كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون

وقد عشت منها في رخاء وغبطة ... وفي نعمة لو أنها لم تحول
إذا الأمر ولى فاتعظ في طلابه ... بعقلك واطلب سيب آخر مقبل
فإنك لا تدري إذا كنت راجياً ... أفي الريث نجح الأمر أم في التعجل
ولا تمش في الضراء يوماً ولا تطع ... ذوي الضعف عند المأزق المحتفل
ولا تشتم المولى تتبع أذاته ... فإنك إن تفعل تسفه وتجهل
ولا تخذل المولى لسوء لبلائه ... متى يأكل الأعداء مولاك تؤكل
قال أفلاطن: الذكر في الكتب عمر لا يبيد.
وقال أفريدون: الأيام صحائف أعماركم فخلدوها أحسن أعمالكم.ومثله قول المتنبي:
ذكر الفتى عمره وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال
قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقرب شيء ؟قال: الأجل.قيل: فما أبعد شيء ؟ قال: الأمل، قيل فما أوحش شيء ؟ قال الميت، قيل: فما آنس شيء ؟ قال: الصاحب المؤاتي.
قال أبو العتاهية:
من سابق الدهر كبا كبوة ... لم يستقلها من خطى الدهر
فاخط مع الدهر إذا ما خطا ... واجر مع الدهر كما يجري
ليس لمن ليست له حيلة ... موجودة خير من الصبر
وقال بشر بن المعتمر: (من السريع)
حيلة ما ليست له حيلة ... حسن عزاء النفس والصبر
والجيد في هذا قول من قال: إذا حزبك أمر فانظر، فإن كان مما فيه حيلة فلا تعجز، وإن كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع.
وقال آخر:
وللدهر أيام فكن في لباسها ... كلبسته يوماً أجد وأخلقا
وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم و إن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا وقال آخر:
إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هواناً وإن كانت قريباً أواصره
ولا تظلم المولى ولا تضع العصا ... عن الجهل إن طارت إليك بوادره
وقال النابغة الجعدي:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
مثله للمتنبي:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذ اتسعت في الحلم طرق المظالم
وقال كعب بن عدي:
شد العصاب على البريء بما جنى ... حتى يكون لغيره تنكيلا
والجهل في بعض الأمور إذا اعتدى ... مستخرج للجاهلين عقولا
قال المهلب بن ابي صفرة: عجبت لمن يشتري العبيد بماله ولا يشتري الأحرار بنواله.
قال عبد الله بن المعتر: أفقرك الولد أو عاداك.
قال القاهر: من صنع خيراً أو شراً بدأ بنفسه.
قال الراضي: من طلب عزاً بباطل أورثه الله ذلاً بحق.
وقال عبيد الله بن يحيى بن خاقان: عقفل الكاتب في قلمه.
قال أوس بن حارثة: أحق من شركك في النعم شركاؤك في المكاره أخذ المعنى أبو تمام فقال، ويرويان لإبراهيم بن العباس:
وإن أولى البرايا أن تواسيه ... عند السرور لمن واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
قال عبد الله بن أبي بكر: من حدث نفسه بطول البقاء فليوطنها على المصائب.
قال أرسطاطاليس: من أيس من الشيء استغنى عنه.
وقيل له: لم لا تجتمع الحكمة والمال ؟قال: لغز الكمال.
وقال آخر: من أكل ما لايشتهي اضطر إلى الإمتناع مما يشتهي. الإستقلال مما يضر خير من الإستكثار مما ينفع.
قال أبو اسحاق المروزي: من تعود الفقر ثم استغنى فلا ترجون فضله، كأنه ينظر إلى قول من قال: من ولد في الفقر أبطره الغنى.
وقال حكيم: بقدر السمو في الرفعة تكون وجبة الوقعة.
نظر إلى هذا المعنى ابن الرومي فقال:
فلا تغبطن المترفين فإنهم ... على قدر ما يعطيهم الدهر يسلب
وقال آخر: الكريم لا تغلبه الشهوة، ولا يحكم عليه الشره بسوءة، ولا القدرة بسطوة، ولا الفقر بذلة، ولا الغنى بعزة، ولا الضر بضجر، ولا الغنى ببطر.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث من الفواقر: جار مقامة إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها، وامرأة إن دخلت إليها لسنتك وإن غبت عنها لم تأمنها، وسلطان إن أحسنت لم يحمدك وإن أسأت قتلك.
ومن كلام علي عليه السلام: يا بني إنه من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن تكبر على الناس ذل، ومن سفه على الناس شتم، ومن خالط العلماء وقر، ومن خالط الأنذال حقر، ومن أكثر من شيء عرف به، والسعيد من وعظ بغيره، وليس مع قطيعة الرحم نماء، ولا مع الفجور غناء. رأس العلم الرفق وآفته الخرق، كثرة الزيارات تورث الملالة.
ومن كلام الحسين بن علي: خير المعروف ما لم يتقدمه مطل ولم يتبعه من. الوحشة من الناس على قدر الفطنة بهم. النعمة محنة، فإن شكرت كانت كنزاً، وإن كفرت صارت نقمة.
قال الحسن بن علي: الأمين آمن، والبريء جريء، والخائن خائف، والمسيء مستوحش.
وقال: مالك إن لم يكن لك كان عليك، فلا تبق عليه فإنَّه لا يبقي عليك، وكله قبل أن يأكلك.
قال عليّ بن الحسين: من مأمنه يؤتى الحذر. يكتفي اللبيب بوحي الحديث وينبو البيان عن قلب الجاهل، ولا ينتفع بالقول وإن كان بليغاً مع سوء الإستماع.
قال محمد بن علي بن الحسين: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإنَّ موسى بن عمران خرج يقتبس ناراً فعاد نبياً مرسلاً.
وقال أيضاً: ما عرف خيراً من لم يتبعه، ولا عرف الشر من لم يجتنبه.
وقال آخر: اعرف الخير لتعمل به، واعرف الشر لئلا تقع فيه.
وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن فلاناً لا يعرف الشر، قال: ذلك أحرى أن يقع فيه.
ومن كلام محمد بن علي أيضاً: ما أقبح الأشر عند الظفر، والكآبة عند النائبة، والغلظة على الفقير، والقسوة على الجار، ومشاحنة القريب، والخلاف على الصاحب، وسوء الخلق على الأهل، والاستطالة بالقدرة، والجشع مع الفقر، والغيبة للجليس، والكذب في الحديث، والسعي بالمنكر، والغدر من السلطان، والحلف من ذوي المروءة.من سأل فوق قدره استحق الحرمان. صلاح من جهل الكرامة في هوانه.المسترسل موقى، والمحترس ملقى.
وقال جعفر بن محمد: من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لا يعلم.
وقال موسى بن جعفر: من لم يجد للإساءة مضضاً لم يكن للإحسان عنده موقع.
وقال: ما استب اثنان إلا انحط الأعلى إلى مرتبة الأسفل.
وقال آخر: ما استب اثنان إلا غلب ألأمهما.
وقال موسى أيضاً: من تكلف ما ليس من عمله ضاع عمله وخاب أمله، ومن ترك التماس المعالي لانقطاع رجائه منها لم ينل جسيماً، ومن أبطرته النعمة وقره زوالها.
وقال محمد بن علي بن موسى: إذا نزل القضاء ضاق الفضاء.
سوء العادة كمين لا يؤمن.وأحسن من العجب بالقول ألا تقول.وكفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة.ولا يضرك سخط من رضاه الجور.تعز عن الشيء إذا منعته لقلة صحبته إذا أعطيته.
وقال الحسن ابنه: شر من المزرئة سوء الخلف.من أقبل مع أمر ولى مع انقضائه. راكب الحرون أسير نفسه، والجاهل أسير لسانه.المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة.
وقال علي بن موسى: إن القلوب إقبالاً وإدباراً ونشاطأً وفتوراً، فإذا أقبلت أبصرت وفهمت، وإذا انصرفت كلت وملت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها.
قيل: إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن تظن بأحد سوءاً حتى تعلم ذلك منه، فإذا كان زمان الجور فيه أغلب من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً حتى يرى ذلك منه.
قال محمد بن علي بن موسى: خير من الخير فاعله، وأجمل من الجميل قائله، وأرجح من العلم حامله، وشر من الشر جالبه، وأهول من الهول راكبه.
وقال الحسن ابنه: من مدح غير المستحق للمدح فقد قام مقام المتهم.
وقال: ادفع بالمسألة ما وجدت المحمل يمكنك، فإنَّ لكل يوم خيراً جديداً.
وقال الحسن بن محمد أيضاً: حسن الصورة جمال ظاهر، وحسن العقل جمال باطن.

وقال: اعلم أن للحياء مقداراً فإنَّ زاد عليه فهو حصر، وللجود مقدار فإنَّ زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقدار فإنَّ زاد عليه فهو جبن، وللإقتصاد مقدار فإنَّ زاد عليه فهو تهور.
وقال جعفر بن محمد: الأدب عند الأحمق كالماء العذب في أصول الحنظل، كلما زاد رياً ازداد مرارة.
وقال صاحب كليلة ودمنة: الأدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد الجاهل سكراً، كالنهار يزيد البصير بصراً ويزيد الخفاش سوء بصر.
وقال عبد الله بن عمر: اتقوا من تبغضه قلوبكم.
وقال بعض ملوك الهند: من ودك لأمر أبغضك عند انقضائه ؟ وقال آخر: من كان نفعه في مضرتك لم يخل من عداوتك.
وقال آخر: الإحتمال حتى تمكن القدرة.
وقال أنوشروان: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
وقال الحارث بن أبي شمر الغساني: إذا التقى السيفان بطل الخيار.
وقال رستم: إذا أردت أن تطاع فسل ما يستطاع. ويشبهه قول عمر بن معدي كرب: (من الوافر)
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
من كلام أرسطاطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة.الزمان ينشئ ويلاشي ففناء كل قوم سبب لكون آخرين. يسير من ضياء الحس خير من كثير من حفظ الحكمة. ونقله المتنبي إلى معنى آخر فقال: :
فإنَّ قليل الحب بالعقل صالح ... وإن كثير الحب بالجهل فاسد
وقال: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء كالكي والفصد اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرهما. ومثله قول المتنبي:
لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل
وقال: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك أحد علتين: إما علة دينية لخوف معاد، أو علة سياسية لخوف سيف. وقال المتنبي: : (من الكامل)
والظلم من شيم النفوس فإنَّ تجد ... ذا عفة فلعله لا يظلم
وقال: علل الأفهام أشد من علل الأجسام.
وقال: ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك: ولدك وعبدك وزوجك، فسبب صلاح حالهم التعدي عليهم.
وقال: من نظر بعين العقل ورأى عواقب الأمور قبل بوادرها لم يجزع لحلولها.
وقال: إذا لم تتجرد الأفعال من الذم، كان الإحسان إساءة.
وقال: خوف وقوع المكروه قبل تناهي المدة خور في الطبع.
وقال: من لم يقدر على فعل الفضائل فلتكن فضائله في ترك الرذائل.
وقال: من جعل الفكر في موضع البديهة فقد أضر بخاطره، وكذلك مستعمل البديهة في موضع الفكر.
وقال: إفراط التوقي أول موارد الخوف.
وقال عمر بن عبد العزيز: قيدوا النعم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتاب.
وقال الخليل بن أحمد: كن على مدارسة ما في قلبك أحرص منك على حفظ ما في كتبك.
وقال أيضاً: اجعل ما في كتبك رأس مال، وما في صدرك للنفقة.
ومن أمثال العرب: خير العلم ما حوضر به، يقول: ما حفظ يكون للمذاكرة.
وقال ضابئ البرجمي: (من الطويل)
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً ولا عن ريثهن يخيب
ورب أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهن وجيب
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
وقال الصلتان العبدي: (من المتقارب)
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي
إذا ليلة هرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش ما تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
وقال شبيب بن البرصاء: (من الطويل)
تبين أدبار الأمور إذا مضت ... وتقبل أشباهاً عليك صدورها
ترجي النفوس الشيء لا تستطيعه ... وتخشى من الأشياء ما لا يضيرها
وقال الحارث بن حلزة: (من السريع):
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج
بينا الفتى يسعى ويسعى له ... تاح له من أمره خالج
يترك ما رقح من عيشة ... يعيث فيه همج هامج
وقال أحيحة بن الجلاح: (من الوافر)
وما يدري الفقير متى غناه ... و لا يدري الغني متى يعيل

و لا تدري إذا أزمعت أمراً ... بأي الأرض يدركك المقيل
وقال بشر بن عامر بن جون بن قشير: (من الطويل)
ولم أر مثل الخير يتركه امرؤ ... ولا الشر يأتيه امرؤ وهو طائع
ولا كاتقاء الله خيراً تقية ... وأحسن صوتاً حين يسمع سامع
ولا كالمنى لا ترجع الدهر طائلاً ... لو أن الفتى عنهن بالحق قانع
ولا كذهاب المرء في شأن غيره ... ليشغله عن شأنه وهو ضائع
وقال أبو بكر العرزمي الكوفي: (من الطويل)
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
وقال الرضي الموسوي: (من الطويل)
وما الدهر إلا نعمة ومصيبة ... وما الخلق إلا آمن وجزوع
ويوم رقيق الطرتين مصفق ... وخطب جراز المضربين قطوع
عجبت له يسري بنا وهو واقف ... ويأكل من أعمارنا ويجوع
وقال أيضاً: (من البسيط)
لا تطلب الغاية القصوى فتحرمها ... فإن بعض طلاب الربح خسران
والعزم في غير وقت العزم معجزة ... والازدياد بغير العقل نقصان
واجعل يديك مجاز المال تحظ به ... إن الأشحاء للوارث خزان
وقال تأبط شراً: (من البسيط)
عاذلتا إن بعض اللوم معنفة ... وهل متاع وإن أبقيته باق
سدد خلالك من مال تجمعه ... حتى تلاقي الذي كل امرىء لاق
لتقرعن علي السن من ندم ... إذا تذكرت يوماً بعض أخلاقي
أبو النشناش أحد لصوص بني تميم: (من الطويل)
إذا المرء لم يسرح سواماً ولم يرح ... إليه ولم يبسط له الوجه صاحبه
فللموت خير للفتى من حياته ... فقيراً ومن مولى تعاف مشاربه
فلم أر مثل الفقر ضاجعه الفتى ... ولا كسواد الليل أخفق طالبه
فعش معذراً أو مت كريماً فإنني ... أرى الموت لا يبقي على من يطالبه
وبعده بيتان أوردناهما في الفصل الرابع من هذا الباب. وسمع عبد الملك ابن مروان قوله: ولم أر مثل الفقر، فقال: لص ورب الكعبة.
وقال المتوكل الليثي: (من الكامل)
لا تنه عن خلق ويأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
والهم إن لم تمضه لسبيله ... داء تضمنه الضلوع مقيم
وقال رجل من بني قريع: (من الطويل)
متى ما ير الناس الغني وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسمت وجدود
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد
وكائن رأينا من غني مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد
وقال آخر: (من الطويل)
وإنك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أم هو أسعد
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلاً إن يكون له غد
وفي كثرة الأيدي عن الجهل زاجر ... وللحلم أبقى للرجال وأعود
وقال محمد بن هانىء: (من المتقارب)
صه كل آت وهو قريب المدى ... وكل حياة إلى منتهى
ولم أر كالمرء وهو اللبيب ... يرى ملء عينيه ما لا يرى
وليس النواظر إلا القلوب ... فأما العيون ففيها العمى
ومن لي بمثل سلاح الزمان ... فأسطو عليه إذا ما سطا
يجد بنا وهو رسل العنان ... ويدركنا وهو داني الخطى
قال أفلاطون: لا ينبغي للأديب أن يخاطب من لا أدب له، كما لا ينبغي للصاحي أن يخاطب السكران.
وفخروا عند فيثاغورس بالمال وكثرته فقال: ما حاجتي إلى الذي يعطيه الحظ، ويحفظه اللؤم، ويهلكه السخاء.
وقال عدي بن زيد العبادي: (من الطويل)
أعاذل من تكتب له النار يلقها ... كفاحاً ومن يكتب له الفوز يسعد
أعاذل إن الجهل من لذة الفتى ... وإن المنايا للرجال بمرصد

أعاذل ما أدنى الرشاد من الفتى ... وأبعده منه إذا لم يسدد
أعاذل من لا يحكم النفس خالياً ... عن الغي لا يرشد بطول التفند
كفى زاجراً للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي
فنفسك فاحفظها عن الغي والردى ... متى تغوها يغو الذي بك يقتدي
فإن كانت النعماء عندك لا مرىء ... فمثلاً بها فاجز المطالب أو زد
إذا ما المرء لم يرج منك هوادة ... فلا ترجها منه ولا دفع مشهد
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي
إذا أنت طالبت الرجال برأيهم ... فعف ولا تأخذ بجهد فتنكد
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... فابصر بعينيك امرءاً حيث تعمد
إذا ما رأيت الشر يبعث أهله ... وقام جناة الغي بالغي فاقعد
قال حكيم: إذا كانت الغاية الزوال فما الجزع من تصرف الأحوال. من رضي عن نفسه سخط الناس عليه.
قال رجل لمسعر: أتحب أن تهدى إليك عيوبك؟قال: أما من ناصح فنعم، وأما من شامت فلا.
قال بشار: (من الرجز)
وافق حظاً من سعى بجد ... ما ضر أهل النوك ضعف الكد
الحر يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الرد
والنصف يكفيك من التعدي
قال الحكيم: رب مغبوط بنعمة هي داؤه، ورب محسود على حال هي بلاؤه، ورب مرحوم من سقم هو شفاؤه.
ومن كلامهم: من ضاق قلبه اتسع لسانه. من اغتر بالعدو الأريب خان نفسه. من لم يركب المصاعب لم ينل الرغائب. من ترك التوقي فقد استسلم لقضاء السوء. من لم تؤدبه المواعظ أدبته الحوادث. من لم يعرف قدره أوشك أن يذل. من لم يدبر ماله أوشك أن يفتقر.
قال الأحنف: كل ملك غدار، وكل دابة شرود، وكل امرأة خؤون.
قال حكيم: لذات الدنيا معدودة، منها لذة ساعة، ولذة يوم، ولذة ثلاث، ولذة شهر، ولذة سنة، ولذة الدهر. فأما لذة ساعة فالجماع وأما لذة يوم فمجلس الشراب وأما لذة ثلاث فلين البدن بعد الاستحمام، وأما لذة الشهر فالفرح بالعرس، وأما لذة السنة فالفرح بالمولود الذكر، وأما لذة الدهر فلقاء الإخوان مع الجدة.
وقال آخر: الشكر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسرور محتاج إلى الأمن، والقرابة محتاجة إلى المودة، والمعرفة محتاجة إلى التجارب، والشرف محتاج إلى التواضع، والنجدة محتاجة إلى الجد.
كان لقمان عند داود عليه السلام وهو يسرد الدرع، فجعل يرى شيئاً لا يرى شيئاً لا يدري ما هو، وتمنعه حكمته عن السؤال، قال: فلما فرغ صبها عليه وقال: نعم أداة الحرب هذه، فقال: إن من الصمت حكماً وقليل فاعله، أردت أن أسألك فكفيتني.
وقال لقمان لابنه: يا بني جالس العلماء وزاحمهم في مجالسهم بركبتيك فإن الله عز وجل يحي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.
ومن كلامه: يا بني كذب من قال: إن الشر يطفىء الشر، فإن كان صادقاً فليوقد ناراً عند نار فلينظر هل تطفىء إحداهما الأخرى، يا بني الخير يطفىء الماء النار.
ومن كلامه: لا تأمنن امرأة على سر، ولا تطأ خادمة تريدها للخدمة، ولا تستسلفن من مسكين استغنى.
قال أبو بكر رضي الله عنه: أشقى الناس الملوك، فرأى ممن حضره استبعاداً لذلك فقال: عجلون جائزون، أما علمتم أن الملك إذا ملك قصراً أجله، ووكلت به الروعة والحزن، وكثر في عينه قليل ما في يد غيره، وقل في نفسه كثير ما عنده؟

الفصل الثاني
السياسة والآداب الملكية
وما يجب للولاة وعليهم للرعية وما يلزمهم من تقيل الأخلاق المرضية
قال العلماء: مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا ولا يوصل إلى الدين إلا بالدنيا فإنها الطريق إلى الآخرة، وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمالهم، والأعمال تنحصر في ثلاثة أقسام: أحدها، أصول هي قوام العالم لا غناء للأغلب منه عنها، وهي أربعة: الزراعة وهي للمطعم، والحياكة وهي للملبس، والبناء وهي للمسكن، والسياسة وهي للتأليف والإجتماع والتعاون على بقية الأعمال وضبطها.
القسم الثاني: ما يهيىء هذه الصناعات ويعين عليها كالحدادة يعد بها آلات الزراعة، والغزل يعد بها آلات الزراعة، والغزل يعد به محل الحياكة.

القسم الثالث: ما يتمم به الأصول ويزينها، كالخبز للزراعة، والخياطة للحياكة. وأشرف هذه الصناعات أصولها، وأشرف أصولها السياسة إذ كانت حافظة نظام الكل، فتستدعي هذه الصناعة من الكمال مالا تستدعيه سائر الصناعات، ولذلك يستخدم صاحبها سائر الصناع. وخلق الله تعالى الدنيا زاداً للمعاد ليتناول الناس منها ما يؤديهم إلى الدار الأخرى، فلو تناولوها بالعدل انقطعت الخصومات، ولكنهم يتناولونها بالجور ومتابعة الشهوات ومحبة الاستئثار، فتولدت بينهم المنازعات فاحتاجوا إلى سلطان يسوسهم ويضبط أمورهم، ولولا ردع السلطان لغلب قويهم ضعيفهم، ولم يكن دافع عن قتل ولا وازع عن غضب.
وقد قال أردشير: الدين والملك توأمان، والدين أصل والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع.
ودلت الشرائع والعقول على وجوب مقتدى به في كل زمان وأوان، وما رأينا ملة ولا دولة خلت من ذلك حتى العرب ساكني البيد والقفار والجائلين مع الوحوش في الفلوات، فإنهم لما يجمعهم مكان ولا نظم شملهم سلطان، جعلت كل فرقة منهم لها سيداً من فضلائها وذوي آلائها، يرجعون إليه في حروبهم، ويأتمرون بأمره، وينزجرون بزجره، وكانت لهم أيضاً ملوك أكثرهم لها مطيعون، ولذلك قال حكيم من شعرائهم (من البسيط)
لا يصلح الناس فوضى لا سرارة لهم ... ولا سرارة إذا جهالهم سادوا
وعلى حسب أخلاق السلطان يكون الزمان.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اثنان في الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء.
وقالت الحكماء: الملوك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوى. أما ملك الدين فإذا أقام لرعيته دينهم فكان هو الذي يعطيهم مالهم ويلحق بهم ما عليهم، أرضاهم بذلك وأنزل الساخط منهم بمنزلة الراضي في التسليم والاقرار. وأما ملك الحزم فإنه يقوى على الأمر ولا يسلم من الطعن، ولن يضير طعن الذليل مع حزم القوي، وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر.
وقالوا: الملك محتاج من الناس إلى كثير منهم، وهم محتاجون منه إلى واحد، ومن ها هنا وجب أن يوازي حلمه أحلامهم، ويوازن فهمه أفهامهم، وأن يعمهم بعدله، ويغمرهم بفضله، ويكنفهم كنافة الجفون لنصولها والكنائن لسهامها.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: من نصب نفسه للناس إماماً فعليه بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم.
ومن كلام علي عليه السلام، يذكر فيه حق الولاة والرعية بعضهم على بعض: أما بعد، فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم، والحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولايجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله تعالى دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكن جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه وتوسعاً بما هو من المزيد لأهله. ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افتراضها لبعض الناس على بعض، فجعلها(تتكافأ) في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض.وأعظم ما افترض الله سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله لكل على كل، فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم، فليست تصلح العية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أردت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، فصلح الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليها، وأجحف الوالي برعيته، اختلف هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا تستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه.

يقال إن جمشيد وهو الثالث من ملوك الفرس ملك الأقاليم وصنف الناس وطبقهم، وعمل أربعة خواتيم: خاتماً للحرب والشرط وكتب عليه الأناة، وخاتماً للخراج وجباية الأموال وكتب عليه العمارة، وخاتماً للبريد وكتب عليه الوحى، وخاتماً للمظالم وكتب عليه العدل.فبقيت هذه الرسوم في ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام.
وقال أردشير بن بابك في عهده المشهور: اعلموا أن من شاء ألا يسير بسيرة إلا قرظت له فعل، ومن شاء منكم بعث العيون على نفسه فأذكاها، فلم يكن الناس بأعلم منه بعيبه. واعلموا أن لباس الملك ومطعمه مقارب للباس السوقة ومطعمهم، وبالحرى أن يكون فرحهما بما نالا من ذلك واحداً، وليس فضل الملك على السوقة إلا بقدرته على اقتناء المحامد، فإن الملك إذا شاء أحسن، وليست السوقة كذلك. واجعلوا حديثكم لأهل المراتب، وحباءكم لأهل الجهاد، وبشركم لأهل الدين، وشركم عند من يلزمه خير ذلك وشره.
قال ابن المقفع فيما يتأدب به السلطان: إنك إن تلتمس رضى جميع الناس تلتمس ما لا يدرك، وكيف يتفق لك رضى المتخالفين، أم ما حاجتك إلى رضى من رضاه الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة؟فعليك بالتماس رضى الأخيار وذوي العقول، فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مؤونة ما سواه.احرص أن تكون خبيراً بأمور عمالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن ليستبشر لعلمك فيه قبل أن يأتيه معروفك. ليعرف الناس من أخلاقك انك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ولرجاء الراجي.
قال صاحب كليلة ودمنة: رأس الحزم للملك معرفته بأصحابه وإنزالهم منازلهم، واتهام بعضهم على بعض، فإنه إن وجد بعضهم إلى إهلاك بعض سبيلاً. أو إلى تهجين بلاء المبلين. وإحسان المحسنين. والتغطية على إساءة المسيئين. سارعوا إلى ذلك. واستحالوا محاسن أمور المملكة، وهجنوا مخارج رأيه. ولم يبرح منهم حاسد قد أفسد ناصحاً. وكاذب قد اتهم أميناً. ومحتال قد أعطب بريئاً. وليس ينبغي للملك أن يفسد أهل الثقة في نفسه بغير أمر يعرفه، بل ينبغي في فضل حلمه وبسط علمه الحيطة على رأيه فيهم، والمحاماة على حرمتهم وذمامهم، وأن لا يسرع إلى إفسادهم ولا يغتفر مع ذلك زلة زلها أحد منهم، ولم يزل جهال الناس يحسدون علماءهم، وجبناؤهم شجعانهم، ولئامهم كرماءهم، وفجارهم أبرارهم، وشرارهم خيارهم.
وقال سابور بن أردشير في عهده إلى ولده: وليكن وزيرك مقبول القول عندك، قوي المنزلة لديك، يمنعه مكانه منك وما يثق به من لطافة منزلته من الخشوع لأحد أو الضراعة لأحد، أو المداهنة في شيء مما تحت يده، لتبعثه الثقة بك على محض النصيحة لك، والمنابذة لمن أراد غشك، وانتقاصك حقك، وإن أورد عليك رأياً يخالفك ولا يوافق الصواب عندك، فلا تجبهه جبهة الظنين، ولا ترده عليه بالتهجم فيفت في عضده ذلك ويقبضه عن ابثاثك كل رأي يلوح صوابه، بل اقبل ما ارتضيت من قوله، وعرفه ما تخوفت من ضرر الرأي الذي انصرفت عنه، لينتفع بأدبك فيما يستقبل الرأي فيه، واحذر كل الحذر أن تنزل بهذه المنزلة سواه ممن يطيف بك من خدمتك وحاشيتك، وأن تسهل لأحد منهم السبيل إلى الانبساط بالنطق عندك، والإفاضة في أمور رعيتك وولايتك، فإنه لا يوثق بصحة رأيهم ولا يؤمن الانتشار فيما أفضى من السر إليهم.
قال أبو إسحاق الصابي في كلام جمعه من كلام الحكماء: الملك باصطفاء رجاله أحق منه باصطفاء أمواله، لأن كل درهم يسد مكان أخيه، وما كل رجل يسد مكان رجل يسد مكان أخيه.
قال علي بن أبي طالب عليه السلام: يجب على الوالي أن يتعهد أموره ويتفقد أعوانه حتى لا يخفى عليه السلام إحسان محسن ولا إساءة مسيء، ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء فإنه إذا ترك ذلك تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمر وضاع العمل.
ومن كلام له عليه السلام: ازجر المسيء بثواب المحسن، أخذ المعنى إبراهيم بن العباس الصولي فقال: إذا كان للمحسن من الثواب ما ينفعه، وللمسيء من العقاب ما يقمعه، بذل المحسن ما عنده رغبة، وانقاد المسيء للحق رهبة.
كتب أبرويز إلى ابنه شيرويه وهو في حبسه: لا توسعن على جندك فيستغنوا عنك، ولا تضيقن عليهم فيضجوا منك، أعطهم عطاء قصداً، وامنعهم منعاً جميلاً، ووسع عليهم في الرجاء، ولا توسع عليهم في العطاء.

وروي أن المنصور لما سمع هذا الكلام قال في عقبيه، صدق الأعرابي: " أجع كلبك يتبعك " فقام أبو العباس الطوسي فقال: يا أمير المؤمنين أخشى أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك، فسكت المنصور وعلم أنها كلمة لم تخطم.
كتب أرسطاطاليس إلى الإسكندر: املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها، فإن طلبك بإحسانك أدوم بقاء منه لاعتسافك، واعلم أنك إنما تملك الأبدان فتخطها إلى القلوب بالمعروف، واعلم أن الرعية إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل، فاجتهد على أن لا تقول تسلم من أن تفعل.
وهذا مخالف لما روي عن معاوية: فإن رجلاً أغلظ له فحلم عنه، فقيل له: أتحلم عن مثل هذا؟ فقال: إنا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحول بيننا وبين سلطاننا.
وقال بعض ملوك العجم: إنما أملك الأجساد لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالرضى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. وقد قال من قبلنا: أسوس الناس من قاد أبدان الرعية إلى طاعته بقلوبها.
وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبةِ ما السياسة ؟قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.
قال صاحب كليلة ودمنة: إذا عرف الملك أن رجلاً يساوى به في المنزلة والرأي والهمة والمال والتبع فليصرعه، فإن لم يصرعه فهو المصروع.
وقال معاوية: ليس بين الملك وبين أن يملك جميع رعيته أو يملكه جميعهم إلا حزم أو توان.
قال صاحب كليلة ودمنة: لا ينبغي للملك أن يثق بهذه الأصناف: من قد عوقب العقوبة الكثيرة في غير جرم، أو من ناله الضر العظيم منهم، أو من عزلوه من ولاية وعمل كانا في يده، ومن سلبوه ماله وعقاره، ومن كان في مكان الثقة عندهم فأقصوه وقطعوا طمعه، وذا المروءة والنبل إذا أنزل عن منزلته، ومن قدم عليه أكفاؤه ونظراؤه، والمظلوم الطالب المنصفة غير المنصف، ومن يرجو المنفعة والصلاح بمضار السلطان، ومن استقبل بما يكره في المحافل، وذي الحرص القليل القنوع، والمذنب الراجي العفو فلم يعف عنه.
قيل: مضار السلطان من قبل ستة أشياء: الحرمان، واللهو، والفظاظة، والزمان، والخرق. فأما الحرمان فأن يحرم خصالاً ستاً، أو يعطاها منقوصة فاسدة، منها: صالحو الوزراء من أهل الرأي والنصيحة والأمانة، ومنها الأجناد، ومنها الأموال، ومنها البلد، ومنها الحصون، ومنها البرد والرسل.وأما الفتنة فتهيج بعض الأعوان واعوجاجه إلى الخروج على الملك، أو شغب الجند وتحاربهم.وأما اللهو فالإغرام بالنساء أو الشراب أو الملاعب أو الصيد إغراماً يستغرق الفراغ، وأما الفظاظة فإفراط الخشونة حتى يجمع اللسان بالشتم، واليد بالبسط والإبتزاز لما ليس له بحق.
وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنين من الغرق والحرق والوباء وكثرة الأمطار والبرد وقلة الأمطار، وشدة البرد والحر بإفراط، وكثرة الهوام التي يكون بها نقص الثمرات أو الموتان.وأما الخرق وسوء التدبير فإنَّ يعامل الأعداء في موضع السلم بالحرب، وفي مواضع الحرب بالسلم والموادعة، وفي المواضع التي يحتاج فيها إلى المكيدة والصبر والحذر والتدبير بالخطأ والمغالبة والغلظة وترك السياسة.
قيل: أهل الحزم من الملوك يجعلون لكل ذنب عقوبة: فلذنب السر عقوبة السر، ولذنب العلانية عقوبة العلانية.
ومن كتاب أبرويز إلى ابنه شيرويه: اجعل عقوبتك على اليسير من الجناية كعقوبتك على الكثير منها، فإذا لم يطمع منك في الصغير لم يجترأ عليك في الكبير، وأبرد البريد في الدرهم ينقص من الخراج، ولا تعاقبن على شيء (كعقوبتك على كسره، ولا ترزقن على شيء ) كرزقك على إزجائه.
وقال لصاحب بيت ماله: إني لا أحتملك على خيانة درهم، ولا أحمدك على حفظ ألف ألف، لأنك إنما تحقن بذلك دمك، وتعمر به أمانتك، وإنك إن خنت قليلاً خنت كثيراً.
وقال زياد: أحسنوا إلى أهل الخراج فإنكم لا تزالون سماناً ما سمنوا.

من كلام ابن المقفع: ليس للملك أن يغضب لأن القدرة من وراء حاجته، وليس له أن يكذب لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد، وليس له أن يبخل لأنه أقل الناس قدراً في خوف الفقر، وليس له أن يكون حقوداً لأن خطره قد عظم عن مجازاة كل الناس، وليتق أن يكون حلافاً، فأحق الناس باتقاء الأيمان الملوك، وإنما يحمل الرجل على الحلف إحدى خلال: إما مهانة يجدها في نفسه وضرع وحاجة إلى تصديق الناس إياه، وإما عي بالكلام حتى يجعل الأيمان لكلامه حشواً ولمنطقه وصلاً، وإما تهمة قد عرفها من الناس لحديثه فهو ينزل نفسه بمنزلة من لا يقبل له قول إلا بعد جهد اليمين، وإما عبث في القول وإرسال اللسان على غير تروية ولا تقدير ولا حسن تعويد له، فيعود قول السداد والتثبيت. ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد ونسيان الود، فليكابد نقض قولهم، وليبطل عن نفسه وعن الولاة صفات السوء التي يوصفون بها. ليتفقد الوالي فيما يتفقد من أمور رعيته فاقة الأحرار والأخيار فليعمل في سدها، وطغيان السفلة منهم فليقمعه، وليستوحش من الكريم الجائع واللئيم الشعبان، فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع. لا يحسن بالوالي أن يحسد من دونه، فأنه أقل عذراً في ذلك من السوقة التي إنما تحسد من هو فوقها، وكل لا عذر له. لا يولعن الوالي بقول الناس في سوء الظن، وليجعل لحسن الظن من نفسه نصيباً موفوراً، يروح به عن قلبه ويصدر به أعماله. لا يضيعن الوالي التثبت عند قوله وفعله وعطائه، فإنَّ الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحزم من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه، وإنّ العطية بعد المنع أحسن من المنع بعد الإعطاء، وكل الناس محتاجون إلى التثبت، وأحوجهم إليه ملوكهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافع وليس عليهم مستحث.
وقد جمع أبو اسحاق إبراهيم بن هلال الصابي من كلام الحكماء فقراً فمنها: الملك القادر أولى بالتأني في حكوماته، والتثبت في عزماته، لأنه إن أخذها على شبهة وأمضاها على غير بينة لم يكن له دافع عنها، ولم يخل أيضاً من مساعد عليها.الملك المنعم إذا أفاض المكارم واغتفر الجرائم، ارتبط بذلك خلوص نية من قرب منه وهم الأقل، وانفساح الأمل ممن بعد عنه وهم الأكثر، فيستخلص حينئذ ضمائر الكل من حيث لم يصل معروفه إلا إلى البعض. الملك تلزمه الحقوق بأيسر سعي الساعي لها، وأقصر أمد الجارين إليها، لأنه إن انتظر بهم أن يعقدوا عليه المنن الجمة، وان يسبغوا عليه النعمة الضخمة، لم يكن لهم بذلك طاقة، ولم يكن به إليهم فاقة، لكن المحل الذي حله، والمكان الذي تبوأه يوجبان عليه أن يكون على القليل من الذمام محافظاً، وبعين الرعاية لهم ملاحظاً.الملك إذا وعد وفى، وإذا أوعد عفا.الملك إذا استكفى أحد ثقاته أمراً تشكل عواقبه، وتشتبه أعجازه، فانتشر ذلك الأمر عليه من حيث لم يأل جهداً في طلب نظامه والسعي لالتئامه، فواجب أن يحمده أو أن يذمه، فإنه إن ذمه قبضه وقبض نظراءه عن الدأب في المصالح والطلب للمناجح، ولحقهم من قصور الهمم ما يعود وهنه عليه وتتعلق شكايته به، لأنهم يشغلون عن التوصل إلى ما يرومه، بالتحرز عما يضرهم.الملك يتوصل إليه كل من تنكر له وتعتب عليه، وهم طبقات ثلاث: فمنهم من ذنبه مقرون بعذره قد أماطه عنه وأخرجه سليماً منه، ويقال أقر بالذنب طاعة، وأمسك عن العذر هيبة، ولا يحسن أن يقتصر بمن هذه حاله على أن تسقط اللائمة عنه دون أن تجب المحمدة له، ومنهم من ذنبه واضح وعذره معوز، ولكنه فرد لا أخ له وفذ لا تؤام معه، والأولى به أن يقال إذا اعترف بالحوبة وأخلص في التوبة، ومنهم المتردد في هفواته والمتكرر في عثراته، الجارية عادته أن يكسر التوبة إذا تاب، ويفسخ عقد الإنابة إذا أناب، فذلك الذي يعاقب بالإطرح ولا يطمع منه بالفلاح.الملك بمن غلط من أتباعه فاتعظ أشد انتفاعاً منه بمن لم يغلط ولم يتعظ، فإنَّ الأول كالقارح الذي أدبته العثرة وصلحته الندامة، والثاني هو راكب للغرة وراكن إلى السلامة، والعرب تزعم أن العظم إذا جبر من كسره، عاد صاحبه أشد بطشاً وأقوى يداً.

وقال ابن المقفع فيما يتأدب به السلطان: عود نفسك الصبر على ما خالفك من رأي ذوي النصيحة، والتجرع لمرارة قولهم وعذلهم، ولا تسهلن سبيل ذلك إلا لأهل الفضل والمروءة والعقل في ستر، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه، أو يستخف به شانئ. واعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه لمهم ما يعنيك، وأن مالك لا يتسع للناس، فاخصص به أهل الحق، وأن كرامتك لا تطيق العامة، فتوخ بها أهل الفضل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك وأن دأبت فيهما فأحسن قسمتهما بين عملك ودعتك.واعلم أن من شغلت من رأيك بغير المهم أزرى بك في المهم، وما صرفت من مالك في الباطل فقدته حين تريده للحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقض أضر بك في العجز عن أهل الفضل. إن كان سلطانك عند جدة دولة فرأيت أمراً استقام بغير رأي أو أعواناً اجزأوا بغير نيل، وعملاً أنجح بغير حزم، فلا يغرنك ذلك ولا تستنيمن إليه، فإنَّ الأمر الجديد مما يكون له مهابة في أنفس أقوام وحلاوة في قلوب قوم آخرين، فيعين قوم على أنفسهم، ويعين قوم بما قبلهم، ويستتب ذلك الأمر غير طويل، ثم تصير الشؤون إلى حقائقها وأصولها، فما كان شيء من الأمر على غير أركان وثيقة ودعائم محكمة أوشك أن يتداعى ويتصدع.لا تكونن نزر الكلام والسلام، ولا تبلغن إفراط البشاشة، فإنَّ إحداهما من الكبر والأخرى من السخف.
ومن كلام الحكماء: إذا كان الملك محصناً للأسرار، متخيراً لصالح الوزراء، مهيباً في أنفس العامة، بعيداً أن يعلم ما في نفسه، لا يسلم منه ذو جريمة بجريمته، ولا يضيع عنده بلاء، مقدراً لما ينفق وما ينفذ، كان جديراً ألا يسلب صالح ما أوتي.
قال سهل بن هارون: للسلطان سكرات فمنها الرضى عن بعض من يستوجب السخط، والسخط على بعض من يستوجب الرضى، ولذلك قيل قد خاطر من لجج في البحر وأشد منه مخاطرة صاحب السلطان.الملك صبي الرضا كهل الغضب، يأمر بالقتل وهو يضحك، ويستأصل شأفة القوم وهو يمزح، يخلط الجد بالهزل، ويجاوز في العقوبة قدر الذنب، ربما أحفظه الذنب اليسير، وربما أعرض صفحاً عن الخطب الكبير، أسباب الموت والحياة مضاعفة بطرف لسانه، لا يعرف ألم العقوبة فيتقي، ولا يؤتى على بادرة فينتهي، يخطىء ويصيب فيفرط، مفتون الهوى فظ الخليقة على اختراق العقوبة، لا يمنعه من ذوي الخاصة به ما يعلم من عناية وطول صحبة، أن يقتله بخطرة من خطرات موجدته، ثم لا ينفك أن يخطب إليها مكانه، وينافس الرجال موضعه، فلا الثاني بالأول يعتبر، ولا الملك عن مثل ما فرط ينزجر.
قال صاحب كليلة ودمنة: السلطان لا يقرب الرجال على قرب آبائهم ولا يباعدهم لبعدهم، ولكنه ينزلهم على قدر ما عند كل امرئ منهم فيما ينتفع به، وقد يكون الجرذ في البيت جاراً مجاوراً، فينفى إذا كان ضاراً مؤذياً، ولما كانت في البازي منفعة وهو وحشي اقتني واتخذ.
قال ابن المقفع: جميع ما يحتاج إليه الوالي رأيان: رأي يقوي سلطانه ورأي يزينه في الناس، ورأي القوة أولاهما بالتقديم وأحقهما بالأثرة، ورأي التزيين أحضرهما حلاوة وأكثرهما أعواناً، مع أن الزينة من القوة، والقوة بالزينة، ولكن الأمر ينسب إلى معظمه.
وقال: ليعلم الوالي أن الناس على دينه إلا من لا يبالي به، فليكن للدين والمروءة عنده نفاق فسيكسد بذلك الدناءة والفجور في آفاق الأرض.
وقال أفلاطون في معناه: الملك كالبحر تستمد منه الأنهار، فإنه كان عذباً عذبت، وإن كان ملحاً ملحت.
وقد أكثر المتأخرون في هذا المعنى، قال أبو الفضل ابن العميد: صفة كان زمان منبجسة من سحايا سلطانه، وقال سيف الدولة علي بن حمدان: السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق فيها.
كتب أبرويز إلى ابنه شيرويه من الحبس: ليكن من تختاره لولايتك امرءاً كان في ضعة فرفعته، وذا شرف وجدته متهضماً فاصطنعته، ولا تجعله امرءاً أصبته بعقوبة فاتضع عنها، ولا امرءاً أطاعك بعدما أذللته، ولا أحداً ممن يقع في خلدك أن إزالة سلطانك خير له من ثبوته، وإياك أن تستعمل ضرعاً غمراً كثر إعجابه بنفسه وقلت تجاربه في غيره، ولا كبيراً مدبراً قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السن من جسمه.
قال لقيط الإيادي في مثله: (من البسيط)
فقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا
ما زال يحلب در الهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتبعا
حتى استمرت على شرر مريرته ... مستحصد الرأي لا قحماً ولا ضرعا
القحم: الشيخ المسن، والضرع: الضعيف الصغير.
استشار عمر بن عبد العزيز في قوم يستعملهم، فقال له بعض أصحابه: عليك بأهل العذر الذين إن عدلوا فهو ما رجوت فيهم، وإن قصروا قال الناس: قد اجتهد عمر.
كتب علي بن أبي طالب عليه السلام إلى أهل البصرة من كتاب له: ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق، مع أني عارف لذي الطاعة منكم فضله، ولذي النصيحة حقه، غير متجاوز متهماً إلى بريء، ولا ناكثاً إلى وفي.
هذا القول الفصل والفعل العدل، لا كما قال زياد: و الله لآخذن الولي بالولي والسمي بالسمي حتى يلقى الرجل صاحبه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد.
قال عبد الملك بن مروان لأخيه عبد العزيز حين وجهه إلى مصر: تفقد كاتبك وحاجبك وجليسك، فإن الغائب يخبر عنك بكاتبك، والمتوسم يعرفك بحاجبك، والخارج من عندك يعرفك بجليسك.
و كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا بعث عاملاً اشترط عليه أربعاً: لا يكب البراذين، ولا يلبس الرقيق، ولا يأكل النقي، ولا يتخذ بواباً.
و كان زياد إذا ولى رجلاً قال له: خذ عهدك، وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتك، وأنك تصير إلى اربع خلال، فاختر لنفسك: إنا إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلنا بك لضعفك وسلمتك من معرتنا أمانتك، وإن وجدناك خائناً قوياً استهنا بقوتك وأحسنا على خيانتك أدبك، فأوجعنا ظهرك وأثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين، وإن وجدناك قوياً أميناً زدنا في عملك، ورفعنا لك ذكرك وكثرنا مالك وأوطأنا عقبك.
و كان عبد الملك إذا أراد أن يولي رجلاً عمل البرد سأل عن صدقه ونزاهته واناته، ويقول: كذبه يشكك في صدقه، وشرهه يدعوه في الحق إلى كتمانه، وعجلته تهجم بمن فوقه على ما يؤثمه ويندمه.
ولى المهدي الربيع بن أبي الجهم فارس فقال له: يا ربيع آثر الحق، والزم القصد، وارفق بالرعية، واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه، وأجورهم من ظلمهم لغيره.
قال المنصور: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاث خلال: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك.
كان يقال: طاعة السلطان على أربعة أوجه: على الرغبة والرهبة والمحبة والديانة.
كان أنوشروان إذا ولى رجلاً أمر الكاتب أن يدع في العهد موضع أربعة أسطر ليوقع فيها بخطه، فإذا أتى بالعهد وقع فيه: سس خيار الناس بالمحبة، وامزج للعامة الرغبة بالرهبة، وسس سفلة الناس بالإخافة.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إني لأجمع أن اخرج للمسلمين أمراً من العدل فأخاف أن لا تحتمله قلوبهم، فاخرج لهم معه طمعاً من طمع الدنيا، فإن نفرت القلوب من هذا سكنت إلى هذا.
كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجاج يأمره أن يكتب إليه بسيرته، فكتب غليه: إني أيقظت رأيي وانمت هواي، وأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج المؤتمن لأمانته، وخصمت لكل خصم من نفسي قسماً يعطيه حظاً من نظري ولطيف عنايتي، وصرفت السيف إلى النطف المسيء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
قال معاوية: ينبغي أن يحترز الملك من خمس خصال: لا ينبغي أن يكون كذاباً، فإنه إذا كان كذاباً فوعد لم يرج وإذا أوعد بشر لم يخف، ولا ينبغي أن يكون بخيلاً فإنه إذا كان بخيلاً لم يناصحه أحد، ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة (ولا ينبغي أن يكون حديداً فإنه إذا كان حديداً مع القدرة هلكت الرعية ولا ينبغي أن يكون حسوداً فإنه إذا كان حسوداً لم يشرف أحد، ولا يصلح الناس إلا على أشرافهم، ولا ينبغي أن يكون جباناًَ فإنه إذا كان جباناً اجترأ عليه عدوه.
قال الحسن: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يستشير حتى المرأة، فتشير عليه بالشيء فيأخذ به.

وفي كتاب التاج أن بعض ملوك العجم استشار وزراءه، فقال أحدهم: لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحداً إلا خالياً، فإنه أموت للسر، وأحزم للرأي، واجدر بالسلامة، وأغنى ببعضنا من غائلة بعض، فإن إفشاء السر إلى رجل أوثق من إفشائه إلى اثنين، وإفشاؤه إلى ثلاثة كإفشائه إلى العامة، لأن الواحد رهن بما أفشي إليه، والثاني يطلق عن ذلك الرهن، والثالث علاوة فيه، وإذا كان سر الرجل عند واحد كان أمري ألا يظهره رهبة ورغبة إليه وإذا كان عند اثنين دخلت الشبهة على الملك واتسعت على الرجلين المعاذر فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتهم بريئاً بجناية مجرم، وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له وعن الآخر ولا حجة عليه.
وما جاء في المشورة من الأخبار والأشعار وكلام الحكماء قد ذكر في مكان آخر، اذ ليس هذا موضعه، والذي ذكر مما يليق بهذا الكتاب فيه كفاية.
يقال: لا يكون الملك ملكاً حتى يعاقب على صغير الذنوب ويغفو عن كبيرها، ومثله قوله الشاعر: (من الكامل المجزوء)
تعفو الملوك عن العظيم ... من الذنوب لفضلها
ولقد نعاقب في اليسير ... وليس ذاك بجهلها
وقال أبرويز: أطع من فوقك يطعك من دونك.
وقال النجاشي: الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم.
قال عمرو بن هند: الملوك يشتمون بالأفعال لا بالأقوال، ويسفهون بالأيدي على لا بالألسن. ومثله لمعبد بن علقمة: (من الطويل).
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
قال مروان بن محمد لما أحيط به: والهفاه على دولة ما نصرت، وكف ما ظفرت، ونعمة ما شكرت، فقال له خادمه باسيل، وكان من أشراف الروم فوقع عليه سباء: من أغفل الصغير حتى يكبر، والقليل حتى يكثر، والخفي حتى يظهر، أصابه هذا قال قابوس: لذة الملوك فيما لا تشاركهم فيه العامة من معالي الأمور.
قال أنوشروان: العدو الضعيف المحترس من العدو القوي أحرى بالسلامة من العدو المغتر بالعدو الضعيف.
وقال صالح بن سليمان: لا تستصغر عدواً فإن العزيز ربما شرق بالذباب.
وروي أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج: لا تولين الأحكام بين الناس جاهلاً بالأحكام، ولا حديداً طائشاً عند الخصام، ولا طمعاً هلعاً يقرب أهل الغنى ويبش بأهل السعة فيكسر بذلك أفئدة ذوي الحاجة، ويقطع ألسنتهم عن الأدلاء بالحجة والإبلاغ في النصفة، واعلم أن الجاهل لا يعلم، والحديد لا يفهم، والطائش القلق لا يعقل، والطمع الشره لا ينفع عنده الحجة ولا تغني قبله البينة.
قال أم جبغويه ملك طخارستان لنصر بن سيار: ينبغي أن يكون للأمير ستة أشياء: وزير يثق به ويفضي إليه بسره، وحصن يلجأ إليه إذا فزع أنجاه، يعني فرساً، وسيف إذا نازل الأقران لم يخنه، وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته أخذها، وامرأة إذا دخل إليها أذهبت همه، وطباخ إذا لم يشته الطعام صنع له شيئاً يشهيه.
العتابي في الرشد: (من الطويل)
أياً من له كف يضم بنانها ... عصا الدين ممنوعاً من البري عودها
وعين محيط بالبرية طرفها ... سواء عليها قربها وبعيدها
وقالوا: من حق الملك أن يفحص عن أسرار الرعية، وكان أردشير متى علم شيئاً قال لأرفعهم وأوضعهم: كان عندك في هذه الليلة كيت وكيت: ، حتى يقال يأتيه ملك من السماء، وما ذاك إلا لتصفحه وتيقظه.
و كان عمر رضي الله عنه علمه بمن نأى عنه كعلمه بمن بات معه على وسادة واحدة، واقتفى معاوية أثره وكذلك زياد، وتعرف إلى زياد رجل فقال: أتتعرف إلي وأنا أعرف بك منك بأبيك وأمك، وأعرف هذا البرد الذي عليك؟فرعب الرجل حتى أرعد.
كتب علي عليه السلام عهداً لمالك الأشتر النخعي حين ولاه مصر جمع فيه بين حاشيتي التقوى والسياسة على بعد أقطارهما، وجدته يغني عن كثير من كلام الحكماء والقدماء، وهو مع فرط الإطالة مأمون الملالة، لجمعه بين البلاغة البارعة والمعاني الرائعة، ولولا رغبة الناس في تغاير الكلام وميل النفوس إلى التنقل في الألفاظ، لاكتفيت بإيراد هذا العهد عن غيره، إذ كان حاوياً لأشتات الآداب والسياسات، جامعاً للأسباب التي تلزم الملوك والولاة، والعهد:

هذا ما أمر عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها: أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسنته التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه، فإنَّه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه، وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات ويردعها عند الجمحات، فإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم الله.
ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإنَّ الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت وكرهت. واشعر قلبك الرحمة بالرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً، يغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنَّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم.
ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع، فإنَّ ذلك إدغال في القلب، ومهلكه للدين وتقرب من الغير فإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة ومخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله عز وجل فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإنَّ ذلك يطامن إليك من طماحك ويكف عنك من غربك، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك. وإياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإنَّ الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان لله حرباً حتى يرجع ويتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم.
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإنَّ سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العمة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء وأكره للانصاف وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند الإعطاء وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك (لهم) وميلك معهم.
وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك اطلبهم لمعايب الناس، فإنَّ في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله عليك ما تحب ستره من عيبك. أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنهم سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يضح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين. ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا ًيضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشرة بالجور، فإنَّ البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله.

شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لا يعاون ظالماً على ظلمه، ولا آثماً على إثمه، أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفاً، وأقل لغيرك إلفاً، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وجفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعاً ذلك من هواك حيث وقع، والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإنَّ كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من الغرة.
ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة واحدة، فإنَّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه، واعلم أنه ليس شيء أدعى على حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عنهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإنَّ حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده ولا تنقص سنة صالحة عمل بها صدور الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها.
وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك.
واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها كتاب أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل من قد سمى الله سهمه، ووضع على حده وفريضته في كتاب وسنة نبيه عليه السلام عهداً منه محفوظاً: فالجنود باذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن، وليس الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما أصلحهم، ويكون من وراء حاجاتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، لما يحكمون من المعاقل ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمون من أسواقهم ويكفونهم بالرفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق يقدر ما يصلحه. فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله تعالى ولرسوله ولإمامك (وأنقاهم) جيباً، وأفضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على القوياء، ممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع الكرم وشعب العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتم به وإن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها، فإن لليسير من لفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه.

وليكن آثر رؤوس جندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو، فإنَّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم) ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم، وافسح في آمالهم وواصل من حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإنَّ كثرة الذكر لحسن فعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناكل إن شاء الله. ثم اعرف لكل امرىء منهم ما أبلى، ولا تضمن بلاء امرىء إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرىء إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرىء أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً.
واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم، فإنَّ تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) (النساء58)، فالراد إلى الله الآخذ بمحكم كتابه، والراد إلى الرسول الآخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في أزله ولا يحصر عن الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه: أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشيف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيح علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، لتأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإنَّ هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا.
ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختياراً، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المقدمة، فإنَّهم أكرم خلاقاً، وأصح أعراضاً، وأقل إلى المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإنَّ ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإنَّ تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان فإنَّ أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة.
وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنَّ في صلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله.وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإنَّ شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق وأجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم.ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنَّه ذخر يعودون به (عليك) في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً أفضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإنَّ العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتابك فولّ على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تذخل فيها مكايدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك وإصدار جواباتها على الصواب عنك، وفيما يأخذ لك ويعطي منك، ولا يضعف عقداً اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ(قدر) نفسه في الأمور، فإنَّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل، ثم لا يكون اختيارك إياهم على فراستك، واستنامتك وحسن الظن منك، فإنَّ الرجال يتعرضون لفراسات الولاة بتصنيعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً، فإنَّ ذلك دليلاً على النصيحة لله ولمن وليت أمره، واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتت عليه كثيرها، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته.
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً: المقيم منهم، والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس إلى مواضعها، ولا يجترئون عليها وقال: فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع الإحتكار فإنَّ رسول الله عليه السلام منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين: من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه، فنكل به وعاقب في غير إسراف.
ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين و(أهل ) البؤسى والزمنى، فإنَّ في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، فاحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلاّت صوافي الإسلام في كل بلد، فإنَّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه، فلا يشغلك عنهم نظر، فإنَّك لا تعذر بتضييع التافه لإحكامك الكثير المهم، ولا يشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع الله أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه، فإنَّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم.
واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه نفسك، وتجلس لهم مجلساً فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع فإنَّي سمعت رسول الله عليه السلام يقول في غير موطن: (لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع)، ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنك الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار.
ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعي عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك، وأمض لكل يوم عمله، فإنَّ لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها لله، إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية، وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك: إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فاعط لله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص بالغاً من بدنك ما بلغ.و إذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منقراً ولا مضيعاً، فإنَّ في الناس من به العلة وله الحاجة.وقد سألت رسول الله عليه السلام حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم ؟فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيماً.

وأما بعد هذا فلا يطولن احتجابك عن رعيتك، فإنَّ احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كرم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا يئسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك ما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.
ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف، فاحسم مؤونة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة.
وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخواصك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنَّ مغبة ذلك محمودة.
وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونك باصحارك فإنَّ في ذلك (رياضة منك لنفسك ورفقاً برعيتك و) إعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويهم على الحق.
ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك، لله فيه رضى، فإنَّ في الصلح دعة لجنودك، وراحة لهمومك، وأمناً لبلادك، ولكن احذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإنَّ العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن.و إن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنَّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتيت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنَّه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي.وقد جعل الله عهده وذمته أمناً قضاه بين العباد برحمته، وحرماً يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مخالسة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإنَّ صبرك في ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وأن يحيط بك فيه من الله طلبة إلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك.
إياك والدماء وسفكها بغير حقها، فإنَّه ليس شيء أدعى لنقمة، ولا أعظم تبعة ولا أحرى لزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء بغير حقها يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإنَّ ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن، فإنَّ ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو يدك بعقوبة، فإنَّ في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم.
وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء، فإنَّ ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسن.
وإياك والمن على رعيتك: بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلف، فإنَّ المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )(الصف: 3).
إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التثبط فيها عند إمكانها، واللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه.
وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما تعنى به مما قد وضح لعيون الناظرين، فإنَّه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم.

املك حمية أنفك، وسورة حدك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك فتملك الإختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.
والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن النبي عليه السلام أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك، لكيلا يكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها.
ومن هذا العهد، وهو آخره: وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إليه راغبون.
قال بعض العباسيين: كلمت المأمون في امرأة خطبتها، وسألته النظر إليها فقال: يا أبا فلان (من ) قصتها وحالها وفعلها، فوالله إن زال يصفها ويصف أحوالها حتى بهت.
ورفع إليه رجل رقعة يسأله إجراء الرزق، فقال له: كم عيالك ؟فزاد في العدد، فلم يوقع، ثم كتب إليه في السنة التالية فصدق فوقع.
أبو الفتح البستي: (من البسيط)
إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب
ألم تر الشمس في الميزان هابطة ... لما غدا برج نجم اللهو والطرب
قال عبد الله بن الحكم: إنه قد يضطغن على السلطان رجلان: رجل أحسن في محسنين فأثيبوا وحرم، ورجل أساء في مسيئين فعوقب وعفي عنهم، فينبغي للسلطان أن يحترز منهما.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله أن لا تعاقب عند غضبك، وإذا غضبت على رجل فاحبسه، فإذا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه، ولا تجاوز به خمسة عشر سوطاً.
و كان زياد إذا أغضبه رجل حبسه ثلاثة أيام ثم دعا به، فإنَّ رأى عقوبة عاقبه وقال: إنما منعني من عقوبته أول يوم مخافة أن أكون عاقبته للغضب. فإنَّ لم ير عقوبة خلى سبيله.
قيل لبعض المجوس: ما أحكم شيء في كتابكم: قال: نحتك الحجارة بغير فأس وإذابتك الحديد (بغير نار أهون من رياضة مستصعب قد جفا عن التقويم ).
قيل: كانت الملوك تختار لرسائلها العاقل الجميل الوجه.
قيل لحكيم: أي الرسل أنجح ؟قال: الذي له جمال وعقل.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا أبردتم إلي بريداً فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم.

الفصل الثالث
سياسة الوزراء والكتاب وأتباع السلطان
في خدمة ولاتهم وآداب نفوسهم

قالوا: من صحب الملوك وقرب منهم، ينبغي أن يكون جامعاً للخلال المحمودة، فأولها: العقل فإنَّه رأس الفضائل، والعلم فإنَّه من ثمار العقل ولا تليق صحبة الملوك بأهل الجهل، والود فإنَّه خلق من أخلاق النفس يولده العدل في الإنسان لذوي وده، والنصيحة وهي تابعة للود وهو الذي يبعث عليها، والوفاء فإنَّه شيمة لا تتم الصحبة إلا بها، وحفظ السر وهو من صدق الوفاء، والعفة عن الشهوات والأموال، والصرامة وهي شدة القلب، فإنَّ الملوك لا يجوز أن يصحبهم أولو النكول ولا ينال الجسيم من الأمور إلا الشجاع النجد، والصدق فإنَّه من لا يصدق يكذب، ومضرة الكذب لا تتلافى، وحسن الزي والهيئة فإنَّ ذلك يزيد في بهاء الملك، والبشر في اللقاء فإنَّه يتألف به قلب من يلاقيه وفي الكلوح تنفير عن غير ريبة، والأمانة فيما يستحفظ، ورعاية الحق فيما يستودع، والعدل والإنصاف فإنَّ العدل يصلح السرائر ويجمل الظواهر، وبه يخاصم الإنسان نفسه إذا دعته إلى أمر لا يحسن ركوبه.وينبغي له أن يجانب أضداد هذه الخلال، وألا يكون حسوداً فإنَّ الحسد يفسد ما بينه وبين الناس، وليفرق بين الحسد والمنافسة فإنهما يشتبهان على من لا يعقل، وأن يخلو من اللجاج والمحك، فإنَّ ذلك يضر بالأفعال إذا وقع فيها اشتراك، وأن لا يكون بذاخاً ولا متكبراً فإنَّ البذخ من دلائل سقوط النفس، والكبر من دواعي المقت، وأن لا يكون حريصاً فإنَّ الحرص من ضيق النفس وشدة الطيش والبعد عن الصبر، وينبغي أن لا يكون فدماً وخماً ولا ثقيل الروح، فإنها صفة لا تليق بمن يلاقي الملوك وأبداً تكون سبباً للمقت من غير جرم.وبالجملة فالفضائل والأخلاق المحمودة كثيرة، وأولى الناس بطلب غاياتها الملوك كما هم الغاية، ثم أتباعهم، ثم سائر الرعية.وينبغي لمن يصحب السلطان أن يأخذ لعمله من جميع شغله: فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه، لا كما يفعل الأغمار الجهال بخدمة السلطان فإنَّ أحدهم كلما ازداد عملاً نقص من ساعات نصبه وعمله فزادها في ساعات دعته وشهوته وعبثه.
قالوا: (1) ولتكن حاجتك في الولاية إلى ثلاث خصال: رضى ربك، ورضى سلطانك، ورضى صالح من تلي عليه، ولا عليك أن تلهى عن المال والذكر فسيأتيك منهما ما يكفي ويطيب، فاجعل هذه الخصال بمكان ما لا بد منه، واجعل المال والذكر بمكان ما أنت واجد منه بداً، ولا تحدثن لك صحبة السلطان والاستئناس به غفلة ولا تهاوناً.
(2) و إذا رأيت السلطان يجعلك أخاً فاجعله أباً، وإن زادك فزده.
(3) و إن استطعت أن تجعل صحبتك منهم لمن قد عرفك قبل ولايته بصالح مروءتك فافعل، فإنَّ الوالي لا علم له بالناس إلا ما كان علم قبل ولايته، فأما إذا ولي فكل الناس يحرص على أن يلقاه بالتزيين والتصنع له، وكلهم يحتال لأن يثنى عليه عنده بما ليس فيه، غير أن الأنذال والأرذال أشد له تصنعاً وعليه مثابرة وفيه تمحلاً، فلا يمتنع الوالي وإن كان بليغ الرأي والنظر من أن ينزل عنده كثير من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثير من الخونة بمنزلة الأمناء، وكثير من الغدرة بمنزلة الأوفياء، ويغطى عنه كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التصنع والتمحل.
(4) إذا نزلت من الوالي بمنزلة الثقة فاعتزل عنده كلام الملق، ولا تكثر الدعاء له في كل كلمة، فإنَّ ذلك يشبه حال الوحشة والغربة، إلا أن تكلمه على رؤوس الناس فلا تأل عما وقره وعظمه.
(5) إذا أردت أن يقبل قولك فصحح رأيك ولا تشوبنه بشيء من الهوى، فإنَّ الرأي يقبله منك العدو، والهوى يرده عليك الصديق.
(6) تبصر ما في الوالي من الأخلاق التي تحب وتكره وترضى ولا ترضى له، ولا تكابره بالتحويل عما يحب ويكره إلى ما تحب وتكره فإنها رياضة صعبة قد تحمل على الإباء والقلى، وقلما يقدر على رد رجل بالمكابرة والمناقصة وإن لم يكن جمح به عز وجل سلطان فكيف إذا جمح به، ولكن تعينه على أحسن رأيه وتزينه وتقويه عليه، فإذا قويت المحاسن كانت هي التي تكف المساؤىء وإذا استحكمت منها ناحية من الصواب كان ذلك الصواب هو الذي يبصره مواقع الخطايا بألطف من تبصيرك وأعدل من حكمك في نفسه، فإنَّ الصواب في يده يؤيد بعضه بعضاً ويدعو بعضه إلى بعض، وإذا كنت له مكابراً لحقك الخطر ولم تبلغ ما تريد.

(7) لا يكن طلبك ما عند السلطان بالمسألة، ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولكن اطلب ما عنده بالاستحقاق له والاستيناء به، وإن طالت الأناة، فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب، وإن لم تستبطئه كان أعجل له، ولا تخبرن الوالي أن لك عليه حقاً وأنك تعتد عليه ببلاء، وإن استطعت أن تنسى حقك وبلاءك فافعل، وليكن ما تذكره به تجديدك له النصيحة والاجتهاد وألا يزال ينظر منك إلى آخر يذكره الأول، فإنَّ السلطان إذا انقطع عنه الآخر نسي الأول، وإن أرحامهم منقطعة وحبالهم منصرمة إلا من رضوا عنه في يومهم وساعتهم.
(8) اعلم أن أكثر الناس عدواً وزير السلطان ذو المكانة عنده لأنه منفوس عليه مكانه كما ينفس على الملك ملكه، ومحسود كما يحسد عليه، غير أنه يجترأ عليه ولا يجترأ على الملك، لأن حساده أحباء الملك الذين يشاركونه في المداخل والمنازل، وهم حضور، وليسوا كعدو الملك النائي عنه المكتم لعداوته، فهم لا يغفلون عن نصب الحبائل له، فالبس لهؤلاء الأعداء سلاح الصحة والاستقامة ولزوم الحجة فيما تسر وتعلن، ثم روح عن قلبك كأن لا عدو لك ولا حاسد.
(9) جانب المسخوط عليه والمظنون به عند السلطان، ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا منزل، ولا تظهرن له عذراً ولا تثنين عليه خيراً، فإذا رأيته قد بلغ في الإعتاب مما سخط عليه ما ترجو أن تلين له الوالي (فضع عذره عند الوالي) واعمل في إرضائه (عنه) بالرفق واللطف.
(1.) إذا أصبت الجاه عند الوالي وكانت لك خاصة منزلة فلا يحدثن لك تغيراً على أهله وأعوانه واستغناء عنهم، فإنَّك لا تدري متى ترى أدنى جفوة فتذل لهم، وفي تلون الحال في ذلك من العار ما فيه.
إن استطعت أن تعرف صاحبك أنك تنحله صواب رأيك فضلاً عن صوابه فتسند ذلك إليه وتزينه به فافعل، فإنَّ الذي أنت بذلك آخذ أفضل من الذي أنت به معط.
إذا سأل الوالي غيرك فلا تكن أنت مجيباً فإنَّ استلابك الكلام خفة منك واستخفاف بالمسؤول والسائل، فما أنت قائل إن قال لك السائل: ما إياك سألنا، أوقال المسؤول عند المسألة تعارضه فيها: دونك فأجب.و إذا عم السائل بمسألة الجلساء فلا تسابقهم بالجواب، ولا تواثب الكلام، فإنَّ في ذلك مع الشين والتكلف والخفة أنك إذا سابقتهم إلى الجواب صار كلامك خصماً فتعقبوه بالعيب والطعن، وإذا لم تعجل بالجواب وخليته للقوم اعترضت كلامهم على قلبك، ثم تدبرته وفكرت فيما عندك ثم هيأت من تفكرك ومحاسن ما سمعت جواباً رضياً، ثم استدبرت به أقاويلهم حين تصيخ إليك الأسماع وتهدأ عنك الخصوم، فإنَّ لم يبلغك الكلام واكتفي بغيرك وانقطع الحديث قبل ذلك، فلا يكونن من الغبن عند نفسك فوت ما فاتك من الجواب، فإنَّ صيانة القول خير من سوء موضعه، وإن كلمة واحدة من الصواب تصيب بها فرصتها وموضعها (خير من مائة كلمة تقولها في غير موضعها ومواضعها) مع أن كلام العجلة والمبادرة موكل به الزلل والعثار وسوء القرين، وإن ظن صاحبه أنه قد أتقن وأحكم.
إذا كلمك الوالي فأصغ لكلامه، ولا تشغل طرفك عنه بالنظر، ولا أطرافك بالعمل، ولا قلبك بحديث النفس، وتعهد ذلك واحذره من نفسك.
وارفق بنظرائك من وزراء السلطان ودخلائه فاتخذهم أعواناً ولا تتخذهم أعداء، ولا تنافسهم في الكلمة يتقربون بها والعمل يؤمرون به، فإنما أنت في ذلك أحد رجلين: إما إن يكون عندك فضل على ما عند غيرك فسوف تبدي ذلك ويحتاج إليك أو يلتمس منك وأنت محمود، وإما أن لا يكون ذلك عندك، فما أنت مصيب من حاجتك عندهم بمقارنتك وملاينتك، وما أنت واجد في موافقتك إياهم ولينك لهم من موافقتهم إياك ولينهم لك أفضل مما أنت مدرك بالمنافسة والمنافرة لهم.
اعلم أن السلطان يقبل من الوزراء التبخيل ويعده منهم شفقة ونظراً، ويحمدهم عليه وإن كان جواداً، فإنَّ كنت مبخلاً غششت صاحبك بفساد مروءته، وإن كنت مسخياً لم تأمن إضراراً ذلك بمنزلتك، فالرأي لك تصحيح النصيحة والتماس المخرج بأن لا يعرف منك ميلاً إلى شيء من هواك.

لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة نفسك على طاعتهم في المكروه وموافقتهم فيما خالفك من ذلك، وتزيين الأمور على أهوائهم دون هواك، وعلى أن لا تكتمهم سرك، ولا تستطلع ما كتموك، وتخفي ما أطلعوك عليه عن الناس كلهم، حتى تحمي نفسك الحديث به، وعلى الاجتهاد في رضاهم والتلطف بحاجتهم، والتثبيت لحجتهم، والتصديق لمقالتهم، والتزيين لرأيهم، وقلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساءوا، وكثرة الاستحسان لما فعلوا إذا أحسنوا، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن الستر لمساوئهم، والمقاربة لما قاربوا وإن كانوا بعداء، والمباعدة لمن باعدوا وإن كانوا قرباء، والاهتمام بأمرهم وإن لم يهتموا به، والتحفظ له وإن ضيعوه، والذكر له وإن نسوه، والتخفيف عنهم لمؤونتك، والإحتمال لمؤونتهم، والرضى منهم بالعفو، وقلة الرضى من نفسك لهم بالمجهود.
إنك لا تأمن أنف الملوك إن أعلمتهم، ولا تأمن عقوبتهم إن كتمتهم. إنك إن لزمتهم لا تأمن برمهم، وإن زايلتهم لم تأمن قلة تفقدهم. إنك إن استأمرتهم حملت الأمور عليهم، وإن قطعت الأمر دونهم لم تأمن فيه مخالفتهم.إنك لا تأمن أمرهم إن صدقتهم، ولا تأمنهم إن كذبتهم. كن حافظاً إن ولوك، حذراً إن قربوك، أميناً إن ائتمنوك، وعلمهم كأنك تتعلم منهم، وأدبهم كأنهم أدبوك، واشكرهم ولا تكلفهم الشكر، كن بصيراً بأهوائهم مؤثراً لمنافعهم، ذليلاً إن ضاموك، راضياً إن أسخطوك، وإلا فالبعد منهم كل البعد، والحذر كل الحذر.
وهذه جملة من كلام القدماء هي أدب لأتباع الملوك على اختلاف طبقاتهم، ولا حاجة بنا إلى تخصيص كل طائفة بما ينبغي لها فعله وتوخيه، ويجب عليها تركه وتنحيته فإن الأدب والسياسة يشترك فيهما أصل الحس ثم يأخذ كل منهما بمقدار حظه من الولاية، ولو أوردنا ذلك لخرج عن معنى هذا الكتاب، ولكان مصنفاً مخصوصاً به فيحتمل حينئذ التحبيس والتفريع. وسنذكر من كلام الخلفاء وملوك الإسلام، وما أخذوه على أتباعهم، ورسموه لهم ما يكمل به المقصود إن شاء الله.
وقد قالت القدماء: إن وجدت عن صحبة السلطان غنى فأغن نفسك عنه واعتزله جهدك، فإنَّ من يأخذ للسلطان بحقه يحل بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة، ومن لا يأخذ بحقه يحتمل الفضيحة في الدنيا والوزر في الآخرة.
قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: صاحب السلطان كراكب الأسد يغبط بموقعه وهو أعلم بموضعه.
وقال زياد بن أبيه يوماً لأصحابه: من أنعم الناس عيشاً ؟قالوا: الأمير قال: قولوا، قالوا: الأمير وأصحابه - قال: كلاّ إن لأعواد المنبر لفزعة، وإن لقعقة لجام البريد لروعة، ولكن أنعم الناس رجل لا نعرفه ولا يعرفنا، له صنعة تمونه فإنا إن عرفناه أسهرنا ليله وأتعبنا نهاره.
وقال حكيم: إنما يستطيع عمل السلطان وصحبتهم رجلان: إما رجل فاجر ينال حاجته بفجوره ويسلم بمصانعته، وإما رجل مهين مغفل لا يحسده أحد، فأما من أراد صحبتهم بالصدق والنصيحة والعفاف لا يخلط ذلك بمصانعة، فقل ما يستتم له صحبتهم، فإنَّه يجتمع عليه عدو السلطان وصديقه بالبغي والعداوة والحسد، أما صديق السلطان فينافسه، و أما عدو السلطان فيضطغن عليه نصيحته وغناه عنه، فإنَّ اجتمع هذان الصنفان عليه كان يتعرض للهلاك.
وقيل: ثلاثة لا يستطيعها أحد إلا بمعونة وارتفاع همة، وعظيم خطر: صحبة الملوك، وتجارة الماء، ومناجرة العدو.
وقيل: إن ابتليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعيته، فاعلم أنك قد خيرت بين خلتين ليس فيهما خيار: إما الميل مع الوالي على الرعية فهذا هلاك الدين، وإما الميل مع الرعية على الوالي فهذا هلاك الدنيا، ولا حيلة لك في ذلك إلا الهرب أو الموت، ولا ينبغي لك، وإن كان الوالي غير مرضي السيرة إذا علقت حبائلك حبائله إلا المحافظة عليه، إلا أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلاً.
وقال أفلاطون: إذا ثقل على الرئيس الوعظ، ولج في ترك الانقياد للناصح، وآثر التفويض، واحتقر العدو فاطلب الخلاص منه.
وقال: ينبغي للعاقل أن يكون مع سلطانه كراكب البحر، إن سلم من الغرق لم يسلم من الفرق.

فأما ما جاءت به الأمثال والأخبار من الخوف على أتباع السلطان، والتحذير من ممالأته والنهي عن العمل معه، مما لو تكلفناه لأراد كتاباً مفرداً، وقد جاء بعض ذلك في الباب الأول. وهذا بين واضح لأن الشريعة جاءت برفض الدنيا والتقلل منها والاكتفاء بما يزود للآخرة، والتحوب مما تكون به التبعات ولا شيء أدعى إلى ذلك من خدمة السلطان لا سيما في هذا الأوان.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنا إذا أمرنا رجلاً وفرضنا له رزقاً فما أصاب من شيء بعد كان غلولاً.
وفي حديث آخر: من ولي لنا شيئاً فلم يكن له امرأة فليزوج، ومن لم يكن له مسكن فليتخذ مركباً ومن لم يكن له خادم فليتخذ مسكناً، ومن لم يكن له مركب فليتخذ خادماً، فمن أعد سوى ذلك جاء يوم القيامة غالا سارقاً.
ولعلي عليه السلام من كتاب إلى بعض عماله: أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأشد به لهاة الثغر المخوف، فاستعن بالله على ما أهمك، واخلط الشدة بضغث من اللين، وارفق ما كان الرفق أوفق، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلا بالشدة، واخفض للرعية جناحك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة والاشارة والتحية حتى لا يطمع الأقوياء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك.
ومن كلام الحكماء: للكاتب على الملك ثلث: رفع الحجاب عنه، واتهام الوشاة عليه، وإفشاء السر إليه.
وقال أبرويز لكتابه: اكتم السر، واصدق الحديث واجتهد في النصيحة، واحترس بالحذر فإن لك علي ألا أعجل بك حتى أستأني لك، ولا أقبل عليك قولاً حتى أستفين، ولا أطمع فيك فتغتال. لا تدعن أن ترفع إلي الصغير فإنه يدل على الكبير. هذب أمرك ثم القني بها، وأحكم لسانك ثم راجعني به. لا تجترئن علي فأمتعض، ولا تنقبض عني فأتهم، ولا تمرض بما تلقاني ولا تجحدنه، وإذا أفكرت فلا تعجل، وإذا كتبت فلا تعذر، ولا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية، ولا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة، ولا تلبسن كلاماً بكلام ولا تباعدن معنى عن معنى.
وللكتاب آداب تخصهم ليس هذا موضعها، ومكانهم من العلوم والسياسة وحسن التدبير وأصالة الرأي ووضع الأشياء مواضعها، أجل من أن ينبه عليه السلام، هذا إذا كان فيهم أدوات الكتابة وشروطها، فأما من تجمل بالاسم دون المعنى فخارج عن هذا الإطراء.
وقد قال حكيم لبنيه: يا بني تزيوا بزي الكتاب فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة.
وقد ذكرهم عبد الحميد بن يحيى مولى العلاء بن وهب العامري في رسالة له يوصيهم فيها بمحاسن الأفعال، نحن نقتصر عليها في وصفهم وما ينبغي لهم أن يتأدبوا به، أولها: أما بعد، حفظكم الله يا أهل هذه الصناعة فإن الله تعالى جعل الناس من بعد الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم جميعاً وبعد الملوك المكرمين شرفاً، وصرفهم في صنوف الصناعات التي منها سبب معاشهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرفها صناعة، أهل الأدب والمروءة والحلم والروية، وذوي الأخطار والهمة وسعة الذرع في الإفضال والصلة، بكم ينتظم الملك، وبتدبيركم وسياستكم يصلح الله سلطانهم ويجمع فيئهم ويعمر بلدانهم، يحتاج إليكم الملك في عظيم ملكه، والوالي في سني قدره، فموقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بضوئها ينظرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون.أنتم إذا آلت الأمور إلى موئلها وصارت إلى محاصلها ثفاتهم دون أهليهم وأولادهم وقراباتهم ونصائحهم، فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم سربال النعمة عليكم، وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفصل المذكورة والمعدودة منكم.

أيها الكتاب، إنكم على ما سبق به الكتاب من سنتكم، فإنَّ الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج من صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره إلى أن يكون حليماً في موضع الحلم، حكيماً في موضع الحكمة، مقداماً في موضع الإقدام، محجماً في موضع الإحجام، ليناً في موضع اللين، شديداً في موضع الشدة، مؤثراً للعفاف والعدل والإنصاف، كتوماً للأسرار، وفياً عند الشدائد، عالماً بما يأتي ويذر، ويضع الأمور مواضعها، وقد نظر في كل صنف من صنوف العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه شدا منه شدوا يكتفي به، يكاد يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعد لكل أمر عدته ويهيئ له أهبته.
فتنافسوا معشر الكتاب في صنوف العلم والأدب وتفقهوا في الدين وابدأوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، وأجيدوا الخط فإنه حيلة كتبتكم، وارووا الأشعار واعرفوا معانيها وغريبها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها، فإنَّ ذلك معين لكم على ما تسمعون إليه بهممكم، ولا يضعفن نظركم في الحساب فإنَّ كتاب الخراج منكم، وارغبوا بأنفسكم في المطامع سنيها ودينها، ومساف الأمور ومحاقرها فإنَّها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب، ونزهزا صناعتكم واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة، وما فيه أهل الجهالة والدناءة.
إياكم والكبر (والصلف)والعظمة فإنها عداوة مجتلبة بغير إحنة، وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصوا عليها فإنها شيم أهل الفضل والنبل من سلفكم. وإن نبا الزمان برجل منكم، فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله، فإنَّ أقعد الكبر أحدكم عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه، واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحدب وأحوط منه على أخيه وولده، وإن عرضت مذمة فليحملها من دونه، وليحذر السقط والزلة والملال عند تغير الحال، فإنَّ العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى المرآة، وهو لكم أفسد منه(لها). وابذلوا وفقكم الله ذلك من أنفسكم في الرخاء والشدة، والإحسان والإساءة، والغضب والرضى، والسراء والضراء، والحرمان والمواساة، فنعمت هذه السمة لمن يوسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة.
وإذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمور خلق الله وعياله أمر فليراقب الله تعالى ذكره، وليؤثر طاعته فيه، وليكن على الضعيف رفيقاً وللمظلوم منصفاً، فإنَّ الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم على عياله وليكن بالحق عالماً، وللأشراف مكرماً، وللفيء موفراً، وللبلاد عامراً، وللرعية متألقاً، وليكن في مجلسه متواضعاً حليماً ليناً، وفي استجلاب خراجه واستقصاء حقه رفيقاً إن شاء الله.
وإذا صحب أحدكم الرجل فليستشف خلائقه كما يستشف الثوب يشتريه لنفسه، وإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن، واحتال لصرفه عما يهوى من القبيح بألطف حيلة وأحسن مداراة ورفقة، فقد عرفتم أن سائس البهيمة إذا كان حاذقاً بسياستها التمس معرفة أخلاقها، فإنَّ كانت رموحاً اتقاها من قبل رجلها، وإن كانت جموحاً لم يهجها إذا ركبها، وإذا كانت شبوباً توقاها من ناحية يدها، وإن خاف منها عضاضاً توقاها من تلقاء رأسها، وإن كانت حروناً لم يلاحها بل يتبع هواها في طريقها، وإذا استمرت عطفها فسلس عليه قيادها، وفي هذا الوصف من سائس البهيمة(في) رفق سياسته دليل وأدب لمن ساس الناس وعاملهم وخدمهم وصحبهم. والكاتب بفضل أدبه وشريف صناعته ولطف حيلته ومعاملته من الناس لمن يحاوره ويناظره ويفهم عنه ويخاف سطوته أولى بالرفق بصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً، ولا تعرف خطأ ولا صواباً، إلا بقدر ما يصيرها إليه سائسها أو صاحبها الراكب. فأدقوا رحمكم الله في ذلك النظر، وأعملوا فيه الروية والفكر، يأمنوا ممن صحبتموه - بإذن الله - النبوة والاستثقال والجفوة، ويصر منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المواساة والشفقة، إن شاء الله.

ولا يجوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره، قدر صناعته، فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صناعتكم خدمة لا تحتملون في خدمتكم على التقصير، وخزان وحفظة لا يحتمل منكم التضييع والتبذير، واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما عدا عليكم، فنعم العون عونكم على صيانة دينكم، وحفظ أمانتكم وصلاح معاشكم. واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف، فإنهما يعقبان الفقر، ويذلان الرقاب، ويفضحان أهليهما، ولا سيما الكتاب.
والأمور أشباه وبعضها دليل على بعض، فاستدلوا على مؤتنف عملكم بما سبقت إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة، وأرجحها حجة، وأحمدها عاقبة. واعلموا أن للتدبير آفة وضداً واقعاً لا يجتمعان في أحد أبداً، وهو الوصف المشغل لصاحبه عن إنقاذ عمله ورويته، فليقصد الرجل منكم في مجلس تدبيره قصد الكافي في منطقه، وليوجز في ابتدائه، وليأخذ بمجامع حججه، فإنَّ ذلك مصلحة لعقله، ومحجة لذهنه، ومدفعة للتشاغل عن إكثاره، وإن لم يكن الإكثار عادة، ثم وضع وضعه في ابتداء كتاب أو جواب لحاتجة فلا بأس، ولا يدعون الرجل صنيع الله جل ذكره في أمره وتأييده إياه بتوفيقه، إلى العجب المضر بدينه وعقله وأدبه، فإنَّه إن ظن منكم ظان، أوقال قائل، إن ذلك الصنع لفضل حيلة، وأصالة رأي وحسن تدبير كان متعرضاً لأن يكله الله تعالى إلى نفسه، فيصير بها إلى غير كاف.
ولا يقل أحد منكم إنه آدب وأعقل وأحمل لعبء التدبير والعمل من أخيه في صناعته، فإنَّ أعقل الرجلين عند ذوي الألباب القائل إن صاحبه أعقل منه، وأحمقكم الذي يرى أنه أعقل من صاحبه، لعجب هذا بنفسه، ونبذ ذلك العجب وراء ظهره إذا كان الآفة العظمى من آفات عقله. ولكن قد يلزم الرجل أن يعرف فضل الله عز وجل من (غير)عجب، ويحمده بالتواضع لعظمته، وانا أقول في آخر كتابي هذا وعبر كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل فلذلك جعلته آخره وختمته به: تولانا الله وإياكم معشر الكتاب بما يتولى من سبق عمله في إسعاده وإرشاده، فإنَّ ذلك إليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأما القضاء والمظالم فمن أكبر أسباب السلطان، ومتوليها أعلى منزلة من أعوانه، وكتب الفقه أولى مكان لذلك.
وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري كتاباً يمثل به أدب القضاء نحن نقتصر عليه: أما بعد فإنَّ القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنَّه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بي الناس في مجلسك ووجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حقك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح بين المؤمنين جائز إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. لا يمنعك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه عقلك وهديت فيه رشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم أعرف الأمثال والأشباه فقس الأمور عند ذلك (بنظائرها)، واعمد إلى أقربها إلى الله عز وجل وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإنَّ أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا استحالت عليه القضية، فإنه أخفى للشك وأجلى للعمى، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإنَّ الله عز وجل تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان. وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإنَّ الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر، فمن صحب نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله (فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته؟).
قال الزهري: ثلاث إذا كن في القاضي فليس بقاض، إذا كره اللوائم، وأحب المحامد، وكره العزل.
وقال ابن وهب: إذا لم يكن القاضي ثلاث خصال فليس بقاض: يشاور إن كان عالماً ولا يسمع شكية من أحد إلا ومعه خصمه، ويقضي إذا علم.
عزل عمر بن عبد العزيز قاضياً فقال له: لم عزلتني؟قال: بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصمين.

قال الاسكندر لصاحب حرسه: إنك مستودع روحي فاحفظ هذه المنزلة لنفسك وعقبك، وقال لحاجبه: إنك مالك وجهي فانف قذاه أبصر لك. وقال لطباخه: إنك مسلط على مروءتي فاجتهد أحمدك وقال لكاتبه إنك مصرف عقلي فاحفظني بك. وقال لنديمه: إنك روضة أنسي فاحذر القبيح والدخول تدم نزهي فيك واستراحي إليك، والسلام.
كان الفضل بن الربيع يقول: المسألة عن حال الملوك من تحية النوكى، فإن أردت أن تقول للملك كيف أصبحت، فقل: صبحك الله بالخير، و إذا اردت أن تقول كيف تجدك، فقل: أنزل الله عليك الشفاء والرحمة، فإنك إذا قلت: كيف تجدك؟فإما أجابك فقد ألزمته مؤونة الجواب، وإما سكت عنك وذاك شديد على من يعقل.
وكان الفضل هذا سديداً عاقلاً ومتصرفاً بخدمة الملوك، قال له المهدي: إني قد وليتك ستر وجهي وكشفه، فلا تجعل الستر بيني وبين خواصي سبب ضغنهم علي بقبح ردك وعبوس وجهك، وقدم أبناء الدولة فإنهم أولى بالتقديم، وثن بالأولياء، واجعل للعامة وقتاً إذا وصلوا فيه أعجلهم ضيقة من البث وحثك لهم عن التمكث.
قال الفضل بن سهل لحاجبه: إنك تسمع مني السر والعلانية، وربما ذكرت الرجل، فأسأت ذكره، فلا ترين ذلك قليلاً ولا تتغيرن له بما سمعت، فلعل ذلك غاية عقوبتي إياه.
وقال زياد لحاجبه: يا عجلان إني وليتك هذا الباب، وعزلتك عن أربع، عزلتك عن هذا المنادي إذا دعا إلى الصلاة، فلا سبيل لك عليه، وعن طارق الليل فشر ما جاء به، ولو جاء بخير ما كنت من حاجته. وعن رسول صاحب الثغر فإنَّ إبطاء ساعة يفسد تدبير سنة، وعن هذا الطباخ إذا فرغ من طعامه.
قال الحجاج: دلوني على رجل أوليه الشرطة؟فقيل له: أي الرجال تريد؟فقال: أريده دائم العبوس، طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف الخيانة، لا يحنق في الحق على جرة، ويهون عليه سبال الأشراف في الشفاعة، فقيل له: عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي، فأرسل إليه فاستعمله. قال: لست أقبلها إلا أن تكفيني عيالك وولدك وحاشيتك.
فقال: يا غلام من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت منه الذمة. قال الشعبي: فلا والله ما رأيت صاحب شرطة قط مثله، كان لا يحبس إلا في الدين، وكان إذا أتي برجل قاتل بحديد أو شهر سلاحاً قطع يده، وإذا أتي بنباش قبر حفر له قبراً فدفنه فيه، فإذا أتي برجل قد احرق على قوم منازلهم أحرقه، وإذا أتي برجل يشك فيه وقد قيل إنه لص ولم يكن منه شيء ضربه ثلاثمائه سوط، فربما أقام أربعين ليلة لا يؤتى بأحد، فضم إليه الحجاج شرطة البصرة مع شرطة الكوفة.
وتحدث المأمون فضحك إسحاق بن إبراهيم المصعبي، فقال: يا إسحاق أؤهلك لشرطتي وتفتح فاك من الضحك؟ خذوا سواده وسيفه، ثم قال: أنت بالشرابي أشبه، فضعوا منديلاً على عاتقه، فقال إسحاق: أقلني يا أمير المؤمنين، قال: قد أقلتك، فما ضحك إسحاق بعدها.
وكتب علي عليه السلام كتباً إلى عماله في الحروب والصدقات وغيرها، ووصى فأوقفهم فيها على سبيل الهداية، وبصرهم من تيه العماية، يحصل بالوقوف عليها التأدب المغني عن التمثيل بغيرها: فمنها ما وصى به معقل بن قيس الرياحي حين أنقذه إلى الشام مقدمة له: اتق الله الذي لا بد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، ولا تقاتلن إلا من قاتلك، وسر البردين، وغور الناس ورفه في السير، ولا تسر أول الليل فإنَّ الله جعله سكناً، وقدره مقاماً(لا ظعناً) فارح فيه بدنك، وروح ظهرك، فإنَّ وقفت حتى فجر الصبح فسر على بركة الله، فإنَّ رأيت العدو فقف في أصحابك وسطاً، ولا تدن من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد بهم تباعد من يهاب البأس حتى يأتيك امري، ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم.

وكتب إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة: أما بعد فأقم للناس الحج، وذكرهم بأيام الله عز وجل، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي، وعلم الجاهل، وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها. وانظر إلى ما اجتمع عندك من ما الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيباً به مواضع المفاقر والخلات، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا، ومر أهل مكة ألا يأخذوا من ساكن أجراً، فإنَّ الله تعالى يقول: (سواء العاكف فيه والباد) (الحج: 25) فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحج إليه من غير أهله، وفقنا الله وإياك لمحابه والسلام.
وقال لزياد وقد استخلفنه لعبد الله بن العباس على فارس وأعمالها، في كلام طويل كان بينهما نهاه فيه عن تقديم الخراج: استعمل العدل واحذر العسف والحيف، فالعسف يعود بالجلاء والحيف يدعو إلى السيف.
ومن كلام له كان يوصي به المصدقين: انطلق على تقوى الله عز وجل، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج بالتحية، ثم تقول: عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه ؟ فإنَّ قال قائل (لا) فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، وإن كانت له ماشية أو إبل، فلا تدخلها إلا بإذنه، فإنَّ أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخلها دخول متسلط عليها ولا عنيف به. ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعها، ولا تسوءن صاحبها فيها، واصدع المال صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعترض لما اختار، فلا تزال بذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فاقبض حق الله منه، فإنَّ استقالك فأقله ثم اخلطها، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق الله في ماله، ولا تأخذن عوداً ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة ولا ذات عور، ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه رافقاً بمال المسلمين حتى توصله إلى وليهم فيقسمه بينهم، ولا توكل بها إلا ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً غير معنف ولا مجحف، ولا ملغب ولا متعب، ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك نصيره حيث أمر الله به، فإنَّ اخذها أمينك فأوعز إليه الا يحول بين ناقة وفصيلها، ولا يمصر بلبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدها ركوباً، وليعدل بين صواحباتها وبينها في ذلك، وليرفه على اللاغب وليستأن بالنقب والظالع، وليوردها ما تمر به من الغدر، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق، وليروحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف والأشاب، حتى يأتينا بها بإذن الله بدناً منقيات غير متعبات ولا مجهودات لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه، فإنَّ ذلك أعظم لأجرك، وأقرب لرشدك، إن شاء الله تعالى.
قال معاوية لعامل له: كل قليلاً تعمل طويلاً، والزم العفاف يلزمك العمل، واياك والرشا يشتد ظهرك عند الخصام.
وقال البحتري يذكر ولاية الحسن بن مخلد: (من الكامل المجزوء).
ولي السياسة واسطاً ... بين التسهل والتشدد
كالسيف يقطع وهو ... مسلول ويرهب وهو مغمد
ومن الكلام البديع فيما أوصى به أتباع السلطان ما وصى به الرشيد الأصمعي في أول ما عزم على تأنيسه. قال له: يا عبد الملك، أنت احفظ منا ونحن أعقل منك، لا تعلمنا في ملاء، ولا تسرع إلى تذكيرنا في خلاء، واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال، فإنَّ بلغت من الجواب قدر استحقاقه فلا تزد، وإياك والبدار إلى تصديقنا، أو شدة العجب بما يكون منا، وعلمنا من العلم ما نحتاج إليه على عتبات المنابر وفي أعطاف الخطب وفواصل المخاطبات، ودعنا من رواية حوشي الكلام وغرائب الأشعار، وإياك وإطالة الحديث إلا أن يستدعى ذلك، ومتى رأيتنا صادفين عن الحق فأرجعنا إليه ما استطعت، من غير تقرير بالخطأ ولا إضجار بطول الترداد. قال الأصمعي أنا إلى حفظ الكلام أحوج مني إلى كثير من البر.

وقال عتبة بن ابي سفيان لمعلم ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاح نفسك، فإنَّ عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنته والقبيح عندهم ما استقبحته. علمهم كتاب الله تعالى، وروهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه، ولا تكرهم على علم فيملوه، ولا تخرجهم من علم إلى علم فإنَّ ازدحام العلم في السمع مضلة للفهم، وعلمهم سير الحكماء، وهددهم بي، وادبهم دوني، ولا تتكل على عذر مني، فإنَّي اتكل على كفاية منك.
قال سهل بن هارون: ليس يواظب على باب السلطان أحد فيلقي عنه الأنف، ويحتمل الأذى، ويكظم الغيظ، ويرفق بالناس، إلا خلص إلى حاجته.
وقيل إنه رأى أبا يوسف القاضي على باب الرشيد والشمس تنقله من ظل ظل، فقال له: أمثلك مع علمك وفضلك تقف هذا الموقف؟فأنشد: (من الطويل).
أهن لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولا تكرم النفس التي لا تهينها
قال ابن عباس: قال لي أبي: يا بني إني أرى أمير المؤمنين عمر يستخليك ويستشيرك ويقدمك على كثير من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإني أوصيك بخلال ثلاث: لا تفشين له سراً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تغتابن عنده أحداً. قال الشعبي قلت لابن عباس: كل واحدة منها خير من ألف. قال: أي والله ومن عشرة آلاف.
وقال القدماء: إقبال السلطان تعب وإعراضه مذلة.
؟وقال آخر: السلطان إذا أرضيته أتعبك وإذا أغضبته أعطبك.
قال الفضل بن سهل: من أحب المنزلة عند سلطانه فليكفه، ومن أحب المزيد من النعم فليشكر.
قال أحمد بن أبي خالد للمأمون لما هم أن يستوزره: اجعل بيني وبين العامة منزلة يرجوها الصديق ويخافها العدو، فما بعد الغايات إلا الآفات.
نفذ أبو عبيد الله كاتب المهدي إلى جعفر بن محمد رضي الله عنه الله عنهما رسولاً وكتاباً منه يقول: حاجتي إلى أن تهدي إلي من تبصيرك على مداراة الناس والسلطان، وتدبير أمري كحاجتي إلى دعائك لي. فقال لرسوله: احذر أن يعرفك السلطان بالطعن عليه في اختيار الكفاة، وإن أخطأ في اختيارهم، أو مصافاة من يباعد منه، وإن قربت الأواصر بينك وبينه، فإنَّ الأولى تغريه بك والأخرى توحشه منك، ولكن بتوسط الحالين. واكفف عن عيب من اصطفلوا والإمساك عن تقريظهم عنده، ومخالطة من أقصوا والتنائي عن تقريبهم، وإذا كدت فتأن في مكايدتك، واعلم أن من عنف بحيلته كدحت فيه بأكثر من كدحها في عدوه، ومن صحب حيلته بالصبر والرفق كان قمناً أن يبلغ بها إرادته وينفذ فيها مكايده. واعلم أن لكل شيء حداً فإنَّ جاوزه كان سرفاً، وإن قصر عنه كان عجزاً. فلا تبلغ بك نصيحة السلطان إلى أن تعادي له حاشيته وخاصته فإنَّ ذلك ليس من حقه عليك، ولكن الأقضى لحقه والأدعى إلى السلامة إليك أن تستصلحهم له جهدك، فإنَّك إذا فعلت ذلك شكرت نعمته وأمننت حجته وطلت عدوك عنده. واعلم أن عدو سلطانك عليك أعظم مؤونة منه عليك، وذلك أنه يكيده في الأخص فالأخص من كفاته وأعوانه، فيحصي مثالبهم ويتبع آثارهم.
وهذا الكلام أكثر معانيه قد سبق إيرادها في أماكن متفرقة من هذا الفصل، إلا أني وجدته ها هنا أحوى وأوجز وأبلغ فلزمني إثباته.

الفصل الرابع
الآداب والسياسة التي تصلح للجمهور
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنبه على مواضع آداب النفس وبين ما هو جملة للتفصيل الذي أكثر فيه الناس: لا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا عقل كالتدبير، ولا حزم كالتقوى، ولا قرين كحسن الخلق، ولا ميزان كالأدب، ولا فائدة كالتوفيق، ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا ربح كثواب الله، ولا ورع كالوقوف عند الشبهة، ولا زهد كالتزهد في الحرام، ولا علم كالتفكر، ولا عبادة كأداء الفرائض، ولا إيمان كالحياء والصبر، ولا حسب كالتواضع، ولا شرف كالعلم، ولا مظاهرة كالمشاورة، فاحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، واذكر الموت وطول البلى.
وقال صلّى الله عليه وسلم: اغد عالماً أو متعلماً أو مجيباً أو سائلاً، ولا تكن الخامس فتهلك.
وقال عليه السلام: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته.
و من كلامه صلّى الله عليه وسلم: العارية مؤداة والمنحة مردودة.الدين مقضي به. الزعيم غارم.
وهذا الكلام مخرجه مخرج الخبر والمراد به الأمر.

و من كلامه صلّى الله عليه وسلم: من يزرع الشر يحصد ندامة من مشى منكم إلى طمع فليمش رويداً ثق بالناس رويداً.
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
إياكم والظن فإنَّ الظن أكذب الحديث.
مداراة الناس صدقة.
الاقتصاد نصف العيش وحسن الخلق نصف الدين لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك.
لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً.
عليكم بالرفق فإنَّه ما خالط شيئاً إلا زانه، ولا فارقه إلا شانه.
ترك الشر صدقة إياك وما يعتذر منه.
وما أكثر ما تحت هذه الكلمة الوجيزة من المعاني.
؟ومن كلامه صلّى الله عليه وسلم: لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت. إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإنَّ ذلك يحزنه.
قال أنس: توفي رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقيل له: أبشر بالجنة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أفلا تدرون فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينفعه.
و من كلامه صلّى الله عليه وسلم: من كنوز البر كتمان المرض والمصايب والصدقة.
وقد روي عن سفيان ألفاظ تقارب هذه، قال: ثلاثة من الصبر: لا تحدث بمصيبتك، ولا بوجعك، ولا تزك نفسك.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: بكثرة الصمت تكون الهيبة، وبالنصفة يكثر المواصلون لك، وبالإفضال تعظم الأقدار، وبالتواضع تتم النعمة، وباحتمال المؤن يكون السؤدد، وبالسيرة العادلة تقهر المساؤئ، وبالحلم عن السفيه يكثر الأنصار عليه.
؟وقال أيضاً: من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن خاف أمن، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن تفهم علم.
و من كلامه عليه السلام: اتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر، ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر.من ترك القصد جار.
وله عليه السلام أيضاً آداب كثيرة مأثورة من هذا الباب سنذكرها متفرقة فيه إن شاء الله تعالى.
قال محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط عن اللئيم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط.
قيل: عشر خصال في عشرة أصناف من الناس أقبح منها في غيرهم: الضيق في الملوك، والغدر في الإسراف، والكذب في القضاة، والخديعة في العلماء، والغضب في الأبرار، والحرص في الأغنياء، والسفه في الشيوخ، والمرض في الأطباء، والتهزي في الفقراء، والفخر في القراء.
قال أكثم بن صيفي فيما وصى به أهله: تناءوا في الديار، وتواصلوا في المزار.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما استودع الله عبداً عقلاً إلا استنقذه به يوماً ما.
وقال علي عليه السلام لابنه الحسن: يا بني، احفظ عني أربعاً، وأربعاً لا يضرك ما عملت معهن: إن أغنى الغنى العقل، وأفقر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق.
يا بني إياك ومصاحبة الأحمق فإنَّه يريد أن ينفعك فيضرك، ومصادقة البخيل فإنَّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر فإنَّه يبيعك بالتافه، وإياك ومصادقة الكذاب فإنَّه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عنك القريب.
و كان الحسن بن أبي الحسن يقول: لسان العاقل من وراء قلبه فإنَّ عرض له القول نظر فإنَّ كان صواياً قال، وإلا أمسك، ولسان الأحمق أمام قلبه فإنَّ عرض له القول قال له أو عليه.
وقد روي هذا الكلام أو قريب منه علي بن أبي طالب عليه السلام.
وسئل الحسن عن العاقل فقال: من اتقى الله وتعالى تمسك بطاعته. قال له رجل: فمعاوية ؟قال: تلك الشيطنة، تلك الفرعنة، ثم قال: ذلك شبيه بالعقل.
وسمع سفيان الثوري رجلاً في مجلسه يقول: كان معاوية عاقلاً، فقال: العقل لزوم الحق وقول الصدق.
وقيل لعلي عليه السلام: صف لنا العاقل، فقال: يضع الشيء مواضعه. فقيل فصف لنا الجاهل، فقال: قد فعلت(يعني أنه لا يضع الشيء مواضعه).
ومن كلامه: كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيك من رشدك.
وقال علي كرم الله وجهه: الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام قاطع، فاستر خلل خلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك.
وقيل: ظن العاقل كهانة.
وقال جعفر بن محمد: كل الأشياء تحتاج إلى العقل إلا شيئاً واحداً. قيل: ما هو؟قال: الدول.
وأنشد الخليل: (من الطويل)

إذا كمل الحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه وضرائبه
يزين الفتى في الناس صحة عقله ... وإن كان محظوراً عليه مكاسبه
ويزري به في الناس قلة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه ... على العقل يجري علمه وتجاربه
من كلام الرسول صلّى الله عليه وسلم: البلاء موكل بالمنطق. من خزن الله لسانه رفع الله شأنه.
وقال علي عليه السلام: الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإنَّ تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فرب كلمة سلبت نعمة(وجلبت نقمة).
وقد قال أيضاً: لا خير في الصمت عن الحكم، كما أنه لا خير في القول بالجهل.
وقال محمد بن المنكدر: لن أسمع أحب إلي من أن أتكلم، لأن المستمع يتنقى والمتكلم يتوفى.
وقيل لرجل من كلب طويل الصمت: بحق ما سميتم خرس العرب؟فقال: أسكت لأسلم وأستمع فأغنم.
وقال الحسن بن علي: قد أكثر من الهيبة الصامت.
وقال أبو بكر بن عياش: اجتمع أربعة ملوك: ملك فارس وملك الروم وملك الهند وملك الصين، فتكلموا بأربع كلمات كأنما رمي بها عن قوس واحدة، فقال أحدهم: أنا على قول ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال آخر: الكلمة إذا قلتها ملكتني وإذا لم أقلها ملكتها. وقال الآخر: لم أندم على ما لم أقل وقد أندم على ما قلت. وقال الآخر: عجبت لمن يتكلم بالكلمة إن رفعت عليه ضرته، وإن لم ترفع عليه لم تنفعه.
ومنه قول الشاعر: (من الرجز).
والقول لا تملكه إذا نمى ... كالسهم لا يملكه رام رمى
وقال الآخر: (من الطويل).
فداويته بالحلم والمرء قادر ... على نفسه ما دام في كفه السهم
وإلى هذا ذهب عامر الشعبي حيث يقول: وإنك على إيقاع مال لم توقع أقدر منك على رد ما أوقعت.
وقال الخطفى جد جرير: (من الطويل).
عجبت لأزراء العيي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما
وقال أبو نواس: (الرمل المجزوء).
مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام
ربما استفتحت بالنطق ... مغاليق الحمام
وقال ابن عباس رحمه الله: الهوى إله معبود، وقرأ: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)(الجاثية: 23). ويكفي من ذم الهوى قوله عز وجل: (و أما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى) (النازعات: 4.).
ومن كلام جعفر بن محمد عليهما السلام: الهوى يقظان والحزم نائم.
وقال عمرو بن العاص لمعاوية: من أصبر الناس؟قال: من كان رأيه راداً لهواه.
وقال أعرابي: الهوى الهوان ولكن غلط باسمه.
وقال آخر: العقل وزير ناصح والهوى خادم كذوب.
وقال الشاعر: (من الطويل)
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
وقال آخر: اعص الهوى وأطع من شئت.
وقال الأخطل: (من الطويل).
وإن امرءاً لا ينثني عن غواية ... إذا ما اشتهتها نفسه لجهول
وقال أردشير: أسعدوا الرأي على الهوى.
وقال حاتم: (من الطويل).
وإنك إن اعطيت بطنك سؤله ... وفرجك، نالا منتهى الذم أجمعا
وقال عمرو بن العاص: (من الطويل)
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ... ولم يعص قلباً غاوياً حيث يمما
قضى وطراً منه يسيراً وأصبحت ... إذا ذكرت أمثاله تملأ الفما
وقال ابن المقفع: إذا ابتدأك أمران لا تدري أيهما أصوب فانظر أقربهما إلى هواك فخالفه، فإنَّ أكثر الصواب في مخالفة الهوى.
وقال المعتصم: إذا نصر الهوى بطل الرأي.
وقال الحسين بن علي عليهما السلام: اصبر على ما تكره فيما يلزمك الحق، واصبر عما تحب مما يدعوك إليه الهوى.
وقال جعفر بن محمد: من كان الهوى مالكه والعجز راحته، عاقاه عن السلامة وأسلماه إلى الهلكة.
وما قيل في ذم الهوى والتحذير منه يوفي على الإحصاء، وإنما نذكر من الشيء ما يتفق.
قال مضرس بن ربعي: : (من الطويل).
فلا تهلكن النفس لوماً وحسرة ... على الشيء سداه لغيرك قادره

ولا تيأسن من صال أن تناله ... وإن كان نوشاً بين أيد تبادره
وما فات فاتركه إذا عز واصطبر ... على الدهر إن دارت عليك دوائره
فإنك لا تعطي امرءاً حظ غيره ... ولا تعرف الشق الذي الغيث ماطره
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الرجال ثلاثة، والنساء ثلاثة: فامرأة عفيفة مسلمة هينة ودود ولود تعين أهلها على الدهر ولا تعين على أهلها وقل ما تجدها، وأخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئاً، وأخرى غل قمل يجعلها الله في عنق من يشاء.والرجال ثلاثة رجل عاقل إذا أقبلت الأمور واشتبهت تأمل فيها أمره ونزل عند رأيه، وآخر ينزل به الأمر فلا يعرفه فيأتي ذوي الرأي فينزل عند رأيهم، وآخر حائر بائر لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشداً.
يقال: لا تغتبطن بسلطان مع غير عدل، ولا بغنى من غير حل، ولا ببلاغة من غير صدق منطق، ولا بجود في غير إصابة موضع، ولا بأدب في غير أصالة رأي، ولا بحسن عمل في غير حسنة.
وقيل: الكامل من لم يبطره الغنى، ولم يستكن للفاقة، ولم تهده المصائب، ولم يأمن الدوائر، ولم ينس العاقبة، ولم يغتر بالشبيبة. واعلم أن عيبة العيوب وخزانة المخازي والشباب والبطش والجمال والغنى والشبق والفخر وشرب الخمر وكظة الطعام وكثرة النوم وانتشار الهم واشتعال الجهل وعادة السوء، فقابل كلا من ذلك بما يقمعه ويقدعه.
قالوا: العدل لا بد منه في كل الأشياء حتى إن الجور يحتاج إلى العدل، وضربوا لذلك مثلاً في قطاع الطريق والمجتمعين على ظلم، قالوا: لو لم يتناصفوا فيما بينهم ولم يستعملوا الواجب فيما يقسمونه لا نفسد أمرهم وانحل نظامهم.
قال ميمون بن مهران: ثلاث الكافر فيهن والمؤمن سواء، الأمانة تؤديها لمن ائتمنك عليها من مسلم وكافر، وبر الوالدين، قال الله تعالى: (و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً) (لقمان: 15)، والعهد تفي به لمن عاهدت من مسلم وكافر.
قال معاوية لابنه: اتخذ المعروف عند ذوي الإحسان تستمل به قلوبهم، وتعظم به في أعينهم، وتكف به عنك عاديتهم.
قال الأقيشر: (من الطويل)
إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي أتى ... وإن مد أسباب الحياة له العمر
وقال حارثة بن بدر الغداني: (من الطويل)
إذا الهم أمسى وهو داء فأمضه ... ولست بممضيه وأنت معادله
ولا تنزلن أمر الشديدة بامرئ ... إذا رام أمراً عوقته عواذله
إذا ما قتلت الشيء علماً فقل به ... وإياك والأمر الذي أنت جاهله
وقل للفؤاد إن نزا بك نزوة ... من الروع أفرخ أكثر الروع باطله
وقال آخر: (من الطويل)
وأبثثت عمراً بعض ما في جوانحي ... وجرعته من مر ما أتجرع
ولا بد من شكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفسي تطلع
وقال آخر وأظنها لبعض اليهود: (من الطويل)
وإني لأستبقي إذا العسر مسني ... بشاشة وجهي حين تبلى المنافع
فأعفي ثرى قومي ولو شئت نولوا ... إذا ما تشكى الملحف المتضارع
مخافة أن أقلى إذا جئت زائراً ... ويرجعني نحو الرجال المطامع
وأسمع مناً أو أشرف منعما ... وكل مصادي نعمة متواضع

وجدت للأحنف بن قيس حديثاً إن كان صحيحاً أو مصنوعاً ففيه أدب وسياسة لجمهور الناس في مقاصدهم وأفعالهم ومتصرفاتهم، قيل: دخل الأحنف على معاوية، فذكر أهل العراق وحسن آرائهم، وميسون بنت بحدل الكليبة أم يزيد تسمع كلامه، فلما انصرف قالت: يا أمير المؤمنين أحببت أن تأذن لقوم من أهل العراق عليك، وتجعلني بحيث أسمع كلامهم.فقال لآذنه: انظر من بالباب، فقال له: بنو تميم. فقال: أدخلهم وفيهم الأحنف.فقال له معاوية: اقرب أبا بحر، وضربت لميسون قبة بحيث تسمع كلامهم.فقال له: يا أبا بحر كيف زيك لنفسك ؟ قال: أفرق الشعر، وأقص الشارب، وأقلم الأظفار، وأنتف الإبط، وأحلق العانة، وأديم السواك، فإنّه مطهرة للفم ومرضاة للرب وزيادة في حسنات الصلاة، وأغتسل في كل جمعة فإنَّه كفارة ما بين الجمعتين. قال: فكيف زيك في لبسك؟قال: أعرض النعلين، وأقصر الكمين، وأوسع الرداء، وأشمر الإزرار، وألزم الوقار.قال: كيف زيك في مشيك؟ قال: أوطىء قدمي على الأرض في ترسل، وأنقلهما على تمهل وأرعاهما بعيني وأقل التلفت حولي. قال: فكيف زيك إذا دخلت على من فوقك من الأمراء؟قال: أطلق الحبى، وأدع التكا، وأقل الكلام، وأرد السلام. قال: فكيف زيك إذا دخلت على نظرائك؟قال: أنازعهم الكلام في سمت، وأفاوضهم الحديث في تثبيت، وأجيبهم إذا سألوا، وأنصت لهم إذا قالوا، ولا أجول فيما جالوا. قال: فكيف زيك إذا دخلت على أمرائك؟قال: أسلم من غير إشارة، وأنتظر الإجابة، فإن قربني تقربت وإن أومأ إلي تباعدت. قال: فكيف زيك مع أهلك؟قال: اعفني يا أمير المؤمنين. قال: عزمت عليك لتفعلن، قال: أحسن الخلق، وأظهر البشر، وأوسع النفقة فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج. قال: فكيف زيك إذا أردت مباضعتها؟قال: من هذا استعفيتك، قال: نشدتك لما قلت، قال: أكلمها حتى تنشط، وألثمها حتى تطرب، فإذا كان الذي تعلم طرحت على ظهري وقاية تقيني، فإذا استقرت النطفة في قرارها قلت: اللهم اجعلها ميمونة مباركة ولا تجعلها شقية مشاركة، وصورها أحسن صورة، ثم أقوم إلى الوضوء فأفيض الماء على يدي وتراً، ثم أصبه على جسدي مسبغاً، ثم أحمد الله على ما أعطاني من النعمة السابغة والحلال الطيب. قال له معاوية: لقد أحسنت الجواب فسلني حاجتك؟قال: حاجتي يا أمير المؤمنين أن تتقي الله في الرعية، وتعدل بينهم بالسوية، ثم نهض. فلما ولى قالت ميسون: لو لم يكن بالعراق إلا هذا لكفاهم.
قال أفلاطن: ينبغي للذين يأخذون على أيدي الأحداث أن يدعوا لهم موضعاً للعذر لئلا يضطروا إلى القحة بكثرة التوبيخ.
وقال بعض الاسلاميين: ليس من العدل سرعة العذل.
وقال علي كرم الله وجهه: كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب ولا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب.
ومن كلام عليه السلام: الاحتمال قبر العيوب. من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه. قرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان والفرصة تمر مر السحاب، فانتهزوا فرص الخير. من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون. عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شره بالإنعام عليه.
وقد قال جعفر بن محمد: لا تتبع أخاك بعد القطيعة وقيعة فتسد عليه طريق الجوع إليك، ولعل التجارب أن ترده إليك.
قال الشاعر، هو محمد بن عبد الله الأزدي: (من الطويل)
لا أدفع ابن العم يمشي على شفاً ... وإن بلغتني من أذاه الجنادع
ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه ... لترجعه يوماً إلي الرواجع
وأفرشه مالي وأحفظ غيبه ... وأرعاه عيناً بالذي هو سامع
وحسبك من جهل وسوء صنيعة ... معاداة ذي القربى وإن قيل قاطع
فألبس ثراك الأهل تسلم صدورهم ... فلابد يوماً أن تروع الروائع
قال أبو هلال الأسدي وتروى لأبي النشناش التميمي: (من الطويل)
ودع عنك مولى السوء والدهر إنه ... ستكفيكه أيامه ونوائبه
ويلقى عدواً من سواك يرده ... إليك فتلقاه وقد لان جانبه
ولما بلغ سيف الدولة علي بن حمدان قول أبي الطيب المتنبي وهو بمصر: (من الطويل) وإن. بليت بود مثل بودكم فإنني بفراق مثله قمن ( قال: سار وحق أبي ).

و من كلام علي كرم الله وجهه: إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنَّ شدة التوقع أعظم مما يخاف منه.أغض على القذى والألم ترض أبداً. من أطاع التواني ضيع الحقوق، ومن أطاع الواشي ضيع الصديق. من ظن بك خيراً فصدق ظنه. من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها ظلم، ولا يستطيع أن يتقي الله من خاصم. لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءاً وأنت تجد لها في الخير محتملاً.الغيبة جهد العاجز.
سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يوصيه ويوجز فقال: لا تغضب.
؟وقد قيل: إياك وجرأة الغضب فإنَّها تصيرك إلى ذل الإعتذار.
وقال ابن المقفع: إذا حاججت فلا تغضب، فإنَّ الغضب يدفع عنك الحجة ويظهر عليك الخصم.
وقال أيضاً فيما ترجمه من حكم الفرس: إن ذكرك ذاكر عند السلطان بسوء في وجهك أو غيبك، فلا يرين الوالي ولا غيره منك اختلاطاً لذلك ولا غيظاً، ولا تكترث له فيدخل عليك من ذلك شبيه بالريبة مؤكدة لما قال فيك العائب، وإن اضطررت إلى الجواب فإياك وجواب الإنتقام والغضب، وعليك بجواب الوقار والحلم والحجة، ولا تشكن في أن القوة والغلبة للحليم.
قال الشاعر: (من الطويل).
ولم أر عقلاً تم إلا بشيمة ... ولم أر علماً تم إلا على أدب
ولم أر في الأشياء حين بلوتها ... عدواً للب المرء أقوى من الغضب
قيل: من كتم السلطان نصيحته، والأطباء مرضه، والإخوان بثه، فقد خان نفسه.
وقال صاحب كليلة ودمنة: خير الأعوان والأخدام أشدهم مبالغة في النصيحة وخير الأعمال أجلها عاقبة، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وخير الأصدقاء من لا ينافق، وخير الأخلاق أعونها على الورع، وأفضل السلطان ما لم يخالطه بطر، وأغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيراً، وأعجز الملوك آخذهم بالهوينا وأقلهم نظراً في العواقب.
؟وقال: من بلغ جسيماً فلم يبطر ؟ ومن اتبع الهوى فلم يعطب ؟ ومن جاور النساء فلم يفتن ؟ ومن صحب السلطان فلم يعنت ؟ ومن طلب إلى اللئام فلم يهن ؟ ومن واصل الأشرار فسلم ؟.
وقال: أحسن القياس عند تشابه الأمور، واعتبر ما أنت فيه بما بقي وما يكون بما قد كان، فكفى بذلك علماً، واقنع فحسب المرء أن يكون بما أوتي قانعاً، وأبصر حيث تضع رجلك لا تطأ بها دحضاً فتزلق. وأحسن الروغان عند جولة الطالب، وافرق بين العدو والصديق وأنزلهما منازلهما، أما الصديق فتصله وتقضي حقه، وأما العدو فتحذره وتنأى عنه، واحذر محل السوء وإن موه لك ببعض الكذب فقد ينثر الحب في الشباك، لا من كرامة الطير، والكلمة اللينة من العدو في حال ضرورة فاحذرها، وقس بما في نفسه لك بما في نفسك فكفى بذلك دليلاً.
وقيل: ليس صلح العدو بموثوق به على حال، فإنَّ الماء وإن أطيل إسخانه فليس يمنعه ذلك من إطفاء النار.
ومثل الكلام الأول قول محمد بن علي بن موسى بن جعفر للمتوكل في كلام دار بينهما: لا تطلب الصفاء ممن كدرت عليه، ولا النصح ممن صرفت سوء ظنك إليه، وإنما قلب غيرك لك كقلبك له.و هذا الكلام مأخوذ من قول النبي صلّى الله عليه وسلم الذي هو منبع كل حكمة: الذنب لا ينسى والبر لا يبلى، وكن كيف شئت فكما تدين تدان.
؟قال عبد الله بن الحسن لأبيه: يا بني إياك ومعاداة الرجال فإنَّه لا يعدمك مكر حليم أو مفأجأة لئيم.
وقيل: من وجد عدواً مغتراً معوراً فلم يسترح منه، أصابته الندامة حين يقوى عدوه فيعجزه، والعاقل يصالح عدوه إذا اضطر إلى ذلك ويصانعه ويظهر له وده ويريه الإستئمان إليه إذا لم يجد من ذلك بداً، ثم يعجل الإنصراف عنه حين يجد إلى ذلك سبيلاً ويعلم أن صريع الاسترسال لا تقال عثرته.
وقال علي عليه السلام: من الخرق المعاجلة قبل الإمكان، والأناة قبل الفرصة.
قال حكيم: من ظفر بالأمر الجسيم فأضاعه فاته، ومن التمس فرصة فأمكنته فأخر العمل بها لم تعد إليه.
؟وقال علي: كفى أدباً لنفسك اجتناب ما كرهته لغيرك.
وقال: للمؤمن ثلاث ساعات، فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يروم فيها معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل، وليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في غير محرم.

؟وقال: خذ من الدنيا ما أتاك وتول عما تولى عنك، فإنَّ أنت لم تفعل فأجمل في الطلب. الدهر يومان فيوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر.
؟وقال: مقاربة الناس في أخلاقهم أمن من غوائلهم. لا تجعلن درن لسانك على من أنطقك، وبلاغة قولك على من سددك.
؟وقال: لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين العافية والغنى، بينا تراه معافى إذ سقم، وبينا تراه غنياً إذ فقر.
؟وقال: من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته. من عظم صغار المصائب ابتلاه الله بكبارها.زهدك في راغب فيك نقصان حظ، ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس.
وقال: ما مزح امرؤ مزحة إلا مج من عقله مجة.
وقال الحسن بن علي: المزاح يأكل الهيبة.
وقال ابن المقفع في رسالته المعروفة بالدرة اليتمية: لا تخلطن بالجد هزلاً فتسحته، ولا بالهزل جداً فتكدره، وقد عرفت لذلك موضعاً إن فعلته أصبت الرأي وظهرت على الأقران، وذلك أن يتوردك متورد بالسفه والغضب وسوء اللفظ فتجيبه إجابة الهازل المداعب، برحب من الذرع، وطلاقة من الوجه، وثبات في المنطق.
وقال آخر: لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا السفيه فيجترئ عليك.
وقال أفلاطن: لا تستعمل البطش حتى ينفذ القول. لا تفرح بسقطة غيرك فإنَّك لا تدري تصرف الأيام بك.
يقال: لا تخلط يقينك بالشك فيفسد عليك العزم، ولا توقف عملك على الشك فيدخل عليك الوهن.
قيل: أول كلام بارع سمع من سليمان بن عبد الملك قوله: الكلام فيما يعنيك خير من الكلام فيما يضرك.
وقال سهل بن هرون: الهول إن كان عنه مندوحة فركوبه خطأ وإلا فركوبه صواب، فإنَّ كنت راكباً هولاً لاجترار نفع دونه مقنع، أو لدفع ضرر له مدفع فموضعه خطأ، وإن كنت دافعاً به أعظم منه ومضرراً إليه غير مزحزح عنه فموضعه صواب.
ولأبي مسلم كلام يشبه هذا قد ذكرناه في فصل الأخبار.
وقع مروان بن محمد إلى عامله بالكوفة: حاب علية الناس في كلامك، وسو بينهم وبين السفلة في أحكامك.
قالت القدماء: لا ينبغي لأحد أن يمنع ناسكاً شيئاً يتقرب به إلى الله، ولا يمنع السلطان شيئاً يستعين به على صلاح أمور العامة، ولا يمنع صديقه شيئاً يفرج به كربته ويجبر مصيبته.
وقالوا: أحسن القول لا يتم إلا بحسن الفعل كالمريض إذا عرف دواء مرضه فلم يتداو به لم ينتفع بعلمه ولا يجد منه راحة ولا خفة.
قال كسرى: لا تنزل ببلد ليس فيه خمسة أشياء: سلطان قاهر، وقاض عادل، وسوق قائمة، وطبيب عالم، ونهر جار.
؟قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً. وأتم من هذا الخبر المروي: أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما. وشبيه به قول الشاعر وهو النمر بن تولب: ( من المتقارب).
وأحبب حبيبك حباً رويداً ... إذا أنت حاولت أن تحكما
وأبغض بغيضك بغضاً رويداً ... إذا أنت حاولت أن تصرما
؟قيل في حكمة الهند مكتوب: اليقين بالقدر لا يمنع العاقل توقي الهلكة، وليس لأحد أن ينظر في القدر المغيب، وإنما عليه أن يأخذ بالحزم، ونحن نجمع تصديقاً بالقدر وأخذاً بالحزم.
؟وقال المأمون: ليس من توكل المرء إضاعة الحزم، ولا من الحزم إضاعة التوكل.
نظر إلى هذا المعنى محمد بن عبد الملك الزيات في كتاب كتبه: لا تخدعنك نفسك عن الحزم فتمثل لك التواني في صورة التوكل، فتسلبك الحذر وتورثك الهوينا بإحالتك على الأقدار، فإنَّ الله تعالى إنما أمر بالتوكل عند انقطاع الحيل، وبالتسليم بعد الإعذار والاجتهاد، بذلك أنزل الله كتابه وبه أمضى سنته، قال الله سبحانه وتعالى: (خذوا حذركم) وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اعقل وتوكل.
وكتب كاتب: ولعاجل الحزم مؤونة تؤدي إلى خفض ودعة، وللعجز من يسير الراحة ما يفضي بأهله إلى جهد ومنصبة.
قال الحسين بن علي عليهما السلام: إذا وردت على العاقل ملمة قمع الحزن بالحزم، وقرع العقل للإحتيال.
وقال جعفر بن محمد: من كان الحزم حارسه والصدق حليفه، عظمت بهجته وتمت مروءته.

قال الشيرازي سألت المفيد الجرجرائي عن قول جعفر بن محمد: الحزم سوء الظن، وعن قول أبيه: ومن حسن ظنه روح عن قلبه، فما هذه المضادة ؟ قال: يريد بسوء الظن ألا تستنيم إلى كل أحد فتودعه سرك وأمانتك، ويريد بحسن الظن ألا تسيء ظنك بأحد أظهر لك نصحاً، وقال لك جميلاً، وصح عندك باطنه، وهو مثل قولهم: احمل أمر أخيك على أحسنه حتى يبدو لك ما يغلبك عليه.
وسئل محمد بن علي بن موسى عن الحزم فقال: هو أن تنتظر فرصتك وتعاجل ما أمكنك.
قال جعفر بن محمد: لا تحدث من تخاف أن يكذبك، ولا تسأل من تخاف أن يمنعك، ولا تأمن من تخاف أن يغدر بك.
وقال علي بن موسى: اصطحب السلطان بالحذر، والصديق بالتواضع، والعدو بالتحرز، والعامة بالبشر.
وقال محمد ابنه: من هجر المداراة قارنه المكروه، ومن لم يعرف الموارد أعيته المصادر.
قال: اتئد تصب أو تكد.
؟وقال الحسن بن محمد بن علي: ادفع المسألة ما وجدت التجمل يمكنك، فإنَّ لكل يوم خيراً جديداً.والإلحاح في المطالب يسلب البهاء إلا أن يفتح لك باب يحسن الدخول فيه، فما أقرب الصنع من الملهوف، وربما كانت الغير نوعاً من آداب الله تعالى. والحظوظ مراتب فلا تعجل على ثمرة لم تدرك فإنك تنالها في أوانها. والمدبر لك أعلم بالوقت الذي يصلح فيه فثق بخيرته في أمرك، ولا تعجل في حوائجك فيضيق قلبك ويغشاك القنوط.
وقال: أضعف الأعداء كيداً من أظهر عداوته.
قال صاحب كليلة ودمنة: صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الندامة، كالريح التي إذا مرت على الطيب حملت طيباً، وإذا مرت على النتن حملت نتناً، والعاقل لا تبطره منزلة أصابها كالجبل الذي لا تزلزله شدة الرياح.
؟قال عثمان بن أبي العاص: الناكح مغترس فلبنظر امرؤ أين يضع نفسه.
؟وقالت هند بنت عتبة: المرأة غل لا بد منه للعنق فانظر من تضعه في عنقك.
؟ومن كلام الحكماء: من ترك ما لا طاقة له به كان أستر لمكتوم أمره وأبقى للآمال فيه. لا تشعر قلبك الغم مما فات فيشغل ذهنك عن الاستعداد لما تأتي به الأيام، وكن بحسن الظن بما عند الله تعالى أوثق منك بما في يديك فإنَّك تضن بما تملك وذلك على الله يسير، وفي كل حركة وساعة أمر حادث وقدر جار بتبديل الأحوال وتنقل الدول. تجنبوا المنى فإنها تذهب ببهجة ما خولتم، وتستصغرون مواهب الله عندكم وتعقبكم الحسرات على ما أوهمتموه منها أنفسكم، وهي مكيدة من مكايد إبليس للعبد، وختل له عن الشكر، واستدراج إلى استصغار عظيم المواهب.
؟وقيل لأفلاطن: كيف يغم الإنسان عدوه ؟ قال يغمه إذا أصلح نفسه.
؟وقال عبد الله بن الحسن: المراء يفسد الصداقة القديمة ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة.
و من كلام علي عليه السلام: أيها الناس ليركم الله من النعمة وجلين كما يراكم من النقمة فرقين، إنه من وسع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجاً، فقد أمن مخوفاً، ومن ضيق عليه في ذات يده فلم ير ذلك اختباراً فقد ضيع مأمولاً.
وقد جمع ابن المقفع في رسالته المسماة بالدرة اليتيمة ما فرقه غيره مما يليق بهذا الباب، وبسط الكلام، إيضاحاً للمعاني، وأنا ذاكره الآن وإذا تأمله المتصفح وجد معانيه منبوذة في النثر الذي نقلناه عن المتقدمين في هذا الفصل، إلا أن كلامه حاو كعادة المصنفات في الإحتواء على معاني ما وضعت له.
؟قال عبد الله بن المقفع:

1 - يجب لطالب الأدب أن يعرف الأصول والفصول، ولا يكون كمن طلب الفصل مع إضاعة الأصل، فلا يكون (دركه) دركاً، فإنَّ إحراز الأصل كاف، فإنَّ أصاب بعدها الفصل كان أفضل. فأصل (الأمر في) الدين أن تعتقده على الصواب، وأن تؤدي الفرائض وتجتنب الكبائر، فالزم ذلك لزوم من إن فرط فيه هلك، ثم إن قدرت على أن تجاوزه إلى العبادة والفقه فهو أفضل. وأصل إصلاح الجسد ألا تحمل عليه من المأكل والمشرب والباه إلا خفاً، ثم إن قدرت على علم منافع الجسد ومضاره مع الإنتفاع لتنتفع به وتنفع فهو أفضل.وأصل الأمر في البأس ألا تحدث نفسك بالإدبار وأصحابك مقبولون على عدوهم، ثم إن قدرت على أن تكون أول حامل وآخر منصرف من غير تضييع للحذر فهو أفضل. وأصل الأمر في الكلام أن تسلم من السقط بالتحفظ، ثم إن قدرت على بارع الصواب فهو أفضل.وأصل الأمر في الجود ألا تضن بالحقوق على أهلها، ثم إن قدرت أن تزيد ذا الحق على حقه، وتطول بالفضل على من لا حق له فهو أفضل. وأصل الأمر في المعيشة ألا تني في: طلب الحلال، وأن تحسن التقدير لما تفيد وتنفق، وأن لا تعدل عن ذلك لسعة فيها، فإنَّ أعظم الناس في الدنيا خطراً أحوجهم إلى التقدير، والملوك أحوج إليه من السوقة، لأن السوقة تعيش بغير مال، وإن الملك لا قوام له بغير مال وسعة، وإن قدرت على الرفق واللطف في الطلب والعلم بالمطالب فهو أفضل.
2 - ابذل لصديقك نفسك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحننك، ولعدوك عدلك، واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد إلا أن تضطر إلى بذل العرض للوالي أو للوالد، ومن سواهما فلا.
3 - اخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع فإنّه ليس في كل حين يحسن الصواب.
4 - إن رأيت صاحبك مع عدوك فلا يغضبك ذلك عليه فإنَّما هو أحد رجلين، إن كان رجلاً من إخوان الثقة فأنفع مواطنه لك أقربها من عدوك لشر يكفه عنك، وعورة يسترها منك، وغائبة يطلع عليها لك، وإن كان رجلاً من غير خاصة إخوانك فبأي حق تقطعه من الناس وتكلفه ألا يصاحب ولا يجالس إلا من تهوى؟ 5 - وإن استطلت على الإخوان والأكفاء فلا تثق منهم بالصفاء.
6 - إن أردت أن تلبس ثوب الجمال وتتحلى حلية المروءة فكن عالماً كجاهل وناطقاً كعيي، فأما العلم فيرشدك، وأما قلة ادعاء العلم فتنفي عنك الحسد، وأما المنطق إذا احتجت إليه فما بلغ حاجتك لم يفتك، وأما الصمت فيكسبك المحبة والوقار.
7 - إذا رأيت رجلاً يحدث حديثاً قد علمته او يخبر خبراً قد سمعته فلا تشاركه فيه ولا تفتحه عليه حرصاً على أن يعلم الناس أنك قد علمته، فإنَّ في ذلك خفة وسوء أدب وشحاً.
8 - لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضى، وذلك أن العدو خصم تصرفه بالحجة وتغلبه بالأحكام، والصديق ليس بينك وبينه قاض، إنما هو رضاه وحكمه.
9 - ارتد لإخائك، فإنَّ كان من إخوان الآخرة فليكن فقيهاً ليس بمراء ولا حريص، وإن كان من إخوان الدنيا فليكن حراً ليس بجاهل ولا كذاب ولا شرير(ولا) متسرع، فإنَّ الجاهل أهل أن يهرب منه أبواه، وإن الكذاب لا يكون أخاً صادقاً لأن الكذب الذي يجري على لسانه إنما هو من فضول كذب قلبه، وإنما سمي الصديق من الصدق، وقد يتهم صدق القلب وإن صدق اللسان، فكيف به إذا ظهر الكذب على اللسان. وإن الشرير يكسبك العداوة فلا حاجة لك في صداقة تجر إليك العداوة، وإن. التسرع تابع صاحبه.
10 - فإنَّ آخيت أخاً فلا تقطعه وإن ظهر لك منه ما تكره، فإنَّه ليس كالمرأة الردية تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك ولو كنت معذوراً لنزل ذلك عند أكثر الناس بمنزلة الخيانة للإخاء. لا تعتذرن إلا إلى من يحب أن يجد لك عذراً. لا تستعين إلا بمن تحب أن يظفر لك بحاجتك ولا تحدثن إلا من يرى حديثك مغنماً ما لم يغلبك اضطرار.
11 - إذا أصاب أخوك فضل منزلة أو سلطان فأره أن سلطانه زاده عندك توقيراً وإجلالاً من غير أن تزيده وداً ولا نصحاً، ولا تقرر الأمر بينك وبينه على ما كنت تعرف من أخلاقه فإنَّ الأخلاق مستحيلة مع السلطان، وربما رأينا الرجل المدل على السلطان بقدمه قد أضر به قدمه.

12 - احترس من سورة الغضب وسورة الحمية وسورة الحقد وسورة الجهل، واعدد لكل شيء من ذلك عدة تجاهده بها: من الحلم والتفكر والروية وذكر العاقبة وطلب الفضيلة، فليس أحد من الناس إلا فيه من كل طبيعة ونحيتة سوء غريزة، وإنما التفاضل في مغالبة طباع السوء، فأما أن يسلم أحد من تلك الطبائع فمما ليس فيه مطمع.
13 - ذلل نفسك بالصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء، وخليط السوء، فإنَّ ذلك مما لا يكاد يخطئك.
14 - اعلم أن بعض العطية لؤم، وبعض السلاطة عي، وبعض العلم جهل، فإنَّ استطعت أن لا يكون إعطاؤك جوراً ولا بيانك هذراً ولا علمك وبالاً فافعل.
15 - إن استطعت أن لا تخبر بخير إلا وأنت مصدق، ولا يكون تصديقك إلا ببرهان فافعل، ولا تقل كما يقول السفهاء: أخبر بكل ما سمعت، فإنَّ الكذب أكثر ما أنت سامع، وإن السفهاء أكثر من هو قائل.
16 - لا تصاحبن أحداً وإن استأنست به ذا قرابة ومودة ولا ولداً ولا والداً إلا بمروءة، فإنَّ كثيراً من أهل المروءة قد يحملهم الاسترسال والتبذل على أن يصبحوا كثيراً من الخلطاء بالإدلال والتهاون، وإنه من فقد من صاحبه المروءة وإجلالها ووقارها أحدث ذلك في قلبه رقة شان وسخف منزلة.
17 - لا يعجبك إكرام من أكرمك لمنزلة أو سلطان، فإنَّ السلطان أوشك أمور الدنيا زوالاً، ولا من يكرمك للمال، فإنَّ المال يتلو السلطان في سرعة الزوال.
18 - لا تخبر عدوك أنك له عدو فتنذره بنفسك وتؤذنه بحربك قبل الاعذار والفرصة، فتحمله على التسلح وتوقده ناره عليك، واعلم أنه أعظم لخطرك أن يرى عدوك أنك لا تتخذه عدواً فإنَّ ذلك عزة له وسبيل إلى المقدرة عليه، فإنَّ قدرت ولم تكاف بالعداوة احتقاراً، فهنالك استكملت عظم الخطر والمروءة، وإن كافيت بها فإياك أن تكافىء عداوة السر بعداوة العلانية، وعداوة الخاصة بعداوة العامة، فإنَّ ذلك هو الظلم والاعتداء. وليس كل عداوة تكافأ بمثلها، فالخيانة لا تكافأ بالخيانة، والسرقة لا تكافأ بالسرقة. ومن الحيلة في أمر عدوك أن تصادق أصدقاءه وتؤاخي إخوانه وتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق والتجافي.
19 - لا تتخذن الشتم واللعن على عدوك سلاحاً، فإنَّه لا يجرح في نفس ولا مال ولا دين ولا منزلة، بل احص معايبه ومعايره وتتبع عوراته، حتى لا يشذ عنك صغيرها ولا كبيرها، من غير أن تشيع ذلك فيتقيك به ويستعد له، أو تذكره في غير موضعه فيكون كمستعرض الهواء(بنبله قبل إمكان الرمي) ومن أحزم الرأي في عدوك أن لا تذكره إلا حيث تضره وألا تعد يسير الضر يسيراً.
20 - إن أردت أن تكون داهياً فلا تعلمن الناس ذلك، فإنَّه من عرف بالدهاء صار خاتل علانية، وحذره الناس، وإن من إرب الأريب دفن رأيه ما استطاع حتى يعرف بالمسامحة في الخليقة والطريقة.
21 - عليك بالحذر في علمك والجراءة في قلبك. إن من عدوك من تعمل في هلاكه، ومنه من تعمل في البعد عنه، ومنهم من تعمل في مصالحته، فاعرفهم على منازلهم، ومن أقوى القوة لك على عدوك أن تحصي على نفسك العيوب والعورات كما تحصيها على عدوك، وتنظر عند كل عيب تسمعه هل فارقت ما شاكله أم سلمت منه، فكاثر عدوك بإصلاح عيوبك وتحصين عوراتك واحراز مقاتلك. وإن حصل من عيوبك وعوراتك ما لا تقدر على إصلاح ذلك وما عسى أن يقول فيه قائل من نسبك ومثالب آباك وعيب إخوانك وأخدانك، ثم اجعل ذلك كله نصب عينيك، واعلم أن عدوك مريدك بذلك، فلا تغفل عن التهيؤ له والإعداد لعدتك وحجتك وحيلتك فيه سراً وعلانية، فأما الباطل فلا تروعن به قلبك ولا تستعدن له، ولا تشغلن بشيء أمره فإنَّه(لا) يهولك ما لم يقع، فإذا وقع اضمحل.
22 - واحذر المراء واعرفه ولا يمنعنك حذر المراء من حسن المناظرة والمجادلة، واعلم أن المماري هو الذي لا يريد أن يتعلم من صاحبه، (ولا يرجو أن يتعلم منه صاحبه)فإنَّ زعم أنه إنما يجادل الباطل عن الحق فإنَّ المجادل وإن كان ثابت الحجة حاضر البينة فإنَّه يخاصم إلى غير قاض، وإنما قاضيه عدل صاحبه وعقله، وإذا آنس عند صاحبه عقلاً يقضي به على نفسه فقد أصاب وجه أمره، فإذا تكلم على غير ذلك كان ممارياً.

23 - إذا تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمس الروح في مدافعتها والرواغ فيها، فإنه لا راحة لك إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها هو الذي يحققها والضجر منها هو الذي يراكمها عليك إذا ورد عليك شغل وأنت في آخر قبله فلا تكدر عليك الأول تكديراً يفسده، وليكن معك رأيك، فاختر أولى الأمرين فاشتغل به حتى يفرغ، ولا يعظمن عليك تأخير ما تأخر إذا أعملت الرأي معمله وجعلت شغلك في حقه.
24 - اجعل لنفسك في كل شيء غاية ترجو القوة والتمام عليها، واعلم انك إذا جاوزت الغاية في العبادة صرت إلى التقصير، وإن جاوزتها في حمل العلم لحقت بالجهال، وإن جاوزتها في تكلف رضى الناس والخفة معهم في حاجاتهم كنت المسحور المضيع.
25 - لا تجالسن امرءاً بغير طريقته، فإنَّك إن أردت لقاء الجهل بالعلم، والجافي بالفقه، والعيي بالبيان، لم تزد على أن تضيع عقلك وتؤذي جليسك لحملك عليه ثقل ما لا يعرف، واعلم أنه ليس من علم يذكر عند غير أهله إلا عادوه ونصبوا له ونقضوه وحرصوا على أن يجعلوه جهلاً، حتى إن كثيراً من اللعب واللهو الذي هو أخف الأشياء على الناس، ليحضره من لا يعرفه فيثقل عليه ويغتم به.
26 - اتق الفرح عند المحزون، واعلم أنه يحقد على الطلق ويشكر المكتئب. إذا سمعت من جليسك حديثاً يحدث به عن نفسه أو عن غيره، مما تنكره وتستخفه، فلا يكونن منك التكذيب والتسخيف، ولا يجرئنك عليه أن تقول إنما حدث عن غيره، فإنَّ كل مردود عليه سيمتعض من الرد، فإنَّ كان في القوم من تكره له أن يستقر في قلبه ذلك القول لخطأ تخاف أن يعتقده أو مضرة تخشاها إلى أحد فإنك قادر على أن تنقض ذلك في ستر فيكون أيسر للنقض، وأبعد من البغضة، واعلم أن خفض الصوت وسكون الريح ومشي القصد من دواعي المودة إذا لم يخالط ذلك بأو ولا عجب.
27 - تعلم حسن الاستماع وإمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم والوعي لما يقول.
28 - و من الأخلاق السيئة على كل حال مغالبة الرجل على كلامه والإعتراض فيه والقطع للحديث.
29 - واعلم أن شدة الحذر عين عليك لما تحذر، وإن شدة الإتقاء تدعو إلى ما تتقي.
30 - إن رأيت نفسك قد تصاغرت الدنيا إليها، ودعتك نفسك إلى الزهادة فيها، على كل حال تعذر من الدنيا عليك، فلا يغرنك ذلك من نفسك على تلك الحال، فإنها ليست بزهادة ولكنها ضجر واستخذاء عند ما أعجزك من الدنيا، وغضب منك عليها بما التوى عليك منها، ولو تممت على رفضها أوشكت أن ترى من نفسك من الضجر والجزع أشد من ضجرك الأول، ولكن إذا دعتك نفسك إلى بغض الدنيا وهي مقبلة عليك فاسرع إجابتها.
31 - إذا كنت في جماعة قوم فلا تعمن جيلاً من الناس ولا أمة من الأمم بشتم ولا ذم، فإنَّك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك، ولا تذمن مع ذلك اسماً من أسماء الرجال والنساء تقول: إن هذا لقبيح من الأسماء، إذا كنت لا تدري لعل ذلك يوافق لبعض جلسائك بعض أسماء الأهلين والحرم، ولا تستصغرن من هذا كله شيئاً، فكله يجرح في القلب، وجرح اللسان أشد من جرح اليد.
وصى محمد بن علي بن الحسين بعض أصحابه وهو يريد سفراً، فقال: لا تسيرن سيراً وأنت حاقن، ولا تنزلن عن دابة ليلاً لقضاء حاجة إلا ورجلك في خف، ولا تبولن في نفق، ولا تذوقن بقلة ولا تشمها حتى تعلم ما هي، ولا تشرب من سقاء حتى تعلم ما فيه، واحذر من تعرف، ولا تصحب من لا تعرف. تعلموا العلم فإنَّ تعلمه جنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعظيمه صدقة، وبذله لأهله قربة، والعلم منار الجنة، وأنس من الوحشة، وصاحب في الغربة، ورفيق في الخلوة، ودليل على السراء، وعون على الضراء، وزين عند الإخلاء، وسلاح الإعداء، ويرفع الله به قوماً ليجعلهم في الخير أئمة يقتدى بفعالهم وتقتص آثارهم، ويصلي عليهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه.
ومن كلامه: صانع المنافق بلسانك، وأخلص مودتك للمؤمن، ولا تجاوز صدقاتك إلى كافر.

وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: بلغني أنك قد لهجت بقول الشعر، قال: قد فعلت، قال: فإياك والتشبيب بالنساء فتعر الشريفة وترمي العفيفة وتقر على نفسك بالفضيحة، وإياك والهجاء فإنَّك تحنق عليك كريماً وتستثير سفيهاً، وإياك والمديح فإنَّه طعمة الوقاح وتفحش السؤال، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الشعر ما تزين به نفسك وتؤدب به غيرك.
قال علي عليه السلام: عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شره بالإنعام عليه.
وللعرب وصايا فيها أدب حسن لمن تأملها، إلا أن أكثرها أمر بالسؤدد والجود والشجاعة وما يلائم طباعهم ويشاكل عوائدهم، وسأذكر ها هنا ما يليق بهذا الباب خاصة.
قيل إن عمرو بن حممة الدوسي قضى بين العرب ثلاثمائة سنة، فلما كبر قرنوا به السابع أو التاسع من ولده، فإذا غفل الشيخ قرع له العصا، فكانت هذه الإمارة بينهما ليرجع إلى الصواب، وذلك قول الشاعر: (من الطويل).
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
فلما خشي عليه قومه الموت اجتمعوا، فقالوا: إنك سيدنا وشريفنا فاجعل لنا سيداً وشريفاً بعدك. فقال: يا معشر دوس، كلفتموني تعباً، إن القلب يخلق كما يخلق الجسم، ومن لك بأخيك كله (وهو أول من قالها ) إن كنتم شرفتموني.فإني) أفرشتكم نفسي، وتحملت مؤنكم وخففت عنكم مؤونتي، وألنت لكم جانبي، افهموا ما أقول لكم: إنه من جمع بين الحق والباطل لم يجتمعا له، وكان الباطل أولى به، فإنَّ الحق لم يزل ينفر من الباطل، والباطل ينفر من الحق. يا معشر دوس لا تشتموا بالزلة ولا تفرحوا بالعلو، فإنَّ الفقير يعيش بفقره كما يعيش الغني بغناه، ومن ير يوماً ير به (وهو أول من قالها) وأعدوا لكل امرئ قدره، وقبل الرماء تملأ الكنائن، ومع السفاهة الندامة، ولليد العليا العاقبة. إذا شئت وجدت مثلك. إن عليك كما أن لك.وللكثرة الرعب وللصبر الغلبة. من طلب شيئاً وجده وإلا يجده فيوشك أن يقع قريباً منه.
ولما قتل قيس بن زهير أهل الهباءة خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط، فقال: يا معشر النمر أنا قيس بن زهير، غريب حريب، طريد شريد موتور، فانظروا لي امرأة قد أدبها الغنى وأذلها الفقر. فزوجوه امرأة منهم لها ظبية بنت الكبش النمري. ثم قال: إني لا اقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي: إني فخور غيور أنف، ولست افخر حتى أبتلى، ولا أغادر حتى أرى، ولا آنف حتى أظلم. فرضوا بأخلاقه، فأقام فيهم حتى ولد له، ثم إنه أراد التحول، فقال: يا معشر النمر، إني أرى لكم علي حقاً بمصاهرتي لكم وإقامتي بين أظهركم، وإني آمركم بخصال وأنهاكم عن خصال: عليكم بالأناة فبها تدرك الحاجة وتنال الفرصة، وتسويد من لا تعابون بتسويده، والوفاء فإنَّ به يعيش الناس، وإعطاء من تريدون اعطاءه قبل المسألة، ومنع من تريدون منعه قبل الإلحاح، وإجارة الجار على الدهر، وتنفيس البيوت عن منازل اليامى، وخلط الضيف بالعيال، وأنهاكم عن الرهان فيه ثكلت مالكاً أخي، وعن البغي فإنَّه صرع زهيراً أبي، وعن السرف في الدماء فإنَّ قتلي أهل الهباءة أورثني العار، ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، وأنكحوا الأيامى الأكفاء، فإنَّ لم تصيبوا الأكفاء فخير بيوتهن القبور، واعلموا أني أصبحت ظالماً مظلوماً - ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكاً أخي، وظلمتهم بقتل من لا ذنب له.
ثم رحل عنهم فلحق بعمان فأقام بها حتى مات.

وصف علي كرم الله وجهه صاحباً له فقال: كان لي فيما مضى اخ في الله، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يتشهى ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد، وكان أكثر دهره صامتاً، فإذا قال بذ القائلين ونقع غليل السائلين، وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإذا جاء الجد فهو ليث عاد وصل وداد، لا يدلي بحجة حتى يرى قاضياً، وكان لا يلوم أحد على ما لا يجد العذر في مثله حتى يسمع اعتذاره، وكان لا يشكو وجعاً إلا عند برئه، وكان يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل، وكان إن غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم، وكان إذا بدهه أمران نظر أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه، فعليكم بهذه الخلائق فالزموها وتنافسوا فيها، وإن لم تستطيعوها فاعلموا أن أخذ القليل خير من ترك الكثير.وقد ادعى ابن المقفع أكثر هذا الكلام في رسالة له وألحق به: كان خارجاً من سلطان فرجه فلا يدعو إليه مؤونة ولا يستخف له رأياً ولا بدناً، وكان خارجاً من سلطان الجهالة، فلا يقدم أبداً إلا على ثقة بمنفعة. كان لا يدخل في دعوى ولا يشرك في مراء. كان لا يشكو إلا إلى من يرجو النصيحة لهما جميعاً. كان لا يتبرم ولا يسخط ولا يتشهى ولا يتشكى ولا ينتقم من الولي، ولا يغفل عن العدو، ولا يخص نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه وحيلته وقوته.
ومن كلام الحسن بن علي عليهما السلام: إذا سمعت أحداً يتناول أعراض الناس فاجتهد أن لا يعرفك، فإنَّ أشقى الأعراض به معارفه، ولا تتكلف ما لا تطيق ولا تتعرض لما لا تدرك، ولا تعد ما لا تقدر عليه، ولا تنفق إلا بقدر ما نستفيد، ولا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما عندك من الغناء، ولا تفرح إلا بما نلت من طاعة الله تعالى، ولا تتناول إلا ما ترى نفسك أهلاً له، فإنَّ تكلف ما لا تطيق سفه، والسعي فيما لا تدرك عناء، وعدة ما لا تنجز تفضح، والانفاق من غير فائدة حرب، وطلب الخير بغير غناء سخافة، وبلوغ منزلة بغير استحقاق يشفي على الهلكة.
لما احتضر قيس بن عاصم قال لبنيه: يا بني احفظوا عني فإنَّه لا أحد أنصح لكم مني: إذا أنا مت فسودوا كباركم ولا تسودوا صغاركم، فيحقر الناس كباركم وتهونوا عليهم، وعليكم بحفظ المال فإنَّه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة فإنَّها أخر كسب الرجل.
قال الزبير بن عبد المطلب: (من التقارب).
إذا كنت في حاجة مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه
وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور حكيماً ولا تعصه
ولا تنطق الدهر في مجلس ... حديثاً إذا أنت لم تحصه
ونص الحديث إلى أهله ... فإنَّ الوثيقة في نصه
وإن ناصح عنك يوماً نأى ... فلا تنأ عنه ولا تعصه
وكم من فتى عازب عقله ... وقد تعجب العين من شخصه
وآخر تحسبه جاهلاً ... ويأتيك بالأمر من فصه
وقال الكميت بن زيد: (من الطويل).
وإن لم يكن إلا الأسنة مركب ... فلا رأي للمحمول إلا ركوبها
وقال أعربي: من الوافر:
إذا ضيعت أول كل أمر ... أبت أعجازه إلا التواء
وإن سومت أمرك كل وغد ... ضعيف كان أمركما سواء
وإن داويت أمراً بالتناسي ... وبالليان أخطأت الدواء
قال الرضي: (من الرجز).
كم قابس عاد بغير نار ... لا بد للمسرع من عثار
وقال أيضاً: (من السريع).
من أشرع الرمح إلى ظهره ... لا بد أن يقلب ظهر المجن
وقال: (من الكامل).
ما كنت أجرع نطفة معسولة ... طوع المنى وإناؤها من حنظل
وقال آخر: (من الطويل).
إياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
وقال محمد بن أبي شحاذ الضبي: (من الطويل).
إذا أعطيت الغنى ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت ما لك حامد
إذا أنت تعرك بجنبك بعض ما ... يريب من الأدنى رماك الأباعد
إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك بروق جمة ورواعد

إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... جنيباً كما استتلى الجنية قائد
وقل غناء عنك مال جمعته ... إذا كان ميراثاً وواراك لأحد
قيل: العزلة توفر العرض ، وتستر الفاقة، وترفع ثقل المكأفاة.
وقد قيل: ما احتنك أحد قط إلا أحب الخلوة.
قال الأحنف: أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم العار والنار.
؟قال حكيم: لا تقبل الرئاسة على أهل مدينتك، ولا تتهاون بالأمر الصغير إذا كان يقبل النمو، ولا تلاح رجلاً غضبان فإنَّك تقلقه باللجاج، ولا تجمع في منزلك بين نفسين تتنازعان في الغلبة، ولا تفرح بسقطة غيرك فما تدري كيف يدور الزمان، ولا في وقت الظفر فإنَّك لا تدري حدثان الدهر، ولا تهزأ بخطأ غيرك لأن المنطق لا تملكه، ولا تؤاخذ بالخطأ بنوع الصواب الذي في جوهرك، ولا تغرس النخل في منزلك.وينبغي للأديب أن يأخذ من جميع الآداب أجودها كما أن النخل يأخذ من كل زهر أطيبه.

الفصل الخامس
أخبار في السياسة والآداب
لما وضع كسرى أنوشران الخراج على الأرض وأحكم أمره وقرر الإتاوات على مجاوري أطراف مملكته، وأتت عليه ثماني وعشرون سنة لملكه جدد النظر في ولايته، والعدل على رعيته وإنصافهم وإحصاء مظالمهم. وكان أنوشران ملك على ضعف ممن كان قبله، ولين انتشر به حبل الفرس وغلب عليهم مجاوروهم، قال أنوشران: فأمرت موبذ كل ثغر ومدينة وبلد وجند بإنهاء حالهم إلي، وأمرت بعرض الجند: من كان منهم بالباب بمشهد مني، ومن غاب في الثغور والأطراف بمشهد القائد وباذوسبان والقاضي وأمين من قبلنا، وأمرت بجمع أهل كور الخراج في كل ناحية من مملكتي إلى مصرها مع القائد وقاضي البلد والكاتب والأمين، وسرحت من قبلي من عرفت صحته وأمانته ونسكه إلى كل مصر ومدينة ليجمعوا بين العمال وبين أهل أرضهم وبين وضيعهم وشريفهم، وأن يرفع الأمر كله على حقه وصدقه، فما نفذ لهم فيه أمر، أو صح فيه القضاء ورضي به أهله فرغوا منه هنالك، وما أشكل عليهم رفعوه إلي، وبلغ من اهتمامي بتفقد ذلك ما لولا الذي أداري من الأعداء والثغور لباشرت ذلك بنفسي وتصفحت الخراج والرعية قرية قرية وكلمت رجلاً رجلاً، غير أني خفت أن يضيع بذلك ما هو أكثر منه، والأمر الذي لا يغني فيه غنائي أحد مع ما في الشخوص إلى قرية قرية من المؤونة على الرعية وجندنا، وكرهنا إشخاصهم إلينا تخوفاً أن نشغل أهل الخراج عن عمارة أراضيهم، أو أن يكون فيهم من يدخل عليه في ذلك مؤونة، وبلغنا أن أولئك الأمناء لم يبالغوا على قدر رأينا في الرعية، فأمرت بالكتب إلى قاضي كل كورة أن يجمع أهل كورته بغير علم عاملهم وأولي أمرهم، ويسألهم عن مظالمهم وما استخرج منهم ويفحص عن ذلك بمجهود رأيه ويبالغ فيه ويكتب حال (رجل) رجل منهم ويختم عليه بخاتمه وخاتم الرضى من أهل تلك الكورة، ويبعث به إلي.ونظرت في الكتب والمظالم فأية مظلمة كانت من العمال أو من وكلائنا أو من وكلاء أولادنا ونسائنا وأهل بيتنا حططناها عنهم بغير بينة، لضعف أهل الخراج وظلم أهل القوة من السلطان لهم، ولم يجعل الله لذوي قرابتنا وخدمنا وحاشيتنا منزلة عندنا دون الحق والعدل، وأية مظلمة كانت لبعض الرعية من بعض ووضحت لنا، أمرت بانصافهم قبل البراح، وما أشكل أوجب الفحص عنه بشهود البلد وقاضيه، فسرحت أميناً من الكتاب، وأميناً من فقهاء ديننا، وأميناً ممن وثقت به من حاشيتنا، حتى أحكمت ذلك إحكاماً وثيقاً.
وقيل إن أنوشران لما تقلد المملكة عكف على الصبوح والغبوق، فكتب إليه وزيره يقول: إن في إدمان الملك الشرب ضرراً على الرعية، والوجه تخفيف ذلك والنظر في أمور المملكة.فوقع على ظهر الرقعة بما ترجمته: إذا كانت سبلنا آمنة، وسيرتنا عادلة، والدنيا باستقامتها عامرة، وعمالنا بالحق عاملة، فلم نمنع فرحة عاجلة ؟

اعترض عليه في ذلك فقيل: أخطأ في وجوه أحدها أن الإدمان إفراط، والإفراط مذموم، والآخر أنه جهل أن أمن السبل وعدل السيرة وعمارة الدنيا والعمل بالحق متى لم يوكل به الطرف الساهر ولم يحظ بالعناية التامة، ولم يحفظ بالإهتمام الجالب لدوام النظر، دب إليها النقص، والنقص مزيل للأصل، مزعزع للدعامة، والآخر أن الزمان أعز من أن يبذل كله للهو والتمتع، فإنَّ في تكميل النفس باكتساب الرشد لها، وإبعاد الغي عنها ما يستوعب أضعاف العمر، فكيف إذا كان العمر قصيراً أو كان ما يدعو إليه الهوى كثيراً، والآخر أنه ذهب عليه أن العامة والخاصة إذا وقفت على استهتار الملك باللذات وانهماكه في طلب الشهوات ازدرته واستهانت به وحدثت عنه بالأخلاق المذمومة، واستهانتهم للناظر في أمورهم والقيم بشأنهم، متى تكررت على اللسان انتشرت في المحافل والتفت بها بعضهم إلى بعض، وهذه مكسرة للهيبة، وقلة الهيبة رافعة للحشمة، وارتفاع الحشمة باعث على الوثبة، والوثبة غير مأمونة من الهلكة، وما خلا الملك من طامع راصد قط، وليس ينبغي للملك الحازم أن يظن أنه لا ضد له ولا منازع، فقد ينجم الضد والمنازع من حيث لا يحتسب، وما أكثر خجل الواثق.و على الضد متى كان السائس ذا تحفظ وبحث وتتبع وحزم وإكباب على لم الشعث وتقويم الأود وسد الخلل وتعرف المجهول وتحقق المعلوم ودفع المنكر وبث المعروف، احترست منه العامة والخاصة، واستشعرت الهيبة والتزمت بينها النصفة، وكفت كثيراً من معاناتها ومراعاتها، فإنَّ كان للدولة راصد للعثرة، يئس من نفوذ الحيلة فيها، لأن اللص إذا رأى مكاناً حصيناً، وعهد حراساً لم يحدث نفسه بالتعرض له، وإنما يقصد قصراً فيه ثلمة، أو باباً إليه طريق. والأعراض بالأسباب، فإذا ضعف السبب ضعف العرض، وإذا انقطع العرض انقطع السبب.
؟لما حارب الإسكندار دارا بن دارا تقرب إليه قائدان من قواد دارا بقتله على شرط شرطه لهما وبذل، فلما قتلاه وفى لهما بالشرط والبذل ثم قتلهما وقال: لم تكونا شرطتما أنفسكما، وليس لقتلة الملوك أن يستبقوا إلا بذمة لا تحفز.
ولما ملك الإسكندر بلاد الفرس هاب رجالهم لما رأى من كلامهم وعقولهم فهم بقتل أكابرهم، وكاتب أرسطاطاليس يستشيره فيهم، فنهاه عن قتلهم وقال: هذا من الفساد في الأرض، ولو قتلتهم لأنبتت أرض بابل أمثالهم، وأشِار عليه بأن يفرق المملكة بين أولاد الملوك لتتفرق كلمتهم ولا يدين بعضهم لبعض، ففعل ذلك.حتى أمكنه تجاوز بلاد فارس إلى أرض الهند والصين، وكانت نتيجة هذا الرأي أن ملك الفرس تقسم بعد موت الاسكندر، فصار في ملوك الطوائف مدة خمسمائة وإحدى عشرة سنة، إلى قام بالملك أردشير بن بابك فجمع المملكة بعد معاناة شديدة ومشقة عظيمة، وقال أردشير: نحن نضرب بسيف أرسطاطاليس مذ هذه المدة البعيدة.

وقيل جلس الإسكندر يوماً مجلساً عاماً، فلم يسأل حاجة، فقال لجلسائه: والله ما أعد هذا اليوم من أيام عمري في ملكي.قيل: ولم أيها الملك، دامت لك السعادة ؟قال: لأن الملك لا يوجد التلذذ به إلا بالجود للسائل، وإلا بإغاثة الملهوف، وإلا بمكافأة المحسن، وإلا بإنالة الطالب وإسعاف الراغب.قيل له: إنا نظن أنك أتعب الخلق وأنك لا تنام الليل ولا تنعم النهار ولا تجد لذة طعام ولا شراب، فقال: ليس كما ظننتم، إن الأمور التي أليها قد انقسمت لي بين مسموع بالأذن، وبين ملحوظ بالعين وبين مصروف بالروية، وبين مدبر باللسان، وعناية النفس السائسة قد دبرت هذه الأشياء كلها، فما ينساق منها بقوتها على المراد والإيثار أكثر مما ينساق منها بالإجتهاد والإجبار، وإني لأهم بالشيء فأكون كأني قد باشرته، وأومئ إليه فأكون كأني قد تقدمت فيه، وآمر به فكأني قد كفيته، وألبسه فأكون كأني قد فرغت منه، وربما وجدت في أموري ما يسبق أمنيتي ويزيد على اقتراحي، ولقد بلغت ما ترون فما أعيتني إيالة ولا أعوزتني آلة، وما نفعني كلام ككلام كتبه إلي أرسطو معلمي، فإنه قال في رسالة: أيها الملك لا تنخدع للهوى وإن خيل إليك أن في انخداعك له خداعه، فقد يسترسل الإنسان في بعض الأشِياء، وهو يظن أنه متحفظ ليظفر بمطلوبه، فيعود إليه ذلك الإسترسال بأعظم الوبال، ويضمحل ذلك التحفظ كأنه لم يخطر ببال.واجمع في سياستك بين بدار لا حدة فيه وريث لا غفلة معه، وامزج كل شيء بشكله حتى تزداد قوة وعزة من ضده حتى تتميز لك صورته، وصن وعدك من الخلف فإنه شين، وشب وعيدك بالعفو فإنه زين، وكن عبداً للحق فعبد الحق حر، وليكن وكدك الإحسان إلى جميع الخلق، ومن الإحسان وضع الإساءة في موضعها، فإنَّ للإحسان أهلاً وإن لضده أهلاً، وكن نصيح نفسك فليس لك أرأف بك منك، وإذا أشكل عليك أمر، واعتاص على حولك وجه، فاضرع إلى الله الذي قادك إلى هذه الغاية، فإنَّه يفتح عليك المرتج، ويتم لك المخدج، ويجعل لك في كل أمر أسهل المدخل والمخرج.و إذا أفاتك الله شيئاً فاستيقن أن ذلك لسهو عرض لك في الشكر على ما أفادك، والشكر على النعمة هو أن تعترف بالنعم لله أولاً، ثم تشرك عباده فيها ثانياً، ومهما أخطأك شيء فلا يخطئنك الفكر في الرحيل عن هذا الحرى، فإنَّك إذا فكرت فيه سلوت عن الفائت، وقل اعتدادك بالحاصل، وكما يعجبك من غيرك أن يصدقك فليعجبك أن تصدق نفسك حتى يقبل منها صدقها لك. وإذا تظاهر الصدق بينكما ظهرت على جميع أوليائك ورعيتك.واجتنب الشراب فإنَّه وقود الشر، واللهو فإنَّه فوات العمر، ولا تجعل إحسانك ضربة فإنَّ ذلك مغراة بالمنهي عنه، ولكن بتدريج يحفظ عليك اعتدالك، ومداراة تظهر عنك جمالك، والزم الخمص فأنه أذكر بالخصاصة، وأجلب للإعتدال، وأبعد من شبه البهيمة، وأدخل في مشاكلة الأِشخاص السماوية.
كتب ملك إلى ملك: بم انتظمت مملكتك، واستقامت رعيتك ؟ فقال في الجواب: بثماني خصال: لم أهزل في أمر ولا نهي، ولا أخلفت موعداً ولا وعيداً قط، وعاقبت للجرم لا للحقد، ووليت للغناء لا للهوى، واستملت قلوب الرعية من غير كره، وسهلت الإذن من غير ضعف، وعممت بالقوت، وحسمت الفضول.
طلب أهل يونان رجلاً يصلح للملك بعد ملك لهم فذكروا رجلاً، فقال فيلسوف لهم: هذا الرجل لا يصلح للملك، قالوا: ولم ؟ قال: لأنه كثير الخصومة، وليس يخلو في خصومته أن يكون ظالماً أو مظلوماً، فإنَّ كان ظالماً لم يصلح للملك بظلمه، وإن كان مظلوماً لم يصلح لضعفه، قالوا: صدقت، فأنت أولى بالملك منه، فملكوه.
و كان المنصور يقول: الخلفاء أربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، على ما نال عثمان، وما نيل منه أعظم، ولنعم الرجل عمر بن عبد العزيز.والملوك أربعة: معاوية وكفاه زياد، وعبد الملك وكفاه حجاجه، وهشام وكفاه مواليه، وأنا ولا كافي لي ؟ولنعم رجل الحرب كان حمار الجزيرة، من رجل لم يكن عليه طابع الخلافة.و كان معاوية للحلم والأناة، وعبد الملك للإقدام والإحجام، وهشام لوضع الأمور مواضعها.ولقد شاركت عبد الملك في قول كثير: (من الطويل)
يصد ويغضي وهو ليث عرينة ... وإن أمكنته فرصة لا يقيلها
قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: مالك لا تنام بالليل ؟ فقال: لئن نمت بالليل لأضيعن نفسي، ولئن نمت بالنهار لأضيعن الرعية.

و كان عمر رضوان الله عليه يقول: إن هذا الأمر لا يصلح له إلا اللين في غير ضعف، والقوة في غير عنف.
وكلم الناس عبد الرحمن بن عوف أن يكلم عمر بن الخطاب في أن يلين لهم، فإنَّه قد أخافهم حتى أخاف الأبكار في خدورهن، فقال عمر: إني لا أجد لهم إلا ذلك، إنهم لو يعلمون ما لهم عندي لأخذوا ثوبي عن عاتقي.
وقال عمر رضي الله عنه: دلوني على أحد استعمله، قالوا: كيف تريده ؟ قال: إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم، قالوا: ما نعلمه إلا الربيع بن زياد الحارثي قال: صدقتم هو لها.
استشار عمر رضي الله عنه علي بن أبي طالب عليه السلام في الشخوص بنفسه إلى قتال الفرس، فقال له علي كرم الله وجهه: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعزه وأيده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإنَّ انقطع النظام تفرق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم، وإن كانوا قليلاً، كثيرون بالإسلام وعزيزون بالإجتماع، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنَّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أِد لكلبهم عليك وطمعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإنَّ الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فأنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة.
ومثل هذا الرأي ما ذكر أنه كرم الله وجهه حض أصحابه على الجهاد، فسكتوا ملياً، فقال: مالكم أمخرسون أنتم ؟ قال قوم منهم: يا أمير المؤمنين إن سرت سرنا معك. فقال عليه السلام: مالكم لا سددتم لرشد، ولا هديتم لقصد، أفي مثل هذا ينبغي أن أخرج.؟ إنما يخرج في مثل هذا رجل ممن أرضاه من شجعانكم وذوي بأسكم، ولا لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين، ثم اخرج في كتيبة اتبع أخرى أتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ، وإنما أنا قطب الرحى تدور علي وأنا مكاني، فإذا فارقته استحار مدارها، واضطرب ثفالها، هذا لعمر الله الرأي السوء.
لما حصر عثمان الحصار الأول اجتمع ناس إلى طلحة وطمع في الخلافة، وكان علي كرم الله وجهه بخيبر، فلما قدم أرسل إليه عثمان فكلمه وأذكره بحقه من الإسلام والقرابة والصهر، فقال له: صدقت، وسيأتيك الخبر، ثم دخل المسجد فرأى أسامة جالساً فدعاه، فاعتمد عليه وخرج يمشي إلى طلحة، فلما دخل عليه وجد داره ممتلئة بالرجال، فقام علي وقال: يا طلحة ما هذا الأمر الذي وقعت فيه؟ فقال: يا أبا حسن أبعد ما مس الحزام الطبيين ؟ فسكت علي وانصرف حتى أتى بيت المال فقال: افتحوا هذا الباب فلم يقدر على المفاتيح وتأخر عنه صاحبها، فقال: اكسروه، فكسر باب بيت المال، وقال: أخرجوا المال، وجعل يعطي الناس، فبلغ الذين في دار طلحة ما يصنع علي فجعلوا يتسللون إليه حتى ترك طلحة وحده، ثم أقبل طلحة يمشي إلى دار عثمان، فلما دخل عليه قال: أستغفر الله يا أمير المؤمنين وأتوب إليه، أردت أمراً فحال الله بيني وبينه، فقال عثمان: إنك والله ما جئت تائباً ولكن جئت مغلوباً، الله حسيبك يا طلحة.

وروي أن علياً وجد درعاً له عند يهودي التقطها فعرفها فقال: درعي سقطت عن جمل لي أورق.فقال اليهودي: درعي وفي يدي، ثم قال اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين، فاتيا شريحاً، فلما رأى شريح علياً قد أقبل تحرف عن موضعه وجلس علي عليه السلام فيه، ثم قال: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس، ولكني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: لا تساووهم في المجلس وألجئوهم إلى أضيق الطريق، فإنَّ سبوكم فاضربوهم، وإن ضربوكم فاقتلوهم. ثم قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين ؟ قال: درعي سقطت مني وعرفتها، قال شريح: يا يهودي ما تقول ؟ قال اليهودي: درعي وفي يدي، فقال شريح: صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك ولكن لا بد من شاهدين، فدعا قنبراً مولاه والحسن ابنه فشهدا إنها لدرعه، فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك فلا نجيزها.فقال علي: ثكلتك أمك، أما سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ؟ قال: اللهم نعم، قال: أفلا تجيز شهادة سيد شباب أهل الجنة ؟ والله لأوجهنك إلى بانقيا تقضي بين أهلها أربعين ليلة، ثم قال لليهودي: خذ الدرع. فقال اليهودي: أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جمل أورق التقطتها، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فوهبها له وأجازه بتسعمائة، وقتل معه يوم صفين. وهذا الخبر يجمع معناه سياسة الدين والدنيا.
؟قال أبو حاتم: حضرت بعض ولاة البصرة وكان جباراً (ولم يسمه) فسمعت رجلاً في مجلسه يقول: الأتباع يؤنسهم البشر، ويوحشهم الأزورار، ويلمهم لين الجانب، ويفرقهم عنف المعشرة، وازدحام الآمال لديك نعمة من الله عليك، فقابل النعمة بحسن المعاشرة تستدم واردها، وتستدع نافرها.
قال: فما زلت أعرف موقع هذا الكلام من ذلك الوالي حتى افترقنا.
نظر رجل من قريش إلى صاحب له قد نام في غداة من غدوات الصيف طيبة النسيم، فركضه برجله وقال: مالك تنام عن الدنيا في أطيب أوقاتها ؟ نم عنها في أخبث حالاتها، نم نصف النهار لبعدك من الليلة الماضية والجائية، ولأنها راحة لما قبلها من التعب، وجمام لما بعدها من العمل، نمت في وقت الحوائج وتنتبه في وقت رجوع الناس، وقد جاء: قيلوا فإنَّ الشياطين لا تقيل.
و كان رجل من العرب في الجاهلية إذا رأى رجلاً يظلم ويعتدي يقول فلان لا يموت سوياً فيرون ذلك، حتى مات رجل ممن قال فيه ذلك سوياً، فقيل له مات فلان سوياً، فلم يقبل حتى تتابعت الأخبار، فقال: إن كنتم صادقين إن لكم داراً سوى هذه تجازون فيها.
قال زياد: ما غلبني معاوية بشيء من أمر السياسة إلا في شيء واحد، قيل ما هو ؟ قال: وليت رجلاً دستميسان فكسر علي الخراج، وهرب فلحق بمعاوية، فكتبت إليه أسأله أن يبعث به، فكتب إلي: أما بعد، فإنه ليس لمثلي ومثلك أن نسوس الناس بسياسة واحدة، أن نشتد عليهم جميعاً فنخرجهم، أو نلين لهم فنمرجهم، ولكن تلي أنت الفظاظة والغلظة، وألي أنا الرأفة والرحمة، فإذا هرب هارب من باب وجد باباً يدخل فيه، ولقد نظر معاوية لنفسه واختار أخف السياستين وأحبهما إلى الناس.
ويشبه هذا ما وري عنه أنه قال: إذا لم يكن الهاشمي جواداً لم يشبه قومه، وإذا لم يكن الأموي حليماً لم يشبه قومه، وإذا لم يكن المخزومي تياهاً لم يشبه قومه. فبلغ ذلك الحسن بن علي فقال: ما أجود ما نظر لقومه، أراد أن يجود بنو هاشم بما في أيديهم فيحتاجوا إليه، وإن يتيه بنو مخزوم فيبغضوا، وأن يحلم بنو أمية فيحبوا.
قدم قادم على معاوية فقال له: هل من مغربة خبر ؟ قال: نعم، نزلت بماء من مياه العرب، فبينا أنا عليه أورد أعرابي إبله وقال: فلما شربت ضرب على جنوبها وقال: عليك زياداً، فقلت له: ما أردت بهذا ؟ فقال: هي سدى ما قام لها راع منذ ولي زياد. فسر معاوية بذلك وكتب به إلى زياد.
قال معاوية: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كنت إذا مدوها خليتها وإذا خلوها مددتها.

؟كان معاوية يأذن للأحنف في أول من يأذن له، فأذن له يوماً، ثم أذن لمحمد بن الأشعث، فجاء محمد فجلس بين معاوية وبين الأحنف، فقال له معاوية: لقد أحسست من نفسك ذلاً، إني لم آذن له قبلك ليكون في المجلس دونك، وإنا كما نملك أموركم نملك تأديبكم، فأريدوا ما يراد بكم، فإنه أبقى لنعمكم وأحسن لأدبكم.
لما مات زياد وفد ابنه عبيد الله على معاوية فقال له: من استخلف أخي على عمله بالكوفة؟ قال: عبد الله بن خالد بن أسيد. قال: فعلى البصرة ؟ قال: سمرة بن جندب. فقال له معاوية: لو استعملك أبوك استعملتك، فقال عبيد الله: أنشدك الله أن يقولها أحد لي بعدك: لو ولاك أبوك وعمك وليتك، فولاه خراسان وأوصاه فقال: اتق الله ولا تؤثر على تقواه شيئاً، وقِ عرضك من أن تدنسه، و إذا أعطيت عهداً فف به، ولا تبيعن كثيراُ بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، ولا يخرجن منك أمراً حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، وإذا لقيت عدوك فغلبك على ظهر الأرض فلا يغلبنك على بطنها، وإن احتاج أصحابك إلى أن تواسيهم بنفسك فواسهم، ولا تطمعن أحداً في غير حقه ولا تؤيسن أحداً من حق هو له.
ونظر إلى يزيد وهو يضرب غلاماً فقال: لا تفسد أدبك بتأديبه.
و كان زياد يجلس في كل يوم إلا يوماً واحداً في الجمعة، فيبدأ برسل عماله فينظر فيما قدموا له، ويسألهم عن بلادهم ويجيبهم عن كتبهم، ثم ينظر في نفقاتهم وفي أعطيات رجاله، ثم فيما دخل فيه من البياعات وفي الأسعار ويسأل عن الأخبار وينظر فيما يحتاج إليه: من حفر نهر، وإصلاح قنطرة، أو تسهيل عقبة، أو نقل طريق إلى غيره، ثم يأخذ في كتب العمال فيمليها بنفسه. وكان معاوية يفعل مثل ذلك سواء ولا يخالفه حتى كبر، فكان الضحاك بن قيس يملي وهو يستمع.
بعث زياد إلى معاوية بهدايا مع عبيد الله أخي الأشتر النخعي، وفي الهدايا سفط فيه جوهرة لم ير مثلها، فقدم عبيد الله بالهدايا ثم قال: يا أمير المؤمنين أن زياداً بعث معي بسفط ما أدري ما فيه، وأمرني أن أدفعه إليك في خلاء، فقال: أحضره، فلما فتحه قال: ما أظن رجلاً آثر هذا على نفسه إلا سيؤئره الله تعالى بالجنة، ارجع به إليه فإنَّ من قبله من المسلمين أحق بهذا من معاوية. ثم كتب إلى زياد: إنك رفعت علي راية الأشتر حين وضعها الله، بعثت مع أخيه بسفط يشهد به علي عند أهل العراق، فاردده إلي مع رجل لا يفقه عني ولا أفقه عنه، فرده إليه زياد مع غلام من غلمانه.
دخل عبد الملك بن مروان على معاوية فتحدث ونهض، فقال معاوية: إن لهذا الغلام همة، وخليق أن تبلغ به همته، وإنه مع ما ذكرت تارك لثلاث آخذ بثلاث، تارك مساءة الجليس جداً وهزلاً، تارك لما يعتذر منه، تارك لما يعيبه، آخذ بأحسن الحديث إذا حدث، وأحسن الاستماع إذا حدث، وبأهون الأمرين إذا خولف.
ذكر معاوية لابن الزبير بيعة يزيد فقال ابن الزبير: أنا أناديك ولا أناجيك، إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تقدم، وتفكر قبل أن تندم، فإنَّ النظر قبل التقدم والتفكر قبل التندم، فضحك معاوية وقال: تعلمت أبا بكر الشجاعة عند الكبر.
قدم رجل خصماً إلى زياد في حق له فقال: أصلح الله الأمير إن هذا يدل بخاصة منك. قال صدق، وسأخبرك ما ينفعه عندي من مودته، إن يكن الحق له عليك آخذك به آخذاً عنيفاً، وإن يكن الحق لك عليه أقض عليه ثم أقضي عنه.
و هذا في ظن زياد غاية العدل، والمستحسن الخالص ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على أيهما كان الحق فلا تمهلني طرفة عين.

؟كان المنصور داهياً أريباً سديد الرأي، وكان مقدماً في علم الكلام مكثراً من كتب الآثار، فلما هم بقتل أبي مسلم سقط بين الاستبداد برأيه والمشاورة فيه، فأرق ليلته في ذلك، فلما أصبح دعا باسحاق بن مسلم العقيلي وقال له: حدثني حديث الملك الذي أخبرتني عنه بحران، قال: أخبرني أبي عن الحضين بن المنذر أن ملكاً من ملوك فارس يقال سابور ذو الأكتاف كان له وزير ناصح قد اقتبس أدباً من أدب الملوك وشاب ذلك بفهم في الدين، فوجهه سابور داعية إلى أهل خراسان، وكانوا قوماً عجماً يعظمون الدنيا جهالة بالدين، وكان يقال: لكل ضعيف صولة، ولكل ذليل دولة. فلما تلاحمت أعضاء الأمور التي لقح، استحالت حرباً عواناً شالت أسافلها بأعاليها فانتقل العز إلى أذلهم والنباهة إلى أخملهم، فأشربوا له حباً، فلما استوسقت له البلاد بلغ سابور أمرهم و(ما) أحال عليه (من ) طاعتهم، ثم لم يأمن زوال القلوب وغدرات الوزراء، فاحتال في قطع رجائه عن قلوبهم، وكان يقال: (من الوافر).
وما قطع الرجاء بمثل يأس ... تبادهه القلوب على اغترار
فصمم على قتله عند وروده عليه برؤساء أهل خراسان وفرسانهم، فلم يرعهم إلا ورأسه بين أيديهم، فوقف بهم بين الغربة ونأي الرجعة، فرأوا أن يستتموا الدعوة بطاعة سابور ويتعوضوه من الفرقة، فأذعنوا له بالملك والطاعة وتبادروه بمواضع النصيحة، فملكهم حتى مات حتف أنفه. فأطرق المنصور ملياً ثم رفه رأسه يقول: (من الطويل)
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
وأمر إسحاق بالخروج ثم دعا بأبي مسلم، فلما دخل إليه نظر وقال: (من الوافر).
قد اكتنفتك خلات ثلاث ... جلبن عليك محذور الحمام
خلافك وامتنانك يزدهيني ... وقودك للجماهير العظام
ثم وثب إليه وثبة حشمه بالسيوف، فلما رآهم أبو مسلم وثب، فبدره المنصور فضربه ضربة طرحه ثم قال: (من السريع).
اشرب بكاس كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم
زعمت أن الدين لا يقتضى ... كذبت فاستوف أبا مجرم
ثم أمر فحز رأسه وبعث به إلى أهل خراسان وهم ببابه، فجالوا جولة ساعة ثم ردعهم عن شغبهم انقطاعهم عن بلادهم وإحاطة الأعداء بهم، فذلوا وسلموا له، وكان إسحاق إذا رأى المنصور قال: (من الوافر).
وما أحذر لك الأمثال إلا ... لتحذو إن حذوت على مثال
وكان المنصور إذا رآه قال: (من الطويل)
وخلفها سابور للناس يقتدى ... بأمثالها في المعضلات العظائم
؟وكان المنصور أنفذ يقطين بن موسى لإحصاء ما في خزائن عبد الله بن علي لما حاربه أبو مسلم وهزمه، فقال أبو مسلم ليقطين: أيأمننا ابن سلامة على الدماء ولا يأمننا على الأموال ؟ فكتب يقطين إليه: من الطويل)
أرى جذعاً إن يثن لا يقو ريض ... إليه، فبادر قبل أن يثني الجذع
وكتب عيسى بن علي إلى المنصور لما هم بقتل أبي مسلم: (من الطويل)
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر ... فإنَّ فساد الرأي أن تتعجلا
فأجابه المنصور: (من الطويل)
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإنَّ فساد الرأي أن تترددا
ولا تمهل الأعداء يوماً بقدرة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
وخلا المنصور بيزيد بن أسيد، فقال: يا يزيد ما ترى في قتل أبي مسلم ؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين أن تقتله وتتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بدمه، فو الله ما يصفو ملكك ولا تهنأ بعيش ما بقي. قال يزيد: فنفر مني نفرة ظننت أنه سيأتي علي ثم قال: قطع الله لسانك، وأشِمت بك عدوك، أتشير بقتل أنصح الناس لنا وأثقله على عدونا ؟ أما والله لولا من سلف منك وأني أعدها هفوة من رأيك لضربت عنقك، قم لا أقام الله رجليك.فقال يزيد: فقمت وقد أظلم بصري، وتمنيت أن تسيخ بي الأرض. فلما كان بعد قتله بدهر قال لي: يا يزيد أذكر يوم شاورتك في أمر العبد ؟قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وما رأيتني قط أدنى إلى الموت مني يؤمئذ، قال: فو الله لكان ذلك رأيي وما لا أشك فيه، ولكني خشيت أن يظهر منك فيفسد علي مكيدتي.

وإنما اقتدى المنصور في قتل أبي مسلم، وعسكره مطيفون به، بعبد الملك بن مروان في قتل عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق، فإنَّه لما قوي أمر عمرو والتمس أن يبايع له عبد الملك بالعهد بعده خافه عبد الملك على نفسه فاستدعاه، فحضر مخفاً في نحو مائة رجل من مواليه لا يخاف غيلة من عبد الملك، فلما دخل عمرو على عبد الملك أغلق الباب دونه وحجب مواليه، ووثب عبد الملك إليه في أصحابه وأولاده فذبحه، وهو يقول: (من البسيط).
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وثار الجيش فأحدقوا بالدار وحاربوا، وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه، فألقى إليهم عبد الملك بدر الدراهم فاشتغلوا بلقاطها عن الحرب، ثم تفرقوا.ولما هدأت الفتنة تتبع عبد الملك البدر ممن التقطها فاستعادها. ولما قتل عمراً أذن للناس إذناً عاماً فدخلوا عليه، وجثة عمرو في ناحية البيت، فلما أخذوا مجالسهم تكلم عبد الملك، فقال: ارمقوا بأبصاركم نحو مصارع أهل المعصية، واجعلوا سلفهم لمن غير منكم عظة، ولا تكونوا أغفالاً من حسن الإعتبار، فتنزل بكم جائحة السطوة، وتجوس خلالكم بوادر النقمة، وتطأ رقابكم بنقلها المعصية فتجعلكم همداً رفاتاً، وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتاً.إياي من قول قائل وسفه جاهل، فإنما بيني وبينكم أن أسمع النعرة، فأصمم تصميم الحسام المطرور، وأصول صيال الحنق الموتور، إنما هي المصافحة والمكافحة بظبات السيوف وأسنة الرماح والمعاودة لكم بسوء الصباح فتاب تائب أو هلك خائب، والتوب مقبول، والإحسان مبذول لمن أبصر حظه وعرف رشده، فانظروا لأنفسكم وأقبلوا على حظوظكم، وليكن أهل الطاعة منكم يداً على ذوي الجهل من سفهائكم، واستديموا النعمة التي ابتدأتكم برغد عيشها ونفيس زينتها، فإنّ إنكم من ذاك بين فضلين: عاجل الخفض والدعة وآجل الجزاء والمثوبة عصمكم الله من الشيطان وفتنته وفزعه، وأيدكم بحسن معونته وحفظه، انهضوا رحمكم الله لقبض أعطياتكم غير مقطوعة عنكم، ولا ممنوعة منكم، ولا مكدرة عليكم، إن شاء الله.
؟ولما قتل المنصور أبا مسلم خطأه في الرأي الفرج بن فضالة، المنصور كان يتقلد له بيت المال، وقد كان عمل لعبد الملك بن مروان، فقال له: لِمَ لم تخطئ صاحبك لما قتل عمراً، يعني عبد الملك، قال: لأنه قتله ودونه أبوابه ومغالقه، وحوله اثنا عشر ألفاً من جنوده ومواليه، وقتلت أبا مسلم وأنت في خرق، وكل من حواليك إليه ومنه وله، فتمثل أبو جعفر: (من الطويل) وما إن شفى نفساً كأمر صريمة إذا حاجه في النفس طال اعتراضها واقتدى المهتدي بالمنصور فكان ذلك سبب هلاكه، فإنَّه لما زاد تبسط بايكباك وتسلطه، قبص عليه ليوافقه على أفعاله المنصور وهو لا يريد قتله، فجاشت الأتراك وحضروا الباب يطلبونه، فاستشار المهتدي صالح بن علي بن يعقوب بن المهدي بن المنصور، وكان ذا قعددهم، فقال: يا أمير المؤمنين، هو حديث أبي مسلم والمنصور، فلو فعلت كما فعلوا لسكنوا، فأمر بضرب عنقه ورمى رأسه إليهم، فتناخروا وشدوا على الذي ألقى الرأس فقتلوه، وأضرموا حرباً أجلت عن هزيمة المهتدي، ثم ظفروا به وقد هرب إلى دار وغير زيه، فأردفوه سائساً على بغل وخلعوا أصابعه حتى خلع نفسه ثم قتلوه.
؟وكان المهتدي أمير صدق وصاحب نسك، لبس الصوف، وهم بإفاضة العدل فحالت دونه الأتراك، وقصرت أيامه فلم يتمكن من مرامه، وكان يسمى راهب بني العباس، تظلم إليه رجل من بعض أسبابه فاحضره وحكم عليه بما صح عنده، فقام الرجل وشكره وقال: أنت يا أمير المؤمنين كما قال الأعشى: (من السريع).
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فقال المهتدي: أما أنت فأحسن الله جزاءك، وأما شعر الأعشى فما رويته، ولكني قرأت اليوم قبل خروجي إلى هذا المجلس قول الله سبحانه وتعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) (الأنبياء: 47) فما بقي أحد في المجلس إلا بكى.

وجلس المهتدي يوماً للمظالم فرفع إليه في الكسور، فسأل الكتاب عنها فأخبر بها، فقال: معاذ الله أن ألزم الناس ظلماً تقدم العمل به أو تأخر، أسقطوا هذا الظلم وهذه الكسور عن الناس، فقام الحسن بن مخلد فقال: إن أسقط أمير المؤمنين هذا ذهب من مال السلطان في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم، ومد بها صوته، فقال المهتدي: قد عرفت مذهبك في هذا وتحريضك الموالي بما ينقص من أموالهم، وما امتنع من أن أقيم حقاً لله تعالى وأزيل مظلمة قد تقدمت بها الأيام، ولو كان في ذلك كل حيف على بيوت الأموال، ولو نظر الموالي في أمرك وأمر نظرائك لأخذوا منك ما خوفتهم أن يذهب مقداره من مالهم. فارتعد الحسن وأبلس، ثم كلمهم المهتدي بعد ذلك فيه فيرجع له.
قال المنصور لابنه المهتدي: يا بني أشِبع العباس بن محمد فإنك إن لم تشبعه أكلك، وكان العباس بن محمد من رجال بني هاشم وذوي آرائهم، قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، إنما هو درهمك وسيفك فازرع بهذا من شكرك، واحصد بهذا من كفرك.
وكتب إليه صاحب أرمينية: إن الجند شغبوا علي وكسروا أبواب بيت المال ونهبوه، فأمر بعزله ووقع في كتابه: لو عدلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا.
وشغب الجند على عهد المأمون فوقع: لا يعطون على الشغب، ولا يحوجون إلى الطلب.
وقال للمهدي حين عقد له: يا بني استدم النعم بالشكر، والمقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف، والنصر بالتواضع، والرحمة من الله سبحانه وتعالى بالرحمة للناس.
وقال له الربيع: إن لفلان حقاً، فإنَّ رايت أن تقضيه وتوليه ناحية، فقال: يا ربيع إن لاتصاله بنا حقاً في أموالنا لا في أعراض المسلمين وأموالهم، إنا لا نولي للحرمة والرعاية بل للإستحقاق والكفاية، ولا نؤثر ذا النسب والقرابة على ذوي الدراية والكفاية، فمن كان منكم كما وصفنا شاركنا في أعمالنا، ومن كان عطلاً لم يكن لنا عذر عند الناس في توليتنا إياه، وكان العذر في تركنا له، وفي خاص أموالنا ما يسعه.
وقد قال المأمون في مثل ذلك: واقتصر الأعمال للكفاة من العمال، وقضاء الحقوق على بيت المال.
وقال المنصور: لا تنفروا أطراف النعم بقلة الشكر فتحل بكم النقمة.ولا تسروا غش الأئمة فإنَّ أحداً لا يسر منكراً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه وطوالع نظره، وإنا لا نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا عروة هذا القيمص أوطأنا أم رأسه خبيء هذا الغمد.
أهوى هشام بن عروة إلى يد المنصور ليقبلها فقال له: يا أبا المنذر إنا نكرمك عنها ونكرمها عن غيرك.
و كان المأمون أفضل خلفاء بني العباس علماً وحلماً وبياناً وسياسة وجوداً، قال سهل بن هارون: ما رأيت أنطق من المأمون، وقال سهل يوماً، وهو عند المأمون: من أصناف العلم ما لا ينبغي للمسلمين أن يرغبوا فيه، وقد يرغب عن بعض العلم كما يرغب عن بعض الحلال، فقال المأمون: قد يسمي الناس الشيء علماً وليس بعلم، فإنَّ كنت هذا أردت فوجهه الذي ذكرناه، ولو قلت: إن العلم لا يدرك غوره، ولا يسبر قعره، ولا تبلغ غايته، ولا تستقصى أصنافه، ولا يضبط آخره، فإذا كان الأمر كذلك فابدأوا بالأهم فالأهم، وابدأوا بالفرض قبل النفل، كان ذلك عدلاً وقولاً قصداً.وقد قال بعض العلماء: اقصد من أصناف العلم إلى ما هو أشهى إلى نفسك وأخف على قلبك، فإنَّ نفاذك فيه على قدر شهوتك له وسهولته عليك.وقال بعض الحكماء: لست أطلب العلم طمعاً في بلوغ غايته والوقوف على نهايته، ولكن التماس ما لا يسع جهله. وقال آخرون: علم الملوك النسب والخبر وجمل الفقه، وعلم التجار الحساب والكتاب، وعلم أصحاب الحرب درس كتب المغازي وكتب السير.فأما أن تسمي الشيء علماً ثم تنهى عنه من غير أن يكون يشغل عما هو أنفع منه، بل تنهى نهياً جزماً وتأمر أمراً حتماً، والعلم بصر وخلافه عمى، والاستبانة للشر ناهية عنه والاستبانة للخير آمرة به، فلا.

ولما دخل عليه المرتد الخراساني، وقد كان حمله معه من خراسان حتى وافى به العراق، قال له المأمون: لأن أستحييك بحق أحب إلي من أن أقتلك بحق، ولأن أقتلك بالبراءة أحب إلي من أن أقتلك بالتهمة، وقد كنت مسلماً بعد أن كنت نصرانياً، وكنت فيها أنتج وأيامك فيها أطول، فاستوحشت مما كنت به آنساً، ثم لم تلبث أن رجعت عنا نافراً، فخبرنا عن الشيء الذي أوحشك من الشيء الذي صار آنس لك من إلفك القديم وإنسك الأول، فإنَّ وجدت عندنا دواء دائك تعالجت به، والمريض من الأطباء يحتاج إلى المشاورة، وإن أخطأك الشفاء ونبا عن دائك الدواء، كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك باللائمة، فإنَّ قتلناك قتلناك بحكم الشريعة، أو ترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثقة، وتعلم أنك لم تقصر في اجتهاد ولم تفرط في الدخول في باب الحزم. قال الرمتد: أوحشني كثرة ما رأيت من الإختلاف فيكم. قال المأمون: لنا اختلافان، أحدهما كالاختلاف في الأذان وتكبير الجنائز، والاختلاف في التشهد وصلاة الأعياد وتكبير التشريق ووجوه القراءات واختلاف وجوه الفتيا وما أشبه ذلك، وليس هذا باختلاف وإنما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من المحنة، فمن أذن مثنى وأقام مثنى لم يؤثم من أذن مثنى وأقام فرادى، لا يتعايرون ولا يتعايبون، أنت ترى ذلك عياناً وتشهد عليه بياناً، والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا وتأويل الحديث عن نبينا صلّى الله عليه وسلم، مع إجماعنا على اصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر، فإنَّ كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت هذا الكتاب فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوارة والإنجيل متفقاً على تأويله، كما يكون متفقاً على تنزيله، ولا يكون بين جميع اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات، وينبغي لك ألا ترجع إلا إلى لغة لا اختلاف في تأويل ألفاظها، ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنا لم نر شيئاً من الدين والدنيا دفع لنا على الكفاية، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة ولم يكن تفاضل، وليس على هذا بنى الله تعالى الدنيا، قال: أشهد أن لا إله إلا الله واحد لا ند له ولا ولد، وأن المسيح عبده، وأن محمداً صادق، وأنك أمير المؤمنين حقاً. فالتفت المأمون إلى أصحابه وقال: فروا عليه عرضه ولا تبروه في يومه هذا، ريثما يعتق إسلامه كي لا يقول عدوه إنه أسلم رغبة، ولا تنسوا بعد نصيبكم من بره وتأنيسه ونصرته والعائدة عليه.
وناظر المأمون يوماً محمد بن القاسم النوشجاني، فجعل يصدقه ويغضي له، فقال له المأمون: تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك، ولو شئت أن أقيس الأمور بفضل بيان وطول لسان وأبهة الخلافة وسطوة الرئاسة لصدقت وإن كنت كاذباً، وصوبت وإن كنت مخطئاً، وعدلت وإن كنت جائراً، ولكني لا أرضى إلا بإزالة الشبهة وغلبة الحجة، وإن شر الملوك عقلاً وأسخفهم رأياً من رضي بقولهم: صدق الأمير.
و كان المأمون يقول: إذا وضحت الحجة ثقل علي استماع المنازعة فيها.
وقال أحمد بن ابي داود، قال المأمون: لا يستطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم، ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين ملوكهم وحماتهم وكفاتهم، وبين صنائعهم وبطانتهم، وذلك أنهم يرون ظاهر حرمة وخدمة واجتهاد ونصيحة، ويرون إيقاع الملوك بهم ظاهراً، حتى لا يزال الرجل يقول: ما أوقع به إلا رغبة في ماله أو رغبة في بعض ما لا تجود النفس به، ولعل الحسد والملالة وشهوة الاستبدال اشتركت في ذلك منه، وهناك جنايات في صلب الملك أو في بعض الحرم فلا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة في الملك، ويحتج لتلك العقوبة بما يستحق ذلك الذنب ولا يستطيع الملك ترك عقابه لما في ذلك من الفساد، على علمه بأن عذره غير مبسوط للعامة ولا معروف عند أكثر الخاصة.

ولعل المأمون أراد العذر بهذا الكلام عما كان يتهم به من قتل الفضل بن سهل وينسب إليه من الوضع عليه. وإن صح ذلك فمأخوذ من رأي رآه الرشيد في يحيى بن خالد فلم يتم له، قال يزيد بن مزيد، قال لي الرشيد: ما بقي في العرب من يفتك ؟قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟قال: رجل يقتل لي يحيى بن خالد، قال قلت له: أنا أقتله وآتيك برأسه.قال: ليس كذا أريد، إنما أريد أن يقتله رجل فأقتله به، قال: فحدثت به الفضل بن سهل بمرو فوجم واغتم.
نزل رجل من أهل العسكر فعدا بين يدي المأمون وشكا إليه مظلمته، فأشار بيده: حسبك، فقال له بعض من كان يقرب من المأمون: يقول لك أمير المؤمنين اركب، قال له المأمون: لا يقال لمثل هذا اركب، إنما يقال له: انصرف.
بينا الحسن اللؤلؤي يحدث المأمون ليلاً بالرقة، وأطال الحسن الحديث فنعس المأمون، فقال الحسن: نعست يا أمير المؤمنين، ففتح المأمون عينه وقال: سوقي ورب الكعبة، يا غلام خذ بيده.
ولولا أن يخرج الكتاب عن فنه لذكرت من محاسن المأمون في أخباره وأفعاله ما يغني عن أخبار غيره، ولكني أورد من أخبار كل ذي أدب وسياسة طرفاً.
لما ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان، قال له: إن أباك كفى أخاه عظيماً، وقد استكفيتك صغيراً، فلا تتكلن على عذر مني، فإني قد اتكلت على كفاية منك، وإياك مني قبل أن أقول إياي منك، فإنَّ الظن إذا أخلف فيك أخلف منك، وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك، وكن لنفسك تكن لك، واذكر في يومك حديث غدك.
بلغ عبد الملك بن مروان أن عاملاً له قبل هدية، فسأله عن ذلك فقال: بلادك عامرة، وخراجك وافر، ورعيتك راضية، قال: أخبرني عما سألتك، قال: قد قبلت، قال: لئن كنت قبلتها ولا تنوي لصاحبها مكافأة إنك للئيم، وإن كنت قبلتها لتستكفي رجلاً عاجزاً إنك لخائن، ولئن كنت قبلتها وأنت مضمر تعويض صاحبها لقد بسطت ألسن أهل عملك بالقدح فيك، وذلك جهل، وما في من أتى أمراً لم يخل فيه من لؤم وخيانة وجهل مصطنع، وعزله.
؟شبب النمري بزينب بنت يوسف أخت الحجاج، وله فيها أشعار وأخبار ليس هذا موضعها، فكتب إليه عبد الملك: قد بلغني ما قال هذا الخبيث، فإياك أن تقربه فتطمعه، أو تعاقبه فتصدقه، ولكن آله عنه وتناس أمره.وما أحسن ما لقنه السياسة في هذا المضيق.
وقد فعل معاوية بأبي دهبل الجمحي لما شبب بابنته مأثوراً من السياسة أيضاً.و كان أبو دهبل ألح على عاتكة بنت معاوية بالشعر حتى سارت الرواة بما قال فيها، فأشار عليه يزيد بقتله، فقال معاوية: أف لك، أنا أرشحك للخلافة وأنت تشير بهذا الرأي، وإن عملت به حققت عليها قوله.ثم حج معاوية فلما دخل عليه الناس أمر بالعطاء لهم، وفرق فيهم الصلات وفيهم أبو دهبل، فلما أراد الخروج استعاده بعد خروج الناس، وقال له: مالي رأيت أبا خالد - يعني يزيد ابنه - متغيظاً عليك لأبيات لا تزال تأتي منك إلى حصاننا؟ فأسقط في يده وأنكر، فقال له معاوية: أما أنا فلا بأس عليك مني، ولكني أحذرك يزيد فله سورة الشباب، ثم قال له: هل لك زوجة ؟ قال: لا، قال: فأي بنات عمك أحب إليك أزوجكها ؟ قال: فلانة، فما برح حتى زوجه إياها وساق مهرها من ماله، فحلف أبو دهبل ألا يذكر عاتكة في شعره أبداً.وله مع عاتكة هذه أخبار ليس هذا موضعها.
لما ندب الفضل بن سهل طاهر بن الحسين للشخوص إلى الري عند حرب علي بن عيسى بن ماهان رآه متثاقلاً فقال له: أمنيتك ؟ قال: أمنيتي أن أخطب على منبر بوشنج، ويكون في صندوقي مائة ألف درهم، فولاه بوشنج وأمر له بمائة ألف درهم، وتركه أياماً ثم دعاه إلى الشخوص فأجابه، قال الفضل: إذا نال الرجل المنى خاض الدماء.

لما ولي يزيد بن الوليد بن عبد الملك الخلافة خطب يستميل الناس فقال، بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر الوليد ومعايبه: أيها الناس، أن لكم علي أن لا أَضع حجراً على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهراً، ولا أكنز مالاً، ولا أعطيه زوجة ولا ولداً، ولا أنقل مالاً من بلد حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإنَّ فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه، ولا أجمركم على بعوثكم فأفتنكم وأفتن عليكم أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما عليهم عن بلادهم، وإن لكم أعطياتكم عندي في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم، فإنَّ وفيت لكم بما قلت فعليكم بالسمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أوف فلكم أن تخلعوني، إلا أن تستتيبوني، فإنَّ تبت قبلتم مني، وإن علمتم أحداً ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم وأردتم أن تبايعوه فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته. أيها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء له بنقض عهد، وإنما الطاعة طاعة الله ورسوله، فمن أطاع فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى معصيته فهو أهل أن يعصى ويقتل.أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
هذا قول حسن وإنصاف فيما له وعليه إلا أن فيه لمن يريد الملك ويقتل عليه ابن عمه ويطلب الخلافة بغير حقها ضعفاً وعجزاً.
قال الحجاج: سلطان تخافه الرعية خير من سلطان يخافهم.
(وما أحسن هذا الكلام لو كان من أهله).
وقد فعل الوليد بن يزيد، وهو الذي شهد عليه أهل عصره بالمروق عن الدين، حين ولي أصناف الخير من بث الصلات والزيادة في الأعطيات، وأجرى على الزمنى والعميان وأخدمهم وأجرى على خدمهم الأرزاق. وكذاك كانت سياسة الملوك والولاة وإفضالهم رأياً وحزماً إذا لم يكن ديناً ورعاً.
أول ظهور أبي مسلم صاحب الدولة باسفيذنج من أرض خراسان ندب إليه نصر بن سيار عامل خراسان مولىً له يقال له يزيد في عسكر كثيف أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعي ومصعب بن قيس في مائتي رجل، وأمدهم من بعد بمدد آخر، فلما وقعت الحرب كسر جيش نصر بن سيار، وأخذ يزيد أسيراً، فأتى به أبو مسلم فداواه أبو مسلم من جراحه، وأحسن إليه ورده إلى مولاه، وأحلفه أن لا يحاربه أبداً، وأن لا يحاربه أبداً، وأن لا يكذب عليهم وقال: هذا يرد عنا أهل الورع والصلاح فانا عندهم على غير الاسلام، فكان كما قال وظن، وكان هذا الفعل يعد من تدبير أبي مسلم الصائب، وكتب نصر ابن سيار إلى بني أمية حينئذ: (من الوافر)
أرى خلل الرماد وميض جمر ... وأحسب أن سيتبعه ضرام
فإنَّ النار بالعودين يذكى ... وإن الحرب أولها كلام
فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
قال مروان بن الحكم لابنه يوصيه: آثر الحق وحصن مملكتك بالعدل فإنَّه سورها المنيع الذي لا يغرقه ماء ولا تحرقه نار ولا يهدمه منجنيق.
وروي أن عامل عمر بن عبد العزيز على حمص كتب إليه: إن سورها قد استهدم، فإنَّ رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في عمارته، فكتب إليه عمر: أما بعد، فحصنها بالعدل، والسلام.
وذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند عبد الملك فقال: قللوا من ذكره فهو على الأئمة، حسرة على الأمة.
وقالت له حبى المدينة: أقتلت عمراً؟فقال: قتلته وهو أعز علي من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول.
ومثله ما قال معاوية لعبيد الله بن زياد: يا ابن أخي، احفظ عني، لا يكونن معك في عسكرك أمير غيرك، ولا تقولن على منبرك قولاً يخالفه فعلك.
وأقبل رجل من خاصة عبد الملك يغيب مصعباً، فنظر إليه عبد الملك نظر كراهة لما قال، ثم قال: أمسك، أما علمت أن من صغر مقتولاً فقد أزرى بقاتله؟ تغذى سليمان بن عبد الملك عند يزيد بن الملب فقيل له: صف لنا أحسن ما كان في منزله، فقال: رأيت غلمانه يخدمون بالاشارة دون القول.
لما ولي مروان بن محمد الخلافة أرسل إلى ابن رغبان الذي نسب إليه بعد ذلك مسجد ابن رغبان ليوليه فرأى له سجادة مثل ركبة البعير، فقال له: يا هذا إن كان ما بك من عبادة فما يحل لنا أن نشغلك، وإن كان من رياء فما يحل لنا أن نستعملك.

وقال عدي بن أرطاة لإياس بن معاوية: دلني على قوم من القراء أولهم؟فقال له إياس: القراء ضربان: فضرب يعملون للآخرة ولا يعملون لك، وضرب يعملون للدنيا، فما ظنك بهم إذا أنت أمكنتهم منها؟قال: فما أصنع؟قال: عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولهم.
أحضر الرشيد رجلاً ليوليه القضاء، فقال: إني لا أحسن القضاء ولا أنا فقيه، فقال الرشيد: فيك ثلاث خلال، لك شرف والشرف يمنع صاحبه من الدناءة، ولك حلم يمنعك من العجلة، ومن لم يستعجل قل خطؤه، وأنت رجل تشاور في أمرك ومن شاور كثر صوابه، وأما الفقه فسنضم إليك من تفقه به. فولي فما وجدوا فيه مطعناً.
كلم المنصور أبا العباس السفاح في محمد بن عبد الله بن الحسن وأهله فقال: يا أمير المؤمنين أنسهم بالإحسان، فإنَّ استوحشوا فالشر يصلح ما عجز عنه الخير، ولا تدع محمداً يمرح في أعنة العقوق. فقال: يا أبا جعفر أنا كذلك، ومن شدد نفر ومن لان تألف، والتغافل من سجايا الكرام. وما أحسن ما قال الأعشى (من الكامل المجزوء).
مغض على العوراء لو ... لا الحلم غيرها انتصاره
كان المهدي يحب الحمام، فأدخل عليه عتاب بن إبراهيم، فقيل له حدث أمير المؤمنين، وكان قد بلغه استهتار المهدي بالحمام فقال: حدثني فلان عن فلان عن أبي هريرة رفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لا سبق إلا في حافر أو جناح، فأنمر له بعشرة آلاف درهم، فلما قام(قال ) المهدي وهو ينظر في قفا عتاب: أشهد أن قفا كذاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإنما استحليت ذلك أنا، وأمر بالحمام فذبحت.
اعتلت الخيزران فأراد الهادي ابنها الركوب إليها، فقال له عمر ابن بزيع: ألا أدلك يا أمير المؤمنين على ما هو أنفع من عيادتها وأجلب لعافيتها؟قال: بلى، قال: تجلس للمظالم، فقد احتاج الناس إلى ذلك.
فرجع وجلس ووجه إليها: إني أردتك اليوم فعرض من حق الله ما هو أوجب فملت إليه، وأنا أجيئك في غد، إن شاء الله.
وكانت الخيزران تتشبه بالرجال وتحب الأمر والنهي، وأن يكون لها باب يقصد بالرغبات والمدائح، فقال لها الهادي لما ولى الخلافة: إن الأمر والنهي لا يبلغه قدر النساء، فلا تخرجي من خفز الكفاية الي بذلة التدبير، واختري بخمرتك وعليك بسجيتك، وأعلمك تعديت ذلك إلى تكليف يضرك وتعنيف يلزمك، ولك بعد هذا علي الطاعة التي أوجبها الله تعالى لك، في غير كفر ولا مأثم ولا عار.
شغب الجند على الرشيد ثم سكنوا بعد إيقاع بهم، فصعد المنبر وقال بعد حمد الله والصلاة على رسوله: أما بعد، فقد كان لكم ذنب وكان منا عتب، وكان منكم اصطلام ومنا انتقام، وعندي بعد هذا لكم التنفيس عن المكروبين، والتفريج عن المغمومين، والإحسان إلى المحسنين، والتغمد لإساءة المسيئين، وأن لا يكفر لكم بلاء، ولا يحبس عليكم عطاء، وعلي بذلك الوفاء، ثم نزل.
كان سبب خروج المعتصم إلى سر من رأى أن غلمانه الأتراك كثروا ببغداد، فتولعوا بحرم الناس وأولادهم، فاجتمع إليه جماعة منهم وقالوا: يا أمير المؤمنين ما أحد أحب إلينا مجاورة منك، لأنك الامام والمحامي عن الدين، وقد أفرط علينا أمر غلمانك، فاما منعتهم منا أو نقلتهم عنا، قال: نقلهم لا يكون إلا بنقلي، ولكني افتقدهم وأزيل ما شكوتم منه، فنظر فإنَّ الأمر قد زاد وعظم وخاف أن يقع بينهم حرب، وعاودوه بالشكوى وقالوا: إن قدرت على نصفتنا وإلا فتحول عنا، فقال، أتحول وكرامة، فرحل إلى سر من رأى واتخذها داراً.
لما أقطع المعتصم أشناس ضياع الحسن بن سهل، وجه الحسن بقبالاتهاى أشناس، وكتب إليه: قد عرفت رأي أمير المؤمنين في إخلاصك بهذه الضياع وأحببت أن لا يعترض على عقبك عقبي، فأنقذت إليك قبالاتهم معتداً في قبولكها بإسباغ النعمة علي، وادخار الشكر لدي، ومتقرباً إلى سيدي أمير المؤمنين، فرأيك في الأمتنان علي بقبولها، موفقاً إن شاء الله. فلما قرأ الكتاب أنقذه إلى المعتصم فوقع فيه: ضيم فصبر، وسلب فعذر، فليقابل بالشكر على صبره، وبالإحسان على عذره، وترد عليه ضياعه، ويرفع عنه خراجه، ولا أؤامر فيه إن شاء الله.
و كان المعتصم يقول: الفضل بن مروان عصى الله وأطاعني، فسلطني الله عليه.

وقال لأحمد بن أبي دواد لما كان من التياث العباس ابن المأمون ما كان: يا أبا عبد الله أكره أن أحبسه فأهتكه، وأكره أن أدعه فأهمله، فقال احمد: الحبس، أصلح الله أمير المؤمنين فإنَّ الاعتبار خير من الاغترار.
وقيل ما رؤي أشد تيقظاً في حرب من المعتصم، كانت الأخبار ترد عليه من أرض بابل إلى سر من رأى في ثلاثة أيام على خيل عتاق مضمرة، قد أقام على كل فرسخين فرسين. واحتاج الناس في حصار عمورية إلى ماء فمد لهم حياضاً من أدم عشرة أميال. ولما دخل عليه المازيار، وكان شديد الغيظ عليه، قيل له: لا تعجل عليه فإنَّ عنده أموالاً جمة، فأنشد بيتاً لأبي تمام:
إن الأسود أسو الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
قال إبراهيم بن المدبر: قال لي المتوكل: إذا خرج توقيعي إليك بما فيه مصلحة الناس ورفق بالرعية فأنقذه ولا تراجعني فيه، وإذا خرج إليك فيه حيف على الرغبة فراجعني فإنَّ قلبي بيد الله عز وجل.
كتب الاسكندر إلى أرسطاطاليس يذكر أن في عسكره جماعة من خاصته وذوي حشمه وأهل الحرمة، وأنه لا يأمنهم على نفسه لما يرى من بعد هممهم وقوة شجاعتهم وأنه لا يجد لهم عقولاً تفي بالفضائل التي فيهم، ويكره الإقدام بالقتل عليهم بالظنة مع واجب الحرمة، وسأله عن الرأي في أمرهم، فكتب إليه أرساطاليس: أما بعد فإنَّ الوفاء من بعد الهمة، وأما شجاعتهم ونقصان عقولهم عن الوفاء بها، فمن كانت هذا حاله فرفهه في معيشته وقوله، وخوله حسان النساء، فإنَّ رفاهة العيش توهي العزم وتكسر حمية الشجاعة، ومحبة النساء تحبب السلامة وتباعد من ركوب المخاطر، وليكن خلقك خلقاً حسناً تستدع به صفو النية وخلوص المقة، ولا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوسط أصحابك تناول مثله، فليس مع الاستئثار محبة ولا مع المواساة بغضة.
غضب الاسكندر على شاعر فأقصاه وفرق ماله في الشعراء، فقيل له ذلك فقال: أما إقصائي إياه فلجرمه، وأما تفريقي ماله في الشعراء فلئلا يشفعوا فيه.
كتب الاسكندر إلى أرسطاطاليس يعلمه بما افتتح من البلاد ويعجبه من قبة الذهب، وجدها في بلاد الهند، فأجاب: إني رأيتك تعجب من قبة عملها الآدميون، وتدع التعجب من هذا القبة المرفوعة فوقك، وما زينت به من الكواكب وأنوار الليل والنهار. واما البلدان فليكن ملكك فيها بالتودد إلى أهلها، لا كقهر الراعي غنمه بالعصا، فإنك في طاعة المودة أحمد بدناً وعافية من طاعة القهر والاستطالة، فحدث به المأمون فقال: لقد حث على التودد فأحسن، فلقد أدبنا الله قبل معرفتنا بحكمة أرسطاطاليس: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) (آل عمران: 159).
لما قتل شيرويه بن كسرى أباه أبرويز، وقف له رجل من الرعية يوماً وقد رجع من الميدان فقال: الحمد لله الذي قتل أبرويز على يديك، وملكك ما كنت أحق به منه، وأراح آل ساسان من جبروته وعنوه وبخله ونكده، فإنَّه كان ممن يأخذ بالحبة ويقتل بالظن، ويخيف البريء ويعمل بالهوى، فقال للحاجب: احمله إلي، فقال: كم كانت أرزاقك في حياة أبرويز؟قال: في كفاية من العيش. قال: فكم رزقك اليوم؟قال: ما زيد في رزقي شيء، فقال: هل وترك أبرويز فأبصرت منه مما سمعت من كلامك؟قال: لا، قال: فما دعاك إلى الوقوع فيه ولم يقطع عنك رزقاً، ولا وترك في نفسك؟وما للعامة وهم رعية والوقوع بالملوك؟وأمر أن ينزع لسانه من قفاه، وقال: بحق ما يقال: أن. الخرس خير من البيان بما لا يجب.
ولما أتي المنصور برأس إبراهيم بن عبد الله بن الحسن فوضع بين يديه جاء بعض الراوندية فضرب الرأس بعمود في يده، فقال المنصور للمسيب: سو وجهه، فدق المسيب أنفه حتى سطحه مع وجهه، ثم قال: يا ابن اللخناء تجيء إلى رأس ابن عمي وقد صار إلى حال لا يدفع عن نفسه ولا ينفع فتضربه بعمود، كأنك رأيته يريد نفسك أو نفسي فدفعته عني؟اخرج إلى لعنة (الله )وأليم عقابه.
قال حسن بن رجاء: لما ورد الخبر على المأمون بقتل أبي السرايا لم يكن في بيت ماله إلا ألف ألف ومائتا ألف درهم، قال ذو الرياستين للمأمون: هذا لا يسع الناس، ولكن صل بهذا المال حتى أخرج إلى الناس فآمر لهم به على قدر مراتبهم، فيكون القليل مني أحمد منه منك، ويكون الناس يتوقعون فضلك إلى أن تأتي الأموال فترى رأيك. ففعل فوقع أحسن موقع.

أمر المأمون الحسن بن عيسى كاتب وزيره عمرو بن مسعدة أن يكتب كتاباً، فالتفت الحسن إلى الوزير ينتظر الإذن منه، ففهمها عنه المأمون فقال: يعطى الحسن مائة ألف لانتظاره إذن صاحبه.
ركب زياد يوماً بالسوس فرأى عمارة حسنة، فخاف أهلها أن يزيد في خراجها، فقال لهم: بارك الله عليكم قد وضعت عنكم مائة ألف لما رأيت عمارة بلدكم.
دعا الواثق إسحاق بن إبراهيم المصعبي إلى منادمته فامتنع، فتلاحيا في ذلك إلى أن تغير الواثق لإسحاق وأمر بحجابه، فكتب إليه إسحاق: يا أمير المؤمنين لئن أطلقتني الحشمة التي عقد لساني عن الأنبساط لتغيره علي، لقد كان فيما عقد لي عليه قلب أمير المؤمنين ذب أن كان يؤمنني من امتهان العامة إياي. فرمى الواثق بكتابه إلى أحمد بن أبي داود وقال: انظر ذا، فنظر ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما على من كانت هذه همته بذبه عن أمير المؤمنين عتب، وهو يجد من أشخاص عوضاً في منادمته، فأبقاه على رسمه وأعفاه من المنادمة.
قال معاوية لسعيد بن مرة الكندي: أنت سعيد؟قال: أمير المؤمنين السعيد وأنا ابن مرة.
وقال المأمون للسيد بن أنس: أنت السيد: فقال: أمير المؤمنين السيد وأنا ابن أنس.
وقال الحجاج للمهلب وهو يماشيه: أنا أطول أم أنت؟قال: الأمير أطول وأنا أبسط قامة.
قال رجل لأبي خليفة الجمحي: ما أحسبك تثبتني؟ فقال: وجهك يدل على سنك، والإكرام يمنع من مسألتك، فأوجد السبيل إلى معرفتك.
قال العتيبي لأحمد بن أبي خالد الأحوال: هل أنكرت علي يوم دخولي على المأمون شيئاً؟قال: نعم، قال: ماهو؟قال: ضحك من شيء فكان ضحكك أكثر من ضحكه.
قال محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان: بعثني أبي إلى المعتضد في شيء فقال لي: اجلس، فاستعظمت ذلك فقلت: إنه لا يجوز، فقال: يا محمد، أدبك في القبول مني خير لك من أدبك في قيامك.
قال المأمون لثمامة بن أشرس: ارتفع؟قال: يا أمير المؤمنين لم يف شكري بموضعي هذا، وأنا أبعد عنك إعظاماً لك، وأقرب منك شحا عليك.
ومن أدب العلماء: قال بعض أصحاب أبي حنيفة، قال أبو حنيفة: لا تسألني عن أمر الدين وأنا ماش، ولا تسألني وأنا أحدث الناس، ولا تسألني وأنا قائم، ولا تسألني وأنا متكىء، فإنَّ هذه أماكن لا يجتمع فيها عقل الرجل. قال: فخرج يوماً فتبعته من حرصي أسائله ومعي دفتر، وأنا أمشي في الطريق، فلما خلوت عقلت ما يقول، فلما كان من الغد واجتمع إليه أصحابه سألته عن تلك المسائل فغير الجواب، فأعلمته ذلك فقال: ألم أنهك عن السؤال وعن الشهادات في دين الله إلا في وقت جمام العقول.
وقيل: أراد أحمد بن طولون أن يكتب وثائق بأحباسه التي حبسها على البيمارستان والمسجد والسقاية بمصر، فتولى له كتب ذلك أبو حازم قاضي دمشق، فلما جاءت الوثائق أحضر لها علماء الشروط لينظروا هل فيها شيء يفسدها، فنظروا فقالوا: ما فيها شيء، ونظر فيها أبو جعفر أحمد بن أحمد بن محمد ابن سلامة الطحاوي الفقيه، وهو يومئذ شاب، فقال: فيها غلط، فأحضره ابن طولون وسأله عن الغلط فقال: حتى أعرف من عملها، فقيل له: أبو حازم القاضي، فقال: ما يمكنني أن أذكر الغلط الذي فيها، فقال له أحمد ابن طولون: إن أنت لم تذكره لرسلي فاذكره لي، فقال: ما أفعل، قال: ولم؟قال: لأن أبا حازم رجل عالم وعسى أن يكون الصواب معه وقد خفي علي، فأعجب ذلك أحمد ابن طولون وقربه وأجازه وقال له: فتخرج إلى أبي حازم لتوافقه، فخرج ووافقه عليه واعترف أبو حازم بالغلط، ثم رجع الطحاوي إلى مصر وأدخل إلى ابن طولون، فقال: كان الصواب مع أبي حازم وقد رجعت إلى قوله، وستر ما كان، فذكر ذلك لابن طولون فزاد في نفسه.

كان أحمد ابن طولون شديد الاهتمام بأمر رعيته، وكان يجلس في الليل في قبة عالية ممن داره يتسمع ويراعي أحوال مصر، فبينا هو ذات ليلة إذ سمع صياح كلب يصيح صياحاً شديداً، فدعا بغلمانه وقال: اسمعوا، فقالوا: نسمع صياح كلب. فقال: انظروا أين، فلم يزالوا ينظرون حتى قالوا: في ناحية كذا وكذا، فقال: علي بالكلب الساعة وسببه، فمضى الغلمان فلم يزالوا ينظرون حتى عرفوا الموضع فأخذوا الكلبي، وإذا برجل نائم في الظلام معه سكين، وإذا قوم يصيحون، فقالوا لهم: ما خبركم؟فخرج إليهم شيخ فقال: هذا رجل يتعرض ببعض حرمي، فأخذوا الكلب والرجل والشيخ وجاءوا يهم إلى أحمد بن طولون، فقال: اضربوا الكلب فضربوه فصاح فقال: هو هو، وأمر بالرجل فغرق وانصرف الشيخ إلى منزله.
وقال أحمد بن طولون لبعض كتابه: اخنر لي كاتباً ترضاه وأتني به، قال: فأتيته به وتركته عنده ولم أعرف له خبراً، فلما كان بعد شهر جاءني، فقالت: من أين؟قال: من أمر عظيم، لما انصرفت أرسلني إلى المطبق وقال لي: احفظ ما يقولون وإلى من يكتبون ومن يكتب إليهم. فأقمت شهراً بالمطبق حتى عرفت جميع ما كانوا فيه، ثم أحضرني اليوم وحدثته بكل شيء فأمر لي بجائزة وقال لي انصرف.
رفع إلى المعتضد أن أن طائفة من الناس يجتمعون في دكان رجل شيخ تبان، ويخوضون في الفضول والأراجيف وفنون من الأحاديث، وفيهم سرارة وكتاب وأهل بيوتات سوى من يسترق السمع منهم من داصة الناس، فلما عرف المعتضد ذلك حرج صدره وامتلأ غيظاً، ودعا بعبيد الله بن سليمان ورمى بالرقعة إليه وقال له: انظر فيها وتفهمها، ففعل، ورأى من تربد وجه المعتضد ما أزعج ساكن صدره، وقال: قد فهمت يا أمير المؤمنين، قال: فما الدواء؟قال: تتقدم بأخذهم وصلب بعضهم وإحراق بعضهم وتغريق بعضهم، فإنَّ العقوبة إذا اختلفت كان الهول أشد والهيبة أفشى، والزجر أنجع، والعامة أخوف، فقال المعتضد: لقد بردت لهب غضبي بقسوتك هذا، ونقلتني إلى اللين بعد الغلطة، وحضضت على الرفق من حيث أشرت بالخرق، وما علمت أنك تستجيز هذا في دينك وهديك ومروءتك، ولو أمرأتك ببعض ما رأيت بعقلك وحزمك لكان من حسن المؤازرة ومبذول النصيحة والنظر للرعية الضعيفة الجاهلة أن تسألني الكف وتبعثني على الحلم وتحبب إلي الصفح، وترعبني في فضل الأغضاء على هذه الأشياء، وقد ساءني جهلك بحدود العقاب، ولقد عصيت الله بهذا الرأي ودللت على قسوة القلب وقلة الرحمة ويبس الطينة وقلة الديانة. أما تعلم أن الرعية وديعة الله عند سلطانها، وأن الله سائله عنها كيف سستها ولعله لا يسألها عنه، فإنَّ سألها فلتوكيد الحجة عليه منها؟ألا تدري أن أحداً من الرعية لا يقول ما يقول إلا لظلم لحقه، أو داهية نالته أو نالت صاحباً له؟وكيف نقول لهم كونوا أتقياء صالحين مقبلين على معاشكم غير خائضين في حديثنا ولا سائلين عن أمرنا، والعرب تقول في كلامها: غلبنا السلطان فلبس فروتنا واكل خضرتنا، وحنق الملوك على المالك معروف، وإنما يحتمل السيد على ضروب تكاليفه ومكاره تصاريفه إذا كان العيش في كنفه رافغاً، والأمل فيه قوياً، والصدر عليه بارداً، والقلب معه ساكناً، أتظن أن العلم بالجهل يدفع والعذر به يسع؟لا والله، ما الرأي ما رأيت ولا الصواب ما ذكرت، وجه صاحبك وليكن ذا خبرة ورفق، معروفاً بتحر وصدق، حتى يعرف حال هذا الطائفة ويقف على شان كل واحد منها في معاشه وقدر ما هومتقلب فيه ومنقلب إليه، فمن كان منهم يصلح لعمل فعلقه به، ومن كان سيء الحال فصله من بيت المال بما يعيد نضرة حاله، ويفيد طمأنينة باله، ومن لم يكن من هذا. الرهط بل هو غني مكفي، وإنما يخرجه إلى دكان هذا التبان البطر والزهو فادع به وانصحه ولاطفه، وقل له: إن لفظك مسموع وكلامك مرفوع، ومتى وقف أمير المؤمنين على كنه ذلك منك لم تجدك إلا في عرصة المقابر، فاستانف لنفسك سيرة تسلم بها من سلطانك وتحمد بها عند إخوانك، وإياك أن تجعل نفسك عظة لغيرك بعد ما كان غيرك عظة لك، ولولا أن الأخذ بالجريرة الأولى مخالف لليسرة المثلى لكان هذا الرأي الذي تسمعه ما تراه، تود لو انك سمعته قبل أن تراه، فإنَّك يا عبيد الله إذا فعلت فقد بالغت في العقوبة، وملكت طرفي المصلحة، وقمت على سواء السياسة، ونجوت من الحوب والمأثم في العاقبة، ففعل عبيد الله ما أمره به.

قال عبد الملك بن عمر الليثي: بينما نحن في المسجد الجامع بالكوفة، وأل الكوفة يومئذ ذوو حال حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه، أتانا آت، فقال: هذا الحجاج قد قدم أميراً على أهل العراق، فإذا به قد دخل المسجد معتماً بعمامته قد غطى بها أكثر وجهه، متقلداً سيفاً، متنكباً قوساً، يؤم المنبر، فقام الناس نحوه، حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق، حتى قال عمير بن ضابىء البرجمي: ألا أحصبه لكم؟فقالوا: أمهل حتى ننظر، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
وقال: يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبي ... أبيض خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا
والقوس فيها وتر عرد ... مثل ذراع البكر أو أشد
إني والله يا أهل العراق ما يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز البنان. ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وإن أمير المؤمنين نثل كنانته، فعجم عيدانها عوداً عوداً، فوجدني أمرها عوداً واصلبها مكسراً، فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال. والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم كأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، وإني والله ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ عطائه ثلاثة أيام إلا ضربت عنقه، يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم، فلم يقل أحد شيئاً، فقال الحجاج: قف يا غلام، ثم أقبل على الناس فقال: أسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئاً؟هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن الطريق، اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام، ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبراً فقال: أيها الأمير، إني من الضعف على ما ترى، ولي ابن هو أقوى على الأسفار مني أفتقبله بدلاً؟فقال له الحجاج: نفعل يا شيخ، فلما ولى قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟قال: لا، قال: هذا عمير بن ضابىء البرجمي الذي يقول أبوه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ودخل هذا الشيخ على عثمان وهو مقتول فوطئ بطنه فكسر ضلعين من أضلاعه، فقال: ردوه. فلما رد قال الحجاج له: أيها الشيخ، هلا بعثت إلى أمير المؤمنين بدلاً يوم الدار؟ إن في قتلك أيها الشيخ لصلاحاً للمسلمين، يا حرسي اضربا عنقه. فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي:
تجهز فأما أن تزور ابن ضابئ ... عميراً، وإما أن تزور المهلبا

تفسير كلمات غريبة من هذا الخبر: أراد بابن جلا الفعل، فحكى، فلذلك لم يصرفه، والبيت لسحيم بن وثيل، طلاع الثنايا: جلد يطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها. حطم لا يبقي من السير شيئاً وكذلك الذي يأتي على الزاد فيأكله حطم، والنار التي لا تبقي حطمة والوضم ما يوضع عليه اللحم من صخر أو خشب. والعصلبي: الشديد، الدوي: كل غماء شديدة، ويقال للصحراء دوية، وهي التي لا تكاد تنقضي، وهي منسوبة إلى الدو، وهو الصحراء الملساء التي لا أمارة بها، والداوية: المتسعة التي تسمع لها دوياً بالليل، وإنما ذلك الدوي من أخفاف الإبل تنفسح أصواتها فيها وتقول جهلة الإعراب ذاك عزيف الجن، والعرد: الشديد ويقال في معناه عرند، والذكاء ها هنا تمام السن وهو في غير هذا حدة القلب.
و من سياسة زياد المستحسنة أنه ألزم كل قبيلة بمن يخرج من الخوارج منهم وأخذهم بهم، فكانت كل قبيلة إذا أحست بخارجية منها شدتهم وأتت بهم زياداً. وله أخرى في الخوارج، أخرجوا معهم امرأة فظفر بها فقتلها ثم عراها، فلم تخرج النساء بعد ذلك على زياد، وكن إذا دعين إلى الخروج يقلن: لولا التعرية لسارعنا. وكن بعد زياد يخرجن مع الخوارج فيحاربن ويبارزن الرجال.
نصب معاوية قميص عثمان على المنبر فبكى أهل الشام فقال: هممت أن أدعه على المنبر، فقال له عمرو بن العاص: إنه ليس بقميص يوسف، وأنهم إن طال نظرهم إليه وبحثوا عن السبب، وقفوا على ما لا تحب ولكن لذعهم بالنظر إليه في الأوقات.
ووصى عمرو معاوية بالسياسة فقال: لا يكون شيء آثر عندك من أمر رعيتك، وتكون له أشد تفقداً منك لخصاصة الكريم أن تعمل في سدها، ولطغيان اللئيم أن تقمعه، واستوحش من الكريم الجائع ومن اللئيم الشبعان، فإنَّ الكريم يصول إذا جاع واللئيم يصول إذا شبع.
؟كان الرشيد أخذ ضيعة من صالح صاحب المصلى ودفعها إلى أم جعفر، فلما ولي الأمين سأله الفضل بن الربيع ردها على صالح، فقال: أنا أعوضه ولا أظلم أمي ولا أعق أبي.
وقع المأمون في قصة متظلم من أبي عيسى بن الرشيد (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) (المؤمنون: 101).
؟قال المعتز لأحمد بن وزير البصري لما ولاه القضاء: يا أحمد قد وليتك القضاء وإنما هي الدماء والفروج والأموال تنفذ فيها حكمك ولا يرد أمرك، فاتق الله عز وجل وانظر ما أنت صانع.
؟ولما جيء إليه بأمان وصيف وبغا من بغداد على دمائهم وأموالهم وأجاز ذلك، وقع في الكتاب بخطه بين الأسطر: خلا ما فيها من حق لمسلم أو معاهد.
؟دخل أبو مجلز على قتيبة وهو بخراسان، وهو يضرب رجلاً بالعصا فقال: أيها الأمير إن الله جعل لكل شيء قدراً، ووقت له ووقتاً، فالعصا للأنعام والهوام والبهائم، والسوط للحدود والتغرير، والدرة للأدب، والسيف لقتال العدو والقود.
؟قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: وافاني كتاب المعتز وكتاب أحمد بن إسرائيل مع رسول ومعه رأس بغا، وفي الكتب أن أنصبه على الجانبين، فلم أفعل وكتبت: قد أوجب الله تعالى علي نصح أمير المؤمنين من جهات منها ما تقتضيه الديانة وتوجبه الأمانة، ومنها اصطناع آبائه لخدمهم من أسلافي، ومنها اختصاصه إياي بجميل رأي، ومع هذا فلم أكن لأذخر عنه رأياً مع ما أنا عليه من المناصحة والشكر، وإن الكتب وردت علي بنصب رأس بغا في الجانبين، وقد أخرت ذلك إلى أن يعود إلي الأمر بما أعمل عليه، وبغا فقد علمت أنه عدو أمير المؤمنين وعدوك، وقد أراح الله تعالى منه بحيث لم تتهموا فيه، وأخاف أن يتبعكم الأتراك عند أول شغبة به، ويطالبوكم بدمه، ويجعلوا ذلك ذريعة إلى إيقاع سوء. وكان الصواب عندي أن يغسله أمير المؤمنين ويصلي عليه ويدفنه ويظهر حزناً ويقول: ما أحب أن يصاب صغير منكم ولا كبير، وقد غمني أمر بغا، ولو وصل إلي لزدت في مرتبته، وما يشيه هذا.فورد علي كتاب أحمد بن إسرائيل يشكر ما كان مني، ولم يقبل قوله وفي هذا الرأي واجتهد فيه، فما أمكنه إلا أن يفعل ما فعل، ويحلف أنه سبقني إلى آخر كتابه: واعلم أنه قد حدث بعدك، وهو مما لا نعرفه نحن ولا أنت، رأي للحرم والخدم يقبل ويعمل عليه، وهذا فتح للخطأ وإغلاق للصواب، فانصب الرأس قليلاً ثم أنفذه إلى خراسان.
كتب الفضل بن الربيع إلى عبد الله بن سولر يسأله أن يشتري له ضيعة فكتب إليه: إن القضاء لا يدنس بالوكالة.

قال بعض صحابة أبي العباس السفاح: غضب أبو العباس السفاح على بعض أصحابه فأبعده، فذكره ليلة من الليالي، فقلت: لو رآه أعدى خلق الله له لرحمه، قال: مم ذلك؟قلت: لغضب أمير المؤمنين عليه، فقال: ما له من الذنب ما تبلغ به العقوبة هذا المبلغ، قلت: فمن عليه يا أمير المؤمنين برضاك، قال: ما هذا وقت ذاك. قلت: إنك يا أمير المؤمنين لما صغرت ذنبه طمعت في رضاك. قال: إنه من لم يكن بين غضبه ورضاه مدة طويلة لم يحسن أن يغضب ولا يرضى.
قال عبيد الله بن سليمان: كنت أكتب بين يدي أبي سليمان داود بن الجراح، فقال لي يوماً: اكتب: أطال الله بقاءك وأعزك وأكرمك وأتم نعمته عليك وإحسا نه إليك، كتب الوكيل - أعزك الله - متصلة بشكرك، والضيعة ضيعتك، وكل ما تأتيه في أمرها فموقعه يحسن مني، وشكري يتضاعف عليه، وخطاباً في هذا المعنى، وكانت هذا المخاطبة لا يخاطب بها إلا صاحب مصر أو فارس، فقلت: قد ابتاع ضيعة بأحد الموضعين، ثم أصلح الكتاب فقال: عنونه إلى الرخجي، وكان يتقلد النهروان الأوسط. ثم رمى إلي كتاباً لصاحب بريد فقال: وقع عليه: أنت أعزك الله تقف على ما تضمنه هذا الكتاب، ولئن كان ما تضمنه حقاً لأفعلن ولأصنعن، وخطاباً أغلظ فيه، ثم قال عنونه إلى الرخجي، فعجبت من الكتابين، وفطن لما في نفسي فقال: أظنك قد أنكرت الخطابين، هذا ثناءتي خدمتها، وهذا حق سلطاني استوفيته.
قال علي بن مخلد: كنت واقفاً على رأس المنصور وأنا غلام، فما رأيت ملكاً ولا سوقة كان أفسح منه أخلاقاً، ولا أقل ضرباً وشتماً لملك يمين، وكان ربما دعا الغلام من غلمانه لبعض ما يحتاج إليه فيسمع نداءه فلا يجيبه، قال: فسمعته يوماً يقول للربيع: ما أدري كيف أصلح غلماني وخدمي؟أصوت للواحد منهم أصواتاً فلا يجيبني وأنا أعلم أنه قد سمع. قال: يا أمير المؤمنين، لنت لهم غاية اللين فلو غلظت عليهم بعض الغلظة استقاموا. فقال: ابغني سوطاً ومسماراً، فأتاه بهما فعلق السوط تجاه مجلسه فكان إذا صاح بالخادم وافاه عشرون في لحظة، فقال: قاتل الله القائل:
العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الملامه
قال الفضل بن يحيى لرجل استبطأ عدة الرشيد، وكان من أهل بيته: إنما شغل عنك أمير المؤمنين حقوق أهل الطاعة دونك، ولو فرغ منهم إليك لم يؤثر من دونك عليك، فقام أبوه يحيى فقبل رأسه.
كان المعتضد بالله من ساسة الخلفاء وذوي التدبير، وسمي السفاح الثاني لأنه جدد الدولة العباسية بعد دروسها، ولي بعد المعتمد عمه وكان مستضعفاً حتى أنه طلب ما يراعي به مغنية عنده فلم يعط وقصرت يده عنه فقال:
أليس من العجائب أه مثلي ... يرى ما قل ممتتعاً
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيء في يديه
وكان تؤخذ جواريه غضباً فلا يقدر على الامتناع وليس هذا موضع أخباره فلما ولي المعتضد لم يجد في بيت المال غير سبعة وعشرين درهماً زائفة، ووجد الدنيا خراباً فعمرها بالعدل، حتى صار دخل المملكة يزيد على الخرج في كل سنة ألف ألف دينار، بعد الخرج والنفقات على التمام والكمال، واستيفاء الجيوش وسائر المرتزقة جاريهم على الإدرار من غير مطالبة أو إذكار بسببه، وكان هذا الفاضل في بيت مال الخاصة لا ينفق منه شيء البتة، ولا يحتاج إليه في وجه من الوجوه، وأخر النوروز إلى أحد عشر يوماً من حزيران حيث تتكامل جميع الغلات الشتوية والثمار، فيأخذ الخراج في أوانه من غير إضرار بتقديمه، وأمر بالزيادة في المسجد الجامع بمدينة أبي جعفر، وامر بتسهيل عقبة حلوان وقال: هذا طريق الملك. فسهلت إلى الموضع المعروف بدهليزان، وأنفق عليها عشرون ألف دينار، وأمر برد المواريث على ذوي الأرحام، ولما أراد بناء قصره بالشماسية بأعلى بغداد، استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقدير جميع ما أراده للقصر، فسئل عما يريد ذلك له، فذكر أنه يريده ليبني فيه دوراً ومساكن ومقاصير، يرتب في كل موضع منها رؤساء كل صناعة ومذهب، من كل مذاهب العلوم النظرية والعملية ويجري عليه الأرزاق السنية ليقصد كل من اختار علماً أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه. ولو مد له في العمر حتى يفعل هذا، لظهر فضل هذا الأمة على سائر الأمم، ولكن حالت المنية دون الأمنية، ولله أمر هو بالغه وهو أعرف بمصالح عباده.

؟وكان عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد من العقلاء ورجال التدبير. قال علي بن عيسى بن داود بن الجراح: دخلنا إليه لما فتح هو وبدر المشرق، وفتح المعتضد والقاسم بن عبيد الله معه ديار بكر، وذلك في آخر سنة ست وثمانين ومائتين، وكنت أنا وعمي محمد بن داود والقاسم، فجعل القاسم ونحن بعده نهنئ عبيد الله باستمرار الصلاح في جميع البلاد، وسكون النفوس، وسقوط جميع الأعداء في أقطار المملكة، قال: وعبيد الله يسمع وهو مطرق، ثم رفع طرفه وجعل ينظر إلى ابنه القاسم نظر متعجب، ثم قال: الساعة والله يا بني وتضاعف في الشغل والخوف، لأن عادة هؤلاء القوم، يعني الخلفاء، إذا خلص لهم الملك وانتظم، الفكر في أقرب الناس منهم والإقدام على الإيقاع بهم وهم الوزراء، وحق الوزير أبداً أن يشغل قلب سلطانه بالشيء بعد الشيء يلقيه إليه مما يحذره ويخشى سوء عاقبته، فتدعوه الضرورة عند ذلك إلى اتصال الفكر فبه والاعتماد على وزيره في تلافيه فإذا خلا من ذلك صرف همه وفكره إلى الأقرب فالأقرب منه، فلم تؤمن بادرته ولم يسلم من معرته وتغيير أمره وملالته، إما ضجراً باتصال خدمته وطول معاملته، وإما طمعاً في ماله وحاله وشرهاً إلى نعمته. قال: فورد على القاسم من قول أبيه وعلينا ما عملنا أنه قال الحق، مع ممارسته للأمور، وما شوهد ونقل من الأخبار في ذلك.
؟وقال المحسن بن علي بن محمد بن الفرات، قال لي أبي: يا بني إن خدمت هؤلاء الخلفاء، فلا تترك حالاً تقدر عليها في إزعاجهم وإرهابهم إلا اجتلبتها وأوردت خبرها عليهم، حتى يكون قلب من تخدمه أبداً مشغولاً منخوباً غير مفكر فيك، فإنَّه إذا فرغ قلبه مما يتخوفه عاد بالمكروه عليك وانصرف به إليك ولم يفكر إلا فيك.
لما أسرف الحجاج في القتل بالعراق وإعطاء أصحابه الأموال، كتب إليه عبد الملك بن مروان: أما بعد فقد بلغني سرفك في الدماء وتبذير الأموال، ولا أحتمل هاتين لأحد من الناس، وقد حكمت عليك في الدم بالقود في العمد، والدية في الخطأ، وأن ترد الأموال إلى مواضعها، فإنَّما المال مال الله ونحن أمناؤه، وسيان منع حق وإعطاء باطل، فلا يؤمننك إلا الطاعة ولا يخفينك إلا المعصية، وكتب في أسفل كتابه:
إذا أنت لم تترك أموراً كرهتها ... وتطلب رضائي بالذي أنت طالبه
وتخشى الذي يخشاه مثلك هارباً ... إلى الله منه ضيّع الدر حالبه
و إن تر مني غفلة قرشية ... فيا ربما قد غص بالماء شاربه
و إن تر مني وثبة أموية ... فهذا وهذا كله أنا صاحبه
فلا تعد ما يأتيك مني، فإنَّ تعد ... تقم فاعلمن يوماً عليك نوادبه
و من الآراء السديدة ما فعله أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات بعد فتنة ابن المعتز فإنَّ ابن المعتز لما تفرق أصحابه وهلك، واستقام الأمر للمقتدر في ملكه استوزر أبا الحسن ابن الفرات فظفر بصندوقين عظيمين فيهما جرائد بأسماء من بايع ابن المعتز فلم يفتحهما ولا قرأ الجرائد، ودعا بنار عظيمة، وألقى الصندوقين فيها وقال: لا حاجة بنا إلى الوقوف على ما فيها فتفسد نية أمير المؤمنين في كل أوليائه، ويستشعرون هم الخوف منه، وقد عفا أمير المؤمنين عن كان له في أمر ابن المعتز فعل أو قول. واقتدى في هذا الفعل بأخيه أبي العباس ابن الفرات.
و كان عبيد الله بن سليمان وزير المعتضد لما عاد من الجبل حضر عنده أبو العباس فسلم إليه أضابير وقال له: يا أبا العباس سعايات وصلت إلينا بالجبل من أسبابك ووكلائك وأصحابك، فقف عليها لتعرف وليك منهم وناصحك من عدوك والغاش لك، فابتدا أخوه أبو الحسن يقرأها فجذبها أبو العباس من يده ومنعه من قراءتها وقال: لا حاجة بي إلى الوقوف عليها، ولست أقابل نعمة الله في التفات الوزير إلي ورأيه في وحراسته إياي بفساد نيتي في أسبابي وأصحابي ومقابلتهم على فعلهم. وفعل أبي الحسن هذا مجرد سياسة ونظر للملك، وفعل أبي العباس مع أنه ما خلا من سياسة وأدب فهو بكرم الأخلاق أليق وأولى.

و من صائب الرأي ما كان يفعله أبو محمد الحسن بن محمد المهلبي فإنَّ صاحبه معز الدولة أبا الحسين أحمد بن بويه، كان حديداً سريع الغضب بذيء اللسان يشتم وزراءه ويسبهم، وكان المهلبي مع فضله وعلمه وكمال مروءته وأدبه، يصبر من ذلك على ما لا يصبر عليه أحد، ولا ينكسر لما يبدو منه في حقه. فقيل له: لو أظهرت الإنخزال والإنكسار لكان أصلح لئلا يظن بك تهاوناً بأمره، فقال: ليس يخفى علي ذلك، ولكن هذا الأمير خرق عجول لا يملك لسانه، فإنَّ ذهبت أظهر الاستيحاش من هذيانه، وقع له أني قد تنكرت له وأني لا أناصحه، ولعله يتهمني بما لا يدور في فكري فيكون سبباً لجائحة ونكبة، وليس له غير التغافل والتبسم في وجهه إذا أمكن، فإنَّ لم يمكن ذلك خوفاً من غضبه فليس إلا قلة الفكر فيه.
ذكر أن فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما السلام أعطت ولدها من الحسن بن الحسن ما ورثته منه، وأعطت ولدها من عبد الله بن عمرو بن عثمان موروثها منه، فوجد ولد الحسن بن الحسن في أنفسهم، لأن ما ورثت من عبد الله بن عمرو كان أكثر، فقالت: يا بني، إني كرهت أن يرى أحدكم شيئاً من مال أبيه بيد أخيه فيجد من ذلك في نفسه فلذلك فعلت ما فعلت.
و كان عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن الحسن بن بويه من ساسة الملوك، وله في ذلك أخبار مشهورة وأفعال مستحسنة، ولما ملك بغداد والعراق وجدها خراباً، والأسواق بعضها تلول بالحريق، والجوامع خراب، فبدأ بعمارتها وعمارة الأسواق، وألزم أرباب العقار بالعمارة، فمن قصرت قدرته عن النفقة اقترض من بيت المال ما ينفقه عليها وذلك في الأسواق والدور، وكان ببغداد أنهار كثيرة فيها مرفق للمحال البعيدة عن دجلة قد انقطعت ودرست فابتدأ بحفرها مثل نهر العبارة ونهر مسجد الأنباريين ونهر البزازين ونهر الدجاج ونهر طابق ونهر القلائين ومسراها إلى دجلة والصراة ونهر اشتق من دجيل إلى الحربية وعمر القناطر ورتب أمر الجسر وجعل له الدرابزينات تحفظ من يجتاز به ووكل به الحفظة واستقصى في عمارة السواد، وعمر طريق مكة ورفع الجباية عنها، وأطلق الصدقات والصلات لسائر طبقات الناس من المسلمين، ثم تجاوز ذلك إلى أهل الذمة.

الفصل السادس
نوادر هذا الباب
هذا باب جد لا مدخل للنوادر فيه، لكني تكلفت منه ما شرطته في أول الكتاب من اتباع كل باب بنوادره، ووجدت ذلك يتهيأ فيما كان أصله جداً فعدل به إلى الهزل، وأصله هزلاً فاستعمل فيه الأدب والسياسة، أو ما حصل الإشتراك بينهما فيه، فحسن إضافته إليه من جهة الإشتراك، واقتصرت منه على ما لا تليق الحال بالزيادة عليه.
؟بلغ معاوية أن ابنته امتنعت على ابن عامر في الإفتضاض فخرج إليها يتوذف في مشيته، وفي يده مخصره، فجلس وجعل ينكت في الأرض ويقول:
من الخفرات البيض أما حرامها ... فصعب وأما حلها فذلول
وخرج ودخل ابن عامر فلم تمتنع عليه.
؟وقال معاوية: العيال أرضة المال.
؟قال أبو الزناد: كنت كاتباً لعمر بن عبد العزيز، وكان يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب في المظالم فيراجعه فيها، فكتب إليه: يخيل إلي أني لو كتبت إليك أن تعطي لرجل شاة لكتبت إلي: أضأن أم ماعز، ولو كتبت إليك بإحداهما: لكتبت: أذكر أم أنثى، ولو كتبت إليك بإحداهما لكتبت: أصغير أم كبير، فإذا أتاك كتابي هذا فلا تراجعني فيها.
؟وكتب أبو جعفر إلى سلم يأمره بهدم دور من خرج مع ابراهيم بن عبد الله بن الحسن وعقر نخلهم، فكتب إليه: باي ذلك نبدأ بالدور أم بالنخل ؟ فكتب إليه أبو جعفر: أما بعد فإني لو أمرتك بإفساد تمرهم لكتبت تستأذن بأيه تبدأ بالبرني أو الشهريز، وعزله وولى محمد بن سليمان مكانه.
؟قال (أبو ) عيسى بن المنجم: سمعت الصاحب يقول: ما أستأذن على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس إلا انتقل إلى مجلس الحشمة فيأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذل بين يدي وما زحني قد إلا مرة واحدة، فإنَّه قال لي في شجون الحديث: بلغني أنك تقول: المذهب الإعتزال والنيك نيك الرجال، فأظهرت الكراهية لانبساطه وقلت: بنا من الجد ما لا نفرغ معه إلى الهزل، وذهبت كالمغاضب، فمازال يعتذر إلي مراسلة حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها لما يجري هذا المجرى.

؟قال الوليد بن يزيد لابن ميادة: من تركت عند نسائك ؟ قال: رقيبين لا يخالفاني طرفة عين: الجوع والعري، فهذا البدوي قد ساس النساء بما يليق بهن إما اضطراراً أو تدبيراً أو رأياً.
عاتب المنصور أصحابه على أن أبق غلام له ولم يطلبوه ولم يخبروه قبل هربه بما عزم عليه، ووبخهم ونسبهم إلى ترك النصيحة له. فقال لهم ابن عياش المنتوف: ولوني جوابه، قالوا: أنت وذاك، فقال للرسول: تبلغه كما أبلغتنا ؟ قال: نعم، قال: أقرأ على أمير المؤمنين السلام وقل له إنك اخترتنا من بين عشائرنا وبلداننا فظننا أردتنا لأن نكون جلساءك والمجيبين للوفود إذا قدموا عليك، والخارجين لرتق الفتوق إذا انفتقت عليك، فأما إذ أردتنا لمن يأبق من غلمانك، فبزيع غلامك يريد أن يأبق فاستوثق منه.
؟وقف عبد الله بن الزبير على باب منة - مولاة معاوية كانت ترفع حوائج الناس إليه - فقيل له: يا أبا بكر تقف على باب منة ؟ قال: نعم، إذا أعيتك الأمور من رؤوسها فأتها من أذنابها.
؟قال العلاء بن أيوب: ما تكلم الفضل بن سهل قط بكلام فيه جفاء إلا مرة، فإنَّه ذكر الفضل بن الربيع فقال: ما يريد منا ؟ ألم نوجه إليه عبد الله بن أبي سمير؟ يريد أنه كان فحله.؟قال عنبسة بن سعيد: خرجت ليلة مع الحجاج فرأى رجلاً واقفاً على باب، فقال له: أما سمعت نداء الأمير ؟ قال: بلى. قال: فما حملك على الخروج ؟ قال: كنت ألازم غريماً لي فلما كان في هذا الوقت جاءني إلى هاهنا ودخل إلى هذه الدار، وأنا لا أظن إلا أنها داره، وبقيت واقفاً هاهنا. قال: ما أراك إلا صادقاً، يا حرسي اضربا عنقه، ثم مضى وأنا معه فرأى رجلاً واقفاً فقال له مثل ذلك، فقال له: كنت عند أمي وهي مثقلة بالعلة فأفاقت في هذه الساعة، وجاءتني امرأة فقالت: قد ولدت امرأتك، فعزمت علي أمي أن أمضي فخرجت، وهذا باب أمي وهذا بابي، فقال: ما أراك إلا صادقاً، يا حرسي اضربا عنقه. ثم مضى وأنا معه، فرأى رجلاً شارباً فقال: ألم تسمع نداء الأمير ؟ قال: بلى. قال: فما حملك على الخروج ؟ قال: خذلان الله وإنه ماصّ كذا أوكذا فقال: ما أحسبك إلا صادقاً خليا عنه.
؟لقي أبو العيناء الفتح بن خاقان في حاجة فوعده ثم لقيه فوعده، فلما كان في الثالثة ألفاه على حال ضجر، فقال له الفتح: أما علمت أنه من طالب السلطان احتاج إلى ثلاث خلال ؟ قال: وما هن، أعز الله الأمير ؟ قال: عقل وصبر ومال، فقال أبو العيناء: لو كان لي عقل لعقلت عن الله تعالى أمره ونهيه، ول كان لي صبر لصبرت منتظراً رزقي أن يأتيني، ولو كان لي مال لاستغنيت به عن تأميل الأمير والوقوف ببابه.
؟حدث مخلد بن زردي الكاتب المدائني وكان يلقب بلبد لطول عمره، أن المأمون أول ما قدم العراق حظر أن يقلد الأعمال إلا الشيعة الذين قدموا معه من خراسان فطالت عطلة كتاب السواد وعماله، وكانوا يحضرون في كل يوم حتى ساءت حالة أكثرهم فخرج يوماً بعض مشايخ الشيعة، وكان مغفلاً، فتأمل وجوههم فلم ير فيهم أسن من مخلد فجلس إليه وقال: إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أتخير ناحية من نواحي الخراج صالحة المرفق ليوقع بتقليدي إياها، فاختر لي أنت ناحية، فقال: إني لا أعرف لك عملاً أولى من زبدات البحر وصدقات الوحش وخراج وبار، فقال: اكتبه لي بخطك فكتبه، فذهب الشيعي حتى عرض الرقعة على المأمون وسأله تقليده ذلك العمل، فقال له: من كتب لك هذه الرقعة ؟ قال: شيخ من الكتاب يحضر الدار كل يوم، قال: هلمه، فلما أدخل قال له المأمون: ما هذا يا جاهل قد بلغ بك الفراغ إلى مثل هذا ؟ فقال: يا أمير المؤمنين أصحابنا هؤلاء ثقات يصلحون لحفظ ما تحصل استخراجه وصار في أيديهم، فأما شروط الخراج وحكمه وما يجب تعجيل استخراجه، وما يجب تأخيره، وما يجب إطلاقه، وما يجب منعه، وما يجب إيقافه، وما يجب الاحتساب به فلا يعرفونه، وتقليدهم يعود بذهاب المال، فإن كنت يا أمير المؤمنين لا تثق بنا فمر بأن نضم إلى كل رجل منهم رجلاً منا ليكون الشيعي لحفظ المال ونحن لجمعه، فرضي المأمون كلامه، وأمر بتقليد عمال السواد وكتابه، وأن يضم إلى كل واحد منهم واحد من الشيعة، وضم مخلد إلى ذلك الشيخ وقلده ناحية جليلة.

؟قيل كان محمد الأمين يلاعب الفضل بن الربيع بالنرد ورهنا خواتيمهما على القمر، فقمر محمد الفضل فصار خاتمه في يده، وكان نقشه، " الفضل بن الربيع " ونهض ليبول وهو معه، فدعا بنقاش فكتب تحت النقش في الفص " ينكح " ، ثم عاد إلى مجلسه وأحضر الفضل فكاك الخاتم فدفعه إليه، فلما كان بعد عشرة أيام دعا بالفضل وعاود ملاعبته، وأخذ الخاتم منه فتأمله وسأله عن نقشه فقال: اسمي واسم ابي، فقال له: أرى عليه شيئاً سوى ذلك، ودفع الخاتم إلى الفضل فتأمله فلما رأى ما أحدث في نقشه لم يتمالك أن قال: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد: 11) هذا خاتم وزيرك يختم به إلى جميع الآفاق منذ عشرة أيام، ومن كاتبه أخوك الذي يظهر أنك لست موضعاً للخلافة ويجمع خلعك، والله ما بقيت من هتك نفسك عند أوليائك والمنافقين لك والمصرحين ببغضك شيئاً وقد أتيته، وما يضر ذلك الفضل ولا الربيع والله المستعان، فما زاد محمد على الضحك.
؟كان ركن الدولة أبو الحسن على بن بويه ضعيف السياسة على خير فيه وكرم طبع، فخرجت له بغال للعلف فقطع عليها اللصوص وأخذوها، فلما أخبر بالحال قال: كم كانت البغال ؟ فقيل: ستة. قال: واللصوص ؟ قيل: سبعة. قال: الآن يختلفون، كان ينبغي أن تكون البغال سبعة حتى تصح قسمتها بينهم.
؟وذكر له أكراد قطعوا الطريق فقال: وهؤلاء الأكراد أيضاً يحتاجون إلى خبز ومعيشة.
؟ولى زياد شيبان باب عثمان وما يليه، فجد في طلب الخوارج وأخافهم، فلم يزل كذلك حتى أتاه ليلة وهو متكئ على بابه رجلان من الخوارج فضرباه بسيفهما فقتلاه، وخرج بنون له للإغاثة فقتلوا ثم قتلهما الناس، فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج فقال: اقتلوه متكئاً كما قتل شيبان، فصاح الخارجي يا عدلاه، يهزأ به.
؟قال بعض الملوك لوزيره وأراد محنته: ما خير ما يرزقه العبد ؟ قال: عقل يعيش به، قال: فإنَّ عدمه ؟ قال: أدب يتحلى به، قال: فإنَّ عدمه ؟ قال: حال تستره، قال: فإنَّ عدمه ؟ قال: صاعقة تحرقه فتريح منه العباد والبلاد.
؟قيل: لما صرفت اليمانية من أهل مزة الماء عن أهل دمشق ووجهوه إلى الصحارى كتب إليهم أبو الهيذام: إلى ابني استها أهل مزة، ليمسيني الماء أو لتصحبنكم الخيل، قال: فوافاهم الماء قبل أن يعتموا. قال أبو الهيذام: الصدق ينبي عنك لاالوعيد.
؟وكان أعرابي باليمامة والياً على الماء، فإذا اختصم اثنان وأشكل عليه القضاء حبسهما جميعاً حتى يصطلحا، وقال: دواء اللبس الحبس.
؟ولي أعرابي تبالة، فصعد المنبر، فما حمد الله تعالى ولا أثنى عليه حتى قال: اللهم أصلح عبدك وخليفتك، إن الأمير أصلحه الله ولاني عليكم، وأيم الله ما أعرف من الحق موضع سوطي هذا، وإني والله لا أوتى بظالم ولا مظلوم إلا ضربته حتى يموت، قال: فتعاطى القوم الحق بينهم فرقاً أن يتقدموا إليه.
؟أقبل عيينة بن حصن الفزاري قبل إسلامه إلى المدينة، فلقيه ركب خارجون منها، فقال لهم: أخبروني عن هذا الرجل - يعني النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا له: الناس فيه ثلاثة: رجل أسلم فهو معه يقاتل قريشاً والعرب، ورجل لم يسلم فهو يقاتله وبينهم التذابح، ورجل يظهر له الإسلام إذا لقيه ويظهر لقريش أنه معهم، قال: وما يسمى هؤلاء ؟ قالوا: المنافقون، قال: ليس في من وصفتم أحزم من هؤلاء، أشهدكم أني من المنافقين.
؟

الخولاني:
إن السياط تركن لاستك منطقًا ... كمقالة التمتام ليس بمعرب
؟شكت أعرابية زوجها إلى صواحب لها، فقلن: طلقيه، فقالت: أشِهدن أنه طالق ثلاثاً، فاختصموا إلى والي الماء، فتكلمت فقال لها: إيهاً أم فلان، لا تجوري فنحاربك، الزمي الطريق المهيع، ودعي بنيات الطريق، كيف قلت ؟ قالت قلت: هو طالق ثلاثاً، ففكر الوالي ساعة ثم قال: أراك تحلين له ولا أراه يحل لك.
؟تظلم قوم إلى المأمون من قاضي جبل، وذكروا أنه يعض رؤوس الخصوم، فوقع في قصتهم: يشنق إن شاء الله.
؟مدح بعض الشعراء محمد بن عبدوس صاحب الشرقية، فقال له: أما أن أعطيك شيئاً من مالي فلا، ولكن اذهب فاجن جناية حتى لا آخذك بها.
وما المال والأخلاق إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزود
متى ما تقد بالباطل الحق يأبه ... و إنّ قدت بالحق الرواسي تنقد

إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... ضللت وإنّ تدخل من الباب تهتد
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا كان الشغل مجهدة فإن الفراغ مفسدة.
قال سقراط: السبب الذي به أدرك العاجز حاجته هو الذي أقعد الحازم عن طلبته.
وقال فرفوريوس: لو تميزت الأشياء بأشكالها لكان الكذب مع الجبن، والصدق مع الشجاعة، والراحة مع اليأس، والتعب مع الطمع، والحرمان مع الحرص، والعز مع القناعة، والأمن مع العفاف، والسلامة مع الوحدة.
وقال أيضاً: لا يرفع أحد فوق درجته إلا فسد، ألا ترى إلى دودة النحل إذا جعلت في العسل كيف تموت؟ وقال آخر: السهر ألذ للمنام كما أن الجوع أزيد في طيب الطعام، وهذا مطرد في كل نعمة طيباً وموقعاً إذا جاءت بعد ضدها.
وقال آخر: من عرف الأيام لم يغفل الاستعداد.
وقال حكيم من اليونانين: السعادات كلها في سبعة أشياء: حسن الصورة، وصحة الجسم، وطول العمر، وكثرة العلم، وسعة ذات اليد، وطيب الذكر، والتمكن من الصديق والعدو.
وقال معاوية: الدنيا بحذافيرها الخفض والدعة.
وقال بعض الأدباء، وقد سئل عن العيش: العيش في الغنى فإني رأيت الفقير لا يلتذ بعيش أبداً، وقال السائل زدني، قال: الصحة، فإني رأيت المريض لا يلتذ بعيش أبداً، قال: زدني، قال: الأمن فإني رأيت الخائف لا يلتذ بعيش أبداً قال: زدني، قال: لا أجد مزيداً.
فهذا الكلام على كمال تقسيمه واستغراقه المعنى إنما أخذه من كلام النبي صلّى الله عليه وسلم الذي هوه أصل كل حكمة ومآلها: من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، له قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها.قيل لسقراط: ما الشيء الذي لا يستغنى عنه؟قال: التوفيق، قيل: ولم لم تقل العقل؟قال: العقل بما هو عقل لا يجدي عاجلاً وآجلاً دون التوفيق الذي به يهتدى إلى ثمرة العقل وينال درجة الانتفاع به.
قال صالح بن جناح العبسي:
ألا إنما الإنسان غمد قلبه ... و لا خير في غمد إذا لم يكن نصل
قال فيلسوف: كثير من الأمور لا تصلح إلا بقرنائها: لا ينفع العلم بغير ورع؟، ولا الحفظ بغير عقل، و لا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق.
قال علي عليه السلام: من كشف ضره هانت عليه نفسه.
ومن كلامه، الفقر يخرس الفطن عن حجته. المقل غريب في وطنه. العجز آفة. الورع جنة. نعم القرين الرضى. العلم وراثة كريمة. البشاشة حبالة المودة. إذا أقبلت الدنيا إلى أحد أعارته محاسن غيره وإذا أدبرت عنه سلبت محاسن نفسه. ما أضمر أحدكم شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه، (وروي لنا هذا الكلام عن النبي صلّى الله عليه وسلم ) ومثله قوله زهير:
ومهما تكن عند امرىء من خليفة ... و إنّ خالها تخفى عن الناس تعلم
ومن كلامه: امش بدائك ما مشى بك. قلوب الرجال وحشية فمن تألفها بالإحسان أقبلت إليه.من حذرك كمن بشرك.أوضع العلم ما وقف على اللسان وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان. إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به، ثم تلا: (إنّ أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي) (آل عمران: 68) الآية. ثم قال: إنّ ولي محمد من أطاع الله وإنّ بعدت لحمته، وإنّ عدو محمد من عصى الله وإنّ قربت قرابته.
وقال في صفة الغوغاء: هم الذين إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا، فقيل: قد علمنا مضرة اجتماعهم فما منفعة افتراقهم؟قال: يرجع أصحاب المهن إلى مهنهم فينتفع الناس بهم، كرجوع البناء إلى بنائه، والنساج إلى نسجه، والخباز إلى مخبزه.
ومن كلامه كرمك الله وجهه: (1)من لان عوده كثفت أغصانه.(2)في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال.(3)من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة (معناه أن ما ينفعه في سبل الخير والبر وإنّ كان يسيراً فإن الله يجعل الجزاء عليه عظيماً كثيراً).(4)الحجر الغضب في الدار رهن على خرابها.(وقد روي ذلك عن رسول صلّى الله عليه وسلم ) (5) إذا ازدحم الجواب خفي الصواب. (6) الحظ يأتي من لا يأتيه.(7) قليل تدوم عليه أرجى من كثير مملول.(8) كل معاجل يسأل الإنظار وكل مؤجل يتعلل بالتسويف. (9) كفى بالأجل حارساً.

وقال لسائل سأله عن معضلة: سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً، فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، وإنّ العالم المتعنت شبيه بالجاهل.
وقال كرم الله وجهه: قيام الدنيا بأربعة: عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف من التعلم، وغني لا يبخل بمعروفه، وفقير لا يبيع دينه. فإذا لم يستعمل العالم علمه استنكف الجاهل من التعلم عنه، وإذا بخل الغني بماله شره الفقير إلى الحرام، ففسدت الدنيا بكثرة الجهال والفجار.
وقال عليه السلام: الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمه الله ولا يؤمنهم من مكر الله، ولا يؤيسهم من روح الله، ولا يرخص لهم في معاصي الله تعالى.(2) لكل امرىء في ماله شريكان: الحوادث والوارث. (3) صواب الرأي بالدول ويذهب بذهابها. (4) العفاف زينة الفقر.(5) الشكر زينة الغنى.(6) من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، ومن رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته، ومن سل سيف البغي قتل به ومن كابد الأمور عطب، ومن اقتحم اللجج غرق، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن كثر كلامه كثر خطأه ومن كثر خطأه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل روعه ومن قل روعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار، ومن طلب شيئاً ناله أو بعضه.
وقال أيضاً: ألا إنّ من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب.ألا وإنّ من النعم سعة المال وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب. المنية ولا الدنية، التقلل ولا التوسل.
وسئل أيهما أفضل: العدل أم الجود ؟فقال: العدل سائس عام، والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما.
وقال: يغلب المقدار على التقدير حتى تكون الآفة في التدبير.وقد قارب ابن الرومي هذا المعنى في قوله: من الكامل.
غلط الطبيب علي غلطة مورد ... عجزت محالته عن الإصدار
و الناس يلحون الطبيب وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدار
وقال: إذا انقضت المدة كان الهلاك في العدة.
وروي أن يحيى بن خالد دخل إلى الرشيد في أول ما ابتدأت حاله في الفساد فرآه متخلياً فرجع، فاستعاده الرشيد، فقال: يا يحيى رأيتني خالياً فاتهمتني قال: والله يا أمير المؤمنين ما اعتمدت إلا مسرتك، ولكن إذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة.
قال عمرو بن مروان بن محمد: عرض أبي بظهر الكوفة ثمانين ألف عربي، ثم قال بعد أن وثق في نفسه بكثرة العدد والعُدد: إذا انقضت المدة لم تغن العدة.
وقال عليّ عليه السلام: رب مفتون بحسن القول فيه.
ومن كلامه عليه السلام: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا.
وقالت القدماء: الدنيا كالماء المالح متى يزدد صاحبه منه شرباً يزدد عطشاً وظمأ.
وقال أبرويز: إنما الكلام أربعة: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وخبرك عن الشيء، فهذه دعائم الكلام إن التمس إليها خامس لم يوجد، وإن نقص منها رابع لم تتم، فإذا طلبت فأسجح، وإذا أمرت فاحتم، وإذا أخبرت فحقق، وإذا سألت فأوضح.
قال الأصمعي: سمعت إعرابياً يقول: كما أن الصديق يحول بالجفاء عدواً، كذلك العدو يحول بالصلة صديقاً.
وقال آخر: شر المال ما لاينفق، وشر الإخوان الخاذل في الشدائد، وشر السلطان من خافه البريء، وشر البلاد ما ليس فيه خصب ولا أمن.
قال أفلاطون: لا تجبروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.
وقال: إذا أقبل الرئيس استجاد الصنائع، وإذا أدبر استغره الأعداء. إذا خبث الزمان كسدت الفضائل وضرت، ونفقت الرذائل ونفعت، وكان خوف الموسر أشد من خوف المعسر. إذا بلغ المرء من الدنيا فوق مقدار نفسه تنكر على الناس. إذا استعمل الرئيس النفاق لمن دونه ضاعت عوارفه.
قيل: أحق الناس بالهوان المحدث لمن لا يسمع منه، والداخل بين اثنين في حديث لم يدخلاه فيه، وآتي دعوة لم يدع إليها، وطالب المعونة من عدوه، والمتعمق في أحواله.
وقيل: الأدب يزيد العاقل عقلاً والأحمق شراً.
قال ابن مسعود: من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبخ نفسه.
سئلت إعرابية: ما السرور ؟فقالت: كفاية ووطن وسلامة وسكن.

وروي أن أنيساً وطارقاً ابني جندل من رجال كلب وفدا إلى ملك من ملوك غسان، وكان قد بلغه عنهما عقل وأحب أن يمتحنهما، فقال يا أنيس ما أنكأ الأشياء للقلوب، قال: فقر مكب وضرع إلى غير محب، قال يا طارق: ما أضر الأشياء على الملوك ؟ قال: عدو تسري مكايده، وجليس يبث حبائله، وصديق يودك ظاهره ويغولك باطنه. قال: فما الداء العضال ؟قال: ابن العم الحسود، كالسبع الرصيد يساء إن أثريت ويبجح إن اختبيت، قال: يا أنيس، ما الشقاء العاجل، قال: الحليلة الورهاء، خطابها عواء، ورضاها بكاء، وسخطها اجتراء، قال: يا طارق ما شر مصحوب ؟ قال: اللسان الذي لا يقيده الحجى ولا يردعه النهى، قال: يا أنيس ما الداء الذي لا شفاء له ؟ قال: الحسد الذي لا انقضاء له. قال: يا طارق ما الداء العياء؟ قال: البخل بالممكن الموجود، والأسف على الغائب المفقود. قال: يا أنيس ما العار الذي لا يرخص ؟ قال: إسلام الجار، والعجز عن حماية الذمار. قال: يا طارق ما أكرم الأخلاق ؟ قال: الجود في الإثراء والإملاق. قال: يا أنيس ما الشرف؟ قال: احتمال العظائم واجتناب المحارم. قال: يا طارق ما العز ؟ قال: حدب العشير، وكثرة النفير، والمعاونة على القليل والخطير.قال: يا أنيس ما الكرم ؟ قال: الوفاء بالذمم والبذل في الأزم. قال: يا طارق ما الشجاعة؟ قال: دفاعك عمن لا يلزمك له ذمام، وإقدامك حين تكره الإقدام. قال: يا أنيس ما أجلب الأشياء للمقت ؟ قال: العجب والخرق. فقال الملك: وأبيكما لقد استمجدتما أدباً، وترويتما لبا، وأحسن صلتهما.
قال معاوية: آفة المروءة الكبر وإخوان السوء، وآفة العلم النسيان، وآفة النسيان الكذب، وآفة الحلم الذل، وآفة الجود السرف، وآفة القصد البخل، وآفة المنطق الفحش، وآفة اللب العجب، وآفة الظرف الصلف، وآفة الحياء الضعف، وآفة الجلد الكسل، وآفة الرزانة الكبر، وآفة الصمت العي.
قال عبد الملك بن مروان: أربعة لا يستحيى من خدمتهم: السلطان والولد والضيف والدابة.
وقال: اطلبوا معيشة لا يقدر سلطان جائر على غصبها، قيل: وما هي، قال: الأدب.
وكان يقول: اللحن هجنة على الشريف والعجب آفة الرأي.
قال سهل بن هرون: ليس الري عن التشاف. من عاش غير خامل المنزلة وأفضل على نفسه وأصحابه فهو وإن قل عمره طويل العمر، ومن كان عيشه في وحدة وضيق وقل خيره على نفسه وعلى الناس فهو وإن طال عمره قصير العمر. وقد يبلغ الخصم القضم، ويركب الصعب من لا ذلول له.
والكلام الأول والأخير أمثال العرب.(المعنى في التشاف أن يشرب الرجل الشفافة كلها وهي بقية الماء في الإناء، يقول: قد يروى الشارب قبل بلوغ تلك، ومعنى المثلين الحض على الرضى بيسير الحاجة إذا أعوزه جليلها ).
قال مسلمة بن عبد الملك: ما حمدت نفسي على ظفر ابتدأته بعجز، ولا لمتها على مكروه ابتدأته بحزم.
وقال: مروءتان ظاهرتان: الرياش والفصاحة.
قال أبو العباس السفاح: إذا عظمت القدرة قلت الشهوة، وقل أن يوجد تبرع إلا ومعه حق مضاع.
وكان يقول: إن المقدرة تصغر الأمنية، لقد كنا نستكثر أموراً أصبحنا نستقلها لأقل من صحبناه، ثم يسجد شكراً.
قال بعضهم أنشدت المعتضد:
وما الأدب الموروث لا در دره ... إذا لم تؤيده بآخر مكتسب
فكان بعد ذلك إذا رأى هاشمياً لا أدب له ينشد البيت ويقول: الآداب خير من الأنساب، والأعمال خير من الأموال.
قال سعيد بن العاص: موطنان لا أعتذر فيهما من العي، إذا سألت حاجة لنفسي وإذا كلمت جاهلاً.
وقال: الولاية تظهر المحاسن والمساوئ.
قالت القدماء: الفاقة بلاء، والحزن بلاء، وقرب العدو بلاء وفراق الأحبة بلاء، والهرم بلاء، ورأس البلايا كلها الموت.نظر إلى هذا المعنى عمران بن حطان الخارجي فقال:
لا يعجز الموت شيء دون خالقه ... والموت فانٍ إذا ما ناله الأجل
وكل كرب أمام الموت متضع ... للموت والموت فيما بعده جلل

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19