كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون

ومما ينسب إلى تميم بن مر أنه وصى بنيه فقال: يا بني عليكم بلا فإنها ترفع اللحيين، وإياكم ونعم فإنها ترخي اللحيين، وعليكم بالمسألة فإن است المسؤول أضيق، ولا تحقروا اليسير أن تأخذوه فإن اليسير إلى اليسير كثير، واستعيروا ولا تعيروا، وأظهروا للناس الحاجة لكي لا تسألوا فتمنعوا فتكون أستاهكم في الضيقة. وإن وعدتم الناس شيئاً فاكذبوهم وامطلوهم، فإن الذي يصدق في الوعد وأن مطل، وهو مقل، يكون حرياً بالنجح في الموعد إذا أمكنته المقدرة. وابدأوا الناس بالشر يردد عنكم الشر، وإياكم والوهن فيجترأ عليكم. ولا تشتطوا في مهور النساء فإن ذلك آكد لأياماكم، جمع الله أمركم.
أوصى وكيع بن حسان بن سود فقال: يا بني، إن أبي والله ما ورثني إلا درعاً سحقاً ورمحاً خطلاً، وما ورثني ديناراً ولا درهما. وقد جمعت لكم هذا المال الذي ترون من حله وحرامه؛ فإياكم إذا أنا مت أن تأتيكم هذه الباعة من أهل لأسواق فيقولون: لنا على أبيكم دين. يا بني، إن كان الله تعالى يريد أن يغفر لي فوالله ما ديني في ذنوبي إلا كشعره بيضاء في ثور أسود، وإن كان لا يريد أن يغفر لي، فوالله ما ديني في ذنوبي إلا كشعرة بيضاء في ثور أسود، وإن كان لا يريد أن يغفر لي، فوالله ما ديني في تلك الذنوب إلا كحصاة رمي بها في بحر. شدوا أيديكم على مالكم واحفظوه ولا تقضوا عني شيئاً. ثم مات.
وروي أن أبا النجم العجلي أنشد هشاماً:
والشمس قد صارت كعين الأحول
لما ذهب به الروي عن الفكر في عين هشام فأغضبه فأمر به فطرد، فأمل أبو النجم رجعته، فكان يأوي إلى المسجد. فأرق هشام ذات ليلة فقال لحاجبه: لبغني رجلاً عربياً فصيحاً يحادثني وينشدني، فطلب له ما طلب فوقف على أبي النجم فأتى به، فلما دخل عليه قال: أين تكون منذ أقصيناك؟ قال: بحيث ألفتني رسلك. قال: فمن كان أبا مثواك؟ قال: رجلين: كلبياً وتغلبياً أتغدى عند أحدهما وأتعشى عند الآخر. فقال له: ما لك من الولد؟ قال: ابنتان. فقال: أزوجتهما؟ قال: لا، زوجت إحداهما. قال: فبم أوصيتها. قال: قلت لها ليلة أهديتها: من الرجز
سبي الحماة وابهتيعليها ... وإن نأت فازدلفي إليها
ثم اقرعي بالود مرفقيها ... وركبتيها واقرعي كعبيها
وجددي الحلف بهعليها ... لا تخبري الدهر بذاك ابنيها
قال: أفأوصيتها بغير هذا؟ نعم، قلت: من الرجز
وصيت من برة قلباً حرا ... بالكلب خيراً والحماة شرا
لا تسأمي نهكاً لها وضرا ... والحي عميهم بشر طرا
وإن كسوك ذهباً ودرا ... حتى يروا حلو الحياة مرا
قال هشام: ما هكذا أوصى يعقوب ولده. قال أبو النجم: ولا أنا كيعقوب، ولا بني كولده. قال: فما حال الأخرى؟ قال قد درجت بين بيوت الحي ونفعتنا في الرسالة والحاجة. قال: فما قلت فيها؟ قال: قلت من الرجز
كأن ظلامة أخت شيبان ... يتيمة والداها حيان
الرأس قمل كله وصئبان ... وليس في الرجلين إلا خيطان
فهي التي بذعر منها الشيطان
قال: فقال هشام: يا غلام ما فعلت الدنانير المختومة التي أمرتك بقبضها؟ قال: هي عندي، وزنها خمسمائة. قال: فادفعها إلى أبي النجم ليجعلها في رجل ظلامة مكان الخيطين. وزيد في رواية أخرى: من الرجز
أوصيك يا بنتي فإني ذاهب ... أوصيك أن يحمدك الأقارب
والجار والضيف الكريم الساغب ... لا يرجع المسكين وهو خائب
ولا تني أظفارك السلاهب ... لهنفي وجه الحماة كاتب
والزوج إن الزوج بئس الصاحب
قال لبطة بن الفرزدق: لما احتضر أبي قال: ابغني كتاباً أكتب فهي وصيتي، فأتيته فكتب وصيته: من الوافر
أروني من يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمر جل عن الخطاب
إلى من ترجعون إذا حثوتم ... بأيديكم علي من التراب
فقالت مولاة قد كان أوصى لها بوصية: إلى الله عز وجل. فقال: يا لبطة، امحها من الوصية.

مرض أبو دهمان مرضاً أشفى منه على الموت وأملي وصيته على كاتبه، وأوصى فيها بعتق غلام كان واقفاً. فلما فرغ الغلام بالرقعة فأتربها، ونظر إليه أبو دهمان فقال: أتربها يا ابن الزانية حتى تكون أنجح للحاجة. لا شفاني الله إن أنجحت. وأمر به فأخرج من وقته وبيع.
أوصى بدوي ابنه فقال: يا بني، كن سبعاً خالساً، أو ذئباً خانساً، أو كلباً حارساً، ولا تكن إنساناً ناقصاً.
من كلام أبي الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني والمعروف بالبديع في ما أنشأه من المقامات: يا بني، إنا وإن وثقت بمتانة عقلك، وطهارة أصلك، فإني شفيق، والشفيق يسيء الظن. ولست آمن عليك النفس وسلطانها، والشهوة وشيطانها، فاستعن عليها نهارك بالصوم، وليلك بترك النوم، إنه لبوس ظهارته الجوع وبطانته الهجوع، ما لبسها أسد إلا لانت سورته، أفهمتها يا ابن الخبيثة؟ وكما أخشى عليك ذاك فما آمن عليك لصين: أحدهما القرم والآخر الكرم. فإياك وإياهما. إن الكرم أسرع في المال من السوس، وأن القرم أشأم من البسوس. ودعني من قولهم إن الله كريم. إنها خدعة الصبي عن اللبن. بلى إن الله لكريم، ولكن كرم الله تعالى يزيدنا ولا ينقصه، وينفعنا ولا يضره، ومن كانت هذه حاله فلتكرم خصاله. فأما كرم لا يزيدك حتى ينقصني، ولا يريشك حتى يبريني، فخذلان، ولا أقول عبقري، ولكن أقول بقري. أفهمتها يا ابن المشومة؟ إنما يخرج للتجارة، لينبط الماء من الحجارة، وبين الأكلة والأكلة ريح البحر بيد أن لا خطر، والصين، غير أن لا سفر. أفتتركه وهو معرض، ثم تتركه وهو معوز؟ أفهمتها لا أم لك!! إنه المال عافاك الله، فلا تنفقن إلا م الريح، وعليك بالخبز والملح، ولك في البصب والخل رخصة، ما لم تدمنهما ولم تجمع بينهما؛ واللحم لحمك وما أراك تأكله، والحلواء طعام من لا يبالي على أي جنبيه وقع، والوجبات عيش الصالحين. والأكل على الجوع واقية الفوت، وعلى الشبع داعية المون. ثم كن مع الناس كلاعب الشطرنج، خذ كل ما معهم واحفظ كل ما معك. يا بني قد أسمعت وأبلغت، فإن قبلت فالله حسبك، وإن أبيت فالله خصمك.
كتب علي بن نصر الكاتب عل بعض الطفيليين عهداً يوصي فيه بالنهم والأكل: هذا كتاب من فلان في صحة من فهمه، وسقم من جسمه، وضعف من عزمه، وأسف على هضمه، واستكلاب من شهوته، وانتكاس من علته، عند آخر ساعة من ساعات دنياه، وأول وقت من أوقات أخراه، ومن النصحية والصدق، والفيئة من الباطل إلى الحق إلى جماعة الأكلة المتصوفين، وذوي النهم المتطفلين، وأولي الطواحين الدائرة، والشهوات الثائرة، والأشداق الفسيحة، والمبالع الصحيحة: سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا غله إلا هو، خالق الأنياب الحداد، والأضراس الشداد، والله الواسعة، والحلاقم البالعة، وأسأله الصلاة على رسوله المبعوث بالإسلام، والآمر بإفشاء السلام، وصلات الأرحام، وبذل الطعام، صلى الله عليه وعلى آله وشرف وكرم.

أما بعد: فإني رأيت أهل هذه الصناعة قد قلوا، ومحصوا حتى ذلوا، فلم يبق لهم ذكر إلا خمل، ولا نجم إلا أفل، ولا علم إلا فقد، ولا نهم إلا أتخم واستشهد، فصار لا يوجد منهم في البلد العظيم، والإقليم بعد الإقليم، أحد مقيم بحقوقها، ومستقل بأعباء علومها، ويعرف ما يعترضها من العلل، ويخبر ما فيها من المكر والحيل، وكيف التوصل إلى الولائم المشهودة، والهجوم على الموائد المنصوبة. وإنما قصار الواحد منهم أن يأنس ببعض كرماء دهرنا بواسطة الاتفاق، وحسبك ضيق المذاق والأخلاق، فيحضر طبقه إما مستأذناً في الوصول، أو متسبباً في الحصول. فإذا جلس شمر عن ساعده تنظفاً، ورفع أذيال ثوبه تظرفا، وأظهر أن الطعام بأنملته، لا يلتصق بحافة من حافات شفته، مقتصراً من آلة حرفته وأداة صناعته على تجريد اللحم، وتجويد اللقم، حتى إذا أكل المختار الطيب، وتناول المقدار المستقرب، زعم الانتهاء، وادعى الشبع والاكتفاء، وجعل ما يستمده من بعد على وجه التملح والتعجيب، وطريق التنادر والتقريب. وعساه لا يبلغ في الاستزادة والاكثار، فأقصى مدى تلك السادة الأبرار. وهذا أيدكم الله الذي أبطل صناعتكم وعفى آثارها، وأفسد نظامها وأطفأ أنوارها. فصار الناشئ فيها غير عارف بقوانينها، ولا واجد بصيراً بأفانينها، فهو يخبط العشواء منقبضاً تارة ومنبسطاً، ويخلط ما جاء صواباً مرة وغلطا، لا يعرف فضل المستكره على المختار، ولا ميزة الهاجم على المستزار، ولا يعلم أن المغافضة والمغالبة، والمجاحشة والمواثبة، مذاهب الأشياخ القدماء، وعادات أهل الصنعة الألباء، إلى غير ذلك من شرائط هذا العمل الجليل، وسنن كل وقاح أكيل.
ونحن ننطق في كتابنا هذا إليكم بلسان الشره المليم، ونستمد لكم التوفيق من شيطان المعدة الرجيم. فأول ما أفهمكم إياه، وأنفعكم معناه، معاشر الإخوان، ورفقاء المائدة والخوان، أن تعلموا أن من صفق وجهه رق عيشه، ومن سعت قدمه طاب مطعمه، ومن أساء أدبه بلغ أربه، ومن قل حياؤه ساعدته أهواؤه. وهذه وصية نبذت إليكم حكمها، وفرضت عليكم تعلمها.
وأن تديموا دخول الحمام، في صبيحة كل يوم من الأيام، فتمزخوا المعدة، وتطلبوا التقلب والتمدد، ففي ذلك راحة من كد السهر، وحدر لبقايا الطعام المعتكر. وتعقبوه بتناول الجوارشنات، والسفوفات الفاتقة للشهوات، ثم تطرحوا أفكاركم يمنة ويسرة، وعيونكم خفية وجهرة، فتوكدوا الوصاة سفينة ولا موضعاً موسوماً بكراء الحمير، ولا صقعاً معروفاً بالخانات والمواخير، إلا اخترقتموه مساء وصباحاً، وطرحتموه غدوة ورواحاً. وتتبعوا ولائم الإعذار، ودور الوارث والقمار، وحمالي الفرض، وشواني الربض، وحلق الممخرقين، ومقامات المثاقفين، ومظان مناطح الكباش، ومواطن التنازق والهراش، وتسترشدوا قوام المشاهد، وصالحي المساجد، وعجائز العكاكيز، وروائح الدهاليز. ولا يجوز أن يخفى عليكم حينئذ خافية، ولاتستر دونكم عورة دانية ولا قاصية، فإذا عادوا بالنبأ الواضح، وفازوا بالخبر الصالح، استخرتم الله عز وجل مفكرين في بعد الطريق أو قربها، فإنها إن دنت أدنت البغية، وإن نأت هيجت الشهوة، وأن لا تخففوا الأكل مما حضر، طمعا في ما يأتي ينتظر، وإن كنتم له محققين، ومن ووده على يقين، فللطعام اغتنامات، وللتأخير آفات، وربما أفسد الطباخ ما تراعون، وطرقت صاحب المنزل نائبة في عرض ما تأكلون، وأخطأتم في الحساب، وحصلتم على تجويع الارتقاب. وهذا سفة في العقل، وركوب غرر في فوت الأكل.
وأن تتخيروا من المواضع أفسحها، ومن المجالس أفيحها، لتكون معدكم مطمئنة هادية، وأيديكم ذاهبة جائية، فلا يتعذر عليكم، تناول ما قرب من الأطعمة إليكم. وإن كان لأحدكم قريب، وولد أو نسيب، قرب منه أو بعد، فلا يتنغص له، ويتمنى أن يشاركه في ما أكله، فإن ذلك مشغلة عن الاستكثار، ومقطعة عن الاحتكار، ودلالة على وهي العزم وضعفه، وإظهار لقلة الرأي وسخفه، بل يستجد لذاكره أكلة مفردة، ويستأنف من جراه شهوة مجددة، فإن ذلك أدخل في باب التطفيل، وأولى بذوي الرأي الأصيل.

وأن تجعلوا السكباج مفتاح الفم، وتعظموها تعظيم الأب والأم، فإنها القدر المحبوبة، والشهوة المطلوبة، والعلق الصبور، واللون الذي لا يبور. وأن تبالغوا في الإمعان، عند حضور لفرصة والإمكان، في أفخاذ الفراريج ولصقيها، وصدور الدراريج بعد تعليقها، فإنها المنظر الأنيق لذي عين، واللذة القصوى لصاحب ماضغين. وأن تعتمدوا أكل الهرائس، عاريات من الملابس، خاليات من الجزمازج والجرادق، منقولات بالأصابع والملاعق، فإن فيها معنى الخبز، من لباب البر والأرز، ولا فائدة في هذا التكرار، العائد بالتملي والاستضرار.
واستوصوا بالصاعديات خيراً، وغلائها المصبوغة حمرا، فأكبوا على فروجها وعصفورها، واستكثروا من كبابها ومضفورها، وواظبوا على قرنائها وأخواتها، وبنات عمها وعماتها، من الاسفيذباجات والنرجسيات والمحرقات. فكلوا أكل الأيامى فقدوا الصاحب، واليتامى عدموا الكسب، وواصلوا المضاير إذا بدت إلية الحمل، واستدارت هامة البصل، فإنها طعام السلف الماضين، وأهل السنة المتزهدين، وبها باع الناس قديماً صلاتهم وصيامهم، ولها فارقوا خليفتهم وإمامهم، ومن أجلها دفعوا عن المحال وذبوا، وأجابوا داعي الضلال ولبوا.
وكونوا لذوات المرق إخواناً، فإن لها أنواعاً من الطعوم وألواناً، وفضلاً على غيرها ورجحاناً، فثردها قوام الظرف وكماله، وسنان العرف وجماله، وهي عزاء الصدور، ودواء المخمور. ولا تهملوا الحرص على لحمها المجزع، من البشمازج والأضلع. ولفوا لقلاياها لفا، واستفوا لحمها سفا، استراحة من ناشفها إلى ممرقها، ومراوحة من محمصها إلى محرقها، فإنها قراضة الإبريز، وطراز المأكل الوجيز. ولا تحقروا الانتفاع بالأصباغ فنعم ظهير الأكل ومعينه، ونصيح المستكثر وأمينه. وبادروا الحلواء ساعة طلوعها في جاماتها، كالبدور في هالاتها، غير محفلين بما يقطر من أدهانها على العنافق، ويجري من مرقها على المرافق. فكل ذلك هين في جنب الظفر بمنية النفس، وبلغ شهوة الضرس، ولا تستكثروا من الأنبذة فإنها تضعف الشهوة، ولذلك سميت الخمرة قهوة، ومن أصغر تأثيرها التملي المانع، والخمار القاطع. وعليكم منها بما يعين المعدة على غذائها، ويكون سبباً لسرعة نقائها. ولا تصغوا إلى عاذل مقبح، ولائم متنصح، فما ذاك إلا حسد على ما أنالكم الله من فضله: القدرة على كشف أغراضكم، ولا تستقلوا في نيل إرادتكم بكل كلح الحجاب، أو ردة البواب، ولا تستبعدوا فتح الباب وإن أبهمت أعلاقه، وتسلق بنيان وإن أحكم وثاقة، فطال ما خاصمت وخوصمت، وزاحمت وزوحمت، وصادمت وصودمت، ولا كمت ولو كمت، فما ترى بي أثراً، إلا أنبأتك عنه خبراً، حتى صلع رأسي فما ينبت شعرة، وعمشت عيني فما تدرك نظرة، وكسر فكي فما آكل إلا استراطاً، واسترخى جانبي فما أتمالك ضراطاً، وكل هذا قد يستهسل، في بلوغ لذة المأكل. وبه أوصيكم جماعة الأوداء والأخوان، وبحفظ ما رويته لكم عن المشاهدة والعيان، والله خليفتي على فكوككم القوية، ومعدكم النارية.
وكتب يوم عيد النحر ساعة تزويع لحم الأضحيات، ووقت إدراك الهرائس والوديات، وهو حسبي ونعم الوكيل.
مساور الوراق يقول لابنه يوصيه: من الكامل
شمر قميصك واستعد لقائل ... واحكك جبينك للشهود بثوم
واجعل صحابك كل حبر ناسك ... حسن التعهد للصلاة صؤوم
وعليك بالغنوي فاجلس عنده ... حتى تصيب وديعة ليتيم
إسحاق الخاركي: من الطويل
ولا تبق في وقت السلامة ساعة ... تفوتك لم تسعد بها وتمتع
فأنك لاق كلما شئت ليلةويوماً يغصان العيون بأدمعتم باب الوصايا والعهود بحمد الله وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

الباب السادس عشر
في الفخر والمفاخرة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الماجد القهار، العزيز الجبار، الذي يفتخر بطاعته ذوو الفخار، ويشرف بعبوديته أولو الأخطار. تعنو له الملوك صاغرة، إذا اختالت عند غيره فاخرة، وتذل لعمزته مسكينة محتقرة، إذا عدت على من سواه باذخة مستكبرة. أحمده معترفاً بأياديه شاكراً، وأعبده خاضعاً لعظمته صاغراً، وأسأله الصلاة على رسوله المصطفى المختار، مقتدى العالم، وسيد ولد آدم، خلع مع ذلك رداء الكبر، وقال حيث أنبأ عن محله ولا فخر صلى الله عليه وعلى آله وعترته المؤمنين، وعلى من تلاهم بمصاحبته ومتابعته إلى يوم الدين.
إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متهى الفخار، يدلنا على ذلك قوله تعالى " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون " " الأنبياء: 34 " فبين أنه الغاية ولم يخلد، فكيف يخلد غيره. ومن شواهد المفاخرة قوله تعالى: " أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً. لا يستوون " " السجدة: 18 " نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام وعقبة بن أبي معيط وكانا تفاخرا. وقوله تعالى: " أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمناً يوم القيامة " " فضلت: 40 " في أبي جهل وعمار بن ياسر. والنسب إليه أشرف الأنساب، كما قال أبو الحسن الرضي: من الخفيف
وإذا الناس أدركوا غاية الفخ ... ر شآهم من قال جدي الرسول
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر.
وقد نفى الله عز وجل الفخر بالأنساب بقوله: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " الحجرات: 13 " فالفخر في دار الإسلام بالتقوى.
وقال صلى الله عليه وسلم: الناس لآدم وحواء كطف الصاع لن تملؤه. إن الله لا يسأل عن أحسابكم ولا يسأل إلا عن أعمالكم. إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن نبيكم واحد، وإن أباكم واحد، وإنه لا فضل للأسود على الأحمر ولا عربي على عجمي إلا بالتقوى. هل بلغت.
وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: أن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء. الناس بنو آدم، وآدم من تراب، مؤمن تقي، وفاجر شقي. ولينتهين أقوام يفخرون برجالهم، إنما هم فحم من فحم جهنم. أو ليكون أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها. وقد قال الله عز وجل: " يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " هود: 46 " .
وقال صلى الله عليه وسلم: إيتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم.
وقال عمر رضي الله عنه: الكرم التقوى، والحسب المال. لست بخير من فارسي ولا نبطي إلا بالتقوى.
ورأى رجلاً يخطر بيده ويقول: أنا ابن بطحاء مكة، كديها وكدائها، فقال له: إن يكن لك دين فلك كرم، وإن يكن لك عقل فلك مروة، وإن يكن لكمال فلك شرف، وإلا فأنت والحمار سواء.
وقال علي بن الحسين: لا يفخر أحد على أحد فإنكم عبيد والمولى واحد.
وقال العتابي: العجب ضربان: مفترض ومطرح، فأما المفترض فإن يعظم الرجل نعم الله عليه، ويفرح بإحسانه إليه؛ وأما المطرح فعجب الاستطالة الذي نهى الله تعالى عنه. ألا ترى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، فجهر بعجب الشكر، وأسقط استطالة الكبر. وقد قيل لحكيم: ما الشيء الذي لا يحسن أن يقال وإن كان حقاً؟ فقال مدح الرجل نفسه والفخر.
وإن نهت عنه الأخبار النبوية وهجنه العقل، فإن العرب كانت تفتخر بما فيها من البيان طبعاً لا تكلفاً، وجبلة لا تعلماً، وتعتد ذلك مقارعة عن الأحساب، ومنازعة على شرف الأنساب، وتراه إرهاباً للعدو في المنازلة واللقاء، ونشراً للفضيلة عند الأقران والاكفاء. ولم يكن لهم من يمطق بفضلهم إلا هم، ولا ينبه على مناقبهم سواهم. وقد كان أعرابي ليم بمدح نفسه فقال: فإلى من أكلها إذن؟ وكان كعب بن زهير إذا أنشد شعراً قال لنفسه: أحسنت والله وجاوزت الإحسان، فيقال له: أتحلف على شعرك؟ فيقول: لأني أبصر به منكم.
وكان الكميت إذا قال قصيدة صنع لها خطبة في الثناء عليها، وكان يقول عند إنشادها: لله دري أي علم بين جنبي، وأي لسان بين فكي؟ وقال الجاحظ: لو لم يصف الطبيب مصالح دوائه للمتعالجين لما كان له طالب، ولا فيه راغب.
ولما أبدع ابن المقفع في رسالته سماها اليتيمة تنزيها لها عن المثل؛ ولو لم ينحلها هذا الاسم لكانت كسائر رسائله، فسكنت من النفوس موضع إرداته من تعظيمها.

وسأذكر في هذا الباب ما نطق به البلغاء نظماً ونثراً في مفاخرهم، وما ورد فيها من أخبارهم، ومن الله تعالى أستمد العصمة، وإياه أشكر على ما أولى من النعمة.
قال أبو بكر الهذلي: سرت مع المنصور وسايرته يوماً فعرض لنا رجل على ناقة حمراء، تذهب في الأرض، وعليه جبة خز وعمامة عدنية، وفي يده سوط يكاد يمس به الأرض، سوي الهيئة، فلما رآه أمرني بدعوته، فسألته عن نسبه وبلاده، وعن باديته وقومه، وعن ولاة الصدقة، فأحسن الجواب، فأعجبه ما رأى منه، فقال: أندشني، فأنشده شعراً لأوس بن حجر وغيره من الشعراء من بني عمر بن تميم، وحدثه حتى أتى على شعر لطريف بن تميم العنبري وهو قوله: من البسيط
إن قناتي لنبع لا يؤبسها ... غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفاً تأمن مسارحه ... وإن أخف آمنا تقلق به الدار
إن الأمور إذا أوردتها صدرت ... إن الأمور لها ورد وإصدار
قال: ويحك، وما كان طريف فيكم حيث قال هذا الشعر؟ قال: كان أثقل العرب على عدوه وطأة إذا نهد إليهم بثار، وأيمنهم نقيية، وأعساهم قناة على من رام هضمه، وأقراهم لضيفه، وأحوطهم من وراء جاره. واجتمعت العرب بعكاظ وكلهم أقر له بهذه الخلال، غير أن من أراد أن ينقص به قال: والله ما أنت ببعيد النجعة ولا قاصد الرمية، فدعاه ذلك إلى أن جعل على نفسه ألا يأكل إلا لحم قنص يقتنصه، ولا ينزع كل عام عن غزوة يبعد فيها أثره. قال: يا أخا بني تميم، لقد أحسنت إذ وصفت صاحبك، ولكني أحق ببيته منه، أنا ذاك الذي وصفت لا هو.
تكلم الوفود عند عبد الملك حتى بلغ الكلام إلى خطيب الأزد، فقام فقبض على قائم سيفه ثم قال: قد علمت العرب أنا حي فعال ولسنا حي مقال، وأنانأبي الحيف، ونعمل السيف، فمن مال قوم السيف أوده، ومن نطق قمع الحق لدده؛ ثم جلس، فحفظت خطبته دون كلخطبة.
وفي رواية: وأنا نجزي بفعلنا عند أحسن قولهم. إن السيوف لتعرف الفنا، وأن الموت ليستعذب أرواحنا، وقد علمت الحرب الزبون أنا نقدع جماحها ونحلب صراها.
قال الأسعر ابن أبي حمران الجعفي، وإنما لقب الأسعر لقوله: من الطويل
فلا يدعني قومي لسعد بن مالك ... لئن أنا لم أسعر عليهم وأثقب
واسمه مرثد بن الحارث: من الطويل
وكنت إذا خيل لخيل تعرضت ... أكون لدى الهيجاء أول طاعن
وإني لوصال لمن شئت وصله ... إني لقطاع حبال القرائن
وقال الحادرة: من الكامل
أسمي ويحك هل سمعت بغدرة ... رفع اللواء لنا بها في مجمع
إنا نعف فلا نريب حليفنا ... ونكف شح نفوسنا في المطمع
ونقي بأيمن مالنا أحسابنا ... ونجر في الهيجا الرماح وندعي
ونخوض غمرة كل يوم كريهة ... تردي النفوس وغنمها للأشجع
ونقيم في دار الحفاظ بيوتنا ... زمناً ويظعن غيرنا للأمرع
اسمي ما يدريك أن رب فتية ... باكرت لذتهم بادكن مترع
بكروا على بسحرة فصبحتهم ... من عاتق كدم الغزال مشعشع
ومعرض تغلي المراجل تحته ... عجلت طبخته لقوم جوع
ولدي أشعث باسط ليمينه ... قسماً لقد أنضجت لم يتورع
ومسهدين من الكلال بعثتهم ... بعد الكلال إلى سواهم ظلع
أودى السفار برمها فتخالها ... هيماً مقطعة حبال الأذرع
الهيام: داء يأخذ بالإبل شبيه بالحمى من شهوة الماء فتشرب فلا تروى، فإذا أصابها ذلك فصد لها عرق فيبرد ما بها.
تخد الفيافي بالمحال وكلها ... يعدو يمنخرق القميص سميدع
ومناخ غير تأية عرسته ... قمن من الحدثان نابي المضجع
التأية: التمكث، يريد أنه مخوف.
عرسته ووساد رأسي ساعد ... خاظي البضيع عروقه لم تدسع
تدسع: تمتلئ. وخاظي: مكتنز، خظا أي كثر.
فرفعت عنه وهو احمر قانئ ... قد بان مني غير أن لم يقطع
وقال الشنفري: من الطويل
وإني لحلو إن اريدت حلاوتي ... ومر إذا نفس العزوف أمرت
أبي لما آبى سريع مفيئتي ... إلى كل نفس تنتحي في مسرتي

إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها ... ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي
وقال عبد يغوث بن وقاص الحارثي: من الطويل
وقد علمت عرسي مليكة أنني ... أنا الليث معدواً عليه وعاديا
وقد كنت نحار الجزور ومعمل ال ... مطي وأمضي حيث لا حي ماضيا
وعادية سوم الجراد وزعتها ... بكفي وقد أنحوا إلي العواليا
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري نفسي عن رجاليا
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا
وقال ذو الأصبع العدواني: من البسيط
إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... على الصديق ولا خيري بممنون
ولا لساني على الأدنى بمنطق ... بالمنكرات ولا فتكي بمأمون
لا يخرج القسر مني غير مغضبة ... ولا الين لمن لا يبتغي ليني
وقال أبو الطمحان القيني: من الطويل
إني من القوم الذين هم هم ... إذا ما فيهم سيد قام صاحبه
نجوم سماء كلما غاب كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وما زال منهم حيث كان مسود ... تسير المنايا حيث سارت ركائبه
وقا لقيس بن رفاعة الأنصاري: من البسيط
من يصل ناري بلا ذنب ولا ترة ... يصل بنار كريم غير غدار
أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كي لا ألام على نهي وإنذار
فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ... أن سوف تلقون خزياً ظاهر العار
لتتركن أحاديثاً وملعبة ... لهو الحديث ولهو المدلج الساري
من كان في نفسه حوجاء يطلبها ... عندي فإنيله رهن باصحار
أقيم عوجته إن كان ذا عوج ... كما يقوم قدح النبعة الباري
وصاحب الوتر ليس الدهر يدركه ... عندي وإني لطلاب بأوتار
لما قدم معاوية المدينة صعد المنبر فخطب ونال من علي عليه السلام، فقام الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا جعل له عدواً من المجرحين، فأنا ابن علي وأنت ابن صخر، وأمك عند وأمي فاطمة، وجدتك قتيلة، وجدتي خديجة، فلعن الله ألأمنا حسباً، وأخملنا ذكراً، وأعظمنا كفراً، وأشدنا نفاقاً. فصاح أهل المسجد: آمين آمين. فقطع معاوية خطبته ودخل منزله.
روي أن معاوية خرج حاجاً قمر بالمدينة فقسم في أهلها أموالاً، ولم يحضر الحسن بن علي عليه السلام. فلما خرج من المدينة اعتراضه الحسن فقال معاوي: مرحباً برجل تركنا حتى إذا نفد ما عندنا تعرض لنا ليحلنا، فقال الحسن: ولم ينفد ما عندك وخراج الدنيا يجبى إليك؟ فقال معاوية: فإني قد أمرت لك بمثل ما قد أمرت به لأهل المدينة، وأنا ابن هند، فقال له الحسن: فإني قد رددته عليك وأنا ابن فاطمة عليهما السلام.
نازع بشر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب زيد بن علي بن الحسين، ففخر عليه زيد، فقال بشر: لا تفخر علي، فوالله ما رأيت أن لي فضلاً على أحد إلا بفضلك علي.
تفاخر جرير والفرزدق عند سليمان بن عبد الملك، فقال الفرزدق: أنا ابن محيي الموتى، فأنكر سليمان قوله، فقال: قال الله تعالى " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً " " المائدة: 32 " وجدي فدى المؤودات فأحياهن. فقال سليمان: إنك مع شعرك لفقيه. وكان صعصعة بن ناجية جد الفرزدق أول من أحيا المؤودات، وخبره في أخبار العرب يورد.
افتخر على شاهفريد أم يزيد بن الوليد نساء لوليد العربيات فقالت: ليس منكم امرأة إلا وفي عشيرتها من يفخر عليها ولا يقر لها بالشرف والفضل، وليس في الدنيا أعجمية تفخر علي. وكانت من أولاد يزدجرد، ولذلك يقول يزيد بن الوليد: من الرجز
أنا ابن كسرى وأبي لمروان ... وقيصر جدي وجدي خاقان
قال أبو ذرة الهذلي: من الرجز
نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عنيه لا يطرف
ومن يكونوا عزه يغطرف ... كأنهم لجة ليل مسدف
وقال أوس بن حجر: من الطويل
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم

أناة وأحلاماً وكان لقاؤنا ... رهيناً بيوم كاسف الشمس مظلم
أرى حرب أقوام تدق وحربنا ... تجل فنعروري بها كل معظم
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة ... معضلة منا بجمع عرمرم
وإن مقرم منا ذرا حد نابه ... تخمط فينا ناب آخر مقرم
لنا مرجم ننفي به عن بلادنا ... وكل تميم يرجمون بمرجم
رأتني تميم مصحراً فتناذرت ... مبادهتي أمشي براية معلم
فينتهي ذوي الأحلام عنا حلومهم ... وأرفع صوتي للنعام المخزم
متى تبغ عزي في تميم ومنصبي ... تجد لي خالاً غير مخز ولا عم
تجدني من أشرافهم وخيارهم ... حفيظاً على عوراتهم غير مجرم
وقال تميم بن أبي بن مقبل: من الطويل
مصاليت فكاكون للسبي بعدما ... يعض على أيدي السبي سلاله
وكم من مقام قد شهدت بخطة ... نشج ونأسو أو كرسم نفاضله
وكم من كمي قد شككنا قميصه ... بأزرق عسال إذا هز عامله
وإنا لنحدو الأمر حين حدائه ... إذا عي بالأمر الفظيم قوابله
نعين على معروفه ونمره ... على شزر حتى تجال جوائله
ألم تر أن الماء يخلف نسله ... ويأتي عليه حق دهر وباطله
وقال الأخطل: من الطويل
وإنا لحي الصدق لا غرة بنا ... ولا مثل من يفري البكيئ المصرما
نسير فنحتل المخوف فروعه ... ونجمع للحرب الخميس العرمرما
وإني لحلال بي الحق أتقي ... إذا نزل الأضياف أن أتجهما
إذا لم تذد ألبانها عن لحومها ... حلبنا لهم منها بأسيافنا دما
وقال أيضاً: من الطويل
لعمري لئن كانت كليب تتابعت ... على أمر غاويها وضلت حلومها
لقد عجموا مني قناة صليبة ... إذا ضج خوار القناة سؤومها
وإني لقوام مقام لم يكن ... جرير ولا مولى جرير يقومها
وقال جرير: من الطويل
وإني لعف الفقر مشترك الغنى ... سريع إذا لم أرض داري انتقاليا
جريء الجنان لا أهال من الردى ... إذا ما جعلت السيف قبض بنانيا
وليست لسيفي في العظام بقية ... وللسيف أشوى وقعة من لسانيا
وقال الأقرع بن معاذ القشيري: من البسيط
فإن هلكت وريب الدهر متلفة ... فلم أكن في الذي أبليتكم ورعا
وإن حييت فجلد ذو مواضحة ... أسقي العدو نقيع السم والسلعا
أضل المواصحة تباري المستبقين ثم كثر حتى استعمل في كل اثنين تباريا.
ما سد مطلع ضاقت ثنيته ... إلا وجدت وراء الضيق مطلعا
ولا رميت على خصم بقارعة ... إلا رميت بخصم فر لي جذعا
كم من عدو أخي ضغن يجاملني ... يخفي عداوته إذ لا يرى طمعا
حملت منه على عوراء طائشة ... لم أسر عنها ولم أكثر لها جزعا
وكم تودعت من أم تعرض بي ... رفهت عنه ولو أتبعته ظلعا
وقال الأقرع أيضاً: من الطويل
يسود كهول الآخرين غلامنا ... وإن كان فينا مستقيداً مقدعا
مستقيداً أي منقاداً، والقدع: الكف عن الشيء، وأمه قدعة: قليلة الكلام حيية، والقدع: الخنا والفحش، وفي الحديث: من قال في الإسلام شعراً مقدعاً فلسانه هدر، والكلمة تحتمل ان تكون ها هنا من هذين الأصلين.
ونجعل أحكام العشيرة بد ما ... تهم قوى أسبابها أن تقطعا
أحكام: جمع حكم، مثل جبل وأجبال، وتروى: حكام
ويتبع أطراف الأمور خطيبنا ... إذا قال حتى يبلغ القول أجمعا
يعني غاياتها ونهاياتها، يعني يبلغ أقصى القول.
إذا قال منا قائل أنصتت له ... جماعتنا حتى يقول ونسمعا
وما ضم قوم أمرهم في أكفنا ... فنترك فيه بعد للناس مصنعا
وسعنا بمال أو حكمنا حكومة ... يراها ذوو الألباب والله مقنعا

ونصرف ما في الأمر والأمر مقبل ... فتطلعنا منه المحالة مطلعا
وإنا للنطي النصف من لة نضيمه ... بثورتنا لم يدفع الضيم مدفعا
ونعرض عن أشياء نعلم أنها ... لنا لو أردنا خشية أن تخشعا
ونجعل للجار القليل سوامه ... سواماً ونحمي سربه أن يفزعا
إذا كان منا واحد في قبيلة ... أراد أمام القوم أن يتسرعا
وتحمي حمانا مقربات كأنها ... سعالي ترى منها صحاحاً وظلعا
إذا ركضت بالغائط السهل غادرت ... به رهجاً يذري الحلي المنزعا
عوابس يعلكن الشكيم كأنما ... يسقين عقمياً من السم منقعا
وقال أيضاً: من الطويل
خلقت من الأشراف من آل عامر ... كموقع أم الرأس فيه المسامع
فما طمع الأعداء مني بعثرة ... ولا دنستني عند ذاك المطامع
وإني على جودي أعين سماحتي ... بمنع إذا ما قيل هل أنت مانع
وقال بعض القرشيين: من الوافر
لقد علمت قريش أن بيتي ... بحيث يكون فصل من نظام
وأنا نحن أول من بنينا ... ينكتنا البيوت من الحمام
وقال النابغة الذبياني: من البسيط
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
وهبت الريح من تلقاء ذي أرل ... تزجي مع الليل من صرادها صرما
ينبيك ذو علمهم عني وجاهلهم ... وليس جاهل شيء مثل من علما
إني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما
وأقطع الخرق بالخراقء قد جعلت ... من الكلال تشكى الأين والسأما
وغادة ذات أطفال ململة ... شعواء تعتسف الصحراء والأكما
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت الكماة وخيل تعلك اللجما
أقدمتها ونواصي الخيل شاحبة ... تحتيي مسومة أرمي بها قدما
وقالت الخرنق بنت هفان القيسية، من بني قيس بن ثعلبة: من الكامل المرفل
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداوة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر
وقال ربيعة بن مقروم الضبي: من الكامل
من نكرم الأضياف إن نزلوا بنا ... ونسود بالمعروف غير تنحل
ونعين غارمنا ونمنع جارنا ... ونزين مولى ذكرنا في المحفل
ونحل بالثغر المخوف عدوه ... ونرد حال العارض المتهلل
وإذا امرؤ منا جنى فكأنه ... مما يخاف على مناكب يذبل
ومتى يقم عند اجتماع عشيرة ... خطباؤنا بين العشيرة تفصل
ودخلت أبنية الملوك عليهم ... ولشر قول المرء ما لم يفعل
وقال زيد بن عمرو بن قيس بن عتاب: من الطويل
وكتب إذا ما باب ملك قرعته ... قرعت بآباء ذوي حسب ضخم
هم ملكوا أملاك آل محرق ... وزادوا أبا قابوس رغماً على رغم
وكنا إذا قوم رمينا صفاتهم ... تركنا صدوعاً في الصفاة التي نرمي
ونرعى حمى الأعداء غير محرم ... علينا ولا يرعى حمانا الذي نحمي
وقال الراجز: من الرجز
إن تميماً أعطيت تماماً ... وأعطيت مآثراً عظاما
وعدداً وحسباً قمقاما ... وباذخاً من عزها قدامى
في الدهر أعيا الناس أن يراما ... إذا رأيت منهم الأجساما
والدل والشيمة والكلاما ... وأذرعاً وقصراً وهاما
عرفت أن لم يخلقوا طغاما ... ولم يكن أبوهم مسقاما
لم تر في من يأكل الطعاما ... أقل منهم سقطاً وذاما
وقال عنترة: من الكامل
إني امرؤ من خير عبس منصباً ... شطري وأحمي سائري بالمنصل
وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحقت ... ألفيت خيراً من معم مخول

والخيل تعلم والفوارس أنني ... فرقت جمعهم بطعنة فيصل
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل ... لا بد أن أسقى بذاك المنهل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
والخيل ساهمة الوجوه كأنما ... يسقي فوارسها نقيع الحنظل
وقال أبو الطحان القيني: من الطويل
فكم فيهم من سيد وابن سيد ... وفي بعهد الجار حين يفارقه
يكاد الغمام الغر يرعد إن رأى ... وجوه بني لأم وينكل بارقه
وقال الفرزدق: من الطويل
إذا اغبر آفاق السماء وكشفت ... كسور بيوت الحي نكباء حرجف
وجاء قريع الشول قبل إفالها ... يزف وراحت خلفه وهي زفف
وباشر راعيها الصلا بلبانه ... وكفيه حر النار ما يتحرف
وأوقدت الشعرى مع الليل نارها ... وأمست محولاً جلدها يتوسف
وأصبح موضع الصقيع كأنه ... على سروات النبت قطن مندف
وقاتل كلب الحي عن نار أهله ... ليربض فيها والصلا متكنف
وجدت الثرى فينا إذا يبس الثرى ... ومن هو يرجو فضله المتضيف
ترى جارنا فينا يجير وإن جنى ... ولا هو فيما ينطف الجار ينطف
ويمنع مولانا وإن كان نائباً ... بنا جاره فيما يخاف ويأنف
وقد علم الجيران أن قدورنا ... ضوامن للأرزاق والريح زفزف
نعجل للضيفان في المحل بالقرى ... قدوراً بمعبوط تمد وتغرف
تفرغ في شيزى كأن جفانها ... حياض جبى منها ملاء ونصف
ترى حولهن المعتفين كأنهم ... على صنم في الجاهلية عكف
وما حل من جهل حبى حلمائنا ... ولا قائل المعروف فينا يعنف
وما قام منا قائم في ندينا ... فينطق إلا بالتي هي أعرف
وإني لمن قوم بهم يتقى العدا ... ورأب الثأى الجانب المتخوف
وأضياف ليل قد نقلنا قراهم ... إليهم فأتلفنا المنايا وأتلفوا
قريناهم المأثور البيض قبلها ... يثج العروق الأزاني المثقف
ولا نستجم الخيل حتى نعيدها ... غوائم من أعدائنا وهي زحف
كذلك كانت خيلنا مرة ترى ... سماناً وأحياناً تقاد وتعجف
عليهن منا الناقصون ذحولهم ... فهن بأعباء المنية كنف
وجدنا أعز الناس أكثرهم حصى ... واكرمهم من بالمكارم يعرف
وكلتاهما فينا إلى حيث تلتقي ... عصائب لاقى بينهن المعرف
ولا عز إلا عزنا قاهر له ... ويسألنا النصف الذليل فينصف
ومنا الذي لا ينطق الناس عنده ... ولكن هو المستاذن المتنصف
تراهم قعوداً حوله وعيونهم ... مكسرة أبصارها ما تصرف
المتوكل الليثي: من الكامل
ولقد علمت لو أن علمك نافع ... وأتاك ما تيحدث الأكفاء
أني من الحي الذي حضونهم ... زرق الأسنة والحصون فضاء
والعاطفين على المصاف إذا دعا ... حتى تنفس والرماح رواء
قد يعلم الأقوام غير تنحل ... أنا نجوم فوقهم وسماء
إنا أناس نستثير جدودنا ... ويموت أقوام وهم أحياء
وقال رؤية بن العجاج: من الرجز
إذا تميم زخرت تدفع ... كالبحر يزفيه العباب المترع
عاذوا بأحلام لهم فأوسعوا ... وما افترشنا أرض قوم أمرعوا
إلا تركنا أرضهم تصدع ... كأننا فيها الجراد الجوع

وقال القليب المنقري: من الرجز
أنا أبو الليل إذا ادلهما ... فرعت كعباً وذراها الشما
قد ذاقنا الناس فذاقوا سما
علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي: من الطويل
لقد فاخرتنا من قريش عصابة ... بمط خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا الفخار قضى لنا ... عليهم بما نهوى نداء الصوامع
ترانا سكوتاً والشيهد بفضلنا ... عليهم جهير الصوت من كل جامع
وقال أيضاً: من البسيط
إني وقومي من أنساب قومهم ... كمسجد الخيف من بحبوحة الخيف
ما علق السيف منا بابن عاشرة ... إلا وهمته أمضى من السيف
فاخر أسماء بن خارجة رجلاً فقال: أنا ابن أشياخ الشرف، فقال له ابن مسعود: كذبت، ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، أولئك أشياخ الشرف ليسوا بآبائك.
قال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: بلغني أنك لهجت بقول الشعر، فقال: هو ذاك، فقال: إياك والمدح فإنه طعمة الوقاح من الرجال، وإياك والهجاء فإنك تحنق به كريماً، وتستثير به لئيماً، وإياك والتشبيب بالنساء فإنك تفضح الشريفة وتعر العفيفة، ولكن افخر بمفاخر قومك وقل من الأشعار ما تزين به نفسك وتؤدب به غيرك.
دخل بعض أولاد الزبير رضي الله عنه على محمد بن سليمان فجلس على نمرقته، فاعتاظ من ذلك وقال: من أجلسك ها هنا؟ فقال: صفية بنت عبد المطلب، فسكن غضبه.
وقال النابغة الجعدي: من الطويل
وإنا لقوم ما نعود خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا
وتنكر يوم الروع ألوان خيلنا ... من الطعن حتى تحسب الجون أشقرا
وليس بمعروف لنا أن نردها ... صحاحاً ولا مستنكر أن تعقرا
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
ولما أنشدها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: أولى لك.
قال الفرزدق: من الطويل
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من حذبها بالعصائب
سروا يخبطون الليل وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار من كل جانب
إذا آنسوا ناراً باليفاع تألقت ... تؤدي إليها كل أسغب لاغب
إلى نار ضراب العراقيب لم يزل ... له من غراري سيفه خير حالب
قال الجاحظ: رأيت رجلاً من غني يفاخر رجلاً من بني فزارة ثم أحد بني بدر بن عمرو، وكان الغنوي متمكناً من لسانه، وكان الفزاري بكياً، فقال الغنوي: ماؤنا بين الرقم إلى كدا، وهم جيراننا فيه فنحن أقصر منهم رشاء وأعذب ماء، لنا ريف السهول ومعاقل الجبال، وأرضهم سبخة ومياههم أملاح، وأرشيتهم طوال، والعرب تقول: من عزبز، فبعزنا غرنا عليهم، وبذلهم ما رضوا منا بالضيم. وبنو بدر هم بيت فزارة، وفزارة، وفزارة أشراف قيس. فقعد الفزاري عن حجته لكنه طمح بالغنوي البيان إلى أن قابل بني بدر بقبيلته فصار بهم إلى قول الأخطل: من الطويل
وقد سرني من قيس عيلان أنني ... رأيت بني العجلان سادوا بني بدر
كتب الحكم بن عبد الرحمن المرواني من الأندلس إل صاحب مصر يفتخر: من الطويل
ألسنا بني مروان كيف تبدلت ... بنا الحال او دارت علينا الدوائر
إذا ولد المولود منا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر
وكتب إليه كتاباً يهجوه فيه ويسبه، فكتب إليه صاحب مصر: أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك، والسلام.

قال المبرد:حدثت أن أسامة بن زيد قاول عمرو بن عثمان في أمر ضيعة يدعيها كل واحد منهما، فلجت بينهما الخصومة، فقال عمرو: يا أسامة، أتأنف أن تكون مولاي؟، فقال أسامة: والله ما يسرني بولائي من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبك. ثم ارتفعا إلى معاوية فلجا بين يديه بالخصومة، فتقدم سعيد بن العاص إلى جنب عمرو فجعل يلقنه الحجة، فتقدم الحسن إلى جنب أسامة يلقنه، فوثب عتبة فصار مع عمرو ووثب الحسين فصار مع أسامة، فقام عبد الرحمن بن أم الحكم فجلس مع عمرو، فقام عبد الله بن العباس فجلس مع أسامة. فقال معاوية الجلية عندي؛ حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقطع هذه الضيعة أسامة، فانصرف الهاشميون وقد قضى لهم. فقال الأمويون لمعاوية: هلا إذ كانت هذه القضية عندك بدأت بها قبل التحزب أو أخرتها عن هذا المجلس؟ فتكلم معاوية بكلام يدفعه بعض الناس.
قال إبراهيم بن العباس: من الطويل
لنا إبل كوم يضيق بها الفضا ... وتغبر عنها أرضها وسماؤها
فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن تستذم دماؤها
حمى وقرى فالموت دون مرامها ... وأيسر خطب يوم حق فناؤها
وقال إسحاق ابن إبراهيم الموصلي: من الطويل
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ودافع ضيمي خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعداً غير قائم
وقال إبراهيم بن العباس: من الطويل
وكنا متى ما نلتمس بسيوفنا ... طوائل ترجعنا وفينا طوائل
ويأمن فينا جارنا وعدونا ... ويرقد عنا في المحول العواذل
نهم فتعطينا المنايا قيادها ... وتلقي إلينا ما تكن المعاقل

كان أبو العباس السفاح يعجبه السمر ومنازعة الرجال بعضهم بعضاً، فحضر عنده إبراهيم بن مخرمة الكندي وناس من بلحارث بن كعب، وكانوا أخواله، وخالد بن صفوان بن الأهتم، فخاضوا في الحديث، وتذاكروا مضر واليمن، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، إن اليمن هم العرب الذين دانت لهم الدنيا، وكانت لهم البدأة ولم يزالوا ملوكاً وأرباباً، ورثوا الملك كابراً عن كابر وآخراً عن أول، منهم النعمانات والمنذرات والقابوسات، ومنهم عياض صاحب السحر، ومنهم من حمت لحمه الدبر، ومنهم غسيل الملائكة، ومنهم من اهتز لموته العرش، ومنهم من يأخذ كل سفينة غصباً، وليس من شيء له خطر إلا إليهم ينسب، من كل فرس رائع، وسيف قاطع، أو درع حصينة، أو مجن واق، أو حلة مصونة أو درة مكنونة، إن سئلوا أعطوا، وأن نزل بهم ضيف قروا، لا يبلغهم مكاثر، ولا يطاولهم مفاخر. هم العرب العاربة وغيرهم المستعربة. فقال أبو العباس: ما أظن أن التميمي يرضى بقولك، ثم قال: ما تقول أنت يا خالد؟ قال: إن أذنت لي في الكلام وأمنتني من المؤاخذة تكلمت. قال. تكلم ولا تهب أحداً. فقال: أخطأ المتقحم بغير علم، ونطق بغير صواب. وكيف يكون ذلك لقوم ليس لهم ألسن فصيحة، ولا لغة صحيحة نزل بها كتاب ولا جاءت بها سنة؛ وأنهم منا على منزلتين إن جاوزوا حكمنا قتلوا، وإن حادوا عن قصدنا أكلوا: يفخرون علينا بالنعمانات والمنذرات والقابوسات ونفخر عليهم بخير الأنام، وأكرم الكرام، محمد عليه الصلاة والسلام، ولله المنة به علينا وعليهم، لقد كانوا أتباعه: به عرفوا، وله أكرموا. فمنا النبي المصطفى، ومنا الخليفة المرتضى، ولنا البيت المعمور، وزمزم والحطيم والمقام، والحجابة والبطحاء وما لا يحصى م المآثر، وليس يعدل بنا عادل، ولا يبلغنا قول قائل، ومنا الصديق والفاروق وذو النورين والوصي والولي واسد الله وسيد الشهداء وذو الجناحين وسيف الله، وبنا عرفوا الدين، وأتاهم اليقين، فمن زاحمنا زاحمناه، ومن عادانا اصطلمناه. ثم أقبل خالد على إبراهيم فقال:ألك علم بلغة قومك؟ قال: نعم. قال: فما اسم العين؟ قال: الجحمة. قال: فما اسم السن؟ قال: المبزم. قال: فما اسم الأذن؟ قال: الصنارة. قال: فما اسم الأصابع؟ قال: الشناتر. قال: فما اسم اللحية؟ قال: الزب. قال: فما اسم الذئب؟ قال: الكتع، ويقال الصتع. قال: أفعالم أنت بكتاب الله عز وجل؟ قالك نعم. قال: فإن الله يقول: " وإنا أنزلناه قرآناً عربياً " " يوسف: 2 " وقال: " بلسان عربي مبين " " الشعراء: 195 " وقال " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " " إبراهيم: 4 " فنحن العرب، ولقرآن بلساننا نزل. ألم تر أن الله تعالى قال: " العين بالعين " " المائدة: 45 " ولم يقل: الجحمة بالجحمة. وقال تعالى: " السن بالسن " ولم يقل: المبزم بالمبزم. وقال: " الأذن بالأذن " " المائدة: 45 " ولم يقل شناترهم في صناراتهم. وقال: " لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " " طه: 94 " ولم يقل بزبي. وقال: " أكله الذئب " " يوسف: 14 " ولم يقل: أكله الكتع. ثم قال خالد: إني أسألك عن أربع خصال، إن أقررت بهن قهرت، وإن أنكرتهن كفرت. قال: ما هن؟ قال: الرسول منا أو منكم؟ قال: منكم، قال: فالقرآن أنزل علينا أو عليكم؟ قال: عليكم. قال: فالمنبر فينا أو فيكم؟ قال: فيكم. قال: فالبيت لنا أو لكم؟ قال: لكم. قال: فاذهب فما كان بعد هؤلاء الخصال فهو لكم. فغلب أبو العباس خالداً وحباهم جميعاً. فقام خالد وهو يقول: ما أنتم إلا سائس قرد، أو دابغ جلد، أو ناسج برد.

كتب المنصور إلى محمد بن عبد اللهبن الحسن لما خرج يعرض عليه الأيمان، ويبذل له البذول إن رجع عما عزم عليه، فكتب إليه محمد بن عبد الله بن الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد: أما بعد " طسم. تلك أيات الكتاب المبين.نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون. إن فرعون علا في الرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحسس نساءهم إنه كان من المفسدين. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " " القصص: 1 - 6 " . وأنا أعرض عليك مثل الذي أعطيتني، فقد تعلم أن الحق حقنا، وأنكم طلبتموه بنا، ونهضتم فيه بشيعتنا، وخطبتموه بفضلنا. وإن أبانا علياً عليه السلام كان الوصي والإمامة فيه، فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء، وقد علمتم أنه ليس أحد من بني هاشم يمت بمثل فضلنا، ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا، ونسبنا وسببنا، وإنا بنو أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو أم أبي طالب في الجاهلية دونكم، وبنو بنته فاطمة في الإسلام من بينكم، فأنا أوسط بني هاشم نسباً، وخيرهم أماً وأبا، لم تلدني العجم ولم أعرق في أمهات الأولاد. وأن الله تبارك وتعالى لم يزل يختار لنا، فولدني من النبيين أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة أقدمهم إسلاماً، وأوسعهمعلماً، وأكثرهم جهاداً، علي بن أبي طالب،ومن نسائهم أفضلهن، خديجة بنت خويلد، أول من آمن بالله وصلى القبلة، ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في دين افسلام الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. ثم قد علمت أن هاشماً ولد علياً مرتين عبد المطلب ولد الحسن مرتين وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين من قبل جدي الحسن والحسين. فما زال الهل يختار لي حتى في النار فولدني أرفع الناس درجة في الجنة وأهون أهل النار عذاباً، فأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل النار، وابن سيد أهل الجنة. ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك، وكل ما أصبته، إلا حداً من حدود الله، وحقاً لمسلم أو معاهد، فقد أمانك الذي عرضته علي فأي الأمان هو؟ أأمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله بن علي، أم أمان أبي مسلم، والسلام.
فكتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله أما بعد، فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك، فإذا جل فخرك بالنساء، لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم تجعل النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء. ولقد جعل الله العم أباً وبداً به على الولد الأدنى فقال جل ثناؤه عن نبيه صلى الله عليه وسلم " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق " " يوسف: 38 " .
كذا ذكر المبرد وجاءت الرواية، وليست الحجة كما ذكره في هذه الآية لأن إسحاق عليه السلام جد يوسف هذا. وإنما حجته في قوله سبحانه وتعالى: " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب " " البقرة: 133 " .

ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعص محمداً صلى الله عليه وسلم وعمومته أربعة، فأجابه اثنان أحدهما أبي، وكفر به اثنان أحدهما أبوك. وأما ما ذكرت من النساء وقراباتهن فلو أعيطن على قدر الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت وهب، لكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه. وأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب فإن الله لم يهد أحداً من ولدها إلى افسلام، لو فعل لكان عبد الله ابن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الآخرة والأولى، وأسعدهم بدخول الجنة غداً. لكن الله أبى ذلك فقال تعالى: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " القصص: 56 " . وأما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب عليه السلام، وفاطمة أم الحسن والحسين، وأن هاشماً ولد علياً مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين، فخير الأولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة واحدة. ولم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة. وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله جل ثناؤه أبي ذلك فقال تعالى: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " " الأحزاب: 40 " ولكنكم بنو بنته، وأنها لقرابة قريبة، غير أنها امرأة لا تحوز الميراث ولا يجوز أن توم. فكيف تورث الإمامة من قبلها، ولقد طلبها أبوك بكل وجه، فأخرجها تخاصم على ميراثها فلم يحصل لها شيء، ثم إنها مرضت ومرضها سراً ودفنها ليلاً. وابى الناس إلا تقديم الشيخين. ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالصلاة غيره ثم أخذ الناس رجلاً رجلاً فلم يأخذوا أباك فيهم. ثم كان في أصحاب الشورى فكل دفعه عنها: بايع عبد الرحمن عثمان، وقبلها عثمان، وحارب أباك طلحة والزبير ودعا سعداً إلى بيعته فاغلق بابه دونه، ثم بايع معاوية بعده، وأفضى أمر جدك إلى أبيك الحسن، فسلمه إلى معاوية بخرق ودراهم واسلم في يديه شيعته، وخرج إلى المدينة فدفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالاً من غير حله، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه. فأما قولك إن اللهاختار لك في الكفر فجعل أباك أهون أهل النار عذاباً فليس في الشر خيار ولا من عذاب الله هين، ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفتخر بالنار. وسترد فتعلم " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " " الشعراء: 227 " . فأما قولك إنه لم تلدك العجم ولم تعرق قيك أمهات الأولاد، وأنك أوسط بني هاشم نسباً وخيرهم أماً وأباً، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً وقدمت نفسك على من هو خير منك أولاً وآخراً واصلاً وفصلاً: فخرت عل إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى والد ولده فانظر ويحك أين تكون من الله غداً. وما ولد فيكم مولود بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي بن الحسين وهو لم ولد ولقد كان خيراً من جدك حسن بن حسن؛ ثم ابنه محمد بن علي خير من أبيك، وجدته أم ولد ثم ابنه جعر بن محمد وهو خير منك.
ولقد علمت أن جدك علياً حكم حكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضى بما حكما به، فاجتمعا على خلعه، ثم خرج عمك الحسين بن علي على ابن مرجانة فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه. ثم أتوا بكم على الأقتاب بغير أوطية كالسبي المجلوب إلى الشام. ثم خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية وحرقوكم بالنيران وصلبوكم على جذوع النخل حتى خرجنا عليهم فأدركنا بثاركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم ورثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أدبار الصلوات المكتوبة كما تلهن الكفرة، فعنفناهم وكفرناهم وبينا فضلكم وأشدنا بذكركم، فاتخذت ذلك حجة علينا، وظننت أنا لما ذكرنا من فضل علي أنا قدمناه على حمزة والعباس وجعفر، كل أولئك مضوا سالمين مسلماً منهم، وابتلي أبوك بالدماء.

ولقد علمت أن مآثرنا ي الجاهلية من سقاية الحجيج الأعظم وولاية زمزم، كانت للعباس دون إخوته، فنازعنا فيها أبوك إلى عمر، فقضى لنا عمر عليه. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من عمومته واحد حي إلا العباس فكان وارثه دون بني عبد المطلب. وطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلا ولده، فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب بفضل القديم والحديث. ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كرهاً لمات عماك طالب وعقيل جوعاً أو يلحسان جفان عتبة وشيبة، فأذهب عنهما العار والشنار. ولقد جاء الإسلام والعباس يمون أبا طالب للأزمة التي أصابتهم ثم فدى عقيلاً يوم بدر، فقد مناكم في الكفر وفديناكم في الإسلام من الأسر، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وحزنا شرف الآباء، وأدركنا من ثأركم ما عجزتم عنه، ووضعناكم حيث لم تضعوا أنفسكم؛ والسلام.
قالوا: قدم الزبير بن عبد المطلب من إحدى الرحلتين، فبينا رأسه في حجر وليدة له وهي تدري لمته إذ قالت: ألم يرعك الخبر؟ قال: وما ذاك؟ قالت: زعم سعيد بن العاص أنه ليس لأبطحي أن يعتم يوم عمته، فقال: والله لقد كان عندي ذا حجي، وقد فاض عندي القطر. وانتزع لمته من يدها وقال: علي بعمامتي الطولي، فأتي بها فلاثها على رأسه وألقى صنيفتها قدامه وخلفه حتى لطما قدمه قدمه وعقبه، وقال علي بفرسي، فأتي بها واستوى على ظهرها، ومر بحرف الوادي كأنه لهيب عرفج، فلقيه سهيل بن عمرو فقال: بأبي أنت وأمي يا أبا الطاهر، ما لي أراك متغير الوجه؟ قال: أو لم يبلغك الخبر؟ هذا سعيد بن العاص يزعم أنه ليس لأبطحي أن يعتم يوم عمته. ولم؟ فوالله لطولنا عليهم أظهر من وضح النهار وقمر التمام ونجم الساري. والآن تنتثل كنانتنا فتعجم قريش عيدانها، فتعرف بازل عامنا وثنيانه. فقال له سهيل: بأبي أنت وأمي، فإنه ابن عمك، ولن يعيبك شأوه ولن يقصر عنه طولك. وبلغ سعيداً الخبر فارتحل ناقته وأغرز رحله ولجأ إلى الطائف، فقيل، فقيل له: أتريد الجلاء؟ فقال: إني رأيت الجلاء خيراً من الفناء، ومضى قصده.
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني تميم، وهم سبعون أو ثمانون رجلاً، فيهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم، وانطلق معهم عيينة بن حصن الفزاري. فلما قدموا المدينة دخلوا المسجد فوقفوا عند الحجرات فنادوا بصوت عال جاف: اخرج يا محمد فقد جئنا لنافخرك، وجئناك بخطيبنا وشاعرنا. فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، فجلس، فقام الأقرع فقال: والله إن مدحي لزين، وإن ذمي لشين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الله عز وجل. فقالوا: إنا لأكرم العرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. فقالوا: إيذن لخطيبنا وشاعرنا. فأذن لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس فجلس معه الناس، فقام عطارد فقال: الحمد لله الذي له الفضل علينا، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكاً، وجعلنا أعز أهل الشرق، وآتانا أموالاً عظاماً نفعل فيها المعروف، وليس في الناس مثلنا. ألسنا رؤوس الناس وذوي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، ولو نشاء لأكثرنا، ولكنا نستحي من الاكثار فيما خولنا الله وأعطانا، أقول هذا فأتوا بقول أفضل من قولنا، وأمر أبين من أمرنا ثم جلس.

فقام ثابت بن قيس بن شماس فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض من خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يقض شيئاً إلا من فضله وقدرته، وكان من قدرته أن اصطفى من خلقه رسولاً أكرمهم حسباً، وأصدقهم حديثاً، وأحسنهم رأياً،فا،زل الله عليه كتابه وأئتمنه على خلقه، وكان خيرة الله من العالمين. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان فأجابه من قومه وذوي رحمه المهاجرون أكرم الناس أنساباً، وأصبح الناس وجوهاً، وأفضل الناس أفعالاً. ثم كان أول من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب واستجاب له نحن معاشر الأنصار. فنحن أنصار الله ووزراء رسول الله صلى الله عليه وسلم نقاتل الناس حتى يقولوا لا غله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم حاهدناه في الله وكان جهاده علينا يسيراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
فقام الزبرقان فقال: من البسيط
نحن الملوك فلا حي يقاربنا ... منا الملوك وفينا توجد الرفع
تلك المكارم حزناها مقارعة ... إذا الملوك على أمثالها قرعوا
كم قدقسرنا من الحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتبع
وننحر الكوم عبطاً في منازلنا ... لنازلين إذا ما استطعموا شبعوا
ونحن نطعم عند القحط ما أكلوا ... من العبيط إذا لم تظهر القزع
وتبصر الناس تأتينا سراتهم ... من كل أوب فنمضي ثم نتبع
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حسان فجاءه، فأمره أن يجيبه فقال: من البسيط
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق يوماً شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطمعون ولا يزري بهم طمع
ولا يضنون عن جار بفضلهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع
يسمون للحرب تبدو وهي كالحة ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
لا يفرحون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا حزن ولا جزع
كانهم في الوغى والموت مكتنع ... أسود بيشة في أرساعها فدع
خذ منهم ما اتى عفواً فإن غضبوا ... فلا يكن همك الأمر الذي منعوا
أكرم بقوم رسول الله قائدهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع
أهدى لهم مدحتي قلب يؤازره ... في ما اراد لسان حائك صنع
وأنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جد بالناس جد القول أو سمعوا
فقام حاجب بن عطارد فقال: من الطويل
أتيناك كي ما يعلم الناس فضلنا ... إذا اجتمعوا وقت احتضار المواسم
بأنا فروع الناس في كل موطن ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
فقال حسان فقال: من الطويل
منعنا رسول الله من غضب له ... على أنف راض من معد وراغم
هل المجد إلا السؤدد الفرد والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم
فقال الأقرع بن حابس: إن هذا الرجل لمؤتى له. والله لشاعره أشعر من شاعرنا، ولخطيبه أفهم من خطيبنا، وأصواتهما أرفع من أصواتنا. أعطني يا محمد، فأعطاه، فقالك زدني، فزاده، فقال: اللهم إنه سيد العرب.

ونزل فيهم " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " " الحجرات: 4 " ثم إن القوم أسلموا، وأقاموا عند النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون القرآن ويتفقهون في الدين. ثم أرادوا الخروج إلى بيوتهم فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم وقال: أما بقي منكم أحد؟ وكان عمرو بن الأهتم في ركابهم، فقال قيس بن عاصم، وهو من رهطه، وكان مشاحناً له: لم يبق منا إلا غلام حديث السن في ركابنا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم.
ساب رجل من بني عبس عنترة بن شداد، فذكر سواده وسواد أمه وأخوته وعترته، فقال عنترة: والله إن الناس ليترافدون بالمطعم، فوالله لما حضرت مرفد الناس لا أنت ولا أبوك ولا جدك قط. وإن الناس ليدعون إلى الفزع فما رأيناك في خيل قط ولا كنت إلا في أوائل النساء. وإن اللبس يعني الاختلاط ليكون بيننا فما حضرت أنت ولا أحد من أهلك خطة فصل قط. وكنت فقعاً بقرقر. ولو كنت في مرتبتك أو مغرسك الذي انت فيه ثم ماجدتك لمجدتك، أو طاولتك لطلتك، ولو سألت أمك وأباك هذا لأخبراك. وإني لأحضر الوغى، وأوفي المغنم، وأعف عند المسألة، وأجود بما ملكت، وأفضل الخطة الصمعاء. فقال له الآخر: أنا أشعر منك، فقال له: ستعلم. وكان عنترة لا يقول من الشعر إلا البيت والبيتين في الحرب فقال قصيدته: من الكامل
هل غادر الشعراء من متردم
وزعموا أنها أول قصيدة قالها، والعرب تسميها المذهبة.
دخل العجاج على عبد الملك بن مروان فقال له: يا عجاج، بلغني أنك لا تقدر على الهجاء، فقال: يا أمير المؤمنين، من قدر على تشييد الأبنية أمكنه تقويض الأخبية. قال: فما يمنعك منه؟ قال: إن لنا عزاً يمنعنا من أن نظلم، وإن لنا حلماص يردعنا عن أن نهضم، فعلام الهجاء؟ قال: لكلامك أشعر من شعرك، فأي عز لك يمنعك من أن تظلم؟ قال: الأدب البارع والفهم الناصع. قالك فما الحلم الذي يردعك أن تظلم؟ قال: الأدب المستطرف والطبع التالد. قال: يا عجاج، لقد أصبحت حكيماً. قال: الأدب المستطرف الطبع التالد. قال: يا عجاج، لقد أصبحت حكيماً. قال: ما يمنعني وأنا نجي أمير المؤمنين؟ قال الحكم بن عبدل: من الطويل
وإني لأستغني فما أبطر الغنى ... وأعرض ميسوري لمن يبتغي قرضي
وأعسر أحياناً فتشتد عسرتي ... فأدرك ميسور الغنى ومعي عرضي
ولست بذي وجهين في من عرفته ... ولا البخل فاعلم من سمائي ولا أرضي
وفي ما يروى للوليد بن عبد الملك على أنه كان مشهوراً باللحن: من الكامل
ولقد قضيت وإن تجلل لمتي ... شيب على رغم العدا لذاتي
من كاعبات كالدمى ومناصف ... ومراكب للصيد والنشوات
في فتية تابى الهوان وجوههم ... شم الأنوف جحاجح سادات
إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها ... أو يطلبوا لا يدركوا بترات
وقال أبو النجم العجلي: من الكامل
والخيل تسبح بالكماة كأنها ... طير تمطر في ظلال عماء
يخرجن في رهج دوين ظلاله ... مثل الجنادب من حصى المعزاء
يلفظن من عجم الشكيم وعضه ... زبداً خلطن بياضه بدماء
كم من كريمة معشر أيمنها ... وتركن صاحبها بدار ثواء
إن الأعادي لن تنال قديمنا ... حتى تنال كواكب الجوزاء
كم في لجيم من أغر كأنه ... صبح يشق طيالس الظلماء
بحر يكلل بالسديف جفانه ... حتى يموت شمال كل شتاء
ومحرب خضل البنان إذا التقى ... زحف محاترة الصدور ظماء
إنا وجدك لا يكون سلاحنا ... حجر الأكام ولا عصا الطرفاء
نأوي إلى حلق الحديد وقرح ... قب تشوف نحو كل دعاء
تلكم مراكبنا وفوق كماتنا ... بيض الغضون سوابغ الأثناء
قدرن من حلق كأن شعاعها ... ثلج يطيش على متون نهاء
تحمي الرماح لنا حمانا كله ... ونبيح بعد مسارح الأحياء
إن السيوف تجيرنا ونجيرها ... كل يجير بعزة ووفاء

إنا لنعمل ي الرءوس سيوفنا ... عمل الحريق بيابس الحلفاء
وقال بشار بن برد: من الطويل
إذا نحن صلنا صولة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما
الفرزدق: من الطويل
لقد علمت أفناء خندف أننا ... ذراها وأنا عزها وسنامها
وقد علم الأحياء من كل موطن ... إذا عدت الأحياء انا كرامها
وأنا إذا الحرب العوان تضرمت ... تليها إذا ما الحرب شب ضرامها
إلى الله تشكو عزنا الأرض فوقها ... وتعلم أنا ثقلها وغرامها
شكتنا إلى الله العزيز فأسمعت ... قريباً وأعيا من سواه كلامها
نصول بحول الله في الأمر كله ... إذا قيل من مصدوعة ما التئامها
لما ولي خالد بن عبد الله القسري العراق قدمها منه أشد خلق الله عصبية على نزار. قال لبطة بن الفرزدق: فلبس أبي من صالح ثيابه وخرج يريد السلام على خالد، فقلت له: يا أبت، إن هذا الرجل يمان، وفيه من العصبية ما قد علمت، فإن دخلت إليه فأنشده مديحك لأهل اليمن لعل الله أن يأتيك منه بخير، فإنك قد كبرت عن الرحلة. فجعل لا يرد علي شيئاً حتى دفعنا إلى البواب، وأذن له، فدخل وسلم فاستجلسه ثم قال: إيه يا أبا فراس، أنشدنا مما أحدثت، فأنشده: من البسيط
يختلف الناس ما لم نجتمع لهم ... ولا خلاف إذا ما استجمعت مضر
فينا الكواهل والأعناق تقدمها ... فيها الرءوس وفيها السمع والبصر
ومن يمل يملأ المأثور قلته ... بحيث يلقى حفافي رأسه الشعر
أما الملوك فإنا لا نلين لهم ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
ثم قام. فلما خرجنا قلت له: أهكذا أوصيتك؟ فقال: اسكت لا أم لك فما كنت قط أملأ لقلبه مني الساعة.
ودخل الفرزدق على بعض خلفاء بني مروان ففاخره قوم من الشعراء، فأنشأ يقول: من البسيط
ما حملت ناقة من معشر رجلاً ... مثلي إذا الريح ألقتني على الكور
أعز قوماً وأوفى عقد مكرمة ... معظم من دماء القوم مشهور
فقال له الخليفة: إيه، فقال:
إلا قريشاً فإن الله فضلها ... على البرية بالإسلام والخير
تلقى وجوه بني مروان تحسبها ... عند اللقا مشرقات كالدنانير
ففضله عليهم ووصله.

خرج يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة حاجاً فرأى حين شارف البلد شيخاً يحفه ركب على غبل عتاق برحال ميس ملبسة أدماً قال: فعدلت إليهم فسلمت عليهم وبدأت به فقلت: من الرجل؟ ومن القوم؟ فأرم القوم ينظرون إلى الشيخ هيبة، فقال الشيخ: رجل من مهرة بن حيدان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة، فقلت: حياكم الله، وانصرفت. فقال الشيخ: قف أيها الرجل، نسبتنا فانتسبنا لك ثم انصرفت ولم تكلمنا، قلت: ما أنكرت سوءاً ولكني ظننتكم من عشيرتي، فأناسبكم فانتسبتم نسباً لا أعرفه ولا أراه يعرفني. قال: فأماط الشيخ لثامه وحسر عمامته وقال: لعمري لئن كنت من جذم من أجذام العرب لأعرفنك، قلت: فإني من أكرم أجذامها. قال: فإن العرب بنيت على أربعة أركان: مضر وربيعة واليمن وقضاعة، فمن أيهم أنت؟ قلت: من مضر، قال: أمن الأرحاء أم من الفرسان؟ فعلمت أن الأرحاء خندف والفرسان قيس، قلت: من الأرحاء.قال: فادن أنت من خندف، قلت: أجل، قال: فمن الأرنبة أنت أم من الجمجمة؟ فعلمت أن الأرنبة مدركة وأن الجمجمة طابخة، فقلت: من الجمجمة. قال: فأنت إذن من طابخة. قلت: أجل، قال: فمن الأرنبة أنت أم من الجمجمة؟ فعلمت ان الأرنبة مدركة وأن الجمجمة طابخة، فقلت: من الجمجمة. قال: فأنت إذن من طابخة. قلت: أجل. قال: فمن الصميم أم من الوشيظ؟ فعلمت أن الصميم تميم والوشيظ الرباب. قلت: من الصميم. قال: فأذن أنت من تميم. قلت: أجل. قال: أفمن الأكرمين أم من الأحكمين أم من الأقلين؟ فعلمت أن الأكرمين زيد مناة، وأن الأحكمين عمرو بن تميم، وأن الأقلين الحارث بن تميم قلت: من الأكرمين. قال: فأنت إذن من زيد مناة. قلت: أجل. قال. أفمن الجدود أم من البحور أم من الثماد؟ فعلمت أن الجدود مالك، وأن البحور سعد، وأن الثماد بنو امرئ القيس بن زيد مناة. قلت: من الجدود. قال فأنت إذن من بني مالك. قلت: أجل. قال:أفمن الذرى أم من الأرداف؟ فعلمت أن الذرى حنظلة، وأن الأرداف ربيعة ومعاوية، وهما الكردوسان. قلت: فمن الذرى. قال: فأنت إذن من حنظلة. قلت: أجل. قال: أمن البدور أم من الفرسان أم من الجراثيم؟ فعلمت أن البدور مالك وأن الفرسان يربوع وأن الجراثيم البراجم. قلت: من البدور. قال: فأنت إذن من مالك بن حنظلة. قلت: أجل. قال: أفمن الأرنبة أم من اللحيين أم من القفا؟ فعلمت أن الأرنبة دارم، وأن اللحيين طهية والعدوية، وأن القفا ربيعة بن حنظلة. قلت: من الأرنبة. قال: فأنت إذن من دارم. قلت: أجل. قال: أفمن اللباب أم من الهضاب أم من الشهاب؟ فعلمت أن اللباب عبد الله، وأن الهضاب مجاشع، وأن الشهاب نهشل. قلت: من اللباب. قال: أنت إذن من بني عبد الله. قلت: أجل. قال: أفمن البيت أم من الزوافر؟ فعلمت أن الزوافر الأحلاف، وأن البيت بنو زرارة. قلت: من البيت. قال فإذن أنت من بني زرارة. قلت: أجل. قال: فإن زرارة ولد عشرة: حاجباً ولقيطاً وعلقمة ومعبداً وخزيمة ولبيداً أبا الحارث وعمراً وعبد مناة ومالكاً، فمن أيهم أنت؟ قلت: من بني علقمة. قال: فإن علقمة ولد شيبان لم يلد غيره، فتزوج شيبان ثلاث نسوة: مهدد بنت حمران بن بشر بن عمرو بن مرثد فولدت له زيداً، وتزوج عكرشة بنت حاجب بن زرارة بن عدس فودلت له المأمور، وتزوج عمرة بنت بشر بن عمرو بن عدس فولدت له المقعد، فلأيتهن أنت؟ قلت: لمهدد. قال: يا ابن أخي ما افترقت فرقتان بعد مدركة إلا كنت في أفضلهما حتى زاحمك أخواك، فإنهما أن تلدني أماهما أحب إلي من أن تلدني أمك. يا ابن أخي أتراني عرفتك؟ قلت: إي وأبيك وأي معرفة.
أتت عمرة بنت معاوية أباها مراغمة لزوجها عمرو بن عثمان، فقال: ما لك يا بنية؟ أطلقك زوجك؟ قالت: الكلب أضن بشحمته ولكنه فاخرني، فكلما ذكر رجلاً من قومه ذكرت رجلاً من قومي حتى عد ابني منه، فوددت أن بيني وبينه البحر الأخضر. فقال معاوية: يا بنية آل أبي سفيان أقل حظاً في الرجال من أن تكوني رجلاً.

قال أبو عبيدة: كان قيس بن رفاعة يفد سنة إلى النعمان اللخمي بالعراق وسنة إلى الحارث ابن أبي شمر الغساني بالشام، فقال له الحارث: يا ابن رفاعة، بلغني أنك تفضل النعمان علي، قال: وكيف أفضله عليك أبيت اللعن؟ فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولأمك أشرف من أبيه، ولأبوك أشرف من جميع قومه، ولشمالك أجود من يمينه، ولحرمانك أنفع من بذله، ولقليلك أكثر من كثيره، ولثمادك أغزر من غديره، ولكرسيك أرفع من سريره، ولجدولك أغمر من بحوره، وليومك أفضل من شهوره، ولشهرك أمد من حوله، ولحولك خير من حقبه، ولزندك أورى من زنده، ولجندك أعز من جنده، وإنك لمن غسان أرباب الملوك، وإنه لمن لخم الكثيري النوك، فكيف أفضله عليك؟ وقف جماعة من الأنصار على دغفل النسابة بعد ما كف فسلموا عليه فقال: من القوم؟ قالوا: سادة اليمن. فقال: أهل مجدها القديم، وشرفها العميم كندة؟ قالوا: لا. قال: فأنتم الطوال قصباً، الممحضون نسباً، بنو عبد المدان؟ قالوا: لا. قال: فأنتم أقودها للزحوف، وأخرقها للصفوف، وأضربها بالسيوف، رهط عمرو بن معد يكرب؟ قالوا: لا. قال: فأنتم أحضرها قراء، وأطيبها فناء وأشدها لقاء، رهط حاتم بن عبد الله؟ قالوا: لا. قال: فأنتم الغارسون للنخل، المطعمون في المحل، والقائلون بالعدل، الأنصار؟ قالوا: نعم.
وفخر أعرابي بقومه فقال: كانوا والله إذا اصطفوا تحت القتام، خطرت بينهم السهام، بشؤبوب الحمام. وإذا تصافحوا بالسيوف فغرت المنايا أفواهها. فرب قرن عارم قد أحسنوا أدبه، وحرب عبوس قد ضاحكتها أسنتهم، وخطب شئز قد ذللوا مناكبه، ويوم عماس قد كشفوا ظلمته بالصبر حتى ينجلي. إنما كانوا كالبحر الذي لا ينكش غماره، ولا ينهنه تياره.
الشئز: القلق، والعماس: الشديد، وينكش: ينزح.
سأل معاوية عد الاستقامة عبد الله بن الحجر بن عبد المدان، وكان عبد المدان وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فسماه عبد الله، فقال معاوية: كيف علمك بقومك؟ قال: كعلمي بنفسي. قال: فما تقول في النخع؟ قال: مانعو السرب، ومسعرو الحرب، وكاشفو الكرب. قال: فما قتول في بني الحارث بن كعب؟ قال: فراجوا اللكاك، وفرسان العراك، ولزاز العكاك، من براك براك. قال: فما تقول في سعد العشيرة؟ قال: مانعو الضيم، وبانو الريم، وشاتو الغيم. قال: فما تقول في جعفي؟ قال: فرسان الصباح، ومعلمو الصفاح، ومبارو الرماح. قال: فما تقول في بني أسد؟ قال: كماة الذياد، صبر عند الطراد. قال: فما تقول في جنب؟ قال: كفاة يمنعون من الحريم، ويفرجون عن الكظيم. قال: فما تقول في صداء؟ قال: سمام الأعداء ومساعر الهيجاء. قال: فما تقول في رهاء؟ قال: ينهون عادية الفوارس، ويردون الموت ورد الخوامس. قال: أنت أعلم قومك بقومك.
أبو الأسد: من الكامل
وأنا ابن معتلج البطاح يضمني ... كالدر في أصداف بحر زاخر
ينشق عني ركنها ومقامها ... كالجفن يفتح عن سواد الناظر
كجبالها شرفي ومثل سهولها ... خلقي ومثل ظبائهن مجاوري
الزبير بن عبد المطلب: من الكامل
إن القبائل من قريش كلها ... ليرون أنا هام أهل الأبطح
وترى لنا فضلاً على ساداتها ... فضل المنار على الطريق الأوضح
المتلمس الضبعي: من الطويل
يعيرني أمي رجال ولا أرى ... أخا كرم إلا بأن يتكرما
ومن كان ذا عز كريم فلم يصن ... له حسباً كان اللئيم المذمما
أحارث لو أنا تساط دماؤنا ... تزايلن حتى ما يمس دم دما
أمنتقلاً من نصر بهثة خلتني ... ألا إنني منهم وإن كنت أينما
ألا إنني منهم وعرضي عرضهم ... كذا الرأس يحمي أنفه أن يكشما
وإن نصابي إن سألت وأسرتي ... من الناس حي يقتنون المزنما
وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوما
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما

وما كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف لهأخرى فأصبح أجذما
يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليها مقدما
فلما استقاد الكف بالكف لم يجد ... له دركاً في أن تثنى فأجحما
إذا لم يزل حبل القرينين يلتوي ... فلا بد يوماً من قوى أن تجذما
إذا ما أديم القوم أنهجه البلى ... تفرى وإن كتبته وتخرما
وكانت هنيدة المعروفة بذات الخمار بنت صعصعة عمة الفرزدق تقول: من جاءت من نساء العرب بأربعة يحل لها أن تضع خمارها عندهم كأربعتي: أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع بن حابس، وزوجي الزبرقان بن بدر، فسميت ذات الخمار.
قال الزبير بن بكار: وكان هند بن أبي هالة يقول: أن زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم تقول: أنا أكرم الناس أربعة: أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمي خديجة، وأختي فاطمة، وأخي القاسم، فهؤلاء الأرعبة لا أربعتها.
عبيد الله بن الحر: من الطويل
فإن تك أمي من نساء أفاءها ... جياد القنا والمرهفات الصفائح
فتياً لفضل الحر إن لم أنل به ... كرائم أولاد النساء الصرائح
المرثدي بن عتبة التميمي: من الطويل
رمى الناس عن قوس تميماً ولا أرى ... عداوة من عادى تميماً أضرها
عرفطة الأسدي: من الطويل
ليهنك بغض في الصديق وظنة ... وتحديثك الشيء الذي انت كاذبه
وأنك مشنوء إلى كل صاحب ... بلاك ومثل الشر يكره راكبه
فلم أر مثل الجهل أدنى إلى الردى ... ولا مثل بعض الناس غير صاحبه
وقال عمر بن لجأ التميمي: من الكامل
تهجو النجوم وأنت مقع تحتها ... كالكلب ينبح كل نجم مصعد
هيهات حلت في السماء بيوتهم ... وأقام بيتك بالحضيض الأوهد
ذو الرمة: من الطويل
وإنا لحي ما تزال جيادنا ... توطأ أكباد الكماة وتأسر
أبت إبلي أن يعرف الضيم نيبها ... إذا اجتيب للحرب العوان السنور
أبى الله إلا أننا آل خندف ... بنا يسمع الصوت الأنام ويبصر
لنا الهامة الكبرى التي كل هامة ... وإن عظمت منها أذل وأصغر
أنا ابن النبيين الكرام فمن دعا ... أباً غيرهم لا بد ان سوف يقهر
لنا الناس أعطاناهم الله عنوة ... ونحن له والله أعلى وأكبر
لنا موقف الداعين شعثاً عشية ... وحيث الهدايا بالمشاعر تنحر
وكل كريم من أناس سوائنا ... إذا ما التينا خلفنا يتأخر
هل الناس إلا نحن أم هل لغيرنا ... بني خندف إلا العواري منبر
ومنا بناة المجد قد علمت به ... معد ومنا الجوهر المتخير
المتنبي: من الكامل
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقت فإنني الجوزاء
وغذا خفيت على الغبي فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء
وله: من الطويل
وإني لنجم تهتدي صحبتي به ... إذا حال من دون النجوم سحاب
غني عن الأوطان لا يستخفني ... إلى بلد سافرت عنه إياب
وأصدى فلا ابدي إلى الماء حاجة ... وللشمس فوق اليعملات لعاب
وللستر مني موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب
وللخود مني ساعة ثم بيننا ... فلاة إلى غير اللقاء تجاب
وما العشق إلا عرة وطماعة ... يعرض قلب نفسه فيصاب
تفاخر صبيان في خطهما إلى الحسن بن سهل فقال لأحدهما: خطك تبر مسبوك، وقال للآخر: خطك وشي محبوك، وقد تسابقتما إلى غاية، فوافيتما إلى نهاية.
تفاخر صاحب السيف وصاحب القلم، فقال صاحب القلم: أنا أقتل بلا غرر، وأنت تقتل على خطر. فقال صاحب السيف: القلم خادم السيف إن مثل مراده، وإلا فإلى السيف معاده.
قال البحتري: من البسيط
من عادة السيف أن يستخدم القلما
وقال المتنبي: من البسيط

حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتب بنا أبداً بعد الكتاب به ... فإنما نحن للأسياف كالخدم
وقال ابن الرومي في ضده: من البسيط
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
مدح الرضي أبو الحسن القادر بالله بقصيدة في آهرها مفاخرة: من الكامل
عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبداً كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق
والبحتري: من الخفيف
ذهبت طيء بسابقة المج ... د على العالمين بأساً وجودا
معشر أمسكت حلومهم الأر ... ض وكادت بعزهم أن تميدا
بوجوه تعشي السيوف ضياء ... وسيوف تعشي الوجوه وقودا
أبو تمام: من الطويل
أنا ابن الذين استرضع المجد فيهم ... وسمي فيهم وهو كهل ويافع
نجوم طوالع جبال فوارع ... غيوث هوامع سيول دوافع
مضوا فكأن المكرمات لديهم ... لكثرة ما وصي بهن شرائع
إذا خفقت بالبذل أوراح جودهم ... حداها الندى واستنشقتها المطامع
رياح كريح العنبر المحض في الندى ... ولكنها يوم اللقاء زعازع
إذا ما أغاروا فاحتووا مال معشر ... أغارت عليهم فاحتوته الصنائع
يمدون بالبيض القواطع أيدياً ... وهن سواء والسيوف القواطع
الموسوي: من الطويل
تفرد في العلياء في أهل بيته ... فكل يهاديه إلى المجد والد
وتختلف الأشجار في ثمراتها ... إذا شرقت بالماء والماء واحد
آخر:من البسيط
لا تزرينبفتى من أن تكون له ... أم من الروم أو سوداء دعجاء
فإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللأحساب آباء
أبو عطاء السندي: من الكامل
إن الخيار من البرية هاشم ... وبنو أمية أرذل الأشرار
وبنو أمية عوهم من خروع ... ولهاشم في المجد عود نضار
أما الدعاة إلى الجنان فهاشم ... وبنو أمية من دعاة النار
وبهاشم زكت البلاد وأعشبت ... وبنو أمية كالسراب الجاري
وقال الرضي: من المتقارب
وما الشعر فخري ولكنني ... أطول به همة الفاخر
أنزهه عن لقاء الرجال ... وأجعله تحفة الزائر
فما تتهدى إليه الملو ... ك إلا من المثل السائر
وإني وإن كنت من أهله ... لتنكرني حرفة الشاعر
وما الفخر في أدب ناتج ... يضاف إلى مطلب عاقر
وقال أيضاً: من البسيط
وأين قوم كقومي لو سألتهم ... سوابق الخيل في يوم الوغى نزلوا
كالصخران إن حلموا والنار إن غضبوا ... والأسد إن ركبوا والوبل إن بذلوا
الطاعنين من الجبار مقتله ... والضاربين ونقع الذيل منسدل
وقال أيضاً: من الطويل
وسائلة عني كأني لم أبح ... حمى قومها واليوم بالنقع مسدف
لئن كنت مجهولاً بذلي في الهوى ... فإني بعزي عند غيرك أعرف
يفزع باسمي الجيش ثم يردني ... إلى طاعة الحسناء قلب مكلف
لنا الدولة الغراء ما زال عندها ... من الجور واق أو من الظلم منصف
بعيدة صوت في العلا غير رافع ... بها صوته المظلوم والمتحيف
وقال أيضاً: من الطويل
أنا ابنالأولى إما دعوا يوم معرك ... أمدوا أنابيب القنا بالمعاصم
إذا نزلوا بالماحل استنبتوا الربى ... وكان نتاجاً للبطون العقائم
قروا في حياض المجد واستذرعوا القنا ... إلى نيل أعناق الملوك القماقم
وما منهم إلا امرؤ شب ناشئا ... على نمطي بيضاء من آل هاشم

فتى لم توركه الإماء ولم تكن ... أعاريبه مدخولة بالأعاجم
إذا هم أعطى نفسه كل منية ... وقعقع أبواب الأمور العظائم
وما اتخذوا إلا الرماح سرادقاً ... ولا استنوروا إبى بضوء اللهاذم
وما فيهم من يقسم القوم أمره ... ولا ضارع ينقاد طوع الحزائم
واهن إن عضه الأمر هابه ... وألقى مقاليد الذليل المسالم
لنا عفوات الماء من كل منهل ... موارد آساد العرين الضراغم
لويت إلى ود العشيرة جانبي ... على عظم داء بيننا متفاقم
ونمت عن الأضغان حتى تلاحمت ... جوائف هاتيك الندوب القدائم
وأوطأت أقوال الوشاة أخامصي ... وقد كان سمعي مدرجاً للنمائم
وسالمت لما طالت الحرب بيننا ... إذا لم تظفرك الحروب فسالم
وقد كنت أصميهم بعوج نوافذ ... تئن لها الأعراض يوم الخصائم
صوائب من نبل العداوة لم تزل ... تعط قلوباً من وراء الحيازم
قضيت بهم حق الحفائظ مدة ... ولا بد أن أقضي حقوق المكارم
تورد ذكري كل نجد وغائر ... وألجم خوفي كل باغ وظالم
وهدد بي الأعداء في المهد لم يحن ... نهوضي ولم أقطع عقود تمائمي
وعندي يوم لو يزيد ومسلم ... بدا لهما لاستقصرا يوم واقم
على العز مت لا ميتة مستكينة ... تزيل عن الدنيا بشم المراغم
وخاطر على الجلى خطار ابن حرة ... وإن زاحم الأمر العظيم فزاحم
وقال أيضاً: من الهزج
لنا كل غلام هم ... مه أن يرد الحينا
يخال موفياً نذراً ... به أو قاضياً دينا
حديد السمع في حيث ... تكون الأذن العينا
وقال يفتخر بقومه: من الطويل
من القوم حلوا في المكارم والعلا ... بملتف أعياص الفروع الأطايب
أقاموا بمستن البطاح ومجدهم ... مكان النواصي من لؤي بن غالب
بهاليل أزوال تعاج إليهم ... صدور القوافي او صدور النجائب
عظام المقاري يمطرون نوالهم ... بأيدي مساميح سباط الرواجب
وأضحوا على الأعواد تسمو لحاظهم ... كلمح القطاميات فوق المراقب
فما شئت من داع إلى الله مسمع ... ومن ناصر للحق ماضي الضرائب
تساموا إلى العز الممنع وارتقوا ... من المجد أنشاز الذرى والغوارب
بحيث ابتنت أم النجوم منارها ... وأوفت رباياً الطالعات الثواقب
لهم ورق من عهد عاد وتبع ... حديد الظبا إلا انثلام المضارب
فضالات ما أبقى الكلاب وطخفة ... وما أسار الأبطال يوم الذنائب
بهن فلول من وريدي عتيبة ... ونضح نجيع من ذؤاب بن قارب
تقلقل في الأغماد هزلاً وخطبها ... جسيم إذا جربن بعض التجارب
غدوا إلى هدم الكواهل والطلى ... وعوداً إلى حذف الذرى والعراقب
نوادر في الفخر قال رجل: كان أبي الذي قيل له: من المتقارب
يقوم القعود إذا أقبلوا
فقال آخر: صدق لأنه كان بين يديه حمل شوك.
لما قال إسماعيل بن يسار قصيدته التي يفخر فيها بالفرس على العرب، ومنها: من الخفيف
إذ نربي بناتنا وتدسو ... ن سفاهاً بناتكم في التراب
قال له العربي: لأن حاجتنا إلى البنات غير حاجتكم، يعني أنهم ينكحون بناتهم.
لما قال مسكين الدارمي يفتخر: من الكامل المرفل
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر
قالت امرأته: صدقت لأنها ناره وقدره. ولما قال:
ما ضر جاراً لي أجاوره ... ألا يكون لبيته ستر
قالت: إن كان له ستر هتكته.
قال بعضهم: مررت بجماعة من الكناسين وقد وقفوا على بئر لينقلوها، فقالوا لأحدهم:انزل، فتجرد ونزل وهو يقول: من الخفيف

لم يطيقوا ان ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
مر الفرزدق بالفضل بنالعباس بن عتبة بن أبي لهب وهو يستقي وينشد: من الرمل
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
فشمر الفرزدق ثيابه عنه وقال: أنا أساجلك، ثقة بنسبه، فقيل له: هذا ابن العباس بن عتبة ابن أبي لهب، فرد الفرزدق ثيابه عليه وقال، ما يساجلك إلا من عض بأير أبيه.
أتي العريان بن الهيثم بشاب سركان، فقال: من أنت؟ فقال: من الطويل
أنا ابن الذي لا تنزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود
ترى الناس أفواجاً إلى باب داره ... فمنهم جثوم عندها وقعود
فظن أنه من أولاد الملوك فأمر بتخلية سبيله، ثم قال لبعض الشرط: أخرج فاسأل عن هذا ابن من هو. فسأل عنه فقيل: هو ابن باقلاني.
قال العتبي:كان يجالسنا فتى من بني الحرماز فقال يوماً: نظرت في نسبي فلم أجدني أصابتني هجنة إلا من قبل إبراهيم بن إسماعيل عليهما السلام. فقلنا له: أنت صريح وإسماعيل هجين، فأيكما أشرف؟ قال: فمسح سباله وقال: أما أنا فلا أقول شيئاً.
تفاخر أسدي وهذلي فرضيا برجل، فقال، إني ما أقضى بينكما إلا أن تجعلا لي عقداً وثيقاً ألا تضرباني، فإني لست في بلاد قومي، ففعلا. فقال: ياأخا بني أسد كيف تفاخر العرب وأنت تعلم أنه لي حي أحب إلى الجيش ولا أبغض إلى الضيف، ولا أقل تحت الرايات منكم؟ وأما أنت يا أخا هذيل فكيف تكلم الناس وفيكم ثلاث خلال: منكم دليل الحبشة على الكعبة، ومنكم خولة ذات النحيين، وسألتم رسول الله أن يحل لكم الزنا. ولكن إذا أردتم بيتي مضر فعليكم بهذين الحيين من تميم وقيس، قوما في غير حفظ الله.
قال الجاحظ. أتيت بيت أبي الربيع الغنوي، وكان من أفصح الناس وأبلغهم، ومعي رجل من بني هاشم. فقلت: أبو الربيع ها هنا؟ فخرج إلي وهو يقول: خرج إليك رجل كريم. فلما رأى الهاشمي استحيا من فخره بحضرته، فقال: أكرم الناس رديفاً وأشرفهم حليفاً. فحدثنا ملياً ثم نهض الهاشمي فقلت لأبي الربيع: يا أبا الربيع، من خير الخلق؟ قال: الناس. قلت: فمن خير الناس؟ قال: العربز قلت، فمن خير العرب؟ قال: مضر والله. قلت: فمن خير مضر؟ قال: قيس والله. قلت:فمن خير قيس؟ قال: يعصر والله. قلت: فمن خير يعصر؟ قال: غني والله. قلت: فمن خير غني؟ قال: المخاطب لك والله. قلت: فأنت خير الناس؟ قال: أي والله. قلت: أيسرك أن تحتك ابنة يزيد بن المهلب؟ قال: لا والله. قلت: ولك ألف دينار. قال:لا، والله. قلت: ولك الجنة. فأطرق وقال: على أن لا تلد مني.
قوله: أكرم الناس رديفاً يعني أبا مرثد الغنوي، كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأشرفهم حليفاً هو كان حليف حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. ويقال رجل كرم وامرأة كرم، وكذلك كل ما يوصف بالمصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والأنثى.
دعا أعرابي عند الكعبة ماداً يده وهو يقول: اللهم إن كنت ترى يداً أكرم منها فاقطعها.
مر نصر بن سيار الليثي بأبي الهندي وهو غالب بن عبد القدوس بن شبث بن ربعي، وهو يميل سكراً فقال: أفسدت شرفك. فقال له أبو الهندس: لو لم أفسد شرفي لم تكن أنت والي خراسان.
وزعم الأصمعي أنه رأى رجلاً يختال في أزير في يوم قر، فقال له:ممن أنت يا مقرور؟ قال:أنا ابن الوحيد أمشي الخيزلي ويدفئني حسبي.
وقيل لآخر في مثل هذه الحال: أما يوجعك البرد؟ قال: بلى، ولكني اذكر حسبي فأدفأ.
قال بلال بن أبي بردة للهيثم بن أبي الأسود: أنا ابن أحد الحكمين. قال: أما أحدهما ففاسق وأما الآخر فمائق، فابن أيهما أنت؟ قدم أعرابي على يزيد بن مزيد وهو يتغدى فقال لأصحابه: أفرجوا لأخيكم. فقال الأعرابي: لا حاجة بي إلى ذلك، إن أطنابي بحمد الله طوال. فلما جلس وتهيأ ليأكل ضرط، فقال له يزيد، واستضحك: ما أظن إلا أن طنباً من أطنابك قد انقطع.

تفاخر بصري وبغدادي، فقال البصري للبغدادي: بم تفاخرني؟ فقال له البغدادي: تعال حتى نتناصف، ولا يستعمل منا أحد مع صاحبه البهت. فقال البصري: أفعل، فقال له البغدادي: كيف طعم مائكم؟ قال: فيه أدنى ملوحة. قال: فيكف لونه؟ قال: فيه أدنى خضرة. قال: فكيف ريحه؟ قال: فيه أدنى ملوحة. قال: فكيف لونه؟ قال: فيه أدنى خضرة. قال: فكيف ريحه؟ قال: فيه أدنى نتن. قال: فهذه صفة الخرا ببغداد.
قال قائل لنصيب: أيها العبد مالك وللشعر؟ فقال: أما قولك عبد، فما ولدت إلا وأنا حر، لكن أهلي ظلموني فباعوني، وأما السواد فأنا الذي أقول: من الوافر
فإن أك حالكاً لوني فإني ... لعقل غير ذي سقط وعاء
وما نزلت بي الحاجات إلا ... وفي عرضي من الطمع الحياء
وقال نصيب أيضاً يفتخر ويعتذر عن سواده: من الكامل
ليس السواد بناقصي ما دام لي ... هذا اللسان إلى فؤاد ثابت
كم بين أسود ناطق ببيانه ... ماضي الجنان وبين أبيض ساكت
من كان ينفعه منابت أصله ... فبيوت أشعاري جعلن منابتي
إني ليحسدنيالرفيع بناؤه ... من فضل ذاك وليس بي من شامت
أخبر أبو الحكم عبد المطلب بن عبد الله بن يزيد بن عبد الملك قال: والله إني بالعقيق في قصر القاسم بن عبد الله بنعمرو بن عثمان، وعندي أشعب وأبو رقية وعمر الوادي، إذ دعوت بدينار فوضعته بين يدي وسبقتهم في دحق، فكان أول من خسق أبو رقية فقال: أنا ابن عامر القاري، أنا ابن أول أعمى تقدم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خسق أشعب ثم قال: أنا ابن الجلندح؛ أنا ابن المحرشة بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو الحكم: فقلت له أي أخزاك الله، هل سمعت أحداً قط فخر بهذا؟ فقال: وهل فخر أحد بمثل فخري؟ لولا أن أمي كانت عندهن ثقة ما قبلن منها حتى تغضب بعضهن على بعض.
يقال: دحق يده عن الشيء إذا قبضها، والدحيق: البعيد. وأدحقه الله أبعده. وأدحقت الرحم رمت بالماء فلم تقبله. الدحاق: أن يخرج رحم الأنثى بعد الولادة حتى تموت؛ وهي دحوق. وخسق السهم الهدف أصابه ولم يرتد وتعلق.
خرج العجاج محتفلاً عليه جبة من خز وعمامة من خز، على ناقة له قد أجاد رحلها حتى وقف بالمريد، والناس مجتمعون فأنشدهم قوله: من الرجز
قد جبر الدين الإله فجبر
فذكر فيها ربيعة وفخر عليهم وهجاهم؛ فجاء رجل من بكر بن وائل إلى أبي النجم العجلي، وهو في بيته، فقال: أنت جالس وهذا العجاج يهجونا في المريد قد اجتمع عليه الناس؟! فقال: صف لي حاله وزيه الذي هو عليه، فوصفه له؛ فقال: ابغني جلازص طحاناً قد أكثر عليه من الهناء، فجاء بالجمل إليه، فأخذ سراويل له فجعل إحدى رجليه في السراويل واتزر الأخرى وركب الجمل ودفع خطامه إلى من يقوده حتى أتى المربد، فلما دنا من العجاج قال: اخلع خطامه، فخلع وأنشد: من الرجز
تذكر القلب وجهلاً ما ذكر
فجعل الجمل يدنو من الناقة ويتشممها ويتباعد عنه العجاج لئلا يفسد ثيابه ورحله القطران، حتى بلغ إلى قوله:
شيطانة أنثى وشيطانى ذكر
فعلق الناس هذا البيت، وهرب العجاج منه.
نزل على رجل من طيء من بني حية رجل من بني الحارث بن ذهل ابن شيبان يقال له المكاء، فذبح له شاة وسقاه من الخمر، فلما سكر الطائي قال: هلم أفاخرك: أبنو حية أكرم أم بنو شيبان؟ فقال له الشيباني: حديث حسن ومنادمة كريمة أحب إلينا من المفاخرة. فقال الطائي: والله ما مد رجل قط يداً أطول من يدي، فخضبها من كوعها كما قال.
قيل لجرير إن الطرماح قد هجا الفرزدق وقد كبر وضعف، فلو أجبت عنه، فقال: صدى الفرزدق يفيء بطيء كلها، وقد أردت ذلك فخفت أن يقال: اجتمع فحلا مضر على مخنث طيء.
وقع بين أبي علقمة وبين رجل نداف فقال له: لو وضعت يمنى رجليك على حراء، ويسراهما على ثبير، ثم تناولت قوس قزح فندفت له بالغيم على حساب الملائكة، ما كنت إلا ندافاً.

مازح الفرزدق بلال بن أبي بردة فذم بلال بني تميم ومدح أبا موسى، فقال الفرزدق: والله لو لم تكن لأبي موسى إلا فضيلة واحدة لكفته. قال: وما هي؟ قال: حجامته. فقال بلال: قد فعل ذلك لحاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك؛ وما فعله قبله ولا بعده، فقال الفرزدق: كان أبو موسى أتقى لله من أن يقدم على نبيه بغير حذق.
قال الحجاج بن عبد الملك بن الحجاج بن يوسف: لو كان رجل من ذهب لكنته، قيل: كيف؟ قال: لم تلدني أمة إلى آدم ما خلا هاجر، فقالوا له: لولاها لكنت كلباً من الكلاب.
جندل مولى عدي بن حاتم يفتخر بانه محرر الرجال دون النساء: من الطويل
وما فك رقي دل خريدة ... ولا أخطأتني غرة وحجول
نماني إلى العلياء أبيض ماجد ... فأصبحت أدري اليوم كيف أقول
جعفر بن عقاب، وعقاب أمة سوداء: من الوافر
وضمتني العقاب إلى حشاها ... وخير الطير قد علموا العقاب
فتاة من بني سام بن نوح ... سبتها الخيل غصباً والركاب
قيل لأبي العيناء: ما تقول في ابني وهب؟ فتلا قوله سبحانه وتعالى: " وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج " " فاطر: 12 قال سعيد بن سلم: حججنا سنة فبينا انا أسير على حمار خلف المحامل والقباب والكنايس إذا أنا بأعرابي واقف ينظر إليها وهي تمر عليه. فقال لي: لمن هي يا هناه؟ فقلت: لرجل من باهلة. فقال: والله ما رأيت كاليوم قط. ما ظننت أن الله يعطي باهلياً هذا ولا نصيفه ولا عشيرة. فقلت: هل يسرك أنها لك وأنك من باهلة؟ قال: لاها الله ذا. فناولته صرة كانت معي فقال: والله لقد وافقت مني حاجة، فقلت: إني من باهلة، فردها وقال: أكره والله أن ألقي الله ولباهلي عندي يد. فحدثت الرشيد فضحك وقال: ما أصبرك يا سعيد.
قيل لأبي عبيدة: إن الأصمعي قال: بينا أبي يساير سلم بن قتيبة على فرس له، فقال أبو عبيدة: سبحان الله! المتشبع بما ليس عنده كلابس ثوبي زور، والله ما ملك أبوه دابة إلا في ثوبه.
رؤى رجل في ناظرة السباق، وقد سبق فرس، وهو يظهر النشاط وفرط سرور وابتهاج، فقيل: أهو لك؟ فقال: لا، ولكن لجامه لي.
قال سقراط لرجل عيره بحسبه: حسبي مني ابتدأ وحسبك إليك انتهى.
وقال آخر: قومي عار علي وأنت عار على قومك.
وطعن في حسب رجل فقال: لأن يكون حسبي عيباً علي أصلح من أن أكون عيباً على حسبي.
وقيل: لأن يكون الرجل شريف النفس دنيء الأصيل أفضل من أن يكون دنيء النفس شريف الأصل.
قيل لرجل من ولد بشر بن مروان، وكان مأبوناً، وإن أباك كان سهماً من سهام المسلمين وسيفاً من سيوفهم فقال:وأنا جعبة من جعابهم وغمد لسيوفهم.
بعض العبيد الرعاة يفاخر آخر: من الطويل
أتبعثني في الشاء وابن مويلك ... على هجمة قد لوحتها الطبائخ
متى كان عمران الثمالي راعياً ... وقد راعه بالدو أسود سالخ

المجلد الرابع
الباب السابع عشر
في المدح والثناء
ويتصل به فصلان الشكر والاعتذار والاستعطاف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المحمود بآلائه، الممدوح على نعمائه، المشكور بجزيل عطائه، المستعطف من حلول بلائه، كاشف الكرب وقد أظلمت، وقابل التوبة من منيب إذا خلصت، المنعم على المعتذر بكريم صفحه، ومثيب المناجي على ثنائه ومدحه، لا يستحق المدح الصادق سواه، ولا يستوجب الشكر الخالص إلا إياه، يمدح بأوصاف المحامد، وأقر له بذلك المعترف والجاحد، والصلاة على رسوله المشتق اسمه من الحمد، المخصوص بفضيلة الشرف والمجد، وعلى آله وصحبه، ما طرق ظلام بشهبه.

وألحقت هذين الفصلين بالباب لأنهما في معناه، فالشاكر مثن، والمعتذر والمستعطف راغب، وكلاهما في المعنى راج ومادح، وحقيقة المدح وصف الموصوف بأخلاق يحمد صاحبها عليها ويكون نعتاً حميداً له. وهذا يصح من المولى في حق عبده، ويخرج عليه قوله تعالى: " نعم العبد إنه أواب " ص: 44 وقوله سبحانه وتعالى: " وإنك لعل خلق عظيم " القلم: 4 وقوله عز وجل: " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون،والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " المؤمنون: 1 - 6 وقوله تعالى: " التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين " التوبة: 112 ومثل ذلك في الكتاب العزيز كثير.
ويناسبه وصف النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وإن لم يكن على جهة المدح، فإنه تنبيه على منازلهم، وبيان لأحوالهم، بأحسن الذكر.
والمدح ذكر مخلد وعمر مجدد. وكانت العرب تراه عنوان فضلها، وسمة عقلها، قال شاعرهم: من الطويل
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأحسابنا إن الثناء هو الخلد
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنه هرم: ما كنتم أعطيتم زهيراً حين قال فيكم ما قال؟ فقالت: أعطيناه قلائص تنضى وحللاً تبلى، قال: لكن الذي أعطاكم لا يبليه الدهر.
وأحسن المدح وقعاً في الأسماع، وأعلقه بالأفواه، ما كان قصداً لا شطط ولا وكس، فإن صدقه الممدوح بالفعال فهناك يسير مسير الشمس. وقد قال علي كرم الله وجهه: الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق، والتقصير عن الاستحقاق عي أو حسد. وما أقبح من استدعى مشهور الثناء وتصدى لكشف الشعراء أن يتعرض لقول القائل: من الطويل
وكنت متى تَسْمع مديحاً ظلمته ... يكن لك أهجى كلما كان أمدحا
وقد قال شاعر محدث: من البسيط
والشعر أهجاه للإنسان أمدحه ... إذا امرؤ قيل فيه غير ما فعلا
وحسبه أن الله تعالى ذمه حيث أحب أن يحمد بما لم يفعل. وللشعراء عادة في التجوز وتجاوز قدر الممدوح يغضي عنها إذا اقترنت بالإحسان، وتشغل عن المحاققة عليها بدائع البيان. وسأذكر من ذلك نظماً ونثراً ما أختصره، وأجهد أن يسلم من العي مخبره، والله الموفق.
أنشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قول زهير بن أبي سلمى المزني في هرم بن سنان بن أبي حارثة: من الكامل المرفل
دع ذا وعد القول في هرم ... خير الكهول وسيد الحضر
لو كنت من شيء سوى بشرٍ ... كنت المنور ليلة البدر
ولأنت أوصل من سمعت به ... لشوابك الأرحام والصهر
ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر
وأراك تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري
؟أثني عليك بما علمت وما أسلفت في النجدات من ذكر فقال عمر ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولزهير في هرم مدائح أصفاه فيها مجهوده، فمنها قوله: من الطويل
وأبيض فياض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغب فواضله
بكرت عليه غدوة فوجدته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله
يفدينه طوراً وطوراً يلمنه ... وأعيا فما يدرين أين مخاتله
فأقصرن منه عن كريم مرزإ ... عزوم على الأمر الذي هو فاعله
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك معطيه الذي أنت سائله
وقال أيضاً: من البسيط
إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كن الجواد على علاته هرم
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفواً ويظلم أحياناً فيظلم
وله قصيدة منها قوله: من الطويل
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم ... فلم يبلغوا ولم ينالوا ولم يألوا
فما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل

وروي أن هرماً أقسم لا يسلم عليه زهير إلا أعطاه عشرة أبعد وأمه، فلما كثر ذلك على زهير صار إذا مر بالنادي وفيه هرم قال: أنعموا صباحاً ما عدا هرماً وخيركم تركت، فكان فعله هذا أمدح له من شعر.
وقال كعب بن زهير في رسول الله صلى الله عليه وسلم: من البسيط
إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميل معازيل
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
لا يفرحون إذا نالت رماحهم ... قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل
وله معتذراً إليه صلى الله عليه وسلم:
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
؟مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب وإن كثرت في الأقاويل
وإنما لم أبتدئ بممادح رسول صلى الله عليه وسلم وأستكثر منها لأنه صلى الله عليه وسلم يجل عن مدح الشعر، ومن مدحه الله عز وجل في كتابه العزيز غني عن مدح المخلوقين.
وكان سبب قصيدة كعب بن زهير أن كعباً وبجيراً ابني زهير بن أبي سلمى خرجا إلى أبرق العزاف، فقال بجير لكعب: اثبت في الغنم حتى آتي هذا الرجل - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - فأسمع كلامه وأعرف ما عنده. فأقام كعب ومضى بجير، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم واتصل إسلامه بأخيه كعب فقال: من الطويل
ألا أبلغا عني بجيراً رسالة ... فهل لك في ما قلت ويحك هل لكا
سقاك بها المأمون كأساً روية ... وأنهلك المأمون منها وعلكا
ففارقت أسباب الهدى وتبعته ... على أي شيء ويب غيرك دلكا
على مذهب لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولم تعرف عليه أخاً لكا
فاتصل الشعر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه. فكتب بجير إلى كعب: النجاء النجاء، فقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمك، وما أحسبك ناجياً. ثم كتب إليه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاءه أحد يشهد أن لا إله إلا الله أن محمداً رسول الله إلا قبله ولم يطالبه بما تقدم الإسلام فأسلم وأقبل. فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال كعب بن زهير: فأنخت راحلتي على باب المسجد ودخلته، وعرفت النبي صلى الله عليه وسلم بالصفة التي وصفت لي، فكان مجلس رسول الله مع أصحابه مثل موضع المائدة من القوم يتحلقوق، حوله حلقة ثم حلقة، فيقبل على هؤلاء فيحدثهم، ثم على هؤلاء فيحدثهم، فدنوت منه فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، الأمان يا رسول الله. قال: من أنت؟ قلت: كعب بن زهير، قال: الذي يقول ما يقول؟ ثم أقبل على أبي بكر رضي الله عنه فاستنشده الشعر فأنشده أبو بكر: سقاك بها المأمون كأساً روية. فقلت: لم أقل هكذا، إنما قلت:
سقاك أبو بكر بكأس روية ... وأنهلك المأمون منها وعلكا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مأمون والله، وأنشدنه الشعر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مأمون والله، وأنشدته الشعر وقال أمية بن أبي الصلت الثقفي يمدح عبد الله بن جدعان: من الوافر
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذب والسناء
كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق السني ولا مساء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء

قال الحسين بن الحسن المروزي: سألت سفيان بن عيينة فقلت: يا أبا محمد، ما تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: كان من أكثر دعاء الأنبياء قلبي بعرفة: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وإنما هو ذكر وليس فيه من الدعاء شيء. فقال لي: أعرفت حديث مالك ابن الحارث، يقول الله جل ثناؤه: إذا شغل عبدي ثناؤه على عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطيته أفضل ما أعطي السائلون. قلت: نعم، أنت حدثتنيه عن منصور عن مالك بن الحارث. قال: فهذا تفسير ذلك. ثم قال: أما علمت ما قال أمية بن أبي الصلت حين خرج إلى ابن جدعان يطلب نائله وفضله؟ قلت: لا أدري، قال، قال له: أأذكر حاجتي .... إذا أثنى ... وذكر البيتين، ثم قال سفيان: فهذا مخلوق ينسب إلى الجود، قيل له: يكفينا من مسألتك أن نثني عليك ونسكت حتى تأتي على حاجتنا، فكيف بالخالق؟ وقال الشماخ بن ضرار: من الطويل
وأبيض قد قد السفار قميصه ... يجر شواء بالغضا غير منضج
دعوت إلى ما نابني فأجابني ... كريم من الفتيان غير مزلج
المزلج من الفتيان: غير الكامل.
فتى يملأ الشيزى ويروي سنانه ... ويضرب في رأس الكمي المدجج
فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحي بالمتولج
وقال الحطيئة: من الطويل
وفتيان صدق من عدي عليهم ... صفائح بصري علقت بالعواتق
إذا ما دعوا لم يسألوا من دعاهم ... ولم يمسكوا فوق القلوب الخوافق
وطاروا إلى الجرد الجياد فألجموا ... وشدوا على أوساطهم بالمناطق
أولئك آباء الغريب وغاثة ال ... صريخ ومأوى المرملين الدرادق
أحلوا حياض الموت فوق جباههم ... مكان النواصي من وجوه السوابق
وقال أيضاً: من الطويل
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وإن قال مولاهم على جل حادث ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا
وإن الشقي من يعادي صدورهم ... وذو الجد من لانوا إليه ومن ودوا
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
وقال أيضاً: من الطويل
تزور امرءاً يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد
وأنت امرؤ كم تعطه اليوم نائلا ... بكفيك لا تمنعه من نائل الغد
ترى الجود لا يدني من المرء حتفه ... بكفيك لا تمنعه من نائل الغد
ترى الجود لا يدني من المرء حتفه ... كما البخل والإمساك ليس بمخلد
مفيد ومتلاف إذا ما سألته ... تهلل واهتز اهتزاز المهند
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
وسمع عمر رضي الله عنه هذا البيت فقال: كذب، تلك نار موسى عليه السلام.
وقال الأخطل: من الطويل
لعمري لقد أسريت لا ليل عاجزٍ ... بساهمة الخدين طاوية القرب
إليك أمير المؤمنين رحلتها ... على الطائر الميمون والمنزل الرحب
مناخ ذوي الحاجات يستمطرونه ... عطاء جزيلاً من أسارى ومن نهب
ترى الحلق الماذي تجري فضوله ... على مستقل بالنوائب والحرب
وقال أيضاً: من الطويل
كريم مناخ القدر لا عاتم القرى ... ولا عند أطراف القنا بهيوب
كأن سباع الغيل والطير تعتفي ... ملاحم نقاض التراث طلوب
وقال أيضاً: من البسيط
إن ربيعة لن تنفك صالحةً ... ما دافع الله عن حوبائك الأجلا
أغر لا يحسب الدنيا تخلده ... ولا يقول لشيء فات ما فعلا
وقال حسان بن ثابت: من البسيط
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد شرعوا سنة للناس تتبع

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهن ما رقعوا
لا يجهلون وإن حاولت جهلهم ... في فضل أحلامهم عن ذاك متسع
إن كان في الناس سباقون قبلهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... آساد بيشة في أرساغها فدع
وقال المسيب بن علس من المتقارب
تبيت الملوك على عتبها ... وشيبان إن غضبت تعتب
وكالشهد بالراح أحلامهم ... وأخلاقهم منهما أعذب
وكالمسك ريح مقاماتهم ... وريح قبورهم أطيب
وقال الأعشى: من البسيط
لا يرقع الناس ما أوهى وإن جهدوا ... أن يرقعوه ولا يوهون ما رقعا
غيث الأرامل والأيتام كلهم ... لم تطلع الشمس إلا ضر أو نفعا
وقال بعض بين كنانة: من الطويل
تخيرتها للنسل فهي غريبة ... فجاءت به كالبدر خرقاً معمما
فلو شاتم الفتيان في الحي ظالماً ... لما وجدوا غير التكذب مشتما
وقال آخر: من الكامل
إن المهالبة الكرام تحملوا ... دفع المكاره عن ذوي المكروه
زانوا قديمهم بحسن حديثهم ... وكريم أخلاق بحسن وجوه
وقال أبو الجهم في معاوية بن أبي سفيان: من الوافر
نقلبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرماً ولينا
نميل على جوانبه كأنا ... إذا ملنا نميل على أبينا
وقال كثير: من الطويل
ترى القوم يخفون التبسم عنده ... وينذهرم عور الكلام نذيرها
فلا هاجرات القول يؤثرن عنده ... ولا كلمات النصح مقصى مشيرها
وقال جرير: من الطويل
فيومان من عبد العزيز تفاضلا ... ففي أي يوميه تلوم عواذله
فيوم تحوط المسلمين جياده ... ويوم عطاء ما تغب نوافله
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
وقال أبو زياد الأعرابي: من الوافر
له نار تشب بكل واد ... إذا النيران ألبست القناعا
ولم يك أكثر الفتيان مالاً ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
وقال ذو الرمة: من الطويل
من آل أبي موسى ترى الناس حوله ... كأنهم الكروان ابصرن بازيا
مرمين من ليث عليه مهابة ... تفادى الأسود الغلب منه تفاديا
فما يغربون الضحك إلا تبسماً ... ولا ينبسون القول إلا تناجيا
لدى ملك يعلو الرجال بضوئه ... كما يبهر البدر النجوم السواريا
فلا الفحش منه يرهبون ولا الخنا ... عليهم ولكن هيبة هي ما هيا
وقال مزاحم العقيلي: من الطويل
ترى في سنا الماذي كل عشية ... على غفلات الزي والمتحمل
وجوهاً لو أن المدلجين اعتشوا بها ... صدعن الدجى حتى ترى الليل ينجلي
قال يعقوب بن داود: ذم رجل الأشتر فقال له رجل من النخع: اسكت فإن حياته هزمت أهل الشام، وموته هزم أهل العراق.
أغار عروة بن الورد على بعض أحياء العرب فأصاب امرأة منهم فنكحها فأولدها: ثم إنه فادى بها من بعد، وخيرها بين المقام مع ولدها والرجوع إلى قومها، فاختارت قومها، ثم أقبلت عليه وقالت: يا عروة، إني أقول فيك وإن فارقتك الحق، والله ما أعلم امرأة من العرب وضعت سترها على بعل خير منك: أغض طرفاً، وأقل فحشاً، وأجود يداً، وأحمى لحقيقة. وما مر يوم مذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك، لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته، والله لا أنظر في وجه غطفانية أبداً، فارجع راشداً إلى ولدك وأحسن إليهم.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمتمم بن نويرة: صف لي أخاك فإني أراك تمدحه، قال: كان أخي يجلس بين المزادتين النضوحين في الليلة القرة معتقلاً الرمح الخطل، عليه الشملة الفلوت، يقود الفرس الحرون، فيصبح أهله ضاحكاً مستبشراً.
الخطل: الطويل المضطرب. الفلوت: التي لا تنضم على الرجل لقصرها.
وقال آخر: من الوافر
إذا لبسوا عمائمهم طووها ... على كرم وإن سفروا أناروا
يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالطعان هم تجار
إذا ما كنت جار بني تميم ... فأنت لأكرم الثقلين جار
وقال آخر: من الطويل
إذا ما تراآه الرجال تحفظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب
حبيب إلى الزوار غشيان بيته ... جميل المحيا شب وهو أديب
وقال آخر: من الوافر
وكنت جليس قعقاع بن شورٍ ... ولا يشقى بقعقاع جليس
ضحوك السن إن نطقوا بخير ... وعند الشر مطراق عبوس
وقال إبراهيم بن هرمة: من البسيط
قوم لهم شرف الدنيا وسؤددها ... صفو على الناس لم يخلط بهم رنق
إن حاربوا وضعوا أو سالموا رفعوا ... أو عاقدوا ضمنوا أو حدثوا صدقوا
ولما مدح ابن هرمة المنصور أمر له بألفي درهم فاستقلها، وبلغ ذلك المنصور فقال: أما يرضى أني حقنت له دمه وقد استوجب إراقته، ووفرت ماله وقد استحق تلفه، وأقررته وقد استأهل الطرد، وقربته وقد استحق البعد. أليس هو القائل في بني أمية: من المتقارب
إذا قيل من عند ريب الزمان ... لمعتر فهر ومحتاجها
ومن يعجل الخيل عند الوغى ... بإلجامها قبل إسراجها
أشارت نساء بني مالك ... إليك به قبل أزواجها
قال إبراهيم بن هرمة: فإني قد قلت فيك أحسن من هذا. قال: هاته، فقال: من المتقارب
إذا قيل أي فتى تعلمون ... أهش إلى الطعن بالذابل
وأضرب للقرن عند الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل
أشارت إليك أكف العباد ... إشارة غرقي إلى الساحل
قال المنصور: أما هذا الشعر فمسروق، وأما نحن فما نكافئ إلا بالتي هي أحسن، وأمر بالإحسان إليه.
وقال آخر: من الطويل
فلو كنت أرضاً كنت ميثاء سهلةً ... ولو كنت ليلاً كنت ضاحية البدر
ولو كنت ماء كنت ماء غمامة ... ولو كنت نوماً كنت تعريسة الفجر
وقالت ليلى الأخيلية: من الكامل
لا تقربن الدهر آل مطرف ... لا ظالماً أبداً ولا مظلوما
قوم رباط الخيل حول بيوتهم ... وأسنة زرق يخلن نجوما
مخرق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما
وقال آخر: من الوافر
متى تهزز بني قطن تجدهم ... سيوفاً في عواتقهم سيوف
جلوس في مجالسهم رزان ... وإن ضيف ألم فهم وقوف
إذا نزلوا فإنهم بدور ... وإن ركبوا فإنهم حتوف
وقال الكميت بن معروف: من الطويل
بطاء عن الفحشاء لا يحضرونها ... سراعٌ إلى داعي الصباح المثوب
مناعيش للمولى مساميح بالقرى ... مصاليت تحت العارض المتلهب
وقال الكروس بن سليم اليشكري: من الطويل
هم في الذرى من فرع بكر بن وائلٍ ... وهم عند إظلام الأمور بدورها
يطيب تراب الأرض إن نزلوا بها ... وأطيب منه في الممات قبورها
إذا أخمد النيران من خشية القرى ... هدى الضيف ليلاً من حنيفة نورها
وقال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسدي: ما أحسن ما مدحت به؟ فاستعفاه فأبى أن يعفيه، وهو معه على سرير، فلما أبى إلا أن يخبره، قال: قول القائل: من الطويل
ألا أيها الركب المخبون هل لكم ... بسيد أهل الشام تحبوا وترجعوا
من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا
إذا النفر السود اليمانون تمموا ... له حوك برديه أرقوا وأوسعوا

جلا المسك والحمام والبيض كالدمى ... وفرق المداري رأسه فهو أنزع
فقال له عبد الملك: ما قال أخو الأوس أحسن مما قال فيك: من السريع
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع
وكان كثير يقول: لوددت أني كنت سبقت العبد الأسود إلى هذين البيتين، يعني نصيباً في قوله: من الطويل
من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرت لنجواهم لؤي بن غالب
يحيون بسامين طوراً وتارة ... يحيون بسامين شوس الحواجب
شاعر: من الطويل
فتى مثل صفو الماء أما لقاؤه ... فبشر وأما وعده فجميل
غني عن الفحشاء أما لسانه ... فعف وأما طرفه فكليل
آخر: من الطويل
إذا ما أتاه السائلون توقدت ... عليه مصابيح الطلاقة والبشر
وأنعمه في الناس فوضى كأنها ... مواقع ماء المزن في البلد القفر
وقال ابن عنقاء: من الطويل
غلامٌ رماه الله بالخير يافعاً ... له سيمياء لا تشق على البصر
كأن الثريا علقت في جبينه ... وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذل ولو شاء لأنتصر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردى رداء واسع الذيل واتزر
فقلت له خيراً وأثبت فعله ... وأوفاك ما أسديت من ذم أو شكر
وقال الأخطل: من الطويل
إذا مت مات الجود وانقطع الندى ... من الناس إلا في قليل مصرد
وردت أكف السائلين وأمسكوا ... من الدين والدنيا بخلف مجدد
وقال الأعرابي: من البسيط
لا يبعد الله قوماً إن سألتهم ... أعطوا وإن قلت يا قوم انصروا نصروا
وإن ألمت بهم نعماء ظاهرة ... لم يبطروها وإن نابتهم صبروا
سأل عبد الله بن عباس صعصعة بن صوحان العبدي عن أخويه فقال: أما زيد فكما قال أخو غني: من الطويل
فتىً لا يبالي أن يكون بوجهه ... إذا نال خلات الكرام شحوب
وهي أبيات. ثم قال: كان والله يا ابن عباس عظيم المروة، شريف الأبوة، جليل الخطر، بعيد الأثر، كميش العروة زين الندوة، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الفكر، ذاكراً لله طرفي النهار وزلفاً من الليل، الجوع والشبع عنده سيان، لا منافس في الدنيا، ولا غافل عن الآخرة. يطيل السكوت، ويديم الفكر، ويكثر الاعتبار، ويقول الحق، ويلهج بالصدق. وليس في قلبه غير ربه، ولا يهمه غير نفسه. فقال ابن عباس: ما ظنك برجل سبقه عضو منه إلى الجنة، رحم الله زيداً. فأين كان عبد الله منه؟ قال: كان عبد الله سيداً شجاعاً سخياً مطاعاً، خيره وساع، وشره دفاع قلبي النحيزة، أحوذي الغريزة، لا ينهنهه منهنه عما أراده، ولا يركب إلا ما اعتاده، سمام العدا، فياض الندى، صعب المقادة، جزل الرفادة، أخا إخوان وفتى فتيان، ثم ذكر شعر حسان بن ثابت في عبد الله بن العباس: من الطويل
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا
قضى فشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي إربة في القوم جداً ولا هزلا
جرير: من البسيط
الله أعطاك فاشكر فضل نعمته ... أعطاك تلك التي ما فوقها شرف
هذي البرية ترضى ما رضيت لها ... إن سرت ساروا وإن قلت اربعوا وقفوا
هو الخليفة فارضوا ما قضى لكم ... بالحق يصدع ما في قوله جنف
أنت المبارك والميمون غرته ... لولا تقوم درء الناس لاختلفوا
سربلت سربال ملك غير مبتدع ... قبل الثلاثين إن الخير مؤتنف
وصف رجل رجلاً فقال: كان إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا سئل وهب، وإذا أسر أطلق.
حميد بن ثور: من الطويل
قليل المعا إلا مصيراً يبله ... دم الجوف أو سور من الحوض ناقع
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع

دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية، فقال له: صف لي علياً، فقال: أوتعفيني. قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بد فإنه كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته. كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن. كان والله كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن لؤلؤ منظوم، يعظم أهل الدين ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا يأيس الضعيف من عدله. هذه أوصاف حقيقية، وهي مدح يتجاوز قدر المادح. وتمام الكلام والخبر: فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه اليوم وهو يقول يا ربنا، يا ربنا، يتضرع إليه ثم يقول للدنيا: إلي تعرضت؟ إلي تشوفت؟ هيهات هيهات، غيري غري، قد بتتك ثلاثاً. فعمرك قصير، وخطرك كثير. آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله كيف وجدك عليه يا ضرار؟ قال: وجد من ذبح واحدها في حجرها لا يرقأ دمعها، ولا يسكن حزنها. ثم قام فخرج.
وكان الحجاج يستثقل زياد بن عمرو العتكي، فلما أتت الوفود على الحجاج عند الوليد بن عبد الملك، والحجاج حاضر عنده، قال زياد بن عمرو: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم. فحسن موقع هذا المدح منه، فلم يكن بعد أخف منه على قلب الحجاج.
قال بدر بن سعد الفقعسي: من البسيط
مخدمون ثقال في مجالسهم ... وفي الرحال إذا صاحبتهم خدم
وما أصاحب من قوم فأذكرهم ... إلا يزيدهم حباً إلي هم
وقال محمد بن زياد الحارثي: من الطويل
تخالهم للحلم صماً عن الخنا ... وخرساً عن الفحشاء عند التهاجر
ومرضى إذا لوقوا حياء وعفةً ... وعند اللقاء كالليوث الخوادر
لهم عز إنصاف وذل تواضع ... بهم ولهم ذلت رقاب المعاشر
كأن بهم وصماً يخافون عاره ... وما وصمهم إلا اتقاء المعاير
؟ذكر أعرابي رجلاً فقال: كان ينطق ليفهم، ويخالط ليعلم، ويصمت ليسلم، ويخلو ليغنم، لا يخص بأمانته الأصدقاء، ولا يكتم شهادته الأعداء، ولا يعمل بشيء من الحق رئاء، ولا يتركه حياء، إن زكي خاف ما يقولون، واستغفر الله لما لا يعلمون.
وقال أبو دهبل يمدح ابن الأزرق: من الكامل المرفل
عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم
متهلل بنعم وغير مباعد ... سيان منه الوفر والعدم
نزر الكلام من الحياء تخاله ... ضمناً وليس بجسمه سقم
وقال النابغة الذبياني: من الطويل
لله عينا من رأى أهل قبةٍ ... أضر لمن عادى وأكثر نافعا
وأعظم أحلاماً وأكثر سيداً ... وأكرم مشفوعاً إليه وشافعا
متى تلقهم لا تلق للبيت غرةً ... ولا الجار محروماً ولا الأمر ضائعا
وقال أيضاً: من البسيط
حطت إلى ملك كالبدر سنته ... ضخم الدسيعة بر غير غدار
كم قد أحل بدار الفقر بعد غنىً ... غمر وكم راش قوماً بعد إقتار
يريش قوماً ويبري آخرين بهم ... لله من رائش عمرو ومن باري
وقال زهير بن أبي سلمى: من البسيط
من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة منه والندى خلقا
قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا
وليس مانع ذي قربى ولا رحمٍ ... يوماً ولا معدماً من خابط ورقا
ليثٌ بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
فضل الجواد على الخيل البطاء فلا ... يعطي بذلك ممتناً ولا نزقا
لو نال حي من الدنيا بمكرمة ... أفق السماء لنالت كفه الأفقا
وقال أيضاً: من الطويل
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية ... من المجد من يسبق إليها يسود
سبقت إليها كل طلقٍ مبرزٍ ... سبوق إلى الغايات غير مجلد
كفضل جواد الخيل يسبق عفوه الس ... سراع وإن يجهدن يجهد ويبعد
دخلت فاطمة بنت الحسين مع أختها سكينة على هشام بن عبد الملك، فقال هشام لفاطمة: صفي لي يا ابنة الحسين ولدك من ابن عمك، وصفي لنا ولدك من ابن عمنا؛ قال: فبدأت بولد الحسن فقالت: أما ولد الحسن: عبد الله فسيدنا وشريفنا المطاع فينا، وأما الحسن فلساننا ومدرهنا. وأما إبراهيم فأشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا مشى تقلع فلا يكاد عقباه يقعان على الأرض. وأما اللذان من ابن عمك فإن محمداً جمالنا الذي نباهي به، والقاسم عارضتنا التي نمتنع بها، وأشبه الناس بأبي العاص ابن أمية عارضة ونفساً. فقال: والله لقد أحسنت صفاتهم يا بنت حسين، ثم وثب، فجذبت سكينة بردائه وقالت: والله يا أحول لقد أصبحت تهكم بنا. أما والله ما أبرزنا لك إلا يوم الطف. قال: أنت امرأة كثيرة الشر.
قالت امرأة من بني نمير وقد حضرتها الوفاة وأهلها مجتمعون؛ من الذي يقول: من الوافر
لعمرك ما رماح بني نميرٍ ... بطائشة الصدور ولا قصار
قالوا: زياد الأعجم. قالت: أشهدكم أن له الثلث من مالي، وكان كثيراً.
ذكر نسوة أزواجهن، فقالت إحداهن: زوجي عوني في الشدائد، والعائد دون كل عائد، إن غضبت عطف، وإن مرضت لطف. وقالت الأخرى: زوجي لما عناني كاف، ولما أسقمني شاف، عناقه كالخلد، ولا يمل طول العهد. وقالت الأخرى: زوجي الشعار حين أصرد، والأنس حين أفرد، والسكن حين أرقد.
قال الأصمعي: حججت فبينا أنا بالأبطح إذا بشيخ في سحق عباءة، صعل الرأس ثط أخزر أزرق، كأنما نظر من فص زوج أخضر، فسلمت فرد علي التحية، فقلت: ممن الشيخ؟ قال: أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. قلت: فما الاسم؟ قال: قبيصة بن مازن. ثم قال: أعربي أنت؟ قلت: نعم. قال: من أية العرب أنت؟ قلت: من أهل البصرة. قال: فإلى من تعتزي؟ قلت: إلى قيس بن عيلان. قال: فأيهم؟ قلت: أحد بني يعصر، وأنا أقلب ألواحاً معي. فقال: ما هذه الخشبات المقرونات؟ قلت: أكتب فيهن ما سمعت من كلامكم. قال: وإنكم مختلون إلى ذلك؟ قلت: نعم وأي خلة. ثم صمت ملياً، ثم قال في وصف قومه: كانوا كالصخرة الصلدة تنبو عن صفحتها المعاول، ثم زحمها الدهر بمنكبه فصدعها صدع الزجاجة ما لها من جابر، فأصبحوا شذر مذر أيادي سبا. ورب يوم والله عارم قد أحسنوا تأديبه، ودهر غاشم قد قوموا صعره، ومال صامت قد شتتوا تألفه، وخطة بوس قد حسمها أسوهم، وحرب عبوس ضاحكتها أسنتهم. أما والله يا أخا قيس لقد كانت كهولهم جحاجح، وشبانهم مراجح، نائلهم مسفوح، وسائلهم ممنوح، وزمانهم ربيع، وجارهم منيع.
فنهضت لأنصرف فأخذ بمجامع ذيلي وقال: اجلس، فقد أخبرتك عن قومي حتى أخبرك عن قومك. فقلت في نفسي: إنا لله سينشد في قيس وصمة تبقى على الدهر، فقلت: حسبي لا حاجة بي إلى ذكرك قومي، قال: بلى. هم والله هضبة ململمة العز أركانها، والمجد إحصانها، تمكنت في الحسب العد، تمكن الأصابع في اليد. فقمت مسرعاً مخافة أن يفسد علي ما سمعت.
علم المنصور ابنه صالحاً خطبة، فقام بها في الناس في مجلسه، فلم يشيع كلامه أحد خوفاً من المهدي، فبدر شبيب بن عقال المجاشعي من الصف فقال: والله ما رأيت كاليوم خطبة أبل ريقاً، ولا أغمض عروقاً، ولا أثبت جناناً، ولا أذرب لساناً، وقليل ذلك ممن كان أمير المؤمنين أباه والمهدي أخاه، وهو كما قال الشاعر: من البسيط
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل ... بمثل ما قدما من صالح سبقا

وذكر رجل رجلاً فقال: هو من أفصح خلق الله تعالى كلاماً إذا تحث، وأحسنهم استماعاً إذا حدث، وأمسكهم عن الملاحاة إذا خولف، يعطي صديقه النافلة ولا يسأله الفريضة، له نفس عن العوراء محصورة، وعلى المعالي مقصورة، كالذهب الإبريز الذي لا يتغير كل زمان، والشمس المنيرة التي لا تخفي بكل مكان، هو النجم المضيء للحيران، والبارد العذب للعطشان.
وقال رجل للرشيد عام حج: قد أصبح المختلفون مجتمعين على تقريظك ومدحك، حتى أن العدو يقول اضطراراً ما يقوله المولى اختياراً، والبعيد يثق من إنعامك عاماً بما يثق به القريب خاصاً.
ابن قيس الرقيات: من البسيط
لولا الإله ولولا مصعب لكم ... بالطف قد ضاعت الأحساب والذمم
أنت الذي جئتنا والدين مختلس ... والحر معتبد والمال مقتسم
ففرج الله غماها وأنقذنا ... بسيف أروع في عرنينه شمم
من هبرزي قريش يستضاء به ... مبارك صرحت عن وجهه الظلم
قيل للخنساء: ما مدحت أخاك حين هجوت أباك، فقالت: من الكامل المرفل
جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر
حتى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر
وعلا هتاف الناس أيهما ... قال المجيب هناك لا أدري
برزت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري
أولى وأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر
وهما كأنهما وقد برزا ... صقران قد حطا إلى وكر
وقولها: لولا جلال السن والكبر، من قول زهير: من الوافر
ويقدمه إذا اختلفت عليها ... تمام السن منه والذكاء
وزهير أول من نهج سبيل هذا المعنى، وقد تقدمت له الأبيات القافية، وقوله أيضاً: من البسيط
دون السماء وفوق الأرض قدرهما ... عند الذنابي فلا فوت ولا درك
وتبعه الشعراء: قال عباد بن شبل: من الطويل
إذا اخترت من قوم خيار خيارهم ... فكل بني عبد المدان خيار
جروا بعنان واحد فضل بينهم ... بأن قيل قد فات العذار عذار
وقال البحتري: من الكامل
وإذا جرى من غاية وجريت من ... أخرى التقى شأواكما في المنصف
وقال أيضاً: من الكامل
وإذا رأيت شمائل ابني صاعد ... أدت إليك شمائل ابني مخلد
كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم يعد موقع فرقد من فرقد
كتب المأمون إلى طاهر بن الحسين يسأله عن استقلال ابنه عبد الله، فكتب إليه طاهر: عبد الله يا أمير المؤمنين، ابني إن مدحته ذممته، وإن ذممته ظلمته، ولنعم الخلف هو لأمير المؤمنين من عبده.
فكتب إليه المأمون: ما رضيت أن قرظته في حياتك، حتى وصيتنا به بعد وفاتك.
وصف أعرابي رجلاً فقال: يشرق بعزم لا يدجو معه خطب، ويومض بصواب لا يلبس عنده صعب، حتى يغادر المتسعجم معجماً، والمشكل مشكولاً.
قال هشام بن عبد الملك لشبه بن عقال، وعنده جرير والفرزدق والأخطل، وهو يومئذ أمير: ألا تخبرني عن هؤلاء الذين مزقوا أعراضهم، وهتكوا أستارهم، وأغاروا بين عشائرهم في غير خير ولا بر ولا نفع، أيهم أشعر؟ قال: شبة: أما جرير فيغرف من بحر، وأما الفرزدق فينحت من صخر، وأما الأخطل فيجيد المدح وصفة الخمر، فقال هشام: ما فسرت لنا شيئاً نحصله، فقال: ما عندي غير ما قلت. فقال لخالد بن صفوان: صفهم لنا يا ابن الأهتم، قال: ما أعظمهم فخراً، وأبعدهم ذكراً، وأحسنهم عذراً، وأشردهم مثلاً، وأقلهم غزلاً، وأحلاهم عللاً، الطامي إذا زخر، والحامي إذا زأر، والسامي إذا خطر، الذي إذا هدر قال: وإذا خطر صال، الفصيح اللسان، الطويل العنان، فالفرزدق، وأما أحسنهم نعتاً، وأمدحهم بيتاً، وأقلهم فوتاً، الذي إذا هجا وضع، وإذا مدح رفع فالأخطل. وأما أغزرهم بحراً، وأرقهم شعراً، وأهتكهم لعدوه ستراً، الأغر الأبلق، الذي إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق، فجرير. وكلهم ذكي الفؤاد، رفيع العماد، واري الزناد.

فقال مسلمة بن عبد الملك: ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأولين والآخرين. وأشهد أنك أحسنهم وصفاً، وألينهم عطفاً، وأعفهم مقالاً، وأكرمهم فعالاً. فقال خالد: أتم الله عليكم نعمه، وأجزل لديكم قسمه، وأنس بكم القربة، وفرج بكم الكربة. وأنت والله ما علمت أيها الأمير، كريم الغراس عالم بالناس، جواد في المحل، بسام عند البذل، حليم عند الطيش، في ذروة من قريش، ولباب عبد شمس، ويومك خير من أمسك. فضحك هشام وقال: ما رأيت كتخلصك يا ابن صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم، حتى أرضيتهم جميعاً وسلمت عليهم.
أسلم قيس بن عاصم المنقري وعنده امرأة من بين حنيفة، فلم تسلم معه وطالبته بالفرقة ففارقها. فلما احتملت لتلحق بأهلها قال لها قيس: أما والله لقد صحبتني سارة، ولقد فارقتني غير عارة، لا صحبتك مملولة، ولا أخلاقك مذمومة، ولولا أمر الله ما فرق بيننا إلا الموت، ولكن أمر الله ورسوله أحق أن يطاع. فقالت له: أبنت عن حسبك وفضلك، وأنت والله كنت الدائم المحبة، الكثير المقة، القليل اللائمة، والمعجب الخلوة، البعيد النبوة، لتعلمن أني لا أسكن إلى زوج بعدك.
قال قتيبة لنهار بن توسعة: لست تقول فينا كما كنت تقول في ل المهلب، قال: والله إنهم كانوا أهدافاً للشعر. قال: هذا والله أمدح مما قلت فيهم أول.
لما قال الكميت بن زيد الهاشميات كتمها وسترها، ثم أتى الفرزدق ابن غالب فقال له: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسدي، قال: صدقت أنت ابن أخي فما حاجتك؟ قال: نفث على لساني فقلت شعراً وأحببت أن أعرضه عليك، فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً أمرتني بستره، وكنت أولى من ستره علي، فقال الفرزدق:أما عقلك فحسن وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني ما قلت، فأنشده قوله: من الطويل
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب
قال فقال لي: مما تطرب يا ابن أخي؟ فقلت:
ولا لعباً مني وذو الشوق يلعب
قال: بلى، فالعب يا ابن أخي فإنك في أوان اللعب، فقال:
ولم تلهني دارٌ ولا رسم منزلٍ ... ولم يتطرفني بنانٌ مخضب
فقال: ما يطربك يا ابن أخي، فقال:
ولا السانحاتُ البارحاتُ عشيةً ... أمر سليم القرن أم مر أعضب
قال: أجل فلا تتطير، فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ... وخير بني حواء والخير يطلب
قال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:
إلى النفر البيض الذين بحبهم ... إلى الله في ما نابني أتقرب
فقال: أرحني ويحك، من هؤلاء؟ فقال:
بني هاشم رهط النبي فإنني ... لهم وبهم أرضى مراراً وأغضب
خفضت لهم مني جناحي مودةٍ ... إلى كنف عطفاه أهل ومرحب
وكنت لهم من هؤلاء وهؤلا ... مجناً على أني أذم وأقصب
وأرمى وأرمي بالعداوة أهلها ... وإني لأوذى فيهم وأؤنب
فقال له الفرزدق: يا ابن أخي أذع، أذع، فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي.
وصف رجل رجلاً فقال: كان والله سمحاً سحاً سهلاً، بينه وبين القلب نسب، وبينه وبين الحياة سبب، إنما هو عيادة مريض، وتحفة قادم، وواسطة قلادة.
وصف أعرابي رجلاً فقال: كان والله مطلول المحادثة، ينبذ إليك الكلام على أدراجه، كأن في كل ركن من أركانه قلباً يقد.
سحيم بن وثيل الرياحي: من الكامل المرفل
من دونهم إن جئتهم سحراً ... عزف القيان ومجلس غمر
لذ بأطراف الحديث إذا ... ذكر الندى وتنوزع الفخر
هضم إذا حب القتار وهم ... نصر إذا ما استبطئ النصر
جميل في عبد العزيز بن مروان: من الوافر
أبا مروان أنت فتى قريش ... وكهلهم إذا عد الكهول
توليه العشيرة ما عناها ... فلا ضيق الذراع ولا بخيل
إليك تشير أيديهم إذا ما ... رضوا أو نابهم أمر جليل
كلا يوميه بالمعروف طلق ... وكل بلائه حسن جميل
لما قام الخطيب بولاية علي بن موسى الرضي العهد قال: أيها الناس أتدرون من أصبح ولي عهدكم؟ علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: من السريع

ستة آباء وهم ما هم ... هم خير من يشرب ماء الغمام
وهو من أبيات للنابغة الذبياني يقولها في النعمان بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني.
مروان بن أبي حفصة: من البسيط
له خلائق بيض لا يغيرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب
وقد قيل: ليس في شعر مروان بيت يستشهد به غير هذا البيت، ولعله مأخوذ من قول طريح بن إسماعيل الثقفي: من المتقارب
خلائقه كسبيك النضا ... ر لا يعمل الدهر فيها فسادا
أبو عبد الله القزاز المغربي: من الخفيف
ولنا من أبي الربيع ربيع ... ترتعيه هوامل الآمال
راحة تمطر النوال وتكفي ... معتفيه بالبذل ذل السؤال
يصغر الفضل عنده فيظن ال ... بحر والجود لمعة من آل
ابن نصر الكاتب من رسالة: حتى إذا برزت باهراً للعيون، عابراً مطارح الظنون، تزفك الرتب والأقدار، وتحفك السكينة والوقار، أطرق الرامق، وأرم الناطق، وتحركت الأفئدة لك محبة في إعظام، وإجلالاً في غرام، وحق لمن كذب الآمال بالمزيد، وكفى المادح هجنة التقليد، وأحب المواساة والإيثار، وأبغض التفرد والاستئثار، وعفا عالماً بقدر الإجرام، وحلم قادراً على الانتقام، ومنع عرضه اللائم، وأباح غديره الحائم، أن ينزل بحبوحة الصدور، ويتبوأ حبات القلوب، ويعد من الأيام مجيراً، وعلى النفوس أميراً، والله تعالى يحرسك ظلاً ممدوداً على الأنام، وستراً ممدوداً على عورة الأيام.
احتجم معاوية بمكة فأمسى أرقاً فقال: من يقرب منا من فصحاء العرب؟ فقالوا: جروة بنت مرة، من بني تميم، وكانت مجاورة. فأرسل إليها فجاءته، فلما دخلت قال: مرحباً يا بنت مرة، أرعناك. قالت: أي والله، لقد طرقت في ساعة لا تطرق فيها الطير في أوكارها، فأرعت قلبي، وريع صبياني، وأفزعت عشيرتي، فتركت بعضهم يموجون في بعض، يديرون الكلام فرقاً منك وشفقة علي، قال: ليُفْرِخْ روعك، ولتطب نفسك، فإن الأمر يجري على محبتك، قالت: أحسن الله بشارتك، وأدام لنا سلامتك. قال لها: إني احتجمت الليلة فأعقبني ذاك أرقاً فأرسلت إليك لأستمتع بكلامك. قالت: أحسن الله أبداً استمتاعك، وأطال بالسلامة إمتاعك. قال: أخبريني عن قومك. قالت: عن أيهم تسألني؟ قال: عن بني تميم. قالت: إنهم أكثر الناس عدداً، وأوسعهم بلداً، وأبعدهم أمداً. هم الذهب الأحمر، والعدد الأكثر، والجند الأفخر. قال: صدقت فنزليهم منازلهم. قالت: أما بنو عمرو بن تميم فأصحاب بأس ونجدة، وتحاشد وشدة، لا يتخاذلون عند اللقاء، ولا يطمع فيهم الأعداء. سلمهم فيهم، وسيفهم على عدوهم. قال: صدقت، ونعم القوم لأنفسهم. قالت: وأما بنو سعد بن زيد مناة ففي العدد الأكثرون، وفي النسب الأطيبون، يضيرون إذا غضبوا، ويدركون إن طلبوا، أصحاب سيوف وحجف، ونزال ودلف، على أن بأسهم فيهم، وسيفهم عليهم. وأما حنظلة فالبيت الرفيع، والحسب الدسيع، والعز المنيع، والشرف البديع؛ المكرمون للجار، الطالبون للثار، الناقضون للأوتار. قال: إن حنظلة شجرة تفرعت. قالت: صدقت، أما بنو طهية فقروم سرج، وأقران لجج. وأما البراجم فأصابع مجتمعة، وأكف ممتنعة. وأما بنو ربيعة فصخرة صماء، وحية رقشاء، يغزون بغيرهم، ويفخرون بقومهم. وأما بنو يربوع ففرسان الرماح، وأسود الصباح، يعتنقون الأقران ويقتلون الفرسان. وأما بنو مالك فجمع غير مفلول، وعز غير مخذول، وليوث هرارة، وخيول كرارة. وأما بنو دارم فكرم لا يداني، وشرف لا يباري، وعز لا يوازي.
قال: أنت أعلم الناس ببني تميم فكيف علمك بقيس؟ قالت: كعلمي بقومي. قال: فأخبريني عنهم. قالت: أما غطفان فأكثر الناس سادة، وأمنعهم قادة. وأما فزارة فبيتها المشهور وحسبها المذكور، وأما ذبيان فخطباء شعراء أعزة أقوياء. وأما عبس فجمرة لا تطفأ وعقبة لا تعلى، وحية لا ترقى، وأما هوازن فحلم ظاهر، وعز قاهر، وأما سليم ففرسان الملاحم، وأسود ضراغم. وأما نمير فشوكة مسمومة، وهامة مدمومة، وراية مرفوعة، وعزة ممنوعة. وأما هلال فاسم فخم، وعز ضخم. وأما بنو كلاب فعدد كثير، وحلم كبير، وقمر منير.

قال: لله أبوك، فما قولك في قريش؟ قالت: هم ذروة الإسلام وأصله، وبيانه وفصله، وسادة الأنام وفضله. قال: فما قولك في علي؟ قالت: جاز في الشرف حد الوصف، وما له غاية تعرف، وبالله أسألك إعفائي مما أتخوف. قال: فعلت، وأجازها.
قالت فهر لأخت عمرو بن ذي الكلب: قد طلبنا أخاك، فقالت: والله لئن طلبتموه لتجدنه منيعاً، ولئن أردتموه لتجدنه سريعاً. قالوا لها: فهذا سلبه. قالت: ولئن سلبتموه لما وجدتم حجزته جافية، ولا ضالته كافية، ولا نيته وافية. ولرب ضب منكم قد احترشه، ونهب منكم قد افترشه، وثدي منكم قد افترشه.
قولها: ما وجدتم حجزته جافية، أي كان خميص البطن، والحجزة التي تسميها العامة الحزة من السراويل والمئزر. وضالته يعني قوساً عملت من ضال، وهو السدر البري؛ وكافية: مكفوة أي معلومة. والنية هاهنا الغاية. وافية: طويلة. تقول إنه يتعاهدها أي يستحد كثيراً مخافة أن يقتل. ويوسد فيغير إذا نظر إليه، وضب احتراشه: أي رب رجل منكم صاده كما يحرش الضب ويؤخذ، وافترشه أي اكتسبه من التقرش وهو الاكتساب.
وقال مسلم بن الوليد: من الكامل
فلأنت أمضى في اللقاء وفي الندى ... من باسل ورد وغادٍ مرعد
أعطيت حتى مل سائلك الغنى ... وعلوت حتى ما يقال لك ازدد
ما قصرت بك غاية عن غايةٍ ... اليوم مجدك فوق مجدك في غد
أقدمت والمهجات تلفظ والردى ... متحير بين الأسنة مهتد
حتى تمخضت المنون لهما ... وتعضلت بالناكث المتمرد
دعم الإمام به دعائم ملكه ... ولقد تطرقها انتكاث الملحد
ما غاب حتى آب تحت لوائه ... رأب الثأى وصلاح أمر مفسد
وقال بكر بن النطاح: من الخفيف
يتلقى الندى بوجه حيي ... وصدور القنا بوجه وقاح
ومن كلام لعمارة بن حمزة: ومن فلان؟ محسد عطاء، وكاشف غماء، ومردى حرب، ومدره خصوم، وهو الذي زاحم أركان الزمان بركن شديد، وأناخ على معسر الأمر برأي صليب، حتى بذَّ الأقران في نباهة الذكر وإحراز الشرف.
وقال الحسن بن هانئ: من الطويل
ترى الناس أفواجاً على باب داره ... كأنهم رجلاً دبا وجراد
فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى ... ويوم رقاب بوكرت بحصاد
وقال أيضاً: من الطويل
إذا نحن أثنينا عليك بصالحٍ ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
وقال أيضاً: من المديد
وإذا مج القنا علقاً ... وتراءى الموت في صوره
راح في ثنيي مفاضته ... أسد يدمى شبا ظفره
تتأيا الطير غدوته ... ثقةً بالشبع من جزره
قد لبست الدهر لبس فتى ... أخذ الآداب غن غيره
وقال في الفضل بن الربيع: من البسيط
لقد نزلت أبا العباس منزلة ... ما إن ترى خلفها الأبصار مطرحا
وكلت بالدهر عيناً غير غافلةٍ ... بجود كفك تأسو كل ما جرحا
وقال حبيب بن أوس: من المنسرح
إذا أناخوا ببابه أخذوا ... حكمتهم من لسانه ويده
ومثله له أيضاً: من المنسرح
نرمي بأشباحنا إلى ملكٍ ... نأخذ من ماله ومن أدبه
وقال إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول: من الوافر
ولكن الجواد أبا هشام ... وفي العهد مأمون المغيب
بطيءٌ عنك ما استغنيت عنه ... وطلاعٌ إليك مع الخطوب
وتمثل بهذين البيتين عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة بن بويه، وقد استنجد به عز الدولة بختيار حين خرج عليه سبكتكين في الأتراك مماليك أبيه، وخلعوه من الإمارة، فتوجه إليه عضد الدولة منجداً له، وكتب إليه بها من طريقه، وجعل مكان أبي هشام أبا شجاع.
وقال إبراهيم أيضاً: من المتقارب المجزوء
لفضل بن سهل يدٌ ... تقاصر عنها المثل
فباطنها للندى ... وظاهرها للقبل
وبسطتها للغنى ... وسطوتها للأجل
فأخذ هذا المعنى ابن الرومي فقال: من الكامل

أصبحت بين خصاصة وتجملٍ ... والمرء بينهما يموت هزيلا
فامدد إلي يداً تعود بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا
وألم به ابن دريد فقال: من الكامل
يا من يقبل كف كل ممخرق ... هذا ابن يحيى ليس بالمخراق
قبل أنامله فلسن أناملاً ... لكنهن مفاتح الأرزاق
ولإبراهيم بن العباس: من الرمل
أسد ضار إذا هيجته ... وأب بر إذا ما قدرا
يعرف الأبعد إن أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
وقال أيضاً: من الكامل
تلج السنون بيوتهم وترى لها ... عن جار بيتهم ازورار مناكب
وتراهم بسيوفهم وشفارهم ... مستشرفين لراغب أو راهب
حامين أو قارين حيث لقيتهم ... نهب العفاة ونهزة للراغب
وقال العتابي: من الطويل
إمام له كف يضم بنانها ... عصا الدين ممنوعٌ من البري عودها
وعينٌ محيطٌ بالبرية طرفها ... سواء عليه قربها وبعيدها
ذكرت أعرابية إسحاق بن إبراهيم الموصلي فقالت: والذي يعلم مغزى كل ناطق، لكأنك في علمك ولدت فينا ونشأت معنا. ولقد أريتني نجداً بفصاحتك، وأحللتني الربيع بسماحتك، فلا أطربني قولٌ إلا شكرتك، ولا نسمت لي ريح إلا ذكرتك.
وقال له عبد الله بن طاهر: يا أبا محمد إن فضائلك لتتكاثر عندنا كما قال الشاعر في إبله: من الرجز
إذا أتاها طالبٌ يستامها ... تكاثرت في عينه كرامها
وقال ابن أبي السمط: من الطويل
فتىً لا يبالي المدلجون بنوره ... إلى بابه ألا تضيء الكواكب
له حاجب من كل أمرٍ يشينه ... وليس له عن طالب العز حاجب
قال أبو العيناء لمحمد بن خالد الشيباني: لئن كان آدم عليه السلام أساء إلى نفسه في إخراجنا من الجنة، لقد أحسن إلينا أنه ولدك.
قال عبد العزيز الحمصي يمدح العزيز صاحب مصر: وجهه صباح البشرى، ومفتاح النعمى، وطلعة الخير، وعنوان الرحمة، وعذر الزمان المذنب. تستولي على الأمد وأنت وادع، وتلحق الطريدة وأنت ثان من عنانك، تمشي رويداً وتكون أولاً.
آخر: ما أساء دهر أنت من محاسنه، ولا آلم وأنت تنهض بنوائبه، وتأسو كلوم حوادثه، وحسبه من كل إساءة أن يعتذر بك، من أشبه أباه فما ظلم.
آخر: بغداد مطبقة بظلام وقتام وحشة لفراقك، إلا ما يطلع ضياؤه من خلال الغمام بمقام أبي فلان، فإنه ملجأ المستوحش، ومشتكى المخزون، تتجلى فيه فضائلك، وتشاهد منه شمائلك.
آخر: قد أمن عز وجل سائلك من بخلك، وخائفك من ظلمك، والعائذ بك من منعك، والمسترفد لك من عللك.
آخر: وفي رأيك عوض من كل حظ، ودرك لكل أمل أبطأ، وثقه بنيل ما يرجى، ودفع ما يخشى.
آخر: رأيتني في ما أصف من مجدك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على ناظر. وأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
آخر: القدرة لأهل الفضل عز ومغنم، ولغيرهم عار ومغرم. فذو الفضل معترض أيام قدرته لابتداء عارفة وإبداء مكرمة يزكيان فضله ويشيدان بقية الأيام ذكره، يرى ذلك أطيب مكاسبه، وأعودها في عاجله وآجله. ومن لا فضل له جاهل بدهره، عادم لرشده، مطيع لغوايته، معذور لغباوته، وأنت بالفضل أولى.

آخر: ما اختلفت كلمة إلا اتفقت عليك، ولا تشتت نظام جماعة إلا ائتلف بك، ولا مرقت مارقة فكان صلاحها إلا على يديك، ولا استعرت نار الحرب فأطفأها الله إلا بتدبيرك، ولا انتقضت سرائر الملك في دولة غيرك إلا شد الله قواها في أيامك، وحاز شرفها ومكرمتها لك، وولي الأثام والغلول والندامة فيها سواك. وإنما كانت وزارتك للأمير في فواتح النصر وبوادي الصنع وافقت أحوالاً شتى من حبل مضطرب، ونظام منتشر، وعدو للسلطان أخذ بمكاظمه، وقعد على مراصده، فقارعت ذلك كله بنفسك، وأعملت فيه جدك، ووفرت عليه سعيك، واكتنفتك فيه معاون الله التي استدعيتها من الجميل بنيتك والخالص من سريرتك. فما كان إلا ريثما وفر الله على الملك حقه، وحاط له أمره، وأهاب بالناكص منه إلى حظه، ورد العدو بغيظه، وعادت أركان الملك إلى مراكزها، واستقرت على قواعدها.
آخر: فلا أعدمك الله النية في اعتقاد خوالد المنن في أعناق الرجال، ولا أذخرك القدرة على ادخار رغائب الكنوز في قلوب الإخوان، ولا أحوجك إلى ثمرة ذلك منهم إلا بالرغبة في ما ينشر لك عنهم من إخلاص الدعاء وحسن الثناء، كما انتشر لك عن جملة صنائعك، وحفظة ودائعك الذين ما أخليتهم عن خلال فضلك، ولا أعريتهم من لباس عزك، فأصبحوا في زهرة رياضك راتعين، وفي غمرة حياضك شارعين، فإن هززتهم لضريبة فروها بألسنة حداد، وسواعد شداد، وقلوب متناصرة،وأيد مترادفة، وإن استغنيت - دام لك الغنى عن العالمين - ، كانوا لك رصداً فوق أعناق الحاسدين، بصول أدفع من صواعق الموت اللهام، وقول أنفذ من نيران الحريق في الآجام، بصراء بمواسم الازدحام،وعلماء بمواضع الأقدام.
البحتري: من البسيط
ومصعدٌ هضبات الموت يطلعها ... كأنه لسكون الجأش منحدر
ما زال يسبق حتى قال حاسده ... له طريق إلى العلياء مختصر
وقال أبو ذفافة المصري: من البسيط
وما السحاب إذا ما انجاب عن بلد ... ولم يلم به يوماً بمذموم
إن جدت فالجود شيءٌ قد عرفت به ... وإن تجافيت لم تنسب إلى لوم
وقال ابن الرومي: من البسيط
وقل من ضمنت خيراً طويته ... إلا وفي وجهه للبشر عنوان
تلقاه وهو مع الإحسان معتذرٌ ... وقد يسيءٌ مسيءٌ وهو منان
إذا بدا وجهن ذنبٍ فهو ذو سنةٍ ... وإن بدا وجه خطب فهو يقظان
إذا تيممك العافي فكوكبه ... سعدٌ ومرعاه في واديك سعدان
أحيا بك الله هذا الخلق كلهم ... فأنت روح وهذا الخلق جثمان
كتب أبو العيناء إلى بعض الرؤساء: نحن أعزك الله إذا سألنا الناس كف الأذى، سألناك بذل الندى، وإذ سألناهم العدل سألناك الفضل، وإذا سررناهم ببسط العذر، سررناك باستدعاء البر.
؟؟إبراهيم بن العباس: من الطويل
إذا السنة الشهباء مدت سماءها ... مددت سماء دونها فتجلت
وعادت بك الريح العقيم لدى القرى ... لقاحاً فدرت عن نداك وطلت
قال أبو العتاهية: من الطويل
وهارون ماء المزن يشفى به الصدى ... إذا ما الصدي بالربق غصت حناجره
وأوسط عز في قريشٍ لبيته ... وأول عز في قريش وآخره
وزحف له تحكي البروق سيوفه ... وتحكي الرعود القاصفات زماجره
إذا حميت شمس النهار تضاحكت ... إلى الشمس فيه بيضه ومغافره
ومن ذا يفوت الموت والموت مدركٌ ... كذا لم يفت هارون ضد ينافره
وقال دعبل: من الكامل
زمني بمطلب سقيت زماناً ... ما كنت إلا روضة وجنانا
كل الندى إلا نداك تكلف ... لم أرض بعدك كائناً من كانا
أصلحتني بالبر بل أفسدتني ... فتركتني أتسخط الإحسانا
وقال ابن بناتة: من الطويل
ولكنني لا أظلم المجد حقه ... محلك أعلى في القلوب وأكبر
أحلك أطراف الذرى وأحلهم ... بطون الثرى والله بالناس أبصر

كان أحمد بن يوسف يوماً بحضرة المأمون في جماعة من خواصه، فقال لهم: أخبروني عن غسان بن عباد، فإني أريده لأمر جسيم، وكان عزم على تقليده السند مكان بشر بن داود بن يزيد، فتكلم كل فريق منهم في مدحه بما عنده. وقال أحمد بن يوسف: هو يا أمير المؤمنين رجل محاسنه أكثر من مساويه، لاينصرف به أمر إلا تقدم فيه ومهما تخوف عليه فإنه لم يأت آمداً يعتذر منه لأنه قسم أيامه بين أيام الفضل فجعل لكل خلق نوبة، إذا نظرت في أمره لم تدر أي حالاته أعجب: ما هداه إليه عقله أم ما اكتسبه بأدبه، فقال المأمون: لقد مدحته على سوء رأيك فيه، فقال: لأني فيه كما قيل: من الوافر
كفى ثمناً لما أسديت أني ... نصحتك في الصديق وفي عدائي
وأني حين تندبني لأمرٍ ... يكون هواك أغلب من هوائي
فأعجب المأمون ذلك منه.
أبو الحسين بن أبي البغل البغدادي يمدح أبا القاسم ابن وهب: من البسيط
إذا أبو قاسمٍ جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان: البحر والمطر
وإن أضاء لنا نور بغرته ... تضاءل النيران: الشمس والقمر
وإن بدا رأيه أو حد عزمته ... تأخر الماضيان: السيف والقدر
ينال بالظن ما كان اليقين به ... والشاهدان عليه: العين والأثر
كأنه وزمام الدهر في يده ... يدري عواقب ما يأتي وما يذر
معنى البيت الرابع مأخوذ من بيت أنشده أبو محلم: من الطويل.
برى عاقبات الرأي والرأي مقبلٌ ... كأن له في اليوم عيناً على غد
ذكر أعرابي رجلً فقال: لا تراه الدهر إلا كأنه لا غنى به عنك وإن كنت إليه أحوج، وإن أذنبت إليه غفر كأنه المذنب، وإن احتجت إليه أعطاك وكأنه السائل.
وذكر آخر والياً فقال: إذا ولي لم يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه، فهو غائب عنهم شاهدٌ معهم، فالمحسن آمن والمسيء خائف.
أحمد بن محمد المصيصي المعروف بالنامي في سيف الدولة ابن حمدان: من الوافر
له نعم تؤوب بآمليه ... إذا آبت إلى أحلى مآب
ألذ من انتصار بعد ظلمٍ ... وأحلى من دعاء مستجاب
الخوارزمي: من المتقارب
كأن مواهبه في المحو ... ل آراؤه عند ضيق الحيل
فلو كان غيثاً لعم البلاد ... ولو كان سيفاً لكان الأجل
لو كان يعطي على قدره ... لأغنى النفوس وأفنى الأمل
الفيض بن أبي صالح في أبي عبيد الله كاتب المهدي: من البسيط
فالصمت في غير عي من سجيته ... حتى يرى موضعاً للقول يستمع
لا يرسل القول إلا في مواضعه ... ولا يخاف إذا حل الحبي الجزع
كتب ابن مكرم إلى ابن المدبر: إن جميع أكفائك ونظرائك يتنازعون الفضل، فإذا انتهوا إليك أقروا لك، ويتنافسون في المنازل، فإذا بلغوك وقفوا دونك، فزادك الله وزادنا بك وفيك، وجعلنا ممن يقبله رأيك، ويقدمه اختيارك، ويقع في الأمور بموافقتك، ويجري منها على سبيل طاعتك.
كان مصعب بن الزبير من أجمل الرجال، فبينا هو جالس بفنائه بالبصرة إذ وقفت عليه امرأة من طيء تنظر إليه فقال: ما وقوفك عافاك الله؟ فقالت: طفئ مصباحنا فجئنا نقتبس من وجهك مصباحاً.
شاعر: من الكامل المجزوء
وكأن بهجته اكتست حسن الإقالة للذنوب
وصف المأمون ثمامة فقال: إنه يتصرف في القلوب تصرف السحاب مع الجنوب.
قال عبد الله بن عروة لابنه: إنه والله ما بنت الدنيا شيئاً إلا هدمه الدين، ولا بنى الدين شيئاً فاستطاعت الدنيا هدمه، ألا ترى إلى علي ما يقول فيه خطباء بني أمية من ذمه وعيبه؛ والله لكأنما كانوا يأخذون بناصيته إلى السماء؛ أو ما رأيت ما يندبون به موتاهم؛ والله لكأنما يندبون به جيفاً.
صاح أعرابي بعبد الله بن جعفر: يا أبا الفضل، فقيل له: ليست كنيته، قال: إن لم تكن كنيته فإنها صفته.
وقال زياد الأعجم في محمد بن القاسم الثقفي: من الكامل
قاد الجيوش لخمس عشرة حجةً ... ولداته عن ذاك في أشغال
قعدت بهم أهواؤهم وسمت به ... همم الملوك وسورة الأبطال
وله فيه: من الكامل
إن المنابر أصبحت مختالةً ... بمحمد بن القاسم بن محمد

قاد الجيوش لسبع عشرة حجةً ... يا قرب سورة سؤدد من مولد
منصور النمري في الرشيد: من الطويل
وليس لأعباء الأمور إذا عرت بمكترث لكن لهن صبور
يرى ساكن الأوصال باسط وجهه ... يريك الهوينا والأمور تطير
الغريبي الكوفي، غلب عليه طلب الغريب فنسب إليه، يمدح بعض الكتاب: من الكامل
إن كنت تقصدني بظلمك عامداً ... فحرمت نفع صداقة الكتاب
السائقين إلى الصديق ثرى الغنى ... الناعشين لعثرة الأصحاب
والناهضين بكل عبءٍ مثقلٍ ... والناطقين بفصل كل خطاب
والقاطعين على الصديق بفضلهم ... والطيبين روائح الأثواب
ولئن جحدتهم الثناء فطالما ... جحد العبيد تفضل الأرباب
محمد بن أمية الكاتب: من الوافر
لطافة كاتب وخشوع صب ... وفطنة شاعر عند الجواب
خارجة بن فليح المللي وملل: مكان: من الطويل
كأن على عرنينه وجبينه ... شعاعين لاحا من سماك وفرقد
هو التابع التالي أباه كما تلا ... أبوه أباه سيداً وابن سيد
وضع على مائدة المأمون يوم عيد أكثر من ثلاثمائة لون، فكان يذكر منفعة كل لون ومضرته وما يختص به، فقال يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين، إن خضنا في الطب فأنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم فأنت هرمس في حسابه، أو في الفقه فأنت علي بن أبي طالب في علمه، أو في السخاء فأنت حاتمٌ في صفته، أو في صدق الحديث فأنت أبو ذر في لهجته، أو في الوفاء فأنت السموأل بن عاديا في وفائه، فسر بكلامه وقال: يا أبا محمد إن الإنسان إنما يفضل غيره بعقله، ولولا ذاك لم يكن لحمٌ أطيب من لحم، ولا دمٌ أطيب من دم.
قيل لفيلسوف: فلان يحسن القول فيك، قال: سأكافيه. قيل: بماذا؟ قال: بأن أحقق قوله.
مدح رجلٌ هشام بن عبد الملك فقال: يا هذا إنه قد نهي عن مدح الرجل في وجهه، فقال له: ما مدحتك، وإنما ذكرت نعم الله عليك لتجدد لها شكراً.
أشار هشام بن عبد الملك إلى الخير عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " ؛ قال العتبي: هو المدح الباطل والكذب، وأما مدح الرجل بما هو فيه فلا باس به، وقد مدح أبو طالب والعباس وكعب وحسان وغيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبلغنا أنه حثا في وجوههم تراباً. ومدح هو صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، ومدح نفسه وقال: أنا سيد ولد آدم، وقال يوسف عليه السلام " إني حفيظٌ عليمٌ " يوسف: 55. وفي حثو التراب معنيان: أحدهما التغليظ في الرد عليه، والثاني: ن يقال له بفيك التراب.
قال أنوشروان: من أثنى عليك بما لم توله، فغير بعيد أن يرميك بما لم تجنه.
وقال وهب بن منبه: من مدحك بما ليس فيك فلا تأمن أن يذمك بما ليس فيك.
وقال شاعر: من الوافر
إذا ما المدح سار بلا نوال ... من الممدوح كان هو الهجاء
القاسم بن أمية بن أبي الصلت الثقفي: من الكامل
قوم إذا نزل الحريب بدارهم ... تركوه رب صواهل وقيان
وإذا دعوتهم ليوم كريهةٍ ... سدوا شعاع الشمس بالخرصان
لا ينقرون الأرض عند سؤالهم ... لتطلب العلات بالعيدان
بل يبسطون وجوههم فترى لها ... عند السؤال كأحسن الألوان
حكى الجاحظ عن إبراهيم بن السندي: قلت في أيام ولايتي الكوفة لرجل من وجوهها كان لا يجف لبده، ولا يستريح قلمه، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الناس وإدخال السرور على قلوبهم، والمرافق على الضعفاء، وكان عفيف الطعمة، وجيهاً مفوهاً: خبرني عما هون عليك النصب، وقواك على التعب، قال: قد والله سمعت غناء الأطيار بالأسحار على الأشجار وسمعت خفق الأوتار، وتجاوب العود والمزمار، فما طربت من صوت حسن كطربي من ثناء حسن على رجل قد أحسن، فقلت: لله أبوك، لقد حشيت كرماً.
قيل للجمل المصري: هلا مدحت سليمان بن وهب وهو وال، ومدحته وهو معزول، فقال: عزله أكرم من ولاية غيره، وإنما أمدح كرمه لا عمله، وكرمه معه عمل أم عزل.
المخبل السعدي: من البسيط
إني رأيت بني سعد بفضلهم ... كل شهاب على الأعداء مصبوب

إلى تميم حماة العز نسبتهم ... وكل ذي حسب في الناس منسوب
قوم إذا صرحت كحلٌ بيوتهم ... عز الذليل ومأوى كل قرضوب
ينجيهم من دواهي الشر إن أزمت ... صبرٌ عليها وفيض غير محسوب
ذو الرمة: من الطويل
يطيب ترابُ الأرض أن تنزلوا بها ... وتختال أن تعلو عليها المنابر
وما زلت تسمو للمعالي وتجتبي ... جبا المجد مذ شدت عليك المآزر
إلى أن بلغت الأربعين فألقيت ... إليك جماهير الأمور الأكابر
فأحكمتها لا أنت في الحكم عاجزٌ ... ولا أنت فيها عن هدى الحق جائر
أبو نواس: من الطويل
إليك ابن مستن البطاح رمت بنا ... مقابلةٌ بين الجديل وشدقم
مهاري إذا أشرعن بحر مفازة ... كرعن جميعاً في إناء مقسم
نفخن اللغام الجعد ثم ضربنه ... على كل خيشوم نبيل المخطم
حدابير ما ينفك في حيث بركت ... دم من أظل أو دم من مخدم
ابن الرومي من غرائب معانيه: من الكامل
ما أنت بالمحسود لكن فوقه ... إن المبين الفضل غير محسد
يتحاسد القوم الذين تقاربت ... طبقاتهم وتقاربوا في السؤدد
فإذا أبر كريمهم وبدا لهم ... تبريزه في فضله لم يحسد
الشريف الرضي: من المنسرح
يا مخرس الدهر عن مقلته ... كل زمان عليك متهم
شخصك في وجه كل داجيةٍ ... ضحى وفي كل مجهل علم
القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز: من الوافر
معادن حكمة وغيوث جدبٍ ... وأنجم خبرة وصدور ناد
آخر: من البسيط
تخالف الناس إلا في محبته ... كأنما بينهم في وده رحم
وقال آخر: من الكامل
فرواوه ملء العيون وفضله ... ملء القلوب وسيبه ملء اليد
وقال أبو الحسن السلامي: من الطويل
إليك طوى عرض البسيطة جاعلٌ ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
وكنت وعزمي والظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر
وبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويومٍ هو الدهر
وقال: من البسيط
وليلةٍ لا ينال الفكر آخرها ... كأنما طرفاها الصبر والجزع
أحييتها ونديمي في الدجى أملٌ ... رحب الذرى وسميري خاطرٌ صنع
حتى تبسم إعجاباً بزينته ... لفظٌ بديعٌ ومعنى فيك مخترع
محمد بن خليفة السنبسي من شعراء عصرنا: من الطويل
جميل المحيا والفعال كأنما ... تمنته أم المجد لما تمنت
ومن شعره يمدح صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد: من الطويل:
إذا زرته لم تلق من دون نيله ... حجاباً ولم تدخل عليه بشافع
كماء الفرات الجم أعرض ورده ... لكل أناس فهو سهل الشرائع
تراه إذا ما جئته متهللاً ... تهلل أبكار الغيوث الهوامع
ومن مديحه في محمد بن صدقة: من الطويل
فتى مثل صدر الرمح يهفو قميصه ... على لين الأعطاف كالغصن النضر
إذا ما مدحناه تبلج وجهه ... تبلج إيماض السحاب على القطر
وتأخذه عند الندى أريحيةٌ ... كما اهتز غصن البان في الورق الخضر
قليل رقاد العين ثبتٌ جنانه ... أخو عزمات لا ينام على وتر
محمد بن الحسين الآمدي من أهل النيل: من الطويل
من القوم لما استغرب المجد غيرهم ... من الناس أمسوا فيه فوق الغوارب
إذا سالموا كانوا صدور مراتب ... وإن حاربوا كانوا قلوب مواكب
جواد مدىً لو رامت الريح شأوه ... كبت دون مرمى خطوه المتقارب
وبحر ندىُ لو زاره البحر حدثت ... عجائبه عن فعله بالعجائب

لما ظهر عبد الله بن الزبير بالحجاز وغلب عليها بعد موت يزيد بن معاوية، وتشاغل بنو أمية بالحرب بينهم في مرج راهط وغيره، دخل عليه أبو صخر الهذلي في هذيل وقد جاءوا ليقبضوا عطاءهم، وكان عارفاً بهواه في بني أمية، فمنعه عطاءه فقال له: علام تمنعني حقاً لي، وأنا امرؤ مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثاً، ولا أخرجت من طاعة يداً، قال: عليك ببني أمية فاطلب عندهم عطاءك، قال: إذن أجدهم سباطاً أكفهم، سمحةً أنفسهم، بذلاً لأموالهم، وهابين لمجتديهم، كريمةً أعراقهم، شريفةً أصولهم، زاكيةً فروعهم، قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله نسبهم وسببهم، وليسوا إذا نسبوا بأذناب ولا وشائط ولا أبتاع، ولا هم من قريشٍ كفقعة القاع، لهم السؤدد في الجاهلية والملك في الإسلام، لا كمن لا يعد في عيرها ولا نفيرها، ولا حكم آباؤها في نقيرها ولا قطميرها، ليس من أحلافها المطيبين، ولا من ساداتها المطعمين، ولا جودائها الوهابيين، ولا من هاشمها المنتخبين، ولا عبد شمسها المسودين، وكيف تقاس الرءوس بالأذناب، وأين النصل من الجفن، والسنان من الزج، والذنابي من القدامى، وكيف يفضل الشحيح على الجواد، والسوقة على الملك، والمجيع بخلاً على المطعم فضلاً؟؟! فغضب ابن الزبير حتى ارتعدت فرائصه وعرق جبينه، واهتز من فرعه إلى قدمه، وامتقع لونه ثم قال: يا ابن البوالة على عقبيها، يا جلف، يا جاهل، أما والله لولا الحرمات الثلاث: حرمة الإسلام، وحرمة الحرم، وحرمة الشهر الحرام لأخذت الذي فيه عيناك؛ ثم أمر به إلى سجن عارم.
وله بعد ذلك خبر مع عبد الملك حين ملك وقتل ابن الزبير، ليس هذا موضع ذكره.
مدح أعرابي رجلاً فقال: هو والله فصيح النسب، فسيح الأدب، من أي أقطاره أتيته انثنى إليك بكرم المقال وحسن الفعال.
وهذه بدائع من مدائح المتنبي وأمثال شوارد من شعره، جمعتها متصلة متتالية: من البسيط
ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فما كليب وأهل الأعصر الأول
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به ... في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
؟وقد وجدت مكان القول ذا سعةٍ ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل
وله في سيف الدولة: من الطويل
ولما تلقاه السحاب بصوبه ... تلقاه أعلى منه كعباً وأكرم
فباشر وجهاً طال ما باشر القنا ... وبل ثياباً طال ما بلها الدم
تلاك وبعض الغيث يتبع بعضه ... من الشام يتلو الحاذق المتعلم
وكل فتى للحرب فوق جبينه ... من الضرب سطر بالأسنة معجم
ومنها:
وأدبها طول الطراد فطرفه ... يشير إليها من بعيدٍ فتفهم
تجانف عن ذات اليمين كأنها ... ترق لميافارقين وترحم
ولو زحمتها بالمناكب زحمةً ... درت أي سوريها الضعيف المهدم
على كل طاوٍ تحت طاوٍ كأنه ... من الدم يسقى أو من اللحم يطعم
لها في الوغى زي الفوارس فوقها ... فكل حصان دارع متلثم
وما ذاك بخلاً بالنفوس على القنا ... ولكن صدم الشر بالشر أحزم
ومنها:
أخذت على الأرواح كل ثنية ... من العيش تعطي من تشاء وتحرم
فلا موت إلا من سنانك يتقى ... ولا رزق إلا من يمينك يقسم
وله: من الطويل
ألذ من الصهباء بالماء ذكره ... وأحسن من يسر تلقاه معدم
سني العطايا لو رأى نوم عينه ... من اللوم آلى أنها لا تهوم
وله: من الكامل
قاد الجياد إلى الطعان ولم يقد ... إلا إلى العادات والأوطان
كل ابن سابقة يغير بحسنه ... في قلب صاحبه على الأحزان
؟إن خليت ربطت بآداب الوغى ... فدعاؤها يغني عن الأرسان
في جحفل ستر العيون غباره ... فكأنما ينظرن بالآذان
يرمي بها البلد البعيد مظفرٌ ... كل البعيد له قريبٌ دان
ومنها:
المخفرين بكل أبيض صارمٍ ... ذمم الدروع على ذوي التيجان

متصعلكين على كثافة ملكهم ... متواضعين على عظيم الشان
يتقيلون ظلال كل مطهمٍ ... أجل الظليم وربقة السرحان
ومنها:
وفوراسٍ يحيي الحمام نفوسها ... فكأنها ليست من الحيوان
ما زلت تضربهم دراكاً في الذرى ... ضرباً كأن السيف فيه اثنان
خص الجماجم والوجوه كأنما ... جاءت إليك جسومهم بأمان
رفعت بك العرب العماد وصيرت ... قمم الملوك مواقد النيران
أنساب فخرهم إليك وإنما ... أنساب أصلهم إلى عدنان
يا من يقتل من أراد بسيفه ... أصبحت من قتلاك بالإحسان
وقال: من الطويل
وما كنت ممن أدرك الملك بالمنى ... ولكن بأيامٍ أشيى النواصيا
عداك تراها في البلاد مساعياً ... وأنت تراها في السماء مراقيا
لبست لها كدر العجاج كأنما ... ترى غير صافٍ أن ترى الجو صافيا
وقدت إليها كل أجرد سابحٍ ... يؤديك غضباناً ويثنيك راضيا
محمد بن أحمد الحرون يمدح ويستزيد ويصف شعره: من البسيط.
يا مؤنس الملك والأيام موحشةٌ ... ورابط الجأش والآجال في وجل
ما لي وللأرض لم أوطن بها وطناً ... كأنني بكر معنى سار في مثل
لو أنصف الدهر أو لانت معاطفه ... أصبحت عندك ذا خيل وذا خول
؟لله لؤلؤ ألفاظ أساقطها لو كان للغيد لاستأنسن بالعطل
ومن عيون معانٍ لو كحلت بها ... نجل العيون لأغناها عن الكحل
سحرٌ من الفكر لو دارت سلافته ... على الزمان تمشي مشية الثمل
إدريس بن أبي حفصة: من البسيط
أمامها منك نورٌ يستضاء به ... ومن رجائك في أعجازها حاد
لها أحاديث من جدواك تذهلها ... عن الربوع وتلهيها عن الزاد
آخر: مجزوء الوافر
فتى ما شئت من أدبٍ ... يزين فعاله الكرم
إذا أثرى فليس يضي ... عُ في أمواله الذمم
وإن قعد الزمان به ... أقامت نفسه الهمم
رفيع القدر متسعٌ ... تحب جواره النعم
ما نزلت به النكبا ... ت إلا وهو مبتسم
يهونها وإن عظمت ... ويعلم أنها قسم
محمد بن هانئ: من الطويل
أغير الذي قد خط في اللوح أبتغي ... مديحاً له إني إذن لعنود
وما يستوي وحيٌ من الله منزلٌ ... وقافية في الغابرين شرود
وقال أيضاً: من الطويل
مقلد وضاءٍ من الحق صارمٍ ... ووارث مسطورٍ من الآي محكم
غنيٌّ بما في الطبع عن مستفاده ... له كرم الأخلاق دون التكرم
إذا جمح الأعداء رد جماحهم ... إلى جذع يزجي الحوادث أزلم
فسار بهم سير الكواكب لينةً ... وشلهم شل الطليح المسدم
لقد رتعت آمالنا من جنابه ... بغير وبي المكرع المتوخم
بحيث يكون الماء غير مكدر ... وحيث يكون الحوض غير مهدم
وقال أيضاً: من الطويل
أطافت بخرقٍ يسبق القول فعله ... فليس ليوميه وعيدٌ ولا وعد
وليس له في غير طرفٍ أريكةٌ ... وليس له في غير سابغةٍ سرد
فتىً يشجع الرعديد من ذكر بأسه ... ويشرف من تأميله الرجل الوغد
الجاحظ في مدح كتاب: متى رأيت بستاناً يحمل في ردنٍ، أو روضةً تتقلب في حجر؟ من لك بزائر إن شئت جعل زيارته غباً، ووروده خمساً، وإن شئت لزمك لزوم الظل، وكان منك مكان بعضك؟ الكتاب هو الذي إن نظرت فيه بجح نفسك، وعمر صدرك، وعرفت به في شهرٍ ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر. ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك، إلا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارة بك، مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر، ومن عادة الخوض فيما لا يعنيك، ومن حضور ألفاظ الناس الساقطة ومعانيها الفاسدة، وأخلاقهم الردية، وجهالاتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة ثم الغنيمة.

خطب رجل جارية فرد عنها وقيل: أما سمعت ما قيل فيها: من البسيط
يظل خطابها ميلاً عمائمهم ... كأن أنضاءها أنضاء حجاج
لها أبٌ سيدٌ ضخمٌ وإخوتها ... مثل الأسنة يستثنيهم الهاجي
شاعر يمدح مناظراً: من الطويل
إذا قال بذ القائلين مقاله ... ويأخذ من أكفائه بالمخنق
آخر في مثله: من الكامل
يتقارضون إذا التقوا في مجلسٍ ... نظراً يزيل مواضع الأقدام
البحتري: من الكامل
أحضرتهم حججاً لو اجتلبت بها ... عصم الجبال لأقبلت تتنزل
أبو تمام: من البسيط
ثبت الخطاب إذا اصطكت بمظلمةٍ ... في رحله ألسن الأقوام والركب
لا المنطق اللغو يزكو في مقاومه ... يوماً ولا حجة الملهوف تستلب
الأنصاري: من الطويل
مجالسهم خفض الحديث وقولهم ... إذا ما قضوا في الأمر وحي المخاصر
نظر الحسن بن رجاء إلى خط حسن فقال: هو متنزه الألحاظ، ومجتنى الألفاظ.
ونظر أعرابي كاتباً يكتب بين يدي المأمون فقال: ما رأيت أطيش من قلمه، ولا أثبت من حمله.
ابن المعتز: من الطويل
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتح نوراً أو تنظم جوهرا
قيل لبعضهم: كيف ترى إبراهيم الصولي؟ فقال: من البسيط
يولد اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدر بالأقلام في الكتب
قال عبد الملك لغيلان: أخبرني عن أفضل البنين فقال: الساتر البار، المأمون منه العار. قال: فأفضل البنات. قال: المتعجلة إلى القبر، المفيدة أباها سني الأجر. قال: فأفضل الإخوان، قال: الشديد العضد، الكريم المشهد، الذي إذا شهد سرك، وإذا غاب برك. قال: فأفضل الأخوات. قال: التي لا تفضح أخاها ولا تكسو عاراً أباها. فقال عبد الملك: لله أم درت عليك.
؟

نوادر في المدح
قال السري الرفاء يصف طبيباً: من السريع
كأنه من لطف أفكاره ... يجول بين الدم واللحم
إن غضبت روح على جسمها ... ألف بين الروح والجسم
وقال الجمل المصري في مثله: من المنسرح
إذا سقامٌ عراك نازله ... فاندب أبا جعفر لنازله
يعرف ما يشتكيه صاحبه ... كأنما جال في مفاصله
وقال أبو الحسن التغلبي في مدح الصغار: من الكامل
وإذا رميت بلحظ طرفك في العلا ... نجماً صغيراً فهو فوق الأنجم
وصغيرة الخمس الأصابع إنها ... أولى بزينة خاتم المتختم
والرمح أصغر عقدة في التي ... عند السنان وذاك صدر اللهذم
وكذلك الدينار يصغر حجمه ... وهو الثمين تراه فوق الدرهم
وقال سويد بن أبي كاهل يمدح وضحاً: من الرمل
هو زين الوجه للمرء كما ... زين الطرف تحاسين البلق
ومثله لعلي بن جبلة: من البسيط
الناس كالخيل إن ذموا وإن مدحوا ... قدر الشباب كذا الأوضاح في الناس
عقبة الأسدي يقولها لهند بنت أسماء لما تزوجها الحجاج: من الوافر
جزاك الله يا أسماء خيراً ... كما أرضيت فيشلة الأمير
بصدعٍ قد يفوح المسك منه ... عليه مثل كركرة البعير
إذا أخذ الأمير بمثعبيها ... سمعت لها أزيزاً كالصرير
إذا نفحت بأرواح تراها ... تجيد الرهز من فوق السرير
نزل أبو نخيلة بسليمان بن صعصعة فأمر غلامه أن يتعاهده، فكان يغاديه ويراوحه بالخبز واللحم،فقال يمدح الخباز: من الرجز
بارك ربي فيك من خباز ... ما زلت مذ كنت على أوفاز
تنصب باللحم أنصاب البازي
ونزل أبو نخيلة على الربيع فأمر غلامه السائس أن يتفقد فرسه، فمدح الربيع بأرجوزة، ومدح فيها معه سائسه فقال: من الرجز
لولا أبو الفضل ولولا فضله ... ما اسطيع بابٌ لا يسنى قفله
ومن صلاح راشد إصطبله ... نعم الفتى وخير فعل فعله
يسمن منه طرفه وبغله
فضحك الربيع وقال له: يا أبا نخيلة، أترضى أن تقرن بي السائس في مديح، كأنك لو لم تمدحه كان يضيع فرسك.
وقد مدح السوداوي الفارقي سائساً بمثل هذا فقال وأجاد: من الكامل

وقاك ربك رمح كل حصان ... وكفى محسك طارق الحدثان
وأمنت من حنق الخيول إذا سطت ... وتصاهلت حنقاً على الغلمان
فلقد حوت منك الأواخي سيداً ... في طرح مرشحةٍ وحزم بطان
بكرات كفك للبهائم نعمةٌ ... تغني عن الشعران والأتبان
وإذا كشفت جلالها وتخالفت ... بغرائب الأجناس والألوان
ظن المحدق أن بؤبؤ عينه ... متنزهٌ في روضة البستان
فتبيت نفسك في القماط نزاهةً ... من أن يقال غلام رحل فلان
وهي طويلة أنشدنيها الشيخ الزاهد أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الفارقي، قال: أنشدنيها أبو علي ولد شاعرها.
باع رجل من النمر بن تولب ناقةً ثم اجتاز بها وهي خلف بابٍ تحن، فسمع صوتها فقال: من الطويل
حلفتُ يميناً للوضاحي برةً ... وأخرى على أمثالها أنا حالف
لقد شاقني تحنان عجلي ودونها ... من البيت قفلٌ مغلقٌ وسقائف
لعمري لئن أصبحت في دار تولب ... يغنيك بالأسحار ديك مساعف
لقد طالما طوفت في الشول لم تري ... دجاجاً ولم يعلفك في المصر عالف
فكل المطايا بعد عجلي ذميمةٌ ... تلائدها والناجيات الطرائف
فكم من خليل قد أزرت خليله ... وذي كربةٍ نجيته وهو خائف
فلولا ديون من عروضك قضيت ... وميرة صبيان وفقرٌ محالف
لكان بعيداً أن تكوني بعيدةً ... ولو نقد المال الكثير الصيارف
فلما سمع النمر بذلك أعادها ووهب له ثمنها.
أبو نواس يذكر كلباً: من الرجز
أنعت كلباً أهله في كده ... قد سعدت جدودهم بجده
فكل خير عندهم من عنده ... يظل مولاه له كعبده
يبيت أدنى صاحب من مهده ... وإن عرى جلله ببرده
ذا غرة مجللاً بزنده ... تلذ منه العين حسن قده
تأخير شدقيه وطول خده ... تلقى الظباء عنتاً من طرده
يشرب كأس شدها بشده ... يصيدنا عشرين في مرقده
يا لك من كلب نسيج وحده
الزند: عظم الساق هاهنا، وهو في غيره عظم الساعد. ومرقده من الإرقاد وهو الإسراع.
سمع أعرابي قوله تعالى: " الأعراب أشد كفراً ونفاقاً " التوبة: 97. فامتعض ثم سمع " ومن الأعراب من يؤمن بالله " التوبة: 99. فقال: الله أكبر، هجانا الله ثم عاد مدحنا، وكذلك فعل الشاعر حيث يقول: من الطويل
هجوت زهيراً ثم إني مدحته ... وما زالت الأشراف تهجي وتمدح
أعرابي يمدح ماتحاً: من الرجز
يزعزع الدلو وما يزعزعه ... يكفيه من جمع البنان إصبعه
تكاد آذان الداء تتبعه
دخل بدوي حماماً فاستطابه فقال لصاحبه: من الرمل المجزوء
إن حمامك هذا ... غير مذموم الجوار
ما رأينا قبل هذا ... جنةً في وسط نار
رفع إلى الحسن بن سهل أن الدواب وبئت فماتت ببغداد فوقع بقتل الكلاب، فقال أبو العواذل: من الوافر
له يومان من خير وشرً ... يسل السيف فيه من القراب
فأما لجود فيه فللنصارى ... وأما شره فعلى الكلاب
وكانت أكلت لحوم الدواب فكلبت على الناس فاضطروا إلى قتلها وعلموا معنى توقيع الحسن.
شتم رجل الأرضة فقال له بكر بن بعد الله المزني: مه فهي التي أكلت الصحيفة التي تعاقد المشركون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها تبينت الجن أن لو كانوا يعلموا الغيب ... الآية.
وقال السري يمدح مزيناً: من المتقارب
له راحةٌ سيرها راحةٌ ... تمر على الرأس مر النسيم
إذا لمع البرق في كفه ... أفاض على الرأس ماء النعيم
وقال آخر يمدح ابن حائك، من المنسرح
يا ابن الذي قد زكت صنائعه ... في كل مصر بذاك منعوت
لولا مساعي أبيك يرحمه ال ... له لكنا كصاحب الحوت
وقال عتبة الأعور في ابن حجام: من المنسرح

أبوك أوهى النجاد عاتقه ... كم من كمي دمي ومن بطل
يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من ثأره على وجل
ركب غيلان بن حرشة الضبي مع عبد الله بن عامر بن كريز فمرا على نهر عبد الله الذي يشق البصرة، فقال عبد الله: ما أصلح هذا النهر لأهل هذا المصر؟؟!! قال غيلان: أصلح الله الأمير، يتعلم صبيانهم فيه العوم، وهو لسقائهم ومسيل مياههم، وتأتيهم فيه ميرتهم. ثم مر غيلان بعد ذلك وهو يساير زياداً، وهو مجانبٌ لابن عامر، فقال زياد: ما أضر هذا النهر بأهل هذا المصر. قال غيلان: أجل أصلح الله الأمير، تنز منه دورهم، وتغرق فيه صبيانهم، ومن أجله يكثر بعوضهم. فصرف غيلان لسانه مدحاً وذماً كما شاء.
ويشبهه أن خالد بن صفوان قال لجاريته: هاتي جبناً فإنه يهيج المعدة ويشهي الطعام، وهو حمض العرب. قالت: قد كان ونفد. قال: لا عليك، فإنه يقدح في الأسنان، ويستولي على البطن، وهو من عمل أهل الذمة.
أثنى رئيس وفدٍ على ملك، فإنه لكذلك إذ أفلتت منه ضرطة، فالتفت إلى استه وقال يخاطبها: مثل هذا الملك يصلح أن يثنى عليه بجميع الجوارح، ولكن إذا رأيت اللسان يتكلم فاسكتي أنت. فضحك الملك وقضى حوائجهم.
حدثني أبو المكارم محمد بن الحسين الآمدي الشاعر قال: حضرت مرجى بن نبيه خال ابن أبي الخير صاحب البطيحة، وكان هجاء خبيث اللسان، وقد قال لعمر القلانسي وهو أكبر قواد البطيحة: إني قد مدحتك يا أصفهسلار بشعر جيد، فقال: أسمعنيه فقال: من مخلع البسيط
في عمرٍ ألف ألف خيرٍ ... تمحو له ألف ألف ذنب
فقال له في النصف الأول: تقول بفضلك هذا، فلما أتم البيت قال له: بشرك الله بخير، فقال مرجى:
واحدة أنه حمارٌ ... بغير مكرٍ وغير خب
فقال له عمر: صدقت، والله ما عندي لا خب ولا مكر، ولو مدحتني بهذا بمحضر الأمير، يعني ابن أبي الخير، لكان أنفع لي وأوقع عندي.
قال ابن كناسة: لما جاءت المسودة سخروا المستهل بن الكميت بن زيد وحملوا عليه حملاً ثقيلاً وضربوه، فمر ببني أسد فقال: أترضون أن يفعل بي هذا الفعل؟ فقالوا: هؤلاء الذين يقول فيهم أبوك: من الخفيف
والمصيبون باب ما أخطأ النا ... س ومرسو قواعد الإسلام
قد أصابوا فيك فلا تكذب أباك.
سأل رجل أبا أيوب المكي، وهو يتولى ديوان الخراج أيام المنصور، حاجةً فمنعه منعاً قبيحاًُ، فال له أحد جلسائه: قد وفقت، فإن هذا الرجل قواد، فقال له: وهذا عندك عيب؟! قال: وأي عيب أكبر منه؟ قال أبو أيوب: أتدري ما كانت العرب تسمي القواد وما هو عندهم؟ قال: لا أدري. قال أبو أيوب: كانوا يسمونه الحكيم، وذلك أنه يأتي إلى الصعب يذلله، والحزن يسهله، والبعيد يقربه، والقريب فيباعده، والخائف فيؤمنه، والجازع فيصبره، والآيس فيطمعه، والمغلق فيفتحه، والمتحير فيرشده، والضعيف فيؤيده، يحيي نفسين، ويجمع بين محبين،وله يتطأطأ الممتنع، ويبرز المصون المحتجب، وبه يسهل الصعب المتوعر، وقد مدح عمر بن أبي ربيعة قوادة فقال: من الرمل
فأتتها طبةٌ عالمةٌ ... تخلط الجد مراراً باللعب
تغلظ القول إذا لانت لها ... وتراخي عند سورات الغضب
وقال آخر: من البسيط
في فمها من رقى إبليس مفتاح
وقال ابن الرومي: من الرمل المجزوء
لو يشا ألف ضباً ... حسن تأليف بحوت
ويقود الجمل الصع ... ب بخيط العنكبوت
وقال آخر: من الوافر
يقود من الفراهة ألف بغلٍ ... بها حرنٌ بخيط العنكبوت
وقال الفرزدق: من الطويل
فغلغل وقاعٌ إليها فأقبلت ... تخوض خدارياً من الليل أخضرا
لطيف إذا ما انفك أدرك ما ابتغى ... إذا هو للظبي المخوف تقترا
يزيد على ما كنت أوصيته به ... فإن ناكرته لان ثمت أنكرا
قال الأصمعي: كنت بالبادية، فرأيت امرأة تبكي على قبر وتقول: من المتقارب
فمن للسؤال ومن للنوال ... ومن للمقال ومن للخطب
ومن للحماة ومن للكماة ... إذا ما الكماة جثوا للركب
إذا قيل مات أبو مالك ... فتى المكرمات قريع العرب

قال: فملت إليها فقلت: من هذا الذي مات هؤلاء الخلق بموته؟ فقالت: أما تعرفه؟ قلت: اللهم لا. فأقبلت ودموعها تنحدر، وإذا هي مقاء برشاء ثرماء، فقالت: فديتك، هذا أبو مالك الحجام ختن أبي منصور الحائك. فقلت: عليك لعنة الله والله ما ظننت إلا أنه سيدٌ من سادات العرب.

الفصل الأول
في الشكر
قيل: اشكر المنعم عليك، وأنعم على الشاكر لك، تستوجب من ربك الزيادة، ومن أخيك المناصحة.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: لا يزهدنك في المعروف من لا يشكرك عليه، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشيء منه، وقد يدرك من شكر الشاكر أكثر مما أضاع الكافر، والله يحب المحسنين.
ومما تعزيه الفرس إلى اسفنديار: الشكر أفضل من النعمة لأنه يبقى وتلك تفنى.
وقال موسى بن جعفر: المعروف غلٌّ لا يفكه إلا المكافأة أو الشكر.
وقال أيضاً قلة الشكر تزهد في اصطناع المعروف، وليس في هذا مناقضة لكلام جده علي عليه السلام لأنه فيما أخبر عن عادة النفس فيه ولم يأمر بالزهد في المعروف لقلة الشكر.
وقال رجل لسعيد بن جبير: هذا المجوسي يوليني خيراً فأشركه ويسلم علي فأرد عليه، فقال سعيد: سألت ابن عباس عن نحو هذا فقال: لو قال لي فرعون خيراً لرددته عليه.
وقيل: ارع حق من عظمك بغير فاقة إليك، بإعطائه إياك ما تحب، واستعن على شكره بإخوانك، فإن ذلك من حق الحرية عليك.
قال الأخطل: من البسيط
لألجأتني قريش خائفاً وجلاً ... ومولتني قريشٌ بعد إقتار
المنعمون بنو حربٍ وقد حدقت ... بي المنية واستبطأت أنصاري
وقال جرير: من البسيط
نفسي الفداء لقوم زينوا حسبي ... وإن مرضت فهم أهلي وعوادي
إن يجر طيرٌ بأمر فيه عافيةٌ ... أو بالفراق فقد أحسنتم زادي
وقالت امرأة من العرب: من الكامل المرفل
كم نعمةٍ لك أخرست كرماً ... صرف الزمان وألسن العسر
ألبستني نعماً خلعت بها ... عني ثياب مذلة الفقر
ماذا أقول لمن محاسنه ... غطت علي مساوئ الدهر
وقال أبو نخيلة: من الطويل
أمسلم إني يا ابن كل خليفةٍ ... ويا جبل الدنيا ويا زينة الأرض
شكرتك إن الشكر حبلٌ من التقى ... وما كل من أوليته نعمةً يقضي
ونبهت لي ذكري وما كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
وقال آخر: من الطويل
سأشكر عمراً ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت
وقال يزيد المهلبي: من الطويل
رهنت يدي بالعجز عن نيل شكره ... وما فوق شكري للشكور مزيد
ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكن ما لا يستطاع شديدُ
وقال أبو تمام: من السريع
كم نعمة منك تسربلتها ... كأنها طرة بردٍ قشيب
من اللواتي إن ونى شاكرٌ ... قامت لمسديها مقام الخطيب
نظر فيه إلى قول نصيب: من الطويل
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وقال عمارة بن عقيل من الطويل
بدأتم فأحسنتم فأثنيت جاهداً ... فإن عدتم أثنيت والعود أحمد
كتب رجل إلى بعض الملوك: حملت حاجتي فلاناً لا أن شكري ضعف عن حمل أياديك، بل أحببت أن يكون إخواني أعواناً على شكرك، وشهوداً على فضلك.
وكان جعفر بن يحيى يصل القاسم بن يحيى البصري ويلاطفه ويبره، ويكاتبه برقاع مختصرة مختومة، فيجيبه برقاع مستوفاة منشورة، فقال له الواشي: إن فلاناً يريد الزراية عليك بما تفعله في مكاتبتك. فقدح ذلك فيه عنده فعاتبه عليه، فقال القاسم: أيها الوزير، رقاعك تشمل على بر ورقاعي تشمل على واجب شكر، وأنت تكتم تفضلك، وأنا أنشر تطولك، وقال: من الطويل
وكم لك عندي من عطاء أذيعه ... بجودك في الدنيا فإنك ساتره
ومن نائلٍ أوليتنيه مهنأ ... فلا أنا أنساه ولا أنت ذاكره
وقال أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة المهلبي: من البسيط

يا ذا اليمينين قد أوليتني منناً ... تترى هي الغاية القصوى من المنن
ولست أسطيع من شكر أجيء به ... إلا استطاعة ذي روح وذي بدن
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلةً ... أوفى من الشكر عند الله في الثمن
أخلصتها لك من قلبي مهذبة ... حذواً على مثل ما أوليت من حسن
وقال الحسن بن هانئ: من الكامل المرفل
قد قلت للعباس معتذراً ... من ضعف شكريه ومعترفا
أنت امرؤ جللتني نعماً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا
لا تسدين إلي عارفةً ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
وقال الحسين بن الضحاك للواثق من أبيات: من الطويل
إذا كنت من جدواك في كل نعمةٍ ... فلا كنت إن لم أفن عمري بشكركا
فقال الواثق: لله درك يا حسين ما أقرب قلبك من لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين، جودك ينطق المفحم بالشعر، والجاحد بالشكر.
كتب أبو إسحاق الصابي إلى الصاحب أبي القاسم ابن عباد من كتاب: كتبت وليس مني جارحةٌ إلا ناطقة بشكرك وحمدك، ولا في الدهر جارحة إلا عافية بفضلك ورفدك، وأنا مستمر على دعائي لك لو خلوت من أن يكون عائداً بصلاحي ورائشاً لجناحي لالتزمته عن الأحرار العائشين في نداه، المستظلين بذراه، فيكف وأنا أول سائم في مراتعه، ووارد لشريعته.
كاتب: فإن الشكر تجارةٌ رابحةٌ جعله الله مفتاحاً لخزائن رزقه، وباباً إلى مزيد فضله، فأقيموا لله تجارة الشكر يقم لكم أرباح المزيد، فإن الله عز وجل يقول: " ولئن شكرتم لأزيدنكم " إبراهيم: 7.
آخر: الحمد لله الذي حقق أملي فيك، وصدق ظني بك، وذخر المنة وأخرها حتى كانت منك، وخصك بوضع الصنيعة عندي، ودفع المكروه، فلم يسبقك أحد إلى الإحسان إلي، ولم يحاصك في الإنعام علي، ولم تنقسم الأيادي بشكري فهو لك موفر عتيد، ولم يخلق وجهي فهو بك مصون جديد، ولم يزل ذمامي مضاعاً حتى رعيته، وحقي مبخوساً حتى قضيته، وأنصفتني من دهرٍ طالما ظلمني، ووترني وعدل بالحظ عني، وأنقذتني من لؤم غلبته، وأجرتني من تعديه وسطوته، وسررت بي الولي الودود، وأرغمت بي العدو الحسود، وأخذت بيدي من المذلة، وأنهضتني من العثرة، ورفعت أملي بعد انخفاضه، وبسطت رجائي بعد انقباضه، فلست أعتد يداً إلا لك، ولا معروفاً إلا منك، ولا أوجه رغبةً إلا إليك، فصانك الله عن شكر ما سواه، كما صنتني عن شكر من سواك، وبلغك من الدنيا والآخرة غاية أملك ومنتهى رضاك.
قال إسماعيل بن غزوان: لا تثقن بشكر من تعطيه حتى تمنعه، فالصابر هو الذي يشكر، والجازع هو الذي يكفر. وقال البحتري: من الطويل
إذا أنا لم أشكر لنعماك جاهلاً ... لا نلت نعمى بعدها توجب الشكرا
وقال أيضاً: من الطويل
ألنت لي الأيام من بعد قسوة ... وعاتبت لي دهري المسيء فأعتبا
وألبستني النعمى التي غيرت أخي ... علي فأضحى نازح الود أجنبا
لا فزت من مر الليالي براحةٍ ... إذا أنا لم أصبح بشكرك متعبا
وتمثل بهذه الأبيات شرف الدين أبو القاسم علي بن طراد الزينبي لما خلع عليه المسترشد وقلده وزارته.
وقال آخر: من الوافر
ولي في راحتيك غدير نعمى ... صفت جنباه واطرد الحباب
وظلٌّ لا يمازجه هجيرٌ ... وصحوٌ لا يُكَدِّرُهُ ضبابُ
وأيامٌ حسن لدي حتى ... تساوى الشيب فيها والشباب
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: من الكامل
إني لشاكر أمسه ووليه ... في يومه ومؤملٌ منه غدا
وقال أبو فراس ابن حمدان: من الطويل
وإنك للمولى الذي بك أقتدي ... وإنك للنجم الذي بك أهتدي
وأنت الذي بلغتني كل رتبة ... مشيت إليها فوق أعناق حسدي
فيا ملبسي النعمى التي جل قدرها ... لقد أخلقت تلك الثياب فجدد
وقال إبراهيم بن المهدي: من البسيط
ما زلت في سكرات الموت مطرحاً ... ضاقت علي وجوه الأمر والحيل
فلم تزل دائباً تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
وقال آخر: من البسيط

وكيف أنساك لا نعماك واحدةٌ ... عندي ولا بالذي أوليت من قدم
قال عبد الأعلى بن حماد الزيني: دخلت على المتوكل فقال: يا أبا يحيى، قد هممنا أن نصلك بخير، فتدافعت الأمور، فقلت: يا أمير المؤمنين: بلغني عن جعفر بن محمد الصادق، من لم يشكر الهمة لم يشكر النعمة، وأنشدته البيتين،، قال الباهلي: من البسيط
لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إذ لم يمضه قدرٌ ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
وقال ابن الرومي: من الكامل
كم من يد بيضاء قد أسديتها ... تثني إليك عنان كل وداد
شكر الإله صنائعاً أوليتها ... سلكت مع الأرواح في الأجساد
وقال آخر: من الطويل
وأحسن ما قال امرؤ فيك مدحةٌ ... تلاقت عليها منةٌ وقبول
وشكرٌ كأن الشمس تعني بنشره ... ففي كلٌ أرض مخبرٌ ورسول
وقال البحتري: من البسيط
أما أياديك عندي فهي واضحةٌ ... ما إن تزال يدٌ منها تسوق يدا
لم لا أمد يدي حتى أنال بها ... مدى النجوم إذا ما كنت لي عضدا
وقال السري الرفاء: من الوافر
فكنت كروضة سقيت سحاباً ... فأثنت بالنسيم على السحاب
وقال أيضاً: من البسيط
أصبحت أظهر شكراً على صنائعه ... وأضمر الود فيه أي إضمار
كيانع النخل يبدي للعيون ضحىً ... طلعاً نضيداً ويخفي غض جمار
كتب كاتب: ما أنتهي إلى غاية من شكرك إلا وجدت وراءها حادياً من برك، فلا زالت ممدودةً بين أمل تبلغه، وأمل فيك تحققه، حتى تتملي من الأعمار أطولها، وتنال من الدرجات أفضلها.
وقال الأقرع بن معاذ القشيري يشكر بر ابنه: من الطويل
رأيت رباطاً إذ علتني كبرةٌ ... وشاب لداتي ليس في بره عتب
إذا كان أولاد الرجال حزازةً ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
لنا جانبٌ منه دميثٌ وجانبٌ ... إذا رامه الأعداء متلفة صعب
وتأخذه عند المكارم هزةٌ ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب
وثوبٌ إلى الأضياف في ليلة الصبا ... إذا اجتمع السفار والبلد الجدب
وقال بكير بن الأخنس: من الطويل
نزلت على آل المهلب شاتياً ... غريباً عن الأوطان في زمن محل
ويروى: فقيراً بعيد الدار في سنة محل - زمن المحل - .
فما زال بي إلطافهم وافتقادهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي
وقال في كلمة أخرى له: من الطويل
وقد كنت شيخاً ذا تجارب جمةٍ ... فأصبحت فيهم كالصبي المدلل
قيل إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر.
وقيل: للشكر ثلاث منازل: ضمير القلب، ونشر اللسان ومكافأة اليد.
أبو نواس: من الطويل
أخذت بحبل من حبال محمدٍ ... أمنت به من نائب الحدثان
تغطيت من دهري بظلِّ جناحهِ ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام باسمي لما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني
أذل صعاب المكرمات محمدٌ ... وأصبح ممدوحاً بكل لسان
ابن نصر الكاتب: إنما يشكر على النعمة، ويعرف أوقات المواهب والمنحة، من يطرقه الإحسان، ويزوره الإنعام إغباباً، فيجد فرجةً من الآلاء، يسدها بمتابعة الشكر والثناء. فأما من يعمه الإفضال، ويطمه النوال، وتسابق الفوائد إليه، وتزاحم العطايا عليه، تصبحه مغادية، وتعقبه مراوحة، وتحل إليه مضحية ومظهرة، وتفقده معصرة ومعتمة، فلا يعرف لها مدة تحصى، ولا يغيب لها عن طرفه شخصاً، فقصاراه الإقرار بالتقصير، وحماداة الاعتراف بالتعذير، وهجيراه الدعاء بالمعونة على ما أنهض بحقوق النعمة، ولوازم الخدمة. وهو لذلك مواصل، وفضل الله تعالى بالإجابة كافل. ووصل البر تشرق تباشيره، وصدر إلينا تضحك أساريره، والله على المقابلة معين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فصل للحسن بن وهب: من شكر لك على درجة رفعته إليها، أو ثروة أفدته إياها، فإن شكري لك على مهجة أحييتها، وحشاشة أبقيتها، ورمق أمسكته، وقمت بين التلف وبينه، ولكل نعمة من نعم الدنيا حد ينتهى إليه، ومدى يوقف عليه، وغاية من الشكر يسموا إليها الطرف، خلا هذه النعمة التي قد فاقت الوصف، وطالت الشكر، وتجاوزت كل قدر، وأنت من وراء كل غاية ردت عنا كيد العدو، وأرغمت أنف الحسود، فنحن نلجأ منها إلى ظل ظليل، وكنف كريم، فيكف يشكر الشاكر، وأين يبلغ جهد المجهود.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لرجل من أهل الشام: كيف عمالنا قبلكم؟ قال: يا أمير المؤمنين إذا طابت العين عذبت الأنهار.
الرضي: من الكامل المرفل
ألبستني نعماً على نعم ... ورفعت لي علماً على علم
وعلوت بي حتى مشيت على ... بسط من الأعناق والقمم
فلأشكرن نداك ما شكرت ... خضر الرياض مصانع الديم
فالحمد يبقي ذكر كل فتى ... ويبين قدر مواقع الكرم
والشكر مهرٌ للصنيعة إن ... طلبت مهور عقائل النعم
أبو إسحاق الصابي: من مخلع البسيط
ودونك الشكر من صديقٍ ... واظب وداً وزار غباً
نزل الحطيئة وقد أقحمته السنة ببني مقلد بن يربوع، فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: إن هذا الرجل لا يسلم على لسانه أحد، فتعالوا حتى نسأله عما يحب فنفعله، وعما يكره فنجتنبه، فأتوه فقالوا: يا أبا مليكة، أنت اخترتنا على سائر العرب، ووجب حقك علينا، فمرنا بما تحب أن نفعله، ولما تكره أن نتناهى عنه، فقال: لا تكثروا زيارتي فتملوني، ولا تقطعوها فتوحشوني، ولا تجعلوا فناء بيتي مجلساً لكم، ولا تسمعوا بناتي غناء شبيبتكم، فإن الغناء رقية الزنا. قال: فأقام عندهم، وجمع كل رجل منهم ولده وقال: على أمكم الطلاق لئن تغنى أحد منكم والحطيئة بين أظهرنا لأضربنه ضربةً بسيفي، فلم يزل مقيماً فيما يرضى حتى انجلت السنة، وارتحل وهو يقول: من الكامل
جاورت آل مقلدٍ فحمدتهم ... إذ ليس كل أخي جوار يحمد
أزمان من يرد الصنيعة يصطنع ... فينا ومن يرد الزهاد يزهد
ومن مليح ما جاء في الشكر ومخرجه مخرج الديانة أن عدي بن أرطأة لما احتفر نهر عدي بالبصرة كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إني احتفرت لأهل البصرة نهراً أعذب به مشربهم، وجادت عليه أموالهم، فلم أر لهم في ذلك شكراً، فإن أذنت لي قسمت عليهم ما أنفقته عليه، فكتب إليه عمر: إني لا أحسب أهل البصرة عند حفرك لهم هذا النهر خلوا من رجل قال الحمد لله، وقد رضي الله سبحانه وتعالى بها شكراً من جنته فارض بها شكراً من نهرك.
أدخل على الفضل بن سهل ملك التبت وهو أسير، فقال: أما ترى الله عز وجل قد أمكن منك بغير عهد ولا عقد؟ فما شكرك إن صفحت عنك، ووهبت لك نفسك؟ فقال: أجعل النفس التي أبقيتها بذلةً متى أردتها، فقال الفضل: شكرٌ والله. وكلم المأمون فيه فصفح عنه.
وشكر أبو العيناء الطائي فقال: هذا رجل إذا رضي عشنا في نوافل فضله، وإذا غضب تقوتنا بقايا بره.
من كتاب للصابي يذكر فيه صمصام الدولة وصنيعه إليه بعد نكبة أبيه عضد الدولة: وإليه الرغبة في إطالة عمر مولانا عالي الكعب، قاهراً للخطب، مالكاً للأمر، حاكماً على الدهر، وأن يتولى عني مجازاته بأفضل ما جازى به قوياً عن ضعيف، ومغيثاً عن لهيف، ومنعماً عن شاكر، ومحسناً عن ناشر.
شاعر: من الكامل
ومن الرزية أن شكري صامتٌ ... عما فعلت وأن برك ناطق
أأرى الصنيعة منك ثم أسرها ... إني إذن ليد الكريم لسارق
ودخل المبرد إلى عيسى بن فرخانشاه فشكره على رضاه عنه بعد أن كان قد غضب عليه، فقال: أعزك الله، لولا تجرعك مرارة الغضب ما التذذت حلاوة الرضا، ولا يحسن مدح الصفو إلا عند ذم الكدر، ولقد أحسن البحتري في قوله: من البسيط
ما كان إلا مكافاةً وتكرمةً ... هذا الرضى وامتحاناً ذلك الغضب
وربما كان مكروه الأمور إلى ... محبوبها سبباً ما مثله سبب
فقال له عيسى: أطال الله بقاءك، وأحسن عنا جزاءك، فإنك كما قال أبو نواس: من الرجز
من لا يعد العلم إلا ما عرف ... كنا متى نشاء منه نغترف

رواية لا تجتني من الصحف
وأنا أصل البحتري لتمثلك بشعره، ووصله بنحوٍ من صلته.
قال رجل من بني الحارث بن كعب: من الطويل
وما يبلغ الإنعام في النفع غايةً ... على المرء إلا مبلغ الشكر أفضل
ولا بلغت أيدي المنيلين بطسةً ... من الطول إلا بسطة الشكر أطول
ولا رجحت في الشكر يوماً صنيعةٌ ... على المرء إلا وهي بالشكر أثقل
فمن شكر المعروف يوماً فقد أتى ... أخا العرف من حسن المكافاة من عل
وقال رجل من غطفان: من البسيط
الشكر أفضل ما حاولت ملتمساً ... به الزيادة عند الله والناس
أسرت قيس القطامي في بعض حروبها مع تغلب فأرادوا قتله، فخلصه زفر بن الحارث الكلابي، وقام دونه وحماه وحمله وكساه وأعطاه مائة ناقة، فقال القطامي يشكره: من البسيط
من مبلغٌ زفر القيسي مدحته ... عن القطامي قولاً غير إفناد
إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي
مثن عليك بما استبقيت معرفتي ... وقد تعرض مني مقتلٌ باد
فلن أثيبك بالنعماء مشتمةٌ ... ولن أبدل إحساناً بإفساد
لولا كتائب من عمرو تصول بها ... أوديت يا خير مندو له النادي
إذ الفوراس من قيسٍ بشكتها ... حولي شهودٌ وما قومي بشهاد
إذ يعتريك رجالٌ يسألون دمي ... ولو أطعتهم أبكيت عوادي
وقد عصيتهم والحرب مقبلةٌ ... لا بل قدحت زناداً غير أصلاد
قال فيلسوف: من مدحك بما ليس فيك، فلا تأمن بهته، ومن شكر ما لم تأت إليه فاحذر أن يكفر نعمتك.
وروى نصر بن سيار عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أنعم على رجلٍ نعمةً فلم يشكر له فدعا عليه استجيب له " ؛ ثم قال نصر: اللهم إني قد أنعمت على آل بسام فلم يشكروا، اللهم فاقتلهم، فقتلوا كلهم.
طلق رجل امرأته فلما أراد الارتحال قال: اسمعي، وليسمع من حضر، إني والله اعتمدتك برغبة، وعاشرتك بمحبة، ولم توجد منك زلة، ولم تدخلني عنك ملة، ولكن القضاء كان غالباً. فقالت المرأة: جزيت من صاحبٍ ومصحوبٍ خيراً، فما استرثت خيرك، ولا شكوت ضيرك، ولا تمنيت غيرك، ولا أزد إليك إلا شرهاً، ولم أجد لك في الرجال شبهاً، وليس لقضاء الله مدفعٌ، ولا من حكمه علينا ممتنع.
البحتري: الشكر نسيم النعم.
إبراهيم بن العباس في أحمد بن أبي دواد: من الطويل
أتيتك شتى الرأي لابس حيرة ... فسددتني حتى رأيت العواقبا
على حين ألقى الرأي دوني حجابه ... فجبت خطوباً واعتسفت المذاهبا
المتنبي: من الطويل
تركت السرى خلفي لمن قل ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
وقيدت نفسي في هواك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
أبو الحسين الكاتب المغربي: من الطويل
سأشكر نعماك التي انبسطت بها ... يدي ولساني فهو بالمجد ينطق
وأثني بما أوليتني من صينعةٍ ... ومن منة تغدو علي وتطرق
وكل امرئ يرجو نداك موفقٌ ... وكل امرئ يثني عليك مصدق
بعض المغاربة: من البسيط
يا مانع الدهر أن يسطو علي لقد ... علقت منك بحبل ليس ينصرم
ما أطيب العيش في دنيا تصرفها ... بالعطف منك وإن لم تدننا رحم
كأنها نعمة الأخرى فليس بها ... على المطيعين تنكيدٌ ولا ألم
ابن رشيق المغربي: من الخفيف
خذ ثناء عليك غب الأيادي ... كثناء الربى على الأمطار
سقط الشكر وهو موجب نعما ... ك سقوط الأنواء بالأثمار
مسلم بن الوليد: من الوافر
جلبت لك الثناء فجاء عفواً ... ونفس الشكر مطلقة العقال
ويرجعني إليك إذا نأت بي ... دياري عنك تجربة الرجال
؟

نوادر في الشكر
سأل أبو العيناء رجلاً ممن كان يصحب الحسن بن مخلد عن حاله فأقبل يشكره، فقال له أبو العيناء: لسان حالك يكذب لسان شكرك.

قدم أبو نخيلة على أبان بن الوليد فامتدحه فكساه ووهب له جاريةً جميلة، فخرج يوماً من عنده فلقيه رجل من قومه فقال له: كيف وجدت أبان ابن الوليد؟ فقال: من الرجز
أكثر والله أبان ميري ... ومن أبان الخير كل الخير
ثوب لجلدي وحرٌ لأيري
تكلم رجل عند عبد الله بن العباس فأكثر الخطأ، فدعا بغلام له فأعتقه، فقال له الرجل: ما سبب هذا الشكر؟ فقال: إذ لم يجعلني مثلك.
قيل لأعرابي في الشتاء: أما تصلي؟ قال: البرد شديد وما علي كسوة أصلي فيها، وقال: من الطويل
إن يكسني ربي قميصاً وريطةً ... أصل وأعبده إلى آخر الدهر
وإن لم يكن إلا بقايا عباءة ... مخرقة ما لي على البرد من صبر
السري الرفاء الموصلي: من المنسرح
من ذم إدريس في قيادته ... فإنني حامدٌ لإدريس
كلم لي عاصياً فكان له ... أطوع من آدم لإبليس
وكان في سرعة المجيء به ... آصف في حمل عرش بلقيس

الفصل الثاني
الاعتذار والاستعطاف
وثمرتهما العفو والصفح، وهما خير مندوب إليه، وأحسن محضوض عليه، قال الله عز وجل: " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " . النور:22.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا من الحدود.
وقال صلى الله عليه وسلم: من اعتذر إليه أخوه المسلم فلم يقبل لم يرد علي الحوض.
وقال علي عليه السلام: أولى الناس بالعفو أقدرهم على القعوبة.
وقال أيضاً: العفو زكاة الظفر.
وقال أيضاً: إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه.
وقال الحسن بن علي عليهما السلام: لا تعاجل الذنب بالعقوبة واجعل بينهما للاعتذار طريقاً.
وقال أيضاً: أوسع ما يكون الكريم بالمغفرة إذا ضاقت بالذنب المعذرة.
وقال جعفر بن محمد: شفيع المذنب إقراره، وتوبة المجرم اعتذاره.
وقال رجل من بني تميم لقومه: ألا أدلكم على ما هو أفضل من الحق؟ قالوا: وما هو؟ قال: العفو.
وقال الشاعر: من الطويل
فإن كنت ترجو في العقوبة راحةً ... فلا تزهدن عند التجاوز في الأجر
وقال الحسن بن أبي الحسن رضي الله عنه: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا العافون عن الناس، وتلا قوله تعالى: " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " الشورى: 40.
وقال عمر بن حبيب العدوي: كنت في وفد أهل البصرة لما قدموا على المنصور يسألونه أن يولي عليهم قاضياً، فبينا نحن عنده إذ جيء برجل مصفد يحمل في الحديد، فوقف بين يديه فغلوا يده إلى عنقه، فساءله طويلاً ثم بسط له نطعٌ وأقعد عليه، ونحن ننظر إليه، فأمر بضرب عنقه، والرجل يحلف له وهو يكذبه، ولم يتكلم أحدٌ من الجمع، فقمت وكنت أحدثهم سناً، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في الكلام؟ فقال: قل. قلت: يروى عن ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من اعتذر إليه أخوه المسلم فلم يقبل عذره لم يرد علي الحوض " ، وقد اعتذر إليك فاقبل عذره. فقال: يا غلام اضرب عنقه. فقلت: إن أباك حدثني عن جدك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ تحت العرش ليقم من كان له عند الله يد فلا يقوم إلا من عفا عن أخيه المسلم " ، فقال: الله أن أبي حدثك عن جدي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا؟ فقلت: الله إن أباك حدثني عن جدك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا. فقال أبو جعفر: صدق أبي عن جدي عن ابن عباس بهذا. يا غلام خل عنه، وأمر له بجائزة وولاني قضاء البصرة.
وأتي المأمون برجلٍ يريد أن يقتله، وعلي بن موسى الرضا جالس، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: أقول إن الله تعالى لا يزيدك بحسن العفو إلا عزاً، فعفا عنه.
وكان المأمون مؤثراً للعفو كأنه خلق غريزةً له، وهو القائل: لقد حبب إلي العفو حتى أظن أني لا أثاب عليه. وسأذكر جملاً من أخباره فيه هاهنا.
وقع جعفر بن يحيى في رقعة معتذر: قد تقدمت طاعتك ونصيحتك، فإن بدرت منك هفوة فلن تغلب سيئة حسنتين.
وقال الشاعر: من الخفيف
ارض للسائل الخضوع وللقا ... رف ذنباً خصاصة الاعتذار

وكان النابغة الذبياني مجيداً في الاعتذار حتى قيل إنه أشعر الناس إذا رهب، ومشهورة قصائده متضمنة الاعتذار إلى النعمان بن المنذر، فمن ذلك قوله: من البسيط
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زار من الأسد
؟فلا لعمر الذي قد زرته حججاً وما هريق على الأنصاب من جسد
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذن فلا رفعت سوطي إلي يدي
هذا لأبرأ من قول قذفت به ... طارت نوافذه حراً على كبدي
ومن ذلك قوله: من الطويل
وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكسٌ والضواجع
فبت كأني ساورتني ضئيلةٌ ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد من نوم العشاء سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طوراً وطوراً تراجع
أتوعد عبداً لم يخنك أمانةً ... وتترك عبداً ظالماً وهو ضالع
حملت علي ذنبه وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
خطاطيف حجنٌ في حبال متينةٍ ... تمد بها أيد إليك نوازع
ومن ذلك قوله: من الطويل
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً ... وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني خيانةً ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولكنني كنت امرءاً لي جانبٌ ... من الأرض فيه مسترادٌ ومذهب
ملوك وإخوانٌ إذا ما لقيتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... فلم ترهم في مثل ذلك أذنبوا
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
وقال طريح بن إسماعيل الثقفي يعتذر إلى الوليد بن يزيد عن بعد الملك: من البسيط
أمشمتٌ أنت أقواماً صدورهم ... علي فيك إلى الأذقان تلتهب
إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شراً أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
رأوا صدودك عني في اللقاء فقد ... تحدثوا أن حبلي منك منقضب
وأن سخطك شيءٌ لم أناج به ... نفسي ولم يك مما كنت أحتسب
قد كنت أحسب أني قد لجت إلى ... حرزٍ وأن لا يضروني وإن ألبوا
فإن وصلت فأهل العرف أنت وإن ... تدفع يدي فلي بقيا ومنقلب
إني كريم كرامٍ عشت في أدبٍ ... نفي العيوب وخير الشيمة الأدب
قد يعلمون بأن العز منقطعٌ ... عني وأن الغنى لا بد منقلب
لا يفرحون إذا ما الدهر طاوعهم ... يوماً بيسرٍ ولا يشكون إن نكبوا
وقال أيضاً: من الخفيف
فإليك ارتحلت يشفع لي قر ... بي ونصح لكم وغيبٌ سليم
فاكسني البشر إنه شاهد العر ... ف كما شاهد القنوط الوجوم
وقال أيضاً: من الكامل
نام الخلي من الهموم وبات لي ... ليلٌ أكابده وهمٌ مضلع
أبغي وجوه مخارجي من تهمةٍ ... أزمت علي وسد منها المطلع
جزعاً لمعتبة الوليد ولم كن ... من قبل ذاك من الحوادث أجزع
فلأنزعن عن الذي لم تهوه ... إن كان لي ورأيت ذلك منزع
إن كنت في ذنب عتبت فإنني ... عما كرهت لنازعٌ متورع
فاعطف فداك أبي علي توسعاً ... وفضيلةً فعلى الفضيلة تتبع
وكان البحتري نابغي الاعتذار، فمن جيد قوله فيه: من الطويل
عذيري من الأيام رنقن مشربي ... ولقينني نحساً من الطير أشأما
وأكسبنني سخط امرئ بت موهناً ... أرى سخطه ليلاً من الليل مظلما
تبلج عن بعض الرضى وانطوى على ... بقية عتب شارفت أن تصرما
إذا قلت يوماً قد تجاوز حدها ... تلبث في أعقابها وتلوما

وأصيد إن نازعته الطرف رده ... كليلاً وإن راجعته القول جمجما
ثناه العدا عني فأصبح مشرعاً ... وأوهمه الواشون حتى توهما
وقد كان سهلاً واضحاً فتوعرت ... رباه وطلقاً ضاحكاً فتجهما
أمتخذ عندي الإساءة محسن ... ومنتقمٌ مني امرؤ كان منعما
ومكتسبٌ في الملامة ما جدٌ ... يرى الحمد غنماً والملامة مغرما
يخوفني من سوء رأيك معشرٌ ... ولا خوف إلا أن تجور وتظلما
أعيذك أن أخشاك من غير حادثٍ ... تبين أو جرم إليك تقدما
وأكبر ظني أنك المرء لم تكن ... تحلل بالظن الذمام المحرما
ولو كان ما خبرته أو سمعته ... لما كان غرواً أن ألوم وتكرما
لي الذنب معروفاً وإن كنت جاهلاً ... به ولك العتبى علي وأنعما
أتي بالجاحظ بعد هلاك ابن الزيات، وكان من المنقطعين إليه، إلى ابن أبي دواد، وهو مقيد وفي عنقه سلسلة، فقال له ابن أبي دواد: والله ما علمتك إلا متناسياً للنعم، كفوراً للصنيعة، معدداً للمساوئ، وما فتني باستصلاحي لك، ولكن الأيام لا تصلح منك لفساد طويتك، ورداءه دخلتك، وسوء اختيارك، فقال الجاحظ: خفض عليك، والله لأن يكون الأمر لك علي خيرٌ من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن أجمل في الأحدوثة عنك من أن أحسن وتسيء، ولأن تعفو في حال قدرتك أجمل من أن تنتقم مني. فقال ابن أبي دواد: والله ما علمتك إلا كثير تزويق اللسان، وقد جعلت بيانك أمام قلبك، واصطنعت فيه النفاق. يا غلام، صر به إلى الحمام وأمط عنه الأذى. فأخذ الحديد عنه، وأدخل الحمام، وحمل إليه تخت ثياب وطويلةٌ وخفٌ، فلبس ذاك ، وانكفأ إليه، فصدره في مجلسه، وأقبل عليه بوجهه، وقال: هات حديثك يا أبا عثمان. فقال: من أقرب ذاك أنك فككتني من الأسار، وعرضتني لليسار، وأدخلتني في شكرك من باب الاضطرار، واستأنفت لي حياة كنت يئست منها، وصرفت عني شماتةً كنت التبست بها، فرحمك الله بي كما رحمني بك وأمتعك بنعمتك التي أعارك.
قدم عبد الملك بن مروان حاجاً سنة خمس وسبعين وذلك بعد ما اجتمع الناس عليه بعامين. فجلس على المنبر وشتم أهل المدينة ووبخهم، ثم قال: إني والله يا أهل المدينة قد بلوتكم فوجدتكم تنفسون القليل، وتحسدون على الكثير، وما وجدت لكم مثلاً إلا ما قال مخنثكم وأخوكم الأحوص: من الطويل
وكم نزلت بي من خطوب ملمةٍ ... صبرت عليها ثم لم أتخشع
فأدبر عني شرها لم أبل به ... ولم أدعكم في كربها المتطلع
فقام إليه نوفل بن مساحق فقال: يا أمير المؤمنين، أقررنا بالذنب وطلبنا المعذرة، فعد بحلمك فذلك ما يشبهنا منك وما يشبهبك منا، فقد قال من ذكرت بعد بيته الأولين:
وإني لمستأن ومنتظرٌ بكم ... وإن لم تقولوا في الملمات دع دع
أؤمل منكم أن تروا غير رأيكم ... وشيكاً وكيما تنزعوا خير منزع
كان الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع مداحاً للأمين، ولما قتل أفرط في الجزع عليه وهجا المأمون وترك بغداد مخافةً، وأجتهد في استعطافه، وسأل ابن البواب الحاجب حتى أنشده شعره الذي يقول فيه: من الطويل
رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه والله أعلم بالعبد
وما زال يلطف له حتى أوصله إلى المأمون، فلما سلم عليه رد رداً جافياً وقرعه بأشعاره فيه وفي أخيه فقال: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمةٌ سلبتها بعد أن غمرتني، وإحسانٌ شكرته فأنطقني، وسيد فقدته فأقلقني، فإن عاقبت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك، فدمعت عين المأمون وقال: قد عفوت عنك وأمرت بإدرار أرزاقك عليك، وإعطائك ما فات منها، وجعلت عقوبة ذنبك امتناعي من استخدامك.
أمر بعض ملوك العجم بقتل رجل غضب عليه، فقال الرجل: أيها الملك إن قتلتني وأنا صادق عظم جرمك، وإن تركتني وأنا كاذب قل وزرك، وأنت من وراء ما تريد، والعجلة موكل بها الزلل، فعفا عنه.

كتب أبو طالب الجراحي من آل علي بن عيسى: فإن رأى أن ينظر نظر راحم متعطف، إلى خادم متلهف، ويجعل العفو عن فرطته وكفرانه، صدقةً عن بسطته وسلطانه، فاجدر الناس بالاغتفار أقدرهم على الانتصار، فعل، إن شاء الله تعالى.
وقال شاعر: من الطويل
لئن سمتني ذلاً فعفت حياضه ... سخطت ومن يأت المذلة يعذر
فها أنا مسترضيك لا من جنايةٍ ... جنيت ولكن من تجنيك فاغفر
وقال سيعد بن حميد: من المنسرح
لم آت ذنباً فإن زعمت بأن ... أتيت ذنباً فغير معتمد
قد تطرف الكف عين صاحبها ... فلا يرى قطعها من الرشد
ذكر عند الحسين بن علي عليهما السلام اعتذار عبد الله بن عمرو ابن العاص من مشهده بصفين فقال: رب ذنب أحسن من الاعتذار منه؛ فنظر إلى هذا المعنى محمود الوراق فقال: من الطويل
إذا كان وجه العذر ليس بواضح ... فإن اطراح العذر خيرٌ من العذر
واعتذر رجل إلى سلم بن قتيبة من أمر بلغه عنه فعذره ثم قال له: يا هذا لا يحملنك الخروج من أمر تخلصت منه إلى الدخول في آخر لعلك لا تخلص منه.
وقال علي بن الجهم: من الخفيف
ليس عندي وإن تغضبت إلا ... طاعة حرة وقلب سليم
وانتظار الرضى فإن رضى السا ... دات عز وعتبهم تقويم
وقال آخر: من الطويل
وكنت إذا ما جئت أدنيت مجلسي ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرةً ... إلي بها في سالف الدهر تنظر
وقال السري الرفاء في العفو: من الكامل
تلك المكارم لا أرى متأخراً ... أولى بها منه ولا متقدما
عفواً أظل ذوي الجرائم كلهم ... حتى لقد حسد المطيع المجرما
ألم فيه بقول أبي دهبل الجمحي: من المنسرح
ما زلت في العفو للذنوب وإط ... لاق لعان بجرمه غلق
حتى تمنى البراء أنهم ... عندك أمسوا في القد والحلق
وقال محمد بن أبي زرعة الدمشقي: من الخفيف
لا ملومٌ مستقصر أنت في الجو ... د ولكن مستعطف مستزاد
قد يهز الهندي وهو حسامٌ ... ويحث الجواد وهو جواد
وقال أبو الحسن ابن منقذ من الكامل
أخلاقك الغر السجايا ما لها ... حملت قذى الواشين وهي سلاف
ومراة رأيك في عبيدك ما لها ... صدئت وأنت الجوهر الشفاف
ولأبي العلاء ابن حسول في الاعتذار: من الكامل
قد صدني رمد ألم بناظري ... عن قصد خدمة بابه ولقائه
أو يستطيع الرمد أن يستقبلوا ... لمعان نور الشمس في لألائه
ومن مليح الاعتذار لمسيء قول شمعل بن الحصين التغلبي، وكان خاطب عبد الملك بن مروان بكلام أغلظه فرماه بشيء أصاب ساقه: من الطويل
أمن ضربةٍ بالرجل مني تباشرت ... عداي فلا عارٌ علي ولا سخر
وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عارٌ بما فعل الدهر
عربد غلامٌ هاشمي على جيرانه فشكوه إلى عمه، فأراد أن يتناوله بالأدب فقال له: يا عم، إني أسأت وليس معي عقلي، فلا تسيء ومعك عقلك، فصفح عنه.
وقال شاعر في هفوة الكأس يعتذر عنها: من الطويل
متى شربت ماء الحياة وجوهنا ... تنقل عنها ماؤها وحياؤها
إذا كانت الصهباء شمساً فإنما ... يكون أحاديث الرجال هباؤها
وكتب الصاحب أبو القاسم ابن عباد في مثل ذلك: سيدي أعرف بأحكام المروة من أن يهدي إليها، وأحرص على عمارة سبل الفتوة من أن يحض عليها، وقديماً حملت أوزار السكر على ظهور الخمر، وطوي بساط الشراب على ما فيه من خطإ وصواب، واستعفيت السقاة غير دفعة فأبوا إلا إلحاحاً علي، وإتراعاً إلي، وكرهت الامتناع خشية أن أوقع الكساد في سوق الأنس، وتفادياً من أن يعقد علي خنصر الثقل. فلما بلغت الحد الذي يوجب الحد، بدر مني ما ببدر ممن لا يصحبه لبه، ولا يساعده عقله وقلبه، ولا غرو فموالاة الأرطال، تدع الشيوخ كالأطفال. فإن رأى قبول عذري، في ما جناه سكري، وأن يهب لي جرمي لمعرفته بنيتي في صحوي، وإن أبي إلا معاقبتي جعلها قسمين بين المدام وبيني، فعل، إن شاء الله.

واعتذر كاتب من مكاتبة بعض إخوانه في ظهر فقال: من البسيط
العذر في الظهر عند الحر منبسطٌ ... إذ رأى سطوات الدهر بالنعم
وما أضن بخدي لو جرى قلمي ... عليه طرساً ولو أن المداد دمي
عتب المأمون على إسحاق بن إبراهيم الموصلي في شيء فكتب إليه رقعة وأوصلها إليه من يده، ففتحها المأمون فإذا فيها: من البسيط
لا شيء أعظم من جرمي سوى أملي ... بحسن عفوك عن جرمي وعن زللي
فإن يكن ذا وذا في القدر قد عظما ... فأنت أعظم من جرمي ومن أملي
فضحك وقال: يا إسحاق، عذرك أعلى قدراً من جرمك، وما جال بفكري، ولا خطر بعد انقضائه على بالي.
لما ركب المأمون إلى المطبق لقتل ابن عائشة، لقيه العباس بن الحسن العلوي عائداً، فقال له: الله الله يا أمير المؤمنين في الدماء التي لا بقية معها ولا عقوبة بعدها؛ والبس رداء العفو الذي ألبسك الله تعالى إياه، وجملك به، وأسعدك باستعماله، فإن الملك إذا قتل أغري بالقتل حتى يصير عادة من عاداته، ولذةً من لذاته، فقال: والله يا أبا الفضل لو سمعت هذا منك قبل قتلي لا بن عائشة ما كنت قتلته.
لما دخل إبراهيم بن المهدي على المأمون عند الظفر به سلم عليه وقال له: يا أمير المؤمنين، ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن مدله في الأناة حسن عنده الذنب، وقد جعلك الله فوق كل ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن عاقبت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك، فقال المأمون: يا إبراهيم إني شاورت العباس ابني، وأبا إسحاق أخي، في أمرك فأشار علي بقتلك، إلا إنني وجدت قدرك فوق ذنبك، فكرهت القتل للازم حرمتك. فقال: يا أمير المؤمنين، قد نصح المشير بما جرت به العادة في السياسة وحياطة الخلافة، إلا أنك أبيت أن أطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو، فإن عاقبت فلك نظير، وإن عفوت فلا نظير لك، فإن جرمي أعظم من أن أنطق فيه بعذر، وعفو أمير المؤمنين أجل من أن يفي به شكر فقال المأمون: مات الحقد عند هذا العذر. فاستعبر إبراهيم، فقال المأمون: ما شأنك؟ قال: الندم، إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام علي. ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنه وإن بلغ جرمي استحلال دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغاني عفوه، وإن لي الشفعة: الإقرار بالذنب، وحق العمومة بعد الأب، فلا يسقط عن كرمك عمك، ولا يقع دون عفوك عبدك. فقال: لو لم يكن في حق تسبك حق الصفح عنك لبلغك ما أملت حسن تنصلك، ولطف توصلك، ثم أمره بالجلوس وقال له: ما البلاغة يا إبراهيم؟ قال: أن يكون معناك يجلي عن مغزاك. فقال المأمون: هذا كلام يشذر بالذهب؛ لقد أذهبت به وغراً كان في صدري.
اعتذر كاتبٌ إلى صديق له فأجابه: أنت في أوسع العذر عند ثقتي، وفي أضيق العذر عند شوقي.
كتب أبو علي ابن مقلة إلى أبي الحسن ابن الفرات يستعطفه: اقتصرت - أطال الله بقاء الوزير - على الاستعطاف والشكوى، على تناهي المحنة والبلوى، في النفس والمال، والجسم والحال، إلى ما فيه شفاء للمنتقم، وتقويم للمجترم، وحتى أفضيت إلى الحيرة والتبلد، وعيالي إلى الهلكة والتلدد، وما أقول إن حالاً أتاها الوزير أيده الله في أمري إلا بحق واجب، وظن صادق غير كاذب؛ إلا أن القدرة تذهب الحفيظة، والاعتراف يزيل الاقتراف، ورب المعروف يؤثره أهل الفضل والدين، والإحسان إلى المسيء من أفعال المتقين. وعلى كل حالة فلي ذمام وحرمة، وتأميل وخدمة، إن كانت الإساءة تضيعها، فرعاية الوزير تحفظها.
وفد وفدٌ من أهل الشام على المنصور بعد انهزام عبد الله بن علي، وفيهم الحارث بن عبد الله بن ربيعة في عدة منهم، ثم قام الحارث فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد قربة، وإنا ابتلينا بفتنة استفزت كريمنا واستخفت حليمنا، فنحن معترفون، ومما سلف معتذرون، فإن تعاقبنا فقد أجرمنا، وإن تعف عنا فبفضلك علينا. فاصفح إذ ملكت، وامنن إذ قدرت، وأحسن فطالما أحسن الله إليك. فقال المنصور: قد فعلت ذلك بخطيبكم وأمر برد قطائعه.

ومن الاعتذار: إنك أعزك الله بحسن معاشرتك للنعم، واستدامتك لها، واجتلابك ما بعد منها بشكر ما قرب، واستعمالك الصفح عن المجرم لما في عاقبته من جميل الذكر، وجزيل الأجر، تقبل العذر على معرفتك بشناعة الذنب، وتقيل العثرة وإن لم تكن على يقين من صدق النية، وتدفع السيئة بالتي هي أحسن.
ومن الاستعطاف: شفع إبراهيم بن المهدي إلى المأمون في ومحبوس فقال: يا أمير المؤمنين، ليس للعاصي بعد القدرة عليه ذنب، ولا للمعاقب بعد الملكة عذر؛ قال: صدقت، ووهبه له.
كتب إبراهيم بن عبد الله اليقطيني إلى محمد بن ثوابة: إن كان ما أسخطك أعزك الله من جرمي دون مقدار حرمتي، فالصفح عنه واجب لي، وإن كان موازياً فالحسنة تذهب السيئة، وإن كان فوقه فإن الله عز وجل يقول " ولا تنسوا الفضل بينكم " البقرة: 237 والفضل أعلى منزلة من الحق، وأولى بأهل الفضل والمجد. ومن قدم أعزك الله حرمة ترعى، أو ختم بإقرار وإعتاب يروى لم يكن لسيئة منه واسطة بين حسنتين جزاء من العقوبة ولا موضع من الحفيظة.
كتب محمد بن عبد كان عن أحمد بن طولون إلى ابنه العباس بن أحمد حين عصى عليه: قد كتبت إليك يا بني كتاباً يصل بوصول هذه الرقعة، وعظتك فيه بالعظات النوافع، واحتججت عليك فيه بالحجج البوالغ، وذكرتك بالدنيا والدين، وخلطت لك الغلظة باللين: أردت بالغلظة تسكين نفارك، وباللين أن أثني إلي قيادك، فلا تحسب الغلظة يا بني دعتني إليها فظاظة، ولا اللين حملتني عليه ضراعة، وكن على أوثق الثقة وأصح المعرفة بأن قلبي لك سليم وأنك علي كريم.
فصل لأحمد بن يوسف: إن عذر المعتذر يكاد أن يلحق بمنزلة المذنب عند أكثر الناس، ولولا جلالة حقك، ومخافة سخطك، لم أشتبه في الاعتذار بأهل الذنوب.
وكتب سعيد بن حميد إلى سليمان بن وهب: إنما يطالب الناس أعزك الله بالإنصاف على قدر منازلهم في المعرفة بفضله، وتلزمهم الحجة فيه على حسب ما عندهم من العلم بشرف محله؛ ووردت الكتب عنه بالاستبطاء لي، وتجاوزت فيها إلى ما أستحق غيره بإخلاصي وميلي وصدق محبتي. فإن كان ما كتبت به أعزك الله حقاً، فلست أحتشم أن أقول: قد وقع الأمر في ذلك موقع الظلم لعلتين: إحداهما أنه كان ينبغي أن يتقدم إلي بما تحب لأتبعه وما تكره لأجتنبه، فإن ملت عن الواجب في أحد الأمرين فالعتب حينئذ واقع موقعه، وإلا فما الحجة علي، قال الله عز وجل وهو أولى من اتبع علمه وأطيع أمره " وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " التوبة: 115 اللهم إلا أن تكون عاتباً بسبب فلان، وقد رددت الحكم فيه إليك، فإن خف الكتاب عليك نفذت لأمرك، وإن ثقل حملت نفسي على ما تحب، وإن نالني ما أكره. وكان ينبغي أن تنتظر بالعتاب رجوع الجواب، فإن خالفت أمرك فأنا أسرع إلى الحكم لك على نفسي منك. وقد أنصفت أخت جساس في قولها: من الرمل
يا ابنة الأقوام إن شئت فلا ... تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنت تيقنت التي ... عندها اللوم فلومي واعذلي
ولست بحمد الله ممن يعيب وليه ولا يغتنم زلته وهفوته، بل يبسط العذر حين لا عذر له، ويقيم الحجة إن وجبت له عليه. وفي دون ما قلت ما أغنى، لأن الاختصار إذا لم يكن كافياً، فإن الإكثار أحرى أن لا يكفي.
قيل: وجد حماد بن أبي سليمان أستاذ أبي حنيفة زلة كانت منه إليه، فأظهر الإعراض عنه، فكتب إليه أبو حنيفة رقعة يقول فيها: من كان ذنبه إلى الكرام، والعفو عنه في أيدي الصالحين، وتوبته إلى الرحماء، وجنايته إلى الحكماء، كان حرياً بالسلامة، وجديراً بالتخلص من الملامة، وكان ذلك من سعادة جده، ومن التوفيق الذي لا يسلمه إلى أشد عاقبة أمره.
فلما قرأها حماد صفح عن زلته، وأعاده إلى رتبته.
خرج محمد بن البعيث بن حلبس الربعي على المتوكل، فأخذه وحبسه، فهرب من الحبس وعاد إلى ما كان عليه، فجيء به وقدم ليضرب عنقه، فقال له المتوكل: يا محمد، ما حملك على ما صنعت؟ قال: الشقوة يا أمير المؤمنين، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه، وإن لي بك لظنين، أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو.
كتب أبو محمد المهلبي: أوجست مني إبعاداً لك وانعطافاً عنك: من البسيط
وهل يباعد عذب الماء ذو غصصٍ ... أو ينثني عن لذيذ الزاد منهوم

عبد العزيز بن الطارقي المغربي: من الطويل
تمنيت أن الدهر أبقاك عصمةً ... يفوت بها الراجي مدى كل أعصما
وإن عرضت دون الرضى منك نبوةٌ ... وكادت وجوه البشر أن تتجهما
وأخفق حسن الظن إلا تعلة ... يراقب حكم الود أن يتلوما
فيا للنهى هل من عذيرٍ لمشفق ... تجشم ذنب الدهر في ما تجشما
كتب ابن المعتز جواباً عن كتاب اعتذار: والله لا قابل إحسانك مني كفر، ولا تبع إحساني إليك من، ولك عندي يدان: يد لا أقبضها عن نفعك، وأخرى لا أبسطها إلى ضرك، فتجنب ما يسخطني فإني أصون وجهك عن ذل الاعتذار.
وقال ابن شهاب: دخلت على عبد الملك بن مروان في رجالٍ من أهل المدينة، فرآني أحدثهم سناً، فقال لي: من أنت؟ فانتسبت له، فقال: كان أبوك وعمك يخبان في فتنة ابن الزبير، قلت: يا أمير المؤمنين، إن مثلك إذا عفا لم يعدد، وإذا صفح لم يثرب، فأعجبه ذلك.
سعي بعبد الملك بن الفارسي إلى المأمون، فقال له المأمون: إن العدل من عدله أبو العباس، وقد كان وصفك بما وصفك به ثم أتتني الأنباء بخلاف ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي بلغك حمل علي، ولو كان كذلك لقلت نعم كما بلغك، فأخذت بحقي من الله في الصدق، واتكلت على أمير المؤمنين، في سعة عفوه، قال: صدقت.
أقبل المنصور يوماً راكباً، والفرج بن فضالة جالس على باب الذهب، فقام الناس إليه ولم يقم، فاستشاط المنصور غضباً وغيظاً، ودعا به فقال له: ما منعك من القيام مع الناس حين رأيتني؟ قال: خفت أن يسألني الله عنه لم فعلت، ويسألك عنه لم رضيت، وقد كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكن غضبه وقضى حوائجه.
قال المأمون لإسحاق بن العباس: لا تحسبني أغفلت إجلابك مع ابن المهدي وتأييدك لرأيه، وإيقادك لناره، قال: والله يا أمير المؤمنين لإجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من جرمي إليك، ولرحمي أمس من أرحامهم، وقد قال كما قال يوسف لإخوته " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " يوسف: 92 وأنت يا أمير المؤمنين أحق وارث لهذه الأمة وممتن بها. قال: هيهات، تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، وجرمك في إسلامك، وفي دار خلافتك. قال: والله يا أمير المؤمنين للمسلم أحق بالإقالة وغفران الزلة من الكافر. هذا كتاب الله بيني وبينك. يقول الله عز وجل: " سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين " إلى قوله تعالى: " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " آل عمران: 133 - 134 والناس يا أمير المؤمنين سمة دخل فيها المسلم والكافر، والشريف والمشروف. قال: صدقت، اجلس، وري بك زنادي، ولا برح بإزائي من الغابرين من أهلك أمثالك.
وقال عمرو بن عبيد للمنصور، وأراد عقوبة رجل: يا أمير المؤمنين، الانتقام عدل، والتجاوز فضل، والمتجاوز قد جاوز حد المنصف، ونحن نعيذ أمير المؤمنين أن يرضى لنفسه بأوكس الفضلين دون يبلغ أرفع الدرجتين.
قال المنصور لرجل كان واجداً عليه: تكلم بحجتك. قال: لو كان لي ذنب لتكلمت بعذري، وعفو أمير المؤمنين أحب إلي من براءتي.
كان النخعي يكره أن يعتذر إليه ويقول: اسكت معذوراً فإن المعاذير يحضرها الكذب.
رقي عتبة بن أبي سفيان في مرض موته فقال: يا أهل مصر، قد تقدمت لي فيكم عقوبات كنت يومئذ أرجو الأجر فيها، وأنا اليوم أخاف الوزر علي منها فليتني لم أكن اخترت دنياي على معادي، ولم أصلحكم بفسادي، وأنا أستغفر الله منكم وأتوب إليه فيكم، ولقد هلك من شقي بين عفو الله ورحمته.
وكان كعب بن جعيل شاعر معاوية يمدحه ويذم غيره، فقال معتذراً: من الطويل
ندمت على شتم العشيرة بعدما ... مضى واستتبت للرواة مذاهبه
فأصحبت لا أسطيع رد الذي مضى ... كما لا يرد الدر للضرع حالبه
أبو نواس: من الوافر
أقلني قد ندمت على الذنوب ... وبالإقرار عذت من الجحود
أنا استدعيت عفوك من قريب ... كما استعفيت سخطك من بعيد
فإن عاقبتني فبسوء فعلي ... فما ظلمت عقوبة مستقيد
وإن تغفر فإحسان جديد ... سبقت به إلى شكر جديد
المتنبي: من الوافر

وكيف يتم بأسك في أناسٍ ... تصيبهم فيؤلمك المصاب
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
وإنهم عبيدك حيث كانوا ... إذا تدعو لمظلمة أجابوا
وعين المخطئين هم وليسوا ... بأول معشر خطئوا فتابوا
وجرم جره سفهاء قوم ... فحل بغير جانيه العذاب
اعتذر رجل إلى المنصور فقال: أتراني أتجاوز بك حكم الله حيث يقول: " وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً " الأحزاب:5 ومن كلام روح بن زنباع: لا تشمتن بي عدواً أنت وقمته، ولا تسوءن بي صديقاً أنت سررته، ولا تهدمن ركناً أنت بنيته.
لما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي أحب أن يوبخه على رؤوس الناس، قال: فجيء بإبراهيم يحجل في قيوده، فوقف على طرف الإيوان فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال المأمون: لا سلم الله عليك ولا حفظك ولا كلاك ولا رعاك يا إبراهيم، فقال له: على رسلك يا أمير المؤمنين فلقد أصبحت ولي ثأري، والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مد له الاغترار في الأمل هجمت به الأناة على التلف، وقد أصبح ذنبي فوق كل ذنب، كما أن عفوك فوق كل عفو، فإن عاقبت فبحقك، وإن تعف فبفضلك.
قال: فأطرق ملياً ثم رفع رأسه وقال: إن هذين أشارا علي بقتلك؛ فإذا المعتصم والعباس بن المأمون، فقال له: يا أمير المؤمنين أما حقيقة الرأي في معظم تدبير الخلافة والرياسة فقد أشارا به عليك، وما غشاك إذ كان مني ما كان، ولكن الله تعالى عودك من العفو عادة جريت عليها، دافعاً ما تخاف بما ترجو، فكفاك الله يا أمير المؤمنين.
فتبسم المأمون ثم قال لثمامة: إن من الكلام ما يفوق الدر ويغلب السحر، وإن كلام عمي منه أطلقوا عن عمي قيوده وردوه إلي مكرماً. فلما رد إليه قال: يا عم صر إلى الأنس وارجع إلى المنادمة، فلن ترى أبداً مني إلا ما تحب.
وحدث محمد بن الفضل الهاشمي قال: لما فرغ المأمون من خطابه دفعه إلى ابن أبي خالد الأحول وقال: هو صديقك فخذه إليك، فقال: وما تغني صداقتي عنه وأمير المؤمنين ساخط عليه؟! أما إني وإن كنت صديقاً له لا أمتنع من قول الحق فيه، قال: له: قل فإنك غير متهم، فقال - وهو يريد التسلق على العفو عنه - : إن قتلته، فقد قتل الملوك قبلك أقل جرماً منه، وإن عفوت عنه عفوت عمن لم يعف من قبلك عن مثله. فمكث المأمون ساعة ثم قال: من الكامل المرفل
فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
خذه إليك يا أحمد مكرماً. فانصرف به. ثم كتب إبراهيم إلى المأمون قصيدته العينية التي يقول فيها: من الكامل
الله يعلم ما أقول فإنها ... جهد الألية من حنيف راكع
قسماً فما أدلي إليك بحجة ... إلا التضرع من مقر خاشع
ما إن عصيتك والغواة تمدني ... أسبابها إلا بنية طائع
يقول فيها:
وعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
إلا العلو عن العقوبة بعدما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع
وجد الرشيد على العتابي، فدخل سراً مع المتظلمين بغير إذن، فمثل بين يدي الرشيد وقال: يا أمير المؤمنين قد أدبني الناس لك ولنفسي فيك، وردني ابتلاؤهم إلى شكرك، وما مع تذكرك قناعة بأحد غيرك، ونعم الصائن لنفسي كنت لو أعانني عليك الصبر، ولذلك أقول: من الطويل
أخضني المقام الغمر إن كان غرني ... سنا خلب أو زلت القدمان
أتتركني جدب المعيشة مقتراً ... وكفاك من ماء الندى تكفان
وتجعلني سهم المصائب بعدما ... بللت يميني بالندى ولساني
فخرج وعليه الخلع وقد أمر له بجائزة.
وقال العتابي لرجل اعتذر إليه: إن لم أقبل عذرك كنت ألأم منك، وقد قبلت عذرك، فدم على لوم نفسك في جنايتك، تزد في قبول عذرك والتجافي عن زلتك.
وأنكر على صديق له شيئاً فكتب إليه: إما أن تقر بذنبك فيكون إقرارك حجة علينا في العفو عنك، وإلا فطب نفساً بالانتصاف منك فإن الشاعر يقول: من البسيط

أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزنا ... عنه فإن جحود الذنب ذنبان
عاتب المهدي مطيع بن أياس في شيء بلغه عنه، فقال له: يا أمير المؤمنين إن كان ما بلغك عني حقاً فما تغني المعاذير، وإن كان باطلاً فما تضر الأباطيل، فقبل عذره وقال: إنا ندعك على جملتك ولا نكشفك.
لما دخل الكميت بن زيد على هشام بن عبد الملك معتذراً مما كان طلبه لأجله، سلم ثم قال: يا أمير المؤمنين، غائب أناب، ومذنب تاب، محا بالإنابة ذنبه، وبالصدق كذبه، والتوبة تذهب الحوبة، ومثلك حلم عن ذي الجريمة، وصفح عن ذي الريبة، فقال له هشام: ما الذي نجاك من الغوي فقال: صدق النية في التوبة. قال: ومن سن لك الغي وأورطك فيه؟ قال: الذي أغوى آدم فنسي ولم يجد له عزماً.
كان أبو نخيلة منقطعاً إلى مسلمة بن عبد الملك، فلما جاءت دولة بني هشام خافهم وبعد حتى علم أن السفاح قد عفا عمن هو أعظم جرماً منه وأكبر محلاً، فلما وقف بين يديه سلم عليه وجعا وأثنى، ثم استأذن في الإنشاد، فقال له: ومن أنت؟ قال: عبدك يا أمير المؤمنين أبو نخيلة الحماني، فقال له: لا حياك الله ولا قرب دارك يا نضو السوء، ألست القائل في مسلمة بن عبد الملك بالأمس: من الطويل
أمسلم إني يا ابن كل خليفة ... ويا جبل الدنيا ويا ملك الأرض
أما والله لولا أني قد أمنت نظراءك لما ارتد إليك طرفك حتى أخضبك بدمك. فقال: من الرجز
كنا أناساً نرهب الأملاكا ... إذ ركبوا الأعناق والأوراكا
ثم ارتجينا زمناً أباكا ... ثم ارتجينا بعده أخاكا
ثم ارتجيناك لها إياكا ... وكان ما قلت لمن سواكا
زوراً فقد كفر هذا ذاكا
فتبسم أبو العباس وقال له: أنت شاعر وطالب خير، وما زال الناس يمدحون الملوك في دولتهم، والتوبة تكفر الخطيئة، والظفر يزيل الحقد، وقد عفونا عنك، واستأنفنا الصنيعة لك. وأنت الآن شاعرنا فتسم بذلك لتزول عنك سمة بني مروان فقد كفر هذا ذلك، كما قلت.

نوادر في الاعتذار والاستعطاف
قال المدائني: ورد على المنصور كتاب من مولى له بالبصرة أن سلماً ضربه بالسياط، فاستشاط المنصور غضباً وقال: أعلي يجترئ سلم؟ والله لأجعلنه نكالاً يتعظ به غيره. فأطرق جلساؤه جميعاً، وأراد ابن عياش أن يعتذر عنه، وكان أجرأهم على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين قد رأينا من غضبك على سلم ما شغل قلوبنا، وإن سلماً يضرب مولاك بقوته ولا قوة أبيه، ولكنك قلدته سيفك، وأصعدته منبرك، فأراد مولاك أن يطامن منه ما رفعت، ويفسد ما صنعت، فلم يحتمل له ذلك. يا أمير المؤمنين إن غضب العربي في رأسه، فإذا غضب لم يهدأ حتى يخرجه بلسان أو يد، وإن غضب النبطي في استه فإذا خرئ ذهب عنه غضبه، فضحك المنصور وكف عن ذكر سلم.
قدم إلى عبد الله بن علي أسير من بني أمية فأمر بقتله، فلما وقف على رأسه بالسيف ضرط، فوقع السيف من يد الرجل المأمور بقتله، فضحك عبد الله وعطف عليه وقال: خلوا سبيله. فقال الأموي: وهذا أيضاً من الأدبار، كنا ندفع الموت بأسيافنا، صرنا ندفعه بأستاهنا.
بلغ أبا إسحاق النحوي المعروف بالهدهد أن أبا إسحاق الزجاج عاتب عليه، وكان الهدهد أعمى، فقال لقائده: قفني على حلقة الزجاج في الجامع، فوقفه فصاح به وقال: يا أبا إسحاق أنت مني بمرأى أو مسمع؟ فقال: نعم، فقال: أنشدني وإياك المبرد: من الرمل المجزوء
غضبت هند وصدت ... بعرة في المد الأكبر
ثم انصرف.
اعتذر رجل إلى يحيى بن خالد فأساء، فقال له يحيى: ذنبك يستغيث من عذرك.
اعتذر رجل إلى ابن أبي خالد فأساء، فقال لأبي عبادة: ما تقول فيه؟ قال: يوهب له جرمه، ويضرب لعذره أربعمائة.
شاعر: من الكامل
ارفق بعبدك إن فيه بلادةً ... جبلية ولك العراق وماؤه
تم الباب السابع عشر في المدح والثناء والشكر، والحمد لله وحده، وصلواته على نبينا محمد وآله وسلم.
الباب الثامن عشر
في التهاني
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مبدي الأمم ومعيدها، ومهنئ النعم ومفيدها، ومعطي الرغاب ومجزلها، ومسني المواهب ومفضلها، جاعل الخير والشر لعباده بلوى وفتنة، وقاسمها بينهم اختباراً ومحنة، فجازع شقي وصابرٌ سعيد، وجاحد قصي وشاكر مستزيد، أمر المؤمنين بالتواصل والتزاور، ونهاهم عن التقاطع والتدابر، وندبهم إلى التساهم في الرخاء، والاشتراك في السراء، ليشكر كل واحد منهم النعمة في أخيه، ويجمعهما الوفاق في المحبوب والمكروه.
أحمده على تهنئة العطاء حمداً يبلغ رضاه، وأشكره شكر معترف بأياديه ونعماه، وأسأله الصلاة على رسول المصطفى الهادي، ونبيه الداعي إلى سبل الرشاد، وعلى آله المرتضعين درة التوفيق والسداد، المتعاطين بينهم كأس التهاني بالصفاء والاتحاد، وسلم تسليماً كثيراً.
وفيه فصول تسعة: الفتوح - الولاية - الخلع - الولد - النكاح - المواسم - الأياب - الشواذ - النوادر.
قد جاء في كتاب الله تعالى ما يماثل هذا المعنى ويضاهيه، ويتضمن البشرى بما أتيح للسعيد من مآل الخير، كقوله سبحانه حكاية عن أهل الجنة " وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " فاطر: 34. وكقوله تعالى: " وقال لهم خزنتها سلامٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين " الزمر: 73. " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " الأعراف: 43. وقوله عز وجل: " يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم " التوبة: 21.

الفصل الأول
في الفتوح
كتب طاهر بن الحسين إلى المأمون لما فتح بغداد وقتل محمداً الأمين: أما بعد، فإن المخلوع وإن كان قسم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، لقد فرق الله بينه وبينه في الولاية والحرمة، لمفارقته عصمة الدين، وخروجه عن الأمر الجامع للمسلمين. قال الله عز وجل: " يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " هود: 46 ولا صلة لأحد في معصية الله، ولا قطيعة في ذات الله. وكتبت إلى أمير المؤمنين وقد قتل المخلوع، ورداه الله برداء نكثه، وأحمد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له ما ينتظر من صادق وعده، والحمد لله المتولي لأمير المؤمنين بنعمته، والراجع إليه بمعلوم حقه، والكايد له ممن ختر عهده ونكث عقده، حتى رد له الألفة بعد تفرقها، وأحيا الأعلام بعد دروس أثرها، ومكن له في الأرض بعد شتات أهلها، والسلام وبعث إليه بالبردة ورأس الأمين، وكتب إليه " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " . آل عمران: 26.
وكتب المهلب إلى الحجاج في حرب الأزارقة: أما بعد، فالحمد لله الذي لا تنقطع مواد نعمه من خلقه، حتى تنقطع مواد الشكر. وإنا وعدونا كنا على حالتين، يسرنا فيهم أكثر مما يسوءنا، ويسوءهم منا أكثر مما يسرهم. فلم يزل الله عز وجل يزيدنا وينقصهم، ويعزنا ويذلهم، ويؤيدنا ويخذلهم، ويمحصنا ويمحقهم، حتى بلغ الكتاب أجله " فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " الأنعام: 45.
وكتب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة حين ولي العراق من قبل ابن الزبير يخبره بهزيمة الخوارج: أما بعد، فنا مذ خرجنا نوم هذا العدو في نعم من الله متصلة علينا، ونقمة من الله متتابعة عليهم، نقدم ويحجمون، ونحل ويرحلون، إلى أن حللنا بسوق الأهواز، والحمد لله رب العالمين.
وكتب إليه بعد هذا الكتاب: أما بعد، فإنا لقينا الأزارقة المارقة بحد وجد، وكانت في الناس جولة، ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر بنيات صادقة، وأبدان شداد، وسيوف حداد، فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا دريئة رماحنا، وضرائب سيوفنا، وقتل الله أميرهم ابن الماحوز، وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها، والسلام.
كاتب في فتح: نعمة جسيمة جمع الله بها الألفة، وأمن بها من الخلاف والفرقة، وجعل لأهل دينه سكناً وثقة، وأمناً وعصمة، فلم تعر منها خاصة ولا عامة، ولم تخل من سعادتها قاصية ولا دانية.

فصل من كتاب بذكر فتح: فأبى إلا جماحاً في غوايته، وتمادياً في ضلالته وتولياً بركنه، وتعززاً بحصنه، فلما سفه نفسه، وجهل حظه، وغمط العافية المعرضة له، وتبينت أن لا فيئة عنده يراجع بها رشده، فعلت. ولجأ إلى مكان كذا مقموعاً قد أكذب الله ظنه، وأحاط به مكره،وما الله بظلام للعبيد، فالحمد لله الفتاح العليم، المنان الكريم، ذي الفضل العظيم والبلاء الجسيم، الذي أنجز وعده، ونصر حقه، حمداً يزيد ولا يبيد دون أداء حقه وبلوغ ما يجب له.
آخر في مثله: فلما التقت الفئتان، وتدانى الفريقان، أتبعتهم الموعظة، وجددت لهم المعذرة، ليستبين جائر، ويهتدي حائر، ويقبل مدبر، ويزداد مستبصر، فمجتها أسماعهم، ولفظتها قلوبهم، وغلبهم على أنفسهم سفه رأيهم، وصادق القول عليهم، وخرجوا يدعون إلى البراز، فأخرجت إليهم أندادهم أولياء أمير المؤمنين، موقنين أنهم من أمرهم بين حسنيين، ومن قضاء الله بين خيرتين، عاجل الفلج والظفر، وآجل السعادة وكرم المنقلب، فصدقوهم القتال في المجالدة، ونشبت الحرب وحمي وطيسها، ودارت على قطبها، ودرت على أخلافها، وجال خطامها، فمن ضارب ونابل وطاعن، وكف نادرة، وقدم بائنة، ومضرج بدمه، ومغرر بنفسه، " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب " الحشر: 4 أحمد بن سعد من كتاب تهنئة: وواصل لك الفتوح شرقاً وغرباً، وطال رقاب الأعداء سلماً وحرباً، وقاد لك أزمة الملك طوعاً وكرهاً ورعباً ورهباً.
آخر: وإني لما آثرت الأناة في أمره، والإعذار في الموعظة إليه، وعاودت إنذاره والاحتجاج عليه، وعرفته نوازل العبر وعواقب البطر، وصرفت له القول في الترغيب والترهيب، ووصلت له الوعد بالوعيد، فلما أبى إلا جماحاً في غيه، ثانياً لعطفه، توكلت على الله في مناجزته، فزحفت إليه في من اخترته، وبرز إلي في أصحابه، فما استقروا في موقفهم حتى زلزل الله أقدامهم ونخب قلوبهم، وأسكن الرعب حوباءهم، فنكصوا على أدبارهم، ووضع الأولياء سلاحهم حيث شاءوا منهم، وأتوا عليهم من عند أخرهم، وأخذ الحائن أسيراً مقهوراً من غير عهد يعصمه، ولا عقد يحقن دمه، فالحمد لله الفتاح العليم، المنان الكريم، الذي لا يعجزه شيء أراده، ولا يتكاءده أمر طلبه، حمداً يوازي آلاءه، ويكافئ نعماءه.
لما فتح الرشيد هرقلة عاد إلى الرقة فدخلها آخر يوم من شهر رمضان، وعيد، ثم جلس للشعراء، فبدرهم أشجع السلمي فأنشده: من البسيط
لا زلت تنشر أياماً وتطويها ... تمضي بها لك أيام وتمضيها
مستقبلاً زينة الدنيا وبهجتها ... أيامها لك نظم في لياليها
العيد والعيد والأيام مقبلةٌ ... إليك بالنصر معقودٌ نواصيها
أمست هرقلة تهوي من جوانبها ... وناصر الدين والإسلام يرميها
ملكتها وقتلت الناكثين بها ... بنصر من يملك الدنيا وما فيها
ما روعي الدين والدنيا على قدر ... بمثل هارون راعيه وراعيها
فأمر له بألف دينار وقال: لا ينشدني أحد بعده، فقال أشجع: والله لأمره أن لا ينشده أحد بعدي أحب إلي من صلته.
ولما فتح المعتصم عمورية أكثر الشعراء ذكر هذا الفتح، وهو من أعظم فتوح الإسلام، فمن ذلك قول الحسين بن الضحاك: من الكامل
قل للألى صرفوا الوجوه عن الهدى ... متعسفين تعسف المراق
إني أحذركم بوادر ضيغمٍ ... درب بحطم موائل الأعناق
متأهب لا يستفز جنائه ... زجل الرعود ولامع الإبراق
لم يبق من متعرمين تواثبوا ... بالشام غير جماجمٍ أفلاق
من بين منجدلٍ تمج عروقه ... علق الأخادع أو أسير وثاق
وثنى الخيول إلى معاقل قيصرٍ ... يختال بين أحزة ورقاق
يحملن كل غشمشم متغشمٍ ... ليثٍ هزبرٍ أهرت الأشداق
حتى إذا أم الحصون منازلاً ... والموت بين ترائب وتراق
هرت بطارقها هرير قساور ... بدهت بأكره منظر ومذاق
ثم استكانت للحصار ملوكها ... ذللاً وناط حلوقها بخناق

هربت وأسلمت الصليب حماتها ... لم يبق غير حشاشة الأرماق
ومن ذلك قول أبي تمام الطائي، وهي من عيون شعره، اقتصرت منها على ما يتعلق بالفتح، وأولها: من البسيط
السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعةً ... بين الخمسين لا في السبعة الشهب
ومنها:
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به ... نظم من الشعر أو نثر من الخطب
فتح تفتح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أثوابها القشب
يا يوم وقعة عمورية انصرفت ... عنك المنى حفلاً معسولة الحلب
أبقيت جد بني الإسلام في صعدٍ ... والمشركين ودار الشرك في صبب
أم لهم لو رجوا أن تفتدي جعلوا ... فداءها كل أم حرة وأب
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدت صدوداً عن أبي كرب
بكر فما افترعتها كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النوب
من عهد اسكندر أو قبل ذلك قد ... شابت نواصي الليالي وهي لم تشب
حتى إذا مخض الله السنين لها ... مخض الحليبة كانت زبدة الحقب
أتتهم الكربة السوداء سادرة ... منها وكان اسمها فراجة الكرب
جرى لها الفأل برحاً يوم أنقرة ... إذ غودرت وحشة الساحات والرحب
لما رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الجرب
ومنها:
لم يغز قوماً ولم ينهد إلى بلدٍ ... إلا تقدمه جيش من الرعب
لو لم يقد جحفلاً يوم الوغى لغدا ... من نفسه وحدها في جحفل لجب
رمى بك الله برجيها فهدمها ... ولو رمى بك غير الله لم تصب
من بعد ما أشبوها واثقين بها ... والله مفتاح باب المعقل الأشب
لبيت صوتاً زبطرياً هرقت له ... كأس الكرى ورضاب الخرد العرب
كانت الروم قد فتحت زبطرة، فصاحت امرأة من المسلمين بها: وا محمداه، وا معتصماه! فلما ورد الخبر إلى المعتصم ركب لوقته يوم الشام وصاح: لبيك، وألح على حصون الروم حتى فتح أنقرة وعمورية.
عداك حر الثغور المستضامة عن ... برد الثغور وعن سلسالها الحصيب
ومنها:
لم ينفق الذهب المربي بكثرته ... على الحصى وبه فقر إلى الذهب
إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
خليفة الله جازى الله سعيك عن ... جرثومة الدين والإسلام والحسب
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التعب
إن كان بين صروف الدهر من رحمٍ ... موصولة أو ذمام غير منقضب
فبين أيامك اللائي نصرت بها ... وبين أيام بدرٍ أقرب النسب
وللصابي مكاتبات في الفتوح تدل على مكانه من الكتابة والبلاغة، وفيها إطالة كرهت لها أن تنقل على جهتها، فأوردت منها ما جاز، وتخيرت من فصولها الأوجز والأفصح:

فمن ذلك كتابه عن صمصام الدولة إلى فخرها يذكر هزيمة القرامطة وفتح الكوفة: كتابي - أطال الله بقاء مولانا - والسلامة لمولانا أمير المؤمنين شاملة، والكفاية بحوزته كاملة، فظله على الأمير السيد وعلى ظليل، ورأيه فينا حسن جميل، وأنا للنعمة في ذلك مبدٍ معيد، ومنها بالشكر مستمد ومستزيد، والحمد لله رب العالمين. وإذا قضى الله لي - أطال الله بقاء مولانا - بعلو يد على مطاوليها، وظهور راية على منازليها،وحلول نقمة بالمتمرسين بي، وامتناع جانب على المتطرفين لي، رأيت أن الموهبة في ذلك بادئة به قبلي، وواصلة إليه ثم إلي، لتمسكي بطاعته وولائه، واستئثاري على الأقران بحسن معتقده ورائه، ولأن الحضرة التي أنا مدبرها دار أمير المؤمنين وحماه، وظل السلطان وذراه، فبصلاحها تصلح الأوساط والأطراف، وبصيانتها تصان الأثباج والأكناف؛ هذا إلى اجتماعي معه في ذروة مفخرنا الأفخم، وذؤابة بيتنا الأعظم، الذي حصنه الله بجلالة الأسلاف، ونجابة الأخلاف، وكرم القديم، وشرف الحديث، وتكفلي بحياطة ما يليني من الممالك التي ينادى بشعاره في أرجائها، وتمتنع بذكره على أعدائها، وجميع هذه المنح كالثمرات المجتناة من أرجائها، وتمتنع بذكره على أعدائها. وجميع هذه المنح كالثمرات المجتناة من تقوى الله وطاعته، والتحدث بآلائه ونعمه، والإقرار بالضعف لولا أن أيدنا الله، وبالضعة لولا أن أنهضنا، واللياذ به في كل أمر أهمنا وملم طرقنا، وعلى حسب هذه الاستكانة منا له، والإخبات لكبريائه وعظمته استكبار أعدائنا حسب هذه الاستكانة منا له، والإخبات لكبريائه وعظمته استكبار أعدائنا واستعلاؤهم، وسعيهم علينا وإجلابهم، ومخالفتهم في معاندتنا ومجاذبتنا إرادة الله سبحانه فينا، إذ مكن لنا في الأرض، وفضلنا على كثير من الخلق، لا جرم أنه عز وجهه يحكم لنا عليهم حكومةً باطنها باطن عدل وإنصاف، وظاهرها ظاهر حيف وإجحاف، لأن العاقبة تكون لنا على المداومة لا المداولة، والدائرة تدور عليهم على المواترة لا على المناوبة، وكان الأولى بهم إذ لم يكفهم العلم والمعرفة أن تكفهم العادة للجارية، وإذ لم يحجزهم التأمل والروية أن تحجزهم التجربة المتكررة. وكفى بنا وبهم استطالة عليهم منا، وانحطاطاً منهم عنا، أنا على ذلك نكافحهم مراقبين لله تعالى، ويواجهونا محتربين على الله، حتى كأن تلك العادة لهم جرت لا لنا، وكان بأس الله حل بنا لا بهم، فلهذا تنجلي عواقب ما بيننا وبينهم عن قهر جميعهم، وفض جموعهم، والاستظهار عليهم، والإحاطة بهم. فالحمد لله رب العالمين حمداً عائداً آخره إلى الابتداء، ومستمراً لا إلى غاية وانتهاء. وذلك أبلغ ما يقوله ذو الأجل المحدود، في شكر المنعم المتفرد بالخلود. ووفر الله حظ مولانا من دعائي هذا وكل دعاء صالح سمع مرفوعه وأجاب مسموعه، بمنه وطوله، وقدرته وحوله.

وكان إسحاق وجعفر الهجريان، ومن وراءهما من الأهل والأقران، أظهروا ما أظهر أشياخهم قبلهم من شعار المسلمين، وأقاموا الدعوة لمولانا أمير المؤمنين، وعقد بيني وبينهم ذمام اقتضائي والوفاء والمحافظة عليه، والرجوع في كل ما يجري بيني وبينهم إليه. فلما كان مذ مديدة بلغني أن هذين المسمين منهم سارا إلى البصرة في جموع أكثفاها، وطوائف حشراها، ثم نحيا إلى الكوفة، فقدرت أنهما مجتازان عليها إلى بعض الفلوات، لمطالبة سكانها من العرب الذين على طاعتهم بالأتاوات، على عادة لهم بذلك قد عرفت، وسنة قد ألفت، فلم يكن عندي من الاهتمام بأمرهما والاستعداد لهما إلا ما يجب للضيف الطارف والزائر الوافد، من مكاتبة العمال بإحسان عشرتهما وإجمال معاملتهما، وإقامة الأزواد لهما ولمن في جملتهما. فحين أناخا من الكوفة بالفناء، وخالطا من كان بها من العمال والأولياء، تأولاً بصغائر من الأمور لا عذر للمعتذر بها، ولا حجة للمعول عليها، فخلعا الربق المحيطة بالأعناق، وأبديا الصفحة بالعناد والشقاق، وغيرا الخطبة عن رسمها، وأقاماها على خلاف واجبها، وانتميا إلى طاعة بعض الأهل تمويهاً على الأولياء، واجتذاباً لهم إلى الأزورار والالتواء، ولم يعلما أنهما في ذلك يستهيجانهم فضل استهاجة، ويستزيدان من استثارتهم لدفعهما لما يعتقدونه في طاعتي من مصارمة كل مصارمة كل مصارم لي وإن مس نسبه، وعداوة كل معاد وإن قرب منتسبه، ولأنهم كانوا يلقونها لو تركا هذا الاعتزاء، واطرحا هذا الانتماء، بالقليل من الفكر فيهما، والكثير من الاستهانة بهما، فكأنهما بما لجآ إليه من تلك الدعوى الباطلة، إنما استكثرا من حتفهم، واستوفرا من بأسهم، كل ذلك زلل في الرأي وخلل، وخطأ في التدبير وخطل، فما تركت مع أول معرفتي بما فعلاه التمسك بالمعتقد الصحيح، والجري على الخلق السجيح، أن تقدمت إلى أبي الريان حمد بن محمد أدام الله عزه بمكاتبتهما بما دعيا فيه إلى رشدهما، واستنزلا به عن مركب غيهما، وعرفا أني أسعفهما بشيء إن كانا يسألانه، وأجيبهما إلى ما تجوز الإجابة إليه مما يلتمسانه، إذا تلاقيا ما أقدما عليه، وعفيا على ما أجريا إليه، فما ازدادا بذلك إلا إصراراً على المنافرة، واستبصاراً في المجاهرة، اغتراراً بقوتهما، وكانت ألوفاً من الرجال، وبمن التف إليهما من عشائر السواد ودعار البلاد، وهم نحو عشرين ألف رجل. فأمرت حينئذ أبا الريان بالانتقال في مخاطبتهما عن التأنس إلى التحمس، وعن التلطف إلى التعسف، تقديماً للنذر ونبذاً للعذر، زمجرة الليث قبل الافتراس، ونضنضة الصل قبل الانتهاس، وانباض النابل للنذير، وإيماض السائف للتحذير، فأبياً إلا تهافتاً على الشر، كتهافت الفراش على الشهاب، وهجوماً على الأولياء كهجوم النقد على ليوث الغاب.
منها: وتقدم أبو مزاحم بجكم الحاجب في عقد جسر على الفرات حتى عبر، فاصطك الجمعان، وتطاعنا وتضارب الفريقان، واشتدت المعركة، واحتدمت الملحمة، ثم أسفرت العاقبة، وانجلت العجاجة، عن فقد ابن الجحيش هذا مرتثاً بضربات قد أثخنته، وقتل ألوف من أصحابه، وأسر كثير من أبطاله، وحصول ثلاثة آلاف رأي من كراعهم، وثلاثة آلاف رأس من جمالهم في أيدي الأولياء وأتباعهم، سوى ما استبدت به البادية وهو أكثر من ذلك، وتفرق الباقون في جهات المهارب، واعتصموا بالغياض والأنهار والمسارب، ووصل الفل إلى إسحاق وجعفر، وقد كانا بقيا في قل من عسكرهما، لتوجيههما جماهيره في هذه الحرب، فما تمالكا أن انهزما ناكصين خائبين، وضربا في البلاد مذعورين هاربين، وقيل إن مبلغ من نجا معهما من الفرسان ستمائة فارس، وصار من سواهم من تلك الجموع العظيمة والأحزاب الكثيرة بين أسير مكبل، وقتيل مرمل، ومستأمن داخل في الذمة، وتائب مستقيل من العثرة، وراجل لا تحمله رجلاه، ولا يبلغانه النجاه، وغريق في الفرات والأنهار لم يعرف خبره ولا بان أثره.
ومنها:

فالحمد لله رب العالمين حمداً لا يقصر عن قضاء حقه وأداء فرضه، واستحقاق مزيده واستنجاز وعده، وإياه أسأل أن يجعل ما أنا مصرفه من رايات مولانا أمير المؤمنين وسيدنا الأمير منصوراً على كل صاد عن الحق بوجهه، وشامخ عليه بأنفه، ومتجاوز عنه بطرفه، ومخالف له بسره وجهره، ومجلب عليه بخيله ورجله، إن ذلك إليه وبيده، وهو المأمول المرجو بفضله وطوله، وقوته وحوله. فإن رأى مولانا أن يضيف هذه النعمة إلى نعم الله عنده المطيفة به، ومواهبه الراهنة عنده وبعدها من آيات إقباله وعلامات نصره، ويزيدها في محامد أوليائه، ومكايد أعدائه، ويأمر بإظهارها على ما جرت العادة به في أمثالها، ليأخذ منها المخالص حصته، ويعالج بها المنافق غصته، وأجابني بما أسكن إليه من أخباره وأحواله، وأمتثله من أوامره ونواهيه، فعل، إن شاء الله تعالى.
وكتب عن الوزير أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين بن سعدان إلى الأمير فخر الدولة عند فتح الموصل، وانهزام باد الكردي عنها: كتابي - أطال الله بقاء مولانا، ومولانا الأمير صمصام الدولة جار على أفضل حال جميع الله بينهما فيها على تمام عز ونصر، ونفاذ نهي وأمر، وعلو كلمة وراية وسبوغ موهبة ونعمة، وشكر لله يستزيده من فضله، ويستدر المادة من طوله - وأنا جارٍ في ما أحمله من أعباء خدمتها، وأتولاه من معاظم شؤونها، على أجمل ما عود الله وزراء هذه المملكة المناصحين لها، وأولياءها المحامين عنها، من هداية إلى مراشد الأمور، وتوفيق لصواب التدبير، والحمد لله رب العالمين.
وقد جعل الله هذه الدولة الشريفة - أطال الله بقاء مولانا الأمير الجيل - مختوماً لها بقوة الأسباب، وثبات الأطناب، وعز الأولياء، وذل الأعداء، فلم تلم بها ملمة من ملمات الزمان إلا خف حملها، وقل لبثها، وقرب الخروج منها، وحسنت العاقبة فيها، ثم يكون مآلها إلى عز يتجدد ويتمهد، ونصر يتكرر ويتردد، وثيقة من الله لا تنقض عقودها، ولا تنكث عهودها، وعلى حسب ذاك تكون الجولة الجائلة من عدوها في قصر المدة، وانحلال العقدة، والإفضاء إلى عواقب الهلاك والبوار، وغايات الخذلان والإدبار. فأدام الله ذلك ولا قطعه، وتممه ولا انتقصه، وألهمنا الشكر الذي هو قيد النعم وشكالها، وحبسها وعقالها، ولا أخلانا من مواظبة عليه يتنجز بها المزيد المضمون منه، إنه جل وعز بذلك جدير، وعليه قدير. وقد عرف مولانا حال باد الكردي في كفر النعمة وغمطها، وإنكار الصنيعة وجحدها.
ومنها: وكان مولانا صمصام الدولة يتأدب في أمره بأدب الله عز وجل في دعائه إلى رشده، والصدوف به عن غيه، وتقديم الإعذار إليه، والأخذ بالوثيقة عليه، طمعاً في أن يعطف إلى ما يعطف إليه التائب المنيب، والمراجع المصيب، والنازع عن الغواية، والعادل إلى سبيل الهداية، حتى إلى تقدمت النذر، وبلغ الإملاء إلى الحد المنتظر، استأنف به طريقاً أخرى في الصمد لاستئصاله، وتنجز عادة الله في أمثاله، فجرد إليه عسكراً استخلف صاحب الجيش أبا حرب زيادة بن سهلويه واستظهر في تكثيف عدده وتوفير عدده؛ فنهض إلى عدو الله اللعين، متوكلاً على الله رب العالمين، ومستشعراً شعار الدولة التي عودها الله إعزاز المرامي عنها والمحامي من ورائها، وإذلال المحاد لها والساعي عليها. وورد في هذا الوقت كتابه من الموصل بأنه افتتحها ودخلها بعد حروب شديدة اضطرمت، ومعاركات متصلة احتدمت، وثبات من ذلك الحائن للمقارعة، واستبسال في المجاهدة والمصارعة.
ومنها:

ونجا بحشاشته معتداً أن سلم بها من أعظم غنائمه، ولا سلامة لمثلها مع عظيم ما نزل عليها وأحاط بها، ووقع الاستظهار بإنفاذ من يقتص أثره ويأتي بإذن الله عليه، والحمد لله رب العالمين حمداً يكون لإنعامه مجازياً، ولإحسانه موازياً، وإن كانت آلاؤه عز وجل لا تجازى ولا توازى، ولا تجارى ولا تبارى، ولا تقابل إلا بالانحطاط لها، وخفض الجناح دونها، والاعتراف بالعجز عن مداها، والقصور عن منتهاها. وهنا الله مولانا بهذا الفتح المنسوب إليه، المقصور عليه، والمستثمر من بركة أيامه، المستنتج عن إقبال جده. وأطال الله بقاءه وبقاء مولانا صمصام الدولة لعدو يرغمانه، وولي يعزانه، وحجة حق يثقبان زنادها، ويرفعان عمادها، وشبهة باطلٍ يطفئان نارها، ويخفضان منارها، وجمع بينهما في هذه النعمة في أمثال كثيرة لها، لا يزالان يشتركان فيها، ويتناصفان الموهبة منها، ويتراجعان البشائر والتهاني بها، بمنه وقدرته.
وكتب عن صمصام الدولة أبي كاليجار إلى فخر الدولة أبي الحسن في معنى ما جرى عليه من أمر أسفار بن كردويه عند عصيانه سنة خمسين: من أعظم النعم - أطال الله بقاء مولانا - قدراً، وأسيرها ذكرا، وأسناها خطراً، وأحسنها أثراً، نعمة سكنت ثورة، وأطفأت فورة، وعادت على الناس بجميل الصنع، وجليل النفع، وتظاهر الأمور، وصلاح الجمهور، فتلك التي يجب أن يكون الشكر عليها مترادفاً، والاعتداد بها متضاعفاً، بحسب ما أزالت من المضرة، وجددت من المسرة، وأماطت من المحذور، ويسرت من المأمول. وحقيق على الناس أن يعرفوا حقها، ويوفوا من حمد الله قسطها، ويتنجزوا وعده الحق في إدامتها وإطالة الإمتاع بها. فالحمد الله على أن جعلنا ممن يعرف ذلك ويهتدي إليه، ويعتقده وينطوي عليه، ويؤدي فرض الاجتهاد في الاستدامة له والاستزادة منه، وأن خصنا من هذه النعم بذوات الفضل السابغ، والظل الماتع، الجامعة لكبت العدو ومساته، وإبهاج الولي ومسرته، وهو المسؤول - جل اسمه وعز ذكره - ألا يسلبنا ما ألبسناه من سرابيلها، وأحرزناه من فضل ذيولها، وعودنا من جلالة أقدارها، وتعاظم أخطارها، ولا يعدمنا معونة منه على بلوغ أقصى الوسع في الاعتداد بها، ومنتهى الطوق في النشر لها، بمنه وطوله وقوته و حوله.
وقد عرف مولانا حال أسفار بن كردويه في اصطناع الملك السعيد عضد الدولة إياه، وجذبه بضبعه من مطارح الأصاغر إلى منازل الأكابر، ومن مزاجر المتأخرين إلى مراتب المتقدمين، حتى جمت عنده الأموال، وتأثلت له الأحوال، ووطئ عقبه من الأولياء من هم أكرم منه حسباً، وأفضل أماً وأباً، وأنني حملته على حكم الرعاية الذي لا يزال يحمل عليه، من تظاهر الصنيعة لديه، وتقادم الإحسان إليه، إيفاء به على تلك الغاية، وزيادة له في الإيجاب والعناية، وإفاضة لسجال المواهب عليه حالاً بعد أخرى، وثانية تلو أولى، فكان يقابل جميع هذه الحقوق بالنكث والنقض، والكفر المحض، إرصاداً للدولة، واستعداداً للوثبة، وإسراراً للغيلة، وإعمالاً للحيلة، وإفساداً لسفهاء الرجال الذين علم منهم ضعف النحائز ولؤم الغرائز، والإسفاف إلى الدنية، والإيضاع في الفتنة، وتمادت بي وبه الأيام في تناولي إياه بالتسكين والتأنيس، ومضيه على غلوائه في الإدهان والتلبيس، إلى أن بلغت عقاربه في دبيبها إلى الأخ أبي نصر، فصادف منه حدثاً غراً، وصبياً غمراً، فأزاله عن سبيل الرشد، واستزل قدمه عن مقام السداد، وساعده على جميع ذلك أوثق كتابي كان عندي، وأقدمهم رتوعاً في نعمتنا، وأولاهم بالوفاء لنا، لولا أن البطنة نزلت به، والشقوة انتحت له، فلان بن فلان.
منها:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19