كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون

طلعت على الديار وهم نبات ... وأغمدت السيوف وهم حصيد
فما أبقيت إلا مخطفات ... حمى الأخطاف منها والنهود
وقال عبد الله بن رواحة الأنصاري: من الرجز
يا نفس إن لم تقتلي تموتي ... إن تسلمي اليوم فلن تفوتي
أو تبتلي فطالما عوفيت ... هذي حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت
وقال عنترة: من الكامل
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل ... لا بد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا ابا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
وقال عنترة أيضاً: من الكامل
وعلمت أن منيتي إن تأتني ... لا ينجني منها الفرار الأسرع
فصبرت عارفة لذلك حرة ... نفسي إذا نفس الجبان تطلع
وقال العباس بن مرداس: من الكامل
القائلون إذا لقوا أقرانهم ... إن المنايا قصر من لم يقتل
فتعانقوا الأبطال في حمس الوغى ... تحت الأسنة والغبار الأطحل
وقال ضابئ البرجمي: من الطويل
وما الفتك ما شاورت فيه ولا الذي ... تخبر من لاقيت أنك فاعله
وقال حارثة بن بدر: من الطويل
ولا تلتمس أمر الشديدة بامرئ ... إذا رام أمراً عوقته عواذله
وما الفتك إلا لامرئ رابط الحشا ... إذا صال لم ترعد إليه خصائله
وقال حسان بن ثابت: من الخفيف
كرهوا الموت فاستبيح حماهم ... وأقاموا فعل اللئيم الذليل
أمن الموت يهربون فإن ال ... موت موت الهزال غير جميل
وقال هدبة بن خشرم العذري: من الطويل
وليس أخو الحرب الشديدة بالذي ... إذا زبنته كان للسلم أخضعا
ولكن أخو الحرب الحديد سلاحه ... إذا حملته فوق حال تشجعا
أخو الحرب لا ينآد للحرب متنه ... ولا يظهر الشكوى إذا كان موجعا
ركوب على أثباجها متخوف ... لعوراتها ينمي إذا الثقل أضلعا
وقال الحطيئة: من الطويل
إذا هم بالأعداء لم يثن همه ... كعاب عليها لؤلؤ وشنوف
أخذ المعنى وبعض اللفظ كثير فقال لعبد الملك: من الطويل
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصان عليها عقد در يزينها
وقالت امرأة من بني عبد القيس: من الطويل
أبوا أن يفروا والقنا في نحورهم ... ولم يبتغوا من خشية الموت سلماً
ولو أنهم فروا لكانوا أعزة ... ولكن رأوا صبراً على الموت أكرما
وقال آخر: من الرجز
قد علم المستأخرون في الوهل
إذا السيوف عريت من الخلل
أن الفرار لا يزيد في الأجل
ومما يروي لعلي بن أبي طالب عليه السلام: من الرجز
من أي يومي من الموت أفر ... من يوم لا يقدر أم يوم قدر
وقال المخبل السعدي: من الطويل
وإنا أناس تعرف الخيل زجرنا ... إذا أمطرت سحب الصوارم بالدم
وأنا لنعطي النصف من لو نضيمه ... أقر ونأبى نخوة المتظلم
ومما جاء في ذكر الجبناء قول الطرماح: من الطويل
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت
ولو أن برغوثاً على ظهر قملة ... يكر على صفي تميم لولت
ولو جمعت يوما تميم جموعها ... على ذرة معقولة لاستقلت
وقال آخر: من الطويل
إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد
وقول الأخطل: من الطويل
ونجى ابن بدر ركضه من رماحنا ... ونضاحة الأعطاف ملهبة الحضر
كأنهما والآل ينجاب عنهما ... إذا انغمسا فيه يعومان في بحر
يسر إليها والرماح تنوشه ... فدى لك أمي إن دأبت إلى العصر
فظل يفديها وظلت كأنها ... عقاب دعاها جنح ليل إلى وكر
وقال آخر: من البسيط
لو كنت في مائتي ألف جميعهم ... مثل المزرفن داود بن حمدان

وتحتك الريح تجري حيث تأمرها ... وفي يمينك ماض غير خوان
لكنت أول فرار إلى عدن ... إذا تحرك سيف في خراسان
قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه لعمرو بن معدي كرب: أخبرني عن أشجع من رأيت، فقال: والله يا أمير المؤمنين لأخبرنك عن أحيل الناس، وعن أشجع الناس، وعن أجبن الناس، فقال له عمر: هات، فقال: أربعت الصعابية فخرجت كأحسن ما رأيت، شقاء مقاء طويلة الأنقاء تمطق بالعرق تمطق الشيخ بالمرق، فركبتها ثم آليت لا ألقى أحداً إلا قتلته، فخرجت وهي تتقدى بي، فإذا بفتى بين عرضين، فقلت له: خذ حذرك فإني قاتلك، فقال: والله ما أنصفتني يا أبا ثور أنا كما ترى أعزل أميل، فأنظرني حتى آخذ نبلي، فقلت: وما غناؤها عنك؟ قال: أمتنع بها، قلت: خذها، قال: لا والله أو تعطيني من العهود ما يثلجني أنك لا تروعني حتى آخذها، قال: فأثلجته فقال: وإلهي قريش لا آخذها أبداً، فسلم والله وذهبت، فهذا أحيل الناس.
ثم مضيت حتى اشتمل علي الليل، فوالله إني لأسير في قمر زاهر، كالنور الظاهرن إذا بفتى على فرس يقود ظعينة وهو يقول: الرمل المجزوء
يا لدينا يا لدينا ... ليتنا يعدى علينا
ثم يبلى ما لدينا
ثم يخرج حنظلة من مخلاته فيرمي بها في السماء فلا تبلغ الأرض حتى ينتظمها بمشقص من نبله، فصحت به: خذ حذرك ثكلتك أمك فإني قاتلك، فمال عن فرسه فإذا هو في الأرض، فقلت: إن هذا إلا استخفاف، فدنوت منه فصحت به ويلك ما أجهلك، فما تحلحل ولا زال عن موضعه، فشككت بالرمح إهابه فإذا هو كأنه قد مات منذ سنة، فهذا أجبن الناس.
ثم مضيت فأصبحت من دكادك هرشى إلى غزال، فنظرت إلى أبيات فعدلت إليها، فإذا فيها جوار ثلاث كأنهن نجوم الثريا، فبكين حين رأينني، فقلت: ما يبكيكن؟ فقلن: لما ابتلينا به منك، ومن ورائنا أخت لنا هي أجمل منا، فأشرفت من فدفد، فإذا بامرئ لم أر قط أحسن من وجهه، وهو غلام يخصف نعله، عليه ذؤابة يسحبها، فلما نظر إلي وثب على الفرس مبادراً، ثم ركض فسبقني إلى البيوت، فوجدهن قد ارتعن، فسمعته يقول: من الرجز
مهلا نسياتي لا تروعن
إن يمنع اليوم نساء تمنعن
أرخين أذيال المروط وارتعن
فلما دنوت منه قال: أتطردني أم أطردك؟ فركض وركضت في أثره، حتى إذا أمكنت السنان من لفتته واللفتة أسفل من الكتف اتكأت عليه فإذا هو والله مع لبب فرسه، ثم استوى في سرجه فقلت: أقلني، قال: اطرد، فتبعته حتى إذا ظننت أن السنان بين ناغضتيه اعتمدت عليه، فإذا هو والله قائم على الأرض والسنان زالج، ثم استوى على فرسه فقلت: أقلني، قال: اطرد فطردته حتى إذا أمكنت السنان من متنه اتكأت عليه وأنا أظن أن قد فرغت منه، فمال في سرجه حتى نظرت إلى يديه في الأرض ومضى السنان زالجاً، ثم قال: بعد ثلاث تريد ماذا؟ اطردني ثكلتك أمك، فوليت وأنا مرعوب منه، فلما غشيني ووجدت مس السنان التفت فإذا هو يطردني بالرمح بلا سنان، فكف عني واستننزلني فنزلت، فجز والله ناصيتي وقال: انطلق فأنا أنفس بك عن القتل، فكان ذاك والله يا أمير المؤمنين عندي أشد من الموت، فذاك أشجع من رأيت، وسألت عن الفتى فقيل ربيعة بن مكدم الفراسي من بني كنانة.
وكان عمرو بن معدي كرب موصوفاً بالأيد والشدة عظيم الخلقة، جاء إليه رجل وهو واقف بالكناسة على فرس له وقد أسن، فقال: لأنظرن ما بقي من قوة أبي ثور، فأدخل يده بين ساقه وبين السرج، وفطن له عمرو فضمها عليه وحرك فرسه، فجعل الرجل يعدو مع الفرس لا يقدر أن ينزع يده، حتى إذا بلغ منه قال: يا ابن أخي مالك؟ قال: يدي تحت ساقك، فخلى عنه وقال: يا ابن أخي إن في عمك لبقية بعد.
ومن بليغ الشعر في الحرب والبأس والنجدة قول محمد بن هانئ: من الطويل
ومضرمة الأنفاس جمر وطيسها ... شرنبثة الكفين فاغرة الفم
ضروس لها أبناء صدق تحشها ... فمن خادر ورد وأشجع أيهم
وأرعن يحموم كأن أديمه ... إذا شرعت أرماحه ظهر شيهم
فما تنطق الأرماح غير تصلصل ... ولا ترجع الأبطال غير تغمغم
فتملأ سمعاً من رواعد رجف ... وتملأ عيناً من بوارق ضرم

فلا راجع باللأم غير مبتك ... ولا بحبيك البيض غير مثلم
رفعت على خام العدى مه قسطلاً ... خضبت مشيب الفجر منه بعظلم
فلا تتكلف للخميس من العدى ... خميساً ولكن رعه باسمك يهزم
لقد أعذرت فيك الليالي وأنذرت ... فقل للعقول استأخري أو تقدمي
كأن قد كشفت الأمر عن شبهاته ... فلم يضطهد حق ولم يتهضم
وفاض دماً موج الفرات فلم يجز ... لوارده طهر بغير تيمم
فلا حملت فرسان حرب جيادها ... إذا لم يزرهم من كميت وأدهم
ولا عذب الماء القراح لشارب ... وفي الأرض مروانية غير أيم
يريغون في الهيجا إلى ذي حفيظة ... طويل نجاد السيف أبلج خضرم
قليل لقاء البيض إلا من الظبا ... قليل شراب الكأس إلا من الدم
وأي قوافي الشعر فيك أحوكها ... وما ترك التنزيل من متردم
وكان حسان بن ثابت الشاعر من الجبناء، وكان ابن الزبير يحدث أنه كان في فارع أطم ابن ثابت، يعني حسان، مع النساء يوم الخندق ومعهم عمرو بن أبي سلمة قال ابن الزبير: ومعنا حسان بن ثابت ضارب وتداً في ناحية الأطم، فإذا حمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين حمل على الوتد يضربه بالسيف، وإذا أقبل المشركون انحاز عن الوتد، كأنه يقاتل قرناً، يتشبه بهم كأنه يرى أنه يجاهد حين جبن. وقيل إنه أتاهم في ذلك اليوم يهودي يطيف بالحصن، وقد قطعت قريظة ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت صفية بنت عبد المطلب فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من اليهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئاً اعتجرت، ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتله، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.
كان حارثة بن بدر الغداني من سادات بني تميم ووجوههم، وكان في وجه الخوارج والإمارة لغيره، فقتل صاحب الجيش فعقدوا الرياسة لآخر فقتل، فعقدوها لحارثة بن بدر فنادى في الناس: أن تثبتوا فتح الله عليكم فللعرب زيادة فريضتين وللموالي زيادة فريضة، وندب الناس فالتقوه وانهزم حارثة وقال: من الرجز
كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فاذهبوا
أير الحمار فريضة لعبيدكم ... والخصيتان فريضة الأعراب
فتتابع الناس على أثره منهزمين.
وكان في الخوارج امرأة يقال لها أم حكيم، وكانت من أشجع الناس وأجملهم وجهاً، وخطبها جماعة منهم فردتهم، وكانت في الحرب تحمل على الناس وتقول: من الرجز
أحمل رأساً قد سئمت حمله
وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله
وهم يفدونها بالآباء والأمهات.
وقال الحارث بن خشام يعتذر من الفرار، من الكامل
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أتقل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد
وقال زفر بن الحارث وقد فر يوم مرج راهط عن أبيه وأخيه: من الطويل
أيذهب يوم واحد إن اسأته ... بصالح أعمالي وحسن بلائيا
ولم ير مني زلة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا
وقال أزهر بن هلال التميمي: من الطويل
أعاتك ما وليت حتى تبددت ... رجالي وحتى لم أجد متقدما
وحتى رأيت الورد يدمى لبانه ... وقد هزه الأبطال فانتعل الدما
أعاتك أفناني السلاح ومن يطل ... مقارعة الأبطال يرجع مكلما
وأحسن ما قيل في الفرار قول قيس بن الخطيم: من الطويل
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب

صدود الخدود والقنا متشاجر ... ولا تبرح الأقدام عند التضارب
وقال مالك بن أبي كعب: من الطويل
أقاتل حتى لا أرى مقاتلاً ... وأنجو إذا غم الجبان من الكرب
وقال جرير يعير الأخطل إيقاع قيس ببني تغلب: من الكامل
حملت عليك حماة قيس خيلها ... شعثاً عوابس تحمل الأبطالا
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلاً تكر عليهم ورجالا
نظر المتنبي إلى المعنى فقال وأحال: من البسيط
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
وغير شيء ليس بشيء فيرى، وهذا مما طعن به عليه.
وبيت جرير مأخوذ من قوله عز وجل: " يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو " " المنافقون: 4 " .
خرجت المغيرية على خالد القسري وهو يخطب على المنبر ولا يعلم بهم، فخرجوا في التبابين ينادون: لبيك لبيك جعفر، وعرف خالد خبرهم وهو يخطب على المنبر، فدهش ولم يعقل ما يقول فزعاً، فقال: أطعموني ماء، ثم خرج الناس إليهم فأخذوا، فكان ضعفه على المنبر وجبنه حين خاف من أضعف خصم، ولما أمنهم وحصلوا في قبضته جعل يأخذ للرجل طن قصب فيطلى بالنفط ويقال له احتضنه، ويضرب حتى يفعل ذلك، ثم يحرق، فأحرقهم جميعاً، فجمع القسوة وانخلاع القلب في حالتيه، وفي ذلك يقول الكميت يمدح يوسف بن عمر: من الطويل
خرجت لهم تمشي البراح ولم تكن ... كمن حصنه فيه الرتاج المضبب
وما خالد يستطعم الماء فاغراً ... بعدلك والداعي إلى الموت ينعب
لما دخلت غزالة الحرورية الكوفة على الحجاج ومعها شبيب تحصن منها وأغلق قصره، فكتب إليه عمران بن حطان، وكان الحجاج قد لج في طلبه: من الكامل
أسد علي وفي الحروب نعامة ... ربداء تجفل من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك مثل قلب الطائر
صدعت غزالة قلبه بفوارس ... تركت مدابره كأمس الدابر
ويقال إن عباد بن زياد كان جباناً، فبينا هو ذات ليلة نائم في عسكره صاحت بنات آوى، فثارت الكلاب إليها، ونفر بعض الدواب، ففزع عباد وظن أنها كبسة من العدو، فركب فرسه ودهش فقال: افتحوا سيفي، فذلك قول ابن مفرغ يعيره: من الوافر
ويوم فتحت سيفك من بعيد ... أضعت وكل أمرك للضياع
إذا أودى معاوية بن حرب ... فبشر شعب قعبك بانصداع
ألم تر إذ تحالف حلف حرب ... عليك عددت من سقط المتاع
وكدت تموت إذ صاح ابن آوى ... ومثلك مات من خوف السباع
وجه المهلب كعب بن معدان الأشقري إلى الحجاج في وقت محاربته الخوارج، فقال له الحجاج: كيف كانت حالكم مع عدوكم؟ قال: كنا إذا لقيناهم بعفونا وجهدهم أيسنا منهم، وإذا لقيناهم بجهدهم وجهدنا طمعنا فيهم؛ قال: وكيف كان بنو المهلب؟ قال: حماة الحريم نهاراً، وفرسان الليل تيقظاً قال: فأين السماع من العيان؟ قال: السماع دون العيان، قال: صفهم رجلاً رجلاً، قال: المغيرة فارسهم وسيدهم، نار ذاكية، وصعدة عالية، وكفى بيزيد فارساً شجاعاً: ليث غاب وبحر جم العباب، وجوادهم قبيصة، ليث المغار وحامي الذمار، ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدرك، وكيف لا يفر من الموت الحاضر، والأسد الخادر؟ وعبد الملك سم ناقع، وسيف قاطع، وحبيب الموت الذعاف إنما هو طود شامخ، وبحر باذخ، وأبو عيينة البطل الهمام، والسيف الحسام، وكفاك بالفضل نجدة: ليث هرار وبحر موار، ومحمد ليث غاب، وحسام ضراب. قال: فأيهم أفضل؟ قال: هم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها، قال: فكيف جماعة الناس؟ قال: على أحسن حال، أدركوا ما رجوا وأمنوا ما خافوا، أرضاهم العدل، وأغناهم النفل، قال: فكيف رضاهم بالمهلب؟ قال: أحسن رضى، وكيف لا يكونون كذلك وهم لا يعدمون منه إشفاق الوالد ولا يعدم منهم بر الأولاد؟ قال: فكيف فاتكم قطري؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه، فتحول عن منزله، قال: فهلا اتبعتموه؟ قال: حال الليل بيننا وبينه، وكان التحرز إلى أن يقع العيان ويعلم امرؤ ما يصنع أحزم، وكان الجد عندنا آثر من النفل.

قيل لعنترة: أأنت أشجع العرب وأشدها؟ قال: لا، قيل له: فبم شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزماً، وأحجم إذا رأيت الأحجام حزماً، ولا أدخل موضعاً لا أرى فيه مخرجاً لي، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأنثني عليه فأقلته.
لقي تأبط شراً ذات يوم رجلاً من ثقيف يقال له أبو وهب، وكان جباناً أهوج، وعليه حلة جيدة، فقال أبو وهب لتأبط شراً: بم تغلب الرجال يا ثابت، وأنت كما أرى دميم ضئيل؟ قال: باسمي، إنما أقول ساعة ألقى الرجل: أنا تأبط شراً فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت، فقال له الثقفي: فهل لك أن تبيعني اسمك؟ قال: نعم، فبم تبتاعه؟ قال: بهذه الحلة وكنيتي، قال: افعل، ففعل، وقال له: لك اسمي ولي اسمك وأخذ حلته وأعطاه طمريه ثم انصرف وقال في ذلك يخاطب زوجة الثقفي: من الطويل
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها ... تأبط شراً واكتنيت أبا وهب
فهبه تسمى اسمي وسماني اسمه ... فأين له صبري على معظم الخطب
وأين له بأس كبأسي وسورتي ... وأين له في كل فادحة قلبي
البحتري: من الطويل
وفرسان هيجاء تجيش صدورها ... بأحقادها حتى تضيق دروعها
تقتل من وتر أعز نفوسها ... عليها بأيدي ما تكاد تطيعها
إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
مر خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد بعروة بن الزبير، وكان بينهما تباعد، فقال له: يا خالد أتدع ابن أثال وقد تفصى أوصال عمك بالشام وأنت بمكة مسبل إزارك تجره وتخطر فيه متخايلاً؟! وكان عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد عند معاوية بالشام، فخافه معاوية على الأمر، فدس إليه ابن أثال الطبيب فسقاه شربة فمات منها، فحمي خالد بن المهاجر ودعا مولى له يدعى نافعاً فأعلمه الخبر، وقال له: لا بد من قتل ابن أثال، وكان نافع جلداً شهماً، فخرجا حتى قدما دمشق، وكان ابن أثال يمسي عند معاوية فجلس له في مسجد دمشق إلى اصطوانة، وجلس غلامه إلى أخرى حتى خرج فقال خالد لنافع: إياك أن تعرض له أنت، ولكن احفظ ظهري واكفني من ورائي، فإن رابك شيء من خلفي يريدني فشأنك، فلما حاذاه وثب إليه خالد فقتله، وثار إليه من كان معه فصاح بهم نافع فانفرجوا، ومضى خالد ونافع زقاقاً ضيقاً ففاتا القوم، فبلغ معاوية الخبر، فقال: هذا خالد بن المهاجر، اقلبوا الزقاق، ففتش عليه فأتي به فقال: لا جزاك الله من زائر خيراً قتلت طبيبي، قال: قتلت المأمور وبقي الآمر، فقال: أم والله له كان تشهد مرة واحدة لقتلتك به، وحبسه وضرب نافعاً مائة سوط، وألزم بني مخزوم اثني عشر ألف درهم، أدخل بيت المال منها ستة آلاف وأخذ هو ستة آلاف، فلم يزل ذلك يجري دية المعاهد حتى جاء عمر بن عبد العزيز فأبطل الذي يأخذه السلطان لنفسه، وأثبت الذي يدخل بيت المال.
روي أن امرأة عمران بن حطان قالت له: ألم تزعم أنك لا تكذب في شعرك؟ قال: بلى، قالت: أفرأيت قولك: الكامل المجزوء
وكذاك مجزأة بن ثو ... ر كان أشجع من أسامة
أيكون رجل أشجع من أسامة؟ قال: نعم، إن مجزأة بن ثور فتح مدينة كذا وكذا، والأسد لا يقدر على فتح مدينة.
روي أن أبا محجن عبد الله بن حبيب الثقفي كان في من خرج مع سعد بن أبي وقاص لحرب الفرس، وكان سعد يؤتى به شارباً فيتهدده فيقول له: لست تاركها إلا لله، فأما لقولك فلا، فأتي به يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد، وكانت بسعد خراجة فلم يخرج إلى الناس يومئذ، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فلما اشتد القتال تلك الليلة صعد أبو محجن إلى سعد يستعفيه ويستقيله فزبره ورده، وأتى سلمى بنت أبي حفصة فقال لها: يا ابنة أبي حفصة هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تحلين عني وتعيرينني البلقاء، فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إلى حضرتك حتى تضعي رجلي في قيدي، فقالت: وما أنا وذاك؟ فرجع يوسف في قيوده ويقول: من الطويل
كفى حزناً أن تردي الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصاريع من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحداً لا أخا ليا

وقد شف جسمي أنني كل شارق ... أعالج كبلاً مصمتاً قد برانيا
فلله دري يوم أترك موثقاً ... وتذهل عني أسرتي ورجاليا
حبيساً عن الحرب العوان وقد بدت ... وإعمال غيري يوم ذاك العواليا
فلله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرج ألا أزور الحوانيا
فقالت له سلمى: إني قد استخرت الله تعالى ورضيت بعهدك، فأطلقته ورجعت إلى بيتها، فخالفها أبو محجن إلى الفرس فأخذها وأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق، فركبها ثم دب عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة، وأضاء النهار وتصاف الناس كبر ثم حمل على الميسرة يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبدر أمام الناس فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفاً منكراً، فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، ولم يروه بالأمس، فقال بعض القوم: هذا من أوائل أصحاب هاشم بن عتبة أو هشام، وقال قوم: إن كان الخضر شهد الحرب فهو صاحب البلقاء، وقال آخرون: لولا أن الملائكة لا تباشر القتال ظاهراً لقلنا هذا ملك بيننا، وجعل سعد يقول، وهو مشرف ينظر إليه: الطعن طعن أبي محجن والضبر ضبر البلقاء، لولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن، وهذه البلقاء، فلم يزل يقاتل حتى انتصف الليل وتحاجز أهل العسكرين، وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر ووضع عن نفسه وعن دابته، وأعاد رجليه في قيده وأنشأ يقول: من الوافر
لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكرمهم سيوفا
وأكثرهم دروعاً سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنا رفدهم في كل يوم ... وأن جحدوا فسل بهم عريفا
وليلة فارس لم يشعروا بي ... ولم أكره لمخرجي الزحوفا
فإن أحبس فقد عرفوا بلائي ... وأن أطلق أجرعهم حتوفا
فقالت له سلمى: يا أبا محجن في أي شيء حبسك هذا الرجل؟ فقال: أما والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني فينفثه أحياناً، فحبسني لأني قلت: من الطويل
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... يروي مشاشي بعد موتي عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني ... إذا رجت مدفوناً فلست أذوقها
قال: وكانت سلمى قد رأت من المسلمين جولة، وسعد بن أبي وقاص في القصر لعلة كانت له لم يقدر معها على حضور الحرب، وكانت قبله عند المثنى بن حارثة الشيباني فلما قتل خلف عليها سعد، فلما رأت شدة البأس صاحت: وامثنياه ولا مثنى لي اليوم، فلطمها سعد، فقالت: أف لك أجبناً وغيرة؟ وكانت مغاضبة لسعد عشية ارماث وليلة الهرير وليلة السواد، حتى إذا أصبحت أتته وصالحته وأخبرته خبر أبي محجن، فدعا به وأطلقه وقال: اذهب فلست مؤاخذك لشيء تقوله حتى تفعله، فقال: لا جرم والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبداً، وذلك قول أبي محجن: من البسيط
إن كانت الخمر قد عزت وقد منعت ... وحال من دونها الإسلام والحرج
فقد أباكرها صرفاً وأشربها ... رياً وامزج أحياناً فامتزج
ولما انصرف أبو محجن إلى محبسه رأته امرأته منصرفاً فعيرته بفراره، فقالت له: من الكامل
من فارس كره الطعان يعيرني ... رمحاً إذا نزلوا بمرج الصفر
فقال لها أبو محجن: من الكامل
إن الكرام على الجياد مبيتها ... فدعي الرماح لأهلها وتعطري
وذكر المفضل أن الناس لما التقوا مع العجم يوم قس الناطف كان مع الأعاجم فيل يكر عليهم، فلا تقوم له الخيل، فقال أبو عبيد ابن مسعود الثقفي: هل له مقتل؟ فقيل له: نعم خرطومه، إلا أنه لا يفلت منه من ضربه، فقال: أنا أهب نفسي لله، وكمن له حتى أقبل فوثب إليه فضرب خرطومه، ثم استدار فطحن الأعاجم وانهزموا.
لما قال بكر بن النطاح الحنفي قصيدته التي يقول فيها: من الطويل
هنيئاً لأخواني ببغداد عيدهم ... وعيدي بحلوان قراع الكتائب

أنشدها أبا دلف العجلي فقال له: إنك لتكثر وصف نفسك بالشجاعة، وما رأيت لذلك عندك أثراً قط ولا فيك، فقال له: أيها الأمير وأي غناء يكون عند الرجل الحاسر الأعزل فقال: أعطوه سيفاً وفرساً ودرعاً ورمحاً، فأعطوه ذلك أجمع، فأخذه وركب الفرس، وخرج على وجهه، فلقيه مال لأبي دلف يحمل من بعض ضياعه فأخذه، وخرج جماعة من غلمانه ومانعوه، فجرحهم جميعاً وقطعهم فانهزموا، وسار بالمال فلم ينزل إلى على عشرين فرسخاً، فلما اتصل خبره بأبي دلف قال: نحن جنينا على أنفسنا، وقد كنا أغنياء عن إهاجة أبي وائل، ثم كتب إليه بالأمان وسوغه المال، وكتب إليه: صر إلينا فلا ذنب لك، نحن كنا سبب فعلك بتحريكنا إياك وتحريضنا، فرجع ولم يزل معه يمتدحه حتى مات.
قال أبو الحسين الراوية، قال لي المأمون: أنشدني أشجع بيت وأعفه وأكرمه من شعر المحدثين، فأنشدته: من الطويل
ومن يفتقر منا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
وإنا لنلهو بالسيوف كما لهت ... عروس بعقد أو سخاب قرنفل
فقال لي: ويلك من يقول هذا؟ فقلت: بكر بن النطاح، فقال: أحسن والله، ولكنه كذب في قوله، فما باله يسأل أبا دلف ويمدحه وينتجعه؟ هلا أكل خبزه بسيفه كما قال؟! قال العتبي: كتب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى الحجاج مبتدئاً: أما بعد فإن مثلي ومثلك كما قال القائل: من البسيط
سائل مجاور جرم هل جنيت لهم ... حرباً تزايل بين الجيرة الخلط
أم هل دلفت بجرار له لجب ... يغشى الأماعز بين السهل والفرط
والشعر لوعلة الجرمي، وثالث البيتين:
حتى تركت نساء الحي ضاحية ... في ساحة الدار يستوقدن بالغبط
هذا مثلي ومثلك، سأحملك على أصبعه، وأريحك من مركبه، فكتب الحجاج بذلك إلى عبد الملك، فكتب إله جوابه: أما بعد فإني قد أجبت عدو الرحمن بلا حول ولا قوة إلا بالله ولعمر الله لقد صدق وخلع سلطان الله بيمينه وطاعته بشماله، وخرج من الدين عريان كما ولدته أمه، وعلى أن مثلي ومثله ما قال الشاعر: من الطويل
ألم تعلموا أني تخاف عرامتي ... وأن قناتي لا تذل على القسر
وإني وإياكم كمن نبه القطا ... ولو لم ينبه باتت الطير لا تسري
أناة وحلماً وانتظاراً بهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضع الغمر
أظن صروف الدهر والجهل منكم ... ستحملكم مني على مركب وعر
قطري بن الفجاءة: من البسيط
يا رب ظل عقاب قد وقيت بها ... مهري من الشمس والأبطال تجتلد
ورب يوم حمى أرعيت عقوته ... خيلي اقتساراً وأطراف القنا قصد
ويوم لهو لأهل الخفض ظل به ... لهوي اصطلاء الوغى وناره تقد
مشهراً موقفي والحرب كاشفة ... عنها القناع وبحر الموت يطرد
ورب هاجرة تغلي مراجلها ... نحرتها بمطايا غارة تخد
تجتاب أودية الأفراع آمنة ... كأنها أسد يقتادها أسد
فإن أمت حتف أنفي لا أمت كمداً ... على الطعان وقصر العاجز الكمد
ولم أقل لم أساق الموت شاربه ... في كأسه والمنايا شرع ورد
وقال أبو سعيد السكري: بلغني أن أبا دلف لحق أكراداً قطعوا في عمله، وقد أردف فارس منهم رفيقاً له خلفه فطعنهما جميعاً فأنفذهما، فتحدث الناس أنه أنفذ بطعنة واحدة فارسين، فلما قدم من وجهه دخل إليه بكر بن النطاح فأنشده: من الكامل
قالوا وينظم فارسين بطعنة ... يوم اللقاء ولا يراه جليلا
لا تعجبوا لو أن طول قناته ... ميل إذن نظم الفوارس ميلا

لما غدر أصحاب مصعب به يوم مسكن، وقتل إبراهيم بن الأشتر، بقي مصعب وابنه عيسى في نفر قليل، فدعا محمد بن مروان عيسى بن مصعب، فقال له أبوه: انظر ما يريد محمد، فدنا منه فقال له: إني لكم ناصح، إن القوم خاذلوكم ولك الأمان، فأبى قبول ذلك، وناشده فرجع إلى أبيه فأخبره، فقال له: إني أظن أن القوم سيفون فإن أحببت أن تأتيهم فأتهم، فقال: والله لا يتحدث نساء قريش أني خذلتك، ورغبت بنفسي عنك، قال: فتقدم حتى احتسبك، فتقدم وتقدم ناس معه فقتل وقتلوا، وترك أهل العراق مصعباً حتى بقي في سبعة، وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى فشد عليه مصعب فقتله، وشد على الناس فانفرجوا، ثم رجع فقعد على مرفقه ديباج، ثم جعل يقوم عنها ويحمل على أهل الشام فيفرجون له، ثم رجع فقعد على المرفقة، ففعل ذلك مراراً، ودعاه عبيد الله بن زياد ابن ظبيان، إلى المبارزة فقال اغرب يا كلب، وشد عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه، فرجع عبيد الله فعصب رأسه، وجاء ابن أبي فروة كاتب مصعب فقال له: جعلت فداك، قد تركك الناس، وعندي خيل مضمرة فاركبها وانج بنفسك، فدفع في صدره وقال: ليس أخوك بالعبد، ورجع ابن ظبيان فحمل عليه هو وروق بن زائدة بن قدامة، ونادى يا لثارات المختار، فقتله وحمل رأسه إلى عبد الملك، فلما وضعه بين يديه سجد، قال ابن ظبيان: فهممت والله أن أقتله حين سجد، فأكون أفتك العرب، قتلت ملكين في يوم واحد، ثم وجدت نفسي تنازعني إلى الحياة فأمسكت.
وقال عبد الملك يوماً لجلسائه: من أشجع الناس؟ فاكثروا في هذا المعنى، فقال: أشجع الناس مصعب بن الزبير، جمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وأمة الحميد بنت عبد الله بن عاصم، وولي العراقين، وزحف إلى الحرب فبذل له الأمان والحباء والولاية والعفو عما خلص في يده، فأبى قبول ذلك واطرح كل ما كان مشغولاً به من ماله وأهله وراء ظهره، وأقبل بسيفه يقاتل قدماً، وما بقي معه إلا سبعة، حتى قتل كريماً.
وكان مصعب لما قدم الكوفة يسأل عن الحسين بن علي عليهما السلام وعن قتله، فجعل عروة بن المغيرة يحدثه عن ذلك، فقال متمثلاً بقول سليمان بن قتة: من الطويل
إن الأولى بالطف من آل هاشم ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
قال عروة: فعلمنا أن مصعباً لا يفر أبداً.
وقال خلاد بن فروة السدوسي: لما كان يوم السبخة حين عسكر الحجاج بازاء شبيب الشاري، قال له الناس: لو تنحيت أيها الأمير عن هذه السبخة فقال لهم: ما تنحوني إليه والله أنتن، فهل ترك مصعب لكريم مفراً؟ ثم تمثل بقول الكلحبة: من الطويل
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا

حدث شيخ من أهل مكة قال: لما أتى عبد الله بن الزبير قتل مصعب أضرب عن ذكره أياماً حتى تحدثت به إماء مكة في الطريق، ثم صعد المنبر فجلس عليه ملياً لا يتكلم، فنظرت إليه والكآبة على وجهه وجبينه يرشح عرقاً، فقلت لآخر إلى جنبي: ما له لا يتكلم؟ أتراه يهاب المنطق؟ فوالله إنه لخطيب فما تراه يهاب؟ قال: أراه يريد أن يذكر قتل مصعب سيد العرب، فهو يفظع بذلك، وغير ملوم هو. فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، مالك الدنيا والآخرة، يعز من يشاء ويذل من يشاء، إلا أنه والله لا يذل من كان الحق معه وإن كان مفدراً ضعيفاً، ولا يعز من كان الباطل معه وإن كان في العدد والكثرة. ثم قال: إنه أتانا الخبر من العراق بلد الغدر والشقاق، فساءنا وسرنا، أتانا أن مصعباً قتل، رحمة الله عليه ومغفرته، فأما الذي حزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعد ذوو الرأي والدين إلى جميل الصبر، وأما الذي سرنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة، وأن الله عز وجل جاعل لنا وله خيرة في ذلك، إن شاء الله. إن أهل العراق أسلموه وباعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه وأخسره، أسلموه إسلام الجمل المخطم فقتل، ولئن قتل فلقد قتل أبوه وعمه وأخوه وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله ما نموت حتف أنوفنا، ما نموت إلا قتلاً قصعاً قصعاً بين قصد الرماح وتحت ظلال السيوف، ليس كما تموت بنو مروان، والله ما قتل رجل منهم في جاهلية ولا إسلام. وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ولا ملكه، فإن تقبل الدنيا علي لا آخذها أخذ البطر الأشر، وإن تدبر عني لا أبكي عليها بكاء الخرف المهتر؛ ثم نزل.
قال المفضل الضبي: خرجت مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن فلما صار بالمربد وقف على دار سليمان بن علي، فأخرج له صبيان من ولده فضمهما إليه وقال: هؤلاء والله منا ونحن منهم، إلا أن آباءهما فعلوا بنا وصنعوا، وذكر كلاماً يعتد عليهم فيه بالإساءة، ثم توجه لوجهه وتمثل: من المنسرح
مهلاً بني عمنا ظلامتنا ... إن بنا سورة من القلق
لمثلكم تحمل السيوف ولا ... تغمز أحسابنا من الرفق
إني لأنمي إذا انتميت إلى ... عز عزيز ومعشر صدق
بيض سباط كأن أعينهم ... تكحل يوم الهياج بالزرق
فقلت: ما أفحل هذه الأبيات، فلمن هي؟ قال: لضرار بن الخطاب، قالها في يوم جزع الخندق في اجتماع المشركين على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، وتمثل بها علي عليه السلام يوم صفين، والحسين بن علي عليهما السلام يوم قتل، وزيد بن علي، ولحق القوم ثم مضى إلى باخمرى، فلما قرب منها أتاه نعي أخيه محمد فتمثل: من الكامل
نبئت أن بني ربيعة أجمعوا ... أمراً خلا لهم ليقتل خالدا
إن تقتلوني لا تصب أرماحكم ... ثأري ويسعى القوم سعياً جاهدا
أرمي الطريق وإن صددت لضيعة ... وأنازل البطل الكمي الحاردا
فقلت: لمن هذه الأبيات؟ فقال للأحوص بن جعفر بن كلاب تمثل بها يوم شعب جبلة، وهو اليوم الذي لقيت فيه قيس تميماً. قال: وأقبلت عساكر أبي جعفر فقتل من أصحابه وقتل من القوم حتى كاد الظفر يكون له قال المفضل، فقال لي: حركني بشيء فأنشدته هذه الأبيات: من الطويل
ألا أيها الناهي فزارة بعدما ... أجدت أسيراً إنما أنت حالم
أبى كل حر أن يبيت بوتره ... ويمنع منه النوم إذا أنت نائم
أقول لفتيان العشي تروحوا ... على الجرد في أفواههن الشكائم
قفوا وقفة من يحي لا يخز بعدها ... ومن يخترم لا تتبعه اللوائم
وهل أنت إن باعدت نفسك منهم ... لتسلم فيما بعد ذلك سالم
فقال لي: أعد، فتنبهت فقلت: أو غير ذلك؟ فقال: لا أعدها فأعدتها فتمطى في ركابيه حتى خلته قد قطعهما، فطعن رجلاً وطعنه آخر فقلت: أتباشر الحرب بنفسك والعسكر منوط بك؟ فقال إليك يا أخا بني ضبة، كأن عويفاً أخا بني فزارة كان ينظر إلينا في يومنا هذا حين يقول: من المتقارب
ألمت خناس وإلمامها ... أحاديث نفس وأسقامها
يمانية من بني مالك ... تطاول في المجد أعمامها

وإن لنا أصل جرثومة ... ترد الحوادث أيامها
ترد الكتيبة مفلولة ... بها أفنها وبها ذامها
قال: وجاءه السهم العائر فشغله عني.
قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لمعاوية: إني لأعجب لك، تتقدم حتى أقول: أشجع الناس، وتتأخر حتى أقول: أجبن الناس، فقال له: إنني أتقدم ما كان التقدم حزماً، وأتأخر ما كان التأخر حزماً كما قيل: من الطويل
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة ... فإن لم تكن لي فرصة فجبان
محمد بن عبد الملك بن صالح بن علي الهاشمي: من الكامل
وكتيبة كالليل بل هي أظلم ... فيها شعار بني النزال تقدموا
تذر الأكام صفاصفاً مسلوكة ... والبحر رنقاً ماؤه يتقسم
ولها يمين لا تشل بنانها ... ولها شمال صوب درتها الدم
وكأن بين يمينها وشمالها ... ناراً بأرواح الكماة تضرم
نهنهت أولاها بضرب صادق ... هبر كما عط الرداء المعلم
وعلي سابغة الذيول كأنها ... سلخ كسانيه الشجاع الأرقم
كان أبو موسى الأشعري محاصراً تستر، فخرج رجل من العجم فدعا إلى البراز، فخرج إليه شيخ مسن من باهلة يدعى حليل بن أوس على فرس عجفاء، فقال أبو موسى: ممن الرجل؟ قال: من باهلة، فقال ارجع يا أخا باهلة فإنك بال على بال، وأحجم الناس عن الرجل فدعا ثانية فخرج الباهلي فرده أبو موسى، فأبى أن يرجع ومضى، فقال أبو موسى: اللهم إنه في حل، وتطاعنا فقتله الباهلي وأقبل يجر رمحه ويقول: من الوافر
رآني الأشعري فقال بال ... على بال ولم يعلم بلائي
ومثلك قد عرضت الرمح فيه ... فبان بدائه وشفيت دائي
إذا اجتمع العشائر واستكفوا ... فجامعني إلى ظل اللواء
فقال أبو موسى: إني أرد بأساً يا أخا باهلة، فقال الباهلي: وأخو باهلة لم يرد بأساً يا أخا الأشعريين. فبلغ الخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان لا يخفى عنه ما يجري بين الناس، فكتب إلى أبي موسى يلومه ويأمره أن يعرف لأهل البلاء بلاءهم وينزلهم منازلهم.
كان مالك بن الريب مع سعيد بن عثمان بن عفان حين شخص إلى خراسان وكان له منه رزق واسع، فبينا هم في بعض الطريق افتقدوا صاحب إبل سعيد والذي يحلب لهم نوقه واحتاجوا إلى اللبن، فقال مالك لبعض غلمان سعيد: أدن مني الفلانة ناقة كانت لسعيد غزيرة فأدناها منه فاحتلبها، فإذا أحسن الناس حلباً وأغزره درة، فانطلق الغلام فاخبر بذلك سعيداً فقال سعيد لمالك: هل لك أن تقيم في إبلي وأجزل لك الرزق إلى ما أرزقك، وأضع عنك الغزو؟ فقال مالك: من الطويل
وإني لأستحيي الفوارس أن أرى ... بأرض العدى بو المخاض الروائم
وإني لأستحيي إذا الحرب شمرت ... أن ارخي دون الحرب ثوب المسالم
وبعدها أبيات تتضمن العزم ذكرت مع أمثالها في مكان آخر من هذا الباب.
قيس بن الخطيم: من الطويل
ومنا الذي آلى ثلاثين ليلة ... عن الخمر حتى زاركم في الكتائب
فلما هبطنا الحرث قال أميرنا ... حرام علينا الخمر ما لم نضارب
فسامحه منا رجال أعزة ... فما برحوا حتى أحلت لشارب
ويوم بعاث ألحقتنا سيوفنا ... إلى حسب في جذم غسان ثاقب
يعرين بيضاً حين نلقى عدونا ... ويغمدن حمراً ناحلات المضارب
أطاعت بنو عوف أميراً نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب
ترى قصد المران تلقى كأنها ... تذرع خرصان بأيدي الشواطب
وأضربهم يوم الحديقة حاسراً ... كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
وفد ابن أبي محجن على معاوية فقام خطيباً فأحسن، فحسده، فأراد أن يكسره فقال: أأنت الذي أوصاك أبوك بقوله: من الطويل
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تروي عظامي بعد موني عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
فقال: بل أنا الذي يقول أبي: من البسيط
لا تسأل الناس ما مالي وكثرته ... وسائل الناس ما جودي وما خلقي

أعطي الحسام غداة الروع حصته ... وعامل الرمح أرويه من العلق
ويعلم الناس أني من سراتهم ... إذا سما بصر الرعديدة الفرق
وأطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... واكتم السر فيه ضربة العنق
عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي المغربي:من الطويل
وملمومة قد لثم النقع وجهها ... وأثقلها حمل الوشيج المقوم
تثاقل في طود من الخيل أرعن ... وتسبح في بحر من البيض مفعم
رداح كما مادت رداح خريدة ... عروس المنايا زينها نقط الدم
محمد بن إبراهيم التميمي الكموني المغربي: من الطويل
فتى الخيل يكسوها الغبار غلائلاً ... إذا صممت فيه وهن عوابس
طوال عليهن الطوال رماحهم ... عتاق عليهن العتاق الأبالس
عبد الله بن محمد الأزدي المعروف بالعطار المغربي: من الكامل
ويبيت ملتحف العجاج كأنه ... قبس يضيء سناه تحت دخان
أبو عبد الله القزاز المغربي: من الخفيف
وإذا شمرت بنو الحرب عن سا ... ق ونادى الأبطال بالأبطال
وتدانى خطو الجواد لقرب ال ... طعن حتى كأنه في شكال
كان فيه ثبت الجنان بعيد النف ... س في ضنكة من الأوجال
يتلقى حد الحديد بوجه ... مشرق تحت برقع من جمال
القاضي ابن الربيب المغربي: من الطويل
يفل الخميس المجر مصلت رأيه ... إذا رأي ثبت القوم فال وأحجما
إذا اشتجرت فيها الأسنة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الموت أتحما
ويروى أعصما
ومهما انبرت أقلامه برت الطلى ... ورد بها ظفر الخطوب مقلما
قال عمر بن عبد العزيز لابن أبي مليكة: صف لنا عبد الله ابن الزبير، فإنه ترمرم على أصحابنا فتغشمروا عليه، فقال: والله ما رأيت جلداً قط ركب على لحم، ولا لحماً على عصب، ولا عصباً على عظم، مثل جلده ولحمه وعظمه، ولا رأيت نفسا بين جنبين مثل نفس ركبت بين جنبيه، ولقد قام يوماً إلى الصلاة فمر حجر من حجارة المنجنيف بين لحييه وصدره، فوالله ما خشع لها بصره، ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون الركوع الذي كان يركع؛ إن ابن الزبير كان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها، ولقد كان يركع ويسجد كأنه ثوب مطروح.
أجارت أم هانئ بنت أبي طالب الحارث بن هشام يوم الفتح، فدخل عليها علي عليه السلام فأخذ السيف ليقتله، فوثبت فقبضت على يده، فلم يقدر أن يرفع قدميه من الأرض، وجعل يتفلت منها ولا يقدر، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليها فتبسم وقال: قد أجرنا من أجرت، ولا تغضبي علياً فإن الله يغضب لغضبه، وقال: يا علي أغلبتك امرأة؟ فقال: يا رسول الله ما قدرت أن أرفع قدمي من الأرض، فضحك النبي عليه السلام وقال: لو أن أبا طالب ولد الناس لكانوا شجعاناً.
لما قتل المأمون ابن عائشة قال: من الطويل
أنا النار في أحجارها مستكنة ... متى ما يهجها قادح تتضرم
رأى حكيم مدينة حصينة بسور محكم فقال: هذا موضع النساء لا موضع الرجال.
وقال المنذر بن ماء السماء: حصون العرب الخيل والسلاح، وقال الشاعر: من الطويل
أرى الناس يبنون الحصون وإنما ... بقية آجال الرجال حصونها
وقال سعد بن قرط العبقسي: من الطويل
ولما رأيت الموت لا ستر دونه ... يحوم على هامات بكر بن وائل
عطفت عليهم مهرة أعوجية ... وناديت عبد القيس دون القبائل
فجاءوا كأسد الغاب في مرجحنة ... لها ذمرات بالقنا والمناصل
ففرجت عن بكر وكانت بحالة ... مخنقة للقوم ذات غوائل
لأني وبكراً من ربيعة في الذرى ... إذا خصل الأقوام أهل الفضائل
وقال السندي: من الطويل
ويوم كيوم البعث ما فيه حاكم ... ولا عاصم إلا قناً ودروع
حبست به نفسي على موقف الردى ... حفاظاً وأطراف الرماح شروع
ولن يستوي عند الملمات إن عرت ... صبور على مكروهها وجزوع

قال سيف بن ذي يزن لأنوشروان حين أعانه بوهرز الديلمي ومن معه: أيها الملك أين تقع ثلاثة آلاف من خمسين ألفاً، فقال: ياعربي، كثير الحطب يكفيه قليل النار.
داود بن رزين الواسطي في الرشيد: من الكامل
أكال أفئدة الرجال كأنما ... نضح الدماء بساعديه عبير
يمشي العرضنة في الحروب كأنه ... أسد لهيبته القلوب تطير
صمصامة عمرو بن معدي كرب أشهر سيوف العرب، وممن تمثل به نهشل بن حرى، وأهداه عمرو لخالد بن سعيد بن العاص عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن وقال: من الوافر
خليلي لم أخنه ولم يخني ... إذا ما صاب أوساط العظام
خليلي لم أهبه من قلاه ... ولكن المواهب للكرام
حبوت به كريماً من قريش ... فسر به وصين عن اللئام
وودعت الصفي صفي نفسي ... على الصمصام أضعاف السلام
فلم يزل في آل سعيد حتى اشتراه خالد بن عبد الله القسري بمال خطير لهشام وكان قد كتب إليه، فلم يزل عند بني مروان، ثم طلبه السفاح والمنصور والمهدي فلم يجدوه، وجد في طلبه الهادي حتى ظفر به وأعطاه لأبي الهول الحميري الشاعر، وقد وصفه هو وغيره من الشعراء وقال فيه: من الطويل
حسام غداة الروع ماض كانه ... من الله في قبض النفوس رسول
وكان على الصمصامة مكتوباً: من الكامل
ذكر على ذكر يصول بصارم ... ذكر يمان في يمين يمان
وروي أنه وقع إلى المتوكل فدفعه إلى باغر التركي فقتله به يوم قتل.
وأشهر منه ذو الفقار كان لمنبه بن الحجاج فصار صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، ولم يزل في بني علي عليه السلام يتوارثونه حتى وقع إلى بني العباس. قال الأصمعي: رأيت هارون متقلداً سيفاً، فقال لي: يا أصمعي ألا أريك ذا الفقار؟ اسلل سيفي هذا، فسللته فرأيت فيه ثماني عشرة فقرة. قال المبرد في كتاب الاشتقاق: كانت فيه حزوز مطمئنة شبهت بفقار الظهر.
وسيوف العرب المسماة كثيرة، لم أجد فائدة في ذكرها فألغيته، وسترد صفة السيوف والسلاح فيما بعد حيث يليق بها، وهو يغني عن الإشارة إليه ها هنا.
ابن الرومي: م السريع
لم أر شيئاً حاضراً نفعه ... للمرء كالدرهم والسيف
يقضي له الدرهم حاجاته ... والسيف يحميه من الحيف
خوف علي عليه السلام من الغيلة فقال: إن علي من الله جنة حصينة، فإذا جاء يومي انفرجت عني، فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم.
قال الاسكندر في الحرب: احتل للشمس والريح بأن تكونا لك ولا تكونا عليك؛ حبب إلى عدوك الفرار بأن لا تتبعهم إذا انهزموا.
قال بعض العرب: ما لقينا كتيبة فيها علي بن أبي طالب إلا أوصى بعض إلى بعض.
إبراهيم بن عبد الله بن الحسن في محمد أخيه حين قتل: من الطويل
سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا ... فإن بها ما يدرك الطالب الوترا
وإنا لقوم ما تفيض دموعنا ... على هالك منا ولو قصم الظهرا
ولست كمن يبكي أخاه بعبرة ... يعصرها من جفن مقلته عصرا
ولكنني أشفي فؤادي بغارة ... تلهب في قطري كنائنها الجمرا
أم الحباب بن غالب الكلابية: من الطويل
إذا فزعوا طاروا إلى كل شطبة ... تكاد إذا صل اللجام تطير
وزغف مثناة دلاص كأنها ... إذا أشرجت فوق الكمي غدير
لم يشهد أنس بن النضر عم أنس بن مالك بدراً، فلم يزل متحسراً يقول: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه، إن أراني الله مشهداً آخر ليرين ما أصنع، فلما كان يوم أحد قال: واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، قالت أخته الربيع بنت النضر: فما عرفته إلا ببنانه.
لما خرج عبد الله بن رواحة إلى مؤتة قيل له: نسأل الله أن يردك سالماً، فقال: من البسيط
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تنضح الزبدا
طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدتي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا

في وصف جبان: يحسب خفوق الريح قعقعة الرماح؛ فر فرار الليل من وضح النهار.
قيل لأبي مسلم صاحب الدعوة: في بعض الكتب النازلة من قتل بالسيف فبالسيف يموت. فقال: الموت بالسيف أحب إلي من اختلاف الأطباء، والنظر في الماء، ومقاساة الداء والدواء، فذكر ذلك للمنصور فقال: صادف منيته كما أحب.
قيل لمحمد بن الحنفية: كيف كان علي عليه السلام يقحمك في المآزق ويولجك في المضايق دون الحسن والحسين؟ فقال: لأنهما كانا عينيه وكنت يديه، فكان يقي عينيه بيديه.
قال ابن شبرمة، قلت لأبي مسلم حين أمر بمحاربة عبد الله ابن علي: أيها الأمير إنك تريد عظيماً من الأمور، فقال: يا ابن شبرمة، إنك بحديث تغلق معانيه، وشعر توضح قوافيه، أعلم منك بالحرب، إن هذه دولة قد اطردت أعلامها، وامتدت أيامها وخفقت ألويتها، واتسعت أفنيتها، فليس لمناويها والطامع فيها يد تنيله شيئاً من قوة الوثوب عليها، فإذا تولت مدتها قدح الوزغ بذنبه فيها.
كان شبيب بن شبة المنقري أحد الخطباء المصاقع، فأمره المهدي بقتل رجل من أسارى الروم فأبى، فقال أبو الهول الحميري: من الطويل
فزعت من الرومي وهو مقيد ... فكيف إذا لاقيته وهو مطلق
فنح شبيباً عن قراع كتيبة ... وأدن شبيباً من كلام يلزق
فلم يخطب بعد هذا البيت خطبة إلا وفيها اضطراب.
كان عبد الله بن خازم من الشجاعة بالمكان المشهور، وكان يفرق من الجرذ إذا رآه، ويقال: إن هذه جبلة موجودة في قوم من الشجعان، فبينا هو عند عبيد الله بن زياد إذا هو بجرذ أبيض دخلوا به للتعجب، فتجمع ابن حازم حتى عاد كأنه فرخ، واصفر كأنه جرادة، فقال عبيد الله بن زياد: أبو صالح يعصي الرحمن، ويتهاون بالسلطان، ويقبض على الثعبان، ويمشي إلى الأسد، ويلقى الرماح بوجهه، وقد اعتراه من جرذ ما ترون، أشهد أن الله على كل شيء قدير.
مزرد: من الطويل
فقد علمت فتيان ذبيان أنني ... أنا الفارس الحامي الذمار المقاتل
وأني أرد الكبش والكبش جامع ... وأرجع رمحي وهو ريان ناهل
جعفر بن علبة: من الطويل
أرادوا ليثنوني فقلت تجنبوا ... طريقي فما لي حاجة من ورائيا
وقد أكثر المتنبي من ذكر الشجاعة والحماسة، فأضفت ما اخترته من ذلك بعضه إلى بعض: من الطويل
أحقهم بالسيف من ضرب الطلى ... وبالأمر من هانت لديه الشدائد
وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد
تبكي عليهن البطاريق في الدجى ... وهن لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
وله أيضاً: من الوافر
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد
وله أيضاً: من البسيط
وفارس الخيل من خفت فوقرها ... في الدرب والدم في أعطافها دفع
وأوحدته وما في قلبه قلق ... وأغضبته وما في لفظه قذع
لا يعتقي بلد مسراه عن بلد ... كالموت ليس له ري ولا شبع
حتى أقام على أرباض خرشنة ... تشقى به الروم والصلبان والبيع
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
تهدي نواظرها والحرب مظلمة ... من الأسنة نار والقنا شمع
لا تحسبوا من قتلتم كان ذا رمق ... فليس تأكل إلا الميت الضبع
من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع
وما حمدتك في هول ثبت له ... حتى بلوتك والأبطال تمتصع
فقد يظن شجاعاً من به خرق ... وقد يظن جباناً من به زمع
إن السلاح جميع الناس يحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع
وله أيضاً: من الطويل
وذي لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناج ولا الوحش المثار بسالم

تمر عليه الشمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم
ويخفى عليك الرعد والبرق دونه ... من الرعد في حافاته والهماهم
أرى دون ما بين الفرات وبرقة ... ضراباً يمشي الخيل فوق الجماجم
وطعن غطاريف كأن اكفهم ... عرفن الردينيات قبل المعاصم
وقال: من الخفيف
ولو أن الحياة تبقى لحي ... لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا
كل ما لم يكن من الصعب في الأن ... فس سهل فيها إذا هو كانا
تسمية أبطال العرب في الإسلام وقاتليهم: قد ذكر المتقدمون فرسان العرب وجعلوهم في طبقات، ولعل العصبية قدمت عندهم من يستحق التأخير والهوى أخر مستوجب التقديم، وعلى الحقيقة فلم يجتمع القوم في حلبة فيبين السابق من المسبوق، ولا لفتهم حرب فكشفت البطل من الفروق، والأولى كان أن يذكر القدم عصراً فالأقدم، ويجعل أهل كل عصر طبقة، فإن ذلك أسلم من الوقوع في أهوية التعصب، وأبعد من خطاء الهوى والتحزب، وأنا أسمي ها هنا فرسان الإسلام المشهورين زماناً بعد زمان، إذ كانت الأخبار عنهم مضبوطة، وألغى تسمية فرسان الجاهلية اكتفاء بما يجئ من ذكرهم في الباب الموسوم بأخبار العرب إن شاء الله.
الطبقة الأولى الذين أدركوا الجاهلية والإسلام: حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسد الله، قتل في غزاة أحد، رماه وحشي مولى جبير بن مطعم بحربة، ومثلت به قريش، ولاكت هند بنت عتبة بن عبد شمس كيده حنقاً على قتله أباها يوم بدر، كان فارس قريش غير مدافع، وبطلها غير منازع، عظم قتله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونذر أن يقتل به سبعين رجلاً من قريش، وكبر عليه في الصلاة سبعين تكبيرة.
علي بن أبي طالب واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته، مؤيد بالأيد الالهي، كاشف الكرب ومجليها، وموطد قواعد الإسلام ومرسيها، أجل من أن يقاس بغيره من الأبطال، أو يمثل بسواه من الشجعان، وآثاره وأخباره أشهر من أن ينبه عليها، وهو المقدم في الشجاعة على الناس كلهم بلا مرية ولا خلاف، ولو ذكرت بعض مواقفه لضاق عنها كتاب مفرد. قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي غيلة وهو في صلاة الصبح، وقيل: كان داخلاً إلى المسجد بالكوفة في الغلس، وذلك في تاسع عشر شهر رمضان سنة أربعين. ومات بعد ثلاث.
الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته. بطل لا يجاري، وسهم من سهام الله لا يباري، قتله عمرو بن جرموز التميمي بوادي السباع وقد انصرف من حرب الجمل مقلعا، اغتاله وهو في الصلاة فطعنه في جربان درعه، ولما لاح عمرو قال مولى الزبير: يا مولاي هذا فارس مقبل. فقال: ما يهولك من فارس؟ قال: إنه معد قال: وإن كان معدا. فلما قرب منه قال: وراءك قال: إنما بعثني من روائي لأعلم لهم حال الناس، فقال: تركتهم يضرب بعضهم بعضاً، فلما أحرم بالصلاة قتله، فقالت امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: من الكامل
غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير معرد

خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي سيف الله وسيف رسوله، بطل مذكور في الجاهلية والإسلام. وكان يوم أحد على الخيل خيل المشركين، وهو صاحب أهل الردة. قتل مالك بن نويرة، وفل جمع طليحة الأسدي لما تنبأ واشتدت شوكته، وزحف إلى مسيلمة الحنفي فكانت وقعة اليمامة، ولم يلق المسلمون مثلها، وقتل فيها عالم من الصحابة رضوان الله عليهم، وقتل مسيلمة لعنه الله، وكان الفتح لخالد. وطعن قوم على خالد منهم عمر بن الخطاب عند أبي بكر رضي الله عنه لما تزوج امرأة مالك بن نويرة بعد قتله وأنكروا فعله وأكبروه، فقال أبو بكر: لا أغمد سيفاً سله الله على أعدائه. وخالد الذي فتح دمشق وأكثر بلاد الشام، وله وقائع عظيمة في الروم أيد الله بها الإسلام، مات على فراشه، وكان يقول: لقد شهدت كذا وكذا زحفاً وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه أثر من طعنة أو ضربة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي فلا نامت عين الجبان. ويروى أنه عد بجسده ثمانون ما بين طعنة وضربة، فأما السهام فلم تكن تحصى، وكان يقول: ما ليلة أسر من ليلة يهدي إلي فيها عروس إلا ليلة أغدوا في صبيحتها إلى قتال عدو. وهو صاحب وقعة اليرموك، وكانت الروم في ثلاثمائة ألف.
عمرو بن معدي كرب الزبيدي: فارس من قدماء الفرسان جاهلي، له في الجاهلية مواقف مذكورة، وأسلم ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام، وشهد حروب الفرس وكان له فيها أثر ونكاية، وكان موصوفاً بالأيد، وقد ذكر بعض أوصافه في غير هذا المكان، وعمر حتى ضعف وارتعش، قيل: قتل بنهاوند في وقعة الفرس، وقيل: بل مات حتف أنفه، وكان بعيد الصوت مهيب اللقاء، وهو أشهر الفرسان ذكرا. وهو معدود في الشعراء المبرزين.
طليحة الأسدي: من أكبر الشجعان جاهلية وإسلاماً، أسلم ثم ارتد فتنبأ، وجمع جمعاً عظيماً وأغواهم، وكان يتكهن، ففل ذلك الجمع خالد بن الوليد، وعاد طليحة إلى الإسلام وشهد حرب القادسية وغيرها من الفتوح، وكانت له فيها آثار ومواقف.
سعد بن أبي وقاص الزهري، واسم أبي وقاص مالك: كان فارساً بطلاً رامياً، وهو أول من رمى في سبيل الله، ولما تخير عمر رضي الله عنه من الصحابة من يؤمره على قتال الفرس واستشار فيه قيل له: هو الليث عادياً سعد بن مالك، فبعثه حتى فتح العراق، ولما قتل عثمان اعتزل ولم يشهد الحرب بعده ومات حتف أنفه.
أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري الذي أخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه لما عرضه على الجماعة، وخرج أبو دجانة به وقد أعلم يتبختر بين الصفين، فقال صلى الله عليه وسلم: أنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع.
المثنى بن الحارثة الشيباني هو أول من افتتح حرب الفرس في قل من قومه.
أبو عبيد بن مسعود الثقفي قاتل الفيل يوم قس الناطف في حرب القادسية، وقد مضى خبره، وفيه كر الفيل عليه فقتله.
عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله: قال فيه صلى الله عليه وسلم: لا تؤذوني في عمار فعمار جلدة ما بين عيني، وقال فيه: الحق يدور مع عمار حيث دار، وأخبر أنه تقتله الفئة الباغية فقتل بصفين مع علي عليه السلام.
بديل بن ورقاء.
هاشم بن عتبة: من أكابر الشجعان، صاحب راية علي عليه السلام بصفين، وله فتح جلولاء، وهي الوقعة المشهورة مع الفرس.
مالك بن الحارث النخعي الأشتر: مات مسموماً في شربة من عسل، فقال معاوية: إن لله جنوداً منها العسل.
القعقاع بن عمرو طاعن الفيل في عينه يوم القادسية.
أيام بني أمية: الطبقة الثانية: عبد الله بن الزبير بن العوام: معروف بالأيد والبسالة والإقدام وهو قاتل جرجير ملك افريقية، وكان يرى أنه أشجع أهل عصره، قتله الحجاج بعد أن حوصر بمكة وأسلمه أصحابه وعشيرته، وصلبه، ويقال: أعرق العرب في القتل عمارة بن حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد، قتل عمارة وحمزة يوم قديد، قتلتهما الإباضية الخوارج، وقتل الحجاج عبد الله بن الزبير، وقتل عمرو بن جرموز الزبير، وقتلت بنو كنانة العوام، وقتلت خزاعة خويلداً.
أبو هاشم محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنفية: كان أبوه يلقيه في البهم ويتقي به العظائم، وكان شديد اليد ذا بأس عظيم، وكان ابن الزبير مع تقدمه في الشجاعة والنجدة يحسده ويعتريه أفكل إذا سمع ذكره، مات حتف أنفه بشعب رضوى.

عبد الله بن خازم السلمي والي خراسان: كبش مضر، قريعها وفارسها في عصره، قتله وكيع بن أبي سود الغداني بخراسان في الفتنة.
وكيع بن أبي سود الغداني قاتل عبد الله بن خازم: شجاع فاتك أهوج، ولي خراسان لما قتل عبد الله بن خازم ولم يضبط الأمر لهوجه، مات حتف أنفه.
مصعب بن الزبير: شجاع بطل جواد، جاد بماله وبنفسه، عرض عليه الأمان وولاية العراقين وقد خذله أصحابه وبقي في نفر، فأبى أن يقبل وطلب أن يمضي حميداً كريماً، قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان في الحرب التي كانت بينه وبين عبد الملك بن مروان بمسكن.
عبيد الله بن ظبيان قاتل مصعب: بطل فتاك مقدام.
عمير بن الحباب السلمي فارس الإسلام: قتلته بنو تغلب بجانب الثرثار في الحرب التي كانت بينهم وبين قيس، وفي ذلك يقول الأخطل: من الطويل
لعمري لقد لاقت سليم وعامر ... على جانب الثرثار راغية البكر
وفيه قال للجحاف السلمي: من الطويل
ألا سائل الجحاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر
فحمي الجحاف وجمع فأغار على بني تغلب بالبشر، وهو ماء لهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة وبقر بطون النساء، فقال الأخطل: من الطويل
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعول
فإن لم تغيرها قريش بحملها ... يكن عن قريش مستراد ومرحل
شعيب بن مليل التغلبي: قتله عمير بن الحباب يوم قتل عمير وقطعت رجله، فقاتل وهو يقول: من الرجز
قد علمت قيس ونحن نعلم ... أن الفتى يفتك وهو أجذم
ولما رآه عمير صريعاً قال: من سره أن ينظر إلى الأسد معقوراً فلينظر إلى شعيب.
إبراهيم بن مالك بن الحارث: وهو ابن الأشتر الآخذ بثأر الحسين ابن علي، لقي عبيد الله بن زياد في أربعة آلاف رجل، وعبيد الله في سبعين ألفاً، فقتله بيده، وهزم جيشه، وحارب مع مصعب حتى لم يبق سواهما، وبذل له الأمان والولاية على أي بلد شاء فلزم الوفاء لمصعب، وقتل أمامه يوم مسكن.
مسلمة بن عبد الملك بن مروان: فحل بني أمية وفارسها وقريعها ووالي حروبها، مات حتف أنفه، جلس يقضي بمصر بين الناس فكلمته امرأة فلم يقبل عليها فقالت. ما رأيت أقل حياء من هذا قط، فكشف عن ساقه فإذا فيها أثر تسع طعنات، فقال لها: هل ترين أثر هذا الطعن؟ والله لو أخرت رجلي قيد شبر ما أصابتني واحدة منهن، وما منعني من تأخيرها إلا الحياء، وأنت تنحليني قلته.
أحمر قريش عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي.
عبيد الله بن الحر الجعفي: شاعر شجاع فاتك، كان لا يعطي الأمراء طاعة، له وقائع عظيمة هائلة، قتل وقد تفرق أصحابه في بعث وبقي في عشرة، صرعه أبو كدينة الباهلي، ثم إنه ألقى نفسه في سفينة ليعبر الفرات فعالجه الملاح فاتحدا فغرقا جميعاً.
جحدر بن ربيعة العكلي: لص فاتك شاعر أعيا الحجاج حتى احتال له فحصل عليه وحبسه، ثم اصطاد سبعاً ضارياً وجعله في حفيرة وألقى جحدراً عليه مقيداً وبيده سيف، فقتل الأسد وقال: من الرجز
ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف ومحك
فأطلقه الحجاج، ومات حتف أنفه.
المهلب بن أبي صفرة، واسمه ظالم، وأولاده كلهم أنجاد أبطال، وأشهرهم بالنجدة المغيرة، وكان المهلب يجمع إلى النجدة والبسالة الرأي والحزم، وله في الحرب مكايد مشهورة، وصبر مسلم إليه غايته، ووقائعه في الخوارج أبادتهم بعد أن كانوا استولوا على المسلمين. وكان سيداً كريماً، وهو أزدي عتكي، مات حتف أنفه، وكذلك ابنه المغيرة، وفيه يقول زياد الأعجم: من الكامل
مات المغيرة بعد طول تعرض ... للقتل بين أسنة وصفائح
القتال الكلابي واسمه عبد الله بن المجيب بن المضرحي، يكنى أبا المسيب، وقيل اسمه عبادة، وقيل عتبة: بطل فاتك جنى جناية فخافها، فأقام في عماية، وهو جبل، عشر سنين يأكل من صيده، وألفه نمر هناك فكان رفيقه.
وكان في الخوارج فوارس مشهورون لا تلبث لهم الرجال وذكرهم يطول ويخرج عما أدرناه فمنهم: أبو بلال مرداس خرج في أربعين فهزم الفين.

وشبيب الخارجي الذي غرق في الفرات وكان أصحابه لا يبلغون ألفا، نذرت امرأته غزالة أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ في إحداهما البقرة وفي الثانية آل عمران، فعبر بها جسر الفرات وأدخلها الجامع، ووقف على بابه يحميها حتى وفت بنذرها، والحجاج بالكوفة في خمسين ألفاً.
ومنهم قطري بن الفجاءة المازني: قتل في بعض الوقائع بين الخوارج والمهلب، وكان قطري رأس الخوارج، وخاطبوه بإمرة المؤمنين وعظموه وبجلوه، ويكنى أبا نعامة، وأشعاره في الشجاعة تدل على مكانه منها.
الدولة الهاشمية: الطبقة الثالثة: معن بن زائدة الشيباني: قتلته الخوارج بسجستان في أيام المهدي.
يزيد بن مزيد الشيباني.
الوليد بن طريف الشيباني الخارجي: قتله يزيد بن مزيد، وخرجت أخته لتثأر به فضرب يزيد قطاة فرسها وقال: اغربي فقد فضحت العشيرة.
إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن: قتل بباخمرى في الوقعة بينه وبين عيسى بن موسى، والمنصور وراءه، وأتاه سهم غرب بعد أن ظفر وكسر الجيش.
عمر بن حفص هزارمرد، وهو حفص بن عثمان بن قبيصة أخي المهلب، قيل إنه كان يتصيد فتبع حمار وحش، وما زال يركض إلى أن حاذاه، فجمع جراميزه ووثب من الفرس فصار على ظهره، وما زال يحز عنقه بسيف أو سكين في يده حتى قتله.
أو دلف القاسم بن عيسى العجلي: فارس بطل شاعر مغن نديم جامع لما تفرق في غيره، طعن فارسين رديفين فأنفذهما، وقتل قرقوراً الشاري، وكان من المشهورين بالشدة، وجاء برمحه يحمله أربعة نفر.
المعتصم أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد: فارس بني العباس وأشدهم بأسا، طعنه رجل مرة فأمال ظهره في الرمح فقصفه، وكان يسمي ما بين سبابته والوسطى المقطرة، واعتمد به على عضد رجل فكسره، وكان يشد يده على كتابة الدينار فيمحوها، ويأخذ العمود الحديد فيلويه حتى يصير طوقاً في العنق، وهمته في فتوحه تناسب شدته في جبلته.
بكر بن النطاح الحنفي: فاتك شاعر نجد، له خبر مع أبي لف يدل على حميته ونجدته، لم يزل معه يمتدحه ويحارب بين يديه حتى مات.
نوادر هذا الباب قال أبو دلامة: أتي بي المنصور أو المهدي وأنا سكران، فحلف ليخرجني في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة، فلما التقى الجمعان قلت لروح: أم والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثراً ترتضيه، فضحك وقال: والله العظيم لأدفعن إليك ذلك ولآخذنك بالوفاء بشرطك، ونزل عن فرسه فنزع سلاحه ودفعهما إلي، ودعا بغيرهما فاستبدل به، فلما حصل ذلك في يدي وزالت عني حلاوة الطمع قلت له: أيها الأمير هذا مقام العائذ بك، وقد قلت بيتين فاسمعهما قال: هات، فأنشدته: من الكامل
إني استجرتك أن أقدم في الوغى ... لتطاعن وتنازل وضراب
فهب السيوف رأيتها مشهورة ... فتركتها ومضيت في الهراب
ماذا تقول لما يجيء ولا يرى ... من بادرات الموت في النشاب

فقال: دع ذا عنك وستعلم، وبرز رجل من الخوارج يدعو إلى المبارزة فقال: اخرج إليه يا أبا دلامة، فقلت: أنشدك الله أيها الأمير فإنه أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا، فقال: لا بد من ذاك، فقلت له: أنا والله جائع ما تنبعث مني جارحة من الجوع فمر لي بشيء آكله ثم أخرج، فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعليه فرو، وقد أصابه المطر فابتل، وأصابته الشمس فاقفعل، وعيناه تقدان، فأسرع إلي فقلت له: على رسلك، فوقف فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟ قال: لا، قلت: أفتستحل أن تقتل رجلاً على دينك؟ قال: لا، قلت: أتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتله إلى دينك؟ قال: لا، فاذهب عني إلى لعنة الله، فقلت: لا أفعل أو تسمع مني، قال: هات، قلت: هل كان بيننا قط عداوة أو ترة أو تعرفني بحال تحفظك علي، أو تعرف بين أهلي وأهلك وتراً؟ قال: لا والله، قلت: ولا أنا والله لك إلا على جميل، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين بدينك وأريد السوء لمن أراده بك، قال: يا هذا جزاك الله خيراً فانصرف، قلت: إن معي زاداً وأريد مؤاكلتك لتؤكد المودة بيننا، ونري أهل العسكرين هوانهم علينا، قال: فافعل، فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا، وجمعنا أرجلنا على معارفها، وجعلنا نأكل والناس قد غلبوا ضحكاً، فلما استوفينا ودعني، ثم قلت له: إن هذا الجاهل إن أقمت على طلب المبارزة ندبني لك، فتتعب وتتعبني، فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل، قال: قد فعلت، ثم انصرف وانصرفت، فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني، فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك، فأمسك، وخرج آخر يدعو إلى البراز فقال لي: اخرج إليه، فقلت: من البسيط
إني أعوذ بربي أن تقدمني ... إلى القتال فيخزى بي بنو أسد
إن البراز إلى الأقران أعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد
إن المهلب حب الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خلقت فرداً فلم أجد
فضحك وأعفاني.
ولأبي دلامة في المعنى: من الطويل
ألا لا تلمني إن فررت فإنني ... أخاف على فخارتي أن تحطما
فلو أنني ابتاع في السوق مثلها ... وجدك ما باليت أن أتقدما
وقال آخر: من الوافر
يقول لي الأمير بغير علم ... تقدم حين جد بنا المراس
وما لي إن أطعتك من حياة ... وما لي غير هذا الرأس راس
خطب ثمامة العوفي امرأة فسألت عن حرفته فقال: من الطويل
وسائله عن حرفتي قلت حرفتي ... مقارعة الأبطال في كل مأزق
وضربي طلى الأبطال بالسيف معلماً ... إذا زحف الصفان تحت الخوافق
فلما قرأت الشعر قالت للرسول قل له: فديتك أنت أسد فاطلب لنفسك لبؤة، فإني ظبية أحتاج إلى غزال.
دخل أعرابي البصرة في يوم جمعة، والناس في الصلاة، فركع معهم فزحموه، فرفع يده ولطم الذي يليه، وأخذ يزاحم ويقول في صلاته: من الرجز
إن تزحماني تجداني مزحما ... عبل الذراعين شديداً ملطما
لما أحضر عبد الملك بن مروان حلحة الفزاري وسعيد بن أبان ابن عيينة بن حصن الفزاري ليقيد منهما، قال لحلحلة: صبراً حلحل، فقال: أي والله: من الرجز
أصبر من ذي ضاغط عركرك ... ألقى بواني زوره للمبرك
ثم قال لابن الأسود الكلبي أجد الضربة، فإني ضربت أباك ضربة أسلحته فعددت النجوم في سلحته، ثم قال عبد الملك لسعيد صبراً سعيد، فقال: من الرجز
أصبر من عود بجنبيه جلب ... قد أثر البطان فيه والحقب
لما يئس من وكيع بن أبي سود أحد بني غدانة بن يربوع، وهو قاتل عبد الله بن خازم، خرج الطبيب من عنده فقال له محمد ابنه: ما تقول؟ قال: لا يصلي الظهر، وكان محمد ناسكاً، فدخل إلى أبيه وكيع فقال له: ما قال لك المعلوج؟ قال وعد أنك تبرأ، قال: أسألك بحقي عليك، قال: ذكر أنك لا تصلي الظهر، فقال: ويلي على ابن الخبيثة، والله لو كانت في شدقي للكتها إلى العصر.

كان بهلول يوما جالساً والصبيان يؤذونه، وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، يعيدها مراراً، فلما طال أذاهم له أخذ عصاه وقال: حمي الوطيس وطابت الحرب، وأنا على بينة من ربي تعالى، ثم حمل عليهم وهو يقول: من الوافر
أشد على الكتيبة لا أبالي ... أفيها كان حتفي أم سواها
فتساقط الصبيان بعضهم على بعض وتهاربوا، فقال: هزم القوم وولوا الدبر، أمرنا أمير المؤمنين ألا نتبع مولياً ولا نذفف على جريح، ثم جع وجلس وطرح عصاه وقال: من الطويل
فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
لبس إبراهيم بن العباس سواده ثم قال: يا غلام، هات ذلك السيف الذي ما ضر الله بن أحداً غيري.
قال عمرو بن معدي كرب: من البسيط
إذا قتلنا ولم يحزن لنا أحد ... قالت قريش ألا تلك المقادير
نعطى السوية من طعن له نفذ ... ولا سوية إذ تعطى الدنانير
قال فيلسوف لأهل مدينته: ليت طبيبكم كان صاحب جيشكم، فإنه قتل الخلق وليت صاحب جيشكم كان طبيبكم فإنه لا يقتل أحداً قط.
خرج المعتصم إلى بعض متصيداته فظهر له أسد، فقال لرجل من أصحابه أعجبه قوامه وسلاحه وتمام خلقه: يا رجل فيك خير؟ قال بالعجلة: لا يا أمير المؤمنين، فضحك المعتصم وقال: قبحك الله وقبح طللك.
حدث بعض مشايخ الكتاب بالري قال: لما مات ابن قراتكين صاحب جيش خراسان، قام بالأمر بعده واحد يقال له ينال عز، قال فكنا بين يديه يوماً إذ تقدم صاحب البريد وقال: أيها الأمير قد نزل ركن الدولة بالسين خارجاً من أصفهان طامعاً في الري، قال: فتغير لونه وتحرك فضرط، وأراد أن يستوي قاعداً فضرط أخرى وثلث وربع، فقال له صاحب البريد: الرجل منا بعد على ثمانين فرسخاً، قال: فغضب وقال له: يا فاعل تقدر أنني هو ذا أضرط من الفزع؟ إنما أضرط من الغضب.
تزوج عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي رملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعية، وكانت جهمة الوجه عظيمة الأنف حسنة الجسم، وتزوج عائشة بنت طلحة بن عبيد الله وجمع بينهما، فقال يوماً لعائشة: فعلت في محاربتي الخوارج مع أبي فديك كذا وصنعت كذا، فذكر لها شجاعته وإقدامه، فقالت له عائشة: أنا أعلم أنك أشجع الناس، وأعلم لك يوماً أعظم من هذا اليوم الذي ذكرته، قال: وما هو؟ قالت: يوم اجتليت رملة وأقدمت على وجهها وأنفها.
كان أبو جلدة اليشكري من الفرسان، وكان مع عمرو بن صوحان أخي صعصعة بن صوحان العبدي في بعض قرى بست، ومعهما جماعة يشربون، فقام أبو جلدة ليبول، وكان عظيم البطن فضرط، فتضاحك القوم به، فسل سيفه وقال: لأضربن كل من لا يضرط في مجلسه هذا بسيفي، أمني تضحكون لا أم لكم؟ فما زال حتى ضرطوا جميعاً غير عمرو بن صوحان، فقال له: قد علمت أن عبد القيس لا تضرط، ولك بدلها عشر فسوات، قال: لا والله أو تفصح به أن فجعل ينحني ولا يقدر عليها فتركه، وقال أبو جلدة في ذلك: من الطويل
أمن ضرطة بالجيروان ضرطتها ... تشدد مني تارة وتلين
فما هو إلا السيف أو ضرطة لها ... يثور دخان ساطع وطنين
أنشد ابن الأعرابي لشفاء بن نصر الخزاعي: من الرجز
ليت الرجال قد تلاقوا بالعطن ... بأرزنات ليس فيهن ابن
يمتن إذ يحيين أضغان الدمن ... طار فؤادي طيرة ثم سكن
إن لهم بعد الجزاء واللعن ... سباً إذا ما ظهر السب بطن
محمد بن أبي حمزة الكوفي مولى الأنصار: من البسيط
باتت تشجعني عرسي وقد علمت ... أن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي حجت الأنصار كعبته ... ما يشتهي الموت عندي من له أدب
للحرب قوم أضل الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى آفاتها وثبوا
ولست منهم ولا أهوى فعالهم ... لا الجد يعجبني منهم ولا اللعب
فر أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد من أبي فديك الخارجي، فسار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام، فجلس يوماً بالبصرة فقال: سرت على فرسي المهرجان من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام، فقال له بعض جلسائه: أصلح الله الأمير فلو ركبت النيروز لسرت إليهم في يوم واحد.

أغار أنس بن مدركة الخثعمي على سرح قريش في الجاهلية فذهب به، فقال له عمر رضي الله عنه في خلافته: لقد تبعناك تلك الليلة فلو أدركناك، فقال: لو أدركتني لم تكن للناس خليفة.
رأى الاسكندر سمياً له لا يزال ينهزم، فقال له: يا رجل، إما أن تغير فعلك وإما أن تغير اسمك.
وقع في بعض العساكر هيج، فوثب خراساني إلى دابته ليلجمها فصير اللجام في الذنب من الدهش، فقال يخاطب الفرس: هب جبهتك عرضت، ناصيتك كيف طالت؟! قال الجاحظ: وصف خياط حرباً فقال: لقيناهم في مقدار سوق الخلقانيين، فما كان بمقدار ما يخيط الرجل درزين حتى تركناهم في أضيق من الجربان، وخرجنا عليهم من وجهين كأنهما مقراضان، وتشبكت الرماح كأنها خيوط، فلو طرحت إبرة ما سقطت إلا على درز رجل.
لما حاصر المنصور ابن خبيرة بعث إليه ابن هبيرة: لأشهرن امتناعك ولأعيرنك به، فقال المنصور: مثلنا ما قيل إن خنزيراً بعث إلى الأسد وقال: قاتلني. فقال الأسد لست بكفؤي، ومتى قتلتك لم يكن لي فخر، وإن قتلتني لحقني وصم عظيم. فقال الخمزير: لأخبرن السباع بنكولك، فقال السد: احتمال العار في ذلك أيسر من التلطخ بدمك.
قيل لعقيبة المديني: ألا تغزو؟ فقال: والله إني لأكره الموت على فراشي فكيف أنتجعه؟! اجتاز كسرى في بعض حروبه بشيخ وقد تمدد في ظل شجرة ونزع سلاحه وشد دابته، فقال له: أنا في الحرب وأنت على مثل هذه الحال؟ فقال الشيخ: إنما بلغت هذه السن باشتمال هذا التوقي.
قال بعض الشجعان لرفيق له وقد أقبل العدو: اشدد قلبك، قال: أنا أشده ولكنه يسترخي.
نجز الباب السادس بحسن رعاية الله سبحانه وتعالى، يتلوه أن شاء الله الباب السابع في الوفاء والمحافظة والأمانة والغدر والملل والخيانة.

المجلد الثالث
الباب السابع
في الوفاء والمحافظة والأمانة والغدر
والملل والخيانة
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله الوفي عهده وميثاقه، المخشي عذابه ووثاقه، مبلي الصابرين بلاءهم، ومولي الموفين جزاءهم، جاعل النكث عائداً على أهله، ومجازي المسيء بسوء فعله، لا يمل من الإحسان حتى يمل عبده، ولا ينقطع عنه وإن فرط صنعه ورفده، أحمده على سبوغ نعمه، وألوذ به من نوازل نقمه، وأعوذ به من شيمة الغدر الوخيم ورده، وسجية المختر الذميم عهده، وأستمده توفيقاً يهدينا إلى مرضي المساعي، وأن يكف عنا يد المعتدي الباغي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله المحافظ على ذمته، المؤدي حق الرعاية في أمته، صلى الله عليه وعلى آله الذين جعلهم على الناس شهداء، ولزموا في طاعته الحفاظ والوفاء.
قال الله عز وجل: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً " " الإسراء: 34 " . وقال سبحانه: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " " النساء: 58 " . وقال تعالى: " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " " المؤمنون: 8 " . وعن ابن عباس في قوله تعالى: " وثيابك فطهر " " المدثر: 4 " . قال: أما إنه لم يأمره أن ينضحها بالماء ولكن قال: لا تلبسها على معصية ولا غدرة، أما سمعت قول غيلان بن سلمة: من الطويل
إني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
روي عن معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أمن رجلاً ثم قتله وجبت له النار وإن كان المقتول كافراً.
وقال ميمون: ثلاث المؤمن والكافر فيهن سواء: الأمانة تؤديها إلى من ائتمنك عليها من مسلم وكافر، وبر الوالدين، والعهد تفي به لمن عاهدت من مسلم أو كافر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له.
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رحمة الله عليه: عليك بصدق الحديث، ووفاء العهد، وحفظ الأمانة فإنها وصية الأنبياء.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: القتل يكفر الذنوب، وقال: يكفر كل شيء إلا الأمانة، قال: ويؤتى بصاحب الأمانة يوم القيامة فيقال: أد أمانتك، فيقول: يا رب قد ذهبت الدنيا، فيقال: اذهبوا به إلى الهاوية فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هناك كهيئتها، فيحملها فيضعها على عاتقه، ثم يصعد بها حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت فهوت وهوى في أثرها أبد الآبدين.

وروى عبد الله بن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان.
كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته زينب، تاجراً تضاربه قريش بأموالهم، فخرج إلى الشام سنة الهجرة، فلما قدم عرض له المسلمون فأسروه وأخذوا ما معه وقدموا به المدينة ليلاً، فلما صلوا الفجر قامت زينب على باب المسجد فقالت: يا رسول الله قد أجرت أبا العاص وما معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت، ودفع إليه جميع ما أخذ منه، وعرض عليه الإسلام فأبى، وخرج إلى مكة ودعا قريشاً فأطعمهم ثم دفع إليهم أموالهم وقال: هل وفيت؟ قالوا: نعم قد أديت الأمانة ووفيت، فقال: اشهدوا جميعاً أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وما منعني أن أسلم إلا أن تقولوا: أخذ أموالنا ثم هاجر. فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على النكاح، وتوفي سنة اثنتي عشرة.
وقال علي عليه السلام: إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع، ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل منه إلى حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم الله، قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا خريجة له في الدين.
لما قوي أمر بني العباس وظهر، قال مروان بن محمد لعبد الحميد بن يحيى كاتبه: إنا نجد في الكتب أن هذا الأمر زائل عنا لا محالة، وسيضطر إليك هؤلاء القوم - يعني ولد العباس - فصر إليهم فإني لأرجو أن تتمكن منهم فتنفعني في مخلفي وفي كثير من أموري، فقال: وكيف لي بعلم الناس جميعاً أن هذا عن رأيك وكلهم يقول: إني غدرت بك وصرت إلى عدوك وأنشد: من الطويل
أسر وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
ثم أنشد: من الوافر
ولؤم ظاهر لا شك فيه ... للائمة وعذري بالمغيب
فلما سمع مروان ذلك علم أنه لا يفعل، ثم قال له عبد الحميد: إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين لك، وأقبحهما بي، ولك علي الصبر معك إلى أن يفتح الله عليك أو أقتل معك.
كان الحارث بن هشام المخزومي في وقعة اليرموك وبها أصيب فأثبتته الجراح، فاستسقى ماء، فأتي به، فلما تناوله نظر إلى عكرمة بن أبي جهل صريعاً في مثل حاله، فرد الإناء على الساقي وقال له: امض إلى عكرمة بن أبي جهل يشرب أولاً فإنه أشرف مني، فمضى به إليه فأبى أن يشرب قبله، فرجع إلى الحارث فوجده ميتاً ورجع إلى عكرمة فوجده أيضاً ميتاً لم يشرب واحد منهما الماء.
كان مرداس بن أدية أحد بني ربيعة بن حنظلة رأساً من رؤوس الخوارج، فحبسه عبيد الله بن زياد، فرأى السجان شدة اجتهاده وحلاوة منطقه، فقال له: إني أرى مذهباً حسناً، وإني لأحب أن أوليك معروفاً، أفرأيتك إن تركتك تنصرف ليلاً إلى بيتك أتدلج إلي؟ قال: نعم، فكان يفعل ذلك به. ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم، فكلم في بعضهم فأبى ولج وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم، لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع؛ فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلاً من الشرط، فقال ابن زياد: ما أدري ما أصنع بهؤلاء، كلما أمرت رجلاً بقتل رجل منهم فتك بقاتله، لأقتلن من في حبسي منهم. فأخرج السجان مرداساً إلى منزله كما كان يفعل، وأتى مرداساً الخبر، فلما كان السحر تهيأ للرجوع، فقال له أهله: اتق الله في نفسك، فإنك إن رجعت قتلت، فقال: إني ما كنت فألقى الله غادراً. فرجع إلى السجان وقال: إني قد علمت ما عزم عليه صاحبك، فقال: أعلمت ورجعت؟ قال: نعم.
والعرب تضرب المثل في الوفاء بالسموأل، وهو ابن عريض بن عادياء الأزدي، وقيل هو من ولد الكاهن ابن هارون بن عمران. وكان من خبره أن امرأ القيس بن حجر أودعه أدراعاً مائة، فأتاه الحارث بن ظالم ويقال: الحارث بن أبي شمر الغساني ليأخذها منه، فتحصن منه السموأل، فأخذ ابناً له غلاماً وناداه: إما إن أسلمت إلي الأدراع وإما إن قتلت ابنك، فأبى السموأل أن يسلم الأدراع إليه، فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه، فقال السموأل: من الوافر
وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما ذم أقوام وفيت

وأوصى عادياً يوماً بأن لا ... تهدم يا سموأل ما بنيت
بنى لي عادياً حصناً حصيناً ... وماء كلما شئت استقيت
قال محمد بن السائب الكلبي: هجا الأعشى رجلاً من كلب فقال: من الوافر
بنو الشهر الحرام فلست منهم ... ولست من الكرام بني عبيد
ولا من رهط جبار بن قرط ... ولا من رهط حارثة بن زيد
وهؤلاء كلهم من كلب، فقال: لا أبا لك، أشرف من هؤلاء أنا، قال: فسبه الناس بعد بهجاء الأعشى. وكان متغيظاً عليه، فأغار على قوم قد بات فيهم الأعشى فأسر منهم نفراً وأسر الأعشى، ولا يعرفه، فجاء حتى نزل بشريح بن السموأل صاحب تيماء بحصنه الذي يقال له الأبلق، فمر شريح بالأعشى فنادى به: من البسيط
شريح لا تتركني يعد ما علقت ... حبالك اليوم بعد القد أظفاري
قد جلت ما بين بانقيا إلى عدن ... وطال في العجم تكراري وتسياري
فكان أكرمهم عهداً وأوثقهم ... عقداً أبوك بعرف غير إنكار
كالغيث ما استمطروه جاد وابله ... وفي الشدائد كالمستأسد الضاري
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار
إذ سامه خطتي خسف فقال له ... قل ما تشاء فإني سامع حار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار
فقال غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري
وسوف يعقبنيه إن ظفرت به ... رب كريم وبيض ذات أطهار
لا سرهن لدينا ذاهب هدراً ... وحافظات إذا استودعن أسراري
فاختار أدرعه كي لا يسب بها ... ولم يكن وعده فيها بختار
قال: فجاء شريح الكلبي فقال: هب لي هذا الأسير المضرور، فقال: هو لك. فأطلقه، وقال له: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك، فقال الأعشى: من تمام صنيعتك إلي أن تعطيني ناقة ناجية وتخليني الساعة، قال: فأعطاه ناقة فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى، فأرسل إلى شريح: ابعث إلي بالأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه، قال: قد مضى، فأرسل الكلبي في طلبه فلم يلحقه.
قال الأثرم: حج وفاء بن زهير المازني في الجاهلية، فرأى في منامه كأنه حاض، فغمه ذلك، وقص رؤياه على قس بن ساعدة الإيادي، فقال له: أغدرت بمن أعطيته ذماماً؟ قال: لا. قال: فهل غدر أحد من أهلك بجار لك؟ قال: لا علم لي؛ وقدم على أهله فوجد أخاه قد غدر بجار له فقتله، فانتضى سيفه، وناشده أخوه الله والرحم، وخرجت أمه كاشفة شعرها قد أظهرت ثدييها تناشده الله في قتل أخيه، فقال لها: علام سميتني وفاء إذا كنت أريد أن أغدر؟ ثم ضرب أخاه بسيفه حتى قتله وقال: من الطويل
يناشدني قيس قرابة بيننا ... وسيفي بكفي وهو منجرد يسعى
غدرت وما بيني وبينك ذمة ... تجيرك من سيفي ولا رحم ترعى
سأرحض عني ما فعلت بضربة ... عقيم البدي لا تكر ولا تثنى
قال صعصعة بن ناجية المجاشعي للنبي صلى الله عليه وعلى آله: إني حملت حمالات في الجاهلية، فجاء الإسلام وعلي منها ألف بعير، فأديت من ذلك سبعمائة، فقال له: إن الإسلام أمر بالوفاء ونهى عن الغدر، فقال: حسبي حسبي، فوفى بها.
أتى حاجب بن زرارة التميمي - في جدب أصاب قومه بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرى - فسأله أن يأذن لهم في دخول بلاده حتى يمتاروا، فقال: إنكم معشر العرب قوم غدر، فقال: إني ضامن للملك أن لا يفعلوا، قال: فمن لي بأن تفي؟ قال: أرهنك قوسي، فضحك من حوله، فقال كسرى: ما كان ليخالف، فقبلها منه، وقال: يا حاجب إن قوسك لقصيرة معوجة، قال: أيها الملك إن وفائي طويل مستقيم. فمات حاجب وطلبها ابنه عطارد فردت عليه، وكساه كسرى حلة، فلما أسلم أهداها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها، فباعها بأربعة آلاف درهم، وبقيت فخراً لبني تميم عامة، ولبني دارم منهم خاصة.
لما طالب المنصور عيسى بن موسى بتقديم المهدي عليه في العهد قال: من الطويل

بدت لي أمارات من الغدر شمتها ... أظن رواياها ستمطركم دما
وما يعلم العالي متى هبطاته ... وإن سار في ريح الغرور مسلما

ومن وفاء العرب ما فعله هانىء بن مسعود الشيباني حتى جر ذلك يوم ذي قار. وكان من خبره أن النعمان بن المنذر حيث خاف كسرى وعلم أنه لا ملجأ له منه رأى أن يضع يده في يده، فأودع ماله وأهله وحلقته في بكر بن وائل عند هانىء بن مسعود، فلما أتى كسرى حبسه بساباط المدائن ثم قتله. ثم إن كسرى أرسل إلى هانىء بن مسعود يطالبه بوديعة النعمان، فقال له: إن النعمان كان عاملي فابعث إلي بوديعته ولا تكلفني أن أبعث إليك بالجنود تقتل المقاتلة وتسبي الذرية. فبعث إليه هانىء: إن الذي بلغك باطل، وما عندي قليل ولا كثير، وإن يكن الأمر كما قيل فأنا أحد رجلين: إما رجل استودع أمانة فهو حقيق أن يردها على من استودعه إياها، ولن يسلم الحر أمانته، أو رجل مكذوب عليه فليس ينبغي للملك أن يأخذه بقيل عدو وحاسد؛ فبعث كسرى إليهم الجيوش: عقد للنعمان بن زرعة التغلبي على تغلب والنمر، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإياس بن قبيصة الطائي على جميع العرب ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر، فكانت العرب ثلاثة آلاف، وعقد للهامرز على ألف من الأساورة، عقد لخنابزين على ألف، وبعث معهم باللطيمة، وهي عير كانت تخرج من العراق فيها البز والعطر والألطاف توصل إلى باذام عامله على اليمن. وعهد إليهم كسرى إذا شارفوا بلاد بكر بن وائل أن يبعثوا إليهم النعمان بن زرعة، فإن اتقوكم بالحلقة ومائة غلام منهم يكونون رهناً بما أحدث سفهاؤكم فاقبلوا منهم وإلا قاتلوهم. وكان كسرى قبل ذلك قد أوقع ببني تميم يوم الصفقة، فالعرب منه خائفة وجلة. فلما بلغ هانىء بن مسعود الخبر جاء حتى نزل بذي قار، وجاءهم النعمان بن زرعة، وكانت جدته عجلية، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنكم أخوالي وأحد طرفي، وإن الرائد لا يكذب أهله، وقد أتاكم ما لا قبل لكم به من أحرار فارس وفرسان العرب، والكتيبتان: الشهباء والدوسر، وإن في الشر خياراً، ولأن يفتدي بعضكم بعضاً خير من أن تصطلموا، فانظروا هذه الحلقة فادفعوها، وادفعوا رهناً من أبنائكم. فقال له القوم: ننظر في أمرنا، ونبعث إلى من يلينا من بكر بن وائل. وبرزوا ببطحاء ذي قار بين الجلهتين. قال الأثرم: جلهة الوادي ما استقبلك منه واتسع، وقال ابن الأعرابي: جلهة الوادي مقدمه مثل جلهة الرأس إذا ذهب شعره، يقال رأس أجله. ثم انتظروا أصحابهم، كلما جاء سيد انتظروا الآخر حتى جاء ثعلبة بن حنظلة بن سيار العجلي فقالوا له: يا أبا معدان، قد طال انتظارنا، وقد كرهنا أن نقطع أمراً دونك، وهذا ابن أختك النعمان بن زرعة قد جاءنا، والرائد لا يكذب أهله، قال: فما الذي أجمع عليه رأيكم واتفق عليه ملؤكم؟ قالوا: قلنا إن في الشر خياراً، ولأن يفتدي بعضنا بعضاً خير من أن نصطلم جميعاً. فقال حنظلة: قبح الله هذا رأياً، ثم نزل ونزل الناس. ثم قال لهانىء بن مسعود: يا أبا أمامة، إن ذمتكم ذمتنا عامة، وإنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا، فأخرج هذه الحلقة ففرقها بين قومك، فإن تظفر فسترد عليك، وإن تهلك فأيسر مفقود. فأمر بها فأخرجت ففرقها بينهم، ثم قال حنظلة للنعمان: لولا أنك رسول لما أبت إلى قومك سالماً، فرجع النعمان، وبات الفريقان يتأهبون للحرب. وأمر حنظلة بالظعن جميعاً فوقفها خلف الناس ثم قال: يا معشر بكر ابن وائل قاتلوا عن ظعنكم أو دعوا؛ وانصرفت بنو قيس ثعلبة فلم يشهدوها. وقال لهم ربيعة بن عراك السكوني ثم التجيبي، وكان نازلاً في بني شيبان: أما إني لو كنت منكم لأشرت عليكم برأي مثل عروة العكم، فقالوا: فأنت والله من أوسطنا فأشر علينا، فقال: لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فتهلككم بنشابها، ولكن تكردسوا لهم كراديس يشد عليهم كردوس كردوس، فإذا أقبلوا عليه شد الآخر، فقالوا إنك قد رأيت رأياً، ففعلوا. وقام هانىء بن مسعود وقال: يا قوم مهلك معذور خير من منجى مغرور، إن الحذر لا يدفع القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره، والطعن في الثغر أكرم منه في الدبر؛ يا آل بكر شدوا واستعدوا، وإلا تشدوا تردوا. ثم قام حنظلة بن ثعلبة إلى وضين راحلة امرأته فقطعه، ثم تتبع النساء فقطع وضينهن لئلا يفزعهن الرجال، فسمي يومئذ مقطع الوضين - والوضين بطان الناقة - ثم إن القوم اقتتلوا صدر نهارهم أشد قتال رآه الناس إلى أن زالت الشمس، فشد

الحوفزان، واسمه الحارث بن شريك، على الهامرز فقتله، وقتلت بنو عجل خنابزين، وضرب الله وجوه الفرس فانهزموا، وتبعتهم بكر بن وائل، وقتل خالد بن يزيد البهراني، قتله الأسود بن شريك بن عمرو، وقتل عمرو بن عدي ابن زيد العبادي الشاعر، ولحق أسود بن بحتر بن عائد بن شريك العجلي النعمان ابن زرعة فقال له: يا نعمان هلم إلي فأنا خير آسر، أنا خير لك من العطش. قال: ومن أنت؟ قال: الأسود بن بحتر، فوضع يده في يده فجز ناصيته وخلى سبيله، وحمله الأسود على فرس له وقال له: انج على هذه فإنها أجود من فرسك، وجاء الأسود بن بحتر على فرس النعمان، وأفلت إياس بن قبيصة، وتبعتهم بكر بن وائل حتى شارفوا السواد فلم يفلت منهم كبير أحد، وكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة، وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه، فلما أتاه إياس سأله عن الخبر فقال: قد هزمنا بكر بن وائل وأتيناك بنسائهم، فأعجب ذلك كسرى وأمر له بكسوة. ثم إن إياساً استأذنه عند ذلك وقال: إن أخي مريض بعين التمر، وإنما أراد أن ينتحي عنه، فأذن له كسرى، فترك فرسه الحمامة وهي التي نجا عليها، وركب نجيبة له فلحق بأخيه، ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة فسأل: هل دخل على الملك أحد؟ قالوا: نعم، إياس، قال: ثكلت إياساً أمه، وظن أنه قد حدثه بالخبر، فدخل عليه فحدثه بهزيمة القوم، فأمر به فنزعت كتفاه. وكانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكان شعارهم: يا محمد.زان، واسمه الحارث بن شريك، على الهامرز فقتله، وقتلت بنو عجل خنابزين، وضرب الله وجوه الفرس فانهزموا، وتبعتهم بكر بن وائل، وقتل خالد بن يزيد البهراني، قتله الأسود بن شريك بن عمرو، وقتل عمرو بن عدي ابن زيد العبادي الشاعر، ولحق أسود بن بحتر بن عائد بن شريك العجلي النعمان ابن زرعة فقال له: يا نعمان هلم إلي فأنا خير آسر، أنا خير لك من العطش. قال: ومن أنت؟ قال: الأسود بن بحتر، فوضع يده في يده فجز ناصيته وخلى سبيله، وحمله الأسود على فرس له وقال له: انج على هذه فإنها أجود من فرسك، وجاء الأسود بن بحتر على فرس النعمان، وأفلت إياس بن قبيصة، وتبعتهم بكر بن وائل حتى شارفوا السواد فلم يفلت منهم كبير أحد، وكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة، وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه، فلما أتاه إياس سأله عن الخبر فقال: قد هزمنا بكر بن وائل وأتيناك بنسائهم، فأعجب ذلك كسرى وأمر له بكسوة. ثم إن إياساً استأذنه عند ذلك وقال: إن أخي مريض بعين التمر، وإنما أراد أن ينتحي عنه، فأذن له كسرى، فترك فرسه الحمامة وهي التي نجا عليها، وركب نجيبة له فلحق بأخيه، ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة فسأل: هل دخل على الملك أحد؟ قالوا: نعم، إياس، قال: ثكلت إياساً أمه، وظن أنه قد حدثه بالخبر، فدخل عليه فحدثه بهزيمة القوم، فأمر به فنزعت كتفاه. وكانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكان شعارهم: يا محمد.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم تمثلت له الوقعة وهو بالمدينة، فرفع يديه ودعا لبني شيبان، ولما بلغته الوقعة قال: هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا. وفي وفائهم بالأمانة والوديعة يقول الأعشى: من المنسرح
آليت بالملح والرماد وبال ... عزى وباللات تسلم الحلقة
حتى يظل الهمام منجدلاً ... ويقرع النبل طرة الدرقه

قال مالك بن عمارة اللخمي: كنت أجالس في ظل الكعبة أيام الموسم عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير، وكنا نخوض في الفقه مرة، وفي المذاكرة مرة، وفي أشعار العرب وأمثال الناس مرة، فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبد الملك: من الاتساع في المعرفة، والتصرف في فنون العلم، وحسن استماعه إذا حدث، وحلاوة لفظه إذا حدث. فخلوت معه ذات ليلة فقلت: والله إني لمسرور بك لما أشاهده من كثرة تصرفك وحسن حديثك وإقبالك على جليسك، فقال لي: إنك إن تعش قليلاً سترى العيون طامحة إلي، والأعناق قاصدة، فلا عليك أن تعمل إلي ركابك فلأملأن يديك. فلما أفضت إليه الخلافة شخصت أريده، فوافقته يوم جمعة وهو يخطب الناس على المنبر، فلما وقعت عينه علي بسر في وجهي وأعرض عني، فقلت: لم يثبتني معرفة أو عرفني فأظهر لي نكرة، لكني لم أبرح مكاني حتى قضيت الصلاة ودخل، فلم ألبث أن خرج الحاجب فقال: أين مالك بن عمارة؟ فقمت وأخذ بيدي وأدخلني عليه، فلما رآني مد إلي يده وقال: إنك تراءيت لي في موضع لم يجز فيه إلا ما رأيت من الإعراض والانقباض، فأما الآن فمرحباً وأهلاً، كيف كنت بعدي، وكيف كان مسيرك؟ قلت: بخير وعلى ما يحبه أمير المؤمنين. فقال: أتذكر ما كنت قلت لك؟ قال، قلت: نعم وهو الذي أعملني إليك. فقال: والله ما هو بميراث ادعيناه ولا أثر رويناه، ولكني أخبرك من نفسي بخصال سمت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى: ما لاحيت ذا ود قط، ولا شمت بمصيبة، ولا قصدت كبيرة من محارم الله متلذذاً بها واثباً عليها، وكنت من قريش في بيتها، ومن بيتها في واسط قلادتها، فكنت آمل بهذه أن يرفع الله لي، وقد فعل، يا غلام بوئه منزلاً في الدار. فأخذ الغلام بيدي وقال: انطلق إلى رحلك، فكنت في أخفض حال وأنعم بال، وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه، فإذا حضر عشاؤه وغداؤه أتاني الغلام فقال: إن شئت صرت إلى أمير المؤمنين فإنه جالس، فأمشي بلا حذاء ولا رداء، فيرفع من مجلسي ويقبل على مجالستي، ويسألني عن العراق مرة وعن الحجاز مرة، حتى مضت لي عشرون ليلة، فتغديت يوماً عنده، فلما تفرق الناس نهضت للقيام فقال: على رسلك أيها الرجل، فقعدت فقال: أي الأمرين أحب إليك: المقام عندنا، ولك النصفة في المعاشرة والمجالسة مع المواساة أم الشخوص ولك الحباء والكرامة؟ فقلت: فارقت أهلي وولدي على أني زائر لأمير المؤمنين وعائد إليهم، فإن أمرني اخترت فناءه على الأهل والولد. فقال: بل أرى لك الرجوع إليهم فإنهم متطلعون إلى رؤيتك، فتحدث بهم عهداً ويحدثون بك مثله، والخيار بعد في زيارتنا والمقام فيهم إليك، وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار وكسوناك وحملناك، أتراني ملأت يديك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أراك ذاكراً ما رأيت عن نفسك، قال: أجل ولا خير في من ينسى إذا وعد، ولا ينسى إذا أوعد، ودع إذا شئت، صحبتك السلامة.
أحضر الحجاج رجلاً من الخوارج فمن عليه وأطلقه، فلما عاد إلى أصحابه قالوا له: إن الله تخلصك من يده ليزيدك بصيرة في مذهبك، فلا تقصر في الخروج عليه، فقال: هيهات غل يداً مطلقها، واسترق رقبة معتقها.
دخل هارون بن أبي زياد مؤدب الواثق على الواثق، فأكرمه وأظهر من بره ما شهره به، فقيل له: يا أمير المؤمنين من في هذا الذي فعلت به ما فعلت؟ قال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله تعالى وأدناني من رحمته.
ومن الوفاء المستحسن ما روي عن أبي زكار الأعمى، وهو مغن منقطع إلى آل برمك، قال مسرور الكبير: لما أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى دخلت وعنده أبو زكار الأعمى الطنبوري يغنيه: من الوافر
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
فقلت: له: في هذا والله أتيتك، ثم أخذت بيده فأقمته وأمرت بضرب رقبته، فقال لي أبو زكار: نشدتك الله إلا ألحقتني به، فقلت له: وما رغبتك في ذلك؟ فقال: إنه أغناني عما سواه بإحسانه فما أحب أن أبقى بعده، فقلت: أستأذن أمير المؤمنين في ذلك، فلما أتيت الرشيد برأس جعفر أخبرته بقصة أبي زكار فقال: هذا رجل مصطنع فاضممه إليك، وانظر ما كان جعفر يجريه عليه فأقمه له.

لقي الفضل بن يحيى إبراهيم الموصلي وهو خارج من دار الفضل بن الربيع، وكانا متجاورين في الشماسية، فقال: من أين يا أبا إسحاق؟ أمن عند الفضل بن الربيع إلى الفضل بن يحيى؟ هذان والله أمران لا يجتمعان لك، فقال: والله لئن لم يكن في ما يتسع لكما حتى يكون الوفاء لكما جميعاً واحداً ما في خير، والله لا أترك واحداً منكما لصاحبه، فمن قبلني على هذا قبلني، ومن لم يقبلني فهو أعلم، فقال له الفضل بن يحيى: أنت عندي غير متهم، والأمر كما قلت، وقد قبلتك على ذلك.
قيل إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ودوام عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه.
قال لقمان لابنه: إذا كان خازنك حفيظاً وخزانتك أمينة سدت في دنياك وآخرتك.
قيل: أكرم الوفاء ما كان عند الشدة، وألأم الغدر ما كان عند الثقة.
كان يحيى بن خالد إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي جعل الوفاء أعز ما برأ.
أبو فراس بن حمدان: من الطويل
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ... ومن أين للحر الكريم صحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ... ذئاباً على أجسادهن ثياب
وله: من البسيط
أبغي الوفاء بدهر لا وفاء به ... كأنني جاهل بالدهر والناس
عزل الوليد بن عبد الملك عبيدة بن عبد الرحمن عن الأرذن وضربه وحلقه وأقامه للناس، وقال للموكلين به: من أتاه متوجعاً فائتوني به، فأتاه عدي ابن الرقاع العاملي، وكان عبيدة إليه محسناً، فوقف عليه وقال: من الوافر
فما عزلوك مسبوقاً ولكن ... إلى الغايات سباقاً جوادا
وكنت أخي وما ولدتك أمي ... وصولاً باذلاً لا مستزادا
فقد هيضت بنكبتك القدامى ... كذاك الله يفعل ما أراد
فوثب الموكلون إليه فأدخلوه إلى الوليد، وأخبروه بما جرى، فتغيظ عليه الوليد وقال له: أتمدح رجلاً قد فعلت به ما فعلت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه كان إلي محسناً، ولي مؤثراً، وبي براً، ففي أي وقت كنت أكافيه بعد هذا اليوم؟ فقال: صدقت وكرمت، وقد عفوت عنه لك وعنك، فخذه وانصرف.
ولما حمل رأس مروان بن محمد إلى السفاح وهو بالكوفة جلس مجلساً عاماً، وجاءوا بالرأس فوضع بين يديه، فقال لمن حضره: أفيكم من يعرف هذا الرأس؟ فقام سعيد بن عمرو بن جعد بن هبيرة فأكب عليه فتأمله ملياً ثم قال: نعم هذا رأس أبي عبد الملك خليفتنا بالأمس رحمه الله، وعاد إلى مجلسه فقعد. ووثب أبو العباس فطعن في حجزته، وانصرف ابن جعدة إلى منزله، وتحدث الناس بكلامه، فلامه بنوه وأهله وقالوا: عرضتنا ونفسك للبوار فقال: اسكتوا، قبحكم الله، ألستم الذين أشرتم علي بالأمس بحران بالتخلف عن مروان ففعلت في ذلك غير فعل أهل الوفاء والشكر؟ وما كان ليغسل عني عار تلك الفعلة إلا هذه، وإنما أنا شيخ هامة اليوم أو غد، فإن نجوت يومي هذا من القتل مت غداً. فجعل بنوه وأهله يتوقعون رسل السفاح أن تطرقه في جوف الليل، وغدا الشيخ فإذا هو بسليمان بن مجالد، فلما بصر به قال: ألا أسرك يا ابن جعدة بجميل رأي أمير المؤمنين فيك؟ إنه ذكر في هذه الليلة ما كان منك فقال: أما والله ما أخرج ذلك الكلام من الشيخ إلا الوفاء، ولهو أقرب بنا قرابة وأمس بنا رحماً منه بمروان إن أحسنا إليه، قال: أجل والله.
وسأل المنصور بعض بطانة هشام عن تدبيره في بعض حروبه مع الخوارج فقال: فعل كذا وصنع كذا رحمه الله، فقال المنصور: قم عليك لعنة الله، تطأ بساطي وتترحم على عدوي؟! فقام الرجل وهو يقول: والله إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي، فقال المنصور: ارجع يا شيخ فإني أشهد أنك نهيض حرة وغراس شريف، ودعا له بمال فأخذه وقال: لولا جلالة عز أمير المؤمنين وامتطاء طاعته ما لبست بعده لأحد نعمة، فقال له المنصور: مت إذا شئت، لله أنت، فلو لم يكن في قومك غيرك لكنت قد أبقيت لهم مجداً مخلداً.
قيل: بينما عيسى بن موسى يساير أبا مسلم في مقدمه به على أبي جعفر إذ أنشد عيسى: من الطويل
لينهك ما أفنى القرون التي خلت ... وما حل في أكناف عاد وجرهم
ومن كان أنأى منك عزاً ومنعة ... وأنهد بالجيش اللهام العرمرم

فقال أبو مسلم: علام أعطيتني عهد الله يا أبا موسى؟ قال: أعتق ما يملك إن كان أرادك بما قال، وإنما هو خاطر جرى على لساني، قال: ذاك شر.
ومن شعر عيسى بن موسى لما خلع من العهد: من الطويل
أينسى بنو العباس ذبي عنهم ... بسيفي نار الحرب ذاك سعيرها
فتحت لهم شرق البلاد وغربها ... فذل معاديها وعز نصيرها
أقطع أرحاماً علي عزيزة ... وأسدي مكيدات لها وأنيرها
فلما وضعت الأمر في مستقره ... ولاحت له شمس تلألأ نورها
دفعت عن الحق الذي أستحقه ... وسيقت بأوساق من الغدر عيرها
يقال: أعرق العرب في الغدر آل الأشعث بن قيس، أغار قيس بن معدي كرب غدراً بمراد، وكان بينهم ولث - أي عهد - أن لا يغزوهم إلى انقضاء رجب، فوافاهم قبل الأمد بكندة. فجعل يحمل عليهم ويقول: من الرجز
أقسمت لا أنزل حتى يهزموا ... أنا ابن معدي كرب فاستسلموا
فارس هيجا ورئيس مصدم
فقتل قيس بن معدي كرب وارتد الأشعث بن قيس عن الإسلام. وغدر محمد بن الأشعث بمسلم بن عقيل بن أبي طالب، وغدر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث يوم دير الجماجم، وأتيح له غادر فأسلمه، وهو رتبيل ملك الترك، لجأ إليه لما انهزم من حرب دير الجماجم فغدر به وسلمه إلى أصحاب الحجاج، لإلقى نفسه في طريقه من سطح فمات.
ذكر هشام بن محمد بن السائب الكلبي أن بابك بن ساسان كان يغشى البيت، وآخر ما زاره دفن فيه غزالاً من ذهب عيناه ياقوتتان، وفي أذنيه شنفان من ذهب بدرتين، والسيوف القلعية التي لم تكن إلا لفارس، وهو الغزال الذي سرقه أبو لهب، وذاك أن أبا لهب كان يشرب ومعه ديك ودييك، موليان لخزاعة، فنفد شرابهم فقال أبو لهب: والله ما نعول على شيء إلا على غزال الكعبة، فسرقوه، فعظم ذلك على قريش وقطعوا الموليين ولم يقووا على أبي لهب لمكان بني هاشم، وفيه يقول حسان: من البسيط
أبا لهيب فبين لي حديثكم ... أين الغزال عليه الدر من ذهب
كان لعمرو بن دويرة البجلي أخ قد كلف ببنت عم له، فتسور عليها فأخذه إخوتها وأتوا به خالد بن عبد الله القسري، وسرقوه، فسأله فصدقهم ليدفع الفضيحة عن الجارية، فأراد خالد قطعه، فقال عمرو: من الطويل
أخالد قد والله أوطئت عشوة ... وما العاشق المظلوم فينا بسارق
أقر بما لم يأته المرء إنه ... رأى القطع خيراً من فضيحة عاتق
فزوجه خالد الجارية.
قال العلاء بن منهال الغنوي: من الكامل
إن العفيف إذا استعان بخائن ... كان العفيف شريكه في المأثم
كان أحمد بن يزيد المهلبي نديماً للمنتصر، فطلبه أبوه المتوكل لمنادمته، فلم يزل نديمه حتى قتل. فلما ولي المنتصر حجبه، ثم أذن له وأمر بنان ابن عمرو فغنى: من الطويل
غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن ... ورمت بديلاً بي ولم أتبدل
والبيت للمنتصر، فاعتذر المهلبي فقال المنتصر: إنما قلته مازحاً، أتراني أتجاوز بكم حكم الله " وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم " " الأحزاب: 5 " .
كان أبو بشر رزام مولى خالد بن عبد الله القسري يكتب لمحمد بن خالد، وهو يتولى الحرمين لأبي جعفر، فصرف محمد بن خالد برياح بن عثمان المري، فحبس رزاماً وطالبه بأن يرفع على صاحبه فامتنع، فكان يخرجه في كل يوم ويضربه خمسة عشر سوطاً حتى صار جسمه كالقرحة. فأحضره يوماً ليضربه فلم يجد فيه موضعاً فضربه على كفه. ولما بلغ به ما بلغ أحضره رزام كتاباً يوهمه أن فيه رفائع على محمد بن خالد، وقد جمع له رياح الناس، فلما اجتمعوا قال لهم رزام: أيها الناس إن الأمير أمرني أن أرفع على محمد بن خالد، وقد أحضرني كتاباً كل ما فيه باطل، وقد صدقت عما عندي، فأمر به فضرب مائة سوط وحبسه. فلم يزل محبوساً حتى غلب محمد بن عبد الله بن حسن بن علي على المدينة، فقتل رياحاً وأطلق محمد بن خالد ورزاماً كاتبه هذا.

لما حلف محمد الأمين للمأمون في البيت الحرام، وهما وليا عهد، طالبه جعفر بن يحيى بأن يقول: خذلني الله إن خذلته، فقال ذلك ثلاث مرات. قال الفضل بن الربيع، قال لي في ذلك الوقت عند خروجه من بيت الله: يا أبا العباس هو ذا أجد في نفسي أن أمري لا يتم، فقال له: ولم ذاك أعز الله الأمير؟ قال: لأني كنت أحلف وأنا أنوي الغدر، فقلت: سبحان الله في مثل هذا الموضع؟ فقال لي: هو ما قلت لك.
قال مسرور الكبير: دخلت على الرشيد بعد أن قتل جعفر بن يحيى، وقد خرج من مرقده وهو يريد الخلاء، فلما رآني أمر بكرسي فطرح وجلس عليه ثم قال: إني سائلك عن أمر فلا تطول علي فإني أريد الطهور، ولست أبرح أو تخبرني بما أسألك عنه، فقلت له: ليسأل أمير المؤمنين عما أحب، قال: أخبرني عما وجدته من المال والجوهر للبرامكة، فقلت له: ما وجدت شيئاً من ذلك لهم، فقال: وكيف وقد نهبوا مالي وذهبوا بخزائني؟ فقلت له: أنفقوه في المكارم، وأصيب لهم من الجوهر ما لا يشبه أمثالهم، قال لي: فما يقول الناس فينا؟ فقلت: الله الله في أمري، فقال: مالك؟ قلت: الصدق يغضبك، وكان استحلفني ورشيداً والحسين الخادمين أن نصدقه عن كل شيء يسألنا عنه، فخفت أن أصدقه فلا يعجبه، لأني كنت قد صدقته عن شيء من أمر الحرم فغضب وحجبني أربعين يوماً، فأذكرته بذلك فقال: كان ذلك مني غلطة ولن أعود لمثلها. فقلت له: يقول الناس لم تف لهم، وانك طمعت في أموالهم، قال: فأي شيء حصلت منها؟ قلت: ضياعهم هي مال، فقال: البس سيفك وأحضرني يحيى بن خالد فأقمه وراء الستر، فقلت في نفسي: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا صنعت؟ قتلت ابنه وأقتله؟ ثم أحضرت يحيى، فلما خرج الرشيد من الخلاء قال لي: اخرج إليه فقل له ما حملك على أن حملت إلى يحيى بن عبد الله بالديلم مائتي ألف دينار؟ فقلت له ذاك، فقال: أليس قد صفحت عن هذا؟ فقال لي: أو يصفح الإنسان عن دمه؟ فقلت له ذاك، فقال: أردت أن تقوى شوكة يحيى بن عبد الله فيظفر به الفضل بعد قوته فيكون أحظى له عندك، قال فقلت له: فما كان يؤمنك أن يقوى فيقتل الفضل ويقتلني؟ وما حملك على أن حملت إلى أحمد بن عيسى بن زيد بالبصرة مع غلامك رباح سبعين ألف دينار؟ فقلت له ذاك، فقال، قل له: أفليس قد صفحت عن ذلك؟ فقال: أو يصفح الإنسان عن دمه؟ ثم قال: قل له: أنت تعلم موقع عيالي مني، وطلبت منك وأنا بالبصرة ألف ألف درهم فقلت لي: إن أخذت منها درهماً واحداً لهذا الشأن ذهبت هيبتك، فأمسكت، فأخذت أنت منها ألف ألف وخمسماية ألف ففرقتها في عيالك، واحتلت أنا بقرض تولاه يونس ما فرقته فيهم، ثم قال لي: قل له كذا وقل له كذا حتى عد أربعة عشر شيئاً، ثم أمرني برده إلى محبسه وقال: يا مسرور، يقول الناس إني ما وفيت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين ما أحب أن تستجهلني فقال: وكيف؟ قلت: كيف لك بأن يعلم الناس كعلمي، لبودي أنهم علموا ذلك، على أني أعلم أنه لو نودي فيهم دهراً من الدهور ما حفظوه.
خرج سليمان بن عبد الملك ومعه يزيد بن المهلب إلى بعض جبابين الشام، وإذا امرأة جالسة عند قبر تبكي، فجاء سليمان فرفعت البرقع عن وجهها، فجلت شمساً عن متون غمامة، فوقفا متعجبين ينظران إليها، فقال لها يزيد بن المهلب: يا أمة الله هل لك في أمير المؤمنين بعلاً؟ فنظرت إليهما ثم نظرت إلى القبر فقالت: من الطويل
فلا تسألاني عن هواي فإنه ... بحوماء هذا القبر يا فتيان
وإني لأستحييه والترب بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يراني
كانت عند الحسن بن الحسن بن علي امرأة، فضجر يوماً وقال: أمرك في يدك، فقالت: أما والله لقد كان في يدك عشرين سنة فحفظته، أفأضيعه في ساعة صار في يدي؟! قد رددت إليك حقك، فأعجبه قولها وأحسن صحبتها.

ومن أحسن الوفاء ما روي عن نائلة بنت الفرافضة بن الأحوص الكلبي، تزوجها عثمان بن عفان، وكان أبوها نصرانياً، فأمر ابنه ضباً بتزويجها وحملها إليه بالمدينة، فلما أدخلت إليه قال لها: أتقومين إلي أم أقوم إليك؟ قالت: ما قطعت إليك عرض السماوة وأنا أريد أن أكلفك طول البيت. فلما جلست بين يديه قال: لا يروعنك هذا الشيب، قالت: أما إني من نسوة أحب أزواجهن إليهن الكهل السيد، قال: حلي إزارك، قالت: ذاك بك أحسن. فلما قتل أصابتها ضربة على يدها، وخطبها معاوية فردته وقالت: ما يعجب الرجل مني؟ قالوا: ثناياك، فكسرت ثناياها وبعثت بها إلى معاوية، فكان ذلك مما رغب قريشاً في نكاح نساء كلب.
مر أبو بكر رضي الله عنه بجارية سوداء تطحن لمولاتها، فقالت له مولاتها: يا أبا بكر اشترها فإنها على دينك، فلما علم أنها مسلمة حكم مولاتها فاشتراها على المكان، فدفع ثمنها وقال: قومي يا جارية، قالت: يا أبا بكر إن لها علي حقاً بقدم ملكها، فائذن لي أن أستتم طحينها، ففعل.
لما أحس مصعب بن الزبير بالقتل دفع إلى مولاه زياد فص ياقوت قام عليه بألف ألف، وقال له: انج بهذا، فأخذه ودقه بين حجرين وقال: والله لا أنتفع به بعدك.
المتنبي: من الطويل
أقل اشتياقاً أيها القلب إنني ... رأيتك تصفي الود من ليس جازيا
خلقت ألوفاً لو رحلت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وقال الرضي الموسوي: من الطويل
ومولى يعاطيني الكؤوس تجملاً ... وقد ود لو أن العقار نجيع
خبأت له ما بين جنبي فتكة ... دهته ويوم الغادرين شنيع
فلا كان مولى لا يدوم وفاؤه ... وإن وفاء في الزمان بديع
وبعض مقال القائلين تكذب ... وبعض وداد الأقربين خدوع
وقال أيضاً: من الطويل
وما صحبك الأدنون إلا أباعد ... إذا قل مال أو نبت بك حال
ومن لي بخل أرتضيه وليت لي ... يميناً تعاطيها الوفاء شمال
وقال أيضاً: من الطويل
أحن إلى من لا يحن صبابة ... وما واحد قلبا مشرق وشائق
وعندي من الأحباب كل عظيمة ... تزهد في قرب الضجيع المعانق
فكم فيهم من واعد غير منجز ... وكم فيهم من قائل غير صادق
وفاء كأنبوب اليراع لصاحب ... وغدر كأطراف الرماح الدوالق
قال إسحاق الموصلي: كان لزلزل الضارب جارية قد رباها وعلمها الضرب، وسأل إبراهيم فطارحها، وكانت مطبوعة حاذقة، قال: فكان يصونها أن يسمعها أحد، فلما مات بلغني أنها تعرض في ميراثه، فصرت إليها لأعترضها فغنت: من السريع
أقفر من أوتاره العود ... والعود للأوتار معمود
فأوحش المزمار من صوته ... فما له بعدك تغريد
من للمزامير وعيدانها ... وعامر اللذات مفقود
الخمر تبكي في أباريقها ... والقينة الخمصانة الرود
قال: وهذا شعر رثاه به صديق له كان يألفه، قال: فأبكت والله عيني وأوجعت قلبي. فدخلت على الرشيد فحدثته بحديثها فأمر بإحضارها فأحضرت، فقال لها: غني الصوت الذي حدثني عنك أنك غنيته، فغنته وهي تبكي، فتغرغرت عينا الرشيد وقال لها: أتحبين أن أشتريك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين لقد عرضت علي ما يقصر عنه الأمل، ولكن ليس من الوفاء أن يملكني أحد بعد سيدي فينتفع بي، فازداد رقة عليها وقال: غني صوتاً آخر فغنت: من البسيط
العين تظهر كتماني وتبديه ... والقلب يكتم ما ضمنته فيه
فكيف ينكتم المكنون بينهما ... والعين تظهره والقلب يخفيه
فأمر بأن تبتاع وتعتق، ولم يزل يجري عليها الى ان مات.

ويروى في أخبار العرب أن الضيزن بن معاوية من قضاعة كان ملكاً ما بين دجلة والفرات، وكان له هناك قصر مشيد بالحضر حيال تكريت، وملك الجزيرة وبلغ ملكه الشام، فأغار فأصاب أختاً لسابور ذي الأكتاف، وفتح مدينة بهرسير وقتل فيهم. قالوا: ثم إن سابور ذا الأكتاف جمع لهم وسار إليهم، فأقام على الحصن أربع سنين لا يصل منهم إلى شيء، ثم إن النضيرة بنت الضيزن عركت، أي حاضت، فأخرجت إلى الربض، وكانت من أجمل أهل دهرها، وكذلك كانوا يفعلون بنسائهم إذا حضن، وكان سابور من أجمل أهل زمانه، فرآها ورأته فعشقته وعشقها، فأرسلت إليه: ما تجعل لي إن دللتك عل ما تهدم به هذه المدينة وتقتل أبي؟ قال: حكمك، وأرفعك على نسائي، وأخصك بنفسي دونهن، قالت: عليك بحمامة مطوقة ورقاء، فاكتب في رجلها بحيض جارية زرقاء، ثم أرسلها فإنها تقع على حائط المدينة فتتداعى المدينة، وكان ذلك طلسمها لا يهدمها إلا هو. ففعل وتأهب لهم، وقالت: أنا أسقي الحرس الخمر فإذا صرعوا فاقتلهم وادخل المدينة. ففعل، فتداعت المدينة وفتحها سابور عنوة، وقتل الضيزن يومئذ، وأباد بني العبيد قبيلته الدنيا، وأفنى قضاعة الذين كانوا معه، واحتمل النضيرة بنت الضيزن فأعرس بها بعين التمر، فلم تزل ليلتها تتضور من خشية في فراشها، وهي من حرير محشوة بالقز. فالتمس ما كان يؤذيها فإذا هو ورقة آس ملتصقة بعكنة من عكنها قد أثرت فيها. قال: وكان ينظر إلى مخها من لين بشرتها. فقال لها سابور: ويحك بأي شيء كان أبوك يغذوك؟ قالت: بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفوة الخمر، فقال: وأبيك لأنا أحدث عهداً بمعرفتك وأوتر لك في أبيك الذي غذاك بما تذكرين. فكان عاقبة غدرها بأبيها وعشيرتها أن سابور غدر بها، فأمر رجلاً فركب فرساً جموحاً وضفر غدائرها بذنبه ثم استركضه فقطعها قطعاً.
وتقول العرب أيضاً: جزاني جزاء سنمار، وهو بناء غدر به النعمان ابن الشقيقة اللخمي، والشقيقة أمه، وهو الذي ساح وتنصر. وكان من حديث غدره بسنمار أن يزدجرد بن سابور كان لا يعيش له ولد، فسأل عن منزل صحيح مريء فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا، وهو عامله على أرض العرب، وأمره أن يبني الخورنق مسكناً له ولابنه، وينزله إياه، وأمره بإخراجه إلى وادي العرب. وكان الذي بنى الخورنق رجل يقال له سنمار، فلما فرغ من بنائه عجبوا من حسنه وإتقان عمله فقال: لو علمت أنكم توفوني أجرتي وتصنعون بي ما أستحقه لبنيته بناء يدور مع الشمس حيث دارت، فقالوا: وإنك لتبني ما هو أفضل منه ولم تبنه؟ ثم أمر به فطرح من أعلى الجوسق.
وروي أنه قال: إني لأعرف في هذا القصر موضع عيب إذا هدم تداعى القصر أجمع، فقال: أم والله لا تدل عليه أبداً، فذلك قول أبي الطمحان القيني: من الطويل
جزاء سنمار جزاها وربها ... وباللات والعزى جزاء المكفر
وقول سليط بن سعيد: من البسيط
جزى بنوه أبا غيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار
وقول عبد العزيز بن امرىء القيس الكلبي: من الطويل
جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان عشرين حجة ... يعل عليها بالقراميد والسكب
قال رجل للمبرد: أسمعني فلان في نفسي مكروهاً فاحتملته، ثم أسمعني فيك فجعلتك أسوتي فاجتملته فقال: ليسا سواء، احتمالك في نفسك حلم وفي صديقك غدر.
ومن كلام أبي محمد المهلبي: قد لبست سملاً من عهده، وشربت وشلا من وده.

وممن اشتهر بالغدر عمرو بن جرموز، غدر بالزبير بن العوام. وكان لما انصرف من حرب الجمل مر بناد من أندية البصرة ممسياً، فرآه الأحنف بن قيس، وكان قد اعتزل الحرب فقال: هذا الزبير بن العوام منصرفاً، والله ما هو بجبان، فمن يأتينا بخبره؟ فقال عمرو بن جرموز: أنا آتيكم بخبره، وركب فرسه وأخذ سلاحه واتبعه حتى أدركه بوادي السباع، وهو على سبعة أميال من البصرة، وقد نزل الزبير يصلي، فلما دنا ابن جرموز قال له الزبير: وراءك. فقال: إنما بعثني من ورائي لأسألك عما صنع القوم، فقال: تركتهم يضرب بعضهم وجه بعض بالسيف. قال ابن جرموز: فقلت في نفسي جاء هذا من الحجاز فضرب بعضنا ببعض، وألقى بيننا الشر ثم ينجو سالماً؟! كلا ورب الكعبة. وأراد الزبير الصلاة فقال: إني أريد الصلاة فتأخر عني أصل، فقال: أنت آمن فصل. فلما افتتح الصلاة طعنه في جربان درعه فقتله، فقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت تحت الزبير: من الكامل
غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير معرد
يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشاً رعش السنان ولا اليد
ومن الغدر الشنيع ما فعلته عضل والقارة. قال قتادة: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً وخيراً، فابعث معنا نقراً من أصحابك يفقهونا في الدين، ويقرئونا القرآن، ويعلمونا شرائع الإسلام. فبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر من أصحابه: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكر حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخا بني عمرو بن عوف، وخبيب بن عدي أخا بني جحجبا بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة أخا بني بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليفاً لبني ظفر من بلي، وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد. فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع، ماء لبني هذيل بناحية من الحجاز، غدروا بهم، واستصرخوا عليهم هذيلاً. فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال في أيديهم السيوف قد غشوا، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: إنا والله ما نريد قتالكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم. فأما مرثد بن أبي مرثد وخالد بن البكر وعاصم بن ثابت فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهداً ولا عقداً. فقاتلوهم حتى قتلوهم جميعاً. وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة وأعطوا بأيديهم، فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران. وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما إلى مكة فباعوهما، فابتاع خبيباً حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان حجير أخا الحارث بن عامر لأمه، ليقتله بأبيه. وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف. وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليحملوه إلى سراقة بنت سعد بن سهيل ليبيعوه منها، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، فمنعته الدبر، فلما حالت بينه وبينهم قالت: دعوه حتى نمسي فيذهب الدبر عنه فنأخذه، فبعث الله عز وجل الوادي فاحتمل عاصماً فذهب به، وكان عاصم قد أعطى الله عهداً لا يمسه مشرك أبداً ولا يمس مشركاً في حياته، فمنعه الله تعالى بعد وفاته. وكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته: عجباً لحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً في حياته فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته.

وروي أن خبيباً لما حصل عند بنات الحارث استعار من إحداهن موسى يستحد بها للقتل، فما راع المرأة لها صبي يدرج إلا بخبيب قد أجلس الصبي على فخذه، والموسى في يده، فصاجت المرأة، فقال خبيب: أتحسبين أني أقتله؟ إن الغدر ليس من شأننا، فقالت المرأة بعد: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته وما بمكة من ثمرة وإن في يده لقطفاً من عنب يأكله إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً. ولما خرج بخبيب من الحرم ليقتلوه قال: ذروني أصل ركعتين، ثم قال: لولا أن يقال جزع لزدت، وما أبالي على أي شقي كان مصرعي، وقال: من الطويل
وذلك في ذات الإله ولو يشا ... لبارك في أوصال شلو ممزق
اللهم أحصهم عدداً، وخذهم بدداً، ولا تفلت منهم أحداً.
وأخبر عون بن أمية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وحده عيناً إلى قريش، قال: فجئت إلى خشبة خبيب وأنا أتخوف العيون، فرقيت إليها فحللت خبيباً فوقعت إلى الأرض، فاستدرت غير بعيد ثم إني التفت فلم أر لخبيب أثراً، فكأنما الأرض ابتلعته، فلم تذكر لخبيب رمة حتى الساعة.
وبعث صفوان بن أمية مولى له يقال له نسطاس، فأخرج زيد بن الدثنة من الحرم ليقتله، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك الآن؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه فتصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي. قال، يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً، ثم قتله نسطاس.
قال مسعود بن عبد الله الأسدي يحسن الغدر: من الكامل
سائل بني يربوع إن لاقيتهم ... عن ضيفهم يخبرك منهم خابر
قالوا غدرت فقلت إن وربما ... نال العلى وشفى الغليل الغادر
وقال حرب بن جابر الحنفي: من الطويل
رأيت أبا القيار للغدر آلفاً ... وللجار وابن العم جماً غوائله
وإن أبا القيار كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوماً دماً فهو آكله
وقال عارق الطائي من الطويل
غدرت بأمر أنت كنت دعوتنا ... إليه وشر شيمة الغدر بالعهد
وقد يترك الغدر الفتى وطعامه ... إذا هو أمسى جله من دم الفصد
أغار حنتمة بن مالك الجعفي على حي من بني القين بن جسر، فاستاق منهم إبلاً، فلحقوه ليستنقذوها منه، فلم يطمعوا فيه، ثم إنه ذكر يداً كانت لبعضهم عنده، فخلى عما كان في يده وولى منصرفاً. فنادوه وقالوا: إن المفازة أمامك ولا ماء معك، وقد فعلت جميلاً فانزل ولك الذمام والحباء، فنزل. فلما اطمأن واستمكنوا منه غدروا به فقتلوه، فقالت عمرة ابنته: من الطويل
غدرتم بمن لو كان ساعة غدركم ... بكفيه مفتوق الغرارين قاضب
لذادكم عنه بضرب كأنه ... سهام المنايا كلهن صوائب
تلاحى بنو مفروق بن عمرو بن محارب وبنو جهم بن مرة بن محارب على ماء لهم، فعلتهم بنو مفروق فظهرت عليهم، وكان في بني جهم شيخ له تجربة وسن، فلما رأى ظهورهم قال: يا بني مفروق، نحن بنو أب واحد فلم نتفانى؟ هلموا إلى الصلح ولكم عهد الله وذمة آبائنا أن لا نهيجكم أبداً، ولا نزاحمكم في هذا الماء؛ فأجابتهم بنو مفروق إلى ذلك، فلما اطمأنوا ووضعوا السلاح عدا عليهم بنو جهم فنالوا منهم منالاً عظيماً، وقتلوا جماعة من أشرافهم، فقال أبي بن ظفر المحاربي في ذلك: من البسيط
هلا غدرتم بمفروق وأسرته ... والبيض مصلتة والحرب تستعر
لما اطمأنوا وشاموا من سيوفهم ... ثرتم إليهم وغب الغدر مشتهر
غررتموهم بأيمان موكدة ... والورد من بعده للغادر الصدر

تزوج عبد الرحمن بن سهيل بن عمرو أم هشام بنت عبد الله بن عمر ابن الخطاب، وكانت من أجمل نساء قريش، وكان يجد بها وجداً شديداً. فمرض مرضته التي هلك فيها، فجعل يديم النظر إليها وهي عند رأسه، فقالت له: إنك تنظر إلي نظر رجل له حاجة، قال: أي والله، إن لي إليك حاجة لو ظفرت بها لهان علي ما أنا فيه، قالت: وما هي؟ قال: أخاف أن تتزوجي بعدي، قالت: فما يرضيك من ذلك؟ قال: أن توثقي لي بالأيمان المغلظة، فحلفت له بكل يمين سكنت إليها نفسه، ثم هلك. فلما انقضت عدتها خطبها عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، فأرسلت إليه: ما أراك إلا وقد بلغتك يميني، فأرسل إليها: لك مكان كل عبد وأمة عبدان وأمتان، ومكان كل علق علقان، ومكان كل شيء ضعفه، فتزوجته فدخل عليها بطال بالمدينة، وقيل بل كان رجلاً من مشيخة قريش مغفلاً، فلما رآها مع عمر جالسة قال: من الطويل
تبدلت بعد الخيزران جريدة ... وبعد ثياب الخز أحلام نائم
فقال عمر: ويحك، جعلتني جريدة وأحلام نائم؟! فقالت أم هشام: ليس كما قلت، ولكن كما قال أرطأة بن سهية: من الطويل
وكائن ترى من ذات شجو وعولة ... بكت شجوها بعد الحنين المرجع
وكانت كذات البو لما تعطفت ... على قطع من شلوه المتمزع
متى لا تجده تنصرف لطياتها ... من الأرض أو تعمد لإلف فتربع
عن الدهر فاصفح إنه غير معتب ... وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع
لما قدم هدبة بن الخشرم للقتل قوداً قالت زوجته: إن لهدبة عندي وديعة، وذلك بحضرة مروان بن الحكم، فأمهله حتى آتيك بها فقال: أسرعي فإن الناس قد كثروا، وكان جلس لهم بارزاً عن داره، فمضت إلى السوق فانتهت إلى قصاب فقالت: أعطني شفرتك، وخذ هذين الدرهمين، وأنا أردها عليك، فقربت من حائط وأرسلت ملحفتها على وجهها ثم جدعت أنفها من أصله وقطعت شفتيها وردت الشفرة، ثم أقبلت حتى دخلت بين الناس فقالت: أتراني يا هدبة متزوجة بعد ما ترى؟ فقال: لا، الآن طابت نفسي بالموت، وخرج يرسف في قيوده، فإذا هو بأبويه يتوقعان الثكل، فهما بسوء حال، فأقبل عليهما وقال: من الرمل
أبلياني اليوم صبراً منكما ... إن حزناً إن بدا بادىء شر
لا أرى ذا اليوم إلا هيناً ... إن بعد الموت دار المستقر
اصبرا اليوم فإني صابر ... كل حي لقضاء وقدر
وقد روي أنها تزوجت بعده على تشويه خلقتها ولم تدم على وفائها.
كان للنمر بن تولب العكلي أخ يقال له الحارث بن تولب، وكان سيداً معظماً. فأغار الحارث على بني أسد فسبى امرأة منهم يقال لها جمرة بنت نوفل، فوهبها لأخيه النمر، ففركته فحبسها حتى استقرت، وولدت له أولاداً. ثم قالت له في بعض أيامها: أزرني أهلي فإني قد اشتقت إليهم، فقال لها: إني أخاف إن صرت إلى أهلك أن تغلبيني على نفسك، فواثقته لترجعن إليه. فخرج بها في الشهر الحرام حتى أقدمها بلاد بني أسد، فلما أطل على الحي تركته واقفاً وانصرفت إلى منزل بعلها الأول، فمكث طويلاً فلم ترجع إليه، فعرف ما صنعت وأنها اختدعته، فانصرف وقال: من الطويل
جزى الله عنا جمرة ابنة نوفل ... جزاء مغل بالأمانة كاذب
لهان عليها أمس موقف راكب ... إلى جانب السرحان أخيب خائب
وقد سألت عني الوشاة ليكذبوا ... علي وقد أبليتها في النوائب
وصدت كأن الشمس تحت قناعها ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
ومن أخبار العرب ما رواه أبو عبيدة أن رجلاً خرج إلى جبانة بلده مع أخيه وجار له ينتظرون الرفاق، وتبعه كلب له فضربه ورماه بحجر فلم ينته، فلما قعد ربض بين يديه، وجاء عدو له يطلبه بطائلة، فجرح جراحات وطرح في بئر قريبة القعر وحثي عليه التراب، وقد فر أخوه وجاره، والكلب ينبح حوله، ثم أتاه عند انصراف العدو فكشف التراب عن رأسه حتى تنفس، ومر ناس فاستشالوه وأدوه إلى أهله، وسمي الموضع بئر الكلب، وقيل فيه: من الطويل
يعرد عنه جاره وشقيقه ... وينبش عنه كلبه وهو ضاربه

ويحكون في ضده أن قوماً خرجوا للصيد فطردوا ضبعاً حتى ألجأوها إلى خباء أعرابي، فأجارها وجعل يطعمها، فبينما هو نائم إذ وثبت عليه فبقرت بطنه ومرت، وجاء ابن عم له يطلبه، فإذا هو بقير، فتبعها حتى قتلها وقال: من الطويل
ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاق الذي لاقى مجير آم عامر
أعد لها لما استجارت ببيته ... أحاليب ألبان اللقاح الدرائر
وأسمنها حتى إذا ما تمكنت ... فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... يجود بمعروف على غير شاكر

نوادر من هذا الباب
دخل ابن أبي زهير المديني الحمام فرأى رجلاً منعظاً، فقال: ما شأن هذا؟ قال: ذكر صديقاً له بالعراق، فقال: إيذن لي في تقبيله فقد انقطع الوفاء إلا منه.
قال المنصور لعامل بلغته عنه خيانة: يا عدو الله وعدو أمير المؤمنين، أكلت مال الله؟ قال: يا أمير المؤمنين نحن عيال الله، وأنت خليفة الله، والمال مال الله، فمال من نأكل إذن؟ فضحك وقال: خلوه ولا تولوه.
أمر الإسكندر بصلب سارق فقال: أيها الملك، إني فعلت ما فعلت وأنا كاره، قال: وتصلب وأنت أيضاً للصلب كاره.
وسرق مدني قميصاً فأعطاه ابنه ليبيعه، فسرق منه، فجاء إلى أبيه فقال له: بكم بعته؟ قال: برأس المال.
كان لمروان بن الحكم غلام قد وكله بأمواله، فقال له يوماً: أظنك تخونني، فقال: قد يخطىء الظن، اتخذتني في مدرعة صوف ولم أملك قيراطاً وأنا اليوم أتصرف في ألوف وأتبختر في الخزوز. إني أخونك، وأنت تخون معاوية، ومعاوية يخون الله ورسوله.
نجز الباب السابع من التذكرة بعون من الله وحسن رعاية.
يتلوه إن شاء الله تعالى الباب الثامن: في الصدق والكذب ويتصل به فصل في العهود والمواثيق وأقسام العرب.
الباب الثامن
في الصدق والكذب
ويتصل به فصل في العهود والمواثيق وأقسام العرب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواجب شكره وحمده، الصادق قوله ووعده، الوفي ميثاقه الخفي بره ورفده، الذي جعل الصدق منجاة لقائليه، والإفك مرداة لمؤتفكيه، أمر باجتناب الزور، ونهى عن اتباع الغرور، وندب إلى حفظ المواثيق والعهود، فقال: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " " المائدة: 1 " وابتعث من أكرم محتد وأطيب مولد رسولاً صادقاً في المقالة، صادعاً بالرسالة، ما كذب فؤاده ما رأى، ولا نطق عن الهوى، وأيده من صحبه بالصادقين قولاً وفعلاً، والمخلصين سراً وجهراً، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكل منهم قضى نحبه مؤدياً حقه إليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً نبيه ورسوله، وعبده وخليله، شهادة أدخرها ليوم المعاد، وأجعلها العدة فيه والزاد، يوم ينفع الصادقين صدقهم، ويؤدى جزاؤهم عما قدموه وحقهم.
قال الله عز وجل مبشراً للصادقين " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " " المائدة: 119 " وقال عز وجل " إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً " " الأحزاب: 35 " وقال تعالى في الكاذبين " ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " " البقرة: 10 " وإن كان أراد الكذب عليه سبحانه في آي كثير من القرآن: " ويل لكل أفاك أثيم " " الجاثية: 7 " " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله " " النحل: 105 " وفي شهادة الزور والكذب " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً " " الإسراء: 36 " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الطير يوم القيامة لتضرب بمناقيرها، وتقذف بما في حواصلها، وتحرك أذنابها، من هول يوم القيامة، وما يكلم شاهد الزور ولا تقر قدماه في الأرض حتى يقذف به في النار.
وقال صلى الله عليه وسلم: إياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار. وتحروا الصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة.

روي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله فأسلم ثم قال: يا رسول الله إنما أوخذ من الذنوب بما ظهر، وأنا أستسر بخلال أربع: الزنا والسرق وشرب الخمر والكذب، فأيهن أحببت تركت لك سراً. قال: دع الكذب. فلما تولى من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هم بالزنا فقال: يسألني رسول الله فإن جحدت نقضت ما جعلت له، وإن أقررت حددت؛ فلم يزن، ثم هم بالسرق، ثم بشرب الخمر فتفكر في مثل ذلك فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد تركتهن جمع.
ومن كلام لعلي بن أبي طالب عليه السلام: علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك.
وقال عمر رضي الله عنه: عليك بالصدق وإن قتلك.
وقيل: ما السيف الصارم في كف الشجاع بأعز له من الصدق.
وقيل: الصدق زين إلا أن يكون سعاية فإن الساعي أخبث ما يكون إذا صدق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان.
قال الأصمعي: كان ربعي بن خراش لم يكذب قط، فأقبل ابنان له من خراسان من عند قتيبة وقد أخلا بمركزهما فباتا عنده، فسعي بهما، فدعا به عامل البصرة فقال: أين ابناك؟ قال: تركتهما في المنزل قال: هما لك.
لما نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد أقعده في قبة حمراء وجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين اعلم انك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها، والأحنف جالس، فقال معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ فقال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت. فقال: جزاك الله عن الطاعة خيراً؛ وأمر له بألوف.
فلما خرج الأحنف لقيه الرجل بالباب فقال: يا أبا بحر، إني لأعلم أن شر ما خلق الله تعالى هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت. قال له الأحنف: يا هذا أمسك، فإن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً.
قال رجل لعبد الملك بن مروان: إني أريد أن أسر إليك شيئاً، فقال له عبد الملك: قف، لا تمدحني فإني أعلم بنفسي، ولا تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب، ولا تغتب عندي أحداً. فقال: يا أمير المؤمنين، أتأذن في الانصراف؟ قال: إذا شئت.
روي أن الحجاج جلس لقتل أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقام رجل منهم: فقال: أصلح الله الأمير، إن لي عليك حقاً قال: وما حقك؟ قال: سبك عبد الرحمن يوماً فرددت عليه، فقال: من يعلم ذلك؟ قال: أنشد الله رجلاً سمع ذلك إلا شهد به. فقام رجل من الأسراء فقال: قد كان ذاك أيها الأمير، قال: خلوا عنه. ثم قال للشاهد: فما منعك أن تنكر كما أنكر؟ قال: لقديم بغضي إياك، قال: وليخل عنه لصدقه.
كتب عمر بن عبد العزيز في إشخاص إياس بن معاوية المزني وعدي ابن أرطأة الفزاري، أمير البصرة وقاضيها يومئذ، فصار إليه عدي فقرب أن يثني عليه عند الخليفة فقال: يا أبا وائلة إن لنا حقاً ورحماً، فقال إياس: أعلى الكذب تريدني؟! والله ما يسرني أن كذبت كذبة يغفرها الله لي ولا يطلع عليها إلا هذا - وأومأ إلى ابنه - ولي ما طلعت عليه الشمس.
امتدح ابن ميادة جعفر بن سليمان فأمر له بمائة ناقة فقبل يده وقال: والله ما قبلت يد قرشي غيرك إلا واحداً فقال: أهو المنصور؟ قال: لا والله قال: فمن هو؟ قال: الوليد بن يزيد. فغضب، فقال: والله ما قبلتها لله، ولكن قبلتها لنفسي فقال: والله لا ضرك الصدق عندي، أعطوه مائة ناقة أخرى.
استشهد ابن الفرات في أيام وزارته علي بن عيسى فلم يشهد له وكتب إليه لما عاد إلى بيته: لا تلمني على نكوصي عن نصرتك بشهادة زور، فإنه لا اتفاق على نفاق، ولا وفاء لذي مين واختلاق، وأحر بمن تعدى الحق في مسرتك إذا رضي، أن يتعدى إلى الباطل في مساءتك إذا غضب.
قيل: أي الصدقين السكوت عنه أمثل؟ قيل تزكية المرء نفسه.
وقيل: إن الكذب يحمد إذا قرب بين المتقاطعين، ويذم الصدق إذا كان غيبة.
وقد رفع الحرج عن الكاذب في الحرب، والمصلح بين المرء وزوجه.
وكان المهلب في حرب الخوارج يكذب لأصحابه، يقوي بذاك جأشهم، فإذا رأوه مقبلاً إليهم قالوا: قد جاءنا يكذب.
وقيل: خصلتان لا تفارقان صاحبهما: الأبنة والكذب.

وقال يحيى بن خالد: رأيت شريب خمر نزع، ولصاً أقلع، وصاحب فواحش راجع، ولم نر كذاباً قد صار صادقاً.
وقالوا: لا تجعل رسولك كذاباً فإنه إن كذبك أورطك، وإن صدقك حيرك.
قال أبو عمرو ابن العلاء: ساد عتبة بن ربيعة وكان مملقاً، وساد أبو جهل وكان حدثاً، وساد أبو سفيان وكان بخالاً، وساد عامر بن الطفيل وكان عاهراً، وساد كليب وائل وكان ظلوماً، وساد عيينة وكان محمقاً، ولم يسد قط كذاب. فصلح السؤدد مع الفقر والحداثة والبخل والعهر والظلم والعهر والظلم والحمق، ولم يصلح مع الكذب، لأن الكذب يعم الأخلاق كلها بالفساد.
قال الجاحظ: قلت لروح بن الطائفية: رأيت من يكذب فيما يضر وينفع، ولم أر من يكذب فيما لا يضر ولا ينفع غيرك، فقال: يا أبا عثمان، لا يكون الكذاب عندنا كذاباً حتى يكذب فيما لا يضره ولا ينفعه.
قيل لكذاب بما تغلب الناس؟ قال: أبهت بالكذب وأستشهد بالموتى.
قال الأصمعي: عذلت كذاباً في الكذب فقال: والله إني لأسمعه من غيري فيدار بي من شهوته.
من كلام سهل بن هارون: إن زخرف الكلام لا يثبت زلل الأقدام، وللصدق آثار في القلوب لا تعفيها عواصف رياح الكذوب.
وللعرب أقوال منكرة، فمن ذاك قول رجل من آل الحارث بن ظالم: والله لقد غضب الحارث يوماً فانتفخ في ثوبه، فبدر من عنقه أربعة أزرار، ففقأت أربعة أعين من عيون جلسائه.
وتزعم الرواة أن عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب قال لابني الجون الكنديين: إن لي عليكما حقاً لرحلتي ووفادتي، فدعاني أنذر قومي من موضعي، فقالا: شأنك، فصرخ بقومه فأسمعهم على مسيرة ليلة.
ويقولون إن أبا عروة السباع كان يصيح على السبع فيفتق مرارته في جوفه.
ويقولون في خبر لقمان بن عاد: إن جارية له سئلت عما بقي من بصره لدخوله في السن، فقالت: لقد ضعف بصره، ولقد بقيت منه بقية، إنه ليفصل بين أثر الأنثى والذكر من الذر إذا دب على الصفا.
وكان عمرو بن معدي كرب مشهوراً بالكذب. وكان أهل الكوفة الأشراف يظهرون بالكناسة فيتحدثون على دوابهم إلى أن تطردهم الشمس. فوقف عمرو بن معدي كرب وخالد بن الصقعب النهدي، وأقبل عمرو يحدثه فقال: أغرنا على بني نهد فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت عليه فأذريته، ثم ملت إليه بالصمصامة فأخذت رأسه، فقال خالد: حلا أبا ثور، إن قتيلك هو المحدث. فقال يا هذا إذا حدثت فاستمع، فإنما نتحدث بمثل هذا لنرهب به هذه المعدية.
وقيل لخلف الأحمر، وكان شديد التعصب لليمن: أكان عمرو بن معدي كرب يكذب؟ فقال: كان يكذب في المقال، ويصدق في الفعال.
وسئل أبو عبيدة عن مثل هذه الأخبار من أخبار العرب فقال: إن العجم تكذب فتقول: كان رجل نصفه من نحاس ونصفه من رصاص، فتعارضها العرب بهذا وشبهه.
قال المبرد: تكاذب أعرابيان فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس فإذا بظلمة شديدة فيممتها حتى وصلت إليها فإذا قطعة من الليل لم تنتبه، فما زلت أحمل عليها بفرسي حتى أنبهتها فانجابت. فقال الآخر: لقد رميت ظبية مرة بسهم فعدل الظبي يمنة فعدل السهم خلفه، ثم تياسر فتياسر السهم، ثم علا الظبي فعلا السهم، ثم انحدر فأخذه.
وذكروا أن رجلاً نظر إلى ظبية فقال له أعرابي: أتحب أن تكون لك؟ قال: نعم، قال: فأعطني أربعة دراهم حتى أردها إليك، ففعل، فخرج يمحص في أثرها فجدت وجد حتى أخذ بقرنيها فجاء بها وهو يقول: من الرجز
وهي على البعد تلوي خدها ... تريغ شدي وأريغ شدها
كيف ترى عدو غلام ردها
قال العتبي: أنا أصدق في صغير ما يضرني، ليجوز كذبي في كبير ما ينفعني.
قال الجاحظ: قلت لخباب إنك لتكذب في الحديث، قال: وما عليك إذا كان الذي أزيد فيه أحسن منه؟ فوالله ما ينفعك صدقه ولا يضرك كذبه، وما يدور الأمر إلا على لفظ جيد ومعنى حسن. لكنك والله لو أردت ذلك لتلجلج لسانك وذهب كلامك.

روي أنه اجتمع بدار المهدي بعيساباذ عالم من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا بالمفضل الضبي الراوية فدخل، فمكث ملياً ثم خرج ذلك الرجل بعينه فدعا بحماد الراوية، فمكث ملياً ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعاً، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط. ثم خرج الحسين الخادم معهما فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس فيها، ووصل المفضل بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته. فمن أراد أن يسمع شعراً محدثاً جيداً فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده: إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال: دع ذا وعد القول في هرم، ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئاً إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله أو يروي في أن يقول شعراً، فعدل عنه إلى مدح هرم وقال: دع ذا، أو كان مفكراً في شيء من شأنه فتركه وقال: دع ذا، أي دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم. ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل فقال: ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ فأنشده: من الكامل المرفل
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن عشر
قفر بمندفع النجائب من ... ضفوى أولات الضال والسدر
دع ذا وعد القول في هرم ... خير الكهول وسيد الحضر
قال: فأطرق المهدي ساعة ثم أقبل على حماد فقال: قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لابد من استحلافك عليه، ثم أحلفه بأيمان البيعة وكل يمين محرجة ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه، فلما توثق منه قال له: اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير، فأقر له حينئذ أنه قالها، فأمر فيه وفي المفضل بما أمر من شهر أمرهما وكشفه.
عبد الصمد بن المعذل في صديق له كان معروفاً بالكذب: من المنسرح
لي صاحب في حديثه البركه ... يزيد عند السكون والحركه
لو قال لا في قليل أحرفها ... لردها بالحروف مشتركه
لما أراد المنصور البيعة لابنه المهدي أمر بإحضار الناس، وقامت الخطباء فتكلمت، وقالت الشعراء فأكثرت في وصف المهدي وفضائله، وفيهم مطيع بن إياس، فلما فرغ من كلامه في الخطباء وإنشاده في الشعراء قال للمنصور: يا أمير المؤمنين حدثنا فلان بن فلان أن النبي صلى الله عليه وعلى آله قال: المهدي منا محمد بن عبد الله، وأمه من غيرنا، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وهذا العباس بن محمد أخوك يشهد على ذلك. ثم أقبل على العباس فقال: أنشدك الله أسمعت هذا؟ فخاف من المنصور فقال: نعم، فأمر المنصور الناس بالبيعة للمهدي. قال: ولما انقضى المجلس قال العباس بن محمد لمن يأنس به: أرأيتم هذا الزنديق، لم يرض أن كذب على الله عز وجل ورسوله عليه السلام حتى استشهدني على كذبه، فشهدت له خوفاً وشهد كل من حضر علي بأني كاذب.
قال إسحاق: دخلت على الفضل بن الربيع وقد بلغ الرشيد إطلاقه يحيى بن عبد الله بن الحسن، وقد كان أمر بقتله فلم يظهر له أنه قتله، وسأله عن خبره هل قتله؟ فقال: لا، قال: فأين هو؟ قال: أطلقته. قال: ولم؟ قال: لأنه سألني بحق الله ورسوله وقرابته منه ومنك، وحلف لي أنه لا يحدث حدثاً وأنه يجيئني متى طلبته، فأطرق ساعة ثم قال: امض بنفسك في طلبه حتى تجئني به واخرج الساعة، فخرج.
قال: فدخلت عليه مهنئاً بالسلامة، فقلت له: ما رأيت أثبت من جأشك، ولا أصح من رأيك فيما جرى، وأنت والله كما قال أشجع، ويروى أيضاً لسلم الخاسر: من الوافر
بديهته وفكرته سواء ... إذا ما نابه الخطب الكبير
وأحزم ما يكون الدهر رأياً ... إذا عي المشاور والمشير
وصدر فيه للهم اتساع ... إذا ضاقت عن الهم الصدور
فكانت نجاة الفضل في صدقه.

وقد روي أن يعقوب بن داود كذب المهدي في مثل هذه القصة، فكان سبب فساد حاله معه، وكان بلغ به الغاية، وله أمناء في البلاد، فكان لا ينفذ للمهدي توقيع حتى يكون معه كتاب من يعقوب إلى أمينه في ذلك البلد. ثم اتهمه المهدي بميله إلى العلوية، وأراد اختباره، فدعا به يوماً وهو في مجلس أنسه، وعلى رأسه جارية حسناء، فقال له: كيف ترى مجلسنا؟ قال: على غاية الحسن، يمتع الله أمير المؤمنين به. فقال له: جميع ما فيه لك، وهذه الجارية لك ليتم سرورك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم تصرفها في بعض شأنك. فدعا له بما يحب، وقال له: لي إليك حاجة، فقام قائماً وقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا القول إلا لموجدة، وقال: أنا أستعيذ بالله من سخطك، فقال: أحب أن تضمن قضاءها، فقال له: السمع والطاعة. فأحلفه المهدي، فلما استوثق منه قال له: هذا فلان بن فلان - رجل من العلوية - أحب أن تكفيني مؤونته وتريحني منه، فخذه إليك. فحوله إليه وحول الجارية وما كان في المجلس والمال، وأحضر العلوي فوجده لبيباً فهماً تقياً فقال له: ويحك يا يعقوب، تلقى الله بدمي وأنا من ولد فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له يعقوب: يا هذا فيك خير؟ فقال له: إن فعلت في خيراً شكرت ودعوت لك واستغفرت، فقال له: خذ هذا المال وخذ أي طريق شئت، فقال: طريق كذا وكذا آمن لي، فقال له: امض مصاحباً. وسمعت الجارية الكلام كله فأرسلت به إلى المهدي، فشحن الطريق حتى ظفر بالرجل وبالمال، ثم وجه إلى يعقوب فأحضره وسأله عن الرجل فقال: قد أراحك الله منه، قال: مات؟ قال: نعم، قال: آلله، قال: والله، قال: فضع يدك على رأسي ففعل، وحلف له به أنه مات. فقال: يا غلام أخرج إلينا من هذا البيت، ففتح بابه عن العلوي والمال، فتحير يعقوب وامتنع عليه الكلام، فقال له المهدي: لقد حل لي دمك، وحبسه في مطبق، وطوى خبره عن كل أحد حتى أخرجه الرشيد بعد صدر من ولايته وقد عمي.
قيل: كان يزيد بن أسد أكذب الناس، معروفاً بذلك، وكان يسمى خطيب الشيطان، ونشأ ابنه عبد الله فسلك منهاجه في الكذب، ثم نشأ ابنه خالد بن عبد الله ففاق الجماعة في الكذب، إلا أن الولاية وسخاء كان فيه سترا بعض أمره. فقال عمرو بن يزيد: فإني لجالس على باب هشام بن عبد الملك إذ قدم إسماعيل بن عبد الله أخو خالد بخبر المغيرة بن سعيد وخروجه بالكوفة، وجعل يأتي بأحاديث أنكرها، فقلت له: من أنت يا ابن أخي؟ فقال: إسماعيل بن عبد الله بن يزيد القسري، فقلت له: أنكرت ما جرى حتى عرفت نسبك، فجعل يضحك.
؟وقال ابن الكلبي: أول كذبة كذبتها في النسب أن خالد بن عبد الله سألني عن جدته أم كرز، وكانت أمة بغياً لبني أسد يقال لها زرنب، فقلت: هي زينب بنت عرعرة بن جذيمة بن نصر بن قعين، فسر بذلك ووصلني. قال: ثم قال خالد ذات يوم لمحمد بن منظور الأسدي: يا أبا الصباح قد ولدتمونا، قال: ما أعرف فينا ولادة لكم، إن هذا لكذب. فقيل: لو أقررت للأمير بولادة ما ضرك، قال: أفسد وأستليط من ليس مني، وأقر بالكذب على قومي!؟! روي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر فقال: مانع في حوزته، مطاع في أدنيه شديد العارضة. فقال الزبرقان: أما إنه قد علم أكثر، ولكنه حسدني شرفي. فقال عمرو: أما لئن قال ما قال فوالله ما علمته إلا ضيق العطن، زمر المروءة، لئيم الخال، أحمق الوالد، حديث الغنى. فلما رأى الإنكار في وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله قال: يا رسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى. فقال صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إن من البيان لسحراً.
قال قائل: رأيت أرسطاطاليس في النوم فقلت: أي الكلام أحسن؟ فقال ما صدق قائله. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما استحسنه سامعه، قلت: ثم ماذا؟ قال: كل كلام جاوز هذا فهو ونهيق الحمار بمنزلة.
ويقال: الصدق أفضل من الكذب إلا في السعاية، والعزة أفضل من الذل إلا في الاعتداء، والأناة أنجح من العجلة إلا في التقوى، والشجاعة أفضل من الجبن إلا في أمر الله عز وجل، والأمن أفضل من الخوف إلا من مكر الله عز وجل، والراحة أفضل من التعب إلا في طاعة الله عز وجل، والحلم أفضل من الجهل إلا عن من يعصي الله عز وجل، والجود أفضل من البخل إلا في بذل الدين والعرض.

ويقال: الكذب مفتاح كل كبيرة، والخمر جماع كل شر.
وقيل: لا تأمن من يكذب لك أن يكذب عليك.
ويقال: الكذاب محل كل تهمة.
وقيل: الأذلاء أربعة: النمام والكذاب والمديون والفقير.
وقال بعض العلماء: الأناة قبل الرأي، والصدق توفيق المنطق.
وقال حكيم: الصدق أزين حلية، والمعروف أربح تجارة، والشكر أدوم نعمة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بك إثماً أن لا تزال مخاصماً، وكفى بك كذباً أن لا تزال محدثاً في غير ذات الله عز وجل.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس بكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً أو نمى خيراً. وأنه صلى الله عليه وعلى آله قال: يا أيها الناس ما يحملكم على أن تتايعوا في الكذب كما يتتايع الفراش في النار. كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا في ثلاثة: رجل يكذب رجلاً في إصلاح بين اثنين، أو يكذب امرأته، أو يكذب في خدعه حرب. إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب.
وقال ابن سيرين: الكلام أوسع من أن يصرح بالكذب من الظريف قال المنصور لهشام بن عروة: يا أبا المنذر تذكر يوم دخلت عليك وإخوتي مع أبي الخلائف - يعني أباه - وأنت تشرب سويقاً بقصبة يراع، فلما خرجنا قال لنا أبونا: اعرفوا لهذا الشيخ حقه فإنه لا يزال في قومكم خير ما بقي، قال: لا أذكر ذلك يا أمير المؤمنين. فلامه بعض أهله وقالوا: يذكرك أمير المؤمنين بما يمت به إليك، فتقول لا أذكره؟ فقال: لم أذكر ذلك، ولم يعوضني الله من الصدق إلا خيراً.
مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعجوز تبيع اللبن في سوق الليل فقال لها: يا عجوز، ألم أعهد إليك لا تشوبي لبنك بالماء؟ فقالت: والله ما فعلت يا أمير المؤمنين، فتكلمت بنت لها من داخل الخباء فقالت: يا أمه أغشاً وخشاً جمعت على نفسك؟ فسمعها عمر فأعجبته، فالتفت إلى ولده فقال: أيكم يتزوجها فلعل الله أن يخرج منها نسمة طيبة؟ فقال له ابنه عاصم: أنا أتزوجها يا أمير المؤمنين، فزوجها منه، فأولدها أم عاصم، تزوجها عبد العزيز بن مروان فولدت له عمر بن عبد العزيز.
روي أن بلالاً لم يكذب منذ أسلم، فبلغ ذلك بعض من يحسده فأراد أن يعنته فقال: اليوم أكذبه، فساره فقال: يا بلال ما سن فرسك؟ قال: عظم، قال: فما جريه؟ قال: يحضر ما استطاع، قال: فأين تنزل؟ قال: حيث أضع قدمي، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن أبي وأمي قال: فكم أتى عليك؟ قال: ليال وأيام الله يعلم عددها. فقال: هيهات، أعيت فيك حيلتي، ما أتعنت بعد اليوم أبداً.
روي أن المأمون أمر الكتاب أن يعلموا لعمرو بن مسعدة عملاً بما يلزمه من المال عن أعمال السواد التي كان يتقلدها، فعملوا له عملاً بثمانية وعشرين ألف ألف درهم. فأمرهم المأمون بإعادة النظر فيه وإسقاط كل ما كان فيه تأويل أو حجة، وتقريره على ما لا يدفع ولا يحتج بإبطال شيء منه. وقرر الجميع على اثنين وعشرين ألف ألف درهم، ولم يكن له في شيء منها شبهة فضلاً عن حجة. فدعا به المأمون وقال له: ما تقول في هذا المال يا عمرو؟ قال: هو صحيح وعندي منه ثمانية عشر ألف ألف درهم، وتخرمت مؤونتي أربعة آلاف ألف درهم، فقال: ليحمل إليك من بيت المال أربعة آلاف ألف درهم مكان ما تخرمت مؤونتك، وبارك الله لك في الجميع جزاء على صدقك. فحمل إليه المال فكان بأخص منزلة عنده.
قال عبد الله بن عمرو: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما عمل أهل الجنة؟ فقال: الصدق، إذا صدق العبد بر، وإذا بر أمن، وإذا أمن دخل الجنة. فقال: يا رسول الله، ما عمل أهل النار؟ قال: الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل النار.
وعنه عليه السلام: الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن المرء ليتحرى الصدق حتى يكتب صديقاً.
وقالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم يعرف المؤمن؟ قال: بوقاره ولين كلامه وصدق حديثه.
وقال صلى الله عليه وسلم: ما أملق تاجر صدوق: التاجر الصدوق إن مات في سفره مات شهيداً، وإن مات على فراشه مات صديقاً.
وقال الأحنف لابنه: يا بني يكفيك من شرف الصدق أن الصدوق يقبل قوله في عدوه، ومن دناءة الكذب أن الكذاب لا يقبل قوله في صديقه ولا عدوه.
لكل شيء حلية، وحلية المنطق الصدق.
الصدق يدل على اعتدال وزن العقل.
فصل في الأيمان والمواثيق وأقسام العرب

قال الله عز وجل: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " " البقرة: 224 " وقال تعالى: " واحفظوا أيمانكم " " المائدة: 89 " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان.
وقال صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه.
وقال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحلف: لا ومقلب القلوب.
وقد أقسم الله وعز وجل في كتابه العزيز بمصنوعاته الدالة على قدرته وحكمته تعظيماً له تعالى لا لها. وقيل المراد: ورب هذه الأشياء.
واليمين الغموس عند الفقهاء تكون على ماض لم يكن. وقال الشافعي: يكون في خبره كاذباً وتجب بها الكفارة، وهو مذهب عطاء والزهري والحكم بن عيينة وعثمان البتي. وقال أبو حنيفة ومالك والثوري والليث وأحمد وإسحاق لا تجب بها الكفارة، وحكي ذلك عن سعيد بن المسيب وقال: هي من الكبائر أعظم من أن تكفر.
ولغو اليمين عند الشافعي ما وقع من غير قصد ماضياً كان أو مستقبلاً مثل قوله: لا والله، بلى والله. وقال أبو حنيفة: لغو اليمين الحلف على الماضي من غير أن يقصد الكذب في يمينه، كأنه يظن شيئاً فيحلف عليه، وهو إحدى الروايتين عند أحمد، والأخرى مثل الشافعي. وحكي عن مالك أنه قال: هو اليمين الغموس.
واختلفوا فيما يكون يميناً توجب الكفارة وما لا يوجبها، فقال الشافعي: إذا قال: إن فعلت كذا وكذا فأنا يهودي، أو بريء من الله، أو من رسوله، أو من الإسلام، لم تكن يميناً، ولم تتعلق به الكفارة، وهو مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد. وقال أبو حنيفة وأحمد والثوري وإسحاق تتعلق الكفارة بفعله. وقال الشافعي ومالك وأحمد إذا قال: وحق الله فهو يمين. وقال أبو حنيفة: لا تكون يميناً لأن حقوق الله إنما هي طاعات، وتلك مخلوقة، ولا يمكن الحلف بها يميناً.
وقالوا: الحلف لا يخلو إما أن يكون بما هو عبارة عن الله تعالى خاصة، أو باسم من أسمائه، أو بصفة من صفاته، فالأول يكون الحلف به يميناً بكل حال. وأما الثاني فالأسماء على ثلاثة أضرب: أحدهما ما لا يسمى به إلا الله تعالى، مثل الرحمن أو الأول الذي ليس قبله شيء، فهذا يكون يميناً بكل حال، والثاني ما يسمى به الله تعالى ويسمى به غيره على سبيل المجاز والإطلاق ينصرف إلى الله تعالى فيكون يميناً في الإطلاق إذا قصد به اليمين، وإذا أراد بالاسم غير الله تعالى لم تكن يميناً. والثالث ما يستعمل في الله تعالى ويشاركه فيه غيره، ولا ينصرفا لإطلاق إليه، مثل قولهم: الموجود، الحي، الناطق، فذلك لا يكون الحلف به يميناً سواء قصد به الله تعالى أو لم يقصد، لأن اليمين إنما تنعقد بحرمة الاسم، فإذا كان مشتركاً لم يكن له حرمة.
فأما الثالث وهو الصفة فإذا حلف بصفة من صفات ذاته كان يميناً، قال الشافعي: مثل أن يقول وعظمة الله، أو جلال الله، أو قدرة الله. والحلف بالقرآن يكون عند الشافعي يميناً. قال أبو حنيفة: لا يكون ذلك يميناً، فهذه جمل أقوالهم.
وأذكر الآن ما جاء في تفسير بعض الأقسام التي وردت في الكتاب العزيز.
فمن ذلك قوله سبحانه: " والصافات صفاً. فالزاجرات زجراً. فالتاليات ذكراً " " الصافات: 1 - 3 " قيل: المراد بالصافات الملائكة. " فالزاجرات زجراً " الملائكة تزجر السحاب، وقيل كل ما زجر عن معصية الله عز وجل. " والتاليات ذكراً " الملائكة، قال الزجاج: وجائز أن يكون الملائكة وغيرهم ممن يتلو ذكر الله عز وجل.
وقوله عز وجل " حم والكتاب المبين " " الزخرف: 1 - 2 والدخان: 1 - 2 " أي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة وأبان كل ما تحتاج إليه الأمة.
وقوله تعالى " والذاريات ذرواً. فالحاملات وقراً. فالجاريات يسراً فالمقسمات أمراً " " الذاريات: 1 - 4 " . روي أن ابن الكواء سأل علياً عليه السلام عن هذه الآيات فقال: " الذاريات ذرواً " الرياح، " فالحاملات وقراً " السحاب، " فالجاريات يسراً " الفلك، " فالمقسمات أمراً " الملائكة.

وقوله سبحانه " والطور. وكتاب مسطور. في رق منشور. والبيت المعمور. والسقف المرفوع. والبحر المسجور " " الطور: 1 - 6 " " والطور " جبل قيل هو الذي كلم الله عز وجل عليه موسى عليه السلام. " والكتاب المسطور " ها هنا ما أثبت على بني آدم من أعمالهم. " رق منشور " الصحائف. " والسقف المرفوع " السماء. " والبيت المعمور " في التفسير أنه بيت في السماء بإزاء الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم يخرجون منه ولا يعودون إليه. " والبحر المسجور " جاء في التفسير أن البحر يسجر فيكون نار جهنم، وأهل اللغة يقولون: " البحر المسجور " المملوء، وأنشدوا: من المتقارب
إذا شاء طالع مسجورة ... ترى حولها النبع والساسما
يعني عيناً مملوءة بالماء.
وقوله عز وجل " والنجم إذا هوى " " النجم: 1 " قيل أقسم بالنجم. وقال أهل اللغة: النجم بمعنى النجوم، وأنشدوا: من الطويل
فظلت تعد النجم في مستحيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها
ومثله " فلا أقسم بمواقع النجوم " " الواقعة: 75 " " وهوى " سقط، وجاء في التفسير أن النجم نزول القرآن نجماً بعد نجم، وكان تنزل منه الآية والآيتان، وعلى هذا يكون هوى بمعنى نزل.
وقوله سبحانه " لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة " " القيامة: 1 - 2 " معناه أقسم بيوم القيامة والنفس اللوامة تفسيرها: أن كل نفس تلوم صاحبها في الآخرة إن كان عمل شراً لامته نفسه، وإن كان عمل خيراً لامته على ترك الاستكثار منه. واختلفوا في تفسير لا فقال بعضهم: هي لغو وإن كانت في أول السورة، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة لأنه متصل بعضه ببعض، فجعلت لا ها هنا بمنزلتها في قوله " لئلا يعلم أهل الكتاب " " الحديد: 9 " والمعنى لأن يعلم أهل الكتاب وقال بعض النحويين: لا رد لكلام، كأنهم أنكروا البعث فقال: لا، ليس الأمر على ما ذكرتم، أقسم بيوم القيامة أنكم مبعوثون، دل على الجواب قوله: بلى قادرين أن نجمعهم، قادرين على أن نسوي بنانه.
وقوله تعالى " والمرسلات عرفاً. فالعاصفات عصفاً. والناشرات نشراً. فالفارقات فرقاً. فالملقيات ذكراً " " المرسلات: 1 - 5 " جاء في التفسير: والمرسلات الرياح أرسلت كعرف الفرس، وكذلك " فالعاصفات عصفاً والناشرات نشراً " الرياح تأتي بالمطر كما قال عز وجل " وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته " " الأعراف: 57 " " فالفارقات فرقاً " الملائكة جاءت بما يفرق بين الحق والباطل، وكذلك " فالملقيات ذكراً " .
وقيل: المرسلات الملائكة أرسلت المعروف، وقيل كعرف الفرسن وقيل العاصفات الملائكة، تعصف بروح الكافر. والباقي إلى آخر الآيات يعني به الملائكة.
وقيل: " والمرسلات عرفاً " يعني به الرسل.
وقوله تعالى: " والنازعات غرقاً. والناشطات نشطاً. والسابحات سبحاً. فالسابقات سبقاً. فالمدبرات أمراً " " النازعات: 1 - 5 " جاء في التفسير: والنازعات الملائكة، وكذلك الناشطات تنزع روح الكافر وتنشطها ويشتد عليه أمر خروج نفسه. وقيل: " والسابحات سبحاً. فالسابقات سبقاً " أرواح المؤمنين تخرج بسهولة. وقيل: " والنازعات غرقاً " القسي، " والناشطات نشطاً " الأوهاق، " والسابحات سبحاً " السفن، " فالسابقات سبقاً " الخيل، " فالمدبرات أمراً " الملائكة كل منهم لما وكل به.
وقيل: النازعات النجم، تنزع من مكان إلى مكان وكذلك السابحات تسبح في الفلك كما قال سبحانه " وكل في فلك يسبحون " وكذلك " فالسابقات سبقاً فالمدبرات أمراً " فالملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وقوله عز وجل " والسماء ذات البروج. واليوم الموعود. وشاهد ومشهود " " البروج: 1 - 3 " : " اليوم الموعود " : يوم القيامة، وشاهد يوم الجمعة ومشهود: يوم عرفة.
وقوله تعالى: " والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب " " الطارق: 1 - 3 " : الطارق النجم يعني به النجوم، وقد تقدم الشاهد، وإنما قيل للنجم طارق لأن طلوعه بالليل، فكل ما أتى ليلاً فهو طارق لأن الليل يسكن فيه، ومن هذا قيل: أطرق فلان إذا أمسك عن الكلام وسكن. والثاقب المضيء، يقال له ثقب يثقب ثقوباً إذا أضاء.

وقوله سبحانه " والعاديات ضبحاً. فالموريات قدحاً. فالمغيرات صبحاً " " العاديات: 1 - 3 " قيل هي الخيل، وضبحها صوت أجوافها إذا عدت. " والموريات قدحاً " إذا عدت الخيل بالليل وأصابت حوافرها الحجارة انقدح منها النيران. وروي أنها سرية كانت للنبي عليه السلام إلى كندة.
أقسام العرب قال الجاحظ عن الهيثم: يمين لا يحلف بها أعرابي أبداً أن يقول: لا أورد الله لك صادراً، ولا صدر لك وارداً، ولا حططت رحلك، ولا خلعت نعلك.
حلف أعرابي فقال: لا والذي شقهن خمساً من واحدة، وأشار إلى كفه.
وقال مالك بن الحارث الأشتر: من الكامل
بقيت وفري وانحرفت عن العلى ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن حرب غارة ... لم تخل يوماً من نهاب نفوس
خيلاً كأمثال السعالي شزباً ... تعدو ببيض في الكريهة شوس
حمي الحديد عليهم فكأنه ... ومضان برق أو شعاع شموس
وقال معدان بن جواس الكندي: من الطويل
إن كان ما بلغت عني فلامني ... صديقي وشلت من يدي الأنامل
وكفنت وحدي منذراً بردائه ... وصادف حوطاً من أعادي قاتل
وقال عدي بن زيد: من الوافر
فإن لم تهلكوا فثكلت عمراً ... وجانبت المروق والسماعا
ولا ملكت يداي عنان طرف ... ولا أبصرت من شمس شعاعا
ولا وضعت إلي على خلاء ... حصان يوم جلوتها قناعا
وقال عمرو بن قميئة: من المتقارب
فإن كان حقاً كما خبروا ... فلا وصلت لي يمين شمالا
وقال العلوي البصري من أبيات قد ثبتت في موضع آخر من هذا الكتاب: من الكامل
ويقول للطرف اصطبر لشبا القنا ... فهدمت ركن المجد إن لم تعقر
وإذا تأمل شخص ضيف طارقاً ... متسربلاً سربال ليل أغبر
أوما إلى الكوماء هذا طارق ... نحرتني الأعداء إن لم تنحري
محمد بن الحصين الأنباري: من الخفيف
ثكلتني التي تؤمل إدرا ... ك العلا بي وعاجلتني المنون
إن تولى بظلمنا عبد عمرو ... ثم لم تلفظ السيوف الجفون
نسخة بيعة لخليفة ويمين: تبايع عبد الله الإمام أمير المؤمنين بيعة طوع وإيثار، ورضى واختيار، واعتقاد وإضمار، وإعلان وإسرار، وإخلاص من طويتك، وصدق من نيتك، وانشراح من صدرك، وصحة من عزيمتك، طائعاً غير مكره، ومنقاداً غير مجبر، مقراً بفضلها، ومعترفاً ببركتها، ومعتداً بحسن عائدتها، وعالماً بما فيها وفي توكيدها من صلاح الكافة، واجتماع كلمة الخاصة والعامة، ولم الشعث، وأمن العواقب، وسكون الدهماء، وعز الأولياء، وقمع الأعداء ثم على أن فلاناً عبد الله وخليفته، المفترض عليك طاعته، الواجبة على الأمة ولايته وإمامته، اللازم لهم القيام بحقه، والوفاء بعهده، لا تشك فيه، ولا ترتاب به، ولا تداهن في أمره، ولا تميل إلى غيره، وإنك ولي أوليائه، وعدو أعدائه، من خاص وعام، وقريب وبعيد، وحاضر وغائب، متمسك في بيعته بوفاء العهد وذمة العقد، سريرتك مثل علانيتك، وضميرك فيه وفق ظاهرك. على أن إعطاءك هذه البيعة من نفسك، وتوكيدك إياها في عنقك، لفلان أمير المؤمنين عن سلامة من قلبك، واستقامة من عزمك، واستمرار من هواك ورأيك، على أن لا تتأول عليه فيها، ولا تسعى في نقض شيء منها، ولا تقعد عن نصرة له في الرخاء والشدة، ولا تدع النصح له في كل حال راهنة وحادثة، حتى تلقى الله موفياً بها، مؤدياً للأمانة فيها، إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض " إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم. فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " " الفتح: 10 " .

عليك بهذه البيعة - التي طوقتها عنقك، وبسطت لها يدك، وأعطيت فيها صفقتك، وما شرط عليك فيها من وفاء وموالاة، ونصح ومشايعة، وطاعة وموافقة، واجتهاد ومبالغة - عهد الله، إن عهده كان مسؤولاً، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله عليهم السلام وعلى من أخذ من عباده من موكدات مواثيقه، ومحكمات عهوده، وعلى أن تتمسك بها فلا تبدل، وتستقيم فلا تميل. وإن نكثت هذه البيعة أو بدلت شرطاً من شروطها، أو عفيت رسماً من رسومها، أو غيرت حكماً من أحكامها، معلناً أو مسراً أو محتالاً أو متأولاً، أو زغت عن السبيل التي يسلكها من يخفر الأمانة، وكنت ممن يستحل الغدر والخيانة، ويستجيز حل العقود وختر العهود، فكل ما تملكه من عين أو ورق أو آنية أو عقار، أو سائمة أو زرع أو ضرع، أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتقدة والأموال المدخرة، صدقة على المساكين، محرم عليك أن يرجع شيء من ذلك إلى مالك بحيلة من الحيل، على وجه من الوجوه، وسبب من الأسباب، أو مخرج من مخارج الأيمان. فكل ما تفيده في بقية عمرك من مال يقل خطره أو يجل، فتلك سبيله إلى أن تتوفاك منيتك أو يأتيك أجلك، وكل مملوك لك اليوم من ذكر أو أنثى أو تملكه إلى آخر أيامك أحرار سائبون لوجه الله. ونساؤك يوم يلزمك الحنث، ومن تتزوج بعدهن مدة بقائك، طوالق ثلاثاً، طلاق الحرج والسنة لا مثنوية فيها ولا رجعة، وعليك المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة حافياً راجلاً، لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها، ولا يقبل الله لك صرفاً ولا عدلاً، وخذلك يوم تحتاج إليه، وبرأك من حوله وقوته، وألجأك إلى حولك وقوتك، والله عز وجل بذلك شهيد " وكفى بالله شهيداً " .
قال علي عليه السلام: أحلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بأنه بريء من حول الله وقوته، فإنه إذا حلف بها كاذباً عوجل، وإذا حلف بالله الذي لا إله إلا هو لم يعاجل لأنه قد وحد الله سبحانه.
وقد روي أن جعفر بن محمد عليهما السلام أحلف مدعياً بالله لم يزد، فهلك الحالف لوقته. وقال له القاضي ومن حضر: ما هذا؟ فقال: إن يمينه بما فيه ثناء على الله ومدح يؤخر العقوبة كرما منه عز وجل وتفضلاً.
وخبر يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن مع الزبيري عبد الله بن مصعب مشهور وهو قول أبي فراس الحمداني: من البسيط
ذاق الزبيري غب الحنث وانكشفت ... عن ابن فاطمة الأقوال والتهم
وهو خبر طويل يليق بهذا الموضع منه: أن الزبيري سعى بيحيى إلى الرشيد وجمع بينهما وتواقفا، ونسب يحيى إلى الزبيري شعراً يقول فيه: من البسيط
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها ... إن الخلافة فيكم يا بني حسن
وكان الزبيري خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وأنكر الزبيري الشعر فأحلفه يحيى فقال: قل برئت من حول الله وقوته، واعتصمت بحولي وقوتي، وتقلدت الحول والقوة من دون الله استكباراً واستغناء عنه واستعلاء عليه، فامتنع، حتى غضب الرشيد وقال: إن كان صادقاً فليحلف، وكان للفضل بن الربيع فيه هوى فرفسه برجله وقال له: احلف ويحك، فحلف ووجهه متغير وهو يرعد، فما برح من موضعه حتى أصابه الجذام، فتقطع ومات بعد ثلاثة أيام. ولما حمل إلى قبره ليوضع فيه انخسف حتى غار عن أعين الناس، وخرجت منه غبرة عظيمة، وكلما هالوا عليه التراب انخسف، حتى سقفوه وانصرفوا.
قيل: اثنان لا تخطئهما سعادة وغبطة: سلطان حليم، ورجل صدوق.
الصدق محمود من كل أحد إلا الساعي.
قال أبو حنيف الأنطاكي: لا يستغني حال من الأحوال عن الصدق، والصدق مستغن عن الأحوال كلها.
لو صدق عبد فيما بينه وبين الله حقيقة الصدق لاطلع على خزائن من خزائن الغيب، ولكان أميناً في السموات والأرض.
قال عامر بن الظرب العدواني في وصيته: إني وجدت صدق الحديث طرفاً من الغيب فاصدقوا. يعني من لزم الصدق الحق وعوده لسانه وفق فلا يكاد يتكلم بشيء يظنه إلا جاء على ظنه.
قيل: الكذب والنفاق والحسد أثافي الذل.
قال ابن عباس: حقيق على الله أن لا يرفع للكاذب درجة، ولا يثبت له حجة.
وقال سليمان بن سعد: لو صحبني رجل وقال: لا تشترط علي إلا شرطاً واحداً لقلت له: لا تكذبني.
سأل سعيد بن المسيب أيوب السختياني عن حديث فقال: إني أشك فيه فقال: شكك أحب إلي من يقين شعبة.
قيل لرقبة بن مصقلة: ما أكثر ما تشك!! قال: ما ذاك إلا محاماة على اليقين.

خطب بلال لأخيه رباح امرأة قرشية فقال لأهلها: نحن من قد عرفتم: كنا عبدين فأعتقنا الله، وكنا ضالين فهدانا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله. وأنا أخطب إليكم على أخي فلانة فإن تنكحونا فالحمد لله، وإن تردونا فالله أكبر. فأقبل بعضهم على بعض فقالوا: بلال من قد عرفتم سابقته ومشاهده ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجوا أخاه. فلما انصرفا قال له أخوه: يغفر الله لك أما كنت تذكر سوابقنا ومشاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يا أخي صدقت فأنكحك الصدق.
شاعر: من الكامل
وإذا افتخرت بأعظم مقبورة ... فالناس بين مكذب ومصدق
فأقم لنفسك في انتسابك شاهداً ... بحديث مجد للقديم محقق
قال ابن السائب: جالست وكيعاً سنين فما رأيته يحلف بالله.
وقال عبد الله بن السري، قلنا لابن المبارك حدثنا قال: ارجعوا فإني لست أحدثكم. فقيل له إنك لم تحلف فقال: لو حلفت لكفرت وحدثتكم ولكن لست أكذب، فكان هذا أحب إلينا من الحديث.
وقال مجاهد: يكتب على ابن آدم كل شيء حتى أنينه في سقمه، حتى إن الصبي ليبكي فيقول له: اسكت أشتر لك كذا، ثم لا يفعل، تكتب كذبته.
قال الشعبي: وجهني عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز، فقدمت عليه مصر وهو واليها - على رجل سخي صدوق اللسان، فقلت له يوماً: أصلح الله الأمير، إنك تبلغ في منطقك وأنت في مجلسك ولا تفعل ذلك على منبرك، فقال: يا شعبي إني لأستحيي من الله أن أقول على منبري خلاف ما يعلم من قلبي.
اجتمع متكلمان فقال أحدهما: هل لك في المناظرة؟ فقال الآخر: على شرائط: أن لا تغضب ولا تعجب ولا تشغب، ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلاً، ولا تجوز لنفسك دليل آية على مذهبك إلا جوزت لي تأويل مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلا منا تبنى مناظرته على أن الحق ضالته والرشد غايته.
قال رجل: أنا لا أكذب كذبة بألف، فقال صاحبه: أما هذه فواحدة بلا درهم.
قيل: الراوية أحد الكاذبين.
وقيل: إياك أن تكون للكذب واعياً أو راوياً.
وقيل: إياك وحكاية ما يستبعد فيجد عدوك سبيلاً إلى تكذيبك.
قيل: إذا أردت أن تعرف عقل الرجل فحدثه في خلال حديثك بما لا يكون، فإن أنكره فهو عاقل، وإن صدقه فهو أحمق.
خطب الحجاج يوماً فأطال، فقام رجل فقال: الصلاة، الوقت لا ينتظرك، والله لا يعذرك. فأمر بحبسه، فأتاه قومه وزعموا أنه مجنون، وسألوه أن يخلي سبيله، فقال: إن أقر بالجنون خليته، فقيل له فقال: معاذ الله أن أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني، فبلغ ذلك الحجاج فعفا عنه لصدقه وأطلقه.
نوادر من هذا الباب والفصل قال دغفل: حمى النعمان ظهر الكوفة فخرج يوماً يسير في ذلك الظهر فإذا هو بشيخ يخصف نعلاً فقال: ما أولجك ها هنا؟ قال: طرد النعمان الرعاء فأخذوا يميناً وشمالاً، فانتهيت إلى هذه الوهدة في خلاء من الأرض، فنتجت الإبل وولدت الغنم وسلأت السمن والنعمان معتم لا يعرفه الرجل فقال: وما تخاف النعمان؟ قال: وما أخاف منه؟ لربما لمست بيدي هذه بين عانة أمه وسرتها، فأجده كأنه أرنب جاثم. فهاج غضباً وسفر عن وجهه، فإذا خرزات الملك. فلما رآه الشيخ قال: أبيت اللعن لا تر أنك ظفرت بشيء، قد علمت العرب أنه ليس بين لابتيها شيخ أكذب مني. فضحك النعمان ومضى.
ذكر أن قاصاً كان يكثر الحديث عن هرم بن حيان، فاتفق معه هرم في المسجد وهو يقول حدثنا هرم مرة بعد مرة، بأشياء لا يعرفها هرم. فقال له: يا هذا أتعرفني؟ أنا هرم بن حيان، ما حدثتك بشيء. فقال له القاص: وهذا أيضاً من عجائبك، إنه ليصلي في مسجدنا خمسة عشر رجلاً، اسم كل واحد منهم هرم بن حيان، فكيف توهمت أنه ليس في الدنيا هرم غيرك؟ وذكروا أن أعرابياً أضل بعيراً له عربياً، وكان في الصائفة، فبينا هو يطوف في طلبه إذا هو عند حجرة الوالي ببختي لنابيه صريف، فتأمله طويلاً ثم رجع إلى أصحابه فقال: بعيري الذي ضل قد وجدته، فجاء معه نحو من خمسمائة رجل من قومه حمير إلى الوالي، فقالوا: نشهد أنه بعيره. فقال له الوالي: خذه، فلما انصرف قال له بعضهم: يا فلان، ألم يكن بعيرك الذي اضللته عربياً؟ قال: بلى ولكنه أكل من شعير الأمير فتبختى.
قال بعض المجان: اليمين بعد الكذب كالمترس خلف الباب.

باع مزبد جارية له على أنها طباخة، ولم تحسن شيئاً فردت، فلم يقبلها مزبد، وقدم إلى القاضي وطولب بأن يحلف أنه ملكها وكانت تطبخ وتحسن، فاندفع وحلف بيمين غليظة أنه دفع إليها جرادة فطبخت منها خمسة ألوان، وفضلت منها شريحتين للقديد سوى الجنب فإنها شوته، فضحك من حضر ويئس خصمه من الوصول منه إلى شيء، فخلوه.
استعدت بنو بهز من سليم عثمان بن عفان رحمه الله على الشماخ ابن ضرار، وادعوا عليه أنه هجاهم، وساموه اليمين، فتلكأ عليهم ليحرضهم عليها وليرضوا بها، فلما رضوا باليمين قال من أبيات: من الطويل
يقولون لي احلف ولست بحالف ... أخادعهم عنها لكيما أنالها
ففرجت غم الموت عني بحلفة ... كما شقت الشقراء عنها جلالها
ومثل ذلك قول الآخر، وهو الأخيل بن مالك الكلابي: من الطويل
تمنعت لما قيل لي احلف هنيهة ... لتحلو في النوكى الخساس يميني
فلما رأوا مني التمنع خيلوا ... صعوبتها عندي كقطع وتيني
ولم يعلموا أني قديماً أعدها ... لفك خناقي من وثاق ديوني
وقال الأخيل أيضاً: من الوافر
فإن دراهم الغرماء عندي ... معلقة لدى بيض الأنوق
فإن دلفوا دلفت لهم بحلف ... كعط البرد ليس بذي فتوق
وإن لانوا وعدتهم بلين ... وفي وعدي بنيات الطريق
وإن وثبوا علي وجرروني ... حلفت لهم كإضرام الحريق
وقال آخر: من الخفيف
سألوني اليمين فارتعت منها ... ليغروا بذلك الإرتياع
ثم أرسلتها كمنحدر السي ... ل تهادى من المكان اليفاع
ذكر البحتري أنه لأخيل بن مالك الكلابي.
وحلف الأخيل العجلي بالطلاق والعتاق أن لا يهرب فهرب وقال: من الطويل
إذا أحلفوني بالطلاق منحتهم ... يميناً كسحق الأتحمي المخرق
وإن أحلفوني بالعتاق فقد درى ... سحيم غلامي أنه غير معتق
وإن أحلفوني بالطلاق رددتها ... كأحسن ما كانت إذا لم تطلق
قال مسعود بن مازن العكلي، وكان لرجل من تيم الرباب عليه دين فجحده إياه وحلف له عليه: من الوافر
كفى لك بالوفاء أخي تيم ... يميني إذ مضت عنك الحقوق
وما يدريك ما أيمان عكل ... إذا يبست من الريق الحلوق
أبت أيمانها إلا مضياً ... كما يلتج في الأجم الحريق
قال الأصمعي: كان الأعرابي امرأتان فأخذه غرماؤه فأحلفوه بطلاقهما لا يغيب عنهم، فحلف، فأطلقوه فهرب، وقال: من الكامل
لو يعلم الغرماء منزلتيهما ... ما حلفوني بالطلاق العاجل
قد ملتا ومللت من وجهيهما ... عوجاء حاملة وأخرى حائل
لا حلوتان فتمسكا بحلاوة ... تشفي الضجيع ولا لدل عاسل
؟قال المدائني: كان عندنا بالمدائن دهقان يقال له دينارويه، وكان خبيثاً، فقال له والي المدائن: إن كذبت كذبة لم أعرفها فلك عندي شراب ودراهم وغيرها. قال دينارويه: هرب لي غلام فغبر عني دهراً لا أعرف له خبراً، فاشتريت يوماً بطيخاً فشققته فإذا الغلام فيه يعمل خفاً، وإذا هو إسكاف. قال العامل: قد سمعت هذا. قال: كان لي برذون فدبر، فوصف لي قشور الرمان فألقيتها على دبرته فخرج من ظهره شجرة رمان عظيمة. قال: وقد سمعت بهذا أيضاً. قال: كان لغلامي فروة فقملت فحملها القمل ميلين. قال: قد سمعت بهذا. فلما رأى أنه يبطل عليه كل ما جاء به قال: إني وجدت في كتب أبي صكاً فيه أربعة آلاف درهم، والصك عليك. فقال: هذا كذب ما سمعته قط. قال: فهات ما خاطرت عليه، فأخذه.
قال بعض الرواة، قلت للشرقي بن القطامي: ما كانت العرب تقول في صلاتها على موتاها؟ فقال: لا أدري، فكذبت له فقلت: كانوا يقولون: من الطويل
ما كنت وكواكاً ولا بزونك ... رويدك حتى يبعث الخلق باعثه
فإذا أنا به يحدث به في المقصورة يوم الجمعة.
قرع قوم الباب على الجاحظ، فخرج غلامه فسألوه ما يصنع، فقال: يكذب على الله، قالوا: كيف؟ قال: نظر في المرآة فقال: الحمد لله الذي خلقني وأحسن صورتي.

شهد أعرابي عند حاكم فقال المشهود عليه: أتقبل شهادته وله من المال كذا ولم يحج؟ فقال الأعرابي: بل لقد حججت كذا وكذا مرة، قال: سله أصلحك الله عن مكان زمزم، فسأله فقال: إني حججت قبل أن تحفر زمزم.
قال الأصمعي: كان قوم من الأعراب يسمطون أيمانهم سمطاً للمصدقين، فقال مصدق: هؤلاء لا يخافون الله، ولكن أستحلفهم بأيمان في أمر معاشهم، فقال: سلخك الله برصاً، وأبدى عورتك، وفتك فت البعرة، وحتك حت الشعرة، ولا ترك لك صاهلاً ولا ناهلاً، ولا خفاً ولا ظلفاً، إن كان لله في مالك حق؛ فيكيع عنها.
أراد قاضي البدو أن يستحلف الخصم فقال: هو لا يبالي بالحلف، فقال: احمله على حلف لا يستجري عليه، فقال: جعل الله نومك نغصاً، وطعامك غصصاً، ومشيك رقصاً، وسلخك برصاً، وقطعك حصصاً، وملأ عينيك رمصاً، وأدخلك قفصاً، وابتلاك بهذه العصا. فأبى أن يحلف وأذعن للحق.
كان بفارس محتسب يعرف بجراب الكذب، فكان يقول: إن منعت من الكذب انشقت مرارتي، وإني لأجد به مع ما يلحقني من عاره ما لا أجد للصدق مع ما ينالني من نفعه.
شاعر: من الكامل
وتقول لي قولاً أظنك صادقاً ... فأجيء من طمع إليك وأذهب
فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلس ... قالوا مسيلمة وهذا أشعب
شريك بن عبد الله القاضي: من البسيط
صلى وصام لدنيا كان يأملها ... فقد أصاب فلا صلى ولا صاما
تشاجر رجلان في سواد تراءى من سطح فقال أحدهما: غراب، وقال الآخر: خف، وحلف كل واحد منهما بما قاله، فدنوا منه فطار، فقال صاحب الغراب: كيف ترى؟ فقال الآخر: امرأته طالق إن كان إلا خفاً ولو بلغ مكة طيراناً.
قال بعضهم: كان أبي زرع سنة الشلجم فزكا، فكان يبلغ مساحة موضع كل شلجمة جريب أرض. فقال الآخر: كان أبي اتخذ مرجلاً فكان يعمل فيه خمسون حداداً لا يسمع كل واحد صوت مطرقة الآخر، فقال صاحبه: ما أكذبك، أي شيء كان يطبخ في ذلك المرجل؟ قال: الشلجم الذي زرعه أبوك.
يتلوه: باب التواضع والكبر.

الباب التاسع
في التواضع والكبر
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أثق
الحمد لله ذي الجلال والعلاء، المتفرد بصفة العظمة والكبرياء، قاصم من نازعه فيهما سمة الرداء، المتعالي عن الأشباه والنظراء، الناهي لعباده عن الكبر والخيلاء، ندبنا إلى التواضع فكان سبب التحاب رأفة بنا ولطفاً، وأدبنا أن نختال باستمرار الشباب فجعل من بعد قوة شيباً وضعفاً، قال للسموات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين، ولو يشاء نزل من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين.
أحمده شاكراً طائعاً، وأعبده صاغراً خاضعاً، وأومن بربوبيته مخلصاً موحداً، وأوقن بالمعاد مصدقاً معتقداً، وأشهد أن لا إله إلا الله منشىء الأمم ومبيدها، ومنشر الرمم ومعيدها، لا مشارك له فيما خلق، ولا مشاجر فيما قسم من العطايا ورزق. وأشهد أن محمداً رسوله المأمور بخفض الجناح لمن اتبعه، المأمون على سر الغيب حيث اطلعه، صلى الله عليه وعلى آله ما زجر الكتاب عبداً ووزعه، وقهر الحق باطلاً وقمعه.
قد وصف الله عز وجل قوماً فقال: " أذلة على المؤمنين " " المائدة: 54 " وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: " واخفض جناحك للمؤمنين " " الحجر: 88 " وأبان عن سخطه على المتكبرين بقوله عز وجل: " إنه لا يحب المستكبرين " " النحل: 23 " وقوله تعالى: " فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين " " النحل: 29 " . وهذه الآيات مخرجها من الاستكبار في الدين. فأما الكبر الدنيوي فالنهي عنه في قوله تعالى " ولا تصعر خدك للناس " الآية " لقمان: 18 " والتصعير الميل من الكبر. وقوله تعالى: " ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً " " الإسراء: 37 " وقوله: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " " القصص: 83 " " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم " " البقرة: 206 " وقال قتادة في قوله تعالى: " وبشر المخبتين " " الحج: 34 " قال هم المتواضعون.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم لتغفلون أفضل العبادة، التواضع؛ وكان صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض تواضعاً.

وقال صلى الله عليه وسلم: لا ترفعوني فوق قدري فتقعوا في ما قالت النصارى في المسيح، فإن الله عز وجل اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً.
وقال صلى الله عليه وعلى آله: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر.
وقال صلى الله عليه وسلم: لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب مع الجبارين فيصيبه ما أصابهم.
وفي الأثر: من آتاه الله عز وجل زهداً وتواضعاً وحسن خلق فهو إمام المتقين.
وقال صلى الله عليه وعلى آله: من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان.
وقال صلى الله عليه وسلم: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه.
وقال علي عليه السلام: عجبت للمتكبر الذي كان بالأمس نطفة وهو غداً جيفة.
وقال عليه السلام: الإعجاب يمنع من الازدياد.
وقال محمد بن علي بن الحسين: إياك والكبر فإنه داعية المقت.
أعطى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله أبا سفيان مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى سهيل بن عمرو مائة، فقالوا: يا نبي الله، أتعطي هؤلاء وتدع جعيلاً، وكان جعيل رجلاً من بني غفار، فقال صلى الله عليه وسلم: جعيل خير من طلاع الأرض مثل هؤلاء، ولكن أعطي هؤلاء أتألفهم، وأكل جعيلاً إلى ما جعل الله عنده من التواضع.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمركم أن تتواضعوا ولا يبغي بعضكم على بعض.
وقال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار. ولقد رأيته يوم حنين على حمار خطامه ليف.
وقال أنس أيضاً: لم يكن شخص أكرم علينا من النبي صلى الله عليه وعلى آله، وكنا إذا رأيناه لم نقم لما نعلم من كراهيته لذلك.
وقال أيضاً: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل طعيماً له متكئاً فقال: إن التكأة من النعمة، فاستوى قاعداً، فما رأيته بعدها متكئاً.
وقال: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأشرب كما يشرب العبد.
وأتاه صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فأخذته رعدة، فقال له صلى الله عليه وسلم: هون عليك فإني لست بملك، وإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد.
وروي أن عبد الله بن سلام مر في السوق وعليه حزمة من حطب، فقيل له: أليس قد أغناك الله عن هذا؟ قال: بلى، ولكني أردت أن أقمع به الكبر؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر.
وروي أن عمر بن الخطاب خرج وعلى ظهره قربة، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما هذا؟ قال: إن نفسي أعجبتني فأحببت أن أذلها.
وقال صلى الله عليه وعلى آله: إن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله، وإن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا نماء، فتصدقوا يزدكم الله.
قال أبو أمامة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم علينا فقمنا فقال لنا: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم لعظمائها فما قام إليه أحد منا بعد ذلك.
ومر صلى الله عليه وسلم على صبيان في المكتب فسلم عليهم.
وقال أبو قتادة: قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يخدمهم بنفسه، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال: إنهم كانوا لأصحابي مكرمين.
وصنع عيسى عليه السلام طعاماً للحواريين فلما أكلوا وضأهم بنفسه فقالوا: يا روح الله نحن أولى أن نفعله منك، فقال: إنما فعلت هذا لتفعلوه بمن تعلمون.
لما تزوج علي عليه السلام النهشلية بالبصرة قعد على سريره وأقعد الحسن عن يمينه، والحسين عن يساره، وجلس محمد بن الحنفية بالحضيض، فخاف أن يجد من ذلك فقال: يا بني أنت ابني، وهذان ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن التواضع المأثور ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج ويده على المعلى، فلقيته امرأة من قريش فقال له: يا عمر، فوقف لها فقالت: كنا نعرفك مرة عميراً ثم صرت من بعد عمير عمر، ثم صرت من بعد عمر أمير المؤمنين، فاتق الله يا ابن الخطاب، وانظر في أمور الناس، فإنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت. فقال لها المعلى: إيها إليك يا أمة الله فقد أبكيت أمير المؤمنين، فقال له عمر: أتدري من هذه ويحك؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من سمائه، فعمر أحرى بأن يسمع قولها ويقتدي به.
وجلس رجل إلى الحسين بن علي عليهما السلام، فقال له الحسين: إنك جلست إلينا ونحن نريد القيام، أفتأذن؟ أقبل رجل يمشي مرخياً يديه، طارحاً رجليه يتبختر، فقال له عمر رضي الله عنه: دع هذه المشية فقال: ما أطيق، فجلده فترك التبختر؛ فقال عمر: إذا لم أجلد في مثل هذا ففيم أجلد؟ فجاءه الرجل بعد ذلك فقال: جزاك الله خيراً إن كان إلا شيطاناً أذهبه الله بك.
أتى وائل بن حجر النبي صلى الله عليه وسلم فأقطعه أرضاً وقال لمعاوية: اعرض هذه الأرض عليه واكتبها له، فخرج مع وائل في هاجرة شاوية، ومشى خلف ناقته، وقال له: أردفني على عجز راحلتك، قال: لست من أرداف الملوك، قال: فاعطني نعليك، قال: ما بخل يمنعني يا ابن أبي سفيان ولكن أكره أن يبلغ أقيال اليمن أنك لبست نعلي، ولكن امش في ظل ناقتي فحسبك بها شرفاً. وهذا من كبر الجاهلية المستهجن. قال: ثم إن وائلاً لحق زمن معاوية ودخل عليه فأقعده معه على سريره وحدثه.
قال عدي بن أرطأة لإياس بن معاوية: إنك لسريع المشية، قال ذاك أبعد من الكبر وأسرع في الحاجة. وهو منقول من قول عمر رضي الله عنه وقد قيل له مثله فقال: هو أنجح للحاجة، وأبعد من الكبر، أما سمعت قول الله عز وجل: " واقصد في مشيك واغضض من صوتك " " لقمان: 19 " .
خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار.
وقال علي عليه السلام: عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله.
ولقيه دهاقين الأنبار عند مسيره إلى الشام فترجلوا له واشتدوا بين يديه فقال: ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلق نعظم به أمراءنا، فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقون به على أنفسكم، وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار.
ومشى معه حرب بن شرحبيل الشبامي وكان من وجوه قومه، وهو راكب، فقال له: ارجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن.
وقال الحسن عليه السلام: الحلم وزير العلم، والرفق أبوه، والتواضع سرباله.
وقال غيره: ما أتى الله عبداً علماً إلا آتاه معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورفقاً.
وقال عمرو بن الزبير: التواضع أحد مصايد الشرف. وفي لفظ آخر: التواضع سلم الشرف.
وقال جعفر بن محمد: رأس الخير التواضع فقيل له: وما التواضع؟ قال: أن ترضى من المجلس بدون شرفك، وأن تسلم على من لقيت، وأن تترك المراء وإن كنت محقاً. وقد روي عن علي عليه السلام ولم يذكر المراء فيه وزاد فيه: وتكره الرياء والسمعة.
وقيل: ثمرة القناعة الراحة، وثمرة التواضع المحبة.
ومثله: التواضع نعمة لا يفطن لها إلا الحاسد.
وقالوا: المتواضع كالوهدة يجتمع فيها قطرها وقطر غيرها. ونظر إلى هذا المعنى ابن المعتز فقال: متواضع العلماء أكثرهم علماً كما أن المكان المنخفض أكثر الأماكن ماء.
قال الحسن: إن قوماً جعلوا تواضعهم في ثيابهم، وكبرهم في صدورهم، حتى لصاحب المدرعة بمدرعته أشد فرحاً من صاحب المطرف بمطرفه.
قال علي عليه السلام: الحرص والكبر والحسد دواع إلى التقحم في الذنوب.
رؤي بعض العلماء وهو يكتب من فتى حديثاً، فقيل له: مثلك يكتب عن هذا؟ فقال: أما إني أحفظ له منه، ولكن أردت أن أذيقه كأس الرياسة ليدعوه ذلك إلى الازدياد من العلم.
كان يحيى بن خالد يقول: لست ترى أحداً تكبر في إمارة إلا وقد دل على أن الذي نال فوق قدره، ولست ترى أحداً تواضع في إمارة إلا وهو في نفسه أكبر مما نال من سلطانه.

ومن كلام لابن المعتز: لما عرف أهل النقص حالهم عند أهل الكمال، استعانوا بالكبر ليعظم صغيراً ويرفع حقيراً، وليس بفاعل.
والعرب تجعل جذيمة الأبرش الغاية في الكبر. ورووا أنه كان لا ينادمه أحد ترفعاً وكبراً ويقول: إنما ينادمني الفرقدان، ومن هذا قول متمم: من الطويل
وكنا كندماني جذيمة حقبة
أراد به الفرقدين، لا كما ذكرته الرواة أنهما مالك وعقيل فإنهما لابد أن يفترقا، وإنما ضرب المثل على ما لا يصح وقوعه، وهو تفرق الفرقدين.
وكان عبيد الله بن زياد بن ظبيان، أحد بني تيم اللات بن ثعلبة، قاتل مصعب بن الزبير، شديد الكبر والخيلاء. ولما حدث أمر مسعود بن عمرو المعني من الأزد لم يعلمه مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب، أحد بني قيس بن ثعلبة، وكان سيد بكر بن وائل في زمانه، فقال عبيد الله: أيكون مثل هذا الحدث ولا تعلمني به؟ لهممت أن أضرم دارك عليك ناراً. فقال له مالك: اسكت أبا مطر، فوالله إن في كنانتي سهماً أنا أوثق به مني بك، فقال له عبيد الله: وأنا في كنانتك؟ فوالله لو قعدت فيها لطلتها ولو قمت فيها لخرقتها. فقال له مالك، وأعجبه ما سمع: أكثر الله في العشيرة مثلك، فقال: لقد سألت ربك شططاً.
لما قال علي بن أبي طالب عليه السلام لصعصعة بن صوحان في المنذر بن الجارود ما قال، قال صعصعة: لئن قلت ذاك يا أمير المؤمنين، إنه لنظار في عطفيه، نقال في شراكيه، تعجبه حمرة برديه.
كان عمارة بن حمزة أتيه الناس على جود فيه وسخاء، فمشى المهدي يوماً ويده في يد عمارة، فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال المهدي: أخي وابن عمي عمارة بن حمزة، فلما ولى الرجل ذكر ذلك المهدي كالممازح لعمارة، فقال عمارة: انتظرت والله أن تقول: ومولاي، فأنفض يدي من يدك، فتبسم المهدي.
قال الواقدي: دخل الفضل بن يحيى ذات يوم على أبيه وأنا عنده، وهو يتبختر في مشيته فكره ذلك منه، فقال لي يحيى: يا أبا عبد الله أتدري ما بقى الحكيم في طرسه؟ فقلت: لا، فقال: إن البخل والجهل مع التواضع أزين بالرجل من الكبر مع السخاء والعلم، فيا لها حسنة غطت على عيبين عظيمين، ويا لها سيئة غطت على حسنتين كبيرتين. ثم أومأ إليه بالجلوس وقال لي: احفظه يا أبا عبد الله فإنه أدب كبير أخذناه عن العلماء.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: من الطويل
كفى حزناً ألا صديق ولا أخ ... ينال غنى إلا تداخله كبر
وإلا التوى أو ظن أنك دونه ... وتلك التي جلت وما دونها صبر
وكان ابن ثوابة من أقبح الناس كبراً؛ روي أنه قال لغلامه: اسقني ماء، فقال: نعم، فقال: إنما يقول نعم من يقدر أن يقول لا، وأمر بصفعه. ودعا أكاراً وكلمه، فلما فرغ دعا بماء وتمضمض استقذاراً لمخاطبته.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: من الطويل
لقد جعلت تبدو شواكل منكما ... كأنكما بي موقران من الصخر
فمسا تراب الأرض منها خلقتما ... ومنها المعاد والمصير إلى الحشر
ولا تعجبا أن تؤتيا فتكلما ... فما حشي الأقوام شراً من الكبر
قال أكثم بن صيفي: من أصاب حظاً من دنياه فأصاره ذلك إلى كبر وترفع فقد أعلم أنه نال فوق ما يستحق، ومن تواضع وغادر الكبر فقد أعلم أنه نال دون ما يستحق.
مر بعض أولاد المهلب بمالك بن دينار وهو يخطر فقال: يا بني لو خفضت بعض هذه الخيلاء، ألم يكن أحسن بك من هذه الشهرة التي قد شهرت بها نفسك؟ قال له الفتى: أوما تعرف من أنا؟ قال له: بلى والله أعرفك معرفة جيدة، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك حامل عذرة. فأرخى الفتى ردنيه، وكف مما كان يفعله، وطأطأ رأسه ومضى مسترسلاً.
قال محمد بن حازم: مر بي أحمد بن سعيد بن سلم وأنا على بابي فلم يسلم علي سلاماً أرضاه، فكتبت رقعة وأتبعته بها فيها: من السريع
وباهلي من بني وائل ... أفاد مالاً بعد إفلاس
قطب في وجهي خوف القرى ... تقطيب ضرغام لدى الباس
وأظهر التيه فتايهته ... تية امرىء لم يشق بالياس
أعرته إعراض مستكبر ... في موكب مر بكناس

بلغ خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد القسري من هشام بن عبد الملك محلاً رفيعاً، فأفسد أمره العجب والكبر وأدياه إلى الهلكة، وعذب حتى مات: روي أنه التفت يوماً إلى ابنه يزيد بن خالد وهو عند هشام فقال له: كيف بك يا بني إذا احتاج إليك ولد أمير المؤمنين؟ فقال: أواسيهم ولو بقميصي. فتبين الغضب في وجه هشام واحتملها. وكان إذا ذكر هشام قال: ابن الحمقاء. فسمعها رجل من أهل الشام فقال لهشام: إن هذا البطر الأشر الكافر لنعمتك ونعمة أبيك يذكرك بأسوأ الذكر، قال: ماذا يقول؟ لعله يقول الأحوال، قال: لا والله ولكن يقول ما لا تلتقي به الشفتان، قال لعله قال: ابن الحمقاء؟ فأمسك الشامي فقال: قد بلغني كل ذلك عنه.
وكان خالد يقول: والله ما إمارة العراق مما يشرفني، فبلغ ذلك هشاماً فغاظه فكتب إليه: بلغني أنك يا ابن النصرانية تقول: ما إمارة العراق مما يشرفك، وأنت دعي إلى بجيلة القليلة الذليلة. أم والله إني لأظن أن أول ما يأتيك ضغن من قيس فيشد يدك إلى عنقك.
قال خالد بن صفوان بن الأهتم: لم تزل أفعال خالد حتى عزله هشام وعذبه وقتل ابنه يزيد بن خالد، فرأيت في رجله شريطاً قد شد به، والصبيان يجرونه، فدخلت إلى هشام يوماً فحدثته فأطلت، فتنفس وقال: يا خالد، رب خالد كان أحب إلي قرباً وألذ عندي حديثاً منك، يعني خالداً القسري، فانتهزتها ورجوت أن أشفع له فتكون لي عند خالد يداً، فقلت: يا أمير المؤمنين ما يمنعك من استئناف الصنيعة عنده، فقد أدبته بما فرط منه. فقال: هيهات إن خالداً أوجف فأعجف، وأدل فأمل، وأفرط في الإساءة فأفرطنا في المكافأة، فحلم الأديم، ونغل الجرح، وبلغ السيل الزبى والحزام الطبيين، ولم يبق فيه مستصلح، ولا للصنيعة عنده موضع؛ عد إلى حديثك.
جلس الأحنف مع مصعب بن الزبير على السرير، فمد مصعب رجله، فنحاه الأحنف ثم قال: العجب لمن يتعظم وقد خرج من مخرج البول مرتين.
قيل لبزرجمهر: ما النعمة التي لا يحسد عليها؟ قال: التواضع، قيل: فالبلاء الذي لا يرحم؟ قال: العجب.
البحتري: من الوافر
دنوت تواضعاً وعلوت مجداً ... فشأناك انحدار وارتفاع
كذاك الشمس تبعد أن تسامى ... ويدنو الضوء منها والشعاع
أبو محمد التيمي: من الطويل
تواضع لما زاده الله رفعة ... وكل رفيع قدره متواضع
قال حرسي عمر بن عبد العزيز: خرج علينا عمر في يوم عيد وعليه قميص كتان وعمامة على القلنسوة لاطية، فقمنا إليه وسلمنا عليه فقال: مه أنا واحد وأنتم جماعة، السلام علي والرد عليكم، ثم سلم وردوا عليه، ومشى ومشينا معه إلى المسجد.
كان يحيى بن خالد يقول: إذا ترقى الشريف تواضع، فأفشى السلام، وصافح العوام، وأنصف الضعفاء، وجالس الفقراء، وعاد المرضى، وشيع الجنائز؛ وإذا ترقى الوضيع أمر بالمعروف، ووعظ الشريف، وأخذ في الحسبة، وأم أهل محلته، واحتد على من رد عليه، ورأى أن له فضيلة على كل أحد.
قال الحسن: من لبس الصوف تواضعاً زاده الله نوراً في بصره، ونوراً في قلبه. ومن لبسه للكبر والخيلاء كور في جهنم مع المردة.
قال عمرو بن عبيد: أتى الحسن بفالوذج فقال لي: هلم يا عمرو، فما فرحت بشيء فرحي بأن عرف اسمي. وكان المنصور يكنيه، فقيل له إن أمير المؤمنين يكنيك، فقال: ما ذكرت ذلك إلا دخلتني غضاضة.
قال معاوية بن سويد: لطمت مولى لنا فدعاه أبي فقال: اقتص منه.
قال عبد الله بن حسن بن حسن، أتيت باب عمر بن عبد العزيز في حاجة، فقال لي: إذا كانت لك حاجة فأرسل إلي رسولاً أو اكتب إلي كتاباً، فإني لأستحيي من الله أن يراك على بابي.
اجتمع أنس بن مالك وثابت البناني على طعام، فقدم إليه أنس الطست فامتنع، فقال أنس: إذا أكرمك أخوك فاقبل كرامته ولا تردها.
دعا الرشيد أبا معاوية الضرير فصب على يده ثم قال له: يا أبا معاوية، أتدري من صب على يدك؟ قال: لا، قال: صب على يدك أمير المؤمنين، قال: يا أمير المؤمنين، إنما أكرمت العلم واجللته، فأكرمك الله وأجلك.
ونزل الشافعي بمالك فصب بنفسه الماء على يده وقال: لا يرعك ما رأيت مني فخدمة الضيف فرض.
قال المساور بن هند لرجل: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا المساور ابن هند، قال: لا أعرفك، قال: فتعساً ونكساً لمن لا يعرف القمر.

كان عقيل بن علقة المري أعرابياً جافياً شديد الكبر. خطب إليه يزيد بن عبد الملك ابنته وقال له: زوجني فلست بواجد في قومي مثلي، فقال عقيل: بلى والله لأجدن في قومك مثلك، وما أنت بواجد في قومي مثلي، وقال لابنه: يا بني زوجه فإنه أحق بالأمة.
قيل للحجاج كيف وجدت منزلك بالعراق؟ قال: خير منزل، لو أدركت بها أربعة فتقربت إلى الله بدمائهم. قيل: ومن هم؟ قال: مقاتل بن مسمع ولي سجستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما قدم البصرة بسط له الناس أرديتهم فقال: " لمثل هذا فليعمل العاملون " " الصافات: 61 " ؛ وعبيد الله ابن ظبيان خطب خطبة فأوجز فيها، فناداه الناس من أعراض المسجد: كثر الله فينا أمثالك، فقال: لقد كلفتم ربكم شططاً؛ ومعبد بن زرارة كان ذات يوم جالساً على طريق فمرت به امرأة فقالت له: يا أبا عبد الله أين الطريق إلى مكان كذا؟ فقال: ألمثلي يقال عبد الله ويلك!! وابو سمال الحنفي أضل ناقته فقال: والله لئن لم يرد إلي ناقتي لا صليت أبداً، فلما وجدها قال: علم أنها مني صرى.
قال بعض الحكماء: يا بني عليك بالترحيب والبشر، وإياك والتقطيب والكبر، فإن الإخوان يحبون أن يلقوا بما يحبون وإن منعوا ولا يحبون أن يلقوا بما لا يحبون وإن أعطوا، فانظر إلى خصلة غطت على مثل اللؤم فالزمها، وانظر إلى خصلة غطت على مثل الكرم فاجتنبها، ألم تسمع إلى قول حاتم: من الطويل
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب
قال الجاحظ: المذكورون بالكبر من قريش: بنو مخزوم وبنو أمية، ومن العرب بنو جعفر بن كلاب وبنو زرارة بن عدس. وأما الأكاسرة فكانوا لا يعدون الناس إلا عبيداً، وأنفسهم إلا أرباباً. والكبر في الأجناس الذليلة أرسخ، ولكن القلة والذلة مانعتان من ظهور كبرهم. والجملة أن من قدر من الوضعاء أدنى قدرة ظهر من كبره ما لا خفاء به، وشيء قد قتلته علماً وهو أني لم أر ذا كبر قط على من دونه إلا وهو يذل لمن فوقه بمقدار ذلك ووزنه.
وقال: أما بنو مخزوم وبنو أمية وبنو جعفر بن كلاب واختصاصهم بالتيه فإنهم أبطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة، ولو كان في قوى عقولهم فضل على قوى دواعي الحمية فيهم لكانوا كبني هاشم في تواضعهم وإنصافهم لمن دونهم.
أبو البيداء الأعرابي: من الطويل
ولست بتياه إذا كنت مثرياً ... ولكنه خلقي إذا كنت معدما
وإن الذي يعطى من المال ثروة ... إذا كان نذل الوالدين تعظما
قال رجل: ما رأيت ذا كبر قط إلا تحول داؤه في؛ يريد إني أتكبر عليه.
وقال آخر: ما تاه علي أحد مرتين. يريد أنه إذا تاه مرة لم أعاوده.
قيل لرجل من بني عبد الدار: ألا تأتي الخليفة؟ قال: أخاف أن لا يحمل الجسر شرفي.
قيل للحجاج بن أرطأة: ما لك لا تحضر الجماعة؟ قال: أكره أن يزاحمني البقالون.
علي بن الجهم: من البسيط
جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما ... تيه الملوك وأحوال المساكين
استأذن نافع بن جبير بن مطعم على معاوية بن أبي سفيان فمنعه الحاجب فهشم أنفه، فقال له معاوية: أتفعل هذا بحاجبي؟ فقال له: وما يمنعني وأنا بالمكان الذي أنا به من أمير المؤمنين؟ فقال له أبوه: فض الله فاك، ألا قلت: وأنا بالمكان الذي أنا فيه من بني عبد مناف.
دخل عقال بن شبة على هشام بن عبد الملك وأراد أن يقبل يده فقال: لا تفعل، فلم يفعل هذا من العرب إلا هلوع، ومن العجم إلا خضوع.
ولما أفضت الخلافة إلى أبي العباس وفدت عليه قريش، فأمروا بتقبيل يده حتى دخل إبراهيم بن محمد العدوي فقال: يا أمير المؤمنين لو كان تقبيل اليد يزيد في القربة منك لأخذت بحظي منه، وإنك لغني عما لا أجر لك فيه، وفيه منقصة لنا، فقاره ولم ينقصه من حظوظ أصحابه شيئاً.
نوادر من هذا الباب مر رجل بجمين فسلم عليه، فلم يرد عليه، فقيل له في ذلك فقال: سلم علي بالإيماء فرددت عليه بالضمير.

مر أبو دهمان، وهو أمير نيسابور، على رجل جالس، ومع أبي دهمان صديق له يسايره، فقام الناس إليه ودعوا له إلا ذلك الرجل، فقال أبو دهمان لصديقه الذي يسايره: أما ترى ذلك الرجل في النظارة وتيهه علي؟ فقال له: وكيف يتيه عليك وأنت الأمير؟ قال: لأنه قد ناكني وأنا غلام.
قيل لأعرابي كيف تقول: استخذأت أو استخذيت؟ قال: لا أقوله، قيل: ولم؟ قال: لأن العرب لا تستخذي.
الهنادي: من الكامل
يا قبلة ذهبت ضياعاً في يد ... ضرب الإله بنانها بالنقرس
يتلوه: باب القناعة والحرص إن شاء الله تعالى.

الباب العاشر
في القناعة والظلف والحرص والطمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الوهاب المفضل، المعطي المجزل، باسط الرزق لمن يشاء ومقدره، ومانع ما يشاء وميسره، الذي مدح القناعة وأعزها، وذم الضراعة وأذلها، وأنزل الحريص بمنزلة المتسخط فكدر حياته وحرمه، وعلم أن القنوع راض بقسمته فهنأ عيشه وسلمه. وأعوذ بعصمته من موردات الطمع، وألوذ برأفته من مخزيات الطبع، وأسأله أن يرضينا بما قسم لنا من رزقه، ولا يجعل لنا تطلعاً إلى ما في أيدي خلقه، والصلاة على نبيه وصفوته، ورسوله وخيرته، الراضي من الدنيا بكفافها وميسورها، الرافض لما آتاه من كنوزها حين حيزت له بحذافيرها، وعلى آله ما حسر الصبح عن ظلم الدياجي وديجورها.
جاء في تفسير قوله عز وجل: " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " " النحل: 97 " أن المراد بها القناعة. وقال تعالى لنبيه عليه السلام: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى " " طه: 131 " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: القناعة مال لا ينفد.
وقال صلى الله عليه وسلم: ما عال من اقتصد وقال صلى الله عليه وسلم: أربع من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، والحرص، والأمل.
ومن كلام علي بن أبي طالب عليه السلام: كفى بالقناعة ملكاً، وبحسن الخلق نعيماً. من اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة. ما أقبح الخشوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى. الطمع مورد غير مصدر، وضامن غير وفي، وربما شرق شارب الماء قبل ريه، وكلما عظم قدر الشيء المتنافس فيه عظمت الرزية لفقده. والأماني تعمي البصائر. أزرى بنفسه من استشعر الطمع.
وقال أرسطاطاليس: لا غنى لمن ملكه الطمع واستولت عليه الأماني.
ويقال: لا تخلق نفسك بالحرص فتذهب عنك بهجة الوقار.
وقال أعرابي لرجل حريص على الدنيا: يا أخي أنت طالب ومطلوب: يطلبك ما لا تفوته، وتطلب ما قد كفيته، كأنك بما غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه، أما رأيت حريصاً محروماً وزاهداً مرزوقاً؟ وقال آخر: الحرص ينقص من قدر الإنسان ولا يزيد في رزقه.
قيل: أنفق ما يكون التعب إذا وعد كذاب حريصاً.
وقال آخر: احتمل الفقر بالتنزه عما في يدي غيرك، والزم القناعة بما قسم لك، فإن سوء حمل الفقر يضع الشريف، ويخمل الذكر، ويوجب الحرمان.
قال أبو ذؤيب: من الكامل
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقال سالم بن وابصة: من الطويل
غنى النفس ما يكفيك من سد خلة ... فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا
قال الكندي: العبد حر ما قنع، والحر عبد ما طمع.
قيل: إن الغنى والعز خرجا يجولان فلقيا القناعة فاستقرا.
وقيل: انتقم من الحرص بالقناعة كما تنتصر من العدو بالقصاص.
قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم فأفسداها أشد من حرص المرء على المال.
وقال صلى الله عليه وسلم: يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن لكل رجل من الدنيا رزقاً هو يأتيه لا محالة، من رضي به بورك له فيه ووسعه، ومن لم يرض به لم يبارك له فيه ولم يسعه.
وقال صلى الله عليه وسلم: لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغه آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال وترك الحرام.
وقيل: يا رسول الله: ما الغنى؟ قال: اليأس عما في أيدي الناس؛ وإياكم والطمع فإنه الفقر الحاضر.

قال عبد الملك لأعرابي: تمن. فقال: العافية. قال: ثم ماذا؟ قال: رزق في دعة، قال: ثم ماذا؟ قال: الخمول فإني رأيت الشر إلى ذي النباهة أسرع.
قال قتيبة: إن الحريص ليتعجل الذلة قبل إدراك البغية.
وقيل: لا راحة لحريص ولا غنى لذي طمع.
وقال جعفر بن محمد: ثمرة القناعة الراحة.
وقال علي بن موسى: القناعة تجمع إلى صيانة النفس وعز القدرة طرح مؤن الاستكثار والتعبد لأهل الدنيا. ولا يسلك طريق القناعة إلا رجلان: إما متقلل يريد أجر الآخرة، أو كريم يتنزه عن لئام الدنيا.
وقالوا: الراضي القانع يعيش آمناً مطمئناً، مستريحاً مريحاً؛ والشره الحريص لا يعيش إلا تعباً نصباً في خوف وأذى.
قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان: إياكم والطمع فإنه يردي، والله لقد هممت أن أفتك بالحجاج، فإني لواقف على بابه بدير الجماجم إذا أنا بالحجاج قد خرج على دابة ليس معه غير غلام، فأجمعت على قتله، فكأنه عرف ما في نفسي فقال: ألقيت ابن أبي مسلم؟ قلت: لا، قال: فالقه، فإن عهدك معه على الري. قال: فطمعت وكففت عنه، وأتيت يزيد بن أبي مسلم فسألته فقال: ما أمرني بشيء.
قال بعض الأعراب: من الرجز
أريد أن أبقى ويبقى ولدي ... وأن تدوم صحتي وجلدي
موفراً علي ما تحوي يدي ... وهذه أمانيات الفند
وقال كلثوم بن عمرو العتابي: من الطويل
تلوم على ترك الغنى باهلية ... زوى الدهر عنها كل طرف وتالد
رأت حولها النسوان يرفلن في الكسى ... مقلدة أجيادها بالقلائد
أسرك أني نلت ما نال جعفر ... من المال أو ما نال يحيى بن خالد
وأن أمير المؤمنين أغصني ... مغصهما بالمشرقات البوارد
ذريني تجئني ميتتي مطمئنة ... ولم أتجشم هول تلك الموارد
فإن جسيمات الأمور منوطة ... بمستودعات في بطون الأساود
صحب أعشى همدان، واسمه عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث، خالد بن عتاب بن ورقاء فقصر به في العطاء، وأعطى الناس عطايا جعله في أقلها، وفضل عليه آل عطارد، فقال من أبيات: من الطويل
ما كنت ممن ألجأته خصاصة ... إليك ولا ممن تغر المواعد
ولكنها الأطماع وهي مذلة ... دنت بي وأنت النازح المتباعد
قال المدائني: أبطأ على رجل من أصحاب الجنيد بن عبد الرحمن ما قبله وهو على خراسان، وكان يقال للرجل: زامل بن عمرو، من بني أسد بن خزيمة. فدخل على الجنيد يوماً فقال: أصلح الله الأمير، قد طال انتظاري، فإن رأى الأمير أن يضرب لي موعداً أنتهي إليه فعل، قال: موعدك الحشر. فخرج زامل وارتحل متوجهاً إلى أهله. ودخل على الجنيد بعد ذلك رجل من أصحابه فقال: من الطويل
أرحني بخير منك إن كنت فاعلاً ... وإلا فميعاد كميعاد زامل
فقال: وما فعل زامل؟ قال: لحق بأهله. فأبرد الجنيد في أثره بريداً، وبعث بعهده على الكورة التي يدرك بها، فأدرك بنيسابور فوليها.
وفد الوليد بن عقبة إلى معاوية، فقيل له: هذا الوليد بن عقبة بالباب فقال: والله ليرجعن مغيظاً غير معطى، فإنه قد أتانا يقول: علي دين وعلي كذا وكذا. يا غلام إيذن له. فأذن له، فساءله معاوية وتحدث معه فقال له: أما والله إن كنا لنحب إتيان مالك بالوادي وقد أعجب أمير المؤمنين، فإن رأيت أن تهبه ليزيد فعلت، قال الوليد: هو ليزيد. انظر يا أمير المؤمنين في شأني، فإن علي مؤونة وقد أرهقني دين، فقال له معاوية: ألا تستحيي بحسبك ونسبك تأخذ ما تأخذه فتبذره ثم لا تنفك تشكو ديناً؟! فقال الوليد: أفعل، ثم انطلق من مكانه وصار إلى الجزيرة وقال: الكامل المجزوء
تأبى فعال الخير لا ... تروى وأنت على الفرات
فإذا سئلت تقول لا ... وإذا سألت تقول هات
أفلا تميل إلى نعم ... أو ترك لا حتى الممات؟
وبلغ معاوية مقدمه إلى الجزيرة فخافه وكتب إليه أن أقبل إلي، فكتب إليه: من الطويل
أعف وأستغني كما قد أمرتني ... فاعط سواي ما بدا لك وانحل
سأحدو ركابي عنك إن عزيمتي ... إذا نابني أمر كسلة منصل

وإني امرؤ للرأي مني تطرب ... وليس شبا قفل علي بمقفل
ورحل إلى الحجاز، فبعث إليه معاوية بصلته وجائزته.
خرج عروة بن أذينة إلى هشام بن عبد الملك في قوم من أهل المدينة وفدوا عليه، وكان ابنه مسلمة بن هشام سنة حج أذن لهم في الوفود عليه. فلما دخلوا على هشام انتسبوا له، فقال له: ما جاء بك يا ابن أذينة؟ فقال: من المتقارب
أتينا نمت بأرحامنا ... وجئنا بإذن أبي شاكر
بإذن الذي سار معروفه ... بنجد وغار مع الغائر
إلى خير خندف في ملكها ... لباد من الناس أو حاضر
فقال له هشام: ما أراك إلا قد أكذبت نفسك حيث تقول: من البسيط
لقد علمت وما الإشراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
فقال له ابن أذينة: ما أكذبت نفسي يا أمير المؤمنين، ولكني صدقتها وهذا من ذاك. ثم خرج من عنده وركب راحلته راجعاً إلى المدينة، فلما أمر لهم هشام بجوائزهم تفقدهم فقال: أين ابن أذينة؟ فقالوا: غضب من تقريعك له فانصرف راجعاً إلى المدينة. فبعث إليه بجائزته وقال للرسول: قل له قد أردت أن تكذبنا وتصدق نفسك. فمضى الرسول فلحقه على ماء يتغدى عليه فأبلغه رسالته ودفع إليه الجائزة فقال: قل له: قد صدقني الله وكذبك.
وبيت عروة الذي واقفه هشام عليه من قصيدة مختارة وبعده:
أسعى له فيعنيني تطلبه ... ولو جلست أتاني لا يعنيني
لا خير في طمع يدني إلى طبع ... وغفة من قوام العيش تكفيني
لا أركب الأمر تزري بي عواقبه ... ولا يعاب به عرضي ولا ديني
كم من فقير غني النفس تعرفه ... ومن غني فقير النفس مسكين
ومن عدو رماني لو قصدت له ... لم آخذ النصف منه حين يرميني
ومن أخ لي طوى كشحاً فقلت له ... إن انطواءك عني سوف يطويني
إني لأنظر فيما كان من أربي ... وأكثر الصمت فيما ليس يعنيني
لا أبتغي وصل من يبغي مقاطعتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
قال سعيد بن سلم: كنت والياً بأرمينية، فغبر أبو دهمان الغلابي على بابي أياماً، فلما وصل مثل بين يدي بين السماطين فقال: إني والله لأعرف أقواماً لو علموا أن سف التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم، إيثاراً للتنزه عن عيش رقيق الحواشي. أما والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العطفة، إنه والله ما يثنيني عليك إلا مثل ما يصرفك عني، ولأن أكون مقلاً مقرباً أحب الي من أن أكون مكثراً مبعداً، ما نسألك عملاً لا نضبطه، ولا مالاً إلا ونحن أكثر منه.
إن هذا الأمر الذي صار في يدك قد كان في يد غيرك فأمسوا والله حديثاً، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر ولين الحجاب، فإن حب عباد الله موصول بحب الله، وهم شهداء على خلقه، ورقباؤه على من اعوج سبيله.
قال المنصور لبعض أصحابه: سلني، فقال: يبقي الله أمير المؤمنين. فقال: ويحك اذكر ما تريد فليس كل وقت تؤمر بهذا. فقال: والله ما أغتنم مالك، ولا أخاف بخلك، ولا أستقصر عمرك، وإن سؤالك لزين، وإن عطاءك لشرف، وما بامرىء بذل وجهه إليك من عار. فتلافى المنصور بالمدح بما ليس فيه، وكفته القناعة من اجتدائه.
رئي بهلول في مقبرة فقيل له: هلا خالطت الناس؟ فقال: إني بين قوم إن حضرت لم يؤذوني، وإن غبت لم يغتابوني. قيل له: فادع الله تعالى فإن الناس في ضر وشدة من الغلاء، فقال: وما علي من ذاك ولو بلغت الحبة ديناراً، وإنما علي أن أعبد الله تعالى كما أمرني، وعليه أن يرزقني كما وعدني.
قال رجل: دخلت على هند بنت المهلب فرأيت بيدها مغزلاً تعزل به، فقلت لها: تغزلين؟ قالت: نعم سمعت أبي يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أعظمكن أجراً أطولكن طاقة؛ وهو يطرد الشيطان ويذهب بحديث النفس.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: المغزل في يد المرأة مثل الرمح في يد الغازي في سبيل الله تعالى.
روي أن كعباً لقي عبد الله بن سلام فقال: يا ابن سلام، من أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون به، قال: فما أذهب العلم من قلوب العلماء بعد إذ علموه ووعوه؟ قال: الطمع وشره النفس وطلب الحوائج إلى الناس.

قال شيخ كوفي من بني عبس: سألت الحسن عما تنبسط فيه أيدينا من الطعام فقال، قال عمر: كفى شرهاً إذا اشتهيت شيئاً أكلته؛ وقال: إن كان عمر ليشتهي الشيء فيدافعه سنة.
قال فيلسوف: الإنسان يزداد على كثرة المال نهماً كما تزداد النار على الحطب ضرماً.
الطامع في وثاق الذل.
رب مغرق قد خاب، ومقتصد قد فاز.
قال الأصمعي: لقيت أعرابياً في بعض نواحينا فقلت: ممن الرجل؟ قال: من بني أسد، قلت: من أين أقبلت؟ قال: من البادية بأرض ما نريد بها بدلاً ولا نبغي عنها حولاً، بعجتها الغاديات، وحفتها الفلوات، فنحن فيها بأرق عيشة وأنعم معيشة، فقلت: ما طعامكم فيها؟ فقال: بخ بخ أطيب طعام وأهنأه وأمرأه: الهبيد والفطس والعنكث والعلهز، وربما والله أكلنا القديد واشتوينا الجلد، فما نرى أن أحداً أحسن منا حالاً، ولا أرضى منا بالاً ولا أخصب رحالاً، فالحمد لله على ما رزقنا من القناعة وحسن الدعة، أما سمعت ما قاله قائلنا؟ قلت: وما قال؟ فأنشدني: من الطويل
إذا ما امتذقنا كل يومين مذقة ... بخمس تميرات صغار كوانز
فنحن ملوك الأرض خصباً ونعمة ... ونحن ليوث الحرب عند الهزاهز
وقال يزيد بن الحكم الثقفي: من الطويل
رأيت السخي النفس يأتيه رزقه ... هنيئاً ولا يعطى على الحرص جاشع
وكل حريص لن يجاوز رزقه ... وكم من موفى رزقه وهو وادع
وقال عمرو بن مال الحارثي: من البسيط
الحرص للنفس فقر والقنوع غنى ... والقوت إن قنعت بالقوت مجزيها
والنفس لو أن ما في الأرض حيز لها ... ما كان إن هي لم تقنع بكافيها
وقال آخر: من المتقارب
لعمرك لليأس عند اليقي ... ن خير من الطمع الكاذب
وقال ابن هرمة: من الطويل
إذا أنت لم تأخذ من اليأس عصمة ... تشد بها في راحتيك الأصابع
شربت بطرق الماء حيث لقيته ... على رنق واستعبدتك المطامع
وقال أيضاً: من الطويل
وفي اليأس عن بعض المطامع راحة ... ويا رب خير أدركته المطامع
وقال هدبة بن خشرم: من الطويل
وبعض رجاء المرء ما ليس نائلاً ... عناء وبعض اليأس أعفى وأروح
وقال مكنف بن معاوية التميمي: من المتقارب
ترى المرء يأمل ما لن يرى ... ومن دون ذلك ريب الأجل
وكم آيس قد أتاه الرجاء ... وذي طمع قد لواه الأمل
قال عبد الله بن مسعود: لو أن العلماء أعزوا العلم بما أعزه الله تعالى، ووضعوه عند أهله، لسادوا به أهل زمانهم، وصار الناس لهم تبعاً. ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا من فضلهم فهانوا عليهم.
كان سويد بن غفلة إذا قيل له قد ولي فلان قال: حسبي كسرتي وملحي.
وقيل: من أمل رجلاً هابه، ومن قصر عن شيء عابه.
قال بشر بن الحارث: خرج فتى في طلب الرزق، فبينا هو يمشي إذ أعيا، فأوى إلى خراب يستريح فيه، فبينا هو يدير بصره إذ وقعت عيناه على بناء فيه كتاب: من الكامل
إني رأيتك قاعداً مستقبلي ... فعلمت أنك للهموم قرين
هون عليك وكن بربك واثقاً ... وأخو التوكل شأنه التهوين
طرح الأذى عن نفسه في رزقه ... لما تيقن أنه مضمون
قال: فرجع الفتى إلى بيته وقال: اللهم أدبنا أنت.
قال عامر بن عبد قيس: ما أبالي ما فاتني من الدنيا بعد آيات في كتاب الله تبارك وتعالى: " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " " هود: 6 " " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده " " فاطر: 2 " " وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير " " الأنعام: 17 " قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله لا يدخر شيئاً لغد. وأهدي إليه صلى الله عليه وعلى آله ثلاث طوائر فأطعم خادمه طائراً، فلما كان الغد أتته به فقال لها لله: ألم أنهك أن ترفعي شيئاً لغد فإن الله يأتي برزق كل غد.
وقال صلى الله عليه وسلم: قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه.
وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: لا تكثر همك، ما يقدر يكن، وما ترزق يأتك.

قيل: ما ترك عيسى عليه السلام حين رفع إلا مدرعة من صوف، وخفي راع، وحذافة يحذف بها الطير.
وروي بعض أصحاب علي عليه السلام قال: دخلنا عليه وبين يديه طبق من خوص عليه قرص أو قرصان من خبز شعير، وإن أشطاب النخالة لتبين في الخبز، وهو يكسره على ركبته، ويأكله بملح جريش، فقلنا لجارية له سوداء يقال لها فضة: ألا نخلت هذا الدقيق لأمير المؤمنين؟ فقالت: يأكل هو المهنا ويكون الوزر في عنقي، فتبسم علي عليه السلام وقال: أنا أمرتها أن لا تنخله. قلنا: فلم يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك أجدر أن يذل النفس، ويقتدي بي المؤمن، وألحق بأصحابي.
وقال سلمان الفارسي: قسمت الدنيا على درهمين: أبتاع بأحدهما خوصاً والآخر طعاماً، فأعمل الخوص، وإلى أن ينفد طعامي أكون قد عملت الخوص فأبيعه بدرهمين فأبتاع بأحدهما طعاماً والآخر خوصاً.
يقال: من لزم العفاف هانت عليه موجدة الملوك.
قيل للزهري: ما الزهد؟ قال: ليس هو تقشف الجلد ولا خشونة المطعم ولكن ظلف النفس عن محبوب الشهوات.
قال علي عليه السلام: لا تجاهد في الطلب جهاد المغالبة، ولا تتكل على القدر اتكال المستسلم، فإن ابتغاء الفضل من السنة، والإجمال في الطلب من العفة.
قال عيسى عليه السلام للحواريين: أنتم أغنى من الملوك، قالوا: كيف؟ قال: لأنكم لا تطلبون وهم يطلبون.
أصحر الحسن يوماً فرأى صياداً فقال: ما أكثر ما يقع في شبكتك؟ قال: كل طير زاق، فقال الحسن: هلك المعيلون.
في الحديث: إن الصفاة الزلاء التي لا تثبت عليها أقدام العلماء الطمع.
شدة الحرص من سبل المتالف.
المرء تواق إلى ما لم ينل.
النابغة الذبياني ويروى لأوس بن حجر: من الوافر
ولست بخابىء لغد طعاماً ... حذار غد لكل غد طعام
آخر: من الطويل
إذا كنت تأتي المرء توجب حقه ... ويجهل منك الود فالهجر أوسع
آخر: من البسيط
لا تنكرن كلامي إن مخرجه ... من جرأة اليأس لا من هيبة الأمل
ضده لجرير: من الكامل
إني لآمل منك خيراً عاجلاً ... والنفس مولعة بحب العاجل
هشام بن إبراهيم البصري: من الطويل
وكم ملك جانبته عن كراهة ... لإغلاق باب أو لتشديد حاجب
ولي في غنى نفسي مراد ومذهب ... إذا انصرفت عني وجوه المذاهب
بشار: من الكامل المرفل
اسكن إلى سكن تسر به ... ذهب الزمان وأنت منفرد
ترجو غداً وغد كحاملة ... في الحي لا يدرون ما تلد
استشار ابن المعتز صديق له في عمل فقال: ربما أورد الطمع ولم يصدر، وضمن ولم يف، ومن تماسكت حاله في أهل طبقته وجب على عقله القناعة، وربما شرق شارب الماء قبل ريه، ومن تجاوز الكفاف لم يغنه الإكثار، وكلما عظم قدر المتنافس فيه عظمت الفجيعة به. ومن ارتحله الحرص أنضاه الطلب. والأماني تعمي أبصار البصائر، والحظ يأتي من لا يأتيه. وربما كان الطمع وعاء حشوه المتالف. وأشقى الناس بالسلطان صاحبه كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقاً.
حكيم: عز النزاهة أحب إلي من فرح الفائدة، والصبر على العسرة أحب إلي من احتمال المنة.
قال قدامة بن زياد الكاتب: دخلت والحسن بن وهب إلى محمد بن عبد الملك الزيات وعنده جماعة من خاصة إخوانه، فجعل الجماعة منهم يشكون أحوالهم والحسن ساكت، وكنت فيمن شكا، فقال له محمد: يا أبا علي، إن كانت حالك تستغني عن الشكوى فإن ذلك يسرني، وإن كانت على غير ذلك وأنفت من الشكوى إلي لقد سؤتني، فقال الحسن: لا ولكني أخذت بقول الكميت حيث يقول: من الطويل
صموت إذا ضج المطي كأنما ... تكرم عن أخلاقهن وترغب

قال الجاحظ: إن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم في مصالحهم، ولولا ذلك لاختاروا كلهم الملك والسياسة، أو التجارة والفلاحة، وفي ذلك ذهاب المعاش وبطلان المصلحة. فكل صنف من الناس مزين لهم ما هم فيه، فالحائك إذا رأى من صاحبه تقصيراً أو خرقاً قال: يا حجام، والحجام إذا رأى مثل ذلك من صاحبه قال: يا حائك، فأراد الله تعالى أن يجعل الاختلاف سبباً للائتلاف، فسبحانه من مدبر حكيم. وترى البدوي في بيت من قطعة كساء، معمد بعظام الجيف مع كلبه، لباسه شملة من وبر أو شعر، ودواؤه بول الإبل، وطيبه القطران وبعر الظباء، وحلي امرأته الودع وثمار المقل، وصيده اليربوع في مفازة لا يسمع فيها إلا نئيم بومة، وزقاء هامة، وعواء ذئب، وهو راض بذلك مفتخر به.
قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: عجبت للحريص المستقل لكثير ما في يده، والمستكثر لقليل ما في يد غيره، حتى طلب الفضل بذهاب الأصل، فركب مفاوز البراري ولجج البحار معرضاً نفسه للممات وماله للآفات، ناظراً إلى من سلم، غير معتبر بمن عدم.
لما افتتح الرشيد هرقلة أباحها ثلاثة أيام، وكان بطريقها الخارج إليه بسيل الرومي، فنظر إليه الرشيد مقبلاً على جدار فيه كتاب باليونانية، وهو يطيل النظر فيه، فدعا به فقال: لم تركت الانتهاب وأقبلت على هذا الجدار تنظر فيه؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن في هذا الجدار كتاباً هو أحب إلي من هرقلة وما فيها. قال الرشيد: ما هو؟ قال: بسم الله الملك الحق المبين، ابن آدم: غافص الفرصة عند إمكانها، وكل الأمور إلى وليها. لا تحمل على قلبك هم يوم لم يأت، إن يكن من أجلك يأتك الله برزقك فيه، ولا تجعل سعيك في المال أسوة المغرورين، فرب جامع لبعل حليلته. واعلم أن تقتير المرء على نفسه توفير منه على غيره. فالسعيد من اتعظ بهذه الكلمات ولم يضيعها. قال له الرشيد: أعدها علي يا بسيل، فأعادها حتى حفظها .
قال سعد بن أبي وقاص: يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة فإنها مال لا ينفد، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وعليك باليأس فإنك لم تيأس من شيء قط إلا أغناك الله عنه. الغني من استغنى بالله، والفقير من افتقر إلى الناس.
قيس بن الخطيم: من الوافر
فل للمتقي غرض المنايا ... توق وليس ينفعك اتقاء
فلا يعطى الحريص غنى بحرص ... وقد ينمي على الجود الثراء
غني النفس ما استغنت غني ... وفقر النفس ما عمرت شقاء
قيل: اثنان لا يجتمعان أبداً: القنوع والحسد.
الرضي في الأمل: من الطويل
غرست غروساً كنت أرجو لحاقها ... وآمل يوماً أن تطيب جناتها
فإن أثمرت لي غير ما كنت أرتجي ... فلا ذنب لي إن حنظلت نخلاتها
المنتصر بن المتوكل في مثله: من الطويل
متى ترفع الأيام من قد وضعنه ... وينقاد لي دهر علي جموح
أعلل نفسي بالرجاء وإنني ... لأغدو على ما ساءني وأروح
بلبل الصفار: من الطويل
وما صاحب السبعين والعشر بعدها ... بأقرب ممن حنكته القوابل
ولكن آمالاً يؤملها الفتى ... وفيهن للراجين حق وباطل
وقال الرضي: من الطويل
أرى كل زاد ما خلا سد جوعة ... تراباً وكل المال عندي آل
ومثلي لا يأسى على ما يفوته ... إذا كان عقبى ما ينال زوال
وقال أيضاً: من الطويل
وما جمعي الأموال إلا غنيمة ... لمن عاش بعدي واتهاماً لرازقي
وقال: من الطويل
فما التذ طعم السير إلا بمنية ... وإن الأماني نعم زاد المسافر
وقال: من المتقارب
ولا بد من أمل للفتى ... وأم المنى أبداً حامل
قال عمر بن عبد العزيز: تعلموا العلم فإنه عون للفقر، أما إني لا أقول تطلب به الدنيا ولكن يدعو إلى القنوع.
الأعشى: من الطويل
كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
أصابت داود الطائي ضيقة شديدة، فجاءه حماد بن أبي حنيفة بأربعمائة درهم من تركة أبيه، فقال: هي من مال رجل ما أقدم عليه أحداً في زهده وورعه وطيب كسبه، ولو كنت قابلاً من أحد شيئاً لقبلتها إعظاماً للميت وإيجاباً للحي، ولكني أحب أن أعيش في عز القناعة.

العبيد ثلاثة: عبد رق، وعبد شهوة، وعبد طمع.
لقي كعب عبد الله بن سلام فقال: يا ابن سلام من أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون به. قال: فما أذهب العلم عن قلوب العلماء بعد إذ علموه؟ قال: الطمع، وشدة الحرص، وطلب الحوائج إلى الناس.
قيل لحكيم: ما بال الشيخ أحرص على الدنيا من الشاب؟ قال: لأنه ذاق من طعم الدنيا ما لم يذقه الشاب.
قيل للاسكندر: ما سرور الدنيا؟ قال: الرضى بما رزقت منها. قيل: فما غمها؟ قال: الحرص.
إبراهيم بن المهدي: من البسيط
قد شاب رأسي ورأس الحرص لم يشب ... إن الحريص من الدنيا لفي تعب
قد يرزق المرء لم تنصب رواحله ... ويحرم الرزق من لم يؤت من طلب
سعيد بن جبير: الاغترار بالله المقام على الذنوب رجاء المغفرة.
الفضيل: الخوف أفضل من الرجاء ما كان العبد صحيحاً، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف.
قيل لرجل: كيف حالك؟ قال: أخدم الرجاء إلى أن ينزل القضاء.
إياكم وطول الأمل فإن من ألهاه أمله أخزاه أجله.
أنذر أبا مسلم شيخ نصراني حين دنا قتله، فبكى، فقال: لا تبك فإنك لم تؤت من رأى رنيق، ولا حزم وثيق، ولا تدبير نافع، ولا سيف قاطع، ولكن ما اجتمع لأحد أمله إلا أسرع في تفريقه أجله.
هو من قول علي عليه السلام: من بلغ أقصى أمله، فليتوقع أدنى أجله.
قيل لراهب بالشام عليه مدرعة صوف ضيقة الكمين: لم ضيقت كميك؟ قال: إن المسيح أمرنا أن نضيق أكمامنا لئلا ندخر فيها شيئاً إذا فضل عنا.
قال عباد بن منصور: كان بالبصرة من هو أفقه من عمرو بن عبيد وأفصح، ولكنه كان أصبرهم عن الدرهم والدينار فساد أهل البصرة. قال له خالد بن صفوان: لم لا تأخذ مني قال: لا يأخذ أحد من أحد إلا ذل له، وأنا أكره أن أذل لغير الله. وكان معاشه من دار غلتها دينار في الشهر.
حبس عمر بن عبد العزيز الغداء على مسلمة حتى برح به الجوع، ثم دعا بشربة سويق فسقاه، حتى إذا انتفخ بطنه دعا بالغداء فلم يقدر على الأكل فقال: يا مسلمة أما يكفيك من الدنيا ما ترى؟ قال: بلى. قال: فعلام التقحم في النار؟.
وقف الملك على سقراط وهو في المشرقة، وقد أسند ظهره إلى حب كان يأوي إليه، فقال: سل حاجتك قال: حاجتي أن تزيل عني ظلك، فقد منعتني المرفق بالشمس. فدعا له بذهب وبكسى فاخرة من الديباج والقصب، فقال: ليس بسقراط حاجة إلى حجارة الأرض وهشيم النبت ولعاب الدود، إن حاجته إلى شيء يكون معه أنى توجه.
التقى عبد الرحمن بن عوف وأبو ذر، فقبل عبد الرحمن ما بين عيني أبي ذر لكثرة سجوده، وقبل أبو ذر يمين عبد الرحمن لكثرة صدقته. فلما افترقا بعث إليه عبد الرحمن ببدرة وقال لغلامه: إن قبلها منك فأنت حر، فأبى أن يقبلها. فقال الغلام: اقبل رحمك الله، فإن في قبولك عتقي، فقال أبو ذر: إن كان عتقك فيه فإن فيه رقي، وردها.
من كلام علي عليه السلام: لا تجاهدوا الطلب مجاهدة الغالب، ولا تتكلوا على القدر اتكال المستسلم، فإن ابتغاء الرزق من السنة، والإجمال في الطلب من العفة، وليست العفة بدافعة رزقاً، ولا الحرص بجالب فضلاً.
نوادر من هذا الباب قال رجل لأشعب: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم تقل هذا إلا وفي نفسك خير تصنعه إلي.
وقيل: إنه لم يمت شريف قط من أهل المدينة إلا استعدى أشعب على وصيه أو وارثه وقال له: احلف أنه لم يوص لي بشيء قبل موته.
وسأل سالم بن عبد الله بن عمر أشعب عن طمعه فقال: قلت لصبيان مرة هذا سالم قد فتح بيت صدقة عمر حتى يطعمكم تمراً فلما أحضروا ظننت أنه كما قلت فعدوت في أثرهم.
وقال مرة: بلغ من طمعي أني إذا رأيت دخان جاري أثرد. وما رأيت اثنين يتساران إلا ظننت أنهما يأمران لي بشيء.
وقال: ما رأيت عروساً بالمدينة تزف إلا كنست بيتي ورششته طمعاً في أن تزف إلي.
ووقف على رجل يعمل طبقاً من الخيزران فقال له: وسعه قليلاً، قال الخيزراني: كأنك تريد أن تشتريه؟ قال: لا ولكن يشترى لبعض الأشراف فيهدي إلي فيه شيئاً.
وقيل له: هل رأيت أطمع منك؟ قال: نعم كلب أم حومل تبعني فرسخين وأنا أمضغ كندراً ولقد حسدته على ذلك.

وسئل مرة عن مثل ذلك فقال: نعم، خرجت إلى الشام مع رفيق لي، فنزلنا بعض الديارات فتلاحينا في شيء، فقلت: أير الراهب في حر أم الكاذب، فلا نشعر إلا بالراهب قد اطلع علينا وقد أنعظ وهو يقول: أيكما الكاذب؟ قال أشعب: تعلقت بأستار الكعبة فقلت: اللهم أذهب عني الحرص والطلب إلى الناس، فمررت بالقرشيين وغيرهم فلم يعطني أحد شيئاً، فجئت إلى أمي فقالت: ما لك قد جئت خائباً؟ فأخبرتها فقالت: لا والله لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربك، فجعلت أقول: يا رب أقلني. ثم رجعت فما مررت بمجلس لقريش ولا غيرهم إلا أعطوني. ووهب لي غلام فجئت إلى أمي بحمال موقر من كل شيء فقالت: ما هذا الغلام؟ فخفت أن أخبرها فتموت فرحاً، فقلت: وهبوا لي، فقالت أي شيء قلت؟ قلت: غين. قالت: أي شيء قلت؟ قلت: لام، قالت: أي شيء قلت؟ قلت: ألف، قالت: أي شيء قلت؟ قلت: ميم. قالت: وأي شيء ميم؟ قلت: غلام. فغشي عليها، ولو لم أقطع الحروف لماتت الفاسقة فرحاً.
وكان لأشعب خرق في بابه، فينام ويخرج يده من الخرق، يطمع أن يجيء إنسان فيطرح في يده شيئاً.
قطع على رجل فلقيه صديق له فقال: أحسبك جئت بخفي حنين، فقال: تلقاني حنين في الطريق فأخذ الخفين من رجلي وتركني حافياً.
ومما وضع على لسان الحيوان: قالوا: جاء رومي بخنزير فشده على اسطوانة، ووضع القت بين يديه ليسمنه، وإلى جنبه أتان لها جحش كان يلتقط ما تناثر منه، فقال لأمه: ما أطيب هذا العلف، قالت: لا تغتر بهذا العلف فإن وراءه الطامة الكبرى. فلما وضع السكين على حلق الخنزير ورآه الجحش وهو يضرب وينفح هرب وأتى أمه وأطلع أسنانه وقال: ويحك انظري هل بقي في خلال أسناني شيء من ذلك العلف؟ ومنه: أن قصاراً كان يعمل على شاطىء نهر، وكان يرى كل يوم كركياً يجيء فيلتقط من الحمأة دوداً ويقتصر في القوت عليه، فرأى يوماً بازياً قد ارتفع في الجو فاصطاد حماماً فأكل منها بعضاً وترك في موضعها البعض وطار، فتفكر الكركي في نفسه وقال: ما لي لا أصطاد الطير كما يصطاد البازي، وأنا أكبر جسماً منه، فارتفع في الجو وانقض على حمام فأخطأه وسقط في الحمأة فتلطخ ريشه ولم يمكنه أن يطير، فأخذه القصار وحمله إلى منزله، فاستقبله رجل فقال له: ما هذا؟ فقال: كركي يتصقر.
منصور الحراني: من الطويل
سعى نحونا يبغي القرى طاوي الحشا ... لقد عملت فيه الظنون الكواذب
فبات له منا إلى الصبح شاتم ... يعدد تطفيل الضيوف وضارب
قال عبد الملك حين حج لحبى المدينية: ما فعلت خزيرتك؟ فقالت: البرمة عندي، وعندي أقط وسمن. فعملتها له، فأكل منها وقال: يا حبي ليست كما كنت أعهد. فقالت: ألهاك عنها زمكى الدجاج، قال: صدقت، وأمر لها بمال.
قال رجل لمدني: أيسرك أن هذه الدار لك؟ قال: نعم، قال: وليس إلا نعم؟ قال: وكيف أقول؟ قال: تقول نعم، وأحم سنة وأعور.
وروي عن معاوية أنه قال لجلسائه مرة: وددت لو أن الدنيا في يدي بيضة نيمبرشت وأحسوها كما هي. وهذا خبر غريب بعيد أورده الزمخشري اللغوي في كتابه المعروف بربيع الأبرار.
كتب على عصا ساسان: الحركة بركة، والتواني هلكة، والكسل شؤم، والأمل زاد العجزة، وكلب طائف خير من أسد رابض، ومن لم يحترف لم يعتلف.
خرج جماعة إلى سلطان يتطلبون شغلاً فلم يجدوا، فقال بعضهم: تقوتوا الإرجاف وانتظروا الدول.
كان رجل يأكل الحوارى ويطعم عبده الخشكار، فاستباع العبد فاشتراه آخر، فكان يأكل الخشكار ويطعمه الشعير، فاستباع فاشتراه آخر فكان يأكل الشعير ويطعمه النخالة، فاستباع فاشتراه آخر فكان يجيعه وإذا قعد بالليل وضع السراج على رأسه فلم يستبعه، فقيل له في ذلك، فقال: أخشى إن باعني أن أقع إلى من يضع الفتيلة في حدقتي.
يتلوه: باب صون السر وتحصينه وذم السعاية والنميمة.

الباب الحادي عشر
ما جاء في صون السر وتحصينه
وذم السعاية والنميمة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أحاط علماً بما تجنه الضمائر، ولم يعزب عنه معرفة ما انطوت عليه السرائر، سواء عنده الإعلان والنجوى، وكل سارب وسار في اطلاعه شروى، الداعي إلى التخلق بكل خلق كريم، الناهي عن طاعة كل هماز مشاء بنميم. أحمده على مواهبه الجسام الحسان، وأسأله توفيقاً يقبض اليد عن السوء ويقضي بخزن اللسان، وأسأله الصلاة على نبيه الحافظ سر الغيب، المنزه عن الطع والعيب، وعلى آله البرءاء من مظنة الشك والريب.
من شواهد الكتاب العزيز في السر " فأوحى إلى عبده ما أوحى " " النجم: 10 " " وما هو على الغيب بظنين " " التكوير: 24 " في قراءة من قرأه بالظاء أي بمتهم، وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير والكسائي. وفي ضده " ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم " " القلم: 10 - 11 " .
الآثار روي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله قال: لعن المثلث فقيل: يا رسول الله ومن المثلث؟ قال: الذي يسعى بصاحبه إلى سلطانه، فيهلك نفسه وصاحبه وسلطانه.
وقال صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يرفعن إلينا عورة أخيه المؤمن.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن ذا الوجهين لا يكون وجيهاً عند الله.
وفي الحديث: لا يراح القتات رائحة الجنة. وفي لفظ آخر: لا يدخل الجنة قتات؛ والقتات النمام.
بدأنا بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم لما يجب من تقديمه والشرف بإيراده، ونذكر الآن ما جاء في صون السر وتحصينه، ثم نعود إلى ما بدأنا به.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من كتم سره كان الخيار في يده.
وقال علي كرم الله وجهه: الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، والرأي بتحصين السر.
ويقال: من وهي الأمر إعلانه قبل إحكامه.
وقيل من حصن سره فله من تحصينه إياه خلتان: إما الظفر بما يريد، وإما السلامة من العيب والضرر إن أخطأه الظفر.
وذكر العتبي أن معاوية أسر إلى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان حديثاً فقال عمرو: فجئت إلى أبي فقلت: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً أفأحدثك به؟ فقال: لا، لأنه من كتم حديثه كان الخيار إليه، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكاً بعد أن كنت مالكاً. قلت: أو يدخل هذا بين الرجل وأبيه؟ قال: لا، ولكن أكره أن يذلل لسانك بإفشاء السر. قال: فرجعت إلى معاوية فذكرت ذلك له فقال: أعتقك أخي من رق الخطأ.
وقيل: كلما كثر خزان الأسرار زادت ضياعاً. انفرد بسرك لا تودعه خازناً فيزل ولا جاهلاً فيخون.
أسر رجل إلى صديق له حديثاً فلما استقصاه قال له: أفهمت؟ قال: بل نسيت.
وقيل لأخر: كيف كتمانك للسر؟ قال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر.
وقال عمرو بن العاص: إذا أنا أفشيت سري إلى صديقي فأذاعه، فهو في حل، فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: أنا كنت أحق بصيانته.
وقال أيضاً: من طلب لسره موضعاً فقد أشاد به.
ويقال: أصبر الناس من صبر على كتمان سره فلم يبده لصديقه، فيوشك أن يصير عدواً فيذيعه.
وقال المهلب: أدنى أخلاق الشريف كتمان السر، وأعلى أخلاقه نسيان ما أسر إليه.
وقد قال الشعراء في هذا الباب فأكثروا، فمن مختار شعرهم وعيونه: قول امرىء القيس: من الطويل
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان
وكان علي عليه السلام ينشد كثيراً هذين البيتين، فقوم ينسبونهما إليه وقوم يقولون إنما كان ينشدهما متمثلاً: من المتقارب
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
فإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا
وقال قيس بن الخطيم: من الطويل
إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... ببث وتكثير الحديث قمين
وإن ضيع الإخوان سراً فإنني ... كتوم لأسرار العشير أمين
يكون له عندي إذا ما ضمنته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين
وقال آخر: من الطويل
سأكتمه سري وأحفظ سره ... ولا غرني أني عليه كريم
حليم فينسى أو جهول يضيعه ... وما الناس إلا جاهل وحليم
وقال آخر: من الطويل
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق
وقال كعب بن سعد الغنوي: من الطويل
ولست بمبد للرجال سريرتي ... ولا أنا عن أسرارهم بسؤول
وقال مسكين الدارمي: من الطويل

وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ... على سر بعض غير أني جماعها
يظلون شتى في البلاد وسرهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
لكل امرىء منهم من القلب شعبة ... وموضع نجوى لا يرام اطلاعها
وقال أبو مسلم صاحب الدولة: من البسيط
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ جهدوا
ما زلت أسعى عليهم في ديارهم ... والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا
حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومة لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
وقال ابن المعتز: من البسيط
ورب سر كنار الصخر كامنة ... أمت إظهاره مني فأحياني
وقال أبو إسحاق الصابي: من الطويل
لسر صديقي مكمن في جوانحي ... تمنع أن تدنو إليه المباحث
تغلغل مني حيث لا تستطيعه ... كؤوس الندامى والأنيس المحادث
إذا الفحص آلى جاهداً أن يناله ... تراجع عنه وهو خزيان حانث
فقل لصديقي كن على السر آمناً ... إذا لم يكن ما بيننا فيه ثالث
كأنه أشار في هذا البيت إلى قول جميل: من الطويل
ولا يسمعن سري وسرك ثالث ... ألا كل سر جاوز اثنين ضائع
وقال الصابي أيضاً: من الطويل
وللسر فيما بين جنبي مكمن ... خفي قصي عن مدارج أنفاسي
أضن به ضني بموضع حفظه ... فأحميه عن إحساس غيري وإحساسي
فقد صار كالمعدوم لا يستطيعه ... يقين ولا ظن لخلق من الناس
كأني من فرط احتياطي أضعته ... فبعضي له واع وبعضي له ناس
وقال كثير: من الطويل
كريم يميت السر حتى كأنه ... إذا استنطقوه عن حديثك جاهله
رعى سركم مستودع القلب والحشا ... شفيق عليكم لا تخاف غوائله
وأكتم نفسي بعض سري تكرماً ... إذا ما أضاع السر في الناس حامله
وقال الرقاشي: من الطويل
إذا نحن خفنا الكاشحين فلم نطق ... كلاماً تكلمنا بأعيننا سراً
فنقضي ولم يعلم بنا كل حاجة ... ولم نكشف النجوى ولم نهتك السترا
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الفقيه: من الطويل
إذا كان لي سر فحدثته العدى ... وضاق به صدري فللناس أعذر
هو السر ما استودعته وكتمته ... وليس بسر حين يفشو ويظهر
وقال الحسن: ما كتمته عن عدوك لا تظهره لصديقك.
شاعر: من الطويل
وأبثثت عمراً بعض ما في جوانحي ... وجرعته من غيظ ما أتجرع
ولابد من شكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفسي تطلع
وقال الآخر: من الطويل
لعمرك ما الشكوى بأمر حزامة ... ولابد من شكوى إذا لم يكن صبر
وكان خالد بن صفوان يقول: اخترزوا من العين فإنها أنم من اللسان.
وقد قال المتغزل في حفظ سر محبوبه ما لو قاله مستودع سر الملك لكان محسناً: من الطويل
ومستخبر عن سر ريا رددته ... بعمياء من ريا بغير يقين
فقال ائتمني إنني ذو أمانة ... وما أنا إن خبرته بأمين
كتب محمد بن خالد إلى ابن الزيات: إن قوماً صاروا إليه منتصحين فذكروا أن رسوماً للسلطان قد عفت ودرست، وأنه توقف عن كشفها إلى أن يعرف موقع رأيه فيها، فوقع على رقعته: قرأت هذه الرقعة المذمومة، وسوق السعاة تكسد عندنا، وألسنتهم تكل في أيامنا، فاحمل الناس على قانونك، وخذهم بما في ديوانك، فلم ترد الناحية لكشف الرسوم العافية، ولا لتحيي الأعلام الداثرة، وجنبني وتجنب قول جرير: من الوافر
وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بخزية وتركت عارا
فأجر الأمر على ما يكسبنا الدعاء لنا لا علينا، واعلم أنها مدة تنقضي فإما خزي طويل، وإما ذكر جميل.
قال أنس: من اغتاب المسلمين، وأكل لحومهم بغير حق، وسعى بهم إلى السلاطين، جيء به يوم القيامة مزرقة عيناه، ينادي بالويل والثبور والندامة، يعرف أهله ولا يعرفونه.
ابن الرومي: من الطويل

ولو بلغتني عنك أذني أقمتها ... لدي مقام الكاشح المتكذب
ولست بتقليب اللسان مصارماً ... خليلي إذا ما القلب لم يتقلب
قال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأسواري لم يزل يذكرك ويقول: الضال، فقال عمرو: يا هذا والله ما رعيت حق مجالسته حين نقلت إلينا حديثه، ولا رعيت حقي حين أبلغتني عن أخي ما أكرهه. اعلم أن الموت يعمنا، والبعث يحشرنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا.
المستورد رفعه: من أكل بأخيه أكلة أطعمه الله مثلها من نار جهنم وهو أن يسعى بأخيه ويجتر نفعاً بسعايته.
قال علي عليه السلام: الساعي ظالم لمن سعى به، خائن لمن سعى إليه.
وقال معاوية للأحنف في شيء بلغه عنه، فأنكره الأحنف: بلغني عنك الثقة، فقال الأحنف: إن الثقة لا يبلغ.
وقال عبد الله بن همام من الطويل
أنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً ... فخنت وإما قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذي كان بيننا ... بمنزلة بين الخيانة والإثم
وكان الفضل بن سهل يبغض السعاة، وإذا أتاه ساع قال له: إن صدقتنا أبغضناك، وإن كذبتنا عاقبناك، وإن استقلتنا أقلناك.
ويشبهه ما ذكر عن الوليد بن عبد الملك أنه قال لمنتصح أتاه يستخليه: إن كانت نصيحتك لنا فأظهرها، وإن كانت لغيرنا فلا حاجة بنا إليها. فقال: لي جار أخل ببعثه، فقال له: أما أنت فقد خبرتنا أنك جار سوء، فإن شئت أن ننظر فإن كنت صادقاً أقصيناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت تاركناك، فقال: تاركوني.
وكتب الفضل بن سهل في جواب كتاب ساع: ونحن نرى أن قبول السعاية شر من السعاية، لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء وأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي فإنه لو كان في سعايته صادقاً لكان في صدقه لئيماً إذ لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة.
وجاء رجل إلى الوليد بن عبد الملك فقال: إن فلاناً نال منك، فقال: أتريد أن تقتص أو تارك من الناس بي؟ وقال له رجل: إن فلاناً شتمك، فقال: أتراه شتمك؟! رفع بعض السعاة إلى أبي العباس السفاح قصة بسعاية على بعض عماله، فوقع فيها: هذه نصيحة لم يرد بها ما عند الله عز وجل، ونحن لا نقبل قول من آثرنا على الله تعالى.
وقال بعضهم: رأيت المأمون قد ضرب غسان بن عباد خمس عشرة درة لإعادته حديثاً على النبيذ.
لما ولي عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك دمشق ولم يكن في بني أمية ألب منه مع حداثة سنه، قال أهل دمشق: هذا غلام شاب لا علم له بالأمور وسيسمع منا. فقام إليه رجل فقال: أصلح الله الأمير، عندي نصيحة، قال: ليت شعري ما هذه النصيحة التي ابتدأتني بها من غير يد سبقت إليك مني؟ قال: جار لي عاص متخلف عن ثغره، فقال له: ما اتقيت الله تعالى، ولا أكرمت أميرك، ولا حفظت جوارك. إن شئت نظرنا فيما تقول: فإن كنت صادقاً لم ينفعك ذلك عندنا، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أقلناك. قال: أقلني. قال: اذهب حيث شئت لا صحبك الله، إني أراك شر جيل رجلاً. ثم قال: يا أهل دمشق، أما أعظمتم ما جاء به الفاسق؟ إن السعاية أحسب منه سجية، ولولا أنه لا ينبغي للوالي أن يعاقب قبل أن يعاتب، كان لي في ذلك رأي، فلا يأتيني أحد منكم بسعاية على أحد بشيء، فإن الصادق فيها فاسق، والكاذب فيها بهات.
قيل: من سعى بالنميمة حذره الغريب ومقته القريب.
قال ابن المعتز: النمام جسر الشر.
قال السري الرفاء يذم مذيعاً للسر: من البسيط
سري لديك كأسرار الزجاجة لا ... يخفى على العين منها الصفو والكدر
فاحذر من الشعر كسراً لا انجبار له ... فللزجاجة كسر ليس ينجبر
وقال أيضاً في مثله: من الوافر
وانك كلما استودعت سراً ... أنم من النسيم على الرياض
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: من الطويل
أناس أمناهم فنموا حديثنا ... فلما كتمنا السر عنهم تقولوا
والجيد في ذلك قول الأول: من البسيط
إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شراً أذيع وإن لم يسمعوا كذبوا
وقال آخر: من البسيط
إن النموم أغطي دونه خبري ... وليس لي حيلة في مفتري الكذب

خطب أبو الأسود الدؤلي امرأة من عبد القيس يقال لها أسماء بنت زياد، فأسر أمرها إلى صديق له من الأزد يقال له الهيثم بن زياد، فحدث به ابن عم لها كان يخطبها، وكان لها مال عند أهلها فمشى ابن عمها الخاطب لها إلى أهلها الذين مالها في أيديهم، فأخبرهم خبر أبي الأسود وسألهم أن يمنعوها من نكاحه ومن مالها الذي في أيديهم، ففعلوا وضاروها حتى تزوجت ابن عمها، فقال أبو الأسود في ذلك: من الطويل
لعمري لقد أفشيت يوماً فخانني ... إلى بعض من لم أخش سراً ممنعا
فمزقه مزق العمى وهو غافل ... ونادى بما أخفيت منه فأسمعا
حديثاً أضعناه كلانا فلن أرى ... وأنت نجياً آخر الدهر أجمعا
وكنت إذا ضيعت سرك لم تجد ... سواك له إلا أشت وأضيعا
كان مسلم بن الوليد جالساً بين يدي يزيد بن مزيد فأتاه كتاب فيه مهم له فقرأه ثم أراد القيام، فقال له مسلم: من البسيط
الحزم تخريقه إن كنت ذا حذر ... وإنما الحزم سوء الظن بالناس
لقد أتاك وقد أدى أمانته ... فاجعل أمانته في بطن أرماس
قال فضحك يزيد وقال: صدقت لعمري، وخرق الكتاب.
قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: من سمع بفاحشة فأفشاها فهو الذي أتاها.
أبو تمام: من الطويل
منيع نواحي السر منه حصينها
المتنبي: من الطويل
وللسر مني موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب
ابن نباتة: من الطويل
أكاتم قلبي رأي عيني وإنه ... ليكتم عني سر كل خليل
الأحوص: من الطويل
كريم يميت السر حتى كأنه ... عم بنواحي أمره وهو خابر
دنا رجل من آخر فكلمه فقال: ليس ها هنا أحد فقل، فقال: من حق السر التداني.
شاعر في ضد ذلك: من الطويل
فلا تودعي الأسرار أذني فإنما ... تصبين ماء في إناء مثلم
آخر: من الطويل
أمنت على السر امرءاً غير حازم ... ولكنه في النصح غير مريب
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
ليم بعضهم على إفشاء السر فقال: المصدور إذا لم ينفث جوي، والمهجور إذا لم يشك وري.
قال الزبير: لما وفدت على المتوكل قال لي: ادخل إلى أبي عبد الله يعني المعتز، فدخلت إليه وهو صبي فحدثته وأنشدته، وسألني عن الحجاز وأهله، ثم نهضت لأنصرف فعثرت فسقطت فقال لي المعتز: يا زبير: من الطويل
كم عثرة لي باللسان عثرتها ... تفرق من بعد اجتماع من الشمل
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
نوادر من هذا الباب عوتب رجل على إظهار ما في نفسه فقال: لابد للملآن أن يفيض.
وعوتب آخر فقال: من طال صبره ضاق صدره.
وقال آخر: راحة ذي الأحزان في شكواه.
وقيل: كان أبو إسحاق النظام أضيق الناس صدراً بحمل سر، وكان شر ما يكون إذا يؤكد عليه صاحب السر، وكان إذا لم يؤكد عليه ربما نسي القصة، فسلم عليه صاحب السر؛ فقال له قاسم التمار: سبحان الله ما في الأرض أعجب منك، أودعتك سراً فلم تصبر عن نشره يوماً واحداً، والله لأشكونك في الناس. فقال: يا هؤلاء سلوه، نممت عليه مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً، فلمن الذنب الآن؟ فلم يرض بأن يشاركه في الذنب حتى صير الذنب كله لصاحب السر.
وقال شاعر: من الطويل
لا أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي
فإن قليل العقل من بات ليله ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب
وقال آخر: من الوافر
وأمنع جارتي من كل خير ... وأمشي بالنميمة بين صحبي
ضرط رجل بحضرة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، فلما حضرت الصلاة قال عمر: عزمت على من كانت هذه الضرطة منه إلا توضأ، فقال جرير بن عبد الله البجلي: لو عزمت علينا جميعاً أن نتوضأ كان أستر للرجل وأكرم في الفعل. فقال عمر: جزاك الله خيراً، فلقد كنت سيداً في الجاهلية، وأنت سيد في الاسلام، عزمت عليكم إلا توضأتم. ثم قاموا جميعاً، وسترت على الرجل.

وضرط أبو الأسود الدؤلي بحضرة معاوية فقال: اكتمها علي، وكانا خاليين. ثم دخل عليه الناس فأحب أن يضع منه فأشاعها، فقال أبو الأسود: إن رجلاً اؤتمن على ضرطة فلم يكتمها لحري أن لا يؤتمن على أمر الأمة.
كان المتوكل على بركة يصيد السمك وعنده عبادة المخنث، فتحرك المتوكل فخرجت منه ريح، فقال لعبادة: اكتمها علي فإنك إن ذكرتها ضربت عنقك. ودخل الفتح فقال: أي شيء صدتم اليوم؟ فقال له عبادة: ما صدنا شيئاً، والذي كان معنا أفلت.
قيل للوطي: ويحك، إن من الناس من يسرق ويزني ويعمل العظائم سنين كثيرة وأمره مستور، وأنت إنما لطت منذ شهور، وقد شهرت وافتضحت. فقال: من يكون سره عند الصبيان كيف تكون حاله؟! كان ببغداد رجل يتعبد اسمه رويم، فولي القضاء، فلقيه جنيد فقال: من أراد أن يستودع سره من لايفشيه فعليه برويم، فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة حتى قدر عليها.
انقطع عبد الملك بن مروان عن أصحابه فانتهى إلى أعرابي فقال له: أتعرف عبد الملك؟ قال: نعم جائر بائر، قال: ويحك، أنا عبد الملك بن مروان، قال: لا حياك الله ولا بياك ولا قربك، أكلت مال الله وضيعت حرمته، قال: ويلك أنا أضر وانفع، قال: لا رزقني الله نفعك، ولا دفع عني ضرك. فلما وصلت خيله قال: يا أمير المؤمنين، اكتم ما جرى فالمجالس بالأمانة.
يتلوه: باب في العدل والجور.

الباب الثاني عشر
ما جاء في العدل والجور
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المقسط في قضائه العادل، الحكيم بين عباده الفاصل، مجزل العطاء الفاضل، ودافع البلاء النازل، مبيد الظلم وأهله، ومبير الجور وفعله. وعد على العدل أحسن الجزاء والثواب، وتوعد الظالم المسيء بأليم العقاب. سوى بين المشركين والقاسطين فجعلهم لجهنم حطباً ووقوداً، وأخزاهم فيها خامدين لا يستطيعون عنها حولاً ولا محيداً، كافى بين الدماء فلم يكن لملك على سوقة فيها اختصاص، وحكم بأن الجروح وإن اختلفت المنازل قصاص، تعديلاً بين القوي والمستضعف، وحجزاً عن العدوان والتحيف، يمهل الكافرين إذا عدلوا حتى يستوفوا أجلهم، ويعجل للظالمين وإن أسلموا رحمة لعباده وانتقاماً لهم. فله الحمد منعماً ومنتقماً، ولإحسانه الشكر منتصراً وراحماً. والصلاة على محمد المختار للرسالة المرتضى، المأمور بالعدل في الغضب والرضى، وعلى آله ما حسر الضياء ثوب الظلام ونضا.
العدل شيمة تستوجب الصفة بالكمال، ومن أوتيها ملك نفسه، ومن ملكها نجا. وقد ندب الله عز وجل إليه فعلاً وقولاً وخلقاً، قال الله تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى " " النحل: 90 " وقال سبحانه: " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " " المائدة 42 " وكفى شرفاً فضيلة يحب الله فاعلها. وقال عز وجل: " وإذا قلتم فاعدلوا " " والأنعام: 152 " وقال تبارك وتعالى " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً " " الفرقان: 67 " والآيات في ذلك وفي ذم الجور والوعيد عليه أكثر من أن تحصى، قال الله تعالى " ألا لعنة الله على الظالمين " هود: 18 " وقال عز وجل " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً " " الجن: 15 " وقال سبحانه " ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار " " إبراهيم: 42 " قيل هذه تعزية للمظلوم ووعيد للظالم. وقال تعالى: " إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا " " الكهف: 29 " وقال تعالى: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " " الشعراء: 227 " . ومن أمره بالعدل قوله سبحانه " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " " ص: 26 " .
وسئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: من أفضل الناس؟ قال: أكثرهم ذكراً لله؛ قيل فمن أكرم الناس؟ قال: أتقاهم لله؛ قيل: فمن المؤمن؟ قال: من يخشى الله بالغيب، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويؤدي الأمانة إلى أهلها، ويتقي دعوة المظلوم، ويعدل لسانه عند الرضى والغضب.
وقال له رجل: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر.
وقال صلى الله عليه وعلى آله: أشد الناس عذاباً يوم القيامة إمام جائر. وفي لفظ آخر: إن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر.

وقال صلى الله عليه وسلم: لا قدست أمة لا تأخذ للضعيف حقه غير متعتع.
وروي عن عبادة بن الصامت أنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وعلى أن نقول الحق أيضاً حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى الله منه ولزمه الشيطان.
وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله أنه قال: إن الله نظر إلى أهل عرفات فباهى بهم الملائكة، فقال: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أقبلوا يضربون إلي من كل فج عميق، فاشهدوا أني قد غفرت لهم إلا التبعات التي بينهم.
وقال صلى الله عليه وعلى آله: رحم الله عبداً كان لأخيه قبله مظلمة في عرض أو مال، فأتاه فتحلله منها قبل أن يأتي يوم ليس معه دينار ولا درهم.
وعنه صلى الله عليه وعلى آله أنه قال: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله فقال: أرأيت إن ضربت بسيفي هذا في سبيل الله محتسباً مقبلاً غير مدبر، أتكفر خطاياي؟ قال: نعم. فلما أدبر قال: تعال، هذا جبريل عليه السلام يقول إلا أن يكون عليك دين.
وقال صلى الله عليه وعلى آله: من اقتطع حق امرئ مسلم أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال رجل: يا رسول الله ولو كان شيئاً يسيراً؟ قال: ولو كان قضيباً من أراك.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله تقاضاه فأغلظ له، فهم أصحابه، فنهاهم وقال: ألا كنتم مع الطالب؟ ثم قال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً، واشتروا له بعيراً. فلم يجدوا له إلا فوق سنه فقال: اشتروا له فوق سنه، فأعطوه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخذت حقك؟ قال: نعم، قال: كذلك افعلوا، خيركم أحسنكم قضاء.
وقيل: مر علي عليه السلام في سوق الكوفة ومعه الدرة، وهو يقول: يا معشر التجار، خذوا الحق وأعطوا الحق تسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره، ما منع مال من حق إلا ذهب في باطل أضعافه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغبطن ظالماً بظلمه فإن له عند الله طالباً حثيثاً ثم قرأ " كلما خبت زدناهم سعيراً " " الإسراء: 97 " .
وقال عليه السلام: يا علي إياك ودعوة المظلوم فإنما يسأل حقه، وإن الله لا يمنع من ذي حق حقه.
وقال صلى الله عليه وسلم: من روع مسلماً لرضى سلطان جيء به معه يوم القيامة.
وقال صلى الله عليه وعلى آله: من تزوج امرأة بصداق ينوي أن لا يؤديه إليها فهو زان، ومن أدان ديناً لا ينوي أن يقضيه فهو سارق.
قال الأحنف: إذا دعتك نفسك إلى ظلم الناس فاذكر قدرة الله على عقوبتك، وانتقام الله لهم منك، وذهاب ما أتيت إليهم عليك.
ويقال: ما أنعم الله على عبد نعمة فظلم بها إلا كان حقيقا على الله أن يزيلها.
وقال أبو سعيد: بينما النبي صلى الله عليه وعلى آله يقسم شيئاً إذ أكب عليه رجل فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم بعرجون معه، فصاح الرجل، فقال له النبي الله عليه وعلى آله: تعال فاستقد، فقال الرجل: بل قد عفوت يا رسول الله.
وخبر عكاشة مشهور وله موضع آخر من هذا الكتاب.
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام.
وقال صلى الله عليه وسلم: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد حاد الله في ملكه، ومن أعان على خصومة بغير علم فقد باء بسخط الله.
وقال صلى الله عليه وسلم: من أعان على باطل ليدحض بباطله حقاً برئ من ذمة الله وذمة رسوله.
قال يوسف بن أسباط: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله.
وروي عن جعفر بن محمد أنه قال: قال الله عز وجل: وعزتي لأجيبن دعوة المظلوم وإن كان كافراً، كفره على نفسه وإزالة الظلم علي.
وعنه قال: ما من عبد ظلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: أي رب، عبدك! ظلمت فلم أنتصر إلا بك، إلا قال الله عز وجل: لبيك عبدي حقاً، لأنصرنك ولو بعد حين.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19