أبا الفتح.
ذكر مخالفة بالبا على الخليفةكان بجكم قد استناب بعض قواد الأتراك ويعرف ببالبا على الأنبار، فكاتبه يطلب أن يقلد أعمال طريق الفرات بأسرها ليكون في وجه ابن رائق، وهو بالشام، فقلده بجكم ذلك، فسار إلى الرحبة، وكاتب ابن رائق، وخالف على بجكم والراضي، وأقام الدعوة لابن رائق وعظم أمره.
فبلغ الخبر إلى بجكم فسير طائفة من عسكره وأمرهم بالجد وأن يطووا المنازل ويسبقوا خبرهم ويكبسوا بالرحبة، ففعلوا ذلك، فوصلوا إلى الرحبة في خمسة أيام، ودخلوها على حين غفلة من بالبا، وهو يأكل الطعام، فلما بلغه الخبر اختفى عند إنسان حائك، ثم ظفروا به فأخذوه وأدخلوه بغداد على جمل ثم حبس، فكان آخر العهد به.
ذكر ولاية أبي علي بن محتاج خراسانفي هذه السنة استعمل الأمير السعيد نصر بن أحمد على خراسان وجيوشها أبا علي أحمد بن أبي بكر محمد بن المظفر بن محتاج، وعزل أباه واستقدمه إلى بخارى.
وسبب ذلك أن أبا بكر مرض مرضاً شديداً طال به، فأنفذ السعيد فأحضر ابنه أبا علي من الصغانيان، واستعمله مكان أبيه، وسيره إلى نيسابور، وكتب إلى أبيه يستدعيه إليه، فسار عن نيسابور، فلقيه ولده على ثلاث مراحل من نيسابور، فعرفه ما يحتاج إلى معرفته، وسار أبو بكر إلى بخارى مريضاً، ودخل ولده أبو علي نيسابور أميراً في شهر رمضان من هذه السنة.
وكان أبو علي عاقلاً شجاعاً حازماً، فأقام بها ثلاثة أشهر يستعد للمسير إلى جرجان وطبرستان، وسنذكر ذلك سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
ذكر غلبة وشمكير على أصبهان وألموتوفيها أرسل وشمكير بن زيار أخو مرداويج جيشاً كثيفاً من الري إلى أصبهان، وبها أبو علي الحسن بن بويه، وهو ركن الدولة، فأزالوه عنها، واستولوا عليها، وخطبوا فيها لوشمكير، ثم سار ركن الدولة إلى بلاد فارس فنزل بظاهر إصطخر، وسار وشمكير إلى قلعة ألموت فملكها وعاد عنها، وسيرد من أخبارهما سنة ثمان وعشرين ما تقف عليه.
ذكر الفتنة بالأندلسوفي هذه السنة عصى أمية بن إسحاق، بمدينة شنترين، على عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس.
وسبب ذلك أنه كان له أخ اسمه أحمد، وكان وزيراً لعبد الرحمن، فقتله عبد الرحمن، وكان أمية بشنترين، فلما بلغه ذلك عصى فيها، والتجأ إلى ردمير ملك الجلالقة، ودله على عورات المسلمين، ثم خرج أمية في بعض الأيام يتصيد، فمنعه أصحابه من دخول البلد، فسار إلى ردمير فاستوزره.
وغزا عبد الرحمن بلاد الجلالقة، فالتقى هو وردمير هذه السنة، فانهزمت الجلالقة، وقتل منهم خلق كثير، وحصرهم عبد الرحمن.
ثم إن الجلالقة خرجوا عليه وظفروا به وبالمسلمين، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأراد اتباعهم، فمنعه أمية وخوفه المسلمين ورغبه في الخزائن والغنيمة.
وعاد عبد الرحمن بعد هذه الوقعة فجهز الجيوش إلى بلاد الجلالقة، فألحوا عليهم بالغارات، وقتلوا منهم أضعاف ما قتلوا من المسلمين، ثم إن أمية استأمن إلى عبد الرحمن، فأكرمه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة انكسف القمر جميعه في صفر.
وفيها مات عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي صاحب الجرح والتعديل، وعثمان بن الخطاب بن عبدالله أبو الدنيا المعروف بالأشج الذي يقال إنه لقي علي بن أبي طالب، عليه السلام، وقيل إنهم كانوا يسمونه، ويكنونه أبا الحسن آخر أيامه، وله صحيفة تروى عنه ولا تصح، وقد رواها كثير من المحدثين مع علم منهم بضعفها.
وفيها توفي محمد بن جعفر بن محمد بن سهل أبو بكر الخرائطي صاحب تصانيف المشهورة، كاعتلال القلوب وغيره، بمدينة يافا.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة

ذكر استيلاء أبي علي على جرجان

في هذه السنة، في المحرم، سار أبو علي بن محتاج في جيش خراسان من نيسابور إلى جرجان، وكان بجرجان ما كان بن كالي قد خلع طاعة الأمير نصر بن أحمد، فوجدهم أبو علي قد غوروا المياه، فعدل عن الطريق إلى غيره، فلم يشعروا به، حتى نزل على فرسخ من جرجان، فحصر ما كان بها، وضيق عليه، وقطع الميرة عن البلد، فاستأمن إليه كثير من أصحاب ما كان، وضاق الحال بمن بقي بجرجان، حتى صار الرجل يقتصر كل يوم على حفنة سمسم، أو كيلة من كسب، أو باقة بقل.
واستمد ما كان من وشمكير، وهو بالري، فأمده بقائد من قواده يقال له شيرح بن النعمان، فلما وصل إلى جرجان ورأى الحال شرع في الصلح بين أبي علي وبين ما كان بن كالي ليجعل له طريقاً ينجو فيه، ففعل أبو علي ذلك، وهرب ما كان إلى طبرستان، واستولى أبو علي على جرجان في أواخر سنة ثمان وعشرين، واستخلف عليها إبراهيم بن سيمجور الدواتي، بعد أن أصلح حالها، وأقام بها إلى المحرم سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، فسار إلى الري على ما نذكره.
ذكر مسير ركن الدولة إلى واسطفي هذه السنة سار ركن الدولة أبو علي الحسن بن بويه إلى واسط. وكان سبب ذلك أن أبا عبدالله البريدي أنفذ جيشاً إلى السوس، وقتل قائداً من الديلم؛ فتحصن أبو جعفر الصيمري بقلعة السوس، وكان على خراجها.
وكان معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه بالأهواز، فخاف أن يسير إليه البريدي من البصرة، فكتب إلى أخيه ركن الدولة، وهو بباب إصطخر قد عاد من أصبهان على ما ذكرناه، فلما أتاه كتاب أخيه سار إليه مجداً يطوي المنازل، حتى وصل إلى السوسن ثم سار إلى واسط ليستولي عليها إذ كان قد خرج عن أصبهان، وليس له ملك ليستقل به، فنزل بالجانب الشرقي، وكان البريديون بالجانب الغربي، فاضطرب رجال ابن بويه، فاستأمن منهم مائة رجل إلى البريدي.
ثم سار الراضي وبجكم من بغداد نحو واسط لحربه، فخاف أن يكثر الجمع عليه ويستأمن رجاله فيهلك، لأنه كان له سنة لم ينفق فيهم مالاً، فعاد من واسط إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز.
ذكر ملك ركن الدولة أصبهانوفيها عاد ركن الدولة فاستولى على أصبهان؛ سار من رامهرمز فاستولى عليها، وأخرج عنها أصحاب وشمكير، وقتل منهم، واستأسر بضعة عشر قائداً.
وكان سبب ذلك أن وشمكير كان قد أنفذ عسكره إلى ما كان نجدةً له على ما ذكرناه، فخلت بلاد وشمكير من العساكر، وسار ركن الدولة إلى أصبهان، وبها نفر يسير من العساكر، فهزمهم واستولى عليها، وكاتب هو وأخوه عماد الدولة أبا علي بن محتاج يحرضانه على ما كان ووشمكير، ويعدانه المساعدة عليهما، فصار بينهم بذلك مودة.
ذكر مسير بجكم نحو بلاد الجبلفي هذه السنة سار بجكم من بغداد نحو بلاد الجبل، ثم عاد عنها.
وكان سبب ذلك أنه صالح هذه السنة أبا عبدالله البريدي، وصاهره، وتزوج ابنته، فأرسل إليه البريدي يشير عليه بأن يسير إلى بلاد الجبل لفتحها والاستيلاء عليها، ويعرفه أنه إذا سار إلى الجبل سار هو إلى الأهواز واستنقذها من يد ابن بويه، فاتفقا على ذلك، وأنفذ إليه بجكم خمسمائة رجل من أصحابه معونة له، وأنفذ إليه صاحبه أبا زكرياء السوسي يحثه على الحركة، ويكون عنده إلى أن يرحل عن واسط إلى الأهواز.
وسار بجكم إلى حلوان، وصار أبو زكرياء السوسي يحث ابن البريدي على المسير إلى السوس والأهواز، وهو يدافع الأوقات، وكان عازماً على قصد بغداد، إذ أبعد عنها بجكم، ليستولي عليها، وهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وينتظر به الدوائر من هزيمة أو قتل. وأقام أبو زكرياء عنده نحو شهر يحثه على المسير، وهو يغالطه، فعلم أبو زكرياء مقصوده، فكتب إلى بجكم بذلك، فلحقه الخبر وهو سائر، فركب الجمازات وعاد إلى بغداد، وخلف عسكره وراءه.
ووصل الخبر إلى البريدي بدخول بجكم إلى بغداد، فسقط في يده، ثم أتته الأخبار بأن بجكم قد سار نحوه.
ذكر استيلاء بجكم على واسط

لما عاد بجكم إلى بغداد تجهز للانحدار إلى واسط، وحفظ الطرق لئلا يصل خبره إلى البريدي فيتحرز، وانحدر هو في الماء في العشرين من ذي القعدة، وسير عسكره في البر، وأسقط اسم البريدي من الوزارة، وجعل مكانه أبا القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد، وكانت وزارة البريدي سنة واحدة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوماً، وقبض على ابن شيرزاد لأنه هو كان سبب وصلته بالبريدي، وأخذ منه مائة وخمسين ألف دينار.
فمن عجيب الاتفاق أن بجكم كان له كاتب على أمر داره وحاشيته، وهو معه في السفينة عند انحداره إلى واسط، فجاء طائر فسقط على صدر السفينة، فأخذ وأحضر عند بجكم، فوجد على ذنبه كتاباً ففتحه، وإذا هو من هذا الكاتب إلى أخ له مع البريدي يخبره بخبر بجكم، وما هو عازم عليه، فألقي الكتاب إليه، فاعترف به إذ لم يمكنه جحده لأنه بخطه، فأمر بقتله، فقتل وألقاه في الماء.
ولما بلغ خبر بجكم إلى البريدي سار عن واسط إلى البصرة، ولم يقم بها، فلما وصل إليها بجكم لم يجد بها أحداً، فاستولى عليها، وكان بجكم قد خلف عسكراً ببلد الجبل، فقصدهم الديلم والجيل، فانهزموا وعادوا إلى بغداد.
ذكر استيلاء ابن رائق على الشامفي هذه السنة استولى ابن رائق على الشام، وقد ذكرنا مسيره فيما تقدم، فلما دخل الشام قصد مدينة حمص فملكها، ثم سار منها إلى دمشق، وبها بدر بن عبدالله الإخشيدي، المعروف ببدير، والياً عليها للإخشيد، فأخرجه ابن رائق منها وملكها، وسار منها إلى الرملة فملكها.
وسار إلى عريش مصر يريد الديار المصرية، فلقيه الإخشيد محمد بن طغج، وحاربه، فانهزم الإخشيد، فاشتغل أصحاب ابن رائق بالنهب، ونزلوا في خيم أصحاب الإخشيد، فخرج عليهم كمين للإخشيد فأوقع بهم وهزمهم وفرقهم، ونجا ابن رائق في سبعين رجلاً، ووصل إلى دمشق على أقبح صورة.
فسير إليه الإخشيد أخاه أبا نصر بن طغج في جيش كثيف، فلما سمع بهم ابن رائق سار إليهم من دمشق، فالتقوا باللجون رابع ذي الحجة، فانهزم عسكر أبي نصر، وقتل هو، فأخذه ابن رائق وكفنه وحمله إلى أخيه الإخشيد، وهو بمصر، وأنفذ معه ابنه مزاحم بن محمد ابن رائق، وكتب إلى الإخشيد كتاباً يعزيه عن أخيه، ويعتذر مما جرى ويحلف أنه ما أراد قتله، وأنه قد أنفذ ابنه ليفديه به إن أحب ذلك، فتلقى الإخشيد مزاحماً بالجميل، وخلع عليه، ورده إلى أبيه واصطلحا على أن تكون الرملة وما وراءها إلى مصر للإخشيد، وباقي الشام لمحمد بن رائق، ويحمل إليه الإخشيد عن الرملة كل سنة مائة ألف وأربعين ألف دينار.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل طريف السبكري.
وفيها عزل بجكم وزيره أبا جعفر بن شيرزاد لما ذكرناه، وصادره على مائة وخمسين ألف دينار، واستوزر بعده أبا عبدالله الكوفي.
وفيها توفي محمد بن يعقوب، وقتل محمد بن علي أبو جعفر الكليني، وهو من أئمة الإمامية وعلمائهم.
الكليني بالياء المعجمة باثنتين من تحت ثم بالنون وهو ممال.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن أحمد بن أيوب المقريء البغدادي المعروف بابن شنبوذ في صفر.
وفيها توفي أبو محمد جعفر المرتعش، وهو من أعيان مشايخ الصوفية، وهو نيسابوري سكن بغداد، وقاضي القضاة عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف، وكان قد ولي القضاء بعد أبيه.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن محمد بن بشار المعروف بابن الأنباري، وهو مصنف كتاب الوقف والابتداء.
وفيها في حادي عشر شوال مات الوزير أبو علي بن مقلة في الحبس.
وفيها لليلتين بقيتا من شوال توفي الوزير أبو العباس الخصيبي بسكتة لحقته، بينه وبين ابن مقلة سبعة عشر يوماً.
وفيها مات أبو عبدالله القمي، وزير ركن الدولة بن بويه، فاستوزر بعده أبا الفضل بن العميد، فتمكن منه، فنال ما لم ينله أحد من وزراء بني بويه، وسيرد من أخباره ما يعلم به محله.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة

ذكر موت الراضي بالله
في هذه السنة مات الراضي بالله أبو العباس أحمد بن المقتدر، منتصف ربيع الأول، وكانت خلافته ست سنين وعشرين أشهر وعشرة أيام، وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة وشهوراً، وكانت علته الاستسقاء، وكان أديباً شاعراً، فمن شعره:
يصفرّ وجهي إذا تأمّله ... طرفي ويحمرّ وجهه خجلا

حتّى كأنّ الذي بوجنته ... من دم جسمي إليه قد نقلا
وله أيضاً يرثي أباه المقتدر:
ولو أنّ حيّاً كان قبراً لميّتٍ ... لصيّرت أحشائي لأعظمه قبرا
ولو أنّ عمري كان طوع مشيئتي ... وساعدني التقدير قاسمته العمرا
بنفس ثرىً ضاجعت في تربه البلى ... لقد ضمّ منك الغيث والليث والبدرا
ومن شعره أيضاً:
كلّ صفوٍ إلى كدر ... كلّ أمنٍ إلى حذر
ومصير الشباب لل ... موت فيه أو الكبر
درّ درّ المشيب من ... واعظ ينذر البشر
أيّها الآمل الذي ... تاه في لجّة الغرر
أين من كان قبلها ... درس العين والأثر
سيردّ المعاد من ... عمره كلّه خطر
ربّ إنّي ذخرت عن ... دك أرجوك مدّخر
إنّني مؤمن بما بيّ ... ن الوحي في السّور
واعترافي بترك نف ... عي وإيثاري الضّرر
ربّ، فاغفر لي الخطي ... ئة يا خير من غفر
وكان الراضي أيضاً سمحاً، يحبّ محادثة الأدباء والفضلاء، والجلوس معهم.
ولّما مات أحضر بجكم ندماءه وجلساءه وطمع أن ينتفع بهم، فلم يفهم منهم ما ينتفع به، وكان منهم سنان بن ثابت الصابي الطبيب، فأحضره وشكا إليه غلبة القوة الغضبية عليه، وهو كاره لها، فما زال معه في تقبيح ذلك عنده، وتحسين ضده من الحلم، والعفو، والعدل، وتوصل معه حتى زال أكثر ما كان يجده، وكف عن القتل والعقوبات.
وكان الراضي أسمر، أعين، خفيف العارضين، وأمه أم ولد اسمها ظلوم، وختم الخلفاء في أمور عدة، فمنها: أنه آخر خليفة له شعر يدون، وآخر خليفة خطب كثيراً على منبر، وإن كان غيره قد خطب نادراً لا اعتبار به، وكان آخر خليفة جالس الجلساء، ووصل إليه الندماء، وآخر خليفة كانت له نفقته، وجوائزه، وعطاياه، وجراياته، وخزائنه، ومطابخه، ومجالسه، وخدمه، وحجابه، وأموره على ترتيب الخلفاء المتقدمين.
ذكر خلافة المتقي للهلّما مات الراضي بالله بقي الأمر في الخلافة موقوفاً انتظاراً لقدوم أبي عبد الله الكوفي، كاتب بجكم، من واسط، وكان بجكم بها.
واحتيط على دار الخلافة، فورد كتاب بجكم مع الكوفي يأمر فيه بأن يجتمع مع أبي القاسم سليمان بن الحسن وزير الراضي، كل من تقلد الوزارة، وأصحاب الدواوين، والعلويون، والقضاة، والعباسيون، ووجوه البلد، ويشاورهم الكوفي فيمن ينصب للخلافة ممن يرتضي مذهبه وطريقته، فجمعهم الكوفي واستشارهم، فذكر بعضهم إبراهيم بن المقتدر، وتفرقوا على هذا، فلما كان الغد اتفق الناس عليه، فأحضر في دار الخلافة، وبويع له في العشرين من ربيع الأول، وعرضت عليه ألقاب، فاختار المتقي لله، وبايعه الناس كافة، وسير الخلع واللواء إلى بجكم بواسط.
وكان بجكم، بعد موت الراضي وقبل استخلاف المتقي، قد أرسل إلى دار الخلافة فأخذ فرشاً وآلات كان يستحسنها، وجعل سلامة الطولوني حاجبه، وأقر سليمان على وزارته، وليس من الوزارة إلا اسمها، وإنما التدبير كله إلى الكوفي كاتب بجكم.
ذكر قتل ماكان بن كالي واستيلاء أبي علي بن محتاج على الريقد ذكرنا مسير أبي علي بن محمد بن المظفر بن محتاج إلى جرجان، وإخراج ما كان عنها، فلما سار عنها ما كان قصد طبرستان وأقام بها، وأقام أبو علي بجرجان يصلح أمرها، ثم استخلف عليها إبراهيم بن سيمجور الدواتي، وسار نحو الري في المحرم من هذه السنة، فوصلها في ربيع الأول، وبها وشمكير بن زيار، أخو مرداويج.
وكان عماد الدولة وركن الدولة ابنا بويه يكاتبان أبا علي، ويحثانه على قصد وشمكير، ويعدانه المساعدة، وكان قصدهما أن تؤخذ الري من وشمكير، فإذا أخذها أبو علي لا يمكنه المقام بها لسعة ولايته بخراسان، فيغلبان عليها.

وبلغ أمر اتفاقهم إلى وشمكير. وكاتب ما كان بن كالي يستخدمه ويعرفه الحال، فسار ما كان بن كالي من طبرستان إلى الري، وسار أبو علي وأتاه عسكر ركن الدولة بن بويه، فاجتمعوا معه بإسحاقاباذ، والتقوا هم ووشمكير، ووقف ما كان بن كالي في القلب وباشر الحرب بنفسه، وعبأ أبو علي أصحابه كراديس، وأمر من بإزاء القلب أن يلحوا عليهم في القتال، ثم يتطاردوا لهم ويستجروهم، ثم وصى من بأزاء الميمنة والميسرة أن يناوشوهم مناوشة بمقدار ما يشغلونهم عن مساعدة من في القلب، ولا يناجزوهم، ففعلوا ذلك.
وألح أصحابه على قلب وشمكير بالحر، ثم تطاردوا لهم، فطمع فيهم ما كان ومن معه، فتبعوهم، وفارقوا مواقفهم، فحينئذ أمر أبو علي الكراديس التي بإزاء الميمنة والميسرة أن يتقدم بعضهم، ويأتي من في قلب وشمكير من ورائهم، ففعلوا ذلك، فلما رأى أبو علي أصحابه قد أقبلوا من وراء ما كان ومن معه من أصحابه أمر المتطاردين بالعود والحملة على ما كان وأصحابه، وكانت نفوسهم قد قويت بأصحابهم، فرجعوا وحملوا على أولئك، وأخذهم السيف من بين أيديهم ومن خلفهم فولوا منهزمين.
فلما رأى ما كان ذلك ترجل، وأبلى بلاء حسناً، وظهرت منه شجاعة لم ير الناس مثلها، فأتاه سهم غرب، فوقع في جبينه، فنفذ في الخوذة والرأس حتى طلع من قفاه، وسقط ميتاً، وهرب وشمكير ومن سلم معه إلى طبرستان، فأقم بها، واستولى أبو علي على الري، وأنفذ رأ ما كان إلى بخارى والسهم فيه، ولم يحمل إلى بغداد حتى قتل بجكم لأن بجكم كان من أصحابه، وجلس للعزاء لما قتل، فلما قتل بجكم حمل الرأس من بخارى إلى بغداد فيه وفي الخوذة، وأنفذ أبو علي الأسرى إلى بخارى أيضاً، وكانوا بها حتى دخل وشمكير في طاعة آل سامان، وسار إلى خراسان فاستوهبهم، فأطلقوا له على ما نذكره سنة ثلاثين.
ذكر قتل بجكموفي هذه السنة قتل بجكم.
وكان سبب قتله أن أبا عبدالله البريدي أنفذ جيشاً من البصرة إلى مذار، فأنفذ بجكم جيشاً إليهم عليهم توزون، فاقتتلوا قتالاً شديداً كان أولاً على توزون، فكتب إلى بجكم يطلب أن يلحق به، فسار بجكم إليهم من واسط، منتصف رجب، فلقيه كتاب توزون بأنه ظفر بهم وهزمهم، فأراد الرجوع إلى واسط، فأشار عليه بعض أصحابه بأن يتصيد، فقبل منه، وتصيد حتى بلغ نهر جور، فسمع أن هناك أكراداً لهم مال وثروة، فشرهت نفسه إلى أخذه، فقصدهم في قلة من أصحابه بغير جنة تقية، فهرب الأكراد من بين يديه، ورمى هو أحدهم فلم يصه، فرمى آخر فأخطأه أيضاً، وكان لا يخيب سهمه، فأتاه غلام من الأكراد من خلفه وطعنه في خاصرته، وهو لا يعرفه، فقتله وذلك لأربع بقين من رجب، واختلف عسكره، فمضى الديلم خاصة نحو البريدي، وكانوا ألفاً وخمسمائة، فأحسن إليهم، وأضعف أرزاقهم، وأوصلها إليهم دفعة واحدة.
وكان البريدي قد عزم على الهرب من البصرة هو وإخوته، وكان بجكم قد راسل أهل البصرة وطيب قلوبهم، فمالوا إليه فأتى البريديين الفرج من حيث لم يحتسبوا، وعاد أتراك بجكم إلى واسط، وكان تكينك محبوساً بها، حبسه بجكم، وأخرجوه من محبسه، فسار بهم إلى بغداد، وأظهروا طاعة المتقي لله.
وصار أبو الحسين أحمد بن ميمون يدبر الأمور، واستولى المتقي على دار بجكم، فأخذ ماله منها، وكان قد دفن فيها مالاً كثيراً، وكذلك أيضاً في الصحراء لأنه خاف أن ينكب فلا يصل إلى ماله في داره.
وكان مبلغ ما أخذ من ماله ودفائنه ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وكانت مدة إمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام.
ذكر إصعاد البريديين إلى بغدادلما قتل بجكم اجتمعت الديلم على بلسواز بن مالك بن مسافر، فقتله الأتراك، فانحدر الديلم إلى أبي عبدالله البريدي، وكانوا منتخبين ليس فيهم حشو، فقوي بهم، وعظمت شوكته، فأصعده من البصرة إلى واسط في شعبان، فأرسل المتقي لله إليهم يأمرهم أن لا يصعدوا، فقالوا: نحن محتاجون إلى مال، فإن أنفذ لنا منه شيء لم نصعد؛ فأنفذ إليهم مائة ألف وخمسين ألف دينار، فقال الأتراك للمتقي: نحن نقاتل بني البريدي، فأطلق لنا مالاً وانصب لنا مقدماً؛ فأنفق فيهم مالاً، وفي أجناد بغداد القدماء، أربعمائة ألف دينار من المال الذي أخذ لبجكم، وجعل عليهم سلامة الطولوني، وبرزوا مع المتقي لله إلى نهر ديالي يوم الجمعة لثمان بقين من شعبان.

وسار البريدي من واسط إلى بغداد، ولم يقف على ما استقر معه، فلما قرب من بغداد اختلف الأتراك البجكمية، واستأمن بعضهم إلى البريدي، وبعضهم سار إلى الموصل، واستتر سلامة الطولوني وأبو عبدالله الكوفي، ولم يحصل الخليفة إلا على إخراج المال، وهم أرباب النعم والأموال، بالانتقال من بغداد خوفاً من البريدي وظلمه وتهوره.
ودخل أبو عبدالله البريدي بغداد ثاني عشر رمضان، ونزل بالشفيعي، ولقيه الوزير أبو الحسين، والقضاة، والكتاب، وأعيان الناس، وكان معه من أنواع السفن ما لا يحصى كثرةً، فأنفذ إليه المتقي يهنيه بسلامته، وأنفذ إليه طعاماً وغيره عدة ليال، وكان يخاطب بالوزير، وكذلك أبو الحسين بن ميمون وزير الخليفة أيضاً، ثم عزل أبو الحسين، وكانت مدة وزارة أبي الحسين ثلاثة وثلاثين يوماً، ثم قبض أبو عبدالله البريدي على أبي الحسين وسيره إلى البصرة وحبسه بها إلى أن مات في صفر سنة ثلاثين وثلاثمائة من حمى حادة.
ثم أنفذ البريدي إلى المتقي يطل خمسمائة ألف دينار ليفرقها في الجند، فامتنع عليه، فأرسل إليه يتهدده، ويذكره ما جرى على المعتز، والمستعين، والمهتدي، وترددت الرسل، فأنفذ إليه تمام خمسمائة ألف دينار ولم يلق البريدي المتقي لله مدة مقامه ببغداد.
ذكر عود البريدي إلى واسطكان البريدي يأمر الجند بطلب الأموال من الخليفة، فلما أنفذ الخليفة إليه المال المذكور انصرفت أطماع الجند عن الخليفة إلى البردي وعادت مكيدته عليه، فشغب الجند عليه، وكان الديلم قد قدموا على أنفسهم كورتكين الديلمي وقدم الأتراك على أنفسهم تكينك التركي غلام بجكم، وثار الديلم إلى دار البريدي، فأحرقوا دار أخيه أبي الحسين التي كان ينزلها، ونفروا عن البريدي وانضاف تكينك إليهم، وصارت أيديهم واحدة، واتفقوا على قصد البريدي ونهب ما عنده من الأموال، فساروا إلى النجمي ووافقهم العامة، فقطع البريدي الجسر، ووقعت الحرب في الماء ووثب العامة بالجانب الغربي على أصحاب البريدي، فهرب هو وأخوه وابنه أبو القاسم وأصحابه، وانحدروا في الماء إلى واسط، ونهبت داره في النجمي ودور قواده؛ وكان هربه سلخ رمضان، وكانت مدة مقامه أربعة وعشرين يوماً.
ذكر إمارة كورتكين الديلميلما هرب البريدي استولى كورتكين على الأمور ببغداد، ودخل إلى المتقي لله، فقلده إمارة الأمراء، وخلع عليه، واستدعى المتقي علي بن عيسى وأخاه عبد الرحمن بن عيسى، فأمر عبد الرحمن فدبر الأمر من غير تسمية بوزارة، ثم إن كورتكين قبض تكينك التركي خامس شوال، وغرقه، وتفرد بالأمر، ثم أن العامة اجتمعوا يوم الجمعة سادس شوال، وتظلموا من الديلم ونزولهم في دورهم، فلم ينكر ذلك، فمنعت العامة الخطيب من الصلاة، واقتتلوا هم والديلم، فقتل من الفريقين جماعة.
ذكر عود ابن رائق إلى بغدادفي هذه السنة عاد أبو بكر محمد بن رائق من الشام إلى بغداد، وصار أمير الأمراء.
وكان سبب ذلك أن الأتراك البجكمية لما ساروا إلى الموصل لم يروا عند ابن حمدان ما يريدون، فساروا نحو الشام إلى ابن رائق، وكان فيهم من القواد توزون، وخجخج، ونوشتكين، وصيغون، فلما وصلوا إليه أطمعوه في العود إلى العراق، ثم وصلت إليه كتب المتقي يستدعيه، فسار من دمشق في العشرين من رمضان، واستخلف على الشام أبا الحسن أحمد بن علي بن مقاتل، فلما وصل إلى الموصل تنحى عن طريقه ناصر الدولة بن حمدان، فتراسلا، واتفقا على أن يتصالحا، وحمل ابن حمدان إليه مائة ألف دينار، وسار ابن رائق إلى بغداد، فقبض كورتكين على القراريطي الوزير، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي في ذي القعدة، وكانت وزارة القراريطي ثلاثة وأربعين يوماً، وبلغ خبر ابن رائق إلى أبي عبدالله البريدي، فسير إخوته إلى واسط فدخلوها، وأخرجوا الديلم عنها، وخطبوا له بواسط، وخرج كورتكين عن بغداد إلى عكبرا، ووصل إليه ابن رائق، فوقعت الحرب بينهم، واتصلت عدة أيام.

فلما كان ليلة الخميس لتسع بقين من ذي الحجة سار ابن رائق ليلاً من عكبرا هو وجيشه، فأصبح ببغداد، فدخلها من الجانب الغربي هو وجميع جيشه، ونزل في النجمي، وعبر من الغد إلى الخليفة فلقيه، وركب المتقي لله معه في دجلة، ثم عاد ووصل هذا اليوم بعد الظهر كورتكين مع جميع جيشه من الجانب الشرقي، وكانوا يستهزئون بأصحاب ابن رائق ويقولون: أين نزلت هذه القافلة الواصلة من الشام ؟ ونزلوا بالجانب الشرقي.
ولما دخل كورتكين بغداد أيس ابن رائق من ولايتها فأمر بحمل أثقاله والعود إلى الشام، فرفع الناس أثقالهم، ثم إنه عزم أن يناوشهم شيئاً من قتال قبل مسيره، فأمر طائفة من عسكره أن يعبروا دجلة ويأتوا الأتراك من ورائهم، ثم إنه ركب في سميرية، وركب معه عدة من أصحابه في عشرين سميرية، ووقفوا يرمون الأتراك بالنشاب. وصل أصحابه وصاحوا من خلفهم، واجتمعت العامة مع أصحاب ابن رائق يضجون، فظن كورتكين أن العسكر قد جاءه من خلفه ومن بين يديه، فانهزم هو وأصحابه، واختفى هو، ورجمهم العامة بالآجر وغيره.
وقوي أمر ابن رائق، وأخذ من استأمن إليه من الديلم فقتلهم عن آخرهم وكانوا نحو أربعمائة، فلم يسلم منهم غير رجل واحد اختفى بين القتلى، وحمل معهم في الجواليق، وألقي في دجلة فسلم وعاش بعد ذلك دهراً؛ وقتل الأسرى من قواد الديلم، وكانوا بضعة عشر رجلاً، وخلع المتقي على ابن رائق، وجعله أمير الأمراء، وأمر أبا جعفر الكرخي بلزوم بيته، وكانت وزارته ثلاثة وثلاثين يوماً، واستولى أحمد الكوفي على الأمر فدبره، ثم ظفر ابن رائق بكورتكين فحبس بدار الخليفة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان بالعراق غلاء شديد، فاستسقى الناس في ربيع الأول، فسقوا مطراً قليلاً لم يجر منه ميزاب، ثم اشتد الغلاء والوباء، وكثر الموت حتى كان يدفن الجماعة في القبر الواحد ولا يغسلون، ولا يصلى عليهم، ورخص العقار ببغداد والأثاث حتى بيع ما ثمنه دينار بدرهم. وانقضى تشرين الأول، وتشرين الثاني، والكانونان، وشباط، ولم يجيء غير المطرة التي عند الاستسقاء، ثم جاء المطر في آذار ونيسان.
وفيها، في شوال، استوزر المتقي لله أبا إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي المعروف بالقراريطي، بعد عود بني البريدي من بغداد، وجعل بدراً الخرشني حاجبه، فبقي وزيراً إلى الخامس والعشرين من ذي القعدة، فقبض عليه كورتكين، وكانت وزارته ثلاثة وأربعين يوماً، واستوزر بعده أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي، فبقي وزيراً إلى الثامن والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، فعزله ابن رائق لما استولى على الأمور ببغداد، فكانت وزارته اثنين وثلاثين يوماً، ودبر الأمور أبو عبدالله الكوفي كاتب ابن رائق من غير تسمية بوزارة.
وفيها عاد الحجاج إلى العراق، ولم يصلوا إلى المدينة بل سلكوا الجادة بسبب طالبي ظهر بتلك الناحية وقوي أمره.
وفيها كثرت الحميات ووجع المفاصل في الناس، ومن عجل الفصاد بريء وإلا طال مرضه.
وفي أيام الراضي توفي أبو بشر أخو متى بن يونس الحكيم الفيلسوف، وله تصانيف في شرح كتب أرسطاطاليس.
وفيها، في ذي الحجة، مات بختيشوع بن يحيى الطبيب.
وفيها مات محمد بن عبدالله البلغمي، وزير السعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان، وكان من عقلاء الرجال، وكان نصر قد صرفه عن وزارته سنة ست وعشرين وثلاثمائة، وجعل مكانه محمد بن محمد الجيهاني.
وفيها توفي أبو كر محمد بن المظفر بن محتاج ودفن بالصغانيان؛ وأبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري، رئيس الحنابلة، توفي مستتراً، ودفن في تربة نصر القشوري، وكان عمره ستاً وسبعين سنة.
ثم دخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة

ذكر وزارة البريدي
في هذه السنة وزر أبو عبدالله البريدي للمتقي لله.
وكان سبب ذلك أن ابن رائق استوحش من البريدي لأنه أخر حمل المال، وانحدر إلى واسط عاشر المحرم، فهرب بنو البريدي إلى البصرة، وسعى لهم أبو عبدالله الكوفي حتى عادوا وضمنوا بقايا واسط بمائة وتسعين ألف دينار، وضمنوها كل سنة بستمائة ألف دينار.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34