كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون

ومن الحقد البليغ ما فعله عبد الله بن الزبير بأخيه عمرو، وكان عمرو بن الزبير قد شايع بني أمية، وهدم دور قوم في هواهم، فلما ولي عبد الله ابن الزبير أخوه واستولى على الحجاز، أقام عمراً للناس ليقصوا منه، فبالغ كل ذي حقد عليه في ذلك، وتدسس فيه من يتقرب إلى أخيه، وكان أخوه عبد الله لا يسأل من ادعى عليه شيئاً بينة، ولا يطالبه بحجة، وإنما يقبل قوله ودعواه، ثم يدخله إلى السجن ليقتص منه، فكانوا يضربونه والقيح يتنضح من ظهره وأكتافه على الأرض والحائط، لشدة ما يمر به، ثم يضرب وهو على تلك الحال، ثم أمر بأن ترسل عليه الجعلان، فكانت تدرب عليه فتثقب لحمه وهو مقيد مغلول يستغيث فلا يغاث، حتى مات على تلك الحال. فدخل الموكل به على أخيه عبد الله بن الزبير وفي يده قدح لبن يريد أن يتسحر به وهو يبكي، فقال له: مالك، أمات عمرو؟ قال: نعم، قال: أبعده الله، وشرب اللبن ثم قال: لا تغسلوه ولا تكفنوه وادفنوه في مقابر المشركين، فدفن فيها.

حدث شيخ من بني نبهان قال: أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال، فخرج منهم رجل بعياله حتى أنزلهم الحيرة، وقال لهم: كونوا قريباً من الملك يصبكن من خيره حتى أرجع إليكن، وآلى ألية لا يرجع حتى يكسبهن خيراً أو يموت؛ فتزود زاداً ثم مشى يوماً إلى الليل فإذا هو بمهر مقيد يدور حول خباء، فقال: هذا أول الغنيمة، فذهب يحله ويركبه، فنودي خل عنه واغنم نفسك، فتركه ومضى، فمشى سبعة أيام حتى انتهى إلى عطن إبل مع تطفيل الشمس، وإذا خباء عظيم وقبة أدم، قال: فقلت في نفسي: ما لهذا الخباء بد من أهل، وما لهذه القبة بد من رب، وما لهذا العطن بد من إبل، فنظرت في الخباء فإذا شيخ كبير قد اختلفت ترقوتاه كأنه نسر، قال: فجلست خلفه، فلما وجبت الشمس إذا فارس قد أقبل لم أر فارساً قط أعظم منه، ولا أجسم، على فرس مشرف، ومعه أسودان يمشيان جنبيه، وإذا مائة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل وبركن حوله، فقال لأحد عبديه احلب فلانة ثم اسق الشيخ، فحلب في عس حتى ملأه ووضعه بين يدي الشيخ وتنحى، فكرع فيه الشيخ مرة أو مرتين ثم نزع، وثرت إليه فشربته، فرجع إليه العبد فقال: يا مولاي شربه حتى أتى على آخره، ففرح بذلك وقال: احلب له فلانة، فحلبها ثم وضع العس بين يدي الشيخ، فكرع فيه كرعة ثم نزع، فثرت إليه فشربت نصفه وكرهت أن آتي على آخره فأتهم، فجاء العبد وأخذه وقال لمولاه: قد شرب وروي: قال: دعه، ثم أمر بشاة فذبحت وشوى للشيخ منها، واكل هو وعبداه، فأمهلت حتى إذا ناموا وسمعت الغطيط ثرت إلى الفحل فحللت عقاله وركبته، فاندفع بي وتبعته الإبل، فمشيت ليلتي حتى الصباح، فلما أصبحت نظرت فلم أر أحداً، فشللتها إذن شلاً عنيفاً حتى تعالى النهار، ثم التفت التفاتة فإذا بشيء كأنه طائر، فما زال يدنو حتى تبينته، فإذا فارس على فرس، وإذا هو صاحبي بالأمس، فعقلت الفحل ونثلت كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل، فقال: احلل عقاله، فقلت: كلا والله، لقد خلفت نسيات بالحيرة وآليت ألية ألا أرجع أو أفيدهن خيراً أو أموت، قال: فإنك ميت، حل عقاله لا أم لك، قلت: هو ما قلت لك، قال: إنك لمغرور انصب لي خطامه وانصب خمس عجر، ففعلت فقال: أين تحب أن أضع سهمي، فقلت: في هذا الموضع، فكأنما وضعه بيده، ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمس بخمسة أسهم، فرددت نبلي وحططت قوسي، ووقفت له مستسلماً فدنا مني، فأخذ السيف والقوس ثم قال: ارتدف خلفي، وعرف أني الذي شربت عنده اللبن، فقال: ما ظنك بي؟ قلت: أحسن الظن، قال: وكيف ذاك؟ قلت: لما لقيت من تعب ليلتك وقد أظفرك الله بي، فقال: أترانا نهيجك وقد بت تنادم مهلهلاً؟ فقلت: أزيد الخيل أنت؟ قال: نعم، فقلت: كن خير أخذ، فقال: ليس عليك بأس، فمضى إلى موضعه الذي كان به ثم قال: أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك ولكنها لبنت مهلهل، فأقم علي فإني على شرف غارة، فأقمت أياماً، فمضى فأغار على بني نمير بالملح، فأصاب مائة بعير فقال: هذه أحب إليك أم تلك؟ قلت: بل هذه، قال: دونكها، وبعث معي خفراء من ماء إلى ماء حتى وردت الحيرة، فلقيني نبطي فقال: أيسرك أن لك بإبلك هذه بكل بعير منها بستاناً من هذه البساتين؟ فقلت: وكيف ذلك؟ قال: هذا قرب مخرج نبي يخرج فيملك هذه الأرض ويحول بين أربابها وبينها حتى إن أحدكم ليبتاع البستان من هذه البساتين بثمن بعير، قال: فاحتملت بأهلي حتى انتهيت إلى مواطننا، فبينا نحن في الشيطين على ماء لنا وقد كان الحوفزان بن شريك أغار على بني تميم، فجاءنا خب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا فما مضت أيام حتى اشتريت بثمن بعير من إبلي بستاناً بالحيرة.

أسلم أبو خراش الهذلي فحسن إسلامه، ثم أتاه نفر من أهل اليمن قدموا حجاجاً فنزلوا بأبي خراش والماء غير بعيد عنهم، فقال: يا بني عمي ما أمسى عندنا ماء ولكن هذه برمة وشاة وقربة فردوا الماء ثم كلوا شاتكم ودعوا برمتنا وقربتنا على الماء حتى نأخذهما، فقالوا: لا والله ما نحن بسارين في ليلتنا هذه وما نحن ببارحين حيث أمسينا. فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى، ثم أقبل صادراً فنهشته حية. فأقبل مسرعاً حتى أعطاهم الماء، وقال: اطبخوا شاتكم وكلوا، ولم يعلمهم ما أصابه، فباتوا على شاتهم يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبو خراش في الموت، فلم يبرحوا حتى دفنوه، فبلغ خبره عمر بن الخطاب فغضب غضباً شديداً وقال: لولا أن تكون سنة لأمرت أن لا يضاف يمان أبداً، ولكتبت بذلك إلى الآفاق، إن الرجل ليضيف أحدهم فيبذل له مجهوده فيتسخطه ولا يقبله منه ويطالبه بما لا يقدر عليه، كأنه يطالبه بدين، أو يتعنته ليفضحه فهو يكلفه التكاليف حتى أهلك ذلك من فعلهم رجلاً مسلماً وقتله، ثم كتب إلى عامله أن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرمهم ديته ويؤدبهم بعد ذلك بعقوبة يمسهم بها جزاء لفعلهم.
قال أعرابي: أسوأ ما في الكريم أن يكف عنك خيره، وخير ما في اللئيم أن يكف عنك شره.
قال عبد الملك بن مروان: يا بني أمية ابذلوا نداكم، وكفوا أذاكم، واعفوا إذا قدرتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم، فإن خير المال ما أفاء حمداً أو نفى ذماً، ولا يقولن أحدكم أحدكم ابداً بمن تعول فإنما الناس عيال الله قد كفل بأرزاقهم فمن وسع أخلف الله عليه ومن ضيق ضيق الله عليه.
قال أعرابي: لا يوجد العجول محوداً، ولا الغضوب مسروراً، ولا الملول ذا أخدان، ولا الحر حريصاً، ولا الشره غنياً.
وقال أعرابي: صن عقلك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، ونجدتك بمجانبة الخيلاء، ومحلك بالإجمال في الطلب.
شاعر: من الطويل
أنا حسن ما أقبح الجهل بالفتى ... وللحلم أحياناً من الجهل أقبح
إذا كان حلم المرء عون عدوه ... عليه فإن الجهل أعفى وأروح
وفي العفو ضعف والعقوبة قوة ... إذا كنت تخشى كيد من عنه تصفح
قال رجل للأحنف: دلني على رجل كثير العيوب، قال: اطلبه عياباً فإنما يعيب الناس بفضل ما فيه.
وأنشد ابن الأعرابي: من الطويل
ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه ... مراد لعمري ما أراد قريب
ومثله: من الوافر
وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب
ويقال: شر خصال الملوك الجبن عن الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الاعطاء.
وقال سفيان بن عيينة، وذكر عنده البغي: أراد إخوة يوسف أن يذلوه فما برح بهم الدهر حتى قالوا: " يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر " " يوسف: 88 " .
الأقرع بن معاذ: من الطويل
يطيب نفسي أنني غير مجرم ... وأني إذا ناجيتها لا ألومها
زهير: من الطويل
وفي الحلم إدهان وفي العفو دربة ... وفي الصدق منجاة من الشر فاصدق
ومن يلتمس حسن الثناء بماله ... يصن عرضه من كل شنعاء موبق
ومن لا يصن قبل النوافذ عرضه ... فيحرزه يعرر به ويخرق
العرزمي: من الطويل
وإياك إياك المراء فإنه ... إلى الشر دعاء وللغي جالب
والأصل فيه قوله تعالى " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " " الأنفال: 46 " .
عدي بن زيد: من الطويل
وإياك من فرط المزاح فإنه ... جدير بتسفيه الحليم المسدد
يحيى بن زياد: من البسيط
لا يلبث الهزل أن يجني لصاحبه ... ذماً ويذهب عنه بهجة الأدب
طريح بن إسماعيل: من الطويل
إذا كنت عياباً على الناس فاحترس ... لنفسك مما أنت للناس قائله
بشار: من الرجز
وصاحب كالدمل الممد ... حملته في رقعة من جلدي
أرقب منه مثل يوم الورد ... حتى مضى غير حميد الفقد
وما درى ما رغبتي من زهدي
نافع بن لقيط الاسدي: من الطويل
إذا أنت اكثرت المجاهل كدرت ... عليك من الأخلاق ما كان صافيا
هدبة بن الخشرم: من الطويل

ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أتمنى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
وقد علل سقراط هذا المعنى، قيل له: لم لا تهتم على فائتة ولا تفرح بعائدة؟ قال: لأن تلك لا تتلافى بالعبرة، وهذه لا تستدام بالحبرة.
تأبط شراً: من البسيط
لكنما عولي إن كنت ذا عول ... على بصير بكسب الحمد سباق
سباق غايات مجد في عشيرته ... مرجع الصوت هداً بين أرفاق
حمال ألوية شهاد أندية ... هباط أودية جوال آفاق
وفيها يقول:
لتقرعن علي السن من ندم ... إذا تذكرت يوماً بعض أخلاقي
قيس بن الخطيم: من الطويل
سلي من جليسي في الندي ومألفي ... ومن هو لي عند الصفاء خدين
وأي أخي حرب إذا هي شمرت ... ومدره خصم يا نوار أكون
وهل يحذر الجار الغريب فجيعتي ... وخوفي وبعض المقرفين خؤون
وما لمعت عيني لغرة جارة ... ولا ودعت بالذم حين تبين
أبى الذم آباء نماني مجدهم ... ومجدي لمجد الصالحين معين
فهذا كما قد تعلمين وإنني ... لجلد على ريب الخطوب متين
وإني لأعتام الرجال بخلتي ... أولي الرأي في الأحداث حين تحين
فأبري بهم صدري وأصفي مودتي ... وأترك عهدي دون ذاك مصون
أمر على الباغي ويغلظ جانبي ... وذو القصد أحلولي له وألين
المتنبي: من الطويل
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
إذا أنت أكرمت الكريمة ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضر كوضع الندى
سأل الرشيد أبا يوسف عن أخلاق أبي حنيفة فقال: إن الله يقول " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " " ق: 18 " وهو عند لسان كل قائل، كان علمي بأبي حنيفة أنه كان شديد الذب عن محارم الله عز وجل أن تؤتى، شديد الورع أن ينطق في دين الله بما لا يعلم، يحب أن يطاع الله ولا يعصى، مجانباً لأهل الدنيا في دنياهم، لا ينافسهم في عزها، طويل الصمت دائم الفكر على عمل واسع، لم يكن مهذاراً ولا ثرثاراً، إن سئل عن مسألة كان عنده فلم علم نطق فيها وأجاب عنها بما سمع، وإن كان غير ذلك قاس على الحق واتبعه، لا يميل إلى طبع، بعيد عن الغيبة لا يذكر أحداً إلا بخير؛ فقال الرشيد: هذه أخلاق الصالحين، ثم قال للكاتب: اكتب هذه الصفة وادفعها إلى ابني ينظر فيها، ثم قال: احفظها حتى أسألك عنها.
وكان أبو حنيفة سهل الأخلاق جواداً سمحاً حسن الجوار مغضياً عمن يسيء إليه مسامحاً له؛ وقيل: إن رجلاً أتاه فقال: معي عشرة آلاف درهم كتبت على لسانك كتاباً إلى الأمير بجرجان فوهبها لي، وهي لك وقد أحضرتها، فقال: بارك الله لك فيها، ومن استطاع منكم أن يفعل كما فعل فقد أذنت له في ذلك.
ورأى على بعض جلسائه ثياباً رئة، فأمره فجلس حتى تفرق الناس وبقي وحده، فقال: ارفع المصلى وخذ ما تحته، فرفع المصلى فكان تحته ألف درهم فقال: خذ هذه الدراهم فغير بها حالك، فقال الرجل: إني موسر وأنا في نعمة ولست أحتاج إليها، فقال: أما بلغك الحديث: إن الله يحب أن يرى أثر النعمة على عبده؟ فينبغي لك أن تغير حالك حتى لا يغتم بك صديقك.
وكان أبو حنيفة يفضل ويعطي من كسب تجارته، وكان قوته في الشهر درهمين لخاصه.

قال خارجة بن مصعب: خرجت إلى الحج وخلفت جارية لي عند أبي حنيفة وأقمت بمكة نحواً من أربعة أشهر، فلما قدمت قلت لأبي حنيفة: كيف وجدت خدمة هذه الجارية وخلقها؟ فقال: من قرأ القرآن وحفظ على الناس علم الحلال والحرام احتاج أن يصون نفسه عن الفتنة، والله ما رأيت جاريتك منذ خرجت إلى أن رجعت، فسألت الجارية عنه فقالت: ما رأيت ولا سمعت مثله، ما رأيته نام على فراش منذ دخلت إليه، ولا رأيته اغتسل في ليل ولا نهار، ولقد كان يوم الجمعة يخرج يصلي صلاة الصبح، ثم يدخل إلى منزله فيصلي صلاة الضحى صلاة خفيفة، وذاك أنه كان يبكر إلى المسجد ويغتسل غسل الجمعة ويمس شيئاً من الدهن، ثم يمضي إلى الصلاة، وما رأيته يفطر النهار قط، وكان يأكل في آخر الليل، ثم يرقد رقدة خفيفة، ثم يخرج إلى الصلاة.
قال بعض أهل الأدب: عشر فيهن الكمال: كرم الحسب، وشدة العقل، وصحة الدين، والسخاء، والمال، والحياء، والرفق، والتواضع، والشجاعة، وحفظ القرآن.
وعشر خصال تزري ومنها تتفرع النذالة: الحسب الرديء، والخلق الدنيء، وقلة العقل، وسوء الفعل، ودناءة النفس، والجبن، والبخل، والفجور، والكذب، والغش للناس والوقيعة فيهم.
وعشر يجتلبن ود الناس ويذهبن الضغن: العفو، والحلم، والاغضاء، وترك التأنيب والتوبيخ، والأخذ بالحزم، والعفة، وترك الغيبة، وكتمان السر، وقضاء الحقوق، وحسن اللقاء.
وعشر يمحقن الشكر ويجتلبن البغضة: الامتنان بالعطاء، وسوء الخلق، وتنكيد الهبة، ووضع الصنيعة في غير موضعها، وكمون الحقد، وبذاء اللسان، والامساك عند الحاجة، وقلة الانصاف، والشماتة عند المصيبة، وترك العفو عند الزلة.
وعشر يفسدن المروءة ويقطعن الأخوة: كثرة العتاب، وكثرة الهجران، والتعنت، والحمية، وقلة اللقاء، وقبح اللفظ، والحدة، وقلة المواساة، وقلة الحفاظ، وخلف الوعد.
وعشر يورثن المحبة: كثرة السلام، واللطف بالكلام، واتباع الجنائز، والهدية، وعيادة المرضى، والصدق، والوفاء، وانجاز الوعد، وحفظ المنطق، وتعظيم الرجال.
وعشر ينفين الذل: اقتصاد في الكثير، والقنوع بالقليل، ولزوم المنزل، وحضور الصلوات، ومجانبة السفل، والتفقه في الدين، وقلة سؤال الرجال، وترك النبيذ، وكثرة الصمت، ورأسهن ترك الدين.
وعشر يورثن العز: مجالسة السراة، وكثرة الصدقة، وإسعاف الناس في حوائجهم، وتحمل الغرم، وأداء الأمانة، وطاعة الله، وحب المساكين، وترك المعازة للسلطان، وقلة المشي في الأسواق، وترك الشتم.
وعشر يورثن الكرم: خفة المؤونة على الإخوان، وبذل المعروف، وقلة الأيمان، وترك ما لا تطيق، والتحمل لما أطقت، وإبقاء الرجل على ضيعته، وقلة دخوله فيما لا يعنيه، وقلة حرصه، واغضاؤه عن المسيء يراه، وصبره على المكروه.
وعشر يورثن حميد العاقبة: حسن الجوار، وصحة المحاورة، وسلامة الصدر، وحفظ المودة، وكثرة المعونة، وقلة المشارة، وقول الخير في كل أحد، ومجانبة السفه، وترك المشورة على أحد، والتخلي عن الناس.
اشترى فائق غلام أحمد بن طولون داراً عظيمة بمصر، وأراد أن يدخل فيها دار العمريين وما يليها، فاستأذن مولاه في شراء ذلك فأذن له، فاشتراها وما حولها بعشرين ألف دينار، وأقبضهم الثمن وأشهد عليهم وأجلهم شهرين، فلما انقضى الشهران ركب أحمد بن طولون إلى صلاة الجمعة ثم رجع، وانصرف فائق إلى داره فسمع صياحاً عظيماً فأنكره، وقال: ما هذا الصياح؟ فقالوا: صياح العمريين ينتقلون ويبكون، فدعاهم وقال: أليس بطيب أنفسكم بعتم؟ قالوا: نعم، قال: وقبضتم الثمن؟ قالوا: نعم، قال: فما هذا البكاء والصياح حتى يظن مولاي أنكم ظلمتم؟ قالوا: ما نبكي إلا على جوارك، فأطرق وأمر بالكتب فردت عليهم، ووهب لهم الثمن، وركب إلى مولاه فأخبره فصوب رأيه واستحسن فعله.
قال عبد الملك لسعيد بن المسيب: صرت أعمل الخير فلا أسر به، وأعمل الشر فلا أساء به، فقال: الآن تكامل فيك الموت، يعني موت القلب.
دخل محمد بن عباد على المأمون فجعل يعممه بيده، وجارية على رأسه تبتسم، فقال المأمون: مم تضحكين؟ فقال ابن عباد: أنا أخبرك يا أمير المؤمنين تتعجب من قبحي واكرامك لي، فقال: لا تعجبي فإن تحت هذه العمة مجداً وكرماً.
شاعر: من الطويل
وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم ... إذا كانت الأعراض غير حسان

فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى ... فما كل مصقول الحديد يماني
ابن الرومي: من البسيط
كل الخلال التي فيكم محاسنكم ... تشابهت فيكم الأخلاق والخلق
كأنكم شجر الأترج طاب معاً ... حملاً ونوراً وطاب العود والورق
استعان عمر بن عبد العزيز برجل كريه المنظر فوجده حسن المخبر، فقال " ولا أقول للذي تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً " " هود: 31 " .
قال بعض السلف: الحسن الخلق ذو قرابة عند الأجانب، والسيىء الخلق أجنبي عند أهله.
الفضيل: لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيىء الخلق. إن الفاسق إذا حسن خلقه خف على الناس وأحبوه، والعابد إذا ساء خلقه ثقل عليهم ومقتوه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثة يعذرون بسوء الخلق: المريض والصائم والمسافر.
قال فرقد: بلغني أنه قيل يا رسول الله على من تحرم النار؟ قال: على الهين اللين القريب السهل.
قيل: من أحب المحمدة من الناس بغير مرزئة فليتلقهم ببشر حسن.
وقال الأحنف: رأس المروءة طلاقة الوجه والتودد إلى الناس.
وقال معاذ: إن المسلمين إذا التقيا فضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه ثم أخذ بيده تحاتت ذنوبهما كتحات ورق الشجر.
البشر دال على السخاء كما يدل النور على الثمر.
من حسن الخلق أن يحدث الرجل صاحبه وهو مبتسم.
قال علي بن الحسين عليهما السلام: من تمام المروءة خدمة الرجل ضيفه كما خدمهم أبونا إبراهيم عليه السلام بنفسه وأهله، ألم تسمع قوله " وامرأته قائمة " " هود: 71 " .
قال الأصمعي: سألت عنبسة بن وهب الدارمي عن مكارم الأخلاق فقال: أما سمعت قول عاصم بن وائل المنقري: من الطويل
وإنا لنقري الضيف قبل نزوله ... ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك
مدح قوم سوء الظن ورأوه حزماً، وكرهه آخرون، ولكل مقام: قيل لعالم من أسوأ الناس حالاً؟ قال: من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله.
سهل الأحوال كاتب إبراهيم بن المهدي: ما أحسن حسن الظن إلا أن فيه العجز، وما أقبح سوء الظن إلا أن فيه الحزم.
وقيل لبعضهم: أسأت الظن، فقال: إن الدنيا لما امتلأت مكاره وجب على العاقل أن يملأها حذراً.
قال المأمون: لم أر أحداً أبر من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من بره به أنه كان لا يتوضأ إلا بماء مسخن، فمنعهم السجان من الوقود في ليلة باردة، فلما أخذ يحيى مضجعه قام الفضل إلى قمقم فأدناه من المصباح، فلم يزل قائماً وهو في يده حتى أصبح، فشعر السجان بذلك فغيب المصباح فبات متأبطه إلى الصباح.
قال الأحنف: رأس الأدب المنطق، ولا خير في قول إلا بفعل، ولا في مال الا بجود، ولا في صدق إلا بوفاء، ولا في فقه إلا بورع، ولا في حياة إلا بصحة وأمن.
قال ابن مسعود: جاء رجل إلى فاطمة عليها السلام فقال: يا بنت رسول الله، هل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً تطرفينيه؟ قالت: يا جارية هاتي تلك الجريدة، فطلبتها فلم تجدها، فقالت: ويحك اطلبيها فإنها تعدل عندي حسناً أو حسيناً، فطلبتها فإذا هي: قال محمد صلى الله عليه وسلم: ليس من المؤمنين من لم جاره بوائقه. من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت؛ إن الله عز وجل يحب الحليم المتعفف ويبغض الفاحش السآل الملحف؛ إن الحياء من الإيمان، والايمان في الجنة، وإن الفحش من البذاء، والبذاء في النار.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الحياء والعي شعبتان من الايمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق. ويشبه أن يكون العي في هذا الموضع في معنى الصمت، والبيان في معنى التشدق والتقعير، كما جاء في الحديث الآخر: أبغضكم الثرثارون المتفيهقون المتشدقون.

قال إياس بن معاوية بن قرة المزني: كنا عند عمر بن عبد العزيز، فذكر عنده الحياء، فقالوا: الحياء من الدين، فقال عمر: بل هو الدين كله. قال إياس قلت: يا أمير المؤمنين حدثني أبي عن قرة المزني قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكر عنده الحياء فقالوا: يا رسول الله الحياء من الدين، فقال صلى الله عليه وسلم: بل هو الدين كله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن الحياء والعفاف والعي - عي اللسان لا عي القلب - والعمل من الايمان، وهن يزدن في الآخرة وينقصن من الدنيا وما يزدن في الآخرة أكثر مما ينقصن من الدنيا؛ وإن الفحش والبذاء من النفاق وانهن ينقصن من الآخرة ويزدن في الدنيا؛ قال إياس: فأمرني عمر فأمليته عليه فكتبه بخطه، ثم صلى الظهر وإنها لفي كفه ما يضعها إعجاباً بها.
وجاء في حديث آخر: الحياء من الايمان، والايمان في الجنة، والبذاء من النفاق، والنفاق في النار.
قال بعض أهل العلم: إنما جعل الحياء - وهو غريزة - من الايمان، وهو اكتساب، لأن المستحي ينقطع بالحياء عن المعاصي، وإن لم يكن له تقية، فصار كالايمان الذي يقطع عنها، ولذلك قال بعض الشعراء: من الوافر
ورب قبيحة ما حال بيني ... وبين ركوبها إلا الحياء
إذا رزق الفتى وجهاً وقاحاً ... تقلب في الأمور كما يشاء
ويقال: القناعة دليل الامانة، والأمانة دليل الشكر، والشكر دليل الزيادة، والزيادة دليل بقاء النعمة، والحياء دليل على الخير كله.
وقال الأحنف: أربع من كن فيه كان كاملاً، ومن تعلق بواحدة منهن كان من صالحي أهله: دين يرشده، أو عقل يسدده، أو حسب يصونه، أو حياء يفثأه.
وقال أعرابي: من كساه الحياء ثوبه، خفي على الناس عيبه.
وقال الشاعر: من المنسرح
إياك أن تزدري الرجال فما ... يدريك ماذا تجنه الصدف
نفس الجواد العتيق باقية ... فيه وإن كان مسه العجف
والحر حر وإن ألم به ال ... ضر ففيه الحياء والأنف
قيل للأحنف: ما المروءة؟ قال: أن تعمل في السر شيئاً تستحيي منه في العلانية.
ومنه حديث حرملة العنبري، قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على شيء ينفعني، قال: انظر ما تكره أن يتحدث به الناس فإذا خلوت فلا تفعله.
نازع المهلب رجلاً من كبار بني تميم فأربى على المهلب، فقيل له في ذلك فقال: كنت إذا سبني أستحيي من سخف المسابة، وأرغب عن غلبة اللئام والسفلة، وكان إذا سبني تهلل وجهه لنبذ المروءة وخلع ربقة الحياء وقلة الاكتراث بسوء الثناء، وثلج بذلك صدره، وطلق له وجهه، وبرد له غليله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كثر همه سقم بدنه، ومن ساء خلقه عذب نفسه، ومن لاحى الرجال سقطت مروءته وذهبت كرامته.
قيل كان ملك في بني اسرائيل، فجمع المشيخة وأهل العلم وقال: هاتوا ما عندكم وأشيروا علي، فقام شيخ منهم فقال: أيها الملك إن فيما حدثنا إذا كان علينا الامام السمح الحليم عادت علينا السماء والأرض وإذا كان علينا البخيل السفيه أمسكت علينا السماء والأرض، وانه من خلق الامام ان يقبل من المحسن، ويعفو عن المسيء، ويعطي كل ذي حق حقه.
يقال: الأدب خير ميراث، والاجتهاد أربح بضاعة، وحسن الخلق خير قرين، والتوفيق خير قائد، والرأي أعظم البذل.
وكان إياس بن معاوية يقول: إنه إن يكن في فعال الرجل فضل عن قوله أجمل من أن يكون في قوله فضل عن فعاله.
وروي عن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: اللهم ارزقني مالاً وفعالاً، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال.
وقيل: ثلاث هي أحسن شيء فيمن كن فيه: جود لغير ثواب، ونصب لغير الدنيا، وتودد من غير ذل.
قال أنس بن مالك، زكاة الرجل في داره أن يجعل فيها بيتاً للضيافة.

روي عن النبي عليه السلام أنه قال: إن الله جعل للمعروف وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله، ووجه طلاب المعروف إليهم، ويسر إعطاءه كما ييسر الغيث إلى الأرض الجدبة ليحييها ويحيي بها أهلها، وإن الله عز وجل جعل للمعروف أعداء من خلقه، بغض إليهم المعروف، وبغض إليهم فعاله، وحظر على طلاب المعروف الطلب إليهم وحظر عليهم إعطاءه، كما يحظر الغيث على الأرض الجدبة ليهلكها ويهلك بها أهلها، وما يعفو الله أكثر، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف، وإن صدقة السر لتطفىء غضب الرب، وإن صلة الرحم لتزيد في العمر.
ذكر أن بهرام بن بهرام خرج يوماً للصيد، فانفرد وراء طريدة وتبعها طامعاً في لحاقها، حتى بعد عن أصحابه، فدفع إلى راع في أصل شجرة وقد احتاج إلى البول فنزل عن فرسه وقال للراعي: احفظ علي رأس فرسي حتى أبول، فوثب وأخذ برأس دابته، وقعد بهرام ناحية يبول، وكان عنان الدابة ملبساً ذهباً، فاغتنم الراعي غفلة بهرام، فأخرج سكيناً وقطع أطراف اللجام، فرفع بهرام رأسه فنظر إليه، فاستحيا ورمى بطرفه إلى الأرض، وأطال الجلوس حتى أخذ الراعي حاجته، وقام بهرام فوضع يده على عينه وقال للراعي: قدم إلي فرسي فإنه قد دخل في عيني من سافي الريح، فما أقدر على فتحها، وغمض عينه ليوهمم أنه لا يرى حلقة اللجام، فلما ولى قال له الراعي: أيها العظيم كيف آخذ إلى موضع كذا وكذا - وذكر موضعاً بعيداً - قال له بهرام: وما سؤالك عن ذلك الموضع؟ قال: هناك منزلي وما وطئت هذه الأرض قبل يومي هذا، ولا أراني أعود إلى موضعي هذا ثانية، فضحك بهرام وفطن لما أراد وقال: أنا رجل مسافر، وأنا أحق بأن لا أعود إلى ها هنا أبداً، ثم مضى، فلما نزل قال لصاحب مراكبه: إن معاليق اللجام وهبتها لسائل فلا تتهمن بها أحداً.
وذكر أن أنوشروان وضع الموائد للناس في يوم نوروز أو مهرجان، وجلس ودخل وجوه أهل المملكة الايوان، فلما فرغوا من الطعام جاءوا بالشراب، وحضر الملهون، وأحضرت الأنقال والمشموم في آنية الذهب والفضة، فلما رفعت آلة المجلس أخذ بعض أولئك جام ذهب وزنه ألف مثقال، فطواه وأخفاه تحت ثيابه، وأنوشروان يراه، وافتقد صاحب الشراب الجام فقال بصوت عال: لا يخرجن أحد من الدار حتى يفتش، فقال كسرى ولم ذاك؟ قال: قد افتقدت جام ذهب، فقال كسرى: لا تعرض لأحد، فقد أخذه من لا يرده، ورآه من لا ينم عليه، وأخذ الرجل الجام فكسره، وصاغ منه منطقة وحلية لسيفه وسكينه، وجدد به كسوة جميلة، فلما كان في يوم جلوس الملك لمثل ما كان جلس له دخل ذلك الرجل بتلك الحلية والزينة، فدعاه كسرى فقال له: هذا من ذاك؟ فقبل الأرض وقال: نعم.
وقعد معاوية للناس في يوم عيد، ووضعت الموائد، وأحضر أكياساً فيها دنانير ودراهم، صلات وجوائز، ووضعت بالقرب من مجلسه، فجاء رجل فجلس على بعض تلك الأكياس، فصاح به الخدم تنح فليس لك هذا بموضع، فسمع ذلك معاوية فقال: دعوا الرجل يقعد حيث انتهى به مجلسه، فأخذ كيساً فوضعه بين بطنه وحجزة سراويله وقام، فلم يجترىء أحد أن يدنو منه، فقال الخازن: أصلح الله أمير المؤمنين إنه قد نقص من المال كيس دنانير، فقال: أنا صاحبه وهو محسوب لك.
وخرج سليمان بن عبد الملك في حياة أبيه إلى منتزه له، فنزل بعض المروج المعشبة، فبسط له فتغدى، وأقام فيه إلى حين الرواح، فلما حان انصرافه تشاغل غلمانه بالترحال، فجاء أعرابي فوجد منهم غفلة، فأخذ دواجاً لسليمان مثمناً فوضعه على عاتقه، وسعى وسليمان ينظر إليه، ورآه بعض حشم سليمان فصاح به: ألق ما معك، فقال الأعرابي: لا ألقيه ولا كرامة لك، وهذا كسوة الأمير وخلعته، فضحك سليمان وقال: صدق أنا كسوته، فمر كأنه إعصار ريح.

حكى بعض أسباب عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير أنه كان في أيام وزارته يذكر موسى بن بغا فيترحم عليه، ويتلهف على أيامه وطيبها، فقلت له يوماً: قد أسرفت في هذا الباب، ولو رآك موسى بن بغا في حالك هذه لرضي أن يقف على سيفه بين يديك، فقال لي: أنا أحدثك الآن بحديث واحد من أحاديثه فإن استحق ما أنا عليه وإلا فلمني، وأنشأ يحدثني قال: كنا بالري، وكنت قد عرفته أني قد استفدت معه مائة ألف دينار، ورحلنا نريد سر من رأى، فلما نزلنا همذان دعاني يوماً وإذا هو مشمئز مقطب، فقال لي: أريد مائة ألف دينار لابد منها، فقلت له: قد استخرجنا مال البلاد وأخذناه وأجحفنا بأهلها فمن أين؟ قال: لا أدري لابد منها البتة، فقام في نفسي أنه يريد المال الذي عرفته أني قد أفدته، فقلت له: عندي المال الذي قد علمته، وهو مائة ألف دينار، خذه، فقال: تلك دعها بحالها لست أريدها، ولي فيها تدبير، وما أبرح من ها هنا أو تحصل لي من مال البلاد مائة ألف دينار، فما زلت قائماً وقاعداً ومكاتباً، وهو مقيم بهمذان لا يبرح منها، حتى حصلتها وعرفته خبرها، فلما عرفه أمسك عني، حتى إذا صار بخانقين دعاني فسألني عن المال، فعرفته حصوله وحضوره، فقال لي: كنت عرفتني أنك حصلت من الفائدة معي مائة ألف، فعلمت أن أبا أيوب - يعني أباه سليمان - يلقاك فيقول لك: أي شيء معك؟ وكم مقدار ما أفدت؟ فتعرفه ذلك، فيقول لك: علي ديون ومؤن، وقد امتدت عيون أهلك ومواليك ومؤمليك إلى ما تنصرف به، ويأخذ منك المائة الألف وتحصل أنت على غير شيء، فأردت المائة الأخرى لتكون لك بعد الذي أخذ منك أبو أيوب، فهذا يا فلان لا يجب أن يتذكر في كل وقت ويترحم عليه؟ فقلت: بلى والله يا سيدي.
ومما يعد من محاسن الأخلاق الصمت: وقد ورد ما جاء فيه مكاناً آخر مع الآداب الدنيوية، ونجدد من ذكره ها هنا لئلا يخلو الباب منه من غير تكرير للأول: قال عمرو بن العاص: الكلام كالدواء، إن قللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل.
لما خرج يونس عليه السلام من بطن الحوت طال صمته، فقيل له: ألا تتكلم؟ فقال: الكلام صيرني في بطن الحوت.
وقال علي عليه السلام: إذا تم العقل نقص الكلام.
تحدثوا عند الأوزاعي وفيهم أعرابي من بني عليم بن جناب لا يتكلم، فقيل له: بحق ما سميتم خرس العرب، أما تحدث؟ فقال: إن الحظ للمرء في أذنه، وإن الحظ في لسانه لغيره، فقال الأوزاعي: لقد حدثكم فأحسن.
كان يقال: من السكوت ما هو أبلغ من الكلام؛ إن السفيه إذا سكت عنه كان في اغتمام.
قيل: كان بهرام جور قاعداً ليلة تحت شجرة، فسمع منها صوت طائر، فرماه فأصابه، فقال: ما أحسن حفظ اللسان بالطائر والإنسان، لو حفظ هذا لسانه ما هلك.
شاعر: من البسيط
أقلل من القول تسلم من غوائله ... وارض السكوت شجى في الحلق معترضا
قيل لبعضهم: الصمت مفتاح السلامة، فقال: ولكنه قفل الفهم.
وقال الشاعر في مثله: من الكامل
خلق اللسان لنطقه وكلامه ... لا للسكوت وذاك صوت الأخرس
وقال أبو عطاء: من الطويل
أقلبه كيلا يكل بحبسه ... وأبعثه في كل حق وباطل
قال علي عليه السلام: أكرم عشيرتك فانهم جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير، وانك بهم تصول وبهم تطول، وهم العدة عند الشدة، فأكرم كريمهم، وعد سقيمهم، وأشركهم في أمورك ويسر عن معسرهم.
قال زادان: أتيت ابن عمر وقد أعتق مملوكاً له، فأخذ من الأرض عوداً فقال: مال من الأجر ما يساوي هذا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه.
وقال صلى الله عليه وسلم: عاقبوا أرقاءكم على قدر عقولهم.
قال المعرور بن سويد: دخلنا على أبي ذر بالربذة فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلة، وكسوته ثوباً غيره، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه.
أبو هريرة رفعه: لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي. ولا يقل أحدكم: اسق ربك، أطعم ربك، وضىء ربك، ولا يقل أحدكم: ربي ولكن سيدي ومولاي.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: حسن الملكة نماء، وسوء الخلق شؤم.
أبو مسعود الأنصاري: كنت أضرب غلاماً لي، فسمعت من خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود الله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار.
وقال هلال بن يساف: كنا نزولاً في دار سويد بن مقرن، وفينا شيخ فيه حدة ومعه جارية، فلطم وجهها، فما رأيت سويداً أشد غضباً منه ذلك اليوم قال: أعجز عليك إلا حر وجهها؟ لقد رأيتني سابع سبعة من ولد مقرن ما لنا إلا خادم فلطم أصغرنا وجهها، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعتقها.
قال عبد الله بن طاهر: كنت عند المأمون ثاني اثنين، فنادى بالخادم: يا غلام يا غلام بأعلى صوته، فدخل غلام تركي فقال: ألا ينبغي للغلام أن يأكل أو يشرب أو يتوضأ أو يصلي؟ كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام، إلى كم يا غلام يا غلام؟! فنكس رأسه طويلاً فما شككت أنه يأمرني بضرب عنقه، فقال: يا عبد الله إن الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، وإذا ساءت أخلاقه حسنت أخلاق خدمه، فلا نستطيع أن نسيء أخلاقنا لتحسن أخلاق خدمنا.
وكان للمأمون خادم يتولى وضوءه فيسرق طساسه، فقال له يوماً: كم تسرقها، فهلا تأتيني بها فأشتريها منك، قال فاشتر مني هذه التي بين يديك، قال: بكم؟ قال: بدينارين، فاشتراها منه وقال: فهذه الآن في أماني، قال: نعم قال: فلنا فيها كفاية إلى دهر.
قال الشعبي: جاءت خادم لعلي عليه السلام تشكو إليه مؤذناً له، فقالت له: يا أمير المؤمنين إنه يؤذيني، وقل ما أمر إلا قال لي: أنا والله لك محب. قال علي: فإذا قال لك ذلك فقولي له: وأنا أيضاً محبة، ففعلت ذلك، وقالت له: فمه؟ فقال: تصبرين ونصبر حتى يوفي الله الصابرين أجرهم بغير حساب، قال: فجاءت الجارية فأخبرت بذلك علياً عليه السلام، فاستعبر لقوله: تصبرين ونصبر، ثم أرسل إليه فوهبها له وجعل الجمع بينهما ثواب صبرهما.
وروي أن رجلاً من بني عبد الأشهل يقال له معاذ القاري أبو حليمة كان يصلي بالناس القيام في ولاية عمر وعثمان، وكان عابداً قليل الكلام، وأنه رأى جارية لزيد بن ثابت رضي الله عنه فأعجبته، فكانت إذ مرت به نظر إليها نظراً شديداً، فاخبرت به زيداً، فأمرها فتهيأت وبعث إليه فأجلسه معها، وقال لها: إذا قمت فكلميه وانظري ما يقول لك، فقام زيد معتلاً بالوضوء، فأقبلت عليه فقالت: يا معاذ، أنا والله أحبك، قال: وأنا والله، قالت: فما الحيلة؟ قال: تصبرين كما أصبر، ثم خرج زيد إليهما، فانصرف معاذ، فأخبرته بما قالت له وقال لها، فبعث بها زيد إليه ووهبها له.
قيل: جاء رجل من قريش إلى محمد بن عبد العزيز فسأله، فقال: والله ما وجدت الحاجة حاضرة، ولكن تروح العشية تجدها مهيأة إن شاء الله. وأرسل فادان وهيأ حاجة حاجة الرجل ووضعها تحت مصلاه وقد حضر إخوانه، فجاء الرجل بالعشي فقال: قوموا بنا، وأقام إخوانه وقال للرجل: حاجتك تحت المصلى، فقال له أبو ثابت: سبحان الله قد هيأت له مالاً فهلا أعطيته إياه؟ فقال: والله ما كنت لأجمع عليه خصلتين: ذل المسألة والإعطاء من يدي إلى يده.
مرض أحمد بن أبي دواد فعاده المعتصم وقال: نذرت إن عافاك الله أن أتصدق بعشرة آلاف دينار، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين فاجعلها لأهل الحرمين فقد لقوا من غلاء الأسعار عنتاً، فقال: نويت أن أتصدق بها على من ها هنا وأطلق لأهل الحرمين مثلها، فقال أحمد: أمتع الله الإسلام وأهله بك، فإنك كما قال النمري لأبيك الرشيد: من البسيط
إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع
من لم يكن بأمين الله معتصماً ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
فقيل للمعتصم: عدته ولا تعود جلة أهلك؟ فقال: كيف وما وقعت عليه عيني قط إلا ساق إلي أجراً أو أوجب لي شكراً، وما سألني حاجة لنفسه قط.

قال علي بن الجنيد: كانت بيني وبين يحيى بن خالد مودة وأنس، وكنت أعرض الرقاع في الحوائج، فكثرت رقاع الناس عندي واتصل شغله، فقصدته يوماً فقلت: يا سيدي قد كثرت الرقاع وامتلأ خفي وكمي، فإما تطولت بالنظر فيها وإما رددتها، قال فقال لي: أقم عندي حتى أفعل ما سألت، فأقمت وجمعت الرقاع في خفي، وأكلنا وغسلنا أيدينا وقمنا للنوم، واستحييت من إذكاره، ويئست من عرضها، لأني علمت أنا نقوم ونتشاغل بالشرب، فنمت، ودعا هو بالرقاع من خفي فوقع في جميعها وردها إليه، ونام وانتبه، ودخلت إليه في مجلس الشرب فلم أستجز ذكر الرقاع له، وشربت وانصرفت بالعشي، وبكر إلي أصحاب الرقاع لما وقفوا على إقامتي عنده، فاعتذرت إليهم وضاق صدري بهم، فدعوت بالرقاع لأميزها وأخفف منها ما ليس بمهم، فوجدت التوقيعات في جميعها، فلم يكن لي همة إلا تفريقها والركوب إليه لشكره، وقلت له: يا سيدي قد تفضلت وقضيت حاجاتي فلم علقت قلبي ولم تعرفني حتى يتكامل سروري؟ فقال: سبحان الله، أردت مني أن أمتن عليك بأن أخبرك بما لم يكن يجوز أن يخفى عليك؟! وقال الرضي في ذم الأخلاق السيئة: من الطويل
وأكثر من شاورته غير حازم ... وأكثر من صاحبت غير الموافق
إذا أنت فتشت القلوب وجدتها ... قلوب الأعادي في جسوم الأصادق
رمى الله بي من هذه الأرض غيرها ... وقطع من هذا الأنام علائقي
يظنون أن المجد ممن له الغنى ... وأن جميع العلم فضل التشادق
وقال: من الطويل
أكل قريب لي بعيد بوده ... وكل صديق بين أضلعه حقد
وقال: من الوافر
بأخلاق كما دجت الليالي ... وأحساب كما نغل الأديم
ارسطاطاليس: سوء العادة كمين لا يؤمن وثوبه.
قال عبد الله الدارمي: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب.
قال أبو عبيدة: ألأم الناس الأغفال الذين لم يهجوا ولم يمدحوا.
قيل لسقراط: هل من إنسان لا عيب فيه؟ قال: لو كان انسان لا عيب فيه لكان لا يموت.
شاعر: من الطويل
إذا نلت يوماً صالحاً فانتفع به ... فأنت ليوم السوء ما عشت واجده
قال هاشم بن عبد مناف: أكرموا الجليس يعمر ناديكم.
قال روح بن زنباع: أقمت مع عبد الملك تسع عشرة سنة فما أعدت عليه حديثاً إلا مرة، فقال: قد سمعته منك.
وقال الشعبي: ما حدثت بحديث مرتين رجلاً بعينه.
مر العباس بن عبد المطلب بابنه وهو نائم نومة الضحى، فركله برجله وقال: قم لا أنام الله عينك، أتنام في ساعة يقسم الله فيها الرزق بين عباده؟ أو ما سمعت ما قالت العرب: انها مكسلة مهزلة منساة للحاجة.
والنوم على أنواع ثلاثة: نومة الخرق، ونومة الخلق، ونومة الحمق؛ نومة الخرق: نومة الضحى، ونومة الخلق هي التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أمته: قيلوا فإن الشيطان لا يقيل، ونومة الحمق: النوم بعد العصر، لا ينامها إلا سكران أو مجنون.
شاعر: من الطويل
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء فخراً أن تعد معايبه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسب امرىء من الشر أن يخيف أخاه المسلم.
الحسن: لو جاءت كل أمة بخبيثها وفاسقها وجئنا بالحجاج وحده لزدنا عليهم.
وقيل للشعبي: أكان الحجاج مؤمناً؟ قال: نعم بالطاغوت.
حميد شر الكوفي: من البسيط
إني امرؤ فوق رأس الشر مضطجعي ... أغفي عليه ولا أغفي على السرر
الشر يعلم أني إن ظفرت به ... لم ينج مني بأنياب ولا ظفر
قيل لأرسطاطاليس: ما بال الحسود أشد غماً؟ قال: لأنه يأخذ بنفسه من غموم الدنيا، ويضاف إلى ذلك غمه لسرور الناس.
قال مالك بن دينار: شهادة القراء مقبولة في كل شيء إلا شهادة بعضهم على بعض، فأنهم أشد تحاسداً من السوس في الوبر.
قيل لعبد الله بن عروة: لزمت البدو وتركت قومك، قال: وهل بقي إلا حاسد على نعمة أو شامت على نكبة؟! المتنبي: من البسيط
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها ... أني بما أنا باك منه محسود
سئل الحسن رحمة الله عليه: أيحسد المؤمن؟ قال: وما أنساك بني يعقوب؟

كان الفضل بن صالح بن عبد الملك الهاشمي يهوى جارية لأخيه عبيد بن صالح، فسقى أخاه سماً فقتله وتزوجها، فقال ابن برد الشامي وقد ظلمه في أرض له: من الطويل
لئن كان فضل بزني الأرض ظالماً ... فقبلي ما أردى عبيد بن صالح
سقاه نشوعياً من السم ناقعاً ... ولم يتئب من مخزيات الفضائح
كان أسلم بن زرعة والي خراسان من قبل عبيد الله بن زياد ينبش قبور الأعاجم فربما أصاب فيها الذهب والفضة، فقال بيهس بن صهيب الجرمي: من الطويل
تعوذ بحجر واجعل القبر في الصفا ... من الأرض لا ينبش عظامك أسلم
هو النابش القبر المحيل عظامه ... لينظر هل تحت السقائف درهم
وكان في عصرنا زنكي بن آق سنقر والي الموصل والشام، أقسى الناس وأعظمهم تجبراً، أما قسوته وغلظه على من ناوأه واتهمه فما يقصر فيهما عن الحجاج، وزاد عليه بأنه كان يعامل نداماه ومطربيه ونساءه وذوي هواه بما يعامل به أعداءه: خلا بجارية له بكر ليفتضها فتلوت تحته فضربها بالسيف حتى قتلها. واستدعى أخرى بكراً فرأت صاحبتها متشحطة في دمائها فكادت تموت فرقاً. وكان له نديم محدث يتعاطى كثرة الشراب والزيادة على غير نداماه، فسقاه الخمر العتيق الشامي صرفاً وأكثر عليه وهو يستقيله ويستعطفه فلا يرجع، فتقطعت كبده ومات. وركب بغلة كان يؤثرها فحمحمت تحته فضرب عنقها بالسيف. وهو راكبها، ونزل فانتقل إلى أخرى.
وكان إذا رأى صبياً وضيئاً خصاه وتركه في قلعة من قلاعه، ظناً منه أن نفسه تدعوه إليه فيما بعد، فيكون قد التحى، ولعله لا يذكره ولا يعلم ما يكون منه.
وسقى يوماً بعض أصحابه خمراً صرفاً في أقداح دسها عليه في أثناء شربه، وأراد قتله سراً بذلك، فمرض ولم يهلك سريعاً، وعالجه طبيب كان من أصحابه ولم يشعر بالقصة، فبرأ، فأحضره زنكي وقال له: عالجت فلاناً وقد أردت قتله، فقال: كيف لي بعلم ذاك؟ وإنما أنا طبيب دخلت إلى مريض فداويته بما أخذ علينا في صناعتنا، ولو علمت أنك سقيته واعتمدت قتله ما دخلت إليه، فقال: اسقوه الخمر صرفاً، فقال: الله الله اقتلني بالسيف ولا تعذبني، فلم يلتفت إلى تضرعه، وسقاه حتى تقطعت كبده ومات بعد أيام.
ومن مساوىء الأخلاق العقوق: قيل لبعض الفلاسفة: لم تعق والديك؟ قال: لأنهما أخرجاني إلى الكون والفساد.
نوادر من هذا الباب ورد على الصاحب بن عباد بعض كتاب العراق ممن كان عرفه وقت مقامه ببغداد، وشكا سوء حاله، فأحسن إليه وولاه عملاً، وأجرى له في كل شهر خمسمائة درهم وكتب صكه بذلك، فحسده بعض الحاضرين وقال للصاحب: إن هذا رجل مأبون معروف الطريقة بالفساد، وجميع ما تصله به وتوصله إليه ينفقه على من يرتكب منه الفضيحة، وأفرط في ذم الرجل والدلالة على قبائحه حتى ظن أنه قد أفسد حاله، فلما رد الصك إليه للتوقيع فيه لم يشك الساعي أنه يبطله أو يمزقه، فلما نظر فيه كتب تحت ما كان قرر له في كل شهر: ولغلام يخدمه ويستعين به خمسون درهماً، ووقع في الصك ورده إليه.
اجتمع ثلاثة حساد فقال أحدهم لصاحبه: ما بلغ من حسدك؟ فقال له اشتهيت أن أفعل بأحد خيراً قط، قال الثاني: أنت رجل صالح، ولكني ما اشتهيت أن يفعل أحد بأحد خيراً قط، قال الثالث: ما في الأرض أصلح منكما، ولكني ما اشتهيت أن يفعل بي أحد خيراً قط.
قال المدائني: تذاكر قوم من ظراف أهل البصرة الحسد، فقال رجل منهم: إن من الناس من يحسد على الصلب، فأنكروا ذلك عليه، ثم جاءهم بعد أيام فقال: الخليفة قد أمر أن يصلب الأحنف ومالك بن مسمع وقيس بن الهيثم وحمدان الحجام، فقال الحاضرون: هذا الخبيث يصلب مع هؤلاء؟ فضحك وقال: ألم أقل إن من الناس من يحسد على الصلب؟!

قال إبراهيم الموصلي: كنت عند الرشيد يوماً فرفع إليه في الخبر أن رجلاً أخذه صاحب الجسر، رفع في قصته أنه يجمع بين الرجال والنساء في منزله، وأنه سئل عما رفع عليه فأقر بذلك على نفسه وذكر أنه يجمع بينهم على تزويج لا على ريبة، وعلى نكاح لا على سفاح، وأنه شهد له بذلك جماعة من مستوري جيرانه وخلق كثير من وجوه الناس وأشرفهم، وشفع فيه من الكتاب والقواد وأعيان العسكر قوم سماهم في آخر كتابه وما رفع من خبره؛ قال: فلما قرأ الرشيد الخبر واستوفاه تربد واغتاظ وغضب واستشاط حتى أنكرناه وظننا أنه سينكل بالرجل وبمن تكلم فيه، حتى قال: وما سبيلهم على رجل وسع في منزله لصديقه، وأسبل عليه ستره، وسعى له فيما يطيب ويحل من لذته، وهو بعد مستراح للأحرار والأشراف وذوي الأقدار. ونحن نعلم أن الرجل الشريف المستور والأديب والأريب قد تكون عنده العقيلة بن بنات عمه وأشراف قومه ونظرائه، فتحظر عليه شهوته، وتملك عليه أمره، وهي أقبح من السحر، وأسمج من القرد، وأهر من الكلب، وأشد تعدياً من الليث العادي، فيريد شراء الجارية أو تزويج الحرة فلا يقدر على ذلك لمكانها، حتى يستريح إلى مثل هذا من الفتيان، ويغشى منزل مثله من الإخوان، يجعله سكنه، وينزل به مهمه، فيساعده على حاجته، ويسعى له فيما يحب من لذته، ويستره بمنزله؛ اكتبوا في إطلاقه والسئال عن حاله، فإن كان كما ذكر عنه من الستر وكان صادقاً فيما حكى عن نفسه من الفعل أعين بألف دينار على مروءته، وأومن من روعته، وعرف ما أمرنا به فيه، قال فقلنا جميعاً: سددك الله يا أمير المؤمنين ووفقك.
قال أبو العيناء: رأيت جارية في النخاسين تحلف لا ترجع إلى مولاها، فقلت: لمه؟ قالت: يا سيدي يواقعني من قيام ويصلي من قعود، ويشتمني باعراب ويلحن في القرآن، ويصوم الاثنين والخميس ويفطر في رمضان، ويصلي الضحى ويترك الفجر.
ظلمة القوادة يضرب بها المثل، كانت صبية في المكتب تسرق دوي الصبيان وأقلامهم، فلما شبت زنت، فلما أسنت قادت، فلما قعدت اشترت تيساً تنزيه.
ابن الحجاج: من البسيط
إن تحسدوني فلا والله ما بلغت ... لولا الخساسة حالي موضع الحسد
وإنما في يدي عظم أمششه ... من المعاش بلا لحم ولا غدد
ابن حازم الباهلي: الكامل المجزوء
مالي رأيتك لا تدو ... م على المودة للرجال
خلق جديد كل يو ... م مثل أخلاق البغال
وله: من الكامل
ومتى اختبرت أبا العلاء وجدته ... متلوناً كتلون البغل
أبو تمام: من الوافر
مساوىء لو قسمن على الغواني ... لما جهزن إلا بالطلاق
آخر: من البسيط
الليث ليث وإن جزت براثنه ... والكلب كلب وإن طوقته ذهبا
حكي أن أعرابياً أخذ جرو ذئب فرباه بلبن شاة عنده، فقال: إذا ربيته مع الشاء أنس بها فيذب عنها ويكون أشد من الكلب، ولا يعرف طبع أجناسه، فلما قوي وثب على شاته فافترسها، فقال الأعرابي: من الوافر
أكلت شويهتي ونشأت فينا ... فمن انباك أن أباك ذيب
قال رجل ملول: إنه ليبلغ من مللي أني أغير كل شهر كنيتي مرتين.
وقال خالد بن صفوان: إنه ليبلغ من مللي أن أتبرم بنفسي فأتمنى أن يؤخذ مني رأسي فلا يرد إلي إلا في كل أسبوع.
وقال بشار في نحوه: من الطويل
إذا كان ذواقاً أخوك من الهوى ... موجهة في كل أوب ركائبه
فخل له وجه الفراق ولا تكن ... مطية رحال كثير مذاهبه
شاعر يذم وقحاً: من الكامل المجزوء
الصخر هش عند وج ... هك في الوقاحه
في مثله: من الكامل
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة ... فأقد منها حافراً للأشهب
آخر: من الخفيف
لك عرض مثلم من قواري ... ر ووجه ململم من حديد
تشاجر رجلان فقال كل واحد منهما أنا ألأم، فتحاكما إلى رجل فقال: قد حكمتماني فأخبراني بأخلاقكما، فقال أحدهما، ما مر بي أحد إلا اغتبته ولا ائتمنني أحد إلا خنته، وقال الآخر: أنا أبطر الناس في الرخاء، وأجبنهم عند اللقاء، وأقلهم عند الحياء، فقال الرجل: كلاكما لئيم، وألأم منكما الحطيئة فإنه هجا أباه وأمه ونفسه.
من نوادر العقوق:

ضرب رجل أباه فقيل له: أما عرفت حقه؟ قال: لا فإنه لم يعرف حقي، قيل: وما حق الولد على الوالد؟ قال أن يتخير أمه، ويحسن اسمه، ويختنه، ويعلمه القرآن، فكشف عن عورته فإذا هو أقلف، وقال اسمي برغوث، ولا أعلم حرفاً من القرآن، وقد أولدني من زنجية، فقالوا للوالد: احتمله فانك تستأهل.
جفا جحا أمه فقال له: هذا جزائي منك وقد حملتك في بطني تسعة أشهر؟! فقال: ادخلي في استي حتى أحملك سنتين وخلصيني.
وقالت امرأة لابنها: هذا جزائي وقد أرضعتك سنتين؟ فقال: ارتجعي عن دورقين لبناً دورقين محضاً وأعفيني.
كان لحنظلة النميري ابن عاق اسمه مرة، فقال له يوماً: إنك لمر يا مرة فقال: أعجبتني حلاوتك يا حنظلة، فقال: إنك خبيث كاسمك، فقال: أخبث مني من سماني به، فقال: كأنك لست من الناس، فقال: من أشبه أباه فما ظلم، قال: ما أحوجك إلى أدب، قال: الذي نشأت على يده أحوج إليه مني، قال: عقمت أم ولدتك، قال: إذا ولدت من مثلك، قال: لقد كنت مشؤوماً على إخواتك، دفنتهم وبقيت، قال: أعجبني كثرة عمومتي، قال: لا تزداد إلا خبثاً، قال: لا يجتني من الشوك العنب.
أمر بعض الملوك عاملاً له أن يصيد شر طائر ويشويه بشر حطب، ويبعثه على يد شر رجل، فصاد رخمة، وشواها ببعر، ودفعها إلى خوزي، فقال الخوزي: أخطأت في كل ما أمرك به الملك، صد بومة، واشوها بدفلى، وادفعها إلى نبطي ولد زنا، ففعل، وكتب به إلى الملك، فقال الملك: أصبت، ولكن كفى أن يكون الرجل نبطياً لا يحتاج إلى ولد زنا، فليس يزداد النبطي بذلك شرارة، فقد بلغ بجنسه الغاية.
تم الباب الرابع بحمد الله ومنه يتلوه باب الجود والسخاء والبخل واللؤم

الباب الخامس
في السخاء والجود والبخل واللؤم
بسم الله الرحمن الرحيم
رب أنعمت فزد
الحمد لله الكريم الجواد، السابغ فضله على العباد، معطي الرغبات ومنيلها، ومنهض عثرات الكريم ومقيلها، سمح فأفضل، ومنح فأجزل أحمده على سعة عطائه وأثني عليه بنعمه وآلائه، وأعوذ به من شح الأنفس، ومنه المنفس، وبخل مطاع مرد، وهوى متبع مغو، وأسأله التوفيق لحسن التقدير، في غير ما سرف ولا تقتير، وصلواته على رسوله النبي الأمي معدن الأفضال، وبحر النوال، عصمة الأرامل والأيامى، وثمال العيل واليتامى، أطعم في المحل والجدب إطعامه في الرخاء والخصب، وأعطى مع الأواء والعسر، عطاء من لا يخاف الفناء والفقر، وعلى أصحابه وآله، المهتدين بهدية وفعاله.
الجود بذل المال، وأنفعه ما يصرف في وجه استحقاقه، وقد حث الله عز وجل عليه، وندب إله في قوله " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " " آل عمان: 92 " والبخل منع الحقوق، وإليه الإشارة في قوله تعالى " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " " التوبة: 34 - 35 " . وقال تعالى: " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " " آل عمران: 180 " . وقال تعالى: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " " الحشر: 9 " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله استخلص هذا الدين لنفسه، ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق، ألا فزينوا دينكم بهما.
وقال صلى الله عليه وسلم: تجاوزا عن ذنب السخي فإن الله عز وجل آخذ بيده كلما عثر وفاتح له كلما افتقر.
ووفد عليه صلى الله عليه وسلم رجل فسأله فكذبه فقال له: أسألك فتكذبني؟! لولا سخاء فيك ومقك الله عليه لشردت بك من وافد قوم.
وقال صلى الله عليه وسلم: شر ما في الرجل شح هالع، أو جبن خالع.
وقال صلى الله عليه وسلم: خلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق.
وقال بعض السلف: منع الموجود سوء ظن بالمعبود، وتلا " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين " " سبأ: 39 " .
وقال علي عليه السلام: الجود حارس الأعراض.
وقال أيضاً: السخاء ما كان ابتداء، فأما ما كان من مسألة فحياء وتذمم.
وقال أيضاً: البخل عار.
وقال أيضاً: عجبت للبخيل الذي استعجل الفقر الذي معه هرب، وفاته الغنى الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.

وقال علي بن عبد الله بن العباس: سادة الناس في الدنيا والأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: تأبى القلوب للأسخياء إلا حباً ولو كانوا فجاراً، وللبخلاء إلا بغضاً ولو كانوا أبراراً.
وقال بعض الحكماء: الجواد من جاد بماله وصان نفسه عن مال غيره.
وقيل لعمرو بن عبيد: ما الكرم؟ فقال: أن تكون بمالك متبرعاً، وعن مال غيرك متورعاً.
نظر أعرابي إلى قوم ينصرفون من المسجد الجامع فقال: لو ورد هؤلاء على بخيل لقضى حوائجهم، فكيف على أجود الأجواد؟ ومن كلام ينسب إلى جعفر بن محمد عليهما السلام: لا يتم المعروف إلا بثلاثة: بتعجيله وتصغيره وستره. جاهل سخي خير من ناسك بخيل. الجود زكاة السعادة الإيثار على النفس موجب لاسم الكريم. لا تستحي من بذل القليل فإن الحرمان أقل منه. ويشبه هذا المعنى قول الشاعر، ويسنب إلى حماد عجرد: من البسيط
بث النوال ولا يمنعك قلته ... فكل ما سد فقراً فهو محمود
ومن هذا الشعر:
إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى يخال غنياً وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
وقال علي بن موسى: لا خير في المعروف إذا أحصي.
وقال علي بن الحسين: الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتخر بماله.
وقال الحسين بن علي لمعاوية: من قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم.
ومن كلام له: أيها الناس من جاد ساد، ومن بخل رذل، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه.
وأنشد عبد الله بن جعفر قول الشاعر: من الكامل
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع
فقال: هذا شعر رجل يريد أن يبخل الناس، أمطر المعروف مطراً فإن صادف موضعاً فهو الذي قصدت، وإلا كنت أحق به.
وقيل ليزيد بن معاوية: ما الجود؟ فقال: إعطاء المال من لا تعرف فإنه لا يصير إليه حتى يتخطى من تعرف.
وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر: ما دام قلمك يرعف فأمطره معروفاً.
قال سعيد بن العاص، وكان من الأجواد: قبح الله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فأما إذا أتاك يتردد دمه في وجهه مخاطراً لا يدري أتعطيه أم لا، وقد بات ليلته يتململ على فراشه، يعاقب بين شفتيه مرة هكذا ومنه هكذا من لجاجته، فخطرت بباله أنا أو غيري فمثل أرجاهم في نفسه وأقربهم من حاجته ثم عزم علي وترك غيري، فلو خرجت له مما أملك لم أكافه وهو علي أمن مني عليه.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام لغالب بن صعصعة أبي الفرزدق في كلام دار بينهما: ما فعلت إبلك الكثيرة؟ قال: ذعذعتها الحقوق يا أمير المؤمنين، قال: ذاك أحمد سبلها.
قال عمرو بن الأهتم: من الطويل
ألا طرقت أسماء وهي طروق ... وباتت على أن الخيال يشوق
بحاجة محزون كأن فؤاده ... جناح وهت عظماه فهو خفوق
ذريني فإن البخل يا أم هيثم ... لصالح أخلاق الرجال سروق
وإني كريم ذو عيال تهمني ... نوائب يغشى رزؤها وحقوق
ذريني وحطي في هواي فإنني ... على الحسب الزاكي الرفيع شفيق
ومستنبح بعد الهدوء دعوته ... وقد حان من ساري الشتاء طروق
يعالج عرنيناً من الليل بارداً ... تلف رياح ثوبه وبروق
فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فهذا مبيت صالح وصديق
وقمت إلى البرك الهواجد فاتقت ... مقاحيد كوم كالمجادل وق
بأدماء مرباع النتاج كأنها ... إذا عرضت دون العشار فنيق
بضربة ساق أو بنجلاء ثرة ... لها من أمام المنكبين فتيق
وقام إليها الجازران فأوقدا ... يطيران عنها الجلد وهي تفوق
فجر إلينا ضرعها وسنامها ... وأزهر يحبو للقيام عتيق
بقير جلا بالسيف عنه غشاءه ... أخ باخاء الصالحين رفيق
فبات لنا منها وللضيف موهناً ... عشاء سمين راهن وغبوق
وبات له دون الصبا وهي قرة ... لحاف ومصقول الكساء رقيق
وكل كريم يتقي الذم بالقرى ... وللخير بني الصالحين طريق

أضفت فلم أفحش عليه ولم أقل ... لأسمعه إن الفناء مضيق
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق
نمتني عروق من زرارة للعلى ... ومن فدكي والأشد عروق
أكارم يجعلن الفتى في أورمة ... يفاع وبعض الوالدين دقيق
وقال حاتم الطائي: الطويل
أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر
وقد علم الأقوام لو أن حاتماً ... أراد ثراء المال أمسى له وفر
أماوي إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر
تري أن ما أفنيت لم يك ضرني ... وأن يدي مما بخلت به صفر
أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
غنينا زماناً بالتصعلك والغنى ... وكلاً سقاناه بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغياً على ذي قاربة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
وقال أيضاً: من الكامل
وإذا تنور طارق مستنج ... نبحت فدلته علي كلابي
وعوين يستعجلنه فلقينه ... يضربنه بشراشر الأذناب
وقال الأقرع بن معاذ القشيري: من الطويل
دعيني فإن الجود يا أم خالد ... إلي ومعرف الثناء عجيب
وإنك إن بخلت ثم ندبتني ... بصالح أخلاق الفتى لكذوب
وما يك من عسيري ويسري فإنني ... ذلول بحاج المعتفين أريب
وما زلت مثل البحر يركب مرة ... فيعلى ويولي مرة فيثيب
وما خير معروف الفتى في شبابه ... إذا لم يزده الشيب حين يشيب
وما السائل المحروم يرجع خائباً ... ولكن بخيل الأغنياء يخيب
وللمال أشراك وإن ضن ربه ... يصيب الفتى من ماله وتصيب
وقال ابن همة: من المنسرح
لا غنمي في الحياة مد لها ... إلى دراك القرى ولا إبلي
كم ناقة قد وجأت منحرها ... بمستهل الشوبوب أو جمل
لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل
وقال أيضاً: من الكامل
أغشى الطريق بقبتي ورواقها ... وأحل في قلل الربى فأقيم
إن امرءاً جعل الطريق لبيته ... طنباً وأنكر حقه للئيم
وقال أيضاً: من الطويل
ومستنج تستكشط الريح ثوبه ... ليسقط عنه وهو بالثوب معصم
عوى في سواد الليل بعد اعتسافه ... لينبح كلب أو ليفزع نوم
فجاوبه مستسمع الصوت للقرى ... له عند إتيان المهبين مطعم
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً ... يكلمه من حبه وهو أعجم
وقال الخثعمي: من البسيط
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينفدها التبذير والسرف
وإن تولت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وقد روى هذان البيتان لبعض الكتاب، أنشدهما يحيى بن خالد وقد رآه يفرق الصلات في الناس.
وأخذ المعنى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر فقال: من الطويل
فأنفق إذا أنفقت إن كنت موسراً ... وأنفق على ما خيلت حين تعسر
فلا الجود يفني المال والحظ مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجد مدبر
وقد قال عسل بن ذكوان: من البسيط
أنفق ولا تخشن إقلالاً فقد قسمت ... بين العباد مع الآجال أرزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضر مع الإقبال إنفاق
والكل مأخوذ من قول امرأة من العرب لابنها: يا بني إذا رأيت المال مقبلاً فأنفق، فإن ذهابه فيما تريد خير من ذهابه فيما لا تريد.
وصف رجل عبد الله بن جعفر فقال: كان إذا افتقر لم تفتقر نفسه، وإذا استغنى لم يستغن وحده.

وكان عبد الله بن جعفر من الجود بالمكان المشهور، وله فيه أخبار يكاد سامعها ينكرها لبعدها عن المعهود، وكان معاوية يعطيه ألف ألف درهم كل سنة فيفرقها في الناس، ولا تراه إلا وعليه دين. ولما مات معاوية وفد على يزيد فقال له: كم كان أمير المؤمنين معاوية يعطيك؟ قال: كان رحمه الله يعطيني ألف ألف، قال يزيد: قد زدناك لترحمك عليه ألف ألف، قال بأبي وأمي أنت، قال: ولهذه ألف ألف، قال: أما إني لا أقولها لأحد بعدك، فقيل ليزيد: أعطيت هذا المال العظيم رجلاً واحداً من مال المسلمين فقال: والله ما أعطيته إلا لجميع أهل المدين، ثم وكل به من صحبه وهو لا يعلم، لنظر ما يفعل في المال، فلما وصل المدينة فرق جميع المال حتى احتاج بعد شهر إلى الدين.
وقال له الحسن والحسين عليهما السلام: إنك قد أسرفت في بذل الما، فقال: بأبي أنتما، إن الله عز وجل عودني أن يفصل علي وعودته أن أفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة فتنقطع عني المادة.
ولما ولي عبد الملك بن مروان جفا عبد الله ورقت حاله. فراح يوماً إلى الجمعة وجاءه سائل فقال له: إن كان يقنعك أحد قميصي هذين فخذه، فقال نعم، فقال: اللهم إنك عودتني عادة جريت عليها، فإن كان ذلك قد انقطع فاقبضني إليك، فتوفي في الجمعة الأخرى.
وامتدح نصيب عبد الله بن جعفر، فأمر له بخيل وأثاث وإبل ودنانير ودراهم، فقال له رجل: أمثل هذا الأسود يعطى مثل هذا المال؟ فقال عبد الله: إن كان أسود فإن شعره لأبيض وإن ثناءه لعربي، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ثياباً تبلى ومالاً يفنى ومطايا تنضى، وأعطانا مدحاً يروى وثناء يبقى؟ وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك تبذل الكثير إذا سئلت، وتضيق في القليل إذا توجرت، فقال: إني أبذل مالي وأضن بعقلي.
وله أخبار سأذكر بعضها حيث يتفق من هذا الباب.
كان لبيد بن ربيعة العامري جواداً شريفاً في الجاهلية والإسلام، وكان نذر أن لا تهب الصبا إلا نحر وأطعم حتى تنقضي، فهبت في الإسلام وهو بالكوفة مملق مقتر، فعلم بذلك الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو واليها من قبل عثمان، فخطب الناس فقال: إنكم قد عرفتم نذر أبي عقيل وما وكد على نفسه، فأعينوا أخاكم ثم نزل فبعث إليه بمائة ناقة وبعث الناس إليه أيضاً، فقضى نذره، ففي ذلك تقول بنت لبيد: من الوافر
إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليدا
وكان عبد الله بن جدعان التيمي تيم قريش من أجواد العرب في الجاهلية، فلما أسن أخذت بنو تميم على يده ومنعوه أن يعطي شيئاً من ماله، فكان إذا أتاه الرجل يطلب منه قال: ادن مني، فإذا دنا منه لطمه، قم يقول: اذهب فاطلب لطمتك أو ترضى، فترضيه بنو تيم من ماله، وذلك قول ابن قيس الرقيات: من الخفيف.
والذي إن أشار نحوك لطماً ... تبع اللطم نائل وعطاء
مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ عواده، فقال لمولى له: ما بال الناس لا يعودونني؟ قال: للدين الذي لك عليهم، قال: ناد فيهم: من كان عليه فهو له، فكسروا درجته من تهافتهم.
كان سعيد بن العاص إذا سأله سائل فلم يكن له ما يعطيه قال له: اكتب علي سجلاً إلى يوم يسري؛ ولما مات أتى غرماؤه ابنه بما عليه من الصكاك وكان في جملتها صك لفتى من قريش فيه شهادة مولى له بعشرين ألفاً فقال ابنه للمولى: من أين له هذا المال وإنما هو صعلوك من فتيان قريش؟ فقال المولى: إن أباك خرج من منزله فلقيه هذا الفتى فمشى معه، فلما بلغ حيث أراد سأله هل من حاجة؟ فقال: لا إنما رأيتك تمشي وحدك فوصلت جناحك، فلم يكن معه ما يعطيه فكتب له على نفسه بما رأيت.
اشترى عبيد الله بن أبي بكرة جارية بستين ألف درهم، فطلب دابة تحمل عليها فلم توجد، فجاء رجل بدابته فحملها فقال له: إلى أين أحملها؟ فقال له عبيد الله: اذهب بها إلى منزلك، ووهبها له.
واستعمله عبيد الله بن زياد على إطفاء بيوت النيران بين البصرة وسجستان، فأصاب أربعين ألف ألف درهم، فحال الحول عليه وعليه دين.
أرتج على عبد الله بن عامر بالبصرة يوم أضحى، فسكت ساعة ثم قال: لا أجمع عليكم عياً وبخلاً، من أخذ شاة من السوق فهي له، وثمنها علي.

باع أبو الجهم داره، فلما أرادوا الإشهاد عليه قال: بكم تشترون مني جوار سعيد بن العاص؟ قالوا: سبحان الله، وهل رأيت أحداً يشتري جوار أحد؟ قال: ألا تشترون جوار إنسان إذا أسأت إليه أحسن؟ لا أريد أن أبيعكم شيئاً، ردوا علي داري، فبلغ ذلك سعيداً فبعث إليه بألف دينار.
طلب رجل من أبي العباس الطوسي خطراً فلم يعطه، فبلغ ذلك معن بن زائدة وهو باليمن، فأرسل إليه بجراب خطر فيه ألف دينار وكتب إليه: اختضب بالخطر وانتفع بالنخالة.
كان معن بن زائدة قد أبلى مع يزيد بن عم بن هبيرة بلاء شديداً، فطلبه المنصور وبذل مالاً لمن جاء به، فاضطر لشدة الطلب إلى أن أقام في الشمس حتى لوحت وجهه، وخفف عارضه وليحته، ولبس جبة صوف غليظة، وركب جملاً ثقالاً، وخرج عليه ليمضي إلى البادية فيقيم بها، قال معن: فلما خرجت من باب حرب تبعني أسود متقلد سيفاً حتى إذا غبت قال معن: فلما خرجت من باب حرب تبعني أسود متقلد سيفاً حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض علي فقلت: مالك؟ فقال: أنت طلبة أمير المؤمنين، فقلت له: ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟ قال: دع هذا فأنا أعرف بك منك، قال معن فقلت له: يا هذا اتق الله في فإن كانت القصة كما تقول فهذا جوهر حملته معي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه ولا تسفك دمي، فقال: هاته، فأخرجته فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في قيمته ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك، فقلت مالك كله؟ قلت: لا، قال: فنصفه؟ قلت: لا، قال: فثلثه؟ قلت: لا، حتى بلغ العشر، فاستحييت وقلت: أظن أني قد فعلت ذلك، فقال: ما ذاك بعظيم، أنا والله رزقي من أبي جعفر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته آلاف الدنانير قد وهبته لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا أجود منك فلا تعجبك نفسك، ولتحقر بعدها كل شيء تفعله، ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى بالجوهر في حجري وخلي خطام البعير وانصرف، فقلت له: يا هذا قد والله فضحتني، ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته إليك فإني عنه غني، فضحك وقال: أردت أن تكذبني في مقامي هذا؟ والله لا آخذه ولا آخذ لمعروف ثمناً أبداً. فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جاء به ما شاء فما عرفت له خبراً، وكأن الأرض ابتلعته.
أراد رجل أن يمدح رجلاً عند خالد بن عبد الله القسري فقال: والله لقد دخلت إليه فوجدته أسرى الناس فرشاً وداراً وآلة، فقال خالد: لقد ذممته من حيث أردت أن تمدحه، هذه والله حال من لم تدع فيه شهوته للمعروف فضلاً.
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في علته: لم يبق علي من لباس الزمان إلا العلة والخلة، وأشدهما علي أهونهما على الناس، لأن ألم جسمي بالأوجاع أهون من ألم قلبي للحق المضاع.
قال أعرابي: ما زال فلان يعطيني حتى ظننته يودعني، وما ضاع مال أودع حمداً.
شاعر: من الكامل
وإذا الرجل تصرفت أهواؤها ... فهواه لحظه سائل أو آمل
ويكاد من فرط السخاء بنانه ... حب العطاء يقول هل من سائل
وقال عمارة بن عقيل في خالد بن يزيد: من الكامل
تأبى خلائق خالد وفعاله ... إلا تجنب كل أمر عائب
وإذا حضرنا الباب عند غدائه ... أذن الغداء لنا برغم الحاجب
وقال الخريمي: من الطويل
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب
مر يزيد بن المهلب بأعرابية في خروجه من سجن عمر بن عبد العزيز يريد البصرة، فقرته عنزاً فقبلها وقال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟ قال: ثمانمائة دينار، قال: فادفعها إليها، فقال له ابنه: إنك تريد الرجال ولا تكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير وهي بعد لا تعرفك، قال: فإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي؛ ادفعها إليها.
قال العتيبي: أشرف عمر بن هبيرة يوماً منقصره فإذا هو بأعرابي يرقص قلوصة الآل، فقال لحاجبه: إن أرادني هذا فأوصله إلي، فلما دنا الأعرابي سأله فقال: قصدت الأمير، فأدخله إليه، فلما مثل بين يديه قال له عمر: ما خطبك؟ فقال الأعرابي: من المنسرح
أصلحك الله قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا

ألح دهر أنحى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا
قال: فأخذت عمر الأريحية فجعل يهتز في مجلسه ثم قال: أرسلوك إلي وانتظروا، إذن والله لا تجلس حتى ترجع إليهم غانماً، فأمر له بألف دينار ورده على بعيره.
قال أبو العباس المبرد: بلغني أن الخبر لمعن، وذلك عندي أصح.
أتي رجل يسأل الحسن بن علي عليهما السلام فقال له: إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح، أو فقر مدقع، أو حمالة مفظعة، قال الرجل: ما جئت إلا في إحداهن، فأمر به بمائة دينار، ثم أتى أخاه الحسين عليه السلام فقال له مثل ما قال له أخوه، فأعطاه تسعة وتسعين ديناراً، كره أن يساوي أخاه. ثم أتى عبد الله بن عمر رضوان الله عليهما فأعطاه سبعة دنانير، ولم يسأله عن شيء، فحدثه بقصته وما جرى بينه وبينهما، فقال عبد الله: ويحك وأين تجعلني منهما؟ إنهما عذياً العلم غذاء.
لما وجه يزيد بن معاوية عسكره لاستباحة أهل المدينة ضم علي ابن الحسين إلى نفسه أربعمائة منافية يعولهن إلى أن انقرض جيش مسلم بن عقبة، فقالت امرأة منهن: ما عشت والله بين أبوي بمثل ذلك التتريف.
ذكر العباس بن محمد أن المهدي لما وجه الرشيد إلى الصائفة سنة ثلاث وستين خرج يشيعه وأنا معه، فلما حاذى قصر مسلمة قلت له: يا أمير المؤمنين إن لمسلمة في أعناقنا منة، كان محمد بن علي مر به فأعطاه أربعة آلاف دينار وقال له: يا ابن عم هذان ألفان لدينك وألفان لمعونتك، فإذا نفدت فلا تحتشمنا؛ فقال لما حدثته الحديث: أحضروا من ها هنا من ولد مسلمة ومواليه، فأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأمر أن تجرى عليهم الأرزاق ثم قال: يا أبا الفضل أكافأنا مسلمة وقضينا حقه؟ قلت: وزدت يا أمير المؤمنين.
قا ليحيى بن خالد: جعلت الدنيا دون عرضي، فأبرها عندي ما صانه، وأهونها علي ما شانه.
كتب أبو العيناء إلى عبيد الله بن سليمان في نكبته: إن الكريم المنكوب أجدى على الأحرار من اللئيم الموفور، لأن اللئيم إذا ازداد نعماً ازداد لؤماً، والكريم إذا ازداد عسراً ازداد ظنه بالله حسناً.
رفع الواقدي قصة إلى المأمون يشكو غلبة الدين وقلة الصبر، فوقع المأمون عليها: أنت رجل فيك خلتان: الحياء والسخاء، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يدك، وأما الحياء فبلغ بك ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم، فإن كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك، وإن كنا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك، وأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن نس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزبير: يا زبير، إن مفاتيح الرزق بساق العرش، ينزل الله عز وجل للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له ومن قلل قلل له؛ قال الواقدي: وكنت أنسيت الحديث، فكانت مذاكرته إياي به أعجب إلي من صلته.
بعث روح بن حاتم بن المهلب إلى رجل بثلاثين ألف درهم وكتب إليه: قد وجهت إليك بما لا أقلله تكبراً، ولا أكثره تمنناً، ولا أستثيبك عليه ثناء، ولا أقطع لك به رجاء.
أراد الرشيد أن يخرج إلى القاطول فقال يحيى بن خالد لرجاء ابن عبد العزيز، وكان علي نفقاته: من عند وكلائنا من المال؟ قال: سبعمائة ألف درهم، قال: فاقبضها إليك يا رجاء، فلما كان من الغد غدا إليه رجاء فقبل يده وعنده منصور بن زياد، فلما خرج قال لمنصور: قد ظننت أن رجاء قد توهم أنا قد وهبنا المال له وإنما أمرنا بقبضه من الوكلاء ليحفظه علينا لحاجتنا إليه في وجهنا هذا، قال منصور: فأنا أعلمه ذلك، قال إذن يقول: فقل له يقبل يدي كما قبلت يده، فلا تقل شيئاً فقد تركتها له.
قال سلم بن زياد لطلحة بن عبيد الله بن خلف الخزاعي: إني أريد أن أصل رجلاً له علي حق وصحبة بألف ألف درهم فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل هذه لعشرة، قال: فأصله بخمسمائة ألف درهم، قال: كثير، فلم يزل به حتى وقف على مائة ألف درهم قال: افترى مائة ألف يقضى بها ذمام رجل له انقطاع وصحبة ومودة وحق واجب؟ قال: نعم، قال: هي لك وما أردت غيرك، قال: فأقلني قال لا أفعل والله.
سئل إسحاق الموصلي عن سخاء أولاد يحيى بن خالد فقال: أما الفضل فيرضيك فعله، وأما جعفر فيرضيك بقوله، وأما محمد فيفعل بحسب ما يجد، وأما موسى فيفعل ما لا يجد.

بات جماعة من الرؤساء عند أحمد بن أبي دواد، فلما أخذوا مضاجعهم إذا الخدم قد أخرجوا لكل واحد منهم جارية، قال: فاحتشموا من ذلك، وبات الجواري ناحية، فلما أصبحوا وجه بجارية كل واحد إلى منزله ومعها وصيفة.
قال شريح بن الأحوص: من الطويل
ومستنبح يبغى المبيت ودونه ... من الليل سجفا ظلمة وستورها
رفعت له ناري فلما اهتدى بها ... زجت كلابي أن يهر عقورها
فبات وقد أسرى من الليل عقبة ... بليلة صدق غاب عنها شرورها
إذا الشول راحت ثم لم تفد لحمها ... بألبانها ذاق السنان عقيرها
وقال عروة بن الورد: من الطويل
إني امرو عافي إنائي شركة ... وأنت امرو عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد
وقال آخر: من البسط
ألا ترين وقد قطعتني عذلاً ... ماذا من الفوت بين البخل والجود
إلا يكن ورق يوماً أجود بها ... للمعتفي فإني لين العود
وقال قيس بن عاصم: من الطويل
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... وبا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزواد فالتمسي له ... أكيلاً فإني غير آكله وحدي
كريماً قصياً أو قريباً فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وكيف يسبغ المرء زاداً وجاره ... خفيف المعا بادي الخصاصة والجهد
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ... وما في إلا تيك من شيمة العبد
وقال آخر: من الطويل
ومستنبح قال الصدى مثل قوله ... حضأت له ناراً لها حطب جزل
وقمت إليه مسرعاً فغنمته ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبل
وأوسعني حمداً وأوسعته قرى ... وأرخص بحمد كان كاسب الأكل
وقال محمد بن يسير: من البسيط
لقل عاراً إذا ضيف تضيفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي
فضل المقل إذا اعطاه مصطبراً ... ومكثر في الغنى سيان في الجود
لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إما نوال وإما حسن مردود
وقال الهذلي: من البسيط
وهاب ما لا تكاد النفس ترسله ... من التلاد وصول غير منان
وقال البحتري: من الطويل
ألست ترى مد الفرات كأنه ... جبال شروري جين في البحر عوما
وما ذاك من عاداته غير أنه ... رأى شيمة من جاره فتعلما
وقال حاتم: من الطويل
لا تسألني واسألي أي فارس ... إذا الخيل جالت في قناً فتكسرا
ولا تسأليني واسألي أي ياسر ... إذا بادر القوم الكنيف المسترا
وإني لوهاب لقطعي ونمرقي ... إذا ما صحوت والكميت المصدرا
وإني لتغشى أبعد الحي جفنتي ... إذا ورق الطلح الطوال تحسرا
نزل رجل بامرأة من العرب فقال لها: هل من لبن أو طعام يباع، فقالت: إنك للئيم أو حديث عهد باللئام، فاستحسن ذلك منها وخطبها فتزوجها.
قيل لأعرابية وقد حملت شاة تبيعها: بكم هذه؟ قالت: بكذا، قيل لها: أحسني، فتركت الشاة ومرت لتنصرف، فقيل لها: ما هذا؟ فقالت: لم تقولوا أنقصي، وغنما قلتم أحسني، والإحسان ترك الكل.

قال أبو الحسين محمد بن عمر بن بكير: كان أبي بين يدي المنتصر بالله، وأحمد بن الخصيب جالس، فدخل الحاجب فقال: أيها الأمير هذا الحسن بن سهل بالباب، فالتفت إليه أحمد فقال: دعنا من العظام الناخرة والرسوم الداثرة. فوثب أبي وقال: أيها الأمير إن للحسن بن سهل علي نعماً عظاماً وله في عنقي أياد جمة، فقال: ما هو يا عمر؟ فقال: ملأ والله بيتي ذهباً وفضة، وأدنى مجلسي، وخلع علي وألحقني برؤساء أهل العلم كأبي عبيدة والصمعي ووهب بن جرير وغيرهم، وقد أقدرني الله سبحانه بالأمير على مكافأته وهذا من أوقاته، فإن رأى الأمير أن يسهل إذنه ويجعل ذلك على يدي وحبوة لي وذريعة إلى مكافأة الحسن بالحسنى فعل، فقال: يا أبا حفص بارك الله عليك، فمثلك يستودع المعروف، وعند يثمر البر، وبمثلك يرغب الأشراف في اتخاذ الصنائع، وقد جعلت إذن الحسن إليك، فأدخله أي وقت حضر من ليل أو نهار، لا سبيل لأحد م الحجاب عليه، فقبل البساط ووثب إلى الباب، فأدخل الحسن، وأتكأه يده، فلما سلم على المتصر أمره بالجلوس فجلس، وقال له: قد جعلت إذنك إلى أبي حفص فاحضر إذا شئت من غدو أو عشي، وارفع حوائجك، وتكلم بكل ما في صدرك، فقال الحسن: والله أيها الأمير ما أحضر طلباً للدنيا ولا رغبة فيها ولا حرصاً عليها، ولكني عبد يشتاق إلى مواليه وسادته، وبلقائهم يشتد ظهره وينبسط أمله وتتجدد نعم الله تعالى عنده، وما أحضر لغير ذلك، قال: وأحمد بن لخصيب يكاد ينقد غيظاً. فقال له المنتصر: فاحضر الآن في أي الأوقات أحببت، فأكب الحسن على البساط يقبله شكراً ونهض. قال أبي: ونهضت معه، فلما بعدنا عن عينه بلغني أن المنتصر قال: هكذا فليكن الشاكرون، وعلى مثل هذا فلينهم المنعون؛ ثم قال الحسن لعمر: والله ما أدري بأي لسان أثنى عليك، فقال: يا سبحان الله أنا أولى بالثناء عليك منك، والدعاء لك، لأنك خولتني الغنى وألبستني النعمى في الزمان الصعب والحال التي يجفوني في مثلها الحميم، فجزاك الله عني وعن ولدي أفضل الجزاء، فقال الحسن: والهفاه على أن لا يكون ذلك المعروف أضعاف ما كان، لا در در الفوت وتعساً للندم وأحواله، ولله در الخريمي حيث يقول: من الطويل:
ودون الندى في كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل
وود الفتى في كل نيل ينيله ... إذا ما انقضى لو أن نائله جزل
ثم قال لي أبي: يا محمد اخرج معه، أعزه الله، حت توديه إلى منزله، قال أبو الحسين: فخرجت معه، فلم أزل أحدثه حتى جرى ذكر رزين العروضي الشاعر، وكان قد امتدحه بقصيدة، فمات رزين من قبل أن يوصلها إلى الحسن، فقلت: أعز الله الأمير، كان شاعراً ومن أهل العلم، مدح الأمير بقصيدة هي في العسكر مثل ومات قبل أن ينشدها، قال: فأسمعنيها أنت، فأنشدته:
قربوا جمالهم للرحيل ... غدوة أحبتك الأقربوك
خلفوك ثم مضوا مدلجين ... مفرداً بهمك ما ودعوك
وهي ستون بيتاً على غير وزن العروض.
قال أبو الحسين: فأنا واله أنشد، ودموعه تهمي على خده وتقطر على نحره، ثم قال: والله ما أبكي إلا على قصور الأيام عنا وبنا عنه، ثم جعل يتلهف وقال: فما الذي منعه من اللقاء: تعذر الحجاب أم قعود الأسباب؟ فقلت له: اعتل، جعلني الله فداك؛ فجعل يترحم عليه ترحم الرجل على أخيه ثم قال: والله لا أكون أعجز من علقمة قال: فو الله ما دريت ما عنى، فقلت: جعلني الله فداك: ومن علقمة؟ قال: علقمة بن علاثة حيث مات قبل وصول الحطيئة بالقصيدة التي رحل لها إليه حيث يقول: من الطويل
لعمري لنعم الحي من آل جعفر ... بحوران أمسى أدركته الحبائل
فإن تحي لا أملل حياتي وان تمت ... فما في حيان بعد موتك طائل
وما كان بيني لو لقيتك سالماً ... وبين الغنى إلا ليال قلائل
فبلغت هذه الأبيات علقمة، فأوصى له بمثل نصيب ابن. ولكن هل ترك الرجل وارثاً؟ قلت بنية، قال: أتعرف مكانها؟ قلت: نعم، قال: والله ما أتسع في وقتي هذا ما أبر به هذه الصبية، ولكن القليل يقع مها والعذر يقنع، ثم دعا غلاماً له فقال: هات ما بقي من نفقة شهرنا، قال: هذه فأعطاه ألفي درهم فدفعها إلي وقال: خذ ألفاً واعط الصبية ألفاً، ففعلت ما قال.

وأتى الحسن بن شهريار الحسن بن سهل فكلمه في رجل فقال له: العيال متوافرون، والضياع متحيفة، والوظائف قائمة، وذو العادة لا يرضيه دون عادته، وقد أمرت له بثلاثين ألف درهم، فقال الحسن بن شهريار، إنما مقدار الرجل الذي سألتك فيه أن يعطى ألفاً أو ألفين، فقال: يا حسن إن لكل شيء زكاة، وإن زكاة الجاه بذله، فإذا أجرى الله تعالى لإنسان على يدك خيراً فلا تعترض فيه.
قال علي عليه السلام لأصحابه: من كان له إلي منكم حاجة فليرفعها إلي في كتاب لأصون وجهه عن المسألة.
وقالوا: السخي من كان مسروراً ببذله، مسرعاً بعطائه، لا يلتمس عرض دنيا فيحبط عمله، ولا طلب مكافأة فيسقط شكره، ويكون مثله فيما أعطى مثل الصائد الذي يلقي الحب للطير لا يريد نفعها ولكن نفع نفسه.
نظر المنذر بن أبي سبرة إلى أبي الأسود الدؤلي وعليه قميص مرقوع فقال له: ما أصبرك على هذا القميص!! فقال: رب مملول لا يستطاع فراقه، فبعث إليه بتخت من ثياب، فقال أبو الأسود: من الطويل
كساني ولم أستكسه فحمدته ... أخ ل يعطيك الجزيل وناصر
وإن أحق الناس أن كنت شاكراً ... بشكرك من أعطاك والعرض وافر
ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفقراء فقال: إن سعيد بن خريم منهم، فأعطاه ألف دينار وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أعطيت فأغن.
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من العرب، فأعطاهم وفضل رجلاً منهم، فقيل له في ذلك فقال: كل القوم عيال عليه.
وكان عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب من الأجواد، أتاه رجل وهو بفناء داره فقام بين يديه فقال: يا ابن عباس إن لي عندك يداً وقد احتجت إليها، فصعد فيه بصره وصوبه فلم يعرفه ثم قال: ما يدك عندنا؟ فقال: رأيتك واقفاً بزمزم، وغلامك يمتح لك من مائها والشمس قد صهرتك، فظللتك بطرف كسائي حتى شربت، فقال: أجل إني لأذكر ذلك، وإنك لتتردد بين خاطري وفكري، ثم قال لغلامه ما عندك قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم، قال: ادفعها إليه، وما أراها تفي بحقه عندنا، فقال له الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيك كفاية، فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم شفع بك وبأبيك.
وحبس معاوية عن الحسين بن علي عليهما السلام صلاته، فقيل له: لو وجهت إلى ابن عمك عبيد الله فإنه قد قدم بنحو ألف ألف، فقال الحسين: وأين تقع ألف ألف من عبيد الله، فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت، وأسخى من البحر إذا زخر، ثم وجه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله، وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم، فلما قرأ عبيد الله كتابه، وكان أرق الناس قلباً، وألينهم عطفاً، انهملت عيناه ثم قال: ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك من ألإثم حين أصبحت لين المهاد، رفيع العماد، والحسين بشكو ضيق الحال وكثرة العيال؟! ثم قال لقهمرانه: احمل إلى الحسين نصف ما نملكه من فضة وذهب ودابة، وأخبهر أني شاطرته مالي، فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر، فقال له القهرمان: فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها؟ قال: إذا بلغنا ذلك دللتك على أمر تقيم به حالك، فلما أتاه الرسول قال: إنا له، حملت والله على ابن عمي وما حسبت أنه يتسع لنا هذا كله، وأخذ الشطر من ماله.
وأهدي إليه معاوي وهو عنده من هدايا النيروز حللاً كثيرة ومسكاً وآنية من ذهب وفضة، ووجهها مع حاجبه، فلما وضعها بني يديه نظر إلى الحاجب وهو ينظر إليها فقال له: هل في نفسك منها شيء؟ قال: نعم والله، وإن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف، فضحك عبيد الله وقال: فشأنك بها في لك قال: جعلت فداك، أني وإن يبلغ ذلك معاوية يجد علي، قال: فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن، فإذا كان خروجنا حملها إليك ليلاً، قال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم أكبر م الكرم، ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه، يعني معاوية، فظن عبيد الله أنها مكيدة مه فقال: دع هذا الكلام فإنا قوم نفي بما عقدنا ولا ننقض ما أكدنا.

وجاءه رجل من الأنصار فقال له: يا ابن عم محمد، إنه ولد لي في هذه الليلة مولود وإني سميته باسمك تبركاً مني به، وإن أمه ماتت، فقال عبيد الله: بارك الله لك في الهبة، وأجزل لك الأجر على المصيبة، ثم دعا بوكيله فقال: انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تخضنه، وادفع إليه مائتي العيش يبس، وفي المال قلة. فقال الأنصاري: جعلت فداك، لو سبقت حاتماً بيوم ما ذكرته العرب أبداً، ولكنه سبقك فصرت له تالياً، وأنا أشهد أن عفو جودك أكثر من مجهوده، وطل صوبك أكثر من وابله.
وعبيد الله بن أبي بكرة من الأجواد، أدلى إليه رجل بحرمة فأمر له بمائة ألف درهم فقال: أصلحك الله ما وصلني بها أحد قط، لقد قطعت لساني عن شكر غيرك، وما رأيت الدنيا في يد أحد أحسن منها في يدك، ولولا أنت لم تبق لنا بهجة إلا أظلمت ولانور إلا انطمس.
الذين انتهى إليهم الجود في الجاهلية: حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، وهرم بن سنان المري، وكعب بن مامة الإيادي، وضرب المصل بحاتم وكعب، وحاتم أشهرهما. فأما كعب فجاد بنفسه وآثر رفيقه بالماء، تصافنا الإدارة في المفازة فمات عطشاً، وليس له خبر مشهور غيره. وأما حاتم فاخرابه كثيرة، وآثاره في الجود مشهورة، وكان إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أمر غلامه يساراً فأوقد ناراً في يفاع من الأرض لينظر إليها من أضل الطريق ليلاً فيصمد نحوها، فقال في ذلك: من الرجز
أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا واقد ريح صر
عسى يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفاً فأنت حر
قالوا: ولم يكن حاتم يمسك شيئاً ما عدا فرسه وسلاحه فإنه كان لا يجود به ثم جاد بفرسه في سنة أزمة: قالت النوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض، واغبر أفق السماء، وراحت الإبل حدبا حدابير، وضنت المراضيع عن أولادها أن تبض بقطرة، وجلفت السنة المال وأيقنا بالهلاك، فوالله إني لفي ليلة صنبر بعيدة ما بين الطرفين إذ تضاغى أصيبيتنا جوعاً، عبد الله وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت إلى الصبية، فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعللني، فعرفت ما يريد فتناومت، فلما تهورت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت فقال: من هذا؟ فولى ثم عاد آخر الليل، فقال: من هذا؟ قال: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب، فما وجدت معولاً إلا عليك أبا عدي، فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت المرأة تحمل اثنين، ويمشي جانبيها أربعة، كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخر، ثم كشط عن جلده، ودفع المدية إلى المرأة، فقال: شأنك فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يأتيهم بيتاً بيتاً فيقول: هبوا، عليكم بالنار، والتفع بثوبه ناحية ينظر إلينا، لا والله إن ذاق منه مزعة وأنه لأحوج إليه منا، فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلا عظم أو حافر.

مرض سعيد بن العاص بالشام، فعاده معاوية ومعه شرحبيل ابن السمط ومسلم بن عقبة المري ويزيد بن شجرة الرهاوي، فلما نظر سعيد إلى معاوية وثب عن صدر مجلسه إعظاماً له، فقال له معاوي: أقسمت عليك أبا عثمان فإنك ضعفت لعلة، فسقط، فبادر معاوية نحو حتى حنا عليه، وأخذ بيده فأقعده معه على فراشه وجعل يشائله عن علته ومنامه وغذائه، ويصف له ما ينبغي أن يتوقاه، وأطال القعود عنده. فلما خرج التفت إلى شرحبيل ويزيد ابن شجرة فقال: هل رأيتما خللا في حال أبي عثمان؟ فقالا: لا ما رأينا شيئاً ننكره، فقال لمسلم: ما تقول أنت؟ قال: رأيت خللاً، قال: وما ذاك؟ قال: رأيت على حشمه ومواليه ثياباً وسخة، ورأيت صحن داره غير مكنوس، ورأيت التجار يخاصمون قهرمانه، قال: صدقت، كل ذلك قد رأيت، فوجه إليه مع مسلم بثلاثمائة ألف، فسبق رسول مسلم إلى سعيد يبشره بتوجيهها، ويخبره بما كان، فغضب سعيد وقال للرسول: إن صاحبك ظن أنه أحسن فأساء، وتأول فأخطأ، فأما وسخ ثياب الحشم فمن كثرت حركته اتسخ ثوبه، وأما كنس الدار فلست من جعل داره مرآته، وبهاءه لسته، ومعروفة عطره، ثم لا يبالي من مات هزلاً من ذوي رحمه أو لحمته، وأما منازعة التجار قهرماني فمن كثرت حوائجه وبيعه وشراؤه لم يجد بداً من أن يكون طالباً أو مطلبواً، وأما الما الذي أمر لنابه أمير المؤمنين فوصلته به كل رحم قاطعة، وهناه كرامة المنعم بها، وقد قلناه وأمرنا لصاحبك مه بمائة ألف، ولشرحبيل بن السمط بمثلها، وليزيد بن شجرة بمثلها، وفي سعة الله وبسط يد أمير المؤمنين ما عليه معولنا. فركب مسلم إلى معاوية فأعلمه، فقال: صدق ابن عمي فيما قال، وأخطأت فيما أنهيت إليه، فاجعل نصيبك من المال لروح بن زنباع عقوبة لك، فإنه من جنى جناية عوقب بمثلها، كما أنه من فعل خيراً كوفئ عليه.
قال الحسن: بلغني أن رجلاً جهده الجوع ففطن به بعض الأنصار، فلما أمسى أتى به رحله، وقال لمرأته: هل لك أن نطوي ليلتنا هذه لضيفنا؟ قالت: نعم، قال: فإذا قربت الطعام فاعمدي كأنك تصلحين السراج فاطفئيها، ففعلت، وجاءت بثريدة كأنها قطاة فوضعتها، ثم دنت فأطفأت السراج فجعل الأنصاري يضع يده في القصعة ولا يأكل، وأكل الضيف حتى أتى عليها، فلما أصبح صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أنت صاحب الكلام الليلة؟ قال: وما هو؟ قال: كذا وكذا، قال: قد كان ذاك يا رسول الله، قال: فوالله لقد عجب الله من صنيعكما اقترض ابن عبدل من التجار مالاً، وحلف لهم بالطلاق ثلاثاً أن يقضيهم المال عند طلوع الهلال، فلما بقي من الشهر يومان قال: من المنسرح
قد بات همي قرناً أكابده ... كأنما مضجعي على حجر
من رهبة أ، ير هلال غد ... فإن رأوه فحق لي حذري
وفقد بيضاء غادة كملت ... كأنها صورة من الصور
أصبحت من أهلي الغداة ومن ... ما لي على مثل ليلة الصدر
مر عبد الله بن جعفر ومعه عدة من أصحابه بمنزل رجل قد أعرس، فإذا يقينة تغني: من المنسرح
قل لكرام ببابنا يلجوا ... ما في التصابي على الفتى حرج
فقال عبد الله لأصحابه: لجوا فقد أذن لكم القوم، فنزل ونزلوا فدخلوا، فلما رآه صاحب المنزل تلقاه فأجلسه على الفرش، فقال للرجل: كم أنفقت على وليمتك؟ قال: مائتي دينار، قال فكم مهر صاحبتك؟ قال: كذا وكذا، فأمر له بالجميع وبمائة دينار بعد ذلك معونة واعتذر إليه وانصرف.
قيل غاب محمد بن نصر بن بسام عن داره مدة عشرين سنة، ووكل بها في هذه المدة من يفرشها وينظفها في كل يوم فيدخل إليها المقيمون هناك من خواصه وأصحابه، فيجلسون حيث كان يجلس منها قبل انتقاله إلى بغداد، ومطبخه فيها قائم، ويجتمع الناس فيها على طعامه وهو غائب عنها هذه المدة الطويلة.
صنع عمرو بن حريث طعاماً لعدي بن حاتم، فلما دخل نظر إلى الستور مسبلة فقال: آكل وحدي؟ فقال عمرو: إنما هو شيء هيأناه لك خاصة، فقال: حرام علي أكله أو ترفع الستور فيدخل من شاء.
كان المهلب يقول لبنيه: يا بني ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم، ودوابكم وخدمكم عند غيركم أحسنمنها عندكم.

اشتهى المأمون أن يأكل من الكواميخ، فقال له أخوه أبو إسحاق: إن لي نبطياً يجيدها، فاستدعى منه ما تعجل عنده، فأحضر في الحال ثمانين غلاماً على رؤوسهم جون وأطباق فيها ألوان من الكواميخ والمخللات والشواريز والسمك الطري والمملوح، ومن البوارد بالفراريج وغيرها، ومن المزورات، فاستكثره المامون وأعجبه استطابه، فقال لأبي إسحاق: قل له يعمل مثل ذلك في كل عام مرة، فقال: بل في كل يوم فإنه منازلي لا تخول مه وليس علي فيه كلفة. ثم رفع صاحب الديوان بعد مدة مؤامرة ببقايا السنة، فوجد المأمون فهيا اسم مالك بن شاهي فقال: قد مر بي هذا الأسم، فقيل: هو الذي أكلت كوامخه، قال: فنأكل طعام الرجل ونحاسبه؟ وكان عليه ثلاثة عشر ألف درهم، فوقع تحتها: يعان بها على مروءته، ورمى بها من يده ثم قال: ردوها إلي، إن الناس يتحدثون أن المأمون أكل سكرات قامت عليه بكذا وكذا، وأطلق صاحبها من الحبس، ثم وقع في المؤامرة بإطلاق جميع من في الحبس، وكان مبلغ ما عليهم أربعين ألف ألف درهم.
قيل لم يكن لخالد بن برمك جليس إلا وقد بنى له داراً على قدر كفايته، وكان يقف على أولاد الإخوان ما يعيشهم أبدا، وما كان لأحد من إخوانه ولد إلا من جارية هو وهبها له.
وقيل إن جاراً لابن المقفع أراد بيع داره لدين ركبه، وكان يجلس في ظل تلك الدار كثيراً، فقال: ما قمت إذن بحق ظل داره إن باعها معدماً وبت واجداً، فبعث إليه بثمنها وقال: دعها على حالها وقلب هذا المال في بعض التجارات.
روي أن سعيد بن خالد بن عثمان بن عفان أتي سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، أتيتك مستعدياً، قال: ومن بك؟ قال: موسى شهوات، قال: وماله؟ قال: سمع بي واستطال في عرضي، فقال: يا غلام علي بموسى شهوات، فأتي به فقال: ويلك أسمعت به واستطلت في عرضه؟ فقال: ما فعلت يا أمير المؤمنين ولكين مدحت ابن عمه فغضب هو، قال: وكيف ذاك؟ قال: علقت جارية لم تبلغ ثمنها جدتي، فأتيه وهو صديقي فشكوت إليه ذلك، فلم أصب عنده فيه شيئاً، فأتيت ابن عمه سعيد بن خالد بن عبد الله بن أسيد، فشكوت إليه ما شكوته إلى هذا، قال تعود إلي، فتركته ثلاثاً ثم أتيته فسهل من إذني، فلما استقر بي المجلس قال: يا غلام قل لقيمتي هاتي وديعتي، ففتح باب بين بيتين فإذا أنا بالجارية، فقال لي: أهذه وديعتي، ففتح باب بين بيتين فإذا أنا بالجارية، فقال لي: أهذه بغيتك؟ قلت: نعم فداك أبي وأمي، قال اجلس، ثم قال: يا غلام قل لقيمتي هاتي ظبية نفقتي، فأتي بظبية فنثرت بين ييديه فإذا فيها مائة دينار ليس فيها غيرها فدرت في الظبية، قال قال: عتيدة طبيبي! فأتي بها، ثم قال: ملحفة فراشي، فأتي بها، فصير ما في الظبية والعتيدة في حواشي لملحفة ثم قال: شأنك بهواك واستعن بهذا عليه، فقال له سليمان بن عبد الملك: فذلك حين تقول ماذا؟ فأنشده: من الطويل
أبا خالد أعني سعيد بن خالد ... أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد
ولكنني أعني ابن عائشة الذي ... أبو أبويه خالد بن أسيد
عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى ... وإن مات لم يرض الندى بعقيد
دعوه دعوه إنكم قد رقدتم ... وما هو عن أحسابكم برقود
فقال سليمان: يا غلام علي بسعيد بن خالد، فأتي به فقال: أحق ما وصفك به موسى؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فأعاد عليه، فقال: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، قال فما طوقتك عواقب هذه الأفعال؟ قال: دين ثلاثين ألف دينار، قال: قد أمرت لك بها وبمثلها وبمثلها وبثلث مثلها، فحمل إليه مائة ألف دينار. قال الروايو: فلقيت سعيد بن خالد بعد ذلك فقلت له: ما فعل المال الذي وصلك به سليمان؟ قال: ما أصبحت والله أملك منه خمسين دينارً، قلت: فما اغتاله؟ قال: خلة من صديق وفاقة من ذي رحم.
ولما أنشده موسى الشعر قال له: اتفقت أسماؤهما وأسماء آبائهما، فتخوفت أن يذهب شعري باطلاً، ففرقت بينهما بأمهاتهما، فأغضبه أن مدحت ابن عمه، فقال سليمان: بلى والله لقد هجوته، وما خفي علي ذلك، ولكن لا أجد إليك سبيلاً، فاطلقه.
والبخيل لا يزال عدواً للجواد يحسده على ما آتاه الله من فضله ويحقد عليه نعمة الله عنده، قال الطرماح بن حكيمك من الطويل

لقد زادني حباً لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل
وأني شقي باللئام ولا ترى ... شقياً بهم إلا كريم الشمائل
قال إبراهيم بن هرمة: ما رأيت قط أسخى ولا أكرم من رجلين: إبراهيم بن عبد الله بن مطيع وإبراهيم بن طلحة بن عمرو بن عبيد الله بن معمر؛ أما إبراهيم بن طلحة فأتيته فقال: أحسنوا ضيافة أبي إسحاق، فأتيت بكل شيء من الطعام، فأردت أن أنشده فقال: ليس هذا وقت الشعر، ثم أخرج إلي الغلام رقعة فقال: إيت بها الوكيل، فأتيته بها فقال: إن شئت أخذت لك جميع ما كتب به، وإن شئت أعطيتك القيمة، قلت: وما أمر لي به؟ قال: مائتي شاة برعائها أربعة أجمال وغلام جمال، ومظلة وما يحتاج إليه، وقوتك وقوت عيالك سنة، فقلت: أعطني القيمة، فأعطاني مائتي دينار؛ وأما إبراهيم بن عبد الله فأتيته في منزله بمشاش على بئر الوليد بن عثمان بن عفان، فدخل منزله ثم خرج إلي برزمة ثياب وصرة من داهم ودنانير وحلي ثم قال: لا والله ما بقينا في منزلنا ثوباً نواري به امرأة ولا حلياً ولا ديناراً ولا درهماً.
قل أعرابي: من لم يضن بالحق عن أهله فهو الجواد.
وقال آخر: الصبر عند الجواد أخو الصبر عند البأس.
قيل: كان مبدأ أمر حاتم في الجود أنه لما ترعرع جعل يخرج طعامه، فإنه وجد من يأكله معه أكله، وإن لم يجد طرحه، فلما رأي أبوه أنه يهلك طعامه قال له: الحق بالإبل، فخرج إليها، ووهب له جارية وفرساً وفلوها. وقيل: بل هلك أبو حاتم وهو صغير، وهذه القصة كانت مع جده سعد بن الحشرج، فلما أتى حاتم الأبل طفق يبغي الناس فلا يجدهم، ويأتي الطريق فلا يجد عليه أحداً، فبينا هو كذلك إذ بصر بركب على الطريق فأتاهم فقالوا: يا فتى هل من قرى؟ فقال: تسألوني عن القرى وقد ترون الإبل؟ وكان الذين بصر بهم عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني، وكانوا يريدون النعمان، فنحر لهم ثلاثة من الإبل، فقال عبيد: إنما أردنا اللبن، وكانت تكفينا بكرة إذا كنت لا بد متكلفاً لنا شيئاً، فقال حاتم: قد عرفت، ولكني رأيت وجوهاً مختلفة، وألواناً متفرقة، فظننت أن البلدان غير واحدة وأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أى قومه، فقالوا فيه أشعاراً امتدحوه بها وذكروا فضله، فقال حاتم: أردت أن أحسن إليكم فصار لكم الفضل علي، وأنا أعاهد الله أن أضرب عراقيب إبلي عن آخرها أو تقوموا إليها فتقسموها، ففعلوا، فأصاب الرجل تسعة وثلاثين بعيراً، ومضوا على سفرهم إلى النعمان، وإن أبا حاتم أو جده سمع بما فعل، فأتاه فقال: أين الإبل؟ فقال: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجد الدهر وكرماً، لا يزال الرجل يحمل بيت شعر أثنى به علينا عوضاً من إبلك، فلما سمع أبوه ذلك قال: أب إبلي فعلت ذلك؟ قال: نعم، قال: والله لا أساكنك أبداً، فخرج أبوه بأهله وترك حاتماً ومعه جاريته وفرسه وفلوها، فقال يذكر تحول أبيه عنه والشعر يدل على أنه جده لأنه حاتم بن عبد الله بن سعيد بن الحشرج: من الطويل
إني لعف الفقر مشترك الغنى ... وتارك شكل لا يوافقه شكلي
وشكلي شكل لا يقوم لمثله ... من الناس إلا كل ذي نيقة مثلي
وأجعل مالي دون عرضي جنة ... لنفسي وأستغني بما كان من فضلي
وما ضرني أن سار سعد بأهله ... وأفردني في الدار ليس معي أهلي
قالوا: فبينا حاتم يوماً بعد أن أنهب ماله ووهبه نائم إذ انتبه، وإذا حوله نحو من مائتي بعير تجول ويحطم بعضها بعضاً فساقها إلى قومه فقالوا: يا حاتم أبق على نفسك، فقد رزقت مالا ولا تعودن إلى ما كنت عليه من الإسراف، قال: فإنها نهبى بينكم، فانتهبت فأنشأ حاتم يقول: من الطويل
تداركني جدي بسفح متالع ... فلا يأمنن ذو نومة أن يغنما

وأقبل ركب من بني أسد ومن قيس يريدون النعمان، فلقوا حاتماً فقالوا له: إنا تركنا قومنا يثنون عليك خيراً، وقد أرسلوا إليك برسالة، قال: وما هي؟ فأنشده الأسديون شعراً لعبيد، وأنشده القيسيون شعراً للنابغة، فلما أنشدوه قالوا: إنا لنستحيي أن نسألك شيئاً وإن لنا لحاجة، قال: وما هي؟ قالوا: صاحب لنا قد أرجل، فقال حاتم: خذوا فرسي هذه فاحملوا عليها صاحبكم، فأخذوها، وربطت الجارية فلوها بثوبها، فأفلت فاتبعته الجارية، فقال حاتم: ما لحقكم من شيء فهو لكم، فذهبوا بالفرس والفلو والجارية.
أسرت عنزة حاتماً، فجعل نساء من عنزة يدارين بعيراً ليفصدنه، فضعفن عنه، فقلن: يا حاتم أفاصده أنت إن أطلقنا إحدى يديك؟ قال: نعم فأطلقن إحدى يديه فوجأ لبته، فاستدمين منه ما شئن، ثم إن البعير عضد أي لوى عنقه، فقلن، ما صنعت؟ قال: هكذا فزدي، يريد فصدي، فجرت مثلاً فلطمته إحداهن فقال: ما أنتن نساء عنزة بكرام ولاذوات أحلام، وإن امرأة منهن يقال لها عاجزة أعجبت به فأطلقته ولم ينقمن عليه، فقال حاتم يذكر البعير الذي فصده. من الطويل
كذلك فصدي إن سألت مطيتي ... دم الجوف إذ كل الفصاد وخيم
عظم على طيء موت حاتم فادعى أخوه أن يخلفه، فقالت له أمه: هيهات فشتان ما بين خلقيكما، وضعته فبقي سبعة أيام لا يرضع حتى ألقمت أحد ثديي طفلاً من الجيران، وكنت أنت راضعا أحدهما وآخذاً الآخر بيدك، فأنى لك؟! قال حذيفة بن اليمان: رب رجل فاجر في دينه، أخرق في معيشته، يدخل الجنة بسماحته.
كان جعفر بن محمد يقول: اللهم ارزقني مواساة من قترت عليه رزقك بما أوسعت علي من فضلك.
قيل لأنوشروان: ما الجواد الذي يسع الناس كلهم؟ قال: إرادة الخير لجميعهم، وبسط الوجه لهم.
وقيل: الكريم يكرم وإن افتقر، كالأسد يهاب وإن كان رابضاً، واللئيم يهان وإن أيسر كالكلب يخسأ وإن طوق وحلي.
قال بعض العرب: يا بني لا تزهدن في معروف فإن الدهر ذو صروف، كم راغب كان مرغوباً إليه، وطالب كان مطلوباً ما لديه، وكن كما قال أخو الدئل: من الطويل
وعد من الرحمن فضلاً ونعمة ... عليك إذا ما جاء للخير طالب
ولا تمنعن ذا حاجة جاء راغباً ... فإنك لا تدري متى أنت راغب
المقنع الكندي: من الكامل
ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل
آخر مثله: من الخفيف
ليس جود الجواد من فضل مال ... إنما الجود للمقل المواسي
قال خالد بن عبد الله القسري وهو يخطب: أيها الناس من جاد ساد، ومن بخل رذل، وإن اكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والفروع من مغارسها تنمي وبأصولها تسمو، ثم قال في آخر كلامه: من المنسرح
قد توهم النفس في تحسسها ... وتنكر العين في تفرسها
فعندها يستدل بالنمر ال ... عذب على مستطاب مغرسها
احتضر الحكم بن المطلب، وكان من الأسخياء، فأصابته غشية، فقيل: اللهم هون عليه فغنه كان وكان، فأفاق فقال: إن ملك الموت يقول: إني بكل سخي رفيق. وكان الحكم هذا إذا انقطع شسعه خلع النعل الأخرى ومضى، فأخذ نعليه نوبي فسوى الشسع، وجاءه بالنعلين في منزله، وقال: سويت لك الشسع، فدعا بثلاثين ديناراً فدفعها إليه وقال: ارجع بالنعلين فهما لك.

ومن الأجواد عبيد الله بن أبي بكرة، كتب إلى يزيد بن ربيعة ابن مفرغ الحميري: إني قد توجهت إلى سجستان فالحق بي، فلعلك إن قدمت علي ألا تندم ولا تذم رأيك، فتجهز ابن مفرغ وخرج حتى قدم سجستان ممسياً، فدخل عليه وشغله بالحديث وأمر له سراً بمنزل وفرش وخدم، وجعل يطاوله حتى علم أنه قد استتم ما أمر له به، ثم صرفه إلى المنزل الذي هيئ له، ثم دعا به في اليوم الثاني فقال له: يا ابن مفرغ إنك قد تجشمت إلي شقة بعيدة، واتسع لك الأمل فرحلت إلي لأقضي عنك دينك وأغنيكعن الناس، وقلت: أبو حاتم بسجستان فمن لي بالغنى بعده؟ فقال: والله ما أخطأت أيها الأمير ما كان في نفسي، فقال عبيد الله: أم والله لأفعلن، ولأقلن لثك عندي ولأحسنن صلتك، وأمر له بمائة ألف درهم ومائة وصيف ومائة وصيفة ومائة نجيبة، وأمر له بما نيفقه إلى أن يبلغ بلده سوى المائة اللف، وبمن يكفيه الخدمة من غلمانه ومواليه، وقال له: إن من خفة السفر أن لا تهتم بخف ولا حافر، فكان مقامه عند سبعة أيام، ثم ارتحل وشيعة ابن أبي بكرة أربعة فراسخ، ثم قال له: يا ابن مفرغ انه ينبغي للمودع أن ينصرف، وللمتكلم أن يسكت، وأنا من قد عرفت، فأنفق على المال وعلى حسن ظنك بي ورجائك فين فإذا بدا لك أن تعود فعد، والسلام.
ولزم يزيد بن مفرغ غرماؤه بدين فقال لهم: انطلقوا نجلس على باب الأمير عسى أن يخرج الأشراف فيروني فيقضوا عني، فانطلقوا به، فكان أول من خرج إما عمر بن عبيد الله بن معمر وإما طلحة الطلحات، فلما رآه قال: أبا عثمان ما أقعدك ها هنا؟ قال: غرمائي هؤلاء لزموني بدين لهم علي، قال: وكم هو؟ قال: سبعون ألفاً، قال: علي مها عشرة آلاف، ثم خرج الآخر على الأثر فسأله كما سأل صاحبه قال: هل خرج قبلي أحد؟ قالوا: نعم، قال: فما صنع قال: ضمن عشرة آلاف، قال: فعلي مثلها، قال: فجعل الناس يخرجون، فمنهم من يضمن الألف إلى أكثر من ذلك حتى ضمنوا له أربعين ألف درهم، وكان يأمل عبيد الله بن أبي بكرة، فلم يخرج حتى غربت الشس، فخرج مبادراً فلم يره حتى كاد يبلغ بيته، فقيل له: إنك مررت بابن مفرغ ملزوماً وقد مر به الأشراف فضمنوا عنه، فكر راجعاً فوجده قاعداً فقال له: يا أبا عثمان ما يجلسك ها هنا؟ قال: غرمائي هؤلاء يزمونني، قال: وكم ضمن عنك قال: أربعون ألفاً، قال: فاستمتع بها وعلي دينك أجمع.
قيل لم يكن رجل من ولاة بني مروان أنفس على قومه ولا أحسد لهم من الوليد بن عبد الملك، فأذن يوماً للناس فدخلوا عليه، وأذن للشعراء فكان أول من بدر بين يديه عويف القوافي الفزاري، فاستأذنه في الإنشاد فقال: ما بقي لي بعد ما قلت لأخي زهرة؟ قال: وما قلت له مع ما قلت لأمير لأمير المؤمنين؟ قال: ألست الذي يقول له: من الكامل
يا طلح أنت أخو الندى وحليفة ... إن الندى من بعد طلحة ماتا
إن السماح إليك أطلق رحله ... فبحيث بت من المنازل باتا
أو لست الذي يقول: من الوافر
إذا ما جاء يومك يا ابن عوف ... فلا جادت على الأرض السماء
ولا سار العزيز بغنم جيش ... ولا حملت على الطهر النساء
تساقى الناس بعدك يا ابن عوف ... ذريع الموت ليس له شفاء

ألم تقم علينا الساعة يوم قامت عليه؟ لا والله لا أسمع منك شيئاً، ولا أنفعك بنافعة أبداً، أخرجوه عني، فقال له القرشيون والشاميون: وما الذي أعطاك حتى استخرج هذا منك؟ قال: أم والله لقد أعطاني غيره أكثر من عطيته، ولكن لا والله ما أعطاني أحد قط أحلى في قلبي ولا أبقى شكراً ولا أجدر ألا أنساه، ما عرفت الصلات، من عطيته. قالوا: وما أعطاك؟ قال: قدمت المدينة ومعي بضيعة لي لا تساوي عشرة دنانير أريد أن أبتاع قعوداً من قعدان الصدقة، فإذا برجل بصحن السوق على طنفسة قد طرحت له، وإذا الناس حوله، وإذا بين يديه إبل معقولة، فظننت أنه عامل السوق، فسلمت عليه فأثبتني وجهلته، فقلت له: رحمك الله، هل أنت معيني ببصرك على قعود من هذه القعدان تبتاعه لي؟ فقال: نعم، أو معك ثمنه؟ فقل: نعم، فأهوي بيده إلي فأعطيته بضيعتي، فرفع طنفسته فألقاها تحتها، ومكث طويلاً، ثم قمت إليه فقلت: أي رحمك الله انظر في حاجتي، فقال: ما منعني منك إلا النسيان، أمعك حبل؟ قلت: نعم قال: هكذا أفرجوا، فأفروا حتى استقبل الإبل التي بين يديه، فقال: اقرن هذه وهذه، فما برحت حتى أمر لي بثلاثين بكرة، أدنى بكرة فيها ولا دنية فيها خير من بضاعتي ثم رفع طنفسته فقال: شأنك بضاعتك فاستعن بها على من ترجع إليه، فقلت: رحمك الله أتدري ما تقول؟ فما بقي عنده إلا من نهرني وشتمني، ثم بعث مع ينفراً فأطردوها حتى أطلعوها في رأس الثنية، فوالله لا أنساه ما دمت حياً أبداً.
قيل: تراهن نفر من كلب ثلاثة على أن يختاروا من تميم وبكر نفراً ليسألوهم، فأيهم أعطى ولم يسألهم عن نسبهم ومن هم فهو أفضلهم، فاختار كل واحد مهم رجلاً والذين اختيروا: عمير بن السليل بن قيس بن مسعود الشيباني وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري وغالب بن صعصعة ثم أتوا طلبة فقال لهم مثل ذلك، فردوا عليه كرد ابن السليل، فأتوا غالباً فسألوه فأعطاهم مائة ناقة وراعيها ولم يسألهم.
قال محمد بن حبيب: كان للنمر بن تولي صديق، فأتاه النمر في ناس من قومه يسألونه في دية احتملوها، فلما رآهم وسألوه تبسم فقال النمر:
تبسم ضاحكاً لم رآني ... وأصحابي لدى عين التمام
فقال لهم الرجل: إن لي نفساً تأمرني أن أعطيكم ونفساً تأمرني أن لا أفعل، فقال النمر: من البسيط
أما خليلي فأني لست معجلة ... حتى يؤامر نفسيه كما زعما
نفس له من نفوس الناس صالحة ... تعطي الجزيل ونفس ترضع الغنما
ثم قال النمر لأصحابه: لا تسألوا أحداً فالدية كلها علي.
ابن الرومي: من الطويل
عدونا إلى ميمون نطلب حاجة ... فأوسعنا منعاً وجيزاً بلا مطل
فقال اعذروني إن بخلي جبلة ... وإن يدي مخلوقة خلقة القفل
طبيعة بخل أكدتها خليقة ... تخلقتها خوف احتياجي إلى مثلي
فألقى إلينا عذرة لا نردها ... وكان ملقى حجة اللؤم والبخل
كان رجل من البخلاء قد أفرط في البخل حتى صار مثلاً، فأتى جاراً له من الزهاد فجعل يشكو إليه البخل وما قد بلي به منه وأنه لا حيلة له فيه، فقال له الزاهد: لهذا القول كلام في الجواب طويل، ولكني أقول لك: إنك على ما وصفت من أنك لا تجود على نفسك بفلس غير بخيل، لأن البخيل يعطي ويمنع، وأنت تعطي كل مالك، فقال له البخيل: وكيف ذاك مع وصفت لك؟ قال: لأنك توفره كله على من تخلف. قال فرجع والله البخيل عن خلقه وعد من الأجواد.
قيل: كان أسيد بن عنقاء الفزاري من أكثر الناس مالاً وأشدهم عارضة ولساناً، فطال عمره، ونكبه دهره، واختلت حاله، فخرج عشية يتبقل لأهله، فمر به عميلة الفزاري فسلم عليه وقال: يا عم ما أصارك إلى ما أرى من حالك، فرجع ابن عنقاء إلى أهله فأخبرها بما قال له عميلة، فقالت: لقد غرك كلام غلام جنح ليل، فكأنما ألقمت فاه حجراً، فبات متململاً بين رجاء ويأس، فلما كان السحر سمع ثغاء الشاء ورغاء الإبل وصهيل الخيل ولجب الأموال، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا عميلة ساق إليك ماله، قال: فاستخرج ابن عنقاء ثم قسم ماله شطرين وساهمه عليه، وأنشأ ابن عنقاء يقول: من الطويل
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر

جعاني فآساني ولو ضن لم ألم ... على حين لا بدو يرجى ولا حضر
فقلت له خيراً وأن ثنيت فعله ... وأوافك ما أبليت من ذم أو شكر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردى رداء سابغ الذيل واتزر
غلام رماه الله بالخير يافعاً ... له سيمياء لا تشق على البصر
كأن الثريا علقت فوق نحره ... وفي أنفه الشعري وفي خده القمر
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذل ولو شاء لا نتصر
دخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري فقال: أصلح الله الأمير، شيخ كبير حدته إليك بارية العظام، ومورثة الأسقام، ومطولة الأعوام، فذهبت أمواله، وذعذعت إباله، وتغيرت أحواله، فإن رأى الأمير أن يبجره بفضله، وينعشه بسجله، ويرده إلى أهله، فقال: كل ذلك، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
بعث معاوية إلى عائشة بمائة ألف درهم فما قامت من مجلسها حتى وزعتها، فدخلت عليها الخادم فقالت: لو حبست لنا درهماً نشتري به لحماً، فقال: هلا ذكرتني ذلك قبل أن أفرقه.
وكان ترقع قميصاً لهان ودخل عليها المنكدر فقال: أصابتني حاجة فأعينيني، فقالت: ما عندي شيء، ولو كانت عندي عشرة آلاف درهم بعثت بها إليك، فلما خرج من عندها جاءتها عشرة آلاف درهم من عند خالد ابن أسيد، فقالت: ما أوشك ما ابتليت ثم أرسلت بها في اثره، فدخل السوق فاشترى جارية بألفي درهم فولدت له ثلاثة كانوا عباد أهل المدينة: محمد وأبو بكر وعمر.
جاء أسماء بن خارجة الفزاري إلى داره فوجد على بابه فتى جالساً فقال: ما يجلسك ها هنا يا فتى؟ قال: خير، فألح عليه فقال: جئت سائلاً إلى هذه الدار فخرجت منها جارية اختطفت قلبي، فجلست لكي تخرج ثانية، فجعل يعرضهن عليه حتى مرت به فقال: هي هذه، فقال: مكانك، فدخل ثم خرج إليه فقال: إنها لم تكن لي، كانت لبعض بناتي فابتعتها بثلاثة آلاف درهم، خذ بيدها بارك الله لك فيها.
شاعرك من الطويل
أصبت صنوف المال من كل وجهة ... فما نلته إلا بكف كريم
وغني لأرجو أن أموت وتنقضي ... حياتي وما عندي يد للئيم
قال كسرى: اجتماع المال عند الأسخياء أحد الخصبين، واجتماعه عند البخلاء أحد الجدبين.
ابن الرومي: من المتقارب
يقتر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد
دخل عبد الرحمن بن أبي عمار، وهو يومئذ فقيه أهل الحجاز، على نحاس يعترض جواري له، فعلق واحدة منهن فاستهتر بذكرها حتى مشى إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه فكان جوابه: من البسيط
يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي اللوم أم وقعا
فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر، فلم يكن لههمة غيرة، فبعث إلى مولى الجارية فاشتراها منه بأربعين ألف درهم، وأمر قيمة جواريه أن تطيبها وتحليها ففعلت، وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه، فقال: ما لي لا أرى ابن أبي عمار؟ فأتاه، فلما أراد أن ينهض استجلسه فقعد، فقال له عبد الله بن جعفر: ما فعل حب فلانة؟ قال: في اللحم والمخ والدم والعصب والعظام، قال: تعرفها إن رأيتها؟ قال: أو أعرف غيرها؟ قال: فإنا قد ضممناها إلينا، فوالله ما نظرت إليها، فأمر بها فأخرجت في الحلي والحلل، قال: أهي هذه؟ قال: نعم بأبي أنت وأمي، قال: فخذ بيدها فقد جعلتها لك، أرضيت؟ قال: أي والله بأبي أنت وأمي وفوفق الرضا، فقال له ابن جعفر: لكني والله لا أرضى أن أعطيكها هكذان يا غلام احمل معه مائة ألف درهم كيلا يهتم بها وتهتم به، قال: فراح بها وبالمال.
قال مروان بن أبي حفصة: دخلت على الوليد بن يزيد وأنا غلام شاب ولي جمة فينانة، وبيد الوليد قضيب، فجعل يشير به إلى جمتي ويقول: إنك لفينان الشعر يا ابن أبي حفصة فمن ولد سكر أنت؟ قلت: لا، ثم أنشد الوليد شعراً له: من الطويل
ألا أبلغوا أهل الحجاز رسالة ... بأن سماء الضر عنكم ستقلع
ستوشك أموال معاً وزوائد ... وأعطية تأتيكم تتسرع
قال مروان: فقلت معارضاً للوليد: من الطويل
أتت منك قطان الحجاز رسالة ... فأنت بها واف وقولك مقنع

وعدت بها أن تكشف الضر عنهم ... وأبلغها الركبان عنك فأسرعوا
في شعر لمروان طويل؛ ثم أنشدته شعراً مضى فيه فقلت: من البسيط
......... فقلت لهم ... ذو اللب يعلم أنى تؤكل الكتف
قال: ومعن بن زائدة واقف على رأس الوليد، قال: ثم انصرفت، فقبل أن أخرج من الدار أحسست بإنسان يضرب بين كتفي، فالتفت فإذا هو معن، فقال لي: يا ذا الكتف إن سمعت بي يوماً من دهر قد وقعت في شيء فأتني، قال: ثم خرجت فنسيت قول معن وضرب الدهر من ضربه، ثم حججت في خلافة المنصور، فبينا أنا أطوف في البيت إذا رجل يضرب بين كتفي ويقول: يا ذا الكتف، فالتفت إليه فلم أعرفه فقال: أنا معن بن زائدة، وقد وليت اليمن فالحق بي، فصرت إلى منزله فقلت: أعز الله الأمير، إن لي أباً شيخاً كبيراً وأماً عجوزاً ولم أقدر لقاءك في هذا الوجه فأخبرهما به فيسكنا إليه، فأذن لي في الرجوع إليهما واللحوق بك بعد ذلك، فأجابني إلى ما سألت، ونهضت من بين يديه، فلما كنت في بعض الدار تبعني غلام بكيس لا أعلمه إلا قال: خمسمائة دينار وبرد وشي فقال: يقول لك الأمير استعن بهذا على سفرك إلى أهلك ومن أهلك إلينا، فأخذتها ومضيت إلى منزلي، ثم خرجت إليه على طريق نجران فوافيته بصنعاء، فلما دخلت عليه أنشدته قصيدتي التي أقول فيها: من الكامل
معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان
وكان على فراش فنزل عنه، وأمر لي بمال فأعطانيه، ثم أنشدته قصيدتي التي أقول فيها: من الكامل
مسحت ربيعة وجه معن سابقاً ... لما جرى وجرى ذوو الأحساب
خلى الطريق له الجياد قواصراً ... من دون غايته وهن كوابي
وسمت به عر سوابق زانها ... كرم النجار وصحة الأنساب
فقام من مجلسه إلي وقبل رأسي وأمر لي بمال فأعطانيه، فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها: من الطويل
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
لهاميم في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
ثلاث بأمثال الجبال حباهم ... وأحلامهم منها لدى الوزن أثقل
فأمر لي بمال أعطانيه، فقلت له: أغنيتني أغناك الله، فقال: لهن الله من يقدر أنه قد كافأك يا ابن أبي حفصة.
وولي معن أذربيجان، فقصده قوم من أهل الكوفة فاستأذنوا، فدخل الحاجب فقال: أعز الله الأمير، إن بالباب وفداً من أهل العراق، قال: من أي العراقين؟ قال: من أهل الكوفة، فأذن لهم، فلما نظر إليهم وثب عن أريكته وأنشأ يقول الشعر لعباد بن عباد المهلبي: من الطويل
إذا نوبة نابت صديقك فاغتنم ... مرمتها فالدهر بالناس قلب
فأحسن ثوبيك الذي هو لابس ... وأحسن مهريك الذي هو يركب
فبادر بمعروف إذا كنت قادراً ... حذار اقتدار أو غنى منك يعقب
فوثب إليه رجل من القوم فقال: أصلح الله الأمير، أنا أنشدك ما هو أحسن من هذا لابن عمك ابن هرمة، فقال: هات، فقال: من الطويل
وللنفس حاجات تحل بها العرى ... وتسخو عن المال النفوس الشحائح
إذا المرء لم ينفعك حياً فنفعه ... أقل إذا ضمت عليه الصفائح
لأية حال يمنع المرء ماله ... غداً فغداً والموت غاد ورائح
قال: أحسنت والله، وإن كان الشعر لغيرك، يا غلام أعطهم أربعة آلاف، أربعة آلاف ليستعينوا بها على أمورهم إلى أن يتهيأ لنا فيهم ما نريد، قال الغلام: يا سيدي أعطيهم دنانير أو دراهم؟ قال معن: لا تكون همتك أبعد من همتي صفرها لهم، فأعطاهم دنانير.
لم يغسل عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ثوباً قط، كلما استغسل ثوبه كساه، فكلما أراد أحد من أهله أو من غيرهم شيئاً من ثيابه قال له: استغسل ثوبك، فيدفعه إليه.

جاء رجل إلى أحمد بن أبي داود فقال: أيها القاضي مالي إليك حاجة غير أني أحبك لعموم معروفك، ثم أنشأ يقول: من الكامل
مالي إلى ابن أبي داود حاجة ... تدني إليه ولا له عندي يد
إلا يد عمت فكنت كواحد ... ممن يعين عل الثناء ويحمد
كانت العرب تسمي الكلب داعي الضمير، وهادي الضمير، وداعي الكرم، ومتمم النعم، ومشيد الذكر، لما يجلب من الضياف بنباحه. والضمير: الضيف الغريب، من أشمرته البلاد إذا غيبته؛ وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح ولم تثبت النيران فرقوا الكلاب حوالي الحي وجعلوا لها مظال، وربطوها إلى العمد لتستوحش فتنبح فتهدي الضلال.
المتنبي: من الطويل
إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الذى ... فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقيا
وللنفس أخلاق تدل على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
غزا تبع الأوس والخزرج فكان يقاتلهم نهاراً ويخرجون إليه القرى ليلاً.
سأل الوليد بن عقبة مروان بن الحكم، وهو على المدينة، والمغيرة ابن شعبة، وهو على الكوفة، فلم يجد عندهم طائلاً، فانحدر إلى عبد الله بن عامر، وهو على البصرة، فقضى عنه دينه مائة ألف، وأجازه بمائة ألف، فقال: من الطويل
ألا جعل الله المغيرة وابنه ... ومروان نعلي بذلة لابن عامر
لكي يقياه الحر والقر والأذى ... ولسع الأفاعي واحتدام الهواجر
قال يوسف بن محمد مولى آل عثمان: بعثني عبد الرحمن بن قطن المخزومي إلى حمزة بن عبد الله بن الزبير يستسلفه ألف دينار، فدخلت عليه، فأمر بنجيبة له مريء، فحلبت في عس وطرح فيه طبرزد فشرب وسقاني، ودعا بالألف فأعطانيه، فلم يلبث عبد الرحمن إلا يسيراً أن بعثني بالألف إليه، فدخلت عليه، فحلبت النجيبة وسقيت لبنها مع الطبرزد، وقسم الألف نصفين وقال: خذ خمسمائة وأعطه خمسمائة وقل له: إنا قوم لا نعود فيما خرج منا.
مر محمد بن واسع بأسود عند حائط يحفظه، وبين يديه كلب يأكل لقمة ويطعمه لقمة، فقال له: إنك تضر بنفسك، فقال: يا شيخ عينه بحذاء عيني، أستحيي أن آكل ولا أطعمه، فاستحسن ذلك منه فاشتراه واشترى الحائط وأعتقه ووهب له الحائط، فقال: إن كان لي فهو في سبيل الله، فاستعظم ذلك منه فقال: يجود هو وأبخل أنا؟ لا كان هذا أبداً.
وقف أعرابي على محمد بن معمر، وكان سخياً، فسأله فخلع خاتمه وأعطاه وقال له: لا تخدعن عن هذا الفص فإنه قام علي بمائة دينار، فهشم الأعرابي الخاتم وقلع فصه وقال: دونكه، فالفضة تكفيني أياماً فقال: هذا والله أجود مني.
قدم نهيك بن مالك القشيري الملقب بمنهب الورق مكة بعير عليها طعام ومتاع فأنهبه، وقد انهب ماله بعكاظ ثلاث مرات، فعاتبه خاله فقال: من البسيط
يا خال ذرني ومالي ما فعلت به ... وخذ نصيبك مي إنني مودي
فلن أطيعك إلا أن تخدلني ... فانظر بكيدك هل تسطيع تخليدي
الحمد لا يشتري إلا له ثمن ... ولن أعيش بمال غير محمود
لقي سليمان بن المغيرة شعبة فشكا إليه الحاجة، وكان راكب حمار فقال: والله ما أملك من الدنيا إلا هذا الحمار، فنزل عنه ودفعه إليه.
دخل طلحة بن عبد الله بن عوف سوق الظهر يوماً فوافق فيه الفرزدق، فقال: يا أبا فراس، اختر عشراً من الإبل، ففعلن فقال: ضم إليها مثلها، فلم يزل يقول ذلك حتى بلغت مائة فقال: هي لك، فقال: من الكامل
يا طلح أنت أخو الندى وعقيده ... إن الندى إن مات طلحة ماتا
إن الندى القى إليك رحاله ... فبحيث بت من المنازل باتا
وقدم الفرزدق المدينة فتلقاه من نعي إليه طلحة فقال: بفيك التراب والحجر، ودخل من رأس الثنية يولول ويقول: يا أهل المدينة أنتم أذل قوم في الأرض، غلبكم الموت على طلحة.
وخرج طلحة ومع غلامه سبعة آلاف درهم، فقال له أعرابي: أعني على الدهر، فقال لغلامه: انثرها في حجر الأعرابي، فذهب يقلها فعجز عنها فبكى، فقال: لعلك استقللتها، فقال: لا والله، ولكن تفكرت فيما تأكل الأرض من كرمك فبكت.

وفد أبو عطاء السندي على نصر بن سيار بخراسان مع رفيقين له، فأنزله وأحسن إليه وقال: ما عندك يا أبا عطاء؟ قال: وما عسى أن أقول وأنت أشعر العرب؟ غير أني قلت بيتين، قال: هاتهما، فقال: من البسيط
يا طالب الجود إما كنت طالبه ... فاطلب على نأيه نصر بن سيار
الواهب الخيل تعدو في أعنتها ... مع القيان وفيها ألف دينار
فأعطاه ألف دينار ووصائف ووصفاء، وحمله وكساه، فقسم ذلك بين رفيقيه ولم يأخذ منه شيئاً، فبلغه ما فعل فقال: ماله قاتله الله من سندي فما أضخم قدره!! ثم أمر له بمثله.
خرج الحسنان وعبد الله بن جعفر وأبو حبة الأنصاري من مكة إلى المدينة، فاصابتهم السماء فلجأوا إلى خباء أعرابي، فأقاموا عنده ثلاثاً حتى سكنت السماء، وذبح لهم، فلما ارتحلوا قال له عبد الله: إن قدمت المدينة فسل عنا، فاحتاج الأعرابي بعد سنين، فقالت له امرأته: لو أتيت المدينة فلقيت أولئك الفتيان، فقال: قد أنسيت أسماءهم، قالت: سل عن ابن الطيار، فأتاه فقال: الق سيدنا الحسن، فلقيه فأمر له بمائة ناقة بفحولها ورعائها، ثم أتى الحسين فقال: كفانا أبو محمد مؤونة الإبل، فأمر له بألف شاة، ثم أتى عبد الله بن جعفر فقال: كفاني أخواي الإبل والشاء، فامر له بمائة ألف درهم، ثم أتى أبا حبة فقال: الله ما عندي مثل ما أعطوك، ولكن جئني بإبلك، فأوقرها له تمراً، فلم يزل اليسار في أعقاب الأعرابي.
قال المأمون لمحمد بن عباد: بلغني أن فيك سرفاً، قال: يا أمير المؤمنين، منع الموجود سوء ظن بالمعبود، فأمر له بمائة ألف درهم وقال: أنا مادتك، والله مادتي، فأنفق ولا تبخل.
بخلاء العرب أربعة: الحطيئة وحميد الأرقط وأبو الأسود الدؤلي وخالد بن صفوان.
أما الحطيئة فمر به ابن الحمامة وهو جالس بفناء بيته فقال: السلام عليكم، فقال: قلت ما لا ينكر، فقال: إني خرجت من أهلي بغير زاد، فقال: ما ضمنت لأهلك قراك، قال: فتأذن لي أن آتي ظل بيتك فأتفيأ به؟ فقال: دونك الجبل يفئ عليك، قال: أنا ابن الحمامة، قال: انصرف وكن ابن أي طائر شئت.
وأتاه رجل وهو في غنم له فقال: يا صاحب الغنم، فرفع الحطيئة العصا وقال: إنها عجراء من سلم، فقال: إني ضيف، قال: لكعاب الضيفان أعددتها، فانصرف عنه.
وأما حميد الأرقط فكان هجاء للضيفان فحاشاً عليهم، فنزل به ضيف ذات ليلة فقال لامرأته: نزل بك البلاء فقومي وأعدي لنا شيئاً، فجعل الضيف يأكل متنفجاً ويقول: ما فعل الحجاج بالناس؟ فلما فرغ قال حميد: من الطويل
يخر على الأطناب من جذل بيتنا ... هجف لمخزون التحية باذل
يقول وقد ألقى المراسي للقرى ... ابن لي ما الحجاج بالناس فاعل
فقلت لعمري ما لهذا أتيتنا ... فكل ودع الأخبار ما أنت آكل
تدبل كفاه ويحدر حلقه ... إلى الصدر ما حزت عليه الأنامل
أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بياناً وعلما بالذي هو قائل
فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
ونزل به أضياف فأطعمهم تمراً وهجاهم وادعى عليهم أنهم أكلوه بنواه فقال: من البسيط
باتوا وجلتنا الشهريز حولهم ... كأن أظفارهم فيها الساكين
فأصبحوا والنوى ملقى معرسهم ... وليس كل النوى ألقى المساكين
وأما أبو الأسود فعمل دكانا عالياً يجلس عليه، فكان ربما أكل عليه فلا يناله المجتاز، فمر به أعرابي على جمل، فعرض عليه أن يأكل معه، وظن أنه لا يناله، فأناخ الأعابي بعيره حتى وازى الدكان وأكل معه، فلم يجلس بعدها عليه.
وتصدق على سائل بتمرة، فقال له السائل: جعل الله نصيبك من الجنة مثلها.
وكان يقول: لو أطعنا المساكين في أموالنا كنا أسوأ حالاً منهم.
وأما خالد بن صفوان فكان إذا أخذ جائزته قال للدرهم: والله لطالما سرت في البلاد، أما والله لأطيلن ضجعتك ولأديمن صرعتك.
وقيل لخالد: مالك لا تنفق فإن مالك عريض؟ قال: الدهر اعرض منه؛ قيل له: كأنك تأمل أن تعيش الدهر كله، قال: ولا أخاف أن أموت في أوله.

وأحيحة بن الجلاح ممن كان يبخل، وكان إذا هبت الصبا طلع من أطعمه فنظر إلى ناحية هبوبها ثم يقول: خبي هبوبك، فقد أعددت لك ثلاثمائة وستين صاعاً من عجوة ادفع إلى الوليد منها خمس تمرات فيرد علي ثلاثاً لصلابتها بعد جهد، ما يلوك منها اثنتين.
وتضرب العرب بمارد المثل في اللؤم تقول: هو الأم من مادر، يزعمون أن بنى حوضاً وسقى إبله، فلا أصدرها سلح في الحوض لئلا يسقي غيره فيه.
وكان عمر بن يزيد الأسدي مبخلاً جداً، فأصابه القولنج، فحقنه الطبيب بدهن كثير، فانحل ما في بطنه في الطست، فقام للغلام: ما تصنع به؟ قال: أصبه، قال: لا ولكن ميز الدهن منه واستصبح به.
وجاء الحكم بن عبدل الأسدي ومع جماعة من قومه يسألونه حاجة، فدخلوا إليه وهو يأكل تمراً، فلم يدعهم إليه، وذكروا حاجتهم فلم يقضها، فقال فيه ابن عبدل. من البسيط
جئنا وبين يديه التمر في طبق ... فما دعانا أبو حفص ولا كادا
علا على جسمه ثوبان من دنس ... لؤم وكفر ولولا أيره سادا
قال ذلك لأن أباه وجده مع أمة له فكان يعير بذلك.
كان الحكم بن أيوب من ولد أبي عقيل الثقفي بخيلاً، وكان عاملا على البصرة، فاستعمل رجلاً من بني مازن يقال له جرير بن بيهس، ولقبه العطرق، على العرق، فخرج الحكم يتنزه وهو باليمامة فأتي بغدائه، فدعا العطرق فتغدى معه، وجاءوا بدراجة فتناول العطرق فخذها فانتزعها، فعزله الحكم واستعلم مكانه نويرة بن شقيق أحد بني حارثة بن حرقوص، فقال نويرة: من البسيط
قد كان بالعرق صيد لو قنعت به ... فيه غنى لك عن دراجة الحكم
وفي عوارض ما تنفك آكلها ... لو كان يشفيك لحم الجزر من قرم
وفي وطاب مملاة متممة ... فيها الصريح الذي يشفي من السقم
ثم استعمل الحكم مكانه رجلاً من بني ضبة يقال له المحلق، فقال نويرة للحكم: من الطويل
أبا يوسف لو كنت تعرف طاعتي ... ونصحي إذن ما بعتني بالمحلق
ولا اعتل سراق العراقة صالح ... علي ولا كلفت ذنب العطرق
صالح بن كدير المازني كان على استخراج الحجاج فدفع إليه رجلاً ليستخرج منه مالاً فدفنه حياً فلقبه الحجاج قفل الأمانة.
قال أنوشروان لأصحابه: أي شيء أضر على الإنسان؟ قالوا: الفقر، قال: الشح أضر منه، لأن الفقير إذا وجد اتسع، والشحيح لا يتسع وإن وجد.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: البخل جامع لمساوئ العيوب، وهو زمام يقاد به إلى كل سوء.
قيل لحبي المدنية: ما السقم الذي لا يبرأ والجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم الذي لا يجدي عليه.
قيل لجعفر بن محمد: إن أبا جعفر المنصور لا يلبس مذ صارت إليه الخلافة إلا الخشن، ولا يأكل إلا الحسب، فقال: ولم يا ويحه مع ما قد مكن الله له من السلطان وجبى إليه من الأموال؟ فقيل له: إنما يفعل ذلك بخلاً وجمعاً للمال فقال: الحمد لله الذي حرمه من دنياه ما ترك له دينه.
وكان المنصور شديد البخل، حدا به سلم الحادي في طريقه إلى الحج، فحدا يوماً بقول الشاعر: من الرجز
أغر بين حاجبيه نوره ... يزينه حياؤه وخيره
ومسكه يشوبه كافوره ... إذا تغدى رفعت ستوره
فطرب المنصور حتى ضرب برجله المحمل ثم قال: يا ربيع، أعطه نصف درهم، فقال سلم: نصف درهم يا أمير المؤمنين؟ والله لقد حدوت بهشام فأمر لي بثلاثين ألف درهم، فقال المنصور: ما كان له أن يعطيك ثلاثين ألف درهم من بيت مال المسلمين، يا ربيع وكل به من يستخرج منه هذا المال، فقال الربيع: فما زلت أسفر بينهما حتى شرط عليه أن يحدو به في خروجه وقفوله بغير مؤونة.
كان الحارثي يقول: الوحدة خير من جليس السوء، وأكيل السوء شر من جليس السوء، لأن كل أكيل جليس وليس كل جليس أكيلا.
وكان لسوار القاضي كاتبان، رزق أحدهما أربعون درهماً والآخر عشرون درهماً، فكتب إلى المنصور يسأله أن يلحق صاحب العشرين بالأربعين فأجابه بأن يحط من الأربعين عشرة ويزيدها صاحب العشرين حتى يعتدلا.
وكان عبد الملك بن مروان بخيلاً فقال يوماً لكثير: أي الشعر أفضل؟ قال: أفضله قول المقنع: من البسيط
إني أحرض أهل البخل كلهم ... ولو كان ينفع أهل البخل تحريضي

يعرض ببخله، فقال بعد الملك وعرف ما أراد: الله أصدق من المقنع حيث يقول: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً " الفرقان: 67.
قال العباس بن المأمون لغلامه: إني رأيت في الرصافة نقلاً حسناً، فاشتر لي منه بنصف درهم فقال المأمون: أما وقد عرفت للدرهم نصفاً فوالله لا أفلحت أبداً.
قال أبو الشمقمق: من الوافر
طعامك في السحاب إذا التقينا ... وخبزك عند منقطع التراب
وما روحتنا لتذب عنا ... ولكن خفت مرزئة الذباب
وقال أيضاً في سعيد بن سلم: من الكامل
هيهات تضرب في حديد بادر ... إن كنت تطمع في نوال سعيد
تالله لو ملك البحور بأسرها ... وأتاه سلم في زمان مدود
يبغيه منها شربة لطهوره ... لأبي وقال تيممن بصعيد
وقال آخر: من الوافر
فتى لرغيفه شنف وقرط ... ومرسلتان من خرز وشذر
ودون رغيفه لمسن الثريا ... ويوم مثل وقعة يوم بدر
وإن ذكر الرغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر
آخر: من البسيط
وأبغض الضعيف ما بي جل مأكله ... لكن تنفجه حولي إذا قعدا
ما زال ينفض جنبيه وحبوته ... حتى أقول لعل الضيف قد ولدا
آخر: من الطويل
وإنا لنجفو من غير عسرة ... مخافة أن يضرى بنا فيعود
آخر: من الطويل
إذا المرء أثرى ثم قال لقومه ... أنا السيد المفضى إليه المعمم
ولم يعطهم شيئاً أبوا أن يسودهم ... وهان عليهم رغمه وهو ألوم
آخر: من الطويل
إذا كنت جماعاً لمالك ممسكاً ... فأنت عليه خازن وأمين
تؤديه مذموماً إلى غير حامد ... فيأكله عفواً وأنت دفين
وقال الرضي الموسوي: من البسيط
واجعل يديك مجاز المال تحظ به ... إن الأشحاء للوارث خزان
روي أنه افتقر رجل من الصيارفة بإلحاح الناس في أخذ أموالهم التي كانت عليه، وتعذر أمواله التي له عند الناس، فسأل جماعة من الجيران أن يصيروا معه إلى رجل من قريش كان موسراً من أولاد أجوادهم ليسد من خلته، فصاروا إليه فجلسوا في الصحن فخرج إليهم يخر بقضيب في يده، حتى ثنى وساده فجلس عليها، فذكروا حاجتهم وخلة صاحبهم مع قديم نعمته وقرب جواره، فخطر بالقضي ثم قال متمثلاً: من الطويل
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة تقوى أو صديق توامقه
بخلت وبعض البخل حزم وقوة ... ولم يفتلذك المال إلا حقائقه
ثم أقبل على القوم وقال: إنا والله ما نجمد عن الحق ولا نتدفق في الباطل، وأن لنا لحقوقاً تشغل فضول أموالنا، وما كل من أفلس من الصيارفة احتلنا لجبره، قوموا يرحمكم الله، قال: فابتدر القوم الأبواب.
قوله: يفتلذك يقول: يقطع منك، يقال: فلذ له أي قطع له.
قال الجاحظ: يقول المروزي لزائره إذا أطال عنده: تغديت اليوم؟ فإن قال: نعم، قال: لولا أنك تغديت لغديتك بطعام طيب، فإن قال: لا قال: لو كنت تغديت لسقيتك خمسة أقداح، فلا يكون في يده على هذين الوجهين قليل ولا كثير.
كان أبو العتاهية ومروان بن أبي حفصة بخيلين يضرب بهما المثل، ويحسن فيهما قول أحمد بن أبي فنن: من الطويل
وإن أحق الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل
وكان سلم الخاسر سمحاً، فكان يأتي باب المهدي وعليه الثياب الجميلة، ورائحة الطيب تفوح مه، وتحته برذون فارة، وكان مروان يأتي وعليه فرو كبل منتن الرائحة، وكان لا يأكل اللحمن حتى يقرم إليه، فإذا هم بأكل اشترى رأساً، فقيل له في ذلك فقال: أعرف سعره فآمن خيانة الغلام فيه، وآكل منه ألواناً، آكل من غلصمته لوناً، ومن عينيه لوناً، ومن دماغه لوناً.
وقال مروان: ما فرحت بشيء قط فرحي بمائة ألف درهم وهبها إلي المهدي فوزنتها فزادت درهماً فاشتريت به لحماً.
واشترى لحماً بدرهم فلما وضعه في القدر وكاد أن ينضج دعاه صديق له، فرده على القصاب بنقصان دانق، فشكه القصاب وجعل ينادي: هذا لحم مروان، وظن أنه يأنف لذلك، فبلغ الرشيد فقال: ويلك ما هذا؟ قال: أكره الإسراف.
ولما قال أبو العتاهية: من الوافر

تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تصير إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى زوال
قال سلم: ويلي على الجرار ابن الفاعلة قد كنز الكنوز لا ينفق منها وينسبني إلى الحرص، ولا أملك غير ثوبي هذين؟! واجتاز مروان بامرأة من العرب فأضافته، فقال لها: علي إن وهب لي أمير المؤمنين مائة ألف درهم أن أهب لك درهماً فأعطاه سبعين ألفاً فأعطاها أربعة دوانيق.
قال ثمامة بن اشرس: أنشدني أبو العتاهية: من الطويل
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه ... تملكه المال الذي هو مالكه
إلا إنما مالي الذي أنا منفق ... وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنت ذا مال فبادر به الذي ... يحق وإلا استهلكته مهالكه
فقلت له: من أين قضيت بهذا؟ فقال: من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت؛ قلت له: هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بدرة في دارك لا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي ولا تقدمها ذخراً ليوم فقرك وفاقتك؟ فقال: يا أبا معن، والله إن ما قلت لهو الحق ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس، قلت: بماذا يزيد حال من افتقر على حالك، وأنت دائم الحرص، دائم الجمع، شحيح على نفسك، لا تشتري في يوم عاشوراء لحماً وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم، فأضحكني حتى أذهلني عن جوابه ومعاتبته، فأمسكت عنه، وعملت انه ممن لم يشرح الله صدره للإسلام.
وقال له بهض إخوانه: أتزكي مالك؟ فقال: والله ما أنفق على عيالي إلا من زكاة مالي، فقال: سبحان الله، إنما ينبغي أن تخرج زكاة مالك إلى الفقراء والمساكين، فقال لي: لو انقطعت عن عيالي زكاة مالي لم يكن في الأرض افقر منهم.
وقيل له: مالك تبخل بما رزقك الله تعالى؟ فقال: والله ما بخلت بما رزقني الله قط، قيل له، وكيف ذلك، وفي بيتك من المال ما لا يحصى؟ قال: ليس ذلك رزقي، ولو كان رزقي أنفقته.
حدث ذارع من أهل البصرة قال: دعاني خالد بن صفوان فقسمت له مالاً وأقمت حسابه، فلما كان عند الظهر دعا بالغداء فجاءوه بدجاجة، وجاءوني بزيتون وبصل، فقال لي: تشتهي أن تأكل من هذه الدجاجة؟ قلت: وما عليك لو أكلت منها؟ قال: إذن كنت أنا وأنت في مالي سواء، فما ينفعني مالي.
وقد قال بخيل آخر في مثل ذلك: إذا أكلتكما آكل فأين فضل المالك؟
عمل سهل بن هارون كتاباً مدح فيه البخل وأهداه إلى الحسن ابن سهل، فوقع على ظهره: قد جعلنا ثوابك عليه ما أمرت به فيه.
قال أبو نواس، قلت لبخيل: لم تأكل وحدك؟ فقال: ليس في هذا سؤال، إنما السؤال على من أكل مع الجماعة لأن ذاك تكلف وهذا هو الأصل.
قال الكندي: من ذل البذل أنك تقول نعم مطأطئاً رأسك، ومن عز المنع أنك تقول: لا، رافعاً رأسك.
دخل هشام بن عبد الملك حائطاً له وفيه أشجار فاكهة، ومعه أصحابه، فجعلوا يأكلوا منه ويدعون بالبركات، فقال هشام: كيف يبارك فيه وأنتم تأكلون؟ ثم قال: يا غلام، اقلع هذا واغرس مكانه الزيتون.
قال صعصعة: أكلت عند معاوية لقمة فقام بها خطيباً قيل: وكيف ذاك؟ قال: كنت آكل معه فهيأ لقمة ليأكلها وأغفلها فأخذتها، فسمعته بعد ذلك يقول في خطبته: أيها الناس، أجملوا في الطب فرب رافع لقمة إلى فيه تناولها غيره.
أصاب أعرابي درهماً في كناسة الكوفة فقال: أبشر أيها الدرهم وقر قرارك، فطالما خيض فيك الغمار، وقطعت فيك الأصفار، وتعرض فيك للنار.
وكان بعض البخلاء إذا صار الدهرم في يده خاطبه وناجاه وفداه واستبطأه وقال: بأبي أنت وأمي، كم من أرض قطعت، وكيس خرمت، وكم من خامل رفعت، ومن رفيع أخملت، لك عندي ألا تعرى ولا تضحى، ثم يلقيه في كيسه ويقول: اسكن على اسم الله في مكان لا تزول عنه ولا تزعج منه.

وقال محمد بن أبي المعافي: كان أي متنحياً عن المدينة، وكانت إلى جنبه مزرعة فهيا قثاء، وكنت صبيا قد ترعرعت، فجاءني صبيان من جيراننا أقران لي، وكملت أبي ليهب لي درهماً أشتري به قثاء، فقال لي: أتعرف حال الدرهم؟ كان في حجر في جبل فضرب بالمعاول حتى استخرج ثم طحن ثم أدخل القدور وصب عليه بالماء وجمع بالزئبق ثم أدخل النار فسبك ثم أخرج فضرب، وكتب في أحد شقيه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفي الآخر محمد رسول الله، ثم صير إلى أمير المؤمنين فأمر بإدخاله بيت ماله، ووكل به عوج القلانس صخب السبال ثم وهب لجارية حسناء جميلة، وأنت والله أقبح من قرد، أو رزقه رجلاً شجاعاً وأنت والله أجبن من صفد، فهل ينبغي لك أن تمس الدرهم إلا بثوب؟! أهل مر موصوفون بالبخيل، ومن عادتهم إذا ترافقوا في سفر أن يشتري كل واحد مهم قطعة لحم ويشدها في خيط، ويجمعون اللحم كله في قدر، ويمسك كل واحد منهم طرف خيطه، فإذا نضجت القدر جر كل واحد خيطه وتفرد بأكل ما فيه، وتساعدوا على المرقة.
وحكي عنهم أنهم تخارجوا ثمن بزر للسراج، وانفرد أحدهم فلم يوافقهم، فشدوا عينه لئلا يرى ضوء السراج.
ومن طريف أمورهم أنهم يستعملون الخادم في ستة أعمال في وقت واحد: تحمل الصبي وتشد البربند في صدرها فتدور وتطحن، وفي ظهرها سقاء تمخضه باختلافها وحركتها، وتدوس طعاما قد ألقي تحت رجليها، وتلقي الحنطة في الرحى، وتطرد العصافير عن طعام قد وكلت به.
قال العتبي: لو بذلت الجنة للأصمعي بدرهم لاستنقص شيئاً.
وسأله متكفف فقال: لا أرضى لك ما يحضرني، فقال السائل: أنا أرضى به، فقال الصمعي: بورك فيك.
أكل أعرابي مع أبي الأسود رطباً فأكثر، ومد أبو الأسود يده إلى رطبة ليأخذها، فسبقه الأعرابي إليها أخذها، فسقطت في التراب فأخذها وجعل يمسحها ويقول: لا أدعها للشيطان، فقال أبو الأسود: ولا لجبريل وميكائيل لو نزلا.
وسأله رجل شيئاً فمنعه فقال له: يا أبا الأسود، ما أصبحت حاتمياً، فقال: بل أصبحت حاتمياً، أما سمعت حاتما يقول: من الطويل
أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر
ودخل أبو الأسود السوق يشتري ثوباً فقال له رجل: ادن أقاربك في هذا الثوب قال له: إن لم تقاربني أنت باعدتك أنا بكم هو، قال: طلب بكذا قال أبو الأسود: أراك تحدث بخير قد فاتك.
سمع أبو الأسود رجلاً يقول: من يعشي الجائع؟ فعشاه ثم ذهب السائل ليخرج، فقال: هيهات، علي أن لا تؤذي المسلمين الليلة، فوضع رجله في الأدهم وقال: لا تروع مسلماً سائر الليلة.
ووقف على بابه سائل وهو يأكل فقال: السلام عليكم، قال: كلمة مقولة، قال: أدخل؟ قال: وراءك أوسع لك، قال: إن الرمضاء قد أحرقت رجلي، قال: بل عليهما؛ وأغلق دونه الباب.
وقف أعرابي على أبي الأسود وهو يتغدى فسلم فرد عليه، ثم أقبل عل ألكل ولم يعرض عليه، فقال له الأعرابي: أما إني قد مررت بأهلك، قال: كان ذلك طريقك، قال: هم صالحون، قال: كذلك هم، قال: وأمرأتك حبلى، قال: كذلك كان عهدي بها، قال: وولدت، قال: ما كان بد لها أن تلد، قال: ولدت غلامين، قال كذاك كانت أمها، قال: مات أحدهما قال: ما كانت تقوى على رضاع اثنين، قال: ثم مات الآخر، قال: ما كان ليبقى بعد أخيه، قال: وماتت الأم، قال: حزناً على ولدها، قال: ما أطيب طعامك!! قال: ذاك حداني على أكله، قال: أف لك ما ألأمك، قال: من شاء سب صاحبه.
كان الثوري يقول لعياله: لا تلقوا نوى التمر والرطب وتعودوا ابتلاعه. فإن النوى يعقد الشحم في البطن، ويدفئ الكليتين، واعتبروا ذلك بطون الصفايا وجميع ما يعتلف النوى، والله لو حملتم أنفسكم على قضم الشعير واعتلاف القت لوجدتموها سريعة القبول فقد يأكل الناس القت قداحاً والشعير فريكاً ونوى البسر الأخضر والعجوة، وأنا أقدر أن أبيع النوى وأعلفه الشاء، ولكن أقول هذا بالنظر لكم.
وكان يقول لهم: كلوا الباقلاء بقشوره فإن البلاقلاء يقول: من أكلني ولم يأكل قشوري فأنا آكله، فما حاجتكم إلى أن تصيروا طعاماً لطعامكم وأكلاً لما جعل أكلاً لكم.
قال الجاحظ: كنا نسمع باللئيم الراضع، وهو الذي يرضع الخلف لئلا يسمع صوت الحلب أو يضيع من الشخب شيئاً، ثم رأيت أبا سعيد المدائني قد صنع أعظم من ذلك، اصطبغ من دن خل حتى فني وهو قائم ولم يخرج منه شيئاً.

كان الكندي لا يزال يقول للساكن من سكانه والمجاور له: إن في داري امرأة بها حملن والوحمي ربم أسقطت من ريح القدر الطية فإذا طبختم فردوا شهوتها بغرفة أو قطعة فإن النفس يردها اليسير، وإن لم تفعل ذلك فأسقطت فعليك غرة: عبد أو أمة.
دعبل: الكامل المجزوء
استبق ود أبي المقا ... تل حين تأكل من طعامه
سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
وتراه من خوف النزي ... ل به يروع في منامه
ذكر أعرابي قوماً فقال: ألقوا من الصلاة الأذان، لئلا تسمعه الآذان، فتدل عليهم الضيفان.
قال الأصمعي: سمعت بيتين لم أحفل بهما، ثم قلت هما على حال خير م وضعهما من الكتاب، فإني عند الرشيد يوما وعنده عيسى بن جعفر، فأقبل على مسرور الكبير فقال: يا مسرور كم في بيت مال السرور؟ فقال: ما فيه شيء، قال عيسى: هذا بيت مال الحزن، فاغتم لذلك الرشيد وأقبل على عيسى وقال: والله لتعطين الأصمعي سلفاً على بيت مال السرور ألف دينار، فوجم عيسى وانكسر، فقلت في نفسي: جاء موقع البيتين، وأنشدت الرشيد: من الطويل
إذا شئت أن تلقى أخاك معبساً ... وجداه في الماضين كعب وحاتم
فكشفه عما في يديه فإنما ... تكشف أخبار الرجال الدراهم
قال: فتجلى عن الرشيد وقال: يا مسرور، أعطه على بيت مال السرور ألفي دينار فأخذت بالبيتين ألفي دينار وما كانا يساويان عندي درهمين.
كان المغيرة بن شعبة من المدمنين للشراب، فقال لصاحب له يوم خيبر قد قرمت إلى الشراب، ومعي درهمان زائفان، فأعطني زكرتين، فأعطاه فصب في إحداهما ماء وأتى بعض الخمارين فقال: كل بدرهمين، فكال في زكرته فأعطاه الدرهمين فردهما، وقال هما زائفان، فقال: ارتجع ما أعطيتني فكاله وأخذه، وبقيت بقية في الزكرة بقدر الماء فصبها في الفارغة، ثم فعل ذلك بكل خمار أتاه حتى ملأ زكرته، ورجع ومعه درهمان.
كان إبراهيم بن علي بن هرمة دعياً في الخلج، والخلج أدعياء في قريش، فكان يقول: أنا ألأم العربن دعي أدعياء؛ وأراد الحارث بن فهر نفيه فقال: من الطويل
أحار بن فهر كيف تطرحونني ... وجاني العدى من غيركم يبتغي نصري
فصار م ولد فهر في ساعته.
قال عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر: زرت عبد الله بن حسن بباديته وزاره ابن هرمة، فجاءه رجل من أسلم، فقال ابن خرمة لعبد الله بن حسن: أصلحك الله، سل الأسلمي أن يأذن لي أم أخبرك خبري وخبره، فقال له عبد الله: أيأذن له، فأذن له الأسلمي، فقال له ابن خرمة: إني خرجت أصلحك الله أبغي ذوداً فأوحشت وضفت هذا الأسلمي، فذبح لي شاة وخبز لي خبزاً وأكرمني، ثم غدوت من عنده فأقمت ما شاء الله، ثم خرجت أيضاً في بغاء ذود لي فأوحشت، فقلت: لو ضفت هذا الأسلمي، فملت إليه فجاءني بلبن وتمر، ثم خرجت بعد ذلك فقلت لو ضفت الأسلمي فاللبن والتمر خير من الطوى، فضفته فجاءني بلبن حامض، فقال: فد أجبته أصلحك الله إلى ما سأل، فسله أن يأذن لي أن أخبرك لم فعلت ذلك. فقال: إيذن له، فأذن له، فقال لأسلمي: ضافني فسألت من هو، فقال: رجل من قريش، فذبحت له الشاة التي ذكر، والله لو كان لي غيرها لذبحت له حين ذكر أنه من قريش، ثم غدا من عندي وغدا الحي فقالوا: من كان ضيفك البارحة؟ فقلت: رجل من قريش، فقالوا: ليس من قريش ولكنه دعي فيها، ثم ضافني الثانية على أنه دعي في قريش فجئته بلبن وتمر، وقلت: دعي من قريش خير م غيره، ثم غدا من عندي وغدا الحي فقالوا: من كان ضيفك البارحة؟ فقلت ذلك الرجل الذي زعمتم أنه دعي من قريش، فقالوا: لا والله ما هو دعي قريش، ولكنه دعي أدعياء قريش، فقربته الثالثة لبناً حامضاً، ووالله لو كان عندي شر مه لقريته إياه، قال: فانزل ابن هرمة، وضحك عبد الله وضحكنا معه.
وقيل: كان سليم بن سلام من أبخل الناس، قال أبو الحواجب الأنصاري: قال لي سليم يوماً: امض إلى موسى بن إسحاق الأزرق فادعه، ووافياني مع الظهر، فجئناه فأخرج إلينا ثلاثين جارية محسنة ونبيذاً ولم يطعمنا شيئاً، فغمز موسى غلامه فذهب فاشترى لنا خبزاً وبيضاً وأدخله إلى الكنيف وجلسنا نأكل، فلما رآنا سليم غضب وخاضمنا وقال: أهكذا يفعل الناس؟ تأكلون ولا تطعموني؟ وجلس معنا يأكل أكل واحد منا حتى فني الخبز والبيض.

وقد أشار جماعة من شعراء العرب إلى الحدث على البخل بطريق الإرشاد والتبصير فمنذلك قول المتلمس الضبعي: من الوافر
لحفظ المال خير من بغاه ... وسير في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقول الشماخ: من الوافر
لمال المرء يصلحه فيعني ... مفاقره أعف من القنوع
وقول أبي قيس بن الأسلت: من الوافر
بني متي هلكت وأنت حي ... فلا تحرم فواضلك العديما
ومالك فاصطنعه وأصلحنه ... تجد فيه الفواضل والنعيما
وقول أحيحة بن الجلاح وكان شديد البخل: من البسيط
ولن أزال على الزوراء أعمرها ... إن الكريم على الإخوان ذو المال
وقول عدي بن زيد: من البسيط
ألبس جديدك إني لابس خلقي ... ولا جديد لمن لم يلبس الخلقا
قال العتبي: قدم معن بن أوس مكة على ابن الزبير فأنزله دار لضيفان، وكان ينزلها الغرباء وابن السبيل والضيفان، فأقام يومه لم يطعم شيئا حتى إذا كان الليل جاءهم ابن الزبير بتيس هرم هزيل فقال: كلوا من هذا، وهم نيف وسبعون رجلاً، فغضب معن وخرج من عنده، فأتى عبيد الله بن العباس فقراه وحمله وكساه، ثم أتى عبد الله بن جعفر وحدثه حديثه فأعطاه حتى أرضاه، وأقام عنده ثلاثاً ثم رحل، وقال يهجو ابن الزبير ويمدح ابن جعفر وابن العباس: من الطويل
ظللنا بمستن الرياح عدية ... إلى أن تعالى اليوم في شر محضر
لدى ابن الزبير خاسئين بمنزل ... من الخير والمعروف والرفد مقفر
رمانا أبو بكر وقد طال يومنا ... بتيس من الشاء الحجازي أعفر
وقال اطعموا منه ونحن ثلاثة ... وسبعون إنساناً فيا لؤم مخبر
فقلت له لا تقربن فأمامنا ... جفان ابن عباس العلا وابن جعفر
وكن آمناً وانعق بتيسك إنه ... له أعنز ينزو عليها وأبشر
وكان عبد الله بن الزبير شديد البخل، وخبره مع عبد الله بن فضالة، وقيل مع أبيه فضالة، مشهور حين أتاه مسترفداً وشكا إليه جهد سيره ونقب راحلته، فقال: ارقعها بسبت واخصفها بهلب وسر بها البردين تصح، فقال: إني أتيتك مستحولاً ولم آتك مستوصفاً، فلهن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إن وراكبها، فقال عبد الله بن فضالة أبياتاً منها: من الوافر
شكوت إليه أن نقبت قلوصي ... فرد جواب مشدود الصفاد
يضن بناقة ويروم ملكاً ... محال ذاكم غير السداد
ولما حوصر ابن الزبير كنت عنده البيوت مملوءة قمحاً وذرة، وأصحابه يموتون جوعاً، فقيل له فرقها فيهم، فلم يفعل، واحتج بأن قلوبهم قوية ما لم يفن.
كانت بين نبي الديل وبني الليث منازعة، فقتلت بنو الديل منهم رجلاً ثم اصلطحوا بعد ذلك على أن يؤدوا ديته، فاجتمعوا إلى أبي الأسود يسألونه المعونة على أدائها، وألح عليه منهم غلام ذو بيان وعارضة يقول: يا أبا الأسود، أنت شيخ العشيرة وسيدهم، وما يمنعك من معاونتهم قلة ذات يد ولا سؤدد ولا جود، فلما أكثر أقبل عليه أبو الأسود ثم قال له: قد أكثرت يا ابن أخي، فاستمع مني: إن الرجل والله لا يعطي ماله إلا لإحدى خلال: إما رجل أعطى ماله رجاء مكافأة ممن يعطيه، أو رجل خاف على نفسه فوقاها بماله، أو رجل أراد وجه الله وما عنده في الآخرة، أو رجل أحمق خدع عن ماله، والله ما أنتم أحد هذه الطبقات، ولا جئتم في شيء من هذا، ولا عمك الرجل العاجز فينخدع لها، ولما أفدتك إياه في عقلك خير لكمن مالي أبي الأسود لو وصل إلى بني الديل. قوموا إذا شئتم، فقاموا يتبادرون الباب.
كان الفضل بن العباس اللهبي بخيلاً، وكان ثقيل البدن، فكان كلما أراد يمضي في حاجة استعار مركوباً، وطال ذلك من فعله، فقال له بعض بني هاشم: أنا أشتري لك حماراً تركبه وتستريح من العارية، وفعل، فكان الفضل يستعير له سرجاً إذا أراد أن يركبه، فتواصى الناس بأن لا يعيره أحد سرجاً، فلما طال ذلك عليه اشترى سرجاً بخمسة دراهم، وقال: من الطويل
لما رأيت المال ما كف أهله ... وصان ذوي الأخطار أن يتبذلوا
رجعت إلى مالي فعاتبت بعضه ... فأعتبني إني كذلك أفعل

وقال المدائني، قال للذي اشترى له الحمار: إني لا أطيق علف فأما أن بعثت إلي بقوته وإلا رددته.
وكان خالد بن عبد الله القسري معروفاً بالسماحة مشهوراً بالجود إلا أنه كان أبخل الناس بالطعام، فوفد إليه رجل له حرمة، فأمر أن يكتب له بعشرين ألف درهم، وحضر الطعام فدعا به، فأكل أكلاً منكرا، فأغضبه وقال للخازن: لا تعرض علي صكه، فعرفه الخازن ذلك، فقال: ويحك ما الحيلة؟ قال: تشتري له غداً كل ما يحتاج إليه في مطبخه وتهب للطباخ دراهم حتى لا يشتري شيئاً، وتسأله إذا أكل خالد أن يقول: إنك كنت اليوم في ضيافة فلان، فاشترى له كل ما أراد حتى الحطب فبلغ خمسمائة درهم، فأكل خالد واستطاب ما صنع له، فقال الطباخ: إنك كنت اليوم في ضيافة فلان، فأخبره فاستحيا خالد، ودعا بصكه فصيره ثلاثين ألف درهم، ووقع فيه، وأمر الخازن بتسليمه إليه.
وكان لبعض التجار على رجل دين، فأراد استعداء خالد عليه، فلاذ الرجل ببواب خالد وبره، فقال له: سأحتال لك في أمر هذا بحيلة لا يدخله عليه أبداً قال: فلما جلس خالد للأكل أذن البواب للتاجر، فدخل وخالد يأكل سمكاً، فجلس فأكل أكلا شنيعا فغاظ ذلك خالداً، فلما خرج قال خالد لبوابه: فيم أتاني هذا؟ قال: يستعدي على فلان في دين يدعيه عليه، قال: إني لأعلم أنه كاذب فلا يدخلن علي، وتقدم إلى صاحب الشرطة بأن يقبض يده عن خصمه.
كانت بنو تميم اجتمعت ببغداد على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير حين قال شعره الذي يقدم فيه غلاماً من ربيعة على شيخ بني تميم، وهو مع ذلك من بيت تميم، ولاموه فقال من الطويل.
صه يا تميم إن شيبان وائل ... بطرفهم عنكم أضن وأرغب
أإن سمت بروذناً بطرف غضبتم ... علي وما في الحق والصدق مغضب
فإن أكرمت أو أجبت أم خالد ... فزند الرياحين أورى وأثقب
ثم قال عمارة: قال لي علي بن هشام، وفيه عصبية على العرب: قد علمت مكانك مني وقيامي بأمرك حتىقربك أمير المؤمنين، والمائة الألف التي وصلك بها علي سببها، وها هنا من بني عمك من هو أقرب إليك وأجدر أن يعينني على ما أمر به أمير المؤمنين لك، فقلت: ومن هو؟ قال: تميم بن خزيمة، قال: قلت آتيه قال: وخالد بن يزيد بن مزيد؟ قلت: سآتيهما، فبعث معي شاكرياً من شاكيته حتى وقف بي على باب تميم، فلما نظر غلمانه إلي أنكروا أمري، فدنا الشاكري فقال: أعلموا الأمير أن على الباب ابن جرير فدخلني من ذلك ما الله به عالم، فقلت للشاكري: أين منزل خالد بن يزيد؟ قال: اتبعني، فما كان إلا قليلاً حتى وقف بي على بابه، ودخل بعض غلمائنه يطلب الأذن، فما كان إلا كلا حتى خرج في قميصه وردائه يتبعه حشمه، فقال بعض القوم: هذا خالد قد أقبل إليك قال: فأردت أن أنزل إليه فوثب وثبة فإذا هو معي آخذ بعضدي، فأنزلني وأدخلني وقرب الطعام، فأكلت وشربت، وأخرج إلي خمسة آلاف درهم وقال: يا أبا عقيل ما آكل إلا بالدين، وأنا على جناح من ولاية، فإن صحت لي لم أدع أن أعينك، وهذه خمسة أثواب خز آثرتك بها كنت قد ادختها، قال عمارة فخرجت وأنا أقول: من الطويل
أأترك أن قلت دراهم خالد ... زيارته إني إذن للئيم
فليت بثوبيه لنا كان خالد ... وكان لبكر بالثراء تميم
فيصبح فينا سابق متمهل ... ويصبح في بكر أغم بهيم
قال عمارة: فلما بلغ خالد بن يزيد هذا الشعر قال: يا أبا عقيل بلغك أن أهلي يرضون مني ببديل كما رضيت بي من تميم بن خزيمة؟ فقلت: إنما طلبت حظ نفسي وسقت مكرمة إلى أهلي لو جاز ذلك، فما زال يضاحكني.

كان الواقدي شيخاً سمحاً، وأظله شهر رمضان ولم يكن عنده نفقة، فاستشار امرأته بمن يزنل ظنه من أخوانه، فقال: بفلان الهاشمي، فأتاه فذكر له خلته، فأخرج له صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال: والله ما أملك غيرها، فأخذها الواقدي فساعة دخل منزله جاءه بعض إخوانه وشكا إليه خلته، فدفع إليه الصرة بختمها، وعاد صاحب الصرة إلى منزله، فجاءه الهاشمي فشكا إليه خلته فناوله الصرة فعرفها الهاشمي فقال له: من أين لك هذه؟ فحدثه بقصته، فقال له: قم بنا إلى الواقدي، فأتوه فقال الهاشمي: حدثني عنك وعن إخراج الصرة فحدثه الحديث على وجهه، فقال الهاشمي: فأحق ما في هذه الصرة أن نقتسمها، ونجعل فيها نصيباً للمرأة التي وقع اختيارها علي.
والشافعي معدود في الأجواد، قال الربيع بن سليمان: ركب يوماً فمر في الحدادين فسقط سوطه، فوثب غلام فمسحه وأعطاه إياه، فقال لي: ما معك يا ربيع؟ قلت: عشرة دنانير، قال: ادفعها إليه، وما كان معنا غيرها.
العجير السلولي وكان أسرع في ماله فأتلفه، ثم ادان حتى أثقله الدين، ثم مد يده إلى مال زوجته فمنعته: من الطويل
تقول وقد غاديتها أم خالد ... على مالها أغرقت ديناً فأقصر
أبى القصر من يأوي إذا الليل جنه ... غلى ضوء ناري من فقير ومقتر
أيا موقدي ناري ارفعاها لعلها ... تشب لمقو آخر الليل مقفر
أمن راكب أمسى بظهر تنوفة ... أواريك أم من جاري المتنظر
سلي الطارق المعتر يا أم خالد ... إذا ما أتاني بين قدري ومجزري
أأبسط وجهي إنه أول القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري
أقي العرض بالمال التلاد وما عسى ... أخوك إذا ما ضيع العرض مشتر
يؤدي إلي الليل قنيان ماجد ... كريم ومالي سارحاً مال مقتر
إذا مت يوماً فاحضري أم خالد ... تراثك من سيف وطرف وأقدر
وفد مطيع بن إياس إلى جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري وقد مدحه بقصيدة أولها: من المتقارب
أمن آل ليلى عزمت البكورا ... ولم تلق ليلى فتشفي الضميرا
فلما بلغ جريراً خبر قدومه دعا به ليلاً ولم يعلم أحداً بحضوره وقال له: قد عرفت خبرك، وإني معجل لك جائزتك ساعتي هذه، فإذا حضرت غداً فإني سأخاطبك مخاطبة فيها جفاء، وأزودك نفقة طريقك لئلا يبلغ أبا جعفر خبري فيهلكني، فأمر له بمائتي دينار وصرفه، فلما أصبح أتاه فاستأذنه في الإنشاد فقال له: يا هذا لقد رميت بأملك غير مورمى، وفي أي شيء أنا حتى تنتجعني الشعراء؟ لقد أسأت إلي لأني لا أتسطيع تبليغك محبتك ولا آمن سخطك ولا ذمك، فقال له: تسمع مني ما قلته فإني قبل ميسورك وأبسط عذرك، فاستمع كالمنكر المتكلف، فلما فرغ قال لغلامه: يا غلام كم مبلغ ما بقي من نفقتنا؟ قال: ثلاثمائة درهم، قال: أعطه مائة درهم ينصرف بها إلى أهله، ومائة درهم لنفقة طريقه، واحبس مائة درهم لنفقتنا فانصرف مطيع عنه شاكراً. فهذا تسلق على المروءة عجيب، وحيلة في الجود مع الخوف من سلطانه ومباينته فيه لأخلاقه.
وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي من الأجواد: كان لرجل جارية يهواها فاحتاج إلى بيعها، فابتاعها منه عمر بن عبيد الله بن معمر، فلما قبض ثمنها أنشأت تقول: من الطويل
هنيئاً لك المال الذي قد قبضته ... ولم يبق في كفي غير التحسر
أبوء بحزن من فراقك موجع ... أناجي به صدراً طويل التفكر
فقال الرجل: من الطويل
فلولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال: قد شئت، خذ الجارية وثمنها وانصرف.
وكان زياد الأعجم صديقاً لعمر بن عبيد الله قبل أن يلي، فقال له عمر: يا أبا أمامة لو وليت لتركتك لا تحتاج إلى أحد أبداً، فلما ولي عمر فارس قصده زياد، فلما لقيه قال: من الطويل
أبلغ أبا حفص رسالة ناصح ... أتت من زيادة مستبيناً كلامها
فإنك مثل الشمس لا ستر دونها ... فكيف أبا حفص علي ظلامها
فقال له عمر: لا يكون عليك ظلامها أبداً.

فقال زياد:
لقد كنت أدعو الله في السر أن أرى ... أمور معد في يديك نظامها
فقال: قد رأيت ذلك، فقال:
فلما أتاني ما أردت تباشرت ... بناتي وقلن العام لا شك عامها
قال: فهو عامهن إن شاء الله تعالى، فقال:
فإني وأرضا أنت فيها ابن معمر ... كمكة لم يطرب لأرض حمامها
قال: فهي :ذاك يا زياد، فقال:
إذا اخترت أرضا للمقام رضيتها ... لنفسي ولم يثقل علي مقامها
وكنت أمني النفس منك ابن معمر ... أماني أرجو أن يتم تمامها
فقال: قد أتمها الله لك، فقال:
فلا أك كالمجري إلى رأس غاية ... يرجي سماء لم يصبه غمامها
قال: لست كذاك، فسل حاجتك، قال: نجيبة ورحالتها، وفرس رائع وسائسه، وبدرة وحاملها، وجارية وخادمها، وتحت ثياب ووصيف يحمله، فقال: قد أمرنا لك بجميع ما سألت، وهو لك علينا في كل سنة.
دخل حمزة بن بيض على يزيد بن لمهلب وهو في السجن فأنشده: من المنسرح
أغلق دون السماح والجود والن ... جدة باب حديدة أشب
لا يطر إن تتابعت نعم ... وصابر في البلاء محتسب
برزت سبق الجواد في مهل ... وقصرت دون سعيك العرب
فقال: والله يا حمزة لقد أسأت حين نوهت باسمي في غير وقت تنويه، ثم رفع مقعداً تحته فرمى إليه بخرقة مصرورة، وعليه صاحب خبر واقف، وقال: خذ هذا الدينار، فوالله ما أملك ذهباً غيره، فأخذه حمزة وأراد أن يرده، فقال له سرا، خذه ولا تخدع عنه، قال حمزة: فلما قال: لا تخدع عنه قلت: والله ما هذا بدينار، فخرجت فقال لي صاحب الخبر: ما أعطاك يزيد؟ فقلت: أعطاني ديناراً، وأردت أن أرده عليه فاستحييت منه، فلما صرت إلى منزلي حللت الصرة إذا فص ياقوت أحمر كأنه سقط زند، فقلت: والله لئن عرضت هذا بالعراق ليعلمن أني أخذته من يزيد فيؤخذ مني، فخرجت إلى خراسان فبعته على رجل يهودي بثلاثين ألفاً، فلا قبضت المال وصار الفص في يد اليهودي قال لي: والله لو أبيت إلا خمسين ألف درهم لأخذته منك بها، فكأنه قذف في قلبي جمرة، فلما رأى تغير وجهي قال: إني رجل تاجر، ولست أشك أني قد غممتك، قلت: أي والله وقتلتني، فأخرج إلي مائة دينار وقال: أنفق هذه في طريقك ليتوفر المال عليك.
وليزيد أخبار في الجود عجيبة: فمن ذلك أن المهلب لما مات نادى منادي يزيد ابنه: من كانت له عند المهلب عدة أو له عليه دين فليحضر، فأتاه الناس، إلى أن أتاه رجل فقال: لي عنده عدة قال: وما عدتك؟ قال: سألته شيئاً فأمرني بالمقام، قال: فما ظنك؟ قال: على قدرك، فأمر له بمائة ألف درهم.
قال عقيل بن أبي: لما أراد يزيد بن المهلب الخروج إلى واسط أتيته فقلت: أيها الأمير إن رأيت أن تأذن لي فأصحبك وأستظل بظلك وأكون في كنفك، فقال: إذا قدمت واسطاً أتيتنا إن شاء الله، فشخص وأقمت، فقال لي إخواني: مالك لا تشخص؟ فقلت لهم: إن جوابه كان ضعيفاً، فقالوا: أنت أضعف خلق الله، تريد من يزيد جواباً أكثر مما قال لك؟ فشخصت حتى قدمت عليه، فلما كان في الليل دعيت إلى السمر، فتحدث القوم حتى ذكروا الجواري فالتفت إلي يزيد فقال: إيه يا عقيل فقلت: من الوافر
أفاض القوم في ذكر الجواري ... فأما الأعزبون فلن يقولوا
قال: إنك لن تبقى بعدها عزباً، فلما رجعت إلي منزلك إذا خادم له معه جارية وبدرة فيها عشرة آلاف درهم وفرس وفرش بيت، فلما كان الليلة الثانية دعيت إلى السمر، فلما رجعت إلى المنزل إذا بمثل ذلكن فمكثت عشر ليال كلما رجعت إلى منزل وجدت مثل ذلك، فلما رأيت في بيتي عشراً من الجواري وعشرة من الخدم وعشر بد وفرش عشرة وعشرة أفراس دخلت عليه فقلت أيها الأمير، قد والله أغنيت وأقنيت، فإن رأيت أن تأذن لي في الرجوع فأكبت عدوي وأسر صديقي، قال: بل نخيرك خلتين اختر أيتهما شئت، إما أن تقيم فنوليك أو تشخص فنغنيك، فقلت: أو لم تغنني أيها الأمير؟ قال: لا إنما هذا أثاث المنزل ومصلحة المقدم.

قال أبو العيناء: تذاكروا السخاء فانفقوا عل آل الملب في الدولة المروانية وعلى البرامكة في الدولة العباسية، ثم اتفقوا عل أن أحمد بن أبي دواد أسخى منهم جميعاً وأفضل. وكان يقال للفضل بن يحيى حاتم الإسلام وحاتم الأجواد، ويقال حدث عن البحر ولا حرج، وعن الفضل ولا حرج. وقالوا: ما بلغ أحد من أولاد خالد بن برمك مبلغه في جوده ورأيه وبأسه ونزاهته. وكان يحيى بن خالد يقول: ما أنا إلا شررة من نار أبي لعباس. وقيل لداود الطائي: أي الناس أسخى؟ فذكر خالد بن برمك، فقيل: قد وصل الفضل بن يحيى منذ ترك النهروان إلى أن دخل خراسان بثمانين ألف ألف درهم، فقال: ما بلغ ذاك يوماً من أيام خالد.
أتى الفرزدق عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي بالمدينة وليس عنده نقد حاضر، وهو يتوقع أعطيته وأعطية ولده، فقال: والله يا أبا فراس ما وافقت عندنا نقداً، ولكن عروضاً إن شئت، قال: نعم، قال: فإن عندنا رقيقاً فرهة فإن شئت أخذتهم، قال: نعم، فأرسل عليه من بنيه وبني أخيه عدة، وقال: هم لك عندنا حتى تشخص، وجاءه العطاء فأخبره الحبر، وفداهم، فقال الفرزدق، ونظر إلى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان سيداً يطوف بالبيت يتبختر: من البسيط
تمشي تبختر حول البيت منتحياً ... لو كنت عمرو بن عبد الله لم تزد
وفد أبو الشمقمق إلى جند يسابور يريد محمد بن عبد السلام، فلما دخلها صار إلى منزله، فخبر أنه في دار الخراج مطالب، فقصده ودخل عليه وهو قائم في الشمس وعلى عنقه صخرة، فلما رآه محمد قال: من الكامل
ولقد قدمت على رجال طالما ... قدم الرجال عليهم فتمولوا
أخنى الزمان عليهم فكأنهم ... كانوا بأرض أقفرت فتحولوا
فقال أبو الشمقمق: من الكامل
الجود أفلسهم وأذهب مالهم ... فاليوم إن راموا السماح تجملوا
فقال محمد لغلامه: ادن مني يا غلام، فدنا فقال: خذ هذه الصخرة عني ولا تضعها على الأرض، فنزع ثيابه وخاتمه ودفع ذلك إليه وقال: اردد الصخرة على عاتقي، وأخذ أبو الشمقمق الثياب والخاتم معاً ومضى، فكتب صاحب الخبر إلى الخليفة يخبره وذكر فعله وشعره، فوقع إلى عامله بجنديسابور بإسقاط الخراج عنه في تلك السنة، وإسقاط ما عليه من البقايا، وأمر له بمائة ألف درهم معونى عل مروءته.
قدم ربيعة على يزيد بن حاتم بمصر، فشغل عنه ببعض الأمر، فخرج وهو يقول: من الطويل
أراني ولا كفران لله راجعاً ... بخفى حنين من نوال ابن حاتم
فسأل عنه يزيد فأخبر أنه قد خرج وقال كذا، وأنشد البيت، فأرسل في طلبه، فأتي به فقال: كيف قلت؟ فأنشده البيت، فقال: شغلنا عنك وعجلت علينا، قم أمر بخفيه فخلعتا من رجليه ولمئتا مالاً، وقال ارجع بهما بدلاً من خفي حنين.
حدث أبو العباس أحمد بن يحيى قال: كان ببغداد فتى يجن ستة أشهر ويفيق ستى أشهر، فاستقبلني في بعض السكك ذات يوم فقال: ثعلب؟ قلت: نعم، قال: أنشدني فأنشدته: من الكامل
فإذا ممرت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دم وذبائح
فتضاحك وسكت ساعة ثم قال: ألا قال؟ من الخفيف
اذهبا بي إن لم يكن لكما عق ... ر إلى ترب قبره فاعقراني
وانضحا من دمي عليه فقد كا ... ن دمي من نداه لو تعلمان
ثم إني رأيته يوما بعد ذلك فتأملني وقال: ثعلب؟ قلت: نعم، قال: أنشدني، فأنشدته: الوافر المجزوء
أعار الجود نائله ... إذا ما ماله نفدا
وإن أشد شكا جبنا ... أعار فؤاده الأسدا
فضحك وقال: ألا قال؟ من الرمل
علم الجود الندى حتى إذا ... ما حكاه علم البأس الأسد
فله الجود مقر بالندى ... وله الليث مقر بالجلد
قال أبو العيناء: أضقت إضاقة شديدة فكتمتها عن أصدقائي، فدخلت على يحيى ابن أكثم القاضي فقال لي: إن أمير المؤمنين عبد الله المأمون قد جلس للمظالم وأخذ القصص، فتنشط للحضور؟ فقلت: نعم، فمضيت معه إلى دار أمير المؤمنين، فلما بصر بنا أجلس يحيى ثم أجلسني فقال: يا أبا العيناء، بالألفة والمحبة ما جاء بك في هذه الساعة؟ فأنشأت أقول: من البسيط

فقد رجوتك دون الناس كلهم ... وللرجال حقوق كلها يجب
إلا تكن لي أسباب أمت بها ... ففي العلى لك أخلاق هي السبب
فقال: يا سلامة، انظر أي شيء في بيت مالنا وخاصنا لا في بيت مال المسلمين، فقال: بقية من مال، فقال: ادفع إليه منها مائة ألف وأدررها عليه في كل وقت مثل هذا، فقبضها؛ فلما كان بعد أحد عشر شهرا مات المأمون، فبكى عليه أبو العيناء حتى فرحت عيناه، فدخل عليه بعض والده فقال له: يا أبتاه بعد ذهاب العين ما يغني البكاء؟ فأنشأ يقول: من الكامل
شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيها ... فقد الشباب وفرقة الأحباب
كان أحمد بن ولون كثير الصدقة، وكان راتبه منها في الشهر ألف دينار سوى ما يطرأ عليه من نذر أو صلة أو شكر على تجديد نعمة، وسوى ما يرسله إلى أهل الستر، وسوى مطابخه التي تطبخ في دار الصداقة، وكان أحد المتولين لصداقته سليم الفاقة الخادم المعدل، وكان معروفاً بالخير والورع، قال سليم: فقلت له أيها الأمير، إني أطوف القبائل، وأدق الأبواب بصدقاتك، وأن اليد تمتد إلي فيها الحناء، وربما كان فيها الخاتم الذهب، وربما كان الدستينج والسوار الذهب، فأعطي أو أرد؟ فأطرق طويلاً ثم رفع رأسه وقال: كل يد امتدت إليك فلا تردها.
كان بشر بن غالبد الأسدي سخيا مطعاماً، وكانت له موائد يغشاها إخوانه، ثم إن الدهر نبا به وضاقت ذات يده، فاختفى في منزله استحياء من الناس، وأظهر أنه غائب، وكانت له مولاة تقوم بحوائجه وتقيم له مروءته بالقرض والفرض وبيع الشيء بعد الشيء، حتى جاءته يوما فقالت: يا مولاي، قد والله أعيت الحيلة وما أجد اليوم مضطرباً، فإن أذنت لي احتلت لك، قال: على أن لا تذكريني لأحد، قالت له، فأتت عكرمة بن ربعي الفياض، فدخلت عليه فقالت له: هل لك في عورة كريم تسترها وخلة تسدها؟ قال: ومن هو؟ قالت: قد أمرني أن لا أذكره، فدعا بثلاثمائة درهم فدفعها إليها، ث قال لمولاة له ذات ظرف وعقل: اتبعي هذه المرأة فانظري أين تدخل، فرجعت إليه فأخبرته أنها دخلت دار بشر بن غالب، فقال لوكيله: هيء أربعمائة دينار في كيس، فلما كان في بعض الليل أخذ عكرمة الكيس وجاء إلى باب بشر بن غالب فقرع الباب، فقيل له إنه غائب، فقال: أخبره أني مستغيث يستغيث به، فخرج إليه في ظلمة الليل فرمى الكيس وركض البغلة منصرفاً، فناداه بشر: أنشدك الله من أنت؟ قال: أنا جابر عثرات الكرام، قال: فلما رجع بشر إلى منزله دعا مولاته فقال: أخبريني من أتيت اليوم في حاجتك، قالت: عكرمة بن ربعي، فلم يك إلا أيام يسيرة حتى قدم بشر بن مروان الكوفة، فأرسل إلى بشر بن غالب فولاه الشرطة، وقلده سيفاً، فقال: أيها الأمير، إن الشرطة لحوائج الناس وشفاعاتهم، فاجعل لي شيئاً من الخراج أستعين به، فولاه رستاقاً، فقال له: أيها الأمير بقيت لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: عكرمة بن ربعي، كان من قصته وقصتي كيت وكيت، فإن رأى الأمير أن يأذن لي فأكرمه بهذه الولاية، قال: أنت وذاك، فلم يشعر عكرمة وهو بباب بشر بن مروان أن خرج بشر بن غالب ومعه السيف، فقلده أياه ثم قال: السلام عليك أيها الأمير.
مدح بعض ولد نهيك بن إساف الأنصاري الحكم بن المطلب المخزومي فقال: من الطويل
خليلي إن الجود في السجن فابكيا ... على الجود إذ سدت علينا مرافقه
ترى عارض المعروف كل عشية ... وكل ضحى يستن في السجن بارقه
إذا صاح كبلاه طفا فوق بحره ... لزوراره حتى تعوم غرانقه
وقال سلمة بن عياش في جعفر بن سليمان بن علي: من الطويل
فما شم أنف ريح كف شممتها ... من الناس إلا ريح كفك أطيب
فأمر له بألف دينار ومائة مثقال مسك ومائة مثقال عنبر.
دخل القعقاع بن شور الذهلي على معاوية، والمجلس غاص بأهله، ففسح له رجل حتى جلس إلى جنب معاوية، وأمر له معاوية بألف فجعلها للمفسح.
خرج عكرمة بن ربعي مع الوليد بن عبد الملك إلى الصائفة ومعه ألف بعير عليها الطعام فجعل ينحر كل يوم سمينها ويطعم ما عليه.

لزمت داود بن قحذم العبدي، وكان عامل مصعب، مائة ألف فأخذ بها، فأرسل امراته أم الفضل بنت غيلان بن خرشة الضبي إلى عائشة بنت طلحة امرأة مصعب لتشفع له، فجاء مصعب فسأل أم الفضل ومازحها ساعة، وكانت من أجمل نساء زمانها، ثم قال لعائشة: ما حاجتها؟ فذكرتها فقال: تحط عنه المائة الألف ونجيزه بمثلها، فجاءت بالكتابين إلى زوجها.
كان عبد العزيز بن مروان جواداً مضيافاً فتعذى عند أعرابي، فما كان من الغد رأى الناس على بابه كما رآهم بالأمس، فقال: أفي كل يوم يطعم الأمير؟ ثم أنشأ يقول: من الخفيف
كل يوم كأنه يوم أضحى ... عند عبد العزيز أو عيد فطر
وله ألف جفنة مترعات ... كل يوم تمدها ألف قدر
وكان الحسن بن قحطبة مضيافا له مطبخان، في كل مطبخ سبعمائة تنور.
وكان الزهري إذا لم يأكل أحد من أصحابه من طعامه حلف لا يحدثه عشرة أيام.
واراد ابن عامر أن يكتب لرجل خمسين ألفاً فجرى القلم بخمسمائة ألف، فراجعه الخازن فقال: أنفذه، فوالله لإنفاذه وإن خرج المال أحسن من الاعتذار، فاستسرفه فقال: إذا أراد الله بعبد خيراً حرف القلم عن مجرى إرادة كاتبه إلى إرادته، وأنا أردت شيئاً وأراد الجواد الكريم أن يعطي عبده عشرة أضعافه، فكانت إرادة الله الغالبة وأمره النافذ.
وقف أعرابي على ابن عامر فقال: يا قمر البصرة وشمس الحجاز ويا ابن ذروة العرب وترب بطحاء مكة، نزعت بي الحاجة، وأكدت بي الآمال إلا بفنائك، فامنحني بقدر الطافة والوسع، لا بقدر المحتد والشرف والهمة، فأمر له بعشرة آلاف، فقال: ماذا؟ تمرة أو ركبة أو بسرة؟ قيل: بل دراهم، فصعق ثم قال: رب إن ابن عامر يجاودك فهب له ذنبه في مجاودتك.
تعشى الناس عند سعيد بن العاص، فلما خرجوا بقي فتى من الشام قاعداً، فقال له سعيد: ألك حاجة؟ واطفأ الشمعة كراهة أن يحصر الفتى عن حاجته، فذكر أن أبه مات وخلف دينا وعيالاً، وسأله أن يكتب له إلى أهل دمشق ليقوموا بإصلاح بعض شأنه، فأعطاه عشرة آلاف دينار وقال: لا تقاس الذل على أبوابهم.
قال بعض القرشيين: والله لإطفاؤه الشمعة أكثر من عشرة آلاف.
سمع المأمون قول عمارة بن عقيل: من الطويل
أأترك أن قلت دراهم خالد ... زيارته إني إذن للئيم
فقال: أو قد قلت دراهم خالد؟ احملوا إليه مائتي ألف درهم، فعشرها خالد لعمارة وقال: هذا مطر من سحابك.
كان يقال لإبراهيم الخليل عليه السلام أبو الضيفان لأنه أول من قرى الضيف وسن لأبنائه العرب القرى، وكان إذا أراد الأكل بعث أصحابه ميلاً إلى ميل يطلبون ضيفاً يؤاكله.
كان أبو عبية بن عبد الله بن زمعة القرشي جواداً مطعاماً، وكان يقول: إني لأستحيي أن يدخل داري أو يمر بي أحد فلا أطعمه، حتى إنه كان يطرح للذر السويق والحنطة. وأراد إبراهيم بن هشام أمير المدينة أن يبخله، فقال لأصحابه: تعالوا نفجأ أبا عبيدة فاستنزلهم فقالوا: إن كان شيء عاجل وإلا فلا ننزل، فجاءهم بسبعين كرشاً فيها رؤوس، فعجب ابن هشام وقال: ترونه ذبح في ليلته من الغنم عدد هذه الرؤوس.
أما أنا فما رأيت جواداً ينطلق عليه اسم الجود إلا أن يكون أبا منصور محمد بن علي الأصفهاني الملقب بالجمال وزير الموصل، فإنه عم بعطائه وصلاته أهل ولايته، وتجاوزهم إلى أهل العراق والجبل وأصفهان والحرمين، فكان يعطي من نأى عنه تبرعاً كما يعطي من هاجر إليه سائلاً، والذي أطلق عليه اسم الجود أنه كان مؤثرا على نفسه، نتقللاً في خاصته، وحاصله في السنة خمسون ألف دينار، كما قيل، ولا يزال يأخذ بالدين يتمم به صلاته، وتصدق بداره التي يسكنها، فكان يؤدي أجرتها في كل شهر على السبيل الذي جعلها فيه.

ومن عجيب أمره أنه خدم زنكي بن آق سنقر في مبدأ أمره مشرفاً على الاصطبل، وكان ذاك موصوفاً بالشح، فتقرب إليه بما يطابق هواه، حتى بما يسقط من النعال، وتوسل عنده بالتبخل تكلفا تتطلع السجايا الكريمة من خلاله، ويشهد بما ستبديه الأيام من شرف جلاله، حتى صار مشرف ديوانه، فكان أقرب أصحابه إليه، فلما قتل زنكي وقام ولده بالأمر ووزر له وملك أمره، وأمن ما كان يخافه من أبيه، أظهر مكنون سجيته، وباح بما كان يضمره وأبان عن جود برمكي. ومن المستفيض عنه أنه لم يتضجر قط على سائل، ولم يبرم بملح، ولا منع أحداً، ولا أصغى بسمعه إلى عاذل في الجود ولا مشير.
وشاهدت اثنين أحدهما من أوساط الناس والآخر من فقرائهم: أما الأول فكان يجوع ويطعم، ويعرى ويكسو، ويتكسب بالتصرف فيلبس القميص المرقوع ويركب الدابة الضعيف، لا زوجة له ولا ولد ولا عبد، ويصرف ما يحصله في معونة الناس وإرفادهم وإطعامهم، وأما الثاني فرجل ضعيف يجتدي الناس في الأسواق ويسألهم، ويجمع ذلك فينفقه على المحبوسين: يطعمهم ويسقيهم ويداوي مرضاهم، ويضع الأجاجين على الطرق بملأها ثريداً، ويدعو الفقراء إليها، وهو بقميص متخرق مكشوف الرأس، لا يعود على نفسه مما يحصله إلا ببلغته، فهذان يستحقان اسم الكرم.
وكان يوسف بن أحمد الحرزي وكيل المستظهر بالله يذكر بالكرم، وليس في هذه الرتبة: كان يعطي ويفضل، لكن قليلاً من كثير، ولما قبض عليه المسترشد بالله وجد له ذخائر عظيمة وأموالاً جليلة لا يدخرها جواد.
وفات هؤلاء المذكورين بالكرم، وفاقهم في حسن الشيم من أهل زماننا صاحب مدينة إربل وما والاها من الأعمال، وهو الأمير مجاهد الدين قايماز، فإنه كلف بحب الحسنات، وعكف على فعل الخيرات، وقصر زمانه على مكارم الأخلاق؛ فما شاهدته من ذلك أنه كان موئلاً لكل وافد عليه من بلادنا العراقية، ملجأ لكل خائف يصل إليه منها، ولقد قصده جماعة من الأكابر أصحاب الأعمال السلطانية هاربين إليه إذ كربتهم الحوادث واستأصلتهم النوائب، فتلقاهم بالبشر والترحيب وأحسن إليهم وبرهم وعطف عليهم وأشركهم في ماله وجاهه حتى أنساهم ما كانوا عليه بالعراق من حالة العمل وخدمة السلطان، فقال بعضهم فيه، وهو من أنساب الوزير عون الدين بن هبيرة: من الوافر
كأني شاني بمهلبي ... ونازل عبد شمس في احتكام
وهذا البيت من قصيدة طويلة امتدحه بها وشكره على ما أسداه إليه وإلى غيره من الإحسان. وشاعت هذه المكرمة عنه حتى قصده الخائفون في جميع البلاد، فأصبحت به إربل حمى للاجئ وملاذاً للمستجير. وأما من وفد عليه من الشعراء والسؤال فكثير لا يحصى عددهم، وكان يحب الشعر ويجيز قائله بأسنى الجوائز، وخصه الله عز وجل بالذكاء والمعرفة وصفاء النفس واتقاد الخاطر حتى إنه كان يستنبط بدقيق فكره معاني الآيات من القرآن العزيز والأخبار النبوية والأشعار ويتفرد في ذلك بأشياء لم يسبق إليها. وأما ما منحه الله به من بذل الأموال وإنفاقها في عمارة بيوت الله تعالى وتجديد الرباطات والمدارس والجسور على الدجلة وغيرها من الأنهار وعمارة الخانات في الطريق المخوفة والقفار الخالية عن العمار والعمران فإن ذلك مما لا يحتاج إلى ذكر وبيان، فإنه لم يخل بلد من البلاد التي تحت يده من ذلك، حتى أنه عمر بظاهر مدينة الموصل في خطه واحدة من الأرض مقدار رأي العين على الدجلة جامعاً ورباطاً للصوفية وبيمارستان للمرضى، غرم على ذلك مالاً كثيراً يزيد على خمسين ألف دينار، ونصب على دجلة الموصل جسراً من الخشب، ووقف على هذه الوجوه الأربعة أوقافاً كثيرة يحصل منها في السنة عشرة آلاف دينار أو أكثر من ذلك، فمن تسمح نفسه بهذه الأعمال لحقيق أن يوصف بالجود والكرم، ولولا أن تخرج عما يقتضيه عمل الكتاب لذكرنا من مناقبه ما يطرب السامع ويؤنق المتأمل، وفيما أشرت إليه من ذلك كفاية.

ركب الفضل بن يحيى بن خالد يوما من منزله بالخلد يريد منزله بباب الشماسية فتلقاه فتى من الأبناء مملك، ومعه جماعة من الناس ركبان تحملوا لإملاكه، فلما رآه الفتى نزل وقبل يده ولم يكن يعرفه، فسأل عنه فعرف نسبه، فسأل عن مبلغ الصداق فعرف أنه أربعة آلاف درهم، فقال الفضل لقهرمانه: أعطه أربعة آلاف درهم لزوجته، وأربعة آلاف ثمن منزل ينزله، وأربعة آلاف للنفقة على وليمته، وأربعة آلاف يستعين بها على العقد وعلى نفسه.
قال المهلبي للقاضي أبي بكر ابن قريعة: كنت وعدتك أن أغنيك، فهل استغنيت؟ فقال: قد أغناني جود الوزير وإنعامه، ورفع مجلسي بسطه وإكرامه، ولم يبق في قلبي حسرة إلا ضيعة تجاورني لأبي الحسين ابن أبي الطيب العلوي، وأنا متأذ به، فقال له: كم مقدار ثمنها؟ فقال له: تساوي ألف دينار، قال: فهذا قريب، فلما انصرف القاضي قال المهلبي لحاجبه: إذا كان غداً فقل لأبي الحسين ابن حاجب النعمان يخرج ما على ابن أبي الطيب من بواقي معاملاته وعلقه وكفالاته، وتحضرني عملاً به، فلما أحضر العمل أمر بملازمة ابن أبي الطيب عليه، فدخل العلوي إلى فرح الخادم وحمله رسالة إلى المهلبي، وسأله عن سبب وجده عليه، فلم يزل الكلام يتردد حتى ذكر له أمر الضيعة ورغبته في شرائها، فحلف أنه لا يملكها وأنا لنساء علويات في داره وبذل له خطابهن عليها ونقد الثمن من ماله، فقال: لا بل تقرره على احتياطي وتعرفني لتزاح العلة فيه، فمضى وعاد بكرة غد ومعه كتاب ابتياع الضيعة باسم أحد وكلائه بعشرة آلاف درهم، فقال لفرح: لا تبرح حتى توفيه المال، فقال: ما عندي دراهم تفي بهذا، فقال تممها من الدنانير التي عندك، ففعل واستدعى الوكيل الذي كتب الكتاب باسمه فأقر بالضيعة لأبي بكر ابن قريعة، وأخذ المهلبي الكتاب مفروغاً منه، وتركه تحت مطرحه، وحضر ابن قريعة على رسمه بعد يومين ولا يعلم شيئاً مما جرى، وجلس مع الندماء، فلما هم المهلبي بالنوم نهضوا فقال للقاضي: اجلس حتى تحدثني إلى أن أنام، ثم نهض لبعض الأمر، وقلب جانب المطرح وقال: هذا كتاب ابتياعك الضيعة التي كنت تتأذى بها، فأخذه القاضي وقرأه وبكى فرحاً، فقال له المهلبي: القاضي مثل الصبي إن منع بكى وإن أعطي بكى، فقال له القاضي: الذي أبكاني فرط السرور، فإني رأيت لنفسي وللوزير ما كنت أسمعه لغيري عن أكارم كذباً مجموعاً وحديثاً مصنوعاً.
الفرزدق: من البسيط
لو أن قدراً بكت من طول محبسها ... عن الحقوق بكت قدر ابن ختار
ما مسها دسم مذ فض معدنها ... ولا رأت بعد نار القين من نار
ابن بسام: من السريع
دار أبي العباس مفروشة ... ما شئت من بسط وأنماط
لكنما بعدك من خبزه ... كبعد بلخ من سميساط
مطبخه قفر وطباخه ... أفرغ من حجام ساباط
دخل الحسن البصري على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه، فرآه يصوب النظر في صندوق في بيته ويصعده ثم قال: أبا سعيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أؤد منها زكاة ولم أصل منها رحماً؟ قال: ثكلتك أمك، ولمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزمان، وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة. قال: ثم مات فشهده الحسن، فلما فرغ من دفنه قال: انظروا إلى هذا المسكين، أتاه شيطانه فحذره روعة زمانه، وجفوة سلطانه، ومكاثرة عشيرته عما رزقه الله إياه وعمره فيه، انظروا إليه كيف خرج منه محروباً. ثم ألتفت إلى الوارث فقال: أيها الوارث لا تحد عن كما خدع صاحبك بالأمس، أتاك المال حلالاً، فلا يكون عليك وبالاً، أتاك عفواً صفوا ممن كان له جموعاً منوعا، من باطل جمعه، ومن حق منعه، قطع فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، ولم تقدح فيه بيمين، ولم يعرق لك فيه جبين، إن يوم القيامة يوم ذو حسرات، وإن من أعظم الحسرات غداً أنرى مالك في ميزان غيرك، فيا لها عثرة لا تقال وتوبة لا تنال.
كان الحطيئة ساقط النفس دنيء الهمة، أتى بني كليب فقالوا: هو أشعر الناس، وهابوه وحكموه وقالوا: سل ما أحببت يا أبا مليكة وأكثر ولا تبق علينا، فظنوا أنه يسأل في دية، فقال: قصعة من ثريد قالوا: ألف قصعة قال: لا أريد إلا واحدة، فأكل فشبع وقال: من الوافر
لعمرك ما المجاور في كليب ... بمقصى في المحل ولا مضاع

ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع
وقدم المدينة فاستعدوا له من كل جانب، وقال بعضهم: علي عشر من الإبل، وقال آخر: علي خمس وقال آخر: علي ألف درهم، وأعدوا له كل ضرب من الثياب، فلما دخل قام متوكئاً على عصاه فقال: من يحمل علي سمل نعله؟ من يعين بسحق عميمة؟ من يكسو جبيبة صوف؟ فسقط من أعينهم.
وخبره مع سعيد بن العاص يشبه هذا وقد ورد في موضعه.
عمرو بن أحمر الباهلي: من الطويل
إذا أنت راودت البخيل رددته ... إلى البخل واستمطرت غير مطير
ومن يطلب المعروف من غير أهله ... يجد مطلب المعروف غير يسير
إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة ... من الذم سار الذم كل مسير
دخل خالد بن صفوان في يوم شديد الحر على هشام، وهو في بركة فيها مجالس كالكراسي، فقعد على بعضها، فقال له هشام: رب خالد قد قعد مقعدك هذا، حديثه أشهى إلي من الشهد، أراد خالد بن عبد الله القسري، فقال: ما يمنعك من إعادته إلى مكانه؟ قال: هيهات إن خالداً أدل فأمل، وأوجف فأعجق، ولم يدع لراجع مرجعاً، ولا للعودة موضعاً، وأنشد: من الطويل
إذا انصرفت نفسي عن الشىء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
ثم سأله أن يزاد عشرة دنانير في عطائه فرده، فقال له: وفقك الله يا أمير المؤمنين، فأنت كما قال أخو خزاعة، يعني كثيراً: من الطويل
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة قربى أو صديق توامقه
منعت وبعض المنع حزم وقوة ... ولم يفتلذك المال إلا حقائقه
فقيل له: ما حملك على تزيينك الإمساك لهشام؟ فقال: أحببت أن يمنع غيري فيكثر من يلومه.
سأل المأمون اليزيدي عن ابنه العباس فقال: رأيته وقد ناوله الغلام أشناناً ليغسل يده، فاستكثره فرد بعضه في الاشناندانه ولم يلقه في الطست، فعلمت أن بخيل لا يصلح للملك.
كتب أنورشروان إلى ابنه هرمز لا تعد الشحيح أميناً، ولا الكذاب حراً فإنه لا عفة مع الشح، ولا مروءة مع الكذب.
قال محمد بن هانئ: من الكامل
أعطى وأكثر واستقل هباته ... فاستحيت الأنواء وهي هوامل
فاسم الغمام لديه وهو كنهور ... آل وأسماء البحار جداول
لم تخل أرض من نداه ولا خلا ... من شكر ما يولي لسان قائل
وقال أيضاً: من الطويل
لقد جدت حتى ليس للمال طالب ... وأعطيت حتى ما لمنفسة قدر
فليس لمن لا يرتقي النجم همة ... وليس لمن لا يستفيد الغنى عذر
وقال أيضاً: من البسيط
الواهب الألف إلا أنها بدر ... والطاعن الألف إلا أنه نسق
تأتي عطاياه شتى غير واحدة ... كما تدافع موج البحر يصطفق
وقال الرضي: من السريع
ريان والأيام ظمآنة ... من الندى نشوان بالبشر
لا يمسك العذل يديه ولا ... تأخذ منه نشوة الخمر
وقال: من المتقارب
ذخائره العرف في أهله ... وخزان أمواله السائلونا
وقال: من الكامل
كالغيث يخلفه الربيع وبعضهم ... كالنار يخلفها الدخان المظلم
نوادر في الجود والبخل واللؤم قال الفضل بن يحيى لجعيفران الموسوس: لم لم تصر إلي؟ فقال: أنت بحر وأنا لا أحسن أسبح، فوصله بمال.
رأى رجل مزبداً بالرها وعليه جبة خز، وكان مزبد قد خرج إليها فحسنت حاله، فقال: يا مزبد هب لي هذه الجبة، فقال: ما املك غيرها، فقال الرجل: إن الله تعالى يقول " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " " الحشر: 9 " ، فقال: الله أرحم بعباده أن ينزل هذه الآية بالرها في كانون وكانون، وإنما نزلت بالحجاز في حزيران وتموز.
قال عبيد الله بن سليمان لأبي العيناء: إن الأخبار المذكورة في السخاء وكثرة العطاء أكثرها تصنيف الوراقين وأكاذيبهم، قال: ولم لا يكذبون على الوزير، أعزه الله؟

كان سعيد الدارمي بخيلاً، وهو شاعر مغن، وكانت متفتيات أهل مكة لا يطيب لهن متنزه إلا به، فاجتمع جماعة منهن في منتزه لهن، وفيهن صديقة له، وكل واحدة منهن قد واعدت هواها، فخرجن حتى أتيت الجحفة، فقال بعضهن لبعض: كيف لنا أن نخلو مع هؤلاء الرجال من الدارمي فإنا إن فعلنا في الأرض، فقالت لهن صاحبته: أنا أكفيكنه، قلن: إنا نريد أن لا يلومنا، قالت: علي أن ينصرف حامداً، فأتته فقال: يا دارمي إنا قد تفلنا فاحتل لنا طيباً، قال: نعم هو ذا آتي سوق الجحفة فآتيكن منها بطيب، فأتى المكارين فاكترى حماراً وطار عليه إلى مكة، وهو يقول: من الهزج
من اللائي يردن الطي ... ب في العسرة واليسره
أنا بالله ذي العز ... وبالركن وبالصخره
وما أقوى على هذا ... ولو كنت على البصره
فمكث النسوة ما شئن، قم قدمن مكة فلقيته صاحبته ليلة في الطواف فأخرجته إلة ناحية المسجد وجعلت تعاتبه على ذهابه ويعاتبها إلى أن قالت له: يا دارمي بحق هذه البنية تحبين؟ قال: نعم، فبريها تحبيني؟ قالت: نعم قال: فيا لك الخير فأنت تحبينني وأنا أحبك، فما مدخل الدراهم بيننا؟ قال الجاحظ: شوي لأحمد بن جعفر بن سليمان دجاج، ففقد فخذاً، فنادى في داره: من هذا الذي تعاطى فعقر؟ والله " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين " الشعراء: 49 " ، فقال له أكبر ولده: يا أبة، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، فجالوا في الدار فأصابوا الفخذ، فقال: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " " يوسف: 92 " .
أكل قوم عند رجل بخيل وأمعنوا، فأراد أن يقطعهم عن الأكل فبقي منحيراً وقال: ليس هذا أكل من يريد أن يتعشى.
قال بعضهم: دخلت الكوفة فرأيت صبياً ومعه رغيف، وهو بكسر منه لقمة ويومئ بها إلى شق في حائط يخرج منه دخان ثم يأكلها، فبقيت متعجباً منه، ووافاه أبوه فسأله عن ذلك فقال الصبي: هذه دار فيها عرس، وقد طبخوا سكباجة حامضة، فأنا أتأدم برائحتها، فصفعه أبوه صفعة شديدة وقال له: تريد أن تعود نفسك أن لا تأكل خبزك إلا بأدم.
سئل أبو الحارث جمين عمن يحضر مائدة محمد بن يحيى بن خالد فقال: أكرم الخلق والأمهم، يعني الملائكة والذباب.
تغدى أعرابي عند رجل، فقدم إليه جدياً، فأمعن الأعرابي، فقال له الرجل: إنك لعمزقه كأن أمه نطحتك، قال: لا، ولكنك تشفق عليه كأن أمه أرضعتك.
وقال أبو عمرو بن العلاء: دعاني رجل وكان بخيلاً، فقدم المائدة ونحن جماعة، وقدم جدياً سميناً فنحن نأكله والشاة تصيح، فقلت: سكتوا الثكلى، فقال: كيف تسكت وقرة عينها تمزقونه؟! قال رجل لغلامه: هات الطعام وأغلق الباب، فقال: هذا خطأ بل أغلق الباب وآتي بالطعام، فقال: أنت حر لعملك بالحزم.
لقي أعرابي رجلاً من الحاج فقال: ممن الرجل؟ قال: باهلي فقال: أعيذك بالله من ذاك، قال: أي والله وأنا مع ذلك مولى لهم، فأقبل الأعرابي يقبل يديه ويتمسح به، فقال له الرجل: لم تفعل ذلك؟ قال: لأني أثق بأن الله عز وجل لم يبتلك بهذا في الدنيا إلا وأنت من أهل الجنة.
قالت قينة لأبي العيناء هب لي خاتمك أذكرك به، قال: اذكريني بالمنع.
قال مديني لآخر: صعدت إلى السماء في سلم من زبد، كلما صعدت ذراعاً نزلت ذراعاً حتى أبلغ بنات نعش، فآخذ كوكبة كوكبة، لو أن لمولاك مائة بيدر من إبر خوارزمية ثم جاءه يوسف النبي عليه السلام وقد قد قميصه من دبر، ومعه جبريل وميكائيل يشفعان له، ما أعطاه إبرة منها يخيط بها قميصه.
استأذن مزبد على بعض البخلاء وقد أهدي له تين في أول أوانه، فلما أحسن بدخوله تناول الطبق فوضعه تحت السرير، وبقيت يده معلقة ثم قال لمزبد: ما جاء بك في هذا الوقت؟ قال: يا سيدي مررت الساعة بباب فلان فسمعت جاريته تقرأ لحناً ما سمعت قط أحسن منه، فلما علمت من شدة محبتك للقرآن وسمعاك للألحان حفظته وجئت لأقرأه عليك، قال: فهاته، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. والزيتون وطور سينين، فقال: ويلك أين التين؟ قال: تحت السرير.
قيل لأبي الحارث جمين: أتغديت عند فلان؟ قال: لا وكلني مررت ببابه وهو يتغدى، قيل: وكيف علمت ذلك؟ قال: رأيت غلمانه بأيديهم قسي البندق يرمون الطير في الهواء.

قال الجماز: رأيت بالكوفة رجلاً وقف على بقال فأخرج له رغيفاً صحيحاً فقال: أعطني به كسرا وبصرفه جزراً.
استوهب رجل من مخنث في الحمام خطمياً فمنعه، فقال: سبحان الله، تمنعني الخطمي وقفيز منه بدرهم؟! فقال المخنث: فاحسب حسابك على أربعة أقفزة كم يصيبك بلا شيء؟ كان زياد بن عبد الله الحارثي على شرطة المدينة، وكان مبحلاً على الطعام، فدعا أشعب في شهر رمضان كي يفطر عنده، فقدمت إليه في أول ليلة مصلية معقودة، وكانت تعجبه، فجعل أشعب يمعن فيها وزياد يلمحه، فلما فرغوا من الأكل قال زياد: ما أظن أن لأهل السجن إماماً يصلي بهم في هذا الشهر، فليصل بهم أشعب، فقال أشعب: أو غير ذلك أصلحك الله، قال: وما هو؟ قال: أحلف أني لا أذوق مصلية أبداً، فخجل زياد وتغافل عنه.
قال ابن باذشاه: كان عندنا بأصفهان رجل أعمى يطوف ويسأل، فاعطاه مرة إنسان رغيفاً فدعا له وقال: أحسن الله إليك، وبارك عليك، وجزاك خيراً، ورد غربتك؛ فقال له الرجل: ولم ذكرت الغربة؟ قال: لأن لي ها هنا عشرين سنة ما ناولني أحد رغيفاً صحيحاً.
كانت بالمدينة جارية يقال لها بصبص، مغنية يجتمع الشراف عند مولاها لسماع غنائها، فاجتمع عندها يوماً محمد بن عيسى الجعفري وعبد الله بن مصعب الزبيري في جماعة من أشراف المدينة، فتذكروا أمر مزبد وبخله، فقال بصبص: أنا آخذ لكم منه درهماً فقال لها مولاها: أنت حرة إن لم أشتر لك مخنقة بمائة دينار إن فعلت هذا، وأشتري لك مع هذا ثوب وشي بمائة دينار، وأجعل لك مجلساً بالعقيق أنحر فيه بدنة لم تركب ولم تقتب، قالت: فجيء به وارفع الغيرة عني قال: أنت حرة إن منعتك منه ولو رأيته قد رفع رجليك ولأعاوننه على ذلك إذا حصلت منه الدرهم، فقال عبد الله بن صمعب: أنا لكم به، قال عبد الله: فصليت الغداة في مسجد المدينة فإذا به قد أقبل، فقلت يا أبا إسحاق، ما تحب أن ترى بصبث؟ قال: بلى والله، وامرأته طالق إن لم يكن الله ساخطاً علي في أمرها فقد جفتني، وإلا فأنا أسأله منذ سنة أن ألقاها فلا تجيبني، فقلت له: إذا صليت العصر فأنني ها هنا، فقال: امرأته طالق إن برح يومه من ها هنا إلى العصر، قال فتصرفت في حوائجي حتى كانت العصر، فدخلت المسجد فوجدته، فأخذت بيده وأتيتهم به، واكل القوم وشربوا حتى صليت العتمة، ثم تساكروا وتنادموا، فأقبلت بصبص على مزبد فقالت: يا أبا إسحاق، كأني والله في نفسك تشتهي أن أغنيك الساعة: من الهزج
لقد حثوا الجمال ليه ... ربوا منا فلم يئلوا
فقال لها: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللوح المحفوظ، فغنته إياه ثم قالت له: أي أبا إسحاق، كأني بك تشتهي أن أقوم من مجلسي فأجلس إلى جنبك فتدخل يديك في جلبابي فتقرص عنكي قرصات وأغنيك:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به
فقال لها: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما تكسب الأنفس غداً وبأي أرض تموت، قالت: فقم، فقام فجلس إلى جنبها وأدخل يده في جلبابها وقرصها، وغنت له، ثم قالت: برح الخفاء، أنا أعلم أنك تشتهي أن تقبلني شق التين وأغنيك هزجاً: من الهزج
أنا أبصرت بالليل ... غلاما حسن الدل
كغصن البان قد أصب ... ح مسقياً من الطل
فقال: امرأته طالق إن لم تكوني نبية مرسلة، فقبلها وغنته، ثم قالت: يا أبا إسحاق، رأيت قط أنذل من هؤلاء؟ يدعونك ويخرجوني إليك ولا يشترون لنا ريحاناً بدرهم؟ هلم درهماً نشتري به ريحاناً بدرهم؟ هلم درهماً نشتري به ريحاناً، فوثب وصاح: واحرباه، أي زانية، أخطأت استك الحفرة، انقطع والله الوحي عنك، ووثب من عندها وجلس ناحية، فعطعط القوم بها، وعملوا أن حيلتها لن تنفد عليه، وعادوا لمجلسهم وخرج مزبد من عندهم فلم يعد إليهم.

سأل يحيى بن خالد أبا الحارث جميناً عن مائدة ابنه فقال: أما مائدته فمن نصف سمسمة، وأما صحفاة فمقورة من قشور حب الخشخاش، وما بين الرغيف والرغيف مد البص، وما بين واللون واللون فترة ما بين نبي ونبي، قال: فمن يحضرها؟ قال: خلق كثير من الكرام الكاتبين، قال فيأكل معه أحد؟ قال: نعم الذباب، قال: سوءة له، وهذا ثوبك مخرق وأنت بفنائه تطور، فلو رقعت قميصك، قال: ما أقدر على إبرة، قال: هو يعطيك، قال: والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوءاً إبراً في كل إبرة خيط ثم جاء جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يسألونه إبرة يخيط بها يوسف قميصه الذي قد من دبر ما أعطاهم.
ولقيه رجل وقد تعلق به غلام، فقال: يا أبا الحارث، من لهذا؟ قال: هذا غلام للفضل بن يحيى، كنت عند مولى هذا أمس فقدم إلينا مائدة عليها رغيفان عملا من نصف خشخاشة، وثريدة في سكرجة وخبيصة في مسعطة، فتنفست الصعداء فدخل الخوان وما عليه في أنفي، فمولاه يطالبني بالقيمة، قال الرجل: استغفر الله ما تقول، فأوما إلى غلام معه وقال: غلامي هذا حر إن لم يكن لو أن عصفوراً وقع على بعض قشور ذلك الخشخاش الذي عمل منه ذلك لما رضي مولى هذا حتى يؤتي بذلك العصفور مشوياً بين رغيفين، والرغيفان من عند العصفور، ثم قال: وعلي المشي إلى بيت الله الحرام إذا عطشت بالقرعاء رجعت إلى دلة العوراء حتى أشرب منها لو أن مولى هذا كلف في يوم قائظ شديد الحر أن يصعد على سلم من زبد حتى يلتقط كواكب بنات نعش كوكباً كوكباً كان ذلك أسهل عليه من أن يشم شام تلك الثريدة أو يذوق ذائق تلك الخبيصة، فقال الرجل: عليك لعنة الله وعلي إن سمعت منك شيئاً بعد هذا.
قال بعضهم لبخيل: لم لا تدعوني؟ قال: لأنك جيد المضع سريع البلع، إذا أكلت لقمة هيأت أخرى، قال فتريد مني إذا أكلت لقمة أصلي ركعتين ثم أعود إلى الثانية؟! قال بعض البخلاء لرجل على مائدته: اكسر ذلك الرغيف، قال: دعه يبتلي به غيري.
نظر الكندي إلى رجل يكسر درهما صحيحاً فقال: ويحك، لا تفرق بين الله تعالى ورسوله.
وقد روي أن معاوية كان شحيحاً على الطعام، ونسب إليه في ذلك ما ليس بمشهور، فمن ذلك أنه قال لرجل واكله: ارفق بيدك، فقال له: وأنت فاغضض من طرفك وبصرك.
ووصف رجل بخيلاً فقال: عينه دولاب اللقم في أيدي الضياف.
وروي أن بخيلاً كان يقوم في الليل وقد نام صبيانه على الجنب الأيسر فيقلبهم إلى اليمن، فسئل عن ذلك فقال: هؤلاء ينامون على اليسار فيصبحون جياعاً، فأنا أقلبهم عل اليمين لئلا ينهضم ما أكلوه سريعاً.
دعا بخيل على صاحبه فقال له: إن كنت كاذباً فعشيت السكارى بجبن.
قيل لبخيل: ما أحسن الأيدي على المائدة؟ فقال: مقطعة.
سقى بخيل ضيفاً له نبيذاً عتيقاً على الريق فتأوه الرجل فقيل له: لم لا تتكلم؟ قال: إن سكت مت أنا، وإن تكلمت مات رب البيت.
استأذن جحظه على صديق له مبخل، فقال له غلمانه: هو محموم، فقال: كلوا بين يديه حتى يعرق.
وقال: أكلت مع بخيل مرة فقال لي: يا هذا ما رأيت أذل من الرغيف في يدك.
أعطى المنصور بعضهم شيئاً ثم ندم فقال له: لا تنفق هذا المال واحتفظ به، وجعل يكرر ذلك عليه فقال له: يا أمير المؤمنين، إن رأيت فاحتمه حتى ألقاك به يوم القيامة.
تزوج عمرو بن حريث ابنة أسماء بن خارجة فقالت له يوماً: ما أحسبك وأبي تقرآن من كتاب الله تعالى إلا حرفين: قال: وما هما؟ قالت: كان أبي يقرأ " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين " " سبأ: 39 " وأنت تقرأ " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " " الإسراء: 37 " .
قال أبو العيناء: دعاني جار لي إلى وليمة، وكان بخيلاً، فرأيته يدور عل الموائد ويتنفس الصعداء ويقول " وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً " " الإنسان: 12 " .
حكى بعضهم أنه كان على مائدة بخيل قال: فطافت علينا هرة وصاحت، فألقينا إليها لقمة من حوارى، فقال صاحب الدار : إن كان لا بد فمن الخشكار.
وذكر آخر أنه كان في دعوة بعض التجار المياسير، فألقى للسنور لقمة خبز ثم أراد أن يثنيها، فقال التاجر: دع هذا، فليست الهرة لنا وإنما هي للجيران.

قال الجاحظ: كنا عند داود بواسط أيام ولايته كسكر، فأتته زقاق فيها دوشاب من البصرة في جملة هدايا حملت إليه، فقسمها بيننا، فكلنا أخذ ما أعطي غير الحزامي، فأنكرنا ذلك وقلنا إنما يجزع الحزامي من الإعطاء وهو عدوه، فأما الأخذ فهو ضالته وأمنيته، فإنه لو أعطي أفاعي سجستان وثعابين مصر وجرارات الأهواز لأخذها إذا كان اسم الأخذ واقعاً عليها، فسألناه عن سبب ذلك فتعصر قليلاً ثم باح بسره فقال: وضيعته أضعاف ربحه، وأخذه من أسباب الإدبار، قلت: أول وضائعه احتمال ثقل الشكر، قال: هذا ما لم يخطر ببالي قط، ولكن أول ذلك كراء الحمال، فإذا صار إلى المنزل صار سبباً لطلب العصيدة ولأرزة والبستندودة، فإن بعته فراراً من هذا البلاء صيرتموني شهرة، وإن أنا حبسته ذهب في ذلك واشباهه وجذب ذلك شراء السمن، وصار أضر علينا من العيال، فإن أنا جعلته نبيذاً احتجت إلى كراء القدور وإلى شراء الداذي والماء، وإن فسد هبت النفقة باطلاً ولم نستخلفه منها بوجه من الوجوه، لأن خل الداذي يخضب اللحم، ويضر بالطبخ، ويفسد الطعم، ويسود المرق، ولا يصلح للإصطباغ، وإن سلم وأعوذ بالله وجاد وصفاً ولم نجد بداً من شربه ولم تطب أنفسنا بتركه، فإن قعدت في البيت أشربه لم يكن لك إلا بترك سلاف الفارسي المعسل والدجاج المسمن وجداء كسر وفاكهة الجبل والنقل الهش والريحان والغض من عند من لا ينقص ماله ولا تنقطع مادته، وعند من لا يبالي على أي قطربه وقع، مع فوت المجلس المؤنق والسماع المطرب، وعلى أني إن قعدت في البيت أشربه لم يكن لي بد من واحد، وذلك الواحد لا بد له من لحم بدرهم، ونقل بطسوج، وريحان بقيراط، وهذا كله غرم وشؤم وحرفة وخروج عن العادة، فإن كان ذلك النديم غير موافق فأهل السجن أحسن حالاً مني، وإن كان موافقاً فقد فتح الله منه على مالي التلف، وإذا علم الصديق أن عندي زائراً ونبيذاً دق علي الباب دق المدل، فإن حجبناه فبلاء، وإن أدخلناه فشقاء، فإن بدا لي في استحسان حديث الناس عندي كما يستحسنه مني من أكون عنده فقد شاركت المسرفين، وفارقت إخواني من الصالحين، وصرت من إخوان الشياطين؛ فإذا صرت كذلك فقد ذهب كسبي من مال غيري، وصار غيري يكسب مني، وأنا لو ابتليت بأحدهما لم أقم له، فكيف إذا ابتليت بأن أعطي ولا آخذ؟ أعوذ بالله من الخذلان بعد العصمة، ومن الحور بعد الكور، ولو كان هذا في الحداثة لكان أحسن. هذا الدوشاب دسيس من الحرفة، وكيد من الشيطان، وخدعة من الحسود، وهي الحلاوة التي تعقب المرارة، وما أخوفني أن يكون أبو سليمان قد ملني فهو يحتال لي الحيل.
قال بعض البخلاء: يزعمون أن خبزنا خفاف؟ وأي ابن زانية يقدر أن يأكل منه أكثر من رغيف.
ودخل قوم على بعضهم وقد تغدى مع أصحابه ولم يرفع المائدة، فقال لهم: كلوا وأجهزوا على الجرحى، يريد كلوا ما كسر ونيل منه ولا تعرضوا للصحيح.
حدث محمد بن عيسى الحرفي، وكان جار أبي العتاهية، قال: كان لأبي العتاهية جار يلتقط النوى ضعيف سيء الحال متجمل له بنات، فكان يمر بأبي العتاهية طرفي النهار فيقول أبو العتاهية: اللهم أعنه على ما هو بسبيله، شيخ ضعيف سيئ الحال له بنات متجمل، اللهم أعنه، اللهم اصنع له، اللهم بارك فيه، فبقي على هذا إلى أن مات الشيخ نحواً من عشرين سنة لا والله إن تصديق عليه بدرهم ولا دانق قط، ولا زاده على الدعاء شيئاً، فقلت له يوماً: يا أبا إسحاق إني أراك تكثر الدعاء لهذا الشيخ، وتزعم أنه فقير معيل فلم لا تتصدق عليه بشيء؟ فقال: أخشى أن يعتاد الصداقة، والصدقة أخر مكاسب العبد، وإن في الدعاء لخيراً كثيرً.
ووقف على أبي العتاهية ذات يوم سائل من العيارين الظرفاء، وجماعة جيرانه حواليه، فسأله من بين الجيران، فقال: صنع الله لك، فأعاد السؤال فرد عليه مثل ذلك، فأعاده الثالثة فرد عليه مثل ذلك، فأعاده الثالثة فرد عليه مثل ذلك، فغضب وقال له: ألست الذي يقول: من المديد
كل حي عند ميتته ... حظه من ماله الكفن

قال: نعم، قال: فبالله أتريد أن تعد مالك كله لثمن كفنك؟ قال: لا، قال: فبالله كم قدرت لكفنك؟ قال: خمسة دنانير، قال: هي إذن حظك من مالك، قال: نعم، قال: فتصدق علي من غير حظك بدرهم واحد، قال: لو تصدقت عليك لكان حظي، قال: فاعمل على أن ديناراً من الخمسة وضيعته قيراط، فادفع إلي قيراطاً واحداً، وإلا فواحدة أخرى قال: وما هي؟ قال: القبور تحفر بثلاثة دراهم، فاعطني درهماً وأقيم لك كفيلاً بأني أحفر لك قبرك متى مت وتربح درهمين لم يكونا في حسابك، فإن لم أحفر رددته على ورثتك أو رده كفيلي عليهم، فخجل أبو العتاهية وقال: اغرب لعنك الله وغضب عليك، وضحك جميع من حضر ومر السائل يضحك؛ فالتفت إلينا أبو العتاهية وقد اغتاظ فقال: من أجل هذا وأمثاله حرمت الصدقة، فقلنا له: ومن حرمها؟ ومتى حرمت؟ فما رأيت أحداُ ادعى أن الصدقة حرمت قبله ولا بعده.
قال محمد بن زيد بن علي بن الحسين: اجتمع قوم من قريش أنا فيهم، فأجببنا أن نأتي ابن هرمة فنبعص به، فتزودنا، فتزودنا زاداً كثيراً ثم أتيناه لنقيم عنده، فلما انتهينا إليه خرج علينا فقال: ما جاء بكم؟ فقلنا: سمعنا شعرك فدعانا إليك لما سمعناك قلت: من الكامل
إن امرءاً جعل الطريق لبيته ... طنباً وأنكر حقه للئيم
وسمعناك قلت: من لمنسرح
كم ناقة قد وجأت منحرها ... بمستهل الشؤبوب أو جمل
لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل
قال: فهظر إلينا طويلاً ثم قال: ما على الرض عصابة أضعف عقولاً ولا أسخف ديناً منكم، فقلنا: يا عدو الله يا دعي، أتيناك زائرين، تسمعنا مثل هذا الكلام؟ فقال: أما سمعتم الله عز وجل يقول للشعراء " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " الشعراء: 226 " أفيخبركم الله أني أقول ما لا أفعل وتريدون مني أن أفعل ما أقول؟ قال: فضحكنا منه وأخرجناه فأقام عندنا في نزهتنا يشركنا في زادنا حتى انصرفنا إلى المدينة.
قال يونس الخياط: كان لأبي صديق وكان يدعوه يشرب معه فإذا سكر خلع عليه قميصه، فإذا صحا من الغد بعث إليه وأخذه منه، فقال أبي: من الطويل
كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا
فلي فرحة في سكره بقميصه ... وروعاته في الصحو حصت شواتيا
فيا ليت حظي من سروري وروعتي ... يكون كفافاً لا علي ولا ليا

قال أشعب: ولي المدينة رجل من ولد عامر بن لؤي، وكان أبخل الناس وأنكدهم، وأغراهالله بي يطلبني في ليلة ونهاره، فإذا هربت منه هجم على منزلي بالشرط، وإن وأضحكه، ولا أسكت ولا أنام، ثم لا يطعمني ولا يعطيني شيئاً، ولقيت منه جهداً عظيماً وبلاء شديداً، وحضر الحج فقال لي: يا أشعب كن معي، قلت: بأبي أنت وأمي، أنا عليل وليست لي في الحج نية فقال: عليه وعليه، وقال إن الكعبة بيت النار لئن لم تخرج معي لأودعنك الحبس حتى أقدم، فخرجت معه مكرهاً، فلما نزلنا المنزل أظهر أنه صائم، ونام حتى تشاغلت أكل ما في سفرته، وأمر غلامه أن يطعمني رغيفين بملح، فجئت وعندي أنه صائم، ولم أزل منتظراً إلى المغرب أتوقع إفطاره، فلما صليت المغرب قلت لغلامه: ما ينتظر بالأكل؟ قال: قد أكل منذ زمان، قلت: أو لم يكن صائماً؟ قال: لا، قلت: أفأطوي أنا؟ قال: قد أعد لك ما تأكله فكل، وأخرج إلي رغيفين والملح، فأكلتهما وبت ميتاً جوعاً، وأصبحت فسرنا حتى نزلنا المنزل، فقال لغلامه: ابتع لنا لحماً بدرهم، فابتاعه، فقال: كبب لي قطعاً، ففعل، فأكله ونصب القدر، فلما اغبرت قال: اغرف لي مها قطعاً ففعل، وأكلها ثم قال: اطرح فيها دقة وأطعمني منها، ففعل، ثم قال: ألق توابلها وأطعمني منها، ففعل، وأنا جالس أنظر إليه لا يدعوني، فلما استوفي اللحم كله قال: يا غلام أطعم أشعب، فرمى إلي برغيفين، فجئت إلى القدر فإذا ليس فيها إلا مرق وعظام، فأكلت الرغيفين، وأخرج له جراباً فيه فاكهة يابسة، فأخذ منها حفنة فأكلها، وبقي في كفه كف لوز بقشره، ولم تكن له فيه حيلة، فرمى به إلي وقال: كل هذا يا أشعب، فذهبت أكسر واحدة منه فإذا ضرسي قد انكسرت منها قطعة فسقطت بين يدي، وتباعدت أطلب حجراً أكسر به فوجدته فضربت به لوزة فطفرت علم الله مقدار رمية حجرن وعدوت في طلبها، فبينا أنا في ذلك إذ أقبل بنو مصعب، يعني ثابتاً وإخوته، يلبون بتلك الحلوق الجهورية، فصحت بهم: الغوث الغوث بالله وبكم يا آل الزبير، الحقوني أدركوني، فركضوا إلي، فلما رأوني قالوا: مالك ويلك؟ قلت: خذوني معكم تخلصوني من الموت، فحملوني معهم، فجعلت أرفرف بيدي كما يفعل الفرخ إذا طلب الزق من أبويه، فقالوا: مالك ويلك؟ قلت: ليس هذا موضع الحديث، زقوني زقوني ما معكم، فقد مت ضراً وجوعاً منذ ثلاث، فأطعموني حتى تراجعت نفسي وحملوني معهم في محمل ثم قالوا: أخبرنا بقصتك، فحدثتهم وأريتهم ضرسي المكسورة، فجعلوا يضحكون ويصفقون فقالوا: ويحك من أين وقعت على هذا؟ هذا من أبخل خلق الله وأدناهم نفساً. فحلفت بالطلاق أني لا أدخل المدينة ما دام له بها سلطان، فلم أدخلها حتى عزل.
مر الفرزدق بمحمد بن وكيع بن أبي سود وهو عل ناقة فقال له: غدني فقال: ما يحضرني غداء، قال: فاسقني سويقاً، قال: ما هو عندي، قال: فاسقني نبيذاً، قال: أو صاحب نبيذ عهدتني؟ قال: فما يقعدك في الظل؟ قال: فما أصنع؟ قال: اطل وجهك بدبس ثم تحول إلى الشمس فاقعد فيها حتى يشبه لونك لون أبيك الذي تزعمه.
قال أبو عمرو بن العلاء: فما زال ولد محمد يسبون بذلك من قول الفرزدق.
قال محمد بن سعد الكراني: كنا في حلقة التوزي، فلما انفضت قلنا: انهضوا بنا إلى محمد بن يسير، فصرنا إليه فلم يكن عنده إلا شاة وبقية خبز له أيام، فقدم ذلك لنا فقلنا: هذا جود الأذواء، أي هو من اليمن فقال: من البسيط
ماذا علي إذا ضيف تأوبني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي
جهد المقل إذا أعطاك مصطبراً ... ومكثر من غنى سيان في الجود
لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إما نوال وإما حسن مردود
فقمنا إلى بيته غصباً فأكلنا من جلة تمر كانت عنده أكثرها وحملنا الباقي، فكتب إلى والي البصرة عمر بن حفص هزاز مرد: من المديد
يا أبا حفص بحرمتنا ... غبت عنها حين تنتهك
خذ لنا ثأراً لجلتنا ... فبك الأوتار تدرك
لهف نفسي حين تطرحها ... بين أيدي القوم تفترك
زارنا زور فلا سلموا ... وأصيبوا أية سلكوا
أكلوا حتى إذا شبعوا ... أخذوا الفضل الذي تركوا
فأنفذ إلينا فأحضرنا وأغرمنا مائة درهم، وأخذ من كل واحد منها جلة تمر وسلم ذلك إليه.

قال بديح، قال: أتاه فتى فقال له: قد تزوجت وليس عندي من الصداق شيء، قال: كم الصداق؟ قال ثلاثون ديناراً قال: يا بديح ادع بالكيس، فأتيته بكيس فيه دنانير فقال: عد، فعددت ومددت صوتي وطربت، فقال: عد فعددت وهو يقول عد حتى عددت خمسين وأربعمائة وفني ما في الكيس، فقال ابن جعفر: ليت دام لنا ما في الكيس ودام لنا صوتك، فقال لي هشام: من الرجل؟ قلت: لا أخبرك فإني أخاف أن تأخذها منه، فقال: ويحك يعطيه ابن جعفر وآخذها أنا منه؟! دخل أبو العيناء على عبد الرحمن بن خاقان في يوم شات فقال له: كيف تجد هذا اليوم؟ قال: تأبى نعماؤك أن أجد
قال دعبل بن علي الشاعر أتيت سهل بن هارون بن راهبون الكاتب في حاجة فأطلب الجلوس عنده، وأخر غداءه لقيامي، فجلست على عمد، فلما اضطررته وجاع قال: ويلك يا غلام عدنا، قال: فجاءت المائدة وعليها قصعة فيها مرق وديك ليس قبلها ولا بعدها غيرها، فاطلع في القصعة ففقد الرأس، فقال لغلامه: أين الرأس؟ قال: رميت به يا مولاي، قال: ولم رميت به؟ قال: ظننتك لا تأكله، قال فهلا إذ ظننت أني لا آكله ظظنت أن العيال يأكلونه؟ ثم التفت إلي وقال: لو لم أكره إلا الطيرة مما صنع لكان حسبي، لأن قولهم الرأس للرئيس وفيه الحواس، ومنه يصدح الديك، وفيه فرقه الذي يتبرك به، وعينه التي يضرب بصفائها المسل، ودماغه عجب من العجب لوجع الكليتين، وصته الذي لولاه ما أريد لشيء، ولم أر عظماً قط أهش تحت ضرس من عظم دماغ ديك، ويلك انظر أين رميت به، قال: لا أدري، قال: لكني أدري أين رميت به، في بطنك، والله حسيبك.
أعرابي يرقص ولده: من الرجز
أحبهحب الشحيح ماله
قد ذاق طعم الفقر ثم ناله
إذا أراد بذله بدا له
قال أعرابي لنازل به: نزلت بواد غير ممطور وبرجل غير مسرور، فأقم بعدم، أو ارحل بندم.
لما قال أبو العتاهية: مجزوء الكامل
سافر بطرفك حيث شئ ... ت فلن ترى إلا بخيلا
قيل له: بخلت الناس كلهم، قال: فاكذبوني بواحد.
قيل لبخيل: من أشجع الناس؟ قال من يسمع وقع أضراس الناس على طعامه فلا تنشق مرارته.
أمر عبد الله بن الزبير لأبي جهم العدوي بألف درهم، فدعا له وشكره، فقال له: بلغني أن معاوية أمر لك بمائة ألف درهم فتسخطتها وشكوته، وقد شكرتني، فقال أبو جهم: بأبي أنت، أسأل الله أن يديم لنا بقاءك، فإني أخاف إن فقدناك أن يمسخ الناس قردة وخنازير، وكان ذلك من معاوية قليلاً ، وهذا منك كثير، فأطرق ولم ينطق.
نزل ابن أحمر الشاعر على عمار بن مسروق، فقيل له: على من نزلت؟ فقال: على أبي الخصيب، والخبز من عندي، قيل: وكيف؟ قال: لأن خبزه مكتوب عليه لا حافظ إلا الله وهو في ثني الوسادة، وهو عليه متكئ.
دخل أبو نخيلة على هشام وعليه لحاف سمور مظهر بخز، فرمقه أبو مخيلة فقال: ما بالك ترمقه ولست من أهله؟ قال: صدقت يا أمير المؤمنين، ولكني من أهل التشرف ولافتخار به، فرمى به إليه، ثم دخل عليه وعليه رداء وشيء أفواف، فجعل ينكت بإصبعه الأرض ويقول: من الرجز
كسوتنيها فهي كالتجفاف ... كأنني فيها وفي اللحاف
من عبد شمس أو بني مناف ... والخز مشتاق إلى الأفواف
فرمى بالرداء إليه.
كان المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يعطم الطعام، وكان أعور، فجعل أعرابي يديم النظر إليه حابساً نفسه عن طعامه، فقال له: مالك؟ قال: إنه ليعجبني طعامك وتريني عينك، قال: وما يريبك من عيني؟ قال: أراك أعور وأراك تطعم الطعام، وهذه صفة الدجال. وكانت عينه أصيبت في قتال الروم، فقال: إن الدجال لا تصاب عينه في سبيل الله.
آخر باب الجود والسخاء والبخل واللؤم

الباب السادس
في البأس والشجاعة والجبن والضراعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المخفو بطشه وبأسه، الرؤوف حين يحيط بالمرء قنوطه ويأسه، العطوف برحمته عل عباده، اللطيف من وفقه لتزود معاده، موقي الشجاع وقد خاض غمار المنية، وملقي الجبان وقد استدفع حتفه بقبول الدنية، لا ينجي من قضائه قراع البيض والأسل، ولا يلجي من بلائه ادراع السوابغ والجنن، المسوي بين النجد والضعر في قسمة الآجال، ومسلط الحمام حائلاً دون الأماني والآمال.

أحمده حمداً يكون مستحقه وأهله، وأذعن بأن لا حول ولا قوة إلا به وله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ونبيه، ورسوله وصفيه، أرسله ويد البغي في العرب تقد وتصطلم، ونار الحرب بينها تقد وتضطرم، وكل منهم مدل بنجدته وبسالته، ومول عن سنن رشده وهدايته، فدعاهم مخرجا لهم إلى الضياء من ديجور الظلام، وأنزل بمن خالفه منهم قوارع الانتقام، وأيده من أصحابه بالأطبال الأعلام، حتى قامت دعائم الإسلام، وآذنت قواعد الكفر بالانهدام، صلى الله عليه وعليهم ما استهل الغمام، وأعقب الضياء الظلام.
نذكر في هذا الباب ما جاء في البأس والشجاعة، والجبن والضراعة، والحرب والمقارعة، وما استعمل فيها من الآراء والمكايد، ونصب للأعداء فيها من الأشراك والمصايد، وتسمية أبطال الإسلام وقاتليهم، ومن مات منهم حتف أنفه فلم يضره إقدامه، ولا دنا بخوضه الغمرات حمامه، وأتبع ذلك بنوادر من هذين النوعين، يرتاح لها المتأمل من كلال الجد ولأين.
الشجاعة عز والجبن ذل، وكفى بالعز مطلوبا، وبالذل مصروفاً عنه ومرغوباً، وقد أثنى الله عز وجل على الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس وعلى الذين هم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين فقال سبحانه: " أشداء على الكفار رحماء بينهم " " الفتح: 29 " ووصف المجاهدين فقال " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص " " الصف: 4 " وندب إلى جهاد الأعداء، ووعد عليه أفضل الجزاء، وجعل قتالهم أجل الأعمال ثواباً، والفرار أكبر وزراً وآلم عقاباً. والرأي في الحرب أمام الشاجة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحرب خدعة، وقال حكيم لابنه: كن بحيلتك أوثق منك بشدتك فالحرب حرب للمتهور، وغنيمة للمتحذر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من قطرة أحب إلى الله من قطرة دم في سبيله أو قطرة دمع في جوف الليل من خشيته.
وسمع رجل عبد الله بن قيس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف، فقال: يا أبا موسى أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول؟ قال: نعم، فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل.
ولحق أبو الطيب المتنبي الأوائل بقوله: من الكامل
الرأس قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
لكنه لا يستغني عنها ولا يتم إلا بها، لأن صاحب الرأي إذا عدمها ضل لبه، وانخلع قلبه، فلم يتم له كيده، وخانه دونه بطشه وأيده. والعرب تقول: الشجاعة وقاية والجبن مقتلة، فانظر من رأيت أو سمعت من قتل في الحرب مقبلاً أكثر أم من قتل مدبراً.
قال قبيصة بن مسعود الشيباني يوم ذي قار يحرض بني وائل: الجزع لا يغني من القدر، والدنية أغلظ من المنية، واستقبال الموت خير من استدباره، والطعن في الثغر خير وأكرم منه في الدبر، يا بني بكر حاموا فما من المنايا بد، خالك معذور، خير من ناج فرور.
وضد ذلك ما روي عن أسلم بن زرعة الكلابي، وقد خرج لمحاربة أبي بلال مرداس بن أدية الخارجي أحد بني ربيعة بن حنظلة في الفين، ومرداس في أربعين، فانهزم منه، فقال له ابن زياد: ويلك أتمضي في ألفين وتنهزم من أربعين؟ فكان ألم يقول: لأن يذمني ابن زياد حياً أحب إلي من أن يمدحني ميتاً. وكان أسلم بعد ذلك إذا خرج إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به: أبو بلال وراءك، حتى شكا ذلك إلى ابن زياد فأمر الشرط بكف الناس عنه.
قال علي بن أبي طالب عليه السلام: من أكثر النظر في العواقب لم يشجع.
وقال عليه السلام: الجبن منقصة.
قيل لأكثم بن صيفي: صف لنا الحرب، فقال: أقلوا الخلاف على أمرائكم، فلا جماعة لمن اختلف عليه، واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل فتثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين، ورب عجلة تعقب ريثاً، وادرعوا الليل فإنه أخفى للويل، وتحفظوا من البيات.

ومن كلام علي عليه السلام لأصحابه في الحرب: قدموا الدارع وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس فإنه أنبا للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح فإنه أنوار لللأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأس وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، ورايتكم فلا تميلوها ولا تحلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم والمانعين الذمار منكم، فإن الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفون براياتهم ويكتنفونها، حفافها وأمامها ووراءها، لا يتأخرون عنها فيسلمونها ولا يتقدمون عليها فيفردونها، اجزأ امرؤ قرنه، وواسى أخاه بنفسه، ولم يكن قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه، وايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة، أنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم، إن في الفرار موجدة الله والذل اللازم والعار الباقي، وإن الفار غير مزيد في عمره ولا محجوز بينه وبين يومه.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الجراح: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشاً أو سرية قال: اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليداً، فإذا بعثت جيشاً أو سرية فمرهم بذلك.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عند عقد الألوية: بسم الله، وبالله، وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله والنصر، ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تغفلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً، توقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند شن الغارات.
كتب أنوشروان إلى مرازبة خراسان: عليكم بأهل السخاء والشجاعة فإنهم أهل حسن ظن بالله عز وجل.
قيل لأبي مسلم من أشجع الناس؟ قال: كل قوم في إقبال دولتهم شجعان.
قال عمر بن الخطاب: لا تخون قوى ما كان صاحبها ينزع وينزو يقول: لا تنتكث قوته ما دام ينزع في القوس وينزو في السرج من غير أن يستعين بركاب.
ومن كلام لعلي بن أبي طالب عليه السلام: رب حياة سببها التعرض للموت، ورب منية سببها طلب الحياة.
ومثله قول الحصين بن الحمام المري: من الطويل
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وهي قصيدة طويلة مشهورة من جيد أشعار العرب في هذا الفن، فمن مختارها:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكنعل أقدامنا تقطر الدما
نفلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
ولما رأينا الصبر قد حيل دونه ... وأن كل يوماً ذا كواكب مظلما
صبرنا وكان الصبر منا سجية ... بأسيافنا يقطعن كفاً ومعصما
ولما رأيت الود ليس بنافعي ... عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما
فلست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
قيل لعلي بن أبي طالب عليه السلام: إن جالت الخيل فأين نطلبك؟ قال: حيث تركتموني.
وقيل له: كيف صرت تقتل الأبطال؟ قال: لأني كنت ألقى الرجل فأقدر أني أقتله، ويقدر أني أقتله فأكون أنا ونفسه عونين عليه.
وقال مصعب الزبيري: كان علي عليه السلام حذراً في الحروب، شديد الروغاء من قرنه، لا يكاد أحد يتمكن منه، وكانت درعه صدراً لا ظهر لها، فقيل له: ألا تخاف أن تؤتي من قبل ظهرك؟ فقال: إذا أمكنت عدوي من ظهري فلا أبقى الله عليه إن أبقى علي.

قال ابن عباس: عقمت النساء أن يأتين بمثل علي بن أبي طالب عليه السلام، لعهدي به يوم صفين، وعلى رأسه عمامة بيضاء، وهو يقف على شرذمة من الناس يحضهم على القتال، حتى انتهى إلي وأنا في كنف من الناس، وفي أغيلمة من بني عبد المطلب فقال: يا معشر المسلمين تجلبوا السكينة، وأكملوا اللائمة، وأقلقوا السيوف في الأغماد، وكافحوا بالظبا، وصلوا السيوف بالخطا، فإنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. عاودوا الكر، واستحيوا من الفر، فإنه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب، وطيبوا عن الحياة أنفساً، وسيروا إلى الموت سيراً سجحاً، ودونكم هذا الرواق الأعظم فاضربوا ثبجه، فإن الشيطان راكب صعيديه. قدموا للوثبة رجلاً وأخروا للنكوص أخرى، فصمدا صمداً حتى يبلغ الحق أجله، " والله معكم، ولن يتركم أعمالكم " " محمد: 25 " . ثم صدر عني وهو يقرأ " قاتلوا يعذبهم الله بأيديهم ويخزهم وينصرهم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " " التوبة: 14 " .
وقد أكثر الشعراء في مثل معنى قوله عليه السلام: صلوا السيوف بالخطا.
قال كعب بن مالك: من الكامل
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدماً ونلقحها إذا لم تلحق
ومثله لبعض بني قيس بن ثعلبة: من البسيط
لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس خالهم إياه يعنونا
إذا الكماة تنحوا أن يصيهم ... حد الظباة وصلناها بأيدينا
ومثله: من الطويل
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب
ومثله: من الطويل
إذا قصرت أسيافنا عن عداتنا ... جعلنا خطانا وصلها فتطول
ومثله لوداك بن ثميل المازني: من الطويل
مقاديم وصالون في الروع خطوهم ... بكل رقيق الشفرتين يمان
إذا ساتنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان
تمثل معاوية في عبد الله لن بديل: من الطويل
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت يوماً به الحرب شمرا
ويدنو إذا ما الموت لم يك دونه ... قدى الشبر يحمي الأنف أن يتأخرا
وقال نضلة السلمي: من الوافر
ألم تسأل فوارس من سليم ... بنضلة وهو موتور مشيح
رأوه فازدروه وهو خرق ... وينفع أهله الرجل القبيح
فلم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريح
فأطلق غل صاحبه وأردى ... جريحاً منهم ونجا جريح
وقال حاتم: من الطويل
لحا الله صعلوكا مناه وهمه ... إذا بات أن يلقى لبوساً ومطعما
ولكن صعلوكا خميصاً فؤاده ... ويمضي على الهيجاء ليثاً مصمما
فذلك إن يلق المنية يلقها ... كريماً وإن يستغن يوماً فربما
وقال الأعرج المعني: من الرجز
أنا أبو برزة إذ جد الوهل
خلقت غير زمل ولا وكل
ذا قوة وذا شباب مقتبل
لا جزع اليوم على قرب الأجل
نحن بنو ضبة أصحاب الجمل
نحن بنو الموت إذا الموت نزل
لا عار بالموت إذا حم الأجل
الموت أحلى عندنا من العسل
وقال الأقرع بن معاذ القشيري: من الطويل
وفي على ما كان من شيب لمتي ... خلائق مما يستحب وينفع
جوامع من قول ونفس سخية ... وقلب إذا ما غشي الهول أشجع
وغلظة إضباري إذا رامني العدا ... وليني إذا حاد الضعيف المدفع
وقال قطري بن الفجاءة المازني: من الوافر
أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عز ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع
ويروي أخي الجزع، واليراع: القصب، واحدته يراعة وإنما يريد خوره، والخنع: الخضوع.
سبيل الموت غاية كل حي ... وداعيه لأهل الأرض داع
ومن لا يعتبط يسأم ويهرم ... وتسلمه المنون إلى انقطاع

وما للمرء خير في حياة ... إذا ما عد من سقط المتاع
وقال قيس بن الحظيم الأوسي: من الطويل
وكنت امرءاً لا أسمع الدهر سبة ... أسب بها إلا كشفت غطاءها
وإني في الحرب العوان موكل ... بأقدام نفس ما أريد بقاءها
وقال بعض بني قيس بن ثعلبة: من الطويل
دعوت بني قيس إلي فشمرت ... خناذيذ من سعد طوال السواعد
إذا ما قلوب الناس طارت مخافة ... من الموت أرسوا بالنفوس المواجد
وقال القتال الكلابي: من الطويل
إذا هم هماً لم ير الليل عمة ... عليه ولم تصعب عليه المراكب
إذا جاع لم يفرح بأكلة ساعة ... ولم يبتئس من فقدها وهو ساغب
يرى أن بعد العسر يسراً ولا يرى ... إذا كان عسر أنه الدهر لازب
وقال آخر: من الرجز
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه ... واضطرب القوم اضطراب الأرشيه
وشد فوق بعضهم الأرويه ... هناك أوصيني ولا توصي بيه
وقال بعضهم: من الرجز
قد علم المستأخرون في الوهل
إذا السيوف عريت من الخلل
أن الفرار لا يزيد في الأجل
وقال سالم بن وابصة: من البسيط
عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
وموقف مثل حد السيف قمت به ... أحمي الذمار وترميني به الحدق
فما زلقت ولا أبديت فاحشة ... إذا الرجال على أمثالها زلقوا
قيل: أراد تبع أن يجهز جيشاً وأن يؤمر عليه رجلاً، فأتي برجل فقال: انعت لي نفسك، فقال: أنا جريء عضب لساني، أعرض عن الأمر وإن ساءني، لا أنتقص في قومي، ولا يظفر بي خصمي، قال: انصرف ليس لهذا دعوتك، ثم دعا آخر فقال: انعت لي نفسك، قال: إذا تطاولت علوت، وإذا ساورت استويت، وإذا قدرت عفوت، وإذا غمزت قسوت، قال: ليس لهذا دعوتك انصرف، ثم دعا آخر فقال: انعت لي نفسك، قال، أعطي الماسة، وأحمل الدية، وأسير بالسوية، وأسبق إلى الغاية، قال: انصرف ليس لهذا دعوتك؛ ثم دعا آخر فقال: انعت لي نفسك، قال: أصطنع الجيل، وأنهض بالثقيل، وأعود وأجود، وأكرم القعيد، وأنضي الشديد، واشبع ضيفي وإن جاع عيالي قال: كدت ولم تفعل انصرف؛ ثم دعا آخر فقال: انعت لي نفسك قال: أضرب عند النزال، وأغشى الأبطال، وألقح الحرب بعد الحيال، إذا أدبروا طعنت، وإذا أقبلوا ضربت، أترك قرني سطيحاً، وكبش القوم نطيحاً، فقال الملك: سئلت فبينت، ونطقت فأحسنت، اذهب فأنت أنت، وولاه.
قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه، وكان يجتنب غير الأدباء: أي المناديل أفضل؟ فقال قائل: مناديل مصر كأنها غرقئ البيض، وقال آخر: مناديل اليمن كأنها أنوار الربيع، فقال عبد الملك: ما صنعتم شيئاً، أفضل المناديل ما قال أخو تميم، يعني عبدة بن الطبيب: من البسيط
لما نزلنا أصبنا ظل أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل
ورد وأشقر ما ينهيه طابخه ... ما غير الغلي منه فهو مأكول
ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل
وقد جمع ذلك امرؤ القيس في بيت واحد فقال: من الطويل
نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
المضهب: الذي لم يدرك، ونمش: نمسح: نمسح، ويقال للمنديل المشوش، وغرقئ البيض: قشره الباطن، وقشره الظاهر القيض، وينهيه: ينضجه.

كان إبراهيم بن الأشتر من الشجعان المعدودين، حارب عبيد الله بن زياد وهو في أربعة آلاف وعبيد الله في سبعين ألفاً فظفر به وقتله بيده وهزم جيشه. قال عمير بن الحباب السلمي، وكان يقال له فارس الإسلام: كان إبراهيم لي صديقاً، فلما كان الليلة التي يريد أن يواقع في صبيحتها ابن زياد خرجت إليه ومعي رجل من قومي، فصرت في عسكره، فرأيته وعليه قميص هروي وملاءة، وهو متوشح بالسيف، يجوس عسكره فيأمر فيه وينهى، فالتزمته من ورائه فوالله ما التفت إلي ولكن قال: من هذا؟ فقلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحباً بأبي المغلس، كن بهذا الموضع حتى أعود إليك. " أرأيت أشجع من هذا قط؟ يحتضنه رجل من عسكر عدوه لا يدري من هو فلا يلتفت إليه؟ ثم عاد إلي فقال: ما الخبر؟ فقلت: القوم كثير، والرأي أن تناجزهم فإنه لا صبر بهذه العصابة القليلة على مطاولة هذا الجمع الكثير، فقال: نصبح إن شاء الله، ثم نحاكمهم إلى ظباة السيوف وأطراف القنا، والقصة طويلة لا يتعلق تمامها بهذا الباب.
قال ابن أبي عتيق: نظرت إلى عبد الله بن الزبير وعبد الله ابن صفوان وقد ذهب الناس عنهما ولم يبق معهما أحد، وهما نائمان يغطان في الليلة التي قتلا في صبيحتها.
ولما ذهب بهدبة بن الخشرم ليقتل انقطع قبال نعله، فجلس يصلحه، فقيل له: أتصلحه وأنت على مثل هذه الحال؟ فقال: من الوافر
أشد قبال نعلي أن يراني ... عدوي للحوادث مستكينا
وكان الناس يختبرون جلد هدبة حين أخرج ليقتل، لقيه عبد الرحمن بن حسان فقال له: يا هدبة أتأمرني أن أتزوج هذه بعدك؟ يعني زوجته، فقال له: إن كنت من شرطها قال: وما شرطها؟ قال: قد قلت ذلك وهو: من الطويل
فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا
كليلاً سوى ما كان من حد ضرسه ... أكيبد مبطان العشيات أروعا
ضروباً بلحييه على عظم زوره ... إذا القوم هشوا للفعال تقنعا
وحلي بذي أكرومة وحمية ... وصبر إذا ما الدهر عض فأسرعا
وقالت له حبى في تلك الحال: لقد كنت أعدك من الفتيان وقد زهدت فيك اليوم لأني لا أنكر صبر الرجال على الموت، ولكن كيف تصبر عن هذه؟ فقال: والله إن حبي لها لشديد، وإن شئت لأصفن ذلك، ووقف ووقف الناس معه فقال: من الطويل
وجدت بها ما لم تجد أم واحد ... ولا وجد حبى بابن أم كلاب
رأته طويل الساعدين شمردلاً ... كما اشترطت من قوة وشباب
فانقمعت داخله في بيتها وأغلقت الباب دونه.
سأل ابن هبيرة عن مقتل عبد الله بن خازم، فقال رجل ممن حضر مجلسه، سألت وكيع بن الدورقية: كيف قتلته؟ قال: غلبته بفضل قنا كان لي عليه، فصرعته وجلست على صدره وقلت: يا لثارات دوبلة، يعني أخاه من أمه، فقال: ويلك تقتل كبش مضر بأخيك وكان لا يساوي كف نوى؟ ثم تنخم فملأ وجهي، فقال ابن هبيرة: هذه البسالة والله، استدل عليها بكثرة ريقه في ذلك الوقت.
لما أخذ بيهس الخارجي قطعت يداه ورجلاه وترك يتمرغ في التراب، فلما أصبح قال: هل أحد يفرغ علي دلوين فإني احتلمت في هذه الليلة، وهو عجب إن كان صادقاً، وإن كان كاذباً فيدل أيضاً على قلة مبالاته وفراغه للمجون.
ووقف عليه رجل وهو مقطوع فقال: ألا أعطيك خاتماً تتختم به؟ فقال له بيهس: أشهد أنك إن كنت من العرب فأنت من هذيل، وغن كنت من العجم فأنت بربري، فسئل عنه فإذا هو من هذيل وأمه بربرية.
ذكر أعرابي قوماً فقال: يقتحمون الحرب كأنهم يلقونها بنفوس أعدائهم.
كان عباد بن الحصين الحبطي من فرسان الإسلام، فقيل له: في أي جنة تحب أن تلقي عدوك؟ قال: في أجل مستأخر.
قال المهلب: أشجع الناس ثلاثة: ابن الكلبية وأحمر قريش وراكب البلغة، فابن الكلبية مصعب بن الزبير أفرد في سبعة نفر وأعطي الأمان وولاية العراقين فأبى ومات كريماً، وأحمر قريش عمر بن عبيد الله بن معمر ما لقي خيلاً قط إلا كان في سرعانها، وراكب البغلة عباد بن الحصين الحبطي ما كنا قط في كربة إلا فرجها؛ فقال الفرزدق وكان حاضراً: فأين أنت عن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن خازم؟ فقال: ويحك إنما ذكرنا الإنس، فأما الجن فلم نذكرهم بعد.

كان المهلب بن أبي صفرة وأولاده من الشجاعة والنجدة بالموضع المعروف، إلا أن المغيرة بن المهلب من بينهم كان أشد تمكناً، وكان المهلب يقول: ما شهد معي حربا إلا رأيت البشرى في وجهه، وكان أشد ما تكون الحرب أشد ما يكون تبسماً، وكان إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه نكس على قربوس السرج وحمل من تحتها فبراها بسيفه وأثر في أصحابها.
قيل للمهلب: إنك لتلقي نفسك في المهالك، قال: إن لم آت الموت مسترسلاً أتاني مستعجلاً، إني لست آتي الموت من حبه وإنما آتيه من بغضه، ثم تمثل بقوله: من الطويل
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وقيل له في بعض حروبه: لو نمت، فقال: إن صاحب الحرب إذا نام نام قلبه.
وقال المهلب: يا بني تباذلوا تحابوا، فإن بني الأم يختلفون فكيف بنو العلات؟ البر ينسأ في الأجل، ويزيد في العدد، وإن القطيعة تورث القلة وتعقب النار بعد الذلة، واتقوا زلة اللسان فإن الرجل تزل رجله فينتعش ويزل لسانه فيهلك، وعليكم في الحرب بالمكيدة فإنها أبلغ من النجدة، فإن القتال إذا وقع وقع القضاء وبطل الخيار، فإن ظفر فقد سعد، وإن ظفر به لم يقولوا فرط؛ واقتدوا بقول نبيكم صلى الله عليه وسلم: الحرب خدعة، فليكن أول أمركم منها وآخره المكيدة، فإذا اضطررتم إلى المجالدة فعليكم بالمطاولة فإنها نتيجة الظفر وذريعة المكايد، وهي بعد دربة الفارس وتخريج الناشىء.
قال الجاحظ، قال المهلب: ليس أنمي من سيف، فوجد الناس تصديق قوله فيما نال ولده من السيف، فصار فيهم النماء؛ وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: السيف أنمى عدداً، وأكرم ولداً، ووجد الناس ذلك بالعيان الذي صار إليه ولده من نهك السيف وكثرة الذروء وكرم النجل.
قال حبيب بن المهلب: ما رأيت رجلاً مستلئماً في الحرب إلا كان عندي رجلين، ولا رأيت حاسرين إلا كانا عندي واحداً، فسمع بعض أهل المعرفة هذا الكلام فقال: صدق، إن للسلاح فضيلة، ألا تراهم ينادون السلاح السلاح ولا ينادون الرجال الرجال.
قال رجل: كنت عند يزيد بن حاتم بإفريقية، وكنت به خاصاً، فعرض عليه تاجر أدراعاً فأكثر تقليبها ومزاولة صاحبها، فقلت له: أصلح الله الأمير فعلام نلوم السوق؟ فقال: ويحك إني لست أشتري أدراعاً إنما أشتري أعماراً.
قال بعض لصوص بني سعد: من الطويل
ألم ترني صاحبت صفراء نبعة ... وأسمر إلا ما تحلل عامله
وطال احتضاني السيف حتى كأنما ... يلاط بكشحي جفنه وحمائله
أخو فلوات صاحب الجن وانتحى ... عن الإنس حتى قد تقضت وسائله
له نسب في الإنس يعرف نجره ... وللجن منه شكله وشمائله
وقال العباس بن عبد المطلب: من الطويل
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواطع في أيماننا تقطر الدما
تركناهم لا يستحلون بعدها ... لذي رحم من سائر الناس محرما
وزعناهم وزع الخوامس غدوة ... بكل سريجي إذا هز صمما
أبا طالب لا تقبل النصف منهم ... وإن أنصفوا حتى تعف وتظلما
قال أبو طالب بن عبد المطلب: من الطويل
وإنا لعمر الله إن جد قومنا ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكف فتى مثل الشهاب سميدع ... أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
وحتى ترى ذا الردع يركب ردعه ... من الطعن فعل الأنكب المتحامل
قطري بن الفجاءة: من الطويل
إلى كم تعاديني السيوف ولا أرى ... معاداتها تدعو إلي حماميا
أقارع عن دار الخلود ولا أرى ... بقاء على حال لمن ليس باقيا
ولو قرب الموت القراع لقد أنى ... لموتي أن يدني إلي قراعيا
أغادي جلاد المعلمين كأنني ... على العسل الماذي أصبح غاديا
وأدعو الكماة للنزال إذا القنا ... تحطم فيما بيننا من طعانيا
ولست أرى نفساً تموت وإن دنت ... من الموت حتى يبعث الله داعيا
سأل عبد الملك بن مروان عن أشجع الناس في الشعر فقالوا: عمرو بن معدي كرب فقال عبد الملك: كيف وهو الذي يقول: من الطويل

وجاشت إلي النفس أول مرة ... وردت على مكروهها فاستقرت
قالوا: فعامر بن الطفيل، قال: وكيف وهو الذي يقول: من الطويل
أقول لنفس لا يجاد بمثلها ... أقلي مراحاً إنني غير مدبر
قال فعنترة، قال: كيف وهو الذي يقول: من الكامل
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولكني تضايق مقدمي
قالوا: فمن أشجعهم؟ قال: ثلاثة نفر: قيس بن الخطيم الأوسي والعباس بن مرداس السلمي ورجل من مزينة، أما قيس بن الخطيم فقال: من الطويل
وإني لدى الحرب العوان موكل ... بإقدام نفس ما أريد بقاءها
وأما العباس بن مرداس فقال: من الوافر
أشد على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها
وأما المزني فقال: من الوافر
دعوت بني قحافة فاستجابوا ... فقلت ردوا ألا طاب النزول
قيل للمهلب بن أبي صفرة: ما أعجب ما رأيت في حرب الأزارقة؟ فقال: فتى كان يخرج إلينا منهم في كل غداة فيقف ويقول: من الطويل
وسائله بالغيب عني ولو درت ... مقارعتي الأبطال طال نحيبها
إذا ما التقينا كنت أول فارس ... يجود بنفس أثقلتها ذنوبها
ثم يحمل فلا يقوم له شيء إلا أقعده فإذا كان من الغد عاد لمثل ذلك.
وقال زيد الخيل: من البسيط
هلا سألت بني نبهان ما حسبي ... عند الطعان إذا ما احمرت الحدق
وجالت الخيل مبتلاً جحافلها ... زوراً يسفح من لباتها العرق
هل أطعن الفارس الحامي حقيقته ... نجلاء يهلك فيها الزيت والخرق
وأضرب الكبش والخيلان جانحة ... والهام منا ومن أعدائنا فلق
وقال آخر: من الطويل
وقد طال حملي الرمح حتى كأنه ... على فرسي غصن من البان نابت
يطول لساني في العشيرة مصلحاً ... على أنني يوم الكريهة ساكت
وقال آخر: من الطويل
حرام على أرماحنا طعن مدبر ... وتندق قدماً في الصدور صدورها
محرمة أعجاز خيلي على القنا ... محللة لباتها ونحورها
وقال جابر بن حني: من الطويل
نعاطي الملوك السلم ما قصدوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم
يرى الناس منا جلد أسود سالخ ... وفروة ضرغام من الأسد ضيغم
وعمرو بن همام صقعنا جبينة ... بشنعاء تشفي سورة المتظلم
وقال القطامي: من الوافر
بضرب يبصر العميان منه ... وتعشى دونه الحدق البصار
وقال الأعشى: من الكامل
وإذا تجيء كتيبة مملومة ... يخشى الكماة الدارعون نزالها
كنت المقدم غير لابس جنة ... بالسيف تضرب معلماً أبطالها
وقال رجل من بني كاهل: من الطويل
يزيد اتساعاً في الكريهة صدره ... تضايق أطراف الوشيج المقوم
فما شارب بين الندامى معلل ... بأطرب منه بين سيف ولهذم
كأن نفوس الناس في سطواته ... فراش تهادى في حريق مضرم
وقال أبو ذؤيب: من الكامل
حميت عليه الدرع حتى وجهه ... من حرها يوم الكريهة أسفع
تعدو به خوصاء بفصم جريها ... حلق الرحالة فهي رخو تمزع
بينا تعنقه الكماة وروغه ... يوماً أتيح له جريء سلفع
وكلاهما متوشح ذا رونق ... عضباً إذا مس الكريهة يقطع
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
وكلاهما في كفه يزنية ... فيها سنان كالمنارة أصلع
يتناهبان المجد كل واثق ... ببلائه واليوم يوم أشنع
فتنازلا وتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مخدع
فتخالسا نفسيهما بنوافذ ... كنوافذ العبط التي لا ترقع
وكلاهما قد عاش عيشة ماجد ... وجنى العلاء لو أن شيئاً ينفع

السلفع: الجريء، يقال: ناقة سلفع أي جريئة على السير، وقوله كالمنارة أراد المصباح نفسه فلما لم يستقم له أقام المنارة مقامه، وأصلع: براق، والمخدع ها هنا أي ذو خدعة في الحرب، وقال أبو عمرو: مجدع مضروب بالسيف ومخدع أيضاً بالخاء وهو المقطع بالسيوف.
أمر عثمان بن عفان رضي الله عنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح على إفريقية فغزاها، وكان المسلمون عشرين ألفاً، وفيهم عبد الله بن الزبير بن العوام، قال عبد الله بن الزبير: أحاط بنا جرجير صاحب إفريقية وهو ملك فرنجة في مائة وعشرين ألفاً، فضاق بالمسلمين أمرهم واختلفوا في الرأي، فدخل عبد الله بن سعد فسطاطة يخلو ويفكر، قال عبد الله بن الزبير: فرأيت عورة من جرجير، والناس عل مصافهم، رأيته على برذون أشهب خلف أصحابه منقطعاً منهم، معه جاريتان تظلان عليه من الشمس بريش الطواويس، فجئت فسطاط عبد الله بن سعد فطلبت الإذن عليه من حاجبه فقال: إنه في شأنكم وقد أمرني أن أمسك الناس عنه، قال: فدرت فأتيت مؤخر الفسطاط فرفعته فإذا هو مستلق على فراشه، ففزع وقال: ما أدخلك علي يا ابن الزبير؟ فقلت: أنه كل أزب نفور، إني رأيت عورة من عدونا فرجوت الفرصة منها وخشيت فوتها، فاندب الناس لي، قال: وما هي؟ فأخبرته فقال: فرصة وعورة لعمري، ثم خرج فقال: أيها الناس انتدبوا مع ابن الزبير إلى عدوكم. فاخترت ثلاثين فارساً وقلت: إني حامل فاضربوا عن ظهري فإني سأكفيكم من ألقى إن شاء الله تعالى، فحملت في الوجه الذي هو فيه وحملوا فذبوا عني حتى حزتهم إلى أرض خالية وتبينني فصمدت صمده، فوالله ما حسب إلا أني رسول ولا ظن أكثر أصحابه إلا ذاك، حتى رأى ما بي من السلاح فثنى برذونه هاربا. فأدركته فطعنته فسقط، فرميت بنفسي عليه، واتقت جاريتاه عنه السيف فقطعت يدا إحداهما، وأجهزت عليه ثم رفعت رأسه في رمحي، وجال أصحابه، وحمل المسلمون في ناحيتي وكثروا، فقتلوهم كيف شاءوا وكانت الهزيمة.
لما كان يوم مسكن هرب الناس عن مصعب بن الزبير، دخل على سكينة بنت الحسين، وكانت شديدة المحبة له، وكانت تخفي ذلك عنه، فليس غلالة وتوشح عليها وانتضى السيف، فلما رأت ذلك علمت أنه عزم على أن لا يرجع، فصاحت من ورائه واحرباه، فالتفت إليها وقال: أو هذا لي في قلبك؟ فقالت: أي والله وأكثر من هذا، فقال: أما لو علمت لكان لي ولك شأن، ثم خرج فقال لابنه عيسى: يا بني انج إلى نجائك فإن القوم لا حاجة بهم إلى غيري، وستفلت بحيلة أو بقيا فقال: يا أبتاه لا أخرت والله عنك أبداً فقال: أما والله لئن قلت ذلك لما زلت أتعرف الكرم في أساريرك وأنت تقلب في مهدك، فقتل بين يدي أبيه. ففي ذلك يقول الشاعر: من الطويل
فلو كان شهم النفس أو ذا حفيظة ... رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب
وأم عيسى هذا بنت فلان بن السائب من بني أسد بن عبد العزى، وروي أن أباها زوجها عمرو بن عثمان بن عفان فلما نصت عليه طلقها عل المنصة فجاء أبوها إلى عبد الله بن الزبير فقال له: إن عمرو بن عثمان طلق ابنتي على المنصة، وقد ظن الناس أن ذلك لعاهة، وأنت عمها فقم فادخل إليها، فقال عبد الله: أو خير من ذلك؟ جيئوني بالمصعب فخطب عبد الله فزوجها من المصعب وأقسم عليه ليدخلن بها في ليلته، فلا يعلم أن أمرأة نصت على رجلين في ليلة غيرها، فأولدها المصعب عيسى وعكاشة.
كان محمد بن الحنفية شجاعاً أيداً وله في أيده أحاديث مشهورة، منها: أن أباه علياً عليه السلام اشترى درعاً فاستطالها، فقال: لينقص منها كذا، وعلم على موضع منها، فقبض محمد بيده اليمنى عل ذيلها وبالأخرى على فضلها، ثم جذبه فقطعها من الموضع الذي حد أبوه، وكان عبد الله بن الزبير يحسده على قوته، فإذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه أفكل.
كان مسلمة بن عبد الملك فارس بني أمية وشجاعهم، قال له أخوه هشام: يا أبا سعيد هل دخلك ذعر قط بحرب شهدتها أو لعدو؟ قال: ما سلمت في لك من ذعر ينبه على حيلة، ولم يفتني فيها ذعر سلبني رأيي، قال هشام: هذه البسالة.

لم يكن في بني العباس أشجع من المعتصم، ولا أشد قلباً وأيداً، ولا أحسن تيقظاً في الحرب، وكان من شدته يسمي ما بين إصبعيه السبابة والوسطى المقطرة، واعتمد بها مرة على ساعد إنسان فدقه، وكتب إليه ملك الروم يتهدده، فأمر بكتب جوابه فلما قرئ عليه لم يرضه وقال للكاتب: اكتب، بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد قرأت كتابك والجواب ما ترى لا ما تسمع " وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار " " الرعد: 42 " .
وقال ابن أبي دواد: كان المعتصم يقول لي: يا أبا عبد الله عض ساعدي بأكثر قوتك، فأقول: والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك، فيقول إنه لا يضرني، فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فكيف الأسنان؟ ويقال إنه طعنه بعض الخوارج وعليه جوشن، فأقام المعتصم ظهره فقصف الرمح بنصفين.
كان عبد الملك بن صالح والياً للرشيد على الشام، فكان إذا وجه سرية إلى أرض الروم أمر عليها أميراً شهماً وقال له: اعلم أنك مضارب الله تعالى بخلقه، فكن بمنزلة التاجر الكيس إن وجد ربحاً وإلا احتفظ برأس المال، وكن من احتيالك على عدوك أشد حذراً من احتيال عدوك عليك.
وولى العباس بن زفر الثغر فودعه وقال: يا عباس إن حصن المحارب من عدوه حسن تدبيره، والمقاتل عنه جليد رأيه وصدق بأسه.
يقال: إنه لا يصدق ويصبر في اللقاء إلا ثلاثة: مستبصر في دين، أو غيران على حرمه، أو ممتعض من ذل.
كان حبيب بن مسلمة الفهري يغزو الترك، فخرج ذات مرة إلى بعض غزواته فقالت له امرأته: أين موعدك؟ قال: سرادق الطاغية أو الجنة، قالت: إني لأرجو أن أسبقك إلى أي الموضعين كنت فيه، فجاء فوجدها في سرادق الطاغية تقاتل الترك.
قال جعفر بن علبة الحارثي: من الطويل
لا يكشف الغماء إلا بن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
نقاسمهم أسيافنا شر قسمة ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها
وقال ابن هرمة: من الوافر
إذا شدوا عمائمهم ثنوها ... على كرم وإن سفروا أناروا
يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالطعان هم تجار
قيل: دخل على معاوية بعض كنانة فقال له: هل شهدت بدراً؟ قال: نعم قال: مثل من كنت يومئذ؟ قال: غلام ممدود مثل عصا الجلمود، قال: فحدثني ما رأيت وحضرت، قال: ما كنا إلا شهوداً كأعياب، وما رأيت ظفراً كان أوشك منه، قال: فصف لي من رأيت، قال: رأيت في سرعان الناس علي بن أبي طالب غلاماً ليثاً عبقرياً يفري الفري، لا يلبث له أحد إلا قتله، ولا يضرب شيئاً إلا هتكه، لم أر من الناس أحداً قط أثقف منه، يحمل حملة ويلتفت التفاتة كأنه ثعلب رواغ، وكأن له عينين في قفاه، وكأن وثوبه وثوب وحشي، يتبعه رجل معلم بريش نعامة، كأنه جمل يحكم يبيساً، لا يستقبل شيئاً إلا هده، ولا يثبت له شيء إلا ثكلته أمه، شجاع ابله يحمل بين يديه، قيل هذا حمزة بن عبد المطلب عم محمد صلى الله عليه وسلم قال: فرأيت ماذا؟ قال: رأيت ما وصفت لك، ورأيت جدك عتبة وخالك الوليد حيث قتلا، ورأيت من حضر من أهلك لم يغنوا عنه شيئاً، قال: فكنت من المنهزمين؟ قال: نعم لما انهزمت عشيرتك، قال: فأين كنت منهم؟ قال: لما انهزمنا كنت في سرعانهم، قال: فأين أرحت؟ قال: ما أرحت حتى نظرت إلى الهضبات، قال: لقد أحسنت الهرب، قال: قبلي ما أحسنه أبوك وبعد ما اتعظت بمصرع كمصرع جدك وخالك وأخيك، قال: إنك لغليظ الكلام، قال: إنني ممن تعرف، قال: إنكم لتبغضون قريشاً، قال: أما من كان أهله منهم فنبغضه، قال: ومن الذين هم أهله؟ قال: من قطع القرابة واستأثر بالفيء وطلب الحق فلما أعطيه منعه، قال: ما فيك خير من أن نسكت عنك، قال: ذاك إليك قال: قد فعلت، قال: فقد سكت.
قال الحارث بن خالد المخزومي، وقد فر عبد العزيز بن عبد الله بن أسيد من الخوارج فراراً قبيحاً، على كثرة عدده وقلتهم: من الخفيف
فر عبد العزيز حين رأى الأب ... طال بالسفح نازلوا قطريا
عاهد الله إن نجا ملمنايا ... ليعودن بعدها حرميا
حيث لا يشهد القتال ولا يس ... مع يوماً لكر خيل دويا
قيل لأعرابي: ألا تغزو فإن الله قد أمرك به، فقال: والله إني لأبغض الموت على فراشي في عافية فكيف أمضي إليه ركضاً، ومثله قول الشاعر: من البسيط

تمشي المنايا إلى قوم فأبغضها ... فكيف أعدو إليها عاري الكتف
أنفذ الحجاج رجلاً من ثقيف يستحث المهلب على مناجزة الخوارج، فلما وقعت الحرب انهزم الثقفي، فقال رجل من بني عامر بن صعصعة: من الكامل
ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا ... وتعمنا بوصية الحجاج
حتى إذا ما الموت أقبل زاخراً ... وسما لنا صرفاً بغير مزاج
وليت يا ثقفي غير مناظر ... تنساب بين أحزة وفجاج
ليست مقارعة الكماة لدى الوغى ... شرب المدامة في إناء زجاج
قال أعرابي لقومه، وقد صافوا بعض أصحاب السلطان: يا قوم لا أغركم من نشاب معهم في جعاب كأنها نيوب الفيلة، وقسي كأنها العتل، ينزع أحدهم حتى يتفرق شعر إبطه، ثم يرسل نشابة كأنها رشاء مقطع، فما بين أحدهم وبين أن ينصدع قلبه منزلة، قال: فطاروا رعباً قبل اللقاء.
قيل: كانت لفتى من قريش وصيفة نظيفة جميلة الوجه حسنة الأدب وكان بها معجباً، فأضاق واحتاج إلى ثمنها، فحملها إلى العراق زمن الحجاج فباعها، فوقعت إلى الحجاج، فكانت تلي خدمته، فقدم عليه فتى من ثقيف، أحد بني عقيل، فأنزله قريباً منه وألطفه، فدخل عليه يوماً والوصيفة تغمز رجل الحجاج، وكان للفتى جمال وهيئة، فجعلت الوصيفة تسارق الثقفي النظر، وفطن الحجاج فقال للفتى: ألك أهل؟ قال: لا، قال: خذ بيد هذه الوصيفة فاسكن إليها واستأنس بها حتى أنظر لك بعض بنات عمك، فدعا له، وأخذها مسروراً وانصرف إلى رحله، فباتت معه ليلتها وهربت بغلس، فأصبح لا يدري أين هي، وبلغ الحجاج ذلك، فأمر منادياً فنادى: برئت الذمة ممن آوى وصيفة من صفتها كذا وكذا، فلم يلبث أن أتي بها، فقال لها: يا عدوة الله، كنت عندي من أحب الناس، واخترت لك ابن عمي شاباً حسن الوجه، ورأيتك تسارقينه النظر، فدفعتك إليه وأوصيته بك، فما لبثت إلا سواد ليلتك حتى هربت، قالت: يا سيدي، اسمع قصتي ثم اصنع ما أحببت، قال: هات، قالت: كنت لفلان القرشي، وكان بي معجباً، فاحتاج إلى ثمني فحملني إلى الكوفة، فلما صرنا قريباً من البلد دنا مني فوقع علي فلم يلبث أن سمع بزئير الأسد، فوثب عني إليه واخترط سيفه ثم حمل عليه فضربه وقتله، ثم أقبل إلي وما برد ما عنده، فقضى حاجته، وكان ابن عمك هذا الذي اخترته لي لما أظلم الليل قام إلي، فإنه لعلى بطني إذ وقعت فأرة من السقف عليه، فضرط ثم وقع مغشياً عليه، فمكث زماناً طوياً أقلبه وأرش على وجهه الماء وهو لا يفيق، فخفت أن تتهمني به فهربت فزعاً من القتل، فما ملك الحجاج نفسه وقال: ويحك لا تعلمي بهذا أحداً، قالت: يا سيدي على أن لا تردني إليه، قال: لك ذلك.
؟حدث جار لأبي حية النميري قال: كان لأبي حية سيف ليس بينه وبين الخشبة فرق، وكان يسميه لعاب المنية، فأشرفت عليه وقد انتضاه من غمده وقد استذمر، وهو واقف على باب بيت في داره، وقد سمع حساً، وهو يقول: أيها المغتر بنا والمجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنايا الذي سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته، اخرج بالعفو عنك لا أدخل بالعقوبة عليك، إني والله إن أدع قيساً تملأ الفضاء خيلاً ورجلاً، فيا سبحان الله ما أكثرها وأطيبها، ثم فتح الباب على وجل فإذا كلب قد خرج فقال: الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفاني حرباً.
قال الأخطل يذكر شجاعاً: من الطويل
وكرار خلف المرهقين جواده ... حفاظاً إذا لم يحم أنثى حليلها
ثنى مهره والخيل رهو كأنها ... قداح على كفي مفيض يجيلها
يهين وراء الخيل نفساً كريمة ... لكبة موت ليس يودى قتيلها
ويعلم أن المرء ليس بخالد ... وأن منايا المرء يسعى دليلها
وقال أبو كبير الهذلي: من الكامل
صعب الكريهة لا يرام جنابه ... ماضي العزيمة كالحسام المقصل
يحمي الصحاب إذا تكون كريهة ... وإن هم نزلوا فمأوى العيل
وقال تأبط شراً: من الطويل
إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالئ من قلب شيحان فاتك
ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلة من حد أخلق صائك

يرى الوحشة الأنس والأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك
أراد المجرة وقيل الشمس.
وقال موسى بن جابر الحنفي: من الطويل
ألم تريا أني حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت والموت دونها
وجدت بنفس لايجاد بمثلها ... وقلت اطمئني حين ساءت ظنونها
وما خير مال لا يقي الذم ربه ... ونفس امرئ في حقها لا يهينها
وقال عروة بن الورد: من الطويل
ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور
مطلا على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر
إذا بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المتنظر
فذلك إن يلق الكرهية يلقها ... حميداً وإن يستغن يوماً فأجدر
وقال عمرو بن كلثوم: من الطويل
معاذ الإله أن تنوح نساؤنا ... على هالك أو أن نضج من القتل
قراع السيوف بالسيوف أحلنا ... بأرض براح ذي أراك وذي أثل
وقال عبد الله بن سبرة: من الطويل
وإني إذا ضن الأمير بإذنه ... على الإذن من نفسي إذا شئت قادر
وقال تأبط شراً: من الطويل
قليل غرار النوم أكبر همه ... دم الثأر أو يلقى كمياً مقنعا
يماصعه كل يشجع قومه ... وما ضربه هام العدى ليشجعا
قليل ادخار الزاد إلا تعلة ... فقد نشز الشرسوف والتصق المعا
يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه ... ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا
وإني وإن عمرت أعلم أنني ... سألقى سنان الموت يبرق أصلعا
ومن يغز بالأعداء لا بد أنه ... سيلقي بهم من مصرع الموت مصرعا
وقال معبد بن علقمة: من الطويل
فقل لزهير إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتامين للمتشتم
ولكننا نأبى الظلام ونعتصي ... بكل رقيق الشفرتين مصمم
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
وأن التمادي في الذي كان بيننا ... بكفيك فاستأخر له أو تقدم
وقال موسى بن جابر الحنفي: من الطويل
وإنا لوقافون بالموقف الذي ... يخاف رداه والنفوس تطلع
وإنا لنعطي المشرفية حقها ... فتقطع في أيماننا وتقطع
تزوج الهذلول بن كعب العنبري امرأة من بني بهدلة، فرأته يوماً يطحن وقد نزل به ضيف، فضربت صدرها وقالت: هذا زوجي؟ فقال في ذلك: من الطويل
تقول ودقت صدرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
فقلت لها لا تعجبي وتبيني ... فعالي إذا التفت علي الفوارس
ألست أرد القرن يركب ردعه ... وفيه سنان ذو غرارين يابس
وأحتمل الأوق الثقيل وأمتري ... خلوف المنايا حين فر المغامس
وأقري الهموم الطارقات حزامة ... إذا كثرت للطارقات الوساوس
إذا خام أقوام تقحمت غمرة ... يهاب حمياها الألد المداعس
لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس
وإني لأشري الحمد أبغي رباحه ... وأترك قرني وهو خزيان تاعس
وقال طفيل الغنوي: من الرجز
إذا تخازرت وما بي من خزر ... ثم كسرت العين من غير عور
الفيتني ألوى بعيد المستمر ... ذا صولة في المصمئلات الكبر
أحمل ما حملت من خير وشر ... كالحية الصماء في ظل الحجر
قال آخر ويروى لابن قيس الرقيات: من الطويل
وإني لآبي الشر حتى إذا أبى ... تجنب بيتي قلت للشر مرحبا
وأركب ظهر الأمر حتى يلين لي ... إذا لم أجد إلا على الشر مركبا
وقال آخر: من الطويل
أفر حذار الشر والشر تاركي ... وأطعن في أنيابه وهو كالح
وقال ابن هرمة: من الطويل
إذا ما أراد الأمر ناجى ضميره ... فناجى ضميراً غير مضطرب العقل
ولم يشرك الأدنين في جل أمره ... إذا انتقضت بالأضعفين قوى الحبل

وقال أيضاً في مثل ذلك: من الطويل
يزرن امرءاً لا يمحض القوم أمره ... ولا ينتجي الأدنين فيما يحاول
إذا ما أبى شيئاً مضى كالذي أبى ... وإن قال إني فاعل فهو فاعل
ومثله لسعد بن ناشب المازني: من الطويل
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
وقال مالك بن الريب في مثله: من الطويل
وما أنا بالنابي الحفيظة بالوغى ... ولا المتقي في السلم جر الجرائم
ولا المتأري في العواقب للذي ... أهم به من فاتكات العزائم
ولكنني ماضي العزيمة مقدم ... على غمرات الحادث المتفاقم
قليل اختلاج الرأي في الجد والهوى ... جميع الفؤاد عند وقع العظائم
وقال أبو قيس بن الأسلت: من السريع
قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلاً فقد أبلغت أسماعي
واستنكرت لوناً له شاحباً ... والحرب غول ذات أخداع
من يذق الحرب يجد طعمها ... مراً وتتركه بأوجاع
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع
أسعى على جل بني مالك ... كل امرئ في شأنه ساع
أعددت للأعداء فضفاضة ... موضونة كالنهي بالقاع
أحفزها عني بذي رونق ... أبيض مثل الملح قطاع
صدق حسام وادق حده ... ومارن أسمر قراع
بز امرئ مستبسل حاذر ... للدهر جلد غير مجزاع
الكيس والقوة خير من ال ... إدهان والفهة والهاع
هلا سألت القوم إذا قلصت ... ما كان إبطائي وإسراعي
هلا أبذل المال على حبه ... فيهم وآتي دعوة الداعي
وأضرب القونس يوم الوغى ... بالسيف لم يقصر به باعي
وقال العلوي صاحب الزنج: من الكامل
يلقى السيوف بوجهه وبنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر
ويقول للطرف اصطبر لشبا القنا ... فعقرت ركن المجد إن لم تعقر
وقال أيضاً: من الرجز
إذا اللئيم مط حاجبيه
وذب عن حريم درهميه
فاقذف عنان البخل في يديه
وقم إلى السيف وشفرتيه
فاستنزل ... الرزق بمضربيه
إن قعد الدهر فقم إليه
ومن شعره أيضاً: من المتقارب
وإنا لتصبح أسيافنا ... إذا ما اهتززن ليوم سفوك
منابرهن بطون الأكف ... وأغمادهن رؤوس الملوك
أبو العشائر ابن حمدان: من الكامل
أأخا الفوارس لو رايت مواقفي ... والخيل من تحت الفوارس تنحط
لقرأت منا ما تخط يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنة تنقط
وقال أبو العباس النامي: من الكامل
ومنازلين إذا بدوا في شارق ... شبوا ضياء وقوده بوقود
ردوا على داود صنعة سرده ... لغناهم بالصبر عن داود
لا يصبحون إذا انتضوا بيض الظبا ... وشبا القنا غير المنايا السود
ومن كلام لأبي محمد المهلبي يناسب معنى البيت الثاني: فإنهم لشدة تجهمهم، وسرعة تهجمهم: من الكامل
تركوا المكيدة والكمين لجهدهم ... والنبل والأرماح للأسياف
ومن كلامه أيضاً: قد صدقه الحملة، ومنعه المهلة، من المتقارب
وأصلاه حر جحيم الحديد ... تحت دخان من القسطل
وقال أبو الفرج الببغاء: من البسيط
من كل متسع الأخلاق مبتسم ... للخطب إن ضاقت الأخلاق والحيل
يسعى به البرق إلا أنه فرس ... في صورة الموت إلا أنه رجل
يلقى الرماح بصدر منه ليس له ... ظهر وهادي جواد ما له كفل
وقال أيضاً: من البسيط
الباذلي العرف والأنواء باخلة ... والمانعي الجار والأعمار تخترم
حيث الدجى النقع والبيض الكواكب وال ... أسد الفوارس والخطية الأجم
وقال السري الرفاء: من الوافر

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19