كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون

قيل لما ولي أبو بكر بن عبد الله بن حزم المدينة وطال مكثه عليها، كان يبلغه عن قوم من أهلها تناول لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسعاف من آخرين لهم على ذلك، فأمر أهل البيوتات ووجوه الناس في يوم الجمعة أن يقربوا من المنبر، فلما فرغ من خطبة الجمعة قال: أيها الناس، غني قائل قولاً، فمن رعاه وأداه فعلى الله جزاؤه، ومن لم يعه فلا يعدمن ذماً، مهما قصرتم عنه في تفصيله فما تعجزون عن تحصيله، فأرعوه أبصاركم، وأوعوه أسماعكم، وأشعروه قلوبكم، فالموعظة حياة، والمؤمنون إخوة، وعلى الله قصد السبيل، ولو شاء لهداكم أجمعين. فاتقوا الله وأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغي ترشدوا، وأنيبوا إلى الله أيها المؤمنون لعلكم تفلحون. والله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه أمركم بالجماعة ورضيها لكم، ونهاكم عن الفرقة وسخطها منكم، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. جعلنا الله وإياكم ممن ينبع رضوانه ويتجنب سخطه، فإنما نحن به وله. إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين، واختاره على العالمين، واختار له أصحاباً على الحق، ووزارء دون الخلق، اختصهم به، وانتخبهم له، فصدقوه وعززوه ووقروه، فلم يقدموا إلا بأمره، ولم يحجموا إلا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده، فوصفهم بأحسن صفتهم، وذكرهم فأثنى فقال عز وجل وقوله الحق: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً. فمن غاظوه فقد كفر وخاب وفجر وخسر، قال الله عز وجل: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا إلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. فمن خالف شرائط الله تعالى عليه لهم، وأمره إياه فيهم، فلا حق له في الفيء، ولا سهم له في الإسلام، في آي كثير من القرآن؛ فمرقت مارقةٌ من الدين وفارقوا المسلمين، وجعلوهم عضين، وتشعبوا أحزاباً، وأشابات وأوشاباً، فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءه عليهم، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. أفمن كان على بينةٍ من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم. ما لي أرى عيوناً خزراً، ورقاباً صعراً، وبطوناً بجراً، وشجىً لا يسيغه الماء، وداءً لا يؤثر فيه الدواء. أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين، كلا بل والله هو الهناء والطلاء، حتى يطر العر ويبوح الشر، ويضح العيب، ويستوسق الجيب، فإنكم لم تخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى. ويحكم إني لست إتاوياً اعلم، ولا بدوياً أفهم، وقد حلبتكم أشطراً، وقلبتكم أبطناً وأظهراً، فعرفت أنجاءكم، وعلمت أن قوماً أظهروا الإسلام بألسنتهم وأسروا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعضٍ، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعواناً، يأذنون لهم ويصغون إليهم. مهلاً قبل وقوع القوارع، وحلول الروائع؛ ومع ذلك فلست أونب تأنيباً، عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه، والله عزيز ذو انتقام. فأسروا خيراً وأظهروه، واجهروا به أخلصوا، فطالما مشيتم القهقرى ناكصين، وليعلم من أدبر وأصر أنها موعظةٌ بين يدي نقمةٍ، ولست أدعوكم إلى هوىً يتبع، ولا إلى رأي يبتدع، إنما أدعوكم إلى الطريقة المثلى التي فيها خير الآخرة والأولى، فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمي فعن قصده. فهلموا إلى الشرائع لا إلى الخدائع، ولا تولوا غير سبيل المؤمنين، ولا

تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير بئس للظالمين بدلاً. وإياكم وبنيات الطريق، فعندها الرهق، وعليكم بالجادة فهي أسد وأرد، ودعوا الأماني فقد أردت من كان قبلكم، وليس للإنسان إلا ما سعى ولله الآخرة والأولى. لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذابٍ، وقد خاب من افترى. ربنا لا تزغ قلوبنا، بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب. الذي هو أدنى بالذي هو خير بئس للظالمين بدلاً. وإياكم وبنيات الطريق، فعندها الرهق، وعليكم بالجادة فهي أسد وأرد، ودعوا الأماني فقد أردت من كان قبلكم، وليس للإنسان إلا ما سعى ولله الآخرة والأولى. لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذابٍ، وقد خاب من افترى. ربنا لا تزغ قلوبنا، بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب.
خطب محمد بن الوليد بن عتبة بن أبي سفيان إلى عمر بن عبد العزيز وهو خليفة ابنته فزوجه وخطب فقال: الحمد لله ذي العزة والكبرياء، وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء، أما بعد، فقد أحسن بك الظن من أودعك حرمته، واختارك ولم يختر عليك، وقد زوجتك على ما في كتاب الله إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان.
قال الأصمعي خطب داود بن علي بالمدينة فأرتج عليه فقال: إن اللسان بضعةٌ من الإنسان، يكل بكلاله إذا نكل، وينبسط بانفساحه إذا ارتجل، ألا وإن الكلام بعد الإفحام كالإشراق بعد الإظلام، وإنا لا ننطق هذراً، ولا نسكت حصراً، بل ننطق مرشدين، ونسكت معتبرين، ونحن أمراء الكلام، فينا وشجت عروقه، وعلينا تهدلت غصونه، وبعد مقامنا هذا مقام، ووراء أيامنا أيام، يعرف فيها فصل الخطاب، ومواضع الصواب.
ومن الخطب في الاستسقاء روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج للاستسقاء، فتقدم فصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة، وكان يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وهل أتاك حديث الغاشية فلما قضى صلاته استقبل القبلة بوجهه، وقلب رداءه ثم جثا على ركبتيه، ورفع يديه وكبر تكبيرةً قبل أن يستسقي، ثم قال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، وحياً ربيعاً، وجداً طبقاً غدقاً، مونقاً عاماً، هنيئاً مريئاً، وابلاً سابلاً مسيلاً مجللاً دائماً درراً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير رائث، غيثاً اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر منا والباد. اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها، وأنزل علينا في أرضنا سكنها. اللهم أنزل علينا من السماء ماءً طهوراً، فاحي به بلدةً ميتاً، واسقه مما خلقت لنا أنعاماً وأناسي كثيراً.
تتابعت السنون على قريش فخرج عبد المطلب بن هاشم حتى ارتقى أبا قبيس، ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام، فقال: اللهم ساد الخلة، وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلم، ومسؤول غير مبخل، وهذه عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك، يشكون إليك سنتهم التي أكلت الظلف والخف، فاسمعن اللهم وأمطرن غيثاً مريئاً مغدقاً.
فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي ثجثجه، فقال شيخان قريش وجلتها: هنيئاً لك أبا البطحاء.
ومن خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

اللهم قد انصاحت جبالنا، واغبرت أرضنا، وهامت دوابنا، وتغيرت مرابضها، وعجت عجيج الثكالى على أولادها، وملت التردد في مراتعها، والحنين إلى مواردها. فارحم أنين الآنة، وحنين الحانة. اللهم وارحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في موالجها. اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين، وأخلفتنا مخايل الجود، وكنت الرجاء للمبتئس، والبلاغ للملتمس، ندعوك حين قنط الأنام، ومنع الغمام، وهلك الوسام، ألا تؤاخذنا بأعمالنا ولا تأخذنا بذنوبنا، وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق، والربيع المغدق، والنبات المونق، سحاً وابلاً تحيي به ما قد مات، وترد به ما قد فات. اللهم اسقنا منك سقياً محييةً مرويةً، تامةً عامةً، مباركةً، مريئةً، زاكياً نبتها، ثامراً فرعها، ناضراً ورقها، تنعش بها الضعيف من عبادك، وتحيي بها الميت من بلادك. اللهم اسقنا منك ديمة تعشب بها بلادنا، وتجري بها وهادنا، ويخصب بها جنابنا، وتعيش بها مواشينا، وتدنى بها أقاصينا، وتستغني بها ضواحينا، من بركاتك الواسعة، وعطاياك الجزيلة على برتك المرملة، وحشك المهلمة. وأنزل علينا سماء مخضلةً، مدراراً هاطلة، يدافع الودق منها الودق، ويحفز القطر منها القطر، غير خلب برقها، ولا جهام عارضها، ولا قزع ربابها، ولا شفانٍ ذهابها، حتى يخصب لإمراعها المجدبون، ويحيا ببركتها المسنتون، فإنك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك وأنت الولي الحميد.
غريب هذه الخطبة: انصاحت: أي تشققت؛ وهامت: من الهيام وهو داء يصيب الإبل من العطش فتكوى له مشافرها؛ والحدابير: جمع حدبار؛ وهي الناقة التي أنضاها السير، شبه بها سنة الجدب والقزع: القطع الصغار من السحاب؛ وقوله: ولا شفان ذهابها: أراد ذات شفان، والشفان: الريح الباردة؛ والذهاب: الأمطار اللينة.
ومن خطبة له عليه السلام: ألا وإن الأرض التي تحملكم، والسماء التي تظلكم مطيعتان لربكم، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجعاً لكم، ولا زلفةً إليكم، ولا لخير ترجوانه منكم، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا. إن الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر. وقد جعل الله الاستغفار سبباً لدرود الرزق، ورحمة الخلق، فقال: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً. فرحم الله امرءاً استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته.
إنا خرجنا إليك من تحت الأستار والاركان، بعد عجيج البهائم والولدان، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك، وخائفين من عذابك ونقمتك. الهم فاسقنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، يا ارحم الراحمين.
اللهم إنا خرجنا نشكو إليك ما لا يخفى عليك، حين ألجأتنا المضايق الوعرة، وأجاءتنا المقاحط المجدبة، وأعيتنا المطالب المتعسرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة. اللهم إنا نسألك ألا تردنا خائبين ولا تقلبنا واجمين ولا تخاطبنا بذنوبنا، ولا تقايسنا بأعمالنا. اللهم انشر عليك غيثك وبركتك ورزقك ورحمتك، واسقنا سقياً ناقعةً مرويةً معشبةً، تنبت بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات، نافعة الحيا، كثيرة المجتنى، تروي بها القيعان، وتسيل البطنان، وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار، إنك على ما تشاء قدير.
لما خرج عمر بالعباس يستسقي قال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك، وبقية آبائه وكبر رجاله، فإنك تقول وقولك الحق وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً، فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ نبيك في عمه، فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين. ثم أقبل على الناس فقال: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً.
قال الراوي: ورأيت العباس رضي الله عنه وقد طال عمره وعيناه تنضحان، وشيبته تجول على صدره وهو يقول: اللهم ا،ت الراعي فلا تهمل الضالة، ولا تدع الكبير بدار مضيعة، فقد ضرع الصغير، ورق الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى. اللهم فاغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا، إنه لا ييأس من روحك إلا القوم الكافرون.

قال: فنشأت سحابة،وقال الناس: ترون؟ ثم تلامت واستتمت ومشت فيها ريح ثم هدات ودرت، فوالله ما برحوا حتى اعتقلوا الحذاء وقلصوا الميازر، وطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين.
شهد أبو حنيفة نكاحاً فقالوا له تكلم، فقال: الحمد لله شكراً لنعمته، وسبحان الله خضوعاً لعظمته، ولا إله إلا الله إقراراً بتوحيده، وصلى الله على سيدنا محمد عند ذكره. إن الله عز وجل خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً، وكان ربك قديراً، على إن أحل النكاح وحرم السفاح وأمرنا بالإصلاح، ثم إن فلاناً خطب إلى فلان، فعلى اسم الله فلتكن الإجابة، وعلى الخيرة تكون منه العقدة، زوجت وأنكحت.
خطبة نكاح من إنشاء علي بن نصر الكاتب: الحمد لله أهل الحمد وخالقه، فاطر الخلق ورازقه، ومرشد المرء وواعظه، ومنزل الذكر وحافظه، الذي بسط الآمال ونشرها، وطوى الآجال وسترها، وأنشأ السحاب وأزجاه، وأنشأ العقاب وأرجاه، جل عن صفة الواصف، وتعالى عن معرفة العارف، ألا فإنه الله الذي لا إله إلا هو، وسع كل شيء رحمةً وعلماً. أحمده على ما نفع وضر، وأشكره على ما ساء وسر، وأستعينه على ما بهظ وأثقل، وأتوكل عليه في ما ألم وأعضل، وأومن به إيمان من اهتدى واستنصر، وأفوض أمري إليه تفويض من استقال واستغفر، وأشهد إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تغني من العسرة، وتقي الندامة يوم الحسرة، وتنفس كربة المكروب، وتضيء في ظلم الخطوب، وأشهد إن محمداً عبده ورسوله، انتخبه من أشرف أرومةٍ وعنصرٍ، وابتعثه أرأف هادٍ ومنذرٍ، فبلغ الرسالة، وأوضح الدلالة، وأدى الأمانة في ما سمعه، وخفض الجناح لمن اتبعه، وحذر من شاقه وعصاه، وأنذر من حاده وعاداه، مغمضاً على القذى، وواطئاً على جمرات الأذى، حتى غضب الله لحلمه، ونصره بأخيه وابن عمه، وجعلهما الله ومن اتبعهما الغالبين، فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين، صلى الله عليهما صلاةً غاديةً رائحةً، سانحةً بارحةً. ثم إن الله تعالى أمرنا بالتواصل والتكاثر، ومنعنا من التقاطع والتدابر، وخبرنا أنه خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً، وكان ربك قديراً. وهذا فلان يخطب فلانة.

دخل عبد الله بن الأهتم على عمر بن عبد العزيز مع العامة، فلم يفجأ عمر إا وهو ماثل بين يديه، فتكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الله خلق الخلق غنياً عن طاعتهم، آمناً معصيتهم، والناس يومئذ في المنازل والرأي مختلفون: فالعرب بشر تلك المنازل: أهل الحجر والوبر وأهل المدر الذين تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورفاهة عيشها، ميتهم في النار وحيهم أعمى، مع ما لا يحصى من المرغوب عنه والمرهوب منه. فلما أراد الله تعالى أن ينشر عليهم من رحمته، بعث إليهم رسولاً من أنفسهم عزيزاً عليه ما عنتوا، حريصاً عليهم، بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً. فلم يمنعهم ذلك أن جرحوه في جسمه، ولقبوه في اسمه، ومعه كتاب من الله ناطق وبرهان صادق لا يرحل إلا بأمره، ولا ينزل إلا بإذنه، واضطروه إلى بطن غارٍ. فلما أمر بالعزمة انبسط لأمر الله لونه، فأفلج الله حجته، وأعلى كلمته، وأظهر دعوته، وفارق الدنيا نقياً تقياً. ثم قام بعده أبو بكر، فسلك سنته، وأخذ بسبيله، فارتدت العرب، فلم يقبل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذي كان قابلاً منهم، فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران في شعلها، ثم ركب بأهل الحق إلى أهل الباطل، فلم يبرح يفصل أوصالهم ويسقي الأرض دماءهم، حتى أدخلهم في الذي خرجوا منه، وقررهم بالذي نفروا عنه. وقد كان أصاب من مال الله بكراً يرتوي عليه، وحبشية ترضع ولداً له، فرأى من ذلك غصةً في حلقه عند موته، فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وبرئ إليهم منه، وفارق الدنيا تقياً نقياً على منهاج صاحبه. ثم قام بعده عمر بن الخطاب، فمصر الأمصار، وخلط الشدة باللين، فحسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، وأعد للأمور أقرانها، وللحرب آلتها، فلما أصابه فتى المغيرة استهل بحمد الله ألا يكون أصابه ذو حق في الفيء فيستحل دمه بما استحل من حقه. وقد كان أصاب من مال الله بضعة وثنانين ألفاً، فكسر بها رباعه، وكسر بها كفالة أولاده من بعده، وفارق الدنيا تقياً نقياً على منهاج صاحبيه. ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظلعٍ، ثم إنك يا عمر ابن الدنيا، ولدتك ملوكها، وألقمتك ثديها، فلما وليتها ألقيتها حيث ألقاها الله، فلاحمد له الذي جلا بك حوبتنا، وكشف بك كربتنا، امض ولا تلتفت، فإنه لا يعز على الحق شيءٌ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات.
ولما أن قال: ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظلع، سكت الناس إلا هشاماً، فإنه قال: كذبت، كان عثمان هادياً مهدياً.
لما قام السفاح أبو العباس أول خلافته على المنبر، قام بوجه كورقة المصحف فاستحيا فلم يتكلم، فنهض داود بن علي عمه حتى صعد المنبر. قال المنصور، فقلت في نفسي: شيخنا وكبيرنا يدعو إلى نفسه، فانتضيت سيفي وغطيته بثوبي وقلت: إن فعل ناجزته، فلما رقي عتباً استقبل الناس بوجهه دون أبي العباس، ثم قال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله، ولأثر الفعال أجدى عليكم من تشقيق الكلام، وحسبكم كلام الله ممتثلاً فيكم، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفةً عليكم، والله قسماً براً لا أريد بها إلا الله، ما قام بهذا المقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق به من علي بن أبي طالب عليه السلام، وأمير المؤمنين هذا، فليظن ظانكم وليهمس هامسكم.
قال أبو جعفر المنصور: ثم نزل فشمت سيفي.
ولداود بن علي خطبة مشهورة، خطبها وأبو العباس على المنبر، صعد دونه بمرقاة فقال: شكراً شكراً، أظن عدو الله أن لن نقدر عليه، أرخى له في زمانه، حتى عثر بفضل خطامه، فالآن طلعت الشمس من مشرقها، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى النزعة، وصار الأمر إلى أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة. والله ما نزلنا مقهورين حتى أتاح الله لنا شيعتنا من أهل خراسان، والله رب هذه البنية لا يظلم منكم أحد، وأشار بيده إلى المسجد ثم نزل.

فقام سديف مولاهم إلى جنب المنبر فقال: أيزعم الضلال - حبطت أعمالهم - إن غير آل محمد أحق بالخلافة، فلم وبم؟ أيها الناس، ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة، الشركاء في النسب، الورثة للسلب، الخاصة في الحياة، الولاة عند الوفاة، مع ضربهم على الدين جاهلكم، وتأمينهم بعد الخوف سائلكم، وإطعامهم في اللأواء جائعكم؟ كم قصم الله بهم من جبار طاغٍ، ومنافقٍ باغٍ، وفاسقٍ ظالمٍ؟ لم يسمع بمثل العباس، لم تخضع له الأمة لواجب حق الحرمة، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبيه، وأمينه ليلة العقبة، ورسوله يوم مكة، وحاميه يوم حنين، لا يخالف له كلماً، ولا يعصي له قسماً. إنكم والله معشر قريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث اختار الله لنفسه طرفة عين، ما زلتم تختارون تيمياً مرةً وعدوياً مرة، فأصبحتم بين ظهراني قومٍ آثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، أهل خمورٍ وماخورٍ، وطنابير ومزامير، إن ذكروا لم يذكروا، وإن قوموا بحق أدبروا، بذلك كان زمانهم، وبه كان سلطانهم، حتى أتاكم من هذه الخرسية من لا تعرفون له وجهاً، ولا تثبتون له نسباً، فضربكم بالسيف حتى أعطيتموها عنوةً وأنتم صاغرون، وأنشد: من الكامل
أمست أمية قد تشتت شعبها ... شعب الضلال وشتتت أهواؤها
زعمت أمية وهي غير حكيمةٍ ... إن لن تزول ولن يهد بناؤها
وقضى الإله بغير ذاك فذبحت ... حتى تريع على الفجاج دماؤها
خطب سليمان بن علي فقال: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، قضاء فصل، وقول مبرم، فالحمد لله الذي صدق عبده وأنجز وعده، وبعداً للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غرضاً والدين هزؤا، والفيء إرثاً، والقرآن عضين، لقد ضل عنهم ما كانوا يستهزؤون، وكأين ترى من بئر معطلة وقصر مشيدٍ، ذلك بما قدمت أيديهم وما الله بظلام للعبيد، أمهلهم حتى اضطهدوا العترة وأمنوا الغرة، ونبذوا السنة، وخاب كل جبار عنيد، ثم أخذهم فهل تحس منهم من أحد أو تسمع له ركزاً.
وخطب عبد الله بن علي بما قدم مروان بن محمد دوراً: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار، ركض بكم يا أهل الشأم آل حرب وآل مروان، يتسكعون بكم الظلم،ويخوضون بكم مداحض المراقي، ويوطئونكم محارم الله تعالى ومحارم رسوله. فما يقول علماؤكم غداً عند الله تعالى إذ يقولون ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ذعفاً في النار فيقول: لكل ضعف ولكن لا تعلمون. أما أمير المؤمنين فقد ائتنف بكم التوبة، وغفر لكم الزلة، وبسط لكم الإقالة بفضله، فليفرح روعكم، ولتعظكم مصارع من كان قبلكم، فهذه الجثى منكم مصرعة، وبيوتهم خاوية، بما ظلموا والله لا يحب الظالمين.
ثم نزل عن المنبر.
وصعد بعده صالح بن علي فقال: الحمد لله، يا أهل النفاق وعمد الضلالة، أغركم لين الإبساس وطول الإيناس، حتى ظن جاهلكم أن ذلك لفلول حد وخور قناةٍ. فإذ استوبأتم العافية فغداً فطامٌ ونكالٌ، وسيفٌ يعض بالهام.

خطب زيد بن علي فقال: أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي من اكتفى بها كفته، ومن اجتن بها وقته، وهي الزاد وعليها المعاد، زادٌ مبلغٌ ومعادٌ منجٍ، دعا إليها أسمع داعٍ فوعاها خير واعٍ، فأعذر داعيها وفاز واعيها. عباد الله إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته حتى أسهرت ليلم وأظمأت هواجرهم، فأخذوا الراحة بالنصب، والري بالظمأ، واستقربوا الأجل، فبادروا بالعمل، وكذبوا الأمل، ولاحظوا الأجل. طوبى لهم وحسن مآب. ثم إن الدنيا دار فناء وعناء، وغير وعبر، فمن العناء أن المرء يجمع ما يأكل، وبيني ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله تعالى لا مالاً حمل ولا بناء نقل، ومن الفناء أن الدهر موتر قوسه، ثم لا تخطئ سهامه، ولا توسى جراحه، يرمي الحي بالموت، والصحيح بالعطب. آكلٌ لا يشبع، وشاربٌ لا يروى. ومن غيرها أنك تلقى المحروم مغبوطاً، والمغبوط محروماً، وليس ذلك إلا لنعيم زال، وبؤسٍ نزل. ومن عبرها أن المشرف على أمله يقطعه أجله، فلا أمل يدرك، ولا مؤمل يترك، فسبحان الله ما أغر سرورها، وأظمأ ريها، وأضحى فيها. فكأن الذي كان من الدنيا لم يكن، وكأن الذي هو كائن منها قد كان. صار أولياء الله فيها إلى الأجر بالصبر، وإلى الأمل بالعمل، جاؤوا الله تعالى في داره ملوكاً خالدين. إن الله عز وجل خلق موتاً بين حياتين: موت بعد حياةٍ، وحياة ليس بعدها موت. وإن أعداء الله نظروا فلم يجدوا شيئاً بعد الموت إلا والموت أهون منه، فسألوا الله عز وجل الموت فقالوا يا مالك ليقض علينا ربك، قال إنكم ماكثون. وإن أولياء الله نظروا فلم يجدوا شيئاً بعد الموت إلا والموت أشد منه، فسألوا الله الحياة جزعاً من الموت؛ ولكل مما هو فيه مزيد. فسبحان الله ما أقرب الحي من الميت باللحاق به، وما أبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه، وليس شيءٌ بخير من الخير لا ثوابه، وليس شيء بشر من الشر إلا عقابه، وكل شيءٍ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه. فليكفكم من السماع العيان، ومن الغيب الخبر. إن الذي أمرتم به اوسع مما نهيتم عنه، وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم، فذروا ما قل لما كثر، وما ضاق لما اتسع. وقد تكفل لكم بالرزق وأمركم بالعمل، فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم، مع أنه والله قد اعترض الشك ودخل اليقين، حتى كأن الذي ضمن لكم قد فرض عليكم،وكأن الذي فرض عليكم قد وضع عنكم. فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة الحياة ما يرجى من رجعة الرزق، فإن ما فات اليوم من الرزق يرجى غداً ارتداده، وما فات أمس من العمر لم ترج اليوم رجعته.

خطب محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا بن الحسن بن الحسن بن علي الخارج مع أبي السرايا، فقال: - وكان أبو السرايا قد انتهب قصر العباس بن موسى بن عيسى - أما بعد، فإنه لا يزال يبلغني أن القائل منكم يقول: إن بني العباس فيءٌ لنا نخوض في دمائهم، ونرتع في أموالهم،ويقبل قولنا فيهم، وتصدق دعوانا عليهم. حكم بلا علم وعزم بلا روية. عجباً لمن أطلق بذلك لسانه أو حدث به نفسه. أبكتاب الله عز وجل أخذ، أم لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ابتع؟ أو في ميلي معه طمع، أو بسط يدي له بالجور أمل؟ هيهات هيهات، فاز ذو الحق بما نوى، وأخطأ طالب ما تمنى، حق كل ذي حق في يده، وكل مدع على حجته. ويل لمن اغتصب حقاً وادعى باطلاً، وأفلح من رضي بحكم الله تعالى، وخاب من أرغم الحق أنفه. العدل أولى بالأثرة وإن رغم الجاهلون. حق من أمر بالمعروف أن يجتنب المنكر، ولمن سلك سبيل العدل أن يصبر على مرارة الحق. كل نفس تسمو إلى همتها، ونعم الصاحب القناعة. أيها الناس، إن أكرم العبادة الورع، وأفضل الزاد التقوى، فاعملوا في دنياكم، وتزودوا لآخرتكم، اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. وإياكم والعصبية وحمية الجاهلية، فإنهما يمحقاه الدين، ويورثان النفاق، خلتان ليستا من ديني ولا دين آبائي. وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، يصلح لكم دينكم، وتحسن المقالة فيكم. الحق أبلج، والسبيل نهج، والباطل لجلجٌ، والناس مختلفون، ولكل في الحق سعة. من حاربنا حاربناه، ومن سالمنا سالمناه. الناس جميعاً آمنون إلا رجلين: رجل نصب لنا نفسه وأعان علينا بماله، ولو شئت أن أقول، ورجل قال فينا يتناول من أعراضنا، قلت، ولكن حسب امرئ وما اكتسب وسيكفي الله الظالمين.
خطبة تنسب إلى يزيد: أيها الناس، سافروا بأبصاركم في كر الجديدين، ثم أرجعوها كليلةً عن بلوغ الأمل، فإن الماضي عظةٌ للباقي، ولا تجعلوا الغرور سبيل العجز فتنقطع حجتكم في موقف الله سائلكم فيه ومحاسبكم على ما أسلفتم. أيها الناس، أمس شاهد فاحذروه، واليوم مؤدب فاعرفوه، وغداً رسول فأكرموه، وكونوا على حذر من هجوم القدر. أعمالكم تطلق أبدانكم، والصراط ميدان يكثر فيه العثار، فالسالم ناجٍ، والعاثر في النار.
خطب محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله فقال: الحمد لله، احمده وأستعينه وأستغفره، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق داعياً، وبالعدل آمراً، وبالجنة مبشراً، ومن النار منذراً، وبلغ رسالته، وجاهد من عند عن سبيل ربه حتى أكمل الله له دينه، وأظهر حجته، وصلى الله عليه ولى آله كما صلى على إبراهيم وآل إبراهيم. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحضكم على طاعة الله، وأرضى لكم ما عند الله، فإن تقوى الله أفضل ما تحاث الناس عليه وتداعوا إليه، وتواصوا به، فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا، وأنفقوا خيراً لأنفسكم، ولا تغرنكم الدنيا فإنها غرارة، مغرور من اغتر بها، ألا ترونها لم ترفع أحداً إلا وضعته؟ ولم تعز جباراً إلا أذلته؟ ولم تذق أبناءها من حلاوتها إلا أعقبتهم سماً قاتلاً وذعافاً موبياً؟ قد أعدت لهم مصارع الردى ومدارج التلف لطول الحسرة والندامة، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها. فلمثل هذه تسعون، وفي مثلها ترغبون، وإليها تركنون، ولها تجمعون، وأنتم ترون مصارع الملوك الذين كانوا أكول منكم أعماراً، وأكثر منكم أموالاً وأعتد عتاداً فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين. فاحذروها كما حذركم الله فإنها بالموضع الذي وضعها الله، والصفة التي وصفها، قال الله عز وجل واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً، وقال عز وجل: أتبنون بكل ريع آيةً تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم جبارين الشعراء. فاعملوا عبد الله لدار المتقين، فإن الدار الآخرة هي الحيوان ودار المقامة التي لا تمس أهلها فيها نصبٌ ولا يمسهم فيها لغوبٌ.

خطب المأمون فقال: اتقوا الله عباد الله وأنتم فيمهل، بادروا الأجل ولا يغرنكم الأمل، فكأن بالموت وقد نزل، فشغلت المرء شواغله، وتركت عنه بواطله، وهيئت أكفانه، وبكاه جيرانه، وصار إلى المنزل الخالي بجسده البالي، قد فارق الرفاهية وعاين الداهية، فوجهه في التراب عفير، وهو إلى ما قدم فقير.

خطب لابن نباتة
الحمد لله الذي علا في ارتفاع مجده عن أعراض الهمم، وخلا باتساع رفده عن اعتراض التهم، وجلا قلوب أوليائه بينابيع الحكم،وهداهم بنور اجتبائه لأرشد نعم، أحمده على صنوف النعم، حمداً تضيق بإحصائه الكلم، واشهد أن لا غله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تشفي القلوب من السقم، وتكفي المرهوب من النقم، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، نقله في أطهر صلبٍ ورحم، واختصه بأحمد الأخلاق والشيم، وأرسله إلى العرب والعجم، وجعل أمته خير الأمم، فشفى الأسماع من الصمم، ووفى بالعهود والذمم، ونفى بنوره حنادس الظلم، صلى الله عليه وعلى أهل بيته أهل الفضل والكرم. أيها الناس، ما أسلس قياد من كان الموت جريره، وأبعد سداد من كان هواه أميره، وأسرع فطام من كانت الدنيا ظئيره، وأمنع جناب من أصبحت التقوى ظهيره. فاتقوا الله عباد الله حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، وتأهبوا لوثبات المنون، فإنها كامنةٌ في الحركات والسكون، بينما المرء مسروراً بشبابه، مغروراً بإعجابه، مغموراً بسعة اكتسابه، مستوراً عنه ما خلق له بما يغرى به، إذ سعرت فيه الأسقام شهابها، وأعلقت به ظفرها ونابها، فسرت فيه أوجاعه، وتنكرت عليه طباعه، وأظل رحيله ووداعه، وقل عنه منعه ودفاعه، فأصبح ذا بصر حائر، وقلب طائر، ونفس غابر، في قطب هلاك دائر، قد أيقن بمفارقة أهله ووطنه، وأذعن بانتزاع روحه من بدنه، فأومأ إلى حاضر عواده، موصياً لهم بأصغر أولاده، والنفس بالسياق تجدب، والموت بالفواق يقرب، والعيون لهول مصرعه تسب، والحامة تعدد عليه وتندب، حتى تجلى له ملك الموت - صلى الله عليه - من حجبه، فقضى فيه قضاء أمر به، فعافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وزود من ماله كفناً، وحصل في الأرض بعمله مرتهناً، وحيداً على كثرة الجيران، بعيداً على قرب المكان، مقيماً بين قومٍ كانوا فزالوا، وجرت عليهم الحادثات فحالوا، لا يخبرون بما إليه آلوا، ولو قدروا على المقال لقالوا، قد شربوا من الموت كأساً مرةً، ولم يفقدوا من أعمالهم ذرة، وآلى عليهم الدهر أليةً برةً، ألا تجعل لهم إلى دار الدنيا كرة، كأنهم لم يكونوا للعيو قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة، أسكتهم والله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم، وسيجدهم كما أخلقهم، ويجمعهم بعدما فرقهم، يوم يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً، يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً يوم تجد كل نفس ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوء تود أن بينها وبينه أمداً بعيداً. جعلنا الله وإياكم ممن قدر قدره، فقبل أمره، وأدام في الخلوات ذكره، وجعل تقوى عالم الخفيات ذخره، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
سمعت هذه الخطبة على الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن نبهان الغنوي الرقي مع غيرها من خطب ابن نباتة، وما رأيت مخبراً أعرف منه بما يقرأ عليه، كان يحفظ خطب ابن نباتة كأنما يقرأها من كفه، ويرد على القارئ من حفظه ولفظه.

وحدثنا من فيه قال: أخبرنا الشيخ الخطيب أبو القاسم يحيى بن طاهر بن محمد بن عبد الرحيم، قال: أخبرنا أبي طاهر عن أبيه محمد عن أبيه عبد الرحيم ابن محمد بن إسماعيل الفارقي، قال: لما عملت هذه الخطبة وخطبت بها يوم جمعةٍ، بت ليلة السبت فرأيت فيما يرى النائم كأني بظاهر مدينة ميافارقين عند الجبانة، ورأيت بين المقابر جمعاً كثيراً، فقلت: ما هذا الجمع؟ فقال لي قائل: هذا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الصحابة، فقصدته لأسلم عليه، فلما قربت منه التفت فرآني فقال: أهلاً ومرحباً يا خطيب الخطباء، كيف تقول - وأومأ إلى القبور - فقلت كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرةً، أسكتهم والله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم، وسيجدهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرقهم، يوم يعيد الله العالمين خلقاً جديداً،ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً، يوم تكونون شهداء على الناس - وأومأت إلى الصحابة، وأومأت إلى النبي صلى الله عليه وسلم - ويكون الرسول عليكم شهيداً يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوءٍ تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً. قال: فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أحسنت لا فض الله فاك، ادنه ادنه، قال: فدنوت منه فأخذ وجهي فقبله وتفل في في وقال: وفقك الله. فانتبهت من النوم وبي من السرور ما يجل عن الوصف، وأخبرت أهلي بما رأيت، وبقيت بعد هذا المنام لا أطعم الطعام ولا أشتهيه، وكان يوجد في فمي مثل رائحة المسك. قال شيخنا أبو القاسم رحمة الله عليه: ولم يبق بعد هذا المنام إلا قليلاً حتى توفي - رحمة الله عليه - ولو دون الأربعين سنة.
ومن خطبه: الحمد لله ناقض عزائم المخلوقين بإبرام عزمه، وقابض خزائم أنفس الآبقين لإلزام حكمه، وحال عقد الشبهات عن بصائر أهل وده، وفال عدد ذوي الرغبات عن محجة قصده، أحمده حمداً يستوجبه فضله، وأعلم أن اختلاف مقاديره عدله، وأشهد أن لا غله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أجدد بها في مقامٍ مقالاً، وأمجد بها ذا الجلال والإكرام تعالى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله والحق خافيةٌ صواه، واهيةٌ قواه، حل حرمه، فل عصمه، طامسةٌ أعلامه، دراسةٌ أحكامه، منكورةٌ أيامه، مبتورةٌ أوذامه، فأقدم صلى الله عليه وسلم على أعداءه على الإقرار بوحدانيته، حتى دك رعان البهتان فأصحرها، وفك أركان الطغيان فدمرها، وأطلع شمس اليقين وندب إليها، وشرع شرائع الدين فأوضحها لديها، صلى الله عليه وعلى آله صلاةً تسوق ثوابه بين يديها، وتؤمن عقابه من أمن من العالمين عليها.

أيها الناس، أسيموا القولب في رياض الحكم، وأديموا النحيب على ابيضاض اللمم، وأطيلوا الاعتبار بانتقاض النعم، واجتلوا الأفكار في انقراض الأمم، الذين كانوا من قبلكم في الأرض قاطنين، وعلى مهاد الخفض مستوطنين وبعهود الأيام واثقين، وإلى غايات الأماني سابقين، ممن تبوأ عرعرة دهر أصبحتم بحضيضه، وتملى صفو زمان جاد عليكم بقروضه، حتى إذا استحكمت فيهم طماعية التخليد، واستولت عليهم رفاهية التمهيد، وقادوا الخليقة بأزمة الرغب والرهب، وسارت بهم الدنيا مسير التقريب والخبب، وعموا عن مناصب أشراك جدها في مراعي اللعب، ولهوا عما يدل عليه الاعتبار فيها من سوء النقلب، رغا في وسط ديارهم سقب العطب، وأعدى فيهم الهلاك إعداء الجرب، وأوقعت بهم المون إيقاع الغضب، وأدت إليكم الأيام من أخبارهم أنواع العجب، سحبت عليهم الهوج أذيال نقائمها، وحلبت عليهم المنون سجال غمائمها، فأضحوا رهائن أجداثٍ موصدة، وودائع قبورٍ ملحدة، ذهبوا والله فلم يرجعوا، وندبوا فلم يسمعوا، وأزعجوا فلم يمنعوا، واستضيموا فلم يدفعوا، أتراهم رضوا بدار الغربة داراً، أم آثروا قرار الوحشة قراراً؟ لا والله ما اختاروا فرقة الأحباب، والكون تحت أطباق التراب، ولكن صال عليهم القضاء فأطرقوا، وطال عليهم فتمزقوا، فليت شعري ماذا قيل لهم وماذا لقوا؟ أسعدوا بمكتسبهم في الآخرة أم شقوا؟ فهلم عباد الله إلى محاسبة النفوس، قبل مواثبة النحوس، ومقارنة الرموس، ومعاينة اليوم العبوس، يوم غض الرؤوس، وفض الطروس، والفحص عن المحسوس والملموس، بين يدي الملك القدوس يوم تشقق السماء بالغمام، ونزل الملائكة تنزيلاً يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً. يوم ندعو كل أناس بإمامهم، فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلاً. يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً. طيبنا الله وإياكم بطيب كتابه، وأدبنا وإياكم بآدابه، ووقفنا وإياكم للأخذ بصوابه، ووفقنا وإياكم عند ما أمرنا به، إن أولى ما اهتديتم بإرشاده، وأحق ما صدقتم بوعده وإبعاده، كلام من جعلكم من خير عباده، ويقرأ فكلا أخذنا بذنبه...

الحمد لله المدرك المقيت، المهلك المفيت، المنشر المميت، مالك أزمة الجمع والتشتيت، الذي فات حدود الاوصاف والنعوت، واحتجب عن الأبصار بعز الملكوت، سبحانه له الخلق خضوع قنوت، وهو الواحد الحي الذي لا يموت، أحمده حمداً يمري سبل عهاد رزقه، ويوري شعل زناد الشكر في خلقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً كر على اللسان لفظها، وقر في مقر الجبنان حفظها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بوجه طلق، ولسان ذلق، وشرع صدق، ودينٍ حق، فصد عن سبيل الهلكة، وأمد باليمن والبركة، حتى صارت الكلمة سدداً، والأمة في الحق شرعاً أحداً، صلى الله عليه وعلى آله صلاةً لا تنقطع عدداً، ولا تنقضي أبداً. أيها الناس، إن ضياء نهار المشيب في إظلام ليل اللحى والرؤوس، حقق عند الفطن اللبيب قرب انهدام القوى واخترام النفوس، ذلك المضيف واغلٌ، وسيفٌ لموصول الحياة فاصل، ونورٌ طالعٌ بأفول النسم، ومنشورٌ بالأشخاص إلى محل الرمم، فلا تحرقوا - رحمكم الله - نور مشيبكم بنار ذنوبكم، وارمقوا غير الحوادث بأبصار قلوبكم، تركم ما خفي عنكم من عيوبكم، فكما حل بكم من المشيب ما تكرهون، فكذلك يحل بكم الموت، أفلا تنتهون؟! ألا وغن الشيب ثغر الحياة الذي لا يمكن سداده، وكسر القناة الذي لا يصلح الدهر ما تنصف من الثمار آن جداده، ويا معشر الشباب كم من زرع أباده قبل البلوغ الهدم في البناء. فما بقاء من صحته في دنياه سقمه، وغنيمته من الحياة غرمه، ومقامه فيها سفر، وأيامه بتقلبها عبر، تريه إعطاء ما تسلبه، وبناء ما تخربه، وبعيداً ما تقربه، وعتيداً ما تجنبه. فيا عجباً لأمورٍ بالتزود قد حان سفره، وأقام من تقدمه عليه ينتظره، وهو خلي من التأهب لرحلة تذكره، مع صحة علمه ا، المنية لا تؤخره. فرحم الله امرءاً أهمه معاده، وتقدمه زاده، وكان إلى التقوى انقياده، ولهواه جهاده، قبل إخلاق الجدة، وإنفاق المدة، وانهدام العدة، واقتحام الشدة، قبل هطلان الرخصاء، وبطلان الأعضاء، وضيق رحب الفضاء، وحيرة الفتور والإغضاء، لورود حتم القضاء، هنالك صالت عليك بسطوتها شعوب، وحالت عن سجيتها اللعوب، ورقت لكرب سياقك القلوب، وشقت على قرب فراقك الجيوب، وطلعت سافرةً عن صفحتها المخدرة العروب، إذ حان منك في ظلمات التراب غروب. فأنيبوا أيها الغافلون إذ كنتم موقنين أنكم صائرون إلى هذا المصير، وأذيبوا جامد الدموع بنيران الزفير، وأطيبوا التزود لوشك المسير، واستجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير. جعلنا الله وإياكم ممن أدبته العبر، وهذبته الفكر، فأملت عليه غرر الأمور أنباء عواقبها، وتجلت له ستر المحذور عن لألاء قواضبها، فاستعظم في بقية عمره ادخار الحسنات، واستعصم بهضبة الحق من شر أم هو آت. إن أحسن نظم اللاقط ونثره، وأبلغ وعظ الواعظ وزجره، كلام من تطمئن القولب بذكره. ويقرا: والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئاً، إن الله عليم قدير.
ومن خطبة لقطري بن الفجاءة المازني الخارجي:

من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. ألا فبئست الدار لمن أقام فيها، فاعملوا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها عما قليل، فإنها كما وصفها من أنشأها، وكما ذمها من ابتدأها، فقال: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيءْ مقتدراً. من ذم الله أعمالهم كيف حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً، وأنزلوا فلا ينزلون ضيفاناً، وجعل لهم من الضريح أكفاناً، ومن التراب أكناناً، ومن الرفات جيراناً، فهم جيرة وهم أبعاد، متناؤون لا يزورون ولا يزارون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى دفعهم، ولا يرجى منعهم، كما قال الله عز وجل: وكم أهلكنا قبلكم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً، وقال تبارك وتعالى: فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين، استبدلوا بظهر الأرض بطنها وبالسعة ضيقاً، وبالأهل غربةً، وبالنور ظلمةً، فجاوروها كما فارقوها، حفاةً عراةً فرادى، غير ا،هم ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، وغلى خلود الأبد، فكانوا كما قال الله عز وجل: ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق، وضل عنهم ما كانوا يفترون، فاحذروا ما حذركم الله، فإنه قد أعذر وأنذر، ووعد وأوعد لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل يقولوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى. عصمنا الله وإياكم بطاعته، ورزقنا وإياكم أداء حقه.
قال مالك بن دينار رضي الله عنه: غدوت إلى الجمعة، فقعدت قريباً من المنبر، فجاء الحجاج فصعد المنبر، فذكر الله وحمده ومجده وأثنى عليه، وصلى على محمد نبيه ثم قال: امرؤ تزود عمله، امرؤ حاسب نفسه، امرؤٌ فكر فيما يقرؤه فس صحيفته ويراه في ميزانه، امرؤٌ كان عند قلبه زاجرٌ وعند همه ممسك، امرؤٌ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل يخطام حمله، فإن قاده إلى طاعة الله تبعه، وإن قاده إلى معصيته كفه.
خطبة منبرية من إنشاء علي بن نصر الكاتب: الحمد لله الذي برا الخلائق تفضلاً، وجعل من الملائكة رسلاً، وانتخب من عباده صفوةً أنزل عليهم وحيه، وحملهم أمره ونهيه، وابتعثهم مبشرين، وأرسلهم منذرين، ليهلك من هلك عن بينةٍ، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، جل عن الأشباه والأنداد، وتقدس عن الصاحب والأولاد، وعز عن الإدراك بالجوارح، وتنزه عن الظلم والقبائح، وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ذو العلم المحيط بكل شيء، والقدرة القابضة لنفس كل حي، والعزة المالكة لكل قلب، والرحمة الواسعة لكل ذنب.
أحمده منعماً لا يأس من رحمته، وأعوذ به منتقماً لا ملجا من سطوته، وأستعينه ناصراً لا غالب لجنده، وأومن به مصدقاً لقوله ووعده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تجبر نقائص الأعمال، وتعفر خطايا الأقوال والأفعال، وتكون زاداً للسفر إليه، وعتاداً ليوم العرض عليه. واشهد إن محمداً عبده ورسوله، انتخبه من أكرم أرومةٍ ولباب، ونقله في أطهر متون وأصلاب، حتى برز والأنوار تضيء بين يديه، والشواهد تنم إلى قلوب ذوي الإيمان عليه، فما زال مقبولاً محبباً، ومتبوعاً مرحباً، نطقه الحمد والاستغفار، وشعاره السكينة والوقار، إلى أن دنا الأمد المضروب لإظهاره،وبلغ الأجل المكتوب في إنذاره، فأرسله - صلى الله عليه - على حين فترة امتدت أشطانها، وفتنةٍ تمرد شيطانها، حين فتحت الغواية أبواباً، واتخذت الأصنام أرباباً، وافتريت على الله الأباطيل، وعبدت دونه الصور والتماثيل، فجهر بكلمة الصدق، وصدع بدعوة الحق، ودل على الدين القويم، وهدى إلى الصراط المستقيم، حتى بدا الإسلام مشرقاً، واستنبط الكفر نفقاً، وظهر أمر الله وهم كارهون. صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم، صلاةً دائمةً تلاقيه وتصافحه، وسلاماً يغاديه ويراوحه، وشرفاً ينمي إذا ذوت الحدائق، وكرامة تبقى إذا فنيت الخلائق، وعلى أهل بيته وناصريه، وصحابته وموازريه، وذوي الرتبة الفائتة للمساعي، والدرجة العالية عن المرعي والراعي.

أوصيكم عباد الله وإياي بتقوى الله، وأحذركم الدنيا فإنها منزل مكر وأطماع، ودار غرور وخداع، وطريق ميل واعوجاح، ومحل قلعة وانزعاج، درتها مقطوعة، ونفرتها ممنوعة، وعقدها مجذوذ، وعهدها منبوذ، بينا هي مقبلة حتى تدبر، ومستأنسة حتى تنفر، ومسعدة حتى تخذل، ومصحبة حتى تحرن، صحتها أسقام، ولذتها أحلام، ونعيمها بوس، وأسعدها نحوس، من سكن إليها فتنته، ومن اعتمد عليها أسلمته، ومن همت باقتناصه استهوته، ومن نهيت عن اعتباطه أهرمته، المرء فيها حليف هموم وأشجان، وأليف غموم وأحزان، وطليح نصب ولغوب، وطريح نوب وخطوب، فالسعيد من فقه أغراضها، والسليم من كره أعراضها، والعزيز من زهد في عاجلها، والنزيه من صدف عن باطلها، عالماً بعظم عنائها، وموقناً بوشيك انقضائها، ومنقطعاً عنها إلى ربه، بخلوص من سريرته وقلبه، يسهر ليله اعتباراً، ويسكب دمعه حذاراً، ويفني وقته استغفاراً، قد أيقن بسرعة المنقلب، وتحقق ألا وزر ولا مهرب، فهو يرهب الفارط من الإجرام، ويفرق الواقع من الانتقام،فذلك المكتوب من الخائفين، وعسى أن يكون من المفلحين، والشقي من اغتر بتعاليلها، واستمر في غيها وأضاليلها، وصبا إلى خضراء دمنها، ولها عن طارق لأوائها ومحنها، واستعزر الحلب من أخلافها، واستمرأ العذب من نطاقها، لا يرى لها انقطاعاً، ولا يخشى على درتها مصاعاً، فهو على لذاتها منهمك، وبحبال خدعها متمسك، يسحب فيها ذيل الأشر الخليع، وينقاد إليها انقياد المؤتمر المطيع، نومته على السكر والمزمار، وصبحته على النشوة والخمار، لا يلتفت إلى نوبها التي أقرحت الجفون، ومناياها التي أفنت القرون، ولا يرى عليه من أجله رقيباً، ووراءه من خالقه طليباً، ينتزعه من يد الناصر ولا يجد امتناعاً، ويسلبه لفتة الناظر فلا يستطيع دفاعاً، فذاك المعدود من الأخسرين أفعالاً، والمحسوب من الأضلين أعمالاً.
فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، واعتدوا لدنو الأجل وميقاته، واعملوا لقبر لحده مظلم، وسفر يخاف فيه سوء المقدم، واحذروا الموت قبل التوبة، وعض الأنامل يوم الاوبة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. جعلنا الله وإياكم ممن ائتمر وازدجر، وعلم استبصر، واعتبر وتذكر، واستقال واستغفر، استغفروا الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

نوادر الخطب
خطب وال باليمامة فقال: إن الله لا يقار عباده على المعاصي، وقد أهلك أمة عظيمة في ناقةٍ ما كانت تساوي مائتي درهم، فسمي مقوم الناقة.
خطب عدي بن وثاب فقال: أقول كما قال العبد الصالح: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلى سبيل الرشاد. قالوا: ليس هذا قول عبد صالح إنما هو قول فرعون، قال: من قاله فقد أحسن.
صعد بعض الأعراب على المنبر في عمله يخطب، فقال: والله إن أكرمتموني أكرمتكم، وإن أهنتموني أهنتكم، ولتكونن أهون علي من ضرطتي هذه، ثم ضرط.
ولي المهلب بعض الأعراب كورةً بخراسان، وعزل والياً كان بها، فلام وردها الأعرابي وصعد المنبر حمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس اقصدوا لما أمركم الله تعالى به، فإنه عز وجل رغبكم في الآخرة الباقية، وزهدكم في الدنيا الفانية، فرغبتم في هذه ونبذتم تلك، فيوشك أن تفوتكم الفانية، ولا تحصل لكم الباقية، فتكونوا كما قال الله: لا ماءك أبقيت ولا حرك أنقيت، واعتبروا بهذا المعزول عنكم كيف سعى فصار ذلك إلي على رغم أنفه، وصار كما قال في محكم كتابه: مجزوء الخفيف
انعمي أم خالد ... رب ساع لقاعد
قال الأصمعي: ولي أعرابي تبالة، فصعد المنبر فلم يحمد الله ولم يثن عليه، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن الأمير أعزه الله ولأني بلدكم، وإني والله ما أعرف من الحق غير مقدار سوطي، وإني لا أوتى بظالمٍ ولا مظلومٍ إلا أوجعته ضرباً. فكانوا يتعاطون الحق بينهم ولا يترافعون إليه.
ولي العلاء بن عمرو بلاد سارية، وكان جائراً، فأصاب الناس القحط، وأمسكت السماء مطرها، فخرجوا يستسقون، وصعد العلاء المنبر فقال في دعائه: اللهم ارفع عنا البلاء والغلاء. فوثب معتوه كان بها فقال: والعلاء، فإنه شر من الغلاء، وأغلظ من جميع البلاء. فضحك الناس وخجل العلاء وانصرف.

استعمل المنصور سلماً الكلبي - وكان أخاه من الرضاعة - على الري، وكان أعرابياً، فاستعمل أخاه ناصحاً على أذربيجان، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اللهم اجعل بصري في طاعتك بصر الصقر، وقوتي في مرضاتك قوة النمر، وعمري في محبتك عمر النسر، اللهم أصلح أمير المؤمنين صلاحاً، وأمتع به متاعاً يا هناه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ ثم نزل. فأتاه نعي فأظهر الجزع وأرجف به أهل عمله، فصعد المنبر وقال: أيها الناس أظننتم أن موت ابني كسرني؟ فوالله ما كنت قط أجراً على الله وعليكم مني الساعة، فأدوا خراجكم. فبلغ المنصور ذلك، فوجه إليه فعزله.
خطبة في الطلاق، لبعض الظرفاء: الحمد لله الذي جعل في الطلاق اجتلاباً للأرزاق، فقال تعالى: وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته، أوصيكم عباد الله بالقساوة والملالة، والتجني والجهالة، واحفظوا قول الشاعر: من الخفيف
اذهبي قد قضيتُ منك قضائي ... وإذا شئت أن تبيني فبيني
خطبة نكاح لبعض الظرفاء: تعاهدوا نساءكم بالسب، وعاودوهن بالضرب، وكونوا كما قال الله تعالى: واهجروهن في المضاجع واضربوهن، ثم إن فلاناً في خمول نسبه، ونقصان أدبه، خطب إليكم فازهدوا فيه، فرق الله بينهما، وعجل لهما حينهما.
خطب رجل خطبة نكاح فأطال، فقام بعض القوم فقال: إذا فرغ هذا فبارك الله لكم، فعلي شغل.
حصر عبد الله بن عامر على منبر البصرة، فاشتد جزعه، فقيل إن هذا مقام صعب فامتحن فيه غيرك، فأمر وادع بن مسعود أن يصعد ويخطب، فلما ابتدأ الكلام حصر فقال: لا أدري ما أقول لكم، ولكن أشهدكم أن امرأتي طالق، فهي التي أكرهتني على حضور الصلاة.
ثم أمر آخر فصعد المنبر ونظر إلى أصلع، فقال: اللهم العن هذه الصلعة. خطبة خطبها القاضي أبو بكر ابن قريعة في دار أبي اسحاق الصابي: الحمد لله الذي تين فوزر، وعنب فرزق، ورطب فسكر، وخوخ فشطب، وكمثر فخثر، ومشمش فصفر، وبطخ فعسل، وتفح فعطر، وموز فأنضج، ودقق فجوز، وجردق فسمذ، وبورد فكثر، وسكرج فلوز، وملح فطيب، وخلل فسقنج، وخردل فحرف، وبقل فخضر، وقثا فدقق، وبورن فنعم، ومصص فحمض، وطجن فجفف، وسنبس فثلث، وسكبج فزعفر، وهرس فصولج، وبصل فعقد، وسبذج فصعد، وسمق فمزز، وطبهج فحرف، وبيض فعجج، وجدا فرضع، وبطط فسمن، ودجج فصدر، وفرخ فشام، وحبب فبرز، وجوذب فخشخش، ورزز فألبن، وخبص فلوز، وفلذج فحمر، وقطف فعرف، ولوزج فسكر.
أحمد على الضري الطحون، والفم الجروش، والحلق البلوع، والمعدة الهضوم، والسفل النثور، والذكر القؤوم، والغداء والعشاء، والفطور والسحور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق السموات ومحلل الطيبات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، مبيح المحللات، وحاظر المحرمات وإن أبا إسحاق إبراهيم بن هلال، أرشده الله، أطعمنا فصدرنا، وماهنا فأثلجنا، وسقانا فروانا، ومد ستارته فأسمعنا وأطربنا، واستنشدناه فأنشدناه، واستحدثناه فحدثنا، فارفعوا أيديكم إلى اللع عباد الله، فالدعاء له بما يرد ثواب فعله إليه، ويسهل الدعوة الثانية عليه، إنه قريب مجيب، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين آخر باب الخطب والحمد لله وحده ويتلوه إن شاء الله باب المكاتبات والرسائل وصلى الله على سيدنا محمد آله وسلم

الباب الحادي والثلاثون
في المكاتبات والرسائل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مجزل العطايا والقسم، منزل البلايا والنقم، ومعلم الإنسان بالقلم، خصه منه بأنواع المنافع والفوائد، وجعل الغائب به في حكم الشاهد، يرى به البعيد النائي كالقريب الداني، ويبرز ما في الضمير، مستغنياً عن الوسيط والسفير، زاد على فضيلة اللسان بأن ناجى القاصي كماجاة الداني، وبما له من الضبط الباقي على الحقب والأزمان يجمع المتفرق ويحصره، وينبه الناسي ويذكره، لولاه تلاشت العلوم بالنسيان الإنسي، ولم يحو نشرها الفكر البشري، وضاعت الحقوق المضبوطة بالأشهاد، ولم يقم بآدابها قلب حافظ ولا فؤاد، وأبلاها طول التقادم، وأنساها السهو الموكول بهذا العالم.

اللهم فكما واليت علينا من إحسانك، فلا تؤاخذنا بالتقصير في شكر امتنانك، واجعل لنا في كل نعمة آتيتنا حظاً يدنينا من عفوك ورضوانك، وصل على محمدٍ النبي الأبي الذي منعته الشعر والكتاب، وآتيته الحكمة وفصل الخطاب، وجعلت علمه بالأولين والآخرين مع عدمهما من دلائل نبوته وخصائص رسالته، وجمعت له بذاك معاني الإعجاز والبراهين، وتكذيب من قال: إن هذا إلا أساطير الأولين. وصلى الله على محمد وآله الغر الميامين.
الرسائل والمكاتبات أبسط من الشعر مقالاً، وأفسح مجالاً، وإن كان أربابها أقل عدداً فإنهم أشرف محلاً ومحتداً، وقد ذكر الصابي الفرق بين المترسل والشاعر فأجاد، وحكم فأنصف، وسأذكر رسالته هذه في أثناء الباب. وقد اقتصرت على ما تضمن معنىً بديعاً، ولفظاً فصيحاً، أو سيرةً معربة، أو قضيةً معجبة، وتجنبت الإكثار إذ كان استقصاء فنونها واستغراق فصولها يحتاج إلى كتاب مفرد، ويكون وإن أطيل مختصراً. وكانت القدماء توجز المكاتبات وتختصرها، وتقنع من الألفاظ بمبلغها، وترى الإطالة عجزاً والإيجاز إعجازاً، ولذلك قال يحيى بن خالد لأولاده: إن استطعتم أن تكون كتبكم كلها توقيعات فافعلوا. وعدل الناس الآن إلى الإسهاب، واعتاضوا عن البلاغة بالتفريغ في الألفاظ، فمن البليغ الموجز ما قال الله عز وجل حكايةً عن كتاب سليمان عليه السلام: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين.
وكانت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم كلها مختصرةً، وهو صلى الله عليه وسلم الذي لا خلاف في فصاحته عند المقر والجاحد، بلسانه نزل القرآن بلسانٍ عربي مبين.
كتب إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني،صاحب دمشق: سلام على من ابتع الهدى وآمن بالله، فإني أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك.
وكتب إلى أبرويز بن هرمز ملك فارس: من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حياً، أسلم تسلم، وإن أبيت فعليك إثم المجوس.
فهذا ونحوه ما كان يكتب عنه صلى الله عليه وسلم، ومكاتبات الصدر الأول على هذا النمط كانت، إلا ما يتضمن بلاغاً أو حجاجاً، فيكون الإسهاب فيه أنجع وأوقع، وقد مضى في هذا الكتاب من كتبهم المختصرة وفقرهم ما تجده متفرقاً في أماكنه اللائقة به.
وقد كتب بعضهم إلى متلومٍ مترجح بين الطاعة والمعصية: أما بعد، فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فاعتمد على أيتهما شئت. فهذا غاية الإيجاز مع قوة الإعذار في الإنذار.
وكتب عبد الحميد بن يحيى عن مروان بن محمد إلى أبي مسلم كتاباً يدعوه إلى الطاعة ويخوفه عاقبة الفتن يحمل على جمل من حجمه، وضمن إن قرأه وسمعه من يطيف به أنه يعود إلى الطاعة أو تتفرق كلمتهم، وهذا عكس الاول في الإطناب والإطالة. واعتمد أبو مسلم على إحدى الرجلين وبالغ في الإيجاز، فلم يقرأ الكتاب وأعاده وكتب عليه: من الطويل
محا السيف أسطار البلاغة وانتحب ... عليك ليوث الغاب من كل جانب
فإن تقبلوا نعمل سيوفاً شحيذةً ... يهون عليها العتب من كل عاتب
كتب معاوية إلى أبي موسى بعد الحكومة وهو بمكة عائذ بها من علي عليه السلام، وأراد بذلك أن يضمه إلى أهل الشام: أما بعد، فإنه لو كانت النية تدفع خطأ لنجا المجتهد وأعذر الطالب، ولكن الحق لمن قصد له فأصابه، ليس لمن عارضه فأخطأه، وقد كان الحكمان إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما، وقد اختار القوم عليك، فاكره منهم ما كرهوه منك، وأقبل إلى الشام فهي أوسع لك.
فكتب إليه أبو موسى: أما بعد فإني لم أقل في علي إلا ما قال صاحبك فيك، إلا إنني أردت ما عند الله تعالى، وأراد عمروٌ ما عندك، وقد كان بيننا للمحكوم عليه الخيار، فإنما ذلك في الشاة والبعير، فأما في أمر هذه الأمة فليس أحد آخذاً لها بزمام ما كرهوا، وليس يذهب الحق بعجز عاجز ولا مكيدة كايد، فأما دعاؤك إياي إلى الشام، فليست بي عن حرم إبراهيم عليه السلام رغبة، والسلام.
قيل ثلاثة تدل على عقول أصحابها: الكتاب والهدية والرسول.

قال زياد: ما قرأت كتاب رجل قط إلا عرفت عقله فيه، وما رأيت مثل الربيع بن زياد رجلاً: ما كتب إلي كتاباً قط إلا جر منفعةً أو دفع مضرة، ولا سألته عن شيء قط إلا وجدت عنده منه علماً، ولا ناظرته في شيء إلا وجدته قد سيق الناس فيه، ولا سايرني قط فمست ركبته ركبتي.
ومن رسالة لعبد الحميد بن يحيى في الفتنة: ففي طاعة الأئمة في الإسلام ومناصحتهم على أمورهم، والتسليم لما أمروا به، حفظ كل نعمة فاضلة، وكرامة باقية، وعافية مجللة، وسلامة ظاهرة وباطنة، وقوة بإذن الله مانعة، وفي الخلاف عليهم والمعصية لهم ذهاب كل نعمة، وتفرق كل كرامة، ومحق كل عصمةٍ، وهلاك كل سلامة وألفة، وموت كل عزة وقوة، والدعاء لكل بلية، ومقارفة كل ضلالة، واتباع كل حهالة، وإحياء كل بدعة، وإماتة كل سنة، واجتلاب كل ضرر على الأمة،وإدبار كل منفعة، والعمل بكل جور وباطل، وإفناء كل حق.
وبمعصية خليفة الله لا يزال رجل من المسلمين يضرب بسيفه الذي في يديه سيف أخيه الذي كان يعتمد عليه، ويوهن عضده، ويهدم حصنه، ويقل عدده، ويهلك ثروته، وينفرد من ناصره، ويعطب من يدعوه ويفزع إليه، ويكثر بمكانه، ويحرسه من غفلته عن الأعداء إذا غفل، ويكون عيناً له من خلفه فلا يزال بالمعصية منهم والاختلاف دم يهراق بغير حقه، وطفل من أبناء المسلمين قد يتم من أبيه، ومذلة قد دخلت عليه، ونعمة قد زالت عنه، ووحشةٌ حدثت، وضغائن في القلوب قد نشبت، وشحناء قد ظهرت، وأوتار قد بقيت، وعداوة في النفس قد استقرت، وخوف قد ظهر، وسبل قد قطعت، وامرأة قد أرملت، وصبية قد يتمت، وبلاد عامرة قد خربت، وعدد قد نقص، وبلايا قد عمت وشملت، وعدو قد شمت، ومنافق قد رفع إلى إلى ما كان يؤمل رأسه، وعدو من المشركين قد طمع، وقوي بعد ضعف، وعز بعد مذلة، ورعية قد ضاعت، وناعبة قد ولولت، وحميم قد قتل حميمه، ومودة قد صارت عداوةً، واجتماع من الأهواء قد عاد إلى فرقة، وأرحام قد تقطعت. فانظروا يا معشر المسلمين ماذا تفعل الفتنة والمعصية، وكيف يدب الشيطان بها، ويسعى فيها، ويحتال يخديعته ومكره ولطيف مسالكه، حتى يلهبها ويشعلها، ويرفعها من قلتها إلى الكثرة، ومن صغرها إلى كبرها، فإنه إنما يبدأ بالطعن على الولاة، ثم يترامى إلى الشكاة والسخط والغضب، وزين لهم القتال، فبلغ الهلاك الأعظم والشر الأكبر، بطرف أمر صغير الخطر في الظاهر عظيم البلية في الباطن، فلا يزال الرجل ينظر منهم إلى قاتل أبيه وأخيه وحميمه وذوي قرابته وأهل مودته، والنافع - كان - له، ثم يحمل العداوة في قلبه، والحقد في نفسه، والضغينة العظيمة عليه، ويستعد للنقمة منه، وطلب الذحل عنده، فتثبت تلك الضغائن في الأبناء بعد الآباء. فانظروا يا أهل الإسلام من أين دب الشيطان بلطيف مسالكه، وعلى أي شيء ورد، وإلى أي أمر ترامى حتى عم بالمعصية أهل الإسلام عامة.

ومن كلامه - يعني عبد الحميد - في الطاعة: أما بعد، فإن الله تباركت أسماؤه، وجل ثناؤه، وتعالى ذكره، اختار لنفسه من الأديان والملل كلها الإسلام، ثم جعل أهله الذين أكرمهم به، واصطفاهم له، خيرته من عباده وأهل صفوته، وبعث به إليهم نبيه صلى الله عليه وسلم، وسماهم المسلمين، وهو الذي شرع لساكني سماواته من ملائكته، ولأهل الأرض من أنبيائه، ثم بعثهم به فقال: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى إلى آخر الآية. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالات ربه ونصح لأمته، ومضى لأمره، وجاهد على حقه من خالفه وعاداه وابتغى سبيلاً غير سبيله، ثم آمن به وصدقه وعززه ونصره، واتبع النور الذي أنزل معه، وهم يومئذ قليل مستضعفون في الأرض، يخافون أن يتحفظهم الناس كما وصفهم الله تبارك وتعالى في كتابه، أمراً رضيه لنفسه ونبيه، ابتعثه له حتى أتم الله الإسلام وكمله وفضله وجعله دينه، وأعلم حقه من شاء من عباده وخلقه، وبين لهم أنه إلههم وربهم، أمرهم بطاعته، والاعتصام بحبله، والتمسك بعهده، ثم توكل لهم بالحفظ والدفع والنصر والقهر، والظهور على من خالفهم، وابتغى غير سبيلهم، ما حفظوا أمره، وتمسكوا بطاعته، ووفوا بعهده، والله ولي الإسلام، والناصر له على عدوه، وولي إعزازه وإظهاره على الدين كله ولو كره المشركون، قضاء منه بتاً لا مرد له، وموعداً لا خلف له، وسنة ماضية في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً. فإن الله بعهده ونعمته لم يزل يصنع لهذا الدين، ويغلب له بالفئة القليلة من أهله الفئة الكثيرة من عدوه، قضاء منه أوجبه على نفسه، لم يجعل فيه مثنوية، تصغي إليه أفئدة أهل الريبة والشك في أمره، ولكن حتمه على نفسه، وأوجبه لهم في كتابه، وأعلمهم فيه معالم طاعته ومسالك معصيته، ليهلك من هلك عن بينةٍ، وإن الله لسميع عليم. فدين الله الذي خص به أولياءه أولهم وآخرهم، تام على ما بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن الله ختم به الأنبياء، وقفى به الرسل، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وجعل الله نظام الدين الذي اختاره لنفسه، وشرعه لمن أكرم من خلقه، فارتضى لتنزيل وحيه من ملائكته، وتبليغ رسالاته من أنبيائه، إلى عباده. وقوامه وعصمته الطاعة التي جمع الله فيها شعب الخير وأنواع البر ومناقب الفضل، وجعلها واصلةً بالإسلام سبباً إلى كل هدىً وفضيلة، واختياراً لكل سعادة وكرامة، في عاجل وآجل، مع ما توكل به من حفظها ومنعها، والذب عن حرمتها، والنصر لمن جاهد عليها، والإعلاء لمن أوجبها له من ولاة الحق وأنصار الدين، والإظهار لهم على من خالفهم ونكب عن سبيلهم، وأراد المفارقة لحقهم، إلى ما كان اعد لحزبها وأوليائها الذين نصرهم الله وأحلهم - بما لزموا منها وحدبوا عليها من التمسك بها - في رضوان الله والنعيم المقيم لا تغيير له ولا انقطاع ولا زوال، عطاء من ربك غير مجذوذ. وجعل المعصية شقاء وخساراً وتباراً، وسبباً لكل نقص وذل وهوان وحسرة، فمن اعتصم بها، وأقام عليها، ودعا إليها، كان من إخوانها والغواة فيها، مع ما يريهم الله في عاجل أمرهم: من إدحاض حجتهم، وسوء مصارعهم، وقطع مددهم، وتفريق نظامهم، وإزهاق باطلهم، وإظهار أهل الطاعة عليهم، وإمكانه منهم في كل مجمع يجمع الله منهم جماعة، إلى ما أعد الله لهم من أليم العقاب، وسوء الحساب، وشديد العذاب، لا يفتر عنهم، ولا هم فيه مبلسون. فمن أراد الله إسعاده وتوفيقه وتبصيره حظه لزم الطاعة وعرف حقها، وما جعل الله فيها من السعة والعصمة والمخرج، وآثرها وواظب عليها، وكان من أهلها، وأدى الحق الذي أوجبه الله عليه لوليها إليه، فأحرز بذلك نفسه، وسلم به دينه، واستكمل به أفضل ما يرغب به من ثواب ربه، ولم يكن متخوفاً للغير في دنياه، متوقعاً للنقم، متوكفاً للقوارع أحلت بأهل المعصية والخلاف والمفارقة للحق وأهله، وكان من ذلك في أمنٍ ونجاةٍ وسلامةٍ وعافيةٍ. ومن أراد الله به غير ذلك، لما يعلم من ضميره ودفينه، تخلى منه، وأسلمه إلى قرينه وما يسول له من غروره، ويمنيه من أباطيله، فاستشعروا ركوبها ودخلوا مع الغواة فيها، ودعوا إليها، فكانوا خائفين، ولائذين مترقبين للدوائر التي يخافون أن تحل بهم، وتأتي عليهم. فغن الله تعالى يقول:

ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد.ا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد.
وأمير المؤمنين يسأله أن يلهمه الرأفة والرحمة برعيته، والإصلاح إليهم، والمعدلة فيهم، وأن يلهم رعيته الطاعة والوفاء والمنصاحة، ويزيد المحسن منهم إحساناً، ويقبل توبة التائب، ويراجع المسيء إلى محبته، وأن يلهمه وإياكم خالص الشكر وصالح العمل.
أمر المأمون أحمد بن يوسف أن يكتب في الآفاق بتعليق المصابيح في المساجد في شهر رمضان، قال: فأخذت القرطاس لأكتب فاستعجم علي، ففكرت طويلاً ثم غشيتني نعسة فرأيت في النوم قائلاً يقول لي: اكتب فإن في كثرة المصابيح إضاءةً للمتهجدين، وأنساً للسابلة، ونفياً لمكامن وتنزيهاً لبيوت الله عز وجل عن وحشة الظلم.
قال حمدون بن إسماعيل: دخلت على المأمون يوماً وهو في بعض صحون بساتينه يمشي حافياً، وفي يده كتاب يصعد بصره فيه ويصوبه، فالتفت إلي وقال: أحسبك راعك ا رأيته، قلت: وأي شيء أروع لي من نظري لي سيدي يمشي حافياً ويقرأ كاباً قد شغله وأذهله، فقال لي: إني سمعت الرشيد يقول شيئاً لم أتوهمه ينسبك على حقيقته، وهو انه قيل لبعض البلغاء: ا البلاغة؟ قال: التقرب من المعنى البعيد، والتباعد من حشو الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير؛ وهذا كتاب عمرو بن مسعدة، قد أتى في حرفين بما كان يأتي به غيره في طوماء، وصف حال الجند وطاعتهم. ثم دفعه إلي، فإذا فيه: كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وأجناده، من الانقياد للطاعة على أحسن ما تكون طاعة جند تأخرت أرزاقهم واختلت أحوالهم، والسلام.
ثم قال: أشهد أني قد قضيت حق هذا الكلام وكتبت إلى جندي بأعطياتهم، وتركتهم لا يتمنون موتي، وأمرت بالزيادة في أرزاقهم.
كتب احمد بن سعد الكاتب: وقديماً غرقت الفتن أبناءها، واسكنتهم ربعها، وأرضعتهم درها، وألحفتهم ظلها، واسحبتهم ذيلها، ونقلتهم في مراتع الغرور، وأرتهم الثقة بدوام السرور، والأمن لعوارض المحذور وعواقب المقدور، فتمادوا في منهج الضلال، وتراموا في مسلك الفساد، وتشعبوا في طريق الغي، حتى إذا تم الرضاع، ونجم الفطام، وآن لحكم الله أن يمضي، ولبأسه أن ينزل، سلط الله عليهم سيوف الحق، فصاروا لأهله جزراً، وللباطل وأهله عبراً، وللمواعظ السالفة نتيجةً، وللمواعد المحدودة حقيقةً، ولبصيرة ذوي البصائر قوةً، ولثقة أهل العصمة مادة، ولسوط العذاب نمصباً، ولنار الجحيم حطباً، وما الله بظلام للعبيد.
فصل: من معقل إلى عقال، ومن أجل إلى آجال.
عبد الحميد في ذكر الفتنة: فإن الفتنة تستشرف بأهلها، متشوفةً بآنق منظر، وأزين ملبس، تجرر لهم أذيالها، وتضريهم وتعدهم تتابع دراتها حتى ترمي بهم في حدرات أمواجها مسلمة لهم، تعدهم الكذب وتمنيهم الخدع، فإذا لزمهم عضاضها، ونفر بهم شماسها، تخلت عنهم خاذلة لهم، وتبرأت منهم معرضة عنهم، قد سبلوا أجمل لباس دينهم، واستنزلوا عن حصن دنياهم، الغني البهي منظره، الجميل أثره، حتى تطرحهم في فضائح أعمالهم إلى الإيجاف في التعب وسوء النمقلب، فمن آثر دينه على دنياه، تمسك بطاعة ولاته، وتحرز بالدخول إلى مرضاته في الجماعة، تاركاً لأثقل الأمرين وأوبل الحالين.
فصل: فزرعوا الضغائن في قلوبكم، وغرسوا أشجار الإحن في صدوركم، وأوقدوا نيران الأحقاد بينكم، الله الله في ذكر الحمية وفخر الجاهلية، وملاقح الشنآن، ومنافح الشيطان.
فصل: حتى أعنقوا في حنادس ظلم جهالته، ومهاوي سبل ضلالته، ذللاً على سياقه، وسلساً في قياده، إلى نزل من حميم،وتصلية جحيم، سوى ما ألقحت الحفيظة في نفسه من عوائد الحسد، وقدحت الحمية في نفسه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في سحره من ريح الكبر، مضادةً لله تعالى بالمناصبة، ومبارزةً لأمير المؤمنين بالمحاربة، ومجاهرة للمسلمين بالمخالفة.

فصل من كتاب للمأمون، وقد ولى عبد الله بن طاهر في فتنة: ممتدة إلى الفتن أعناقهم، متطلعةً إليها أنفسهم، مرتاحةً لها قلوبكم، مصيخةً إلى دعواها أسماعهم، فلم تذك للفتنة نار إلا منهم ساعر يشب ضرامها، إما موجفاً ركابه، مبدياً صفحته في مباشرتها، وإما مورياً عن نفسه يدب الخمر، ويستتر تحت الشبه، ليحسب أنه بمعزل عنها، ونافذ كيده يسري في تسهلها.
أحمد بن سعد من كتاب فتح: الحمد لله العظيم شأنه، العلي مكانه، المنير برهانه، القوي سلطانه، الذي ابتدع الخلق بحكمته، وأنشأهم بقدرته، وأجرى الأمور على مشيئته، وصرفها على إرادته، وحكم لأوليائه وأهل طاعته، الذائدين عن حريمه، المانعين لحوزته بالإعلاء والتمكين، والنصر والتأييد، وعلى أعدائه الغامطين لنعمته، الناهكين لحرمته، الساعين بالفساد في بلاده، والعدوان على عباده، بالخذلان والتشريد، والنكال المبيد.
ومن رسالة له في السلم: فاكتفوا في المعرفة به جل جلاله بخبر العقول وشهادة الأفهام، ثم استظهر لهم في التبصرة، وعليهم في الحجة، برسل أرسلهم، وآياتٍ بينهان ومعالم أوضحها، ومنارات بمسالك الحق رفعها، وشرع لهم الإسلام ديناً، وارتضاه واصطفاهن وفضله واسناه، وشرفه وأعلاه، وجعله مهيمناً على الدين كله ولو كره المشركون، وقرن العز بحزبه وأهله، فقال عز من قائل: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأيده بأنبيائه الداعين إليه، والناهجين لطرقه، والهادين لفرائضه، والمخبرين عن شرائعه، قرناً بعد قرن، وأمة بعد أمة، في فترة بعد فترة، وفئة بعد فئة، حتى انتهى بقدره جل ذكره إلى مبعث النبي الأمي، الفاضل الزكي، الذي قفى به على الرسل، ونسخ بشريعته شرائع الملل، وبدينه أديان الأمم، على حين فترة وترامي حيرةٍ، فأباخ به نيران الفتن، بعد اضطرامها، وأضاء به سبل الرشاد بعد إظلامها، على علمٍ نمه تعالى ذكره، بما وجد عنده من النهوض بأعباء الرسالة، والقيام بأداء الأمانة، فأزاح بذلك العلة وقطع المعذرة، ولم يدع للشاك موضع شبهة، ولا للمعاند دعوى مموهة، حتى مضى حميداً فقيداً، تشهد له آثاره، وخلف في أمته ما أصارهم به إلى عطف الله ورحمته، والنجاة من عقابه وسخطته، إلا من شقي بسوء اختياره، وحرم الرشد بخذلانه، صلى الله عليه وعلى آله أفضل صلاة وأعمها، وأوفاها وأتمها.

والحمد لله الذي خص سيدنا الأمير بالتوفيق، وتوجه له بالإرشاد والتسديد، في جميع أنحائه ومواقع آرائه، وجعل همته - إذ كانت الهمم إلى خدع الدنيا صادفة، وزخارفها التي تتجلى بها لأبنائها وتدعو إلى نفسها - مقصورةً إلى ما يجمع له رضى ربه، وسلامة دينه، واستقامة أمور مملكته، وصلاح أحوال رعيته، وأيده في هذه الحال العارضة، ولاشبهة الواقعة، التي تحار في مثلها الآراء، وتضطرب الأهواء، وتتنازع خواطر النفوس، وتعتلج وساوس الصدور، ويخفى موضع الصواب، ويشكل منهج الصلاح، بما اختاره له من السلم والموادعة والصلح والموافقة التي أخبر عن فضله، والخير الذي في ضمنه يقوله بقوله: والصلح خير وقوله: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها. فأصبح السيف مغموداً، ورواق الأمن ممدوداً، والهواء متفقةً، والكلمة مجتمعةً، ونيران الفتن والضلالة خامدةً، وظنون بغاتها الساعين لها كاذبة، وطبقات الأولياء والرعية بما أعيد إليهم من الأمنة بعقب الخيفة، والأنسة بعد الوحشة، مستبشرين، وإلى الله في إطالة بقاء الأمير راغبين، وفي مسألته مخلصين. ولو لم يكن السلم في كتاب الله مأموراً به، والصلح مخبراً عن الخير الذي فيه، لكان فيما يتنظم من حقن الدماء وسكون الدهماء، ويجمع من الخلال المحمودة ولفضائل المعدودة المقدم ذكرها، ما حدا عليه، ومثل للعقول السليمة والآراء الصحيحة موضع الخيرة فيه، وحسن العائدة على الخاص والعام، فيما ينجلي للعيون من مشتبهات الظنون، إذ الريب واقع، والشك خالج بين المحق والمبطل، والحق والباطل، والجائر والمقسط، وقد قال الله عز وجل: لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم، ناظراً للمسلين من معرة أو مضرة تلحق بعضهم بغير علم، ومؤثراً تطهيرهم من ظنن العدوان، مع رفعه عنهم فرطات النسيان، وكافاً أيدي المسلمين عن المشركين، كما كف أيديهم عن المسلمين، تحسناً على بريته، وإبقاء على أهل معصيته، إلى أن تتم لهم المحنة للذي ارتآه، والأمر الذي ارتضه، وموقع الحمد في عاقبته ،والسلامة في خاتمته، وبلغه من غايات البقاء أمدها، ومن مواقع العيش أرغدها، مقصراً أيدي النوائب عما خوله، ومغضوضياً أعين الحوادث عما نوله، إنه جواد ماجد.
وفي مثل ذلك: الحمد لله ذي النعمة السابغة، والحكمة البالغة والبلاء الجميل، والعطاء الجزيل، الذي جعل بعد عسر يسراً، وبعد ضنك رحباً، وبعد تناء تدانياً، وبعد تعاد تصافياً وحباً، وأعقب افتراقاً من المتشاحنين اعترافاً، واختلافاً ائتلافاً، وتدابراً تناصراً، وتخاذلاً تظاهراً، نظراً لخلقه وعائدةً عليهم، واعتماداً لما فيه مصالح آخرتهم ودنياهم، ومدح الصلح وحدا عليه، وحمد السلم إذا جنح الخصم إليه، فقال عز وجل من قائل: والصلح خير وقال: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وألف بين القلوب في سبيله، ولأمها في نصرة رسوله، وقال: هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، والف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم، إنه عزيز حكيم وصان المسلمين - عند الفتح العام للبلد الحرام، وإظهار الإسلام على الدين كله، والإدالة من الكفر وأهله - عما يلحق من في دارهم من مسلم أو مسلمة - غمرتها الجملة وأخفت من موضعها الشبهة - من مضرة، وسماها للمسلمين معرة، وجعلها واصلة إليهم إذا وصلت إلى أولئك منهم، فقال جل ذكره: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم فحماهم من يسير الإثم، وإن كان ساقطاً بعد العلم؛ واختار لهم الخلوص من الشوائب في الدين وجعل هذه الغلال الرضية والخصال الحميدة لهم أدباً ولمصالحهم سبباً، فندلهم لها، وأرشدهم إلى سوابق نعمه، ونفائس قسمه، التي بدا بها قبل الاسيجاب، وأوجب على شكرها حسن الثواب، حمداً يرتفع إليه، ويزكو لديه، ويمضي ما فرض في تحميده، ويوجب ما يأذن به من مزيده، وصلى الله على محمد عبده وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، والمبعوث لإحياء دينه ونصرة حقه، وعلى الطيببين من آله وسلم تسليماً.

وفي مثل ذلك... الحمد لله مقلب القلوب وعالم الغيوب، الجاعل بعد عسر يسراً، وبعد عداوة وداداً، وبعد تحارب اجتماعاً، وبعد تباين اقتراباً، رأفةً منه بعباده ولطفاً، وتحنناً عليهم وعطفاً، لئلا يستمر بهم التتايع في التدابر والتقاطع، وليكونوا بررةً إخواناً، وعلى الحق أعواناً، لا يتنكبون له منهجاً، ولا يركبون من الشبهة ثبجاًن بغير دليل يهديهم قصد المسالك، ولا مرشد يودهم عن ورود المهالك؛ أحمده على نعمه التي لا يحصي الواصفون إحصاءها، ومننه التي لا يؤدي الشاكرون جزاءها، وأياديه التي لا يحمل الخلق أعباءها، حمداً يتجدد على مر الأزمان والدهور، ويزيد على فناء الأحقاب والعصور، ويقع بمحابه في جميع الأمور، فإن أحق ما استعمله الغالون، ونطق به التالون، وآثره المؤمنون، وتعاطاه بينهم المسلمون، فيما ساء وسر، ونفع وضر، ما أصبح به الشمل ملتئماً، والأمر منتظماً، والفتق مرتتقاً، والصلح متسقاً، والسيف مغموداً، ورواق الأمن ممدوداً، فحقنت به الدماء، وسكنت به الدهماء، وانقمع له الأعداء، واتصل به السرور، وأمنت معه الشرور، وليس شيء بذلك أولى، وإلى إحراز الثواب به أدنى، من الصلح الذي أمر الله تبارك وتعالى به، ورغب فيه وندب إليه، فقال وقوله الحق: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فأصلحوا بين أخويكم.
كتب سهل بن هارو إلى ذي الرياستين: إن للأزمة فرجاً، فكن من ولاة فرجها، ولأيامها دولاً، فخذ بحظك من دولتك منها، ولدولها امتداداً فتزود قبل أوان تصرمها، فإن تعاظمك ما أنبأتك عنه فانظر في جوانبها تأخذك الموعظة من جميع نواحيها، واعتبر بذلك الاعتبار على أنك مسلم ما سلم إليك منها. فكتب عهده على فارس.
كتب عمرو بن مسعدة: وأنا احب أن يتقرر عندك أن أملي فيك أبعد من أن أختلس الأمور اختلاس من يرى في عاجلك عوضاً من آجلك، وفي الذاهب من يومك بدلاً من المأمول في غدك.
قال المبرد: كانت في الحسن بن رجاء شراسةٌ، وفي كفه ضيق، فكتبت إليه: الناس - أعز الله الأمير - رجلان: حر وعبد، فثمن الحر الإكرام، وثمن العبد الإنعام، فأصلحه هذا القول لي ولغيري مدةً ثم رجع إلى طبعه.
كاتب: الحمد لله الذي جعل محنته عطفاً وأدباً، ولم يجعلها هلكةً ولا عطباً، وجعل أوائلها ناطقةً على صواب أواخرها، وبواديها مخبرةً عن حميد عواقبها، ومواردها مبشرة بالسلامة في مصادرها.
إبراهيم بن العباس في ذكر خليفة: الحمد لله الذي يجتبي إليه من يشاء باصطفائه، ويهدي إليه من ينيب باجتبائه، ويرفع درجات من يشاء بقدرته، ويختار لهم بلطفه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ويودع منائح نعمته، ويولي مقاسم فضله، ويكسو عز سلطانه، مصطفي آل إبراهيم بالكتاب والحكمة، ومختصهم بالملك والعظمة، ومؤتيهم الحكمة في الذكر القديم، فقال تعالى: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً.
والحمد لله الذي جعل الخلافة عقيب الرسالة، فأحيا بها أيامها، ووطد بها أعلامها، وأنفذ فيها أحكامها، وانتخب لها من أهل الوراثة ولاةً راشدين، وهداةً مهدين، اساةً للعالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. فأنار بهم معالم دينه الذي اصطفاه، وأوضح دلائل الحق الذي أعلاه، وظاهر بهم فضله الذي أولاه، وخصهم من إظهاره وإظفاره، بما يأذن لأوليائه وأنصاره. والحمد لله الذي أكرم أمير المؤمنين بما قاد إليه من الخلافة، وأصار إليه من الوراثة، ووطأ له من الأمانة على مشارف بنيانه، وأرسى قواعد أركانه، وحمى حريم سلطانه، وجعل أيامه أيام نضارة وغضارة، وأمن وسلامة، وهدوء واستقامة، بما أسند إليه من مراعاة صلاح عباده، وإضافة العدل في بلاده، والاجتهاد في تلافي كل فاسد، وضم كل ناشر، واستعادة كل نافر، حتى اعتدلت قناة الملك في يده، وشرف منار الحق في دولته، وزهق الباطل في دعوته، وسارعت الرفاهة في إبالته، واتصلت السعادة بسياسته، فأصبحت الدهماء ساكنةً، والثغور مسددةً.
فصل من كتاب عن اجناد طرف يذكر طاعتهم:

قد أعد الله منا لأمير المؤمنين في نصرة الدولة، وحماية البيضة، ودفع الخطوب الملمة، وكفاية الأمور المهمة، عزائم ماضيةً، وأيدياً على الحق متناصرة، وأعواناً على الخير متوازرة، لا يتخونهم وهن في الأيد، ولا ضعف في الكيد، ولا انتقاص في العدد، ولا انقطاع في المدد، باغين عند الله الحسنى يجميل بلائهم، وعند أمير المؤمنين الزلفى بصادق ولائهم.
فصل في وصف وال: نعمه عامة لجميع المسلمين، عائدة بعمارة الدين، منتظمة بعز الدولة وحماية البيضة، وصيانة المملكة، بعد شمول البلاء، واضطراب الدهماء، وتشعب الأهواء، وتطلع أقاصي الأعداء، وانتهاء الفساد إلى حيث يعيي حسمه، والفتق إلى حيث يعجز رتقه. فإن سيدنا نهض من هذا الخطب العظيم الذي لم يمر بالإسلام مثله، ولا حملت الكواهل بعض ثقله، فساسه بصائب رائه، وشفاه من معضل دائه، بما قد أعيا قدماً أنصار الدولة والملوك الذين جملت السير بذكرهم، وأثر ما بان من فضلهم.
فصل في ولاية خليفة: ولم يزل الله منذ اضطرب حبل المملكة، وظهر أعداء الدولة، يصرف مشيئته، وينقل إرادته، مختاراً لموضع إمامته، ومرتاداً لمحل خلافته، وإن كان قد تقدم علمه بمواقع الاختيار، لكنه جل جلاله تجري عادته في الأناة تأديباً للخليقة، وزجراً لذوي العجلة عن تورد الأمور المشكلة، وتقحم أثباجها قبل إعمال الروية، حتى وقف اصطفاءه وقصر اجتباءه على أمير المؤمنين، فأقرها منه في موطنها، وثبتها في معدنها؛ ووجده لما اصطفاه بها ناهضاً، وفيها قائماً بحقها، راتقاً لفتقها، صادفاً عن الدنيا ورائعات زبرجها، وموتقات زخرفها، لا تثنيه دواعي لذاتها، ولا تطبيه عوارض شهواتها، عن طلب ما عند الله، وابتغاء الزلفة بين يديه، والقربة إليه، في عمارة الدين، وحياطة المسلمين، وإقامة معالم الحق، وإحياء سنن العدل، طاوياً كشحه على صفاء نيته، ونقاء سريرته، وصارفاً همه إلى ما فيه المزية والمعدلة في البرية، وسامياً بهمته إلى تأييد المملكة وتأكيد أسبابها، وتعديل أحوالها، بعد مشارفتها الإصفار من بهجتها، والإخفاق من زينتها، والإخلاق من جديدها، والتشعث من نضرتها، حتى استقامت على أفضل سبلها، وخلصت من شوائب الآفات المكتنفة لها، وثاب إلى الدين عزه، وإلى الإسلام نوره، واستودعت الأمانة من أداها، وسيقت الإيالة إلى من يقوم بحكم الله فيها، وحاط من الزيغ حواشيها، ونهد للأعداء الممتدة أعناقهم، المنطلقة أطماعهم، برأي يفل السيف الحسام، وعزم يكل الجحفل اللهام، فثنى من غربهم، وهون من خطبهم، وأصبح بنعمة من الله لزمانه قريعاً، وللخلق غياثاً وربيعاً، وللمسلمين وزراً وحصناً منيعاً، وقام فيما ناطه الله به، وطوقه إياه، مقام السالفين من آبائه الطاهرين، والأئمة الراشدين، سابقاً لشأوهم بمهله، وموفياً عليهم بصالح عمله، وإن كانوا في الفضل على تشابه في المقاييس، وتصاقب في المنازل، غير أن الله تعالى فاوت بين الأنبياء في الدرجات، وإن كان قد انتظمهم في مجامع الخيرات.
كتب المعتصم إلى المأمون في كتاب فتح تولاه له: وكتابي هذا كتاب منه لخبر، لا معتد بأثر.

كتب أبو الفضل ابن العميد - وهو محمد بن الحسين بن محمد، وأبوه أبو عبد الله الحسين، وكان وزيراً كاتباً بخراسان وأصله من قم - إلى ملكان ونداد خرشيد عند استعصائه على ركن الدولة أبي علي: كتابي وأنا مترجح بين طمع فيك، ويأس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك، فإنك تدل بسابق حرمة، وتمت بسالف خدمة، أيسرهما يوجب رعاية، ويقتضي محافظة وعناية، ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية، وأدنى ذلك يحبط أعمالك، ويمحق كل ما يرعي لك لا جرم أني وقفت بني ميل إليك ميل عنك أقدم رجلاً لصمدك، وأؤخر أخرى عن قصدك، وأبسط يداً لاصطلامك واجتياحك، وأثني ثانيةً نحو استبقائك واسصلاحك، واتوقف عن امتثال بعض المأمور فيك، ضناً بالنعمة عندك، ومنافسةً في الصنيعة لديك، وتأميلاً لفيئتك وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك، فقد يغرب العقل ثم يؤوب، ويعزب اللب ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأي ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو؛ وكل ضيقة فإلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء. وكما أنك أتيت من إساءتك بما لم تحتسبه أولياؤك، فلا تدع أن تأتي من إحسانك بما لا يرتقبه أعداؤك. وكما استمرت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت، فلا عجب أن تنتبه انتباهةً تبصر فيها قبح ما صنعت، وسوء ما آثرت، وسأقيم على رسمي في الإبقاء والمماطلة ما صلح، وعلى الاسيناء والمطاولة ما أمكن، طمعاً في إيناسك، وتحكيماً لحسن الظن بك. فلست أعدم فيما أظاهره من إعذار، وأرادفه من إنذار، احتجاجاً عليك، واستدراجاً لك،ن فإن يشأ الله يرشدك، ويأخذ بك إلى خظك ويسددك، فإنه على كل شيء قدير.
فصل منها: وزعمت أنك في طرف من الطاعة بعد إن كنت متوسطها، فإذا كنت كذاك فقد عرفت حاليها، وحلبت شطريها، فنشدتك الله لما صدقت عما سألتك عنه: كيف وجدت ما زلت عنه؟ وكيف وجدت ما صرت إليه؟ ألم تكن من الأولين في ظل ظليل، ونسيم عليل، وريح بليل، وهواء عذي، وماء روي، ومهاد وطي، وكن كنين، ومكان مكين، وحصن حصين، يقيك المتالف، ويؤمنك المخاوف، ويكفيك من نوائب الزمان، ويحفظك من طوارق الحدثان، عززت به بعد الذلة، وكثرت بعد القلة، وارتفعت بعد الضعة، وأيسرت بعد العسرة، وأثريت بعد المتربة، واتسعت بعد الضيقة، وأطافت بك الولاة وخفقت فوقك الرايات، ووطئ عقبك الرجال، وتعلقت بك الآمال، وصرويكاثر بك، وتشير ويشار إليك، ويذكر على المنابر اسمك، وفي المحاضر ذكرك؟ ففيم الآن أنت من الأمر وما العوض مما عددت؟ والخلف مما وصفت؟ وما استعددت حين أخرجت من الطاعة نفسك، ونفضت منها كمك، وغمست في خلافها يدك؟ وما الذي أظلك بعد انحسار ظلها عنك؟ أظل ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يعني من اللهب؟ ومنها: تأمل حالك، وقد بلغت هذا الفصل من كتابي مستكرهاً، والمس جسدك، وانظر هل يحس؟ وأجسس عرقك هل ينبض؟ وفتش ما حنيت عليه أضلاعك، هل تجد في عرضها قلبك؟ وهل حلا بصدرك أن تظفر بموت سريح، أو يفوت مريح؟ ثم قس غائب أمرك بشاهده، وآخر شأنك بأوله.
حكي عن ملكان - وكان آدب أمثاله - أنه كان يقول: والله ما كانت حالي عند قراءة هذا الفصل إلا كما أشار إليه الأستاذ الرئيس، ولقد ناب كتابه عن الكتائب في عرك أديمي واستصلاحي، وردي إلى طاعة صاحبه.
ومن كتاب إلى عضد الدولة: وقد يعد أهل التحصيل في أسباب انقراض العلوم وانتقاص مددها، وانتقاص مررها، والأحوال الداعية إلى ارتفاع جل الموجود منها، وعدم الزيادة فيها: الطوفان بالماء والنار، والموتان العارض من عموم الأوباء، وتسلط المخالفين في المذاهب والآراء، فإن كل ذلك يخترم العلوم اختراماً، وينتهكها انتهاكاً، ويجتث أصولها اجتثاثاً. وليس - عندي - الخطب في جميع ذلك يقارب ما يولده تسلط ملك جاهل تطول مدته، وتتسع قدرته، فإن البلاء به لا يعدله بلاء. وبحسب عظم المحنة بمن هذه صفته، والبلوى بمن هذه صورته، تعظم النعمة في تملك سلطان عالم عامل كالأمير الجليل الذي أحله الله من الفضائل بملتقى طرقها، ومجتمع فرقها، فهي نور نوافر ممن لاقت حتى تصير إليه، وشرد نوازع حيث حلت حتى تقع عليه، تتلفت إليه تلفت الوامق، وتتشوف نحوه تشوف الصب العاشق، قد ملكتها وحشة المضاع، وحيرة المرتاع: من الطويل

فإن تعش قوماً بعدهم أو تزورهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحل
فصل من كلام الصابي في تقليد المطيع ابنه الطائع ما كان إليه من الخلافة: ولما صار في السن العليا والعلة العظمى، بحيث يحرج أن يقيم معه على إمامة قد كل عن تحمل كلها، وضعف عن النهوض بعبئها، خلع ذلك السربال على أمير المؤمنين الطائع لله خلع الناص عليه، المسلم إليه، خارجاً إلى رب العالمين وجماعة المسلمين من الحق في حسن إيالتهم وسياستهم، مما استقل واضطلع، وفي حسن الاختيار والارتياد لهم، حين حسر وظلع.
ومن كلامه: للنعم شرط من الشكر لا تريم ما وجدته، ولا تقيم إذا فقدته، وكثيراً ما تسكر الواردين حياضها، ويغشي عيون المقتبسين إيماضها، فيذهلون عن امتراء درتها، ويعمهون عن الاستمتاع بنضرتها، ويكونون كمن أطار طائرها لما وقع، ونفر وحشيها حين انس، فلا يلبثون أن يتعروا من جلبابها، وينسلخوا من إهابها، ويتعوضوا منها الحسرة والغليل، والأسف الطويل.
ولما نقل بختيار ابنته المزوجة بأبي تغلب ابن حمدان كتب عنه الصابي في معناها فصلاً، وهو: قد توجه أبو النجم بدر الحرمي - وهو الامين على ما يلحظه، والوفي بما يحفظه - نحوك يا سيدي ومولاي بالوديعة، وإنما نقلت من وطن إلى سكنٍ، ومن مغرس إلى معرس، ومن مأوى بر وانعطاف، إلى مثوى كرامة وألطاف، ومن منبت درت لها نعماؤه، إلى منشإ تجود عليها سماؤه، وهي بضعة مني انفصلت إليك، وثمرة من جنى قلبي حصلت لديك، وما بان عني من وصلت حبله بحبلك، وتخيرت له باهر فضلك، وبوأته المنزل الرحب من جميل خلائقك، وأسكنته الكنف الفسيح من كريم شيمتك وطرائقك، ولا ضياع على ما تضمنته أمانتك، ويشتمل عليه حفظك ورعايتك.
وأرجو أن يقرن الله موردها بالطائر السعيد، والأمر الرشيد، والعز الزائد والجد الصاعد، والنماء في الائتلاف، والعصمة من الفرقة والخلاف، حتى تكون عوائد البركة بأحوالها منوطة، ومن عوادي الأيام وغيرها محوطة.
ولما قرئ هذا الفصل بحضرة أبي تغلب، اعتمد للجواب عنه أبو الفرج الببغا فأجاب عنه بما نسخته: وأما أبو النجم بدر الحرمي المستوجب للارتضاء والإحماد، الموفي بمناصحته على كل مراد، فقد أدى الأمانة إلى متحملها، وسلم الذخيرة الجليلة إلى متقبلها، فحلت من محل العز في وطنها، وأوت من حمى السؤدد إلى مستقرها وسكنها، متنقلة عن عطف الفضل والكمال، إلى كنف السعادة والإقبال، وصادرة عن أنبل ولادة ونسب، إلى أشرف اتصال وأنبه سبب، وفي اليسير من لوازم فروضها وواجبات حقوقها، ما صان رعايتي عن الوصاة بها، ونزه وفائي عن الاستزادة لها. وكيف يوصى الناظر بنوره؟ أم كيف يحض القلب على حفظ سروره؟ وإن سبباً قرن بإحماد أمير المؤمنين ذكري، ووصل بحبل السيد العم ركن الدولة حبلي، ومنح عز الدولة مكنون ودي، واختص الإخوة من ولد أبيه السعيد - رحمه الله وأيدهم - بوثيق عهدي، إلى أن صرت بفضل الجماعة قائلاً، ودونها بالنية والفعل مناضلاً، وبمحاسنها المجموعة لي ناطقاً، وبما لي عندها من المساهمة والمشاركة واثقاً، لحقيق بالتباهي في الإعظام، وخليق بالمبالغة في الإيجاب والإكرام. والله تعالى يعين على ما أعتقده من ذلك وأنويه، ويوفقني لما يوفي على المحبة والبغية فيه، بمنه وقدرته، وحوله وقوته.
وإنما ألم الصابي في تسميته إياها بالوديعة بما كتبه جعفر بن ثوابة عن المعتضد إلى ابن طولون في ذكر ابنته قطر الندى المنقولة إليه. وهو: وأما الوديعة - أعزك الله - فهي بمنزلة ا انتقل من شمالك إلى يمينك، عنايةً بها، وحياطةً لها، ورعايةً لولائك فيها.
فلما عرضه على الوزير أبي القاسم عبيد الله بن سليمان استحسنه جداً وقال له: تسميتك إياها الوديعة نصف البلاغة، ووقع له بالزيادة في إقطاعه ومشاهرته.
من كتاب لأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف إلى أهل الشام. قد علمتم بشهادة الآثار، وتظاهر الاخبار، ما أعد الله لأمير المؤمنين بطاعة وليه المنصور، وصفيه المبرور، عضد الدولة - أيده الله - من حام حقيقته، ساد خلته، راع سدته ورعيته، لا يثنيه عن غاياته عارض السأم ولا يلهيه عن هماته راحة الجمام: من الطويل
مضاميرُهُ أَعْيَتْ على مَنْ يَرُومُها ... فكلُّ مدىً عن غايتيهِ قصيرُ

وهو عين أمير المؤمنين إذا نظر، ولسانه إذا نطق، ويده إذا لمس، الانت أم أمضت، ووطأت أم أفضت.
ومن كتاب في ذكر أبي تغلب: وقد كان الغضنفر بن حمدان حين نفضته المذاهب، ولفظته المهارب، وأجهضته عن مكامنه المكايد الكتائب، وتطوح في بلاد الشام، يتنقل بين مصارع يحسبها مرابع، ومجاهل يعدها معالم، يروم انتعاشاً والجد خاذله، ويبتغي انتياشاً والبغي طالبه.
وكتب إلى الصاحب ابن عباد: وقف مولانا على ما كتب مولاي معرضاً بخدمته، ومجلياً عن نيته، فصدقه وحققه، وقال أدام الله سلطانه: إن لسان أثره في الفصاحة كلسان قلمه، يتجاريان كفرسي رهان، وناهيك بالاول اشتهاراً ووضوحاً، وبالثاني غرراً وحجولاً. وكنا لمثل هذه الحال نعده ونعتده، وننتجز عدات الفضل منه، وحسبنا ا أفادتنا التجارب فيه، كافلاً بالسعادة ودرك الإرادة، وما زالت مخايله وليداً وناشياً، وشمائله صغيراً ويافعاً، نواطق بالحسنى عنه، ضوامن للنجح منه، فقد أصبح الظن إيقاناً، والضمار عياناً والتقدير بياناً، والاستدراك برهاناً.
كتب أبو إسحق الصابي مقاطعة: هذا كتاب من عبد الله الفضل، الإمام المطيع لله أمير المؤمنين، لفلان بن فلان.
إنك رفعت قصتك تذكر حال ضيعتك المعروفة بكذا وكذا، من رستاق كذا وكذا، من طسوج كذا وكذا، وأنها أرض رقيقة قد توالى عليها الخراب وانغلق اكثرها بالسد والدغل، وإن أمير المؤمنين أمر بمقاطعتك عن هذه الضيعة على كذا من الورق المرسل في كل سنة على استقبال سنة كذا وكذا الخراجية، مقاطعةً مؤبدةً، ماضيةً مقررةً نافذةً، يستخرج مالها في أول المحرم من كل سنة، ولا تتبع بنقض ولا بتأول متأول فيها، ولا يعترض معترض في مستأنف الأيام إن اجتهدت في عمارتها، وتكلفت الإنفاق عليها، واستخراج سدودها، وقفل أراضيها، واحتفار سواقيها، واجتلاب الاكرة إليها، وإطلاق البذور والتقاوي فيها، وإرغاب المزاعين بتخفيف طسوقها بحق الرقبة ومقاسماتها، وكان في لك توفير لحق بيت المال، وصلاح ظاهر لا يختل.
وسألت أمير المؤمنين الأمر والتقدم بالإسجال لك به، وإثباته في ديوان السواد ودواوين الحضرة وديوان الناحية، وتصييره ماضياً لك ولعقبك وأعقابهم، ولمن لعل هذه الضيعة أو شيئاً منها ينتقل إليه ببيعٍ أو ميراثٍ أو صدقةٍ أو غير ذلك من ضروب الانتقال: وإن أمير المؤمنين بإيثاره الصلاح، واعتماده أسبابه، ورغبته فيما عاد بالتوفير على بيت المال والعمارة للبلاد والترفيه للرعية، أمر بالنظر فيما ذكرته، واستقصاء البحث عنه، ومعرفة وجه التدبير، وسبيل الحظ فيه، والعمل بما يوافق الرشد في جميعه. فرجع إلى الديوان في تعرف ما حكيته من أحوال هذه الضيعة، فأنفذ منه رجل مختار ثقةٌ مأمونٌ من أهل الخبرة بأمور السواد وأعمال الخراج، قد عرف أمير المؤمنين أمانته وديانته، وعلمه ومعرفته؛ وأمر بالمصير إلى هذه الناحية، وجمع أهلها من الأدلاء والاكرة والمزارعين وثقات التناء والمجاورين، والوقوف على هذه الاقرحة، وإيقاع المساحة عليها، وكشف أحوال عامرها وغامرها، والمسير على حدودها، وأخذ أقوالهم وآرائهم في وجه صلاح وعمارة كل قراح منها، وما يوجبه صواب التدبير فيما التمسته من المقاطعة بالمبلغ الذي بذلته، وذكرت أنه زائد على الارتفاع، والكتاب بجميع ذلك إلى الديوان ليوقف عليه، ورسم ما يعمل عليه، وينهى إلى أمير المؤمنين فينظر فيه: فما صح عنده منه أمضاه، وما رأى الاستظهار على نظر الناظر فيه استظهر فيما يرى منه، حتى يقف على حقيقته، ويرسم على ما يعمل عليه.

فذكر ذلك الناظر أنه وقف على هذه الضيعة وعلى سائر أقرحتها وحدودها، وطافها بمشهد من أهل الخبرة بأحوالها من ثقات الأدلاء والمجاورين والأكرة والمزارعين والتناء الذين يرجع إلى أقوالهم ويعمل عليها؛ فوجد مساحة بطون الاقرحة المزروعة من جميعها، دون سواقيها ومروزها وتلالها وجاريتها ومستنقعاتها، وما لا يعتمل من أراضيها، بالجريب الهاشمي الذي تمسح به الأرض في هذه الاناحية كذا وكذا جريباً، منها جميع القراح المعروف بكذا وكذا، ومنها موضع الحصن والبيوت والساحات والراحات والبراحات والخرابات، ووجد حالها في الخراب والانسداد وتعذر العمارة والحاجة إلى عظيم المؤونة ومفرط النفقة على ما حكيته وشكوته. ونظر في مقدار أصل هذه الجربان من هذه الضيعة، وما يجب عليها، وكشف الحال في ذلك.

ونظر أمير المؤمنين في ما رفعه هذا المؤتمن النفذ من الديوان، واستظهر فيه بما رآه من الاستظهار، ووجب عنده من الاحتياط، فوجد ما رفعه صحيحاً صحةً عرفها أمير المؤمنين وعلمها، وقامت في نفسه وثبتت عنده، ورأى إيقاع المقاطعة التي التمسها على حق بيت المال في هذه الضيعة، فقاطعك عنه في كل سنة هلالية، على استقبال سنة كذا وكذا الخراجية، على كذا وكذا درهماً براسم صحاحاً مرسلة بغير كسر ولا كفاية ولا حق جزر ولا جهبذة، ولا محاسبةٍ ولا زيادةٍ، ولا شيء من جميع المؤن وسائر التوابع والرسوم، تؤدى في أول المحرم من كل سنة حسب ما تؤدى المقاطعات، مقاطعة ماضية مؤبدة نافذة ثابتة على مضي الأيام وكرور الأعوام، لا تنقض ولا تفسخ ولا تتبع ولا يتأول فيها ولا تغير، على أن يكون هذا المال، وهو من الورق المرسل، كذا وكذا في كل سنة مؤدىً إلى بيت المال، ومصححاً عند من يورد عليه إلينا في هذه الناحية أموال خراجهم ومقاطعاتهم وجباياتهم، لا يعتل فيه ابآفةٍ تلحق الغلات، سماوية ولا أرضية، ولا بتعطيل أرض، ولا نقصان ريع، ولا بانحطاط سعر، ولا بتأخر قطر، ولا بشوب غلة، ولا بحرق ولا سرق، ولا بغير ذلك من الآفات، بوجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب؛ ولا يحتج في ذلك بحجة يحتج بها التناء والمزارعون وأرباب الخراج في الالتواء بما عليهم، وعلى أن لا تدخل عليك في هذه المقاطعة يد ماسح ولا مخمن ولا حازر، ولا مقدر ولا أمين ولا خاطر ولا ناظر، ولا متتبع ولا متعرف لحال زراعة وعمارة، ولا كاشف لأمر زرع وغلةٍ، ماضياً ذلك لك ولعقبك من بعدك وأعقابهم، وورثتك وورثتهم، أبداً ما تناسلوا، ولمن عسى أن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه بإرثٍ أو بيع أو هبة أو نحل أو صدقة أو وقف أو مناقلة أو إجارة أو مهايأة، أو تمليلك أو إقرار أو بغير ذلك من الأسباب التي تنتقل بها الأملاك من يد إلى يد، ولا ينقض ذلك ولا شيءٌ منه ولا يغير ولا يفسخ، ولا يزال ولا يبدل ولا يتعقب، ولا يعترض فيه معترض بسبب زيادة عمارة، ولا ارتفاع سعر، ولا وفور غلة، ولا زكاء ريع، ولا إحياء موات، ولا اعتمال معطل، ولا عمارة خراب، ولا استخراج غامر، ولا إصلاح شرب، ولا استحداث غلات، يم جير الرسم باستحداثها وزراعتها، ولا يعد ولا يمسح ما عسى أن يغرس في هذه الأقرحة من النخل وأصناف الشجر المعدود والكروم، ولا يتأول عليك بما لعل أصناف المساحة أن يزيد به فيما يعمره ويستخرجه من الجبابين والمتنقعات، ومواضع المشارب المستغنى عنها، إذ كان أمير المؤمنين قد عرف ذلك، وجعل كل ما يجب على كل شيء منه عند وجوبه داخلاً في هذه المقاطعة وجارياً معها. وعلى أنك إن فضلت شيئاً من مال هذه المقاطعة على بعض الاقرحة من جميع الضيعة، وأفردت باقي مال المقاطعة بباقيها عند ملك بنتقل منها عن يدك، أو فعل ذلك غيرك، ممن جعل له في هذه المقاطعة ما جعل لك، من ورثتك وورثيهم، وعقبك وأعقابهم، ومن لعل هذه الضيعة أو شيئاً من هذه الأقرحة ينتقل إليه بضرب من ضروب الانتقال قبل ذلك التفضيل منكم عند الرضا، والاعتراف ممن تفضلون باسمه، وتحيلون عليه، وعوملتم على ذلك، ويم يتأول عليكم في شيء منه. وعلى أنك إن التسمت أو التمس من يقوم مقامك ضرب منار على هذه الضيعة تعرف به رسومها وطسوقها وحدودها، ضرب ذلك المنار أي وقت التمستموه، ولم تمنعوا منه، وإن تأخر ضرب المنار لم يتأول عليكم به، ولم يجعل علة في هذه المقاطعة، إذ كانت شهرة هذه الضيعة وأقرحتها في أماكنها، ومعرفة مجاوريها بما ذكر من تسميتها ومساحتها، يغني عن تحديدها او تحديد شيء منها، ويقوم مقام المنار في إيضاح معالمها، والدلالة على حدودها وحقوقها ورسومها.

وقد سوغك يا فلان بن فلان أمير المؤمنين وعقبك من بعدك وأعقابهم ووثتك وورثتهم أبداً ما تناسلوا، ومن تنتقل هذه الاقرحة أو شيء منها إليه، جميع الفضل بين ما كان يلزم هذه الضيعة أو أقرحتها من حق بيت المال وتوابعه، على الوضعية التامة وعلى الشروط القديمة وبين ما يلزمها على هذه المقاطعة، وجعل ذلك خارجاً عن حاصل طسوج كذا وكذا، وعما يرفعه المؤتمنون، ويوافق عليه المتضمنون، على غابر الدهور ومر السنين وتعاقب الأيام والشهور، فلا يقبل في ذلك سعاية ساع، ولا قدح قادح، ولا قرف قارف، ولا إغراء مغر، ولا قول معتب، ولا يرجع عليك فيما سوغته ونظر إليك به بحال من الأحوال، ولا برجوع في التقديرات، ولا بنقض للمعاملات وردها إلى قديم أصولها، ولا ضرب من ضروب الحجج والتأويلات، والتي يتكلم عليها أهل العدل على سبيل الحكم والنظر، وأهل الجور وعلى سبيل العدوان والظلم. ولم تكلف يا فلان بن فلان، ولا عقبك من بعدك ولا ورثتك وأعقابهم، ولا أحد ممن تخرج هذه الضيعة أو هذه الاقرحة أو شيء منها إليه على الوجوه والأسباب كلها، إخراج توقيع ولا كتاب مجرد، ولا منشور بإنفاذ شيء من ذلك، ولا إحضار سجل به، ولا إقامة حجة فيه في وقت من الأوقات. وعلى ألا يلزمك ولا أحداً ممن يقوم في هذه المقاطعة مقامك مؤونة ولا كلفة ولا ضريبة ولا زيادة ولا بقسط كري ولا مصلحة ولا عمل بزند، ولا نفقة ولا مؤونة حماية ولا خفارة، ولا غير ذلك. ولا يلزم بوجه من الوجوه في هذه المقاطعة زيادة على المبلغ المذكور المحدود المؤدى في بيت المال في كل سنة خراجية، وهو من الورق المرسل كذا وكذا، ولا يمنع من روز جهبذ أو حجة كاتب أو عامل بمال هذه المقاطعة إذا أديته وأديت شيئاً منه أولاً، حتى يتكامل الأداء وتحصل في يدك البراءة كل سنة بالوفاء لجميع المال لهذه المقاطعة، وعلى أن تعاونوا على أحوال العمارة وصلاح الشرب، وتوفر عليكم الصيانة والحماية والذب والرعاية.
ولا يتعقب ما أمر به أمير المؤمنين أحد من والة العهود والامور والوزراء وأصحاب الدواوين، والكتاب والعمال والموفين والضمناء والمؤتمنين، وأصحاب الخراج والمعاون وجميع طبقات المعاملين وسائر ضروب المتصرفين، لشيء يبطله أو يزيله عن جهته، أو ينقضه أو يفسخه أو يغيره أو يبدله، أو يوجب عليك أو على عقبك من بعدك وأعقابهم وورثتهم أبداً ما تناسلوا، ومن تخرج هذه الضيعة أو شيء منها إليه، حجة على سائر طرق التأويلات، ولا يلزمكم شيئاً ولا يكلفكم عوضاً من إمضائه؛ ولا ينظر في ذلك أحد منهم نظر تتبع ولا كشف ولا فحص ولا بحث. وإن خالف أحد منهم ما أمر به أمير المؤمنين أو تعرض لكشف هذه المقاطعة أو مساحتها أو تخمينها، أو اعتبارها أو الزيادة في مبلغ مالها، أو ثبت في الدواوين في وقت من الأوقات شيء يخالف ما رسمه أمير المؤمنين فيها، إما على طريق السهو والغلط أو العدوان والظلم والعناد والقصد، فذلك كله مردود باطل منفسخ، وغير جائز ولا سائغ، ولا قادح في صحة هذه المقاطعة وثبوتها ووجوبها، ولا معطلاً لها، ولا مانعاً من تلافي السهو واستدراك الغلط في ذلك، ولا مغيراً لشيء من شرائط هذه المقاطعة، ولا حجة تقوم عليك يا فلان بن فلان، ولا على كل من يقوم مقامك في هذه المقاطعة بشيء من ذلك، إذ كان يأمر به أمير المؤمنين في ذلك على وجه من وجوه الصلاح وسبيل من سبله، رآهما وأمضاهما، وقطع بهما كل اعتراض ودعوى، واحتجاج وقرف، وأزال معهما كل بحث صفح، وتبعة وعلاقة. وإن كان من الشرائط فيما سلف من السنين، وخلا من الأزمان، ما هو أوكد وأتم وأحكم، وأحوط لك، ولعقبك وورثتك وأعقابهم وورثتهم، ومن تنتقل هذه الاقرحة أو شيء منها إليهم، مما شرط في هذا الكتاب، لحال أوجبها الاحتياط على اختلاف مذاهب الفقهاء والكتاب، وغيرهم مما للخلفاء أن يفعلوه وتنفذ فيه أمورهم، حملت وحملوا عليه، وهو لكم ومضاف إلى شروط هذا الكتاب التي قد أتى عليها الذكر، ودخلت تحت الحصر، ولم يكلف أحد منكم إخراج أمر به. وإن التمست أو أحد من ورثتك وأعقابك، ومن عسى أن تنتقل هذه الضيعة أو هذه الاقرحة أو شيء منها إليه في وقت من الاوقات، تجديداً بذلك، أو مكاتبة عامل أو مشرف، أو إخراج توقيع أو منشور إلى الديوان بمثل ما تضمنه هذا الكتاب، أجبتم إليه ولم تمنعوا منه.

وأمر أمير المؤمنين بإثبات هذا الكتاب في الدواوين، وإقراره في يدك، حجة لك ولعقبك من بعدك وأعقابهم وورثتك وورثتهم، وثيقة في أيديكم، وفي يد من عسى أن تنتقل هذه الضيعة إليه، أو الاقرحة أو شيء منها، بضرب من ضروب الانتقال التي ذكرت في هذا الكتاب والتي لم تذكر فيه، وأن لا تكلفوا إيراد أمر بعده، ولا يتأول عليكم متأول فيه.
فمن وقف على هذا الكتاب وقرأه أو قرئ عليه من جميع الأمراء وولاة العهود والوزراء والكتاب والعمال والمشرفين والمتصرفين والناظرين في أمور الخراج، وأصحاب السيوف على اختلاف طبقاتهم وتباين منازلهم وأعمالهم، فليمتثل ما أمر به أمير المؤمنين فيه ولينفذ لفلان بن فلن ولورثته ولورثتهم وعقبه وأعقابهم، ولمن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه، بهذه المقاطعة، من غير مراجعة فيها ولا استئمار علياه، ولا تكليف أحد ممن يقوم بأمرها إيراد حجة بعد هذا لكتاب، وليعمل بمثل ذلك من وقف على نسخة من هذا الكتاب في ديوان من دواوين الحضرة وأعمالها والناحية، وليقر في يد فلان بن فلان ويد من يورده ويحتج به ممن يقوم مقامه، إن شاء الله تعالى.
وكتب الوزير في تاريخ كذا.
فصل من كتاب لأحمد بن إسماعيل الكاتب، المعروف بنطاحة: البليغ من عرف السقيم من المعتل، والمقيد من المطلق، والمشترك من المنفرد، والمنصوص من المتأول، والإيماء من الإيحاء، والفصل من الوصل، ولااصل من الفصل، والتلويح من التصريح. ومن شروط البليغ أن يكون حاد الفطنة، وصحيح القريحة، صافي الذهن، وان يعرف في وجهه التحفظ وسجية المتحرز، والخجل والوجل، ويتبين في لحظه الرضى والغضب، والسرور والحزن، والأمن والخوف، والأمر والنهي، والذكاء والغباء، والفكر والسهو.
وجدت كتاباً منسوباً إلى ابن العميد كتبه إلى الصاحب أبي القاسم ابن عباد - وفيه ما يشكك في قبوله - وفيه اذكار بسياسة مستفادة: مولاي وإن كان سيداً بهرتنا نفاسته، وابن سيد تقدمت علينا رياسته، وفإننا نعتده سنداً ووالداً، وأعده ولداً واحداً، ومن حق ذلك إن يعضد رأيي رأيه ليزداد استحكاماً، ويستمر عقداً وإبراماً، وحضرة مجلس ركن الدولة تفاوضني ما جرى بينه وبين مولاي طويلاً، ووصل به كلاماً بسيطاً، وأطلعني على أن مولاي لم يزد بعد الاستقصاء والاستيفاء على التقضي والاستعفاء وألزم عبده أنا أن أكره مولاي إكراه المسألة وأجبره إجبار الطلبة، علماً بأنه إن دافع المجلس المعمور طلباً للتحرز، لم يزد وساطتي أخذاً بالتطول. وأقول بعد أن أقدم مقدمة: مولاي غني عن هذا بتصونه وتقلله وعزوفه بهمته عن تكاثر المال وتحصيله، ولكن العمل فقير إلى كفايته، محتاج إلى كفالته. وما أقول ومرادي ما يعقد من حساب، وينشأ من كتاب، ويستظهر به من جمع، وعطاء ومنع. فكل ذلك وإن كان مقصوداً، وفي آيات الوزارة معدوداً، ففي كتاب مولاي من يفي به ويستوفيه، ويوفي عليه بأيسر مساعيه، ولكن ولي النعمة يريده لتهذيب من هو ولي عهده، والمأمول ليومه وغده، أيد الله أيامه وبلغه فيه مرامه. فلا بد وإن كان الجوهر كريماً، والمجد صميماً، والسنخ عظيماً، ومركب العقل سليماً، من مناب من يعلم ما السياسة والرئاسة، وكيف ترتب ويعالج الخطب إذا ضاقت المذاهب، وتعصى الشهوة لتحرس الحشمة، وتهجر اللذة لتحصيل الإمرة. ولا بد من محتشم يقوم في وجه صاحبه فيرده إذا بدر منه الرأي المتقلب، ويراجعه إذا جمح به اللجاج المرتكب، ويعاوده إذا ملكه الغضب المنتشر. فلم يكن السبب في إن فسدت جهة وبلدان عدة، إلا أن خفضت أقدار الوزارة فانقبضت أطراف الإمارة. ولن تفسد - على ما أرى - بقية الارض إلا إذا استعين بالأذناب على هذا الأمر. فلا يبخلن مولاي على ولي نعمته بفضل معرفته، فمن هذه الدولة جرى ماء فضله وفضل شيخه من قبله. فإن كان مسموعاً كلامي، وموثوقاً به اهتمامي، فلا يقعن انقباض عني، ولا إعراض عما سبق مني. ومولاي محكم بعد الإجابة إلى العمل فيما يشترط، غير مراجع فيما يقترحه. وهذا خطي به، وهو على ولي النعمة حجة، لا يبقى معها شبهة، وتتأصل المكاتبة بالمشافهة إما بحضوري لديه، أو تجشمه إلى هذا العليل الذي قد ألح النقرس عليه، والسلام.
نسخة كتاب ورد من الصاحب إسماعيل بن عباد إلى أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان:

كتابي، أطال الله بقاء الأستاذ مولاي ورئيسي، أدام الله تأييده ونعماءه، يوم كذا، ومولانا الأمير السيد فخر الدولة شاهنشاه، أطال الله بقاه، وكبت أعداه، فيما يرفع الله من قواعد ملكه، ويعضد يمن سواعد عزه، ويعم من استظهاره، ويفسح من أفنية استيلائه واقتداره، على ما تقر به عيون أولياء الدولة، وأنصار البيضة، وحماة الحوزة، وثقات الدعوة. وأنا سالم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين، وعندي للأستاذ مولاي كتب أنا رهين برها، وعبد شكرها، وما عن تقصير في حقها ذهبت عن الإجابة، ولا لا قصار عن فرضها قبضت يدي عن الكتابة. وكيف وقد علم من له الخلق والأمر، وسواء عنده السر والجهر، أني لم أستفد منذ دهر، لا أضبط أطرافه امتداداً، ولا أحصي أيامه تعداداً، موهبة في نفسي أكرم منبتاً من وده، وفي صدري أوكد موثقاً من عهده، ولكن حوادث اعترضت وأجحفت، وكوارث ألحت فألحبت، وأتت الليالي بما لم يحسب طروقه، وهجمت الخطوب بما لم يرتقب حدوثه، ومضى أمير الأمراء وسعيد السعداء، رضوان الله عليه، فعاد النهار أسود، والعيش أنكد، والملك أغبر بل أربد، وأصبحت خصوماً والحياة خصم يمال عليه، والموت سلم نحن إليه. وقد كان قدس الله مثواه وكرم مأواه، وعند بلوغ الأمر إلى حيث لا مطمع في العمر، أشار إلى مولانا الامير السيد فخر الدولة إشارة الناص، وعين على ذكره بالاسم الخاص، عالماً بأنه سداد الأمر، وسداد الثغر، والكافل معه بالشمل حتى يجتمع، وبالحبل حتى يتصل، بالشعث حتى يلم، وبالنشر حتى يضم. فحقق الله مخيلته في حياته، وحفظ حقيقته بعد وفاته. وقبل ذلك ما كان - سوغه الله تعالى رضوانه - كلفني الاستمالة به - أدام الله سلطانه - لتمار تلك الأحقاد عن الصدور، وتقار عواطف النفوس والقلوب، ويتساهم إحسان الله الموفور، لا سيما وقد تخون الدهر الملك السعيد طود الاطواد، وعضد الأعضاد، فوجب أن يزاد في التناصر، ويحصن الملك بالتظاهر. وبذلت جهد الناصح، وهديت بالأدب الصالح، إلى الطريق الواضح، فثنى الأمير السيد فخر الدولة عنانه عن نيسابور لإعادة الألفة، وجد على سمت جرجان ماحياً للنبوة، إلا أن القضاء سبق فلم يلحق، وفرط فلم يدرك، وقبض أمير الأمراء - قدس الله روحه - إلى قبضة الرحمة، والصلوات الجمة، بعد أن ذلل الخصوم، وأدال القروم، واسترق الأعداء، وساس الدهماء، واستقل بالأعباء، وخلف أطيب الأبناء. فخدمت الدولة بالضبط بقدر ما استطعت، وتكلفت بقدر ما كفلت له واتسعت، إلى أن عاد مولانا فخر الدولة إلى منصبه الممهود، وسريره الموروث، ورواق عزه الممدود، ومستقر ملكه المنصور، فتجلت الغمم، ونهضت الهمم، وقويت المنن، وانزاحت الظلم، وأصفقت الكافة، ونزلت الرحمة والرأفة، وشفى الله صدور قوم مؤمنين، وقيل الحمد لله رب العالمين. ورأى أهل البصائر أن قد أعاد الله الدولة أجد ما شوهدت، وأشب ما عوهدت، نافضة غبارها، رافعة منارها، خافقة بلوائها، مستعلية على أعدائها، مرسية بدعامتها عند من يوفيها نذورها، ومفوضة زعامتها إلى من يحميها محذورها. فكان من أول ما فاتحته - حرس الله ملكه - فقرأت منه صحيفة السعادة، وأخذت منه بوثيق الإرادة، ما أعلمنيه من عكوف همته على عمارة ما أثله الأمراء السعداء بينهم قبل انخراطها في سلك التفاق، وانحطاطها في شعب الائتلاف، ودعا الأمراء السادة من أهله - بحق الكبر وفضل التجريب لأطوار الدهر - إلى التناصر والتناصف، والإعراض عن التباعد والتخالف، ورفض المنافسة التي تهيج كوامن النفوس، وتثير سواكن القلوب، فقد آتى الله تعالى في التماسك فسحة، ولم يوجد في المشاحنة المباينة رخصة. هذا ولو كانت على أشد تضايق وأتم تقارب، لوجب أن يتساهم عليها، فإن يسير الحظ مع التعاون والتآزر خير من كثيره مع التقاطع والتدابر. فإن كان منهم من تاخذه العزة بالإثم، ويبغي تجاوز سابق الوصية والحكم، كانت الجماعة يداً عليه، إلى أن يفيء للحسنى، ويعود طوعاً أو كرهاً للطريقة المثلى. فأما الذي عنده - أعلى الله جده - لمولانا الأمير صمصام الدولة وشمس الملة، فالانصباب بالمودة التي لا مطلع من بعدها، ولا منزع من وراء حدها، وبالإشافاق المتناهي إلى حيث لا اقتراح وراءه للمريد، ولا استزادة لملتمس المزيد، والله يمنع بعضاً ببعض، ويمد هذه الظلال على بسيط الأرض، حتى

لا يعرف لها من سواهم ملك يطاع، ولا مالك يقع عليه الإجماع، إن الله سميع مجيب.لا يعرف لها من سواهم ملك يطاع، ولا مالك يقع عليه الإجماع، إن الله سميع مجيب.
وأرجع إلى ما افتتحت له المخاطبة. كان كتاب الأستاذ الأول قد ملأ اليدين فضلاً، وحمل الكاهل ثقلاً، وأيقنت أن أولى المودات بالثقة الوكيدة، وأحراها بالاستقامة الشديدة، مودته التي طلعت من أفق فضل، وشيدها كرم أصل، فأتت تبرعاً من غير استجلاب، وتطوعاً من دون استكراه، ورجوت أن أكون نعم الناهض بحق المقاطعة، وإن حاز بالمبرة الرتبة السابقة، ووجدته قد بذل من نفسه في المشاركة، ما لو كلفته إياه لكنت متحكماً، أو مائلاً على جانبه متسحباً، فغدوت أرى الحال بيننا أولى ما أصرف الهمم إلى حفظه من جوانبه، وأوكل الفكر بحراسته، عن الدهر ونوائبه. وليس ذلك إلا نتيجة ما قدمه، وثمرة ما تجشمه، وإلا فقد علم الأستاذ أن كثيراً ممن سد خصاص المجلس الذي سده، وإن لم يسد في الكفاية والبراعة مسده، كاثرني فحققت، وباسطني فتقبضت، لا تقصيراً بالواحد، ولكن علماً بالمصادر والموارد.
فلما وجدت من جمع مزية الاستقلال إلى كرم الخلال، وشرف النجار إلى من كان أهلاً للإكبار، ومن هنئت به الأمور قبل أن يهنأ، وأولاه الله أدب الصدور قبل أن يولى، أرسلت نفسي على سجيتها، وأعدتها لفطرة أوليتها، وظننت الله قد أنشر الفضلاء الأعيان الذين كنت أتجمل بودادهم، وأتكثر باعتقادهم، وآنست قلة الصديق من بعدهم. والآن حين أعتب الزمان فغفرت له أكثر جرائره، وسحبت ذيل التجاوز على معظم جرائمه، ورد بعده كتابان جعلا التفضل نمه عادةً، والبر إبداء وإعادة. ولو قد وفيت بما سبق، لوفيت الحق في ما لحق، إلا أني إلى الآن معذور أو معتذر، ومقصر أو مقتصر. ولئن كانت محامد الأستاذ مولاي تسابق يقين العارف، وتستغني عن لسان الواصف، إني قد خطبت في مجلس مولانا الامير السيد فخر الدولة فيها بخطب إن لم تفتتح بالتحميد فقد شحنت بالتعظيم، وإن لم تكن قرئت على درج المنابر، فقد تليت في أشرف المحاضر، وحققت عنده أن الأستاذ مولاي يرى الخدمتين خدمة واحدة، ويعد الغائبة شاهدة، واعتد لذلك أشد اعتداد، فأسلف عنه أتم إحماد.وقد نفذ إليه عن حضرته العالية ما ليس بغاية يوقف عندها، حتى تردف مع استقرار المخاطبات بما يجب بعدها، بمشيئة الله. وإ قد جمعنا الله على ما جمع فالانقباض هجنة، والاحتشام وصمة. وكنت - أدام الله تأييد الأستاذ - وقد يسر الله من سد الثلمة ما استدعت النفوس أن ينسد، وسهل من ارتداد الظلمة ما استبعدت العقول أن يرتد، آمل ظفراً بما لم أزل أنازع إليه، وأقارع الآمال عليه، من اعتزال الأشغال التي كان يحسن الإنقطاع إليها، وفي الأيام بقية، والعمر في إقباله، والنشاط في استقباله، والشباب بحاله، والأشد على استقلاله؛ إلا أن مولانا الأمير خاطبني في هذه الباب بمخاطبات لم أستطع معها إن أبلغ ما أردت،ن وايمم إلى حيث قصدت، وأنتهي في التعظيم إلى ما لا يقسم للمشارك القسيم، فلم أطق شكر نعمته إلا بأن أتطوق فرض خدمته، وأوردت هذا الفصل اعتذاراً إلى الوفاء وأهله، من النظر بعد ما تؤرخ السير بمثله، وإن كان الله قد أدال من القنوط اللازم بالإحسان الفائض، واتنضى للملك أكمل سائس وأشرف رائض. وقد خاطبت أبا العلاء في كل باب بما يؤدى فيه حق المناب، وعلى ذكره فإني أرعى له حقوقه التي لدي ووسائله إلي أن أدى إلي عن الأستاذ مولاي ما كتب بالإخلاص على سواد القلب، وجعل المودة شريعة لا تعقب بالنسخ؛ فإن رأى مولاي الأستاذ أن يخاطبني بما يخاطب الموثوق به، المسكون إليه، المعتمد منه ما لاستظهار عليه، ويقرر عند مولانا الأمير صمصام الدولة وشمس الملة، أني وإن غبت فخادم متصرف بإخلاص حاضر، وعبد قد ورثه كابراً عن كابر، ويصرفني بين أمره ونهيه، فعل، إن شاء الله تعالى.
نسخة الجواب من إنشاء أبي إسحاق الصابي:

كتابي، أطال الله بقاء سيدنا الصاحب، وأدام عزه وتأييده وعلوه، ونعم الله عند مولانا الملك السيد صمصام الدولة وشمس الملة - أطال الله بقاه، وأدام نصره وعلاه - سابغةٌ راهنةٌ، وأحوال مملكته - رعاها الله - مستقيمة منتظمة، والله جل اسمه متكفل له بحفظ الحوزة وحياطتها، وإظهار الراية ونصرتها، والتمكين في لاأرض بأفضل ما مكن به للملوك المؤيدين، وولاة الأمر المنتخبين المختارين، تصاعداً وسمواً وتزايداً ونمواً، وتوقلاً في هضبات الفخر والمجد، وترقياً في درجات الحظ والجد، وهو - أدام الله أيامه - مقابل لذلك بالشكر لوليه، والاستمداد للطيف صنعه فيه، ومد الظل الظليل على كل عام وخاص، وإفاضة الفعل الجميل في كل دان وقاص، فالأولياء على طاعته مجمعون، وفيها مخلصون، والرعايا في كنف سياسته وإيالته ساكنون وادعون. وأما ما خصني الله به من تفويضه إلي وتعويله علي، وإنفاذه أمري في البسط عنه والقبض، والإعلاء والخفض، فلساني يقصر عن ذكره موجزاً مجملاً، فكيف به مشروحاً مفصلاً. والحمد لله على ذلك حمداً ينتهي باتصاله وترادفه، وتوافيه وتضاعفه، إلى مجازاة هذه المنن كلها، وإن كانت استطاعتنا متخلفة عنها وواقفة دونها، وناقصة عن الوفاء بحقها، حتى يتممه عفوه وفضله، وإحسانه وطوله. وفضل كتاب سيدنا الصاحب، منصوراً بنظير ما صدر كتابي هذا، من منائح الله الجليلة، لما في نفسه ولي فيه ولنا جميعاً، في سلامة مولانا الأمير الآجل فخر الدولة، أطال الله بقاءه، وأدام تمكينه ونعماءه، وانتظام أحواله واطراد شؤونه ونفاذ أمره، في ما أحسن الله توفيقه له، وإرشاده إليه من توفيته حقه، وإنزاله منزلته، وإيفائه به إلى أعلى مراقي الكمال والفضل، ومفيضاً علي من صنوف البر والإكرام، وضروب المننن الجسام، ما يستبعد الأحرار بأقله، وتسترق الأعناق بأيسره، ومفوضاً إلي من جلائل الأمور ومعاظم الشؤون، ما يجب أن تكون المفاوضات بيننا فيه مترددة، وسبل المواصلة به وبأمثاله معمورة، وفهمته.
فأما تذمم سيدنا الصاحب من تأخر الأجوبة عن كتبي المتواترة إليه، واعتذاره من ذلك بما اعتذر به، فقد قام عندي إحضاره إياها، وحفظه عددها، وتوكل فكره ومراعاته بها، وجمعه الجواب عنها في الكتاب الذي هذا جوابه، مقام المكاتبة الجارية على المواظبة، المستمرة على المداومة، لا سيما مع تناولني به من لفظه الجميل، وبره الهني، ومطاولته البالغة، ومناقشته الشافية، وعلى حسب ظمأي - كان - إلى ذلك والتياحي، وسروري الآن به وارتياحي. وهذه حال تخفف عنه كلفة الاعتذار، وتوجب له مزيداً في الاعتداد، لا أعدمني الله تحمل عوارفه، وتطول مننه، مع الإنهاض بها، والمعونة على شكرها.

وأما ما ذكره سيدنا الصاحب من الأثقال الفادحة التي حملها، والأمور المنتشرة التي نظمها، بين الرزية في أمير الأمراء مؤيد الدولة، رضي الله عنه، التي نكأت القلوب وأقرحت الأكباد، وبين العطية في مولانا الأمير الأجل فخر الدولة التي أقرت العيون، وأثلجت الصدور، فلقد كنت لجميع ذلك متصوراً وبه محيطاً، ولو لم أعلمه بالمراعاة، وأضرب فيه بسهم الموالة، لعلمته بالقياس والاستدلال، لأني كافحت الثانية للأولى، ولاقيت الداهية الجلى في الملك الأعظم، والسيد المقدم عضد الدولة وتاج الملة، لقاه الله روحه وريحانه، وبوأه جنته ورضوانه، وقاسيت شدائد متعبة فيما خدمته به أيام عليته المتطاولة، وفيما نفذته بعده من وصاياه المؤكدة. ولما انتقل إلى جوار ربه وانقلب إلى كرامته وعفوه، ثنيت وجهي إلى احتذاء مراسمه، وامتثال أوامره، فيما عقده من العهد للملك القائم بعده، الساد ثلمة مكانه، الوارث شرف منزلته، المستقر في علياء رتبته، مولانا صمصام الدولة وشمس الملة، مستملياً فيما أخذت وتركت، وأوردت وأصدرت، من سديد ىرائه، ومستضيئاً بوميض لألائه، وضارباً وجوه النوائب بيمن طائره، وسعادة طالعه، إلى أن تجلت غماؤها، وأسمح إباؤها، وتذللت صعابها، وتفللت أنيابها، وضربت الدولة بجرانها، واستعلت بأركانها، واطمأنت على مهادها، وطرف الله عين شنائها وحسادها؛ هذا على شوائب كانت تعترض ثم تقلع، وتطل ثم لا تقشع، لا تخلو الدول المتجددة من اعتنان أمثالها وأشكالها، وأحسن بها مع حسن عقباها ومآلها. فلو وصفت لسيدنا ما مر بي في هذه الأحوال من إصلاح الفاسد، وتقويم المائد، وقبض المنبسط، وإرضاء المتسخط، وتألف المخالف، واستقادة المتجانف، ومقابلة كل داء بدوائه، وتعديل كل أمر خيف من اضطرابه والتوائه، لطال الخطب واتصل القول. وأنا أحمد الله على أن جمع بيننا فيا تولانا به من المعونة التي قضينا بها حق موالينا الأمراء السادة، صلوات الله على من مضى منهم وسلف، وأطال الله بقاء من قام بعدهم وخلف، وإياه أسأل إدامتهم والزيادة فيها، ليشار إلينا في المستقلين بحمل أياديهم، كما يشار إليهم في الإنعام على مواليهم، بمنه وطوله.
وأما ما أورده سيدنا الصاحب في الحض على التآلف والتعطف، والنهي عن التقاطع والتدابر، فمثله - ولا مثل له - قال ذلك وأرشد إليه، وأشار به وحث عليه. وحقيق علينا فيما نلتزمه من شكر النعم التي خصتنا خصائصها، وتظاهرت علينا ملابسها، أن نكرر على أسماع موالينا ما يعود عليهم وعلينا في ظلهم، باجتماع الشمل، واتصال الحبل، والتعاضد الكابت لأعدائهم، الزائد في عليائهم، وبالله ما أجد عند مولانا صمصام الدولة مستزاداً في ذلك، ولا موضعاً لبعث باعث عليه، إذ كان يرجع إلى أكرم طبيعة، واشرف غريزة، وأفخر نجار، واثقب رأي وأصح اختيار، ويرى لمولانا وعمه وسيدنا الأمير الأجل فخر الدولة ما ينبغي أن يراه من الحق العظيم، والفضل الكبير، ويثق بما له عنده من مثل ذلك، ويعتقد في سيدنا الصاحب ا يعتقد في أول الوزراء، وأجل الكبراء، والأوحد في الدولة، والمتفرد بكل فضيلة، والمعول على رأيه، والمرجوع إلى تدبيره في ما خص وعم، وجل ودق، وما أخل برأب هذه الحال وعمارتها وحراستها، ونفي الأقذاء والشوائب عنها، وبلوغ كل غاية في تقريرها وتمهيدها، وتثبيتها وتوطيدها، غير موجب لنفسي فيها من الحمد إلا ما يجب للعارف بالحق والمؤدي للفرض.

وأما تمهيد سيدنا الصاحب عذر مولانا الأجل فخر الدولة، وإصداره ما صدر إلي عن حضرته، ووعده بما وعد به من مستأنف زيادته، فقد شكرت ذلك، وتحملت المنة فيه، ووثقت من سيدنا الصاحب بأن كرمه وكيل لي عليه، ونائب عني عنده، في توفيتي من جهتها جميعاً، ما أستحق بالموالاة الممحوضة غير المشوبة، والطاعة المصدوقة غير المكذوبة، وبما وسمني به مولانا الملك السيد صمصام الدولة وشمس الملة من نعماه وأثرته، وفوضه إلي من وزارته ومظاهرته، مؤهلاً لي في ذلك التفرد والاستبداد، وذاهباً بي عما كان أمر الوزارة جارياً عليه من الشركاء والأنداد. ولست أخاف وقد عرفت لسيدنا الصاحب حق السابق المجلي أن يمنعني حق التالي المصلي، في ما تراه العيون ظاهراً، أو تتناقله الأخبار سائراً، ومن ورائه باطن مني في التعبد له، والانحطاط عنه، أشهد الله على سماحة نفسي به، وانشراح صدري له، وصل الله ما تقرر في قلبي من إعظامه، وتحصل في يدي من عهده وذمامه، باحسن ما اتصلت به ذات بين، والتأم عليه شمل فريقين، لطوله ومنه، ومشيئته وإذنه.
وقد سمعت من أبي العلاء ما أداه، وأجبت عنه بما اقتضاه، واعتددت له شكر ما أشكره، وإن كنت لا أرضى حداً أقف عنده في مراعاة مثله ممن انتسب إلى جملته الجليلة، وفئته الشريفة، وكان مرسوماً منها بالسفارة، موسوماً بتحمل الرسالة، وقبل ذلك وبعده، فإني أرغب إلى سيدنا الصاحب في إمدادي بأمره ونهيه، وتصريفي في عوارض خدمته، واختصاصي بمفاوضته ومباسطته، واعتمادي بحاجاته وأوطاره، وإطلاعي على سائر أحواله وأخباره، ومتجدد نعم الله عنده، ومواهبه له، فإن رأى أن يتوخاني بالمنة في ذلك، محققاً سالف ظني به، ومنجزاً آنف وعده، فعل، إن شاء الله تعالى.
كتب كاتب إلى خارجي: استزلك الشيطان بمكره وخديعته فأطعته، ودعاك بعداواته إلى ما فيه فساد دنياك فأجبته، وخرجت إلى المعصية وقد عرفت وعورة مركبها، وصعوبة مسلكها، وخشونة مصحبها، وسوء مصرعها، ثم فعلت ذلك حين استبصر المستبصرون، وأناب المنيبون، ونزع العارفون، لما اظهر الله من فضل إمامهم ونشر من عدله، وغمر به من إحسانه وفضله.
كتب بعض الكتاب القدماء: ليس لمن قد عرف مثل الذي عرفت من فضلك عذر في إضاعة حظه منك، ولا حجة في الإمساك عن إذكارك بالحقوق التي تربها برعايتك. وإذا تأملت أمري وتصفحت أحوال أهل دهري، علمت أن لكل رجل بضاعة ينفق بها، ووسيلة بها يتوسل، سوقاً يجلب إليها تلك البضاعة، وأملاً يقصده بتلك الوسيلة. وإنك أولى الناس واحقهم بالإمساك علي، لأن سوقي ليست بنافقة عند أحد نفاقها عندك، وبضاعتي ليست زاكية عند أحد كزكائها في حيزك. وأنا وإن كانت الأيام دخلت بين وبينك، وبين حظي منك، وعارضتني في أملي فيك، فليس إلى أن أقطع أسباب رجائي منك، وأنصرف عن الأمور الداعية إليك سبيل. وليس إمساك السماء عن طالب الغيث في حال من الأحوال، بمانع من رجائها في مستقبل الأيام، ولا داع إلى اليأس منها في غابر الدهر. وما منعني من الكتاب إليك منذ حدثت هذه الحوادث إلا الانتظار إن تسكن النائرة، فإن لكل شيء حمة، ولكل مكروه مدة، ولكل حادث تناهياً، فالزوال أولى به، ولا خير في مساورة النوائب وهي مقبلة، ولا في معارضة الدهر في وقت حدته وشدته، وربما تطأطأ المرء للمحنة فتخطته، وعدل عن سنن الشر فنجا منه، وفارق مدرجته، فأمن معرته. وإن هذه المحنة لمحنة ألمت بي، وما أعرف للزمان فيها عذراً، ولا لما جنى علي منها سبباً، لأنه إن كان ذلك لحال كانت بيني وبين من كنت أواصل، فوالله ما ظننت المودات بين الناس ذنباً عند السلطان فأجتنبه، ولا جرماً محتسباً فأتنكبه.
فصل من هذه المكاتبة: فأنت العدة على الزمان، والعون على الدهر المستنجد على الأيام. وقد قصدتك بكتابي هذا لتجدد ما لعل الغيبة أخلقته من الحال، فإنها ربما أحدثت في القلوب النسيان، وقد قيل في ذلك: من الوافر
إذا ما شئت أن تنسى خليلاً ... فأكثِرْ دونَه عدَّ الليالي
فما أسلى فؤادَك مثلُ نأيٍ ... ولا أبلى جديداً كابتذالٍ
ولم يرد علي وارد هو أبلغ من تقوية أملي واستحكام رجائي من العلم بدوام ما كنت أعهد منك، وأن هذه المحنة لم تؤثر علي أثراً من رأيك.

وكتب أبو اسحاق الصابي إلى بعض إخوانه: وقد سألتني عن الفرق بين المترسل والشاعر، وكنت سألتني - أدام الله عزل - عن السب في أن أكثر المترسلين البلغاء لا يفلقون في الشعر، وان أكثر الشعراء الفحول لا يجيدون في الترسل. فأجبتك بقول مجمل، ووعدتك بشرح له مفصل، وأنا فاعل ذلك بمشيئة الله فأقول: إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه، لأن أفخر الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك غرضه في أول وهلة سماعه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعط غرضه إلا بعد مماطلة نمه لك، وعرض منك عليه. فلما صارت الإصابتان في الأمرين متراميتين على طريقين متباينين بعد على الفراغ أن تجمعهما، فشرقت إلى هذا فرقة، وغربت إلى ذاك أخرى، ومال كل من الجميع إلى الجانب الموافق لطبعه. ثم ترتبوا في المسافة بينهما، فكان الأفضل من أهل كل مذهب من وقع في الغاية او قريباً منها، وجعل الوسط خالياً أو كالخالي لقلة عدد الواقعين فيه. فليس يكاد يوجد جامع بين الإحسانين إلا على شرط يزيد به الأمر تعذراً والعدد تنزراً، وهو أن يكون طبعه طائعاً له، ممتداً معه، فإذا دعاه إلى التطرف به إلى أحد الجانبين أطاعه وانقاد إليهن كإبراهيم بن العباس الصولي وأبي علي البصير ومن جرى مجراهما؛ فهذا جواب مسألتك. وتبقى فيها زيادات وانفصالات لا بأس بإيرادها ليكون القول قد استغرق مداها، وتمت أولاه بأخراه؛ ذلك أن للسائل أن يقول: فمن اية جهة صار الأحسن في معاني الترسل الوضوح وفي معاني الشعر الغموض؟

فالجواب أن الشعر بني على حدود مقررة وأوزان مقدرة، وفصل أبياتاً كل واحد منها قائم بذاته وغير محتاج إلى غيره إلا ما يتفق أن يكون مضمناً بأخيه، وهو عيب فيه. فلما كان النفس لا يمكنه أن يمتد في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه، وكلاهما قليل، احتاج إلى أن يكون الفضل في المعنى، فاعتمد أن يلطف ويدق، ليصير المفضي إليه والمطل عليه بمنزلة الفائز بذخيرة خافية استفادها، والظافر بخبيئة دفينة استخرجها واستنبطها. ثم إن للمتأمل وقفات على أعجاز الأبيات، وقد وضعت لإدراك المعنى والفطنة للمغزى، وفي مثل ذلك تحسن خفايا الأثر وبعد المرمى. والترسل مبني على مخالفة هذه الطريقة ومعاكستها، إذ كان كلاماً واحداً لا يتجزأ ولا ينفصل إلا فصولاً طوالاً. وهو موضوع وضع ما يهذ هذاً أو يقرأ متصلاً، ويمر على أسماع شتى الأحوال: من خاصة ورعية، وذوي أفهام ذكية وغبية. فإذا كان متسهلاً ومتسلسلاً ساغ فيها وقرب إذنه في أفهامها، وتساوقت الألسن في تلاوته، والألباب في درايته. فجميع ما يستحب في الأول يستكره في الثاني، وجميع ما يستحب في الثاني يستكره في الأول، حتى إن ما قدمناه من عيب في التضمين في الشعر هو فضيلة في فصول الرسائل. ألا ترى أن حسنها ما كان متعلقاً بعضه ببعض، ومقتضياً تعطفاً من الهوادي على التوالي، ورداً من الأواخر على المبادي. فمتى خرج الشعر على سنن الابتداع والاختراع فكان ساذجاً مغسولاً، فقائله معيب غير مصيب، والترك له أدل على العقل وأولى بذوي الفضل. ومتى خرج الترسل عن أن يكون جلياً سلساً تعثرت الأسماع في حزونته، وتحيرت الأفهام في مسالكه، فأظلم مشرقه، وتكدر رونقه، وكان صاحبه مستكره الطريقة، مستهجن الصناعة. وقد بقيت في الباب زيادة أخرى: وهي الإخبار عن سبب قلة المترسلين وكثرة الشعراء، وعن العلة في نباهة أولئك وخمول هؤلاء. فالجواب عن ذلك أن الشاعر إنما يصوغ قصيدته بيتاً بيتاً، فهو يجمع قريحته وقدرته على كل بيت منها، فيقرره ويبلغ إرادته نمه، وله من الوزن والقافية قائد وسائق يقومان له بأكثر حدود العر، فكأنه إنما يحذوه على مثال، أو يفرغه في قالب مماثل. والمترسل يصوغ رسالته متحدة متجمعة، ويضمها من اقطار متراخية متسعة، وربما أسهب حتى تستغرق الواحدة من رسائله أقدار القصائد الطوال الكثيرة. هذا إلى ما يتعاطاه من فخامة الألفاظ اللائقة بأن يصدر مثلها عن السلطان وإليه، والتصرف فيها على صروب ما تتصرف عليه أحوال الزمان وعوارض الحدثان. فلذلك صار وجود المضطلعين بجودة النثر أعز، وعددهم انزر. فاما ارتفاع طبقتهم على تلك الطبقة، فإن المترسلين إنما يترسلون في جباية خراج، أو سد ثغر، أو عمارة بلاد، أو إصلاح فساد، أو تحريض على جهاد، أو احتجاج على فئة، أو مجادلة لملة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن فرقة، أو تهنئة بغبطة، أو تعزية على رزية، أو ما شاكل ذلك من جلائل الخطوب ومعاظم الشؤون التي يحتاجون فيها أن يكونوا ذوي أدوات كثيرة، ومعرفة مفننة. وقد وسمتهم الكتابة بشرفها، وبوأتهم منزلة رياستها، فأخطارهم عالية بحسب علو خطر ما يفيضون فيه ويذهبون إليه. والشعراء إنما أغراضهم التي يرتمون نحوها، وغاياتهم التي يجرون إليها، وصف الديار والآثار، والحنين إلى الأهواء والأوطار، والتشبيب بالنساء، والطلب والاجتداء، والمديح والهجاء. فليس يجرون مع اولئك في مضمار، ولا يقاربونهم في الاقتدار. وهذا قول فيما أردناه إن شاء الله تعالى.
وكتب أبو إسحاق الصابي من كتاب إلى رعية خرجت عن الطاعة:

أما بعد، أحسن الله توفيقكم؛ إن الشيطان لا يزال بكسو الخدع والشبهات ساربيل الحجج والبينات ليشعل بها الأحلام، ويستزل الأقدام، وتتجه له المداخل على عقول ربما استضعفها، ومال بها إلى موارد غوايتها، وأزلها عن سنن هدايتها، وأراها الحق محالاً، والرشد ضلالاً، والخطا إصابة، والخطل أصالة. بذلك جرت منه العادة، وقامت عليه الشهادة، واستحق أن تعصب به اللعنة، وتتوقى منه الفتنة. وإذا كان ذلك كذلك، فحقيق على كل ناظر لنفسه، وحافظ لدينه، أن يتحرز من الوقوع في أشراكه المبثوثة، وحبائله المنصوبة، وخطاطيفه الحجن التي تجتذب القلوب، وتغتال الألباب، وتورد الموارد التي لا صدر عنها، ولا انفكاك منها، وأن يتهم هواجس فكره، ووساوس صدره، ويعرضها على نظره وفحصه، وتأمله وبحثه.
ومنه: وقد علمتم - رعاكم الله - أن هذا الشيطان اللعين نازع لكم منذ حين، وأنكم على ثبج منخطة فتنة قد برقت بوارقها، وزمجرت رواعدها، وجرت الفرقة التي لا شيء أضر منها، ولا أنفع من تجنبها، والنزوع عنها. قال الله تعالى، وهو أصدق القائلين، وأكرم المنعمين: واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. ومن خالف آدابه وسننه فقد خسر دنياه وآخرته، وأضاع عاجلته وآجلته، وتبوأ مقعده من النار، واستحقها استحقاق الكفار الأشرار، والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
ونمه: وأمير المؤمنين يستعيذ بالله لنفسه ولكم من زلة القدم، وعاقبة الندم، ويسأله أن يردكم إلى الأولى ويلهمكم التقوى، ويصدف بكم عن المناهج الغوية والموارد المخزية، بمنه وحوله وطوله.
وكتب عن نفسه إلىالصاحب ابن عباد: كتابي - أطال الله بقاء مولانا - عن حظ من السلامة وافر، وظل من الكفاية ساتر، والحمد لله رب العالمين. وقد كنت فيما قبل أقل من مكاتبة مولانا إقلال المخل بحق يجب، والمقارف لذنب ينكر، وأسكن مع ذاك إلى أن معرفته الثاقبة تستنبط عذري وإن غمض، ومعدلته الفائضة تمحص ذنبي وإن ظهر. وع تقابل فطنته وإشارتي، وتوارد صفحه ومعذرتي، فلا بأس بأن أوضح الأمر لغيره، ممن عسى أن يكون خفي عنه لأسلم عليه من التعجب، سلامتي على مولانا الصاحب من التعتب، وهو أنني كنت منذ سنين كثيرة مرمياً بعطلة، وموسوماً بعزلة، فتخوفت أن يتطرق لبعض المنحرفين عني، والباغين علي، قول ربما تطرق مثله على من نبا به زمانه، وهرته أوطانه، فأكون قد أبديت لمراصده عن مقاتلي، ولمخاتلة عن حز مفاصلي، فلزمت التقية، وكرهت الأذية، وانتظرت الإمكان، وتوقعت دورة الزمان، وعلى ذاك فوالله - أطال الله بقاء مولانا - ما فارقت منذ عرضت بيني وبينه الشقة،وأبعدتني عنه الشقوة، ذكره وشكره، والثناء عليه والاعتداد به؛ وإن محاسن وجهه لنصب عيني، ومخارج لفظه حشو سمعي، ونوادر فضله جل أدبي، والإسناد عنه كنه فخري. هذا وإنما خدمته أيام كانت رياسته سراً في ضمير الزمان،وديناً في ضمان الأيام، فكيف لو رأيته آمراً ناهياً بين وسادتيه، ورأى خادماً ماثلاً بين يديه؟ وما يمكنني أن أهجو دهراً قصر خطوتي عنه، وقد أعطاه من استحقاقه ما أعطى، ولا إن أمدحه وقد حرمني من جواره ما حرم. فإن أوجبت له شكراً فلعظم بلائه عنده، وإن ألحقت به ذماً فلاتصال القواطع عنه، ولا سيما وإنما حماني عن ورود بحر زاخر، وحجبني عن ضياء بدر زاهر، ومنعني من بلال نوء ماطر، وأخرجني عن غمرة غيث قاطر، وحال بيني وبين من إليه الشكوى له، ومنه العدوى عليه، حتى خلا بي فأفرط ظلمه، وتحكم في فجار حكمه.

وكتب إلى صديق له: وصل كتاب مولاي وفهمته. فاما ما شكاه من الشوق إلي، فأحلف بالله إنه صادق فيه، مستغن عندي عن إقامة شاهد بما أجده من مثله. كيف لا يكو كذلك وقد أوحشنا الزمان من الإخوان، وأفردنا دون الأقران، فصار كل منا بضاعة صاحبه المزجاة الواحدة، وذخيرته الشاذة للشدة الفاردة. ومنذ فرق الدهر بين داريان، فقد دانى بين قلبينا، وعرفنا فضل صنيعه إلينا، بأن أبقانا من بين من أفنى، وأخرنا عمن مضى وأودى. وحياة مولاي - أطالها الله - ما تتعلل عيني إلا بتصوره، ولا قلبي إلا بتذكره، ولا قطعت كتبي عنه إلا بنية واصلة له، ومودة مواظبة عليه، ومخالصة لا ينقصها الإغباب، ولا يزيد فيها الإدمان. وأرجو أن يزول بنا دوران الزمان، وكرات الليالي والأيام، إلى اتصال حبل وانتظام شمل، واستقرار دار، وتداني جوار.
وكتب عن قاضي القضاة محمد بن معروف إلى الوزير أبي منصور محمد بن الحسين: الدنيا - أطال الله بقاء سيدنا الوزير - مذمومة ممن تساعد، فضلاً عمن تعاند. وقد علم الله انني لم أزل زاهداً فيها، ذاهباً عنها، أيام الإقبال والشبيبة، فكيف عند وشك الرحيل والمفارقة؟! ولو سلم الأحرار فيها من دواعي الحاجة، وعوارض الخلة، لهانت عليهم مقاطعتها ومصارمتها، واستتب طريقهم إلى متاركتها ومفارقتها، وخاصة من كان مثلي في تداني المدى، وتقاصر الخطى، والتوجه إلى الدار الأخرى. لكنه لا بد فيها للمجتاز، وإن كان لا بثاً على أوفاز من مادة تسبل ستر التجمل عليه، وتمنع من ظهور الخصاصة به. ولمولانا الملك علي نعم سوابغ، وأياد سوبق، وقد كان سبيلي أن أشتغل بشكرها، وأستمر على نشرها، والحديث بها، وأتوقف عن استضافة غيرها إليها لولا المعذرة التي قدمتها، والضرورة التي أومأت إليها، ومن تمام هذه النعم أن يكون الوجه مصوناً والقوت موجوداً.
وكتب عن ابن بقية إلى عضد الدولة: فأما اعتقاده - اطال الله بقاءه - حفظ الألفة، ودحض ما ألم بها من الوحشة، فمشاكل لآرائه الصحيحة وأخلاقه السجيحة، ولما لم أزل أبعث وأحث عليه، وادعو وأرشد إليه. وإذا كان هذا رأيه، وكان عند مولانا الأمير عز الدولة مثله، وكنت بينهما مسدياً ملحماً فيه، وباذلاً وسعي في تقرير أواخيه، فما ينبغي أن تقعد بنا حال عن الجمع بين القول والفعل، والمساواة بين الشاهد الغائب، والمطابقة بين البادي والخافي. وأما اللزوم لسنن موالينا الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - فمولانا أولى من حافظ عليها، وتمسك بها، وكل من بعده من موال - أدام الله نعماءهم - فيهم يقتدى، وبآدابهم يهتدى. وما يخالف في ذلك إلا من الحق خصمه، والحجة عليه، والله تعالى من وراء معونته إن انثنى وراجع، أو المعونة عليه إن أصر وتتايع. وها هنا - أيد الله مولانا - أحوال أخر، ودواع إلى اعتقاد هذه الألفة لو لم تسبق الوصية بها من القرن الخالف: فمنها أن الأدوات التي أدت الماضين إلى تلك الآراء السديدة الرشيدة، هي في الغابرين الباقين - مد الله في أعمارهم - أوجد، وعليهم أحسن، وهم بأن يستأنفوها ويستقبلوها أولى من أن يتعلموها ويتقيلوها، لارتفاع العصابة التي مولانا وسيدنا زعيمها، واللحمة التي هو كبيرها وعظيمها؛ ومنها أن انتشار التظالم إن بدا - والعياذ بالله - لم يقف ند الحد الذي يقدر أن يقف عنده، ولم يخص الجانب الذي يظن أنه يلحقه وحده، بل يدب دبيب النار في الهشيم، ويسري كما يسري النغل في الأديم. وكثيراً ما يعدي الصحاج مبارك الجرب، ويتخطى الأذى إلى المرتقى الصعب، في مثل ذلك، وانعكاس المتحملات في مثل ذلك أقرب من استتابها، والتواؤها أسرع من اعتدالها.
وكان أبو إسحاق الصابي محبوساً في دار المطهر بن عبد الله، وصودر على مال أجحف به، وكان المطهر يراعي حاله، وكان معه ابناه محبوسين، ويخرج كل واحد منهما في نوبة له. واتفق إن المطهر تفقد حال أبي إسحاق في مطمعه ومشربه، فأنكر خللاً رآه، وضرب الطباخ ومنع المستخرج من مطالبته ببقية كانت عليه، وحال بينه وبين مخاطبته، وكان ذلك في نوبة ابنه الأصغر أبي علي المحسن، فكتب إليه:

يا أبا علي، جعلني الله فداك، عشنا بعدك ما شينا، وشبعنا وروينا، وأرخت السماء عزاليها، واثعنجرت بما فيها، فغمر الماء الزبى، ونقع من الصدى، ولبست الأرض قناعها الاخضر، ونضت شعارها الأغبر، وعاضنا الغض العميم من المصوح الهشيم، وجزأنا الرطب المخضوم من اليابس المقضوم، فعاشت العاملة والماشية، وهاجت الآبية الغاشية، وارتجعت روايا المطايا، ما أخذت منها المخارم والثنايا، مستردة بمشافرها ما جذب البرى بمناخرها، سائمةً بين الكثيف الكث، من الطباق والشث، وسارحة في المناخ الفسيح، من القيصوم والشيح، فنحن في سوابغ من النعم، نرتع فيها رتعة النعم، قد عز عندنا أن يستضاف لدينا ضيف كريم، واستغنى إن يرتضع لئيم، وأترعت الجفان وذماً، واستحال القرم بشماً وحالت البطنة دون الفطنة، ومنع الطعام دون تراجع الكلام، فلو أن قساً بيننا لخرس، أو دغفلاً لأبلس، وكأن الشاعر إنما أراد أحدنا بقوله: من الطويل
أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل
فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
فهزيلنا بحمد الله سامن، وضئيلنا بإذن الله بادن، وأخلافنا دارة، وغلاتنا مترعة، ورياضتنا مخصية، وعرصاتنا معشبة، ومشاربنا متأقة، وأنهارنا متدفقة، وأشجارنا مورقة مرجحنة، وأطيارنا مغردة، وريحنا رخاء، وعيشنا سراء، وزماننا ربيع كله، وليلنا معر من أوله، ونهارنا ضحى إلى آخره. وقد أخرجنا الله من شدة إلى بلهنية، ومن ضغطة إلى رفاهية، ومن شقوة إلى سعادة، نأكل الطيب المستمرأ بعد الخبيث المستوبأ، ونشرب البارد العذب، بعد الآجن الملح. وأدركتنا هزة الرعاية، وأطت بنا عند سلاطيننا - اطال الله بقاءهم - رحم الولاية، وأبدلنا من الاطراح محافظة وعناية، ومن الإدالة صوناً ووقاية، وحصلنا في ضيافة سيدنا الأستاذ الكريمة، واستنقذنا من ملكة المستخرج السيئة اللئيمة، فها هو ذا يكذب دوننا إذا حمل، ويغني عنا إذا نظر، ويتعزل بيتنا تعزل الأحوص بيت عاتكة، يرانا نمه بنجوة، وكنا له بالأمس طعمة، ويصرف أنيابه حسرة، وكنا له قبل اليوم مضغة، ويهر على غيرنا مع الأحرار هريراً، ويملأ أسماعنا فيهم زئيراً، قد ذلت لنا من بينهم صعبته، ولانت في أيدينا صعدته، وجار على عجمنا عوده، ومال على غمرنا عموده، وفطرفه مغضوض، وإبهامه معضوض، ومنار عظمته مخفوض، ومبرم هيبته منقوض. قد شكل عنا بشكال، ونشطنا على رغمه من عقال، فهو بالصغر باش بنا بعد اكفهرار، وهاش لنا بعد اقشعرار، ومتبسم في وجوهنا بعد تجهم، ومقيد ألفاظه عنا بعد تهجم، ومتثعلب في مخاطبتنا بعد تقسور، ومصانع بعد تغمشر، وذلك ا ألبسناه الله من عز الرضى وصلاح النمقلب والمفضى. والحمد لله رب العالمين، وإياه نسأل أن يبلغنا منتهى آمالنا، والغاية من اقتراحنا في هذه الدولة التي تقادمت فيها علائقنا، واستحكمت وثائقنا، ولم تزل نعمها متوقعة مضمونة، ونقمها مصلحة مأمونة، ونحن الآن طلائح نكبة، وطرائح محنة، قد أوجب الله لنا فيها الثواب بعد العقاب، والجنة بعد الحساب، والتعويض بعد التمحيص، والتأنيب بعد التخصيص، وبالله التوفيق.
فأجابه أبو علي: وصلت معه سيدي - أطال الله بقاءه - مبشرة بالغيث الذي غمر الورى، وروى الثرى، وبلغ الزبى، ونقع الصدى، وحرش الضباب، وأهاج الذئاب، وأسال التلاع، وملأ البقاع: من البسيط
فن بمخلفِه كمَن بنجوَتِهِ ... والمستَكنُّ كمَنْ يمشي بقرواحِ
قد لبست الأرض أفخر حللها، وتحلت بعد عطلها، وابتسمت عن نوارها، وضحكت عن زوارها، وثقلت بعد خفها، وتضوعت عن نسيم عرفها، بالكلأ الذي طبق البلاد، وعلا الوهاد، وعم السهوب، وشفى القلوب، فالحاطب بطيء الأوبة، والقابس قرين الخيبة، قد جن ذبابه، ونعب غرابه، وسمنت حواشيه، وغرزت مواشيه، فكأن الثلج في مواطنها، والقطن المندوف بين معاطنها، يتطرف ولا يتنحى، ويتتبع ولا يستقصى. قد أكثبها السعدان، وأحسبها المكر والضيمران، فما تبرح عن مأوى ولا تنزح عن طلب مرعى، قد ألقت رعاتها عصيها، واستوقفت مضاجعها، وجعلت حبالها على غواربها، وأهملتها في مسارجها، فانداحت بطونها، وانبسطت غضونها، واستحشت أكرعها، واستحنت أضلعها، فكأن القائل لها وصف، وإياها عنى، في قوله: من الخفيف

إبلي الإبل لا يحوزها الرا ... عون مج الندى عليها الغمام
سمنت فاستحش أكرعها لا الن ... ني ني ولا السنام سنام
وما ألبسه - أدام الله تأييده - من سوابغ النعم، ومنحه من مطايب الطعم، وأترع له من الجفان الرذم، وشمله من أريحيات الكرم، حتى كظ البشم، وذهب القرم، وأودت الفطن، وعييت اللسن، وصار قس في خطابته كباقل، إذ عي عن حسابه ودعفل كبعض الأعراب وقد سئل عن النضناض ففتح عن فيه، وأدار لسانه فيه، أو كأحمد بن هشام الذي استطرد القائل عليه بقوله: من الطويل
وصافيةٍ تُعْشي العيونَ رقيقةٍ ... رَهينةِ عَامٍ في الدِّنانِ وعَامِ
أَدَرْنَا بها الكأسَ الرَّوِيَّةَ بَيينا ... من الليلِ حتى انجابَ كُلُّ ظلامِ
فما ذَرَّ قّرْنُ الَّمسِ حتَّى كأنَّنا ... من العيِّ نحكي أحمدَ بنَ هشامِ
أو كأنا في إجابته التي بعد منها المرام، وتقاصرت دونها الأفهام، فهي كالسماك في علوه، والعيوق في سموه، تحرن في يد مقتادها، وتعز على مرتادها، محاولها مقهور، والسالك إليها حسير. وضربت معه - أدام الله تأييده - بالسهم الفائز، وأخذت بالنصيب الوافر، في كل ما عدد ووصف، وابان وعرف، من إطلال السعود، وكبت الحسود، وانحسار النوائب، وإسعاف المطالب، وعود السلطان - أطال الله بقاءه - إلى ما يوجبه علاه، ويقتضيه إياه، من قديم الحرمة، وسالف الموالاة والخدمة، له، من المحافظة على الولي المخلص، والعبد المتحقق، بعد التهذيب والتأديب، اللذين لم يعدوا الإصلاح ولم يتجاوزوا الإرشاد؛ والحصول في كنف سيدنا ومولانا الأستاذ الجليل - أطال الله بقاءه - الذي من تبوأه سلم ونجا، ومن تنكبه هلك وهوى؛ وضيافته التي وضحت سبلها، واشتهرت طرقها، وجواره العزيز الذي لا تستطيعه النوائب، ولا تتخونه الحوادث، والانقاذ من ملكة المستخرج، القصير النسب، الدقيق الحسب، الذي لا يراقب، ولا يخاف العواقب، ولا تدركه هزة، ولا تعطفه أريحية، والخروج عن يده الكزة الأصابع، القليلة لامنافع، اللئيمة الظفر، الكثيرة الضر، التي لا مخلص لمن وقع بين أناملها، ولا منتزع لمن نشب في مخالبها.
فالحمد لله الذي كفها عنا بعد الانبساط، وقصرها بعد الاشتطاط، وجعل مقلها يكدمها دوننا عضاً، ويبدلها بالبسط علينا قبضاً، قد ذللته الهيبة، وقيدته الطاعة، فأنس بعد نفاره، وعدل عن ازوراره، حمداً يقضى له الحق، ويؤدى الفرض، ويمترى المزيد من النعم، ويؤمن نوازل النقم؛ وإياه أسأل أن يجعل سيدي في حماه الذي لا يرام، ويلحظه بعينه التي لا تنام، ويجريه على العادة، ولا يقطع عنه المادة، بمنه وقدرته.
لما قبض هلال بن بدر بن حسنويه على أبيه بدر، وقال الناس في ذلك ما شاءوا، فمن منكر لفعله مستفظع، ومن مصوب له عاذر، سئل أبو الحسن علي بن نصر الكاتب إنشاء كتاب يبين فيه عن عذر هلال ويحسن أثره، فكتب:

إن أولى ما استمع، وأحرى ما اقتفي وابتع، كتاب الله تعالى المنزل على قلب نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وازلف محله لديه إذ يقول جل جلاله وصدق مقاله، مؤدباً للخلق، وحاضاً على قول الحق، ومخوفاً من الإثم المكتسب، ومحذراً من الوزر المحتقب: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ويقول: يا أيها الذين ىمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً، فجعل التقوى له منوطة بالقول السديد، والنطق الرشيد. فلا يجب لأحد من الخاصة والعامة، وجد الرياء في خليقته، وشيئاً باين طبعه وسليقته، أن يحكم التهم عليه، يوجه الظنن إليه، استنكاراً لظاهره المستهجن، دون استشفاف باطنه المستحسن، لا سيما إن صدر من ذي رئاسة، وبصير بسياسة، قد لابس الخير ولاشر، ومارس النفع والضر، وعلم كيف تصرف الأمور، وتقلب الأيام والدهور. فإن لكل بدء خاتمة يورد عليها، وعاقبةً يفضى إليها، ولرب جميل انكشف عن القبيح غطاؤه، وقبيح انحسر عن الجميل غشاؤه، ولا يعلم الإنسان ما في المغيب. وإن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، جعل الإسلام ديناً قيماً يهدي إليه من الجهالة، وطريقاً مستقيماً أوضح عليه الدلالة، وسبباً مبيناً استنقذ به من الضلالة، ختم به الأديان والملل، وحتم أتباعه على كافة الشرائع والنحل، وجعل العاجلة لمن جهل واضح حجته، وعدل عن لائح محجته، وبغى الفسا فيه، وخالف أوامره ونواهيه، واستحل ما حرم الله تعالى من أهليه، سفكاً للدماء المحقونة، وهتكاً للمحارم المصونة، وفتكاً بالنفوس المحرمة، ونهكاً للأموال المجتمعة، سيفاً يحصد شوكته، وحقاً يقصم شرته، وخوفاً يشرد طمأنينته، وأصاره في الآجلة إلى نا ر تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، الذي كذب وتولى. ثم وعد غير الراضي بفعله، والجاري في مذاهبه وسبله، جزاء الاسف والندامة، ورداه برداء الخزي يوم القيامة، قال الله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين، وقال: ومن يتبع غيرسبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً. وخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بصورة المؤمنين وصفة المتقين، فقال تعالى: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الغيمان وأيدهم بروح منه. فحق لمن عق في الله أباه، وهجر في مرضاته زوجه وأخاه، وقطع في طاعته رحمه، وحاد في ذاته عشيرته ولحمه، أن يلحقه بعباده الذين ارتضى فعلهم، وشكر سعيهم وعملهم، وأعد الجنة ثواباً لهم، إذ كان ما يتكلفه من هذه الحال التي تأباها الطباع، وتنفر منها القلوب والأسماع، مبالغةً في القربة إلى ربه، وحرصاً على تحصيل ثوابه وأجره.

ومنها: وإنا لما وجدنا أبانا - هداه الله إلى الهدى وعدل به إلى السبيل المثلى - قد استمر على مزلفة مردية، ومدرجة مودية، مع تخلق العمر، ونزول الأمر، ومشارفة حلول القبر، ورأينا له الكف عن غربه أصلح، والتخفيف عن ذنبه أربح، وقصره عن استزادة السيئات أكمل في بره، وحصره عن الاستكثار من الموبقات أفضل في شكره، فقبضنا يده المبسوطة بالشر، وكففنا سهامه المبثوثة بالضر، وأخفناه على نفسه خيفة تردعه، وتلجمه وتزعه، عسى الله أن يهديه لرشده، ويرده إلى سواء قصده، فيطفو من غمرته، ويصحو من سكرته، ويرجع إلى ربه رجوع المضطر، وينزع نزوع الذي مسه الضر، ومعه بقية من عمره، يتدارك بها الفائت من أمره، بتوبة متحنف ضاج، ودعوة متلهف راج، فإنه تعالى يقول: ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون، فنكون لحق تربيته قاضين، ولحرمة أبوته حافظين، باجتذابنا إياه إلى مصلحته، واستلابنا له من ضلالته وفتنته، قبل فوت وقته ومدته. ونسأل الله تعالى توفيقاً لما قرب منه، وأزلف عنده ولديه، وله - جل ثناؤه - الحمد الطويل، والشكر الجزيل، على ما أنعم به علينا، وأزله من منحه إلينا، وسببه بتوفيقه لنا من إصلاح الفاسد، ورد الحائد، وتقويم الزائل، وتعديل المائل، ورم الثلم وزم الكلم، وإمرار حبل الدين، ونظم شمل المسلمين، حمد من قدر منحته بقدرها، وعرف لها حق شكرها، وإليها الرغبة في الإمتاع بجميل الموهبة، وإلهام الصبر على ما امتحنا به من مكافحة شيخنا، وفي اتباع دينه وكتابه، واجتناب جوالب سخطه وعقابه. فليعلم الخاص والعام ممن انتهى إليه هذا الأثر، وقرئ عليه هذا الخبر، أن النعمة إن لم تخصه في ما فعلناه، فلم تبعده بمشاركة الكافة في ما أرغناه، ومساهمة الجماعة في ما آثرناه من مصالحهم وابتغيناه. فلينصف من نفسه، وليصرف عنها وساوس هجسه، وما يخطر لها من تخيل أنا خلله، وأوضحنا بطوله وزلله، ليسر الطاعة في قلبه، وليظهرها في فعله ونطقه، يجد من الله هادياً رؤوفاً، ومن سائسه راعياً عطوفاً، ومن الرشد طريقاً مهيعاً، ومن القصد سبيلاً متبعاً، فإن الله مع المؤمنين، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وعمل فصولاً على ألسنة جماعة من المتقدمين، عرضت على الوزير أبي العباس، فلما قبلت ومدحت كتب مقراً بها فيما بعد: الألفاظ - أطال الله بقاء الوزير - نتائج الأفكار، وحالة من القلوب محل الأولاد: يكون منهم القرة والعرة، وبكليهما يقع الافتتان والمسرة، وليس يصح لأحد علم جميلها من قبيحها، ومعرفة سقيمها من صحيحها، إلا بأن يسلط عليها ثواقب الأفهام، وجهابذة الكلام، ثم يتخلى عنها، ويتبرأ منها، ليسلم ذامها من المراقبة والمحاباة، ويبعد مما اصطلحت عليه الطباع، واتفقت عليه الأسماع، من مقابلة ما يورده المتأخر بالرد، أمام التصفح له والنقد، واستشعاره تقصيره فيه، قبل تأمل ألفاظه ومعانيه. فإن المحدث مظلوم، والمحدث خاصة مفهوم، وفي ذلك أخبار متعالمة، وأحاديث متعارفة متداولة. ولا عذر لمن شافهه من الوزير - اطال الله بقاءه - لسان البلاغة، وواجهه إنسان عين الفصاحة، وقومه شخص الكتابة، واستخدمه ملك الخطابة، ألا يجري بالسداد قلمه، والصواب كلمه؛ كما لا حرج عليه مع تشبث الهموم بفكره، وتمكنها من صدره، أن يكثر خطأه وخطله، ويتصل عثاره وزلله. وكنت خدمته بفصول مختلفة المباني ولاأصول، تقلبت فيها تقلبي في إحسانه، ونشرت مطويها نشري لإنعامه وامتنانه، ونحلت حملاً منها من لا يتجمل بملكه، وإن تحملت بانخراطها ف ينظمه وسلكه، متعمداً بذلك ما قدمته، معتقداً فيه ما قررته، وما ا،شط الآن مع نفاقها في سوق مجده، ابتعاثها شرارة من زنده، لتركها، ومن لم يعرق في استنباطها جبينه، ولا در لاستخراجها وتينه، وأرجو أن ال يجلب هذا الإقرار تغييراً، ولا يولد على السنة المألوفة نقيصةً ولا تقصيراً. وهذه ظلامة لا يسع العادل تركها، ولا يسوغ في النصفة العدول عنها، وليس تجري المطالبة بها مجرى الرجوع في الهدية، وإنما هو كاسترداد القرض والعارية. والله يحسن توفيقي لطاعته، ولا يسلبني حسن تثقيفه وهدايته، بمنه وقدرته، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وكتب إلى صديق له:

قد عرفت، أيها الأخ، الدهر وتبدله، والزمان وتنقله، وأنه غير ملتزم لوتيرة، ولا مبرم القتل على مريرة، بينا هو مقبل حتى يعرض، ومنبسط حتى ينقبض، ومعط حتى يحرم، ومعاف حتى يسقم، وعادل حتى يظلم، وبان حتى يهدم؛ الغدر سجيته ودأبه، والفتك بغيته وطلابه. فالعاقل غير ساكن إلى حبائه، والحازم غير واثق بوفائه. لا يجد الإنسان عليه ظهيراً، ولا من نوائبه نصيراً، إلا أخاً ادخره في رخائه لشدته، وذا ود اعتقده بأصالة رأيه لفاقته، فعساه أني لطف لإزالة بلواه، إذا غاض صبره على سكون من النفس إليه، وأمان من الشماتة بما يقف من حاله عليه. فكثيراً ما خرج الاحرار باحزانهم مستروحين بنفثها، وباحوا بأشجانهم بائحين ببثها، إلى مستبشر بما لحقهم، وإن كتم استبشاره وحزنه، ومبتهج بما طرقهم وإن ستر ابتهاجه وشجنه، وما احسن وصية المتنبي، سقى الله صداه، في قوله: من البسيط
لا تَشْكُ يوماً إلى خَلْقٍ فَتُشْمِتَهُ ... شكوى الجَريحِ إلىالغربانِ والرَّخَمِ
فليس بقليل الحظ من ظفر بخل أمن سره وجهره، وعلم خيره وشره، وطعم حلوه ومره. وما زلت على مر الليالي والأزمان، أنتقي الاخلاء والإخوان لأضيف إليك آخر أعضدك ونفسي باختصاصه، ويشد عضدك ويدي باستخلاصه، حتى طلع في السنين المتطاولة، وبعد لي الأيام المماطلة، في أفق المودة والإخاء، وسماء المخيلة والرخاء، السيد أبو فلان، وألفيته متخلصاً من شوائب القتام، موفياً في رضاع سخيله على بدر التمام. فأولت رؤيته أمراً مقبلاً وسللت على عنق الأيام منه منصلاً، وما زالت الخبرة توفي على الخبر، والتجربة تزيد في حسن الأثر، إلى أن استحكمت قواعد الوداد، وضربت الثقة دون سداده بالأسداد، ثم أراني الحظ الآن آمراً مخالفاً لما كنت به عارفاً، وأسمع لفظاً منافياً ما كنت له آلفاً، من إخلال بوصال أحال فيه على موجب الحال، وقوة من خطاب كانت لا تخطر قديماً له ببال، وتنزه عن الاعتذار عند الفرطات كان مبذولاً على مر الساعات، وأمارات بعد هذا وأمارات؛ وأنا لطلبي أطب العلة بالصبر، ولسوء ظني أستجيب لما أسامه من أمره وفساد مثله، حرسه الله، غير مسموح به. وتغير العادة على مثلي أبلغ شيء في أذى قلبه، فأنا بين مصابرة ومساترة، ومواربة ومساورة: من الطويل
يقولوا تجنَّب عادةً ما عَرَفْتَها ... شديدٌ على الإنسانِ ما لم يُعَوَّدِ
فإن رأيت أن تقف على هذه الجملة سراً، وتوسعها تدبيراً وفكراً، وتسبل عليها من كتمانك جناحاً وستراً، وتهدي لرأي تعمله لأعمله، وتمثله لأمتثله، فعلت، إن شاء الله تعالى.
ومن كلام له: ومثله - ادام الله تأييده - ممن تراعى حسناته وتلحظ، وتزوى زلاته وتحفظ، ويثنى عليه بصحة العهد والذمام، ويسرع إليه قدح العيب والملام، يجعل الاناة زماماً لأعماله، والروية رائداً لأفعاله،فيسيء بالعجلة ظناً ويقلب الرأي ظهراً وبطناً، حتى إذا صفا من الشوائب، وشف له عن غيب العواقب، أبداه عن يقين لا يطور به الشك، وأمضاه على تحقيق لا يسوغ معه الترك، والله - عز اسمه - يهديه للأوفق، ويرشده إلى الأحرى بفضله والاليق، إنه على كل شيء قدير.
وكتب إلى دار الخلافة في معنى سقوط فرس:

انتهى إلينا نبأ شغل القلب وروعه، وقسم الفكر ووزعه، وجلب الاهتمام ودعاه، وأوجب الإزعاج واقتضاه، وتعقبه خبر دفع الكربة وصرفها، ورفع الغمة وكشفها، وطرد المساءة بالمسرة، وأبدل الإشفاق بالحبرة، من عثرة زلت لها يد الجواد، وكبوة كانت والسلامة على ميعاد، وإنما قرنها الله تعالى بها ملاحظة، وأجراها معها محافظة، لتصرف روعة باديها، وتكفى عاقبة عواديها، وتحسم مادة الأذى والضرر فيها. وإن كان ما يتخذ من المراكب للخدمة الشريفة كريماً نسبه وعرقه، مهذباً مذهبه وخلقه، أميناً خببه وركضه، وثيقةً سماؤه وأرضه، فإنه يتضاءل عند أعباء المجد، ويضعف عند امتطاء الشرف العد، ويري أن عليه من عز الخلافة وفخارها، وحكم الإمامة ووقارها، ما تزل معه الأطواد الفارعة، وتضيق به الأقطار الواسعة. فذنبه بعذره ممزوج، وعثاره لاستقلاله موهوب. والحمد لله الذي كمل لدينا البر والإنعام، وكفى المسلين والإسلام، وجعل المخافة بالنعمة مقرونة، والسلامة مع الحذر مضمونة، وإليه الرغبة في حراسة الحضرة النبوية، من عوارض المحذور، وطوارق الدهور، وأن يجعل أيامها موصولة بالامن واليمن، وسعادتها منظومة بين الإحسان والحسن، فلا نتخللاه شائبة، إنه على كل شيء قدير.
أنبأناك هذه الجملة لتقوم بإنهائها على عادة منابتك، وتشفي اختصارها بإسهابك وإطالتك، وتجيئنا بما نسكن إليه. ونشكر الله الكريم عليه، ونعتده منك ولك، إن شاء الله تعالى.
كتب أبو القاسم الحسين بن علي المغربي إلى أبي القاسم سليمان بن فهد، وقد أهدى إليه خمسة أقلام في يوم نيروز: للناس - أطال الله بقاء الأستاذ الجليل - عادة في مثل هذا اليوم بتهادي الأقلام، وقد كان يجب أن يكون هذا الفعل محظوراً إلا عليه، وممنوعاً إلا منه، لان الأقلام إذا أهديت إليه قد أعطيت قوس البلاغة باريها، وأعلمت أفراس الكتابة مجريها، وأنصفت هذه الآلة ولم تظلم، وأكرمت هذه الأداة الخطرة ولم تهتضم. وإذا عدل عنه - حرسه الله - فقد أنزلت دار غربة، وأحلت منزل هوان وذلة، وشتت عن أوطانها، وشردت عن ميدانها، وفرق بينها وبين من يستخدمها في توشية برود المجد، وتسهيم ملابس الحمد، وتأنق روض الفصاحة، واستثمار جنى البلاغة، وما أحق هذا المعنى بما قيل: من الكامل
إقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذ هجرت ذميم
لو كنت أملك منع مائك لم يذق ... ما في قلاتك ما حييت لئيم
ولكن لو ملكت إمارة هذه الصناعة، لحميت منابت اليراع، وصنت مغارس الغياض، ولمنعتها إلا من كل صنع اللسان واليد، كريم القول والفعل، ولخصصته - أدام الله تأييده - بأبيات ابن عنمة كلها: من الخفيف
أَنْتَ خَير من ألف ألفٍ من النا ... س ما كَبَتْ وجُوهُ الرجالِ
عِندَكَ البِرَّ والتُقَى وأَسى والنَّف ... سِ وحملٌ لِمُضْلعِ الأثقالِ
وصلاتُ الأرحام قد علم الل ... ه وفكّ الأسرى من الأغلالِ
وعلى هذه المقدمات التي طغى بها اللفظ، ولم أعتمد فيها إلا ما بين عن القصد، فقد نفذت خمسة أقلام لا أصفها بالجودة ولا الجود، فأطعن على فروسية يده التي تمتطي الصعب والذلول، وتمر في الوعث والسهول، وهو أدام الله تأييده - يشفع في قلتها نية منفذها، إن شاء الله تعالى.
ومن كلام أخي أبي نصر الحسن بن الحسن بن حمدون: وقد كان الاحتياط من طعن الغائب يقتضيني إخلاء هذا الجمع مما يتهم هواي فيه، وحكم الإنصاف علي بأن أوفيه حقه إذ كان لاحقاً بالقدماء في صناعته؛ تشهد له بذلك رسائله.
رسالة كتبها جواباً عن تاج الدولة أبي طالب بن الطاهر نقيب الطالبيين إلى أبي عبد الله أحمد بن علي بن المعمر:

أوصل إلي فلان - أدام الله علو الجانب الفلاني وقدرته، ورفع في الآخرة كما رفع في الدنيا درجته، وكمل بنيل الأماني جذله ومسرته، وأضاء باتصال البشائر والتهاني لديه أسرته، وجمل بطول بقائه عترته الطاهرة وأسرته - كتاباً كريماً يشتمل على ضروب من البر وفنون، وأبكار من الطول المتتابعة أمداده إلي وعون، وفضل يذعن له بالسبق كل ذي براعة وخط، يهزأ حسناً بما تخطه يد كل ذي يراعة وتصرف في العبارة، لم يكن للصاحب ولا ابن العميد، وتمكن في البلاغة لم يعطه مولى العلاء بن وهب عبد الحميد؛ ويقسم للمعاني التي ركبت في جسد الكلام روحاً، وجعلت صدر قارئها وسامعها بالالتذاذ بها مشروحاً. ووقفت عليه مجيلاً في ميدان الثناء بأياديه المتالية جوادي، وشاكراً لما نزله إلي من عوارفه شكر الرياض المجودة من الغوادي، ومعترفاً بآلاء البيت الكريم المعضودة عوائدها عندي بالبوادي، السائرة أخبارها في الحواضر والبوادي. وعرفت ما تضمنه من الإشارة إلى غزير فضله الذي نحلنيه، ووصفه الجميل الذي أعارنيه، وعلمه الذي لا يساجله فيه مساجل ولا يدانيه، والشهادة لي من ذلك تمريه، لولا جلالة قدره، وشرف عنصره الزاكي ونجره، لقلت دافعاً ما شهد لي به، وكساني حلل الفخر: بحسبه أن الفضائل لا يسعها إلا أوعية حامليها، والعلوم تفضح عند الاختبار منتحلها كاذباً ومدعيها، لكن إذا شهد لي مثله من الأماجد وفرسان الادب، الذين يقر ببراعتهم فيه كل جاحد، فليس إلا التلقي بيد القابل الشاكر، واستخدام الافكار في الثناء على معاليه والخواطر.
فأما ما كلف موصل الخطاب حمله، وأوعز إليه بالمشافهة به تفصيلاً وجملة، فقد أورد ما عزاه إلى التقدم التاجي وأسنده، وحقق القول فيه وأكده، وجلا وجود العوائق للنفوس عن راحتها، وأزال المكاره المناسبة لأحوال الوقت بساحتها، فالفرصة في قصد تلك الخدمة منتهزة، والغنيمة بالفوز بها - إن شاء الله - مع وجود السبيل محرزة.
وكتب إلىة صديق له من البغداديين انتقل إلى الموصل وصار إليها، وعرض فيها بذكر الجمال محمد بن علي الأصبهاني، وزير الشام والموصل، المشهور بالأفضال والجود: سيدنا - اطال الله بقاءه، وأدام ارتفاعه إلى فلك المعالي وارتقاءه، ويسر له كل ارب تسمو نحوه همته - وصل النجح ولقاءه، وضاعف عناء حسوده الراغم وشقاءه - حجة بغداد على من جحد فضلها، ولسانها المجادل بالحف لمن عاند أهلها، وعنوان ما خصها الله به من المحاسن التي لا ينكرها إلا ظالم معت، ولا يخالف عليها إلا كل جائر عن القصد غير مهتد، فإنه البارع في كرمه، الفارع هضاب الانفراد عن الاقران بشيمه، الحاوي قصب السبق بما اشتهر من مروءته، المغبر في أوجه الكهول في ريعان شبيبته، الجامع أشتات المحامد بأخلاقه الممدوحة بكل لسان، المحبوبة إلى كل إنسان، فقد رفع عنا في المحاجة دونها كلفة المقال، ووضع عنا وزر المراء المنهي عن المباهاة به وإثم الجدال. وصارت الموصلى تزهى به وتدعيه، وتقول لنفسها إن هم بفراقك فلا تدعيه، فقد ازدانت بسداده عرصتك، وذهب كمدك بحلول من مثله وغصتك، واتسع لك في مفاخرة بغداد بادعائك إياه ضيق المجال، ووجدت به ضالتك في زمان أضحى وهو محط الرحال. هذه إشارة لا ينكر ذوو الالباب، العالمون بدليل الخطاب، أن لسان الحال بها من لسان المقال أفصح، وميدان المستدل عليها أفسح، وميزانه أوفى عند إثبات البينات وأرجح وحجته أظهر يومئذ وأوضح.
وعرض علي فلان فصلاً كريماً من حضرته، يتضمن إهداء السلام إلي وشكر ما تأدى إليه من ثنائي لمحاسنه التي لا منة لي في وصفها المتعين علي، فوقفت منه مع اختصاره على بلاغة في إيجاز، وعبارة تستدعي من متدبرها نشوة طرب واهتزاز. وسرحت سوام طرفي من خطه في رياض مونقة، وحدائق بالأزهار مشرقة: من الكامل
كتفتح النوار فتقه الحيا ... أو كالصبَّاح فرى الدجى بعموده

وما زلت قبل وروده أناجي نفسي بقرع باب المكاتبة وأحدثها، وأحملها على عمارة سبيل المواصلة وأبعثها، وأهجن عندها المقاطعة المتصلة، والمصارمة المستعملة، مهما تأكد في سالف الأيام بين الأسلاف، من الوداد الجميل الأوصاف، وكون ذلك عند الأبناء قرابةً مرعيةً ونسباً، وإلى تقارض المودة في ذات بينهم سبباً. فتقول لي: العادات سنن متبوعة، وملل مشروعة، والذي استمر به العرف أن يكون ابتداء المكاتبات من المسافر، والمفاتحة بها من الظاعن عن وطنه السائر، فلا تثريب عليك في الانقباض ولا ملام، ولا مقال للزاري عليك في ترك المباسطة ولا كلام. لكن لما استمرت مدة الانقباض المستهجن وطالت، وأسهبت المحافظة في توبيخها على تراخي هذه الحال وأطالت، ووصلني الفصل الذي وفر حبرتي واغتباطي، وحرك لتلافي فارط التقصير نشاطي، رأيت أن مثله - وإن عز وجوده - يحتسب له ولا يحاسب، وتبذل له العتبى ولا يعاتب. فنشطت قلمي من عقاله، وعجت عن هجر الاسترسال إلى وصاله، مشعراً له - أدام الله علوه - أن كثيراً من الأجانب، ومن لم يرني من الجوانب، يقلدني نجاد المنة بخير ينبي عند ذكري، وقول جميل أبناؤه نحوي تسري، أو كتاب يصدره إلي مفتحاً، أو يشكر به خدمة رأى تقربي بها متضحاً، فكيف لي إن يقتدي في حقي بالبعداء من يحل مني محل الأعزة والأقرباء، إما بمواصلة جميلة، أو نيابة بتحسين الذكر كفيلة. وهذا مقام لا يستغنى فيه عن الإفصاح بالحقيقة التي يمنع الحزم من التصريح بها، وألمعيته كافية في لمحها، والاستدلال بجملتها على شرحها.
وبعد، فأنا ممن ألهمه الله حب الفضائل وفأهلها، وأغراه بشنأة من بلي بجهلها، فإذا رأيت الدهر قد سمح بماجد كريم، وعوض سوام الآمال يمرعى مريع غير هشيم، وجاد بعد ضنة بارعوائه وإعتابه، وعدل بعد ظلم بإقرار حق في نصابه، وجدت في منتي قوة كنت عدمتها، ومن همتي حركة منذ الأمد الطويل ما عملتها، واعتقدت إن بضائع الفضل البائرة قد نفقت، وأيدي مشتريها على أيدي مجهزيها بالربح قد أصفقت، وأن النقص الذي استولى على الارض من أطرافها، واشترك فيه الأعم الأغلب من مشروفي ساكنيها وأشرافها، قد رفع عاره عن الامة، وكشف بإزالته عنها حجاب الغمة. وما برحت، منذ أنشر الله رميم الكرم الدائر الدارس، وأعاد روح المعالي زاكية المنابت نامية المغارس، بالجانب الفلاني - جمع الله بدوام سعادته شمل المجد، وبلغه الغاية القصوى من علو الجد - أضوع المحافل في ذلك مبالغة من ملك الشغف قلبه فما يراقب في المغالاة خلقاً، ولا يخاف التكذيب من يقول حقاً، ما لم يكن لطمع عرضي، ورب مقام قمته، وعذر ي الاجتهاد أبليته وأقمته، وقد جرى ذكر هذا الجانب - أدام الله علاه - فقلت:
نَفسُ عصامٍ سوَدَتْ عِصاما

وهل الفخر الأوفى، وشرع المجد الأصفى، وقدح الرياسة المعلى، والسيادة المجاوزة رتبة الفرقدين محلاً، إلا من وفق الله له هذا الماجد الحلاحل، والجواد الذي ليس لبحر جوده ساحل، والكريم الذي اضحت أمواله مقسمة بأيدي عفاته نمتهبة، وأعينها لما منيت به من بغضائه منتحبة، وهمته العلية مستغرقة للأوقات في رسم عاف يعيده، وبر واف للمجتدين يفيده، ودين يقوم في حفظ معالمه إذا قعد الجميع، ويجيب داعيه وقد تصامم عنه كل سميع، ومصلحة جامعة يحيي رفاتها، ونفس مجدود يقضي من أوطارها ما فاتها، وعلم تنشر أعلامه بإرفاد حامليه، وصنع جميل يتخذه عند آمليه، ومكرمة يصيب بها مواقعها، وأحدوثة جميلة يكتسي وشائعها، وذكر ملأ الآفاق نشره طيباً، وأصبح كل لسان بمدحه خطيباً. وهل ما يتداوله الرواة، وتتناقله في الكتب الأفواه، من اخبار شيخ البرامك يحيى بن خالد، ومآثر كل كريم من قديم الزمان ماجد، والنفوس تنكر بعضه استعظاماً، وتعتده سمراً أو مناماً، إلا دون ما نراه عياناً، ونستوضح في كل ساعة دليلاً عليه وبرهاناً. لعل وجوهاً كانت في هذاالمقام حاضره، وأعيناً رامقة إلي ناظره، فزويت عني تلك غيظاً وامتقعت، وأغريت هذه بمسارقة النظر المريب نحوي وأولعت، وأنا خالع بالمضي في شوطي للعذار، غير ملتفت فيما يكمد الحاسدين إلى الاعتذار. ورأيت في تصفح هذه المفاتحة متأملاً، وقراءتها متلقياً بحسن القبول متقبلاً، واستئناف المواصلة بكتبه الكريمة التي تمهد مباني الوداد، وتعمر سبل المحافظة التي يعدها أمثاله من أولي البصائر أجمل مكتسب، وأعلى في مجاري أحواله - أجراها الله على إيثاره، وأمدها بجنود السعادة في ليله ونهاره - ما اشتبهت أرواح الإنس بمعرفته، ولشكر صنع الله عنده في مقابلته أعلى.
وما وضع صدور الأدباء رسائل أسماء بغير أجسام، وألفاظاً بغير معان، إلا ليدلوا على موعهم من البراعة، وينبهوا على محلهم من البلاغة. فمنهم الجاحظ وكان مسهباً يستقي من بحر لا نيزح ماؤه، ويمتري أثباج در لا تقلع سماؤه، ويهدر هدير الفنيق بلا نهاية، ويؤم نهجاً لا مقصد له ولا غاية، والمعري يحوم ولا يعوم، ويلوب ولا يرد، ويلغز ولا يبرز، كأنما عنده مضمر يخاف من كشفه، وخلل إن أظهره آذن بحتفه. وله رسائل كثيرة لكنها موشية بوهمات الإلحاد، ومبنية على اختلاطه في الاعتقاد، كأنه شاك مريب أو هازئ عابث، وقد استكثر من روايتها فإن تركت معجمة أهملت، وإن فسرت خرجت عن معنى الرسائل، وصارت بكتب اللغة أشبه، مع أن الحرج يمنع من التعرض لتدوينها، وقد اقتصرت منها على رسالة هي من أسلمها. وللبديع والحريري مع تبريزهما أبداً صريحهما عن الرغوة وإعلانهام بالاختلاف والغربة، فوضعا حكايات مفعولة، عن أسماء مجهولة، أبانا بها عن فضائل ليست بمفضولة. نسأل الله السلامة من موبق الضلال والمين، وأن يكشف عن بصائرنا غياهب الهوى والرين.
رسالة كتبها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ إلى مويس بن عمران: زينك الله بالتقوى، وكفاك ما أهمك من أمر الآخرة والدنيا، وأعزل بالقناعة، وختم لك بالسعادة، وجعلك من الشاكرين. عن عاقب - أبقاك الله - على الصغير بعقوبة الكبير، وعلى الهفوة بعقوبة الإصرار، وعلى الخطأ بعقوبة العمد، وعلى معصية المقلين، فقد تناهى في الظلم. ومن لم يفرق بين الأعالي والأسافل، وبين الأقاصي والأداني، عاقب على الزنا بعقوبة السرق، وعلى القتل بعقوبة القذف. ومن خرج إلى ذلك في باب العقاب، خرج إلى مثله في باب الثواب. ولا أعلم ناراً أبلغ في إحراق أهلها من نار الغيظ، ولا حركة أنقض لقوى الأبدان من طلب لسان الجليس المداخل. والشعار دون الدثار، والخاص دون العام. والطالب - جعلت فداك - بغرض ظفر ما لم يخرج المطلوب الجبان، وما لم تقع المنازلة.
ومن الحزم ألا تخرج إلى العدو إلا ومعك من القوى ما يعم الفضلة التي يتيحها لك الإخراج، ولا بد أيضاً من حزم يحذرك مصارع البغي، ويخوفك ناصر المظلوم.

وبعد، فأنت - أبقاك الله - تضر من ألم الغيظ نفسك، والغيظ عذاب أليم، وربما زاد التشفي في الغيظ ولم ينقص منه. ولست على يقين من أن يعود سهمك في ضرك، كما أقنت بموضع الغيظ من صدرك. والحازم لا يلتمس شفاء غيظه باجتلاب ضغنه، ولا يطفئ نار غضبه بأحر من غضبه، ولا يسدد سهمه إلا والغرض ممكن، والغاية قريبة، ولا يهرب والهرب معجز. إن سلطان الغيظ غشوم، وإن حكم الغضب جائر، وأضعف ما يكون العزم عند التصرف، واضعف ما يكون الجزم والغضب في طباع سلطان الهوى، والهوى يتصور في صورة امرأة، ولا يبصر مساقط العيب ومواقع السرف إلا كل معتدل الطباع، مستوي الأسباب. والله لقد كنت اكره سرف الرضى مخافة جواذبه إلى سرف الهوى، فما ظنك بسرف الغضب وبغلبة الغيظ، ولا سيما ممن تعود إهما النفس، ولم يعودها الصبر، ولم يعرفها موضع الحظ في تجرع المرارة، وأن المراد من الأمور عواقبها عواجلها. ولقد كنت اشفق عليك من إفراط السرور، فما ظنك بإفراط الغضب؟ وقد قال الناس: لا خير في طول الراحة إذا كان يورث الغفلة، ولا في طول الكفاية إذا كان يؤدي المعجزة، ولا في كثرة العي إذا كان يخرج إلى البلادة.
جعلت فداك، إن داء الحزن، وإن كان قاتلاً، فإنه داء مماطل، وسقمه مطاول، ومعه من التمهل بقدر قسطه من أناة المرة السوداء، وداء الغيظ سفيه طياش، وعجول فحاش،يعجل عن التوبة، ويقطع دون الوصية، ومعه من الحرق بقدر قسطه من التهاب المرة الحمراء. وأنت روح كما أنت جسم، من قرنك إلى قدمك. وعمل الآفة في الدقاق العتاق أسرع، وصدها عن الغلاظ الجفاة آكد، فلذلك اشتد جزعي لك من سلطان الغيظ وغلبة الغضب. فإذا أردت إن تعرف مقدار الذنب إليك، من مقدار عقابك عليه، فانظر في علته وفي مخرج سببه، وإلى معدنه الذي فيه نجم، وعشه الذي منه درج، ومغرسه الذي فيه نبت، وإلى جهة صاحبه في التتابع والنزع، وفي التسرع والثبات، وإلى حاله عند التقريع، وإلى حيائه عند التعريض، وإلى فطنته عند الرشق والتورية، فإن فضل الغيظ ربما دل على فرط الاكتراث بكون الاقدام والاحجام، فكل ذنب كان سببه الرأي، أو ضيق صدر وغلق طباع، وجد مراراً، أو من جهة تأويل أو من جهة الغيظ في المقادير أو من طريق فرط الأنفة، وغلبة طباع الحمية من بعض الجفوة أو لبعض الأثرة، أو من جهة استحقاقه عند نفسه، وفيما زين له عمله أنه مقصر به، مؤخر عن مرتبته، أو كان مبلغاً عنه، أو مكذوباً عليه، أو كان ذلك جائزا فيه غير ممتنع نه، فإذا كانت ذنوبه من هذا الشكل وعلى هذه الأسباب، وفي هذه المجاري، فليس يقف عليها كريم، ولا يلتفت لفتها حليم، ولست أسميه بكبير معروفه كريماً، حتى يكون عقله غامراً لعلمه، وعلمه غالباً لطبعه، كما أني لا أسميه بالذي أرى من كفه عن القصاص حليماً، حتى يكون عالماً بما ترك، وعارفاً بما أخذ. واسم الحلم جامع للظلم والقدرة والفهم، فإذا وجدت الذنب بعد ذلك لا سبب له إلا البغضة وإلا تشفي النفس والعناد الغالب، فلو لم ترض لصاحبه بعقاب دون قعر جهنم لعدلك كثير من العقلاء، ولصوب رأيك عالم من الأشراف. ومتى كانتت طبيعته البذاء، وخليقته الشرارة والتسرع، فاقتله قتل العقارب، وادمغه دمغ رؤوس الحيات. وإذا كان ممن لا يسيء فيك القول، ولا يرصدك بالمكروه، إلا لتعطيه على الخوف، وتمنع عرضك من جهة التقية، فامنعه من جميع رفدك، واحتل في منعه من قبل غيرك. فإنك إن أعطيته على هذه الشريطة، وأعظمته مع هذه الحكومة، فقد شاركته في سب نفسك، واستدعيت الألسنة البذيئة إلى عرضك، فكنت عيناً لهم عليك، وباباً لهم إليك. وكيف تعاقبه على ذنب لك شطره، وأنت فيه قسيمه، إلا أن عليك غرمه وله غنمه؟ ومن العدل المحض والانصاف الصريح أن تحط عن الحسود نصف عقابه، وتقتصر به على مقداره، لأن ألم حسده لك قد كفاك مؤونة شطر غيظك عليه.

وأما الواد فلا تعرض له ألبتة، ولا تلتفت لفته، ولو أتى على الحرث والنسل، وجثا على الروح والقلب. ولا تغتر بقوله إني أود، ولا تحكم له بدعواه أني جد وامق، وانظر أنت في حديثه وإلى مخارج لفظه، وفي لحن قوله، وإلى طريقه وطبعه، وإلى خلقه وخليقته، وإلى تصرفه وتصميمه، وإلى توقفه وتهوره؛ وتأمل مقدار جزعه من قلة اكتراثه، وانظر إلى غضبه فيك ولك، وإلى انصرافه عمن انصرف عنك، وميله إلى من مال إليك، وإلى تسلمه من الشر، وتعرضه له، وإلى مداهنته وكشف قناعه، بل لا تقض له بجميع ذلك ما كان ذلك في أيام دوليتك، ومع إقبال إمرتك، وإن طالت الأيام وكثرت الشهور، حتى تنتظم له الحالات وتستوي فيه الأزمان؛ نعم، ثم لا تحكم له بذلك حتى يكون خلقه حالة مقصورة على محبتك، ومحتوية عليك وعلى نصيحتك، بالعلل التي توجب الأفعال، والأسباب التي تسخر القلوب للمودات. فإن أنت لم تحكم له بالعادة مع احتمال هذه العلل فيه، ومع توافيها إليه، ولم تقض له بأقصى النهاية، مع ترادف هذه الأسباب، وتكافل هذه الدلائل، وتعاون هذه البرهانات، فكل بينة إذن زور، وكل دلالة فاسدة. وقد قال الأول: إن دلائل الأمور أشد تثبيتاً من شهادات الرجال، إلا أن يكون في البر دليل ومع الشهادة برهان، لأن الدليل لا يكذب ولا ينافق، ولا يزيد ولا يبدل، وشهادة الإنسان لا تمنع من ذلك، وليس معها أمان من فساد ما كان الإمكان قائماً.
فإن جهلت - أعزك الله - علة غضبك، فتمثل جهل من لا علة له؛ وإن عجزت عن احتمال عقابك، فتمثل عجز ما لا يطاق حمله، ولا عار على جازع إلا فيما يمكن في مثله الصبر، ولا لوم على جاهل فيما لا ينجح في مثله الفكر. وليس هذا اول شرك نصبته، ولا أول كيد أرغته، وما هي بأول دنية غطيتها وسترتها، وحيلة أكمنتها ورمقتها. وقد كانت التقية أحزم، والاقتضاء أسلم؛ بل كان العفو أرحم، والتغافل أكرم. ولا خير في عقوبة تشمت العدو القديم، ويتنادى بها العدو الحادث. والأناة أبلغ من الحزم، وأبعد من الذم، وأحمد مغبة، وأبعد من مخوف العجلة، وقد قال الأول: عليك بالأناة فإنك على إيقاع ما أنت موقعه أقدر منك على رد ما أوقعته، وقد اخطأ من قال: من البسيط
قد يدرك المتأنِّي بعض حاجته ... وقد يكونُ مع المستعجلِ الزَّللُ
بل لو كان قال: المتأني بدرك حاجاته أحق، والمستعجل بفوت حاجاته أخلق، كان قد وفى المعنى حقه، وأعطى اللفظ حظه، وإن كان القول الأول موزوناً والثاني منثوراً. وليس يصارع الغضب أيام شبابه وغرب نابه شيءٌ إلا صرعه، ولا ينازعه قبل انتهائه وإدباره شيء إلا قهره؛ وإنما يحتال له قبل هيجه، ويتوثق منه قبل حركته، ويتقدم في حسم أسبابه، وفي قطع حباله، فإذا تمكن واستفحل وأذكى ناره واشتعل، ثم لاقى ذلك من صاحبه قدرةً، ومن أعوانه سمعاً وطاعةً، فلو أسعطه بالتوراة وأوجرته بالإنجيل، ولددته بالزبور، وأفرغت على رأسه القرآن إفراغاً، وأتيته بآدم عليه السلم شفيعاً، لما قصر دون أقصى قوته، ولتمنى أن يعار أصناف قدرته. وقد جاء في الأثر: إن أقرب ما يكون العبد من غضب ربه إذا غضب. وقال قتادة: ليس يسكن غضب العبد إلا ذكره غضب الرب.
فلا تقف - حفظك الله - بعد مضيك في عتابي التماساً للعفو عني، ولا تقصر عن إفراطك من طريق الرحمة لي، ولكن قف وقفة من يتهم الغضب على عقله، ولاسلطان على دينه، ويعلم أن للعقل خصوماً، وللكرم أعداء؛ وتمسك إمساك من لا يبرئ نفسه من الهوى، ولا يبرئ الهوى من الخطأ، ولا تنكر لنفسك أن تزل، ولعقلك أن يهفو، فقد زل آدم عليه السلم وهفا، وغره عدوه، وخدعه خصمه، وعيب بإخلاف عزمه، وسكون قلبه إلى خلاف ثقته؛ هذا وقد خلقه الله بيده وأسكنه في دار امنه، وأسجد له ملائكته، ورفع فوق العالمين درجته. فلست أسألك إلا ريثما تسكن نفسك،ويرتد إليك ذهنك، وترى الحلم وما يجلب من السلامة وطيب الأحدوثة.

إن الله ليعلم، وكفى به عليماً، وليشهد وكفى به شهيداً، وكفى بجزاء من يعلمه ما لا يعلم جزاء وتعرضاً، وكفى به عند الله بعداً ومقتاً. لقد أردت أن أفديك بنفسي في بعض كتبي، وكنت عند نفسي في عداد الموتى وفي حيز الهلكى. فرأيت أن من الخيانة لك، ومن اللؤم في معاملتك، أن أفديك بنفس ميتة وأن أريك أني قد جدت لك بأنفس علق والعلق معدوم. وأنا أقول لك - أبقاك الله - كما قال اخو ثقيف: مودة الاخ التالد وإن أخلق خير من مودة الطارف، وإن ظهرت بشاشته وراعتك جدته. سلمك الله وسلم عليك، وحفظك وكلاك، وكان لك ومعك.
رسالة أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري تسمى الإغريضية: السلام عليك أيتها الحكمة المغربية، ولاألفاظ العربية، أي هواء رقاك، وأي غيث سقاك، برقه كالإحريض، وودقه مثل الإغريض، حللت الربوة، وجللت عن الهبوة، أقول لك ما قال أخو نمير لفتاة بني عمير: من الوافر
زكا لكِ صالحٌ وخّلاكِ ذَمٌّ ... وصبحَّكِ الأَيامنُ والسعودُ
لأنا آسف على قربك من الغراب الحجازي، على حسن الزي، لما أقفر، وركب السفر، فقدم جبال الروم في نو، أنزل البرس من الجو، فالتفت إلى عطفه، وقد شمط فأسي، وترك النعيب أو نسي، وهبط الأرض فمشى في قيد وتمثل ببيت دريد: من الطويل
صَبَا ما صَبَا حتّى علا الشَّيْبُ رأسَهُ ... فلما علاهُ قالَ للباطلِ أبعَدِ
وأراد الإياب في ذلك الجلباب، فكره الشمات فكمد حتى مات؛ ورب ولي أغرق في الإكرام، فوقع في الإبرام، إبرام السأم، لا إبرام السلم. فحرس الله سيدنا حتى تدغم الطاء في الهاء، فتلك حراسة بغير انتهاء، وذلك أن هذين ضدان، وعلى التضاد متباعدان، رخو وشديد، وهاو وذو تصعيد، وهما في الجهر والهمس، بمنزلة غد وأمس. وجعل الله رتبته التي هي كالفاعل والمبتدأ، نظير الفعل في أنها لا تنخفض أبداً. فقد جعلني إن حضرت عرف شاني، وإن غبت لم يجهل مكاني، ك يا في النداء، والمحذوف من الابتداء، إذا قلت زيد أقبل، والإبل الإبل، بعدما كنت كهاء الوقف إن ألغيت فبواجب، وإن ذكرت فغير لازب، إني وإن عدوت في زمان كثير الدد، كهاء العدد، لزمت المذكر فأتت بالمنكر، مع إلف يراني في الأصل، كألف الوصل، يذكرني لغير الثناء، ويطرحني عند الاستغناء، وحال كالهمزة تبدل العين، وتجعل بين بين، وتكون تارة حرف لين، وتارة مثل الصامت الرصين، فهي لا تثبت على طريقه، ولا تدرك لها صورة على الحقيقة، ونوائب ألحقت لاصغير بالكبير، كأنها ترخيم التصغير، وردت المستحلس إلى حليس، وقابوس إلى قبيس، لأمد صوتي بتلك الآلاء، ومد الكوفي صوته في هؤلاء، وأخفف عن حضرة سيدنا الرئيس الحبر، تخفيف المدني ما قدر عليه من النبر، إن كاتبت فلا ملتمس جواب، وإن أسهبت في الشكر فلا طالب ثواب. حسبي ما لدي من أياديه، وما غمر من فضل السيد الأكبر أبيه، أدام الله لهما القدرة ما دام الضرب الأول من الطويل صحيحاً، والمنسرح خفيفاً سريحاً، وقبض الله يمين عدوها عن كل معن، قبض العروض من أول وزن، وجمع له المهانة إلى التقييد، كما جمعا في ثاني المديد، وقلم قلم الفسيط، وخبل كسباعي البسيط، وعصب الله الشر بهامة شانيهما وهو مخزو، عصب الوافر الثالث وهو مجزو، بل أضمرته الأرض إضمار ثالث الكامل، وعداه أمل الآمل، وسلم سيدانا - أعز الله نصرهما، ومن أحباه وقرباه - سلامة متوسط المجموعات، فإنه آمن من المروعات؛ فقد افتننت في نعمها الرائعة، كافتنان الدائرة الرابعة، وذلك أنها أم ستة موجودين، وثلاثة مفقودين، وأنا أعد نفسي مراسلة حضرة سيدنا الجليلة، عدة ثريا الليل، وثريا سهيل، هذه القمر، وتلك عمر، وأعظمه في كل وقت إعظاماً في مقة، وبعض الإعظام في مقت، فقد نصب للآداب قبة صار الشام فيها كشامة المعيب، والعراق كعراق الشعيب، أحسب ظلالها من البردين، وأغنت العالم عن الهندين: هند الطيب، وهند النسيب، ربة الخمار، وأرباب قمار، أخذان التجر، وخدينة الهجر.

ما حاملةطوق من الليل، وبرد من المنتجع مكفوف الذيل، أوفت الأشاء، فقالت للكئيب ما شاء، تسمعه غير مفهوم، لا بالرمل ولا بالمزموم، كأن سجعها قريض، ومراسلها الغريض، فقد ماد لشجوها العود، وفقيدها لا يعود، تندب هديلاً فات، وأتيح له بعض الآفات، بأشوق إلى هديلها من عبده إلى مناسمة أنبائه، ولا أوجد على إلفها منه على زيارة فنائه، وليس الأشواق، لذوات الأطواق، ولا عند الساجعة، وعبرة متراجعة، إنما رأت الشرطين، قبل البطين، والرشاء بعد العشاء، فحكت صوت الماء في الخرير، وأتت براء دائمة التكرير، فقال جاهل فقدت حميماً، وثكلت ولداً قديماً، وهيهات يا باكية أصبحت فصدحت، وأمسيت فتناسيت، لا همام لا همام، ما أريت أعجب من هاتف الحمام سلم فناح وصمت فهو مكسور الجناح إنما الشوق لمن يذكر في كل حين، ولا يذهله مضي السنين.
وسيدنا - أطال الله بقاه - القائل النظم في الذكاء مثل الزهر، وفي النقاء مثل الجوهر، وتحسب بادرته التاج ارتفع عن الحجاج، وغابرته الحجل في الرجل يجمع بين اللفظ القليل، والمعنى الجليل، جمع الافعوان في لعابه بين القلة وفقد البلة، خشن ولان فما هان، لين الشكير يدل على عتق المحضير، وحرش الدينار، آية كرم النجار، فصنوف الأشعار بعده كألف السلم، يلفظ بها في الكلام، ولا تثبت لها هيئة بعد اللام، خلص من سبك النقد خلوص الذهب من اللهب، واللجين من يد القين، كأنه لآل، في اعناق حوال، وسواه لط، في عنق ثط، ما خانته قوة الخاطر الأمين، ولا عيب بسناد ولا تضمين، وأين النثرة من العثرة، والغرقد من الفرقد، فالساعي في أثره فارس عصا بصير، لا فارس عصا قصير، وأنا ثابت على هذه الطوية ثبات حركة البناء، مقيم تلك الشهادة بلا استثناء، غني عن الأيمان فلا عدم، مقيم على ما قلت فلا حنث ولا ندم، وإنما تخبأ الدرة للحسناء الحرة، ويجاد باليمين، في العلق الثمين، ما أنفسه خاطراً اقترى الفضة من القضة، والوصاة من مثل الحصاة، وربما نزعت الأشباه، ولم يشبه المرء أباه، ولا غرو لذلك: الخضرة أم اللهيب، والخمرة بنت الغربيب. وكذلك سيدنا: ولد من سحر المتقدمين، حكمةً للحنفاء المتدينين. كم له من قافية تبني السود. وتثني الحسود، كالميت من شرب العاتقة الكميت، نشوره قريب، وحسابه تثريب. أين مشبهو الناقة بالفدلمي، والصحصح برداء الردن، وجب الرحيل، عن الربع المحيل. نشأ بعدهم واصف، غودروا له كالمناصف، إذا سمع الخافض صفته للسهب الفسيح، والرهب الطليح، ود إن حشيته بين الاحناء، وخلوقه عصيم الهناء، وحكم بالقود في الرقود، وصاغ برى ذوات الأرسان، من برى البيض الحسان، شنفاً لدر النحور وعيون الحور، وشغفاً بدر بكي وعين مثل الركي، وإعراضاً عن بدور، سكن في الخدور، إلى حول كأهلة المحول، فهن أشباه القسي ونعام السي. وإن أخذ في نعت الخيل فيا خيبة من سبه الأوابد بالتقييد، وشبه الحافر بقعب الوليد، نعتاً غبط به الهجين المنسوب، والبازي اليعسوب، إذ رزق من الخير ما ليس لكثير من سباع الطير، وذلك أنه على الصغر سمي بعض الغرر. وقد مضى حرس، وخفت جرس، وللقالع أبغض طالع، والأزرق يجنبك عنه الفرق. فالآن سلمت الجبهة من المعض، وشمل بعضها بركات بعض، فأيقن النطيح أن ربه لا يطيح، والمهقوع نجا راكبه من الوقوع، فلن يحرب قائد المغرب، ولن يرجل سائس الأرجل. والعاب وإن لحق الكعاب، ناكب عن ناقلات المراكب. وقالت خيفانة امرئ القيس الدباءة، لراعي المباءة، والأثفية للقدر الكفية، نقماً على جاعل عدرها كقرون العروس، وجبهتها كمحذف التروس، وأنى للكندي، قواف كهمجة السعدي: من الوافر
إذا اصطكّت بِضَيْقٍ حَجْرَتَاهَا ... تلاقَى العسجديَّةُ واللطيمُ
فالقسيب في تضاعيف النسيب، والشباب في ذلك التشبيب، ليس رويه بمقلوب، ولكنه من إرواء القلوب. قد جمع أليل ماء الصبا، وصليل ظماء الظبأ، فالمصراع كوذيلة الغربية، حكت الزينة والريبة، وأرت الحسناء سناها والسمجة ما عناها. فأما الراح فلو ذكرها لشفت من الهرم، وانتفت منالكرم إلى الكرم، ولم ترض دنان العقار، بلباس القار، ونسيج العناكب على المناكب، ولكن تكسى من وشي ثياباً، ويجعل طلاؤها زرياباً. ولقد سمعته ذكر خيمةً يغبط المسك أن يكون جارها من الشيام، ويود الأخبية أنه سعد الخيام.

ووقفت على مختصر إصلاح المنطق الذي كاد بسمات الأبواب، يغني عن سائر الكتاب، فعجبت كل العجب من تقييد الاجمال بطلاء الأحمال، وقلب البحر إلى قلت النحر، وإجراء الفرات، في مثل الاخرات، شرفاً له تصنيفاً شفى الريب، وكفى من ابن قريب، ودل على جوامع اللغة بالإيماء، كما دل المضمر على ما طال من الأسماء، أقول في الإخبار، أمرت أبا عبد الجبار، فإذا أضمرته عرف متى قلت أمرته، وأبل من المرض والتمريض، بما أسقط من شهود القريض، كانهم في تلك الحال، شهدوا بالمحال، عند قاض عرف أمانتهم بالانتقاض على حق علمه بالعيان، فاستغنى فيه عن كل بيان.
وقد تأملت شواهد إصلاح المنطق فوجدتها عشرة أنواع، في عدة إخوة الصديق، لما تظاهروا على غير التحقيق، وتزيد على العشرة بواحد، كأخ ليوسف لم يكن بالشاهد. والشعر الأول، وإن كان سبب الأثرة، وصحيفة المأثرة فإنه كذوب القالة نموم الإطالة، وإن قفا نبك على حسنها وقدم سنها، لتقر بما يبطل شهادة القول الرضى، فكيف بالبغي الأنثى؟ قاتلها الله عجوزاً لو كانت بشرية، كانت من أغوى البرية. وقد تمادى بأبي يوسف - رحمه الله - الاجتهاد، في إقامة الأشهاد، حتى أنشد رجزاً لضب، وإن معداً من ذلك لجد مغضب. أعلى فصاحته يستعان بالقرض، ويستشهد بأحناش الأرض؟ ما رؤبة عنده في نفير، فما قولك في ضب دامي الأظافير؟ ومن نظر في كتاب يعقوب وجده كالمهمل، إلا باب، فعل وفعل، وفإنه مؤلف على عشرين حرفاً: ستة مذلقة، وثلاثة مطبقة، وأربعة من الحروف الشديدة، وواحد من المزيدة، ونفيثين: التاء والذال، وآخر متعال، والاختين العين والحاء، والشين مضافة إلى حيز الراء، فرحم الله أبا يوسف لو عاش لفاظ كمداً، أو احفاظ حسداً، سبق ابن السكيت ثم صار كالسكيت، وسمق ثم حار وتداً للبيت، كان الكتاب تبراً في تراب معدن، بين الحث والمتدن، فاستخرجه سيدنا واستوشاه، وصقله فكره ووشاه، فغبطه النيرات على الترقيش، والآل النقيش، فهو محبوب ليس بهين، على أنه ذو وجهين، وما من قط ولا هم، ولا نطق ولا أرم. قد ناب في كلام العرب الصميم، مناب مرآة المنجم في علم التنجيم، شخصها ضئيل ملموم، وفيها القمران والنجوم.
وأقول بعد في إعادة اللفظ: إن حكم التأليف في ذكر الكلمة مرتين كالجمع في النكاح بين أختين، الأولى حل يرام، والثانية بسل حرام. كيف يكون في الهودج لميسان، وفي الجمعة خميسان؟ يا أم الفتيات، حسبك من الهنود، ويا أبا الفتيان شرعك من السعود، عليك أنت بزينب ودعد، وسم أيها الرجل بسوى سعد، ما قل أثير، والأسماء كثير. مثل يعقوب مثل خود كثيرة الحلي، ضاعفته على التراق، وعطلت الخصر والساق.
كان يوم قدوم تلك النسخة يوم ضريب، حشر الوحوش مع الإنس، وأضاف الجنس إلى غير الجنس، ولم يحكم على الظباء بالسباء، ولا رمى الآجال بالأوجال، ولكن الأضداد تجتمع فتسمع، وتنصرف باللذات أذاة.
وإن عبده موسى لقيني نقاباً، فقال هلم كتاباً، يكون لك شرفاً، وبموالاتك في حضرة سيدنا معترفاً، فتلوت عليه هاتين الآيتين إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى وأحسبه رأى نور السؤدد فقال لمخلفيه، ما قال موسى صلى الله عليه لأهليه إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى. قليت شعري ما يطلب، اقبس ذهب أم قبس لهب؟ بل يتشرف بالاخلاق الباهرة ويتبرك بالأحساب الطاهرة: من البسيط
باتَتْ حواطبُ لَيلَى يقتَبِسنَ لها ... جَزْلَ الجذا غيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرِ
وقد آب من سفرته الأولى ومعه جذوة من نار قديمة إن لمست فنار إبراهيم، وإن أونست فنار الكليم؛ واجتنى بهاراً حبت به المرازبة كسرى، وحمل في فكاك الاسرى، وأدرك نوحاً مع القوم، وبقي غضاً إلى اليوم، وما انتجع موسى إلا الروض العميم، ولا اتبع إلا أصدق مغيم.
وورد عبده الزهيري من حضرته المطهرة كأنه زهرة نقيع، أو وردة ربيع، كثيرة الورق، طيبة العرق، ليس هو في نعمته كالريم، في ظلال الصريم، والجاب في السحاب المنجاب، لأن الظلام يسفر والغمام ينسفر، ولكنه مثل النون في اللجة، والاعفر تحت جربة.

وقد كنت عرفت سيدنا فيما سلف أن الأدب كعهود في إثر عهود، أروت النجاد فما ظنك بالوهود؟ وأني نزلت من ذلك الغيث ببلد طسم كأثر الوسم، منعه القراع من الإمراع، يا بوس بني سدوس، العدو حازب، والكلا عازب؛ يا خصب بني عبد المدان، ضان في الحربث وضأن في السعدان، فلما رأيت ذلك أتعبت الأظل، فلم أجد إلا الحنظل، فليس في اللبيد إلا الهبيد، جنيته من شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار؛ لبن الإبل عن المرار مر، وعن الأراك طيب حر.
هذا مثلي في الأدب، فأما في النشب، فلم يزل لي بحمد الله وبقاء سيدنا بلغتان: بلغة صبر وبلغة وفر، أنا منهما بين الليلة المرعية، واللقوح الربعية هذه عام، وتلك مال وطعام، والقليل سلم إلى الجليل، كالمصلي يريغ الضوء بإسباغ الوضوء، والتكفير بإدامة التعفير، وقاصد بيت الله يغسل الحوب بطول الشحوب.
وأنا في مكاتبة سيدنا الجليلة، والميل عن حضرة سيدنا الأجل والده - أعز الله نصره - كسبأ بن يعرب لما ابتهل في التقرب إلى خالق النور ومصرف الأمور، نظر فلم ير أشرف من الشمس يداً، فسجد لها تعبداً، وغير ملوم سيدنا لو أعرض عن شقائق النعمان الربعية، ومدائحه اليربوعية، مللاً عن أهل البلد المضاف إلى هذا الاسم، فغير معتذر، من أبغض لأجلهم بني المنذر، وهم إلى حضرته السنية رجلان: سائل وقائل، فأما السائل فألح، وأما القائل فغير مستملح، وقد سترت نفسي عنها ستر الخميص بالقميص، وأخي الحتر بسجوف الستر، فظهر بي فضله الذي مثله مثل الصبح إذا تصرف الحيوان في شؤونه، فخرج من بيته اليربوع، وبرز عن الملك من أجل الربوع. وقد يولع الهجرس بأن يجرس في البلد الجرد قدام أسد ورد، وإني خبرت أن تلك الرسالة الأولى عرضت بالموطن الكريم، فأوجب ذلك رحيل أختها، متعرضة لمثل بختها، وكيف لا تنفع، وفي اليم تقع؟ وهي بمقصد سيدنا فاخرة، ولو نهيت الاولى لانتهت الآخرة.
ومن رسائل أبي الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني المعروف ببديع الزمان المسماة بالمقامات: حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت وأنا في عنفوان سني، أشد رحلي لكل عماية، وأركض طرفي إلى كل غاية، حتى شربت العمر سائغه، ولبست للدهر سابغه. فلما صاح النهار بجانب ليل، وجمعت للمعاد ذيلي، وطئت ظهر المروضة، لأداء المفروضة، وصحبني في الطريق رفيق ما أنكره من سوء. فلما تجالينا، خبرنا بحالينا، أسفرت القصة عن أصل كوفي، ومذهب صوفي. وسرنا فلما حللنا المدينة ملنا إلى دارة ودخلناها، وقد بقل وجه النهار واخضر جانبه، فلما اغتمض جفن الليل وطر شاربه، قرع علينا الباب، فقلنا من القارع المنتاب؟ فقال: وفد الليل وبريده، وفل الجوع وطريده، وحر قاده الضر والزمن المر، وضيف وطؤه خفيف، وضالته رغيف، وجار يستعدي على الجوع، والجيب المرقوع، وغريب أوقدت النار في أثره، وأنبح العواء على سفره، ونبذت خلفه الحصاة، وكنست بعده العرصات، نضوه طليح، وعيشه تبريح، ومن دون فرخيه مهامه فيح.
قال عيسى بن هشام: فقبضت من كيسي قبضة الليث، وبعثت بها إليه، وقلت: زدنا سؤالاً، نزدك نوالاً. فقال: ما عرض عن العود على أحر من نار الجود، ولا لقي وفد البر بأحسن من بريد الشكر، ومن ملك الفضل فليواس، فلن يذهب العرف بين الله والناس. وأما أنت فحقق الله آمالك، وجعل اليد العليا لك. قال عيسى بن هشام: ففتحنا له الباب وقلنا له ادخل فدخل، فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندري. فقلت: يا أبا الفتح شد ما بلغت بك الخصاصة، وهذا الزي خاصة. فتبسم ثم أنشأ يقول: من مجزوء الخفيف
لايَغُرَّنَّكَ الذي ... أنا فيه من الطَّلَبْ
أنا في ثروة يَشُقْ ... قُّ لها بُرْدَهُ الطَّرَبْ
أنا لو شئتُ لاتخذ ... تُ شنوفاً من الذهب
ومما أنشأه عبد الله أبو القاسم ابن محمد الخوارزمي وسماه الرحل:

وصية لكل لبيب، متيقظ أريب، عالم أديب، يكره مواقف السقطات، ويتحفظ من مصادف الغلطات، ويتلطف من مخزيات الفرطات، أن يدعي دون مقامه، ويقتصر من تمامه، ويغض من سهامه، ويظهر بعض شكيمته، ويساوم بأيسر قيمته، ويستر كثيراً من بضاعته، ويكتم دقيق صناعته، ولا يبلغ غاية استطاعته، وأن يعاشر الناس بأصدق المناصحة، وجميل المسامحة، وأن لا يحمله الإعجاب بما يحسنه، على الازدراء بمن يستقرنه، والافتراء على من يعترضه ويلسنه، ليكون خبره اكثر من خبره، ونظرته أروع من منظره، ويكون أقرب من الإعذار،وأبعد من الخجلة والانكسار: من الطويل
فليس الفتى من قال إني أنا الفتى ... ولكنَّهُ مَنْ قيل أنت كذلكا
ومن مدعٍ ملكاً بغير شهادةٍ ... له خجلةٌ إن قيل أنْ لست مالكا
ولقد نصرت بالاتضاع، على ذي نباهة وارتفاع، وذلك أني أصعدت في بعض الأيام، مع جماعة من العوام، بين ناجر وزائر وثاجر وتامر إلى الغري والحائر، حتى انتهينا إلى قرية شارعة، آهلة زارعة، وما منا إلا من أملته السميرية فأغرضته، وأسقمته فأمرضته، وفترته فقبضته، فكثر منا الجؤار، واستولى علينا الدوار، فخرجنا منها خروج المسجون، وقد تقوسنا تقويس العرجون، فاسترحنا بالصعود، من طول القعود: من الرجز
كأنَنا الطَيرُ من الأَقْفَاصِ ... ناجيَةً من أحْبُلِ القنَّاصِ
طَيّبةَ الأنفسِ بالخلاَصِ ... مُنَفَّضَات الريشِ والعناصي
فما استتمت الراحة، ولا استقرت بنا الساحة، حتى وقف علينا واقف وهتف بنا هاتف: أيكم ابن الخوارزمي؟ فقالوا له: ذلك الغلام المنفرد، والشاب المستند، فأقبل إلي وسلم علي وقال: إن الناظر يستزيرك، فليعجل إليه مصيرك. فقمت معه، يتقدمني وأتبعه، حتى انتهى إلى جلة من الرجال، ذوي بهاء وجلال، وزينة وكمال، من أشراف الأمصار، وأعيان ذوي الأخطارن من أهل واسط وبغداد، والبصرة والسواد: من الطويل
ترى كلَّ مرهوب العمامةِ لاثَهَا ... على وجه بدرٍ تحته قلبُ ضيغمِ
فقام إلي ذو المعرفة لإكرامه، وساعده الباقون على قيامه، وأطال في سؤاله وسلامه، وجذبوني إلى صدر المجلس فأبيت، ولزمت ذناباه، واحتبيت، وأخذوا يستخبرونني عن الحال، والمعيشة والمال، وداعية الارتحال، وعن النية والمقصد، والأهل والولد، والجيران والبلد: من الطويل
وما منهمُ إلاَّ حَفِيٌّ مسائل ... وواصفُ أشواقٍ ومُثْنٍ بصالحِ
ومستشفعٌ في إن أُقيمَ ليالياً ... أروحُ وأغدو عندهُ غير بارحِ
ثم قال ائلهم: هل لقيت عين الزمان وقلبه، ومالك الفضل وربه، وقليب الأدب وغربه، وإمام العراق، وشمس الآفاق؟ فقلت: ومن صاحب هذه الصفة المهولة، والكناية المجهولة؟ فقالوا: او ما سمعت بكامل هيت، ذي الصوت والصيت؟ من السريع
ذاك الذي لو عاش قس إلى ... زمانِهِ ذا وابنُ صوحانِ
وابن دُرَيْدٍ وأبو حاتم ... وسيبويهِ وابنُ سعدانِ
وعامرُ الشعبيُّ وابنُ العلا ... وابن كُرَيزٍ وابنُ صفوانِ
قالوا فخاراً كلُّهم إنْه ... سيدنا إذ قال غلماني
فقلت لهم: قلدتم المة، وهيجتم الحنة، إلى لقاء هذا العالم المذكور، والسيد المشهور، وقد كانت الرياح تأتيني بنفحات هذا الطيب، وهدر هذا الخطيب، فالآن لا أثر بعد عين، سأصبح لأجله عن سرى القين، اغتناماً للفائدة، والنعمة الباردة، ووجداناً للضالة الشاردة: من الخفيف
أين أمضي وما الذي أنا أبغي ... بعد إدراكيَ المنَى والطَّلابا
فإذا ما وجدتُ عندكم العل ... م قريباً فما أُريد الثوابا
اذهبوا أنتم فزوروا علياً ... لأزور الهيتي والآدابا
لن أبالي إن قيل إنّ الخوارز ... ميًّ أخطا في فعله أو أصابا

فقالت الجماعة: بل أصبت، ووجدت ما طلبت، وقديماً كنا ننشر أعلاقك، ونتمنى اتفاقك، ونتداول أوصافك، ونحب مضافك، ونكثر لديه ذكرك، ونعظم لديه قدرك، فيتحرك منه ساكنه، ويتقلقل بك أماكنه، ونسأل الله سبحانه أن يجمع بينك وبينه بمحضرنا، وتلامح عينك عينه بمنظرنا، فيلتف غبارك بغباره، ويمتزج بتياره، ويختلط مضمارك بمضماره، فنعرف منكما السابق والسكيت، والوذانق والكعيت، ويتبين من الذي يحوي القصب، ومن يشتكي العصب، فإنكما قال الشاعر: من الوافر
هما رُمْحَانٍ خَطِّيانِ كانا ... من السُّمْرِ المثقفةِ الصعادِ
تُهَالُ الأرضُ أَن يَطَآ عليها ... بمثلها نسالمُ أو نعادي
فقلت: لقد تنكبتم الأنصاف، وأخطأتم الاعتراف، وأبعدتم القياس، وأوقعتم الالتباس، أين ابن ثلاثين إلى ابن ثمانين، وأبن ابن اللبون من البازل الأمون؟ والمهر الرازح، من الجواد القارح، والكودن المبروض، من المجرب المروض؟
وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُّزَّ في قّرنٍ ... لم يستطعْ صولةَ البُزْلِ القناعيس
كيف لربيب بطائح وسباخ، وساكن صرائف وأكواخ، بين سوادية أنباط، وعلوج أشراط، ورعاع أخلاط، وسفل سقاط، في بلدة إن جاوزت سورها، وعبرت جسورها، صحت واغربتا! وإن رأيت وجهاً غريباً ناديت وا أبتاه، لا أعرف غير النبطية كلاماً، ولا ألقى سوى والدي إماماً، في معشر ما عرفوا الترحال، ولا ركبوا السروج والرحال، ولا فارقوا الجدار والظلال والأطلال: من الوافر
أولئك معشرٌ كبناتِ نعشٍ ... خوالفُ لا تغورُ مع النجوم
بمصاولة رجل جوال، رحال حلال، بهيت وضع، وبالكوفة أرضع، وببغداد أثغر، وبواسط أجفر، وبالحجاز وتهامة فطامه، وبمصر والمغرب كان احتلامه، وبنجد والشآم بقل عارضه، واشتدت عوارضه، وباليمن وعمان ويت نواهضه، وبخراسان بلغ أشده، وببخارى وسمرقند تناهى جده، وبغزنة والهند شاب واكتهل، ومن سيحون وجيجون عل ونهل، وبميسان والبصرة عود وقرح، وبالجبال جله وجلح، فهو يعد المازني إمامه، وابن جني غلامه، والمتنبي من رواته، والمعري حامل دواته، والصابي باري قلمه، ولاصاحب رافع علمه، وبني مقلة ناقلي غاشيته، وبني أبي حفصة بعض حاشيته، وقد قرأ الكتب وتلاها، وحفظ العلوم ورواها، ودرس الآداب ووعاها، ودون الدواوين وألفها، وأنشأ الحكم وصنفها، وفصل المشكلات وشرحها، وارتجل الخطب ونقحها، فهو البحر المورود، والإمام المقصود، والعلم المصمود، هذا بون بعيد، ومرتقى شديد: من المتقارب
أَتَلْقَوْنَ بالأعزلِ الرامحا ... وبالأكشفِ الحاسرَ الدارعا
وبالكوْدَنِ لاسابقَ السَّبحا ... وبالمنجلِ الصارمَ القاطعا
فما استتم كلامنا حت مثل، فإذا نحن به قد طلع مهرولاً، وأقبل مستعجلاً، فرأيت رجلاً أجلح، أهتم أقلح أفطح أروح، طويلاً عنطنط، يحكي ذئباً أمعط، أخمع أخبط، فتلقوه معظمين، وله مفخمين، فقصد في المجلس صدره، وأسند إلى المخدة ظهره. فما أستقر به المكان، حتى قيل له: هذا فلان، فقبض من أنفه، ونظر إلي بشطر من طرفه، وقال ببعض فيه، هلموا ما كنتم فيه، تعساً للشوهاء وجالبيها، والقرعاء وقالبيها: من المنسرح
جاء دريدٌ مجرِّراً رَسَنَهْ ... فحلٌ فلا تَمْنَعَنَّه سَنَنهْ
احبه قومُهُ على شَوَهٍ ... إنّ القرنبى لأمِّها حسنهْ
فقال: كان لنا شيخ بالأنبار، كثير الاخبار، قد بلغ من العمر أملاه، ومن السن أعلاه، قرأت عليه جميع الكتاب، وعلم الأنساب، وأدب الكتاب، وشعر الأعراب، ومعاني الزجاج، ومسائل ابن السراج، وديوان العجاج، وكتاب الإصلاح، وشروح الإيضاح، وشعر الطرماح، والعين للفرهودي، والجمهرة للأزدي، وأكثر من المصنفات المجهولات والمعروفات. ينفخ في شقاشقه، ويزيد في بقابقه، ويتعاظم في مخارقه. وجعل لاقوم يقسمون بيننا الألحاظ، ويحسنون الألفاظ، وما منهم إلا من اغتاظ، لسكوتي وكلامه، وتأخري وإقدامه، ثم هذي الشيخ إذ وصف له رجل على الغيب ثم رآه، فاحتقره وازدراه، وأنشد متمثلاً: من الوافر
لعمر أبيك تسمعَ بالمعيدي ... بعيدَ الدارِ خيرٌ أنْ تراهُ

وقال: هذا المعيدي هو ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة بن أد بن طابخة بن الياس ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، والمعيدي تصغير معدي وهو الذي قالت فيه نادبته: من الراجز
انعى الكريمَ النهشليَّ المصطفى ... أكرمَ من خَنْدَفَ أو تَخَنْدَقَا
فقلت: ما بعد هذا المقال، وجه للاحتمال، وما يجب لي بعد هذه المواقحة، غير المكافحة، ولم يبق بعد المكاذبة من مراقبة: من الرجز
ما علّتي وأنا جلدٌ نابل ... والقوسُ فيه وترٌ عُنَابِل
ترنُّ من تحريكها المعابِل
ما عِلَّتي وأنا جلدٌ جَلْدُ ... والقوسُ فيه وَتَرٌ عُرُدُّ
مثلُ ضراعِ البَكْرِ أو أَشَدُّ فعطفت عليه عطفة الثائر العاسف، والتفت إليه التفاتة الطائر الخائف، فقلت له: يا أخا هيت، قد قلت ماشيت، فأجب الآن إذ دعيت، والزم مكانك، وغض عنانك، وقصر لسانك: إن نادبة ضمرة خندفته، لما وصفته، وما سمعت في نسبتك إياه لخندف ذكراً، فابن عن ذلك عذراً، فقال: إن خندف هي امرأة إلياس بن مضر غلبت على بنيها فنسبوا إلياه كطهية ومزينة، وبلعدوية وعرينة، والسلكة وجهينة، وندبة وأذينة، وكشبيب بن البرصاء وبلعرجاء، فقلت: سئلت فأجبت، وقلت فأصبت، فاخبرني عن خندف، هل هو اسم موضوع، او لقب مصنوع؟ فوقف عند ذلك حماره، وخمدت ناره، وركد جريانه، وسكن هذيانه، وقر غليانه، وظهر حرانه، وذل وانقمع، ونطوى واجتمع، فاضطره الحياء، وألجأه الاستحذاء، إلى أن قال وهو يخفي لفظه، ويطرق لحظه، أظنه لقباً. فقلت: هو كما ظننت فما معناه وما سببه؟ وكيف كان موجبه؟ ولم يجد بداً من أن يقول: لا أدري؛ فقال وقد أذقته مر الإماتة، وأحس من القوم بتظاهر الشماتة: من الطويل
ووّ بجدع الأنف لو أنّ صحبه ... تنادَوْا وقالوا في المتاح له قمِ
ثم أقبلوا إلي، وانعكفوا علي، بأوجه متهللة، والسن متوسلة، في شرح الحال، والقيام بجواب السؤال، فقلت: هذا بديع عجيب، أنا أسأل وأنا اجيب؟ إن إلياس بن مضر تزوج ليلى ابنة تغلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة بن معد في بعض النسب فولد له منها عمرو وعامر وعمير،ففقدهم ذات يوم فأنحى على ليلى باللوم، فقال: أخرجي فياثرهم، وأتيني بخبرهم. فمضت في طلبهم، وعادت بهم، فقالت: ما زلت أخندف في ابتغائهم، حتى ظفرت بلقائهم. فقل لها إلياس: أنت خندف، والخندفة في الاتباع، تقارب خطو في إسراع. وقال عمرو: يا أبه، أنا أدركت الصيد فلويته، فقال له: أنت مدركة إذ حويته. وقال عامر: أنا طبخته وشويته، فقال له: أنت شابخة إذ شويته، فقال عمير: وأنا انقمعت في الخباء، فقال له: فأنت قمعة للاحتباء. فلصقت بها وبهم هذه الألقاب، وجرت بها إليهم الأنساب. فقال حينئذ: هذا علم استفدته، وفضل استزدته، وقد قال الحكيم: مذامرة ذوي الألباب، نماء الآداب. فقلت له متمثلاً: من الطويل
أقولُ له والرمحُ يأكِرُ مَتْنَهُ ... تأمل خفاقاً إنني أنا ذلكا
ثم لم يحتبس إلا قليلاً، ولم يمتسك طويلاً، ولم ير من رأي فتيلاً، حتى عاد إلى هديره، وأخذ في تهذيره، طمعاً أن ياخذ بالثار، ويعود الفص له في القمار، فعدل عن العلوم النسبية، وجال في ميدان العربية، ولم يحس أن باعه فيها أقصر، وطرفه دون حقائقها أحسر، فقال: حضرت يوماً حلبة من حلبات العلوم، وموسماً من مواسم المنصور والمنظوم، وقد غص بكل خطيب مصقع، وحكيم مقنع، وعالم مصدع، وملئ من كل عتيق صهال، وفنيق صوال، ومنطيق جوال؛ فأخذوا في فنون المعارضات، وصنوف المناقضات، وسلكوا في معاني القريض، كل طويل وعريض، حتى إذا اخذ السائل منهم بالمخنق، ببيت الفرزدق: من الطويل
وعضَّ زمانٌ يا ابنَ مروانَ لم يَدَعْ ... من المالِ إلاّ مُسحتا أو مُُجَلَّفُ

ثم لم يحتبس فيه إلا قليلاً، فكثر فيه الجدال، وطال المقال، وما منهم أحد أجاد القياس، وأصاب القرطاس، ووقع على الطريق، وأتى بالتحقيق. فلما رايتهم وهم في غمرتهم ساهون، وفي ضلالتهم يعمهون، ناديتهم إلي فأرعوا، ومني فاستمعوا، فإني ابن بجدية، وعالم ما تحت جلدته، ثم إني أبديت لهم أسراره، وأثقبت ناره، وحللت عقده، ومخضت زبده، واطرت لبده، وبجست حجره، وأبثثتهم عجره وبجره. فقالوا: لله أبوك، فإنك أسبقنا إلى غاية، وأكشفنا لغيابه، وأجلانا لشبهة، وأضوانا في بدهة، وما أعلم اليوم على ظهرها من يقوم لعلم ما فيه، ويطلع على خافية. فأذكرني الامتعاض، وأخذني النتفاض، فأنشدته: من البسيط
من ظن أنّ عقول الناس ناقصة ... وعقله زائدٌ أزرَى به الطمع
ثم قلت له: ادعيت فوق ما وعيت، فأخبرني عن أول هذا البيت: يا مجري الكميت، وكيف تنشده وعض بالفتح أووعض بالضم؟ فقال: كلاهما مروي، فقلت: تبتدئ بالفعل ثم تعود إلى الاسم يا ذا الإعجاب، تهيأ للسائل في الجواب، وأخبرني: لم فتحت آخر الماضي؟ فأسرع من غير التغاضي فقال: لانه مبني عليه، لا يضاف سواه إليه. فقلت: هذا الجواب نعمله، ومن صبيان المكتب لانعدمه، وإنما ألتمس منك الفائدة فيها، وأطلب كشف خافيها. فقال: ما جاء عن أئمة النحاة، وسائر الرواة، في هذا غير ما شرحته، ولا زادوا على ما أوضحته. فقلت: دع عنك هذا، وأخبرني عن هذا البناء: ألعلة أم لغيرها؟ فأقبل يتردد ويتزحزح، ويتثاءب تارة ويتنحنح، فلما سد عليه من طريقه، وحصل في مضيقه، وغص بريقه، قال: لا أعلم. فقالت الجماعة: أعذر إليك من ألقى سلاحه، وغض جماحه، ومن أدبر بعد إقباله، عدل عن قتاله: من الكامل
والحقُّ أبلجُ لا يخيلُ سبيلُهُ ... والحقُّ يعرفُهُ ذوو الألبابِ
والآن فقد فازت قداحك، وبانت غررك وأوضاحك، وأجدت المصال، وأدركت الخصال،فأوضح لنا عما سألت، وأرشدنا إلى ما دللت لئلا يقال: هذا بهت، ومحال بحت. فقلت: حباً وكرامة، اسمع أنت يا طغامة: إن الفعل من فاعله، كالوليد من ناجله، لا يخلو الفعل من علامة فاعل، في لفظ كل قائل، وهي الفتح من ماضيه وواقعه، والزوائد في مستقبله ومضارعه، وبيان ذلك أن الفتحة من ماضيه، لا تكون مع التاء والنون، فنقول: اخرج فتثبت الفتحة، ثم تقول أخرجت وأخرجننا فيسقط ما ذكرنا، وعلامتان لمعنىً محال، لا يوجبهما الحال، فإن كانت النون التي مع الألف ضمير المفعول، عادت الفتحة فتقول: أخرجنا الأمير، فهذا بين منير. فصفقت الجماعة وشمخت، وحسنت وبخبخت، وجعل الأديب يضطرب اضطراب العصفور، ويتقلب تقلب المصغور، متيقناً أن أسده صار تغير قصباً، وأن مستقيمه، وجيده تبهرج، وصحيحه تدحرج، وحديده تكرج، فقال منشدهم: من الوافر
ترى الرجلَ النحيفَ فتزدريهِ ... وتحت ثيابِهِ أسدٌ مَزيرُ
ويعجبكَ الطريرُ فتبتليه ... فيخلفُ ظنَّكَ الرجلُ الطريرُ
فما عظمُ الرِّجالِ لهم بفخرٍ ... ولكنْ فخرهُمْ كَرَمٌ وَخِيرُ
فأخذه الإبلاس، وضاقت به الأنفاس، وسكنت منه الحواس، ورفضه الناس، وجعل ينكت الأرض، ويواصل لكفه العض، ويتشاءم بيومه، ويعود على نفسه بلومه، يمسح جبينه، ويكثر أنينه. فقمت فقامت معي الجماعة وتركته، واستهانت به وفركته، فلما بقي وحده، تمنى لحده، وأسبل دمعته، وود أن الأرض بلعته: من الطويل
وكان كمثل البوِّ ما بين رُوَّمٍ ... يلوذُّ بحقويه السَّراةُ الأكابرُ
فأصبح مثلَ الأجرب الجلدِ مفرداً ... طريداً فما تدنو إليه الأباعرُ
فقام فتبعني، ووقف وودعني، وأطال الاعتذار، وأظهر التوبة والاستغفار، وقال: مثلك من سد الخلل، واقال العثرة والزلل، فقد اغتررت من سنك بالحداثة، ومن زيك بالرثاثة، ومن أخلاقك بالدماثة. فقلت: كل ذلك مفهوم معلوم، وأنت فيه معذور لا ملوم، وما جرى بيننا منسي غير مذكور، ومطوي غير منشور، ومخفي غير مشهور: من الكامل
وجدالُ أهلِ العلمِ ليس بقادحٍ ... ما بينَ غالبِهم إلى المغلوبِ
ثم سكت فما أعاد، ونزلت وعاد، وكان ذلك أول عهد به وآخره، وباطن لقاء وظاهره، وكل اجتماع وسائره. وبعد ذلك شعر ألغيت ذكره.
ومما أنشأه أبو محمد القاسم بن علي الحريري من مقاماته:

حكى الحارث بن همام قال: ملت في ريق زماني الذي غبر، إلى مجاورة أهل الوبر، لآخذ أخذ نفوسهم وألسنتهم العربية، فشمرت تشمير من لا يألو جهداً، وجعلت أضرب في الأرض غوراً ونجداً، إلى أن اقتنيت هجمة من الراغية، وثلة من الثاغية، ثم اويت إلى عرب أرداف أقيال، وابناء أقوال، فأوطنوني أمنع جناب، وفلوا عني حد كل ناب، فما تأوبني عندهم هم، ولا قرع صفاتي سهم، إلى أن أضللت في ليلة منيرة البدر لقحة غزيرة الدر، فلم أطب نفساً بإلغاء طلبها، وإلقاء حبلها على غاربها، فتدثرت فرساً محضاراً، واعتقلت لدناً خطاراً، وسريت ليلتي جمعاء أجوب البيداء، وأقتري كل شجراء ومرداء، إلى أن نشر الصبح راياته، وحيعل الداعي إلى صلاته، فنزلت عن متن الركوبة لأداء المكتوبة. ثم جلت في صهوتها، وفررت عن شحوتها، وسرت لا أرى أثراً إلا قفوته، ولا نشزاً إلا علوته، ولا وادياً إلا جزعته، ولا راكباً إلا استطلعته، وجدي مع ذلك يذهب هدراً، ولا يجد ورده صدراً، إلى أن حانت صكة عمي، ولفح هجير يذهل غيلان عن مي، وكان يوماً أطول من ظل القناة، وأحر من دمع المقلات، فأيقنت أني إن لم أستكن من الوقدة وأستجم بالرقدة، أدنفني اللغوب، وعلقت بي شعوب، فعجت إلى سرحة كثيفة الأغصان وريقة الأفنان، لاغور تحتها إلى المغيربان. فوالله ما استروح نفسي، ولا استراح فرسي، حتى نظرت إلى سانح في هيئة سائح، وهو ينتجع نجعتي ويشتد إلى بقعتي، فكرهت انعياجه إلى معاجي، واستعذت بالله من شر كل مفاجي. ثم ترجيت أن يتصدى منشداً، أو يتبدى مرشداً، فلما اقترب من سرحتي وكاد يحل بساحتي، ألفيته شيخان السروجي متشحاً بجرابه، ومضطغناً أهبة تجوابه، فآنسني إذ ورد، وأنساني ما شرد، ثم استوضحته من أين أثره، وكيف عجره وبجره، فأنشد بديهاً، ولم يقل إيهاً: من الخفيف
قُلْ لمستطلعٍ دخيلةَ أَمْرِي ... لكَ عَندِي كرامةٌ وعزازَهْ

وهي أبيات تركت إثباتها هاهنا حتى لا أكدر صفاء بلاغته في منثورة بتقصيره في منظومه. قال: ثم رفع إلي طرفه، فقال: لأمر ما جدع قصير أنفه. فأخبرته خبر ناقتي السارحة، وما عانيته في يومي والبارحة، فقال: دع الالتفات إلى ما فات، والطماح إلى ما طاح ولا تأس على ما ذهب، ولو أنه واد من ذهب، ولا تستمل من مال عن ريحك، وأضرم نار تباريحك، ولو كان ابن بوحك أو شقيق روحك، ثم قال: هل لك في إن تقيل، وتتحامى القال والقيل؟ فإن الأبدان أنضاء تعب، والهاجرة ذات لهب، ولن يصقل الخاطر، وينشط الفاتر، كقائلة الهواجر، وخصوصاً في شهري ناجر، فقلت،: ذاك إليك، وما أريد أن أشق عليك. فاقترش الترب واضطجع، وأظر أن قد هجع، وارتفقت على أن أحرس ولا أنعس، فأخذتني السنة حين زمت الالسنة، فلم افق إلا والليل قد تولج، والنجم قد تبلج، ولا السروجي ولا المسرج. فبت بليلة نابغية، وأحزان يعقوبية، أساور الوجوم، واساهر النجوم، تارة أفكر في رجلتي، وأخرى في رجعتي، إلى أن وضح لي عند افترار ثغر الضو، في وجه الجو، راكب يخد في الدو؛ فألمعت إليه بثوبي، رجاء أن يعرج إلى صوبي، فلم يعبأ بإلماعي، ولا أوى لالتياعي، بل سار على هينته، وأصماني بسهم إهانته، فأوفضت إليه لأستردفه، وأحتمال تغطرفه، فلما أدركته بعد الأين، وأجلت فيه مسرح العين، وجدت ناقتي مطيته، وضالتي لقطته، فما كذبت أن أذريته عن سنامها، وجاذبته طرف زمامها، فقلت له: أنا صاحبها ومضلها، ولي رسلها ونسلها، فلا تكن كأشعب، فتتعب وتتعب. فجعل يلدغ ويصي، ويتقح ولا يستحي، وبينا هو ينزو ويلين، ويستأسد ويستكين، غذ غشينا أبو زيد لابساً جلد النمر، وهاجماً هجوم السيل المنهمر، فخفت والله أن يكون يومه كأمسه، وبدره مثل شمسه، فألحق بالقارظين، وأصير خبراً بعد عين. فلم أر إلا أن أذكرته مودته المنسية، وفعلته الامسية، وناشدته الله أوافى للتلافي، أم لما فيه إتلافي، فقال: معاذ الله أن أجهز على مكلومي، واصل حروري بسمومي، وإنما وافيتك لأخبر كنه حالك، وأكون يميناً لشمالك. فسكن عند ذلك جاشي، وانجاب استيحاشي، فأطلعته طلع اللقحة، وتبرقع صاحبي بالقحة، فنظر إليه نظر ليث العريسة إلى الفريسة، ثم أشرع قبله الرمح، وأقسم له بمن أنار الصبح، لئن لم ينج منجى الذباب، ويقنع من الغنيمة بالإياب، ليوردن سنانه وريده، وليفجعن به وليده ووديده. فنبذ زمام الناقة وحاص، وأفلت وله حصاص، فقال لي أبو زيد: تسلمها وتسنمها، فإنها إحدى الحسنيين، وويل أهوت من ويلين.
قال الحارث بن همام: فحرت بين لوم أبي زيد وشكره، وزنة نفعه بضرة،فكأنه نوجي بذات صدري، أو تكهن ما خامر سري، فقابلني بوجه طليق وأنشد بلسان ذليق: من مجزوء الرمل
يا أخي الحاملَ ضيمي ... دونَ إخواني وقومي
إن يكن ساءَك أمسي ... فلقد سرَّك يَوْمي
فاغتفر ذاك لهذا ... واطَّرِحْ شكري ولَوْمي
ثم قال: أنا تئق وأنت مئق فكيف نتفق؟ ثم ولي يفري أديم الأرض، ويركض طرفه أيما ركض، فما عدوت أن ارتكضت مطيتي، وعدت لطيتي، حتى انتهيت إلى حلتي، بعد اللتيا والتي.

نوادر من المكاتبات
كتب أبو الفضل ابن العميد: كتابي - جعلني الله فداك - وأنا في كد وتعب منذ فارقت شعبان، وفي جهد ونصب من شهر رمضان، وفي العذاب الأدنى دون العذاب الاكبر من ألم الجوع ووقع الصوم ومرتهن بتضاعيف: من الطويل
حرور لو أنَّ اللحمَ يصلى ببعضها ... غريضاً أتى أصحابَهُ وهو مُنْضَجُ
وممتحن بهواجر يكاد أوارها يذيب دماغ الضب، ويصرف وجه الحرباء عن التحنف، ويزويه عن التنصر، ويقبض يده عن إمساك ساق وإرسال ساق: من البسيط
ويترك الجأْبَ في شغل عن الحقب ... ويقدحُ النارَ بين الجلد والعصب
ويغادر الوحش قد مالت هوادبها: من الطويل
سجوداً لدى الأَرْطَى كأنَّ رؤوسها ... علاها صُداعٌ أو فُواقٌ يصورها
وكما قال الفرزدق: من الطويل
بيومٍ أتت فيه الظلالَ سَمُومُهُ ... وظلَّ المها صُوراً جماجمها تغلي
وكما قال مسكين الدارمي: من الطويل
وهاجِرةٍ ظلَّتْ كأنَّ ظباءَها ... إذا ما تقتها بالقرونِ سُجودُ

تلوذُ بشؤبوب من الشمسِ فوقها ... كما لاذ من حرِّ السِّنان طريد
وممنو بأيام تحاكي ظل الرمح طولاً، وليال كإبهام لاقطة قصراً، ونوم كلا ولا قلة، وكحسو الطائر من ماء الثماد دقة، وكتصفيقة الطائر المستحر خفة من الطويل
كما أبرقتْ يوماً عطاشاً غمامةٌ ... فلما رَجَوْهَا أقشعت وتجلت
ومن المنسرح
كنقر العصافير وهي خائفة ... من النواطير يانعَ الرطب
وأحمده على كل حال، وأسأله ا، يعرفني فضل بركته، ويلقيني الخير في باقي أيامه وخاتمته، وارغب إليه في أن يقرب على القمر دوره، ويقصر سيره، ويخفف حركته، ويعجل نهضته، وينقص مسافة فلكه ودائرته، ويزيل بركة الطول عن ساعاته، ويرد علي غرة شوال، فهي أسر الغرر عندي واقرا لعيني، ويسمعني النعرة في قفا شهر رمضان، ويعرض علي هلاله أخفى من السر، واظلم من الكفر، وأنحف من مجنون بني عامر، وأضنى من قيس بن ذريح، وأبلى من أسير الهجر، ويسلط عليه الحور بعد الكور، ويرسل عليه كلفاً يغمره وكسوفاً يستره، ويرينيه مغمور النور، مقهور الضوء، قد جمعه والشمس برج واحد ودرجة مشتركة، وينقص من أطرافه كما تنقص النيرات من طرف الزند، ويبعث عليه الأرضة، ويهدي إليه السوس، ويغري به الدود، ويبليه بالأر، ويخترمه بالجراد ويبيده بالنمل، ويجتحفه بالذر، ويجعله من نجوم الرجم، ويرمي به مسترق السمع، ويخلصنا من معاودته، ويريحنا من دوره، ويعذبه كما عذب عباده وخلقه، ويفعل به فعله بالكتان، ويصنع به صنعة بالألوان، ويقابله بما تقتضيه دعوة السارق إذا افتضح بضوئه، وتهتك بطلوعه:
ويرحمُ الله عبداً قال آميناً
وأستغفر الله جل جلاله مما قلته إن كرهه، وأستعفيه من توفيقي لما يذمه، واسأله صفحاً يفيضه وعفواً يسيغه، وحالي بعدما شكوته صالحة، وعلى ما تحب وتهوى جارية، ولله الحمد - تقدست أسماؤه - والشكر.
ومن كلام أبي الحسن ابن نصر الكاتب إلى صديق له اشترى حماراً يداعبه برسالة من جملتها: عرفت - أبقاك الله - حين وجدت من سكرة الأيام إفاقة، وأنست من وجهها العبوس طلاقة، وتنسمت رياح المسرة، واعتضت من ظلمة الضيق نور بذوي الأخطار والهيئة، فسررت بكون هذه المنقبة التي أضمرها الإعدام، ومن على كرم سرها الإمكان، واستدللت منها على خبايا فضل، وتنبهت بها على مزايا نبل، كانت مأسورة في قبضة الإعسار، وكانعة في سدفة الإقتار، وقلت: أي قدم أحق بولوج الركب من قدميه، وحاذ أولى ببطون القب من حاذيه؟ وأي أنامل أبهى من أنامله إذا تصرفت في الأعنة يسراها، وتختمت بالمخاصر يمناها؟ وكيف يكون ذلك الخلق العميم والوجه الوسيم، وقد بهر جالساً، إذا طلع معاليك، فقبضت ما انبسط من عنانها، وأخمدت ما اشتعل من نيرانها، حتى وقفت على محجة لاشك أرجو علو همتك بحسن اختيارك، وأخشى منافسة الأيام في درك أوطارك، فإناه كالظانة في ولدها، والمحادثة بالسوء في واحدها، يدني الأمل مسارها، ويزجي القلق حذارها، حتى أتتني الأنباء تنعى رأيك الفائل، وتبكي عزمك الىفل، يوقوع اختيارك على فاضح صاحبه، ومسلم راكبه، الجامد في حلبة الجياد، والحاذق بالحزن ولاكياد، الشؤم ديدنه ودابه، والبلادة طبيعته وشأنه، لا يصلحه التأديب، ولا تقرع له الظنابيب، إن لحظ عيراً نهق، أو لمح أتاناً شبق، أو وجد روثاً شم وانتشق، فكم هتم سناً لصاحبه، وكم أسعط انف راكبه بأنفاسه؟ وكم استرده خائفاً فلم يردده، وكم رامه خاطباً فلم يسعده؟ يعجل إن أحب الاناة والإبطاء، ويرسخ إن حاول الحث والنجاء، مطبوع على العكس والخلاف، موضوع للضعة والاستخفاف، عزيز حتى تهينه السياط، كسول ولو أبطره النشاط، ما عرف في النجاية أبا، ولا أفاد من الوغى أدباً، الطالب به محصور، والهارب عليه ماسور، الممتطي له راجل، والمستعلي بذروته نازل، له من الأخلاق أسواها، ومن الأسماء أشناها، ومن الأذهان أصداها، ومن القدود احقرها، ومن تجحده المراكب، وتجهله المواكب، وتعرفه ظهور السوابل، وتألفه سباطات المنازل.
ومنها:

جعلت فداك، لم حيث شاورت لم تستشر عليماً إن عدمته نصيحاً، وبصيراً إن لم تظفر به شفيقاً، وذا منة نافذة إن عدمت ذينك بواحدة؛ وإن وجدك بعزلة من العتاق، وحجزة من ذوات الإعناق، أمالك إلى الهماليج التي زانها التصنيع، وراضها التخليع، فأصبحت منسربةً كالحباب، متدافعة كالسحب، وأمطاك المركبة البدع، بين كرم الاصل وكرم الفرع، سفواء رومية، أو دهماء أعوجية، لها طرفان من الحمد والذم، وخبران لنسب الأب من الأم، يكرم راكبها ولا يهاب، وينجو صاحبها فلا يصاب، ذات خطىً تسبق الأوفاز، ومطى يشتت الإعجاز، نهاية في كمالها، زاهية بإخوانها، تطرد الطرف وقج حازها، وتسترجع الطرف وقد جازها، فأنت عليها كالبدر او أنبه، وقد يجنح لك الرأي أو نهيه، ولكن بقيت إلى ذلك دقيقة جليلة المعنى، وقريبة بعيدة المرمى، بها شرف المطالب، وليست مما تكسب يد الكاسب: كرم الطبيعة والنجار، واتساع همة المشاور والمستشار، فإن وجدت هذا يا مولاي بالغالي من صغر المنة فاشربه، أو عرض عليك هول من الأخطار كرها فاركبه. هيهات قلص المرام، وشلت يد الرام، وغاض الماء، وأهوت سنة الحالم، وهوت شفة الحائم، ونفقت المكارم وحضر طالبها، وتنجت الكرائم ثم جاء خاطبها. وعندي الآن بواب حيل أفتحها، وغوامض خدع أوضحها، تطفيلاً بالرأي لا تستوجبه، وتغريباً في المكر لا تستغربه، إن تستحدث سيفاً فيكون بعض آلات ما تسومه من الخيل المسومة، وترومه من البغال المخزمة، فعل النحرير من الأجناد، المستظهر بتقديم الاهبة والاستعداد، فإن انتشر عنك هذا الخبر، وامحى ذلك الرقم ولاأثر، عدت لرسمك مستسعياً قدمك في مهمك، وماحياً طمع الجلالة في وهمك، وقرنته بأتان، وجمعت بينهما في مكان، بعد إن تحلها له نكاحاً أو تمتعاً، وتمهرها عنه جلا أو برقعاً، فتنتفع بالجحاش، ويكون الولد للفراش. هذان فنان من التوصل، ونوعان من التغلغل:
فاختر وما فيهما حظ لمختار
ثم لا أعلم أي فكر من الأفكار، أوهمك النباهة في ركوب الحار، ولا من أين وقع لك هذا وحصل، ودعني من التهاويس بأخبار العزيز وجندل، فإني أعرف منك ثم أنكرها، وألوم ثم أعذرها، فليس طريق العلاء منقوضة لكل دايس، ولا ظهرها مسرجاً لكل فارس، ولا كل من رام خليقةً ما طبع لها، وعادة ليس من أهلها، ومنقبة ما ذاق صرفها، وطبيعة ما اشتم عرفها، أتته منقادة مجيبة، وأطاعته مختارةً مريدة، فلكل درجة قدم ترقاها، ولكل حسنة ناظر يرعاها، والإنسان بنفسه أعرف، ولشاكلته آلف. فإن يكن ما أتيت - أبقاك الله فكذلك تكون إن شاء الله - زلة العالم وعثرة الحازم، وغفلة المتحفظ، وغفوة المتيقظ، فأمط العار بجواد حصين الصهوة محلق الجبهة، أمين الحوافر، فسيح المناخر، عريق المفاخر، ربقة الأفكار، ومزلقة الأبصار، أو بغلة تسطو تيهاً على أبيها، وتبغض الارض إلى ممتطيها، كأنما تحطها في صبب، أو تطأ بقوائمها على لهب، وإلا فاترك الأبهة كما تركتك، وافركها كما فركتك، وتنح عن سنن الفارط، وانسل انسلال المغالط، وارجع لأول أمرك، لا مخطئاً ولا مصيباً، ولا نبيه القدر ولا معيباً.
ومن رسالة له إلى بعض إخوانه وقد ولي ولايةً:

وأقول - أدام الله عز القاضي - إن الدهر كله كل، وأبه عقد وحل، يحلو مرة ثم يمر، وينفع تارةً ويضر، ويصفو يسيراً ثم يكدر، ويفي قليلاً ثم يغد، فالكيس من أبنائه من انتهز فرصة عطفه وإبقائه، تشاغلاً بهزله وطيبه، وتغافلاً عن جده وتعذيبه، صلة فرصة عطفه وإبقائه، تشاغلاً للغثاثة والوقار. ففي هذه الحلبة جرينا، ولأخلاف هذه مرينا، فنبذنا ترتيب القضاء والشهادة، وتركنا كلفة الانحناء والسجادة، ورأينا الرخص مأخوذاً بها، والشبه مفتوحة أبوابها، وأن اختلاف الأئمة رحمة الله إلى الأمة. ولجأنا إلى كتاب الحيل عند ضيق الامر، ورأي ابن اللبان في طهارة الخمر، وأن الإجماع ليس بحجة. ولابصريون - ادام الله عز القاضي - يتبعون شيخاً من شيوخ ناعمة طاحية، يزعم أن التوبة بعد لاسبعين ماحية، وأنها في الشبيبة كذابة ترد على عقبها، ويضرب بها وجه صاحبها، وله في ذلك كلام مفيد، وقد اخت عنه تعليقة إذا فرغ الإنسان منها فقد نبذ كتاب الله ظهراً، وخرج من الدين ببركته صفراً، ولولا ضيق الصدر ولاوقت، لطويت هذه السطور على شيء من كلامه لتتدبر معانيه، وترى حسن تصرفه فيه، ولكن حال الجريض دون القريض، وما أخوفني أن يظن هذه الفكاهة إنما هي انفساح الحال، واتساع المجال، وقوة الأنس، وانبساط النفس. وما هي إلا سرور بما تيسر من مفاوضته، وتسنى من أسباب مناسمته التي نشرت بها على الهم جناحاً، وجعلتها لسدفة فكري مصباحاً، وإني إذا سامحني الدهر بمحادثة فضله، وأمكنني من مباثة مثله، فضضت بنات صدري، ونفضت بها أثقال ظهري: من الطويل
ومَنْ لك في الدُّنيا بأروعَ ماجدٍ ... يُواسِيكَ في أَهْوالها أو يُشاركُ
والمرء بأخيه، بعدت داره ام قربت، والمعرفة حرمة بين الأحرار قويت أم ضعفت، فأما إذا ضمهم ذمام الادب، فهم فيه بنو أب، وما أبعد عهدي بيد للأيام عندي، إلى حين الاجتماع بالأستاذ أبي الفضل، الذي علوت به من السرور مرقباً، وجعلته إلى هذه المفاوضة المؤنسة لي سبباً، والله تعالى يمتعني من القاضي بالفضل الراجح، ويمدني من دياره بالخبر الصالح، فإن رأى مقابلة ما أصدرته بوجه من القبول ورضى، وخلق بالترحيب مضى، وإتحافي بمبهج أخباره، وإيناسي بسانح أوطاره، فعل، إن شاء الله تعالى.
من المقامات التي أنشأها أبو محمد القاسم بن علي الحرير: أخبر الحارث بن همام قال: أزمعت التبريز من تبريز، حين نبت بالذليل والعزيز، وخلت من المجير والمجيز؛ فبينا أنا في إعداد الاهبة، وارتياد الصحبة، لقيت أبا زيد السروجي ملتفاً بكساء ومحتفاً بنساء، فسألته عن خطبه، وأين يسرب مع سربه. فأومأ إلى امرأة منهن باهرة السفور، ظاهرة النفور، وقال: تزوجت هذه لتؤنسني في الغربة، وترحض عني قشف العزبة، فلقيت منها عرق القربة، تمطلني بحقي وتكلفني فوق طوقي، فأنا منها نضو وجى، وحلف شجو وشجىً، وها نحن قد تساعينا إلى الحاكم ليضرب على يد الظالم، فإن انتظم بيننا الوفاق، وإلا فالطلاق والانطلاق.
قال: فملت إلى أن اخبر لمن الغلب، وكيف يكون المنقلب، فجعلت شغلي دبر أذني، وصحبتهما وإن كنت لا أغني.
فلما حضرا القاضي، وكان ممن يرى فضل الإمساك، ويضن بنفاثة السواك، جثا أبو زيد بين يديه وقال: أيد الله القاضي وأحسن إليه، إن مطيتي هذه أبية القياد، كثيرة الشراد؛ مع أني أطوع لها من بنانها، وأجنى عليها من جنانها، فقال لها القاضي: ويحك! أما علمت أن النشوز يغضب الرب، ويوجب الضرب؟ فقالت: إنه ممن يدور خلف الدار، ويأخذ الجار بالجار.
فقال له القاضي: تبأ لك أتبذر في السباخ، وتستفرخ حيث لا إفراخ؟ اغرب عني، لا نعم عوفك، ولا أمن خوفك. فقال له أبو زيد: إنها - ومرسل الرياح - لأكذب من سجاح، فقالت: كلا هو - ومن طوق الحمامة وجنح النعامة - لأكذب من أبي ثمامة، حين مخرق باليمامة.

فرفر أبو زيد زفير الشواظ، واستشاط المغتاظ، وقال لها: ويلك يا دفار يا فجار، يا غصة البعل والجار، أتعمدين في الخلوة لتعذيبي، وتبين في الحفلة تكذيبي؟ قد علمت أني حين بنيت عليك ودنوت إليك، ألفيتك أقبح من قردة، وأيبس من قدة، وأخشن من ليفة، وأنتن من جيفة، وأثقل من هيضة، واقذر من حيضة، وأبرز من قشرة، وأبرد من قرة، وأحمق من رجلة وأوسع من دجلة، فسترت عوارك ولم أبد عارك، على ا،ه لو حبتك شيرين بجمالها، وزبيدة بمالها، وبلقيس بعرشها، وبوران بفرشها، والزباء بملكها، ورابعة بنسكها، وخندف بفخرها، والخنساء بشعرها في صخرها، لانفت أن تكوني قعيدة رحلي وطروقة فحلي.
قال: فتذمرت المرأة وتنمرت، وحسرت عن ساعديها وشمرت، وقالت: يا ألأم من مارد، وأشأم من قاشر، وأجبن من صافر، وأطيش من طامر، أترمين بشنارك، وتفري عرضي بشفارك؟ وأنت تعلم أنك أحقر من قلامة، وأعيب من بغلة أبي دلامة، وأفضح من حبقة، في حلقة، وأحير من بقة في حقه، وهبك الحسن في لفظه ووعظه، والشعبي في علمه وحفظه، والخليل في عروضه ونحوه، وجريراً في غزله وهجوه، وقساً في فصاحته وخطابته، وعبد الحميد في بلاغته وكتابته، وأبا عمرو في قراءته وإعرابه، وابن قريب في روايته عن أعرابه؛ أتظنني أرضاك إماماً لمحرابي وحساماً لقرابي؟ لا والله ولا بواباً لبابي، ولا عصاً لجرابي.
فقال لهام القاضي: أراكما شناً وطبقة، وحدأة وبندقة، فاترك أيها الرجل اللدد واسلك في سيرك الجدد، وأما أنت فكفي عن سبابه، وقري إذا أتى البيت من بابه.
فقالت المرأة: والله ما أسجن عنه لساني، إلا إذا كساني، ولا أرفع له شراعي دون إشباعي، فحلف أبو زيد بالنحرجات الثلاث، أنه لا ينلك سوى اطماره الرثاث.
فنظر القاضي في قصصهما نظر الألمعي، وأفكر فكرة اللوذعي. ثم أقبل عليهما بوجه قد قطبه، ومجن قد قلبه، وقال: ألم يكفكما التسافه في مجلس الحكم، والإقدام على هذا الجرم، حتى تراقيتما في فحش المقاذعة إلى خبث المخادعة؟ وايم الله لقد أخطأت استكما الحفرة، ولم يصب سهمكما الثغرة، فإن أمير المؤمين، أعز الله ببقائه الدين، نصبني لأقضي بين الخصماء لا لأقضي دين الغرماء، وتمام هذه المقامة تركته اختصاراً.
ون رسالة كتب بها الشريف أبو يعلي ابن الهبارية من كرمان إلى الشيخ الخطيب أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي جواباً: من الطويل
أفدي الكتاب بناظري فبياضه ... ببياضه وسواده بسواده
فلقد جدد عهدي بالسرور والجذل، وأعاد علي عصر الطرب، وأنالني من الزمان ما يوفي على الأمل، وأحيا ميت نشاطي، وأجرى الروح في رميم جذلي وانبساطي، ورد لي ما غاب من فرحي واغتباطي، وفرج عن روحي المكروبة، وأزاح علل عازب الهموم عن نفسي بما حققه من مسلامة سيدنا. نعم، وصلني كتابه فالتقطت من نفائس درره، ولقد كنت فقيراً إلى بدائع فقره، وتعجبت من ملح كلامه، ونكت نثاره ونظامه. وهو إن كان في العين كتاباً، فقد وجدته في القلب كتيبة ملئت طعاناً وضراباً، لأنه - حرس الله فضله - شحنه عتاباً، وملاماً وسباباً، آلمني وقعه وأحرقني لذعه، لكنه خلق سيدنا وطبعه. من السريع
ولاشيخ لا يتركُ أخلاقَهُ
زعم أني ذو ملة طرف، والملال - أطال الله بقاء سيدنا - بئست الخلة كما عرف، وفي المثل المقول: لا مودة لملول، كلا والله لأنا له أوفى من الإفلاس والإعسار، وأحفظ لعهده من الخمول والإفتار، لأحوال الأدباء الأحرار، بل من الكلف لوجه البدر، والخمار لعاقبة الخمر. والله مانسيت عهده ولا سلوت وده ولا تركت مكاتبته عمداً.
يقول فيها:

فسيدنا معروف في الآفاق، غير مفتقر إلى المقام بالعراق، لكي أظن ظباء الحريم قد عقلت عقله، وأحسب آرام الصراة لا الصريم قد ربطت فضله، وأنه صريع الكأس والحدق البخل، وإن سخاء صبيان نهر المعلى يغطي على ما في رؤسائه من الشح والبخل، - فهو - دام فضله - أسير الغزلان، وربيط الوجوه الحسان؛ أعلي يتجالد سيدنا ويتدارى؟ لقد تغلغل في النفاق وتناهى. هب أن الخلافة المستظهرية - نصر الله أعلامها - أذنت في مسيره، والمكارم الرضوية سمحت بزاده وبعيره، أتأذن له الجفون المراض، والقدود الرشاق، والخصور الدقاق، والألفاظ الرخيمة، والألحاظ السقيمة، والقدود الهيف، والغنج الذي يجل عن التكييف، والثغور المعسولة، والخصور المظلومة؟ من المجتث
كم قد أردت مسيراً ... عن بردشير البغيضَهْ
فردَّ عزميَ عنه ... هوى الجفونِ المريضهْ
والله لجلسة على صدور زنبريات الجسر، بين العشاء والعصر، مع غزال إنسي لا وحشي يسمى الزيت، ويكنى مخرب البيت، وقد فركت نفحات الاصيل بيد النسيم غلالة دجلة والزرقاء، وزرنق يساير السمارية الدهماء، وفيها حورية حوراء، بأعطاف ولا اليزنية السمراء، وألحاظ ولا المشرفية البيضاء، والفاظ لو سمعها ابن قريب، لما ورى أبي ذؤيب. ويلاه لنقر الدف، وصرير الخف، وتكسر الألحان، على كان وكان، في وكنات الجنات، ومشاتمات الحمايات والكنات، في المأمونية ودرب القيار، والقربة ودار دينار، وقولها: وستغ الله وستغ الله، إنك حقب البيت، لاحلى من نبرات زلزل في الثقيل الأول منها ويلاه فما خطيت: من المديد
هاتِ باليسرى فقد ضعفت ... يديَ اليمنى عن القدحِ
من البسيط:
ورد الخدود ورمان النهود وأغ ... صان القدود سبت عقلي فلا تلمِ
قد قيدت بالهوى عقلي وقد عقلت ... قلبي فما نافعي إن أطلقتْ قدمي
يا سيدي، جعلت فداك، ها هنا من التين التركي، والموز الهندي في بساتين الحضور، وأقرحة الأسافل، وأزقة الأوساط، ما لا يذكر معه الوزيري الشمفى، فما في العوجاء ولا باقطينا، لا بالرقة ولا الزلاقة منه شيء ولا واحدة. فديته يقطر عسله، ويسيل دبسه، وينتثر قنده، ويذوب شهده، ولكن السنون قد كسرت الشرة وقنعتني بحر الحرة؛ والنفاق النفاق، فهو زمان ومكان يروج فيه النفاق. اللهم غفراً ما لي وللهراء من الكلام، وذكر الغلامة والغلام، بعدما خوطبت بالشريف الإمام، واستفتيت في الحلال والحرام. وكأني بسيدنا الشريف الخطيب أبي البقاء عند بلوغه إلى هذا الفصل من مكتوبي يعده من جملة ذنوبين ويرفع عقيرته بهتك ستر الله عن عيوبي، ويقول: قد تصابى ابن عمي بعد شيبه، ونادى على نفسه بعيبه، وأمر بذنبه وريبه، ولعهدي به وهو في عنفوان شبابه، متميزاً بالنسك عن أضرابه، ومنفرداً بالتبعصم عن أترابه، ولم يقرع باب اللهو، ولم يبده بهراء من قوله ولا لغو، ولا غازل غزالاً، ولا ناك إلا حلالاً، فما ها الجهل بعد الشيب؟ أصبا بعدما شاب، أم شاب الدهر وبرده كما شاب؟ فعاد زيراً غزلاً بعد ماكان عزهاةً معتزلاً، فينبذ كتابي من يده متبعصماً، ويعرض عن موصله بوجهه المليح صدوداً وتجهماً، يوقول سيدنا البارع، وشهادته السيف القاطع: والله لو بلغ أبو يعلى إلى العرش، لما كان إلا أسقط من سنجة قيراط في حش.
ومنها: فيعارضه الرئيس الأجل الموفق أبو الفضل ابن عيشون دام جماله، ولاسحر مقاله، والكرم خلاله، والشرف خصاله، فيقول: يا قوم لا تهتكوا ستر أخيكم، ولا تعجلوا بقطع أسبابكم عن أسبابه ونزع اواخيه من أواخيكم، فعلى هذا عاشرتموه، وقديماً يا سرتموه، أظننتموه يحول، وحسبتم حمقه يزول؟! ومنها: فيقول سيدي أبو الفضائل المروزي بعد أن يحرك الدبة ويهز المذبة، سلوا عنه صديقه القديم، وحميمه الخبير به العليم حشابور، فهو يعرف من مخازيه ما لا يعدله شيء ولا يوازيه، وكفاه قوله: الكامل المجزوء
وربيبة زيَّنْتُها ... فأتتْ كجاريةٍ ربيبهْ
وهي أبيات فيها سخف. يغتابونني وهم لا يعلمون، كأنهم نسوا قول الله تعالى: وأنهم يقولون ما لا يفعلون. يا سيدنا أنا أقول وأفعل ولكن ما في قلبي شيء. وجملة الأمر وتفصيله أني كما قال أبو بصير، وسيدنا به عين البصير: من البسيط

علقتها عرضاً وعلقت رجلاً ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
من المنسرح:
قد عشقت محنتي فواحَرَبا ... عِلْجاً غليظَ القفا له عَضَلُ
وقد تبدَّلْتُ واتخذت فتىً ... كالبدر فيه من مثلها بدلُ
مساعداً مسعفاً يجود بما ... أطلبُ ما في خلاله بَخَلُ
لكنني للعفاف يقنعني ... كما علمت الحديثُ والقُبَلُ
وواحدٌ واحدٌ على عجلٍ ... آخذه منه وهو مشتغلُ
وهي طويلة وفيها هزل سخيف ألغي.
وكتب علي بن نصر الكاتب إلى أمرد خرجت لحيته: لكل حادثة يفجع به الدهر - أحسن الله معونتك - حد من القلق والالتياع، ومبلغ من التحرق والارتياع، يستوجب فناً من التعزية، ويستحق نصيباً من العظة والتسلية، والاختصار فيها لما قرب خطبه وشانه، والإكثار لما جل محله ومكانه، ومصابك هذا - أعزك الله - في بياض عارضك لما اسود كمصابك في وساده إذا ابيض، والألم بنبات روضه جميماً، نظير الألم به يوم يعود هشيماً، فليس أحد يدفع عظم النازل بك، ولا يستصغر جسيم الطارق لك، وإن كان ما يتعقبه من المشيب أقذى للعيون وأذل، بيد إن الحاضر من النبات الذي تمنيت أن يكون معوزاً ووددت أرضك دونه جرزاً، ألقى عنك النواظر وكانت ملتفتة إليك، ووقف عنك الخواطر وكانت موقوفة عليك، وصيرك قذى الاجفان، وكنت جلاها، وجعلك كربة النفوس وكنت هواها، وأبدلك من أنس التقبل وحشة التنقل، وعوضك من رقة الترفرف كلفة التأفف، فصرت لا ترى إلا معرضاً، بعد أن كنت لا ترى إلا متعرضاً، فتبارك الذي صرف عنك الأبصار، ونقل منك الأوطار، فكنت إربة الانكح، فصرت إربة المنكوح، ولذة الناطح، فغدوت لذة المنطوح، فأنت أبلق السوطين إقبالاً وإدباراً، وصاحب الوزرين ملوطاً به ولائطاً، وكاسب الغثمين مسوطاً كرة وسائطاً، فعويلاً دائماً وبكاءً، وعزاء عن الذكر الجميل عزاء، فلكل أجل كتاب، وعن كل جائحة ثواب. وقد استوفيت أمد الصبا والصبابة، واستنبت الحسرة عليها والكآبة، فرزيتك راتبة والرزايا سوائر، ومصيبتك ثابتة والمصائب عوائر، فغنا لله وإنا إليه راجعون، لقد فجعت بعلق ما كان احسن واجمل، ثم الا حيلة فإنها الأيام لا تثبت على حالة، ولا تعرف غير التنقل والاستحالة، تسوء تارة وتسر، وتحلو طوراً ثم تمر، سرائرها خبيثة، ومرائرها نكيثة، من طيبت له اعتبطته، ومن لهت عنه أخرمته، فآجرك الله في وجه نضب ماؤه، وذهب رواؤه، ومات حياؤه، وفي ضيعة استأجم برها، واستدغل نورها، واستع طريقها، واستعت بثوقها.. وفي جاه كان عامراً فخرب، ودخل كان وافراً فذهب، وتذكار كان واصلاً إلى القلوب منك فحجب، فأصبحت مسبوق السكيت، وظلت حياً وأتت الميت، قد نطق المرم بهجائك، وخيمت النحوس بفنائك، فأنت تمشي القهقرى، وكل يوم حظك إلى ورا، ولا قوة إلا بالله من محن دفعت إليها، ولم تعن بحال عليها؛ قد يشغل الإنسان عن نوائبه المشاركون فيها، ويسليه عنها المساهمون في معنى من معانيها، وأنت من بين هذه المنزلة لا شريك لك، فإنهم يعتاضون عنها ولست بمعتاض، فيرتكضون للعيش ولست بركاض، والدهر يطوي محاسنك طي السجل كتابه، وينشر مقابحك نشر اليماني ابراده، ويقلي الطرف رؤيتك فلا يفتق عليك جفناً، ويمج السمع ذكرك فلا يجد عنده أذناً، وتتهم الأدباء طرقك فال تفتح لك رتاجاً. فأنت الطريد الذي لا يجار، والربع الذي لايزار، والظان المريب، والظنين المعيب، والعار الفاشي، والمقبور الناشي. وقد أعنتك برقعتي هذه جامعة بين البكاء عليك والأنين، وناظمةً بين العزاء لك والتأبين لها حلاوة النثر، وعليها طلاوة الشعر، نتجتها قريحة عليك، ونسجتها خواطر خطرت إليك، تخفف عزمك والانس مشاغيل بتثقيله، وتكرم مكانك والغجماع واقع على تهوينه. فغن عرفت لي ذاك وإلا عرفه الصدق، وإن شكرته وإلا شكره الحق، والسلام عليك من أسير لا يخلص بالفدية، وقتيل بسيف السبال واللحية.
أراد كاتب ا،ي كتب جوازاً لرجل وحش الصزرة، فلم يقدر على تحليته لفرط دمامته، فكتب: ياتيك يهذا الجواز آية من آيات الله، فدعه يذهب إلى نار وسقره.

ذم الجاحظ الكتاب فقال: ما قولك في قوم أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي خالفه في كتابه، فأنزل الله فيه آيات بينات، فهرب إلى جزيرة العرب فمات كافراً، ثم استكتب معاوية فكان أول من غدر بإمامه، وحاول نقض عرى الإسلام في أيامه؛ ثم كتب عثمان لأبي بكر مع طهارة أخلاقه، فلم يمت حتى اداه عرق الكتابة إلى ذم من ذمه من أوليائه؛ ثم كتب لعمر زياد بن أبيه، فانعكس لشر مولود، وكتب لعثان مروان بن الحكم،فخانه في خاتمه وأشعل حرباص في مملكته.
كان لرافع بن الحسين بن حماد بن مقن كاتب رقيع نصراني يقال له أبو الحسين بن طازاد، فكتب إليه: أمير الأمراء الأجل الرفيع المحل، الشاكر المراقب، الناظر في العواقب، مظاهر الدولة والمناقب.
ذكر بديع الزمان أبو الفضل الهمذاني في مجلس أبي الحسين ابن فارس، فقال ما معناه: إن البديع قد نسي حق تعليمنا إياه وعقنا، وطمح بأنفه عنا، فالحمد لله على فساد الزمان وتغير نوع الإنسان.
وبلغ ذلك البديع، فكتب إلى أبي الحسين: نعم أطال الله بقاء الشيخ الغمام، إنه الحما المسنون، وإن ظنت به الظنون، والناس لآدم، وإن كان العهد قد تقادم، وتركبت الأضداد، وأخلاط الميلاد، والشيخ الإمام يقول: فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحاً؟ أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها،وسمعنا أولها، أم المدة المروانية وفي اخبارها، ولا تسكع الشول بأغبارها؛ أم السنين الحربية: الكامل المجزوء
والسيفُ يغمد في الطُّلا ... والرمح يركز في الكلى
ومبيت حُجْرٍ بالفلا ... والرَّتان وكربلا
أم البيعة الهاشمية والعشرة براس من بني فراس، أم الإمارة العدوية وصاحبها يقول: هل بعد القفول إلا النزول؛ أم الخلافة التيمية وهو يقول: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام؛ أم على عهد الرسالة ويوم قيل: اسكتي يا فلانة فقد ذهبت الأمانة؛ أم في الجاهلية ولبيد يقول: من الكامل
وبقيتُ في خَلْفٍ كجلد الأَجْرَبِ
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول: من الطويل
بلاد بها كنا وكنَّا نحبها ... إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمانُ
أم قبل ذلك ويروى عن آدم عليه السلام: من الوافر
تغيرت البلادُ ومن عليها ... فَوَجْهُ الأرضِ مُغْبَرٌّ قبيحُ
أم قبل ذلك والملائكة تقول لبارئها أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء.
ما فسد الناس، ولكن اطرد القياس، ولا أظلمت الأيام، وإنما امتد الظلام. وهل يفسد الشيء إلا عن صلاح، ويمسي المرء إلا عن صباح؟ ولعمري لئن كان كرم العهد كتاباً يرد، وجواباً يصدر إنه لقريب المنال، وإني على توبيخه لي لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، نمتسب إلى ولائه، شاكر لآلائه، لا أحل حريداً عن أمرهولا أقف بعيداً عن قلبه، ولا نسيته ولا أنساه؛ إن له على كل نعمة خولنيها ناراً، وعلى كل كلمة علمنيها مناراً؛ ولو عرفت لكتابي موقعاً من قلبه لاغتمنت خدمته به، ولرددت إليه سؤر كاسه، وفضل أنفاسه. ولكني خشيت أن يقول: هذه بضاعتنا ردت إلينا، وله أيده الله العتبى والمودة في القربى، والمرباع وما ناله الباع، وما ضمه الجلد وضمنه المشط، وليست رضىً ولكنها جل ما أملك. واثنتان - أيد الله لاشيخ الإمام - قلما يجتمعان، الخراسانية والإنسانية، فإن لم أكن خراساني الطينة فإني خراساني المدينة، والمرء من حيث يوجد، لا من حيث يولد، ولاإنسان من حيث يثبت لا من حيث ينبت. فإذا انضاف إلى خراسان ولادة همذان ارتفع القلم، وسقط التكليف، فالجرح جبار، والجاني حمار، ولاجنة ولا نار. فليحتملني على هناتي، أليس صاحبنا الذي يقول: من الخفيف
لا تلمني على ركاكةِ عقلي ... أن تيقَّنْتَ أنني همذاني

المجلد السابع
الباب الثاني والثلاثون
في شوارد الأمثال

أمثال العرب كثير، وإن وقعت عليها أشعارهم، ومن تلاهم من المخضرمين والمحدثين، لم يضبطها حصرٌ. وفي الأمثال الخامل والنادر، والبعيد المغزى، والعقد المعنى، والجافي اللفظ. فاعتمدت في هذا الباب على المشهور منها، وما جزلت ألفاظه، وسهلت معانيه، وحسن استعماله في عصرنا، ولم يكن بعيداً من الملاءمة، فمن الأمثال: البس لكل حالةٍ لبوسها. واقتصدت فيما أوردته في الأمثال النبوية، مع أن كلامه صلى الله عليه وسلم حكمةٌ، وأمثاله كثيرة، وفيما لأوقعته عليها من الشعر. فإن الكتاب الذي هذه الأمثال بابٌ من أبوابه، قد تضمن من كلامه صلى الله عليه وسلم، ومن الأشعار في كل أبوابه ما يقع شاهداً في عموم المعاني والمقاصد، فلا حظ في تكريرها. وأضفت كل معنىً إلى ما يجانسه ويقاربه لئلا تكثر الفصول فيضل المتأمل لها.
وهي اثنان وسبعون فصلاً: شواهد من الكتاب العزيز، من كلام الرسول عليه السلام، منتهى التمثيل في لفظ أفعل التفضيل، والحنكة والتجارب، الأخذ بالحزم والاستعداد للأمر، الاغترار والتحيل والاطماع، البر والعقوق، الحمية والأنف، الحلم والثبات، الصدق والكذب، وصف الرجل بالتدبير والفعل الجميل، التمسك بالأمر الواضح، التوسط في الأمور، التساوي في الأمر، المجازاة، التفرق والزيال، حفظ اللسان، التصريح والمكاشفة، التسويف والوعد والوعيد، المكر والمداهنة، الضرورة والمعذرة والأعذار، تعذر الكمال المحض، تعلق الفعل بما يبعد، والامتناع عنه ما اتصل المانع أو فعله ما استمر الشيء، وضع الشيء في موضعه، وضع الشيء في غير موضعه، إصلاح المال، تسهيل الأمور ودفع الأقدم بالأحدث، العداوة والشماتة والرمي بالعصبية، الاتفاق والتحاب والاستمالة، قوة الخلق إلى التخلق، دليل استعان بمثله النفع والضر وفي معانيهما، النفع من حيث لا يحتسب، المبالغة، الأمر النادر، الجبن والذل، الجهل والحمق، البلية على البلية، خيبة الأمل والسعي، العدة تأوي إليها، ألزم الأمور بصاحبها، الجاني على نفسه، الإحالة بالذنب على من لم يجنه، لقاء الشيء بمثله أو أشد، تنافي الحالات، الرضى بالميسور إذا تعذر المنشود، الأمر المضاع والمهمل، ارتفاع الخامل، خمول النبيه، الشر وراءه الخير، ضد ذلك، الخطأ والاختلاط، الجميل يكدر بالمن، اغتنام الفرصة، اللقاء، تعذر الأمر وما يعرض من دونه، طلب الحاجة، التعجيل وفوت الأمر، سوء المكافأة وظلم المجازاة، الظن، التبري من الأمر، الاستهانة وقلة الاحتفال، المشاركة في الرخاء والخذلان في الشدة، والرخاء والسعة، المعجب بخاصة نفسه، الساعي لنفسه في صلاحه، اليسير يحيي الكثير، الشدة والداهية، الدعاء.
؟

من شواهد الكتاب العزيز
على أنه يحيط بما لا تفنى عجائبه، ولا تنفد غرائبه، وإنما نشير إلى ما يقتضيه شرط الكتاب، والله الموفق للصواب.
؟؟قوله تعالى: إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقومٍ يتفكرون يونس: 24.
وقال الحسن: ضرب الله مثلاً، فأقل الناس انتفع به وأبصره، يقول الله عز وجل: أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ من نخيلٍ وأعنابٍ تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذريةٌ ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون البقرة: 266.
ثم قال: هذا الإنسان حين كبرت سنه وكثر عياله ورق عظمه، بعث الله على جنته ناراً فأحرقتها، أحوج ما كان إليها، فهذا مثلٌ ضربه الله ليوم القيامة، يوم يقوم ابن آدم عريان ظمآن، ينتظر ويحذر شدة ذلك اليوم، فأيكم سره أن يذهب عمله أحوج ما كان إليه؟ .
وقال تعالى في خيبة السعي: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً الكهف 103 - 104.
وقال عز وجل: وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثوراً الفرقان: 23.
وقال سبحانه: مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يومٍ عاصفٍ لا يقدرون مما كسبوا على شيءٍ ذلك هو الضلال البعيد إبراهيم: 18.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، والصراط الإسلام.
وقال عز من قائل: يا أيها الناس ضرب مثلٌ فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره إن الله لقويٌّ عزيزٌ الحج: 73 - 74.
وقال تعالى: يوم يكشف عن ساقٍ ويدعون إلى السجود القلم: 42.
وإنما يراد بذلك الشدة - العرب تفرق فتقول: كشف عن ساقه، وحسر عن ذراعه، وأسفر عن وجهه. هذا هو الفصيح، وربما وضعت هذه الأفعال بعضها موضع بعضٍ ولا يفسد الكلام.
وقال عز وجل: أإنا لمردودون في الحافرة النازعات: 10.
وقال سبحانه: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ والله يضاعف لمن يشاء والله واسعٌ عليمٌ البقرة: 261.
العرب تقول: عاد فلانٌ في حافرته، أي عاد إلى طريقه الأولى.

ومن الأمثال المأخوذة عن النبي صلى الله عليه السلام
إياكم وخضراء الدمن. فهذا كلامٌ مفهوم من لفظه، والمراد به غير خضراء الدمن، فلما سئل عنها قال: المرأة الحسناء في منبت السوء.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم. يريد بذلك على ما في عاقبة الغنى وزخرف الدنيا وزبرجها من الخطر، وأن من ذلك ما يؤدي إلى هلاك المرء في دينه وآخرته.
وقال صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح مرةً هاهنا ومرةً هاهنا، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على الأرض حتى يكون انجعافها مرةً. الخامة من الزرع قصبته ويقال: الأصل خامة، والأرزة العرعرة، وهي شجرة صلبةٌ، والمجذية القائمة، الانجعاف الانقلاع.
وقوله عليه السلام: الإيمان قيد الفتك. وليس هناك قيدٌ، وإنما معناه الإسلام حاجزٌ عما حظره.
وقوله عليه السلام في أهل الإسلام والشرك: لا تراءى ناراهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم: لا ترفع عصاك عن أهلك.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا يلسع المؤمن من حجرٍ مرتين. ولا ينتطح فيها عنزان، تسهيلاً لأمر القتل لأن العنز إنما تشام في نطاحها وترجع.
وقال عليه السلام: كل ما أصميت ودع ما أنميت. العرب تقول: رمى فأصمى إذا أثقله فلم يتحامل، ورمى فأنمى إذا تحامل بالرمية، ورومى فأشوى إذا أصاب غير المقتل، والشوى الأطراف.
منتهى التمثيل في لفظ أفعل التفضيل
ويقع التمثيل به في معانٍ كثيرة جداً، والعرب تقول: هو أعز من الأبلق العقوق، تعني في الشيء الذي لا يوجد، لأن العقوق إنما هو في الإناث دون الذكور. وكان المفضل يخبر أن المثل لخالد بن مالك النهشلي، قاله للنعمان ابن المنذر، وكان أسر ناساً من بني مازن بن تميم، فقال: من يكفل هؤلاء؟ فقال خالد: أنا، فقال النعمان: وبما أحدثوا؟ فقال خالد: نعم وإن كان الأبلق العقوق. فذهبت مثلاً.
قال الأصمعي: إذا أرادوا العز والمنعة قالوا: إنه لأمنع من أم قرفة، وهي امرأة مالك بن حذيفة بن بدر، كان يعلق في بيتها خمسون سيفاً كلهم محرم. وقال غير الأصمعي: هي بنت ربيعة بن بدر الفزارية.
ومن أمثالهم: هو أعز من كليب وائل، وهو كليب بن ربيعة التغلبي، كان أعز العرب في دهره، فقتله جساس بن مرة، ففيه كانت حرب بكرٍ وتغلب ابني وائل، وهي حرب البسوس.
ويقال: هو أعز من مروان القرظ؛ أعز من الزباء أعز من الزباء أعز من حليمة؛ أعز من عقاب الجو؛ أعز من قنوع؛ أمنع من لهاة الليث؛ أعز من است النمر.
ويقولون: هو أذل من فقع القرقر؛ وهو أذل من وتد، وذلك لأنه يدق. وإنه لأذل من يدٍ في رحم، ومعناه أن صاحبها يتوق أن يصيب بيده شيئاً؛ وهو أذل من الحوار؛ وأذل من عير؛ أذل من حمار قعيد، أذل من قيسي بحمص؛ أذل من النقد؛ أذل من قرادٍ.
ويقولون: هو أحلم من الأحنف؛ أحلم من قيس بن عاصم، وأخبارهما قد وردت في مكان آخر.
ويقولون هو أجود من حاتم؛ وأجود من كعب بن مامة؛ أجود من هرم وأخبارهم مشهورة، وأجود من لافظة يقال: إنها الرحى سميت بذلك لأنها تلفظ ما تطحنه، وقيل: إنها العنز، وجودها أنها تدعى إلى الحلب وهي تعتلف، فتلقي ما في فيها وتميل للحلب.

ويقال: هو أشجع من ليث عفرين قال أبو عمرو: هو الأسد. وقال الأصمعي: هو دابةٌ مثل الحرباء تتعرض للراكب، وهو منسوب إلى عفرين اسم بلد؛ وهو أجرأ من خاصي الأسد؛ وأجرأ من ذي لبد؛ وأشجع من أسامة؛ وأجرأ من قسورة؛ وأجرأ من ليثٍ بخفان خادر.
قال الشاعر: من الطويل
فتىً كان أحيا من فتاةٍ حييةٍ ... وأشجع من ليثٍ بخفان خادر
ويقولون: إنه لأجبن من المنزوف ضرطاً. قال إبراهيم بن أبان: المنزوف دابةٌ تكون في البادية، إذا صحت بها لم تزل تضرط حتى تموت؛ وأجبن من صافر، وهو ما يصفر من الطير، ولا يكون الصفير في سباع الطير، إنما يكون في خشاشها وما يصاد منها. وأجبن من صفردٍ.
ويقولون: أبخل من مادرٍ، لاط حوضه وسقى منه، فلما استغنى عنه سلح فيه لئلا يستقي منه غيره. أبخل من ذوي معذرة؛ أبخل من الضنين بنائل غيره.
ويقولون: أقرى من أزواد الركب؛ وهم ثلاثة نفرٍ من قريش؛ أقرى من غيث الضريك، وهو قتادة بن مسلمة الحنفي؛ أقرى من مطاعيم الريح؛ وهم أربعة: أحدهم أبو محجن الثقفي، وقد كان لبيد بن ربيعة العامري يطعم إذا هبت الصبا إلى أن تنقضي.
أوفى من عوف بن محلم؛ وخبره مع مهلهلٍ، أخي كليبٍ، لما أمنه يوم التحالق مشهور؛ أوفى من السموأل، وخبره مشهور؛ أوفى من الحارث، يقول نصر: هو الحارث بن عباد.
ويقولون: هو أحسن من الطاووس؛ وأجمل من ذي العمامة، وهو سعيد بن العاص بن أمية ويكنى أبا أحيحة، وله يقول الشاعر: من البسيط
أبو أحيحة من يعتم عمته ... يضرب وإن كان ذا مالٍ وذا ولد
ويقولون: إنه لأمضى من السهم؛ وأمضى من سليك المقانب.
ويقولون: أعلى فداءً من حاجب بن زرارة؛ ومن بسطانم بن قيس؛ ومن الأشعث، أسرته مذحج ففدى نفسه بثلاثة آلاف بعير.
ويقولون: أفتك من البراض، وأفتك من الحارث بن ظالم.
ويقولون: أنجب من مارية، ولدت لزرارة حاجباً ولقيطاً وعلقمة؛ أنجب من بنت الخرشب ولدت لزياد العبسي بنيه الكملة وهم: ربيع الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحفاظ، وأنس الفوارس؛ أنجب من أم البنين، ولدت لمالك بن جعفر بن كلاب: ملاعب الأسنة عامراً، وفارس قرزل طفيلاً، وربيع المقترين ربيعة، ونزال المضيق سلمى، ومعود الحكماء معاوية، أنجب من عاتكة، ولدت لعبد مناف هاشماً وعبد شمس والمطلب.
ويقولون: أسرع من نكاح أم خارجة، وهي بنت سعد بن قدار من بجيلة، ولدت في نيف وعشرين حياً من العرب من آباء،؟ وكان الرجل يقول لها: خطبٌ فتقول: نكحٌ. كذلك قال يونس بن حبيب، وقد قيل خطب ونكح. فنظر بنوها إلى عمرو بن تميم قد ورد بلادهم، فأحسوا بأنه أراد أمهم، فبادروا إليها ليمنعوه من تزوجها، وسبقهم لأنه كان راكباً، فقال لها: إن فيك لبقية، فقالت: إن شئت. فجاءوا وقد بنى عليها، ثم نقلها بعد إلى بلاده. فزعم الرواة أنها جاءت معها بالعنبر صغيراً، وأنه ابن عمرو بن بهراء، وبهراء من قضاعة، وأولدها عمرو بن تميم أسيداً والهجيم والقليب، فخرجوا ذات يوم يستسقون، فقل عليهم الماء، فأنزلوا مائحاً من تميم، فجعل المائح يملأ الدلو إذا كانت للهجيم وأسيد والقليب، فإذا وردت دلو العنبر تركها تضطرب، فقال العنبر: من الرجز
قد رابني من دلوي اضطرابها ... والنأي عن بهراء واغترابها
إلا تجئ ملأى تجئ قرابها
المائح الذي يستقي من أسفل البئر؛ والماتح الذي يستقي من أعلاها.
ويقولون: أسرع من العين؛ ومن طرف العين؛ ومن لمح البصر؛ وأسرع من اليد إلى الفم؛ وأعجل من نعجة إلى حوض؛ وأسرع من دمعة الخصي.
ويقولون: أعدا من السنفرى؛ أعدا من السليك، أسرع من عدوى الثؤباء، وذلك أن الإنسان إذا تثاءب أعدى غيره.
ويقولون: أبطأ من فندٍ، وهو مولى لعائشة بنت طلحة، بعثت به مولاته ليقتبس ناراً، فأتى مصر فأقام بها سنة، ثم جاء يشتد ومعه نارٌ، فتبددت ناره، فقال: تعست العجلة.
ويقولون: أحذر من غراب؛ أحذر من ذئب؛ أحذر من عقعق؛ أروغ من ثعالة؛ أختل من ثعالة، وأختل من ذئب.
ويقولون: أخنث من هيت؛ أخنث من طويس، وهما مخنثان؛ أخبث من ذئب الخمر؛ وأخبث من ذئب الغضا.
ويقولون: إنه لأصنع من تنوطٍ، وهو طائر يصنع عشه مدلىً من الشجر؛ وأصنع من سرفة، وهي دودة تكون في الحمض تصنع بيتها مربعاً من قطع العيدان.

ومن أمثالهم: هو أصدق من قطاة، وذلك لأنها تقول: قطا قطا فاسمها من صوتها، قال النابغة: من البسيط
تدعو القطا وبه تدعى إذا انتسبت ... يا صدقها حين تدعوها فتنتسب
ويقال: لأكذب من الشيخ الغريب؛ وأكذب من أخيذ الجيش، قيل: هو الذي يأخذه أعداؤه فيستدلونه على قومه، فهو يكذبهم بجهده، وهو أكذب من الأخيذ الصبحان؛ وأكذب من المهلب، وكان يكذب لأصحابه في الحرب، يعدهم بالنجدة والأمداد؛ وأكذب من أسير السند.
ومن أمثالهم: إنه لأحمق من تراب العقد، يعني عقد الرمل، قيل: وحمقه أنه ينهار ولا يثبت. قال الفراء: إنه لأحمق من راعي ضأنٍ ثمانين، قال وذلك أن أعرابياً بشر كشرى بشارةً سر بها فقال: سلني ما شئت، قال: أسألك ضأناً ثمانين؛ أحمق من العقعق، وحمقه أن ولده أبداً ضائع؛ أحمق من رخمة، أحمق من الحبارى، أحمق من رجلة، وهي البقلة الحمقاء؛ أحمق من الممتخط بكوعه؛ أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها،قال: وذلك أن زوجها قضى حاجته منها ثم طلقها، فقالت: أعطني مهري، فأخذ أحد خلخاليها من رجلها فأعطاها إياه، فرضيت به وسكتت، وإنه: لأحمق من دغة، وهي امرأة عمرو بن جندب بن العنبر، وخبرها في حمقها قبيح مستهجنٌ ذكره؛ وأحمق من حمامة، وذلك أنها تبيض على الأعواد، فربما وقع بيضها فانكسر، وأحمق من الضبع؛ وأحمق من ناكثة غزلها، وهي امرأةٌ من قريش. أتيه من أحمق ثقيف وهو يوسف بن عمر. وفي الخبر: سيكون في ثقيف كذابٌ ومبيرٌ وأحمق؛ قيل: الكذاب المختار، والمبير الحجاج، والأحمق يوسف.
ومن أمثالهم: آبل من حنيف الحناتم؛ آبل من مالك بن زيد مناة.
ومنها: هو أبلغ من سحبان وائل؛ وأبين من قسٍّ؛ وأخطب من قسٍّ؛ وهو أعيا من باقل، وهو رجل من ربيعة كان عيياً فدما.
وهو أخلى من جوف حمار، وهو رجل من عاد، وجوفه وادٍ كان ينزل به، فلما كفر أخرب الله واديه.
ومنها: أخجل من مقمور.
وأطمع من أشعب.
ويقولون: أزهى من غراب، وأخيل من مذالة، يضرب للمتكبر في نفسه، وهو عند الناس مهين، والمذالة الأمة الماهنة، وهي في ذلك تتبختر، وأخيل من واشمة استها؛ و أزهى من ثعلب.
ومن أمثالهم: هو أبصر من غراب؛ أبصر من الزرقاء، وهي زرقاء اليمامة؛ ويقال: هو أسمع من فرس؛ وأسمع من قراد؛ أسمع من سمع أزل.
ويقال: هو أنوم من فهد؛ وأنوم من غزال، وأنعس من كلب، وأنوم من عبود، وهو عبد نام في محتطبه أسبوعاً، وإذا أرادوا خفة النوم قالوا: أخف رأساً من الذئب؛ وأخف رأساً من الطائر.
ويقولون: أملخ من لحم الحوار أي ليس له طعم.
ومن أمثالهم: أظلم من الحية، ومن حية الوادي، وأظلم من ذئب، أظلم من الجلندى، وأظلم من التمساح.
ومن أمثالهم: إنه لألص من شظاظ، وهو رجل من بني ضبة كان لصاً مغيراً فصار مثالاً، وله خبر غريب قد ذكر في باب الحيل؛ وأسرق من جرذ؛ وألص من عقعق؛ وأخطف من عقاب.
ويقال: إنه لأصرد من عنزٍ جرباء للذي يشتد عليه البرد.
ومن أمثالهم: إنه لأطيش من فراشة.
ويقولون: إنه لأجوع من كلبة حومل، وهي كلبة كانت في الأمم السالفة، وأجوع من زرعة وهي كلبة؛ وأجوع من ذئب؛ وأجوع من قراد.
ويقال: إنه لأفحش من فاسية، يريد الخنفساء، وذلك أنها إذا حركت نتنت، وأبذى من مطلقة؛ وأقود من ظلمة، وألوط من دبٍّ، وأسفد من ديك؛ وأسفد من عصفور، وأزنى من سجاح، وأزنى من قرد، وهو قرد بن معاوية بن هذيل؛ وأزنى من هرٍّ وهي امرأة يهودية، وهي التي قطع المهاجر يدها في من قطع من النساء حين شمتن بموت النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأشبق من حبى المدينية؛ وأسلح من دجاجة، وأسلح من حبارى.
ويقولون: إنه لأبر من العملس، وكان رجلاً براً بأمه حتى كان يحملها على عاتقه؛ وأبر من فلحس، وهو رجل من شيبان حمل أباه على ظهره وحج به؛ وإنه لأعق من ضبٍّ وذلك لأنه يأكل ولده.
ويقولون: إنه لأحيا من ضبٍّ، من الحياة وذلك أطول من ذماءٍ الضب، وأطول ذماءً من الحية، وأطول صحبة من الفرقدين، وأطول من اللوح، وأطول من السكاك.
ومن أماثلهم: أصبر من عودٍ بدفيه الجلب، والدفان الجنبان، والجلب آثار الدبر؛ وأصبر من جذل الطعان؛ وأصبر من ضبٍّ.
ويقال: إنه لأدم من البعرة، في دمامة خلقته.
وإنه لأعرى من المغزل؛ وأكسى من البصل.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19