كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون

وقال أبو الطيب المتنبي: من الطويل
وما شَرَقي بالماءِ إلا تذكّرا ... لماءٍ به أهلُ الحبيبِ نُزولُ
يُحَرِّمُهُ لَمْعُ الأسِنَّةِ فوقَهُ ... فليس لظمآنٍ إليه سبيلُ
وقال آخر: من الطويل
رعاكِ ضمانُ اللهِ يا أمَّ مالكٍ ... وَلَّلهُ عن يشقيكِ أغنى وأَوْسَعُ
يذكرنيكِ الخيرُ والشرُّ والذي ... أخافُ وأرجو والذي أتَوَقَّعُ
وقال عبد الله بن نمير بن حسوسة الثقفي: من الطويل
تعزَّ بصبرٍ لا وَجَدِّكَ لن ترَى ... عِراضَ الحمى إحدى الليالي الغوابرِ
كأنَّ فؤادي من تَذَكُّرِهِ الحِمى ... وأهلَ الحمى يَهْفُو به ريشُ طائرِ
وقال آخر، وجدتها في ديوان إبراهيم بن العباس: من الكامل
باتَتْ تُشَوِّقُنِي بِرَجْعِ حنينِها ... وأبيتُ أُسعدُها برجعِ حنيني
إلفان مغتربانِ بين مهامهٍ ... طويا الضلوعَ على هوىً مكنونِ
وقال آخر: من الطويل
ولو وَقَفَتْ ليلى بقبري وقد عَفَتْ ... معالمُهُ واسْتَفْتَحَتْ بسلامِ
لحَنَّت إليها بالتحيّةِ رِمَّتي ... ورَنَّتْ بترجيعِ السلامِ عِظامي
وقال آخر: من الطويل
لاتعذلينا في الزيارة إنني ... وإياكِ كالظمآنِ والماءُ باردُ
تراهُ قريبا دانيا غيرَ أنَّه ... تحولُ المنايا دونَه والرواصدُ
وقال عون الكندي الكاتب: من الطويل
سقى الله أيّاما لنا و لياليا ... مَضَيْنَ فما يُرجى لهنَّ رجوعُ
إذ العيشُ صافٍ والأحبّةُ جيرةٌ ... وإذ كلُّ أيامِ الزمانِ ربيعُ
وإذ أنا أمّا للعواذلِ في الصبا ... فعاصٍ وأمّا للهوى فَمُطِيعُ
وقال عمرو بن قميئة: من الكامل
لله عِيشَتُنَا بجوِّ سُوَيْقَةٍ ... والعيشُ غضٌّ والزمانُ غريرُ
طابَتْ فقصَّرَ طيبُها أيامَها ... فكأنما فيها السنونَ شهورُ
وقال يحيى بن طالب الحنفي: من الطويل
إذا ارتحلتْ نحو اليمامةِ رفقةٌ ... دعاني الهوى وارتاح قلبي إلى الذكرِ
كأنّ فؤادي كلّما مَرَّ راكبٌ ... جَناحُ عُقَابٍ رامَ نَهْضا إلى الوكرِ
أحقّاً عبادَ الله أن لستُ ناظرا ... إلى قَرْقَرى يوما وأعلامِها الغَبرِ
يقولون إنّ الهجرَ يشفي من الجوى ... ولا ازددتُ إلاّ ضِعْفَ ما بي من الهجرِ
تَنَحَّيْتُ عنها كارها وتركتُها ... وهجرانُها عندي أمَرُّ من الصبرِ
وقال قيس بن ذريح: من الطويل
لقد خفتُ ألاّ تقنعَ النفسُ بعدها ... بشيءٍ من الدنيا وإن كان مُقْنِعَا
وأعذلُ فيها النفسَ إذ حيلَ دونها ... وتأبى إليها النفسُ إلاّ تطلعا
وقال أيضا، ويرمي لمزاحم: من الطويل
إلى الله أشكو فَقْدَ ليلى كما اشتكى ... إلى الله فَقْدَ الوالِدَيْنِ يتيمُ
بكتْ دارُهُم من نأيهم وتهلَّلَتْ ... دموعي فأيُّ الجازعينِ ألومُ
أمستعبرٌ يبكي من الشوقِ و البلى ... أم آخرُ يبكي شَجْوَهُ ويهيمُ
وقال الصمة بن عبد الله القشيري: من الطويل
ألا قاتلَ الله اللّوى من محلةٍ ... وقاتلَ دنيانا بها كيف وَلَّتِ
غَنِينا زمانا باللّوى كيف أصبحتْ ... عراضُ اللّوى من أهلِها قد تَخَلَّتِ
وأول الأبيات وهي من هذا النوع:
ألا مَنْ لِعَيْنِ ما تَرَى قُلَلَ الحمى ... ولا أبرقَ الظمآنِ إلاّ اسْتَهَلَّتِ
لجوجٌ إذا لَجَّتْ بكيٌّ إذا بَكَتْ ... بكتْ فأدَقَّتْ في البكا وأَجَلَّتِ
أبو بكر الوراق التميمي المغربي: من الخفيف
تعبي راحتي وأُنْسي انفرادي ... وشفائي الضَّنا ونومي سُهادي
لست أشكو فَعَالَ مَنْ صَدَّ عني ... أيُّ بعدٍ وقد ثَوَى في فؤادي
هو يختالُ بين قلبي وعيني ... وهو ذاك الذي يُرى في السوادِ
أنشد الجاحظ: من الطويل

عسى أن تحلَّ الحيَّ جرعاء وابل ... وعلَّ النوى بالظاعنين تريعُ
أفي كلِّ عامٍ زفرةٌ مستجدّةٌ ... تضمَّنَها مِنّي حشا وضلوعُ
وقال جميل: من الطويل
أشوقا ولمّا يمضِ لي غيرُ ليلةٍ ... رويدَ الهوى حتى يُغِبَّ لياليا
لحى الله أقواما يقولون إننا ... وجدنا بعيدَ النأي للحبِّ شافيا
ومثله: من الطويل
أشوقا ولمّا تمضِ لي غيرُ ليلةٍ ... فكيف إذا جَدَّ المسيرُ بنا عشرا
ومثله لكثير: من الطويل
لعمركَ إنّ الجزعَ أمسى ترابُهُ ... من الطيب كافورا وعيدانُهُ رَنْدَا
وما ذاك إلا أن مَشَتْ في عراصِهِ ... عزيزة في سربٍ وجَرَّتْ به بردا
وأصبح ماءُ الشعب خمرا وأصبحتْ ... جلاميدُهُ مسكا وأوراقُهُ وردا
وظلَّتْ ظبا البيداء ترعَى خمائلا ... سقتها رياحُ الجوِّ من سحبها شهدا
وقال آخر: من الطويل
فإن تُرْجعِ الأيَّامُ بيني وبينها ... بذي الأَثْلِ صيفا مثلَ صيفي ومَرَبعي
أشدُّ بأعناقِ النوى بَعْدَ هذه ... مرائِرَ إن جاذَبْتُهَا لم تَقَطَّعِ
وقال الصمة القشيري، ويروي لغيره: من الطويل
وأذكرُ أَيَّامَ الحمى ثم أَنثني ... على كبدي من خشية أن تَقَطَّعا
فليستْ عشيَّاتُ الحمى برواجعٍ ... عليكَ ولكن خلِّ عينكَ تَدْمَعَا
وقال آخر: من الطويل
سقي بلدا أَمْسَتْ سُلَيْمى تَحُلُّهُ ... من المزنِ ما تَرْوَى به وتسيمُ
وإن لم أكنْ من ساكنيه فإنه ... يحلُّ به شخصٌ عليَّ كريمُ
ألا حبّذا مَنْ ليس يَعْدِلُ قُرْبَهُ ... لديَّ وإن شطَّ المزارُ نعيمُ
ومن لامني فيه حبيبٌ وصاحبٌ ... فَرُدَّ بغيظٍ صاحبٌ وحميمُ
وقال ابن نباتة: من البسيط
يا حبذا أرضُ نجد كيف ما سَمَحَتْ ... بها الخطوبُ على يُسْرٍ وإعسارِ
وحَبّذا دَمِثٌ من أَرْضها عَبِقٌ ... هَبَّتْ عليها رياحٌ غبَّ أمطارِ
أحبّها وبلادُ الله واسعةٌ ... حُبَّ البخيلِ غِناهُ بعد إقتارِ
ما كنتُ أولَ منْ حَنَّتْ ركائِبُهُ ... شوقا وفارق إلفا غيرَ مختارِ
وقال أبو القمقام الأسدي: من الكامل
أقرأ على الوَشَلِ السلامَ وَقُلْ له ... كلُّ المشاربِ مذ هُجِرْتَ ذميمُ
سقيا لظلِّكَ بالعشيِّ وبالضُّحى ... ولبردِ مائِكَ والمياهُ حميمُ
لو كنتُ أملكُ بَرْدَ مائِكَ لم يَذُقْ ... ما في قِلاتِكَ ما حييتُ لئيمُ
وقال ابن الحجاج: من السريع
يا ليلتي هل لكِ أن ترجعي ... حتى أرَى فيكِ حبيبي معي
ماذا على الصبحِ الذي راعني ... لو أنه أبْطَأ ولم يُسْرِع
اذانُهُ شتَّتَ شملَ الهوى ... ليتَ أذانَ الصبحِ لم يُسْمَعِ
وقال رجل من بني كلاب: من الطويل
نَحِنُّ إلى الرَّمْلِ اليماني صبابةً ... و هذا لعمري إن رضيتِ كثيبُ
فأين الأراكُ الدَّوْحُ والسِّدْرُ والغضا ... ومستخبرٌ عمّن نُحِبُّ قريبُ
هناك تغنّينا الحمامُ ونَجْتَني ... جَنَى اللّهوِ يَحْلَوْلي لنا ويطيبُ
وقال خارجة بن فليح: من الطويل
أحِنُّ إلى ليلى وقد شطَّ وَلْيُها ... كما حَنَّ محبوسٌ عن الإلفِ نازعُ
إذ خَوَّفَتْني النفسُ بالنأي تارةً ... وبالصَّرْمِ منها كَذَّبَتْهَا المطامعُ
أكَلَّ هواكِ الطَّرْفَ عن كلِّ بهجةٍ ... وصَمَّتْ عن الداعي إليكِ المسامعُ
وقال ذو الرمة: من الطويل
ومن حاجتي لولا التنائي وربَّما ... منحتُ الهوى مَنْ ليس بالمتقاربِ
عطابيلُ بيضٌ من ربيعةِ عامرٍ ... رقاقُ الثنايا مُشْرِفاتُ الحقائبِ
وقال أيضا: من البسيط
تعتادني زَفَراتٌ حين أذكرها ... تكاد تَنْقَضُّ منهنَّ الحيازيمُ

هام الفؤاد لذكرها وخامَرَهُ ... منها على عُدَواءِ الدارِ تسقيمُ
فما أقولُ ارعوى إلا تَهَيَّضَهُ ... حظ له من خَبَالِ الشوقِ مقسومُ
وله أيضا: من الطويل
أداراً بِحُزْوَى هِجْتِ للعينِ عبرةً ... فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ
وقفنا فسلَّمنا فكاد بمشرفٍ ... لعرفانِ صوتي دمنةُ الدارِ تنطقُ
تجيشُ إليَّ النفسُ في كل منزلٍ ... لِمَيٍّ ويرتاحُ الفؤادُ المشوَّقُ
وله أيضا: من الطويل
إذا ذكَّرَتْكَ النفسُ مَيّاً فقلْ لها ... أفيقي فأيهاتِ الهوى من مَزَارِكِ
وما ذكْرُكِ الشيءَ الذي ليس راجعا ... به الوجدُ إلا خفقةً من ضلالِكِ
أما والذي حجَّ المُلَبُّون بيتَهُ ... شلالا ومولى كلِّ باقٍ وهالكِ
لئن قطعَ اليأسُ الحنينَ فإِنه ... رَقُوءٌ لتذارفِ الدموعِ السوافكِ
لقد كنتُ أهوى الأرضَ ما يستفزّني ... لها الشوقُ إلا أنَّها من ديارِكِ

النوع الرابع
في ذكر الوداع
وقال الشماخ: من الطويل
وأَعْجَلَنَا وَشْكُ الفراقِ وبيننا ... حديثٌ كتنفيس المريضَيْنِ مُزْعِجُ
حديثٌ لو أنَّ اللحمَ يُصْلى بحرِّهِ ... غريضاً أتى أصحابَهُ وهو مُنْضَجُ
وقال بعض العرب: من الطويل
ومما شجاني أنها يومَ وَدَّعَتْ ... تولَّتْ وماءُ العينِ في الجفنِ حائرُ
فلما أشارَتْ من بعيدٍ بنظرةٍ ... إليَّ التفاتا أَسْلَمَتْهَا المحاجرُ
يقولون لا تنظرْ وتلك بليَّة ... ألا كلُّ ذي عينين لا بدَّ ناظرُ
أُلامُ بأن حَنَّت قَلُوصي من الهوى ... ولا ذنبَ لي في أن تحنَّ الأباعرُ
وقال البحتري: من الكامل
رحلوا فأيَّةُ عَبْرَةٍ لم تُسْكَبِ ... أسَفاً وأيُّ عزيمةٍ لم تُغْلَبِ
لو كنتَ شاهِدَنَا وما صنعَ الهوى ... بقلوبنا لَحَسَدْتَ من لم يُحْبَبِ
شُغِلَ الرقيبُ وأسعدتنا خَلْوَةٌ ... في هجرِ هجرٍ واجتنابِ تجنُّبِ
تشكو الفراق إلى قتيلِ صبابةٍ ... شَرِقِ المدامعِ بالفراقِ مُعَذَّبِ
وقال المتنبي: من الكامل
وجلا الوداعُ من الحبيب محاسنا ... حَسَنُ العزاءُ وقد جُلينَ قبيحُ
فَيَدٌ مُسَلِّمَةٌ وطرفٌ شاخصٌ ... وحشاً يذوبُ ومدمعٌ مسفوحُ
وقال جرير: من الوافر
أَتسنى إذ تُوَدِّعُنَا سُلَيمى ... بِعودِ بشامةٍ سُقِيَ البشامُ
فلو وَجَدَ الحمامُ كما وَجَدْنَا ... بسلمانين لاكتأبَ الحمامُ
بنفسي من تجنّبه عزيزٌ ... عليَّ ومن زيارته لمامُ
ومن أمسى وأصبح لا أَراهُ ... ويطرقني إذا هَجَعَ النيامُ
وقال البحتري: من الكامل
وأنا الفداءُ لمرهفٍ غَضِّ الصبا ... يُوهِيهِ حَمْلُ وشاحِهِ وعقودِهِ
قَصُرَتْ تحيَّتُهُ فجاد بخدِّهِ ... يومَ الوداعِ لنا وضنَّ بجيدِهِ
ولو استطاعَ لكانَ يومُ وصالِهِ ... للمستهامِ مكانَ يومِ صدودِهِ
وقال ابن الرومي: من المنسرح
لو كنتَ يومَ الفراقِ حاضرنا ... وهنَّ يُطْفينَ غلُّةَ الوجدِ
لم تَرَ ألا دموعَ باكيةٍ ... تُسْفَحُ من مقلةٍ على خَدِّ
كأنَّ تلك الدموعَ قَطْرُ ندىً ... يَقْطُرُ مِنْ نرجسٍ على وَرْدِ
وقال أيضا: من الوافر
تلاقينا لقاءً لافتراقٍ ... كلانا منه ذو قلبٍ مَرُوعِ
فما افترَّتْ شفاهٌ عن ثغورٍ ... بل افترَّتْ جفونٌ عن دموعِ
وقال الطائي: من الكامل
مَدَّتْ إليكَ بَنَانَةً أُسْرُوعَا ... تصفُ الفراقَ ومقلةً ينبوعا
كادتْ لعرفانِ النوى ألفاظُها ... من رقةِ الشكوى تكونُ دموعا
وقال البصير: من الطويل

أَلَمَّتْ بنا يومَ الرحيلِ اختلاسة ... فأضرمَ نيرانَ الهوى النظرُ الخَلْسُ
تأنَّتْ قليلا وهي تُرْعِدُ خيفةً ... كما تتأنَّى حين تعتدلُ الشمسُ
فخاطبها صمتي بما أنا مُضْمِرٌ ... وأَبْلَسْتُ حتى ليس يُعْلَمُ لي حِسُّ
وَوَلَّتْ كما وَلَّى الشبابُ لِطِيَّةٍ ... طَوَتْ دونها كَشْحا على نأيها النفسُ
وقال الحسن بن هاني: من الكامل المرفل
وكأنَّ سَلْمَى إذ تُوَدِّعُنا ... وقد اشرأَبَّ الدمعُ أن يكفا
رشأ تَواصَيْنَ القيانُ به ... حتى عَقَدْنَ بأذنِهِ شِنْقَا
وقال المرتضى أبو القاسم الموسوي: من الطويل
ويومَ وقفنا للوداع وكلّنا ... يعدُّ مطيعَ الشوق مَنْ كان أَحزما
نُصِرْتُ بقلبٍ لا يُعَنّف في الهوى ... وعينٍ متى استمطرها قطرتْ دما
وقال أبو المطاع ابن ناصر الدولة بن حمدان: من الكامل
لو كنتَ ساعةَ بيننا ما بيننا ... فشهدتَ حين نُكَرِّرُ التوديعا
أيقنتَ أنّ من الدموعِ مُحَدِّثا ... وعلمتَ أنّ من الحديثِ دموعا
وقال أبو الحسين بن لنكك البصري: من الوافر
وقفنا موقفَ التوديع نوطي ... نجومَ الدمع آفاقَ الغروب
تعجَّبُ من عناقٍ حَرَّ دمعاً ... وتقبيلٍ يُشيَّعُ بالنحيبِ
وقد ضاق العناقُ فلو فَطِنَّا ... دخلنا في المخانقِ والجيوبِ
وقال جعفر بن علبة الحارثي: من الطويل
أشارتْ بطرْفِ العينِ وهي حزينةٌ ... تُوَدِّعنا إذ لم يُبَيِّنْ كلامُها
فلو كنتُ أبكي للفراقِ صبابة ... شفى بعضَ وجدي من جفوني انسجامُها
ولكنها عينٌ كتومٌ لدمعها ... إذا ما حبالُ الوصل جدَّ انصرامُها
وخُبِّرْتُها تهدي السلامَ ودونها ... جبالُ السرى تثليثها وإكامُها
فإنّ التي أَهْدَتْ على نأي دارِهَا ... سلامها لمردودٌ عليَّ سلامُها
وقال ذو الرمة: من الطويل
عَدَوْنَ فأحسنَّ الوداعَ فلم نَقُلْ ... كما قُلْنَ إلا ما تشيرُ الأصابعُ
ولما تلاحقنا ولا مثلَ ما بنا ... من الوجدِ لا تنقضُّ منه الأضالعُ
تخلَّلْنَ أبوابَ الخدورِ بأعينٍ ... غرابيبَ والألوانُ بيضٌ صوادعُ
وخالَسْنَ تبساماً إلينا كأنما ... تصيبُ به حَبَّ القلوبِ القواطعُ
وقال آخر من الطويل
ولا أنسى من أسماءَ بالأمسِ قولَها ... وأدمعها يُذْرَيْنَ حَشْوَ المكاملِ
تمتَّعْ بذا اليومِ القصيرِ فإِنه ... رهينٌ بأيامِ الشهورِ الأطاولِ
وقال البحتري: من السريع
إن أنتِ ودَّعْتِ بتقبيلةٍ ... كانتْ يداً مشكورةً للفراقْ
أحاذرُ البينَ من أجلِ النوى ... طوراً وأهواهُ من أجلِ العناقْ
وقال أبو دهبل: من الطويل
فوا ندماً إذ لم أَعُجْ إذ تقولُ لي ... تَقَدَّمْ فَشَيِّعْنَا إلى ضَحْوَةِ الغدِ
فأصبحتُ مما كان بيني وبينها ... سوى ذكرها من قابضِ الماءِ باليدِ
وأنشد أبو السائب ذلك فقال: ما صنع شيئاً، اكترى حماراً يشيعهم ولا يقول: فواندمي، وأظنه قد كان له عذر ولا يقدر يذكره، وقال للرجل: ما تقول أنت؟ فقال الرجل: وأنا أظنه قد كان له عذر، قال: وما هو، قال الرجل: لا أدري، قال: أظنه قد كان مثلي لا يجد شيئاً.
الحسين بن الضحاك: من الكامل
نفسي الفداءُ لخائفٍ مُتَرَقِّب ... جعل الوداعَ إشارةً بعناقِ
إذ لا جوابَ لمفحمٍ متحيّرٍ ... إلا الدموعَ تُصَانُ بالإطراقِ
المتنبي: من الطويل
ولم أرَ كالألحاظِ يومَ رحيلهم ... بعثن بكلِّ القتلِ من كلِّ مُشْفِقِ
عشيّةَ يَعْدُونَا عن النظرِ البكا ... وعن لَذَّةِ التوديعِ خَوْفُ التفرُّقِ
نودِّعهم والبينُ فينا كأنه ... قنا ابن أبي الهيجاء في قَلْبِ فَيْلَقِ

النوع الخامس
في المسرة واللقاء عند الإياب
قال البحتري: من الطويل
وقد ضمَّنا وَشْكُ التلاقي ولفَّنا ... عناقٌ على أعناقنا ثَمَّ ضَيِّقُ
فلم نَرَ إلاَّ مُخْبراً عن صبابةٍ ... بشكوى وإلا عبرةً تترقرقُ
فأُحْسِنْ بنا والدمعُ بالدمعِ واشجٌ ... يمازِجُهُ والخدُّ بالخدِّ مُلْصَقُ
ومن قُبَلٍ قَبْلَ التشاكي وبَعْدَهُ ... نكادُ بها من شدَّةِ الوجدِ نَشْرَقُ
فلو فهمَ الناسُ التلاقي وَحُسْنَهُ ... لَحُبِّبَ من أجلِ التلاقي التفرُّقُ
وقال أيضاً: من الطويل
ولما التقينا والنقا موعدٌ لنا ... تعجَّبَ رامي الدُّرِّ حُسْناً ولاَقِطُهْ
فمن لؤلؤ تجلوهُ عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديثِ تساقِطُهْ
وقال الأخطل: من الطويل
وإنّي وإياها إذا ما لقيتها ... لكالماءِ من بين الغمامةِ والخمرِ
وقال عمرو بن حكيم بن معية: من الطويل
خليليَّ أمسى حبُّ خرقاءَ عامدي ... ففي القلبِ منه زفرةٌ وَصُدوعُ
ولو جاورتنا الآن خرقاءَ لم نُبَلْ ... على جَدْبِنَا إلاّ يَصُوب ربيعُ
النوع السادس
في ذكر الطيف والخيال
من أحسن ما قيل في الخيال قول قيس بن الخطيم: من الكامل
أنَّى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سَرُوبِ ... وَتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
ما تمنعي يَقْظَى فقد تؤتينه ... في النومِ غيرَ مُصَرَّدٍ مَحْسُوبِ
وتبعه البحتري فقال: من الخفيف
ما نَقضّي لُيانةً عند لبنى ... والمعَّنى بالغانياتِ مُعَنَّى
هجرتنا يَقْظَى وكادت على مذ ... هبها في الصدودِ تهجرُ وَهْنَا
وقال أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي: اخطأ البحتري في قوله: هجرتنا يقظى، قال: لأن خيالها بتمثل له في كل أحوالها، أيقظى كانت أو وسنى؛ قال: والجيد في هذا المعنى قوله: من البسيط
أُرَدُّ دونَكِ يقظاناً ويأذنُ لي ... عليك سُكْرُ الكرى إن جئتُ وسنانا
قال: والذي أوقعه في ذلك قول قيس بن الخطيم، وكان الأجود أن يقول: ما تمنعي في اليقظة فقد تؤتينه في النوم، أين ما تمنعنيه في يقظتي فقد تؤتينه في حال نومي، حتى يكون النوم واليقظة منسوبين إليه، لأن خيال المحبوب يتمثل في حال نومه ويقظته جميعاً، إلا أنه يتسع من التأويل في هذا لقيسٍ ما لا يتسع للبحتري، لأن قيساً قال: فقد تؤتؤينه في النوم، ولم يقل: تؤتينه نائمةً، وقد يجوز أن يحمل على أنه أراد ما تمنعي يقظى أي وأنا يقظان، فقد تؤتينه في النوم، أي: في نومي، ولا يسوغ مثل ذلك في بيت البحتري لأنه قال: وسنى، ولم يقل: في الوسن.
وقال عمرو بن مالك الجعدي: من الطويل
أَلاَ طرقتنا أمُّ أوسٍ ودونها ... من القُفِّ أعلامٌ له وجنودُ
فلما انتبهنا للخيالِ الذي سرى ... إذا الأرضُ قفرٌ والمزارُ بعيدُ
فقلتُ لعيني عاودي النومَ واهجعي ... لعلَّ خيالاً طارقاً سيعودُ
وقال البحتري: من الطويل
أَلَمَّت بنا بعد الهدوِّ فسامَحَتْ ... بوصلٍ متى نَطْلُبْهُ في الجدِّ تَمْنَعِ
وربَّ لقاءٍ لم يؤمَّلْ، وفُرْقَةٍ ... لأسماءَ لم تُحْذَرْ ولم تُتَوَقَّعِ
أُسَرُّ بقربٍ من مُلِمٍّ مُسَلِّمٍ ... وأَشْجَى بينٍ من حبيبٍ مودّعِ
فكائنْ لنا بعد النوى من تفرُّقٍ ... تُزَجيّه أحلامُ الكرى، وَتَجمُّعِ
وقال أيضاً: من الطويل
وإني وإن ضَنَّتْ عليَّ بودِّها ... لأرتاحُ منها للخيالِ المؤرِّقِ
يعزُّ على الواشين لو يعلمونها ... ليالٍ لنا نَزْدارُ فيها ونلتقي
فكم غُلّةٍ للشوق أطفأتُ حَرَّها ... بطيف متى يطرقْ دُجَى الليلِ يَطْرقِ
أضمُّ عليه جَفْنَ عيني تمسّكاً ... به عند إجلاءِ النعاسِ المرّنقِ
وقال أيضاً: من الطويل

ولم أرَ مثلينا ولا مثلَ شأنِنَا ... نُعَذَّب أيقاظاً وننعمُ هُجَّدا
وقال أيضاً: من الطويل
وليلةَ هَوَّمْنا على العِيسِ أرسلتْ ... بطيفِ خيالٍ يشبهُ الحقَّ باطلُهْ
فلولا بياضُ الصبح طال تشبُّثي ... بِعِطْفَيْ غزالٍ بتُّ وهناً أغازلُه
وقال العباس بن الأحنف: من الوافر
خيالُكِ حين أرقدُ نُصْبَ عيني ... إلى وقتِ انتباهي لا يزولُ
وليس يزورني صِلَةً ولكنْ ... حديثُ النفسِ عنكِ به الوصولُ
وتبعه أبو تمام في هذا المعنى فقال: من البسيط
زار الخيالُ بها لا بل أزارَكَهُ ... فكرٌ إذا نام فكرُ الخلقِ لم ينمِ
ظبيٌ تقنَّصْتُهُ لما نصبتُ له ... في آخرِ الليلِ أشراكاً من الحلمِ
وقال أيضاً في المعنى: من الخفيف
من فما زارك الخيالُ ولكن ... أنت بالفكرِ زُرْتَ طيفَ الخيالِ
وقال علي بن يحيى: من المديد
بأبي واللهِ من طرقا ... كابتسامِ البرقِ إذ خفقا
زارني طيفُ الحبيب فما ... زاد أن أَغْرَى بيَ الأرَقا
ومثله لأحمد بن يوسف الكاتب: من الرمل
في سبيل الله ودٌّ حسَنٌ ... دام من قلبي لوجهٍ حَسَنِ
وهوىً ضَيَّعْتُهُ في سَكَنٍ ... ليس حظِّي منه غيرَ الحزنِ
يرقدُ الليلَ ويستعذبُهُ ... فإذا استعذبتُ طيبَ الوسنِ
زارني منه خيالٌ ما له ... أربٌ في غيرِ أَنْ يوقظَني
وأنشد أبو القاسم ابن الفضل لنفسه بيتاً ألم فيه بهذا المعنى وزاد عليه: من البسيط
ما زارني طيفُهُ إلاّ موافقةً ... على الكرى ثم ينفيهِ وينصرفُ
في قوله: موافقة معنىً لطيف لم أعثر عليه لمن تقدم.

النوع السابع
في الرقة والنحول
قال أعرابي: من الطويل
ولو أنَّ ما أبقيتِ مني مُعَلَّقٌ ... بعودِ ثُمامٍ ما تأوَّدَ عُودُهَا
وقال المجنون: من الطويل
ألا إنما غادرتِ يا أمَّ مالكٍ ... صدىً أينما تذهبْ به الريحُ يَذْهَبِ
وقال المتنبي: من الطويل
ولو قَلَمٌ ألقيتُ في شقِّ رأسِهِ ... من السُّقْمِ ما غَيَّرْتُ من خطِّ كاتبِ
وقال أيضاً: من الخفيف
حُلْتِ دون المزارِ فاليوم لو زر ... تِ لحالَ النحولُ دونَ العناقِ
وقال العلوي: من البسيط
أبقى الهوى فيه جسماً كالهواء ضنىً ... تَنَسَّمُ الريحُ فيه وهو مفقودُ
أتبعتها نَفَساً تَدْمَى مسالكُهُ ... كأنَّه من حمى الأحشاءِ مقدودُ
وأشار المتنبي إلى النحول فأحسن في قوله: من الكامل
أَمَرَ الفؤادُ جفونَهُ ولسانَهُ ... فكتمنَهُ وكفى بجسمِكَ مُخْبِرا
وقال أبو الحسن السلامي: من البسيط
ما ضَنَّ عنك بموجودٍ ولا بَخِلا ... أَعَزُّ ما عنده النفسُ التي بذلا
يحكي المطايا حنيناً والهجيرَ جوىً ... والمزنَ دمعاً وأطلالَ الديارِ بِلَى
وقال الماهر: من الوافر
وما أبقى الهوى والشوقُ مني ... سوى روحٍ تَرَدَّدُ في خيالِ
خفيتُ على النوائبِ أن تراني ... كأنَّ الروحَ منّي في محالِ
وقال ديك الجن: من الهزج
كلانا غُصُنٌ شَطْبُ ... فذا بالٍ وذا رَطْبُ
إذا ما هبتِ الريحُ ... ومال المِرْطُ والإِتْبُ
أبانتْ منه ما طابَ ... ومني ما بَرَى الحبُّ
وقال أبو عثمان الخالدي: من الطويل
بنفسي حبيبٌ بان صبري لِبَيْنِهِ ... وأَوْدَعَني الأحزانَ ساعةَ وَدَّعا
وأَنْحَلَني بالهجرِ حتى لو أنني ... قذىً بين جَفْنَيْ أرمدٍ ما تَوَجَّعَا
وقل ابن دريد: من السريع
إنَّ الذي أبقيت من جسمِهِ ... يا متلفَ الصبِّ ولم تَشْعُرِ
صُبابَةٌ لو أنها دَمْعَةٌ ... تجولُ في جفنكَ لم تُقْطَرِ
النوع الثامن
في البكاء والهمول
قال ذو الرمة، وهو قدوةٌ في البكاء على الطلول: من البسيط

ما بالُ عينكَ منها الماءُ ينسكبُ ... كأنه من كُلىً مفريَّةٍ سَرِبُ
وقال أيضاً: من الطويل
وما شَنَّتَا خرقاءَ واهيتا الكُلَى ... سقى بهما ساق ولما تبلَّلا
بأضيعَ من عينيك للدمعِ كلَّما ... تَذَكَّرْتَ ربعاً أو توهَّمتَ منزلا
وقال أيضاً: من الطويل
قفِ العيسَ في أطلالِ مَيَّةَ فاسألِ ... رسوماً كأخلاقِ الرداء المسلسلِ
أظنُّ الذي يُجْدي عليك سؤالُها ... دموعاً كتبديدِ الجمانِ المفصَّلِ
وقال آخر: من البسيط
استبقِ دمعك لا يودي البكاءُ به ... واكففْ بوادرَ من عينيك تَسْتَبِقُ
ليس الشؤونُ وإنْ جادَتْ بباقيةٍ ... ولا الجفونُ على هذا ولا الحدقُ
وقال أحمد بن يوسف: الكامل
عَذُبَ الفراقُ لنا قبيلَ وداعِه ... ثم اجْتَدَحْنَاهُ بسمٍّ ناقعِ
وكأنما أثَرُ الدموعِ بخدِّها ... طَلٌّ سقيطٌ فوق وردٍ يانعِ
وقريبٌ منه قول الناشئ الأوسط: من المتقارب
بكت للفراق فقد راعني ... بكاءُ الحبيب لقربِ الديارِ
كأنَّ الدموعَ على خدِّها ... بقيةُ طلٍّ على جُلّنارِ
ومثله للسري الرفاء: من الوافر
وقفنا نحمدُ العبراتِ لما ... رأينا البين مذمومَ السجايا
كأنَ خدودَهنَّ إذا التقينا ... شقيقٌ فيه من طلٍّ بقايا
وهذه كلها مأخوذة من قول البحتري في عكسه لأحمد بن يوسف فإنه في عصره متقدم عليهم: من الطويل
شقائقُ يحملنَ النَّدى فكأنها ... دموعُ التصابي في خدودِ الخرائدِ
وقال الطائي: من الكامل
ظعنوا فكان بكايَ حولاً كاملاً ... ثم ارعويتُ وذاك حكمُ لبيدِ
أجدِرْ بلَوْعَةِ جمرةٍ إطفاؤها ... بالدمعِ أن تزدادَ طولَ وَقُودِ
وقال أيضاً: من الكامل
نثرتْ فريدَ مدامعٍ لم تُنْظَمِ ... والدمعُ يحملُ بعضَ ثِقْلِ المغرمِ
وَصَلَتْ دموعاً بالنجيعِ فخدُّها ... في مثلِ حاشيةِ الرداءِ المعلمِ
وقال أيضاً: من الكامل
مَطَرٌ من العبراتِ خدِّي أرضُهُ ... حتى الصباحِ ومقلتايَ سماؤُهُ
أحبابه ما يفعلونَ بقلبِهِ ... ما ليس يفعلُهُ به أعداؤُهُ
وقال مسلم بن الوليد: من الطويل
فآهٍ من الأحزانِ إن أَسْفَرَ الضحى ... وفي كبدي من بينهنَّ حريقُ
مزجنا دماً بالدَّمْعِ حتى كأنَّما ... يُذَابُ بعيني لؤلؤٌ وعقيقُ
وقال العباس بن الأحنف: من المتقارب
بكتْ غيرَ آنسةٍ بالبكا ... ترى الدمعَ في مقلتيها غريبا
وأسعدها بالبكا نسوة ... جعلن مغيضَ الدموعِ الجيوبا
وقال أيضاً: من الكامل
نزف البكاءُ دموعَ عينكَ فاستعرْ ... عيناً لغيرك دمعُها مِدْرَارُ
مَنْ ذا يعيرُكَ عينَهُ تبكي بها ... أَرأيتَ عيناً للبكاءِ تُعارُ
وقال دعبل: من الكامل المرفل
لا أبتغي سُقيا السحابِ لها ... في مقلتي خَلَفٌ من السقيا
وقال أبو نواس: من الخفيف
لا جزى الله دمعَ عينيَ خيراً ... وجزى اللهُ كلَّ خيرٍ لساني
من دمعي فليس يكتمُ شيئاً ... ووجدتُ اللسانَ ذا كتمانِ
كنتُ مثلَ الكتابِ أخفاه طيٌّ ... فاستدلُّوا عليهِ بالعنوانِ
وقال الصولي: من الطويل
فلا تنكرنْ لونَ الدموعِ فإنها ... يُبَيِّضُهَا تصعيدُها من دمِ القلب
ومثله لأبي العباس الضبي: من البسيط
لا تَحْسَبَنَّ دموعي البيضَ غيرَ دمي ... وإنما نَفَسي الحامي يُصَعِّدُهُ
وقال البحتري: من الكامل
سالت مقدمةُ الدموعِ وخلَّفَتْ ... حُرَقاً توقَّدُ في الحشا ما تَرْحَلُ
إنّ الفراقَ كما علمت فخلِّني ... ومدامعاً تَسَعُ الفراقَ وتفضلُ
إلا يكنْ صبرٌ جميلٌ فالهوى ... نشوانُ يحملُ فيه ما لا يجملُ
وقال أيضاً: من الوافر

وقفْنا والعيونُ مُشَغَّلاتٌ ... يُغَالِبُ دَمْعَها نظرٌ كليلُ
نَهَتْهُ رقبةُ الواشينَ حتى ... تعلَّقَ لا يغيضُ ولا يَسيلُ
ونحوه قول ابن طاهر عبيد الله بن عبد الله: من الطويل
ولا مقلتي من غامرِ الماءِ تنجلي ... ولا مدمعي من مُكمدِ الوجدِ يَقْطُرُ
وهذا البيت أجاز به قول الأول أبي حية: من الطويل
وقفتُ كأني من وراءِ زجاجةٍ ... إلى الدارِ من فَرْطِ الصبابةِ أَنْظُرُ
فعينايَ طَوْراً تغرقانِ من البكا ... فأعْشَى وطوراً تَحْسِرانِ فأبصرُ
وقال آخر: من الطويل
رعى الله عيناً من بكاها على الحمى ... تجفُّ ضروعُ المزنِ وهي حَلُوبُ
بكتْ وغدير الحيِّ طامٍ فأصبحتْ ... عليه الجمالُ الحائماتُ تلوبُ
وما كنت أدري أنّ عيناً زكيةً ... ولا أنّ ماءَ المقلتينِ شروبُ
وقال رجل من بني نهشل: من الطويل
أُلامُ على فيضِ الدموعِ وإِنني ... بفيضِ الدموعِ الجارياتِ جديرُ
أيبكي حمامُ الأَيْكِ من فَقْدِ إِلْفِهِ ... وأصبرُ عنها إنني لصبورُ
وقال آخر: من الطويل
مررنا بأعلى الجزع من قُلَّةِ الحمى ... على طَلَلِ لم تَبْقَ إِلاّ معالمُهْ
وددتُ وقد عُجنا نُحَيِّيه أنَّ لي ... دموعَ الورى دمعٌ وأنّي ساجِمُهْ
أبو حبيب المغربي، وقد أبدع: من البسيط
تجري جفوني دماءً وهو ناظرها ... ومتلفُ القلبِ وَجْداً وهو مَرْتعُهُ
إذا بدا حالَ دمعي دونَ رؤيتِهِ ... يغار منّي عليه فهو بُرْقعُهُ

النوع التاسع
في إحماد المواصلة والعناق
قال البحتري: من البسيط
قد أَطْرُقُ الغادة البيضاء مُقتدراً ... على الشباب فتصبيني وأصبيها
في ليلة لا ينال الصبح آخرها ... علقت بالراح أُسقاها وأَسقيها
عاطيتُها غضّةَ الأطراف مرهفةً ... شربت من يدها خمراً ومن فيها
وقال الحاتمي: من الطويل
وعيشٍ كنوّارِ الرياضِ استرقتُهُ ... اختلاساً وأحداثُ الليالي غوافلُ
لماماً وأغصانُ الشبيبةِ رطبةٌ ... وماءُ الصبا في ورد خَدَّيَّ جائلُ
ويومٍ كحَلْيِ الغانياتِ سلبتُهُ ... حُلِيَّ الرّبى حتى انثنى وهو عاطلُ
سبقتُ إليه الصبحَ والشمسُ غَضَّةٌ ... وصبغ الدجى من مفرق الصبح ناصلُ
ونشوانَ من خمر الدلالِ سقيتُهُ ... شَمولاً فَنَمَّتْ عن هواه الشمائلُ
إذ العيش مخضرُّ الأصائل ناعمٌ ... وإذ زِبْرِجُ الدنيا خليلٌ مواصلُ
وقال ابن الرومي: من الطويل
أعانقها والنفس بعد مشُوقَةٌ ... إليها وهل بعد العناق تَدَانِ
كأنّ فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى إن يرى الروحين يتمزجان
وقال أبو فراس ابن حمدان: من الطويل
وكم ليلةٍ ماشيتُ بدرَ تمامِها ... إلى الصبح لم يشعرْ بأمريَ شاعرُ
ولا ريبةٌ إلا الحديثُ كأنه ... جمانٌ وَهَي أو لؤلؤ متناثرُ
أقولُ وقد ضَجَّ الحُلِيُّ وأشرفت ... ولم أرَ منها للصباح بشائرُ
أيا ربَّ حتى الحَلْيُّ مما أخافُهُ ... وحتى بياضُ الصبح مما أحاذرُ
فيا نفسُ ما لاقيتِ من لا عج الهوى ... ويا قلبُ ما جَرَّتْ عليك النواظرُ
وقال البحتري: من الخفيف
تلك نُعْمٌ لو أنعمتْ بوصالٍ ... لشكرنا في الوصلِ إنعامَ نُعْمِ
نسيتْ موقفَ الجمارِ وشخصا ... نا كشخصٍ أرمي الجمارَ وترمي
وقال أيضاً: من المتقارب
ولم أنسَ ليلتنا في الودا ... عِ لفَّ الصّبا بقضيبٍ قضيبا
وقال بكر بن خارجة: من البسيط
رأيتُ شخصك في ليلي يعانقني ... كما يعانقُ لام الكاتبِ الألفا
وقال ابن المعتز: من السريع
كأنني عانقتُ ريحانةً ... تنفَّسَتْ في ليلها الباردِ

فلو ترانا في قميصِ الدجى ... حَسِبْتَنا في جَسَدٍ واحدِ
وقال علي بن الجهم: من الطويل
سقى الله ليلاً ضَمَّنا بعد هجعةٍ ... وأدنى فؤاداً من فؤاد معذَّبِ
فبتنا جميعاً لو تُرَاقُ زجاجةٌ ... من الراحِ فيما بيننا لم تَسَرَّبِ
وقال أيضاً: من الطويل
فبتنا معاً لا يخلصُ الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجبٌ وستورُ
وقال البحتري: من الطويل
ولم أَنْسَهُ إذ قام ثانيَ جيدِهِ ... إليَّ وإذ مالتْ عليَّ ذوائبُهْ
عناقٌ يهدُّ الصبرَ وشكُ انقضائِه ... ويُذكي الجوى أو يسكبَ الدمعَ ساكبُهْ
وقال آخر: من الطويل
فبتنا على رغم الحسودِ وبيننا ... حديثٌ كنشرِ المسكِ شِيبَ به الخمرُ
حديثٌ لو أنّ الميتَ نُوجي ببعضِهِ ... لأصبحَ حَيّاً بعد ما ضمَّهُ القبرُ
وقال مزاحم بن الحارث العقيلي: من الطويل
فبتنا ندامَى ليلةٍ لم نَذُقْ بها ... حراماً ولم يَبخلْ بحلٍّ ضنينها
صفاحاً بأيمانٍ ترى أنّ مَسَّها ... شفاء الصَّدَى من علّةٍ طال حِينُها

النوع العاشر
في شكوى الفراق واحتماله
قال جميل: من الطويل
وما مَرَّ يومٌ مذ تراختْ بنا النوى ... ولا ليلةٌ إلا هوىً منكِ رادفُ
أهمُّ بشكوى منكِ ثم تردُّني ... إليكِ وتثنيني عليكِ العواطفُ
فلا تحسبنَّ النأي أسلى مودتي ... ولا أنَّ عيني رَدَّهَا عنك طارفُ
وقال آخر: من البسيط
يا قلب ويحك ما سلمى بذي سَلَمٍ ... ولا الزمانُ الذي قد فاتَ يُرْتَجَعُ
أكلَّما مرَّ ركبٌ لا يلائِمُهُ ... ولا يبالون أن يشتاقَ من فجعوا
عَلَّقتني بهوىً منهم فقد جَعَلَتْ ... من الفراق حصاةُ القلبِ تَنْصَدِعُ
لما دنا البينُ بينُ الحيِّ واقتسموا ... حَبْلَ النوى وهي في أيديهمُ قطعُ
جادَتْ بأدمعها سلمى وعاجلني ... وشكُ الفراقِ فمن أبكي ومَنْ أَدعُ
وقال ذو الرمة: من الطويل
نظرتُ إلى أظعانِ مَيٍّ كأنها ... مُوَلِّيةً مَيْسٌ تميلُ ذوائبُهْ
فأبديتُ منّي الدمعَ والدمعُ كاتمٌ ... بمغرورقٍ نَمَّتْ عليَّ سواكبُهْ
فلمّا عرفنا آيةَ البينِ بَغْتةً ... وَرُدَّتْ لأحداجِ الفراقِ ركائبُهْ
ولم يستطعْ إلفٌ لإلفٍ تحيةً ... من الناسِ إلا أن يُسَلِّمَ حاجبُهْ
تراءَى لنا ما بين سِجْفَينِ لمحةً ... غزالٌ أحمُّ العينِ بيضٌ ترائبُهْ
وقال قيس بن ذريح، ويروى لعبد الله بن مصعب الزبيري: من الطويل
فإن يحجبوها أو يحلْ دون وصلها ... مقالة واشٍ أو وعيد أميرِ
فلن يمنعوا عينيَّ من دائم البكا ... ولن يُذهِبوا ما قد أَجَنَّ ضميري
وكنّا جميعاً قبلَ أن يظهرَ الهوى ... بأنعمِ حاليْ غبطةٍ وسرورِ
فما برحَ الواشون حتى بَدَتْ لنا ... بطونُ الهوى مقلوبةً لظهورِ
لقد كان حَسْبَ النفسِ لو دامَ وَصْلُها ... ولكنَّما الدنيا متاعُ غرورِ
وقال أيضاً: من الوافر
بكيتُ نعم بكيتُ وكلُّ إلفٍ ... إذا بانتْ قرينتُهُ بكاها
وما فارقتُ لبني عن تقالٍ ... ولكن شقوةٌ بلغت مداها
وقال أيضاً: من الطويل
مضى زَمَنٌ والناس يستشفعونَ بي ... فهل لي إلى لبنى الغداةَ شفيعُ
يقولون صبٌّ بالنساءِ مُوَكَّلٌ ... وما ذاك من فعلِ الرجالِ بديعُ
إلى الله أشكو أُمَّةً شَقَّتِ العصا ... هي اليومَ شتى وهي أمسِ جميعُ
لعمرك إني يومَ جرعاءِ مالكٍ ... لعاصٍ لأمرِ المرشدينَ مطيعُ
ندمتُ على ما كان مني ومنكمُ ... كما ندم المغبون حينَ يبيعُ
وقال آخر: من الطويل

وكلُّ مصيباتِ الزمانِ عرفتها ... سوى فرقةِ الأحبابِ هينةُ الخطبِ
وقلت لقلبي حين لجَّ به الهوى ... وكلفني ما لا أطيقُ من الحبِّ
ألا أيّها القلبُ الذي قاده الهوى ... أفِقْ لا أَقَرَّ الله عينكَ من قلبِ
وقال أبو العباس النامي، وأحسن في قوله: من الخفيف
سأَلَتْ بالفراقِ صباً وما ين ... بئها بالفراق مثلُ خبيرِ
هو بين الحشا صدوعٌ وفي الأع ... ين ماءٌ وجمرةٌ في الصدورِ
وقال علي بن الجهم: من الكامل المرفل
فارقتكم وأعيشُ بعدكُم ... ما هكذا كان الذي يجبُ
إني لألقى الناسَ معتذراً ... من أن أعيشَ وأنتم غُيُبُ
وقال ابن المعتز: من الكامل
ومتيّمٍ جرح الفراقُ فؤادَهُ ... فالدمعُ من أجفانِهِ يترقرقُ
هَزَّتْهُ فرقةُ ساعةٍ فكأنما ... في كلِّ عضوٍ منه قلبٌ يخفقُ
وقال أيضاً: من الطويل
يقولون لي والبعدُ بيني وبينها ... نأتْ عنك ليلى وانطوى سببُ القربِ
فقلت لهم والحبُّ يفضحُهُ البكا ... لئن فارقتْ عيني لقد سَكَنَتْ قلبي
يُوَهِّمُنيك الشوق حتى كأنما ... اناجيك من قرب وإن لم تكن قربي
وقال أبو العتاهية: من الطويل
أما والذي لو شاء لم يخلقِ النوى ... لئن غبتِ عن عيني لما غبتِ عن قلبي
وقال ابن المعتز: من مجزوء الرمل
ما أبالي بظنونٍ ... وعيونٍ أتّقيها
لي من ذكراك مرآ ... ة أرى وجهك فيها
وقال آخر: من البسيط
إن كنتَ لستَ معي فالذكرُ منكَ معي ... يراكَ قلبي وإن غُيِّبت عن بصري
العينُ تبصرُ من تَهْوَى وتفقدُهُ ... وناظرُ القلبِ لا يخلو من النظرِ
وقال الناجم: من الطويل
لئن راح عن عينيَّ أحمدُ غائباً ... لما هُوَ عن عينِ الفؤادِ بغائبِ
له صورةٌ في القلبِ لم يُقْصِها النوى ... ولا تتخطّاها أكفُّ النوائبِ
إذا ساءني منه شحوطُ ديارِهِ ... فضاقت عليَّ في هواه مذاهبي
عطفتُ على شخصٍ له، غيرِ نازِحٍ ... منازلُهُ بين الحشا والترائبِ
وكتب المستظهر بالله أبو العباس إلى يوسف بن أحمد الجزري وكيله في سفرة سافرها متمثلاً: من السريع
قلت وقالوا بان أحبابُهُ ... وَبَدَّلوهُ البعدَ بالقربِ
والله ما شطَّت نوى نازحٍ ... سار عن العينِ إلى القلبِ
وقال البحتري: من الكامل
وأبى الظعائن يوم رُحْنَ لقد مضى ... فيهنّ مجدولُ القوامِ قضيفُهُ
شمسٌ تألَّقُ بالفراقِ غروبها ... عنَّا وبدرٌ والرحيلُ كسوفُهُ
وقال العلوي: من الكامل
ولقد نظرتُ إلى الفراق فلم أجدْ ... للموتِ لو فُقِدَ الفراقُ سبيلا
إنّ المصائبَ لو تُصَوَّرُ ما عَدَتْ ... مترحّلاً بالبين أو مرحولا
يا ساعةَ البينِ انبري فكأنما ... وُصِلَتْ بساعاتِ القيامةِ طولا
وقال بعض العرب: من البسيط
روّعت بالبين حتى ما أراع له ... وبالمصائب في أهلي وجيراني
لم يترك الدهر لي عِلْقاً أضنّ به ... إلا اصطفاه بنأيٍ أو بهجرانِ
وقال ابن نباتة: من الطويل
فزعتُ إلى يأسي فلم أسلُ عنهمُ ... إذا اليأسُ لم يُسلِ المحبَّ فما يُسلي
تلافيت فيها قسوةَ الهجرِ بالبكا ... وداويتُ فيها عزَّةَ الحبِّ بالذلِّ
عشيةً أستعيدي على البين مُسْعِداً ... فينصرني دمعي ويخذلني أهلي
فيا بَيْنُ حُلْ بيني وبين عواذلي ... إذا لم تَحُلْ بين المطيّة والرحلِ
ويا دمعُ لا تهتكْ عليَّ سرائري ... فلو شئتُ يومَ البين كذبتُ ما تُملي
وقال المتنبي: من الكامل
كم غَرَّ صبرُكَ وابتسامُكَ صاحباً ... لما رآه وفي الحشا ما لا يَرَى

قد كنتُ أحذرُ بَيْنَهم من قبله ... لو كان ينفعُ حائناً أن يحذرا
وأنشد ثعلب: من المنسرح
وَلَّتْ بهمْ عنك نِيّةٌ قَذَفٌ ... غادرتِ الشعبَ غيرَ مُلْتئمِ
واستودعت نَشْرَهَا الديار فما ... تزدادُ طيباً إلا على القدمِ
وقال ابن الحجاج: من الخفيف
إنّ يومَ الفراقِ مذ بَعُدَتْ في ... ه وشطَّت دارُ الحبيبِ القريبِ
شَرَّدَ النوم عن جفوني كما ألْ ... لَفَ ما بين مقلتي والنحيبِ
وقال أيضاً: من البسيط
يا مزعجَ النومِ عن أجفان مغتبقٍ ... على السهادِ وبالأحزانِ مصطبحِ
بيني وبينك وعدٌ ليس يُخْلِفُهُ ... بُعْدُ المزارِ وعهدٌ غيرُ مُطَّرحِ
فما ذكرتُكَ والأقداحُ دائرةٌ ... إلا مزجتُ بدمعي باكياً قدحي
ولا سمعتُ بصوتٍ فيه ذكرُ نوىً ... إلا عصبتُ عليه كلَّ مقترحي
وقال أيضاً: من البسيط
أما الغزالُ الذي نهوى فقد ظعنا ... فاستشعرِ الصبرَ أو مُتْ بعدَهُ حَزَنا
ما لي وللبين لم يتركْ على كبدي ... إلفاً تقَرُّ به عيني ولا سكنا
قد كنتُ أكتمُ وجدي بعد بَيْنِكُمُ ... فاليوم يا حاديَ الأظعانِ قد علنا
حمى جفوني الكرى شوقاً إلى سكني ... يحرّك الوجدَ فينا كلَّما سكنا
وأنشد الجاحظ: من الخفيف
أنا أبكي خوفَ الفراقِ لأني ... بالذي يفعلُ الفراقُ عليمُ

النوع الحادي عشر
في الأرق والسهاد
وقال ابن الرومي: من المنسرح
حارب أجفانَهُ الرقادُ فما ... يسكنُ من ليلهِ إلى سَكَنِ
لم يُخْلَقِ الدمعُ لامرئٍ عَبَثاً ... الله أدرى بلوعةِ الحزنِ
أساءَ بي ما أتيتَ من حَسَنٍ ... إليَّ في ما مضى من الزمنِ
منعتني بَعْدَكَ العزاءَ به ... يا ليتَ ما كان منكَ لم يكنِ
وقال آخر: من الوافر
جفَتْ عيني عن التغميضِ حتى ... كأنَّ جفونها عنها قصارُ
وقال ابن الحجاج: من البسيط
يا مَنْ رضيتُ بها رزقاً أعيشُ به ... وحدي وليس يفوتُ المرء ما رُزِقا
أسلمتُ طرفي إلى شوقٍ يُعَلِّمُهُ السْ ... هادَ فامتحنته كيف قد حَذِقا
نامي هنيئاً لعينيكِ الرقادُ فما ... أمسيتُ أعلم إلا الهمَّ والأرقا
إن فَرَّقَ الدهرُ شَخْصَيْنَا مراغمةً ... فثمَّ قلبانِ لا والله ما افترقا
وقال ابن المعتز: الطويل
كِليني لعينٍ بالدموعِ شَغَلْتِها ... كما جاد يوماً ذو أهاضيبَ ماطرُ
وقد كنتُ أرعى النجمَ أنسبها به ... ولكن جفوني مُطرقاتٌ سواهرُ
النوع الثاني عشر
في تعاطي الصبر والتجلد
قال غلام من بني فزارة: من الطويل
فأعرضُ كيما يحسبُ الناسُ أنّما ... بيَ الهجرُ لا واللهِ ما بي لك الهجرُ
ولكن أروضُ النفسَ أمظر هل لها ... إذا فقدتْ يوماً أَحِبَّتَها صبرُ
وأنشد التوزي: من الطويل
فلو كنتُ أدري أن ما كان كائنٌ ... هجرتكِ أيامَ الفؤادُ سليمُ
تُقَاضيك عيناك الدموعَ كما لنا ... كما يتقاضاك الديونَ غريمُ
ولكن حسبْتُ الهجر شيئاً أُطيقُهُ ... وما كان لي فيما حسبت عزيمُ
وقال آخر: من الطويل
إن أكُ عن ليلى سلوتُ فإنما ... تسلَّيتُ عن يأسٍ ولم أسلُ عن صبرِ
وإن يكُ عن ليلى غنىً وتجلّدٌ ... فَرُبَّ غِنى نفسٍ قريبٍ من الفقرِ
فيا ربَّ إن أهلكْ ولم تروِ هامتي ... بليلي أمتْ لا قبرَ أعطشُ من قبري
وقال نصيب: من الطويل
أهابك إجلالا وما بك قدرة ... عليَّ ولكن ملءُ عين حبيبها
وما هجرتْكِ النفسُ يا مَيُّ إنها ... قلتكِ ولكن قلَّ منك نصيبها
ولكنهم يا أحسنَ الناسِ أُولِعُوا ... بقولٍ إذا ما جيتُ هذا حبيبها
وقالت ظبية الخضرية: من الطويل

فلا يفرح الواشون بالهجر ربما ... أطال الحبيبُ الهجرَ والحبُّ ناصحُ
ويغدو النّوى بين المحبين والهوى ... مع القلبِ مطويّ عليه الجوانحُ
وقال ذو الرمة: من الطويل
وقد كنتُ أبكي والنوى مطمئِنةٌ ... بنا وبكم من علم ما البينُ صانعُ
وأشفقُ من هجرانكم وتشفني ... مخافةُ وَشْكِ البَيْنِ والشملُ جامعُ
وأعمدُ للأمرِ الذي لا أريدُهُ ... لترجعني يوما إليك الرواجعُ
وأهجركم هجرَ البغيضِ وحبكم ... على كبدي منه شؤونٌ صوادعُ
ويروي للمجنون وغيره: من الطويل
وأحبسُ عنكِ النفسَ والنفسُ صبَّةٌ ... بذكراكِ والممشى إليكِ قريبُ
مخافةَ أن يَسْعَى الوشاةُ بظنّة ... وأكرمكُمْ أن يستريبَ مريبُ
لقد جعلتْ نفسي وأنتِ اخترمتها ... وكنتِ أعزَّ الناس عنك تطيبُ
ولو شئتِ لم أغضبْ عليك ولم يزلْ ... لك الدهرَ مني ما حييتِ نصيبُ
أما والذي يبلو السرائرَ كلَّها ... ويعلمُ ما يبلو به ويغيبُ
لقد كنتِ ممّن تصطفي النفسُ خُلَّةً ... لها دونَ خلاّنِ الصفاءِ حجوبُ
وقال الصمة القشيري، ويروي للأقرع بن وغيره: من الطويل
أتبكي على ليلى ونفسُكَ باعَدَت ... مزارَكَ من ليلى وشعباكما معا
فما حَسَنٌ أن تأتيَ الأمرَ طائعا ... وتجزع أن داعي الصبابةِ أسمعا
بكتْ عينيَ اليسرى فلما زجرتُها ... عن الجهلِ بعد الحلم أسبلتا معا
وقال أبو دهبل: من الطويل
أَأَتركُ ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلةٍ إني إذاً لصبورُ
عفا الله عن ليلى الغداةَ فإنها ... إذا وَلِيَتْ حكما عليّ تجورُ
ويا عطشي والماءُ عذبٌ أخوضُهُ ... ويا وحشتا والمؤنسون كثيرُ
ويا حسرةً في القلبِ يومَ رحيلهمْ ... وليلى على ظهر البعيرِ تسيرُ
وقال أبو القاسم ابن المعتمر الزهري: أنشدت أبا السائب أبيات أبي دهبل هذه فقال لي: وابائي، كنت والله أحبك وتثقل علي، وأنا الآن أحبك وتخف علي وقال أبو عبد الله من الحجاج: من الطويل
هجرتك لا أنّ البعاد أفادني ... سلواً ولا أني بعهدِكَ غادرُ
ولكنْ هُوَ الهجر الذي كلُّ كائنٍ ... لمدته فيه وإن طال آخرُ
غضبت متيم الهشامية على مولاها علي بن هشام، فتمادى عتبها فكتب إليها: الإدلال إلى الإملال، ورب هجرٍ دعا إلى صبر، وإنما سمي القلب قلباً لتقلبه، ولقد صدق العباس بن الاحنف حيث يقول: من الخفيف
لا أراني إلا سأهجر مَنْ لي ... س يراني أقوى على الهجرانِ
ملَّني واثقاً بحسن وفائي ... ما أضرَّ الوفاء بالإنسانِ
قال: فخرجت إليه من وقتها ورضيت عبد الله بن مصعب: من الطويل
وإني وإن قَصَّرْتُ عن غيرِ بِغْضَةٍ ... لراعٍ لأسباب المودّةِ حافظُ
وأنتظر العُتْبَى وأغضي عن القذى ... أُلايِنُ طوراً مرةً وأغالظُ
وإني ليدعوني إلى الصَّرمِ ما أرى ... وآبى وتثنيني إليك الحفائظ
وأنتظر الإقبالَ بالودِّ منكمُ ... وأصبرُ حتى أوجعتني المغائظُ
وجربتُ ما يُسْلي المُحبَّ من الهوى ... فأَقْصَرْتُ والتجريبُ للمرء واعظُ
أم فروة: من الطويل
وما ماء مزنٍ أي ماءٍ تقولُهُ ... تحدَّرَ من غُرٍّ طوالِ الذوائبِ
بمنعرجٍ أو بطنِ وادٍ تقابلت ... عليه رياحُ المزنِ من كلِّ جانبِ
نفى نَسَمُ الريح القذى عن متونِهِ ... فما إن به عيبٌ يكونُ لشارب
بأطيبَ ممّن يقصرُ الطرفُ دونَهُ ... تقى اللهِ واستحياءُ ما في العواقبِ
وقال آخر: من الطويل
ألا رُبَّ همٍّ يمنعُ النومَ بَرْحُهُ ... أقامَ كقبضِ الراحتين على الجمرِ
وشوقٍ كأطرافِ الأسنّةِ في الحشا ... ملكتُ عليه طاعةَ الدمعِ أن يجري

النوع الثالث عشر

في ذكر العذول والرقيب
وقال بعض العرب: من الطويل
يقولون مجنونٌ بسمراءَ مولعٌ ... بنفسي جنون في هوى وولوعُ
إذا أمرتني العاذلاتُ بهجرها ... أبت كبدٌ عما يقلنَ صديعُ
وكيف أطيعُ العاذلاتِ وحبّها ... يؤرقني والعاذلاتُ هجوعُ
وقال أحمد بن سليمان بن وهب، قال لي أبي: قد عزمت على معاتبة عمك، يعني الحسن بن وهب، في حبه لبنات، فقد شهر بها وافتضح، فكن معي وأعني عليه، وكان هواي مع عمي، فمضيت معه فقال له أبي وقد طال عتابه: يا أخي جعلت فداك الهوى ألذ وأمتع، والرأي أصوب وأنفع، فقال عمي متمثلاً:
إذا أمرتني العاذلات... البيت
فالتفت إلي أبي ينظر ما عندي فتمثلت: من الطويل
وإني ليلحاني على فَرْطِ حُبّها ... رجالٌ أطاعتهم قلوبٌ صحائحُ
فنهض أبي مغضباً وضمني عمي إليه وقبلني وانصرفت إلى بنات فحدثتها بما جرى وعمي يسمع، فأخذت العود وغنت: من الوافر
يلومُكَ في محبتها رجالٌ ... لو أنهمُ برأيك لم يلوموا
وقال ابن الرومي: من الكامل
وشكى الشجي من الخلي ملامةً ... وشكى الوفيُّ تَلَوُّنَ المذَّاقِ
فدع المحبَّ من الملامةِ إنها ... بئسَ الدواءُ لموجعٍ مقلاقِ
لا تطفِئنَّ جوىً بلومٍ إِنه ... كالريحِ تُغْري النار بالإحراقِ
وقال الحسن بن هانئ: من السريع
ما حطَّكَ الواشون من رتبةٍ ... عندي وما ضَرَّكَ مُغْتابُ
كأنما أثنوا ولم يعلموا ... عليك عندي بالذي عابوا
وقال محمد بن وهيب الحميري: من المتقارب
ونظرةِ عينٍ تلافَيْتُها ... غِراراً كما نظر الأحولُ
مقسّمةٍ بين وجهِ الحبيبِ ... ولحظِ الرقيبِ متى يغفلُ
وقال البحتري: من الطويل
ولا بدَّ من واشٍ يُتَاحُ على النوى ... وقد يجلبُ الشيءَ البعيدَ جوالبُهْ
أَفي كلِّ يومٍ كاشحٌ متكلّفٌ ... ينم علينا أو رقيبٌ نرَاقبُهْ
وقال عبد الله بن المعتز: من الخفيف
وإبلائي من مَحْضَرٍ وَمَغيب ... وحبيب منّي بعيدٍ قريبِ
لم تَرِدْ ماءَ وجهه العينُ إلاّ ... شَرِقَتْ قبل رِيِّها برقيبِ
وكان للمراكبي جارية يقال لها مظلومة، مليحة الوجه يبعثها مع عريب ترقبها، وكانت أجمل منها، فقال فيها الشاعر: من الوافر
لقد ظلموكِ يا مظلومُ لما ... أقاموكِ الرقيبَ على عريبِ
ولو أَوْلَوْكِ إنصافاً وعدلاً ... لما أَخْلَوْكِ أنتِ مع الرقيبِ
أَنَتْهَيْنَ المريبَ عن المعاصي ... فكيف وأنت من شأن المريبِ
وكيف يفارق الجاني ذنوباً ... لديك وأنت داعيةُ الذنوبِ
وقال آخر في مثله: من المتقارب
فديتكِ لو أنهم أنصفوا ... لما منعوا العينَ عن ناظريكِ
ألم يقرأوا ويحهم ما يرو ... نَ من وحي طرفكِ في مقلتيكِ
وقد جعلوك رقيباً لنا ... فمَنْ ذا يكون رقيباً عليكِ
تَصُدِّينَ أعيننا عن سواكِ ... وهل تنظرُ العينُ إلاّ إليكِ
والجيد في قول الوشاة قول أبي دهبل: من الطويل
لقد قطع الواشون ما كان بيننا ... ونحن إلى أن يُوصَلَ الحبلُ أحوجُ
همُ منعونا ما نحبُّ وأوقدوا ... علينا وشَبُّوا نارَ صَرْمٍ تأجّجُ
ولو تركونا لا هدى الله هديهم ... ولم يُلْحِمُوا قولاً من الشرِّ يُنْسَجُ
لأوشكَ صرفُ الدهرِ تفريقَ بيننا ... ولا يستقيم الدهرُ والدهرُ أعوجُ
وإني لمحزونٌ عشيَّةَ زرتُها ... وكنتُ إذا ما جئتها لا أُعَرِّجُ
فلما التقينا لجلجتْ في حديثها ... ومن آيةِ الصدِّ الحديثُ المُلَجْلَجُ
وقال العرجي: من الكامل
وأطعتُ فيها الكاشحين فأكثروا ... فيها المقالة شامتاً ومُعَرِّضا
وسفاهة بالمرء صَرْم حبيبه ... يُرْضي بهجرته العدوَّ المُبْغِضا
وقال ذو الرمة: من الطويل

وكنتُ إذا ما جئت ميّاً مسلّماً ... أَتَوْني وفوداً بين ساعٍ وجالسِ
غضاباً إذا ما جئتُ ميّاً أزورها ... عليَّ ألا رُغْماً لتلك المعاطسِ
فإنّا على ما يزعمُ الناسُ بيننا ... من الوُدِّ لا نهوى دنيَّ المجالسِ
كلانا أبى أن يقريَ السوءَ نفسَهُ ... وفي النفسِ للإنسان أحرسُ حارسِ

النوع الرابع عشر
في وصف المحبوب
وقال حميد بن ثور الهلالي: من الطويل
ولما استقلَّ الحيُّ في رَوْنَقِ الضّحى ... قضينا الوصايا والحديثَ المكتما
من البيضِ عاشت بين أُمٍّ عزيزةٍ ... وبين أبٍ بَرٍّ أطاب وأَكرما
منعمةٌ لو يَدْرُجُ الذرُّ سارباً ... على جلدها بَضَّتْ مدارِجُهُ دما
رقودُ الضحى لا تقربُ الجيزةَ القُصَى ... ولا الجيزةَ الأدنين إلا تجشُّما
وقال الأخطل: من الطويل
نواعمُ لم يَلْقَيْنَ في العيشِ تَرْحَةً ... ولا عثرةً من حدِّ سوءٍ يزيلها
ولو بات يسري الذرُّ فوق جلودها ... لأثَّرَ في أبشارهنَّ محيلها
وقال تميم بن أبي بن مقبل: من البسيط
ومأْتَمٍ كالدُّمَى حورٍ مدامعها ... لم تَبْأَسِ العيشَ أبكاراً ولا عُونَا
شُمٍّ مُخَصَّرَةٍ هيفٍ منعّمةٍ ... من كلِّ داءٍ بإذنِ الله يشفينا
كأنهنّ الظباءُ الأُدْمُ أَسْكَنَها ... ضالٌ بِغُرَّة أو ضالٌ بدارينا
يمشينَ هَيْلَ النَّقا لانت جوانبُهُ ... يَنْهالُ حيناً وينهالُ الثرى حينا
من رمل عرنان أو من رمل أسنُمةٍ ... جعدِ الثرى بات في الأمطارِ مدجونا
يهززن للمشي أوصالاً مُنَعَّمةً ... هزَّ الجَنوب ضحىً عيدانَ يبرينا
أو كاهتزازِ رُدَينيّ تعاوَرَهُ ... أيدي التّجارِ فزادوا مَتْنَهُ لينا
نازعَ ألبابَها لُبّي بمختزَنٍ ... من الأحاديث حتى ازددنَ لي لينا
في ليلة من ليالي الدهرِ صالحةٍ ... لو كان بعد انصرافِ الدهرِ مأمونا
وقال سحيم: من الطويل
كأنَّ الثريا عُلِّقَتْ فوقَ نحرها ... وجمرَ غضاً هَبَّتْ له الريحُ ذاكيا
تريك غداةَ البينِ كفّاً ومِعصَماً ... ووجهاً كدينارِ الأعِزَّةِ صافيا
وقال عمرو بن شأس: من الطويل
إذا نحن أدلجنا وأنتِ أمامنا ... كفى للمطايا نورُ وجهكِ هاديا
أليس يزيد العيسُ خفةَ أذرعٍ ... إذا كنَّ حَسْرَى أن تكوني أماميا
وقال بشر بن عقبة العدوي: من الطويل
رأيتكِ فوقَ الناسِ يا أمَّ مالكٍ ... بجملةِ حُسْنٍ أخرسَتْ مَنْ يَعيبُها
فوالله ما أدري أأَنتِ كما أرى ... أمِ العينُ مزهوٌّ إليها حبيبها
وقال آخر: من الطويل
أحبُّ اللواتي في صباهنَّ غرَّةٌ ... وفيهنَّ عن أزواجهنَّ طماحُ
مُسرَّاتُ حبٍّ مظهراتٌ عداوةً ... تراهنَّ كالمرضى وهنَّ صحاحُ
وقال ذو الرمة: من البسيط
زينُ الثيابِ وإن أثوابها اسْتُلِبَتْ ... فوقَ الحشيَّةِ يوماً زانَها السَّلَبُ
تُريكَ سُنَّةَ وجهٍ غيرَ مُقْرِفَةٍ ... ملساءَ ليس بها خالٌ ولا ندبُ
إذا أخو لذَّةِ الدنيا تبطَّنها ... والبيتُ فوقهما بالليلِ محتجبُ
سافتْ بطيّبَةِ العرنين مَارِنُها ... بالمسكِ والعنبرِ الهنديِّ مُخْتَضَبُ
وقال أيضاً: من الطويل
إذا نازعتكَ القولَ مَيَّة أو بدا ... لكَ الوجهُ منها أو نضا الدرعَ سالبُهْ
فيا لكَ من خدٍّ أسيلٍ ومنطقٍ ... رخيمٍ ومن خَلْقٍ تَعَلَّلَ جادِبُهْ
وقال آخر: من الكامل
أبتِ الروادفُ والثديُّ لِقُمْصِها ... مسَّ البطونِ وأن تمسَّ ظهورا
وإذا الرياحُ مع العشيِّ تناوَحَتْ ... نبَّهْنَ حاسدةً وهجنَ غيورا

وقال آخر: من الطويل
تأملتها مغترّةً فكأنما ... رأيت بها من سُنَّةِ البدرِ مطلعا
إذا ما ملأتُ العينَ منها ملأتها ... من الدمع حتى أنزفَ الدمع أجمعا
وقال آخر: من الكامل
بيضاءُ آنسةُ الحديثِ كأنَّها ... قمرٌ توسَّطَ جُنْحَ ليلٍ مبردِ
موسومة بالحسن ذات حواسد ... إنّ الحسانَ مَظِنَّةٌ للحُسَّدِ
وترى مدامعها ترقرقُ مقلةً ... سوداءَ تَرْغَبُ عن سوادِ الإثمدِ
وقال تميم بن مقبل: من الطويل
ألم ترَ أنّ القلبَ ثاب وأقصرا ... وجلَّى عَمَاياتِ الشبابِ وأَبْصَرَا
وبُدِّلَ حلماً بعد جهلٍ ومَنْ يَعِشْ ... يُجَرِّبْ ويبصرْ شأنَهُ أن تَبصَّرا
وكنّا اجتنينا مرّةً ثَمَرَ الصِّبا ... فلم يُبْقِ منه الدهرُ إلاّ تذكّرا
وَعَمْداً تَصَدَّتْ يومَ شاكلةِ الحمى ... لتنكا قلباً قد صحا وتوقَّرا
عشيةَ أَبْدَتْ جيدَ أدماءَ مُغْزِلٍ ... وطرفاً يُرِيكَ الإِثْمِدَ الجَوْنَ أحورا
وأسحمَ مجاجِ الدّهانِ كأنه ... عناقيدُ من كرمٍ دنا فَتَهَصَّرا
وأشنبَ تجلوهُ بعودِ أَراكةٍ ... وَرَخْصاً عَلَتْهُ بالخضابِ مُسَيَّرا
فيا لكَ من شوقٍ بقلبٍ متيّمٍ ... يُجِنُّ الهوى منها ويا لكَ منظرا
وقال الحسن بن هانئ: من السريع
لو مَسَّ عاد حيّاً ولم ... يَضُمَّهُ من بعدِهِ قبرُ
أو مرَّ ذرٌّ فوق سربالِهِ ... يوماً لأدْمَى جلدَهُ الذرُّ
وقال أيضاً: من الكامل المرفل
في مثل وجهك يَحْسُنُ الشِّعرُ ... ويكونُ فيه لذي الهوى عُذْرُ
تتزَّين الدنيا بطلعتِهِ ... ويكونُ بدراً حينَ لا بدرُ
وقال أيضاً: من المديد
ما هوىً إلاّ له سَبَبُ ... يبتدي منه ويَنْشَعِبُ
فتنتْ قلبي مُحَجَّبَةٌ ... برداءِ الحسنِ تنتقبُ
خُلِّيَتْ والحسنَ تأخُذُهُ ... تنتقي منه وتنتخبُ
فاكتستْ منه طرائِفَهُ ... واستزادتْ فَضْلَ ما تهبُ
صار جِدّاً ما مَزَحْتُ به ... رُبَّ جِدٍّ جَرَّهُ اللعبُ
وقال أبو ذؤيب: من الطويل
وإنّ حديثاً منكِ لو تعلمينه ... جَنَى النحلِ في ألبانِ عُودٍ مَطَافلِ
مطافيلَ أبكارٍ حديث نتاجُها ... تُشابُ بماءٍ مثلِ ماءِ المفاصلِ
المفاصل: منفصل السهل من الجبل حيث يكون الرضراض، فالماء الذي يستنقع فيه أطيب ماء.
وقال البحتري: من الكامل
ووراءَ تَسْدِيَةِ الوشاةِ مَلِيَّةٌ ... بالحسنِ تَمْلُحُ في القلوبِ وتعذُبُ
كالبدرِ إلاّ أنّها لا تُجْتَلَى ... كالشمسِ إلاّ أنَّها لا تغربُ
وقال أيضاً من الخفيف
ذات حُسْنٍ لو استزادت من الحس ... ن إليه لما أصابتْ مزيدا
فهي كالشمسِ بهجةً والقضيبِ ال ... غضّ ليناً والريم طرفاً وجيدا
وقال أيضاً: من السريع
لا تَلْحَني إن عزَّني الصبرُ ... فَوَجْهُ مَنْ أهواهُ لي عُذْرُ
غانيةٌ لم أَغْنَ عن حُبّها ... يقتلُ في أجفانها السحرُ
إن نَظَرَتْ قلتُ بها ذِلّةٌ ... أو خَطَرَتْ قلتُ بها كبرُ
يهتزُّ أعلاها فَتَعْتَاقُهُ ... رادفةٌ يَعْيَا بها الخصرُ
أصبحتُ لا أطمعُ في وَصْلِها ... حسبيَ أن يَبْقَى ليَ الهجرُ
وقال أيضاً: من الطويل
غريرٌ تراءاهُ العيونُ كأنما ... أضاءَ لها من تحت داجيةٍ فَجْرُ
إذا انصرفَتْ يوماً بعطفيه لفتةٌ ... أو اعترضتْ من لحظه نظرةٌ شزرُ
رأيتَ هوى قلبٍ بطيءٍ نزوعُهُ ... وحاجةَ نفسٍ ليس عن مثلها صبرُ
وقال أيضاً: من الوافر
إذا خَطَرَتْ تأرَّجَ جانباها ... كما خَطَرَتْ على الروضِ القَبولُ
ويَحْسُنُ دَلُّها والموتُ فيه ... وقد يُسْتَحْسَنُ السيفُ الصقيلُ

وقال أيضا: من الطويل
ضمانٌ على عينيكِ أني لا أَسْلُو ... وأنّ فؤادي من جوىً بكِ لا يَخْلُو
ألا إنَّ وِرْدا لو يذادُ به الصدى ... وإنّ شفاءً لو يُصَابُ به الخَبْلُ
أطاعَ لها دلٌّ غريرٌ وواضحٌ ... شتيتٌ وَقَدٌّ مُرْهَفٌ وشَوَىً خَدْلُ
وألحاظُ عَيْنٍ ما عَلِقْنَ بفارغٍ ... فَخَلَّيْنَهُ حتى يكونَ له الشغَلُ
وقال أيضا: من الطويل
وأهيفَ مأخوذٍ من النفسِ شَكْلُهُ ... ترى العينُ ما تختارُ أجمعَ فيه
ولم تَنْسَ نفسي ما سُقِيتُ بكفِّهِ ... مِنَ الرّاحِ إلا ما سُقِيتُ بفيهِ
وقال أيضا: من البسيط
بيضاءُ أَوْقَدَ خَدَّيْها الصِّبا وسقى ... أجفانَها من سُلافِ الرّاحِ ساقيها
في حمرةِ الوردِ شكلٌ من تلهّبها ... وللقضيبِ نَصِيبٌ من تثّنيها
قد عَلِمَتْ أنني لم أُرضِ كاشِحَها ... فيها ولم أستمعْ من قَوْلِ واشيها
وقال أبو تمام: من الكامل
عَنَّتْ له سَكَنٌ فهامَ بذكرها ... أيُّ الدموعِ وقد بَدَتْ لم يُجْرِهَا
بيضاءُ يُحْسَبُ شعرها من وجهها ... لما بدا أو وجهها من شعرها
تعطيكَ مَنْطِقَها فتحسبُ أنه ... لِجَنَى عذوبته يمُرُّ بثغرها
وأظنُّ حَبْلَ وصالها لمحبِّها ... أَوْهَى وأضعفَ قوةً من خصرِهِا
وقال ابن الرومي: من الخفيف
وغزالٍ تَرَى على وجنتيه ... قَطْرَ سَهْمَيْهِ من دماءِ القلوبِ
جرحته العيونُ فاقتصَّ منها ... بجوىً في القلوبِ دامي الندوبِ
وقال أيضا: من السريع
يا غُصُنا من لؤلؤ رَطْبِ ... فيه سُرورُ العينِ والقلبِ
أحسنَ بي يومٌ أَرَانيكمُ ... وما على المحسنِ من عتبِ
وقال أيضا: من الخفيف
من جَوارٍ كأنهنّ جوارٍ ... يتسلسلن من مياهٍ عذابِ
لابساتٍ من الشفوفِ لبوساً ... كالهواء الرقراقِ أو كالسرابِ
يؤنِسُ الليلَ ذكرهنَّ فينجا ... بُ وإن كان حالكَ الجلبابِ
عن وجوهٍ كأنهنَّ شموسٌ ... وبدورٍ طلعنَ غبَّ سحابِ
سالمتها الأنداب وهي من الرقْ ... قَة أَولى الوجوهِ بالأندابِ
لو ترى القومَ بينهنَّ لأخبر ... تَ صُراحا ولم تقلْ باكتسابِ
وإذا ما تعجَّبَ الناس قالوا ... هل يصيدُ الظباءَ غيرُ الكلابِ
وقال أيضا: من المنسرح
يا وجنتيه التين من بَهَجِ ... في صُدُغَيْهِ الذين من دَعَجِ
ما حمرةٌ فيكما أَمِنْ خَجَلٍ ... أم صبغةُ الله أَم دمُ المُهَجِ
خدَّانِ فينا لظى حريقِهِما ... ونورُهُ فيهما بلا وهجِ
ما إن تزالُ القلوبُ في حُرَقٍ ... عليهما والعيونُ في لججِ
وقال أيضا: من المنسرح
ظبيٌ وما الظبيُ بالشّبيهِ له ... في الحسنِ إلا استراقَهُ حَوَرَهْ
وحُسْنَ أجيادِهِ ومقلَتهُ ... وَنَفْرَةً فيه من رُقَى السحرةْ
محاسنٌ كلهنَّ مُسْتَرَقٌ ... منه وكلٌّ رآهُ فاغتفرَهْ
ولحظ عينين لو أَدَارَهُمَا ... لفارسٍ في سلاحِهِ أسرَهْ
وَخُنْثُ جفنيهما وغُنْجهما ... تعلِّمُ السحرَ ماهرَ السَّحَرَةْ
وَمَضْحَكٌ واضحٌ به شَنَبٌ ... يعرفُ مَنْ شام برقَهُ مطرهْ
وصحنُ خدٍّ حريقُهُ ضَرَمٌ ... يقذف في القلبِ دائما شررهْ
أعاره الوردُ حُسْنَ صِبْغَتِهِ ... بل صبغةُ الوردِ منه معتصرهْ
كأنما الله حين صَوَّره ... خيَّرَهُ دونَ خَلْقِهِ صُوَرَهْ
يكفيه رَعْيُ الخلاءِ أنَّ له ... من كلِّ قلبٍ مُمَنَّعٍ ثَمَرَهْ
وقال أيضا: من الكامل المرفل
ومهفهفٍ تمَّتْ محاسِنُهُ ... حتى تجاوزَ منيةَ النّفسِ

تصبو الكؤوسُ إلى مراشِفِهِ ... وتَهَشُّ في يده إلى الحبسِ
أبصرتُهُ والكأسُ بين فمٍ ... منه وبين أناملٍ خمسِ
فكأنها وكأنَّ شاربها ... قَمَرٌ يُقَبِّلُ عارضَ الشمسِ
وقال أبو فراس ابن حمدان: من الوافر
مُسيءٌ مُحْسِنٌ طوراً وطوراً ... فما أدري عدوّي أَم حبيبي
يقلِّبُ مقلةً ويديرُ لحظاً ... به عُرِفَ البريءُ من المريبِ
وبعضُ الظالمينَ وإن تباهَى ... شهيُّ الظلم مُغْتَفَرُ الذنوبِ
وقال ابن نباتة: من الطويل
وكم بالحمى وَدَّعتُ من وَصْلِ خُلَّةٍ ... وغانيةٍ ينأى من القُرْطِ جيدُهَا
ألذُّ من النَّيْلِ المعجَّلِ وَعْدُهَا ... وأنفعُ من وصلِ الغواني صدودها
منعمةٌ يَرْوَى من الدمعِ جَفْنُها ... ولم يروَ من ماءِ الشبيبة عودها
وقال ابن الرومي: من مجزوء الرمل
يا شبيهَ البدرِ في الحُسْ ... نِ وفي بُعْدِ المنالِ
جُدْ فقد تنفجرُ الصَخْ ... رَةُ بالماءِ الزلالِ
وقال أبو الحسن السلامي: من الطويل
وفيهنَّ سَكْرَى اللّحظِ سكرى من الصِّبا ... تعاتبُ حلوَ اللفظِ حلوَ الشمائلِ
أدارتْ علينا من كؤوسِ حديثها ... سُلافاً وغَنَّتْنَا بصوتِ الخلاخلِ
وقال أبو الخطاب الجبلي: من الكامل
دمثٌ يكادُ من الحياءِ يذيبُهُ ... لحظي وليس يُلينُهُ استعطافي
هيهات تُسْلي عن هواهُ ذنوبُهُ ... ظُلْمُ الهوى أَحْلَى من الإِنصافِ
وقال علي بن جبلة العكوك: من الوافر
أَغَرُّ تَوَلَّدُ الشهواتُ منه ... فما تعدوهُ أهواءُ القلوبِ
وما اكتحلتْ به عينٌ فتبقى ... مُسَلَّمَةَ الضميرِ من الذنوب
وقال السري الرفاء: من الكامل
ضَعُفَتْ معاقدُ خَصْرِه وعقوده ... فكأنَّ عَقْدَ الخَصرِ عَقْدُ وفائِهِ
وقال الرشيد في ماردة أم المعتصم: من الكامل المرفل
وإذا نظرتَ إلى محاسنها ... فبكلِّ موقعِ نظرةٍ نَبْلُ
وتنالُ منك بحدِّ مقلتها ... ما لا ينالُ بحدِّهِ النصلُ
ولقلبها حلمٌ يباعدُها ... عن ذي الهوى ولطرفها جهل
ولوجهها من وجهها قَمَرٌ ... ولعينها من عينها كُحْلُ
وقال عبد الله بن الحجاج: من الكامل
ومدلّلٍ أما القضيبُ فقدُّهُ ... شكلاً وأما ردفُهُ فكثيبُ
يمشي وقد فعل الصبا بقوامه ... فِعلَ الصَّبا بالغصنِ وهو رطيبُ
أرمي مقاتِلَهُ فتخطي أسهمي ... غَرَضي ويرمي مقتلي فيصيبُ
نفسي فداؤك إن نفسي لم تَزَل ... يَحْلو فداؤُكَ عندها ويطيبُ
ما لي وما لك لا أراكَ تزورني ... إلا ودونك مانع ورقيبُ
وقال: من السريع
فديتُ من نادَمْتُهُ ليلةً ... ووجهُه والكاسُ مصباحي
أجفانُهُ في مجلسي نرجسي ... وخدُّهُ وردي وتفَّاحي
مزجتُ كأسي من جنى ريقِهِ ... بمثل ما فيها من الرّاحِ
وقال: من السريع
يا مَنْ إذا قابلَ شمسَ الضّحى ... خَرَّتْ له راكعةً ساجِدَهْ
كيف احتيالي في جحودي هوىً ... عيني على قلبي به شاهدَهْ
وقال: من السريع
فديتُ إنساناً على وَصْلِهِ ... وهجرِهِ يحسُدُني الناسُ
لما احتوى الوردُ على خدِّهِ ... ودبَّ في عارضِهِ الآسُ
مزجتُ كأسي من جنى ريقِهِ ... بمثلِ ما دارتْ به الكاسُ
وقال: من مخلع البسيط
وشادن خَلْقُهُ دليل ... فينا على قدرةِ الحكيمِ
يفعلُ بالشمس في ضحاها ... ما تفعل الشمسُ بالنجومِ
مَرَّ بنا والصباحُ منه ... يشرقُ تحت الدجى البهيمِ
يعلِّمُ الغصنَ وهو يمشي ... تثّنيَ الغصنِ في النسيمِ
وقال: من مجزوء الرمل
قل لمن ريقته مس ... كٌ وشهدٌ ومدامُ

والذي حلّل قتلي ... وهو محظورٌ حرامُ
أيها النائم عمّن ... عينهُ ليسَ تنامُ
كلُّ نارٍ غير ناري ... فيك بَرْدٌ وسلامُ
أنشد أبو حاتم لرجل من كلب: من الطويل
لقد مَنَعَتْ بَرْدَ المقيلِ وقطعتْ ... بِرَمَّانَ أنفاسَ المطيِّ صعودُ
قصيرةُ همِّ الروحِ أمّا شتاؤها ... فسخنٌ وأمّا قيظُها فبرودُ
من هاهنا أخذ عمر بن أبي ربيعة قوله فزاد وأحسن: من الخفيف
سخنةٌ في الشتاءِ باردة الصي ... ف سراجٌ في الليلةِ الظّلماءِ
وقال أعرابي: من الوافر
مُنَعَّمةٌ يحارُ الطرفُ فيها ... كأنَّ حديثها سُكْرُ الشبابِ
مِنَ المتصدِّياتِ لغيرِ سوءٍ ... تسيلُ إذا مَشَتْ مَشْيَ الحُبَابِ

النوع الخامس عشر
في طيب الأفواه
وقال امرؤ القيس: من المتقارب
كأن المدامَ وَصَوْبَ الغمامِ ... وريحَ الخُزَامَى ونَشْرَ القُطُرْ
يُعَلُّ به بَرْدُ أنيابِهَا ... إذا طَرَّبَ الطائر المُسْتَحِرْ
وقال جميل: من الكامل
وكأنَّ طارقها على عَلَلِ الكرى ... والنجمُ وهناً قد بدا لتغوُّرِ
يستافُ ريحَ مدامةٍ معلولةٍ ... بذكيِّ مسكٍ أو سحيقِ العنبرِ
وقال آخر: من الطويل
كأنَّ على أنيابها الخمرَ شابها ... بماءِ الندى من آخرِ الليلِ غابقُ
وما ذقتُهُ إلا بعيني تفرُّساً ... كما شيمَ في أعلى السحابةِ بارقُ
وقال أبو صعترة البولاني: من الطويل
فما نُطْفَةٌ من حَبِّ مُزْنٍ تقاذفت ... بها جنبتا الجوديِّ والليلُ دامسُ
فلما أقرَّتْهُ اللصابُ تنفَّسَتْ ... شمالٌ لأعلى مائهِ فهو قارسُ
بأطيبَ من فيها وما ذقتُ طَعْمَهُ ... ولكّنني في ما ترى العينُ فارسُ
وقال حرملة بن مقاتل: من الطويل
وما ضَرَبٌ في رأسِ نيقٍ مُمَنَّع ... بتيهاءَ قد يستنزلُ العصمَ نيقها
بأطيبَ من فيها وما ذقتُ طَعْمَهُ ... وقد جَفَّ بعد النوم للنوم ريقها
إذا اعتلَّتِ الأفواه واستمكن الكرى ... وقد حان من نجم الثريّا خفوقها
وما ذقت فاها غير شيءٍ رجوتُهُ ... ألا رُبَّ راجي شربةٍ لا يذوقُها
وقال أبو ذؤيب: من الطويل
عصاني إليها القلبُ إني لأمرِهِ ... مطيعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلاَبُها
أراد أرشدٌ طلابها أم غي فحذف، وفي الكتاب العزيز: سرابيل تقيكم الحر ولم يقل: وتقيكم البرد، وعادة العرب الحذف إذا كان فيما بقي دليلاً على ما حذف، ويرون ذلك من الفصاحة؛ وقال الشاعر: تمر بها رياح الصيف دوني
فقلتُ لقلبي يا لكَ الخيرُ إنما ... يُدَلّيكَ للموتِ الجديدِ حِبَابُها
فأقسمُ ما إنْ بالَةٌ لَطَيمَّةٌ ... تفتح باب الفارسين بابها
ولا الراحُ راحُ الشَّامِ جاءت سبئيةً ... لها رايةٌ تهدي الكرامَ عُقابُها
عقارٌ كماء ليستْ بخطمةٍ ... ولا خَلَّةٍ يكوي الشروبَ شِهابُها
بأطيبَ من فيها إذا جئتُ طارقاً ... منَ الليلِ والتفَّتْ عليَّ ثيابُها
وقال بشار: من البسيط
يا أطيبَ الناسِ ريقاً غيرَ مختبرٍ ... إِلا شهادةَ أطرافِ المساويكِ
وقال ابن الرومي: من الطويل
وما تعتريها آفةٌ بَشَرِيَّةٌ ... من النوم إلا أنها تتخثَّرُ
كذلك أنفاسُ الرياضِ بِسُحْرَةٍ ... تطيبُ وأنفاسُ الأنام تَغَيَّرُ
وما ذقتُهُ إلا بِشَيْمِ ابتسامها ... وكم مخبرٍ بيديهِ للعينِ منظرُ
وغيرُ عجيبٍ طيبُ أنفاسِ روضةٍ ... مُنَوِّرَةٍ باتَتْ تراحُ وتُمطَرُ
وقال أيضاً: من البسيط
هي الفتاةُ إذا اعتلَّتْ مَفَاصِلُها ... بالنومِ واعتلّت الأفواهُ بالسحرِ
طابت هناك لحينٍ لا يطيبُ له ... إلا الرياضُ كأنْ ليستْ من البشرِ
وقال القطامي: من الطويل

وما ريحُ قاعٍ ذي خزامى وحَنْوَةٍ ... له أَرَجٌ من طيِّبِ النبتِ عازبِ
بأطيبَ من فيها إذا ما تَقَلَّبَتْ ... من الليل وسنى جانباً بعد جانبِ
وقال جرير: من الطويل
سقينَ البشامَ المسكَ حين رَشَفْنَهُ ... رشيفَ الغُرَيْرِيَّاتِ ماءَ الوقائعِ
إذا ما رجا الظمآنُ وِرْدَ شريعةٍ ... ضَرَبْنَ حبالَ الموتِ دونَ الشرائعِ
وقال ابن الدمينة: من الطويل
وما نُطْفَةٌ صهباءُ صافيةُ القذى ... بحجلاءَ تجري تحت نِيقٍ حبابها
سقاها من الأشراطِ ساقٍ فأصبحت ... تسيلُ مجاري سَيْلِها وشعابُها
يحومُ بها صادٍ يَرَى دونَها الرَّدَى ... محيطاً فيهوَى وِرْدَها ويَهابُها
بأطيبَ من فيها ولا قَرْقَفِيَّةٌ ... يُشَابُ بماءِ الزنجبيلِ رضابُها

النوع السادس عشر
في وصف الثغر
وقال القطامي: من الطويل
مُنعمةٌ تجلو بعودِ أراكة ... ذرى بَرَدٍ عذبٍ شنيبِ المناصبِ
كأنّ فضيضاً من عريضِ غمامةٍ ... على ظمأ جادت به أمُّ غالبِ
وقال آخر: من البسيط
كأنما ثغرها مِنْ حُسْنِهِ بَرَدٌ ... مما تُهَادِيهِ أيدي الريح مصقولُ
كأنه أقحوانٌ غِبَّ ساريةٍ ... مديّم واجهته الريحُ مشمولُ
وقال مسلم: من الطويل
تَبَسَّمُ عن مثلِ الأقاحي تَبَسَّمَتْ ... له مُزْنَةٌ صَيْفِيَّةٌ فتبسَّما
وقال آخر: من الطويل
أحاذرُ في الظلماءِ أن تستشفَّني ... عيونُ الغيارى في وميضِ المضاحكِ
وقال السمهري: من الطويل
وبيضاءَ مكسالٍ لعوبْ خريدةٍ ... لذيذٍ لدى ليلِ التمامِ شمامها
كأنَّ وميضَ البرقِ بيني وبينها ... إذا حان من بعضِ البيوتِ ابتسامها
وقال جميل: من الطويل
وقامت تراءَى بعد ما نام صحبتي ... لنا وسوادُ الليل قد كادَ يَجْلَحُ
بذي أُشْرٍ كالأقحوانِ يزينه ... نَدَى الطلِّ إلا أنه هُوَ أملحُ
النوع السابع عشر
في إسرار الهوى وإعلانه
وقال نصيب: من الطويل
وما زال كتمانيكِ حتى كأنَّني ... بِرَجْعِ جوابِ السائلي عنكِ أعجمُ
لأسلمَ من قَوْلِ الوشاةِ وتسلمي ... سلمتِ وهل حيٌّ من الناسِ يسلمُ
وقال الأخطل: من الطويل
ولما تلاحَقْنا نَبَذْنا تحيّةً ... إليهنَّ فالتذَّ الحديثَ أَصيلُهَا
فكان لدينا السرُّ بيني وبينها ... ولمعُ غَضِيضاتِ العيونِ رسولُهَا
وقال آخر: من الطويل
بنفسي الذي إن قال خيراً وَفَى به ... وإن قال شرّاً قاله وهو مازحُ
ومَنْ قد رماهُ الناسُ حتى اتقاهمُ ... ببغضيَ إلا ما تُكِنُّ الجوانحُ
وقال أعرابي: من الطويل
وما بحتُ يوماً بالذي كان بيننا ... كما يستباحُ الهذريانُ المبَّيحُ
سوى أنني قد قلتُ و العيسُ ترتمي ... بنا عَرَصاتٍ في الأزمَّةِ جُنَّحُ
هنيئا لمسواكِ الأراكِ فإنه ... بخمر ثنايا أمِّ عمروٍ يُصَبَّحُ
وللطوقِ مجراهُ وللقرطِ إنه ... على نَفْنَفٍ من جيدها يَتَطَوَّحُ
وقال ابن سماعة الأسدي فيما رواه أبو هلال العسكري: من الطويل
بنفسيَ مَنْ لا بدَّ أنّيَ هاجِرُهْ ... ومن أنا في الميسورِ والعُسْرِ ذاكِرُهُ
ومَنْ قد رماهُ الناس حتى اتقاهمُ ... ببغضيَ إلا ما تُجِنُّ ضمائرُهْ
أحبك يا ليلى على غيرِ ريبةٍ ... ولا خير في حبٍّ تُذَمُّ سرائرُهْ
أكفكفُ دمعي أن يكونَ طليعةً ... على سرِّ نفسي حين ينهلُّ قاطرُهْ
والبيتان الأولان الأصح أنهما ليزيد بن الطئرية من القصيدة طويلة من هذا النوع، وأنا أذكر مستحسنها ومختارها هاهنا لئلا ينقطع:
ألا يا شفاءَ النفسيِ لو يسعفُ الهوى ... ونجوى فؤادٍ لا تُباحُ سرائرُهْ

أثيبي أخا ضارورة أصفق العدى ... عليه وقلَّت في الصديق معاذرُهْ
بنفسي مَنْ إنْ يدنُ ينفعْ دنوُّهُ ... وَإنْ ينأَ لا تخرِ الصديق جرائرُهْ
ومستخبرٍ عنها ليعلمَ ما الذي ... لها في فؤادي ودَّ أني أحاذرُهْ
تركت على عمياء منه ولم أكنْ ... إذا ما وشى واشٍ بليلي أناظرُهْ
أتهجر بيتا بالحجاز تَكَنَّفَتْ ... جوانبَهُ الأعداء أم أنت زائرُهْ
فإن آتِهِ لا أنجُ إلا بِظنَّةٍ ... وإن يأتِهِ غيري تُنَطْ بي جرائرُهْ
ولا بأسَ بالهجر الذي ليس عن قلىً ... إذا شجرتْ عند الحبيبِ شواجرُهْ
وقد روي شطر هذه الأبيات للحسين بن مطير، ومنها قوله:
ألا حُبَّ بالبيتِ الذي أنت هاجرُهْ ... وأنت بتلماحٍ من الطرف زائرُهْ
لأنك من بيتٍ لعينيَّ معجبٍ ... وأملحُ في عيني من البيت عامرُهْ
أصدُّ حياءً أن يلجَّ بيَ الهوى ... وفيك المنى لولا عدوٌّ أحاذرُهْ
وفيك حبيبُ النفسِ لو تستطيعه ... لمات هوى والشوقُ حين تجاورُهْ
وكان حبيبُ النفسِ للقلب واترا ... وكيف يحبُّ القلبُ من هو واترُهْ
فإن يكن الأعداءُ أحموا كلامه ... علينا فلم تحمَي علينا مناظرُهْ
أحبك حبّا لن أعنِّفَ بَعْدَهُ ... محبّاً ولكني إذا ليمَ عرذرُهْ
لقد مات قلبي أول الحبّ فانقضى ... ولو متُّ أضحى الحبُّ قد ماتَ آخرُهْ
وقال ابن ميادة: من الخفيف
يا خليليَّ هَجِّرا كي تَرُوحَا ... هجتما للرواح قلبا قريحا
إن تريغا لتعلما سرَّ سُعْدَي ... تجداني بسرِّ سعدي شحيحا
إنّ سعدي لَمُنْيَةُ المتمنّي ... جمعت عِفَّةً ووجهاً صبيحا
وقال جميل: من الطويل
سأمنحُ طرفي غيركم إن لقيتكمْ ... لكي يحسبوا أنَّ الهوى حيث أنظرُ
وأكني بأسماءٍ سواكِ وأَتقي ... زيارتكم والحبُّ لا يتغيَّرُ
وقال الحسن بن هانئ: من الخفيف
لأبيحنَّ حُرْمَةَ الكتمانِ ... راحةَ المستهامِ في الإعلانِ
قد تعزَّيْتُ بالسكوتِ وبالإط ... راقِ جهدي فَنَمَّتِ العينانِ
تركتني الوشاةُ نُصْبَ المشيرِي ... من وأحدوثةً بكلِّ مكان
ما أرى خاليين في السرِّ إلا ... قلتُ ما يخلوانِ إلا لشاني
وقال البحتري: من الطويل
إذا العينُ راحَتْ وهي عينٌ على الجوى ... فليس بسرٍّ ما تُسِرُّ الأضالعُ
وقال تميم بن أبي بن مقبل: من الطويل
لقد طال ما أخفيتُ حُبَّكِ في الحشا ... وفي القلبِ حتى كاد في القلبِ يجرحُ
قديماً ولم يعلمْ بذلك عالمٌ ... وإن كان موثوقاً يودُّ وينصَحُ
فردّي فؤادي أو أثيبي ثوابَهُ ... فقد يملك المرءُ الكريمُ فَيُسْجحُ
سَبَتْكَ بمأشور الثنايا كأنه ... أقاحِي غَداةٍ بات بالدَّجْنِ يُنْضَحُ
وقال ابن الدمينة: من الطويل
هجرتُكِ أياما بذي الغمرِ إنني ... على هجر أيامٍ بذي الغمرِ نادمُ
هجرتُكِ إشفاقا عليكِ من الرّدى ... وخوفِ الأعادي واجتنابِ النمائمِ
وإني وذاك الهجر لو تعلمينه ... كعازبةٍ عن طفلها وهي رائمُ
فما أعلمَ الواشينَ بالسرِّ بيننا ... ونحن كلانا للمودة كاتمُ
ويستحسن قول أبي الطيب في المعنى: من الخفيف
وإذا خامر الهوى قلبَ صَبٍّ ... فعليه لكلِّ عينٍ دليلُ
وأحسن ما قيل في ذلك قول قيس بن ذريح: من الطويل
لو أنّ امرءا أخفى الهوى عن ضميره ... لمتّ ولم يعلمْ بذاك ضميرُ
ولكنْ سألقى اللهَ والنفسُ لم تَبُحْ ... بسرِّكِ والمستخبرون كثيرُ
وقال آخر: من الطويل
يقولون ليلى بالمغيبِ أمينةٌ ... له وهو راعٍ سرَّهَا وأَمينها

فإن تكُ ليلى استودعتني أمانةً ... فلا وأبي ليلى إذا لا أخونها
أأرضى بليلى الكاشحين وأبتغي ... كرامةَ أعدئي لها وأهينُها
معاذةَ وَجْهِ الله أن أُشْمِتَ العدى ... بليلى وإن لم تَجْزِني ما أدِينُها
سأجعل ديني جُنَّةً دون دينها ... وعرضي ليبقى عرضُ ليلى ودينها

النوع الثامن عشر
في عشق الحلائل
وقال القحيف: من الطويل
لقد أرسلتْ خرقاءُ نحوي رسولَها ... لتجعلني خرقاءُ ممّن أَضَلَّتِ
وخرقاءُ لا تزدادُ إلاّ ملاحةً ... ولو عُمِّرَتْ تعميرَ نوحٍ وجَلَّتِ
وقال أبو الأسود الدؤلي: من الطويل
أبى القلبُ إلا أمَّ عمروٍ وحبّها ... عجوزا ومن يُحْبِبْ عجوزا يُفَنَّدِ
كَسَحقِ اليماني قد تقادمَ عهدُهُ ... ورقعتُه ما شئتَ في العينِ واليدِ
وقال آخر: من الطويل
تقولُ العدى لا بارك الله في العدى ... قد أقصر عن ليلى وَرَثَّتْ وسائِلُهْ
ولو أصبحتْ ليلى تدبُّ على العصا ... لكان هوى ليلى جديدا أوائلُهْ
وقال أبو الوجزة السعدي: من الكامل
حتّامَ أنت موكَّلٌ بقديمةٍ ... أَمْسَتْ تُجَدِّدُ كاليماني الجيّدِ
زاد الجلالُ كمالها ووشى بها ... عقلٌ وفاضلةٌ وشيمةُ سيّدِ
ضَنَّتْ بنائلها عليك وأنتما ... غِرَّانِ في طَلَبِ الشبابِ الأغيدِ
فالآن ترجو أن تثيبك نائلا ... هيهات نائلها مكانَ الفرقدِ
النوع التاسع عشر
في غزل العباد وتساهلهم فيه
كان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية فقيها عابدا من عباد مكة، يسمى القس من عباداته، وكان يشبه بعطاء بن أبي رباح، وكانت بمكة لسهيل بن عبد الرحمن مغنية محسنة، فسمعها القس من غير تعمد منه لذلك، فبلغ غناؤها منه كل مبلغ، فرآه مولاها فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع؟ فأبى. فقال له مولاها: أنا أقعدها تسمع غنائها ولا تراها ولا تراك، فأبى، فلم يزل به حتى دخل فأسمعه غنائها، فأعجبته فقال: هل لك أن أخرجها إليك؟ فأبى، فلم يزل حتى أخرجها، فأقعدها بين يديه فغنت، فشغف بها وشغفت به، وعرف بذلك أهل مكة حتى سميت به، فصارت تعرف بسلامة القس، فقالت له يوما: أنا والله أحبك، فقال: وأنا والله أحبك، قالت وأحب أن أضع فمي على فمك، قال: وأنا والله أحب ذلك، قالت: وألصق بطني ببطنك، قال: وأنا والله أحب ذلك، قالت فما يمنعك؟فولله إن الموضع لخال، قال إني سمعت الله عز وجل يقول: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين وإني أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك تؤول إلى عداوة. ثم قام فانصرف، وعاد إلى ما كان عليه من النسك.
وله فيها أشعار كثيرة فمنها: من الكامل
قد كنتُ أعذلُ في السفاهة أهلها ... فأعجبْ لما تأتي به الأيامُ
فاليوم أعذرهم وأعلم إنَّما ... سبل الضلالة والهدى أقسامُ
ومنها: من الكامل
أسلامُ هل لمتيّمٍ تنويلُ ... أم هل صرمتِ وُدَّكِ غُولُ
لا تصرفي عني دلالَكِ إنه ... حَسَنٌ إليَّ وإن بخلتِ جميلُ
ومنها: من الكامل
أسلامُ إنك قد ملكتِ فاسجحي ... قد يملكُ الحرُّ الكريمُ فيسجحُ
وقال أبو السائب المخزومي لجرير المغني: ما معك من مرقصات ابن سريج؟ فغناه شعر بن أبي ربيعة: من الطويل
فلم أرَ كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى
وكم من قتيل لا ينال به دم ... ومن غلق رهناً إذا ضمّه منى
وكم مالئٍ من عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
يسحبن أذيال المروط بأسوق ... خدال وأعجاز مآكمها روى
أوانس يسلبن الحليم فؤاده ... فيا طول ما شوق ويا حسن مجتلى
قال أبو السائب: كما أنت حتى أتحرم لهذا بركعتين وحدث بعضهم قال: أنشدت أبا السائب المخزومي قول قيس بن ذريح، هكذا وفي الخبر الصحيح أن الأبيات لعبيد الله بن عتية بن مسعود: من الوافر

صَدَعْتِ القلبَ ثم ذررتِ فيه ... هواكِ فليمَ فالتأمَ الفطورُ
تغلغلَ حيثُ لم يبلغْ شرابٌ ... ولا حزنٌ ولم يبلغْ سرورُ
فصاح بجارية له سندية تسمى زبدة: أي زبدة عجلي، فقالت: إني أعجن، فقال لها: ويحك تعالي ودعي العجين، فجاءت، فقال لها أنشدي بيتي قيس، فأعادتهما فقال لها: يا زبدة أحسن قيس، وإلا فأنت حرة، ارجعي الآن إلى عجينك، أدركيه لا يبرد.
وكان عبيد الله هذا فقيها عالما ورعا، وهو أحد الفقهاء المشهورين، وهو اذي قال فيه عمرو بن عبد العزيز رضي الله عنه: وددت أن لي ليلة من عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقيل له يا أمير المؤمنين: مثلك يقول هذا مع تخوفك! فقال: إنكم لا تدرون، إني أرجع منه بأضعاف ذلك فيما أنتفع به منه أو نحو هذا الكلام.
وكان عبيد الله مع هذا غزلا وله أشعار معروفة رقيقة في النسيب، فمن ذلك قوله: من الطويل
ألا مَن لنفسٍ ما تموتُ فينقضي ... عَنَاها ولا تحيا حياةً لها طعمُ
أأتركُ إتيانَ الحبيب تأثّما ... ألا إنّ هجران الحبيب هو الإثمُ
فذق هجرها قد كنت تزعمُ أنه ... رشادٌ الا يا ربما كَذَبَ الزعمُ
ومنه قوله: من الطويل
لعمري لئن شَطَّتْ بعثمةَ دارها ... لقد كدتُ من وشكِ الفراقِ أُليحُ
أروحُ بهمٍّ ثم أغدو بمثلِهِ ... وتحسبُ أني في الثيابِ صحيحُ
وقال أبو الزناد: قدمت المدينة امرأة من هذيل، وكانت جميلة فرغب الناس فيها، فخطوبها وكادت تذهب بعقول أكثرهم، فقال عبيد الله ابن عبد الله: من الطويل
أحبُّكِ حبّاً لا يحبُّكِ مِثلَهُ ... قريبٌ ولا في العاشقين بعيدُ
أحبّك حبّاً لو شعرتِ ببعضِهِ ... لجدتِ ولم يَصْعُبْ عليكِ شديدُ
وحبّكِ يا أمَّ الصبيِّ مُدَلّهي ... شهيدي أبو البكر فنعم شهيدُ
ويعرفُ وجدي قاسمُ بن محمدٍ ... وعروةُ ما ألقى بكم وسعيدُ
ويعلمُ ما أخفى سليمانُ علمَهُ ... وخارجةٌ يبدي بنا ويعيدُ
أبو بكر: عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب بن حزن، وسليمان بن يسار مولى ميمونة بنت الحارث الهلالية، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسابعهم عبيد الله قائل الأبيات، هم الفقهاء السبعة، فقهاء المدينة الذين أخذ عنهم الرأي والسنن.
قال الخليل بن سعيد: مررت بسوق الطير فإذا الناس يركب بعضهم بعضا، فإذا أبو السائب المخزومي قائم على غراب يباع وهو آخذ طرف ردائه، وهو يقول للغراب: أيقول لك قيس بن ذريح: من الطويل
ألا يا غرابَ البين قد طرتَ الذي ... أحاذرُ من لبنى فهل أنت واقعُ
ثم لا تقع؟! ثم يضربه بردائه والغراب يصيح، قال: فقال له قائل: يا أبا السئب ليس هذا ذاك الغراب، فقال: قد علمت، ولكني آخذ البيء حتى يقع النطف.
وكان أبو السائب هذا مع زهده وعفافه مشغوفا بالغزل والغناء، وكضلك كان ابن أبي عتيق كلمته التي يقول فيها: من الطويل
ولست براضٍ من خليلٍ بنائلٍ ... قليلٍ ولا أرضى له بقليلِ
فقال له هذا كلام مكافئ ليس بعاشق؛ القرشيان أصدق وأقنع منك، ابن أبي ربيعة حيث يقول: من الخفيف
ليس حظّي كطرفةِ العينِ منها ... وكثيرٌ منها القليلُ المهنَّا
وقوله: من الخفيف
فَعِدي نائلاً وإن لم تُنيلي ... إنه ينفع المحبَّ الرجاءُ
وابن قيس الرقيات حيث يقول: من الوافر
رُقَىَّ بعيشكمْ لا تَصْرِمينا ... ومنّينا المنى ثم امطلينا
عدينا من غدٍ ما شئتِ إنّا ... نحبّ وإن مطلتِ الواعدينا
وذكر ذلك لأبي السائب المخزومي ومعه ابن المولى فقال: صدق ابن أبي عتيق وفقه الله، ألا قال المديون كثير كما قال هذا حين يقول: من الطويل
وأبكي فلا ليلى بَكَتْ من صبابةٍ ... لباكٍ ولا ليلى لذي الودِّ تبذلُ
وأخنَعُ بالعُتْبَى إذا كنتُ مذنبا ... وإن أذنبتْ كنتُ الذي أتنصلُ

نظر أبو الحازم المدايني، وكان من أعبد النس وأزهدهم، إلى امرأة تطوف بالبيت مسفرة أحسن خلق الله تعالى وجها، فقال: أيتها المرأة اتقى الله، لقد شغلت الناس عن الطواف، فقالت: أما تعرفني؟ قال:من أنت؟ فقالت: من الطويل
من اللائي لم يحججنَ يبغين حسبة ... ولكن ليقتلنَ البريءَ المغفلا
فقال: إني أسأل الله أن لا يعذب هذا الوجه الحسن بالنار، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال رحمه الله: أما لو كان بعض عباد العراق لقال: اغربي يا عدوة الله، ولكنه ظرف عباد أهل الحجاز.
قال سائب راوية كثير: قال لي كثير يوما ونحن بالمدينة: اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث معه، فذهبت إليه معه، فاستنشده ابن أبي عتيق فأنشد قوله: من الطويل
أبائنةٌ سُعْدَي نعم ستبين
حتى بلغ إلى قوله:
وأخلفنَ ميعادي وخُنَّ أمانتي ... وليس لمن خان الأمانةَ دينُ
قال ابن أبي عتيق: أعلى الأمانة تبعتها؟ فانكف واستعضب نفسه وصاح وقال:
كَذَبْنَ صفاءَ الودِّ يومَ محلّه ... وأدركني من عهدهنَّ رهون
فقال ابن أبي عتيق: ويحك فذاك أملح لهن وأدعى للقلوب إليهن؛ سيدك ابن قيس الرقيات كان أعلم منك وأوضع للصواب موضعه فيهن، أما سمعت قوله: من المديد
حبَّ ذاك الدلُّ والغَنَجُ ... والتي في طرفها دَعَجُ
والتي إن حَدَّثَتْ كَذَبَتْ ... والتي في وعدها خَلَجُ
وترى في البيت صورتها ... مثل ما في البِيعةِ السُّرُجُ
خبروني هل على رجل ... عاشقٍ في قبلةٍ حرجُ
فسكن كثير واستحلى ذلك وقال: لا إن شاء الله،ن فضحك ابن أبي عتيق حتى ذهب به. ولأبي السائب في ابن أبي عتيق في هذا الفن أخبار كثيرة كرهت الإطالة في إيرادها.
وروي أن سعيد ابن المسيب، وهو من العلم بالمكان المشهور، مر في بعض أزقة مكة، فسمع الأخضر الحربي يتغنى في دار العاص بن وائل، والشعر لمحمد بن عبد الله النميري: من الطويل
تضوَّعَ مسكا بطنُ نَعمانَ إذ مشتْ ... به زينبٌ في نسوةٍ عطراتِ
فضرب برجله فقال: هذا والله مما يلذ استماعته ثم قال:
وليستْ كأخرى وسَّعتْ جَيْبَ دِرْعِهِا ... وأبدتْ بنانَ الكفِّ للجمراتِ
وَعَلَّتْ بنانَ المسكِ وَحْفا مُرَجَّلا ... على مثلِ بدرٍ لاح في الظلماتِ
وقامت تراءى يومَ جمعٍ فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفاتِ
فكانوا يرون أن هذا الشعر لسعيد بن المسيب.
أنشد إنسان قول الأحوص: من البسيط
سقياً لربعك من ربعٍ بذي سلمِ ... وللزمانِ به إذ ذاك من زمنِ
إذ أنتِ فينا لمن ينهاك عاصيةٌ ... وإذ أَجُرُّ إليكم سادراً رسني
فوثب أبو عبيدة بن عمار بن ياسر قائما ثم أرخى ردائه ومضى يمشي على تلك الحال ويجره حتى بلغ العرض ثم رجع، وكان ذلك بمحضر ابراهيم بن هشام المخزومي، وهو والي المدينة، فقال ابراهيم حين جلس أبو عبيدة: ما شأنك؟ فقال: أيها الأمير: إني سمعت هذا البيت مرة فأعجبني، فحلفت ألا أسمعه إلا جررت رسني.
لقد منعت معروفها أم جعفرٍ ... وإني إلى معروفها لفقير
حتى انتهيت إلى قوله:
أزور على أن لست أنفكّ كلما ... أتيت عدواً بالبنانِ يشيرُ
فأعجبه ذلك وطرب وقال: أتدري يا ابن أخي كيف كانوا يقولون؟ قلت: لا، قال: كانوا يقولون: الساعة دخل، الساعة خرج، الساعة مر، الساعة رجع، وجعل يومئ بإبهامه إلى وراء منكبيه، وسبابته إلى حيال وجهه، ويقبلها، يحكي ذهابه ورجوعه.
وسمع أبو السائب رجلا ينشد قول أبي دهبل: من الطويل
أليس عظيماً أن نكون ببلدةٍ ... كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلم
فقال له قف يا حبيبي، فوقف، فصاح بجارية له: يا سلامة اخرجي، فخرجت، فقال له: أعد بأبي أنت البيت، فأعاده، فقال: بلى والله إنه لعجيب عظيم وإلا فسلامة حرة لوجه الله، اذهب فديتك مصاحبا، ثم دخل وجعلت الجارية تقول: ما لقيت منك، لا تزال تقطعني عن شغلي فيما لا ينفعك ولا ينفعني.

قال عروة بن عبد الله بن عروة بن الزبير: جاءني أبو السائب المخزومي يوما فسلم وجلس إلي، فقلت له بعد الترحيب به: ألك حاجة يا أبا السائب قال: وكما تكون الحاجة، أبيات لعروة بن أذينة، بلغني أنك سمعتها منه، قلت: أي أبيات، قال: وهل يخفى القمر؟ قوله: من الكامل
إن التي زعمتْ فؤادَكَ مَلَّها
فأنشدته إياها فلما بلغت إلى قوله: فقلت لعلها قال: أحسن والله، ما يروم هذا إلا أهل المعرفة والفضل، هذا والله الصادق الود، الدائم العهد، لا الهذلي الذي يقول: من الكامل
إن كان أهلك يمنعونك رغبة ... عني فأهلي بي أضن وأرغب
لقد عدا الأعرابي طوره، وإني لأرجو أن يغفر الله لابن أذينة في طلب العذر لها، وحسن الظن بها، فدعوت له بطعام فقال: لا والله حتى أروي هذه الأبيت، فلما رواها وثب، فقلت له: كما أنت يغفر الله لك حتى تأكل، فقال: والله ما كنت لأخلط بمحبتي لها وأخذي إياها غيرها، وانصرف.
وكان أبو السائب واقفا على رأس بئر فأشده ابن جندب: من الكامل
غيضن من عبراتهم وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فرمى بنفسه في البئر بثيابه فبعد لأي ما أخرجوه

النوع العشرون
في أخبار من قتله الكمد
ممن له ذلك الصمة بن عبد الله القشيري وكان يهوى ابنة عم له فخطبها إلى عمه، فاشتط عليها في المهر، فسأل أباه أن يعاونه، وكان كثير المال، فلم يعنه بشيء،فسأل عشيرته فأطاعوه، فأتى عمه بالإبل، فقال له: لا أقبل هذه في مهر ابنتي، فسل أباك أن يبدلها لك، فسأل أباه فأبى عليه، فلما رأى فعلهما قطع عقلها وخلاها، فعاد كل بعير منها إلى ألافه، وتحمل الصمة راحلا، فقالت له ابنة عمه حين رأته: تالله ما رأيت كاليوم رجلا باعته عشيرته بأبعرته، ومضى لوجهه حتى لحق بثغر الديلم، فمات به كمدا وقال: من الطويل
أَتبكي على ريَّا ونفسُكَ باعَدَتْ ... مَزَارَكَ من ريّا وشعباكما معا
وحدث رجل من أهل طبرستان قال: بينا أنا أمشي في ضيعة لي فيها ألوان من الفاكهة والزعفران وغير ذلك من الأشجار إذا أنا بإنسان في البستان مطروح عليه أثواب خلقان، فدنوت منه فإذا هو يتحرك ولا يتكلم، فأصغيت إليه فإذا هو يقول بصوت خفي: من الطويل
تعزَّ بصبرٍ لا وَجَدِّكَ لا ترى ... بشامَ الحمى إحدى الليالي الغوابر
كأن فؤادي من تَذَكُّرِهِ الحمى ... وأهل الحمى يهفو به ريشُ طائر
فما زال يردد هذين البيتين حتى فاضت نفسه، فسألت عنه، فقيل لي: هذا الصمة بن عبد الله القشيري. وقال بعض بني عقيل: مررت بالصمة يوما وهو وحده جالس يبكي ويخاطب نفسه ويقول: لا والله ما صدقتك فيما قالت،ن قلت: من تعني بهذا ويحك؛ أجننت؟ قال أعني التي أقول فيها: من الطويل
أما وجلالِ الله لو تذكرينني ... كذكراكِ ما كفكفتِ للعينِ مدمعا
فقالت:
بلى وجلالِ الله ذكرا لو أنّه ... يُصَبُّ على صُمِّ الصَّفَا لتصدَّعا
أسلي نفسي وأخبرها أنها لو ذكرتني كما قالت لكانت في مثل حالي.
وقال محمد بن معن الغفاري: أقحمت السنة ناسا من الأعراب،فخلوا المذار وأبرقوا، وإذا غلام منهم قد صار جلدا وعظما، فرفع عقيرته يتغنى بأبيات وهي: من الطويل
ألا يا سنا برق على قُلَلِ الحمى ... لَهَنَّك من برقٍ عليَّ كريمُ
لمعتَ اقتداءَ الطير والقومُ هُجَّعٌ ... فهيّجتَ أحزانا وأنت سليمُ
فبتُّ بحدِّ المرفقين أشيمُهُ ... كأني لبرقٍ بالنسار رحيمُ
فهل من معيرٍ طرفَ عين خَلِيَّةٍ ... فإنسانُ طرف العامريِّ كليمُ
رمى قَلْبَهُ البرق اليمانيُّ رميةً ... بذكر الحمى وهناً فكاد يَهيمُ
فقلت: يا غلام، دون ما بك ما يفحم عن الشعر، قال: أجل، ولكن البرق أنطقني، فما مكث يومه حتى مات.

وممن روي أنه مات كمدا كعب بن مالك المعروف بالمخبل، وهو من بني لأي بن شماس، وكان عنده ابنة عم له يقال لها: أم عمرو، وكان إليها مائلا، وبها معجبا، فنظر إليها متجردة من ثيابها، فقال لها: يا أم عمرو هل تعرفين أجمل منك وأكمل؟ قالت: نعم أختي ميلاء، قال لها: فإني أشتهي أن أراها، فقالت: إن علمت بمكانك لم تجئ، ولكني أحتال وأحضرها، ففعلت ذلك، فلما حضرت ورآها علقها وغلبت على قلبه، ووجدت هي به كوجده بها، فأخبرت أم عمرو بشأنهما، وصادفتهما وهما يتحدثان، فانصرفت إلى أخوتها، وهم سبعة، فقالت: إما أن تزوجوا هذا الرجل من ميلاء وتفرقوا بيني وبينه، وإما أن تغيبوها عني، فلما وقف على ذلك هرب إلى الشام وأنشأ يقول: من الطويل
أفي كلِّ يومٍ أنت من بارحِ الهوى ... إلى الشمِّ من أعلامِ ميلاءَ ناظرُ
وكان مقيما بالحجاز، فروى هذا البيت رجل من أهل الشام ثم خرج الشامي إلى الحجاز لحاجة له فاجتاز بأم عمرو وميلاء، فاستدل أم عمرو على الطريق فقالت: يا ميلاء صفي له الطريق، فلما سمع ذكر ميلاء ذكر الأعرابي، وأنشد البيت الذي أخذه عنه، فارتاحت ميلاء ورحبت بالرجل وقالت له: اجلس حتى يجيء إخوتي فيكرموك ويقفوك على الطريق، فلما جاؤوا وأخبرتهم ميلاء بما سمعت منه، وقد كانوا يحبون إن يعرفوا خبر كعب، فعرفهم أنه نزل عليه وسمع هذا الشعر منه وشعرا آخر، فقالوا أنشدناه، فأنشدهم: من الطويل
خليليّ قد رُضْتُ الأمورَ وقستها ... بنفسي وبالفتيان كلَّ مكانِ
فلم أُخْفِ لوما للصديق ولم أجِدْ ... خليّاً ولا ذا البثِّ يستويانِ
من النس إنسانان دَيني عليهما ... مليّان لولا الناسُ قد قضياني
منوعان ظلامان لا ينصفانني ... بدلِّهما والحسن قد خَلَباني
خليليَّ أما أم عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني
بلينا بهجرانٍ ولم نَرَ مثلنا ... من الناسِ إنسانين يهتجرانِ
أشدَّ مصافاة وأبعدَ عن قلىً ... وأعصى لواشٍ حين يُكْتَنَفانِ
يبيِّنُ طرفانا الذي في ضميرنا ... إذا استعجمت بالمنطقِ الشفتانِ
فوالله ما أدري، أكلُّ ذوي الهوى ... على ما بنا أَم نحن مبتليانِ
وكنّا كريمَيْ معشرٍ حُمَّ بيننا ... هوى فحظناهُ بكلِّ صيانِ
نذودُ النفوسَ الحائماتِ عن الهوى ... وهنَّ بأعناقٍ إليه ثوانِ
فأكرموا الرجل، ووقفوه على الطريق، وخرجوا إلى الشام إلى كعب بن مالك فأقدموه، فلما دخل الحي جلس ناحية فرأى مجمعا للحي وغليما، فدعا الغليم فقال له: من أبوك؟ قال كعب بن مالك، وقد كان خلف ابنه صغيرا فعرفه، فقال: ما هذا الجمع؟ فقال: لخالتي ميلاء ماتت الساعة، فراعه ذلك وقام منه وقعد، وشهق شهقة مات، فدفنت ميلاء ثم دفن إلى جانب قبرها.
وممن نسب إلى العشق ومات كمدا محمد ابن داود الأصفهاني صاحب المذهب. روي عن أبي عبد الله ابراهيم بن محمد بن عرفة النحوي نفطويه، قال: دخلت على محمد بن داود في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف تجدك؟ قال: حب من تعلم أورثني ما ترى، فقلت: ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين، أحدهما النظر المباح، والثاني اللذة المحظورة، أما النظر المباح فأورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فإنه منعني عنها ما حدثني أبي قال، حدثنا سويد بن سعيد قال، حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة. ثم أنشد لنفسه: من البسيط
انظر إلى السحر يجري من لواحظه ... وانظر إلى دَعَج في طرفه الساجي
وانظر إلى شَعَراتٍ فوق عارضه ... كأنهنَّ نمال دبَّ في عاجِ
وأنشد لنفسه: من الخفيف
ما لهم أنكروا سوادا بخدي ... هِ ولا ينكرون وردَ الغصونِ
إن يكنْ عيبُ خده بدءً ذا الشع ... ر فعيبُ العيونِ شعر الجفون

فقلت له: نفيت القياس في الفقه وأثبته في الشعر، فقال: غلبة الهوى وملكة النفوس دعوا إليه، قال: ومات من ليلته، أو في اليوم الثاني.
ومنهم حبيشة بنت حبيش إحدى بني عامر بن عبد مناة بن كنانة كانت تهوى ابن عمها عبد الله بن علقمة ويهواها، تواردا في الهوى وهما طفلان، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني عامر بن عبد مناة وأمره أن يدعوه إلى الإسلام، فإن أجابوه وإلا قاتلهم، فصبحهم خالد بالغميصاء وقد سمعوا به فخافوه، وكانوا قتلوا أخاه الفاكه بن الوليد، وعمه الفاكه بن المغيرة في الجاهلية، وكانوا من أشد حي في كنانة بأسا، كانوا يسمون لعقة الدم، فلما صبحهم ومعه بنو سليم، وكانت بنو سليم تطلبهم بمالك بن خالد بن صخر الشريد وأخوته كرز وعمرو الحارث، وكانوا قتلوهم في موطن واحد، فلما صبحهم خالد في ذلك اليوم، ورأوا معه بنو سليم زادهم دلك نفورا، فقال لهم خالد: أسلموا، فقالوا: نحن قوم مسلمون، قال: فألقوا سلاحكم وانزلوا، قالوا: لا والله ما نلقي سلاحنا، ولا نحن لك ولا لمن معك آمنين، قال خالد: فلا أمان لكم إلا أن تنزلوا، فنزلت فرقة منهم فأسرهم، وتفرق بقية القوم فرقتين، فأصعدت فرقة وسفلت أخرى، فبعث خالد جندا في أثر ظعن مصعدة يسوق بهن فتية، فقال: أدركوا أولئك؛ فخرجوا في إثرهم، فلما أدركوهم وقف لهم غلام شاب على الطريق، فجعل يقاتل ويرتجز ويقول: من الرجز
أرخينَ أذيالَ المروطِ وارتَعْنْ ... مشيَ حَيِيَّاتٍ كأنْ لم يفزعنْ
إن يُمْنَعِ اليومَ نساءٌ تمنعنْ
فقاتلهم قليلا فقتلوه ومضمر حتى لحقوا الظعن، فخرج إليهم غلام كأنه الأول فجعل يقاتلهم ويقول: من الرجز
أقسمُ ما إنْ خادرٌ ذو لِبْدَهْ ... يدرم بين أيكةٍ ووهْدَهْ
يفرِسُ ثنيانَ الرجالِ وَحْدَهُ ... بأصدقَ الغَدَاةِ منَّا نجدهْ
فقتلوه فأدركوا الظعن فأخذوهن، فإذا فيهن غلام وضيء به صفرة في لونه كالمنهوك، ربطوه بحبل وقدموه ليقتلوه، فقال لهم: هل لكم في خير؟ قالوا: وما هو؟ قال: تدركون بي الظعن أسفل الوادي ثم تقتلوني، فلما كان بحيث يسمعهن الصوت نادى بأعلى صوته: أسلمي حبيش عند نفاد العيش، فأقبلتعليه جارية حسناء بيضاء وقالت: وأنت فأسلم على كثرة الأعداء وشدة البلاء، قال سلام عليك دهرا، وإن بنت عصرا، قالت: وأنت سلام عليك عشرا وشفعا تترى، وثلاثا وترا فقال: من الطويل
إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع ... هواك لهم مني سوى غُلَّةِ الصدرِ
فقالت: من الطويل
وأنت فلا تَبْعَدْ فنعمَ أخو الهوى ... جميلُ العفافِ والمودةِ في سترِ
وقال لها: من الطويل
ألم يكُ حقا أن يُنَوَّلَ عاشقٌ ... تَكَلَّفَ أدلاجَ السُّرى والودائقِ
فقالت: بلى والله فقال:
فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرةٌ ... أثيبي بودٍّ قبل إحدى الصفائق
أثيبي بودٍّ قبل أن تشحطَ النوى ... وينأى الخليطُ بالحبيبِ المفارق
قال: فضربوا عنقه، فتقتحم الجارية من خدرها حتى أهوت نحوه فالتقمت فاه، فنزعوا منها رأسه، وإنها لتنشع بنفسها حتى ماتت مكانها.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى القتلى، بعث علياً عليه السلام فوداهم، قال علي عليه السلم: قدمت عليهم فقلت لهم: هل لكم أن تقبلوا هذا بما أصيب منكم من القتلى والجرحى، وتحللوا رسول الله قالوا: نعم، فقلت لهم: هل لكم في أن تقبلوا الثاني بما دخلكم من الروع والفزع؟ قالوا: نعم، فقلت لهم: فهل لكم في أن تقبلوا الثالث وتحللوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علم ومما لم يعلم؟ قالوا: نعم، فدفعته إليهم، وجعلت أديهم، حتى إني لأدي ميلغ الكلب، وفضلت فضلةٌ فدفعتها إليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقبلوها؟ قال: نعم، قال: فوالذي أنا عبده لهي أحب إلي من حمر النعم.

روي أن رجلاً من بني تميم يقال له الخضر، أبق له غلامان قال: فخرجت في طلبهما وأنا على ناقة لي عيساء كوماء أريد اليمامة، فلما صرت في ماء لبني حنيفة يقال له الصرصران، ارتفعت سحابةٌ فرعدت وبرقت وأرخت عزاليها، فعدلت إلى بعض ديارهم، وسألت القرى فأجابوا. فدخلت داراً لهم، وأنخت الناقة وجلست تحت ظلةٍ لهم من جريد النخل، وفي الدار جويرية لهم سوداء، إذ دخلت جاريةٌ كأنها سبيكة فضة، وكأن عينيها كوكبان دريان، فسألت الجارية: لمن هذه العيساء؟ تعني ناقتي، فقيل: لضيفكم هذا، فعدلت إلي وقالت: السلام عليكم، فرددت عليها السلام، فقالت لي: ممن الرجل؟ فقلت: من بني حنظلة، فقالت: من ايهم؟ فقلت: من بني نهشل، فتبسمت وقالت: أنت إذن ممن عناه الفرزدق بقوله: من الكامل
إن الذي سمكَ السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعزُّ وأطولُ
بيتاً بناه لنا المليكُ وما بنى ... ملك السماء فإنه لا يُنْقَلُ
بيتاً رزارةُ مُحْتَبٍٍ بِفِنائِهِ ... ومجاشعٌ وأبو الفوارس نهشلُ
قال فقلت: نعم جعلت فداك، وأعجبني ما سمعت منها، فضحكت وقالت: فإن ابن الخطفى قد هدم عليكم بيتكم هذا الذي فخرتم به حيث يقول: من الكامل
أخزى الذي رفع السماءَ مجاشعاً ... وبنى بناءً بالحضيضِ الأسفلِ
بيتاً يُحَمِّمُ قينكمْ بِفِنائِهِ ... دَنِساً مقاعدُهُ خبيثُ المدخلِ
قال: فوجمت، فلما رأت ذلك في وجهي قالت: لا عليك، فإن الناس يقال فيهم ويقولون، ثم قالت: أين تؤم؟ قلت: اليمامة، فتنفست الصعداء ثم قالت: هاهي تلك أمامك ثم أنشأت تقول: من الوافر
تذكرني بلاداً خيرُ أهلي ... بها أهلُ المروءةِ والكرامَهْ
ألا فسقى الإله أجشَّ صوباً ... يَسُحُّ بِدَرِّهِ بلدَ اليمامَهْ
وحيَّا بالسلام أبا نُجَيْد ... فأهلٌ للتحيّةِ والسلامَه
قال: فأنست بها وقلت: أذات خدنٍ أم ذات بعل؟ فأنشأت تقول: من الوافر
إذا رقد النيامُ فإن عمراً ... تؤرِّقُهُ الهمومُ إلى الصباحِ
تُقَطِّعُ قلبَهُ الذكرى وقلبي ... فلا هو بالخليِّ ولا بصاحِ
سقى الله اليمامةَ دار قومٍٍ ... بها عمروٌ يحنُّ إلى الرواحِ
فقلت لها: من عمرو هذا؟ فأنشأت تقول: من الوافر
سألتَ ولو علمتَ كففتَ عنه ... ومَنْ لك بالجوابِ سوى الخبير
فإن تكُ ذا قبولٍ إنّ عمراً ... هو القمرُ المضيءُ المستنير
وما لي بالتبعّلِ مستراحٌ ... ولو ردَّ التبعلُ لي أسيري
قال: ثم سكتت سكتة كأنها تسمع إلى كلام، ثم تهافتت وأنشأت تقول:
يُخَيَّلُ لي هيا عمرو بنَ كعب ... بأنك قد حُمِلْتَ على سريرِ
يسيرُ بكَ الهوينا القومُ لما ... رماك الحبُّ بالغلق العسيرِ
فإنْ تكُ هكذا يا عمرو إني ... مبكرةٌ عليك إلى القبورِ
ثم شهقت شهقةً ميتةً، فقلت لهم: من هذه؟ فقالوا: عقيلة بنت الضحاك بن عمرو بن محرق بن النعمان بن المنذر، فقلت لهم: فمن عمرو هذا؟ قالوا: ابن عمها عمرو بن كعب بن محرق بن النعمان بن المنذر، فارتحلت من عندهم، فلما دخلت اليمامة سألت عن عمرو هذا، فإذا هو قد دفن في ذلك الوقت الذي قالت فيه ما قالت.
قال عكرمة: إني لمع ابن عباس بعرفة إذا فتية أدمان يحملون فتىً في كساء معروق الوجه ناحل البدن أحلى من رأيت من الفتيان، حتى وضعوه بين يدي ابن عباس وقالوا له: استشف له يا ابن عم رسول الله، فقال: ابن عباس: وما به؟ فأنشأ الفتى يقول: من الطويل
بنا من جوى الأحزانِ والحبِّ لوعةٌ ... تكاد لها نفسُ الشفيقِ تذوبُ
ولكنما أبقى حشاشة مُعْوِلٍ ... على ما به عودٌ هناك صليب
قال وأنشأ الفتى يقول: من الطويل
وبي لوعة لو تشتكي الصمُّ مثلَها ... تفطرتِ الصمُّ الصِلاَد فخَّرت
ولو قسمَ اللهُ الذي لي من الجوى ... على كلِّ نفسٍ حظَّها لألَّمتِ
ولكنما أبقى حشاشةَ مُعْوِلٍ ... على ما به صلب النجار فمدت

قال: فأقبل ابن عباس على عبيد الله بن حميد بن زهير بن سهيل بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، فقال: أخذ هذا البدوي العود علي وعليه، قال: ثم حملوه، فخفت في أيديهم فمات، فقال ابن عباس: هذا قتيل الحب لا عقلٌ ولا قود.
قال عكرمة: فما رأيت ابن عباس يسأل الله تلك العشية حتى أمسى إلا العافية مما ابتلي به ذلك الفتى.
وممن قيل إنه مات كمداً: عبد الله بن عجلان النهدي، روي أنه رأى أثر كف محبوبته في ثوب زوجها فمات.
وهذا الفصل نذكر فيه جملة الأخبار والأشعار في الغزل، ونقتصر على ما يؤمن معه الملل، ونعدل عن الإكثار، فإن استقصاءه غير ممكن، وهو فن يلهج به الناس، وقد أكثروا منه واختلفوا فيه.
قيل: الهوى جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مهلك، ومالك قاهر، مسالكه لطيفة، ومذاهبه متضادة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطي خزام طاعتها، وقود تصرفها، توارى عن الا صار مدخله، وغيض في القلوب مسلكه، وقد رأينا الهوى يشجع قلب الجبان، ويسخي كف البخيل، ويصفي ذهن الغبي، ويبعث حزم العاجز، ويخضع له عزة كل متجبر.
فمن مختار الشعر فيه قول الشنفرى: من الطويل
فواكبدا على أميمةَ بعد ما ... طمعتُ فهبها نعمةَ العيشِ وَلَّتِ
لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعها ... إذا ما مشت ولا بذاتِ تلفّتِ
تحلُّ بمنجاةٍ من اللوم بيتَها ... إذا ما بيوتٌ بالمذمَّةِ حُلَّتِ
أميمةُ لا يخزي نَثاها حَليلَها ... إذا ذُكِرَ النسوانُ عفَّتْ وجَلَّتِ
إذا هو أمسى آبَ قُرَّةَ عينهِ ... مآبَ السعيد لم يَقُلْ أين ظَلَّتِ
فَدَقَّتْ وَجَلَّتْ واسبكرّت وأُكملتْ ... فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسن جُنَّتِ
فبتنا كأنَّ البيت حُجِّرَ فوقنا ... بريحانةٍ ريحتْ عشاءً وطُلَّتِ
وقال جميل: من الطويل
يقولون جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ ... وأي جهادٍ غيرهنّ أريدُ
لكلِّ حديثٍ بينهن بشاشة ... وكلّ فتيل بينهن شهيدُ
علقت الهوى منها وليداً ولم يزلْ ... إلى اليوم ينمي حبُّها ويزيدُ
وأفنيتُ عمري بانتظاري نوالها ... وأفنتْ بذاك الدهرَ وهو جديدُ
وقد تلتقي الأشتاتُ بعد شتاتها ... وقد تُدْرَكُ الحاجاتُ وهي بعيدُ
إذا قلتُ ما بي يا بثينةُ قاتلي ... من الحبِّ قالت ثابتٌ ويزيدُ
وقال ذو الرمة: من الطويل
ألا لا أبالي الموتَ إن كان دونَهُ ... لقاءٌ لميٍّ وارتجاعٌ من الوصلِ
أناةٌ كأنّ المرطَ حين تلوثُهُ ... على دِعْصَةٍ غَرَّاءَ من عُجَمِ الرملِ
أسيلةُ مُسْتَنِّ الوشاحين قانئٌ ... بأطرافها الحناءُ في سبطٍ طَفْلِ
من المشرِقَاتِ البيضِ في غير مُرْهَةٍ ... ذواتِ الشّفاهِ الحوِّ ولأعينِ النُجْلِ
إذا ما امرؤ حَاوَلْنَ أن يَقْتَتِلْنَهُ ... بلا إِحْنَةٍ بين النفوسِ ولا ذَحْلِ
تبسَّمن عن نَوْرِ الأقاحيِّ في الثرى ... وفَتَّرْنَ من أبصارِ مضروجةٍ كحلِ
وإنا لنرضَى حين نشكو بِخَلْوَةٍ ... إليهنَّ حاجاتِ النفوسِ بلا بذلِ
وما الفقر أزرى عندهنَّ بوصلنا ... ولكنْ جَرَتْ أخلاقُهُنَّ على البخلِ
وقال قيس بن ذريح: من الطويل
سلي هل قَلاَني من عشير صحبتُهُ ... وهل ذمَّ رحلي في الرفاقِ رفيقُ
وهل يجتوي القومُ الكرامُ صَحَابتي ... إذا اغبرَّ مخشيُّ الفجاجِ عميقُ
ولو تعلمينَ الغيبَ أيقنت أنني ... لكم والهدايا المُشْعَراتِ صديقُ
صبوحي إذا ما ذَرَّتِ الشمسُ ذكركُمْ ... ولي ذكركم عند المساء غَبُوقُ
تتوقُ إليكِ النفسُ ثم أردُّهَا ... حياءً ومثلي بالحياءِ حقيقُ
وإني وإنْ حاولتِ صَرْمي وهجرتي ... عليكِ من أحداثِ الردى لشفيقُ

تكادُ بلادُ اللهِ يا أمَّ معمرٍ ... بما رَحُبَتْ يوماً علي تضيقُ
أذودُ سوامَ الطرفِ عنك وهل له ... على أحدٍ إلا عليكِ طريقُ
وحدثَتني يا قلبُ أنك صابرٌ ... على البعدِ من لبنى فسوف تذوقُ
فَمُتْ كمداً أو عِشْ سقيماً فإنما ... تُكَلِّفني ما لا أراكَ تطيقُ
دعونَ الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأعينِ أعداءِ وهنَّ صديقُ
وهذه الأبيات متنازعة، وقد أنشد أبو هلال العسكري الرابع منها، والسادس والثامن لمضرس بن الحارث المري، والبيت الآخر هو لجرير في ديوانه.
قال عبيد الله بن سليمان الوزير: دعاني المعتضد يوماً، فقال لي: ألا تعاتب بدراً على ما لا يزال يستعمله من التخرق في النفقات والإثابات والزيادات والصلات، وجعل يؤكد القول علي في ذلك، فلم اخرج من حضرته حتى دخل عليه بدر، فجعل يستأمره في إطلاقات مسرفة، ونفقات واسعة، وصلات سنية، وهو يأذن فيها، فلما خرج رأى في وجهي إنكاراً لما فعله بعد ما جرى بيني وبينه، فقال: يا عبيد الله: قد عرفت ما في نفسك، وإني وإياه لكما قال الشاعر: من البسيط
في وجهه شافعٌ يمحو إساءَتَهُ ... من القلوب مطاعٌ حيثما شفعا
مستقبَلٌ بالذي يَهْوَى وإن كثرت ... منه الإساءةُ معذور بما صنعا
وهذه أبيات يقولها الحكم بن قنبر البصري أولها:
ويلي على من أطار النومَ فامتنعا ... وزاد قلبي على أوجاعِهِ وَجَعا
كأنما الشمسُ في أعطافِهِ لمعت ... حسناً أو البدرُ من أزرارِه طلعا
وقال أبو صخر الهذلي: من الطويل
أما والذي أبكي وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمرُهُ الأمْرُ
لقد تركتني أحسدُ الوحشَ أن أرى ... أليفين منها لا يَرُوعُهُما الذُّعْرُ
فيا حبَّها زدني جوىً كلَّ ليلةٍ ... ويا سلوةَ الأيامِ موعدُك الحشرُ
عجبتُ لسعي الدهرِ بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكنَ الدهرُ
وقال آخر: من الطويل
وكنتَ متى أرسلتَ طرفَكَ رائداً ... لقلبك يوماً أتعبْتكَ المناظرُ
رأيتَ الذي لا كلّه أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضِهِ أنت صابرُ
وقال الحسين بن مطير: من الطويل
وكنتُ أذودُ العينَ أن تردَ البكا ... فقد وَرَدَتْ ما كنتُ عنه أذودُهَا
خليلي ما بالعيش عتبٌ لو أننا ... وجدنا لأيام الصبا من يعيدها
ولي نظرةٌ بعد الصدود من الجوى ... كنظرةِ ثكلى قد أُصيبَ وحيدها
هل الله عافٍ عن ذنوبٍ تكشّفت ... أم الله إن لم يعفُ عنها يعيدها
إذا جئتها بين النساء منحتها ... صدوداً كأن النفس ليست تريدها
وقال آخر: من الطويل
لعمركَ ما ميعادُ عينكَ والبكا ... بداراءَ إلا أنْ تهبَّ جنوبُ
أعاشرُ في داراءَ من لا أَوَدُّهُ ... وبالرملِ مهجورٌ إليَّ حبيبُ
وقال بعض الأعراب: من البسيط
لا خيرَ في الحبِّ وَقْفاً لا تحرِّكُهُ ... عوارضُ اليأسِ أو يرتاحُهُ الطمعُ
لو كان لي صَبْرُهَا أو عندها جَزَعي ... لكنتُ أَمْلِكُ ما آتي وما أَدَعُ
لا أحملُ اللومَ فيها والغرامَ بها ... ما حَمَّلَ الله نفساً فوق ما تَسَعُ
وقال آخر: من الطويل
لقد كان فيها للأمانة موضع ... وللكفِّ مرتادٌ وللعينِ منظرُ
وللحائمِ العطشانِ رِيٌّ بريقها ... وللمرح الذيال ملهىً ومسكرُ
أقَلِّبُ طرفي في السماء لعله ... يصادِفُ طرفي طرفَها حين أنظرُ
وقال الأحوص: من الطويل
ألا لا تَلُمْهُ اليومَ أن يتبلَّدا ... فقد غلب المحزونَ أن يتجلَّدا
فما العيشُ إلا ما تلذُّ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفنَّدا
إذا كنت عِزْهاةً عن اللهوِِ والصبا ... فكن حجراً من يابسِ الصخرِ جلمدا
وقال ذو الرمة: من الطويل

ألمّا على الدارِ التي لو وجدتها ... بها أَهْلُهَا ما كان وحشاً مقيلها
ولو لم يكن إلا تَعَلُّلَ ساعةٍ ... قليلاً فإني نافع لي قليلها
وقال أبو حية النميري: من الطويل
وإن دماً لو تعلمين جنيتِهِ ... على الحيِّ جاني مثِلهِ غيرُ سالمِ
أما إنه لو كان غيرك أَرْقَلَتْ ... إليه القنا بالراعفاتِ اللهاذمِ
ولكن لعمرُ اللهِ ما طلَّ مسلماً ... كغرِّ الثنايا واضحات الملاغمِ
إذا هنَّ ساقطن الحديث كأنه ... سقاطُ حَصَى المرجانِ من سلكِ ناظم
رمينَ فأقصدْنَ القلوبَ فلم نجد ... دماً مائراً إلا جوىً في الحيازمِ
وخبّرَكِ الواشون أن لن أحبكم ... بلى وستورِ الله ذاتِ المحارمِ
أصدُّ وما الصدُّ الذي تعلمينه ... عزاءً بنا إلاّ اجتراعَ العلاقمِ
حياءً وبَقُيْا أن تشيعَ نميمةٌ ... بنا وبكم أفٍّ لأهلِ النمائمِ
ويروى للمجنون: من الطويل
شفيعي إليها قلبها إن تَعَتَّبَتْ ... وقلبي لها فيما ترومُ شفيعُ
لقد ظفرتْ مني بسمعٍ وطاعةٍ ... وكل محبٍّ سامعٌ ومطيعُ
وقال أبو العميثل: من الطويل
سلامٌ على الوصلِ الذي كان بيننا ... تداعَتْ به أركانُهُ فتضعضعا
تمنَّى رجالٌ ما أحبوا وإنما ... تمنَّيتُ أن أشكو إليها فتسمعا
وإني لأنهى النفسَ عنها ولم يكنْ ... بشيءٍ من الدنيا سواها لتقنعا
أرى كلَّ معشوقين غيري وغيرها ... قد استعذبا طعمَ الهوى وتمتعا
كأني وإياها على حالِ رِقْبَةٍ ... وتفريقِ شملٍ لم نبتْ ليلةً معا
وقال أبو عبد الله بن الدمينة الخثعمي، وهذه الأبيات من قصيدة مشهورة، وقد تنوزع أكثرها، ونسبت أبيات منها إلى عدد من الشعراء، والمقصود الشعر لا شاعره، فلذلك جمعت المختار منها في مكان واحد: من الطويل
أَحقاً عباد الله أن لستُ وارداً ... ولا صادراً إلا عليَّ رقيبُ
ولا زائراً فَرْداً ولا في جماعَةٍ ... من الناسِ إلا قيل أنت مريبُ
وهل ريبةٌ في أن تحنَّ نجيبةٌ ... إلى إلفها أو أن يحنَّ نجيبُ
وإنّ الكثيبَ الفردَ من أيمن الحمى ... إليَّ وإن لم آتِهِ لحبيبُ
أميمَ لقد عَذّبتني وأريتني ... بدائعَ أخلاقٍ لهنَّ ضُرُوبُ
صدوداً وإعراضاً كأنّيَ مذنبٌ ... ألا ليس لي إلا هواك ذنوبُ
تضنّينَ حتى يذهب البخلُ بالمنى ... وحتى تكادَ النفسُ عنك تطيبُ
فيا حسراتِ القلبِ من غربةِ النوى ... إذا اقتسمتها نية وشعوبُ
ومن خطراتٍ تعتريني وزفرةٍ ... لها بين جلدي والعظام دبيبُ
فلا تتركي نفسي شَعاعاً فإنها ... من الوجدِ قد كادت عليك تذوبُ
أحبُّك أطرافَ النهارِ بشاشةً ... وبالليل يدعوني الهوى فأجيبُ
ولما رأيتُ الهجر أَبْقَى مودّةً ... وطارت بأضعانٍ عليَّ قلوبُ
هجرتُ اجتناباً غيرَ بغضٍ ولا قلىً ... أميمة مهجوراً إليّ حبيبُ
لك اللهُ إني واصلٌ ما وصلتني ... ومُثْنٍ بما أوليتني ومثيبُ
وآخذ ما أُعطيتِ عفواً وإنني ... لأزورُّ عما تكرهين هيوبُ
وإني لأستحييكِ حتى كأنَّما ... عليَّ بظهرِ الغَيْبِ منكِ رقيبُ
ولو أنني أستغفرُ الله كلَّما ... ذكرتُكِ لم تكتبْ عليَّ ذنوبُ
تلجين حتى يزريَ الهجرُ بالهوى ... وحتى تكادَ النفسُ عنك تطيبُ
أميم احذري نقض الهوى لم يزل لنا ... على النأي والهجران منك نصيبُ
وكوني على الواشين لدَّاءَ شَغْبَةً ... كما أنا للواشي ألدُّ شغوبُ

بنفسي وأهلي مَنْ إذا عرضوا له ... بذكرِ الهوى لم يدرِ كيف يجيبُ
ولم يعتذرْ عُذْرَ البريء ولم تَزَلْ ... به سكتة حتى يقالَ مريبُ
ألا لا أبالي ما أَجَنَّت صدورهم ... إذا نصحتْ ممّن أَوَدُّ جيوبُ
ألا ليتَ شعري عنك هل تذكرينني ... فذكرك في الدنيا إليَّ حبيبُ
وهل لي نصيب من فؤادك ثابتٌ ... كما لكِ عندي في الفؤادِ نصيبُ
ومما يروى للمجنون: من الطويل
ألا أيها البيتُ الذي لا أزورُهُ ... وإن حَلَّه شخصٌ إليَّ حبيبُ
هجرتُك إشفاقاً وزرتُكَ خائفاً ... وفيك عليّ الدهر منك رقيبُ
سأستعتب الأيامَ فيك لعلَّها ... بيومِ سرورٍ في الزمان تؤوبُ
جرى السيلُ فاستبكانيَ السيلُ إذ جرى ... وفاضت له من مقلتيَّ غروبُ
وما ذاك إلا حين أيقنت أنه ... يمرُّ بوادٍ أنت منه قريبُ
يكونُ أجاجاً دونكم فإذا انتهى ... إليكمْ تلقَّى طيبكم فيطيبُ
أظلُّ غريبَ الدارِ في أرض عامِرٍ ... ألا كلُّ مهجورٍ هناك غريبُ
وقال الأقرع بن معاذ القشيري: من الطويل
ألا حبذا ريح الغضا حين زعزعتْ ... بقضبانِهِ بعد الضلال جَنوبُ
تجيء بريا من عثيمةَ طَلَّةٍ ... يعيش لها القلبُ الدوي فيثيبُ
لقد طرقتنا أمُّ عثمانَ بعدما ... هوى النجمُ والساري إليَّ حبيبُ
كأني وإن كانت شهوداً عشيرتي ... إذا بنتِ عني يا عثَيْمَ غريب
ولا خير في الدنيا إذا ا،ت لم تزر ... حبيباً ولم يطرب إليك حبيب
وأكببت إكباب الدنيّ وباعدت ... لك النفس حاجاتٍ وهنَّ قريبُ
فلا تعديني الفقرَ يا أم خالد ... فإنّ الغنى للمنفقين قريبُ
وقال ابن الدمينة: من الطويل
قفي يا أميمَ القلبِ نقضِ لبانةً ... ونشكُ الهوى ثم افعلي ما بدا لكِ
سلي البانةَ الغَيناءَ بالأبطح الذي ... به البانُ هل حيّيتُ أطلالَ دارك
وهل قُمْتُ في أطلالِهِنَّ عشيةً ... مقامَ أخي البأساء واخترتُ ذلك
وهل كفكفت عينايَ في الدار عَبْرةً ... فرادى كنظمِ اللؤلؤ المتدارك
فيا بانة الوادي أليستْ مصيبةً ... من الله أن تحمي علينا ظلالك
ويا بانة الوادي أثيبي متيما ... أخا سَقَمٍ أنشبته في حبالك
عدمتُكِ من نفسٍ وأنت سقيتني ... بكأسِ الردى في وصلٍ مَنْ لم يوالك
ومنيتني لقيانَ من لستُ لاقياً ... نهاري ولا ليلي ولا بينَ ذلك
فما بك من صبرٍ ولا من جَلادَةٍ ... ولا من عزاءٍ فاهلكي في الهوالكِ
ليهنك إمساكي بكفي على الحشا ... ورِقراقُ دمعي رهبةً من زيالك
ولو قلت طأ في النار أعلمُ أنه ... هُدىً منك أو مُدْنٍ لنا في وصالك
لقدَّمْتُ رجلي نحوها فوطئتها ... هدى منك لي أو غبَّة في ضلالك
وقال أيضاً: من الطويل
خليليَّ إني اليومَ شاكٍ إليكما ... وهل تنفعُ الشكوى إلى مَنْ يَزيدها
تفرُّقَ آلافٍ وإسبالَ عبرةٍ ... أظلُّ بأطرافِ البنانِ أذودها
وكائن ترى من ذي هوىً حيل دونه ... ومُتْبعِ إلفٍ نظرةً لا يعيدها
نظرتُ بِمُغْضَى سيلِ تُرْبانَ نظرةً ... هل الله لي قبلَ المماتِ معيدها
إلى رُجّح الأكفالِ غيدٍ كأنّها ... ظباءُ الفلا أعناقُها وخدودها
خليليَّ شدا بالعصائبِ فانظرا ... إلى كبدي هل بُتَّ صَدْعاً عهودها
وكنا إذا تدنو بعصماءَ نية ... رضينا بدنيانا فلا نَسْتزِيدُهَا
وقال أيضاً: من الطويل

ولما لحقنَا بالحُمولِ انبرَى لنا ... خفيفُ الحشا توهي القميصَ عواتِقُهْ
قليلُ قَذَى العيني يعلمُ أنَّهُ ... هُوَ الموتُ إن لم تَصْرَعَنَّا بوائقُهْ
وقفنا فسلَّمنا فسلَّمَ كارهاً ... علينا وتبريحٌ من الوَجْدِ خانِقُهْ
فساءَلْتُهُ حتى اطمأنَّ وقد بدا ... لنا بَرَدٌ منه تطِيرُ صواعِقُهْ
فسايرته ميلين يا ليتَ أنني ... على سُخْطِهِ حتى المماتِ أرافقُهْ
فلما رأتْ أن لا جوابَ وأَنه ... مدى الصَّرمِ مضروبٌ علينا سُرَادِقُهْ
رمتني بطرفٍ لو كميّاً رَمَتْ به ... لَبُلَّ نجيعاً نَحْرُهُ وبنائقُه
ومن طوال قصائد الغزل ومختارها قول كثير، وقد اقتصرت على بعضها: من الطويل
خليليَّ هذا ربعُ عَزَّةَ فاعقلا ... قَلُوصَيْكما ثم انزلا حيثُ حَلَّتِ
وما كنتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما البكا ... ولا موجعاتِ الحزنِ حتى تولَّتِ
فقد حَلَفَتْ جَهْداً بما نَحَرَتْ له ... قريشٌ غداةَ المأزمينِ وصَلَّتِ
وكانت لقطعِ الحبلِ بيني وبينها ... كناذرةٍ نَذْراً فأَوْفَتْ وحلَّتِ
فقلتُ لها يا عزّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يوماً لها النفسُ ذلَّتِ
ولم يلقَ إنسانٌ من الحبِّ ميعةً ... تعمُّ ولا غَمَّاءَ إلا تَجَلَّتِ
كأني أنادي صخرةً حين أعرضتْ ... من الصمِّ لو تمشي بها العُصْمُ زلَّتِ
صفوحاً فما تلقاكَ إلا بخيلةً ... فمن مَلَّ منها ذلك الوصلَ مَلَّتِ
أباحت حمىً لم يَرْعَهُ الناسُ قبلها ... وحلَّتْ تلاعاً لم تكن قبلُ حُلَّتِ
فما أنصفت أما النساءَ فبغَّضَتْ ... إلينا وأما بالنوالِ فضنَّتِ
يكلِّفها الخنزيرُ شتمي وما بها ... هواني ولكن للمليك استذلَّتِ
هنيئاً مَرِيئاً غيرَ داءٍ مخامرٍ ... لعزَّةَ من أعراضنا ما استحلَّتِ
ووالله ما قاربتُ إلا تباعَدَتْ ... بصرمٍٍ ولا أكثرتُ إلا أَقَلَّتِ
فإن تكنِ العُتْبَى فأهلاً ومرحباً ... وَحَقَّتْ لها العُتْبَى إلينا وقلَّتِ
وإن تكن الاخرى فإن وراءنا ... مناديحَ لو سارتْ بها العيسُ كَلَّتِ
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ... لدينا ولا مقليةً إن تقلَّتِ
وإني وإن صَدَّتْ لمئنٍ وصادق ... عليها بما كانت إلينا أزلَّتِ
فما أنا بالداعي لعزَّة بالردى ... ولا شامتٍ إن نعلُ عَزَّةَ زَلَّتِ
فلا يحسبِ الواشون أنَّ صبابتي ... بعزَّةَ كانت غَمْرَةً فتجلَّتِ
فيا عجباً للقلب كيف اعترافُهُ ... وللنفسِ لما وُطِّنَتْ كيف ذَلَّتِ
وإني وتهيامي بعزَّةَ بعدما ... تخلَّيْتُ مما بيننا وتخلَّتِ
لكالمرتجي ظلَّ الغمامةِ كلّما ... تبوا منها للمقيلِ اضمحلَّتِ
كأني وإياها سحابةُ مُمْحِلٍ ... رجاها فلما جاوزته استهلَّتِ
قال عبد الله بن أبي عبيد: قلت لأبي السائب المخزومي: ما أحسن عروة بن أذينة حيث يقول: من الكامل
لبثوا ثلاثَ منىً بمنزلِ غبطة ... وهمُ على غَرَضٍ هنالكَ ما همُ
متجاورين بغير دارِ إقامةٍ ... لو قد أجَدَّ رحيلُهُمْ لم يندموا
ولهنَّ بالبيتِ العتيقِ لبانةٌ ... والركنُ يعرفهنَّ لو يتكلمُ
لو كان حيَّاً قبلهنَّ ظعائناً ... حيَّا الحطيمُ وجوهَهُنَّ وزمزمُ
وكأنهنَّ وقد حَسَرْنَ لواغباً ... بَيْضٌ بأكنافِ الحطيمِ مُرْكَّمُ
قال: فقال: لا والله ما أحسن ولا أجمل، ولكنه أهجر وأخطل في صفتهن بهذه الصفة، ثم لا يندم على رحيلهن، أهكذا قال كثير حيث يقول: من الطويل

تَفَرَّقَ أهواءُ الحجيجِ على مِنىً ... وصَدَّعَهُمْ شعبُ النوى صُبْحَ أربعِ
فريقانِ منهم سالك بطنَ نخلةٍ ... وآخرُ منهم سالكٌ بطنَ تَضْرُعِ
فلم أر داراً مثلَها دارَ غبطةٍ ... وملقىً إذا التفَّ الحجيجُ بمجمعِ
أقلَّ مقيماً راضياً بمقامِهِ ... وأكثر جاراً ظاعناً لم يُوَدّعِ
انظر إليه تقدمت شهادته علمه، وكفى لسانه ببيانه، وهل يغتبط عاقل بمقام لا يرضى به، ولكن مكرهٌ أخوك لا بطل؛ والعرجي كان بالعهد اوفى منهما، وأولى بالصواب حين تعرض لها نافرةٌ من منىً، فقال لها عاتباً مستكيناً: من الكامل المرفل
عوجى عليَّ فسلّمي جَبْرُ ... ماذا الوقوفُ وأنتم سَفْرُ
ما نلتقي إلا ثلاث مني ... حتى يُفَرِّقَ بيننا النَّفْرُ
قال المدائني: انتجع أهل جنوب ناحية حسي والحمى، وقد أصابها الغيث وأمرعت، فلما أرادوا الرحيل وقف لهم مالك بن الصمصامة وجنوب هي بنت محصن الجعدية بنت عم مالك حتى إذا بلغته أخذ بخطام بعيرها ثم قال: من الطويل
أريتَكِ إذ أزمعتم اليومَ نيةً ... وغالكِ مصطافُ الحمى ومرابِعُهْ
أَتَرْعَيْنَ ما استُودِعْتِ أم أنت كالذي ... إذا ما نأى هانَتْ عليه ودائِعُهْ
فبكت وقالت: بل أرعى والله ما استودعت، ولا أكون كمن هانت عليه ودائعه، فأرسل بعيرها وبكى حتى سقط مغشياً عليه، وهي واقفة، ثم أفاق وهو يقول:
ألا إن حسياً دونَهُ قُلَّةُ الحمى ... مُنى النفسِ لو كانت تُنَالُ شرائِعُهْ
وكيف ومن دون الورودِ عوائقٌ ... وأصبغُ حامي ما أحبُّ ومانعُهْ
فلا أنا فيما صَدَّني عنه طامعٌ ... ولا أرتجي وَصْلَ الذي هو قاطعُهْ
قال بعضهم: رأيت امرأةً مستقبلةً البيت في غاية الضر والنحافة، رافعةً يديها تدعو، فقلت لها: هل من حاجةٍ؟ قالت: حاجتب أن تنادي في الموقف بقولي: من الطويل
تزوَّدَ كلُّ الناسِ زاداً يقيمهم ... وما ليَ زادٌ والسلامُ على نفسي
ففعلت، فإذا أنا بفتىً منهوك فقال: أما الزاد فمضيت به إليها، فما زادت على النظر والبكاء، ثم قالت له: تنصرف مصاحباً، فقلت: ما علمت أن لقاء كما يقتصر على هذا، فقالت: أمسك، اما علمت أن ركوب العار ودخول النار شديد؟! وقال الناجم: من الرجز
طالبتُ مَنْ شَرَّدَ نومي وَذَعَرْ ... بقبلةٍ تُحْسِنُ في القلبِ الأثَرْ
فقال لي مستعجلاً وما انتظر: ... ليس لغيرِ العين حظٌّ في القمر
أخذه من قول علي بن الجهم: من الطويل
وقلنَ لنا نحن الأهلةُ إنما ... نضيء لمن يسري بليلٍ ولا نقري
فلا نيلَ إلا ما تزوَّدَ ناظرٌ ... ولا وَصْلَ إلا بالخيالِ الذي يسري
وقال سليمان بن أبي دباكل الخزاعي: وقد وجدت بعض هذهه الأبيات في ديوان أبي ذؤيب: من الكامل
يا بيت خنساءَ الذي أَتَجَنَّب ... ذهب الشباب وحبّها لا يذهبُ
أصبحتُ أَمْنَحُكِ الصدودَ وإنني ... قسماً إليك على الصدودِ لأَجْنَبُ
مالي أحنُّ إذا جمالُكِ قُرِّبَتْ ... وأصدُّ عنك وأنتِ مني أقربُ
تبكي الحمامةُ شجوها فتهيجني ... ويروحُ عازبُ هَمِّيَ المتأوِّبُ
وتهبُّ ساريةُ الرياحِ من أرضكم ... فأرى الرياحَ لها تطلّ وتَجْنَبُ
وأرى الصديق يودّكم فأَودُّهُ ... إن كان يُنسَبُ منكِ أو لا ينسبُ
وأخالف الواشين فيكِ تجمّلاً ... وهمُ عليَّ أولو ضغائنَ ذُرَّبُ
ثم اتخذتهمُ عليَّ وليجةً ... حتى غضبتُ ومثلُ ذلك يُغضبُ
وأرى السَّميَّةَ باسمكم فيزيدني ... شوقاً إليكِ حنانُكِ المُتَنَسَّبُ
وقال يزيد بن الطثرية: من الكامل
بنفسي مَنْ لو مَرَّ بَرْدُ بنانِهِ ... على كبدي كانت شفاءً أنامِلُهْ
ومَنْ هابَني في كلِّ أمرٍ وهبتُهُ ... فلا هُوَ يعطيني ولا أنا سائِلُهْ
وقال أيضاً: من الطويل

عقيلية أمّا مَلأَت إزارِهَا ... فَدِعْصٌ وأما خَصْرُهَا فَبَتيلُ
تَقيظُ بأكنافِ الحمى وَيُظِلُّها ... بِنَعْمانَ من وادي الأراكِ مَقيلُ
أليس قليلاً نظرةٌ إن نظرتها ... إليكِ وكَلاَّ ليس منكِ قليلُ
فيا خُلَّةَ النفسِ التي ليس دونَها ... لنا من أِخِلاَّءِ الصفاءِ خليلُ
ويا مَنْ كتمنا حُبَّهُ لم يُطَعْ به ... عدوٌ ولم يُؤْمَنْ عليه دخيلُ
أما مِنْ مقامٍ أشتكي غُرْبَةَ النوى ... وخوفَ العدا فيه إِليك سبيلُ
فديتكِ أعدائي كثيرٌ وشُقَّتي ... بعيدٌ عِلاَّتي فكيف أقولُ
فما كلَّ يومٍ لي بأرضكِ حاجةٌ ... ولا كلَّ وقتٍ لي إليكِ رسولُ
صحائفُ عندي للعتابِ طويتها ... ستُنْشَرُ يوماً والعتابُ يطولُ
فلا تحملي إثمي وأنتِ ضعيفةٌ ... فحملُ دمي يومَ الحسابِ ثقيلُ
قيل لما تأيمت عائشة بنت طلحة كانت تقيم بمكة سنةً وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال عظيم لها بالطائف، وقصرٍ كان لها هناك تتنزه فيه، وتجلس فيه بالعشيات تناضل بين الرامة، فمر بها النميري لاشاعر، فسألت عنه فنسب لها، فقالت ائتوني به، فأتوا به، فقالت له: أنشدني مما قلت في زينب، تعني زينب بنت يوسف أخت الحجاج بن يوسف، وكان النميري يتعشقها، وهو محمد بن عبد الله بن نمير من ثقيف، فامتنع عليها، وقال: بنت عمي وقد صارت عظاماً باليةً، قالت: أقسمت عليك إلا فعلت، فأنشدها قوله، وهي أبيات ذكرت ها هنا مختارها: من الطويل
تضوَّعَ مسكاً بطنُ نعمانَ أن مَشَتْ ... به زبيبٌ في نسوةٍ عطراتِ
فأصبح ما بين الهماءِ وجدوة ... إلى الماءِ ماءِ الجزعِ ذي العُشَراتِ
له أرَجٌ من مجمر الهندِ ساطعٌ ... تظلعُ ريّاهُ من الكَفِراتِ
تهادَيْنَ ما بين المحصَّبِ من منىً ... وأقبلنَ لا شُعْثاً ولا غَبِراتِ
مررْنَ بِفَخٍّ رائحاتٍ عشيةً ... يُلَبِّينَ للرحمن معتمراتِ
يخَمِّرْنَ أطرافَ البنانِ من التُّقى ... ويخرجنَ جُنْحَ الليلِ مُعتجراتِ
تقسم لُبِّي يومَ نَعمانَ إنني ... رأيتُ فؤادي عارمَ النظراتِ
جَلَوْنَ وجوهاً لم تَلُحْهَا سمائمٌ ... حَرورٌ ولم يُسْفَعْنَ بالسَّبراتِ
قالت: والله ما قلت إلا جميلاً، ولا ذكرت إلا كرماً وطيباً، ولا وصفت إلا ديناً وتقىً، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها، فقالت: علي به، فجاءها فقالت له: انشدني من شعرك في زينب، فقال لها: أو أنشدك من شعر الحارث بن خالد فيك، فوثب مواليها إليه، فقالت: دعوه، فإنه أراد أن يستقيد لبنت عمه، هات مما قال الحارث، فأنشدها: من الكامل المرفل
ظعن الأميرُ بأحْسَنِ الخلق ... وغدوا بلبكَ مطلعَ الشرقِ
في البيت ذي الحسب الرفيع ومن ... أهل التقى والبرّ والصدقِ
أترجَّةٌ عبق العبيرُ بها ... عَبَق الدهانِ بجانب الحُقِّ
ما صَبَّحَتْ أحداً برؤيتها ... إلا غدا بكواكب الطلقِ
فقالت: والله ما ذكر إلا جميلاً، ذكر أني إذا صبحت زوجاً غداً بوجهي، غدا بكواكب الطلق، وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى المشرق، وأني احسن الخلق في البيت ذي الحسب الرفيع، أعطوه ألف درهم واكسوه حلتين، ولا تعد تأتينا يا نميري.
وكان الحارث بن خالد المخزومي مع منصبه وشرفه وفضله شديد الغزل، خالعاً فيه العذار، ولاه عبد الملك بن مروان مكة، فأذن له المؤذن وخرج إلى الصلاة، فأرسلت إليه عائشة بنت طلحة أن بقي م طوافي شيء لم أتمه، فأمر الؤذنين فكفوا عن الإقامة حتى فرغت من طوافها، والناس يصيحون به ويضجون، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فعزله، وكتب إليه يؤنبه فيما فعل، فقال: ما أهون والله غضبه علي إذا رضيت عائشة، والله لو لم تفرغ من طوافها إلى الليل لأخرت الصلاة إلى الليل.

وكانت العرب في جاهليتها وإسلامها مع شدة بأسها وغلظ أكبادها ترق عند الغزل وتلين، حتى مات كثير منهم كمداً وشغفاً، وكانت تستحسن منه ما هو مستهجن عند غيرها من طوائف الأمم، ألا ترى أن الشاعر منهم كان ينسب بالمرأة الجليلة ذات الحسب والعشيرة المنيعة، فلا ينكرون ذلك ولا يغيرونه حتى كانوا ينسبون بنساء الملوك، فلا يكون منهم له نكير. ذكر النابغة الذبياني المتجردة زوجة النعمان بن المنذر في شعره، فقال قصيدة أولها: من الكامل
أَمِن آل مَيَّةَ رائحٌ أو مغتدي ... عجلانَ ذا زادٍ وغيرَ مُزَوَّدِ
ووصف أعضاءها وأفحش حتى قال:
وإذا طعنتَ طعنتَ في مستهدفٍ ... رابي المجسَّةِ بالعبيرِ مُقَرْمَدِ
وهي أبياتٌ قد كتبتها في مكان آخر من هذا الكتاب، وأنشدها النعمان غير مراقب، فقال بعض أعدائه: ما يستطيع أن يقول ذلك إلا من جرب، فأغراه به.
وتنسب أبو دهبل الجمحي بعاتكة بنت معاوية بن أبي سفيان، فاحتمله معاوية ووصله وزوجه ليكف ويقطع القالة عن ابنته.
روي أن عاتكة بنت معاوية حجت فنزلت بذي طوى، فمر بها أبو دهبل الجمحي في وقت الهاجرة وهي غافلةٌ عنه، فوقف ينظر إليها، فلما تنبهت له شتمته فانصرف، وقال فيها الشعر، فبلغها فضحكت وبعثت إليه بكسوة، وجرت الرسل بينهما، وكان أبو دهبل من اجمل الناس، فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشام، فنزل قريباً منها، وكانت تعاهده بالبر والألطاف، حتى دخلت دمشق وورد معها، فانقطعت عن لقائه، وبعد من أن يراها، ومرض بدمشق مرضاً طويلاً وقال في ذلك: من الخفيف
طال ليلي وبتُّ كالمحزونِ ... ومللتُ المقام في جيرونِ
وأطلت المقامَ بالشام حتى ... ظنَّ أهلي مُرَجَّماتِ الظنونِ
فبكت خشيةَ التفرّقِ جُمْلٌ ... كبكاءِ القرينِ إثْرَ القرينِ
وهي زهراء مثلُ لؤلؤة الغوْ ... واص مِيزَتْ من جوهر مكنونِ
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناءٍ من المكارم دونِ
تجعل المسك واليلنجوج والندْ ... دَ صلاءً لها على الكانونِ
ثم خاصرتها إلى القبّة البي ... ضاءِ تمشي في مرمرٍ مسنونِ
قبّةٌ في مراجلٍ ضربوها ... عند بَرْدِ الشتاءِ في قيطونِ
عن يساري إذا دخلتُ من البا ... بِ وإن كنتُ خارجا فيميني
ثم فارقتها على خير ما كا ... ن قرينٌ مقارنا لقرينِ
ولقد قلتُ إذا تطاول ليلي ... وتقلّبتُ ليلتي في فنونِ
ليت شعري أمن هوىً طار نومي ... أم براني الباري قصير الجفونِ
وشاع هذا الشعر حتى بلغ معاوية فأمسك عنه، حتى إذا كان يوم الجمعة دخل عليه النس وفيهم أبو دهبل، فقال معاوية لحاجبه: إذا أراد أبو دهبل الخروج فامنعه واردده إلي، وجعل الناس يسلمون وينصرفون، فقام أبو دهبل لينصرف،ن فناداه معاوية: يا أبا دهبل هلم إلي، فلما دنا أجلسه حتى خلا به، ثم قال: ما ظننت في قريش أشعر منك حيث تقول: ولقد قلتُ إذا تطاول ليلي وذكر بعض الأبيات، ووالله إن فتاة أبوها معاوية، وجدها أبو سفيان، وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت، فأي شيء زدت في قدرها، ولقد أسأت والله في قولك: ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء. فقال له أمير المؤمنين: والله ما قلت هذا،ن وإنما قيل على لساني، فقال له معاوية: أما من جهتي فلا خوف عليك لأني أعلم صيانة ابنتي نفسها، وأعلم أن فتيان الشعراء لم يتركوا أن يقولوا النسيب في كل من جاز أن يقولوه فيه، وكل من لم يجز، وإنما أكره لك جوار يزيد، وأخاف عليك وثباته، فإن له سورة الشباب وانفة الملوك. وإنما أراد معاوية أن يهرب أبو دهبل وتنقضي القالة على ابنته. فحذر أبو دهبل وخرج إلى مكة هاربا على وجهه، وكان يكاتب عاتكة، فبينما معاوية ذات يوم في مجلسه إذ جاء خصي فقال له: يا أمير المؤمنين والله لقد سقط اليوم إلى عاتكة كتاب، فلما قرأته بكت ثم أخذته فجعلته تحت مصلاها،ن وما زالت خاثرة النفس منذ اليوم، فقال له: اذهب والطف لهذا الكتاب حتى تأتيني به، فانطق الخصي فلم يزل حتى أصاب منها غرة، فأخذ الكتاب وأقبل به إلى معاوية وإذا فيه: من الطويل

أعاتكَ هلاَّ إذ بخلت فلم ترى ... لذي صبوة زُلْفَي لديكِ ولا حَقّا
رددتِ فؤادا قد تولَّى به الهوى ... وسكَّنْتِ عينا لا تملّ ولا ترقا
ولكن خلعتِ القلبَ بالوعد والمنى ... ولم أرَ يوماً منكِ جودا ولا صدقا
أتنسين أيامي بربعكِ مدنفا ... صريعا بأرض الشام ذا جسد ملقى
وليس صديقٌ يُرْتَضَى لوصِيَّةٍ ... وأدعو لأُوتى بالشرابِ فما أسقى
وأكبر همي أن أرى لك مرسلا ... وطول نهاري جالسٌ أرقبُ الطرقا
فوا كبدي إذ ليس لي منكِ مجلسٌ ... فأشكو الذي بي من هواكِ وما ألقى
رأيتك تزدادين للصبِّ غلظةً ... ويزداد قلبي كلَّ يوم لكم عشقا
فلما قرأ معاوية هذا الشعر، بعث إلى يزيد بن معاوية، فأتاه فدخل عليه، فوجده مطرقا، فقال: يا أمير المؤمنين ماهذا الإطراق الذي شجاك؟ فقال: أمرٌ أرمني وأقلقني منذ اليوم، وما أدري ما أنتم في شأنه، قال: وما هو؟ قال: هذا الفاسق أبو دهبل كتب هذه الأبيات لأختك عاتكة، ولم تزل باكيةً منذ اليوم، وقد أفسدها فما ترى فيه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين إن الشان في أمره لهينٌ، قال: وما هو؟ قال: عبدٌ من عبيدك يكمن له في أزقة مكة فيريحنا منه، فقال له معاوية: أف لك، والله إن امرءاً يريد بك ما يريد، ويسمو بك إلى ما يسمو لغير ذي رأي، وأنت قد ضاق ذرعك بكلمةٍ، وقصر فيها باعك أردت أن تقتل رجلاً من قريش، وأما تعلم أنك إن فعلت ذلك صدقت قوله وجعلتنا أحدوثة أبداً! قال: يا أمير المؤمنين إنه قد قال قصيدة أخرى، فأنشدها أهل مكة، وسارت حتى بلغتني وأوجعتني، وحملتني على ما أشرت فيه، قال وما هي؟ قال: قال: من الطويل
ألا لا تقل مهلاً فقد ذهب المهلُ ... وما كلّ مَنْ يَلْحَى محبّاً له عقلُ
لقد كان في حالين ولم أزرْ ... هوايَ وإن خُوِّفْتُ عن حبها شغلُ
حمى الملكُ الجبارُ عني لقاءَها ... فمن دونها تُخْشَى المتالفُ والقتلُ
فلا خير في حبٍّ نخافُ وَبَالَهُ ... ولا في حبيب لا يكونُ له وصلُ
فواكبدي إني شهرتُ بحبها ... ولم يكُ فيما بيننا ساعةً بذلُ
ويا عجبا إني أكاتمُ حبّها ... وقد شاع حتى قُطِّعَتْ دونها السبلُ
قال له: قد والله رفهت عني، والله ما كنت آمن أن يكون قد وصل إليها، أما الآن، وهو يشكو أنه لم يكن بينهما وصلٌ ولا بذل، فالخطب فيه يسير، قم عني وانصرف.
وحج معاوية في تلك السنة، فلما انقضت أيام الحج كتب اسماء وجوه قريش وأشرافهم وشعرائهم، وكتب فيهم اسم أبي دهبل، ثم دعا بهم، ففرق في جميعهم صلات سنية، وأجازهم جوائز كثيرة، فلما قبض أبو دهبل جائزته وقام لينصرف دعا به معاوية، فرجع إليه، فقال: يا أبا دهبل، مالي أرى أبا خالد يزيد بن معاوية ابن أمير المؤمنين عليك ساخطاً في قوارص تأتيه عنك، وشعر تزال قد نطقت به وأنفذته إلى خصياننا وموالينا؟ لا تعترض لأبي خالد. فجعل يعتذر إليه، ويحلف أنه مكذوبٌ عليه. فقال له معاوية: لا بأس عليك، وما يضرك هذا عندنا، هل تأهلت؟قال: لا، قال: فأي بنات عمك أحب إليك؟ قال: فلانة، قال: قد زوجكها أمير المؤمنين وأصدقها ألفي دينار، فلما قبضها قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عما مضى، فإن نطقت ببيتٍ في معنى ما سبق فقد أبحت دمي، وفلانة التي زوجتنيها طالق البتة، فسر بذلك معاوية، وضمن له رضى يزيد عنه، ووعده بإدرار ما وصله به في كل سنة، فانصرف إلى دمشق، ولم يحج معاوية في تلك السنة إلا من أجل أبي دهبل.

ومن حلاوة الهوى والغزل عندهم وضعوا أخباراً واشعاراً نسبوها إلى المجنون وغيره، ومما نسب إلى المجنون: أنه لما اختلط في حب ليلى، قيل لأبيه احجج إلى مكة وادع الله عز وجل، ومره أن يتعلق بأستار الكعبة، واسأل الله أن يعافيه مما به، ويبغض ليلى إليه، فلعل الله عز وجل أن يخلصه من هذا البلاء، فحج به أبوه، فلما صاروا بمنى سمع صائحاً في الليل يصيح: يا ليلى، فصرخ صرخة ظنوا أن نفسه قد تلفت، وسقط مغشياً عليه، فلم يزل كلك حتى أصبح، وقال له أبوه: تعلق بأستار الكعبة، واسأل الله عز وجل أن يعافيك من حب ليلى، فتعلق بالأستار وقال: اللهم زدني لليلى حباً وبها كلفاً، ولا تنسني ذكرها أبداً، فهام حينئذ واختلط ولم يضبط، فكان يهيم في البرية مع الوحش.
وروي أنه مر بزوج ليلى وهو جالسٌ يصلي في يومٍ شاتٍ، فوقف عليه ثم قال: من الوافر
بربِّكَ هل ضممتَ إليك ليلى ... قُبَيلَ الصبحِ أو قَبَّلْتَ فاها
وهل رَفَّتْ عليكَ قرونُ ليلى ... رفيفَ الأقحوانةِ في نداها
فقال له: اللهم إذ حلفتني فنعم؛ فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من نار فما فارقهما حتى سقط مغشياً عليه، وسقط الجمر مع لحم راحتيه، فقام زوج ليلى مغموماً بفعله متعجباً.
والاخبار المنسوبة إلى المجنون كثيرة، وهي تخرج عن المعنى الذي قصدت.
وأعود إلى مستحسن الأشعار في المعنى، فمن ذلك قول جرير من الطويل
كأنّ عيونَ المجتلينَ تَعَرَّضَتْ ... لشمسٍ تَجَلَّى يومَ دَجْنٍ سَحَابُها
إذا ذُكِرَتْ للقلب كاد لذكرِهَا ... يطيرُ إليها واعتراهُ عذابُها
حمى أَهْلُها ما كان منّا وأصبحت ... سواءٌ علينا نأيُها واقترابُها
وقال ذو الرمة: من الطويل
عَدَتْني العوادي عنكِ يا ميّ بُرْهةً ... وقد يُلْتَوى دون الحبيبِ فَيُهْجَرُ
على أنني في كلِّ سيرٍ أسيرُهُ ... وفي نَظَري من نحوِ أرضك أَصْوَرُ
فإن تُحْدِثِ الأيامُ يا ميُّ بيننا ... فلا ناشرٌ سِرّاً ولا متغيّرُ
أقولُ لنفسي كلما خفتُ هَفْوَةً ... من القلب في آثارِ ميّ فأُكثرُ
ألا إنما ميٌّ فصبراً بليَّةٌ ... وقد يُبْتَلَى المرءُ الكريمُ فيصبرُ
وقال أيضاً: من الطويل
وقفنا فقلنا إيهِ عن أمِّ سالمٍ ... وما بالُ تكليمِ الديارِ البلاقعِ
فما كلَّمتْنَا دارُهَا غيرَ أنَّها ... ثنت هاجساتٍ من خَبَالٍ مُراجعِ
عَفَتْ غيرَ آجالِ الصَّريمِ وقد يُرَى ... بها وُضَّحُ اللبَّاتِ حورُ المدامعِ
إذا الفاحشُ المغيار لم يَرْتَقِبْنَهُ ... مددنَ حبالَ المطمعاتِ الموانعِ
فما القربُ يشفي من هوى أم سالمٍ ... وما البعدُ منها من دواءٍ بنافعِ
من البيض مِبْهاجٌ عليها ملاحةٌ ... نضارٌ ورَوْعَاتُ الحسانِ الروائعِ
هي الشمسُ إشراقاً إذا ما تَزَيَّنَتْ ... وشبهُ النَّقا مغترَّةً في الموادعِ
ولما تلاقينا جَرَتْ من عيوننا ... دموعٌ كففنا فيضَها بالأصابعِ
ونِلْنا سِقَاطاً من حديثٍ كأنه ... جَنَى النحلِ ممزوجاً بماءِ الوقائعِ
وقال أبو ذؤيب الهذلي: من الطويل
أبى القلبُ إلا أمَّ عمروٍ فأصبحتْ ... تُحَرَّقُ ناري بالشَّكاةِ ونارُهَا
وعَيَّرَها الواشونَ أني أُحِبُّها ... وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنكِ عارها
فإن أعتذرْ منها فإني مُكَذَّبٌ ... وإن تعتذرْ يُرَدَدْ عليها اعتذارُها
فلا يهنأُ الواشين أن قد هجرتها ... وأظلم دوني ليلها ونهارُها
فما أمّ خِشْفٍ بالعلايةِ مُشْدِنٍ ... تنوشُ البير حيث نال اهتصارُهَا
بأحسنَ منها يومَ قامتْ فأَعْرَضَتْ ... تواري الدموعَ حيث جدَّ انحدارُها
ومما ينسب إلى قيس بن الملوح المجنون: من الطويل
دعا المُحْرِمونَ الله يستغفرونه ... بمكةَ يوماً كي تُمَحَّى ذنوبُها

وناديتُ يا مولايَ أوّلُ حاجةٍ ... بنفسي ليلى ثم أنت حسيبُها
تمرّ الصبا صفحاً بساكنِ ذي الغضا ... ويصدعُ قلبي أن يهبَّ هبوبُها
قريةُ عهدٍ بالحبيبِ وإنما ... هوى كلِّ نفسٍ حيث حلَّ حبيبُها
وقال رجل من بني الحارث: من الطويل
مُنى إن تكنْ حقاً تكنْ أحسنَ المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
أمانيُّ من سلمى حسانٌ كأنما ... سَقَتْكَ بها سلمى على ظمإِ بردا
وقال ابن ياسين: من الطويل
إلهي منحت الودَّ مني بخيلةً ... وأنتَ على تغيير ذاك قديرُ
شفاءُ الجوى بثُّ الهوى واشتكاؤه ... وإن امرءاً أخفَى الهوى لصبورُ
وينشد للصمة: من البسيط
تختالُ عينيَ في يوميك واجدةً ... تبكي لفرطِ صدودٍ أو نوى دارِ
وقال آخر: من الطويل
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عَسَلٌ مني وتبذلُ عَلْقَما
أفي الله أن أُنسى ولا تذكرينني ... وعيناي من ذكراكِ قد ذرفت دما
أبيت فما تنفكُّ لي منك حاجةٌ ... رمى الله بالحبِّ الذي كان أظلما
عبد العزيز بن خلوف النحوي المغربي: من الكامل
إنّ التي فتنته وَدَّ حُمَاتُها ... لو تستعير سيوفُهُمْ لحظاتِها
الجانياتُ هوىً أمرَّ مَذَاقَةً ... من صدِّها وألذَّ من رَشَفاتِها
الواقعات بنا نوافذ تلتقي ... في القلب أكلمها وحبّ رماتِها
إني لأرضى أن أبيعَ بلحظةٍ ... منها مدامعَ مقلتي وسناتِها
إن الأمرَّ من الحمام مذاقةً ... لفراق دنيا تلك من لذاتِها
بيني وبين سُلُوِّها ما بيتها ... في حُسْنِ صورتِها وحُسْنِ لِدَاتِهَا
وقال الأحوص بن محمد: من الطويل
لقد منعتْ معروفَها أمُّ جعفر ... وإني إلى معروفِها لفقيرُ
وقد أنكرتْ بعدَ اعترافٍ زيارتي ... وقد وَغِرَتْ فيها عليَّ صدورُ
أدورُ ولولا أن أرَى أمَّ جعفر ... بأبياتكم ما دُرْتُ حيثُ أدورُ
أزورُ البيوتَ اللاصقاتِ بأرضِها ... وقلبي إلى البيت الذي لا أزورُ
وما كنتُ زوّاراً ولكنَّ ذا الهوى ... إذا لم يُزَرْ لا بدَّ أن سيزورُ
وقال أبو إسحاق الحصري الأنصاري المغربي: من الكامل المجزوء
هتفت سحيراً والربى ... للقطر رافعةُ العيونِ
يا هل بكيت كما بَكَتْ ... ورقُ الحمائمِ في الغصونِ
ذكّرنني عهداً مضى ... للأنس منقطعَ القرينِ
فكأنما صاغت على ... شجوي شجَى تلكَ اللحونِ
وتصرَّمت أيامه ... فكأنها رَجْعُ الجفونِ
وقال آخر: من الطويل
وددتكِ لما كان حُبُّكِ خالصاً ... وأعرضتُ لما صار نهباً مُقَسَّما
ولا يلبثُ الحوضُ الجديدُ بناؤه ... على كثرةِ الورّادِ أن يتهدَّما
قال بعض العرب لبنيه: صفوا لي شهواتكم من النساء، فقال الأكبر: تعجبني القدود والخدود والنهود، وقال الاوسط: تعجبني الأطراف والاعطاف والأرداف، وقال الأصغر: تعجبني الثغور والنحور والشعور.
روي أن سكينة بنت الحسين مرت بعروة بن أذينة، فقالت: يا أبا عامر أنت الذي تقول: من البسيط
إذا وجدتُ أُوارَ الحبِّ في كبدي ... أقبلتُ نحو سقاءِ القومِ أبْتَرِدُ
هبني تبرّدتُ بردَ الماء ظاهره ... فمن لنارِ على الأحشاء تتّقدُ
وأنت القائل: من البسيط
قالتْ وابثثتها وَجْدي فبحتُ به ... قد كنتَ عندي تحب السترَ فاستترِ
ألستَ تبصرُ مَنْ حولي فقلتُ لها ... غطَّى هواكِ وما ألقى على بصري
قال: نعم، قالت: هن حرائر وأشارت إلى جواريها إن كان هذا خرج من قلب سليم.
أنشد الجاحظ: من الكامل المرفل
قامت تخاصرني لِقُبَّتِها ... خودٌ تأطَّرُ غادةٌ بكرُ
كلٌّ يَرَى أنّ الشباب له ... في كلِّ مبلغِ لذّةٍ عذرُ
وقال الحسن بن هانئ: من المديد

ظنَّ بي مَنْ قد كلفتُ به ... فهو يجفوني على الظَّنَنِ
نام لا يعنيه ما لقيتُ ... عينُ ممنوعٍ من الوسنِ
رشأ لولا ملاحته ... خلَتِ الدنيا من الفِتَنِ
كلَّ يوم يَسْترِقُّ له ... حُسْنُهُ عبداً بلا ثمنِ
وقال أبو الطيب: من الطويل
لعينيكِ ما يَلْقَى الفؤادُ وما لقي ... وللحبِّ ما لم يبقَ مني وما بقي
وبينَ الرضى والسُّخْطِ والقربِ والنَّوى ... مجالٌ لدمعِ المقلةِ المترقرقِ
وأحلى الهوى ما شكَّ في الوصلِ رَبُّهُ ... وفي الهجرِ فهو الدهرَ يرجو ويتَّقي
وقال البحتري: من الكامل
أرسومُ دارٍ أم سطورُ كتابِ ... ذهبتْ بشاشتُها مع الأحقابِ
يجتازُ زائرُها بغيرِ لُبانَةٍ ... وَيُرَدُّ سائلُها بغيرِ جوابِ
ولربّما كان المكانُ محبَّباً ... فينا بمَن فيه منَ الأحبابِ
ترنو فتنقلبُ القلوبُ للحظها ... مَرْضَى السلوِّ صحائحَ الأوْصَابِ
رَفَعَتْ من السجفِ المنيفِ وسلَّمَتْ ... بأناملٍ فيهنّ دَرْسُ خضابِ
وتعجَّبَتْ من لوعتي فتبسَّمَتْ ... عن واضحاتٍ لو لُثِمْنَ عِذَابِ
لو تُسعفينَ وما سألتُ مشقةً ... لَعَدَلْتِ حَرَّ جوىً ببردِ رضابِ
ولئن شكوتُ ظماي إنك لَلَّتي ... قدماً جعلتِ من السَّرابِ شرابي
وقال أيضاً: من الطويل
تمادَى بها وَجْدِي وَمُلِّكَ وَصْلَها ... خَلِي الحشا في وصلها جدُّ زاهدِ
وما الناسُ إلا واجدٌ غيرُ مالكٍ ... لما يبتغي أو مالكٌ غيرُ واجِدِ
وقال أيضاً: من الكامل
لغريرةٍ أدنو وتُبْعِدُ في الهوى ... وأجودُ بالوصلِ المصونِ وتبخلُ
وعليلةِ الألحاظِ ناعمةِ الصبا ... غَرِيَ الوشاةُ بها ولجَّ العُذَّلُ
لا تُكْذَبِنَّ فأنتِ ألطف في الحشا ... عهداً وأحسنُ في الضميرِ وأجملُ
لو شئتِ عُدْتِ إلى التناصف في الهوى ... وبذلتِ من مكنونِهِ ما أبذلُ
أحنو عليكِ وفي فؤادي لوعةٌ ... وأصدُّ عنكِ ووجهُ ودّي مقبلُ
وإذا هممتُ بوصلِ غيرِكِ ردَّني ... وَلَهي عليكِ وشافعٌ لك أَوَّلُ
وأعِزُّ ثم أذِلُّ ذلَّةَ عاشِقٍ ... والحبُّ فيه تَعَزُّزٌ وتَذَلُّلُ
وقال أيضاً: من المتقارب
أحبُّ على أيِّ ما حالةٍ ... إساءَةَ ليلى وإحسانَها
أراكِ وإن كنتِ ظلاَّمة ... صفيَّةَ نفسي وخلاّنَها
وَيُعْجبني فيك أن أستديم ... صباباتِ نفسي وأَشجانَها
وما سرَّني أن قلبي أعير ... عزاءَ القلوبِ وَسُلْوانَها
وقال أبو تمام: من البسيط
ما أَقْبَلَتْ أَوْجُهُ اللذّاتِ سافرةً ... مذ أدبرت ْباللوى أيامنا الأٌوَلُ
إن شئتَ أن لا ترى صبراً لمصطبرٍ ... فانظر على أيِّ حالٍ أصبحَ الطللُ
كانما جادَ مَغْنَاهُ فغيَّره ... دموعنا يومَ بانوا وهي تنهملُ
وقال أيضاً: من الوافر
أرامة كنتِ مألفَ كلِّ ريمِ ... لو استمتعتِ بالأُنسِ القديمِ
أدارَ البؤسِ غيرّكِ التصابي ... إليَّ فصرتِ جنَّاتِ النعيمِ
لئن أصبحتِ ميدانَ السَّوافي ... لقد أصبحتِ ميدانَ الهمومِ
ومما ضَرَّمَ البُرَحاءَ أنّي ... شكوتُ فما شكوتُ إلى رحيمِ
أظنُّ الدمعَ في خدِّي سيبقى ... رسوماً من بكائي في الرسومِ
وليلٍ بتُّ أكلاُّهُ كأني ... سليمٌ أو سهرتُ على سليمِ
فأقسمُ لو سألتِ دُجَاهُ عنّي ... لقد أنباكِ عن وَجْدٍ عظيمِ
وقال ابن الرومي: من الطويل
ثنى شَوْقَهُ والمرءُ يصحو ويَسْكَرُ ... رسومٌ كأخلاقِ الصحائفِ دُثَّرُ

لأيدي البِلَى فيها سطورٌ مُبنيةٌ ... عبارتها أن كلُّ بيتٍ سيهجرُ
وقفتُ بها صحبي فظلَّتْ عراصُهُمْ ... بدمعي وأنفاسي تراح وتمطر
وقال أيضاً: من المنسرح
مُذْ صِرْت همّي في النوم واليَقَظَةْ ... أتعبْتُ مما اهذي بك الحَفَظَهْ
كم واعظٍ فيك لي وواعظةٍ ... لو كنت ممّن تنهاه فيك عظه
وكيف بالصبرِ عنك يا حَسَناً ... يأمرُ بالسيّئاتِ من لحظه
يا مَنْ حَلا في الفؤادِ منظرُهُ الحلوفما مَجَّهُ ولا لفظه
ويحي إلى كم تصيدُ رقته ... قلبي وقلبٍ كم أشتكي غلظه
وقال أيضاً: من الطويل
جعلتُ لها صدري مَراداً تروده ... وبَّوأتُها من حَبَّةِ القلبِ منزلا
فما عَلِقَتْ من قبلها النفسُ مَعْلَقاً ... ولا اتخذتْ من بعدها مُتَعَلَّلا
وقال: من الكامل
نظرتْ فأَقْصَدَتِ الفؤادَ بسهمِها ... ثم انثنتْ عني فكدتُ أهيمُ
ويلاهُ إن نظرتْ وإن هيَ أعرضتْ ... وَقْعُ السهامِ ونزعهنَّ أليمُ
وقال أبو عثمان الخالدي: من البسيط
أنباكَ شاهدُ أمري عن مُغَيَّبِهِ ... وَجَدَّ جِدُّ الهوى بي في تَلَعُّبِه
يا نازحاً نَزَحَتْ دمعي قطيعتُهُ ... هَبْ لي من الدمعِ ما أبكي عليك به
ولي فؤادٌ إذا لَجَّ الغرامُ به ... هام اشتياقاً إلى ذكرى مُعَذِّبه
وقال أبو بكر اليوسفي: من الطويل
سقى البارقُ العُلويُّ عذباً من الحيا ... محلَّتنا بين العُذَيْبِ وبارقِ
وأَغْنَى مغانيها وأرضَى رياضَها ... وشقَّ بلطم القَطْرِ خدَّ الشقائقِ
محلةُ إيناسٍ ومغنى أوانسٍ ... ومركزُ راياتٍ ومرعى أيانقِ
فيا يومها كم من منافٍ منافقٍ ... ويا ليلَها كم من موافٍ موافقِ
ومنها:
فلم أنتبه إلا وذكراك صاحبي ... ولم أغتمضْ إلا وطيفك طارقي
أغار على رياكِ من كلِّ ناشقٍ ... لها وعلى ذكراكِ من كلِّ ناطقِ
وقال ابن نباتة: من الكامل المجزوء
كيف السلوُّ واين بابُهْ ... والحيُّ قد خَطَفَتْ ركابُهْ
زعمَ المخبرُ أنه ... ضُرِبَتْ على سَلْعٍ قبابُهْ
فطلبتهم كالأيْمِ أو ... كالسيلِ في الليلِ انسيابُهْ
فإذا أَحَمُّ المقلتي ... ن يشينُ أنمُلَهُ خضابُهْ
يهتزُّ مثل السمهريّ ... تدافعتْ فيه كِعَابُهْ
وقف الولائدُ دونه ... كالقلبِ يسترُهُ حجابُهْ
أقبلتُ أسأله وأع ... لمُ أنَّ حرماني جوابُهْ
ويلي على متلوّن ال ... أخلاقِ يعجبُهُ شبابُهْ
لا رسله تترى إلي ... نا بالسلامِ ولا كتابُهْ
وقال أيضاً: من الطويل
وبدرِ تمامٍ بتّ ألثمُ رجلَهُ ... وأكبره عن أنْ أقبّلَ خَدَّهُ
تعشّقتُ فيه كلَّ شيءْ يحبُّهُ ... من الجورِ حتى صرت أعشق صدَّهُ
ولا بدَّ لي من جَهْلَةٍ في وصالِه ... فمن لي بخلٍّ أُوْدِعُ الحلمَ عندَهُ
وقال أبو الحسن السلامي: من الكامل
أنسيمُ هل للصلحِ عندكَ موضع ... فيزورَ طيفٌ أو يَهُبَّ نسيم
والشيبُ دونك وهو موتٌ مضمرٌ ... والهجرُ وهو تفرُّقٌ مكتومُ
وقال من أبيات: من الوافر
وسمّوه مع القربى غريباً ... كنور العين سمّوه سوادا
كان سعيد بن حميد الكاتب ينعشق فضل الشاعرة مولاة المتوكل وتهواه، فكتبت إليه تعاتبه على حضوره مع مغنية وتجميشه إياها، وكتبت في آخرها: من الخفيف
خنتَ عهدي وليس ذاك جزائي ... يا صناعَ اللسانِ مُرَّ الفعالِ
وتبدَّلْتَ بي بديلاً فلا يه ... نَك ما اخترتَهُ من الأبدالِ
فأجابها يعتذر بجواب طويل، وكتب في آخره: من الطويل

تظنُّونَ أني قد تبدّلتُ بعدكم ... بديلاً وبعضُ الظنِّ إثمٌ ومنكرُ
إذا كان قلبي في يديك رهينةً ... فكيف بلا قلب أصافي وأهجرُ
وقال أبو الفرج الدمشقي المعروف بالوأواء: من الطويل
رعى اللهُ مَنْ لم يرعَ لي ما رعيتُهُ ... وإن كان في كفِّ المنيَّةِ مُودِعي
فيا أسفي زِدْني جوىً كلّ ليلة ... ويا كبدي وَجْداً عليه تقطّعي
وقال أيضاً: من البسيط
هبني أخادعُ طرفي في تأمُّلِهِ ... فكيف أخدَعُ قلباً ليس ينخدعُ
يا مَنْ إذا رُمْتُ عنه الصبرَ يمنعني ... شوقٌ مجيبٌ وصبرٌ عنه ممتنعُ
وقال العباس بن الأحنف: من المنسرح
أُحْرَمُ منكم بما أقولُ وقد ... نال به العاشقونَ من عشقوا
صرتُ كأني ذبالةٌ نُصِبَتْ ... تضيءُ للناسِ وهي تحترقُ
وقال المرتضى أبو القاسم الموسوي: من الطويل
فيا ربِّ إن لَقَّيْتَ وجهاً تحيةً ... فحيِّ وجوهاً بالمدينةِ سُهَّمَا
تجافينَ عن مَسِّ الدهانِ وطالما ... عَصَمْنَ عن الحِنّاءِ كفّاً ومعصما
وكم من جليدٍ لا يخامرُهُ الهوى ... شَنَنَّ عليه الوجدَ حتى تتيَّما
أهانَ لهنَّ النفس وهي كريمةٌ ... وألقى إليهنَّ الحديثَ المكتّما
وقال أبو عبد الله ابن الحجاج: من السريع
يا ظالماً قلبي إلى جَوْرِهِ ... يحنُّ مشتاقٌ ويرتاحُ
أفسدتني بعدَ صلاحي وهل ... يُرْجى لإفسادِكَ إصلاحُ
وقال أيضاً: من الوافر
بنفسي من أحبُّ العيشَ فيه ... وأكرهُ ما يشيرُ به النصيحُ
يطيبُ لي الكريهُ به ويحلو ... ويحسنُ منه في عيني القبيحُ
ولم أرَ كالمليحِ الوجهِ مهما ... أتاه فإنه حَسَنٌ مليحُ
وقال من الطويل
تأوَّبَهُ هذا الهوى فهو قاتِلُهْ ... وعاوَدَهُ جهلُ التصابي وباطِلُهْ
وأخلقْ بأمرٍ لم تُؤَدَّ فُروضُهُ ... إلى أهله ألا تُؤَدَّى نوافِلُهْ
فقد أنبأتني في هواك بما جَنَتْ ... أواخرُهُ حتماً علي أوائِلُهْ
وإنّ أتحصيل مَنْ بات قبلنا ... ينبهه عن آجلِ الأمرِ عاجِلُهْ
وقال: من الطويل
إلى الله أشكو مقلةً لا دموعُها ... تجفُّ ولا تقري كراها جفونُها
ونفساً إلى أحبابها مذ تحملوا ... يطولُ على بعدِ المزارِ حنينُها
وكانت تمنّيها الشكوكُ سفاهةً ... وتوطُئها بُسْطَ الغرورِ ظنونُها
مواعيد قد ملَّ التقاضي غريمها ... وشُدَّتْ بأمراسِ المطالِ ديونُها
وقال أيضاً: من المنسرح
أفدي بنفسي مَنْ لا أُسَمِّيهِ ... أكتمُ وجدي به وأُخْفِيهِ
أسترُهُ بين أضلعي شفَقاً ... والدمعُ بين الوشاة بيديهِ
ظبيٌ سقاني المدامَ من يده ... ممزوجةً بالرحيق من فيهِ
قد ملك الحسنَ لا ينافِسُهُ ... يوسفُ فيه ولا يباريهِ
فالبدرُ في التِمِّ من صنائعه ... والشمسُ في الدَّجْنِ من جواريهِ
يمنعُ ماعونَهُ ويسألني ... سوادَ عيني اليمنى فأعطيهِ
قد عِيلَ صبري مما أعاتِبُهُ ... وضاق صدري ممّا أداريهِ
يُحسن لي وَجْهُهُ الجميلُ كما ... يسيء لي في الهوى تجنّيهِ
وكلما رُمْتُ أن أُعاتِبَهُ ... على تماديه في تعدّيهِ
جاءت على غفلةٍ محاسِنُهُ ... تسألني الصفحَ عن مساويهِ
وقال مقداد بن المطاميري، وهو ممن عاصرناه، وكان قليل البضاعة في الأدب على حلاوة ألفاظه ورشاقة معانيه: من البسيط
إن حال في الحبِّ عما كنتُ أعهده ... وبات يرقدُ ليلاً لستُ أرقدُهُ
فلا طويتُ الحشا إلا على حُرَقٍ ... يُبْلي من الصبرِ عنه ما أجدّدُهُ
يا عاذلي إنَّ يومَ البين ضلّ هوىً ... قلبي المعنّى فقلْ لي أين أنشدُهُ

زار الخيالُ طليحاً قلما أَنِسَتْ ... جفونُهُ بالكَرى أو لانَ مرقدُهُ
أهلاً به زائراً تُدْنيهِ من جسدي ... ضمائري وخفوقُ القلبِ يُبْعِدُهُ
وقال أيضاً: من المتقارب
ومجدولةٍ مثل جَدْلِ العنانِ ... صبوتُ إليها فأصْبَيْتُهَا
إذا لام في حُبِّها العاذلا ... تُ أَسْخَطتهنَّ وأرضيْتُها
كاني إذا ما نهيتُ العيونَ ... عن الدمعِ بالدمعِ أغريْتُها
مَنْ رَسُولي إلى الثريّا فإني ... ضقتُ ذرعاً بهجرها والكتابِ
سلبْتني مَجَّاجَةُ المسكِ عقلي ... فسلوها ماذا أحلَّ اغتصابي
وهي مكنونةٌ تحيَّرَ منها ... في أديمِ الخدَّيْنِ ماءُ الشبابِ
أَبْرَزُوهَا مثلَ المهاةِ تَهَادَى ... بين خمسِ كواعبٍ أترابِ
فلما سمع ابن أبي عتيق قوله قال: إياي أراد وبي نوه، لا جرم، والله لا أذوق أكلاً حتى أشخص واصلح بينهما، ونهض. قال بلالٌ مولاه: ونهضت معه، فجاء إلى قوم من بني الديل بن بكر لم تكن تفارقهم نجائب لهم فرهٌ يكرونها، فاكترى منهم راحلتين وأغلى لهم، فقلت له: استوضعهم أو دعني أماكسهم فقد اشتطوا عليك، فقال: ويحك، أما علمت أن المكاس ليس من أخلاق الكرام، ثم ركب إحداهما، وركبت الاخرى، فسار سيراً شديداً، فقلت: ابق على نفسك، فإن ما تريد ليس يفوت، فقال: ويحك من الطويل
أُبادِرُ حَبْلَ الودِّ أن يتقضَّبا
وما حلاوة الدنيا إن تم الصدع بين عمر والثريا؟! فقدمنا مكة ليلاً غير محرمين، فدق على عمر بابه، فخرج إليه فسلم عليه ولم ينزل عن راحلته، وقال: اركب أصلح بينك وبين الثريا فأنا رسولك الذي سالت عنه. فركبا معاً وقدمنا الطائف، وقد كان عمر أوصى أم نوفل، فكانت تطلب له الحيلة لإصلاحها فلا يمكنها. فقال ابن أبي عتيق للثريا: هذا عمر قد جشمني السفر من المدينة إليك، فجئتك به معترفاً بذنب لم يجنه، معتذراً إليك من غساءتك إليه، فدعيني من التعداد والترداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون. فصالحته أتم صلحٍ وأحسنه واجمله، وكررنا إلى المدينة.
تزوج زيد بن عمرو بن عثمان سكينة بنت الحسين، فعتب عليها يوماً، فخرج إلى مالٍ له، فذكر أشعب أن سكينة دعته فقالت: إن ابن عثمان خرج عاتباً علي فاعلم لي حاله، قلت: لا أستطيع أن أذهب إليه الساعة، قالت: فأنا أعطيك ثلاثين ديناراً، قال: فأعطتني إياها، فأتيته ليلاً فدخلت الدار، فقال: انظروا من في الدار، فأتوه فقالوا أشعب، فنزل عن فرشه وصار في الأرض وقال: شعيب؟ قلت: نعم، قال: ما جاء بك؟ قلت: أرسلتني سكينة بنت الحسين لاعلم خبرك، أتذكرت منها ما تذكرت منك؟ وأنا أعلم انك قد وجلت حين نزلت عن فرشك وصرت إلى الأرض، فقال: دعني من هذا وغنني: من السريع
عُوجَا به فاستنطقاهُ فقد ... ذكَّرني ما كنتُ لم أذكر
فغنيته فلم يطرب، ثم قال: غغني ويلك غير هذا، فإن أصبت ما في نفسي فلك حلتي هذه، وقد اشتريتها آنفاً بثلاثمائة دينار، فغنيته: من الخفيف
علق القلبُ بعضَ ما قد شجاه ... من حبيبٍ أمسى هوانا هواه
ما ضراري نفسي بهجرانِ من لي ... سَ مسيئاً ولا بعيداً نواه
واجتنابي بيت الحبيب وما الخل ... دُ بأهوى إليَّ مِن أنْ أَراه
قال: ما عدوت والله ما في نفسي، خذ الحلة، فأخذتها ورجعت إلى سكينة فقصصت عليها القصة فقالت: أين الحلة؟ قلت: معي، فقالت: أفأنت الآن تريد أن تلبس حلة ابن عثمان، لا والله وال كرامة، فاشترتها نمي بثلاثمائة دينار.
وروي أن رجلاً كان له جارية يهواها وتهواه، فغاضبها يوماً وتمادى الهجر بينهما، واتفق أن دخلت إليا مغنية فغنتها:
ما ضراري نفسي بهجران من ليس
البيت المتقدم ذكره، فقالت الجارية: لا شيء والله إلا الحمق، وقامت إلى مولاها وقبلت رأسه واصطلحا.

أحب المتوكل أن ينادم الحسين بن الضحاك، وأن يرى ما بقي من ظرفه وشهوته لما كان عليه، فأحضره وقد كبر وضعف، وسقاه حتى سكر، وقال لخادمه شفيع: اسقه، فسقاه حتى سكر، وحياه بوردة، وكان على شفيع ثياب موردة، فمد الحسين يده إلى ذراع شفيع، فقال له المتوكل: ويحك يا حسين أتجمش أخص خدمي عندي بحضرتي؟ فكيف لو خلوت؟ ما أحوجك إلى أدب، وكان المتوكل غمز شفيعا على العبث به، فقال الحسين بن الضحاك: يا سيدي أريد دواة وقرطاسا، فأمر له بذلك، فكتب بخطه: من الطويل
وكالوردة الحمراء حيّا بوردةٍ ... من الوشى يمشي في قراطقَ كالوردِ
له عَبَثَاتٌ عندَ كلِّ تحيّةٍ ... بعينيه يستدعي الحليمَ إلى الوجدِ
تمنيّتُ أن أُسْقَي بكفيّه شربةً ... تذكِّرني ما قد نسيتُ من العهدِ
سقى الله عيشا لم أبتْ فيه ليلةً ... من الدهرِ إلا من حبيب على وعدِ
ثم دفع الرقعة إلى شفيع وقال له: ادفعها إلى مولاك، فلما قرأها استملحها وقال له: أحسنت والله يا حسين، لو كان شفيع ممن تجوز هبته لوهبته لك، ولكن بحياتي يا شفيع إلا كنت ساقيه بقية يومه هذا واخدمه كما تخدمني، وأمر له بمال، فحمل معه لما انصرف.
ومن شعر الحسين بن الضحاك: من مجزوء الخفيف
لا وحُبِّيكَ لا أصا ... فح للدمعِ مدمعا
من بكى شجْوَه استرا ... ح وإن كان مُوجعا
كبدي من هواك أس ... قم من أن تقطعا
لم تدعْ سورةُ الضنى ... فيَّ للسقم موضعا
سعت أمة لبثينة بها إلى أخيها وأبيها، وقالت لهما: إن جميلا عندها الليلة، فأتياها مشتملين على سيفين، فرأياه جالسا حجرة منها يحدثها ويشكو إليها بثه، ثم قال لها: يا بثينة أرأيت ودي إياك وشغفي بك؟ ألا تجربينه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين، فقالت له: يا جميل: أهذا تبغي؟ والله لقد كنت عندي بعيدا منه، ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي أبدا، فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو علمت أنك تجيبينني إليه، لعلمت أنك تجيبين غيري، ولو علمت منك مساعدة عليه لضربته بسيفي هذا ما استمسك قائمه في يدي، ولو أطاعني قلبي لهجرتك هجرا إلى الأبد، أوما سمعت قولي: من الطويل
وإني لراضٍ من بثينةَ بالذي ... لو استيقن الواشي لقرَّتْ بلابِلُهْ
بلا وبأنْ لا أستطيعُ وبالمنى ... وبالأملِ المرجوِّ قد خاب أمِلُهْ
وبالنظرةِ العجلى وبالحولِ تنقضي ... أواخِرُهُ لا نلتقي وأوائِلُهْ
فقال أبوها لأخيها: قم فما ينبغي لنا بعد هذا اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها، فانصرفا وتركاهما.
قال اسحاق الموصلي: صرت إلى الواثق فقال: بأي شيء أطرفتني من أحاديث الأعراب وأشعارهم؟ فقلت يا أمير المؤمنين: جلس إلي فتى من الأعراب في بعض المنازل، فحادثني فرأيت منه أحلى ما رأيت من الفتيان منظرا وحديثا وظرفا وأدبا، فاستنشدته فأنشدني: من الطويل
سقى العلمَ الفردَ الذي في ظلالِهِ ... غزالانِ مكحولانِ مؤتلفانِ
إذا أَمِنَا التفَّا بجيدَيْ تواصُلٍ ... فطرفاهما للرَّيْبِ يسترقانِ
أرغتهما ختلاً فلم أستطعهما ... ورميا ففاتاني وقد قتلاني
ثم تنفس نفسا ظننت أن حيازيمه قد تقطعت، فقلت: ما لك بأبي أنت؟ فقال: وراء هذين الجبلين لي شجن، وقد حيل بيني وبين المرور بهذه البلاد، وقد نذر دمي؟، وأنا أتمتع بالنظر الجبلين تعللا بهما إذا قدم الحجاج، ثم يحال بيني وبين ذلك، فقلت له: زدني مما قلت في ذلك فأنشدني: من الطويل
إذا ما وردتَ الماءَ في بعض أهله ... حَضُورُ فَعَرَّضْ بي كأنَّكَ مازحُ
فإن سألت عنّي حَضُورُ فقلْ لها ... به غُبَّرٌ من دائه وهو صالحُ
فأمرني الواثق فكتب الشعيرن وغني الواثق بهما بعد أيام، ووصلني بصلتين، وذكر خبرا طويلا ليس هذا موضعه.

قال حماد الراوية: أتيت مكة فجلست في حلقة فيها عمر بن أبي ربيعة المخزومي، فتذاكروا العذريين، فقال عمر بن أبي ربيعة: كان لي صديق من بني عذرة يقال له الجعد بن مهجع، وكان أحد بني سلامان، وكان يلقى مثل الذي ألقى من الصبابة بالنساء والوجد بهن، على أنه كان لا عاهر الخلوة، ولا سريع السلوة، وكان يوافي الموسم في كل سنة، فإذا راث عن وقته رجمت عنه الأخبار، وتوكفت الأسفار حتى يقدم، فغمني ذات سنة إبطاؤه حتى قدم حجاج عذرة، فأتيت القوم أنشد صاحبي،ن فإذا غلام قد تنفس الصعداء ثم قال: عن أبي المسهر تسأل؟ قلت: نعم وإياه أردت، قال: هيهات أصبح والله أبو المسهر لا مؤيسا فيهمل، ولا مرجوا فيعلل، أصبح والله كما قال القائل: من الطويل
لعمرك ما حُبّي لأسماءَ تاركي ... أعيشُ ولا أقضي به فأموتُ
قلت: وما الذي به؟ قال: مثل الذي بك من تهور كما في الضلال وجركما أذيال الخسار، فكأنما لم تسمعا بجنة ولا نار! قلت: من أنت منه يا ابن أخي؟ قال: أخوه، قلت: أما والله يا ابن أخي؟ قال: أخوه، قلت: أما والله يا ابن أخي ما يمنعك أن تسلك مسلك أخيك من الأدب، وأن تركب مراكبه، إلا أنك وأخاك كالبرد والبجاد لا يرفعك ولا ترفعه، ثم صرفت وجه وأنا أقول: من الطويل
أرائحةٌ حُجّاجُ عُذرةَ وجهةً ... ولما يَرُحْ في القومِ جعدُ بنِ مِهْجَعِ
خليلان نشكو ما نلاقي من الهوى ... متى ما يقلْ أسمعْ وإن قلتُ يسمعِ
ألا ليتَ شعري أيُّ شيء أصابه ... فلي زفراتٌ هجن ما بين أضلعي
فلا يُبْعِدَنْكَ الله خلاًّ فإنني ... سألقى كما لاقيتَ في الحبِّ مصرعي
ثم انطلقت حتى وقفت موقفي من عرفات، فبينا أنا كذلك إذا أنا بإنسان قد تغير لونه وساءت هيئته، فأدنى ناقته من ناقتي حتى خالف بين أعناقهما ثم عانقني وبكى حتى اشتد بكاؤه، فقلت: وما وراءك؟ فقال: برح العذل وطولا المطل، ثم أنشأ يقول: من الوافر
لئن كانَتْ عُدَيَّةُ ذاتَ لبٍّ ... لقد علمت بأنّ الحبَّ داءُ
ألم تنظرْ إلى تغيير جسمي ... وأني لا يفارقني البكاءُ
وأني لو تكلّفتُ الذي بي ... لَقَفَّ الكَلْمُ وانكشفَ الغطاءُ
وإنّ معاشري ورجالَ قومي ... حتوفُهُم الصبابةُ واللقاءُ
إذا العذريُّ مات خليَّ بالٍ ... فذاك العبدُ يبكيهِ الرشاءُ
فقلت: يا أبا المسهر: إنها ساعة تضرب إليها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، فلو دعوت وأنت بمنى كنت قمينا أن تظفر بحاجتك، وأن تنصر على عدوك، قال: فتركني وأقبل على الدعاء؛ فلما تدلت الشمس للغروب، وهم الناس أن يفيضوا، سمعته يتكلم بشيء، فأصغيت إليه فإذا هو يقول: من الرجز
يا رَبِّ كلّ غَدْوَةٍ وَرَوْحَهْ ... من محرمٍ يشكو الضُّحَى ولوحه
أنت حسيب الخَلْقِ يومَ الدوحه
فقلت: وما يوم الدوحة؟ فقال: والله لأخبرنك وإن لم تسألني، فيممنا نحو مزدلفة، فأقبل علي وقال: إني رجل ذو مال كثير من نعم وشاء، وذو المال لا يسعه القل، ولا يروره الثماد، وإني خشيت عاما أول على مالي التلف، وقطر الغيث أرض كلب، فانتجعت أخوالي منهم، فأسعوا لي عند صدر المجلس، وسقوني جمة الماء، وكنت فيهم في خير حال، ثم إني عزمت على موافقة إبلي بماء لهم يقال له الحوذان،ن فركبت فرسي، وسمطت خلفي شرابا كان أهداه إلي بعضهم، ثم مضيت حتى إذا كنت بين الحي ومرعى الغنم، رفعت لي دوحة عظيمة، فنزلت عن فرسي وشددته بغصن من أغصانها، وجلست في ظلها، فبينا أنا ذلك إذ سطع غبار من ناحية الحي، ثم رفعت لي شخوص ثلاثة، ثم تبينت فإذا فارس يطرد مسحلا وأتانا، فتأملته فإذا عليه درع أصفر وعمامة خز سوداء، وإذا فروع شعره تضرب خصره، فقلت: غلام حديث عهد بعرس أعجلته لذة الصيد فترك ثوبه ولبس ثوب امرأته، فما جاز عني إلا قليلا حتى طعن المسحل وثنى طعنة للأتان، فصرعهما وأقبل راجعا نحوي وهو يقول: من السريع
نطعنهم سُلْكَى ومخلوجَةً ... كركَ لأمين على نابل

فقلت له: إنك قد تعبت وأتعبت فلو نزلت، فثنى الرجل ونزل، وشد فرسه بغصن من أغصان الشجرة، وألقى رمحه وأقبل حتى جلس، فجعل يحدثني حديثا ذكرت فيه قول أبي ذؤيب: من الطويل
وإنّ حديثا منكِ لو تعلمينه ... جَنَى النحلِ في ألبانِ عوذٍ مطافِلِ
فقمت إلى فرسي فأصلحت من أمره، ثم رجعت وقد حسر العمامة عن رأسه، فإذا غلام كأن وجهه الدينار المنقوش، فقلت: سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك وأحسن صنعتك! فقال لي: مم ذاك؟ قلت: مما راعني من جمالك وبهرني من نورك، قال: وما الذي روعك من حبيس التراب وأكيل الدواب؟ ثم لا يدري أينعم بعد ذلك أم يبأس؟ قلت: لا يصنع الله بك إلا خيرا؛ ثم تحدثنا ساعة، فأقبل علي فقال: ما هذا أراه قد سمتطه خلفك في سرجك؟ قلت: شراب أهداه إلي بعض أهلك، فهل لك فيه من أرب؟ قال: أنت وذاك، فأتيته به فشرب منه وجعل ينكت أحيانا بالسوط على ثناياه، فكان والله يتبين لي ظل السوط فيهن، فقلت: مهلا فإني خائف أن تكسرهن، فقال: ولم؟ قلت: لأنهن رقاب عذاب، قال: ثم رفع عقيرته يتغنى: من الطويل
إذا قَبَّلَ الإنسانُ آخرَ يشتهي ... ثناياه لم يَحْرَجْ وكان له أجرا
فإذا زادَ زاد الله في حَسَناتِهِ ... مثاقيلَ يمحو الله عنه بها الوزرا
ثم قام إلى فرسه فأصلح من أمره، ثم رجع إلي فبرقت لي بارقة من تحت الدرع فإذا ثدي كأنه حق عاج فقلت: ناشدتك الله امرأة أنت؟ قالت: أي والله إلا ، أنها تكره العهر وتحب الغزل، ثم جلست فجعلت تشرب معي ما افتقد من أنسها شيئا، حتى نظرت إلى عينيها كأنهما عينا مهاة مذعورة، فوالله ما راعني إلا ميلها على الدوحة سكرى، فزين والله لي الغدر وحسن في عيني، ثم إن الله عز وجل عصمني، فجلست منها حجرة، فلما لبثت إلا يسيرا حتى انتبهت فزعة، فلاثت عمامتها برأسها، وجالت في متن فرسها وقالت: جزاك الله عن الصحبة خيرا، قلت: ولم لا تزوديني منك زادا، فناولتني يدها فقبلتها، فشممت والله منها ريح المسك المفتوت، فذكرت قول الشاعر: من البسيط
كأنها إذا تَقَضَّى النومُ وانتبهت ... وسنانةٌ ما بها عينٌ ولا أثَرُ

فقلت أين الموعد؟ قالت: إن لي أخوة شرسا وأبا غيورا، والله لأن أسرك أحب إلي من أن أضرك، ثم انصرفت فجعلت أتبعها بصري حتى غابت، فهي والله يا ابن أبي ربيعة أحلتني هذا المحل وأبلغتني هذا المبلغ. فقلت: يا أبا المسهر إن الغدر بك مع ما تذكر لمليح، فبكى وشتد بكاؤه. فقلت له: لا تبك، ما قلت لك إلا مازحا، ولو لم أبلغ حاجتك إلا بمالي لسعيت في ذلك حتى أقدر عليه، فقال لي خيرا. فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي، وشد على ناقته، ودعوت غلامي فشد على بعير له، وحملت عليه قبة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة المخزومي، وحملت معي ألف دينار ومطرف خز، وانطلقا حتى أتينا بلاد كلب، فنشدنا عن أبي الجارية فوجدناه في نادي قومه، وإذا هو سيد الحي، وإذا الناس حوله، فوقفت على القوم فسلمت، فرد الشيخ السلام، ثم قال: ممن الرجل؟ قلت: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، فقال: المعروف غير المنكر، فما الذي جاءك؟ فقلت: خاطبا، قال: الكفاء والرغبة، قلت: إني لم آتي ذلك لنفسي عن غير زهادة فيك ولا جهالة بشرفك، ولكني أتيتك في حاجة ابن أختكم العذري، وها هو ذاك، فقال: إنه والله لكفيء الحسب رفيع البيت، غير أن بناتي لم يقعن إلا في هذا الحي من قريش، فوجمت لذلك، وعرف التغير في وجهي فقال: أما إني سأصنع بك ما لم أصنع بغيرك، قلت: فما ذاك؟ فقال: أخيرها، فهي وما اختارت، قلت: ما أنصفتني أو تختار لغيري وتولي الخيار غيرك، فأشار إلي العذري: أن دعه يخيرها، فأرسل إليها أن من الأمر كذا وكذا، فأرسلت إليه ما كنت أستبد برأيي دون القرشي، والخيار في قوله وحكمه، فقال لي: إنها قد ولتك أمرها، فاقض ما أنت قاض، فحمدت الله وأثنيت عليه وقلت: أشهد أني قد زوجتها من الجعد بن مهجع، وأصدقتها هذه الألف دينار، وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبة، وكسوت الشيخ المطرف؛ وسألته أن يبيته من ليلته، فأرسل إلى أمها فأتته فقالت: تخرج ابنتي كما تخرج الأمة؟ فقال الشيخ: جهزي في جهازها، فما برحت حتى ضربت قبة في وسط الحريم، ثم أهديت إليه ليلا، وبت أنا عند الشيخ، فلما أصبحت أتيت القبة، فصحت بصاحبي فخرج إلي، وقد أثر السرور في وجهه، فقلت: كيف كنت بعدي؟ وكيف هي بعدك؟ فقال: أبدت والله لي كثيرا مما كانت تخفيه يوم لقيتها،ن فسألتها عن ذلك فأنشأت تقول: من الطويل
كتمتُ الهوى لما رأيتكَ جازعا ... وقلتُ فتىً بعضَ الصديقِ يريدُ
وأن تَطَّرحني أو تقولَ فتيّةُ ... يَضُرُّ بها بَرِحُ الهوى فتعودُ
فورَّيتُ عما بي وفي داخلِ الحشا ... من الوجدِ بَرْحٌ فاعلمنَّ شديدُ
فقلت: أقم على أهلك، بارك الله لك فيهم، وانطلقت وأنا أقول: من الطويل
كفيتُ أخا العذريِّ ما كان نابَهُ ... وإني لأعباءِ النوائبِ حَمّالُ
وقال العذري: من الطويل
إذا ما أبو الخطّاب خلَّى مكانَهُ ... فأفٍّ لدينا ليس من أهلها عُمَرْ
فلا حيَّ فتيانُ الحجازيين بعدَهُ ... ولا سقيت أرضُ الحجازين بالمَطَرْ
كان الرشيد يجد بماردة أم المعتصم وجدا شديدا، فغضبت عليه وغضب عليها، وتمادى بهما الهجر، فأمر جعفر بن يحيى العباس بن الأحنف فقال: من الكامل
راجعْ أحبَّتَكَ الذين هجرتهم ... إن المتيّم قلَّ ما يتجنّبُ
إنّ التجنّبَ إن تطاولَ منكما ... دبَّ السلوُّ له فعزّ المطلبُ
وأمر إبراهيم الموصلي فغنى به الرشيد، فلما سمعه بادر إلى ماردة فترضاها، فقالت: من السبب في ذلك؟ فعرفته فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة ألا ف درهم.

هوي ديك الجن، وهو عبد السلام بن رغبان، امرأة نصرانية واستهيم بها ودعاها إلى الإسلام ليتزوجها، ففعلت وفعل، ثم إن سافر عنها إلى دمشق وخلفها بحمص، وكان له ابن عم يعاديه، فسعى به إليها ليكدر حاله، وادعى عليها الفساد، ووضع من أشاع عنها الفساد، حتى عاد ديك الجن إلى حمص، ورصده ابن عمه وقت وصوله، ووضع الرجل الذي أشير بالتهمة إليه، فدق الباب عليها وديك الجن يسألها عليها وديك الجن يسألها عما قرفت به وهي تنكر، فحين طرق الباب فقال: أنا فلان، فقال لها ديك الجن: يا زانية زعمت أنك لا تعرفين من هذا الأمر شيئا، ثم اخترط سيفه فضربها به حتى قتلها، وقال في ذلك أشعار كثيرة، فمن قوله فيها: من مجزوء الخفيف:
لك نفسٌ مُوَاتِيَهْ ... والمنايا مُعَادِيَهْ
أيها القلبُ لا تعد ... لهوى البيضِ ثانيه
ليس برقٌ يكون أخ ... لبَ من برقِ غانيه
خنتِ سرا من لم يَخُنْ ... كِ فموتي علانيه
ثم إنه عرف الخبر على حقيقته وتيقنه فندم، ومكث شهورا لا يستفيق م البكاء ولا يطعم إلا ما يقيم رمقه من بلقة يسيرة، وقال في ندمه على قتلها: من الكامل
يا طلعةً طلعَ الحمامُ عليها ... وجنى لها ثَمرَ الرّدى بيديها
روَّيتُ من دمها الثرى ولطالما ... روَّى الهوى شفتيَّ من شفتيها
قد بات سيفي في مجالِ وشاحها ... ومدامعي تجري على خدّيها
فوحقِّ نعليها فما وَطِئَ الحصى ... شيءٌ أعزُّ عليَّ من نعليها
ما كان قَتْليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الذبابُ عليها
لكنت ضننتُ على العيونِ بحسنها ... وأنفتُ من نظرِ العيون إليها
وقد رويت هذه الأبيات لفتى من غطفان يقال له: السليك بن مجمع، وكان من الفرسان، وكان مطلوبا بدماء، وكان يخطب بنت عم له يهواها، فيمنعها أبوها ثم زوجها خوفا منه، فدخل بها في دار أبيها ثم نقلها بعد أسبوع إلى عشيرته، فلقيه من بني فزارة ثلاثون فارسا كلهم يطالبه بذحل، فحلقوا عليه، وقاتلهم فقتل منهم عددا، وأثخن بالجراح حتى أيقن بالموت، فعاد إليها وقال: ما أسمح بك نفسا لهؤلاء، وإني أحب أن أقدمك قبلي، قالت: افعل، فلو لم تفعله أنت لفعلته أنا بعدك، فضربها بسفه حتى قتلها، وقال هذه الأبيات، ثم عمد إليها وتمرغ في دمها، ثم تقدم فقاتل حتى قتل، وحفظت فزارة الأبيات فنقلوها؛ وقيل: بل أدركها قومه وبه رمق، فسمعوه يردد هذه الأبيات، فحفظوها عنه، وبقث عندهم يوما ومات.
ومن شعر ديك الجن في المقتولة: من الكامل
أشفقتُ أن يَرِدَ الزَّمانُ بغدره ... أو أُبْتَلَى بعدَ الوصالِ بهَجرِهِ
قمرٌ أنا استخرجتُهُ من دُجْنَةٍ ... لِبَليّتي وجلوتُهُ من خدرِهِ
فقتلته وله عليَّ كرامةٌ ... ملء الحشا وله الفؤادُ بأسرِهِ
عهدي به ميتا كأحسنِ نائمٍ ... والحزنُ يسفحُ عبرتي في نحرِهِ
ولو كان يدري الميتُ ماذا بعده ... بالحيِّ منه بكى له في قبرِهِ
غُصَصٌ تكاد تفيضُ منها نفسه ... وتكاد تُخْرِجُ قلبه من صدرِه
قال يعبد اليقطيني المغني: كنت منقطعا إلى البرامكة أخدمهم وألازمهم، فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا بابي يدق، فخرج غلامي ثم رجع إلي، فقال: على الباب رجل ظاهر المروءة يستأذن عليك، فأذنت له، فدخل علي شاب قلما رأيت أحسن وجها، ولا أنظف ثوبا، ولا أجمل زيا منه، من رجل دنف عليه أثر السقم، فقال لي: إني أحاول لقاءك منذ مدة، فلا أجد إليه سبيلا، وإن لي حاجة، قلت: وما هي؟ فأخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدي ثم قال: أسألك أن تقبلها وتصنع في بيتين قلتهما لحنا تغنيني به، قلت هاتهما، فأنشدني: من البسيط
والله على طرفيَ الجاني على بدني ... لتطفئنَّ بدمعي لوعةَ الحَزَنِ
أو لأبوحنَّ حتى يحجبوا سكني ... فلا أراه ولو أُدْرِجْتُ في كفني

قال: فصنعت فيهما لحنا ثم غنيته إياه، فأغمي عليه حتى ظننت انه قد مات، ثم أفاق فقال:أعد، فديتك! فناشده الله غي نفسه، وقلت: أخشى إن تموت، فقال: هيهات، أنا أشقى من ذلك، وما زال يخضع ويتضرع حتى أعدته فصعق صعقة أشد من الأولى، حتى ظننت نفسه قد فاضت، فلما أفاق رددت الدنانير عليه، فوضعتها بين يديه،، وقلت: يا هذا خذ دنانيرك وانصرف عني، فقد قضيت حاجتك، وبلغت وطرك فيما أردت، ولست أحب أن أشرك في دمك، فقال: يا هذا لا حاجة لي في الدنانير وهذا مثلها لك، ثم أخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدي وقال: أعد الصوت علي مرة أخرى وحلال دمي، فشرهت نفسي إلى الدنانير، ثم قلت له: ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط، قال: وما هن؟ قلت: أولهن أن تقيم عندي وتتحرم بطعامي، والثانية أن تشرب أقداحا من النبيذ تشك قلبك عليك، وتسكن ما بك، والثالثة أن تحدثني بقصتك، فقال: أفعل ما تريد، فأخذت الدنانير ودعوت بالطعام فأصاب منه إصابة معذر، ثم دعوت بالنبيذ فسرب أقداحا، وغنيته بشعر غيره في نحو معناه، وهو يشرب ويبكي، ثم قال: الشرط أعزك الله، فغنيته صوته فجعل يبكي أحر بكاء، وينشج أشد نشيج وينتحب، فلما رأيت ما به قد خف عما كان يلحقه، ورأيت النبيذ قد شد من قلبه، كررت عليه صوته مرارا، ثم قلت له: حدثني حديثك. فقال: أنا رجل من أهل المدينة، خرجت متنزها في ظاهرها، وقد سال العقيق، في فتية من أقراني وأخذاني، فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجن له، فجلسن حجرة منا، وبصرت فيهن بفتاة كأنها قضيب قد طله الندى، تنظر بعينين ما ارتد طرفها إلا بنفس من يلاحظها، فأطلنا وأطلن حتى تفرق الناس وانصرفنا، وقد أبقت بقلبي جرحا بطيء اندماله، فعدت إلى منزلي وأنا وقيذ، وخرجت من غد إلى العقيق وليس به أحد، فلم أر لها ولا لصاحباتها أثراً، ثم جعلت أتبعها في طرق المدينة وأسواقها، فكأن الأرض أضمرتها، وسقمت حتى أيس مني أهلي، وخلت بي ظئر لي فاستعلمتني حالي وضمنت لي كتمانها والسعي في ما أحبه منها، فأخبرتها بقصتي، فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع، وهي سنة خصبٍ وأنواء، وليس يبعد عنك المطر، ثم غدا العقيق فتخرج حينئذ وأخرج معك، فإن النسوة يجئن، فإذا فعلن ورأيتها اتبعتها حتى أعرف موضعها، ثم أصل بينك وبينها، وأسعى لك في تزويجها. فكأن نفسي اطمأنت إلى ذلك ووثقت به، وسكنت إليه، فقويت وطمعت، وتراجعت نفسي. وجاء المطر بعقب ذلك، فسال العقيق، وخرج الناس وخرجت مع إخواني إليه، فجلسنا مجلسنا الأول بعينه، فما كنا والنسوة إلا كفرسي رهان، فأومأت إلى ظئري، فجلست حجرةً منها ومنهن، وأقبلت على إخواني وقلت: لقد أحسن القائل: من الطويل
رمتْني بسهمٍ أقْصَدَ القلبَ وانثنت ... وقد غادرتْ جرحاً به وندوبا
فأقبلت على صاحباتها وقالت: أحسن والله القائل، وأحسن من أجابه حيث يقول: من الطويل
بنا مثلُ ما تشكو فصبراً لعلّنا ... نرى فرجاً يشفي السقامَ قريبا

فأمسكت عن الجواب خوفاً من أن يظهر مني ما يفضحني وإياها، وعرفت ما أرادت. ثم تفرق الناس وانصرفنا، وتبعتها ظئري حتى عرفت منزلها، وصارت إلي. فأخذت بيدي ومضينا إليها، فلم تزل تتلطف حتى وصلت إليها، فتلاقينا وتزاورنا على حال مخالسةٍ ومراقبة، حتى شاع حديثي وحديثها، وظهر ما بيني وبينها، فحجبها أهلها، وتشدد عليها أبوها، فما زلت أجتهد في لقائها فلا أقدر عليه، وشكوت إلى أبي حالي لشدة ما نالني فيها، وسألته خطبتها لي، فمضى أبي ومشيخة أهلي إلى أبيها فخطبوها فقال: لو كان ذلك قبل إن يفضحها ويشهر بها لأسعفته بما التمس، ولكنه قد فضحها، فلم أكن لأحقق قول الناس فيها بتزويجه إياها، فانصرفت على يأس منها ومن نفسي. قال معبد: فسألته أين تنزل؟ فخبرني، وصارت بيننا عشرة، ثم جلس جعفر بن يحيى للشرب، فكأن أول صوت غنيته صوتي في شعر هذا الفتى، فطرب طرباً شديداً وقال: ويحك إن لهذا الصوت حديثاً، فما هو؟ فحدثته خبر الصوت فأمر بإحضار الفتى فأحضر من وقته، واستعادة الحديث فأعاده عليه، فقال له: هي في ذمتي حتى أزوجك إياها، فطابت نفسه وأقام معنا ليلتنا حتى أصبح؛ وغدا جعفرٌ إلى الرشيد، فحدثه الحديث فتعجب منه، وأمر بإحضارنا جميعاً فأحضرنا، وأمر بأن أغنيه الصوت فغنيته، فشرب عليه وسمع حديث الفتى، وأمر من وقته بكتابٍ إلى عامل الحجاز بإشخاص الرجل وابنته وجميع أهله إلى حضرته، فلم يمض إلا مسافة الطريق حتى احضر، فأمر الرشيد بإيصاله إليه فأوصل، وخطب إليه الجارية للفتى، وأقسم عليه ألا يخالف أمره، فأجابه، وزوجه إياها، وحمل الرشيد إليه ألف دينار لجهازها وألف دينار لنفقة الطريق، وأمر للفتى ألفي دينار، ولي بألف دينار، وأمر لنا جعفر بألفي دينار لي وله، وكان المدني بعد ذلك في جملة ندماء جعفر.
قال عصمة بن مالك: جمعني وذا الرمة مربع مرة، فقال: هيا عصمة إن مية من منقر، ومنقر أخبث حي وأقفى للأثر، وأثبته في نظر، وأعلمه بشر، وقد عرفوا آثار إبلي، فهل عندك من ناقة نزدار عليها مبة؟ قلت: أي والله عندي الجؤذر، فقال: فعلي بها، فأتيته بها فركب وردفته، فأتينا محلة مية والقوم خلوف، والنساء في الرحال، فلما رأين ذا الرمة اجتمعن إلى مي، وأنحنا قريباً وأتيناهن وجلسنا إليهن، فقالت ظريفة منهن: أنشدنا يا ذا الرمة، فقال أنشدهن يا عمصة، فأنشدتهن قصيدته التي يقول فيها: من الطويل
نظرتُ إلى أظعانِ ميٍّ كأنها ... ذُرَى النخل أو أثلٌ تميلُ ذوائبُهْ
فأسبلتِ العينانِ والقلبُ كاتمٌ ... بمغرورقٍ نَمَّتْ عليه سواكبُهْ
بكاءَ فتىً جاء الفراقُ ولم تجلْ ... جوائلَها أسرارُهُ ومعاتبُهْ
فقالت الظريفة: فالآن فلتجل ثم أنشدت حتى أتيت على قوله:
وقد حَلَفَتْ بالله ميَّةُ ما الذي ... أُحَدِّثها إلا الذي أنا كاذبُهْ
إذاً فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدوٌّ أحاربُهْ
فقالت مية: ويحك يا ذا الرمة، خف عواقب الله، ثم أنشدت حتى أتيت على قوله:
إذا سَرَحَتْ من حُبِّ ميّ سوارحٌ ... على القلب آبَتْهُ جميعاً عوازبُهْ
فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله، فقالت مية: ما أصحه وهنيئاً له، فتنفس ذو الرمة تنفسةً كاد حرها يطير بلحيتي، ثم أنشدت حتى أتيت على قوله:
إذا نازَعَتْكَ القولَ مَيَّةُ أو بدا ... لكَ الوجهُ أو نضا الدرعَ سالِبُهْ
فما شئتَ من خدٍّ أسيلٍ ومنطقٍ ... رخيمٍ ومن خَلْقٍ تَعَلَّلَ جادبُهْ
فقالت الظريفة: قد بدا لك الوجه وتنوزع القول، فمن لنا بأن ينضو الدرع سالبه، فقالت لها مية: قاتلك الله، ماذا تأتين به، فتضاحكت الظريفة وقالت: إن لهذين لشأناً، فقوموا عنهما، فقمنا معها، فخرجت فكنت قريباً حيث أراهما، وأسمع ما ارتفع من كلامهما، فوالله ما رأيته تحرك من مكانه الذي خلفته فيه، حتى ثاب أوائل الرجال، فأتيته، فقلت له: انهض بنا فقد ثاب القوم، فقام فودعها وولت، وردفته وانصرفنا.

قد أتيت من هذه الأخبار والأشعار في هذا الباب وغيره بآخر قبل أول، وبأول بعد آخر، ولم ألزم الترتيب في الشعراء وغيرهم، على قدر منازلهم وأعصارهم، لأني تبعت الخاطر فيما أمل، وأصبحت عندما تذكرت أو نقلت لأبرأ من كدر الكلفة وظلامها، وليس في ذلك خللٌ يلحق الغرض الذي أممته. فلا يظنه المتصفح وصماً، ولا يعده غباوةً ونقصاً، فالله تعالى يحرسنا من جهل يطلق ألسنة الزارين، ويوقظنا من غفلة تنبه علنا لا نتبع الغاوين، بمنه وسعة فضله.

نوادر من هذا الباب
ممن أحسن في نوادره، ولطف في بدائعه أبو عبد الله ابن الحجاج، فمن شعره: من الهزج
بنفسي الفارغُ القلبِ ... وقلبي منه ملآنُ
غزالٌ ناعسُ الطَّرْفِ ... ولا يُقالُ نعسانُ
أراه فَرَّ من رضوا ... ن لما نامَ رضوانُ
وقوله: من المنسرح
إن غَدَرَتْ بي فلستُ أجحدها ... إنيَ أهلٌ لذلك الغَدْرِ
شيبٌ وفقرٌ والغدرُ أحسنُ ما ... يكونُ بين المشيب والفقرِ
والله يا سادتي يمينَ فتىً ... تعلَّمَ الصدق من أبي ذرِّ
لو أنَّ لي ما لزوجها لرأتْ ... بحرَ ندىً فوق بيتها يجري
لو أنَّ لابن الجصَّاص فيشلتي ... لَصُيِّرَتُ عنده على الجحر
قد بقيت بيننا مُدَهْدَهَةً ... في المدِّ من فكرها وفي الجزرِ
ثَمَّ غنيٌّ بغير فيشلة ... وها هنا أَيِّرٌ بلا الدرِّ
وله في السخف غزل كثير حلو عجيب الفتنة لا فراطٍ فيه، فمنه قوله: من الكامل المجزوء
ووصيفةٍ مثل الغلا ... م نصيحةٍ فيها عِيَارَهْ
لما انتبهتُ أثرتها ... والصيد في يدِ مَنْ أثارَه
يحيي القلوبَ وصالها ... وتشقُّ جَفْوتها المرارَهْ
وقوله في الكامل
أعرضتِ عن سَهَري بطرفٍ نائمِ ... ولهوْتِ عن وَلَهي بقلبٍ سالمِ
وزعمتِ أني قد سلوتُكِ صارماً ... حَبْلي وخُنْتُ بعهدِكِ المتقادمِ
هيهات ألهاني جِماعُكِ فاعلمي ... مذ ذُقْتُ شربك عن جميع العالمِ
وقوله: من مجزوء الرجز
قد انزعجتِ فاسكني ... وقد جسرتِ فاجبني
لا تقدمي على دمٍ ... لكافِرٍ أو مؤمن
نحن عبيدٌ فهبي ... مسيئَنَا للمحسن
ولا تضنّي في الهوى ... على مُحِبٍّ قد ضني
على سقيمٍ ميّتٍ ... محنّطٍ مكفّنِ
لو اشترى منك الرضى ... بروحِهِ لم يُغْبَن
ويح الضَّنَى إلى متى ... لا يشتفي من بدني
عجبتُ ممّن عَزْمُها ... في السرِّ أن تقتلَني
ترى بلائي ثم لا ... أطمعُ أن ترحمَني
وقد رَثى لي من رأى ... ما بي وَمَنْ لم يرَني
جارية حبِّي لها ... يُطوَى معي في كفني
كالبدرِ حين ينجلي ... والغصن حين ينثني
وقال ابن سكرة الهاشمي في عشق أعرج: من الكامل
قالوا بليتَ بأعرجٍ فأجبتهم ... العيبُ يحدثُ في قضيبِ البانِ
ماذا عليَّ إذا استجدت شمائلاً ... وروادفاً تغني عن الكثبانِ
إني أحبُّ جلوسَهُ وأريدُه ... للنوم لا للجري في الميدانِ
في كلِّ عضوٍ منه حُسْنٌ كاملٌ ... ما ضرَّني أن زلَّتِ القدمانِ

قال حسين بن الضحاك الخليع: كان صالح بن الرشيد يتعشق يسراً خادم أخيه أبي عيسى، وكان يراوده عن نفسه، فيعده ولا يفي له، فأرسله أبو عيسى يوماً إلى صالح أخيه في السحر يقول: يا أخي إني قد اشتهيت اليوم إن اصطبح، فبحياتي إلا ما ساعدتني، وصرت إلي حتى نصطبح اليوم جميعاً. فصار يسر إلى صالح وهو منتشٍ قد شرب في السحر، فأبلغه الرسالة، قال: نعم وكرامة، اجلس أولاً، فجلس، فقال: يا غلام أحضرني عشة آلاف درهم، فأحضرها، فقال له: يا يسر دعني من مواعيدك ومطلك هذه عشرة آلاف درهم، فاقض حاجتي وخذها، وإلا فليس ها هنا إلا الغصب، فقال: يا سيدي أنا أقضي الحاجة ولا آخذ المال، ثم فعل ما أراده فطاوعه فقضى حاجته، وأمر صالح بحمل العشرة آلاف درهم معه. قال حسين: ثم خرج إلي صالح من خلوته، فقال: يا حسين قد رأيت ما كنا فيه، فإن حضرك شيء فقل: فقلت: من الهزج:
أيا مَنْ طَرْفُهُ سِحْرُ ... ويا مَنْ ريقُهُ خَمْرُ
تجاسرتُ فكاشفْتُ ... كَ لما غُلِبَ الصبرُ
وما أحسنَ في أمر ... ك أن ينهتكَ السترُ
وإما لامَني الناس ... ففي وجهك لي عذرُ
فدعني من مواعيد ... ك إذ حيَّنك الدهرُ
فلا والله لا نبر ... ح أو ينفصلَ الأمرُ
فإما الغصبُ والذم ... وإما البذلُ والشكرُ
فلو شئت تيسرت ... كما سميت يا يُسْرُ
فكن كاسمك لا تمن ... عك النخوةُ والكبرُ
فلا فزتُ بحظي من ... ك إنْ ذاع له ذكرُ
قال الحسين: فضحك ثم قال: لعمري لقد تيسر يسر كما قلت، فقلت: نعم، ومن لا يتيسر بعد أخذ الدية، فلو أردتني بهذا أيضاً لتيسرت، فضحك ثم قال: نعطيك يا حسين الدية لحضورك ومساعدتك، ولا نريدك لما أردنا له يسراً، فبئست المطية أنت.
وقال حسين بن الضحاك: كان يألفني إنسانٌ من جند الشام عجيب الخلقة والزي والشكل، غليظٌ جلف، فكنت أحتمل ذلك منه، ويكون حظي التعجب منه، وكان يأتيني بكتبٍ من عشيقة له، ما رأيت أحلى ولا أظرف منها، ولا أبلغ ولا أشكل من معانيها، ويسألني أن أجيب عنها، فاجهد نفسي في الجواب، وأصرف عنايتي إليه على علمي بأن الشامي لا يميز بين الخطأ والصواب لجهله، ولا يفرق بين الابتداء والجواب. فلا طال ذلك علي حسدته، وتنبهت على إفساد حاله عندها، فسألته عن اسمها، فقال: بصبص، فكتبت إليها في جواب كتاب منها كان جاءني به: من السريع
أرقصني حبّك يا بصبصُ ... والحبُّ يا سيدتي يرقصُ
أَرْمَصتِ أجفاني بطول البكا ... فما لأجفانكِ لا تَرمَصُ
وابأبي وجهك ذاك الذي ... كأنه من حُسْنه عصعصُ
فجاءني بعد ذلك فقال: يا أبا علي، ما كان ذنبي إليك وما أردت بما صنعت بي؟ فقلت له: وما ذاك عافاك الله؟ قال: ما هو والله إلا أن وصل إليها ذلك الكتاب حتى بعثت إلي إني مشتاقةٌ إليك، والكتاب لا ينوب عن الرؤية، فتعال إلى الروش، الذي بالقرب من بابنا، قف بحياله حتى أراك، فتزينت بأحسن ما قدرت عليه، وصرت إلى الموضع، فبينا أنا واقفٌ أنتظر مكلماً لي أو مشيراً إلي، إذا أنا بشيء قد صب علي فملأني من مفرقي إلى قدمي، وأفسد ثيابي وسرجي، وصيرني وجميع ما علي ودابتي في نهاية السواد والقذر، وإذا هو ماء قد خلط ببولٍ وسواد وسرجين، فانصرفت بخزي، وكان ما مر بي من الصبيان وسائر من مررت به من الضحك والطنز والصياح بي أغلظ مما جرى علي، ولحقني من أهلي ومن في منزلي شر من ذلك، وأعظم من ذلك أن رسلها انقطعت عني جملة. فجعلت أعتذر إليه وأقول له: إن الآفة أنها لم تفهم الشعر لجودته وفصاحته، وأنا أحمد الله عز وجل على ما نله وأسر الشماتة به.
قال المدائني: دخل أبو النجم العجلي على هشام بن عبد الملك، وقد أتت له سبعون سنة، فقال له هشام: ما رأيك في النساء؟ قال: إني لأنظر إليهن شزراً، وينظرن إلي خزراً، فوهب له جاريةً، وقال له: اغد علي فأعلمني ما كان منك، فلما أصبح غدا عليه فقال: ما صنعت شيئاً وما قدرت عليه، وقد قلت في ذلك: من الكامل
نظرتْ فأعجبها الذي في دِرْعِهَا ... من حسنها ونظرتُ في سرباليا

فرأتْ لها كفلاً ينوءُ بخصرها ... وَعْثاً روادفُهُ وأخثمَ رابيا
ورأيتُ منتشرَ العجانِ مُقَلّصاً ... رخواً مفاصلُهُ وجلداً باليا
أدني له الرَّكَبَ الحليقَ كأنما ... أُدني إليه عقارباً وأفاعيا
ما بال رأسِكَ من ورائي طالعاً ... أظننتَ أن حِرَ الفتاةِ ورائيا
فاذهبْ فإنك مَيّتٌ لا تُرْتَجَى ... أَبَدَ الأبيد ولو عمرتَ لياليا
أنت الغرور إذا خُبرْتَ وربما ... كان الغرور لمن رجاهُ شافيا
لكنَّ أيري لا يُرجَّي نفعُهُ ... حتى أعودَ أخا فتاءٍ ناشيا
مرض علي بن عبيدة، فقيل له: ما تشتهي؟ قال: عيون الرقباء، وألسن الوشاة، وأكباد الحساد.
قال علي بن عبد العزيز يعرض بالتحاء معشوق: من السريع
قد بَرَّحَ الحبَّ بمشتاقِكْ ... فأَوْلِهِ أحسنُ أخلاقِكْ
لا تجفه وارعَ له حقَّهُ ... فإنه آخرُ عشّاقِكْ
وقال آخر: من المديد
بأبي مَنْ عَيْنُهُ أبداً ... في عداتٍ وهي لا تعدُ
ولآخر في معشوقٍ أحول: من الطويل
ونجمين في برجين هادٍ وحائر ... إذا طلعا حَلَّ الكسوفُ بواحدِ
لهذا على التمثيل قوة زهرة ... وهذا على التشبيه طرف عطاردِ
وقال آخر: من السريع
كأنما الخيلانِ في خدّه ... كواكبُ أحْدَقْنَ بالبدرِ
وقال آخر: من السريع
رحمتُ أسودَ هذا الخال حين بدا ... في لجّة الخد مرموقاً بأبصارِ
كأنه بعضُ عبّادِ الهنودِ وقد ... ألقى بمهجته في لُجّةِ النارِ
ذكر أن أبا القمقام بن بحر السقا عشق مدنية، فبعث إليها إن إخواناً لي زاروني فابعثي لي برؤوس حتى نتغدى ونصطبح على ذكرك، ففعلت، فلما كان اليوم الثاني، بعث إليها: إننا لم نفترق فابعثي لي بسنبوسك حتى نصطبح على ذكرك، ففعلت، فلما كان في اليوم الثالث بعث إليها: أصحابي مقيمون فابعثي إلي ببقرية منقورية وجزورية شهية حتى تأكلها ونصطبح على ذكرك، فقالت لرسوله: إني رأيت الحب إذا حل بالقلب يفيض على الكبد والأحشاء ويمنع من شهوة والطعام، وإن حب صاحبنا هذا ليس يجاوز معدته.
ودعت أبا الحراث جميناً واحدةٌ كان يحبها، فجعلت تحادثه ولا تذكر الطعام، فلما طال ذاك به، قال: لا أسمع للغداء ذكراً، قالت: أما تستحي؟ أما في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ فقال: جعلني الله فداك، لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعةً لا يأكلان شيئاً لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه وافترقا وأنشد الأعرابي في ضده: من الطويل
فلو كنت عذريَّ العلاقة لم تكن ... سميناً وأنساكَ الهوى كثرةَ الأكلِ
وواعد العرجي امرأةً شعثاء من الطائف، فجاء على حمار ومعه غلام، وجاءت على أتانٍ ومعها جارية، فوثب العرجي على المرأة، ووثب الغلام على الجارية، ووثب الحمار على الأتان، فقال العرجي: هذا يومٌ غائبٌ رقباؤه عنا.
وحدث أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: كنا نختلف إلى المجالس ونحن أحداث عن الرواة ما يروونه من الآداب والأخبار، وكان يصحبنا فتىً من أحسن الناس وجهاً، وأنظفهم ثوباً، وأجملهم زياً، ولا نعرف باطن أمره. فانصرفنا يوماً من مجلس المبرد، وجلسنا في مجلس نتقابل بما كتبنا، ونصحح المجلس الذي شهدنا، فإذا بجارية قد طلعت وطرحت في حجر الفتى رقعةً ما رأيت أحسن من شكلها، مختومةً بعنبر، فقرأها منفرداً ثم أجاب عنها، ورمى بها إلى الجارية، فلم يلبث أن خرج خادمٌ من الدار في يده كرسي، فدخل إلينا فصفع الفتى به حتى رحمناه، وخلصناه من يده، وقمنا أسوأ الناس حالاً. فلما تباعدنا سألناه عن الرقعة، فإذا فيها مكتوب: من الطويل
كفى حَزَناً أنّا جميعاً ببلدةٍ ... كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلمُ
فقلنا له: هذا ابتداءٌ طريف، فأي شيء أجبت؟ فقال: هذا صوت سمعته يغنى به، فلما قرأته في الرقعة، أجبت عنه بصوتٍ مثله، فسألناه ما هو؟ فقال: كتبت في الجواب:
أراعَكَ بالخابورِ نوقٌ وأجمالُ

فقلنا له: ويلك، ما وفاك القوم حقك، قد كان ينبغي أن يدخلونا معك في القصة بدخولك معنا، ولكن نحن نوفيك حقك، ثم تناولناه فصفعناه حتى لم يدر أين يأخذ، وكن آخر عهده بالاجتماع معنا.
روى مصعب بن عبد الله الزبيري عن أبيه قال: أتاني أبو السائب ليلةً بعدما رقد النيام، فأشرفت عليه فقال: سهرت وذكرت أخاً لي أستمتع به، فلم أجد سواك، فلو مضينا إلى العقيق وتناشدنا وتحادثنا، فمضينا وأنشدته في بعض ذلك يبيتن للعرجي: من الكامل
باتا بأنْعَم ليلةٍ حتى بدا ... صبحٌ تلوَّحَ كالأغَرِّ الأشقرِ
فتلازَما عند الفراقِ صبابةً ... أَخْذَ الغريم بفضلِ ثوب الأعسرِ
فقال: أعده علي، فأعدته، فقال: أحسن والله، امرأته طالق إن نطق بحرف غيره حتى يرجع إلى بيته، قال: فلقينا عبد الله بن الحسن، فلما صرنا إليه وقف بنا وهو منصرفٌ من ماله يريد المدينة، فقال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال له: فتلازما عند الفراق، فالتفت إلي وقال: متى أنكرت صاحبك؟ فقلت: منذ الليلة، فقال: أنا لله، وأي كهل أصيبت به قريش. ثم مضينا فلقينا محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة يريد مالاً له على بغلة، ومعه غلامٌ على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فسلم وقال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال: فتلازما عند الفراق، فالتفت إلي فقال: متى أنكرت صاحبك؟ قلت: آنفاً، فلما أراد المضي قال: أتدعه هكذا، والله ما آمن أن يتهور في بعض آبار العقيق، فقال: يا غلام قيد البغلة، فوضعه في رجله وهو ينشد البيت ويشير بيده إليه، يري أنه يفهم عنه قصته، ثم نزل الشيخ وقال لغلامه: احمله على بغلتي، وألحقه باهله، فلما كان بحيث علمت أنه قد فاته أخبرته بخبره، فقال: قبحك الله ماجناً، فضحت شيخاً من قريش وغررتني.
قال اسحاق الموصلي: كنت يوماً بحضرة الرشيد أغنيه، وهو يشرب فخل الفضل بن الربيع، فقال له: ما وراءك؟ قال: خرج إلي يا أمير المؤمنين ثلاث جوارٍ لي، مكية ومدينية وعراقية، فقبضت المدينية على هني، فلما أنعظ وثبت العراقية عليه، فقالت لها: ما هذا التعدي؟ ألم تعلمي أن مالكاً حدثنا عن الزهري عن عبد الله بن ظالم عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحيا أرضاً ميتةً فهي له؟ فقالت الأخرى: وقد حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصيد لمن صاده، لا لمن أثاره، فدفعتهما الأخرى عنه، وقالت: هذا لي وفي يدي حتى تصطلحا على شيء. فلما سمع الرشيد ضحك، وأمر بحملهن إليه، فحظين عنده، وفيهن يقول الشاعر: من الكامل
ملك الثلاثُ الآنساتُ عناني ... وحللْنَ من قلبي بكلِّ مكانِ
ما لي تطاوعني البريةُ كلُّها ... وأطيعهنَّ وهنّ في عصياني
ما ذاك إلا أنَّ سلطانَ الهوى ... وبه عَزَزْنَ أعزُّ من سلطاني
قال: طلب أشعب من عشيقته خاتماً كان معها، فقالت: يا سيدي هذا ذهب وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود حتى تعود.
وكتب رجل إلى عشيقته: ايذني لخيالك أن يلم بي، فكتبت إليه: ابعث بدينارين حتى أجيئك أنا بنفسي.
قال بعضهم: رأيت أم جعفر سكرى في إيوان كسرى، بيدها مذرى، عليها قباء خز طاروني، وهي تكتب على الحائط: من المتقارب
فلا تأسفنَّ لي ناسك ... وإن مات ذو طربٍ فابكِهِ
ونكْ مَنْ لقيتَ من العالمين ... فإنّ الندامةَ في تركِهِ
قال: فقلت لها: يا سيدة عبد مناف ما هذا الشرع؟ فقالت: اسكت هذا الذي بلغنا عن آدم لما جامع حواء فقالت له: يا أبا محمد ما هذا؟ فقال: ما هذا يقال له: النيك فقالت: زدني منه فإنه طيب.
قال: وكان رجل يتعشق امرأة ويتبعها في الطرقات دهراً، إلى أن أمكنته من نفسها، فلما أفضى غليها لم ينتشر عليه، فقالت له: أيرك هذا أير لئيم، فقال: بل هو من الذين قال فيهم الشاعر: من البسيط
وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
نظر مغيرة بن المهلب يوماً إلى يزيد أخيه وهو يطالع امرأته ويقول لها: اكشفي ساقك ولك خمسون ألف درهم، فقال: ويلك يا فاسق، هات نصفها وهي طالق.

ومثل هذه الحكاية ما سمعته من شرف الدين علي بن طراد الزبيني الوزير، وإن لم يكن من فن الغزل، قال: كان ينادمني البارع أبو عبد لله الحسين الدباس، وهو من أعيان أهل الأدب والراوية، وكان حديدا، فيولع به أبدا فتحيء منه نوادر تضحك، فقال: فولع به أحمد الحاجب، وأخرجه من الاعتدال، فقال أبو عبد الله البارع: والله لقد مزنت خمسة دنانير لمن حمل إلي امرأتك، فقال أحمد ولم يتحرك ولم يضجر: أضعت مالك، كنت تعطيني خمسة قراريط حتى أحملها إليك طوعا.
وقال: من الرجز
لا ينفعُ الجاريةَ الخضابُ ... ولا الوشاحانِ ولا الحقابُ
من دون أن تصطفقَ الأركاب ... وتلتقي الأسبابُ والأسبابُ
وقال آخر: من الطويل
وإني أشدُّ القومِ وجْدا وناقتي ... أشدُّ ركابِ القومِ رَجْعَ حنينِ
يشوق الحمى أهلَ الحمى ويشوقني ... حمىً بين أفخاذٍ وبين بطونِ
وقال آخر: من الرجز
والله لا تمسكني بضمِّ ... ولا بتقبيلٍ ولا بشمِّ
إلا بزعزاعٍ يُسَلِّي همي ... يَسْقُطُ منه فَتَخي في كمي
وقال آخر: من الطويل
جزى الله خيراً ذات بعلٍ تصدَّقَتْ ... على عزب كيما يكونَ له أهلُ
فإنا سنجزيها بما صَنَعَتْ بنا ... إذا ما تزوّجنا وليس لها بعلُ
أفيضوا على عزّابكم من نسائِكم ... فما في كتابِ الله أن يُحْرَمَ الفضلُ
ومر أبو نواس بغلام حسن الوجه خفيف العجز، فسئل عنه قال: من السريع
ما شئتَ من دنيا ولكنه ... منافقٌ ليست له أخرهْ
ورأى المأمون القاضي يحيى بن أكتم يحد النظر إلى الواثق بالله فقال: يا أبا محمد حوالينا ولا علينا.
وسمع مخنث رجلا يغني: من مجزوء الرمل
واقفٌ في الماء عطشا ... ن ولكنْ ليس يُسْقَى
فقال له: زن دينارا وغرقه.
قال رجل لأمرأة: أنا أحبك، قالت: وما الدليل على ذلك؟ قال: تعطيني قفيز دقيق حتى أعجنه بدموع عيني، قالت: على أن تجيء بخبره إلينا، قال يا سيدتي، أنت تريدين خبازا لا تريدين عاشقا.
كتب رجل إلى غلام كان يعشقه: وضعت خدي على الثرى إرضاء لك، فقال الغلام: هات عشرة دراهم وضع خدك على خدي.
أنشد المأمون قول العباس بن الأحنف : من الطويل
هُمُ كتموني سيرهم ثم أزمعوا ... وقالوا اتَّعدْنا للرواحِ وبكروا
فقال: سخروا من أبي الفضل أعزه الله.
قال أبو العيناء: أنشد أبو الهذيل شعرا: من الكامل
وإذا توهَّمَ أن يراها ناظِرٌ ... ترك التوهّمُ وجهها مكلوما
فقال: كان ينبغي أن تناك هذه بأير من خاطر.
وأنشد النظام: من الوافر
إذا همَّ النديمُ له بلحظٍ ... تمشّتْ في مفاصلِهِ الكلومُ
قال: ما ينبغي أن ينادم هذا إلى أعمى.
كتب علي بن الجهم إلى جارية يهواها شعرا: من الطويل
خفي الله في مَنْ قد سلبتِ فؤادَهُ ... وتيّمته حتى كأنَّ به سحرا
دعي البخلَ لا أسمعْ به منك إنما ... سألناكمُ ما ليس يُعْرِي لكم ظهرا
قال ميمون بن هارون: كنا عند الحسن بن وهب، فقال لبنات غني: من البسيط
أتأذنون لصبٍّ في زيارتكم ... فعندكم شهواتُ السمعِ والبصرِ
لا يفعل السوءَ إن طال المقامُ به ... عفُّ الضمير ولكن فاسقُ النظرِ
والشعر للعباس بن الأحنف، فضحكت ثم قالت: فأي خير في إن كان كذا وأي معنى، فخجل الحسن من نادرتها عليه، وعجبنا من حدة جوابها وفطنتها.
اغتسلت نعم التي يقول فيها عمرو بن أبي ربيعة: من الطويل
أمن آلِ نعمٍ أنت غادٍ فمُبكِرُ
في غدير، فأقام عليه عمر يشرب منه حتى جف.
رؤي علي بن عبد الله الريحاني مع جارية له كان يهواها عند إخوانه، فحان وقت الظهر فبادروا الصلاة، وهما يتحادثان فأطالا حتى كادت الصلاة تفوت، فقيل يا أبا الحسن: الصلاة فقال: رويدك حتى تزول الشمس، أي حتى تقوم الجارية.
أبو نواس شعر: من مجزوء الرمل
وغزالٍ تشرهُ النفسُ إلى حلِّ إزارِهْ
بستطه بدوة الكأسِ لنا بعدَ ازورارِهْ
فأطفنا بنواحيه ولم نلممْ بدارِهْ
وقال: من المنسرح

مرَّ بنا والعيون تأخذُهُ ... تجرحُ منه مواضعَ القُبَلِ
أُفْرِغَ في قالبِ الجمال فلا ... يصلحُ إلا لذلك العملِ
ومرت به جارية للقاسم بن الرشيد في يديها نرجس، فلم تكلمه، فقال لها، ما أقبح هجرك، فقالت: أقبح منه إفلاسك، فقال: من السريع
قلتُ وقد مَرَّتْ بنا ظبيةٌ ... رعبوبة في كفِّها نرجسُ
ما أقبح الهجرَ فقالت لنا ... أقبح منه عاشقٌ مفلسُ
ومن شعره: من الوافر
وناظرةٍ إليَّ من النقاب ... تلاحظني بطرْفٍ مسترابِ
كشفتُ قناعها فإذا عجوزٌ ... مُسَوَّدَةُ المفارقِ بالخضابِ
فما زالت تجشمني طويلا ... وتأخذ في أحاديث التصابي
تحاولُ أن يقومَ أبو زياد ... ودون قيامِهِ شيبُ الغرابِ
أتت بحرابها تكتالُ فيه ... فقامتْ وهي فارغة الجرابِ
متى تشفى العجوز إذا استكانت ... بأيرٍ لا يقوم على الشبابِ
آخر: من مخلع البسيط
أشكو إلى الله من عجوز ... تأخذها هبة الغيور
ولا زوردية الثنايا ... قد خضبت كفّها بقير
كأنما وجهها قميص ... قد فركوه على الحصير

بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله مسدي الإحسان وموليه، وفاتق اللسان بالبيان ومؤتيه، يمنح الحكمة أهل الاجتباء والإيثار، ويختص من يشاء ويختار، جعل النطق ترجمان الضمير، وله ولاية الإخبار والتعبير، وفضل بعضاً على بعض في الرصف والتحبير، فكان القاصر عن إبداء ما أجنه الآخر حسيراً ملوماً، والزائد على ما تضمنه هذراً مذموماً، وكانت الخطابة في ذكر مواهب الله وآلائه، ونشر ما خصنا به من صنوف نعمائه، والإبانة من وحدانيته وأوليته، والدلالة على ربوبيته وأزليته، وجدال أهل الباطل حتى يفيئوا، ونضال المعاندين ليرجعوا وينيبوا وأزليته، وجدال أهل الباطل حتى يفيئوا، ونضال المعاندين ليرجعوا وينيبوا، أولي الخصيم الأدره، والخطيب الافوه، وأجدر أن نقابل نعمة الله بشكرها، ونستعمل آلة الفضيلة المعطاها في حقها وقدرها؛ والصلاة على رسوله النبي الأمي، المرسل باللسان المبين العربي، الذي سلم له الفصاحة المقر ولاجاحد، وشهد ببلاغته الغائب والشاهد، وعلى آله أولي المواقف المشهورة والمشاهد.
الباب الثلاثون
في الخطب
من شواهد الخطابة في الكتاب العزيز قوله سبحانه وتعالى في حق داود عليه السلام: وشددنا ملكه أتيناه وفصل الخطاب قال بعضهم: تتبعت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت أوائل أكثرها: الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونستغفه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
خطبته عليه السلام في حجة الوداع: الحمد لله، نحمده ونستعبنه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على العمل بطاعته، وأستفتح الله بالذي هو خير.
أما بعد أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم أشهد. وأول ربا أبدأ به ربا العباس ين عبد المطلب. وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير الشدانة والسقاية. والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن ازداد فهو من الجاهلية.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيمكا سوى ذلك فيما تحقرون من أعمالكم

أيها الناس، إنما النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله. وإن الزمان قد استدر كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات وواحد فرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟ الهم اشهد.
أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهن حق، فعليهن أن لا يوطئن فرشكم ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بأذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن اله تعالى قد أذن لكم أن تعضلوهن، وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، فإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله تعالى، واستحللتم فوجهن بكتاب الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا.
أيها الناس أما المؤمنون أخوة، ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا عن طيب نفس منه. ألا هل بلغت. اللهم اشهد.
ولا ترجعن كفارا بعدي يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن آخذتم به لن تضلوا: كتاب الله. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس،ن إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم آدم من تراب؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى.
ألا هل بلغت؟قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد الغائب.
أيها الناس إن الله تعالى قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارث وصية من أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، من ادعى إلى غير أبيه، ومن تولى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب سهيل بن عمرو فقال: والله إن هذا الدين الذي أصبحنا فيه سيمتد كامتداد الشمس في طلوعها. فقيل له: وإني علمت؟ فقال: رأيت رجلا وحيدا فريد الآمال ولا عز ولا عدد، قام في ظل الكعبة فقال: أنا رسول الله إليكم؛ فكنا من بين ضاحك وهازل، ومستعجل وراحم؛ فلم يزل أمره ينمى حتى دنى طوعا وكرها، ولو كان ذلك من عند غير الله تعالى ما كان إلا كالكرة في يد بغض سفهاء قريش. فلا يغنكم هذ - يعني أبو سفيان - من أنفسكم، فإنه يعلم من هذا الأمر ما أعلم، ولكن حسد بني عبد المطلب قد جثم على صدره وتمكن في حشاه.
خطب سعد بن أبي وقاص في يوم الشورى فقال: الحمد لله بديا كان وآخرا يعود، أحمد كان أنجاني في الضلالة، وبصرني في العماية؛ فبرحمة الله فاز من نجا، وبهدي الله أفلح من وعى، وبمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم استقامت الطرق واستبانت السبل، فظهر كل حق ومات كل باطل، إياكم أيها النفر وقول أهل الزور وأمنية الغرور، فقد سكنت الأماني قبلكم قوما ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم، فاتخذهم الله أعداء ولعنهم لعنا كثيرا، قال الله عز وجل: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.
وإني نكبت قرني فأخذت سهمي الفالج، وأخذت لطلحة بن عبيد الله في غيبته ما ارتضيت لنفسي في حضوري، فأنا به زعيم، وبما أعطيت عنه كفيل، والأمر إليك يا ابن عوف بصدق النفس وجهد النصح، وعلى الله قصد السبيل وإليه المصير.
وقال لعمر ابنه حين نطق مع القوم فبذهم، وكانوا كلموه في الرضا عنه قال: هذا الذي أغضبني عليه، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون قوم يأكلون الدنيا بألستنهم كما تلحس البقر الأرض بألسنتها.
ومن خطبة لعلي بن أبي طالب عليه السلام في التوحيد:

الحمد لله المعروف من غير رؤية، الذي لم يزل قائما دائما إذا لا سماء ذات أبراج، ولا حجب ذات أرتاج، ولا ليل داج، ولا بحر ساج، ولا جبل ذو فجاج، ولا فج ذو اعوجاج، ولا أرض ذو مهاد، ولا خلق ذو اعتماد؛ ذلك مبتدع الخلق ووارثه، وإله الخلق ورزاقه، ومسخر الشمس والقمر دائبين في مرضاته، يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، قسم أرزاقهم، وأحصى آثارهم وأعمالهم، وعدد أنفاسهم وخائنة أعينهم وما تخفي صدورهم من الضمير، ومستقرهم ومستودعهم من الأرحام والظهور، إلى أن تتناهى بهم الغايات؛ هو الذي اشتد نقمته على أعدائه في سعة رحمته، واتسعن رحمته لأوليائه في شدة نقمته، قاهر من عازه، ومدمر من شاقه، ومذل من ناواه، وغالب من عاداه؛ من توكل عليه كفه، ومن سأله أعطاه، ومن افترضه قضاه، ومن شكره جزاه.
عباد الله، زنوا أنفسكم من قبل إن توزنوا، وحاسبوا من قبل أن تحاسبوا، ونفسوا قبل ضيق الخناق، وانقادوا قبل عنف السياق، واعلموا أنه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها لا زاجرو لا واعظ.
ومن خطبة له عليه السلام في المعنى: الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليته، وباشتباههم على إن لا شبه له، لا تشمله المشاعر، ولا تحجبه السواتر، لافتراق الصانع والمصنوع، والحاد والمحدود، والرب والمربوب، الأحد بلا تأويل والخالق لا بمعنى حركة ونصب، والسعيع لا بأداة، والبصير لا بتفريق آلة،والشاهد لا بمماسة، والبائن لا بتراخي مسافة، والظاهر لا برؤية، والباطن لا بلطافة، بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها، وبانت الأشياء بالخضوع له والرجوع إليه؛ من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزليته، ومن قال كيف فقد استوصفه، ومن قال أين فقد حيزه، عالم إذ لا معلوم، ورب إذ لا مربوب، وقادر إذ لا مقدور.
ومن خطبة له في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: اختاره من شجرة الأنبياء، ومشكاة الضياء، وذؤابة العلياء، وسرة البطحاء، ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة.
وفي مثل ذلك والصلاة عليه: اللهم داحي المدحوات، وداعم المسموكات، وجابل القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك بركاتك على محمد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حمل فاضطلع، قائما بأمرك، مستوفزا في مرضاتك، غير نأكل عن قدم ولا واه في عزم، واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضيا على إنفاذ أمرك، حتى أورى قبس القابس، وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام، وأقام موضحات الأعلام ونيرات الأحكام؛ فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحق، ورسولك إلى الخلق.
اللهم افسح لهم مفسحا في ظلك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك، اللهم أعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك منزله، وأتمم له نوره، واجزه على ابتعاثك له مقبول الشهادة ومرضى المقالة، ذا منطق عدل وخطة فصل؛ اللهم اجمع بيننا وبينه في برد العيش وقرار النعمة، وأمن الشهوات ولهو اللذات، ورخاء الدعة ومنتهى الطمأنينة وتحف الكرامة.
ومن خطبة له عليه السلام: أين من سعى واجتهد، وجمع وعدد، وبنى وشيد، وزخرف ونجد، وفرش ومهد.
قال جعفر بن يحيى وقد ذكر هذا الكلام: هكذا تكون البلاغة: أن يقرن بكل كلمة أختها، فتلوح الأولى بالثانية قبل انقائها، وتزيد كل واحدة في نور الأخرى وضيائها.
ومن خطبة له عليه السلام: نحمد على أخذ وأعطى، وعلى ما أبلى وابتلى، الباطن بكل خفية،الحافظ لكل سريرة، العالم بما تكن الصدور وما تخون العيون. ونشهد أن لا إله غيره، وان محمدا نجيه وبعيثه، شهادة يوافق فيها السر الإعلان والقلب اللسان.

قال نوف البكالي: خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة وهو قائم عل حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف وحمائل سيفه من ليف، وفي رجليه نعلان من ليف وكأن جبينه ثفنة بعير، فقال: الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق وعواقب الأمر، نحمده على عظيم إحسانه، ونير برهانه، ونوامي فضله وامتنانه، حمدا يكون لحقه قضاء، ولشكره أداء، وإلى ثوابه مقربا، ولحسن مزيده موجبا، ونستعين يه استعانة راج لفضله، مؤمل لنفعه، واثق بدفعه، معترف له بالطول، مذعن له بالعمل والقول، ونؤمن به إيمان من رجاه موقنا، وأناب إليه مؤمنا، وخضع له مذعنا، وأخلص له موحدا، وعظمه ممجدا، ولاذ به راغبا مجتهدا، لم يولد سبحانه فيكون في العز مشاركا، ولم يلد فيكون موروثا هالكا، ولم يتقدمه وقت ولا زمان، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم، فمن شواهد خلقه خلق السموات والأرض موطدات بلا عمد، وقائمات بلاسند، دعاهن فأجبن طائعات مذعنات.
ومنها: أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرياش، وأسبغ عليكم المعاش، فلو أن أحدا يجد إلى البقاء سلما أو لدفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود، عليهما السلام، الذي سخر له ملك الجن والإنس مع النبوة وعظيم الزلفة، فلما استوفى طعمته، واستكمل مدته، رمته قسي الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية، والمساكن معطلة، ورثها قوم آخرون.
وإن لكم في القرون السالفة لعبرة: أين العمالقة وأبناء العمالقة؟ أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟ أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين، وأطفأوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبارين؟ أين الذين ساروا بالجيوش، وهزموا الألوف، وعسكروا العساكر، ومدنوا المدائن.
ومن خطبة له عليه السلام: أحمده شكرا لإنعامه، وأستعينه على وظائف حقوقه، عزيز الجند عظيم المجد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، دعا إلى طاعته وقهر أعداءه جهادا عن دينه، لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه، والتماس لإطفاء نوره.
فاعتصموا بتقوى الله، فإن لها حبل وثيقا عروته، ومعقلا منيعا ذروته، وبادروا الموت وغمراته، أمهدوا له قبل حلوله، وأعدوا له قبل نزوله، فإن الغاية القيامة، وكفى بذلك واعظا لمن عقل، ومعتبرا لمن جهل.
وقبل بلوغ الغاية ما تعملون من ضيق الأرماس، وشدة الإبلاس، وهو المطلع، وروعات الفزع، واختلاف الأضلاع، واستكاك الأسماع، وظلمة اللحد، وخيفة الوعد، وغم الضريح، وردم الصفيح، فالله الله عباد الله، فإن الدنيا ماضية بك سنن، وأنتم والساعة في قرن، وكأنها قد جاءت بأشراطها، وأزفت بأفراطها، ووقفتكم على صراطها؛ وكأنها قد أشرفت بزلازلها، وأناخت بكلاكلها وانصرمت الدنيا بأهلها، وأخرجتهم من حضنها، وكانت كيوم مضى وشهر انقضى، وصار جديدها رثا، وسمينها غثا، في موقف ضنك المقام، وأمور مشتبهة عظام، ونار شديد كلبها، عال لجبها، ساطع لهبها،مغيظ زفيرها، متأجج سعيرها، بعيد خمودها، ذاك وقودها، مخوف وعيدها، عميق قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا قد أمن العذاب، وانقطع العتاب وزحزحوا عن النار واطمأنت بهم الدار، ورضوا المثوى والقرار، الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية، وأعينهم باكية، وكان ليلهم في دنياهم نهارا تخشعا واستغفارا، وكان نهارهم ليلا توحشا وانقطاعا؛ جعل الله لهم الجنة ثوابا، وكانوا أحق بها وأهلها في ملك دائم ونعيم قائم، فارعوا عباد الله ما برعايته يفوز فائزكم، وبإضاعته يخسر مبطلكم، وبادروا آجالكم بأعمالكم، فإنكم مرتهنون بما أسفلتم، ومدينون بما قدمتم، وكأن قد نزل بكم المخوف فلا رجعة تنالون، ولا عثرة تقالون، استعملنا الله وإياكم بطاعته وطاعة رسوله، وعفا عنا وعنكم بفضل رحمته.
الزمر الأرض واصبروا عن البلاء، ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجله الله لكم، فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيدا، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما يؤتى من صالح عمله، وقامت النية مقام إصلاته لسيفه، فإن لكل شيء مدة وأجلا.
وخطب لما ورد عليه مقتل محمد بن أبي بكر وغلبة أصحاب معاوية على مصر، فقال بعد أن حمد الله تعالى:

ألا أن مصر أصبحت قد فتحت، ألا وأن محمد بن أبي بكر قد أصيب، رحمة الله وعند الله نحتسبه، أما والله إن كان لمن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب هدي المؤمن.
إني والله لا ألوم نفسي في تقصير ولا عجز؛ إني بمقاساة الحرب جد عالم خبير، وإني لأتقدم في الأمر فأعرف وجه الحزم، وأقوم فيه بالرأي المصيب معلنا، وأناديكم نداء المستغيث فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرا إلى عواقب الفساد، وأنتم لا تدرك بكم الأوتار، ولا يشفي بكم الغليل.
دعوتكم إلى غياث إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليس له نية في جهاد عدو ولا احتساب أجر، وخرج جيل ضعيف كأنما يساقون إلى الموتوهم ينظرون.
خطب الحسن بن عليهما السلام بعد وفاة أبيه فقال: أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام شدة ولا ندم، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فسبقت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع. وكنتم في مبتداكم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم ودنياكم أمام دينكم، وكنا لكم وكنتم لنا، فصرتم الآن كأنكم علينا، ثم أصبحتم بعد ذلك تعدون قتيلين: قتيلا بصفين تبكون عليه وقتيلا بالنهروان تطلبون بثأره. فأما الباكي فخاذل، وأما الطالب فثائر، وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه إليه، وحاكمناه إلى الله تعالى، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا بالرضى. فناداه القوم البقية البقية.
خطب معاوية بالمدينة فقال: أما بعد، فإنا قدمنا على صديق مستبشر، وعلى عدو مستبسر، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون، فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون، ولست أسع الناس كلهم، فإن لم تكن محمدة فلا بد من لائمة، ليكن لوما هونا إذا ذكر غفر، وإياكم والعظمى التي إن ظهرت أوبقت، وإن لم خفيت أوتغت.
خطب معاوية بالمدينة فقال، وكان رقي المنبر فأرتج عليه، فاستأنف فأرتج عليه، فقطع الخطبة، وقال: سيجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد عي بيانا، وأنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال.
فبلغ كلامه عمرو بن العاص فقال: هن مخرجاتي من الشام، استحسانا لكلامه.
وصعد زياد المنبر فلما حمد الله وأثنى عليه أراد الخطبة فأرتج عليه فقال: معاشر الناس إن الكلام يجيء أحيانا وربما كوبر فعسا، وتكلف فأبى، والتعمل لأتيه خير من التعاطي لأبيه، وسأعود فأقول؛ ثم نزل.
وقدم زياد البصرة واليا لمعاوية والفسق فيها ظاهر فاش، فخطب خطبة قال فيها: الحمد لله على إفضاله، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه، اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا.
أما بعد فإن الجاهلية الجهلاء، والضلالة العمياء، وألغي الموفي بأهله على النار، ما أصبح فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حملاؤكم من الأمور العظام، كأنكم لم تقرؤا كتاب الله عز وجل، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي الذي لا يزول.

أتكونون كمن طرفت الدنيا عينه وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تدركون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل؟ ألم يكن فيكم نهاةٌ تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار؟ قربتم القرابة وباعدتم الدين، وتعتذرون بغير العذر، وتغضون عن المختلس؟ كل امرئٍ منكم يذب عن سفيهه، صنع من لا يخاف عاقبةً ولا يرجو معاداً. ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب. حرامٌ علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لينٌ في غير ضعفٍ، وشدةٌ في غير عنفٍ. وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة المنبر تلقى منشورة، فإذا تعلقتم علي بكذبةٍ فقد حلت لكم معصيتي: من نقب عليه فأنا ضامنٌ له ما ذهب منه؛ فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلجٍ إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر من الكوفة ويرجع إليكم؛ وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنبٍ عقوبةً: من غرق قوماً غرقناه، ومن أحرق على قوم أحرقناه، ومن نقب على قومٍ بيتاً نقبنا عليه قلبه، ومن نبش قبراً دفناه فيه حياً. كفوا عني أيديكم وألسنتكم أكف عنكم يدي ولساني. ولا يظهر من أحدكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوامٍ إحنٌ فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره. فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئسٍ بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسةً وعنكم ذادةً، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطاناه ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا؛ فاستوجبوا عدلنا وفيأنا بمناصحتكم إيانا. واعلموا أني مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاثٍ: لست محتجباً عن طالب حاجةٍ منكم ولو أتاني طارقاً بليلٍ، ولا حابساً عطاءً ولا رزقاً عن إبانه، ولا مجمراً لكم بعثاً. فادعوا الله تعالى بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع ا،ه لو استجيب لكم فيهم كان شراً لكم. اسأل الله تعالى أن يعين كلاً على كل. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله. وإيم الله، إن لي فيكم لصرعى كثيرةً، فليحذر كل امرئٍ منكم أن يكون من صرعاي.
فقام عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال: كذبت ذاك نبي الله داود.
فقام الأحنف فقال: إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء؛ وإنا لانثني حتى نبتلي، ولا نحمد حتى نعطى.
قال له زياد: صدقت.
فقام أبو بلالٍ يهمس وهو يقول: أنبأنا الله عز وجل بغير ما قلت، قال الله عز وجل: وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى. فسمعها زياد فقال: إنا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضاً.
قيل لبعض الخطباء: لقد جودت في خطبتك. فقال: إني عرفت هذا الأمر وعودي قريبٌ من العلوق، وطينتي قابلةٌ للطبع، لم يعترضني شاغل الأزمان، ولم يعتلقني طارق الحدثان، فأنا كما قال مهدي ابن الملوح: من الطويل
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً فارغاً فتمكنا
خطبة قس بن ساعدة الإيادي:

أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا: إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، أقسم قس قسماً لا كذب فيه ولا إثم: إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً، سقف مرفوعٌ، ومهادٌ موضوعٌ، وبحرٌ مسجورٌ، ونجومٌ تسير ولا تغور. ما لي أرى الأنس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا؟ أقسم بالله قسماً: إن لله ديناً هو أرضى من دينٍ نحن عليه؛ وأراكم قد تفرقتم بآلهةٍ شتى. وإن كان الله رب هذه الآلهة، إنه ليجب أن يعبد وحده. كلا إنه الله الواحد الصمد، ليس بمولودٍ ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المعاد غداً.
وقال: من الكامل المجزوء
في الذاهبين الأولي ... ن من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والاكابر
لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
خطبة لجبلة بن حريث العبدي: أيها الناس، إنما البقاء بعد الفناء، وقد خلقنا ولم نك شياً، وسنعود إلى مبدانا فإما رشداً وإما غياً. إن العواري اليوم والهبات غداً، لا بد من رحيل عن محلٍ نازلْ؛ ألا وقد تقارب سلٌ فاحش وعطاء جزل، وقد أصبحتم في محل محلٍ منزلٍ لا يثبت فيه سرور يسرٍ، ولا أصابه حضور عسرٍ، ولا تطول فيه حياةٌ مرجوةٌ إلا اخترمها موت مخوف، ولا يوثق فيها بحلفٍ ماضٍ، وأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم، تسوقكم إلى الفناء، فلم تطلبون البقاء؟.
خطبة للعملس: هل لكم في الكلمات مطرٌ ونبات، وبنون وبنات، وآباءٌ وأمهات، وآياتٌ في إثر آيات: سماءٌ مبنية، وأرضٌ مدحيةٌ، ضوءٌ وظلام، وليالٍ وأيام، وسعيد وشقي، ومحسنٌ ومسي، وفقير وغني. أين الأرباب الفعلة، ليجدن كل عاملٍ عمله؟ أين ثمود وعاد؛ أين الآباء والأجداد؟ أين الخيل التي تشكم، وأين الظلم الذي لم ينقم؟.
الأصل مدحوة ولكنه زاوج بينها وبين مبنية وتكون مبنية من دحيت، والعرب تفعل ذلك وتقول: مجفو ومجفي وهو مبني من جفي.
خطبة لهاشم بن عبد مناف: خطب فقال: أيها الناس، الحلم شرفٌ والصبر ظفرٌ، والجود سؤددٌ والمعروف كنزٌ، والجهل سفه، والعجز ذلة، والحرب خدعة، والظفر دول، والأيا غير، والمرء منسوبٌ إلى فعله ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، واستشعروا الجد تفوزوا به، ودعوا الفضول يجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا عن الحقيقة يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعةٌ، وإياكم والأخلاق الدنية فإنها تضع الشرف وتهدم المجد، والسلام.
خطب أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب عند تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت خويلد رضي الله عنها: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن محمداً بن عبد الله ابن أخي من لا يوازن به فتىً من قريشٍ إلا رجح به براً وفضلاً، وكرماً وعقلاً، ومجداً ونبلاً، وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وعاريةٌ مسترجعةٌ، وله في خديجة ابنة خويلد رغبةٌ، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلي.
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وخبر تزويج فاطمة عليها السلام: روي عن أنس أنه قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ غشيه الوحي، فمكث هنيهةً ثم أفاق فقال لي: يا أنس أتدري ما جاءني بخ جبريل من عند صاحب العرش عز وجل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: إن ربي تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي بن أبي طالب عليهما السلام. انطلق ادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعدتهم من الأنصار، فانطلقت فدعوتهم، فلما أخذوا مقاعدهم قال النبي صلى الله عليه وسلم:

الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المرهوب من عذابه، المرغوب في ما عنده، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه صلى الله عليه وسلم. ثم إن الله تعالى جعل المصاهرة نسباً لاحقاً وأمراً مفترضاً، وشج به الأرحام، وألزمه الأنام، قال الله تعالى: وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً، وكان ربك قديراً. فأمر الله يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قضاء قدرٌ، ولكل قدر أجل يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب ثم إن ربي تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي بن أبي طالب، وقد زوجتها إياه على أربعمائة من فضة إن رضي بذلك علي.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث في حاجةٍ، ثم إنه دعا بطبقٍ من بر، فوضعه بين أيدينا ثم قال: انتهبوا؛ فبينا نحن ننتهب إذ دخل علي، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، ثم قال: يا علي إن ربي عز وجل قد امرني أن أزوجك فاطمة، وقد زوجتك إياها على أربعمائة مثقال فضة إن رضيت يا علي. قال: رضيت يا رسول الله. ثم إن علياً خر ساجداً شكراً لله تعالى، فلما رفع رأسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله عليكما وبارك فيكما، وأسعد جدكما، وأخرج منكما الكثير الطيب؛ قال انس: فوالله لقد أخرج الله منهما الكثير الطيب.
خطبة علي عليه السلام حين تزوج فاطمة عليها السلام:

الحمد لله الذي قرب من حامديه، ودنا من سائليه، ووعد الجنة من يتقيه، وقطع بالنار عذر من يعصيه، أحمده بجميع محامده وأياديه، وأشكره شكر من يعلم أنه خالقه وباريه، ومصوره ومنشيه، ومميته ومحييه، ومقربه ومنجيه، ومثيبه ومجازيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تبلغه وترضيه، واشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، صلاةً تزلفه وتدنيه، وتعزه وتعليه، وتشرفه وتجتنيه. أما بعد. فإن اجتماعنا مما قدره الله ورضيه، والنكاح مما أمر الله به وأذن فيه، وهذا محمد صلى الله عليه وسلم قد زوجني فاطمة ابنته على صداق مبلغه أربعمائة وثمانون درهماً، ورضيت به فاسألوه، وكفى بالله شهيداً. قيل لما بلغ فاطمة عليها السلام ما أجمع عليه من منعها فدكاً لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمةٍ من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم أجمعين، وغيرهم، فنيطت دونها ملاءةٌ، ثم أنت أنه أجهش لها القوم بالبكاء وارتج المجلس، ثم أمهلت هنيهةً حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت كلامها بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالت: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فإن تعرفوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة بالغاً بالرسالة، مائلاً عن سنن المشركين، ضارباً لثبجهم، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، آخذاً بأكظام المشركين، يهشم الأصنام ويفلق الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، وحتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وتمت كلمة الإخلاص، وكنتم على شفا حفرة من النار، نهزة الطامع، ومذقة الشارب، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق وتقتاتون القد، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، حتى أنقذكم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم، بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان، أو فغرت فاغرةٌ للمشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطا صماخها بأخمصه، ويطفئ عادية لهبها بسيفه، أو قالت: يخمد لهبها بحده - مكدوداً في ذات الله تعالى، وأنتم في رفاهية فاكهون آمنون وادعون، حتى إذا اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم دار أنبيائه، ظهرت حسكه النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الآفلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه صارخاً بكم، فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفاقاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، واوردتم غير شربكم؛ هذا والعهد قريبٌ، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل. بماذا زعمتم: خوف الفتنة؟ ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين فهيهات منكم وأنى بكم وأنى تؤفكون، وكتاب الله تعالى بين أظهركم، زواجره بينة، وشواهده لائحة، وأوامره واضحة، أرغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلاً ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفس نغرتها، تسرون حسواً في ارتغاء، ونصبر منكم على مثل حز المدى، وأنتم الآن تزعمون ألا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟ إيهاً معشر المسلمة المهاجرة، أأبتز إرث أبي؟! أبى الله؛ أفي الكتاب يا ابن أبي قحافة أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً. فدونكها مخطومةً مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد صلى الله عليه وسلم، والموعد القيامة، وعند الله يحشر المبطلون، ولكل نبا مستقر، وسوف تعلمون. ثم انكفأت على قبر أبيها صلى الله عليه وسلم وقالت: من البسيط
قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثة ... ولو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... واختل أهلك فأحضرهم ولا تغب

وذكر أنها لما فرغت من كلام أبي بكر رضي الله عنه والمهاجرين عدلت إلى مجلس الأنصار فقالت: يا معشر الفئة، وأعضاء الملة، وحضنة الإسلام، ما هذه الفترة في حقي والسنة في ظلامتي؟ أما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفظ في ولده؟ لسرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة؟ أتقولون مات محمد صلى الله عليه وسلم فخطبٌ جليل استوسع وهيه، واستنهر فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض لغيبته، واكتأبت خيرة الله لمصيبته، وخشعت الجبال، وأكدت الآمال، وأضيع الحريم، وأذيلت الحرمة عند مماته صلى الله عليه وسلم، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله تعالى في فتنتكم، في ممساكم ومصبحكم، تهتف في أسماعكم، ولقبله ما حلت بأنبياء الله ورسله صلى الله عليه وعليهم، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين. إيهاً بني قيلة، أأهتضم تراث أبيه وأنتم بمرأىً مني ومسمعٍ، تلبسكم الدعوة، وتشملكم الحيرة، وفيكم العدد والعدة، ولكم الدار وعندكم الجنن، وأنتم الألى، نخبة الله التي انتخب لدينه، وأنصار رسوله صلى الله عليه، وأهل الإسلام، والخيرة التي اختار الله تعالى لنا أهل البيت، فنابذتم العرب، وناهضتم الأمم، وكافحتم البهم، لا نبرح نأمركم فتأتمرون، حتى دارت لكم بنا رحى الإسلام، ودر حلب الأيام، وخضعت نعرة الشرك، وباخت نيران الحرب، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين، فأبى جرتم بعد البيان، ونكصتم بعد الإقدام، وأسررتم بعد الإعلان، لقومٍ نكثوا أيمانهم؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة، فعجتم عن الدين، ومحجتكم التي وعيتم، ولفظتم التي سوغتم. وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد. ألا وقد قلت الذي قلته على معرفة مني بالخذلان الذي خامر صدوركم، واستشعرته قلوبكم، ولكن قلته فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وبثة الصدر، ومعذرة الحجة. فدونكموها فاحتقبوها مدبرة الظهر، ناقبة الخف، باقية العار، موسومةً بشنار الأبد، موصولةً بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعلموا إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون.
بلغ عائشة رضي الله عنها أن أناساً يتناولون أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فأرسلت إلى أزفلةٍ من الناس، فلما حضروا سدلت أستارها، وعلت وسادها، ثم دنت فحمدت الله عز وجل وأثنت عليه وصلت على نبيه صلى الله عليه وسلم وعذلت وقرعت وقالت: أبي وما أبي! أبي والله لا تعطوه الأيدي، ذاك طود منيف وظل مديد، هيهات هيهات، كذبت الظنون، أنجح والله إذ أكديتم وسبف إذ ونيتم: من البسيط
سبق الجواد إذا استولى على الآمد

فتى قريش ناشئاً، وكهفها كهلاً، يريش مملقها، ويفك عانيها، ويرأب شعبها، حى حلته قلوبها، ثم استشرى في دينه، فما برحت شكيمته في ذات الله حتى بنى بفنائه مسجداً يحيي فيه ما أمات المبطلون. وكان رحمة الله عليه غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجي النشيج، فانغضت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به، الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون. وأكبرت ذلك رجالات قريش، فحنت له قسيها، وفوقت له سهامها، وانتتلوه غرضاً، فما فلوا له صفاةً ولا قصفوا له قناةً، ومر على سيسائه، حتى إذا ضرب الدين بجرانه، وألقى بركه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجاً، ومن كل شرعة أشتاتاً وأرسالاً، اختار الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده. فلما قبض الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ضرب الشيطان برواقه، ومد طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، واضطرب حبل الإسلام، ومرج عهده، وماج أهله، وبغي الغوائل، وظنت رجال أن قد أكثبت نهزتها، ولات حين الذي يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم. فقام حاسراً مشمراً، قد جمع بين حاشيتيه، ورفع قطريه، فرد نشر الدين على غره، ولم شعثه بطيه، وأقام أوده يثقافه، فامذقر النفاق بوطئه، وانتاش الدين فنعشه. فلما أراح الحق على أهله، وأقر الرؤوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، حضرته منيته، نضر الله وجهه، فسد ثلمه بنظيره في الرحمة، ومقتفيه في السيرة والمعدلة، ذاك عمر بن الخطاب، لله أم حملت به ودرت عليه لقد أوحدت. فشرد الشرك شذر مذر، وبخع الأرض ونخعها، يقال: بخع نفسه قتلها غماً والنخع أن يجوز بالذبح إلى النخاع، وفي الحديث أن أنخع الأسماء أي أقتلها لصاحبه، والناخع العالم فقاءت أكلها، ولفظت خبيئها، ترأمه ويصد عنها، وتصدى له ويأباها. ثم وزع فيئها، وودعها كما صحبها. فأروني ماذا ترون، وأي يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أو يوم ظعنه إذ نظر لكم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ولما قتل عثمان أمير المؤمنين قالت عائشة رضي الله عنها: قتل؟! قالوا: نعم، قالت: فرحمه الله وغفر له؛ أما والله لقد كنتم إلى تسديد الحق وتأييده، وإعزاز الإسلام وتأكيده، أحوج منكم إلى ما نهضتم إليه من طاعة من خالف عليه، ولكن كلما زادكم الله تعالى نعمةً في دينكم ازددتم تثاقلاً في نصرته طمعاً في دنياكم. أما والله لهدم النعمة أيسر من بنائها، وما أردناه إليكم بالشكر بأسرع من زوال النعمة عنكم بالكفر؛ وأيم الله، لئن كان أفنى أكله واخترم أجله، لقد كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كذراع البكر الأزهر؛ ولئن كانت الإبل أكلت أوبارها إنه لصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولئن كان برك الدهر عليه بزوره، وأناخ عليه بكلكله، إنها لنوائب تترى تلعب بأهلها وهي جادة، وتجد بهم وهي لاعبة؛ أما والله لقد حاط الإسلام وكنفه، وعضد الدين وأيده، ولقد هدم الله به صياصي الكفر، وقطع به دابر المشركين، وقلم به أركان الضلالة. فلله تعالى المصيبة به ما أفجعها، والفجيعة أم أوجعها، صدع الله بمقتله صفاة القلوب في الدين، وشملت مصيبته ذروة الإسلام.
قيل لما قتل الحسين بن علي عليهما السلام وجه ابن زياد رأسه والنسوة إلى يزيد فأمر أن يحضر رأس الحسين في طست، وجعل ينكت ثناياه بقضيب وينشد: من الرمل
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ... جَزَعَ الخزرجٍ من وَقْعٍ الأَسَلْ

قالت زينب بنت علي: صدق الله ورسوله يا يزيد: ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوءى إن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون. أظننت يا يزيد حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة، وأن هذا لعظم خطرك فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان فرحاً حين رأيت الدنيا مستوسقةً لك، والأمور متسقة عليك، وقد مهلت ونفست وهو قول الله تبارك وتعالى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين. أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك نساءك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هتكت ستورهن، وهن مكتئبات، تخدي بهن الأباعر، وتحدو بهن الأعادي من بلد إلى بلد، لا يراقبن ولا يؤوين، يتشوقهن القريب والبعيد، ليس معهن ولي من رجالهن؟ وكي يستبطا في بغضتنا من نظر إلينا بعين الشنف والشنآن، والإحن والأضغان؟ أتقول: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا، غير متأثم ولا مستعظم وأنت تنكث ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك؟ ولم لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة، بإهراقك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب؟! ولتردن على الله وشيكاً موردهم ولتودن أنك عميت وبكمت ولم تقل: لأهلوا واستهلوا فرحاً.
اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم لنا ممن ظلمنا. والله ما فريت إلا في جلدك، ولا حززت إلا في لحمك، وسترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم برغمك، وعترته ولحمته في حظيرة القدس يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث، وهو قول الله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين. وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المؤمنين إذا كان الحاكم الله تعالى والخصم محمد صلى الله عليه وسلم، وجوارحك شاهدةٌ عليك، فبئس لظالمين بدلاً، وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً، مع آني والله يا عدو الله وابن عدوه أستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، غير أن العيون عبرى، والصدور حرى، وما يجزي ذلك أو يغني عناً. وقد قتل الحسين عليه السلام حزب الشيطان تقرباً إلى حزب السفهاء ليعطوهم أموال الله تعالى على انتهاك محارم الله. فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، وهذه الأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الزواكي تقتاتها غيلان الفلوات. فلئن اتخذتنا مغنماً لنتخذنك مغرماً حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، تستصرخ بابن مرجانة ويستصرخ بك، ونتقاضى عند الميزان، وقد وجدت أفضل زاد زودك معاوية قتلك ذرية محمد صلى الله عليه وسلم؛ فوالله ما اقتقيت غير الله، ولا شكواي إلا إلى الله، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا يرحض عنك عار ما أتيت إلينا أبداً. والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبان الجنان، وأوجب لهم الجنة. أسأل الله أن يرفع لهم الدرجات، وأن يوجب لهم المزيد من فضله فإنه ولي قدير.

وقال بعضهم: رأيت أم كلثوم بنت علي عليه السلام بالكوفة، ولم أر خفرة والله أنطق منها كأنها تنطق على لسان أمير المؤمنين، وقد أومأت إلى الناس وهم يبكون على الحسين أن اسكتوا، فلما سكنت فورتهم وهدأت الأجراس قالت: أبدأ بحمد الله والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم. أما بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختر والخذل والختل، ألا فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم. ألا وهل فيكم إلا الصلف والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء؟ وهل أنتم إلا كمرعى على دمنة أو كقصعة على ملحودة؟ ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم: أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون؟ إي والله، فابكوا، فإنكم والله أحرياء بالبكاء، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فقد فزتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسلٍ بعدها أبداً. وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، ومنار محجتكم ومدرة حجتكم، ومفزع نازلتكم؟ فتعساً ونكساً، لقد خاب السعي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذلة والمسكنة. لقد جئتم شيئاً إداً تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً. أتدرون أي كبدٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ لقد جئتم بها شوهاء خرقاء طلاع الأرض والمساء. أفعجتم أن قطرت دماً؟ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون. فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا تحفزه المبادرة، ولا يخاف عليه فوت الثأر. كلا إن ربك لنا ولهم ولكم بالمرصاد.
ثم ولت عنهم فتركت الناس حيارى وقد ردوا أيديهم إلى أفواههم. ورأيت شيخاً كبيراً من بني جعفر وقد أخضلت لحيته من دموع عينيه، وهو يقول بصوت حزين: من الطويل
كهولُهُم خرُ الكهولِ ونسلُهُمْ ... إذا عُدَّ نسلٌ لا يبورُ ولا يخزى
خطبت حفصة بنت عمر رضوان الله عليها فقالت:

الحمد لله الذي ال نظير له، الفرد الذي لا شريك له. وأما بعد: فكل العجب من قوم زين لهم الشيطان أفعالهم وارعوى إلى صنيعهم، ودب إلى الفتنية لهم، ونصب حبائله فخلتهم، حتى هم عدو الله بإحياء البدعة ونشر الفتنة، وتجديد الجور بعد دروسه، وإظهاره بعد دثوره، وإراقة الدماء، وإباحة الحمى، وانتهاك محارم الله عز وجل بعد تحصينها، فتضرم وهاج وتوغر وثار غضباً لله عز وجل ونصرة لدين الله، فخسأ الشيطان ووقم كيده، وكف إرادته، وقدع محنته، وأصغر خده، لسبقه إلى مشايعة أولى الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الماضي على سنته، المقتدي بدينه، المقتص لأثره، فلم يزل سراجه زاهراً، وضوؤه لامعاً، ونوره ساطعاً، له من الأفعال الغرر، ومن الآراء المصاص، ومن التقدم في طاعة الله تعالى اللباب، إلى أن قبضه الله تعالى إليه، قالياً لما خرج منه، شائناً لما ترك من أمره، شنفاً لما كان فيه، صباً إلى ما صار إليه، وائلاً إلى ما دعي إليه، عاشقاً لما هو فيه. فلما صار إلى التي وصفت، وعاين ما ذكرت، أومأ بها إلى أخيه في المعدلة، ونظيره في السيرة، وشقيقه في الديانة؛ ولو كان غير الله سبحانه أراد لأمالها إلى ابنه، ولصيرها في عقبه، ولم يخرجها من ذريته. فأخذها بحقها، وقام فيها بقسطها، لم يؤده ثقلها، ولم يبهطه حفئها، مشرداً للكفر عن موطنه، ونافراً له عن وكره، ومثيراً له عن مجثمه، حتى فتح الله عز وجل على يديه أقطار البلاد، ونصر الله يقدمه، وملائكته تكنفه، وهو بالله تعالى معتصم وعليه متوكل، حتى تأكدت عرى الحق عليكم عقداً، واضمحلت عرى الباطل عنكم حلاً، نوره في الدجنات ساطع، وضوؤه في الظلمات لامع، قالياً للدنيا إذ عرفها، لافظاً لها إذ عجمها، وشائناً لها إذ سبرها، تخطبه ويقالها، وتريده ويأباها، لا تطلب سواه بعلاً، ولا تبغي سواه فحلاً، أخبرها أن التي يطلب ويخطب أرغد منها عيشاً، وأنضر منها حبوراً، وأدوم منها سروراً، وأبقى منها خلوداً، وأطول منها أياماً، وأغدق منها انهاراً، وأنعت منها جمالاً، وأتم بلهنية، وأعذب منها رفاهية، فبشعت نفسه بذلك لعادتها، واقشعرت لمخالفتها، فعركها بالعزم الشديد حتى أجابت، وبالرأي الجليد حتى انقادت. وأقام فيها دعائم الإسلام، وقواعد السنة الجارية، ورواسي الآثار الماضية، وأعلام أخبار النبوة الطاهرة، وظل خميصاً من بهجتها، قالياً لإتائها، لا يرغب في زبرجها، ولا يطمح إلى جدتها، حتى دعي فأجاب، ونودي فأطاع على تلك الحال، فاحتذى في الناس بأخيه، فأخرجها من نسله، وصيرها شورى بين إخوته، فبأي أفعاله تتعلقون؟ وبأي مذاهبه تتمسكون؟ أبطرائقه القويمة في حياته أم بعدله فيكم عند مماته؟ ألهمنا الله وإياكم طاعته، وإذا شئتم ففي حفظ الله وكلاءته.

لما قتل عثمان بن عفان رحمة الله عليه صاحت ابنته عائشة: يا ثارات عثمان! إنا لله وإنا إليه راجعون. أفيتت نفسه وطل دمه في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنع من دفنه؛ ولو يشاء لامتنع ووجد من الله تعالى حاكماً، ومن المسلمين ناصراً، ومن المهاجرين شاهداً، حتى يفيء إلى الحق من شذ عنه أو تطيح هامات وتفرى غلاصم وتخاض دماء؛ ولكن استوحش مما أنستم به، واستوخم وما استمرأتموه. يا من استحل حرم الله ورسوله واستباح حماه، لقد نقمتم عليه أقل مما أتيتم إليه، فراجع ولم تراجعوه، واستقال فلم تقيلوه، رحمة الله عليك يا أبتاه، احتسبت نفسك وصبرت لأمر ربك حى لحقت به، وهؤلاء الآن قد ظهر منهم تراوض الباطل، وإذكاء الشنآن، وكوامن الأحقاد، وإدراك إلاحن والأوتار، وبذلك وشيكاً كان كيدهم وتبغيهم، وسعي بعضهم ببعض، فما أقالوا عاثراً، ولا استعتبوا مذنباً، حتى اتخذوا ذلك سبباً إلى سفك الدماء وإباحة الحمى، وجعلوا سبيلاً إلى البأساء والعنت، فهلا علت كلمتكم وظهرت حسكتكم إذ ابن الخطاب قائم على رؤوسكم، ماثل في عرصاتكم، يرعد ويبرق بإرعابكم، يقمعكم غير حذر من تراجعكم الأماني بينكم، وهلاً نقمتم عليه عوداً وبدءاً إذ ملك ويملك عليكم من ليس فيكم بالخلق اللين والمنظر الفضيل، يسعى عليكم وينصب لكم، لا تنكرون ذلك منه خوفاً من سطوته، وحذراً من شدته، أن يهتف بكم متقسوراً أو يصرخ بكم مغذمراً، إن قال صدقتم قالته، وإن سأل بذلتم سألته؛ يحكم في رقابكم وأموالكم كأنكم عجائز صلع وإماء قطع، فبدأ معلناً لابن أبي قحافة بإرث نبيكم على بعد رحمه وضيق بلده، وقلة عدده. فوقى الله شرها. زعم لله دره ما أعرفه بما صنع، أو لم يخصم الأنصار بقيس، ثم حكم بالطاعة لمولى أبي حذيفة، يتمايل بكم يميناً وشمالاً، قد خطب عقولكم واستمهر وجلكم، ممتحناً لكم، ومتعرفاً أخطاركم. وهل تسمو هممكم إلى منازعته، ولولا تيك لكان قسمه خسيساً، وسعيه تعيساً، لكن بدأ الرأي وثنى بالقضاء وثلث بالشورى، ثم غدا سامراً مسلطاً، درته على عاتقه، فتطأطأتم له، ووليتموه أدباركم، حتى علا أكتافكم، ينعق بكم في كل مرتع، ويشد منكم على كل مخنق، لا ينبعث لكم هتاف، ولا يأتلق لكم شهاب، عرفتم أو أنكرتم، لا تألمون ولا تستنطقون، حتى إذا عاد الأمر فيكم ولكم وإليكم في مونقة من العيش، عرقها وشيج، وفرعها عميم، وظلها ظليل، تتناولون من كثب ثمارها أنى شئتم رغداً، وحلبت عليكم عشار الأرض درراً، واستمرأتم أكلكم من فوقكم ومن تحت أرجلكم، تنامون في الخفض، وتسكنون إلى الدعة، ومقتم زبرجة الدنيا، واستحليتم غضارتها ونضرتها، وظننتم أن ذلك سيأتيكم من كثب عفواً، ويتحلب عليكم رسلاً، فانتضيتم سيوفكم، وكسرتم جفونكم، وقد أبى الله أن تشام سيوف جردت بغياً وظلماً؛ ونسيتم قول الله عز وجل: إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً. فلا يهنئكم الظفر، ولا يستوطن بكم الحر، فإن الله تعالى بالمرصاد، وإليه المعاد. والله ما يقوم الظليم إلا على رجلين، ولا ترن القوس إلا على سيتين. فأثبتوا في الغرز أرجلكم فقد ضللتم هداكم في المتيهة الخرقاء كما أضل ادحيته الحسل. وسيعلم كيف يكون إذا كان الناس عباديد، وقد نازعتكم الرجال، واعترضت عليكم الأمور، وساورتكم الحروب بالليوث، وقارعتكم الأيام بالجيوش، وحمي عليكم الوطيس، فيوماً تدعون من لا يجيب، ويماً تجيبون من لا يدعو. وقد بسط باسطكم كلتا يديه يرى أنهما في سبيل الله، فيد مقبوضة وأخرى مقصورة، والرؤوس تنزو عن الطلى والكواهل، كما ينقف التنوم، فما أبعد نصر الله من الظالمين؛ وأستغفر الله تعالى مع المستغفرين، والحمد لله رب العالمين.
وإن في هذه الخطب التي ذكرناها للنساء بيانا عن فضيلة العرب بما خصهم الله تعالى من النطق والبيان، وميزهم فيه على سائر الأمم.
قال الجاحظ: لا تعرف الخطب إلا العرب والفرس؛ فأما الهند فلهم معان مدونة وكتب مخلدة، لا تضاف إلى رجل معروف ولا إلى عالم موصوف، وإنما هي كتب متوارثة، وآداب على وجه الدهر مذكورة.
ولليونانيين فلسصفة وصناعة منطق.
وكان صاحب المنطق نفسه بكيء اللسان، غير موصوف البيان، مع علمه بتميز الكلام وتفصيله ومعانيه وخصائصه.

وهم يزعمون أن جالينوس كان أنطق اللسان، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة.
وفي الفرس خطباء إلا أن كلام للفرس وكل معنىً للعجم فإنما هو عن طول فطرة، وعن اجتهاد رأي وطول خلوةٍ، وعن مشاورةٍ ومعاونةٍ، وعن طول التفكر ودرساة الكتب وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند أخرهم.
وكل شيء للعرب فإنما هو ديهةٌ وارتجالٌ، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناٌ ولا مكابدةٌ، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو إن يصرف وهمه إلى الكلام، أو إلى رجزٍ يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حربٍ، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وغلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يعيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده. وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا تيكلفون، وكأن الكلام الجيد عندهم أكثر وأظهر، وهم عليه أقدر وله أقهر، وكل واح في نفسه أنطق، ومكانه في البيان أرفع. وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عندهم أيسر من أن يتفقروا إلى تحفظ، ويحتاجوا إلى تدارس؛ وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب. وإن شيئاً هذا الذي في أيدينا جزء منه لبالمقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب وعدد التراب، وهو الله المحيط بما كان، والعالم بما سيكون. ونحن إذا ادعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا على ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم، ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك إلا في اليسير والشيء القليل. ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولدة، إذ كان مثل ابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عبيد الله وعبد الحميد وغيلان يستطيعون أن يولدوا مثل ذلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السير.
والمثل يضرب في الخطابة بسحبان وائل، وكان خطيب العرب غير مدافعٍ ولا منازعٍ، وكان ابنه عجلان أيضاً خطيباً بليغاً، وكان سحبان إذا خطب لم يعد حرفاً، ولم يتوقف ولم يتحبس، ولم يعد كلاماً ولم يتفكر في استنباط، وكان يسيل عرقاً كأنه آذي بحر. ويقال إن معاوية قدم عليه وفد من خراسان، وجههم سعيد بن عثمان، فطلب سحبان فلم يوجد عامة النهار، ثم اقتضب من ناحية كان فيها اقتضاباً، فادخل عليه فقال: تكلم، فقال: انظروا لي عصاً تقيم من أودي. فقالوا: وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟ قال: ما كان يصنع بها موسى صلى الله عليه وهو يخاطب ربه وعصاه في يده؟ فضحك معاوية وقال: هاتوا له عصاً. فجاءه بعصاه، فأخذها ثم قام فتكلم منذ صلاة الظهر إلى أن فاتت صلاة العصر، ما تنخع ولا سعل، ولا توقف ولا تحبس، ولا ابتدأ في معنىً فخرج عنه وقد بقي عليه فيه شيء، وسأل عن أي جنس من الكلام يخطب فيه. فما زالت تلك حاله، وكل عينٍ في السماطين والحفل قد شخصت نحوه، إلى أن أشار إليه عاوية الصلاة فقال: هي أمامك ونحن في صلاة يتبعها تمجيد وتحميد، وعظة وتنبيه وتذكير، ووعد ووعيد. قال معاوية: أنت أخطب العرب قاطبةً. قال سحبان: والعجم والجن والإنس.

لما دخل عبد الملك بن مروان الكوفة بعد قتل مصعب خطبهم فقال: يا أهل العراق إني إذا قلت مقالاً عقدته بفعال، ووصلت وعيدي بمطال، ثم جعلت من نفسي عليها رقيباً يتقاضاني الوفاء، فأسبق بالعقاب إلى أهل الظنة، وأتناول بالكرامة من قعد عن الفتنة. فإياكم وإياكم ما دمت أستكف نفسي عنكم، وإياكم وإياكم وعداً غير ملوي، وزجراً غير منسي، فطالما أوضعتم في أودية الضلالة، واعتبقتم مطايا المعصية، واستدرتنا كفكم العقوبة، فلما مريتم أخلاف النقمة صررناها بمصاهرة النعمة. وإذا أهملتم ركائب السطوة عقلناها بفضل العائدة. تدفعون حقنا ويأبى قضاء الله إلا تقليدكم إياه، وتوجفون في غيكم ونكدح في إقبالكم، فبذنوكم سفه رأيكم: ترابية مرة، وزبيرية أخرى. حتى متى، وإلى متى نسعى في صلاحكم؟ ألا وإني لاآخذ بسالف الجرائم، ولا أعاقب بمتقدم العصيان، وإنما بكم ما استقبلتم به أنفسكم. ألا وكل ما كان فتحت قدمي ودبر أذني، رغبة لكم فيما لم ترغبوا فيه لأنفسكم، وحرصا على ا أضعتموه منا فيكم، فأعقبوا بين الدول، واجعلوا للحق نصيبا منكم، واغدوا على أعطياتكم.
ولما أتى عبد الله بن الزبير قتل مصعب أخيه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه أتانا خبر قتل مصعب فسررنا واكتأبنا، فأما السرور فلما قدر له من الشهادة وخير له من الثواب، وأما الكآبة فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه، وإنا والله ما نموت حبجا كميتة آل أبي العاص، إنما نموت قتلا بالرماح، وقصعا تحت ظلال السيوف، وإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير منه خلفا له.
ولما قتل الحجاج بن عبد الله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فأمر الحجاج يجمع الناس إلى المسجد، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل مكة بلغني إكباركم واستعظامكم قتل ابن الزبير، ألا وأن ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة، ونازع فيها أهلها، فخلع طاعة الله واستكن بحرم الله. ولو كان شيء مانعا للقضاء لمنع آدم حرمة الجنة، لأن الله تعالى خلقه بيده، ونفخ في من روحه، وأسجد له ملائكته، وأباحه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطئه، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة، فاذكروا الله تعالى يذكركم.
وصعد المنبر بعد قتله متلثماً، فحط اللثام عن وجهه وقال: موج ليل التطم فانجلى بضوء صبحه. يا أهل الحجاز، كيف رأيتموني؟ ألم أكشف عنكم ظلمة الجور وطخية الباطل بنور الحق؟ والله لقد وطئكم الحجاج وطأة مشفق عطفته رحم ووصل قرابةٍ. فإياكم أن تزلوا عن سنن ما أقمناكم فاقطع عنكم ما وصلته لكم بالصارم البتار، وأقيم من أودكم ما يقيم المثقف من أود القنا بالنار إليكم! ثم نزل وهو يقول من الطويل
أخوا لحرب إن عضت به الحرب عضها ... وغن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وخطب فقال: يا أهل العراق، إن الفتنة تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى، وتحصد بالسيف، أما والله لئن أبغضتموني فما تضروني، ولئن أحببتموني فما تنفعوني، وما أنا بالمستوحش لعداواتكم، ولا المستريح لمودتكم. زعمتم أني ساحر وقال الله تعالى: ولا يفلح الساحر حيث أتى؛ وزعمتم أني أحسن الاسم الأعظم، فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون؟ ثم التفت إلى أهل الشام فقال: لأرواحكم أطيب من ريح المسك، ولدنوكم آنس من الولد، وما مثلكم إلا كما قال أخو ذبيان: من الوافر
إذا حاولت في أسد فجوراً ... فإني لست منك ولست مني
هم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النسار وهم مجني
ثم قال: يا أهل الشام بل أنتم كما قال الله عز وجل: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون.

قام خالد بن عبد الله القسري على المنبر بواسط خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس، تنافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل ذماً، ولا تعتدوا بالمعروف ما لم تعجلوه، ومهما يكن لأحد عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها فالله أحسن لها جزاء وأجزل عليها عطاء؛ واعلموا أن حوائج الناس إليكم نعم من الله تعالى عليكم، فلا تملوا النعم فتحول نقماً؛ واعلموا أن أفضل المال ما اكسب أجراً وأورث ذكراً؛ ولو رأيتم المعروف رجلاً لرأيتموه حسناً جميلاً، يسر الناظرين ويفوق العالمين؛ ولو رأيتم البخل رجلاً لرأيتموه رجلاً مشوهاً قبيحاً، تنفر عنه القلوب وتغضي عنه الأبصار. أيها الناس إن اجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفواً من عفا عن قدرةٍ، وأوصل الناس من وصل من قطعه، ومن لم يطب حرثه لم يزل نبته، والأصول عن مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19