كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون

ومن ظريف أفعال الإخوان ما روي عن ابن أبي عتيق أنه جاء إلى الحسن والحسين ابني علي عليه السلام وعبد الله بن جعفر وجماعة من قريش فقال لهم: إن لي حاجة إلى رجل أخشى أن يردني فيها، وإني أستعين بجاهكم وأموالكم عليه. قالوا: ذلك مبذول لك. فاجتمعوا ليوم وعدهم فيه، فمضى بهم إلى زوج لبني صاحبة قيس بن ذريح الكناني، وكانت زوجته لما طلقها قيس، وكان قيس صديق ابن أبي عتيق. فلما رآهم أعظمهم وأكبر مصيرهم إليه فقالوا: قد جئناك في حاجة لابن أبي عتيق فقال: هي مقضية كائنة ما كانت. قال ابن أبي عتيق: قد قضيتها كائنة ما كانت من أهل ومال وملك؟ قال: نعم، قال: تهب لي ولهم زوجتك لبني وتطلقها، قال: فأشهدكم أنها طالق ثلاثاً. فاستحيا القوم واعتذروا وقالوا: والله ما عرفنا حاجته، ولو علمنا أنها هذا ما سألناك إياه. وعوضه الحسن من ذلك مائة ألف درهم، ولما انقضت عدتها تزوجها قيس، فقال قيس: من الوافر
جزى الرحمن أفضل ما يجازي ... على الإحسان خيراً من صديق
فقد جربت إخواني جميعاً ... فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي جرت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بصدري ... أغصتني حرارتها بريقي
فقال ابن أبي عتيق: يا حبيبي، أمسك عن هذا المديح فما يسمعه أحد إلا ظنني قواداً.
قال بعض بني عبد القيس: من الطويل
وما أنا بالناسي الخليل ولا الذي ... تغير إن طال الزمان خلائقه
ولست بمنان على من أوده ... ببر ولا مستخدم من أرافقه
وقال صالح بن عبد القدوس: من المنسرح
إذا رضيت الصديق فاصدقه في ال ... ود فخير الوداد ما صدقا
وقال آخر: من الطويل
وليس خليلي بالملول ولا الذي ... إذا غبت عنه باعني بخليل
وقال كعب بن سعد الغنوي: من الكامل
وإذا عتبت على أخ فاستبقه ... لغد ولا تهلك بلا إخوان
وقال الجلاح بن عبد اله السدوسي: من الطويل
إذا المرء عادى من يودك صدره ... وسالم ما اسطاع الذين تحارب
فلا تبله عما تجن ضلوعه ... فقد جاء منها بالشناءة راكب
وقال آخر: من الكامل
كم من بعيد قد صفا لك وده ... وقريب سوء كالبعيد الأعزل
وقال ابن الحمام: من الطويل
فلا تصفين الود من ليس أهله ... ولا تبعدن الود ممن توددا
أبو الأسود الدؤلي في صديق له فسد ما بينهما: من الوافر
بليت بصاحب إن أدن شبراً ... يزدني في تباعده ذراعا
أبت نفسي له إلا اتباعاً ... وتأبى نفسه إلا امتناعا
كلانا جاهد أدنو وينأى ... فذلك ما استطعت وما استطاعا
وقال في ابن عامر وكان صديقه ثم جفاه: من الطويل
ألم تر ما بيني وبين ابن عامر ... من الود قد بالت عليه الثعالب
وأصبح باقي الود بيني وبينه ... كأن لم يكن والدهر فيه عجائب
إذا المرء لم يحببك إلا تكرهاً ... بدا لك من أخلاقه ما يغالب
وقال حماد عجرد في عيسى بن عمر: من الكامل المرفل
كم من أخ لك لست تنكره ... ما دمت من دنياك في يسر
متصنع لك في مودته ... يلقاك بالترحيب والبشر
يطوي الوفاء وذا الوفاء ويل ... حى الغدر مجتهداً وذا الغدر
فإذا عدا والدهر ذو غيرٍ ... دهر عليك عدا مع الدهر
فارفض بجهد منك صحبة من ... يقلى المقل ويعشق المثري
وعليك من حالاه واحدةٌ ... في العسر إما كنت واليسر
قال حكيم: أنزل الصديق بمنزلة العدو في رفع المؤونة عنه، وأنزل العدو بمنزلة الصديق في تحمل مؤونته.

من كلام الحسن: يا ابن آدم إياك والغيبة فإنها أسرع في الحسنات من النار في الحطب. يحسد أحدكم أخاه حتى يقع في سريرته، والله أعلم بعلانيته. يتعلم في الصداقة التي بينهما ما يعيره به في العداوة إذا هي كانت، فما أظن أولئك من المؤمنين. إن الله لا ينظر إلى عبدٍ يبدي لأخيه الود وهو مملوء غشاً، يطريه شاهداً، ويخدله غائباً، إن رأى خيراً حسده، وإن ابتلي ابتلاء خذله.
وقد قيل: الإخوان نزهة القلوب وسلوة الهموم.
إبراهيم بن العباس: من مجزوء الرمل
يا أخا العرف إذا ع ... ز إلى العرف الطريق
وأخا الموتى إذا لم ... يبق للميت صديق
قال إياس بن معاوية لبنيه: يا بني تثبتوا في من تؤاخون، فإن كانت المحاسن أكثر من المقابح فتقدموا، وإن كانت المقابح أكثر من المحاسن فتأخروا، فإن التحول عن الإخاء شديد، وليس الأخ كالثوب يبلى فيطرح، ولا كالعلق يزهد فيه فيستبدل به.
قال بشر بن الحارث: ينبغي أن يكون للإنسان ثلاثة إخوان: واحد لآخرته، وآخر لدنياه، و آخر يأنس به.
المغيرة بن حبناء: من الطويل
خذ من أخيك العفو واغفر ذنوبه ... ولا تك في كل الأمور تعاتبه
فإنك لن تلقى أخاك مهذباً ... وأي امرئٍ ينجو من العيب صاحبه
أخوك الذي لا ينقض النأي عهده ... ولا عند صرف الدهر يزور جانبه
وليس الذي يلقاك بالبشر والرضى ... وإن غبت عنه لسعتك عقاربه
قال أعرابي لابنه: يا بني ابذل المودة الصافية تستفد إخواناً، وتتخذ أعواناً، فإن العداوة موجودة عتيدة، والصداقة مستعزة بعيدة. جنب كرامتك اللئام فإنهم إن أحسنت إليهم لم يشكروا،وإن نزلت شديدة لم يصبروا.
وقال أكثم بن صيفي لبنيه: يا بني تقاربوا في المودة، ولا تتكلوا على القرابة.
شاعر: من الكامل المرفل
اترك مكاشفة الصديق إذا ... غطى على هفواته ستر
واعلم بأنك لست عاطفه ... باللوم حين يفوته العذر
قيل لأعرابي: لم تقطع أخاك وهو شقيقك وابن أمك أبيك؟ فقال: والله إني لأقطع العضو النفيس من جسدي إذا فسد، وهو أقرب إلي من أخي.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في مثل ذلك: من الطويل
ألم تر أن المرء تدوي يمينه ... فيقطعها عمداً ليسلم سائره
فيكف به من بعد يمناه صانعاً ... بمن ليس منه حين تبدو سرائره
قيل: الإخوان كالنار فقليلها مشاع وكثيرها بوار.
وقال عمرو بن العاص: إذا كثر الإخاء كثر الغرماء. أراد بالغرماء الحقوق.
وقيل: لا أنس لمن لا إخوان له، ولا ذكر لمن لا ولد له، ولا شيء لمن لا عقل له، ولا مكرمة لمن لا مال له.
كتب رجل إلى أخ له: أما بعد فإن كان إخوان الثقة كثيراً فأنت أولهم، وإن كانوا قليلاً فأنت أوثقهم، وإن كانوا واحداً فأنت هو.
مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن شمس: من الطويل
أخوك الذي إن تجن يوماً عظيمة ... يبت ساهراً والمستذيقون رقد
تمت إلى الأقصى بثديك كله ... وأنت على الأدنى صرومٌ مجدد
شريح بن عمران اليهودي: من الكامل المجزوء
آخ الكرام إن استطع ... ت إلى إخائهم سبيلا
واشرب بكأسهم وإن ... شربوا بها السم الثميلا
قال ابن المقفع: كل مصحوب ذو هفوات، والكتاب مأمون العثرات.
وقال ابن طباطبا: من الكامل
اجعل جليسك دفتراً في نشره ... للميت من حكم العلوم نشور
ومفيد آداب ومؤنس وحشةٍ ... وإذا انفردت فصاحب وسمير
قيل: محاسبة الصديق دناءة، وترك الحق للعدو غباوة.
قيل لابن السماك: أي الإخوان أخلق ببقاء المودة؟ فقال: الوافر دينه، والوافي عقله، الذي لا يملك على القرب، لا ينساك على البعد، إن دنوت منه راعاك، وإن بعدت عنه اشتاقك، لا يقطعه عنك عسر ولا يسر، إن استعنته عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله، يستقل كثير المعروف من نفسه، ويستكثر قليل المودة من صاحبه.
وقال بعض السلف: ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، ولعدوك إشفاقك وعدلك.

قال علي عليه السلام: احمل نفسك في أخيك عند صرامه على الصلة، وعند صدوده على اللطف، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر حتى كأنك له عبد، ولا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك. وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية ترجع إليها إن بدا لك يوماً ما، ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس بأخ من ضيعت حقه.
ابن المعتز: من الطويل
وإني على إشفاق عيني من القذى ... لتجمح مني نظرة ثم أطرق
كما حلئت عن برد ماء طريدة ... تمد إليها جيدها وهي تفرق
وكتب إلى أبي العباس ثعلب: من الرجز
ما وجد وصاد في الحبال موثق ... بماء مزن بارد مصفق
بالريح لم يطرق ولم يرنق ... فهو عليها كالزجاج الأزرق
في صخرة إن تر شمساً تبرق ... فهو عليها كالزجاج الأزرق
صريح غيث خالص لم يمذق ... إلا كوجدي بك لكن أتقي
صولة من إن هم بي لم يفرق
المتنبي: من الطويل
أقل اشتياقاً أيها القلب إنني ... رأيتك تصفي الود من ليس صافيا
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
آخر: من الخفيف
وإذا ما جهلت ود صديقٍ ... فاختبر ما جهلت في الغلمان
إن عين الغلام تنبئ عما ... في ضمير المولى من الكتمان
آخر: من الكامل
حشم الصديق عيونهم بحاثة ... لصديقه عن غيبة ونفاقه
فليظرن المرء من غلمانه ... فهم خلائفه على أخلافه

فصل في الاستزارة
كتب أحمد بن يوسف إلى صديق له يستدعيه: يوم الالتقاء قصير، فأعن عليه بالبكور.
وكتب إلى إسحاق الموصلي، وقد زاره إبراهيم بن المهدي: عندي من أنا عنده، وحجتنا عليك إعلامنا إياك ذلك وقد آذناك والسلام.
وكتب الحسن بن وهب إلى صديق له يدعوه: افتتحت الكتاب - جعلني الله فداك - والآلات معدة، والأوتار ناطقة، والكأس محثوثة، والجو صاف، وحواشي الدهر رقاق، ومخايل السرور لائحة، ونسأل الله تعالى إتمام النعمة بتمام السلامة من شوب العوائق وطروق الحوادث. وأنت نظام شمل السرور، وكمال بهاء المجلس، فلا تحرمنا ما به ينتظم سرورنا وبهاء مجلسنا.
كتب الصاحب ابن عباد: يومنا هذا يا سيدي يوم طاروني، يعجبني جوه الفاختي، وإذ قد غابت شمس السماء عنا فلا بد من أن تدنو شمس الأرض منا، فإن نشطت للحضور، شاركتنا في السرور، وإلا فلا إكراه ولا إجبار، ولك متى شئت الاختيار.
وكتب أيضاً: نحن يا سيدي في مجلس غني إلا عنك، شاكر إلا منك، وقد تفتحت فهي عيون النرجس، وتوردت خدود البنفسج، وقامت مجامر الأترج، وفتقت فازات النارنج، وأنطقت ألسنة العيدان، وقام خطباء الأوتار، وهبت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس، وقام منادي الطرب، وطلعت كواكب الندماء، وامتدت سماء الند، فبحياتي لما حضرت لنحصل بك في جنة الخلد، ونصل الواسطة بالعقد.
السري الرفاء: من المنسرح
لم ألق ريحانة ولا راحا ... إلا ثنتني إليك مرتاحا
وعندنا ظبية مهفهفة ... ترأم ريماً يحن صداحا
تفسد قلبي إن أصلحته ولا ... أرى لما أفسدته إصلاحا
وفتية إن تذاكروا ذكروا ... من الكلام المليح أرواحا
وقد أضاءت نجوم مجلسنا ... حتى اكتسى غرة وأوضاحا
إن جمدت راحنا غدت ذهبا ... أو ذاب تفاحنا جرى راحا
عصابة إن شهدت مجلسهم ... كنت شهاباً له ومصباحا
أغلق باب السرور دونهم ... فكن لباب السرور مفتاحا
كتب العطوي إلى صديق له: من المتقارب
يوم مطير وعيش نضير ... وكأن تدور وقدر تفور
وعثعث تأتي إذا جئتنا ... فتسمع منها غناء يصور
وعندي وعندك ما تشتهي ... هِ شعر يمر وعلم يدور
وإذا كان هذا كما قد وصف ... فإن التفرق خطب كبير
فقم نصطبح قبل فوت الزمان ... فإن زمان التلهي قصير
وهو من كلام ذكره إسحاق الموصلي قال:

كان يألفني بعض الأعراب، وكان طيباً، فجاءني يوماً فقلت له: لم أرك أمس، قال: دعاني صديق لي. فقلت: صف لي ما كنتم فيه فقال: كنا في مجلس نظامه السرور، بين قدر تفور، وكأس تدور، وغناء يصور، وحديث لا يجور، وندامى كأنهم البدور.
وقال إسحاق أيضاً: قلت لأعرابي كان يألفني: أين كنت بالأمس؟ قال: كنت عند بعض ملوك سر من رأى، فأدخلني إلى قبة كإيوان كسرى، وأطعمني في صحاف تترى، وغنتني جارية سكرى، تلعب بالمضراب كأنه مدرى، فيا ليتني لقيتها مرة أخرى.
قال إسحاق: وقلت لآخر أين كنت بالأمس؟ قال: كنت عند صديق لي فأطعمني بنات التنانير، وأمهات الأبازير، وحلواء الطناجير، وسقاني رعاف القوارير، وأسمعني غناء الزرازير، على العيدان والطنابير، من نواعم كالحرير، ملكت بأوقار الدراهم والدنانير.
سعيد بن حميد يستزير: من الرمل
نحن أضيافك في منزلنا ... نتمناك فكن أنت القرى
ابن جكينا ممن عاصرناه يقوله لأبي الحسن هبة الله بن صاعد الطبيب: من السريع
قصدت ربعي فتعالى به ... قدري فدتك النفس من قاصد
وما رأى العالم من قبلها ... بحراً مشى قط إلى وارد
كتب أحمد بن يوسف إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي يستزيره: من الوافر
فزرنا غير محتشم يزرنا ... بزورتك المكارم والسماح
زار الخليل بن أحمد بعض تلامذته فقال له: إن زرتنا فبفضلك، وإن زرناك فلفضلك، فلك الفضل زائراً ومزوراً.
ابن نصر الكاتب: غداتنا هذه يا سيدي عميمة النعيم، عليلة النسيم، بليلة الغلائل، صقيلة الشمائل، زاهية بنفسها، غريبة في جنسها، قد تأهبت للطالب، تشوفت للخاطب، وتزخرفت للعشرة، وتكللت بالزهرة: من الكامل
فانعم صباحاً وأتنا متفضلاً ... ودع الخلاف فلات حين خلاف
وكتب ابن نصر أيضاً: يومنا هذا يا سيدي يوم وجد أنسه، وضاعت شمسه، وصفت ظللاه، وتناسبت أحواله، فالغدوة تشبه الأصيل، والشغل موهوب للتعطيل، وبنا إليك فقر، والسرور إلى رؤيتك مضطر، فإن رأيت أن أتدرك رمق القوم الجياع، وتطرف عين الإبطاء بكف لإسراع، فعلت.
وله في المعنى: يومنا هذا يوم مرض نوره، وصح سروره، فظله ظليل، وظهره أصيل، ولنا من برقه ثغور بادية، ومن وبله عيون جارية، فإن رأيت أن تطلع غرتك مكان شمسه ليصول بضيائه على غده وأمسه، فعلت.
وله أيضاً في المعنى: يومنا هذا من طرته إلى بهرته، حرام على الجد وعترته، وقد أعد له في داره هذه من الخيوش أقرها وأهواها، ومن الفروش أنعمها وأوطاها، ومن المطاعم أظرفها وأحبها، ومن الأغاني أطيبها وأطربها. فلا يقنعن - حرسه الله - مني إلا بما بذلت، ولا يرتضي إلا الوفاء بما ضمنت، ولا يوطئ الأرض قدمه إلا في المجالس المقرورة، ولا يمنحها ضجعته إلا على النمارق الوثيرة، ولا يمد للأكل يداً حتى يرى فراريج كسكر على ظهرها تناغيه، وحلواء السكر إلى جنبها تناجيه. ولا يقبل مني قدحاً حتى يرهب الحريق من شراره، ويحثه الكافور بأنشاره، ثم لا يرفعه حتى تزجره المثاني والمثالث، ويأخذه القديم من طربه والحادث. فمتى أخلت بخلة فإني من دَدٍ ودَدٌ مني، وسيريبه - أدام الله تأييده - اعتراض هذا الشرط فيقول: وهل نحن إلا في ددٍ؟ وكلا فإن جد يومنا هزل وهزله جد، وإذا تأمل هذا المعنى الدقيق بفكره يشبهه، وقابله بذهن ينفذه، علم أن الشرط صحيح، والغرض به فصيح، وأرجو أن لا يجبن عنه فهمه، ويخيم دونه همه، فأحتاج إلى كشف البرهان، والزيادة في الشرح والبيان، بإذن الله. ورقعتي هذه صادرة والخوان منصوب، ونحن مصطفون حوله ومنتظرون طوله، وفي الإسراع حمد يفرح به سمعه، ومع الإبطاء ذم يضيق به ذرعه، والخيار إليه في حيازة ما هو أنفق عليه.
السري الرفاء: من الكامل
نفسي فداؤك كيف تصبر طائعاً ... عن فتيةٍ مثل البدور صباح
حنت نفوسهم إليك فأعلنوا ... نفساً يعل بمالك الأرواح
وغدوا لراحهم وذكرك بينهم ... أذكى وأطيب من نسيم الراح
فإذا جرت حبباً على أقداحهم ... جعلوك ريحاناً على الأقداح
الرضي وكتب بها إلى الصابي: من البسيط
لقد توافق قلبانا كأنهما ... تراضعا بدم الأحشاء لا اللبن

إن يدن قومي إلى داري فآلفهم ... وتنأ عني وأنت الروح في بدني
فالمرء يسرح في الآفاق مضطرباً ... ونفسه أبداً تهفو إلى الوطن
أنت الكرى مؤنساً طرفي وبعضهم ... مثل القذى مانعاً عيني من الوسن

نوادر من هذا الباب والفصل
خاصم مزبد يوماً امرأته وأراد أن يطلقها فقال له: اذكر طول الصحبة، فقال: والله ما لك عندي ذنب غيره.
كان أبان اللاحقي صديقاً لأبي النضير وهو شاعر مغن فتهاجرا فقال فيه: من الخفيف
كان ذنباً أتوب منه إلى الل ... ه اختياريك صاحباً واتخاذي
إن لله صوم شهرين شكراً ... إذ قضى منك عاجلاً إنقاذي
لا لدين ولا لدنيا ولا تص ... لح في علم ما ادعي بنفاذ
كان لأبي تمام صديق يسكر من قدحين، فكتب إليه يدعوه: إن رأيت أن تنام عندنا فافعل.
المجلد الخامس
الباب الثاني والعشرون
في الهدايا
هذا بابٌ نذكر فيه ما جاء في استحباب الهدية والنَّدْبِ إِليها، وموضع كراهيتها، والمنع من قبولها، وما يَحْسُنُ إِهداؤُهُ منها ويجملُ موقعه، وما يوجبُ الذمَّ ويجتلبه، وأوصاف المتهادَى منها، وملحاً من نوادرها، لتكمل المعاني لطالبها، وتجري على مقاصد المتمثل بها.
فأما الحث عليها فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تهادوا تزدادوا حباً " . وجاء لفظ في آخر: تهادوا تحابوا، فإن الهدية تفتح الباب المُصْمَتَ، وتَسلُّ سخيمةَ القلب. قال الله عزَّ وجلَّ حاكياً عن بلقيس في قصتها مع سليمان عليه السلام: " وإني مُرْسِلَةٌ إليهمْ بِهَدِيَّةٍ فناظِرةٌ بِمَ يَرْجعُ المُرْسَلُون " النمل:35 فدلنا ذلك على أنها أرادتْ بالهدِية أن تَسُلَّ السخيمة وتغفر الجريمة بها.
وقال صلّى الله عليه وعلى آله: " لو دُعيتُ إلى كراعٍ لأَجبت، ولو أُهْدِيَ إليَّ كراع لقبلت.
وقال عليه السلام: الهدية مشتركة.
وقال أبو محمد عبد الله بن عزيز: الهدية تردُّ بلاءَ الدنيا، والصدقةُ بلاء الآخرة.
وقال الشاعر وهو البحتري:
إن الهديةَ حُلْوَةٌ ... كالسحرِ تجتلبُ القلوبا
تدني البعيد من الهوى ... حتى تُصَيِّرَهُ قريبا
فأما كراهيتها فإنما تكون لأرباب القضاء والولايات، تحوّباً من الظِّنةِ والشبهات، وتحرجاً أن تقع بمعنى الرشوة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي استعمله فأهْدِيَ إليه فقال: هذا لي: " ألا جَلَسَ في حِفْشِ أَمّه فينظر أكان يُهْدَى إليه " .
وروي أن امرأة أهدتْ إلى عمر بن الخطاب رضوان الله عليه فخذ جزور ثم حاكمت خصماً لها إليه فقضى عليها فقالت: يا أمير المؤمنين افصلْ حكومتي كما تُفْصَلُ فخذُ الجزورِ: فردَّ عليها عمر قيمته وقال: إياكم والهدايا.
وقد يمنع منها هؤلاء أيضاً احتياطاً للمروءة والأمانة: بلغ عبد الملك بن مروان أن عاملاً له قبل هديةً، فسأله عن ذلك فقال: بلادُكَ عامرةٌ، وخراجك وافر، ورعيتك راضية، قال: أخبرني عما سألتك قال: قد قبلت، قال: لئن كنتَ قبلتها ولا ترى لصاحبها مكافأةً إنك للئيم، وإن كنتَ قبلتها لتستكفي رجلاً عاجزاً إنك لخائن، ولئن كنت قبلتها وأنت مضمرٌ تعويضَ صاحبها لقد بَسَطْتَ ألسنَ أهلِ عملك بالقدحِ فيك، وذلك جهل، وما في من أتى أمراً لم يخلُ فيه من لؤمٍ وخيانةٍ وجهلٍ مصطنعٌ، وعزله.
وما أحسنَ قولَ القائل: أكرمُ الهدايا علمٌ نافع، ونصيحةٌ موثوق بها، ومدحةٌ صادقة.
وقال جعفر بن يحيى: ثلاثة تدل على عقول أصحابها: الهدية والرسول والكتاب.
فمن إهداء المدح قول الشاعر:
لا تنكرنْ إِهداءَنَا لكَ منطقاً ... منكَ استفدنا حُسْنَهُ ونظامَهُ
فالله عزَّ وجلَّ يشكر فعلَ مَنْ ... يتلو عليه وَحْيَهُ وكلامه

وكتب سعيد بن حميد إلى بعض إخوانه في يوم نيروز: أيها السيد عشتَ أطولَ الأعمار في زيادة النعم، موصولةٍ بقرائنها من الشكر، لا تَقْضِي حقّ نعمة حتى تجدّد لك أخرى، ولا يمرّ يومٌ إلا كان موفياً على ما قبله، مقصرّاً عما بعده. إني تصفحتُ حالَ الأتباع الذين تجبُ عليهم الهدايا إلى السادة في هذا اليوم فالتمستُ التأَسّي بهم في الإهداء، وإن قصّرت الحالُ عن الواجب، فرأيتني إن أهديتُ نفسي فهي ملكٌ لكَ لا حَظَّ فيها لغيرك، ورميتُ بطرفي إلى كرائم مالي فوجدتها منك، فكنتُ إنْ أهديتُ منها شيئاً كمهدي مالك إليك ومنفق نفقتها عليك، ومن لم يزد على أن نبَّهَ على نعمتك واقتضى نفسه الشكر لك، وفزعتُ إلى مودّتي وشكري فرأيتهما لك خالصين، قديمين غير مستحدثين، فرأيتني إن جعلتهما هديتي إليك لم أجدد لهذا اليوم الجديد برّاً ولا لطفاً، ولم أقِسْ منزلةً من شكري بمنزلة من نعمتك إلا كان الشكرُ مقصِّراً عن الحق، والنعمةُ زائدةً على ما تبلُغه الطاقة، ولم أسلك سبيلاً التمسُ بها برّاً أعتدُّ به، أو لطفاً أتوصَّلُ به، إلا وجدتُ إفضالك قد سبقني إليه، فقدم لك حق السبق إلى البرّ والطول، فجعلتُ الاعترافَ بالتقصيِر عن حقك هديةً إليك بما يجب لك، والعذَر عن العجز برّاً أتوصَّلُ به إليك، وقلت:
إن أُهدِ نفسي فهو مالِكُهَا ... وله أصونُ كرائمَ الذُّخْرِ
أَو أُهْدِ مالاً فهو واهبُهُ ... وأنا الحقيقُ عليه بالشكر
أو أهدِ شكري فهو مُرْتَهَنٌ ... بجميل فعلك آخرَ الدهر
والشمسُ تستغني إذا طَلَعَتْ ... أن تستضيءَ بَسُنَّةِ البدر
أهدى أحمد بن يوسف إلى إبراهيم بن المهدي هدية وكتب إليه: الأُنْسُ سهّل سبيلَ الملاطفة، فأهديت هدية من لا يحتشم إلى من لا يغتنم ما لا أكثّرهُ تبجُّحاً، ولا أًقْلِّلُهُ ترفعاً.
كتب بعض الشعراء على محمد بن منصور بن زياد يستهديه جاريةً: إن بين يدي كلِّ أمرٍ يطالبه الرجل وبين المطلوب إليه ذريعةَ رجاء يُتَوَصَّلُ بها إلى معروفه، ولي بارتجائيك من معرفتي بفضلك وما كنت متوسلاً إليك بشيء هو أرجي في حاجتي ولا أصلح لطلبتي من التأميل لك، وحسن الظن بك. وحاجتي ظريفة من الجِوَار، لم تتداولها أيدي التِّجَار، ولي فيها شريطةٌ أعرِضُهَا عليك لترى رأيك فيها: أحبُّها فَرْعاءَ، فإنه يقال: إذا اتخذتَ جاريَةً فاستجدْ شعرها، فإن الشعرَ أحد الوجهين، وتكونُ رائعةً البياض، تامَّة القوام، فإنه يقال إنّ البياض والطول نصفُ الحسن، وتكونُ مليحةَ المضحك، فإنه أولُ ما تجتلبُ به المرأة المودةَ، وتعتقدُ به الحظوة، وتكون سَبِطَةَ البنان. ولست أكرهُ الانكسار في الثدي فإنه ليس للنهود عندي إلا لذة النظر، فأما وطاء يستلذه المعانق فلا، ولستُ من قولِ الشاعرِ في شيء:
جال الوشاحُ على قضيبٍ زانَهُ ... رُمَّانُ صدرٍ ليس يُقْطَفُ ناهُدهْ
واكرهُ العجيزة العظيمة وأريدها وسطاً لا خيرَ الأمور أوسطها، لها طرفٌ أدعجُ، وحاجبٌ أزجُّ، وكَفَلٌ مرتجّ. ومتى وافقت هذه الصفة رخيمة الصوت، شهيَّة النغمة، فهي حرّة قبل أن ترسلها إلي. وحاجتي أعزّك الله يحتملها قدرك، ويستحقّها شكري، وأنا بالإسعافِ جدير، وأنت بالافضال قمين، والسلام.
فكتب إليه محمد بن منصور: قد سألتُ عن هذه الصفة، وطلبتُ لك هذا النعت، فأعيتني في الدنيا، وما أراني أجِدُهَا لك في الآخرة، وقد بعثتُ إليك بثلاثمائة دينار، فمتى أصبتَ جاريةً على ما وصفتَ فادفعْ هذه عربوناً حتى أبعث إليك بالثمن، إن شاء الله.
وأهدى البحتري على عبد الرحمن بن خاقان فرساً وكتب إليه:
ماذا ترى في مُدْمَجٍ عَبْلِ الشّوَى ... من نَسْلِ أعوجَ كالشهابِ اللائحِ
لا تِرْبُهُ الجَذَعُ الذي يعتاقُهُ ... وَهْنُ الكلالِ وليس كُلَّ القارحِ
يختالُ في شِيَةٍ يموجُ ضياؤها ... مَوْجَ القتيرِ على الكميّ الرامحِ
لو يكرعُ الظمآنُ فيها لم يُمِلْ ... طَرْفاً إلى عَذْبِ الزلالِ السائحِ
أهديتُهُ لتروحَ أبيضَ واضحاً ... منه على جَذْلانَ أبيضَ واضحِ
فتكونَ أولَ سنةٍ مأَثورةٍ ... أنْ يقبلَ الممدوحُ رِفْدَ المادحِ

وقال الصنوبري يستهدي:
الطيب يهدي وَتُسْتَهْدَى طرائفُهُ ... وأشرفُ الناسِ يُهْدِي أَشرفَ الطّيبِ
والمسكُ أشبه شيء بالشباب فهبْ ... بعضَ الشباب لبعض العصبة الشيبِ
وأهدى أبو إسحاق الصابي إلى عضد الدولة في يوم مهرجان اصطرلابا وكتب معه:
أهْدَى إليكَ بنو الآمالِ واحتفلوا ... في مهرجانٍ جديدٍ أنت مُبْليهِ
لكنَّ عبدَكَ إبراهيمَ حين رأى ... علوَّ قَدْرِكَ عنِ شيءٍ يدانيهِ
لم يرضَ بالأرض مُهْداةً إليك فقد ... أهدى لك الفلكَ الأعلى بما فيه
وكتب إليه من الحبس وقد أهدى إليه في نيروز درهمين خسروانيين وكتاب المسالك والممالك:
أهُدِي إليكَ بقدر حا ... لي في الخصاصةِ درهمينِ
وبحسبِ قَدْرِكَ دفتري ... ن هما جميعُ الخافقينِ
وأهدى السريّ الرفّاء إلى صديق له ماء وردٍ فارسي في قارورةٍ بيضاءَ مزيَّنَة بقراطيسَ مُذْهَبةٍ وكتب إليه:
بعثتُ بها عذراءَ حاليةَ النحرِ ... مُشْهَّرةَ الجلبابِ حوِريَّةَ النَّجْرِ
مُضَمَّنةً ماءٌ صَفا مثلَ صَفْوِها ... فجاء كَذَوْبِ الدرِّ في جامدِ الدرِ
ينوبُ بكفّي عن أبيه وقد مضى ... كما نُبْتَ عن آبائك السادةِ الغرِ
وقال يستهدي مشروباً وكتب بها إلى أبي الهيجاء ابن حمدان:
تجنَّبني حُسْنُ المدامِ وطيبُهَا ... وقد ظمئت نفسي وطال شُحُوبُها
وعندِي ظروفٌ لو تَظَرَّفَ دَهْرُهَا ... لما بات مُغْرىً بالكآبةِ كوبها
وشُعثُ دنانٍ خاوياتٍ كأنّها ... صدورُ رجالٍ فارقَتْها قلوبها
فسقياكَ لا سقيا السحابِ فإنما ... بيَ العلةُ الكبرى وأنتَ طبيبها
وكتب أبو الفتح ابن العميد في مثله: قد انتظمتْ يا سيدي رفقةٌ في سمط الثريا، فإن لم تَحْفَظَ علينا النظامَ بإهداء المدام صِرْنَا كبناتِ نعشٍ، والسلام.
وكتب في معنى مدادٍ أهدي إليه:
يا سيّدي وعمادي ... أمددتني بمدادِ
كمسكَنَيْكَ جميعاً ... من ناظري وفؤادي
أو كالليالي اللواتي ... رَمَيْننا بالبعادِ
وقال ابن الرومي:
أيّ شيء أهدِي إليك وفي وج ... هك من كلِّ ما تُهُودِيَ معنى
منكَ يا جنةَ النعيم الهدايا ... أَفَأْهدي إليكَ ما منك يجنى
قال أبو جعفر دهقان بن ذي القرنين: قدَّمْتُ إلى الصاحب هديةً أصحبنيها الأمير أبو علي محمد بن محمد بِرَسْمِهِ، واعتذرتُ إليه بأن قلت: إنها إذا نقلت إلى حضرته من خراسانَ، كانت كالتمر يُنْقَلُ إلى كرمان، فقال: قد ينقل التمر من المدينة إلى البصرة على جهة التبرك، وهذه سبلُ ما يصحبك.
كان ليحيى بن خالد بن برمك كاتبٌ يختص بخدمته، وَيَقْرُبُ من حضرته، فعزم على ختان ولده، فاحتفل له الناس على طبقاتهم، وهاداه أعيانُ الدولة ووجوهُ الكتّابِ والرؤساء على اختلاف منازلهم. وكان له صديق قد اختَّلْت حاله وأضاقت يده عما يريده لذلك مما دخل فيه غيره، فعمد إلى كيسين كبيرين نظيفين، فجعل في أحدهما ملحاً وفي الآخر أشناناً مكفَّراً، وكتب معهما رقعة نسختها: لو تمَّتِ الإرادةُ لأسعفت بالعادة، ولو ساعدت المكنة على بلوغ الهمة لأتعبت السابقين إلى برِّك، وتقدمتُ المجتهدين في كرامتك، لكن قعدت القدرةُ عن البُغْية، وقصَّرت الجِدَّةُ عن مباراة أهل النعمة، وخفتُ أن تُطْوَى صحائفُ البر، وليس لي فيها ذكر، فأنفذتُ المبتدأ بيمنه وبركته، والمختَتَمَ بطيبه ونظافته، صابراً على ألم التقصير، ومتجرّعاً غُصَصَ الاقتصار على اليسير: فأما ما لم أجدْ إليه السبيلَ في قضاء حقك فالقائمُ فيه بعذري قول الله عزَّ وجلَّ: " ليسَ على الضُّعَفَاءِ ولا عَلَى المرضَى ولا على الّذينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَج " . التوبة: 91.
ثم حضر يحيى بن خالد الوليمة، وعرض عليه وكيلُهُ جميعَ ما حُمِلَ إليه من الجهات حتى أراهُ الملحَ والأشنان والرقعة، فاستظرف الهدية، وأعْجِبَ بالرقعة، وأمر الغلامَ أن يملأ الكيسين عيناً فكان أربعة آلاف دينار، وأعادهما إليه.

كتب أبو الفرج الببغاء إلى بعض إخوانه يستهديه دواةً وآلتها: إذا كان التفضل يا سيدي - أطال الله بقاءك - للكريم صفةً، وللمنعم خليقةً، فإن عوضه في ما يأتيه، مُعينٌ على شكر مننه وأياديه، وهذا وصف لا يتجاوزك ولا يتعداك، ولا يأنسُ وحشيُّةُ على الحقيقةِ بسواك. ولذلك صار أَنْفَقَنَا عليكَ، وأَهْدَانا لسبيلِ التقربِ إليك، مَنِ استنزلك عَنْ أَنْفَسِ أملاكك، وابتزَّكَ أَشرفَ ذخائرك، بتسحّبِ الثقة وتسلّطِ التأميل. ولما كانت الدويّ - أيدك الله - للكتابة عتاداً، وللخواطرِ زناداً، ووجدت أكثرَهَا بظاهر اللقب مُسْتَهْلَكَا، وبرقَّ الدعاوَى مستملكاً، عدلتُ إلى الأكفاءِ في خطبتها، وُعْذْتُ بأفخرِ محتدٍ لنسبتها، فتنجَّزْتُ سؤددك - أيدك الله - منها آلة حَضَرَ الكمالُ حدودها، وعجمَ الاختبارُ عودها، فرزتْ من سِرِّ الشَّوْحَطِ وصميمِهِ، أو عريقِ الأبنوسِ وقديمه، تختال من بِدْعِ الاختراع، وعناية الصناع، بين تناسبِ الطول واعتداله، واقتصادِ العَرْضِ وكماله، جَدْوَليَّةَ العطفين، هلاليَة الطرفين، مسكيّة الجلدة، كافورية الحلية، فسيحَة الأحشاء، مهفهفةَ الأعضاء، فهي من نُبَذِ بُلْقَتهَا ووشائع حليتها:
كشباب مجاورٍ لمشيب ... أو ظلامٍ مُوضَّحٍ بنهارِ
أَضْمَرَتْ آلَةَ النهي فهي كالقل ... ب وما تحتويه كالأفكارِ
تظأرُ من ذخائِر السّحاب، وودائع التراب، كلَّ معتدلِ الكعوب، قويم الأنبوب، باسق الفروع، رويّ الينبوع، نقيّ الجسد، نازح العقد، مختلف الشيات، متفق الصفات، مما عنيت الطبيعة بتربيته، وتبارتِ الدِّيَمُ في تغذيته، فأظهرته كالجوهر المصون، أو اللؤلؤ المكنون، ملتحف الأجساد، بمثل خوافي أجنحة الجراد، إلى أن سبته الرغبة من معادنه، واجتباه التخيرُ من مواطنه، فصار أولى باليد من البنان، وآنس بخفيّ السر من اللسان، تناطُ الأمورُ بنباهته، وتُقْدَحُ الآراء من فطنته، موثوق به خؤون، متهمٌ مأمون، مبيد مفيد، كتوم نموم:
يدافعُ في الجلَّي بغير استطاعةٍ ... ويُفْصِحُ في النجوَى بغيرِ بيانِ
مواتٌ فإن ألقى به الرأيُ رَحْلَهُ ... حماهُ بأمضى خاطرٍ وَجَنانِ
تحكم في مهجته، وتسطو بذروته، ذاتُ غرارٍ ماض، وذبابٍ قاض، وَمِنْسَرٍ بازيّ، وجوهر هوائي، ونصاب زنجي. حتى إذا أرهفت غراريْهِ، ونحتت روقيه، ناطته بمستدير الجسم ملمومه، مُطَّردِ القدِّ مستقيمه، ذي جسد بجراحها مكلوم، وجلدٍ بآثارها موسوم:
في كلِّ عضو له من وَقْعِهَا أَلَمٌ ... وليس ينجعُ فيه ذلك الألمُ
كأنه وامتهانُ القطُّ يرغمُهُ ... أنف الحسودِ إذا أرغمنه النعم
حتى إذا جُبَّ غاربه، وأطلقت مضاربه، انصاع في أصول حفير، وكرع من أعذب غدير، لا ترده غير الإفهام، ولا يمتحُ إلاّ بأَرْشِيَةِ الأقلام، تفيضُ ينابيعُ الحكمة من أقطاره، وتنشقُّ سحبُ البلاغة من قراره، منير مظلم، مشمسٌ مقمر:
يجري وأجراؤُهُ في الوصفِ جامدةٌ ... ويستهلُّ وما تهمي له مُقَلُ
إذا الخواطر حامَتْ حولَ موردِه ... لم يُرْوِهَا مِن قَرَاهُ العلُّ والنَّهَلُ
كأن أَقلامنا فيما تحمّله ... إلى القراطيس عن أسرارِهِ رُسُلُ
وقد وفيتُ - أيدك الله - ببديع الأوصافِ عاجلَ المهر، وجعلت ملك الهديّ كفيلاً بآجل الشكر، فإن رأيتَ أن تؤيد يدي ولساني في نشر فضائلك، وتخليد مناقبك، وبثّ محاسنك، فعلت، إن شاء الله.
أهدى ابن نصر الكاتب إلى وزير سكيناً ومِقَطّاً وأَقلاماً، وكتب معها رسالة منها: خدمتُ بأنابيب كَرُمَ منبتها ومقيلها، وأرضها ريفُ مصرَ ونيلها، فكأن نصولها بعد الريّ والتمام، وأَصولَها بعد البلوغ والاستحكام، قد جمعت بين فضيلتي الاعتدال والاستواء، وفارقت ذميمي الالتفات والالتواء، وتقمصَتْ حَبِرَاتِ الوشي المحوكة، وتوشَّحَتْ ذوائبَ التبرِ المسبوكة، زيّ البغيِّ المتبرِّجة، أو الكاعب المتحرجة، مقرونة بمضرمة النار، مرهفة الغرار، تنطق ألسنتها، وتطلق أعنتها، وتنقلها عن الأنابيب إلى الأقلام، وتجعلها مطايا المعاني والكلام.

لها معين على مَسْكها وضَبْطها، وقِرْنٌ فِي تقويمها وظهيرٌ على تحسين جريها وخطها، ينصرها فتخذله، ويطعمها فتأكله، قد عدم شكرها، ودام أنسها وبرها، لا تألمُ بجراحها، ولا يُطْمَعُ في استصلاحها، ولا يُعْدَمُ ضِرارها، ولا يسأمُ جوارها، فعلَ الوامقِ الصبور، والعاشقِ المغرور. فإن رأى قبولَ ما أَوفدتُهُ على فضائله، وتشريفَهُ باستخدامِ أنامله، فعل.
يقال: أَهْدُوا إلى الولاةِ فإنهم إن لم يقبلوا أحَبُّوا كتب شاعر يستهدي مداداً:
أنا أشكو إليكَ أنَّ دواتي ... وهيَ عوني وعُدَّتي وعتادي
عُطِّلَتْ من مدادها فاستعاضَتْ ... يققَ اللونِ من حُلُوكِ السواد
لم تزلْ من بناتِ حامٍ فجاءت ... من بني يافثٍ بغير ولاد
أنتَ للحادثات عُدَّةٌ صِدْقٍ ... فترى أن تَمُدَّهَا بمداد
البحتري يستهدي مملوكاً:
ما بأرضِ العراقِ يا قومِ حُرٌّ ... يفتديني من خدمةِ الأحرارِ
هل جوادٌ بأبيضٍ من بني الأص ... فر ضخمِ الجدودِ محضِ النجار
فوقَ ضَعْفِ الصغارِ إن وكل الأم ... رُ إليه ودون كيدِ الكبار
وكأن الذكاءَ يبعثُ منه ... في سوادِ الأمور شعلةَ نار
ولعمري لَلْجُودُ للناسِ بالنا ... س سواهُ بالثوبِ والدينار
آخر:
رأيتُ ما يُهْدَى قليلاً ... لعيدكَ فاقتصرتُ على الدعاء
كتب ابن نصر يستهدي مشروباً، وقد بلغه أن صاحبه تعرض لذلك منه: لم يزلِ الكريمُ - أطالَ الله بقاءَ سيدنا - ينمُّ تهلُّلُ وجهِهِ على خفيِّ أمره، ويسعى فَضْلُ أرْيَحِيَّتِهِ على مكنون سَره، سلواً عن الذخائِر حتى ينفقها، وصبابةً بالمكارِم حتى يعقلها، وبلغني من تحرشه بانتجاعي ديارَهُ، واستسقائي قطارَهُ، ما أشعرني أن خزانة شرابه عمرها الله رويت بعد الحرارِ، وأيسرت بعد الإعسار، فأَطرقتُ عن شَيْمها ما دمتُ ممطوراً، وسألتُ من نيلها حين اضطررتُ ميسوراً، فإن رأى المقابلة بالإِسعاد، والإجابةَ بالإرفاد، فعل، إن شاء الله.
أهدى الرّعيلِ بن الكلب ناقةً لهشام بن عبد الملك فلم يقبلها، فقال: يا أمير المؤمنين، أَرَدْتَ ناقتي وهي هلواع مرياع مرباع مقراع مسياع مسناع حِلْبانةٌ ركبانة، فضحك وقبلها، وأمر له بألف درهم.
الهلواع: الخفيفة، والمرباع، التي تقدم الإبل وتعود، والمرياع: التي تعدل اللقاح، والمقراع: التي تلقح أول ما يقرعها الفحل، والمسياع: السمينة، والمسناع: الواسعة الخطو.
قال محمد بن مهدي الكاتب:
هَدِيَّتي تَقْصُرُ عن همَّتي ... وهمتي تقصرُ عن مالي
وخالصُ الودِّ ومحضُ الهوى ... أفضلُ ما يُهْدِيهِ أمثالي
الرضي:
إن أَهْدِ أشعاري إليكَ فإنها ... كالسَّرْد اعرِضُهُ على داودِ
لكنني أعطيتُ صَفْوَ خواطري ... وسقيتُ ما صبَّتْ عليَّ رعودي
وسمحتُ بالموجودِ عند بلاغتي ... إنّي كذاك أجودُ بالموجود
الصاحب:
أهديتُ عطراً منك طيبُ ثنائِه ... فكأنّما أهْدي له أخلاقَهُ
فقال آخر:
وطيّب أهْدَى لنا طيباً ... فدلنا المهدي على الهادي
وذم أبو تمام نبيذاً أهدي إليه فقال:
قد عَرَفْنا دلائلَ المنعِ أو ما ... يُشْبِهُ المنعَ باحتباسِ الرسولِ
فأتتنا كدراءُ لم يك من تس ... نيمَ جريالُها ولا سلسبيل
لا تَهَدّي سُبْلَ العروقِ لا تن ... سَلُ في مفصلٍ بغير دليل
وهي نَزْرٌ لو أنها من دموعِ الصْ ... صَّبِّ لم تَشْفِ من حَرَّ الغليل
وكأنّ الأناملَ اعتصرتْها ... بعد كدّ من ماء وجهِ البخيل
أحْتِساباً بعثَتها أم تصدَّقْ ... تَ بها رحمةً على ابن السبيل
قد كتبنا لك الأمانات أن تس ... أل منه عمر الزمان الطويل
كم مغطى قد اختبرنا نداه ... وكشفنا كثيره بالقليل
وقال آخر في مثله:
لو كان ما أهديته إثمداً ... لم يكفِ مقلةً واحدة
وقال ابن الرومي في مثله:

قد لعمري اقتصصت من كل ضرس ... كان يجني عليك في رغفانك
لم تجد حيلة لنا إذ وترنا ... ك فقابلتنا بشر دنانك
اضرستنا مدامة منك تحكي ... ضجرة تعتريك في ضيفانك
قد رددناه فاتخذه لسكبا ... جك في النائباتِ من أزمانك
واتخذه على خوانك أدما ... فهو أولى بالخلِّ من إخوانك
وأهدي إلى دعبل فرس لم يرضه فقال:
حملت على أعورٍ أعرجٍ ... فلا للركوب ولا للثمن
حملت على زمن شاعراً ... فسوف تكافا بشعرٍ زمن
وقال الحاتمي:
طلبت عكازة للرجلِ تحملني ... ورمتها من يهوى العصا فعصا
وكنت أحسبه يهوي عصا عصب ... ولم أكن خلتُهُ صباً بكلِّ عصا
أهدى عامل لمروان بن محمد إليه غلاماً أسود فأمر عبد الحميد أن يجيبه ويذمه فكتب: أما إنك علمت لوناً شراً من الأسود وعدداً أقلّ من الواحد لأهديته، والسلام.
كشاجم يذكر شمعاً أهداه:
وصفر من بنات النحلِ تكسي ... بواطنها وظاهرهنّ عار
كواكب لسن عنك بآفلاتٍ ... إذا ما أشرقت شمس العقار
بعثت بها إلى ملك كريم ... شريف الأصل محمود النجار
فأهديت الضياء بها إلى من ... محاسنه تضيء لكلّ سار
وقال أيضاً يستهدي شمعاً
سجاياك من طيب أعراقها ... تباري النجوم بإشراقها
وما للعفاة غياثٌ سواك ... كأنّك ضامن أرزاقها
وليلة ميلاد عيسى المسي ... ح قد طالبتني بميثاقها
فتلك قدوري على نارها ... وفاكهتي فوق أطباقها
وبنت الدنان فقد أبرزت ... من الخدر تجلى لعشاقها
وقد قامت السوق بالمسمعي ... ن والمسمعات على ساقها
فكن مهدياً لي فدتك النفوس ... بجودك مسكة أرماقها
نظائر صفراً غدت فتنةً ... بلطف أنامل خلاّقها
فللسند صفرة ألوانها ... وللروم زرقة أحداقها
ومثل الأفاعي إذا ألهبت ... حريقاً مخافة درياقها
أهدى أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع وقد قدم من مكة نعلاً وقد كتب على شراكها:
نعلٌ بعثتُ بها لتلبَسَها ... قدمٌ بها تمشي إلى المجد
لو كان يصلح أن أشَرّكها ... خدي جعلت شراكها خدي
فحملها الفضل إلى الأمين فقال: ما هذه يا عباسيّ قال: أهداها إليّ أبو العتاهية وكتب عليها بيتين شعراً: فكان أمير المؤمنين أولى بلبسها لما وصف به لابسها، فقال: ما هما؟ فقرأهما عليه، فقال: أجاد والله ما سبقه إلى هذا المعنى أحد، هبوا له عشرة آلاف درهم، فأخرجَتْ إليه في بدرة.

أهدى أبو الخطاب الصابي إلى أبي إسحاق إبراهيم بن هليل سكيناً وكتب إليه: لو علمت يا سيدي أنك اليوم في دارك - عمرها الله وآنسها - لصرت إليك، وقد أنفذت السكين وهي أمضى من القضاء المبرم، وأنفذ من القدر المتاح، وأقطع من ظُبَةِ الصمصمام، وأصرم من حد الحسام، وأشد ائتلاقاً من البرق اللامع، وانصعُ ضياء من الشهاب الثاقب، ثم هي مع ذاك أرشق قدّاً من الغصن، وأحلى شكلاً من كلّ أنيق حسن، قد جمعت حُسن المنظر والمخبر، وتملكت عنان العين والقلب، وإنما استعارت ذكاءك ومضاءك، وسربلت جمالك وبهاءك، إن قابلت الأبصار أعشت، وإن صافحت النفوس أصمت، وإن أرضيت ولت متناً كالدهان، وإن أسخطت اتقت بناب الأفعوان، وهي كريمة الوداد، أليمةُ الشماس، أمينة في السلم، مخوفة في الحرب، لا عَيب لها غير أنها لا فلول بها، ولا آثار للأقران فيها. وأنى تُقلها الضرائب، أو تثلمها الكتائب، وكل عضب عندها كهام، وكل ماضِ بالقياس إليها كليل. هيهات هي أصلب من ذاك معجماً، وأصمّ منه عوداً، وأبقى على القضم والخضم حدّةً، وأمضى على الهبر والحطم شدة، لم يكلها كرم النجار إلى صنعة القين، ولم يحوجها عِتق الجوهر إلى إمهاء الحجر، ولا يزيدها اختلاف الأيام إلا إرهافاً، ولا طول الاستخدام إلا مضاء ونفاذاً، فإن رأيت يا سيدي أن تتفضّل بقبولها، وتشرفها باستخدامها غير حامد لها ما ذكرته من ملائها ولا معتدّ بما وصفته من محاسنها، إذا كان الكهام يمضي بحدك، والعضب يفري بيدك، وتعرّفني وصولها ووقوعها الموقع الذي اعتمدته بها، فعلت، إن شاء الله.
وقديماً غرت الهدايا وخدعت: أهدى الجنيد بن عبد الرحمن لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام بن عبد الملك قلادةً فيها جوهر، وأهدى لهشام قلادةً أخرى فولاّه خراسان، ولم يكن الجنيد في موضع ذلك، وأنفذه إليها وحمله على ثمانية من البريد.

نوادر في الهدايا
كتب عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس إلى يزيد بن عبد الملك يستأذنه في غلامٍ يهديه إليه فكتب له: إن كنت فاعلاً فليكن جميلاً ظريفاً أديباً لبيباً، كاتباً فقيهاً، حلواً عاقلاً، ديّناً أميناً سريّاً، يحضر فيزين، ويقول فيحسن، ويغيب فيؤمن.
فكتب إليه: قد التمست صفة أمير المؤمنين فلم أجدها إلا في القاسم بن محمد وقد أبى أهله بيعه.
وكتب رجل يستهدي حماراً فقال: أبغيه متجنباً للزلل، متوقياً للنسل، إذا خليت عنانه وقف، وإذا حركته سار، وإن دخلت ظلالاً تطامن، وإن عطفته تلاين. فكتب إليه: ارفقْ قليلاً لعلَّ القاضي أن يُمسخ حماراً فأهديه إليك.
وقال خلف الأحمر:
سقى الله حجّاجنا نوءُ الثريا ... على ما كان من منعٍ وبخل
إذا أهديت فاكهةً وجدياً ... وعشر دجائجٍ بعثوا بنعل
ومِسواكين طولهما ذراعٌ ... وعشرٌ من رديءِ المقل خثل
وإن أهديت ذاك ليحملوني ... على نعل فدقّ الله رجلي
قال المتوكل للجماز: أي شيء أهديتَ إليّ يوم العيد؟ قال: حلقت رأسي.
استعمل الحجاج الخيار بن سبرة المجاشعي على عمان، فكتب إليه الفرزدق يستهديه جارية، فكتب إليه الخيار:
كتبت إليّ تستهدي الجواري ... لقد اتعظت من بلدٍ بعيدِ
ولي أبو علي المشيخي القاضي المظالمَ ببلخ، فكتب إليه أبو يحيى الحمادي يداعبه ويستهديه من ثمرات بلخ وفاكهتها، فأهدى إليه حمل صابون وكتب إليه كتاباً قال في فصل منه: وقد بعثت إلى الشيخ - أيّده الله - حمل صابون ليغسل طمعه فيّ، والسلام: قال مزبّد: الهديةُ تعور عين الحكيم، وسائر الناس تعميهم.
أهدى أبو غسان التميمي وكان سيئ الأدب إلى الأمير نصر بن أحمد كتاباً من تصنيفه في يوم نيروز فقال: ما هذا يا أبا غسّان؟ قال: كتاب أدب النفس، قال: فكيف لا تعمل بما فيه؟ دخل ابن مكرّم على أبي العيناء مهنئاً له بولد جاءه، فوضع عنده حجراً، أراد للعاهر الحجر.
قال سفيان الثوري: إذا أردت أن تتزوج فأهد للأم.
وقال أبو العالية: إذا دخلت الهدية صرّ الباب وضحكت الأسْكُفّةُ.
شاعر:
إذا أتت الهدية دار قومٍ ... تطايرت الأمانة من كواها

جاءت عبد الله بن جعفر أعرابيةٌ بدجاجة فقالت: أصلحك الله، إن هذه دجيجة دجنت في حجري، كنت أطعمها فتوتي، وأنوّمها على فراشي، وألمسها في آناء الليل فكأنما ألمس بنتاً زلّت عن كبدي، وإني نذرت لله أن أدفنها في أكرم بقعة فلم أجد تلك البقعة إلا بطنك، فضحك من قولها وأمر لها بعشرة أوقار من زبيب وبرّ فقالت: أصلحك الله إن الله لا يحب المسرفين آخر باب الهدايا ويتلوه باب الهجاء ومقدماته والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد و على آله وصحبه وسلم

مقدمات الهجاء والذم
لابد للهاجي من سببِ يدعوه إلى الهجاء ويحرّكه، ومن شأنه أن يعذر بمقدمةٍ تنبه المهجوّ من غفلة اللوم، أو يصرّ فيقوم في هجائه العذر، وكثيراً ما يكون سبب الهجاء وسبيله وبدايةُ الذمِّ وطريقه كما قال أبو عثمان الخالدي:
قل لمن يشتهي المديحِ ولكن ... دونَ معروفِهِ مطالٌ وَلَيُّ
سوف أهجوك بعد مدحٍ وتحري ... كٍ وعتْبٍ آخرُ الداء كيّ
وأحد هذه الفصول شكوى الزمان، إذا الزمانُ ظرفٌ لا يقبل مدحاً ولا ذماً، وإنما شكواه ذمُّ أهله. وكل ما ينسب إليه فهو اسمٌ همْ معناه، وجسد همْ روحه، فكأنما هو هجاءٌ لجملة الناس. وربما أريد به السلطان، وقد سمع زيادٌ رجلاً يسبّ الزمان فقال: لو كان يدري ما الزمان لأوجعته ضرباً، إنّ الزمان هو السلطان.
وهي ثلاثة فصول: الفصل الأول: العتاب والاستزادة الفصل الثاني: التعريض بالذم والوقوف دون التصريح الفصل الثالث: شكوى الزمان
الفصل الأول
العتاب والاستزادة
قيل: العتاب مفتاح التقالي: والعتاب خير من الحقد. ولا يكون العتاب إلا على زلّة. وقد حمده قومٌ فقالوا: العتاب حدائق المتحابّين وثمار الأودّاء، ودليلٌ على الضنّ بالمودة، وقد قال أبو الحسن ابن منقذ وظرف ما شاء:
أسطو عليه وقلبي لو تمكّن من ... يديّ غلّهما غيظاً إلى عنقي
وأستعيرُ له من سطوتي حنقاً ... وأين ذلّ الهوى من عزّة الحنق
قال إياس بن معاوية: خرجتُ ومعي رجلٌ من الأعراب، فلما كان ببعض المناهل لقيه ابن عمّ له فتعانقا وتعاتبا، وإلى جانبهما شيخٌ من الحيّ يفنٌ، فقال لهما: انعما عيشاً، إنّ المعاتبة تبعث التجني، والتجني يبعث المخاصمة، والمخاصمة تبعثُ العداوة، ولا خير في شيء ثمرته العداوة:
فدع ذكر العتاب فربّ شرّ ... طويل هاج أوّله العتاب
وقد قيل: العتاب من حركات الشوق، وهو مستراح الوجد، ولسان الإشفاق، وهذا إنّما يكون بين المتحابين، وإن كانوا كرهوه وجعلوه رسول القطيعة، وداعي القلى وسبب السلو وأول التجافي، ومنزل التهاجر، فقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
إلى كم يكون العتب في كلّ ساعةٍ ... ولم لا تملين القطيعة والهجرا
رويدك إن الدهر فيه كفايةٌ ... لتفريق ذات البين فانتظري الدهرا
وقال أبو الدرداء: معاتبة الأخ أهون من فقده، ومن لك بأخيك كله.
وقال يونس بن الخليل:
إذا كثر التجني من خليلٍ ... ولم تُذنب فقد ملَّ الخليل
فأما عتاب الأجانب ومن يتوقع منه الخير والشرّ فإنما يقع في جواب بدايةٍ مكروهة، فإن قوبل بالاعتاب إلا تدرج إلى الذمّ والهجاء.
قال الحطيئة:
لقد مريتكم لو أن درتكم ... يوماً يجيء بها مسحي وإبساسي
وقد مدحتكم يوماً لأرشدكم ... كيما يكون لكم متحي وإمراسي
لما بدا لي منكم عيب أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكمُ آس
أزمعت يأساً من نوالكم ... ولن ترى طارداً للحر كالياس
فمراهم أولاً فلما بدا له منهم الإصرار أزمع اليأس منهم.
فأما قول عصام بن عبيد المازنيّ:
وفي العتاب حياةٌ بين أقوامِ
وقول الآخر:
ويبقى الودّ ما بقي العتاب
فمخرجه مخرج الاستعطاف.
فمن العتاب والاستزادة قول عبده بن الطبيب:
ومعاتبٍ في الأقربين وليتها ... كفراً ومعصيةً إذا والٍ وَلَى
قال الأَصمعي: ولَىَ بمعنى وَلِيَ:
ما بالُ مولًى أنت ضامنُ غيِّهِ ... وإذا رأيتَ الرشد لم يرَ ما ترى

وترى المساعي عنده مطلولة ... كالجود يمطر ما يحسّ له ثرى
ولو أنه ينهاه عنّي أنه ... أعطى الحلاةَ ولا أَلينُ لمن حلا
أطلقت عانيهُ وسؤتُ عدوّه ... ونميت سورته إلى السور العلا
فالله يجْزِي بيننا أعمالنا ... وضميرَ أنفسنا ويوفي من جزى
وتقول نفس قد أنَى لك صرمه ... فاصرم فإن لكلّ شيء منتهى
وقال معن بن أوس المزني:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أيّنا تعدو المنية أوّل
وإني أخوك الدائم العهد لم أحُلْ ... إن ابزاك خصمٌ أو نبا بك منزل
أحاربُ من حاربت من ذي عداوةٍ ... وأحبس مالي إن غرمت فأعقل
وإن سؤتني يوماً صفحت إلى غدٍ ... ليعقب يوماً منك آخر مقبل
وإني على أشياء منك تريبني ... قديماً لذو صفحٍ على ذاكَ مجمل
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينُكَ فانظر أي كفّ تبدّل
وفي الناسِ إن رثّت حبالك واصلٌ ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرةِ السيف مزحل
وكنت إذا ما صاحب رام ظِنّتي ... وبدّل سوءاً بالذي كنت أفعل
قلبتُ له ظهر المجنّ فلم أدم ... على ذاك إلا ريث ما أتحوّل
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجهٍ آخر الدهر تقبل
قال المغيرة بن حبناء:
ومازلتُ أسعى في هواكَ وأبتغي ... رضاك وأرجو منك ما لست لاقيا
رأيتك لا تنفك منك رغيبةٌ ... تقصّر دوني أو تحل ورائيا
إذا قلت صابتني سماؤك يامنت ... ميامنها او ياسرت عن شماليا
وأدليت دلوي في دلاء كثيرة ... فأبن ملاء غير دلوي كما هيا
فإن تدْن منّي تدن منك مودتي ... وإن تنأ عنّي تلقني عنك نائيا
كلانا غنيّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشدُّ تغانيا
وهذا البيت الأخير ورد في شعر الأعشى، وقد أنشده المبرد في أبيات نسبها إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، والأبيات:
رأيت فضيلا كان شيئاً ملففا ... فكشفه التمحيص حتى بدا ليا
أأَنت أخي ما لم تكن لي حاجةٌ ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... بلوتك في الحاجات إلا تماديا
فلست براء عيب ذي الودّ كلّه ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا
فعين الرضى عن كلّ عيبٍ كليلةٌ ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
وبعده البيت المذكور، الأخير من القطعة المتقدم ذكرها.
وقال عمارة بن عقيل:
تبحثتم سخطي فغيّر بحثكم ... نخيلة نفسٍ كان نُصْحاً ضميرها
ولن يلبث التخشين نفساً كريمةً ... عريكتها أن يستمّر مريرها
وما النفس إلا نطفةٌ بقرارةٍ ... إذا لم تكدّر كان صفواً غديرها
وقال معن بن أوس:
وذي رحم قلمت أظفار ضغنه ... بحلمي وهو ليس له حلم
إذا سمته وصل القرابة سامني ... قطيعتها تلك السفاهة والظلم
فأسعى لكي أبني ويهدم صالحي ... وليس الذي يبني كمن شأنُهُ الهدم
فما زلت في لين له وتعطٌّفٍ ... عليه كما يحنو على الولد الأم
لأستلّ منه الضغن حتى سللته ... وقد كان ذا ضغنٍ يضيق به الحلم
وقال الأقرع بن معاذ:
كم لك من مولى إذا ما أهنته ... ندمت وإن أكرمته كنت تندم
هو الجرف الهاري الذي إن رفعته ... ليشتدّ عنك جاله يتهدم
وإن قلت مهلاً ثار روقاً عجاجه ... عليك وإن عضّت به الحرب يرزم
وعطفت عليه النفس من غير رأمةٍ ... وكذّبت عنه بعضَ ما كنتَ أعلم

ومن شريف العتاب وكريمه ما دار بين علي وعثمان كرم الله وجهيهما: قال قنبر مولى علي عليه السلام: دخلت مع علي على عثمان فأحبّا الخلوة، فأومأ لي فتنحيت غير بعيد، فجعل عثمان يعاتب علياً وعليّ مطرق، فأقبل عليه عثمان فقال: ما بالك لا تقول؟ فقال: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحبّ.
واشتكى الوليد بن عبد الملك فبلغه قوارصُ وتعرَّضٌ من سليمان بن عبد الملك وتمنّ لموته، لما له بعده من العهد، فكتب إليه يعتب عليه الذي بلغه، وكتب في أخر الكتاب:
تمنّى رجالٌ أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحد
وقد علموا لو ينفع العلم عندهم ... لئن متّ ما الداعي عليّ بمخلّد
منيته تجري لوقتٍ وحتفه ... سيلحقه يوماً على غير موعد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيّأ لأخرى غيرها فكأن قد
فكتب إليه سليمان: قد فهمتُ ما كتب أمير المؤمنين، فوالله لئن كنت تمنيت ذلك تأميلاً لما يخطر في النفس إني لأول لاحق به، وأول منعيّ إلى أهله، فعلام أتمّنى ما لا يلبث من تمنّاه إلاّ ريثما يحل السفر بمنزل ثم يظعنون عنه، وقد بلغ أمير المؤمنين ما لم يظهر على لساني، ولم ير في وجهي، ومتى سمع من أهل النميمة ومن لا روّية له يوشك أن يسرع في فساد النيّات ويقطع بين ذوي الأرحام. ثم كتب في آخر كتابه:
ومن يتتبع جاهداً كلّ عثرةٍ ... يصِبها ولا يسلم له الدهر صاحب
فقبل الوليد عذره.
وكتب الوليد إلى يزيد بن عبد الملك إلى عمه هشام لما جفاه وأظهر الوقيعة له: قد بلغني الذي أحدث أمير المؤمنين من قطع ما قطع مني، ومحو ما محا من صحابتي، وأنه حرمني وأهلي، ولم أكن أخاف أن يبتلي الله أمير المؤمنين بذلك فيّ، ولا ينالني مثله منه، ولم يبلغ استصحابي لابن سهيل ومسألتي في أمره أن يجري عليّ ما جرى. فإن كان ابن سهيل على ما ذكر أمير المؤمنين فحسب العنز أن تقرب من الذئب، وعلى ذلك فقد عقد الله عزّ وجلّ لي من العهد، وكتب لي من العمر، وسبّب لي من الرزق، ما لا يقدر أحدٌ دونه تبارك و تعالى على قطعه عنّي دونَ مدته، ولا صرفه عن مواقعه المحتومة، فقدر الله يجري على مما قدره فيما أحب الناس وكرهوا، لا تعجيل لآجله، ولا تأخير لعاجله، والناس بعد ذلك يكسبون الأوزار، ويقترفون الآثام على أنفسهم من الله عزّ وجلّ ما يستوجبون العقوبة عليه، وأمير المؤمنين أحقُّ بالنظر في ذلك والحفظ له، والله يوفق أمير المؤمنين لطاعته، ويحسّن له القضاء الأمور بقدرته.وكتب في آخر كتابه:
أليس عظيماً أن أرى كلّ واردٍ ... حياضك يوماً صادراً بالنوافل
وأرجع محدود الرجاء مصرّداً ... بتحلئة عن ورد تلك المناهل
فأصبحت مما كنت آمل منكمْ ... وليس بلاقٍ ما رجا كلّ آمل
كمقتبض يوماً على عرض هبوةٍ ... يشدُّ عليها كفَّهُ بالأنامل
وقال الوليد أيضاً:
فإن تك قد مللت القرب منّي ... فسوف ترى مجانبتي وبعدي
وسوف تلوم نفسك إن بقينا ... وتبلو الناس والإخوان بعدي
فتندم بالذي فرطت فيه ... إذا قايست بي ذمي وحمدي
وقال أيضاً:
رأيتك تبني جاهداً في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزمٍ لهدّمت ما تبني
وقال جميل:
ردِ الماء ما جاءت بصفو ذنائبه ... ودَعه إذا خيضت بطرقٍ مشاربه
أعاتب من يحلو عليّ عتابه ... وأتركُ ما لا أشتهي وأجانبه
ومن لذة الدنيا وإن كنتَ ظالماً ... عتابك مظلوماً وأنت تعاتبه
وقال الحارث بن خالد المخزومي لعبد الملك بن مروان:
صحبتك إذا عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها
وقال العتابي:
شكوتُ وما الشكوى لمثلي عادةٌ ... ولكنْ النفس عند امتلائها
ألمّ فيه بمعنى قول الفرزدق:
تصرم عني ود بكر بن وائل ... وما كاد عني ودهم يتصرّم
قوارص تأتيني ويحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
وقال أميه بن أبي الصلت:

غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً ... تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلةٌ آبتك بالشكو لم أبت ... لشكوك إلا ساهراً اتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل
فلما بلغت السنّ والغاية التي ... إليها مدى ما كنت منك أؤمل
جعلت جزائي منك جبهاً وغلظةً ... كأنك أنت المنعم المتفضل
وسميتني باسم المفند رأيه ... وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل
فليتك إذ لم ترع حقّ أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدّاً للخلافِ كأنه ... بردٍّ على أهل الصواب موكل
وقال العجاج لابنه رؤبة لما طال عمره تمنى موته:
لما رآني أرعشت أطرافي ... استعجل الدهر وفيه كاف
يخترم الإلف من الألافِ
وقال آخر:
عدمت ابن عم لا يزال كأنه ... وإن لم أتره منطو لي على وتر
يعين عليّ الدهر والدهر مكتفٍ ... وإن أستعنه لا يعني على الدهر
وقال الأعشى يعاتب يزيد بن مسهر الشيباني:
ابلغ يزيد بني شيبان مألكةً ... أبا ثبيتٍ أما تنفك تأتكل
ألستَ منتهياً عن نحت أثلتنا ... ولستَ ضائرها ما أطّت الإبل
كناطح صخرةً يوماً ليكسرها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وقال أيضاً:
يزيد يغض الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيه عليّ المحاجم
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلاّ وأنفك راغم
وأقسم إن جد التقاطع بيننا ... لتصطفقن يوماً عليك المآتم
وقال ابن هرمة:
إن كنت لا ترهب ذمي لما ... تعلم من صفحي عن الجاهل
فاخش سكوتي أن أرى منصتاً ... فيك لمسموع خنا القائل
فسامع الذمّ شريك له ... ومطعم المأكول كالآكل
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدرِ سائل
ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل
فلا تهج إن كنت ذا إربة ... حرب أخي التجربة العاقل
إن أخا العقل إذا هجته ... هجت به ذا خبلٍ خابل
تبصر في عاجل شدَّاته ... عليك غبّ الضّرر الآجل
وقال حضري بن عامر الأسدي:
ما زال إهداء الضغائن بينهم ... شتم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن أمرك فيهم ... في كل مجمعة طنين ذباب
أهلكت جندك من صديقك فالتمس ... جنداً تعيش به مع الأوغاب
ولقد طويتكم على بللاتكم ... وعرفت ما فيكم من الأذراب
كيما أعدكم لأبعد منكم ... ولقد يجاء إلى ذوي الأحساب
وقال بعض بني أسد:
داو ابن عمّ السوء بالنأي والغنى ... كفى بالغنى والنأي عنه مداويا
يسلّ الغني والنأي أدواء صدره ... ويبدي التداني غلظةً وتقاليا
وقال أعرابي:
ألبان إبل تعلة بن مساورٍ ... ما دام يملكها عليّ حرام
وطعام عمران بن أوفى مثله ... ما دام يسلك في البطون طعام
إن الذين يسوغ في أفواههم ... زاد يُمَنّ عليهم للئام
وقال بشر بن المغيرة بن أبي صفرة:
جفاني الأمير والمغيرة قد جفا ... وأمسى يزيد لي قد ازور جانبه
وكلهم قد نال شبعاً لبطنه ... وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه
فيا عم مهلاً واتخذني لنبوةٍ ... تلمّ فإن الدهر جمٌّ عجائبه
أن السيف إلا أن للسيف نبوةً ... ومثليَ لا تنبو عليك مضاربه
وقال الأحوص في عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
وكنا ذوي قربى إليك فأصبحت ... قرابتنا ثدياً أجد مصرما
وقد كنت أرجي الناس عندي مودّةً ... ليالي كان الظنّ غيباً مرجّما
أعدّك حرزاً حين أجني ظلامةً ... ومالاً ثرياً حين أحمل مغرما

تدارك بعتبي عاتباً ذا قرابة ... طوى الغيظ لم يفتح بسخط له فما
وسبب هذا الشعر أن سليمان بن عبد الملك نفى الأحوص إلى دهلك لهجائه الناس وتشبيبه بحرمهم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أتاه رجال من الأنصار فسألوه أن يقدمه وقالوا: قد عرفت نسبه وموضعه وقديمه، وقد أخرج إلى أرض الشرك، ونسألك أن ترده إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودار قومه، فقال لهم عمر: من الذي يقول:
فما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى لا أكادُ أجيبُ
قالوا: الأحوص: قال: فمن الذي يقول:
أدورُ ولولا أن أرى أمّ جعفرٍ ... بأبياتكم ما درتْ حيثُ أدور
قالوا: الأحوص: قال: فمن الذي يقول:
كأنَّ لبني صبير غاديةٍ ... أو دميةٌ زيّنت بها البيع
الله بيني وبين قيّمها ... يفرُّ مني بها وأتبع
قالوا: الأحوص. قال: بل الله بين قيمها وبينه. فمن الذي يقول:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... بقية حبّ يومَ تبلى السرائر
قالوا: الأحوص، قال: إن الفاسق عنها يومئذ لمشغول. والله لا أرده ما كان لي سلطان.
وقال جرير:
بأيّ نجادٍ تحمل السيف بعدما ... قطعت القوى من محمل كان باقيا
بأيّ سنان تطعن القوم بعدما ... نزعت سناناً من قناتك ماضيا
ألا لا تخافا نبوتي في ملمّة ... وخافا المنايا أن تفوتكما بيا
فقد كنتُ ناراً يصطليها عدوّكم ... وحرزاً لما ألجأتم من ورائيا
وباسط خيرٍ فيكم بيمينه ... وقابضَ شرّ عنكم بشماليا
كتب معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى رجل واصله بغير سبب ثم قطعه من غير جرم: أما بعد، فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، ابتدأتني بمودةٍ من غير معرفة، ثم أعقبتها جفوة عن غير ذنب، فأطمعني أولك في إخائك، وآيسني أخرك عن وفائك، فلا أنا في اليوم مجمع لك في اطراحاً، ولا في غد منك على ثقة، فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الرأي منك عن عزيمة الرأي فيك، فاجتمعنا على ائتلاف، أو افترقنا إلى اختلاف.
وكان لمحمد بن الحسن بن سهل صديق نالته إضافة، ثم ولي عملاً فأثرى وانصرف منه، فقصده محمد مسلماً وقاضياً حقه، فرأى منه تغيراً فكتب إليه في ذلك المعنى:
لئن كانت الدنيا أنالتك ثروةً ... فأصبحت ذا يسرٍ وقد كنت ذا عسر
لقد كشف الإثراء منك خلائفاً ... من اللؤم كانت تحت ثوبٍ من الفقر
وقال إسماعيل بن القاسم:
إن السلام وإن البشر من رجل ... في مثل ما أنت فيه ليس يكفيني
هذا زمان ألحّ الناس فيه على ... زهو الملوك وأخلاق المساكين
أما علمت جزاك الله صالحةً ... عني وزادك خيراً يا ابن يقطين
أني أريدك للدنيا وعاجلها ... وما أريدك يوم الدين للدين
سعيد بن حميد:
أخٌ لي كأيّام الحياةِ إخاؤُه ... تلوَّن ألواناً عليّ خطوبها
إذا عِبْتُ منه خلّةً فهجرته ... تذكرت منه خلّةً لا أعيبها
ابن الرومي:
توددت حتى لم أجد متودداً ... وأمللت أقلامي عتاباً مرددا
كأني أستدني بك ابن حنيةٍ ... إذا النزعُ أدناه إلى الصدر أبعدا
وقال أيضاً:
طلبت إليكم بالعتاب مودّةً ... وعطفاً فأعتبتم بإحدى البوائق
فكنت كمستسقٍ سماءً مخيلةً ... حياً فأصابته بإحدى الصواعق
وقال أيضاً:
أبلغ لديك بني طاهر ... أساة الخلافة من دائها
علوتم علينا علوّ النجومِ ... فنوؤا علينا كأنوائها
وقال في أبي سهل النوبختي وقد قطع جراية دقيقٍ كان يجريها عليه:
لك جار كلّما قلت جرى ... فتشوفت له قيلَ انقطع
فرحٌ ينتج منه ترحٌ ... وأمانٌ يجتنى منه فزع
لا تكن كالدهر في أفعاله ... كلّما أعطي عطاياه ارتجع

ولكاتب يستزيد وزيراً: لم يؤت الوزير من فضيلة، ولم أوت من وسيلة، وغلة الصادي تأبى له انتظار الوارد، وتعجل عن تأمُّل ما بين الغدير والوادي. ولم أزل أترقّب أن يخطرني بباله ترقب الصائم لفطره، وأنتظر انتظار الساري لفجره، إلى أن برح الخفاء، وشمت الأعداء، وإن تخلفي وتقدم المقصرين، لآية للمتوسّمين.
كتب أمير المؤمنين عثمان بن عفان إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما حين أحيط به من كلام له:
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولمّا أمزق
ومثله:
فإن كنت مقتولاً فكن أنت قاتلي ... فبعض منايا القومِ أكرم من بعض
ابن قيس الرقيات:
تختل الناسَ بالكتاب فهلاّ ... حين تغتابني نهاكَ الكتابُ
جعفر بن عبلة الحارثي:
وكانت عقيل أهل ود فأصبحت ... بصم الصفا والمشرفي عتابها
آخر:
أمستوحشٌ أنت مما أسأت ... فأحسن إذا شئتَ واستأنس
أبو الجوائز:
طرف الرجاء إلى نوالك شاخص ... والشكر مني في المحافل خالص
هل يستوي في العدْل حمد خالص ... يشجي العدوّ به وحظّ ناقص
آخر:
وإذا جفوت منك منافعي ... والدّرّ يقطعُهُ جفاء الحالب
آخر:
وكم من أخٍ ناديتُ عند ملمّةٍ ... فألفيته منها أمضَّ وأفْدحا
أبو علي البصير يعاتب إسحاق بن سعد:
وأرخصت الثناء فعفتموه ... وربتما غلا الشيء الرخيص
فعفت نوالكم ورغبت عنه ... وشرُّ الزاد ما عاف الخميص
قال رجل لصاحبه: أنا منتظرٌ منك واحدةً من اثنين: عتبى تكون منك، أو عقْبَى تُغْنِي عنك.
كان ابن عرادة السعدي مع سلم بن زياد بخراسان، وكان له مكرماً، وابن عرادة يتجنّى عليه، إلى أن تركه وصحب غيره فلم يحمد أمره، فرجع إليه وقال:
عتبت على سلم فلما فقدته ... وصاحبت أقواماً بكيتُ على سلم
رجعت إليه بعد تجريب غيره ... فكان كبرءٍ بعد طولٍ من السقم
وقال دعبل:
أخ لك عاداك الزمان فأصبحت ... مذممة في ما لديه المطالب
متى ما تروقه التجارب صاحباً ... من الناس ترجعه إليك التجارب
وقال مسلم:
وترجعني إليك إذا نأت بي ... دياري عنك تجربةُ الرجالِ
ولإبراهيم بن العباس بن محمد بن صول معاتبات فيما بينه وبين محمد بن عبد الملك الزيات قصد بها الاستعطاف، فتجاوزه وخشن فيها، فكانت بالعتاب أولى، فمن ذلك قوله:
دعوتُك عن بلوى ألمّت صروفها ... فأوقدت من ضغن علي سعيرها
وإني إذا أدعوك عند ملمةٍ ... كداعيةٍ عند القبور نصيرها
وكتب إليه: كتب إليك وقد بلغت المدية المحز، وعدت الأيام عليّ بعد عدوي بك عليها، وكان أسوأ ظني وأكثر خوفي أن تسكن في وقت حركتها، وتكف عند أذاتها، فصرت أَضرّ عليّ منها،فكفّ الصديق عن نصري خوفاً منك، وبادر إليّ العدوّ تقرّباً إليك. وكتب تحت ذلك:
أخٌ بيني وبين الده ... ر صاحب أينا غلبا
صديقي ما استقام فإن ... نبا دهرٌ عليّ نبا
وثبتُ على الزمان به ... فعاد به وقد وثبا
ولو عاد الزمان لنا ... لعاد به أخاً حَدِبا
وكتب إليه: أم والله لو أمنت ودك لقلت، ولكني أخاف منك عتباً لا تنصفني فيه، وأخشى من نفسي لائمة لا تحتملها لي. وما قدّر فهو كائن، وعن كل حادثة أحدوثة، وما استبدلت بحالة كنت فيها مغتبطاً حالاً أنا في مكروهها وألمها أشد علي من أني فزعت إلى ناصري عند ظلمٍ لحقني، فوجدت من ظلمني أخف نيةً في ظلمي منه، وأحمد الله كثيراً. وكتب في أسفلها:
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حرباً عوانا
وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذم الزمانا
وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
وكان أحمد المدبر صديقه، فلما نكب تقرب إلى ابن الزيات بالتحريض عليه. ولما خلص إبراهيم بن العباس من النكبة جاء مهنئاً وقال:
وكنت أخي بالدهر حتى إذا نبا ... نبوت فلما عاد عدت مع الدهر

فلا يومَ إقبالٍ عددتك طائلاً ... ولا يوم إدبارٍ عددك من وتري
وما كنت إلا مثل أحلام نائمٍ ... كلا حالتيك من وفاء ومن غدر
وقال ابراهيم بن العباس أيضاً:
كان أخاً ثم صار لي أملاً ... فتهت بين الرجاء والأملِ
يصبح أعداؤه على ثقةٍ ... منه وإخوانه على وجل
وقال أحمد بن إبراهيم:
سأترك ما بيني وبينك واقفاً ... فإن عدت عدنا والإخاء سليم
ولو قد خبرت الناس حقّ اختبارهم ... رجعت إلى وصلي وأنت ذميم
وقال أبو الحسن الناشئ الأصغر:
إذا أنا عاتبت الملول فإنما ... أخطّ بأقلامي على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد العتاب ألم تكن ... مودّته طبعاً فصارت تكلفا
وقال محمد بن عبد الملك الزيات:
مالي إذا غبت لم أذكر بصالحةٍ ... وإن مرضت وطال السقم لم أعد
ما أقبح الشيء ترجوه فتحرمه ... قد كنتُ أحسب إني قد ملأت يدي
وقال ابن العميد:
وسألتك العتبى فلم ترني لها ... أهلاً وجئت بغدرةٍ شوهاء
وردت مموّهةً فلم يرفع لها ... طرفٌ ولم ترزق من الإصغاء
وأعار منطقها التذمم سكتةً ... فتراجعت تمشي على استحياء
لم تشف من كمد ولم تبرد على ... كبدٍ ولم تمسح جوانب داء
من يشف من داء بآخر مثله ... أثرت جوانحه من الأدواء
داوى جوىً بجوى وليس بحازمٍ ... من يستكف النار بالحلفاء
وقال آخر:
لئن طبت نفساً عن ثنائي إنني ... لأطيب نفساً عن نداك على عسري
فلست إلى جدواك أعظم حاجةً ... على شدة الإعسار منك إلى شكري
وقالوا: لما استتب الأمر لمعاوية قدم عليه عبد الله بن عباس، وهي أول قدمة قدمها إليه، فدخل وكأنه قرحة تتبجس، فجعل عتبة بن أبي سفيان يطيل النظر إليه ويقل الكلام معه. فقال ابن عباس: يا عتبة إنك لتطيل النظر إليّ وتقل الكلام معي، أفلموجدةٍ فدامت أو لمعتبةٍ فلا زالت؟ فقال له عتبة: ماذا أبقيت لما لا رأيت؟ أما طول نظري إليك فسروراً بك، وأما قلة كلامي معك فلقلّتهِ مع غيرك، ولو سلطت الحق على نفسك لعلمت أنه لا تنظر إليك عين مبغض. فقال ابن عباس: أمهيت يا أبا الوليد أمهيت، لو تحقق عندنا أكثر مما ظنناه لمحاه أُقل مما قلت. فذهب بعض من حضر ليتكلم فقال له معاوية: اسكت إن الداخل بين قريش لخائن نفسه. وجعل معاوية يصفق بيديه ويقول:
جندلتان اصطكتا اصطكاكا ... دعوت عركا إذ دعوا عراكا
يقال: أمهيت الحديدة إذا سقيتها، والإمهاء: إرخاء الحبل. وأمهيت الفرس: أرخيت عنانه. ولبن ممهوّ: رقيق، وناقة ممهاء: رقيقة اللبن.
وكتب عمرو بن سعيد بن العاص على عبد الملك بن مروان: استدراج النعم إياك أفادك البغي، ورائحة القدرة أورثتك الغفلة، فزجرت عما واقعت مثله، وندبت إلى ما تركت سبله، ولو كان ضعف الأسباب يؤيس الطالب ما انتقل سلطان ولا ذل عزيز. وعن قليل يتبين من صريع بغي، وأسير غفلة والرحم على الإبقاء عليك، مع أخذك ما غيرك أقوم به منك.
وقال أعرابي لابن عم له: ما لك أسرع إلى ما أكره من الماء إلى قراره؟ ولولا ضني بإخائك لما أسرعت إلى عتابك. فقال له الآخر: والله ما أعرف تقصيراً فأقلع، ولا ذنباً فأعتب، ولست أقول لك كذبت، ولا أني أذنبت.
قال سهيل بن زيد الفزاري:
فإن أعتب عليك أبا نزار ... لتعتبني فكلك لي مريب
إذا استغنيت كنت أخاً بعيداً ... وإن تحتج فأنت أخ قريب
ومثله لربيع بن أبي الحقيق اليهودي:
يرمي إلي بأطراف الهوان وما ... كانت ركابي له مرحولةً ذللا
أن ابنُ عمك إن نابتك نائبة ... ولستُ منك ذا ما كعبك اعتدلا
وقول زرارة بن حصن الخثعمي:
أرى ابن عطاء قد تغير بعدما ... مريت له الدنيا بسيفي فدرت
وكان أخانا وهو للحرب خائف ... فعاد عدوّاً كاشحاً حين قرّت
وقال أسلم بن القصار:
لي ابن عم أزال الله نعمته ... فليس فيه ولا في مثله أرب

يكون مني إذا نابته نائبةٌ ... وليس مني إذا استرخى له اللَّبَب
وقال الحارث بن كلدة الثقفي:
أما إذا استغنيتم فعدوكم ... وأدعى إذا ما الدهر نابت نوائبه
فإن يك خيرٌ فالبعيد يناله ... وإن يك شرّ فابنُ عمك صاحبه
وقال أبو الأسود الدؤلي:
من ذا الذي بإخائه وبودّه ... من بعد أو إخائك أفرحُ
أم ما يقول الكاشحون لنا غداً ... وعيونهم نحوي ونحوك تلمح
قد رابهم من بعد حسن تواصل ... منا مباعدةٌ وبينٌ مفصح
أمريهم ما يشتهون وفاعلٌ ... من ذاك يثني وما يستقبح
أم ممسكٌ بوصال خل ناصحٍ ... محضِ الأخوة مثله لا يطرح
أياً فعلت فلن تزال مقيمة ... في الصدر منك مودة لا تبرح
أبو عطاء السندي
قصائد حكتهنّ لقرم فيسٍ ... رجعن إلى صفراً خائبات
رجعن وما أفأن علي شيئاً ... سوى أني وعدت الترهات
أقام على الفرات يزيد حولاً ... فقال الناس أيهما الفرات
فيا عجباً لبحرٍ بات يسقي ... جميع الناس لم يبلل لهاتي
كتب سعيد بن حميد إلى أبي العباس ابن ثوابة:
أقلل عتابك فالبقاء قليل ... والدهر يعدل مرةً ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلا بكيت عليه كيف يزول
ولكل نائبة ألمت مدةٌ ... ولكل حالٍ أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الإخاء جماعةٌ ... إن حصلوا أفناهم التحصيل
ولعل أحداث الليالي والردى ... يوماً ستصدع بيننا وتحول
فلئن سبقت لتبكين بحسرة ... وليكثرن علي منك عويل
ولتفجعن بمخلص لك وامقٍ ... حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن سبقت ولا سبقت ليمضين ... من لا يشاكله لدي عديل
وليذهبن جمال كل مروةٍ ... وليقفرن فناؤها المأهول
وأراك تكلف بالعتاب وودنا ... باقٍ عليه من الوفاء دليل
ود بدا لذوي الإخاء جميله ... وبدت عليه بهجة وقبول
ولعل أيام الحياة قصيرة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول
دعبل يعاتب مسلم بن الوليد:
أبا مخلد كنا عقيدي مودةٍ ... هوانا وقلبانا جميعاً معاً معا
أحوطك بالغيب الذي أنت حائطي ... وأجزع إشفاقاً من أن تتوجعا
فصيرتني بعد انتكاثك متهماً ... لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا
غششت الهوى حتى تداعت أصوله ... بنا وابتذلت الوصل حتى تقطعا
وأنزلت من بين الجوانح والحشا ... ذخيرة ود طال ما قد تمنعا
فلا تلحيني ليس لي فيك مطمعٌ ... تخرقت حتى لم أجد لك مرقعا
فهبك يميني استأكلت فقطعتها ... وجشمت قلبي صبره فتخشعا
ابن جكينا يستزيد:
ولست أستبطي ولكنني ... ينقطع الغيثُ فاستسقي
أبو العتاهية:
أثني عليك ولي حال تكذبني ... فيما أقول فأستحي من الناس
حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد ... طأطأت من سوء حالي عندها راسي
توقيع للفضل بن سهل: لولا ما في عواقب التأني من الاستظهار بالحجة، والخروج من لوم العجلة، لأتاك كتابي بخلاف هذه المخاطبة، ثم لولا خشية إهمالك والرجوع إلى نفسي بالتفريط في توقيفك ودلالتك على حظك، لأمسكت عن إرشادك وتنبيهك، إذ كانت العظات لا تنجع فيك.
الأخطل:
وكاشحٍ معرضٍ عني غفرت له ... حتى أبين منه الضغن والميلا
ولو أواجهه مني بقارعة ... ما كان كالذئب مغبوطاً بما أكلا
ومرجع كان ذا قربى فجعت به ... يوماً وأصبحت أرجو بعده الأملا
ولا أرى الموت يأتي من يحم له ... إلا كفاه ولاقى عنده شغلا
وبينما المرء مغبوط بعيشته ... إذ خانه الدهر عما كان فانتقلا

استبطأ موسى بن عيسى بن موسى سلمة بن صالح بن أبي رتبيل الشكري، وكان سلمة رأى من موسى بعض الجفاء فتخلف عنه، فلقيه موسى يوماً بالكناسة فاستبطأه وقال له: لم جفوتني بعد وصلك واخترت الأبعدين ببرك إياهم بنفسك، كأنك لم تسمع قول الشاعر:
تمد إلى الأقصى بثديك كله ... وأنت على الأدنى صروم مجدد
فإنك لو أصلحت من أنت مفسد ... توددك الأقصى الذي تتودد
فقال سلمة: أصلح الله الأمير، رب عتاب امض من قطيعة وصل، ومقال يدعو الخليل إلى العذل، فإن أذن الأمير أن أبلغ الغرض الأقصى في الحجة لي فعلت. قال: افعل، غير أني مشترط عليك ألا تأتي من العتاب ما يكون أغلط مما شكوناه من جفائك، فقال سلمة:
وصلت فلم أوصل وزرت ولم أزر ... وغبتُ فلم أفقد ولم أتعهد
فمن يك منكم بالذي قلت راضياً ... فإني به يا قومنا غير مقتد
إذا المرء لم يجز الإخاء بمثله ... وكنتَ عليه بعد ما رحت تغتدي
فجذ حبال الوصل منه وقل له ... عليك العفا من حيث ما كنت فابعد
فتغير وجه موسى وجعل ينظر إلى معرفة دابته، ثم أقبل على سلمة فقال: بل نصلك يا أبا الهيثم ونتعاهدك ونزورك، فكان يجيئه موسى في الشهر مرة فيتحدث معه.
الرضي:
تسوء قطيعة وتشوق حباً ... فما أدري عدو أم حبيب
آخر:
ولو كنت ذا شوقٍ لجئت مسلماً ... إلى خير أهلٍ بالحجون نزول
ولكن ود الغامدي مظنة ... كما أن عهد الغامدي غلول
وكتب محمد بن عبد الملك الزيات إلى إبراهيم بن العباس في مقامه بالأهواز: قلة نظرك لنفسك حرمتك سداد المنزلة، وإغفال حظك حطك من أعلى الدرجة، وجهلك بقدر النعمة أحل اليأس بك والنقمة، حتى صرت من قوة الأمل معتاضاً شدة الوجل، وركبت مطية المخافة بعد مجلس الأمن والكرامة وصرت متعرضاً للرحمة بعد ما تكنفتك الغبطة، وقد قال الشاعر:
إذا ما بدأت امرءاً جاهلاً ... ببر فقصير عن حمله
ولم تره قابلاً للجميل ... ولا عرف الفضل من أهله
فسمه الهوان فإن الهوان ... دواء لذي الجهل من جهله
آخر:
لأي زمان أرتجيك وحالة ... إذا أنت لم تنفع وأنت وزير
كشاجم:
يا رحمة الله التي قد أصبحت ... دون الأنام علي سوط عذاب
آخر:
خليلي لو كان الزمان مساعدي ... وعاتبتماني لم يضق عنكما صدري
فأما إذا كان الزمان محاربي ... فلا تجمعا أن تؤذياني مع الدهر
المتنبي:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقةً ... أن تحسب الشحم في من شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم
لئن تركن ضميراً عن ميامننا ... ليحدثن لمن ودعتهم ندم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون همُ
شر البلاد بلادٌ لا أنيس بها ... وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
وقال:
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدر على مرعاكم اللبن
جزاء كل قريب منكم ملل ... وحظ كل محب منكم ضغن
وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن
فغادر الهجر ما بيني وبينكم ... يهماء تكذب فيها العين والأذن
سهرت بعد رحيلي لكم ... ثم استمر مريري وارعوى الوسن
فإن بليت بود مثل ودكم ... فإنني بفراقٍ مثله قمن

الفصل الثاني
التعريض

التعريض هو عدول عن التصريح إلى الكناية والإشارة، وهذا يقعُ في سائر فنون الكلام وأنواع المقاصد، وإنما يتعلق بهذا الفصل ما عدل به عن صريح الذم إما إبقاء وإما مراقبة، فمن ذلك قول الشاعر:
يا قوم إن سعيداً من يكون له ... من رأيه عن ركوب الغي مزدجر
لا تبطروا لبلاء الله عندكم ... فقبلكم شان أهل النعمة البطر
ما غير الله من نعماء أنعمها ... على معاشر حتى تبدأ الغير
قد أصبح المتقي منكم على وجل ... والمعتدي معرض منكم له العبر
وقال البحتري
وفي عينيك ترجمة أراها ... تدل على الضغائن والحقود
وأخلاقٌ عهدت منها ... غدت وكأنها زبر الحديد
وما لي قوة تنهاك عني ... ولا آوي إلى ركنٍ شديد
سوى شعل الحر منها ... لهيباً غير مرجو الخمود
ولو أني أشاء وأنت تربي ... علي لثرت ثورة مستقيد
رأيت الحزم في صدر سريع ... إذا استوبلت عاقبة الورود
قال ابن عائشة: عتبتُ على عبيد الله بن الحسين العنبري القاضي مرة في شيء، قال: فلقيني وهو يدخل من باب المسجد يريد مجلس الحكم وأنا أخرج، فقلت معرضاً به:
طحعت بليلى أن تريع وإنماتقطع أعناق الرجال المطامع
فأنشدني معارضاً تاركاً لما قصدت له:
وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن ... شهود على ليلى عدول مقانع
قال بشر بن مروان يوماً: من يدلني على فرس جواد سابق؟ فقال عكرمة بن ربعي: قد أصبته أصلحك الله عند حوشب بن يزيد، نجا عليه يوم الري، يعرض بانهزام حوشب عن أبيه وقول الشاعر:
نجى خليلته وأسلم شيخه ... لما رأى وقع الأسنة حوشب
اجتمع الشعراء بباب أمير من أمراء العراق، فمر رجل بباز فقال رجل من بني تميم لآخر من بني نمير: هذا البازي، فقال النميري إنه يصيد القطا. عرض الأول بقول جرير:
أنا البازي المطل على نمير ... أتيح من السماء لها انصبابا
وأراد الآخر قول الطرماح:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلت
عرض معاوية أفراسه على عبد الرحمن بن الحكم، فمر به فرس فقال: هذا أجش، وآخر فقال: وهذا هزيم، يعرض بمعاوية إذا قال الشاعر له:
ونجى ابن حرب سابح ذو غلالة ... أجش هزيم والرماح دوانِ
نظر الفرزدق إلى ابن هبيرة وعليه ثياب تقعقع فقال: هي تسبح، أراد ذلك قول الشاعر:
إذا لبست قيس ثياباً لزينةٍ ... تسبح من لؤم الجلود ثيابها
قال عمر بن هبيرة الفزاري لأيوب بن ظبيان النميري، وهو يسايره: غض من بغلتك، فقال: إنها مكتبة، أراد ابن هبيرة قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير
وأراد النميري قول ابن دارة:
لا تأمنن فزارياً خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
ومر الفرزدق بمضرس بن ربعي وهو ينشد قوله:
تحمل من وادي أشيقر حاضر
وقد اجتمع الناس، فقال الفرزدق: يا أخا بني فقعس، متى عهدك بالقنان؟ فقال: تركته تبيضُ فيه الحمر. أراد الفرزدق قول نهشل بن حري:
ضمن القنان لفقعس سوآتها ... إن القنان لفقعس لمعمر
وأراد مضرس قول أبي المهوش الأسدي:
قد كنت أحسبكم أسود خفية ... فإذا لصاف تبيض فيه الحمر
وإذا تسرك من تميم خصلة ... فلما يسوءك من تميم أكثر
مر أبو خليفة المحاربي على أبي عمرو العدوي، عدي الرباب وعندهم بقرة قد ذبحت، فقال أبو خليفة: يا أبا عمرو ما ننفي عن ديارنا جيفةً إلا صارت إليكم، فقال أبو عمرو: يا أبا خليفة إنما هي سحابة تمر فتفسد ذلك كله. أراد أبو خليفة قول الشاعر:
إذا ما نفينا جيفةً عن ديارنا ... رأيت عدياً حولَ جيفتنا تسري
وأراد أبو عمرو قول الشاعر:
إذا كنت ندماني على الخمر فاسقني ... بماء سحاب لم تخضه محارب
دخل خالد بن يزيد دار عبد الملك، وكان يسحب ثيابه، فقال إليه عبد الرحمن بن الضحاك يتلقاه فقال له: بأبي أنت وأمي لم تطعم الأرض فضول ثيابك؟ فقال: إني أكره أن أكون كما قال الشاعر:

قصير الثياب فاحش عند بيته ... وشر قريش في قريش مركبا
وهذا البيت هجي به الضحاك.
وهب المفضل الضبي لبعض جيرانه أضحية يوم الأضحى، فلما لقيه قال: كيف وجدك أضحيتك؟ قال: ما وجدت لها دماً، يعرض بقول الشاعر:
ولو ذبح الضبي بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضبي لحماً ولا دما
دخل أبو الهندي على أسد بن عبد الله بن كرز البجلي وعنده رجل من جرم على سريره، فتناول أبا الهندي، فقال له أسد: مهلاً يا أخا جرم، فإن له لساناً لا يطاق، فقال أبو الهندي: كم الكبائر؟ قال: بلغني إنهن أربع: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله. قال أبو الهندي: بلغني أنهى خمس: تجفاف على بعير، وسراج في شمس، ولبن في باطية، وخمر في علبة، وجرمي على سرير، فبهت الجرمي.
المتنبي لما رحل عن ابن حمدان قاصداً إلى كافور يعرض به:
رحلت فكم باكٍ بأجفان شادن ... علي وكم باك بأجفان ضيغم
وما ربة القرط المليح مكانه ... بأجزع من رب الحسام المصمم
فلو كان ما بي من حبيب مقنع ... عذرت ولكن من حبيب معمم
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى ... هوىً كاسرٌ كفي وقوسي وأسهمي
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقولِ عداته ... وأصبح في شك من الليل مظلم
وما كل هاوٍ للجميل بفاعل ... وما كل فعال له بمتمم

الفصل الثالث
في شكوى الزمان
لقد أحسن أبو عثمان الخالدي وإن كان متأخراً، واستحق التقديم على من تقدمه بقوله:
ألفت من حادثات الدهر أكبرها ... فما أعوج على أطفالها الأخر
أصفو وأكدر أحياناً لمختبري ... وليس مستحسناً صفو بلا كدر
إني لأسير في الآفاق من مثل ... فردٍ وأملأ في الآماق من قمر
لقد فرحت بما عاينت من عدم ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر
وربما ابتهج الأعمى بحالته ... لأنه قد نجا من طيرة العور
ولست أبكي على شيب منيتُ به ... يبكي على الشيب من يأسى على العمر
وما شكرت زماني وهو يصعدني ... فكيف أشكره في حال منحدري
وقد نظرت إلى الدنيا وبهجتها ... فاستصغرتها جفوني غاية الصغر
كن من صديقك لا من غيره حذراً ... إن كان ينجيك منه شدة الحذر
ما أطمئن إلى خلقٍ فأخبره ... إلا تكشف لي عن سوء مختبر
لا عار يلحقني أني بلا نشب ... وأي عار على عين بلا حور
فإن بلغت الذي أهوى فعن قدر ... وإن حرمت الذي أهوى فعن عذر
وقال الرضي أبو الحسن الموسوي:
دنيا ترشف عيشي وهي كالحة ... غضبى وابسم فيها بادي الكظم
كالخمر يعبس حاسيها على مقة ... والكأس تجلو عليه ثغر مبتسم
قال إبراهيم بن إسماعيل بن داود: حضر الفضل بن الربيع وليمةً وكنت معه، وحضرها وجوه الناس، وأخذوا من الحديث في أغثه، ومن الكلام في أسخفه، فقال الفضل: إني لأرى النعم مسخوطاً عليها فمن ثم صارت عند غير أهلها، قال إبراهيم: فقلت:
إني أرى الملك والسلطان حازهما ... قوم بأمثالهم لا تحسن النعم
فأصبح الناس بالمعروف قد فجعوا ... وأصبح اللؤم مغموراً به الكرم
قد قلتُ إذ رجعت عوداً لكم نعم ... أظن ذا العرش غضباناً على النعم
وقال ابن الرومي:
دهرٌ علا قدر الوضيع به ... وترى الشريف يحطه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلاً وتطفو فوقه جيفه
وقال آخر:
زمن تلعب بي أحداثه ... لعب النكباء بالرمح الخطل
وقال آخر:
خان الزمان فأعددت الكرام له ... فمن أعد إذا ما خانت العدد
وقال أبو إسحاق الصابي:

أيا رب كل الناس أبناء علة ... أما تلغط الدنيا لنا بصديق
وجوه بها من مضمر الغل شاهد ... ذوات أديمٍ في النفاقِ صفيق
إذا عرضوا عند اللقاء فإنهم ... قذىً لعيون أو شجىً لحلوق
وإن أظهروا برد الوداد وظله ... أسروا من الشحناء حر حريق
وكان أبو إسحاق في أيام شبيبته اسعد منه جداً عند الكبر، وفي ذلك يقول:
عجباً لحظي إذ أراه مصاحبي ... عصر الشباب وفي المشيب مغاضبي
أمن الغواني كان حتى ملني ... شيخاً وكان على صباي مصاحبي
يا ليت صبوته إلي تأخرت ... حتى تكون ذخيرةً لعواقبي
وقال، وكتب بها إلى الرضي أبي الحسن الموسوي من قصيدة:
وإني على غيث الردى في جوانبي ... وما كف من خطوي وبطش بناني
وإن لم يدع إلا فؤاداً مروعاً ... به غبر باق من الخفقان
تلوم تحت الحجب ينفث حكمة ... إلى أذن تصغي لنطق لسان
لأعلم أني ميت عاق دفنه ... ذماء قليل في غد هو فان
إذا ما تقدمت بي وسارت محفة ... لها أرجل يسعى بها رجلان
وما كنت من فرسانها غير أنها ... وفت لي لما خانت القدمان
وقال آخر:
أرى زمناً نوكاه أسعد أهله ... ولكنما يشقى به كل عاقل
مشى فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكب الأعالي بارتفاع الأسافل
وقال أبو الفضل ابن العميد:
أشكو إليك زماناً ظل يعركني ... عرك الأديم ومن يعدي على الزمن
وصاحباً كنت مغبوطاً بصحبته ... دهراً فقد ردني فرداً بلا سكن
هبت له ريح إقبال فطار بها ... إلى السرور وألجاني إلى الحزنِ
كانت حال أبي محمد المهلبي: وهو من ولد قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، قبل اتصاله بالسلطان، حال ضعفٍ وقلة، وكان يقاسي منه قذى عينيه وشجى صدره، فبينا هو في بعض أسفاره مع رفيق له من أصحاب الجراب والمحراب، إلا أنه من أهل الأدب، إذ لقي من سفره نصباً فقال ارتجالاً:
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن روح عبدٍ ... تصدق بالوفاة على أخيه
فرثى له رفيقه وأحضر له بدرهم ما سكنه، وتحفظ الأبيات، وتفارقا، فترقت حال المهلبي إلى الوزارة، وأخنى الدهر على الرفيق، فتوصل إلى إيصال رقعةٍ إلى حضرته فيها:
ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقال مذكر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيشٍ ... ألا موت يباع فأشتريه
فلما قرأ الرقعة تذكره، وهزته أريحية الكرم، فأمر له في عاجل الحال بسبعمائة درهم، ووقع تحت رقعته: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ والله يضاعف لمن يشاء والله واسعٌ عليم " . البقرة: 261، ثم قلده عملاً يرتفق به ويرتزق منه.
وقال أوس بن حجر:
فإني رأيت الناس إلا أقلهم ... خفاف العهود يكثرون التنقلا
بني أم ذي المال الكثير يرونه ... وإن كان عبداً سيد الأمر جحفلا
وهم لمقل المال أولاد علةٍ ... وإن كان محضاً في العمومة مخولا
كان زيد بن علي بن الحسين كثيراً ما يتمثل:
شرده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد
منخرق الخفين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحةً ... والموت حتم في رقاب العباد
ابن يوسف البصري المعروف بالخاطئ:
دنيا دنت من جاهلٍ وتباعدت ... من كل ذي أدب له حجر
بالت على أربابها حتى إذا ... وصلت إليّ أصابها الأسر
آخر:
إذا مدّ أرباب البيوت بيوتهم ... على رجح الأكفال ألوانها زهر
فإن لنا منها خباء يحفه ... إذا نحن أمسينا المجاعة والفقر
قال أبو الأسود الدؤلي:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلفٍ يزين بعضهم ... بعضاً ليدفع معور عن معور

سلكوا بنيات الطريق فأصبحوا ... متنكبين عن الطريق الأنور
أبني إن من الرجال بهيمةً ... في صورة الرجل السميع المبصر
فطنا بكل مصيبة في ماله ... فإذا أصيب بدينه لم يشعر
ابن الرومي:
ولو كان همي واحداً لاطرحته ... خواطر قلبي كلهن هموم
مهيار:
إن كان عبدك يا زمان بقية ... تهين به الكرام فهاتها
إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
وإني رأيت الدهر منذ صحبته ... محاسنه مقرونة ومعايبه
إذا سرني في أول الأمر لم أزل ... على حذر من أن تذم عواقبه
دعبل:
أخ لك عاداه الزمان فأصبحت ... مذممة فيما لديه العواقب
متى ما تحذره التجارب صاحباً ... من الناس تردده إليك التجارب
قال علي بن أبي جعفر الحذاء: سمعت رجلاً يقول لشعيب بن حرب: يا أبا صالح ذهب الصفو والكدر فقال له رجل: فما بقي يا أبا صالح؟ قال: بقي الحمأة.
شاعر:
لا يسقط الشرف القديم من امرئ ... إملاقه في دولة السقاط
آخر:
وأحوال أبتْ إلا التباساً ... تبث الشيب في رأس الوليد
وتقعد قائماً بشجي حَشاه ... وتبعث للقيام حبي القعود
وأضحت خشعاً فيها نزار ... مركبة الرواجب في الخدود
أبو العتاهية:
تأتي المكاره حين تأتي جملةً ... وترى السرور يجيء في الفلتات
قال الجاحظ: جهد البلاء أن تظهر الخلة، وتطول المدة، وتعجز الحيلة، ثم لا تعرف إلا أخا صارماً، وابن عم شامتاً، وجاراً كاشراً، وولياً قد تحول عدواً، وزوجة مختلعة، وجارية مستبيعة، وعبداً يحقرك، وولداً ينتهرك.
أبو زيد الطائي:
غير ما طالبين ذحلاً ولكن ... مال دهر على أناس فمالوا
المتنبي:
وما الدهر أهل أن تؤمل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل
محمد بن أبي سعيد الجذامي المغربي المعروف بابن شرف في ذلك:
صحبت بهذه الدنيا أناساً ... إذا غدروا فغدرهم وثيق
ولم أصحبهم وداً ولكن ... كما جمع العدوين الطريق
جحظة:
ورق الجو حتى قيل هذا ... عتاب بين جحظة والزمانِ
أبو حفص الشطرنجي:
وما مر يوم أرتجي فيه راحةً ... فأخبره إلا بكيت على أمس
آخر:
أتى دون حلو العيش حتى أمره ... نكوب على آثارهن نكوب
إذا ذر قرن الشمس عللت بالأسى ... ويأوي إلي الحزن حين تغيب
لعمركما إن البعيد لما مضى ... وإن الذي يأتي غداً لقريب
عبد العزيز بن محمد القرشي الطارقي المغربي:
ألا ليت شعري والأماني كثيرة ... وللدهر أيام كثير لجاجها
أألقي الليالي وهي غير عبوسةٍ ... فيحسن في عيني قليلاً سماجها
سأشكو الذي بي للمعز فإنني ... أرى العمر قد ولى وفي النفسِ حاجها
وليّك يا مولاي يشكو ظلامةً ... من الدهر يرجى من يديك انفراجها
أبو حبيب المغربي من أبيات:
مكابداً فيه ألواناً يزول بها ... صبر الجليد ويجفو جفنه الوسن
يبيضُ من هولها رأس الرضيع أسىً ... ويغتدي أسوداً في ضرعه اللبن
دخل مسلمة بن يزيد بن وهب على عبد الملك فقال له: أي الزمان أدركت أفضل، وأي الملوك أكمل؟ قال: أما الملوك فلم أر إلا حامداً أو ذاماً، وأما الزمان فيرفع أقواماً ويضعُ أقواماً، وكلهم يذم لأنه يبلي جديدهم، ويفرق عديدهم، ويهرمُ صغيرهم، ويهلك كبيرهم.
وقال الشيباني: أتانا يوماً أبو مياس الشاعر، ونحن في جماعة فقال: ما أنتم فيه؟ وما تتذاكرون؟ قلنا: نذكر الزمان وفساده، قال: كلا، إنما الزمان وعاء ما ألقي فيه من خير أو شر كان على حاله، ثم أنشأ يقول:
يقولون الزمانُ به فساد ... وهم فسدوا وما فسدَ الزمانُ
وقال حبيب بن أوس:
لم أبك من زمنٍ لم أرض خلتهُ ... إلا بكيتُ عليه حين ينصرم

وجد في صندوق عبد الله بن الزبير صحيفة فيها مكتوب: إذا كان الحديث خلفاً، والميعادُ خلفاً، والمقيت إلفاً، وكان الولد غيظاً، والشتاء قيظاً، وغاض الكرام غيضاً، وفاض اللئام فيضاً، فاعنز عفرٌ في جبل قفر خير من ملك بني النضر.
ركب الأصمعي حماراً دميماً فقيل له: أبعد براذين الخلفاء تركب هذا؟ فقال متمثلاً:
ولما أبت إلا إطرافاً بودها ... وتكديرها الشرب الذي كان صافيا
شربنا برنق من هواها مكدر ... وليس يعاف الرنق من كان صاديا
الرضي أبو الحسن:
أما تحرك للأقدار نابضة ... أما يغير سلطان لا ملك
قد هادن الدهر حتى لا بقاء له ... وأطبق الخطب حتى ما به حرك
كل يفوت الرزايا أن تلم به ... أما لأيدي المنايا فيهم درك
أخلت السبعة العليا طبائعها ... أم عطلت نهجها أم سمر الفلك
وقال يشكو للصابي من تقصير الحظ به:
ما قدر فضلك ما أصبحت ترزقه ... ليس الحظوظ على الأقدار والمهن
قد كنت قبلك من دهري على حنق ... فزاد ما بك في غيظي على الزمن
وقال أيضاً:
أعاتب هذا الدهر إن سر مرةً ... أساء وإن صفى لنا الورد رنقا
كأني أنادي منه صماءَ صلدةً ... وصل صفاةٍ لا يلين على الرقى
فلا البأس والإقدام نجى عتيبةً ... ولا الجود والإعطاء أبقى المحلقا
أراه سناناً للقريب مسدداً ... وسهماً إلى النائي البعيد مفوقا
إذا ما عدا لم تبصر البيض قطعا ... ولا الزغف مناعاً ولا الجرد سبقا
ولا في مهاوي الأرض إن شئت مهبطاً ... ولا في مراقي الجو إن رمت مرتقى
ولا الحوت إن شق البحار بفائت ... ولا الطير إن مد الجناح وحلقا
وللعمر نهج إن تسنمه الفتى ... إلى الغاية القصوى أزل وأزلقا
وقال
جار الزمان فلا جواد يرتجي ... للنائبات ولا صديق يشفق
وطغى علي فكل رحب ضيق ... إن قلت فيه وكل حبل يخنق
وكان الأذى رشحاً فقد صار عمرةً ... كذاك المبادي أول الألف واحد
وقال:
وأكثر من تلقاه كالسيف مرهفاً ... عليك وإن جربته كان نابياً
وقال:
وما يثقل الميت الصعيد وإنما ... على الحي عبء للزمان ثقيل
وقال:
فإن لم يكن فرج في الحياة ... فكم فرج في انقضاء العمر
وقال:
أبياض رأسٍ واسوداد مطالب ... صبراً على حكم الزمان الجائر
وقال:
وليس من الإنصاف أن حلقت بكم ... قوادم عز طاح في الجو قابها
وأصبحت محصوص الجناح مهضماً ... علي غواشي ذلة وثيابها
تعد الأعادي لي مرامي قذافها ... وتنبحني أني مررت كلابها
مات ولد لأحمد بن المختار بن أبي الجبر، فبكى عليه حتى ذهبت إحدى عينيه ثم تلتها الأخرى، فقال يشكو الزمان ويذكر صرفه:
كأنما آلى على نفسه ... ألا يرى شملاً لاثنين
لم يكفه ما نال من مهجتي ... حتى أصاب العين بالعين
أبو فراس ابن حمدان:
إسارٌ أقاسيه وليل نجومه ... أرى كل شيءِ دونهنّ يزول
تطول به الساعات وهي قصيرة ... وفي كل دهر لا يسرك طول
آخر:
ولو أنني أعطيت من دهري المنى ... وما كل من يعطي المنى بمسدد
لقلت لأيام مضين ألا ارجعي ... وقلت لأيام أتين ألا ابعدي
وقال علي بن عاصم:
سقياً لأيام لنا وليالي ... قصر الحبائب طولها بوصال
ما كان طول سرورها لما انقضت ... إلا اكتحال متيمٍ بخيال

نوادر من هذه الفصول الثلاثة
أبو الأسود التميمي يستزيد:
ليتك أدبتني بواحدة ... تقنعي منك آخر الآبد
تحلف ألا تبرني أبداً ... فإن فيها برداً على كبدي
اشف فؤادي مني فإن به ... علي قرحاً نكأته بيدي

إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حية على رصد
لو كنت حراً كما زعمت وقد ... كددتني بالمطال لم أعد
لكنني عدت ثم عدت فإن ... عدت إلى مثل هذه فعد
أبعدني الله حين يحملني ... حرصي على مثل ذا من الأود
وكيف أخطأت لا أصبت ولا ... نهضت من عثرة إلى سدد
الآن أيقنت من فعالك بي ... أني عبد لأعبد قفد
وصرت من قبح ما ابتليت به ... أكنى أبا الكلب لا أبا الأسد
وقال أبو عثمان الخالدي:
قل للشريف المستجا ... ر به إذا عدم المطر
وابن الأئمة من قري ... ش والميامين الغرر
أقسمت بالريحان والن ... نغم المضاعف والوتر
لئن الشريف نأى ولم ... ينعم لعبديه النظر
لنشاركن بني أمي ... ية في الضلال المشتهر
ونقول لم يغصب أبو ... بكر ولم يظلم عمر
ونرى معاوية إما ... ماً من يخالفه كفر
ونقول إن يزيد ما ... قتل الحسين ولا أمر
ونعد طلحة والزبي ... ر من الميامين الغرر
ويكون عنق الشري ... فِ دخول عبديه سقر
وقال السري الرفاء يعرض بالخالدين وزاد حتى شهر سيف الشقاق عليهما:
يا أكرم الناس إلا أن يعد أباً ... فات الكرام بآباء وآثار
أشكو إليك حليفي غارةٍ شهراً ... سيف الشقاق على ديباج أفكاري
ذئبين لو ظفرا بالشعر في حرم ... لمزقاه بأنيابٍ وأظفار
سلاً عليه سيوف البغي مصلتةً ... في جحفل من شنيع الظلم جرار
وأرخصاه فقل في العطر ممتهناً ... لديهما يشترى من غير عطار
لطائم المسك والكافور فائحة ... منه ومنتخب الهندي والغار
وكل مسفرة الألحاظ تحسبها ... صفيحة بين إشراق وإسفار
أرقت ماء شبابي في محاسنها ... حتى ترقرق فيها ماؤها الجاري
كأنها نفس الريحان يمزجه ... صبا الأصائل من أنفاس نوار
إن قلداك بدر فهو من لججي ... أو ختماك بياقوت فأحجاري
باعا عرائس شعري بالعراق فلا ... تبعد سباياه من عون وأبكار
مجهولة القدر مظلوم عقائلها ... مقسومة بين جهال وأغمار
ما كان ضرهما والدر ذو خطر ... لو حلياه ملوكاً ذات أخطار
وما رأى الناس سبياً مثل سبيهما ... بيعت عقيلته ظلماً بدينار
والله ما مدحا حياً ولا رثياً ... ميتاً ولا افتخرا إلا بأشعاري
وقال ابن العصب الملحي الشاعر:
فاغد سراً بنا إلى قفص المل ... حي فالعيش فيه غض نضير
نتواري من الحوادث والده ... ر بصير بمن توارى خبير
مجلس في فناء دجلة يرتا ... ح إليه الخليع والمستور
طائر في الهواء فالبرق يسري ... دون أعلاه والحمام يطير
وإذا الغيم سار أسبل منه ... كلل دون جدره وستور
وإذا غارت الكواكب صبحاً ... فهو الكوكب الذي لا يغور
ليس فيه إلا خمار وخمر ... وممات من سكرة ونشور
وحديث كأنه زهر المن ... ثور حسناً ولؤلؤ منثور
وجريح من الدنان تسيل الر ... راح من جرحه وقدر تفور
ولك الظبية الغريرة إن شئ ... ت وإن عفتها فظبي غرير
فتمتع بما تشاء نهاراً ... ثم بت معرساً وأنت أمير
كل هذا بدرهمين فإن زد ... ت فأنت المبجل الموفور
قال قائل لجحظة: توفي علي بن عيسى الوزير، فسجد، وكانت بينهما عداوة، ثم قال: يا أخي قد يئسنا من خير أهل هذه الدنيا، ولم يبق إلا التلذذ بنكبات أربابها، وأنشد:
أحسن من قهوة معتقة ... تخالها في إنائها ذهبا

من كف مقدودة مهفهفة ... تقسم فينا لحاظها الريبا
نعمة قومٍ أزالها قدر ... لم يحظ منه حر بما طلبا
قال الجاحظ: قلت يوماً لعبدوس بن محمد، وقد سألته عن سنه: لقد عجل عليك الشيب، فقال: وكيف لا يعجل علي وأنا محتاج إلى من لو نفذ حكمي فيه لسرحته مع النعاج، وألقطته مع الدجاج، وجعلته قيم السراج، هذا أبو ساسان أحمد بن العباس العجلي له غلة ألف ألف درهم في كل سنة، عطس يوماً فقلت: يرحمك الله، فقال لي: يغرقكم الله.
وقال السري الرفاء الموصلي يشكو الإقتار:
قد كانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري
فأصبح الرزق بها ضيقا ... كأنه من ثقبها جاري
وقال أبو الحسن ابن سكرة الهاشمي في مثل ذلك:
واجر غلماني في واسط ... جوعاً وكانوا لا يرامونا
جادوا بما كنت ضنيناً به ... فاتسعوا مما يناكونا
لو أن رزقي مثل أدبارهم ... كنت من الإثراء قارونا
وقال أيضاً:
قيل ما أعددت للبر ... د فقد جاء بشده
قلت دراعة عري ... تحتها جبة رعدهَ
وأخذ هذا من كلام بعض الأعراب وقيل له: ما أعددت للشتاء؟ قال شدة الرعدة.
مر ابن أبي علقمة بمجلس بني ناجية، فكبا حماره لوجهه، فضحكوا منه فقال: ما يضحككم؟ رأى وجه قريش فسجد. وبنو ناجية يعتدون في قريش ويطعن في نسبهم.
قال رجل من بني هاشم لأبي العيناء: يا حلقي، فقال: مولى القوم منهم. يعرض بولائه فيهم.
وعرض ابن هبيرة على رجل من ضبة كان يمازحه فص فيروزجٍ، يعرض بقول الشاعر:
ألا كل ضبيٍ من اللؤم أزرق
حمل بعض الوزراء أبا العيناء على دابة، فلما أبطأ عليه علفها استزاده فقال: أيها الوزير، هذا الدابة حملتني عليها أم حملتها عليّ؟ وقال له صاعد: ما الذي أخرك عنا؟ قال: بنيتي. قال: وكيف؟ قال: قالت: يا أبة قد كنت تغدو من عندنا فتأتي بالخلع السرية، والجائزة السنية، ثم أنت الآن تغدو مستدفاً وترجع مغتماً، فإلى من؟ قلت: إلى أبي العلاء ذي الوزارتين، قالت: أيعطيك؟ قلت: لا قالت: أفيشفعك؟ قلت: لا. قالت: أفيرفع مجلسك؟ قلت: لا، قالت: " يا أبه لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً " مريم: 42.
وقيل لمزبد: لم لا تكون كفلان - يعني رجلاً موسراً؟ فقال: بأبي أنتم كيف أتشبه بمن يضرط فيشمت وأعطس فألطم؟ وقيل له ما بال حمارك يتبلد إذا توجه نحو المنزل وحمير الناس إلى منازلها أسرع؟ قال: لأنه يعرف سوء المنقلب.
وطلب من داره بعض جيرانه ملعقة فقال: ليت لنا ما نأكله بالإصبع.
وقال الرشيد لأبي الحارث جمين: كيف تدخل إلى محمد بن يحيى؟ قال: أدخل والله يا أمير المؤمنين وأنا أكسى من الكعبة وأخرج وأنا أعرى من الحجر الأسود.
ورؤي عليه جبة قد تخرقت فقيل له: ما هذه؟ قال: غنت بقول الشاعر:
أما فؤادي فقد بلي جزعا ... قطعه البين والهوى قطعا
ثم قيل له بعد ذل: كيف تغني جبتك؟ فقال: قد كانت تغني وقد صارت تلطم في مأتم.
كان حماد عجرد صديقاً ليحيى بن زياد، وكان يتنادمان ويجتمعان على ما يجتمع عليه مثلهما، ثم إن يحيى بن زياد أظهر نزوعاً عما كان عليه وقراءة، وهجر حماداً وأشباهه، فكان إذا ذكر عنده حماد ثلبه وذكر تهتكه ومجونه، فبلغ ذلك حماداً فكتب إليه:
هل تذكرن دلجي إلي ... ك على المضمرة القلاص
أيام تعطيني وتأ ... خذ من أباريق الرصاص
إن كان نسكك لايتم ... م بغير شتمي وانتقاص
أو كنت لست بغير ذا ... ك تنال منزلة الخلاص
فعليك فاشتم آمناً ... فلك الأمان من القصاص
واقعد وقم بي ما بدا ... لك في الأداني والأقاصي
فلطالما زكيتني ... وأنا المقيم على المعاصي
أيام أنت إذا ذكر ... ت مناضل عني ماض
وأنا وأنت على ارتكا ... ب الموبقات من الحراص

قال أبو عبيدة: تزوجت أخت أبي نخلة برجل يقال له ميار فكان أبو نخلة يقوم بمالها مع ماله، ويرعى سوامها مع سوامه، فيستبد عليها بأكثر منافعها. فخاصمته يوماً من وراء خدرها في ذلك فأنشأ يقول:
أظل أرعى وتراهزينا ... ململماً أبزى له غضونا
ذا ابن مقدماً عثنونا ... يطعن طعنا يقصب الوتينا
ويهتك الاعفاج الرئينا ... يذهب ميار وتقعدينا
وتفسدين وتبذرينا ... وتمنحين استك آخرينا
أير حمار في است هذا دينا
ابن بسام:
سنصبر ما وليت فكم صرنا ... لمثلك من أمير أو وزير
ولما لم ننل منهم سروراً ... رأينا فيهم كل السرور
جلس مولى لآل سليمان على طريق الناس، وقد رجعوا من الاستمطار، وقد سقوا فقال: ليس بي إلا سرورهم اليوم بالإجابة، وما مطروا إلا لأني غسلت ثيابي اليوم، ولم أغسلها قط إلا جاء الغيم والمطر، فليخرجوا غداً فإن سقوا فإني ظالم.
شاعر يستبطئ صديقاً له على إعادة كتب أعاره إياها:
ما بال كتبي في يديك رهينةً ... حبست على مر الزمان الأطول
إيذن لها في الانصراف فإنها ... كنز عليه في الأنام معولي
ولقد تغنت حين طال ثواؤها ... طال الوقوف على رسوم المنزل

الباب الثالث والعشرون
في الهجاء والمذمة
الهجاء مرهبة للكريم، ومحلبة من اللئيم، وهو على الشاعر أجدى من المديح المضرع، فلذلك بالغ فيه من جعله الذريعة إلى نيل مباغيه.
قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه للحطيئة: ويلك لا تهج الناس، فقال: إذن أموت وأطفالي جوعاً. فاشترى منه عمر رضي الله عنه أعراض المسلمين فقال:
وأخذت أطراف الكلام فلم تدع ... شتماً يضر ولا مديحاً ينفع
وحميتني عرض اللئيم فلم يخف ... ذمي وأصبح آمناً لا يفزع
والمقصود من ذكر الهجاء الوقوف على ملحه وما فيه من ألفاظ فصيحة، ومعان بديعة، لا التشفي بالأعراض والرتعة فيها، وليس الهجاء دليلاً على إساءة المهجو ولا صدق الشاعر فيما رماه به، فما كل مذموم بذميم، ولا كل ملوم بمليم، وقد يهجي الإنسان بهتاً وظلماً، أو تقرباً إلى عدو، أو عبثاً، أو إرهاباً لمن يخشى الشاعر سطوته فيجبن عن هجائه:
كذي العر يكوى غيره وهو راتع
وقد يهجى جزاء عن فعل خص الهاجي ولم يعم، وليس في ذلك كله عار يلحق الأعقاب، ولا في الوقوف عليه غيبة يحصل بها العقاب.
أهدي إلى سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد الأسدي كتاب ففتحه لينظر فيه، فوقعت عينه منه على هجاء بني أسد، فأطبقه وقال:
وما زلت الأشراف تهجى وتمدح
قال المتوكل لأبي العيناء: كم تمدح الناس وتذمهم، قال: ما أحسنوا أو أساؤا. وقد رضي الله عن عبد فمدحه فقال: نعم العبد إنه أواب وغضب على آخر فزناه، فقال ويحك أيزني الله أحداً؟ فقال: نعم قال الله عزّ وجلّ: " مناعٍ للخير أثيم عتل بعد ذلك زنيم " القلم: 12 - 13 والزنيم الملصق بالقوم وليس منهم، وهو مأخوذ من الزنمة، والزنمتان ما تدلى في حلق المعز، وقيل من آذانها.
قال دعبل في المأمون بعد البيعة وقتل الأمين:
إني من القوم الذي همُ هم ... قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد
فقال المأمون: ويحه ما أبهته!! متى كنت خاملاً وفي حجر الخلافة ربيت، وبدرها رضعت.
وقد أحسن الزبرقان بن بدر إلى الحطيئة وأكرم ضيافته في سنة غبراء حطمت الأموال وذهبت بالخف والحافر، فوعده بنو أنف الناقة القريعيون، وكانوا أعداء الزبرقان، أن يزيدوا في البر على ما فعله الزبرقان، فحمله الطمع والجشع على أن أرضاهم بهجائه فقال:
ما كان ذنب بغيض لا أبا لكم ... في بائس جاء يحدو آخر الناس
جار لقوم أطالوا هون منزله ... وغادروه مقيماً بين أرماس
ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وهي أكثر من هذا فاستعدى الزبرقان عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنشده الأبيات فقال: ما أسمع هجاء وإنما هي معاتبة، فقال الزبرقان: أو ما بلغ من مروءتي إلا أن آكل واشرب؟ فدعا حسان فسأله عن الشعر فقال: ما هجاه ولكن سلح عليه.
ولما قتل جعفر بن يحيى بكاه أبو نواس وجزع عليه وقال: اليومَ والله ذهبت المروءة والأدب، فقيل له: أتقول هذا وكنت تهجوه وتقطعه من قبل؟ فقال: ذاك لركوب الهوى. أيكون أكرم من جعفر وقد رفع إليه صاحب الخبر أني قلت:
ولست وإن اطنبت وفي وصف جعفر ... بأول إنسان خري في ثيابه
فوقع في رقعته: يدفع إليه عشرة آلاف درهم يغسل بها ما ذكر أنه نال ثيابه. وكان أبو نواس مائلاً إلى الفضل بن الربيع ومنحرفاً عن البرامكة.
ومن العبث بالهجو ما روي أن الحطيئة هم بهجاء فلم يدر من يستحقه فجعل يجول ويقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما ... بسوء فما أدري لمن أنا قائله
ثم اطلع في ركي فرأى وجهه فقال:
أرى لي وجهاً شوه الله خلقه ... فقبح من وجهٍ وقبح حامله
وهجاه أباه وأمه فقال:
ولقد رأيتك في النساء فسؤتني ... وأبا بنيك فساءني في المجلس
ومن هذا الفن أن شاعراً في زماننا هجا بعض الأعيان بأبيات مطبوعة تداولها الناس فحبس وعزر. وأراد الوزير أبو علي ابن صدقة أن يستكفه عن الزيادة فقال له: ما أردت إلى هجاء هذا الرجل؟ هل اجتديته فمنعك، أو مدحته فحرمك، أو كانت لك حكومة فمال فيها عليك؟ قال: كل ذلك لم يكن، بل قطع كان على عرضه وقفاي.
وضد هذا العبث بالأعراض قول صخر بن عمرو بن الشريد السلمي، وقد قتلت بنو مرة أخاه معاوية بن عمرو، فقال له قومه: ألا تهجوهم؟ فقال: ما بيننا أجل القذع، ولو لم أكف عن هجائهم إلا رغبة بنفسي عن الخنا لكففت. وقال:
تقول إلا تهجو فوارس هاشمٍ ... وما لي إذا أهجوهم ثم ما ليا
أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا
وذي إخوة أقران بينهم ... كما تركوني واحداً لا أخا ليا
فأمسك عن هجائهم، وقد وتروه، صيانة وتكرماً.
وكان العرب في جاهليتها وإسلامها تتقي الهجاء اشد من اتقائها السلاح، حيث كانت تحامي عن أحسابها، وترغب في اقتناء المحامد الباقي ذكرها على أعقابها. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وغيرهما من الصحابة يهجون مشركي قريش: لهو أشد عليهم من وقع النبل.
وكان أحدهم في الفلاة القفر لا أنيس بها معه ولا قرين، يحمي نفسه عن كلمة يعاب بها حتى كأنه يتعبد بذلك من لا يخفى عليه خافيه، فمن ذلك أن حذيفة بن بدر لما فر في حرب عبس وذبيان ونزل وأصحابه إلى جفر الهباءة يتبردون في حمارة القيظ، اقتص قيس بن زهير أثرهم حتى وقف عليهم في عدة فوارس، وهم في الجفر، فأيقنوا الهلاك فقال حذيفة: يا بني عبس فأين العقول والأحلام؟ فضرب حمل بن بدر بين كتفيه وقال: إياك ومأثور الكلام.
فانظر على هذه الحمية والنفس الأبية، منعه أن يستعطف ابن عمه، وهم متوقعون للقتل لئلا يؤثر عنهم ضراعة ورقة عند الموت. وأمثال ذلك كثير، وليس هذا موضع إيراده.
ومن مراقبتهم للشعر ما روي عن عبد الملك بن مروان أنه قال لولده حين حضرته الوفاة: أوصيكم بحسن جوار الشعراء، فإن للشعر مواسم لا تزداد على اختلاف الجديدين إلا جدة، وأيم الله ما أود أني هجيت بمثل قول الأعشى:
فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساجٍ لا يوارى الدعامصا
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وإني ازددت إلى نعمتي أضعافها، ولوددت أني مدحت بهذه الأبيات من قول زهير:
لو كان يعقد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
وأني زلت عن نعمتي كلها.
وقد قال أبو مسلم: ألأم الأعراض عرض لا يرتعي فيه حمد ولا ذم. وتلك أمة قد خلت وملة قد نسخت:
جدت أكف ليس ين ... بط ماءها إلا المساحي
وجلود قوم ليس تأ ... لم غير أطراف الرماح
ما شئت من مال حمىً ... يأوي إلى عرض مباح

والهجاء إنما يضع من النمرقة الوسطى. أما الخمول لا يقع الهجاء فيه موقعاً يضر، كما لا يرفعه المديح. قال رجل ما أبالي أهجيت أم مدحت، فقال الأحنف بن قيس: أرحت نفسك من حيث تعب الكرام.
وقال بعض النبط لبشار إن هجوتني تخرب ضيعتي؟ قال: لا، قال: فتموت عيشونة ابنتي؟ قال: لا قال: فرجلي مع ساقي إلى حلقي في حر أمك قال: ولم تركت رأسك؟ قال لأنظر إلى ما تصنع. وقال دعبل بل يروى لمسلم:
فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل
وقال إبراهيم بن العباس:
نجا بك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقاذره أن ينالا
وإنما ألما فيه بقول عويف القوافي:
قوم إذا ما جنى جانيهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا
وأما من علت درجته، وشاعت فضيلته فلا يفسده الهجاء، ولا يضع من شرفه، وقد مثلوا بمن هجي من العرب على هذه المنازل قالوا: لم يفسد الهجاء بني بدر، وبني عدس، وبني عبد المدان، وغيرهم من أشراف العرب. هجيت فزارة بأكل أير الحمار وبكثرة شعر القفا كقول الحارث بن ظالم:
فما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
فلم يضرهم ذلك. ثم افتخر به ومدحهم الشاعر به. قال مزرد بن ضرار:
منيع بين ثعلبة بن سعد ... وبين فزارة الشعر الرقاب
فما من كان بينهما بنكس ... لعمرك في الخطوب ولا بكاب
وأما قصة أير الحمار فإنما اللوم على المطعم لرفيقه ما لا يعرفه، فهل كان على الفزاري في حق الأنفة أكثر من قتل من أطعمه الجردان من حيث لا يدري.
وقد هجيت الحارث بن كعب، وكتب الهيثم بن عدي فيهم كتاباً، فما وضع ذلك منهم حتى كأنه قد كتبه لهم. ولما كانت نمير دون هؤلاء في الشرف وضعهم قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
قال أبو عبيدة كان الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال نميري كما ترى، حتى قال جرير بيته هذا فصار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني عامر. فعند ذلك قال الشاعر يهجو قوماً آخرين:
وسوف يزيدكم ضعةً هجائي ... كما وضع الهجاء بني نمير
ولما هجاهم أبو الرديني العكلي، فتوعدوه بالقتل، قال أبو الرديني:
توعدني لتقتلني نمير ... متى قتلت نمير من هجاها
فشد عليه رجل منهم فقتله.
وما لقيت قبيلة من العرب مهجوةً ما لقيت نمير من بيت جرير هذا.
ومن متوسطي الشرف في القبائل: عنزة وجرم وسلول وباهلة وغني، وهذه قبائل فيها فضل كثير، ومنها شعراء وفصحاء وفرسان مذكورون، فمحا ذلك الفضل هجاء الشعراء وغض منهم.
ومن الحبطات حسكة بن عتاب وعباد بن الحصين وولده وهم من الأشراف ففضح هذه القبيلة قول الشاعر:
رأيت الحمر من شر المطايا ... كما الحبطات شر بني تميم
وكذلك أفسد ظليم البراجم قول الشاعر:
إن أبانا فقحة لدارم ... كما الظيلم فقحة البراجم
وأهلك بني العجلان قول الشاعر:
إذا الله عادى أهل لؤم وقلة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
ولا يردون الماء إلا عشيةً ... إذا صدر الوراد عن كل منهل
وأما قول الأخطل:
وقد سرني من قيس عيلان أنني ... رأيت بني العجلان سادوا بني بدر
فإن هذا البيت لم ينفع بني العجلان، كما لم يضر بني بدر، لأنه أخرجه مخرج الشماتة لأن صارت الذنابي قادة للرؤوس.
فأما من سلم من آفة الهجاء بالخمول فمثل غسان وعيلان من قبائل عمرو بن تميم، وثور أخوة عكل. وابتليت عكل لأنها أنبه منها سبباً وثور خاملة، ولعلها سفيان الثوري والربيع بن خثيم ما عرفت.
قال الشعبي: شهدت زياداً وأتاه عامر بن مسعود بأبي علاثة التيمي فقال إنه هجاني قال: وما قال لك؟ قال، قال:
وكيف أرجي ثروها ونماءها ... وقد سار فيها خصية الكلب عامر
فقال أبو علاثة: ليس هكذا قلت، قال: فيكف قلت؟ قال: قلت:
وإني لأرجو ثروها ونماءها ... وقد سار فيها يأخذ الحق عامر

فقال زياد: قاتل الله الشاعر، ينقل لسانه كيف يشاء، والله لولا أن يكون سنة لقطعت لسانك. فقام قيس بن فهد الأنصاري فقال: أصلح الله الأمير، ما أدري من الرجل، فإن شئت حدثتك عن عمر بما سمعت منه، قال: وكان زياد يعجبه أن يسمع الحديث عن عمر، قال هاته: قال: شهدته وأتاه الزبرقان بن بدر بالحطيئة فقال: هجاني، قال: وما قال لك؟ قال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة، فقال الزبرقان: أو ما بلغ من مروءتي إلا أن آكل وأشرب؟ فقال عمر: علي بحسان، فجيء به، فسأله فقال: لم يهجه ولكن سلح عليه.
ويقال سأل لبيداً فقال: ما يسرني أنه لحقني من هذا الشعر ما لحقه وأن لي حمر النعم. فأمر به عمر فجعل في نقير في بئر، ثم ألقي عليه شيء فقال:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي أمرٍ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسيهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
فأخرجه ثم قال: إياك وهجاء الناس. قال: إذن يموت عيالي جوعاً مكسبي هذا ومنه معاشي، قال: إياك والمقذع من القول، قال: وما المقذع؟ قال: أن تخاير بين الناس فتقول فلان خير من فلان، وآل فلان خير من آل فلان، قال: فأنت والله أهجى مني. ثم قال: لولا أن تكون سنة لقطعت لسانه، ولكن اذهب فأنت له يا زبرقان خذه، فألقى الزبرقان في عنقه عمامة فاقتاده بها، وعارضته غطفان فقالوا: يا أبا شذرة، إخوتك وبنو عمك، هبه لنا، فوهبه لهم. فقال زياد لعامر بن مسعود قد سمعت ما روي عن عمر، وإنما هي السنن، فاذهب به فهو لك، فألقى في عنقه حبلاً أو عمامة، وعارضته بكر بن وائل فقالوا له: إخوتك وجيرانك، فوهبه لهم.
وقال الأخطل: واسمه غياث بن غوث من بني تغلب:
ما زال فينا رباط الخيل معلمةً ... وفي كليب رباط الذل والعار
النازلين بدار الذل إن نزلوا ... وتستبيح كليب حرمة الجار
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
وهذا أهجى بيت قالته العرب، فإنه مع ما وصفهم به من اللؤم والدناءة وابتذال الأم جعل نارهم ضئيلة حقيرة تطفئها البولة.
وقال الأخطل أيضاً:
فلا تدخل بيوت بني كليب ... ولا تقرب لهم أبداً رحالا
ترى فيها لوامع بارقاتٍ ... يكدن ينكن بالحدق الرجالا
قصيرات الخطى عن كل خير ... إلى السوءات مسمحة عجالا
وقال أيضاً:
ونحن رفعنا عن سلول رماحنا ... وعمداً رغبنا عن دماء بني نصر
لو ببني ذبيان بلت رماحنا ... لقرت بهم عيني وباء بهم وتري
شفى النفس من قتلي سليم وعامر ... ولم يشفها قتلي غني ولا جسر
ولا جشم شر القبائل إنها ... كبيض القطا ليست بسودٍ ولا حمر
لعمري لقد لاقت سيلم وعامر ... على جانب الثرثار راغية البكر
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
وقال أيضاً:
لعمرك إنا من زهير بن جندب ... لدانون لو أن القرابة تنفع
معاشر أما الخير منهم فمكفأ ... وأما إناء الشر منهم فمترع
وقال أيضاً:
سود الوجوه وراء القوم مجلسهم ... كأن قائلهم في القوم مسترق
البائتون قريباً دون أهلهم ... ولو يشاءون آبوا الحي أو طرقوا
وقال جرير:
أقول وذاكم للعجيب الذي أرى ... أمال بن مال ما ربيعة والفخر
محالفهم فقر قديم وذلة ... وبئس الحليفان المذلة والفقر
وقال أيضاً:
ألم تر أن الله أخزى مجاشعاً ... إذا ما أفاضت في الحديث المجالس
فما زال معقولاً عقال عن الندى ... وما زال محبوساً عن المجد حابس
وقال أيضاً:
ولا تعرفون الشر حتى يصيبكم ... ولا تعرفون الأمر إلا تدبراً
آخر:
فما إن في الحريش ولا عقيل ... ولا أولاد جعدة من كريم
أولئك معشر كبنات نعش ... رواكد لا تسير مع النجوم

لما فارقت عروة بن الورد امرأته الغفارية، وأثنت عليه بما أثنت، ورجعت إلى قومها، تزوجها رجل من بني عمها، فقال لها يوماً من الأيام: يا سلمى أثني علي كم أثنيت على عروة، وقد كان قولها شهر فيه، فقالت: تكلفني ذلك فإني إن قلت الحق غضبت، ولا واللات والعزى لا أكذب. فقال: عزمت عليك لتأتيني في مجلس قومي فلتثنين علي بما تعلمين، وخرج وجلس في ندي القوم، وأقبلت، فرماها الناس بأبصارهم، فوقفت عليهم وقالت: أنعموا صباحاً، إن هذا عزم علي أن أثني عليه بما أعلم، ثم أقبلت فقالت: والله إن شملتك لالتحاف، وإن شربك لاشتفاف، وإنك لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف، وما ترضي الأهل ولا الجانب، ثم انصرفت. ولامه قومه وقالوا: ما كان أغناك عن هذا القوم منها.
وقال الأخطل:
وإذا سما للمجد فرعا وائل ... واستجمع الوادي عليك فسالا
كنت القذى في سيل أكدر مزبدٍ ... قذف الأتي به فضل ضلالا
وقال أيضاً:
قبيلة كشراك النعل دارجة ... إن يهبطوا العفو لا يوجد لهم أثر
محلهم من بني تيم وإخوتهم ... حيث يكون من الحمارةِ الثفر
وقال الحكم بن عبدل الأسدي:
نكهت علي نكهة أخدري ... شتيم أعصل الأنياب ورد
فما يدنو إلى فيه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند
وقال ذو الإصبع العدواني:
لو كنت ماء كنت لا ... عذب المذاق ولا مسوسا
ملحاً بعيد القعر قد ... فلت حجارته الفؤوسا
مناع ما ملكت يدا ... ك وسائلاً لهم لحوسا
وتبعه الشعراء في معنى البيت الأول فأكثروا، قال الآخر:
لو كنت ماء كنت غير عذب ... أو كنت سيفاً كنت غير عضب
أو كنت عيراً كنت عير ندب ... أو كنت لحماً كنت لحم كلب
وقال الآخر:
لو كنت ماء لم تكن طهوراً ... أو كنت برداً كنت زمهريرا
أو كنت ريحاً كانت الدبورا ... أو كنت مخاً كنت مخا ريرا
وقال ابن بسام في أخيه:
يا طلوع الرقيب ما بين إلف ... يا غريماً أتى على ميعاد
يا ركوداً في يوم غيم وصيف ... يا وجه التجار يوم الكساد
ولابن الرومي في مثله:
يا أبا القاسم الذي لست أدري ... أرصاص كيانه أم حديد
أنت عندي كماء بئرك في الصي ... ف ثقيل يعلوه برد شديد
وله أيضاً في مثله:
وثقيل جليسه في سياق ... ساعة منه مثل يوم الفراق
قد قضى الله موته منذ حين ... فاحتوى الموت روحه وهو باق
ولآخر مثله:
يمشي على الأرض مجتازاً فأحسبه ... لبغض طلعته يمشي على بصري
وقال أبو نواس في معناه:
لطلعته وخزة في الفؤاد ... كوخز المشارط في المحتجم
أقول له إذ أتى لا أتى ... ولا نقلته إلينا قدم
فقدت خيالك لا من عمىً ... وصوت كلامك لا عن صمم
وقال الناجم في هذا الفن
يا ابن ابي النجم تسمع في مهل ... طريفةً أهديتها على عجل
من نكت الشعر الرصين المنتخل ... يغرف من بحر خضم لا وشل
يا شبه البئر برداً وثقل ... يا ليلة المهجور هجران الملل
يا كرب الطلق ويا ثقل الجبل ... يا حيرة المملق اعيته الحيل
يا قوة اليأس ويا ضعف الأمل ... يا ضيقة الرزق ويا وشك الأجل
يا ياسمين السقم لا ورد الخجل ... أقسم لولا أن لي عنك شغل
لجد فيك الشعر طوراً وهزل ... ممزقاً عرضك تمزيق السمل
ولابن الحجاج قصيدة في عيسى بن مروان الكاتب النصراني أطال فيها جداً، وسلك فيها هذه السبيل وتغلغل في معانيها والآفات التي جرت عادته بابتداعها، وهي مشهورة اقتصرت منها على قوله:
يا هيضة عرضت لشي ... خ مقعد زمن ضرير
يا نتن ريح خرا اليهو ... د الفج في عيد الفطير
وفسا النصارى في التنه ... هس قبل صومهم الكبير
وجشا شيوخ المسلمي ... ن البخر في وقت السحور

يا عثرة القلم المرش ... ش بين أثناء السطور
يا ذل عان موثق ... في القد مغلول أسير
وقعت عليه بنو كلا ... بٍ والمشوم بلا خفير
يا ذلة المظلوم الأصم ... بح وهو معدوم النصير
يا فجأة المكروه في ال ... يوم العبوس القمطرير
يا حيرة الشيخ الأصم ... م وحسرة الحدث الضرير
يا قرحة في ناظر ... غطوا عليها بالذرور
يا طول حمى الربع تق ... طع قوة الشيخ الكبير
يا ضجرة المحموم بال ... غدوات من ماء الشعير
يا خيبة الأمل الطوي ... ل اغتر بالعمر القصير
يا وحشة الموتى إذا ... صاروا إلى ظلم القبور
يا مأتماً فيه تذا ... ل وجوه ربات الخدور
كلت مقاريض النوا ... ئح فيه من جز الشعور
خذها فقد ثبتت بلا ... ء يا ابن يعقوب المدير
مثل السجل كتابه ... يبقى إلى يوم النشور
أحببت أن تحظى بها ... فخرجت فيها من قشوري
وقال أبو نواس:
بنيت بما خنت الأمين سقاية ... فلا شربوا إلا أمر من الصبر
فما كنت إلا مثل بائعة استها ... تعود على المرضى به طلب الأجر
وله:
لو أن عرضك في تطهير قدرك ما ... داناك في المجد لا كعب ولا هرم
وقال الأخطل:
إذا ما التقينا عند بشر رأيتهم ... يغضون دوني الطرف بالحدق الخزر
وأوجه موتورين فيها كآبة ... فرغماً على رغم ووقراً على وقر
وقال:
الآكلون خبيث الزاد وحدهم ... والسائلين بظهر الغيب ما الخبر
قوم تناهت إليهم كل فاحشة ... وكل مخزية سبت بها مضر
وأقسم المجد حقاً لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر
النصف الثاني من البيت الأول فيه معنى قول جرير:
وإنك لو رأيت عبيد تيمٍ ... وتيماً قلت أيهما العبيد
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود
وقريب منه قول أوس بن حجر:
معازيل حلالون بالغيب وحدهم ... بعمياء حتى يسألوا الغد ما الأمر
فلو كنتم من الليالي لكنتم ... كليلة سر لا هلال ولا بدر
وقال الأخطل:
تعوذ هوازن بابني دخان ... هوازن إن ذا لهو الصغار
ابنا دخان: غني وباهلة ابنا يعصر وهو لقب لهم، ومثله،
لقد خزيت قيس وذل نصيرها
وقال طارق بن أثال الطائي:
ما إن يزال ببغداد يزاحمنا ... على البراذين أشباه البراذين
أعطاهم الله أموالاً ومنزلة ... من الملوك بلا عقل ولا دين
ما شئت من بغلةٍ سفواء ناجيةٍ ... ومن ثياب وقولٍ غير موزون
وذم رجل ابن التوأم فقال: رأيته مشحم النعل، درن الجورب، مغضن الخف، دقيق الجربان.
وقال العلاء بن المنهال الغنوي:
فليت أبا شريك كان حياً ... فيقصر حين يبصره شريك
ويترك من تدريه علينا ... إذا قلنا له هذا أبوك
ويحتمل خطأ هذا الشاعر في العروض لرشاقة الشعر، فإن عروضه من الوافر ويتم الوزن بحرف النفاذ، فإن فعل ذلك كان البيت الأول مرفوعاً والثاني منصوباً، وهذا لم تستعمله العرب في إقوائها المستهجن، فكيف يكون في مثل هذا الشعر اللين؟ وإن وقف على السكون كان الجزء الأخير من الوافر فعول، وهو غير جائز ولم يسمع: ضاف أبو السليل العنزي بني حكم فخذاً من عنزة فقال:
أراني في بني حكم قصياً ... على قتر أزور ولا أزار
أناس يأكلون اللحم دوني ... وتأتيني المعاذر والقتار
وقال أخر:
شتى مراجلهم فوضى نساؤهم ... وكلهم لأبيه ضيزن سلف
وقال أخر:
لو كنت أحمل خمراً يوم زرتكم ... لم ينكر الكلب أني صاحب الدار
لكن أتيت وريح المسك تفغمني ... والعنبر الورد أذكيه على النار

فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني ... وكان يعرف ريح الزق والقار
وقال علي بن جبلة العكوك:
أقاموا الديدبان على يفاعٍ ... وقالوا لا تنم للديدبان
فإن آنست شخصاً من بعيدٍ ... فصفق بالبنان على البنان
تراهم خشية الأضياف خرساًيقيمون الصلاة بلا أذان
وقال أبو مهوش الأسدي:
وبنو الفقيم قليلة أحلامهمثط اللحى متشابهو الألوان
لو يسمعون بأكلة أو شربةبعمان أضحى جمعهم بعمان
متأبطين بنيهم وبناتهمصعر الأنوف لريح كل دخان
وقال آخر:
وجيرةٍ لن ترى في الناس مثلهمإذا يكون لهم عيد وإفطار
إن يوقدوا يوسعونا من دخانهموليس يدركنا ما تنضج النار
وأنشد ثعلب:
فتى لرغيفه قرط وشنفومرسلتان من خرز وشذر
إذا كسر الرغيف بكى عليهبكا الخنساء إذ فجعت بصخر
ودون رغيفه الثناياوحرب مثل وقعة يوم بدر
وقال دعبل:
رأيت أبا عمران يبذل عرضهوخبز أبي عمران في أحرز الحرز
يحن إلى جاراته بع شبعهوجاراته غرثى تحن إلى الخبز
وقال أيضاً:
فضيف عمرو وعمرو يسهران معاًعمرو لبطنته والضيف للجوع
وقال أخر، ويروي لبعض آل المهلب:
قومٌ إذا أكلوا أخفوا كلامهم واستوثقوا من رتاج الباب والدار
لا يقبس الجار منهم فضل نارهمولا تكف يد عن حرمه الجار
وقال الفرزدق:
وما لكليب حين تذكر أولولا لكليب حين تذكر آخر
وقال ابن أبي عيينة:
لا تعدم العزل يا أبا الحسنولا هزالاً في دولة السمن
ولا انتقالاً من دار عافيةٍإلى ديار البلاء والفتن
ولا خروجاً إلى القفار من ال ... أرض وترك الأحباب والوطن
وقال أيضاً في عيسى بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان تزوج فاطمة بنت عمر بن حفص هزارمرد، وهو من ولد قبيصة بن أبي صفرة أخي المهلب:
أفاطم قد زوجت عيسى فأيقنيلديه بذل عاجل غير آجل
فإنك قد زوجت عن غير خبرةفتىً من بني العباس ليس بعاقل
فإن قلت من رهط النبي فإنهوإن كان حر الأصل عبد الشمائل
فقد ظفرت كفاه منك بطائلوما ظفرت كفاك منه بطائل
لعمري لقد أثبته في نصابهبأن رحت منه في محل الحلائل
وزوج إبراهيم بن النعمان بن بشير الأنصاري ابنته من يحيى بن أبي حفصة مولى عثمان بن عفان على عشرين الف درهم، فقال قائل يعيره:
لعمري لقد جللت نفسك خزيةوخالفت فعل الأكثرين الأكارم
ولو كان جداك اللذان تتابعاببدر لما راما صنيع الألائم
ويحيى هذا هو جد مروان بن أبي حفصة الشاعر. ويزعم النسابون أن أباه كان يهودياً اسلم على يد عثمان بن عفان، وكان ذا يسار. وتزوج يحيى هذا خولة بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم سيد أهل الوبر، ومهرها خرقاً، ففي ذلك يقول القلاخ بن حزنٍ:
لم أر أثواباً أجر لخزيةٍوألأم مكسواً وألأم كاسياً
من الخرق اللائي صببن عليكمبحجر المبقيات البواليا
وقال القلاخ أيضاً:
نبئت خولة فقالت حين أنكحهالطالما كنت منك العار أنتظر
أنحكت عبدين ترجو فضل مالهمافي فيك مما رجوت الترب والحجر
لله در جياد أنت سائسهابرذنتها وبها التحجيل والغرر
وقال آخر:
ألا يا عباد الله قلبي متيمبأحسن من صلى وأقبحهم بعلا
يدب على أحشائها كل ليلةدبيب القرنبي بات يقرو نقاً سهلا
القرنبي دويبة حمراء على هيئة الخنفس منطقة الظهر، وربما كان في ظهرها نقطة حمراء، وفي قوائمها طول على الخنفس، وهي ضعيفة المشي.
وهذه المقطعات المتناسبة المعاني ليست من فاخر الهجاء وإنما هي في معنى شاذ ربما يتفق مثله فيتمثل بها فيه، فأتيت بها على ما شرطت في الكتاب.
وقال بشار:
خليلي من كعبٍ أعينا أخاكماعلى دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنهمخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجداًولم يدر أين المكرمات تكون
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلىوفي كل معروف عليك يمين
قوله: في كل معروف عليك يمين مأخوذ من قول جرير:
ولا خير في مال عليه أليةولا في يمين عقدت بالمآثم
لما عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق ووليها عمر بن هبيرة قال الفرزدق:

راحت بمسلمة البغال عشيةفارعي فزارة لا هناك المرتع
ولقد علمت إذا فزارة أمرتأن سوف تطمع في الإمارة أشجع
وأرى الأمور تنكرت أعلامهاحتى أمية عن فزارة تنزع
فلما ولي خالد بن عبد الله القسري العراق بعد ابن هبيرة قال بعض بني أسد:
بكت المنابر من فزارة شجوهافاليوم من قسر تذوب وتجزع
وقال المبرد: أنشدني رجل من عبد القيس:
أباهل ينبحني كلبكموأسدكم ككلاب العرب
ولو قيل للكلب يا باهليعوى الكلب من لؤم هذا النسب
وقال المساور بن هند:
زعمتم أن إخوتكم قريشلهم إلف وليس لكم إلاف
أولئك أومنوا جوعاً وخوفاًوقد جاعت بنو أسدٍ وخافوا
وقال أخر:
إن يسمعوا ريبةً طاروا لها فرحاًعني وما سمعوا من صالحٍ دفنوا
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت بهوإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
جهلاً علينا وجبناً عن عدوهملبئست الخلتان الجهل والجبن
وقال أبو الأسد في الحسن بن رجاء لما تولى الجبل:
فلأنظرن إلى الجبال وأهلهاوإلى منابرها بطرف أخزر
ما زلت تركب كل شيء قائمٍحتى اجترأت على ركوب المنبر
وقال إسماعيل بن عمار الأسدي:
بكت دار شجوها إذ تبدلتهلال بن مرزوق ببشر بن غالب
وهل هي إلا مثل عرس تبدلتعلى رغمها من هاشم في محارب
وقال آخر:
كاثر بسعدٍ إن سعداً كثيرةولا تبغ من سعد وفاء ولا غدرا
وقال آخر:
فسادة عبس في الحديث نساؤهاوسادة عبس في القديم عبيدها
وقال آخر:
أقولُ حين رأى كعباً ولحيتهلا بارك الله في بضع وستين
من السنين تملاها بلا حسبولا حياء ولا عقل ولا دين
وقال آخر:
أقام اللؤم وسط بني رياحمطيته وأقسم لا يريم
كذلك كل ذي سفر إذا ماتناهى عند غايته مقيم
وقال أخر:
ترى الشيخ منهم يمتري الأير باستهكما يمتري الثدي الصبي المجوع
خاصم أبو الحويرث السحيمي حمزة بن بيض إلى المهاجر بن عبد الله في طوي له، فقال أبو الحويرث:
غمضت في حاجة كانت تؤرقنيلولا الذي قلت فيها قل تغميضي
قال: وما قلت لك؟ قال:
حلفت بالله لي أن سوف تنصفنيفساغ في الحلق ريق بعد تجريض
قال: وأنا أحلف بالله لأنصفنك. قال:
فاسأل ألى عن ألى أن ما خصومهمأو كيف أنت وأصحاب المعاريض
قال: أوجعهم ضرباً. قال:
واسأل لجيماً إذا وافاك جمعهمهل كان بالبئر حوض قبل تحويضي
قال: فتقدمت الشهود فشهدت لأبي الحويرث فالتفت إلى ابن بيض فقال:
أنت ابن بيض لعمري لست أنكرهحقاً يقيناً ولكن من أبو بيض
إن كنت انبضت لي قوساً لترمينيفقد رميتك رمياً غير تنبيض
أو كنت خضخضت لي وطباً لتسقينيفقد سقيتك وطبا غير ممخوض
فأمسك عنه ابن بيض، فقيل له: ألا تجيبه؟ فقال: والله لو قلت: أبو بيض عبد المطلب بن هاشم لم ينفعني ذلك.
ذكر عند العباس بن علي رجل قد فارقه، فقال: دعوني أتذوق طعم فراقه، فهو والله الذي لا تشجي له النفس، ولا تدمع له العين، ولا يكثر في أثره الالتفات، ولا يدعى له عند فراقه بالسلامة.
وكتب كاتب في ذم والٍ: خوراً عند الأكفاء، وعجزاً عن الأعداء، وإسراعاً إلى الضعفاء، وكلباً على الفقراء، وإقداماً على البرية، واحتياجاً للرعية.
وقال الطرماح:
لو كان يخفى على الرحمن خافيةمن خلقه خفيت عنه بنو أسد
قوم أقام بدار الهون أولهمكما أقام عليه جذمة الوتد
ومن أبيات الطرماح:
لو حان ورد تميم ثم قيل لهاحوض الرسول عليه الأزد لم ترد
لو أنزل الله وحياً أن يعذبهاأن لم تعد لقتال الأزد لم تعد
لا عز نصر امرئ أضحى له فرسعلى تميم يريد النصر من أحد
وقال ابن أبي عيينة:
هل كنت إلا كلحم ميتدعا إلى أكله اضطرار
وقريب من هذا المعنى قول الآخر:
وما أهجوك أنك كفؤ شعريولكني هجوتك للكساد
وقول آخر:
غير اختيار قبلت برك بيوالجوع يرضي الأسود بالجيف
وقال آخر:
ألهى بن جشم عن كل مكرمةقصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهميا للرجال لفخر غير مسؤوم
إن القديم إذا ما ضاع آخرهكساعدٍ فله الأيام محطوم
وقال عرفجة بن شريك في أمية بن عبد الله بن خالد:
فلا غرو إلا من أمية إنهيمت بآباء كرام المحاتد

فلله آباء أمية نسلهملقد شانهم أفعاله في المشاهد
وقال سليمان بن قتة في سعيد بن عثمان بن عفان:
وكم من فتى كز اليدين مذمموكان أبوه عصمة الناس في المحل
ومثله قول الآخر:
لئن فخرت بآباء ذوي حسبلقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
واحتذى ابن سكرة هذا الغرض فقال:
فإن كنت من هاشم في الذرىفقد ينبت الشوك وسط الأقاحي
وقال لقيط بن زرارة:
أغركم أني بأكرم شيمةٍرفيق وأني بالفواحش أخرق
وأنك قد باذذتني فغلبتنيهنيئاً مريئاً أنت بالفحش أحذق
وقال أعرابي:
كأني ونضوي عند باب ابن مسمعمن القر ذئبا قفرة هلعان
أبيت وصنبر الشتاء ينوشنيوقد مس برد ساعدي وبناني
فما أضرموا ناراً ولا عرضوا قرىًولا اعتذروا من عسرةٍ بلسان
وقال الفرزدق:
ولو يرمى بلؤم بني كليبٍنجوم الليل ما وضحت لسار
ولو لبس النهار بني كليبلدنس لؤمهم وضح النهار
وما يغدو عزيز بني كليبليطلب حاجة إلا بجار
وقال أيضاً:
قوم إذا احتضر الملوك وفودهمنتفت شواربهم على الأبواب
وقال أيضاً:
فإن تهج آل الزبرقان فإنماهجوت الطوال الشم من هضب يذبل
وقد ينبح الكلب النجوم ودونهفراسخ تنضي الطرف للمتأمل
أرى الليل يجلوه النهار ولا أرىعظام المخازي عن عطية تنجلي
وقال آخر:
وما يك من خيرٍ فلا تستطيعهوما يك من شر فإنك صاحبه
وقال يزيد بن المهلب:
لقد سرني للنفع أنك شافعيوقد ساءني للدهر أنك تشفع
وقال زياد الأعجم:
ماذا يقول لهم من كان هاجيهملا يبلغ الناس ما فيهم وإن جهدوا
وقال الخزرجي:
أيزيد إنك لم تزل في ذلةٍحتى لففت أباك في الأكفان
فاشكر بلاء الموت عندك إنهأودى بلؤم الحي من شيبان
وقال يحيى بن نوفل:
فوا عجباً حتى سعيد بن خالدله حاجبٌ بالباب من دون حاجب
وقال نهار بن توسعة:
كانت خراسان أرضاً إذا يزيد بهاوكل باب من الخيرات مفتوح
فبدلت بعده قرداً نطوف بهكأنما وجهه بالخل منضوح
وقال الأشهب بن رميلة النهشلي:
ألم ينه عني غالباً أن غالباًمن اللؤم أعمى ضل كل سبيل
وإني من القوم الحداد سيوفهموسيفك إلا في العلاة كليل
العلاة: السندان.
وقال زياد الأعجم:
قبيلة خيرها شرهاوأصدقها الكاذب الآثم
وضيفهم وسط أبياتهموإن لم يكن صائماً صائم
وقال أعرابي، وتروى لدعبل:
أضياف عمران في خصب وفي دعةوفي عطاء كثير غير ممنوع
وضيف عمرو وعمرو يسهران معاًعمرو لبطنته والضيف للجوع
وقال جميل بن معمر:
أبوك حباب سارق الضيف بردهوجدي يا حجاج فارس شمرا
بنو الصالحين الصالحون ومن يكنلآباء صدقٍ يلقهم حيث سيرا
فإن تغضبوا من قسمة الله حظكمفلله إذ لم يرضكم كان أبصرا
وقال زهير بن أبي سلمى وقد أسر الحارث بن ورقاء عبداً له وحبسه عنده:
إذا طمحت نساؤكم إليهأشظ كأنه مسد مغار
ولولا عسبه لرددتموهوشر منيحة أير معار
وقال آخر:
بنو عمير مجدهم دارهموكل قوم لهم مجد
كأنهم فقع بدويةليس لهم قبل ولا بعد
ذم أعرابي رجلاً فقال: صغير القدر، قصير الشبر، لئيم النجر، عظيم الكبر.
وذم آخر رجلاً فقال: ما الحمام على الإصرار، والدين على الإقتار، وشدة السقم في الأسفار، بأشد من لقاء فلان.
وذم الجاحظ رجلاً فقال: أنت والله أحوج إلى هوان من كريم إلى إكرام، ومن علم إلى عمل، ومن قدرة إلى عفو، ومن نعمة إلى شكر.
وقال أحمد بن المعذل لأخيه عبد الصمد: أنت كالإصبع الزائدة إن تركت شانت وإن قطعت آلمت.
وقال آخر في قوم يصف حلوقهم بالدقة، وإنما يريد بذاك لؤمهم لأن السيد عند العرب يكون جهير الصوت:
كأن بني رالان إذ جاء جمعهمفراريج ألقي بينهن سويق
وأنشد الجاحظ:
حديث بني قرط إذا ما لقيتهمكنزوا الدبا في العرفج المتقارب
وقال آخر في خطيب:
مليءٌ ببهرٍ والتفات وسلعةومسحة عثنون وفتل أصابع
وأنشد ابن الأعرابي:
فذاك نكس لا بيض حجرهمخرق العرض جديد ممطره
في ليل كانون شديد خصرهعض بأطراف الزباني قمره
وقال آخر في أسود:
يا مشبهاً في لونه فعلهلم تعد ما أوجبت القسمه

خلقك من خلقك مستخرجوالظلم مشتق من الظلمه
مدح دعبل أبا نصر ابن حميد الطوسي فقصر في أمره، فقال يهجوه:
أبا نصير تحلحل عن مجالسنافإن فيك لمن جاراك منتقصا
أنت الحمار حروناً أن رفقت بهفإن قصدت إلى معروفه قمصا
إني هززتك لا آلوك مجتهداًلو كنت سيفاً ولكني هززت عصا
مر ابن الخياط بدار رجل كان يعرفه قبل ذلك بالضعة وخساسة الحال، وقد شيد ذلك الرجل بابه فطوح بناءه فقال:
أطله فما طول البناء بنافعٍإذا كان فرع الوالدين قصيراً
محمد بن وهيب الحميري في علي بن هشام، وكان قصده فلم يجد عنده ما أحب وتتايه عليه، والأبيات كثيرة نذكر مختارها:
لم تند كفك من بذل النوال كمالم يند سيفك مذ قلدته بدم
كنت امرءاً رفعته فتنة فعلاأيامها غادراً بالعهد والذمم
حتى إذا انكشفت عنه غياهبهاورتب الناس بالأحساب والقدم
مات التخلق وارتدتك مرتجعاًطبيعة نذلة الأخلاق والشيم
كذاك من كان لا رأس ولا ذنبكز اليدين حديث العهد بالنعم
هيهات لست بحمال الديات ولامعطي الجزيل ولا المرهوب في النقم
ولما بلغت هذه الأبيات علي بن هشام ندم على ما كان منه وجزع وقال: لعن الله اللجاج فإنه شر ما تخلقه الناس. ثم أقبل على أخيه الخليل بن هشام فقال: الله يعلم أني لأدخل على الخليفة وعلي السيف وأنا مستحي، أذكر قول ابن وهيب في:
لم تند كفك من بذل النوال كما لميند سيفك مذ قلدته بدم
قال الفرزدق: لما اطردني زياد أتيت المدينة، وعليها مروان بن الحكم، فبلغه أني خرجت من دار ابن صياد، وهو رجل يزعم أهل المدينة أنه الدجال، فليس يكلمه أحد ولا يجالسه، ولم أكن عرفت خبره، فأرسل إلي مروان فقال: أتدري ما مثلك؟ حديث تحدثت به العرب: أن ضبعاً مرت بحي قوم قد رحلوا، فوجدت مرآة فنظرت على وجهها فيها وقالت: من شر ما طرحك أهلك. ولكن من شر ما طردك أميرك، فلا تقيمن بالمدينة بعد ثلاثة أيام. قال: فخرجت أريد اليمن، حتى إذا صرت بأعلى ذي قسي، وهو طريق اليمن من البصرة، إذا رجل مقبل فقلت: من أين أوضع الراكب؟ قال: من البصرة. قلت: ما الخبر وراءك؟ قال: أتانا أن زياداً مات بالكوفة. قال: فنزلت عن راحلتي مسرعاً وسجدت وقلت: لو رجعت فمدحت عبيد الله بن زياد وهجوت مروان فقلت:
وقفت بأعلى ذي قسي مطيتيأميل في مروان وابن زياد
فقلت عبيد الله خيرهما أباًوأدناهما من رأفة وسداد
ومضيت لوجهي حتى أتيت بلاد بني عقيل، فوردت ماء من مياههم، فإذا بيت عظيم، وإذا امرأة سافر لم أر كحسنها وهيئتها قط، فدنوت فقلت: أتأذنين في الظل؟ فقالت: انزل فلك الظل والقرى. فأنخت وجلست إليها، قال: فدعت جارية لها سوداء كالراعية فقالت: ألطفيه شيئاً واسعي إلى الرعي فردي عليه شاة فاذبحيها له، وأخرجت إلي تمراً وزبداً قال: وحادثتها ما رأيت والله مثلها قط، فما أنشدتها شعراً إلا أنشدتني أحسن منه، فأعجبني المجلس والحديث، إذ أقبل فتى بين بردتين، فلما رأته رمت ببرقعها على وجهها وجلست، وأقبلت عليه بوجهها وحديثها، ودخلني من ذلك غيظ فقلت للحين: يا فتى هل لك في الصراع؟ فقال: سوأة لك إن الرجل لا يصارع ضيفه. قال: فألححت فقالت له: ما عليك لو لاعبت ابن عمك؟ فقمت وقام، فلما رمى بردتيه إذا خلق عجيب، فقلت هلكت ورب الكعبة. فقبض علي ثم احتملني إليه فصرت في صدره، ثم احتملني، فوالله ما اتقيت الأرض إلا بظهر كتدي، وجلس على صدري، فما ملكت نفس أن ضرطت ضرطة منكرة، وثرت إلى جملي، فقال: أنشدك الله، فقالت المرأة: عافاك الله إنه الظل والقرى، فقلت: أخزى الله ظلكم وقراكم. فمضيت فبينا أنا أسير إذ لحقني الفتى يجنب جنباً برحله وزمامه، ورحله من أحسن الرحال، فقال: يا هذا إنه ما سرني ما كان، وقد أراك أبدعت، أي كلت ركابك، فخذ هذا النجيب وإياك أن تخدع عنه، فقد والله أعطيت به مائتي دينار قلت: نعم آخذه، فأخبرني من أنت، ومن هذه المرأة قال: أنا توبة ابن الحمير وتلك ليلى الأخيلية، وقال الفرزدق: والله ما بي أن صرعتني ولكن كأني بابن الأتان، يعني جريراً، وقد بلغه خبري هذا فقال في يهجوني:
جلست إلى ليلى لتحظى بقربهافخانك دبر لا يزال خؤون
فلو كنت ذا حزم شددت وكاءهاكما سد خرقاء الدلاص قيون

قال فوالله ما مضى إلا أيام حتى بلغ جريراً الخبر فقال هذين البيتين.
انصرف الفرزدق من عند بعض الأمراء في غداة باردة، وأمر بجزور فنحرت ثم قسمها وأغفل امرأة من بني فقيم قسمها، فرجزت به فقال:
فيشلة هدلاء ذات شقشقمشرفة اليافوخ والمحوق
مدمجة ذات حفاف أحلقنيطت بحقوي قطم عشنق
أولجتها في سبة الفرزدق
قال أبو عبيدة: فبلغني أنه هرب فدخل في بيت حماد بن الهيثم. قم إن الفرزدق قال فيها بعد ذلك:
قتلت قتيلاً لم ير الناس مثلهأقلبه كالتومتين مسوراً
حلمت إليه طعنتي فطعنتهفغادرته بين الحشايا مكورا
ترى جرحه من بعدما قد طعنتهيفوح كمثل المسك خالط عنبرا
وما هو يوم الزحف بارز قرنهولا هو ولى يوم لاقى فأدبرا
بني دارم ما تأمرون بشاعربرود الثنايا ما يزال مزعفرا
إذا ما هو استلقى رأيت جهازهكمقطع عنق الناب أسود أحمرا
وكيف أهاجي شاعراً رمحه استهأعد ليوم الروع درعاً ومجمرا
فقالت المرأة: ألا أرى الرجال يذكرون مني هذا. فعاهدت الله ألا تقول شعراً. فسقطت.
قال أبان بن عبد الله النميري يوماً لجلسائه، وفيهم أبو نخيلة: والله لوددت أنه قيل في ما قيل في جرير بن عبد الله:
لولا جرير هلكت بجيلةنعم الفتى وبئست القبيلة
وإني أثيب على ذلك. فقال أبو نخيلة: هلم الثواب، فقد حضرني من ذلك ما تريد، فأمر له بدراهم فقال: اسمع يا طالب ما يخزيه:
لو لا أبان هلكت نميرنعم الفتى وليس فيها خير
كان عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يهاجي فروة بن خميصة الأسدي، قال عمارة: فكنت يوماً جالساً مع المأمون فإذا أنا بهاتفٍ يهتف بي من خلفي ويقول:
نجى عمارة منا أن مدتهفيها تراخ وركض السابح النقل
ولو ثقفناه أوهينا جوانحهبذابل من رماح الخط معتدل
فإن أعناقكم للسيف مجلبةوإن مالكم المرعي كالهمل
قال: وهذا الشعر لفروة بن خميصة في. قال: فدخلني من ذلك ما قد علمه الله، وما علمت أن شعر فروة وقع إلى ما هناك. ثم خرج عليّ علي بن هشام من المجلس وهو يضحك فقلت: أبا الحسن تفعل بي مثل هذا وأنا صديقك؟ فقال: ليس عليك في هذا شيء. قلت: من أين وقع لك؟ فقال: وهل بقي كتاب إلا وهو عندي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أأهجى وأنا في دارك وبحضرتك؟ فضحك، فقلت: يا أمير المؤمنين أنصفني، فقال: دع هذا وأخبرني بخبر هذا الرجل، وما كان بينك وبينه. فأنشدته قصيدتي فيه، فلما انتهيت إلى قولي:
ما في السوية إن تكر عليهموتكون يوم الروع أول صادر
اعجب المأمون هذا البيت فقال لي: ألهذه القصيدة نقيضه؟ قلت: نعم، قال: فهاتها، فقلت: أوذي سمعي بلساني؟ فقال: على ذلك، فأنشدته إياها، فلما بلغت إلى قوله:
وابن المراغة جاحر من خوفنابالوشم منزلة الذليل الصاغر
يخشى الرماح بأن تكون طليعةأو أن تحل به عقوبة قادر
قال أوجعك يا عمارة، قلت: ما أوجعته أكثر.
وقيل إن البيت من شعر عمارة كان سبب قتل فروة، ولما أنشده قال: والله لا قتلني إلا هذا البيت. فلما تكاثرت عليه الخيل يوم قتل قيل له: أنج بنفسك قال: كلا والله، لا حققت قول عمارة، فصبر حتى قتل. وكان أحسن الناس شعراً ووجهاً وقداً، لو كان امرأة لاشتجرت عليه بنو أسد، وقيل لعمارة، أقتلت فروة؟ فقال: والله ما قتلته، ولكني أقتلته، أي سببت له سبباً قتل به.
وكان عمارة يقول: ما هاجيت أحداً قط إلا كفيت مؤونته في سنة أو أقل سنة، إما أن يموت أو يقتل أو أفحمه، حتى هاجاني أبو الرديني العكلي فخنقني بالهجاء، ثم هجا بني النمير فقال:
أتوعدني لتقتلني نميرمتى قتلت نمير من هاجها
فكفانيه بنو نمير وقتلوه، فقتلت به عكل، وهم يومئذ ثلاثمائة رجل، أربعة آلاف رجل من بني النمير، وقتلت لهم شاعرين: رأس الكبش وشاعراً آخر.
وهجا عمارة امرأة ثم أتته في حاجة بعد ذلك فجعل يعتذر إليها فقالت له: خفض عليك، فلو قتل الهجاء أحداً لقتلتك وقتل أباك وجدك.
أبو الأسد في أحمد بن أبي دواد:
أنت امرؤ غث الصنيعة رثهالا تحسن النعمى إلى أمثالي
نعماك لا تعدوك إلا في امرئفي مسك مثلك من ذوي الأشكال
فإذا نظرت إلى صنيعك لم أجدأحداً سموت به إلى الافضال
فاسلم لغير سلامة ترجى لهاإلا لسدك خلة الأنذال
وقال دعبل:

أنت الحمار حروناً إن رفقت بهوإن قصدت إلى معرفة قمصا
إني هززتك لا آلوك مجتهداًلو كنت سيفاً ولكني هززت عصا
دعبل:
وضعت رجالاً فما ضرهموشرفت قوماً فلم ينبلوا
أعرابي:
لا يوقدون النار إلا بسحرويسترون النار من غير حذر
ثمت لا توقد إلا بالبعر
بعث محمد بن حميد الطائي إلى محمد بن حازم الباهلي بعد أن كان قد هجاه وشهره بألف درهم وعشرة أثواب، فردها عليه وكتب إليه:
ولقد جنحت إلى مسالمتيوأنبت عند تفاقم الأمر
وحذوت حذو ابن المهلب إذقصد الفرزدق بالندى الغمر
وبعثت بالأموال ترغبنيكلا ورب الشفع والوتر
لا ألبس النعماء من رجلألبسته عاراً مدى الدهر
وقال أعرابي لابن عم له: والله ما جفانكم بعظام، ولا أجسامكم بوسام، ولا بدت لكم قط نار، ولا طولبتم بثار.
عاب أعرابي قوماً فقال: أقل الناس ذنوباً إلى أعدائهم، وأكثرهم إجراماً إلى أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء.
بشر:
فإنكم ومدحكم بجيراًأبا لجأٍ كما امتدح الألاء
يراه الناس أخضر من بعيدوتمنعه المرارة والإباء
عبد الرحمن بن حسان
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتيتولى سواكم شكرها واصطناعها
أبى لك فعل الخير رأي مقصرونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرةًعصاها وإن همت بسوء أطاعها
ابن وكيع:
لئن نلت ما أملت منك فسرنيلقد ساءني أن صرت ممن يومل
آخر:
شنئتكم حتى كأنكم الغدروعفتكم حتى كأنكم الهجرُ
وما زلت أرشو الدهر صبراً على التيتسوء إلى أن سرني فيكم الدهر
ولولا وقفة للبين فيهامتاع من وداعٍ واعتناق
وآمال مسوفة لقلناكأنك قد خلقت من الفراق
وذم أعرابي رجلاً فقال: ليس له أول يحمل عليه، ولا آخر يرجع إليه، ولا عقل يزكو له عاقل لديه.
قال عصام الزماني في يحيى بن أبي حفصة يهجوه:
تنكر بطن حجر واقشعراوبدل بعد حلو العيش مرا
وبدل بعد سادته المواليكفى حجراً بذاك اليوم شرا
فقال يحيى بن أبي حفصة يرد عليه:
أإن ابصرت أنجمنا استنارتوغال النجم لؤمك فاستسرا
بكيت على الزمان وقلت مروما زال الزمان عليك مرا
فما فعلت بنو زمان خيراًوما فعلت بنو زمان شرا
وما خلقت بنو زمان إلاأخيراً بعد خلق الناس طرا
حدث أحمد بن عبد الله المعروف بصيني، راوية أم كلثوم بن عمرو العتابي، وكان سميراً لعبد الله بن طاهر قال: بينا أنا معه ذات ليلة إذ تذاكرنا الأدب وأهله وشعراء الجاهلية والإسلام، إلى أن صرنا إلى المحدثين، ثم ذكرنا دعبل بن علي الشاعر الخزاعي فقال لي عبد الله. ويحك يا صيني إني أريد أن أوعز إليك.بشيء تستره علي حياتي، فقلت: أصلح الله الأمير، وأنا عندك في موضع تهمة؟ قال: لا ولكن أطيب لنفسي أن توثق بأيمانٍ أركن إليها ويسكن قلبي عندها، فأخبرك، فقلت: أصلح الله الأمير، إذا كنت عنده في هذه الحال فلا حاجة له إلى إفشاء سره إلي، فاستعفيته مراراً فلم يعفني، فاستحييت من مراجعته وقلت: ليرَ الأمير رأيه، قال: يا صيني قل: والله، فأمرها علي غموساً ووكدها بالبيعة والطلاق، ثم قال لي: ويحك أشعرت أني أظن أن دعبلاً مدخول النسب، وامسك، فقلت: أعز الله الأمير، أفي هذا أخذت علي الأيمان والعهود والمواثيق؟ قال:أي والله لأني رجل في نفسي حاجة، ودعبل رجل قد حمل على خذعه على عنقه، فهو لا يصيب من يصلبه عليه، وأتخوف إن بلغه أن يبقي علي من الخزي ما يبقي على الدهر، وقصاراي أني إن ظفرت به وأمكنني ذلك منه وأسلمته اليمن، وما أراها تسلمه، لأنه اليوم لسانها وشاعرها والذاب عن أعراضها والمحامي عنها والمرامي دونها، أن أضربه مائة سوط، وأثقله حديداً، وأصيره في مطبق باب الشام، وليس في ذلك عوض مما سار في من الهجاء وفي عقبي من بعدي، قال، قلت: أتراه كان يفعل ويقدم عليك؟ قال: يا عاجز أهون عليه مما لم يكن، أتراه أقدم على سيدي هارون ومولاي المأمون وعلى أبي رحمه الله ولم يكن يقدم علي؟ قال، قلت: إذا كان الأمر على ما وصفه الأمير فقد وفق فيما أخذه علي.

قال: وكان دعبل لي صديقاً، فقلت: هذا قد عرفته، ولكن من أين قال الأمير إنه مدخول النسب؟ فوالله لعلمته في البيت الرفيع من خزاعة، وما أعلم فيها بيتاً أكرم من بيته إلا بيت أهبان مكلم الذئب، وهن بنو دنيةً، فقال: كان دعبل غلاماً خاملاً أيام ترعرع لا يؤبه له، وكان بينه وبين مسلم بن الوليد الأنصاري إزار لا يملكان غيره شيئاً، فإذا أراد دعبل الخروج جلس مسلم في البيت، وكذاك يفعل الآخر إذا خرج رفيقه، وكانا إذا اجتمعا لدعوة يتلازقان، يطرح هذا شيئاً منه عليه، والآخر مثله، وكانا يعبثان بالشعر إلى أن قال دعبل بن علي هذا الشعر.
أين الشباب وأية سلكا
فثقفه بعض المغنين فغنى به هارون الرشيد فاستحسنه واستجاد قوله:
ضحك المشيب برأسه فبكى
فقال للمغني: لمن هذا الشعر ويحك؟ قال: لبعض أحداث خزاعة ممن لا يؤبه له. قال هارون: ومن هو؟ قال: دعبل بن علي الخزاعي. قال: يا غلام أحضرني عشرة آلاف درهم، وحللاً مما ألبسها أنا، ومركباً من مراكبي خاصة يشبه هذا. ودعا صاحباً له وقال: اذهب بهذا حتى توصله إلى دعبل بن علي الخزاعي، وأجاز المغني بجائزة عظيمة، وتقدم إلى الرجل الذي بعثه إلى دعبل أن يعرض عليه المصير إلى هارون فإن صار وإلا أعفاه، فانطلق الرسول حتى أتى دعبلاً في منزله، وخبره كيف كان سبب ذكره، وأشار عليه بالمصير إليه، فانطلق معه، فلما مثل بين يدي هارون قربه واستنشده الشعر وأعجب به، فأقام عنده يمتدحه ويجري عليه الرشيد الإجراء السني، فكان الرشيد أول من جرأه على قول الشعر وبعثه عليه، فوالله ما كان إلا بقدر ما غيب الرشيد في حفرته إذ أنشأ يمتدح آل علي ويهجو الرشيد بقصيدة يقول فيها:
وليس حي من الأحياء نعلمهمن ذي يمانٍ ولا بكر ولا مضر
إلا وهم شركاء في مائهمكما تشارك أيسار على جزر
قتل وأسر ومنهبةفعل الغزاة بأرض الروم والخزر
أرى أمية معذورين إن قتلواولا أرى لبني العباس من عذر
أبناء حرب ومروان وأسرتهمبنو معيط ولاة الحقد والوغر
قوم قتلتم على الإسلام أولهمحتى إذا استمكنوا جازوا على الكفر
أربع بطوس على القبر الزكي بهاإن كنت تربع من دينٍ على وطر
قبران في طوس خير الناس كلهموقبر شرهم هذا من العبر
ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولاعلى الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرئ رهن بما اكتسبله يداه فخذ ما شئت أو فذر
يعني قبر هارون وعلي بن موسى الرضا. فوالله ما كافأه، وكان سبب نعمته بعد الله. فهذه واحدة يا صيني.
وأما الثانية فإنه لما استخلف المأمون جعل يطلب دعبلاً إلى أن كان من أمر إبراهيم بن شكلة ما كان، وخروجه مع أهل العراق يطلب الخلافة، فأرسل إليه دعبل بشعر يقول فيه:
علم وتحليم وشيب مفارقطلسن ريعان الشباب الرائق
وإمارة في دولة ميمونةكانت على اللذات أشغب عائق
فالآن لا أغدو ولست برائحفي كبر معشوق وذلة عاشق
أنى يكون وليس ذاك بكائنيرث الخلافة فاسق عن فاسق
نعر ابن شكلة بالعراق وأهلهافهفا إليه كل أطلس مائق
إن كان إبراهيم مضطلعاً بهافلتصلحن من بعده لمخارق
قال: فضحك المأمون وقال: قد غفرنا لدعبل كل هجاء هجانا به بهذا البيت، وكتب له إلى طاهر أبي أن يطلب دعبلاً حيث كان ويعطيه الأمان. قال: فكتب أبي إليه فتحمل إليه، وكان واثقاً بناحيته، وأقرأه كتاب المأمون، وأجازه بالكثير، وحمله إلى المأمون، وثبت المأمون في الخلافة، وأقبل يجمع الآثار في فضائل آل الرسول، قال: فتناهى إليه تناهى من فضائلهم قول دعبل:
مدارس آيات خلت من تلاوةومنزل وحي مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منىًوبالركن والتعريف والجمرات
قال: فما زالت تتردد في صدر المأمون حتى قدم عليه دعبل، فقال له: أنشدني ولا بأس عليك، ولك الأمان من كل شيء فيها، فإني أعرفها وقد رويتها إلا أني أحب أن أسمعها من فيك، قال: فأنشده حتى إذا صار إلى هذا الموضع:
ألم تر أني مذ ثلاثون حجةًأروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسماًوأيديهم من فيئهم صفرات
فآل رسول الله نحف جسومهموآل زياد غلظ القصرات
بنات زياد في الخدور مصونةوبيت رسول الله في الفلوات

إذا وتروا مدوا إلى واتريهمأكفاً عن الأوتار منقبضات
فلو لا الذي أرجوه في اليوم أو غدتقطع قلبي إثرهم حسرات
قال: فبكى المأمون حتى جرت دموعه على نحره، وكان أول داخل إليه وآخر خارج من عنده.
فوالله إن شعرنا بشيء إلا وقد عتب على المأمون فأرسل إليه بشعر يقول فيه:
ويسومني المأمون خطة عاجزأو ما رأى بالأمس راس محمد
يوفي على هام الخلائق مثل ماتوفي الجبال على رؤوس القردد
لا تحسبن جهلي كحلم أبي فماحلم المشايخ مثل جهل الأمرد
إني من القوم الذي سيوفهمقتلت أخاك وشرفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خمولهواستنقذوك من الحضيض الأوهد
قال: فوالله ما كافأه وما كافأ أبي بما أسدى إليه، وذلك أنه لما توفي أبي أنشأ يقول:
وأبقى طاهر فينا خلالاًعجائب تستخف لها الحلوم
ثلاثة إخوة لأب وأمتمايز عن ثلاثته أروم
فبعضهم يقول قريش قوميويدفعه الموالي والصميم
وبعض في خزاعة منتماهولاء غير مجهول قديم
وبعضهم يهش لآل كسرىويزعم أنه علج لئيم
لقد كثرت مناسبهم عليناوكلهم على حال مليم
قال: فهذه الثالثة يا صيني.
وأما الرابعة فإنه لما استخلف المعتصم دخل إليه دعبل ذات يوم فأنشده فقال: أحسنت والله يا دعبل، فسلني ما أحببت. قال: مائة بدرة قال: نعم، تمهلني مائة سنة وتضمن لي أجلي معها. قال: قد أمهلتك ما شئت، وخرج مغضباً فلقي خصياً للمعتصم قد كان عوده أن يدخل عليه مدائحه ويجعل له شيئاً من الجائزة فقال: ويحك إني كنت عند أمير المؤمنين وأغفلت حاجة لي أن أذكرها له، أفأذكرها في أبيات وتدخلها إليه؟ قال: ولي نصف الجائزة؟ فماكسه ساعة ثم أجابه فأخذ رقعة وكتب فيها:
بغداد دار الملوك كانتحتى دهاها الذي دهاها
ما غاب عنها سرور ملكأعاره بلده سواها
ما سر من را بسر من رابل هي بؤس لمن رآها
عجل ربي لها خراباًبرغم أنف الذي ابتناها
ثم ختم ودفعها على الخصي فلما نظر فيها المعتصم قال: من صاحب الرقعة؟ قال: دعبل وقد جعل لي نصف الجائزة، فطلب فكأن الأرض انطوت عليه. فقال للمعتصم: أخرجوا الخصي فأجيزوه بألف سوط نصف ما أردنا أن نجيز به دعبلاً، ثم لم يلبث أن كتب إليه من قم:
ملوك بني العباس في الكتب سبعةولم يأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعةغداة ثووا فيه وثامنهم كلب
وإني لأزهي كلبهم عنك رغبةلأنك ذو ذنب وليس له ذنب
وهمك تركي عليه سماجةفأنت له أم وأنت له أب
كأنك إذ ملكتنا لشقائناعجوز عليها التاج والعقد والإتب
فقد ضاع أمر الناس حين يسوسهموصيف وأشناس وقد عظم الخطب
وإني لأرجو أن ترى من مغيبهامطالع شمس قد يغص بها الشرب
وإن ابن مروان سيثلم ثلمةًتعم جميع الناس ليس لها شعب
فهذه رابعة. وأما الخامسة فإن أحمد بن أبي دواد كان يعطيه الجزيل من ماله ويقسم له على أهل عمله فقال فيه:
أبا عبد الإله أصخ لقوليوبعض القول يصحبه السداد
ترى طسماً تعود به اللياليإلى الدنيا كما عادت إياد
قبائل جذ أصلهم فبادواوأودى ذكرهم زمناً فعادوا
وكانوا غرزوا في الصخر بيضاًفأمسكه كم غرز الجراد
فلما أن سقوا درجوا ودبواوزادوا حين جادهم العهاد
هم بيض الرماد انشق عنهموبعض البيض يشبهه الرماد
غداً يأتيك إخوتهم جديسوجرهم قصر وتعود عاد
فتعجز عنهم الأمصار ضيقاًوتمتلئ المنازل والبلاد
فلم أر مثلهم بادوا فعادواولم أر مثلهم قلوا فزادوا
توغل فيهم سفل وخوز ... وأوباش فهم لهم مداد
وأنباط السواد قد استحالوا ... بهم عرباً فقد خرب السود
فلو شاء الإمام أقام سوقاً ... فباعهم كما بيع السماد
وقال في ابن أبي دواد لما تزوج في عجل:
أيا للناس من خبر طريف ... تفرق ذكره في الخافقين
أعجل أنكحوا ابن أبي دواد ... ولم يتأملوا فيه اثنين
أرادوا نقد عاجله فباعوا ... رخيصاً عاجلاً نقداً بدين
بضاعة خاسر بارت عليه ... فباعك النواة التمرتين

ولو غلطوا بواحدة لقلنا ... يكون الوهم بين العاقلين
ولكن شفع واحدة بأخرى ... يدل على فساد المنصبين
لحا الله المعاش بفرج أنثى ... ولو زوجتها من ذي رعين
ولما أن أفاد طريف مال ... وأصبح رافلاً في الحلتين
تكنى وانتمى لأبي دوادٍ ... وقد كان اسمه ابن الزانيين
فردوه إلى فرج أبيه ... وزرياب فألأم والدين
وقال في أخيه رزين:
مهدت له ودي صغيراً ونصرتي ... وقاسمته مالي وبوأته حجري
وقد كان يكفيه من العيش كله ... رجاء ويأس يرجعان إلى فقر
وفيك عيوب ليس يحصي عديدها ... فأصغرها عيباً يجل عن الكفر
ولو انني أبديت للناس بعضها ... لأصبحت من بصق الأحبة في بحر
فدونك عرضي فاهج حياً فإن أمت ... فبالله إلا ما خريت على قبري
وقال في امرأته:
يا ركبتي خزز وساق نعامةٍ ... وزبيل كناس وشدق بعير
يا من أشبهها بحمى نافض ... قطاعة للقلب ذات زفير
صدغاك قد شمطا ونحرك يابس ... والصدر منك كجؤجؤ الطنبور
يا من معانقها يبيت كأنه ... في محبس قمل وفي ساجور
قبلتها فوجدت طعم لثاتها ... فوق اللسان كلسعة الزنبور
قال رجل لأخيه من أبويه: والله لأهجونك هجاء يدخل معك قبرك. قال: كيف تهجوني وأبي أبوك وأمي أمك؟ فقال:
غلام أتاه اللؤم من شطر نفسه ... ولم يأته من شطر أم ولا أب
فقال: قتلتني قتلك الله.
ومثله للمغيرة بن حبناء يهجو أخاه صخراً:
أبوك أبي وأنت أخي ولكن ... تباينت الطبائع والظروف
وأمك حين تنسب أم صدق ... ولكن ابنها طبع سخيف
وقال أبو تمام:
سمعت بكل داهية نآد ... ولم أسمع بسراج أديب
أما لو أن جهلك كان علماً ... إذن لنفذت في علم الغيوب
وما لك بالغريب يد ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
وقال أيضاً:
وملك في كبره ونبله ... وسوقة في قوله وفعله
بذلت مدحي فيه باغي بذله ... فجذ حبل أملي من أصله
من بعد ما استعبدني بمطله ... ثم اغتدى معتذراً بجهله
يعجب من تعجبي من بخله ... يلحظني في جده وهزله
لحظ الأسير حلقات كبله ... حتى كأني جئته بعزله
يا واحداً منفرداً بعدلهألبسته الغنى فلا تمله
ما أقبح الجفن بغير نصلهوالشعر ما لم يك عند أهله
وكان أبو تمام والبحتري معاً، مع تقدمهما في الشعر وضروبه، ناقصي الحظ من الهجاء، ولا طائل لهما فيه. إلا أن ابن الرومي كان فيه غاية بل آية، زاد على من تقدمه بالتصرف في فنونه، والغوص على دقيق معان استنبطها لم يسبق إليها، ونهج السبيل لمن تبعه. وأنا جامع ها هنا جملة من أهاجيه متتابعةً.
فمن ذلك قوله:
صبراً أبا الصقر فكم طائرخر صريعاً بعد تحليق
زوجت نعمى لم تكن كفؤهافصانها الله بتطليق
لا قدست نعمى تسربلتهاكم حجة فيها لزنديق
وروي أنه اقتدح زناد هذا المعنى من رجل اجتاز به وهو يقول: لو كان ها هنا عدل في العطية، وقسم بالسوية، ما ملك أبو الصقر ما يملك.
وقال أيضاً:
وما تكلمت إلا قلت فاحشةًكأن فكيك للأعراض مقراض
مهما نطقت فنبل منك مرسلةوفوك قوسك والأعراض أغراض
إن مت عاش من الأعراض ميتهاوإن حييت فما للناس أعراض
وقال أيضاً:
نحن دم وأنت أقرن والل ... ه حسيب القرناء للجماء
لو علمت الخفي من كل علمجامعاً بينه وبين البغاء
أعجب الناس ما وعيت وقالواعسل طيب خبيث الوعاء
وقال:
إن كنت من جهل غير معتذروكنت من رد مدحي غير متئب
فأعطني ثمن الطرس الذي كتبتفيه القصيدة أو كفاره الكذب
وقال:
رأيتكم تستعدون السلاح ولاتقاتلون ولا يحمى لكم سلب
كالنخل يشرع شوكاً لا يذود بهعن حمله كف جان فهو منتهب
وقال من أبيات:

هل سبة يا أبا العباس نعلمهاإلا وأنت بها في الناس مسبوب
سميت أحمد مظلوماً ولست بهكلا ولكن من الأسماء مقلوب
وقال:
عجبت من معشر بعقوتناباتوا نبيطاً فأصبحوا عربا
مثل أبي الصقر إن فيه وفيدعواه شيبان آيةً عجبا
بيناه علجاً على جبلتهإذ مسه الكيمياء فانقلبا
يسترق السمع على قرنه الش ... شيطان في جو السموات
وقال:
إذا ما مدحت أبا صالحٍفأعدد له الشتم قبل المديح
فإني ضمينك عن لؤمهببخل عتيد وفعل قبيح
وأنى يجود ولا عرقهكريم ولا وجهه بالصبيح
وقال:
رددت علي مدحي بعد مطلوقد دنست ملبسه الجديدا
وقلت امدح به من شئت غيريومن ذا يقبل المدح الرديدا
ولا سيما وقد أعبقت فيهمخازيك اللواتي لن تبيدا
وما للحي في أكفان ميتلبوس بعد ما ملئت صديدا
وقال:
أصبح ذا والد وذا ولدمن بعد ما كان بيضة البلد
لما ادعى والداً فجاز لهتطلعت نفسه إلى ولد
وقال:
أثني عليك بمثل ريحك ميتاًوقد انصدعت وأنت منبوش الصدا
ولما صداك يسيل منه صديدهيوماً بأنتن منك حياً يجتدى
أسلمت نفسك للهجاء ولو غداأو راح يملك فديةً منك افتدى
وقال:
أشرجت قبلك من بغضي على حنقأضر من حرقات الحب في الجسد
عرضت حتى صرت لي غرضاقد يقدم العير من ذعر على الأسد
وقال أيضاً:
فقدتك يا ابن أبي طاهروأطعمت ثكلك قبل العشاء
فلا برد شعرك برد الشرابولا حر شعرك حر الصلاء
تذبذب فنك بين الفنونفلا للطبيخ ولا للشواء
وقال أيضاً:
ولعمري إن تأملناهمما علوا لكن طفوا مثل الجيف
جيف تطفو على بحر الغنىحين لا تطفوا خبيئات الصدف
وقال أيضاً:
يا من يقلب طوماراً ويلثمهماذا بقلبك من حب الطوامير
فيه مشابه من شيء تسر بهطولاً بطول وتدويراً بتدوير
وقال أيضاً:
ترى العمل الجسيم إذا تولىسياسته كعبد يستبيح
فإن هو بيع من أمم عليهوإلا فالإباق له شفيع
وقال في مغن:
وتغني كأن صوتك في أن ... فك صوت الزنبور في جوف كوز
وقال يهجو أبا سليمان الطنبوري:
كأنني طول ما أشاهدهأشرب كأسي ممزوجة بدم
إذا الندامى دعوه آونةًتنادموا كأسهم على ندم
وله يهجو قينة:
خضراء كالعقرب في صفرةنمشاء كالحية في رقطه
في الصوت منها أبداً بحةتوهمني أن بها خبطه
قميئة الخلق على أنهاأعتق في الدنيا من الحنطة
إذا رأت فيشلةً صخمةخرت لها قائلة حطه
وقال أيضاً:
فقدتك يا كنيزة كل فقدوذقت الموت أول من يموت
فقد أوتيت رحب قم وفرجكأنك من كلا طرفيك حوت
سأقترح عليك جهديفأحسن ما تغنين السكوت
وقال أيضا:
ريحها وهي حية ريح ميتٍبات في القبر ثم أبداه نبش
وتراها تستكتم الطيب والمر ... تك أسرار نتنها وهي تفشو
وجهها الأغبر المجدر يحكيجعس أمس أصاب أعلاه طش
جدري ما شانها وهو شينكل إثر في ذلك الوجه نقش
كل شيء محا حلاها فزينكل شيء وارى التراب ففرش
تتناغى وعودها بنهيقكنهيق الحمار ناغاه جحش
قلت مستهزئاً بها إذ تبدتأنت بلقيس لو أحاطك عرش
لا يعد الرشا لها نائكوهاهي أول بأن تناك وترشو
وقال أيضاً:
للحكل والغمرة في وجهها والجلجلونات شهادات زور
أعضاؤها تدعو إلى قطعهاكأنها مخلوقة من بظور
وقال أيضاً:
لقبها معشر مغنيةكعقرب الحش لقبت تمره
تجذر فلساً على الغناء ولاتسكت إلا وجذرها بدره
تنقط المحسنات في غرر ال ... أوجه طراً وأنت في النقره
وقال:
إن تطل لحية عليك وتعرضفالمخالي معروفة للحمير
علق الله في عذراك مخلا ... ة ولكنها بغير شعير
أيما كوسج يراها فيلقىربه بعدها صحيح الضمير
لو رأى مثلها النبي لأجرىفي لحى الناس سنة التقصير
وقال من أبيات:
لو جاء يحكي لون كل أب له لرأيت جلدته كيمنة عبقر
خذها إليك مشيحةً سيارةً تلقاك من بادٍ ومن متحضر
تغدو عليك بحاصب وبتارب وعلى الرواة بلؤلؤ متخير
كالنار تحرق من تعرض لفحها وتكون مرتفق امرئ متنور
وقال:

إذا ما جزى الأقوام خيراً فبئس ما جزيتم به أسلافكم آل طاهر
جنوا لكم أن تمدحوا وجنيتم بأفعالكم أن تشتموا في المقابر
وقال:
كان للكركدن قرن فأضحى قرنه عند قرنك اليوم مدرى
من يكن تاجه كتاجك هذا فليكن بابه كإيوان كسرى
وقال:
يا من إذا ما رأته عين والده بين الرجال اتقاهم بالمعاذير
أقسمت بالله أن لو كنت لي ولداً لما جعلتك إلا في المطامير
وقال:
عشقنا قفا عمرو وإن كان وجهه يذكرنا قبح الخيانة والغدر
فتى وجهه كالهجر لا وصل بعده وأما قفاه فهو وصل بلا هجر
وقال:
أتيتك مادحاً فهجوت شعري وكانت هفوة مني وغلطه
لقد أذكرتني مثلاً قديماً جزاء مقبل الوجعاء ضرطه
وقال:
وإن سكوتها عندي لبشرى وإن غناءها عندي لمعنى
فقرطها بعقرب شهرزور إذا غنت وطوقها بأفعى
وقال:
قاسيت منه ليلةً مذكورةً لولا دفاع الله لم تتكشف
وكأن ليلته علي لطولها باتت تمخض عن صباح الموقف
وقال:
يا أحمد بن سعيد لا تمت جزعاً فالحب طعمان ممرور ومعسول
نبئت أن محباً بات كعثبها زيداً بحكم النحو مفعول
غنت نهاراً وباتت زامرةٌ حتى الصباح وللأحوال تحويل
يا أحمد بن سعيد لو بصرت بها وصدعها لأيور القوم منديل
غدا عليها بنو اللذات فابتذلوا من سول نفسك ما صان السراويل
هون عليك فإن الأمر وافقها وكان منها اعتناق فيه تقبيل
إحدى المصائب فاصبر يا ابن أم لها وهل على حدثان الدهر تعويل
تساكرت كي يقول القائلون لها لا يسلب المرء إلا وهو مقتول
واعلم جزيت أبا العباس عارفةً أن المحب له تاج وإكليل
صبراً جميلاً فإن الصب مصطبر على القرون وإن أودي بها الطول
ولا تكلف فتىً أودى بعذرتها عقلاً فإن دم الاستاه مطلول
ولا تغاضب لتسفيل القريض لها فكل ما لقيت بالأمس تسفيل
لا تمتعض للتي قالت قوابلها قد التقت دجلة العوراء والنيل
وقال:
قال لما اشترى غلاماً كفاه كثرة الغرم واكتراء الرجال
صنت مالي عن الفساد بمالي حان لي أن أصون مالي بمالي
كان يستدخل الأيور حراماً فاستعف الفتى بأير حلال
وقال:
ذات فرج هو استها طائري شائع الذرع ليس بالمقسوم
ينظم الأكمة القلائد فيه ويرى الذر في الظلام البهيم
يسع السبعة الأقاليم طراً وهو في إصبعين من إقليم
كضمير الفؤاد يلتهم الدن ... يا وتحويه دفتا حيزوم
وهي قصيدة طويلة أكثرها مختار، وفيها مبالغات تحرجت في إيرادها.
وقال:
أضحى وزيراً أبو يعلى وحق له بعد المحاجم والمشراط والجلم
قد قال قوم وغاظتهم كتابته يا رب ليتك ما علمت بالقلم
وقال:
تبحثت عن أخباره فكأنما نبشت صداه بعد ثالثة الدفن
وقال ولم أجدها في مجموع شعره:
قبلك والدبر مذ بذلتهما تكفلا أن تعيش في رغد
وسعت هذا فعشت في سعةٍ وقام هذا فقام بالأود
وقال ابن بسام:
قلت لما رأيته في قصور مشرفات ونعمة لا تعاب
رب ما أبين التفاوت فيه منزل عامر وعقل خراب
وقال ابن لنكك البصري يهجو أبا رياش اليمامي وقد ولي عملاً:
قل للوضيع أبي رياش لا تبل ته كل تيهك بالولاية والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسة كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
وقال آخر:
وليتم فما أوليتهم الناس طائلاً ولا حزتم شكراً ولا صنتم حراً
فإن تفقدوا لا يؤلم الناس فقدكم وإن تذكروا لا يحسنوا لكم ذكرا
وقال محمد بن عبد الله الأصفهاني المنشئ:
قل للخصيبي قول من صدقه لا تفرحن بالوزارة الخلقه
إن كنت قد نلتها مفاجأة فهي على الكلب بعدها صدقه
ولآخر فيه:
ليهن الخصيبي أن الوزار ... ة بعد الخصيبي لا تعترض
ولو قيل للكلب من بعده بأن ستليها أبى وامتعض
وقال آخر:
أب دلف يا أكذب الناس كلهم سواي فإني في مديحك أكذب
وقال آخر:
إني امتدحتك كاذباً فأثبتني لما امتدحتك ما يثاب الكاذب
وقال الجهرمي:
مشى بغلامين عبد السلام يقيمان ما مال من جانبيه
وهل ينكرون لذي نعمة غلام له وغلام عليه

وقال كشاجم:
ومغن بارد النغ ... مة مختل اليدين
ما رآه أحد في دار قوم مرتين
وقال في خادم يسمى كافوراً:
حكيت سميك في برده وأخطأك اللون والرائحة
ابن لنكك في الرملي الشاعر:
إن الرميلي بعيد خاطره يشعر ما دامت له دفاتره
فالشعراء كلهم خواطره
وقال مخلد الموصلي:
أراكم تنظرون إلي شزراً كما نظرت إلى الشيب الملاح
تحدون الحداق إلي مقتاً كأني في عيونكم السماح
قال أبو العتاهية لابنه: يا بني إن لا تصلح لمشاهدة الملوك، قال: لم يا أبه؟ قال: لأنك حار النسيم، بارد المشاهدة، ثقيل الظل.
وقال آخر: أنت والله ثقيل الظل، مظلم الهواء، جامد النسيم.
قال أبو نواس:
إذا ما تنادوا للرحيل سعى بهم أمامهم الحولي من ولد الذر
زياد الأعجم:
إني لأكرم نفسي أن أكلفها هجاء جرم وما يهجوهم أحد
ماذا يقول لهم من كان هاجيهم ما يبلغ الناس ما فيهم ولو جهدوا
وله:
لو أن بكراً براه الله راحلة لكان يشكر منها موضع الذنب
ليسوا إليه ولكن يعلقون به كما تعلق راقي النخل بالكرب
آخر:
لو سابق الذر مشدوداً قوائمه يوم الرهان لكان الذر يسبقه
آخر:
قد ذممنا العبيد حتى إذا نح ... ن بلونا المولى حمدنا العبيدا
المساور بن هند:
شقيت بنو أسدٍ بشعر مساور إن الشقي بكل حبل يخنق
وصف رجل قوماً بالعي فقال: منهم من ينقطع كلامه قبل أن يصل إلى لسانه، ومنهم من لا يبلغ كلامه أذن جليسه، ومنهم من يقتسر الآذان فيحملها إلى الأذهان شراً طويلاً.
ذكر رجل امرأته فقال: مجفرة منكرة، منتفخة الوريد، كلامها وعيد، وبصرها حديد، وخيرها بعيد، وشرها شديد، سفعاء فوهاء، قليلةُ الإرعاء، كثيرة البكاء، سريعة الوثبة، حديدة الركبة، سمعمع سلفع، لا تروى ولا تشبع، مئناث كأنها بغاث، لا فوها بارد، ولا بطنها والد، ولا شعرها وارد، ولا عيبها واحد، ولا أنا إن ماتت عليها واجد. فقيل لها ما تقولين؟ أما تسمعين؟ فقالت لعنه الله مذكوراً قضمة خضمة، ضيق الصدر، قليل الصبر، لئيم النجر، كثير الفخر، عظيم الكبر.
أعرابي:
ومجلس ليس بشاف للقرم ولا بمعروف بأخلاق الكرم
ليس بمنسوب إلى الفرع الأشم جالسته من عوزٍ ومن عدم
فازددت منه سقماً على سقم
ابن المعتز:
بأنتن من هدهد ميتٍ أصيب فكفن في جورب
آخر:
يزداد لؤماً على المديحِ كما يزداد نتن الكلاب في المطر
أبو الفرج الأصفهاني:
كأنه التيس قد أودى به هرم فلا للحمِ ولا عسب ولا ثمن
أبو علي ابن عبدوس الرازي:
هم الكشوت فلا أصل ولا ورق ولا نسيم ولا ظل ولا زهر
سئل ابن عباس عن رجل فقال: هو فصل لا حر ولا برد، وهو عوسجة لا ظل ولا ثمر.
وقال آخر: هو كالسمرة التي قل ورقها وكثر شوكها، وصعب مرتقاها، لا كالكرمة التي حسن روقها، وطاب ثمرها، وسهل مجتناها. لا يؤمن خباله، ولا يرجى نواله، حديثه غث وسلاحه رث، عيال في الجدب، عدو في الخصب، قليل الخير، جم الضير.
شاعر:
ليس له ما خلا اسمه نسب كأنه آدم أبو البشر
آخر:
يقول سهل والدي صاعد فقل لسهل من أبو صاعد
للناس آباء وما ينتهي سهل إلى أكثر من واحد
ابن أبي عيينة في أخوين:
داود محمود وأنت مذمم عجباً لذاك وأنتما من عود
فلرب عود قد يشق لمسجد نصف وسائره لحش يهود
وقال الرضي:
وغافلين عن العلياء قائدهم في كل غي فتي العقل مكتهل
سنوا الخضاب حذارا أن نطالبهم بحكمة الشيب أو يقصيهم الغزل
عارين إلا من الفحشاء يسترهم ثوب الخمول وتنبو عنهم الحلل
قوم بأسماعهم عن منطقي صمم وفي لواحظهم عن منظري قبلُ
وقال أيضاً: كسبته الورق البيض أباً ولقد كان وما يدعى لأبْ وقال:
يقدم أعجاز النساء رجالكم إذا قدمت قومي صدور الذوابلِ
وقال:
يلوم وقد ألامُ وشر شيء إذا لاقاك لوم من مليمِ
وقال أبو قيس التميمي، وهو نهرواني الأصل والمولد:
نزلت على أبي عمرو فحيا وهيأ عنده فرش المقيلِ
وقال علي بالطباخ حتى يزيد من البوارد والبقول
فغداني برائحة الأماني وعشاني بميعاد جميل

وقال أبو القاسم الضرير ويروى لدعبل:
لا تحمدن حسناً في الجدود إن مطرتْ كفاه جزلاً ولا تذممه إن رزما
فليس يبخل إشفاقاً على جدةٍ ولا يجود لفضل الجود مغتنما
لكنها خطرات من وساوسه يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما
وقال آخر:
وشرك حاضر في لك يومٍ وخيرك رمية من غير رامِ
وقال أبو الفرج ابن هند في مجد الدولة أبي طالب بن بويه:
لنا ملك ما فيه للملك آلةٌ سوى أنه يوم السلام يتوجُ
أقيم لإصلاح الورى وهو فاسدٌ وكيف استواء الظل والعود أعوجُ
كتب أبو العيناء إلى عيسى بن فرخانشاه: أنا أحمد الله تعالى على ما تأدت إليه أحوالك، ولئن كانت أخطأت فيك النعمة، لقد أصابت فيك النقمة، ولئن أبدت الأيام مقابحها بالإقبال عليك لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك.
كتب رجل إلى ابن سيابة يسأله عن رجل فكتب في الجواب: هو والله غث في دينه، قذر في دنياه، رث في مروءته، سمج في هيئته، منقطع إلى نفسه، راضٍ عن عقله، بخيل بما وسع الله تعالى عليه من رزقه، كتوم لما آتاه الله من فضله، حلاف مهين لجوج، لا ينصف إلا صاغراً، ولا يعدل إلا راغماً، ولا يرفع نفسه عن منزلة إلا ذل بعد تعززه فيها.
ذم أعرابي رجلاً فقال: أنت والله ممن إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوف، وإذا حدث حلف، وإذا وعد أخلف، تنظر نظر حسود، وتعرض إعراض حقود.
تذام قوم من العرب فقال أحدهم للآخر: هو الله خبيث الزاد، لاصق الزناد، قصير العماد، تباع للأزواد.
وقال الآخر: هو والله مناع للموجود، سآل عن المفقود، بكاء على المعهود، فناؤه واسع، وضيفه جائع، وشره شائع، وسره ذائع.
وقال لآخر: هو زري المنظر، سيئ المخبر، لئيم المكسر، يهلع إذا أعسر، ويبخل إذا أيسر، ويكذب إذا أخبر، إن عاهد غدر، وإن اؤتمن ختر، وإن قال أهجر وإن وعد أخلف، وإن سأل ألحف . يرى البخل حزماً، والسفاه حتماً، والمرزئة كلماً.
ذكر أعرابي رجلاً بقلة الحياء فقال: لو رضي الله عنه بوجهه الحجارة لرضها، ولو خلا بالكعبة لسرقها.
شاعر:
شربت مدامةً وسقيت خلاً لقد جاوزت في الفعل اللئاما
نبيذاً كان للممقور دهراً تفتت منه أكباد الندامى
فشبهناه وجهك فهو وجه عبوس قمطرير لن يراما
قال الحجاج لجرير والفرزدق: إيتياني في لباس آبائكما في الجاهلية، فلبس الفرزدق الديباج والخز، وقعد في قبة. وشاور جرير دهاة بني يربوع فقالوا: ما لباس آبائنا إلا الحديد، فلبس جرير درعاً، وتقلد سيفاً، وأخذ رمحاً، وركب فرساً لعباد بن الحصين، وأقبل في أربعين فارساً من بني يربوع. وجاء الفرزدق في هيأته فقال جرير:
لبست سلاحي والفرزدق لعبةٌ عليه وشاحاً كرج وجلاجلهْ
أعدوا مع الحلي الملاب فإنما جرير لكم بعل وأنتم حلائلهْ
فقال الفرزدق:
عجبت لراعي الضأن في حطميةٍ وفي الدرع عبد قد أصيبت مقاتلهْ
وما ألبسوه الدرع حتى تزيلتْ من الخزي دون الجلد منه مفاصلهْ
علي بن الجهم في أبي أحمد بن الرشيد:؟؟؟
يا أبا حمد لا ين ... جي من الشعر الفرارُ
لبني العباس أحلا ... مٌ عظامٌ ووقارُ
ولهم في الحرب إقدامٌ ورأيٌ واصطبارُ
ولهم ألسنةٌ تب ... ري كما تبري الشفارُ
ووجوهٌ كنجوم ال ... ليل تهدِي من يحارُ
ونسيم كنسيم الرْ ... روض جادته القطارُ
ولعطفيك عن المج ... د شماسٌ وازورار
إن تكن منهم بلا شك ... كٍ فللعود قتارُ
المساور بن هند العبسي:
ما سرني أن أمي من بني أسد وأن ربي ينجيني من النارِ
وأنهم زوجوني من بناتهم وأن لي كل يومً ألف دينارِ
نعمة بن عتاب التغلبي:
سموت ولم تكن أهلاً لتسمو ولكن دهرنا دهرُ انقلابِ
فضالة بن عبد الله الغنوي:
لئن أنت قد أعطيت خزاً تجرهُ تبدلته من فروة وإهابِ
فلا تيأسن أن تملك الناس إنني أرى أمةً قد آذنت بذهابِ
معن بن زائدة:
لا تيأسن من الخلافة بعدما خفق اللواء على ذؤابة حزقل
محمد بن بشير الخارجي:
أبى لك كسب الخير رأي مقصرٌ ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرةً عصاها وإن همت بشر أطاعها

ونثبت ها هنا مقطعات في ذم القصار.
فمن ذلك قول أبي عثمان الناجم:
إن ابن عمار له قامة يطولها منقار فروجِ
ند إلينا دون أصحابه من ردم يأجوج ومأجوجِ
وله:
كأنه البرغوث لم يخطه في صغر الجثمان والقرصِ
وقال المصيصي:
تقطع دواجاً له سابغاً وريقة من ورق التوثِ
إني أراه في حشا أمه صور من نطفة برغوثِ
وقال أبو نواس:
بدت لنا في ثياب لبعتها تجر أثوابها لقلتها
وقال ابن الرومي:
قميئة الخلقة دحداحةٌ تطرحها القلة في المنسى
نكهتها تقتل جلاسها لقرب محشاها من المفسى
وقال:
قصيرة القامة دحداحة قامتها قامة فقاعهْ
تضل في السربال من قلة كصعوة في جوف قفاعهْ
وقال الناجم:
وقصير لا تعمل الش ... شمسُ ظلاً لقامتهْ
يعثر الناس في الطري ... ق به من دمامتهْ
وقال آخر:
أظن خليلي من تقارب شخصه يعض القراد باسته وهو قائمُ
وقال آخر:
وأقسم لو خرت من استك بيضةٌ لما انكسرت لقرب بعضك من بعضِ
ومما قيل في ذم النساء قول الشاعر:
أتوني بها قبل المحاق بليلةٍ فكان محاقاً كله ذلك الشهرُ
أما لك عمر إنما أنت حيةٌ إذا هي لم تقتل تعش آخر الدهرُ
ثلاثين حولاً لا أرى منك راحةً لهنك في الدنيا لباقيةُ العمر
شربت دماً إن لم أرعك بضرةٍ بعيدة مهوى القرطة طيبة النشر
وقال آخر:
رحلت أنيسة بالطلاق وعتقت من رق الوثاقِ
بانت فمل يألم لها قلبي ولم تبك المآقي
ودواء ما لا تشتهي ... ه النفس تعجيل الفراقِ
لو لم أرح بفراقها لأرحت نفسي بالإباقِ
وخصيت نفسي لا أري ... د حليلةً حتى التلاقي
وقال آخر:
لا تنكحن الدهر ما عشت أيماً مجربة قد مل مها وملتِ
تجود برجليها وتمنع درها وإن طلبت منها المودة هرتِ
وقال المتوكل الليثي:
ولا تنكحن الدهر إن كنت ناكحاً عشوزنة لم يبق إلا هريرها
تجود برجليها وتمنع مالها وإن غضبت راعَ الأسود زئيرها
إذا فرغت من أهل دار تبيرهم سمت سموةً أخرى لدارٍ تبيرها
وقال أعرابي:
يا رب صبرني على أم اللهمْ على جزور ذات سلح للقمْ
وهي إذا قلت كل قالت نعم كأنما تقذف في بحر خضم
سريعة السرط لحوسٌ للبرم قد هرمتني قبل أيام الهرمْ
من عالها فهو حري بالعدم
وقال الرحال:
فلا بارك الرحمن في عود أهلها عشيرة زفوها ولا فيك من بكر
ولا فرش ظوهرن من كل جانبٍ كأني ألوّي فوقهن على الجمرِ
ولا الزعفران حين مسحنها به ولا الحلي مها حين نيط إلى النحرِ
فيا ليت أن الذئب كان مكانها وإن كان ذا نابٍ حديدٍ وذا ظفر
وقال آخر:
جاريةٌ في جلدها سهكةٌ كأنها ملبسة جلد حوتْ
تحسبها للضعف من صوتها ذبابة في قبضة العنكبوتْ
وقال ابن المعتز يهجو زامرة:
قابلكم دهركم بزامرة تقدح في وجه كل سراءِ
فزبرطوا شدقها إذا نفختْ فذاك أولى بها من الناءِ
وقال دعبل:
إن ابن زبان له قينةٌ اربت على الشيطان في القبحِ
سوداء فوهاء لها شعرةٌ كأنها نمل على مسحِ
فلو بدت حاسرة في الضحى لاسود منها فلق الصبحِ
وقال أيضاً:
لا بارك الله في ليل يقربني إلى مضاجعةٍ كالدلك بالمسدِ
لقد لمست مُعراها فما وقعتْ مما لمست يدي إلا على وتدِ
من كل عضو لها عظمٌ تصك به جسم الضجيج فيضحي واهي الجسدِ
وقال أيضاً:
صدغاك قد شمطا ونحرك يابسٌ والصدر منك كجؤجؤ الطنبورِ
ينا من معانقها يبيت كأنه في محبسٍ قمل وفي ساجورِ
قبلتها فوجدت لذعة ريقها فوق اللسان كلدغة الزنبورِ
وقال آخر:
الاستُ رسحاء مشلول مناكبها كأن معلف شاةٍ في تراقيها
والثدي منها على الفخذين منسدل كأنه قربة قد سال ما فيها
وقال آخر:
أعوذ بالله من زلاء فاحشةٍ كأنما نيط ثوباها على عود
لا يمسك الحبل حقواها إذا انتطقت وفي الذنابى وفي العرقوبِ تحديد
وفي ضد ذلك: قول امرأة تزوجت بشيخ قصير:

أيا عجباً للخود يجري وشاحها تزف إلى شيخ من القوم تنبالِ
دعاها إليه أنه ذو قرابةٍ فويل الغواني من بني العم والخالِ
ولأخرى:
ومن صولة الأيام والدهر أن يرى غزال النقا في ذمة الظربانِ
وقالت حميدة بنت النعمان بن بشير:
وهل أنا إلا مهرة عربيةٌ سليلة أفراس تحللها بغلُ
فإن نتجت مهراً كريماً فبالحرى وإن يكُ إقرافٌ فما أنجب الفحلُ
هكذا يرويه من تجنب الأقواء، والرواية في قولها: فمن قبل الفحل.
وقد ذكرنا كلام امرأة عروة بن الورد في زوجها بعده فيما تقدم.
وهذه مقطعات من أهاجي شعراء عصرنا.
قال أبو منصور ابن الأصباغي:
قل للمغرب عن مواطنه إياك أن تأتي بني عوفٍ
قوم يموت الجار بينهم بالأنكدين الجوع والخوف
أبو تمام الدباس:
مات أبو حامد ومات جلال الد ... دين فاستحضر الهجا والمديحُ
كنت أهجو هذا وأمدح هذا فأنا اليوم خاطري مستريحُ

فصل في نوادر في الهجاء والذم
الأهاجي في معانيها تقارب النوادر، وأسيرها ما كان خفيفاً سهلاً، إلا أني لما شرطته في الكتاب أخرجت في هذا الفصل ما قصد به القائل قصد الهزل. فمن ذلك ما رواه صاعد بن ثابت قال: بلغ أبا الحسين البريدي خبر قصيدة أبي الفرج الأصفهاني فيه، وسمع استحسان قومٍ لها فقال لجلسائه: من يحفظها؟ فقالوا: ليس فينا من يحفظها فقال: دعوا هذا عنكم، ومن أنشدنيها فهو آمن، وله ألف درهم. وكان أبو القاسم ابن أبي مواس أبسط الجماعة عليه، فقال: لست أحفظها ولكني أحضرك نسختها لي الأمان والصلة. قال: افعل: قال: الله، قال: الله، ثم صافحه أنه لا يبقى في نفسه شيء إذ هو فعل ذاك. فأحضره نسختها وقرأها عليه وهو يفرك يديه ويزداد غيظاً حتى انتهى إلى قوله:
هو أزنى ممن يقدر أماً ليس ممن يصادُ بالتقليدِ
قال: فضحك حتى قهقه ثم قال: صدق العاض بظر أمه، لست ممن يصاب بالتقليد، وقطع أبو القاسم الإنشاد ولم يستعده، ووقع له بألف درهم تسلم إليه من الخزانة.
ومعنى هذا البيت أن الراضي كان قلده الوزارة، ليحتال عليه ويحصله، وكان البريدي أخبث من ذلك، فاستناب في الوزارة وهو بالبصرة ولم يدخل بغداد إلا مالكها. وأول قصيدة أبي الفرج:
يا سماء اقلعي ويا أرض ميدي قد تولى الوزارة ابن البريدي
وقال أبو الفرج الأصفهاني: سكر المهلبي ليلةً وأنا عنده،ولم يبق من ندمائه غيري، فقال لي: يا أبا الفرج، أنا أعلم أنك تهجوني سراً، فاهجني الساعة ظاهراً. فقلت: الله الله، أطال الله بقاء الوزير، إن كنت قد مللتني حتى أنقطع، وإن كنت تؤثر قتلي فمتى شئت فبالسيف صبراً، قال: دع هذا، لا بد من أن تهجوني قال: وكنت سكرا، فقلت:
أير بغلٍ بلولبِ
فسبقني هو وقال
في حر أم المهلبِ
هات مصراعاً آخر فقالت: الطلاق لازم للأصفهاني إن زاد على هذا أو كانت عنده زيادة.
وقال السري الرفاء في أحد الخالديان:
يا سارق الأغفال ما حبروا من الخوافي والمشاهير
أعطِ قفا نبك أماناً فقد أمست بقلبٍ منك مذعور
قال المبرد بلغني أن أعرابياً لقي رجلاً من الحاج فقال له: ممن الرجل؟ قال: من باهلة، قال: أعيذك بالله من هذا، قال: أي والله، وأنا مع ذلك مولى لهم. فأقبل الأعرابي يقبل يديه ويتمسح به، فقال له الرجل: لم تفعل ذلك؟ قال: لأني أثق بأن الله تعالى لم يبتلك بهذا في الدنيا إلا وأنت في الجنة.
وقال أبو الشمقمق لبشار بن برد: أنت ثقيل علي وأنا ثقيل عليك، فتعال حتى يصف كل واحد منا صاحبه، فقال بشار: أنت عيدي أثقل من الكرب في آب، والصدام في كانون، والرقيب على العاشق، والغرم على المفلس، ومن عسر الولادة، ومن شماتة الأعداء. قال أبو الشمقمق: أما أنا فأختصر: أنت عندي أثقل من موت الفجأة وزوال النعمة.
وقال شاعر:
إلى الله أشكو أنني بت طاهراً فجاء سلولي فبال على رجلي
فقلت اقطعوها لا أبا لأبيكمُ فإني كريم غير مدخلها رحلي

دخل أبو دلامة على المهدي وعنده إسماعيل بن علي وعيسى بن موسى والعباس بن محمد ومحمد بن إبراهيم الإمام وغيرهم من بني هاشم، فقال له المهدي: أنا أعطي الله عهداً لئن من تهجُ واحداً ممن في البيت لأقطعن لسانكَ. فنظر إليه القومُ وغمزه كل واحدٍ منهم بأن علي رضاك. قال أبو دلامة: فعلمتُ أني قد وقعتُ، وأنها عزمةٌ من عزماته لا بد منها، فلم أرد أحداً أحق بالهجاء مني، ولا أدعى إلى السلامة من هجائي نفسي، فقلت:
ألا أبلغ لديك أبا دلامه فلست من الكرام ولا كرامهْ
جمعت دمامةً وجمعت لؤماً كذلك اللؤم تتبعه الدمامه
فإن تكُ قد أصبت نعيم دنيا فلا تفرح فقد دنت القيامه
فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه.
رؤي أعرابي يبول في المسجد فصاحوا عليه فقال: أنا واله أفقه منكم، إنه مسجد باهلة.
وقيل لأعرابيّ: أيسرك أن تدخل الجنة وأنت باهلي؟ قال: على أن لا يعرف فيها نسبي.
وقال أحمد بن سعيد الباهلي لأبي العيناء: إني أصبت لباهلة فضيلةً لا توجد في سائر العرب، قال: وما هي؟ قال: لا يصاب فيهم دعي، قال: لأنه ليس فوقهم من يقبلهم، ولا دونهم أحد فينزلون إليه.
وقيل له: ما تقول في محمد بن مكرم والعباس بن رستم؟ قال: هما الخمر والميسر وإثمهما أكبر من نفعهما.
وسقط نجاح بن سلمة عن دابته، فوثب إليه إبراهيم بن عتاب فأخذه من الأرض، فقال أبو العيناء: يا أبا الفضل لميتةٌ مجهزة اصلح من عالفةٍ على يد ابن عتاب.
واعترضه يوماً أحمد بن سعيد فسلم عليه، فقال أبو العيناء: من أنت؟ قال: أحمد بن سعيد، فقال: إني بك لعارف، ولكن عهدي بصوتك مرتفع إلي من أسفل،، فما له منحدرٌ علي من علو؟ قال: لأني راكب قال: لا إله إلا الله، لعهدي بك وأنت في طمرين لو أقسمت على الله تعالى في رغيف لأعضك بما تكره.
وقال له رجل: ما أنتن إبطك!! قال: نلقاك أعزك الله بما يشبهك.
وقال لرجل: والله ما فيك من العقل شيء إلا مقدار ما تجب الحجة به عليك، والنار لك.
تغدى الجماز عند إنسان هاشمي، ومر الغلام بصحفةٍ فقطر مها شيء على ثوب الجماز، فقال الهاشمي: يا غلام اغسل ثوبه، فقال الجماز: دعه فمرقتكم لا تدسم الثوب.
وقف رجل على بهلول فقال له: تعرفني؟ قال بهلول: أي والله وأنسبك نسب الكمأة: لا أصل ثابت، ولا فرع نابت.
شاعر:
أم زياد لم ولدتيه ملتحفاً بالكبر والتيهِ
ليتك إذ جئت به هكذا أكلته لما خريتيه
علي بن خليل في دعي:
متى تعربت وكنت امرءاً من الموالي صالح الدين
لو كنت إذ صرت إلى دعوةِ فزت من القوم بتمكين
لكف من وجدي ولكنني أراك بين الضب والنونِ
فلو تراه صارفاً أنفهُ عن ريح خيري ونسرين
لقلت جلف من بني دارمٍ حن إلى الشيح بيبرين
دعموص رمل زل عن صخرةٍ فعاف أرواح البساتين
تنبو عن القاقم أعطافه والخز والسنجاب واللينِ
كان لهشام النحوي جارية يقال لها خنساء، وكانت تقول الشعر، فعبث بها يوماً أبو الشبل فأغضبها، فقالت له: ليت شعري بأي شيء تدل؟ أنا والله أشعر منك، ولئن شئت لأهجونك حتى أفضحك، فأقبل عليها وقال:
خنساء قد أفرطت علينا فليس منها لنا مجيرُ
تاهت بأشعارها علينا كأنما ناكها جرير
فخجلت حتى بان فيها وأمسكت عن جوابه.
قال ابن قتيبة: مكثت مية زماناً لا ترى ذا الرمة، وهي تسمع مع ذلك شعره، فجعلت لله عليها أن تنحر بدنة يوم تراه. فلما رأته رجلاً أسود دميماً قالت: واسوأتاه وابؤساه، واضيعةَ بدنتاه،فقال ذو الرمة:
على وجه مي مسحة من ملاحة وتحت الثياب الخزي لو كان بادياً
قال فكشفت ثوبها عن جسدها ثم قالت: أشيناً ترى لا أم لك؟ فقال:
ألم تر أن الماء يخبث طعمه وإن كان لون الماء أبيض صافيا
فقالت: أما ما تحت الثياب فقد رايته وعلمت ألا شين فيه،ولم يبق إلا أن أقول: هلم حتى تذوق ما وراءه، والله لا ذقت ذلك أبداً. فقال:
فيا ضيعة اشعر الذي لج فانقضى بمي ولم أملك ضلال فؤاديا
خالد الكاتب:
وقائل إن حماري له مشي إذا صوب أوصعدا
فقلت لكن حماري إذا حثثته لا يلحق المقعدا
يستعذب الضرب فإن زدته كاد من اللذة أن يرقدا
ومثله لابن الحجاج يذكر فرسه:
حاشاه أن يعدو ولكنني امشي فلا يلحقني إن عدا

إذا البراذين علا سعرها فسعره في السوق سعر الجدا
وتبعهما مرجى بن نبيه فقال:
هي تعدو والخيل تمشي فما تل ... حقُ إلا غبارها بعد حين
أبو الأسد:
صنع من الله أني كنت أعرفكمْ قبل اليسار وأنتم في التبابينِ
فما مضت سنة إلا رأيتكمُ تمشون في الخز والقوهي واللينِ
وفي المشارق ما زالت نساؤكم يصحن تحت الدوالي بالوارشينِ
فصرن يرفلن في وشي العراقِ وفي طرائف الخز من دكن وطروني
أنسين قطع الحلافي من منابتها وحملهن كشوثاً في الشقايينِ
حتى إذا أيسروا قالوا وقد كذبوا نحن الشهاريج أبناء الدهاقينِ
في است أم كسرى عمود أقر بكم وأير بغل مشظٍّ في است شيرين
من ذا يخبر كسرى وهو في سقرٍ دعوى النبيط وهم بيض الشياطين
وأنهم زعموا أنقد ولدتهم كما ادعى الضب أني نطفة النونِ
فكان ينحز جوف النار واحدةً تفري وتصدع خوفاً قلب قارونِ
أما تراهم وقد حطوا براذعهمْ عن أتنهم واستبدوا بالبراذينِ
فأفرجوا عن مشارات القول إلى دور الملوك وأبواب السلاطين
عبد الصمد بن المعذل في ابن أخيه:
لو كان يعطى المنى الأعمام في ابن أخٍ أصبحت في جوف قرقورٍ إلى الصينِ
يا أبغض الناس في فقرٍ وميسرةٍ وأقذر الناس في دنيا وفي دين
تيه الملوك إذا فلس ظفرت به وحين تفقده ذل المساكين
لو شاء ربي لأضحى واهباً لأخي من مر ثكلك أجراً غير ممنون
وكان أحظى له لو كان متزراً في السالفات على غرمول عنين
إن القلوب لتطوى منك يا ابن أخي إذا رأتك على مثل السكاكينِ
أعرابي يهجو أمه:
شائلة أصداغها لا تختمر تعدو على الضيف بعود منكسر
حتى يفر أهلها كل مفرّ لو نحرت في بيتها عشر جزر
لأصبحت من لحمهن تعتذرْ بحلف مين ودمع منهمر
شائلة أصداغها: يريد أن شعرها قد قام من الخصومة، لا تختمر: من مبادرتها إلى الشر، ويعود منكسر: أي عصاً قد انكسرت مما تضرب بها.
ابن الحجاج:
أعيذكم بالله من عصبةٍ تباع مجاناً ولا تشترى
فإنكم من حيث ما استنشقت روائح الآمال فيكم خرا

الباب الرابع والعشرون
الإغراء والتحريض
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله باعث النذر بالآيات والبراهين، ومرسلهم بالنور المبين، وجاعل متبعهم متمسكاً بالحبل المتين، لاجئاً منه إلى ظل ظليل مديد، وائلاً إلى معقل منيع شديد، حث على الجهاد وحرض، وعنف من أثاقل عنه وأعرض، ووعد من سارع إليه أفضل الجزاء، وأغرى القلوب بطلب منازل الشهداء، وأعلى مراتبهم حتى طمحت إليها النواظر، وتعلقت بها الهمم والخواطر. فله الحمد على تكرمته بإضعاف الثواب لمن أطاعه وعمل بأمره، وله الشكر لما أسبغ علينا من مواهبه وظاهر من بره، والصلاة على رسوله المجاهد في سبيه المحامي عن دينه، محاماة القسورة عن عرينه، محرض المؤمنين على القتال، ودامغ جبابرة الأقيال، وعلى آله وأصحابه الأعلام الأبطال.
مما يدخل في هذا المعنى من الكتاب العزيز حكاية عن قول نوحٍ عليه السلام: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً " نوح: 26 - 27، وعن قول موسى عليه السلام: " ربنا إنك آتيت فرعونَ وملأَه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " يونس:88.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه على الجهاد وفي الحر. وقد قال الله عز وجل له: " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال " الأنفال: 65، وقد قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " التوبة: 38.

من كلام علي عليه السلام يحرض على حرب أهل الشام: أف لكم قد سئمت عتابكم. أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً، وبالذل من العز خلفاً؟! إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة، وما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها، وكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر. لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم. تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم ولا تمتعضون، لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون. غلب والله المتخاذلون. وأيم الله إني لأظن بكم أن لو حمس الوغى واستحر الموت قد انفرجتم عن أبن أبي طالب انفراج الرأس. والله إن امرءاً يمكن عدوه من نفسه يعرق لحمه ويهشم عظمه، ويفري جلده، لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره. أنت فكن ذاك إن شئت، فأما أنا والله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية يطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء.
ومن كلامه كرم الله وجهه: وأيم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة. أنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم. إن في الفرار لموجدة الله، والذل اللازم، والعار الباقي، وإن الفار غير مزيد في عمره، ولا محجوزٍ بينه وبين يومه. من رائح إلى الله كالظمآن يرد الماء؟ الجنة تحت أطراف العوال. اليوم تبلى الأخبار.
قام مروان بن الحكم يوم الجمل يحرض الناس فقال بعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة على نبيه عليه السلام: إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً ختم به الرسل، ونسخ بدينه الأديان، ثم لم يقبضه حتى استوسق الِإسلام وثبتت أركانه، وأنارت أحكامه، وعرف كل وارد مشربه، وكل سار مصدره، فجعل الحق أبين من المجرة لا يجهلها الدليل ولا يضل عنها الساري. فلما قبض صلى الله عليه وسلم وليَ أمر الخلافة أبو بكر رحمة الله عليه فتألب عليه الأعداء، وناصبتهُ العرب الحرب، فاستنفر كالفحل بذنبه وتحرك لأمر ربه، وضرب بمن أطاع من عصى حتى أعاد الدين جديداً، وأبرم ما انتقض منه، ورأب ما انصدع، ورد الأمور إلى حقائقها، ثم مضى على صراط سوي مستقيم، وأحكام عادلة وسنن هادية. واجتهد لما دنت منيته، ونناصح نفسه والمسلمين نظراً منه لهم، فبايع عمر بن الخطاب رحمة الله عليه واستخلفه، فألفيناه والله ماضي العزيمة، صادق النية، غير خوار القناة، ولا قلق الوضين، ولا رخو اللبب. وكره ذلك رجال شمخوا بأنوفهم، وصغوا بأعناقهم إلى أمر قصروا عنه وناله، فأرغم معاطسهم وكعمهم وقمعهم، ووسمهم بالحق سمة الرعاء آذان الغنم، فتفاجت عن خبيئها تفجي الناقة لدرة الحل، حتى إذا نالته يد القضاء وخبطته يد المينةِ لانقضاء المدة الملومة والأنفاس المعدومة، أشفق من الاختلاف والفرقة، فجعل الأمور شورى لا يعقد إلا على إجماع، فمخضوا الآراء مخض الزبدة وبالوطاب، وامتطوا رواحل الفكر خوف الهلكة، وأجالوا الرأي لئلا يهلك مشاور عن مشورته، فلم يروا أحد أحق بالخلافة ولا أقوم بها من عقان، فقلدوها أسمحهم نفساً، وأفسحهم صدراً، وأطولهم باعاً، فمضى يقفو الأثر ويتبع المنهاج على سنة من تقدم كقد الشراك، فلما طال به العمر ونزحت الدار بأنصاره، بادر الأشقياء إلى قتله وقالوا: خص أهله، وآثر أصحابه، وزاغ عن الحق إذ لم يكونوا لما أرادوا منه أهلاً، بعد اجتماعهم عليه، ومسارعتهم إليه، واختيارهم له، فوثبوا فنحروه نحر البدنة، فخار في دمه مفرى الأوداج قد خضب مصحفه بدمه، رحمة الله عليه، وكان صائماً تالياً للقرآن مكباً على المصحف، فيا عظم مصيبة أثكلت المسلمين إمامهم، عظم والله الخطب بأمير المؤمنين وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، ومجهز جيش العسرة، وموسع المسجد، من غير جرم قتلوه بعد أن اختاروه، فسارعوا رحمكم الله إلى الطلب بدمه، وقتال قالته، إذ فاتكم نصره، فإن ذلك أفضل من جهاد المشركين. نسأل الله حسن المعونة على الطلب بدمه، والنصرة على من ظلمه، وأستغفر الله لي ولكم.

أوفد معاوية الزرقاء بنت عدي بن غالب فقال لها: ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين بين الصفين، توقدين الحرب، وتحضين على القتال، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنه قد مات في الرأس وبقي في الذنب، والدهر ذو غِيَر، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر. قال: لها: صدقت، فهل تحفظين كلامك يوم صفين؟ قالت: ما أحفظه، قال: لكني والله أحفظه، لله أبوك لقد سمعتك تقولين: أيها الناس، إنكم في فتنة غشيتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها من فتنة عمياء صماء، لا يسمع لقائلها، ولا ينقاد لسائقها. أيها الناس، إن المصباح لا يضيء الشمس، وإن الكواكب لا تقد في القمر، وإن البغل لا يسبق الفرس، ولا يقطع الحديد إلا الحديد. ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن استخبرنا أخبرناه، إن الحق يطلب ضالته، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة العدل، وغلب الحق باطله، فلا يعجلن أحد فيقول: مكيف وأنى، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. ألا إن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير في الأمور وأحمد في عواقبها. إيهاً إلى الحرب قدماً غير ناكصين، فهذا يوم له ما بعده.
ثم قال معاوية: والله يا زرقاء لقد شركت علياً في كل دمٍ سفكه، فقالت: أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين، وأدام سلامتك، مثلك من بشر بخير وسر جليسه. قال لها: وقد سرك ذلك؟ قالت: نعم والله سرني قولك فأني بتصديق الفعل، فقال: معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب إلي من حبكم له في حياته.

وأوفد معاوية أم الخير بنت الحريش البارقية فقال لها: كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله رويته قبل ولا دونته بعد، وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة، فإن شئت أن أحدث لك مقالاً غير ذلك فعلت، قال: لا أشاء ذلك. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أيكم حفظ كلام أمر الخير؟ قال رجل من القوم: أنا أحفظه، قال: هاته، قال: نعم، كأني بها في ذلك اليوم وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية، وهي على جمل أورق أربد، وقد أحيط حولها حواء، وبيدها سوط منتشر الضفر، وهي كالفحل يهدر في شقشقته، تقول: يا أيها الناس، اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. إن الله تعالى قد أوضح الحق، وأبان الدليل، ونور السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم في عمياء مبهمةٍ، ولا سوداء مدلهمة، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ أفراراً عن أمير المؤمنين أم فراراً من الزحف، أم رغبة عن الإسلام؟ أم ارتداداً عن الحق؟ أما سمعتم الله سبحانه وتعالى يقول: " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع " البقرة:155، " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " محمد: 31، ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين وانتشرت الرعية، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع اللهم الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله. هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والوصي الوفي، والصديق الأكبر. إنها إحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية، وثب بها معاوية حين الغفلة، ليدرك بها ثارات بني عبد شمس. ثم قالت: " فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " التوبة:12، صبراً يا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم، وكأني بكم غداً قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرةٍ لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى " عما قليل ليصبحن نادمين " المؤمنين:40، حين تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة، إنه ولله من ضل عن الحق وقع في الباطل، ومن لم يسكن الجنة نزل النار. أيها الناس إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستبطأوا مدة الآخرة فسعوا لها. والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق وتعطل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه، فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول اله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته وأبي ابنيه، خلق من طينته، وتفرع من نبعته، وخصه بسره، وجعله باب مدينة علمه وعلم المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين، فلم يزل كذلك يؤيده الله تعالى بمعونته، ويمضي على سنن استقامته.هو مفلق الهام، ومكسر الأصنام، صلى والناس مشركون، وأطاع و الناس مرتابون، فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وفرق جمع هوازن، فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقاً وردة وشقاقاً. قد أجهدت في القول، وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

فقال معاوية: والله يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي، ووالله لو قتلتك ما حرجت في ذلك، قالت: والله ما يسوءني يا ابن هند أن يجري الله تعالى ذلك على يدي من يسعدني الله تعالى بشقائه. قال: هيهات يا كثيرة الفضول. ما تقولين في عثمان بن عفان؟ قالت: وما عسيت أن أقول فيه؟ استخلفه الناس وهم كارهون، وقتلوه وهم راضون، فقال معاوية: إيهاً أم الخير، هذا والله أصلك الذي تبنين عليه. قالت " لكن الله يشهد بما أنزل إليك، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً " النساء:166، ما أردت لعثمان نقصاً، ولقد كان سباقاً إلى الخيرات، وإنه لرفيع الدرجة قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة؟ اغتيل من مأمنه، وأُتي من حيث لا يحذر. وقد وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة. قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: وما عسيت أن أقول في الزبير؟ ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوريه، وقد شهد له رسول اله صلى الله عليه وسلم بالجنة، لقد كان سباقاً إلى كل مكرمة من الإسلام. وإني أسألك بحق الله يا معاوية فإن قريشاً تحدث بأنك من أحلمها من الإسلام. وإني أسألك بحق الله يا معاوية فإن قريشاً تحدث بأنك من أحلمها فأنا أسألك بأن تسعني بفضلك وحلمك، وأن تعفيني من هذه المسائل، وامض لما شئت من غيرها. قال: نعم وكرامة، وقد أعفيتكِ، وردها مكرمة إلى بلدها.
وفي يوم ذي قار برز نساء بكر بن وائل يحرضن رجالهن ويقلن:
نحن بنات طارقْ نمشي على النمارقْ
الدر في المخانق والمساك في المفارق
إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامقْ
وفي ذلك اليوم يقول لهم هانئ بن مسعود: يا قوم مهلك معذور، خير من منجى فرور، وإن الحذر لا ينفع من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر. المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره، والطعن في الثغر، أكرم منه في الدبر، يالَ بكر شدوا واستعدوا، إلا تشدوا تردوا.
لما استنزل عبد الملك بن مروان زفر بن الحارث من قرقيسيا أقعده معه على سريره، فدخل عليه ابن ذي الكلاع، فلما نظر إليه مع عبد الملك على السرير بكى، فقال له: ما يبكيك؟ قال: يا أمير المؤمنين كيف لا أبكي وسيف هذا يقطر دماً من دماء قومي في طاعتهم لك وخلافهم عليه، ثم هو معك على السرير، وأنا على الأرض. قال: إني لم أجلسه معي لأن يكون أكرم علي منك، ولكن لسانه لساني وحديثه يعجبني، فبلغت الأخطل وهو يشرب فقال: أم والله لأقومن في ذلك مقاماً لم يقم به ابن ذي الكلاع، ثم خرج حتى دخل على عبد الملك فلما ملأ عينيه منه قال:
وكأس مثل عين الديك صرفٍ تنسي الشاربين لها العقولا
إذا شرب الفتى منها ثلاثاً بغير الماء حاول أن يطولا
مشى قرشيةً لا شك فيها وأرخى من مآزره الفضولا
فقال له عبد الملك: ما أخرج هذا منك يا أبا مالك إلا خطة في رأسك، قال: أجل والله يا أمير المؤمنين، حين يجلس هذا عدو الله معك على سريرك وهو القائل بالأمس:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات الصدور كما هيا
قال: فقبض عبد الملك رجلهُ، ثم ضرب بها صدر زفر فقلبه عن السرير، وقال: لا أذهب الله حزازات تلك الصدور. فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين والعهد الذي أعطيتني؟ فكان زفر يقولُ: ما أيقنتُ بالموت قط إلا تلك الساعة حين قال الأخطل ما قال.
ومثل بيت زفر قول الأخطل يغري به:
إن الضغينة تلقاها وإن قدمتْ كالعر يكمن حيناً ثم ينتشرُ
بني أمية إني ناصحٌ لكمُ فلا يبيتن فيكم آمناً زفرُ
واتخذوه عدواً إن شاهدهُ وما تغيب من أخلاقه دعرُ
قال معاوية لعبد الله بن الزبير، وهو عنده بالمدينة: يا ابن الزبير ألا تعذرني من حسن، ما رأيته منذ قدمت إلا مرة واحدة. قال: دعْ عنك حسناً، فأنت والله وهو كما قال الشماخ:
أجامل أقواماً حياءً وقد أرى صدورهم تغلي علي مراضها
والله لو يشاء حسن أن يضربك بمائة ألف سيف ضربك. والله لأهل العراق به أرأف من أم الحوار بحورها. قال معاوية: أردت أن تغريني به، واله لأصلن رحمه ولأقبلن عليه:
ألا أيها المرء المحرش بيننا ألا اقتل أخاك لست قاتل أربدِ
أبى قربه مني وحسن بلائهِ وعلمي بما يأتي به الدهر في غدِ

والشعر لعروة بن قيس.
جرير:
بني عدي ألا فانْهوا سفيهكم إن السفيه إذا لم ينه مأمورُ
أنشد الأصمعي:
يا رب إن كان يزيد قد أكلْ لحم الصديق عللاً بعد نهلْ
ودب بالسوءِ دبيباً ونسلْ فاقدر له أصلةً من الأصلْ
كبساء كالقرصة أو خف الجمل لها سحيف وفحيح وزجلْ
لو نفحت غصناً رطيباً لذبل أو نكزت فيلاً مسناً لانجدلْ
وازيلت أوصاله أو اقفعلّ أو حارياً من القتيرات الأولْ
يموت بالهجر ويحيا بالطفلْ تنغش الدعموص في الرنق السمل
وإن تأَذَى بمكانٍ فارتحللآخرٍ قَفَّزَ فقزاً فحجلْ
تزلُّفَ الأَعرجِ رِيعَ فَقَزَلْ
المتلمس:
يا آل بكرٍ أَلَ لله أمكمُطال الثواءُ وثوبُ العَجْزِ ملبوسُ
أغنيتُ شأنيَ فأَغنوا اليومَ شأنَكُمُواستحمقوا في مراسِ الحربِ أو كِيْسُوا
وقال أيضاً:
سيروا كما سارتِ الأَملاكُ قبلكمُنحو الحجازِ وعزُّ الناسِ مضطهدُ
إلى ملوكٍ عطاءُ الله شَيَّبَهُموالمنشدون إذا جيرانُهُمْ نَشَدُوا
ولن يقيمَ على خَسْفٍ يُسَامُ بهإلا الأذلاَّنِ عَيْرُ الحيِّ والوتِدُ
هذا على الخَسْفِ مربوطٌ بِرُمَّتِهِوذا يُضامُ ولا يأوي له أَحدُ
كونوا كمن نازلَ الأملاكَ قبلكمُبالعزِّ إن كنتمُ بكراً وما ولدوا
قال المأمون لأبي دلف هلاّ كان منك في استصغار الحسن بن رجاء بك ما يوازي شرفَكَ ويشاكلُ منصبك؟ قال: يا أمير المؤمنين إنك أَحْلَلْتَهُ محلاً أوجب التطاطي له، ومكَّنَتهُ تمكيناً تضاءَلَ الشرفُ عنده، وكانت الطاعةُ تعارضُ الانتصارَ منه. قال: لله أبوك.
القعقاع بن توبة العقيلي:
لا أصلحَ الله حالي إنْ أَمَرْتُكُمُ ... بالصُّلْحِ حتى تصيبوا آلَ شدادِ
حتى يقالَ لوادٍ كان مسكنَهُم ... قد كنتَ تُعْمَرُ يوماً أيّها الوادي
وقال المتنبي:
فلا تَغْرُرْكَ أَلْسِنَةٌ مَوَالٍتقلّبهنَّ أفئدةٌ أَعادِ
وكنْ كالموتِ لا يَرْثي لباكٍبكى منه وَيُرْوِي وهو صادِ
فإنّ الجُرْحَ يَنْغَرُ بعدَ حينٍإذا كان البناءُ على فسادِ
وإنّ الماءَ يجري من جمادٍوإنّ النارَ تخرجُ من زنادِ
وكيف يبيتُ مضطجعاً جبانٌفَرَشْتَ لجنبِهِ شَوْكَ القتادِ
قال بعضُ جلساءِ الرشيد: أنا قتلتُ جعفر بن يحيى، وذاك أني رأيتُ الرشيد يوماً وقد تنفَّسَ تنفّساً مُنْكَراً، فأنشدتُ في أثره:
واستبدَّتْ مرَّةً واحدةًإنما العاجزُ مَنْ لا يَسْتَبِدّ
فأصغى إليه واستعاده، وقتل جعفراً بعد ذلك عن كثب.
وقد روي أنّ عليَّ بنَ يقطين طالبه البرامكةُ بخراجٍ كان عليه، ووكلوا به في الديوان، فدخل على الرشيد وأنشده هذا البيتَ وقبله:
ليتَ هنداً أنجزتنا ما تَعِدْوَشَفَتْ أنفسَنا ممّا تجدْ
والبيتان لعمر بن أبي ربيعة، فكان ذلك مما أغرى الرشيدَ بالبرامكة.
بعض الغسانيين يحرِّضُ الأسودَ بن المنذر على قتل أعدائه:
ما كلَّ يومٍ ينالُ المرءُ فُرْصَتَهُولا يسوغه المقدار ما وهبا
فأحزمُ الناسِ مَنْ إنْ نال فُرْصَتَهلم يجعل السببَ الموصولَ منقضبا
لا تقطعَنْ ذنبَ الأفعى فترسِلَهاإن كنتَ شهماً فأتْبعْ رأْسَها الذنبا
الجعدي:
ألا إنَّ قومي أصبحوا مثلَ خيبرٍبها داؤها ولا تضرُّ الأعاديا
سرق شظاظ الضبّي ناقةً لشيخٍ من أهل البصرةِ من أصحابِ الأكفان كان يصدرها من الحج إلى الحج، وكانت تَرْعَى في عِرْقِ ناهق، وهو حمىً لأهل البصرة، فقال شظاظ يُغْرِي اللصوصَ بالَّرَق، وتُرْوَى الأبياتُ لرئاب بن عُقْبَةَ العبشمي:
مَنْ مبلغُ الفتيانِ عني رسالةًفلا تهلكوا فقراً على عرقِ ناهقِ
فإنَّ به صَيْداً غزيراً وهجمةًنجائبَ لم يَنْتُجْنَ فُتْلَ المرافقِ
نجيبة ضَيَّاطٍ يكونُ بُغَاؤُهُدعاءً وقد جاوزنَ عَرْضَ الشقائقِ
الضياط والضيطان الذي يطيل الجلوسَ في المكان يلزمُهُ فلا يبرح منه حتى يَسْمَنَ ويكثرَ لحمه.

وبلغ الشيخَ الشعر فقال: اللهمَّ صدق ليس بُغائي إلا الدعاء لأنّها لو كانت لرجل قويّ لربكَ حتى يأخذها، فأَدْرِكْهُ لي يا ربّ. فأخذه الحجاجُ بالكوفة في سرقة أخرى فأقرَّ أنه سرق هذه الناقةَ بالبصرة، فقطع يديه ورجليه وصلبه، وبعث بالناقة إلى البصرة إلى الحكم بن أيوب فعرَّفها، فَرُدَّتْ إلى الشيخ فقال: ربي كان خيراً لي من سرقته.
قُدِّمَ هدبة من الخشرم ليقادَ بابنِ عمه زيادة، وأَخذ ابنُ زيادةَ السيفَ وقد ضوعفت له الدية حتى بلغت مائةَ ألف درهم، فخافت أمُّ الغلام أن يقبل ابنها الديةَ ولا يقتله، فقالت: أعطي الله عهداً لئن لم تقتله لأتزوجَنَّهُ فيكون قد قتل أباك ونكح أمك، فقتله.
تزوج خالج بن يزيد بن معاوية نساءً هنّ أشرفُ منه، منهن أمُّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وآمنة بنت سعيد بن العاصي، ورملة بنت الزبير بن العوام، ففي ذلك يقولُ بعضُ الشعراء يحرِّضُ عليه عبد الملك بن مروان:
عليكَ أميرَ المؤمنين بخالدٍففي خالدٍ عمّا تحبُّ صُدودُ
إذا ما نظَرنا في مناكحِ خالدٍعرفنا الذي ينوي
فطلَّقَ آمنة بنتَ سعيد فتزوجها الوليد بن عبد الملك.
دخل سديف مولى آل أبي لهب على أبي العباس السفاح بالحيرة، وهو جالسٌ في مجلسه على سرير، وبنو هاشم دونَهُ على الكراسيّ، وبنو أميّة على الوسائد قد ثنيت لهم، وكانوا في أيام دولتهم يجلسون هم والخليفة منهم على السرير، وبنو هاشم على الكراسي. فدخل الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين بالباب رجل حجازي أسود راكب على نجيب متلثم يستأذن ولا يخبر باسمه ويحلف ألا يحسر اللثام عن وجهه حتى يراك، فقال: هذا مولاي سديف يدخل، فدخل فلما نظر إلى أبي العباس وبنو أمية حواليه حدر اللثام عن وجهه وأنشأ يقول:
أصبح الملك ثابت الآساس بالبهاليل من بني العباسِ
بالصدور المقدمين قديماًوالرؤوسِ القماقمِ الرواسِ
يا أمير المطهرين من الذ ... مِ ويا رأس منتهى كل راس
أنت مهدي هاشم وهداهاكم أناس رجوكَ بعدَ إياسِ
لا تقيلن عبد شمس عثاراًواقطعنْ كل رقلة وغراس
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هُ بدار الهوان والإتعاس
خوفهم أظهر التودد منهموبهم منكم كحز المواسي
أذكرن مصرع الحسين وزيدوقتيلاً بجانب المهراس
والإمام الذي بحران أمسىرهن قبر في غربة وتناسِ
فلقد ساءَني وساءَ سوائيقربُهُمْ من نَمَارق وكراسي
نعم كبس الهراش مولاكَ لولاأوَدٌ من حبائل الإفلاس
فتغير وجه أبي العباس وأخذه الزمع والرعدة، فالتفت بعض ولد سليمان ابن عبد الملك إلى رجل منهم فقال: قتلنا والله العبد. وكان إلى جانب أبي العباس أبو الغمر سليمان بن هشام، وكان صديق أبي العباس قديماً وحديثاً، يقضي حوائجَهُ في أيامهم ويبره، فاقبل أبو العباس عليهم وقال: يا بني الفواعل ألا أرى أهلي من قتلاكم قد سفلوا وأنتم أحياء تتلذذون في الدنيا!! خذوهم، فأخذتهم الخراسانية بالكافر كوبات فأُهْمدوا إلا ما كان من عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فإنه استجار بداود بن علي وقال: إن أبي لم يكن كآبائهم، وقد علمت صنيع أبيه إلينا. فوهبه له وقال: لا يُريني وجهه، وليكن بحيث يأمن. وكتب إلى عماله في النواحي بقتل أمية، وأقبل السفاحُ على سليمان بن هشام فقال له: يا أبا الغمر ما ارى لك في الحياة بعد هؤلاء خيراً، قال: لا والله، فقال: اقتلوه، وكان إلى جنبه، فقتل. وصلبوا في بستانه حتى تأذى جلساؤه بروائحهم، وكلموه في ذلك فقال: والله لهذا ألذ عندي من شم المسك والعنبر غيظاً عليهم.
وقد جاء في رواية أخرى أن سديفاً دخل على السفاح وعنده رجال بن أمية متوافرون فأنشده:
يا بان عم النبي أنت ضياءاستبنا بك اليقين الجليا
جَرِّد السيف وارفع السوط حتىلا ترى فوق ظهرها أموياً
لا يَغرُرَّنك ما ترى من رجالإن تحت الضلوع داء دويا
قطن البغض في القديم وأضحىثابتاً في قلوبهم مطويا
وهي طويلة. فقال: يا سديف خلق الإنسان من عجل، ثم قال السفاح متمثلاً:
أحيا الضغائنَ آباءٌ لنا سلفوافلن تبيدَ وللآباء أبناءُ
ثم أمر بهم فقتلوا.
وقال بعض شيعة بن العباس يحرضهم على بني أمية:
إياكم أن تلينوا لاعتذارهمفليس ذلك إلا الخوفُ والطمعُ

لو أنهم أموا أبدوا عداوتهملكنهم قمعوا بالذل فانقمعوا
أليس في ألف شهر قد مضت لكمسقوكم جرعاً من بعدها جرعُ
حتى إذا ما انقضت أيام دولتهممتوا إليكم بالأرحام التي قطعوا
هيهات لا بُد أن يسقوا بكأسهمرياً وأن يحصدوا الزرع الذي زرعوا
وقال عبد الرحمن بن دارة الفزاري:
يا راكباً إما عرضت فبلغنمغلغلة عني القبائل عن عكل
لئن أنتم لم تثأروا بأخيكمُفكونوا نساء للخلوق وللكحلِ
وبيعوا الردينيات بالحلي واقعدواعن الحرب وابتاعوا المغازل بالنبل
وقال الوليد بن عقبة بن أبي ميعط:
ألا أبلغ معاويةَ بن حربفإنك من أخي ثقة مليمُ
قطعت الدهر كالسَّدِمِ المعنىتهدرُ في دمشق ولا تريمُ
فإنك والكتاب إلى عليكدابغةً وقد حِلُم الأديمُ
لك الويلاتُ أوردنا عليهوخيرُ الطالبي الترةِ الغشومُ
فلو كنتَ القتيلَ وكان حياًلشمَّرَ لا أَلَفُّ ولا سؤومُ
لما انحازت إياد إلى الفرات مجفلين من كسرى بعث إليهم جيشاً فبيَّتَت إياد ذلك الجمع حين عبروا شط الفرات الغربي، فلم يفلت منهم إلا القليل، وجمعوا جماجمهم وأجسامهم فكانت كالتل العظيم، فلم يفلت منهم إلا دير فسمي دير الجماجم. وبلغ كسرى الخبرُ فبعث مالك بن حارثة أحد بن كعب بن زهير بن جشم في أربعين ألفاً من الأساورة، فكتب إليهم لقيط بن يعمر الإيادي ينذرهم ويحرضهم:
يا قوم لا تأمنوا إن كنتمُ غُيُراًعلى نسائكمُ كسرى وما جمعا
هوا الجلاءُ الذي تَبْقى مذلتهإن طار طائركم يوماً وإن وقعا
هو الفناءُ الذي يجتث أصلكمفيمن رأى مثل ذا رأياً ومن سمعا
هذا كتابي إليكم والنذير لكمإني أرى الرأي إن لم أقص قد نصعا
وقد بذلتُ لكم نصحي بلا دخلفاستيقنوا إن خير العلم ما نفعا
وجعل عنوان الكتاب:
كتابٌ في الصحيفة من لقيطٍإلى من بالجزيرة من إيادِ
بأنَّ الليث كسرى قد أتاكمفلا يشغلكم سوق النقادِ
والأبيات العينية هي من محاسن أشعار العرب ومشاهيرها، وفيها حكمة مستفادة، وقد ذكرت شطرها ومختارها في مكانٍ آخر من هذا الكتاب.
لما وثب إبراهيم بن المهدي على الخلافة اقترض من مياسير التجار مالاً، وأخذ من عبد الملك الزيات عشرة آلاف دينار وقال له: أنا أردها عليك إذا جاءني مال، ولم يتم أمره فاستخفى ثم ظهر ورضي عنه المأمون. فطالبه الناس بأموالهم فقال: إنما أخذتها للمسلمين، وأرد قضاءها في فيئهم، والأمر فيها الِآن إلى غيري، فعمل محمد بن عبد الملك قصيدة يخاطب بها المأمون، ومضى إلى إبراهيم بن المهدي فأقرأه إياها وقال: والله لئن لم تعطني المال الذي اقترضته من أبي لأوصلن هذه القصيدة إلى المأمون. فخاف أن يقرأ القصيدة المأمونُ فيتدبر ما قاله فيوقع به، فقال: خذ مني بعض المال ونجم بعضه علي، ففعل ذلك، بعد أن أحلفه إبراهيم بآكد الأيمان ألا يظهر القصيدة في حياة المأمون، فوفى له محمد بذلك، ووفى إبراهيم بأداء الأموال. والقصيدة طويلة ومنها ما هو تحريض بإبراهيم من جملة أبيات كثيرة ألغيتها:
ألم تَرَ أنَّ الشيءَ للشيء علةتكون له كالنار تقدح بالزندِ
كذلك جربت الأمور وإنمايدلك ما قد كان قبل على البعدِ
وظني بإبراهيم أن مكانهسيبعث يوماً مثل أيامه النكد
وكيف بمن قد بايع الناس والتقتببيعته الركبان غوراً إلى نجدِ
ومن صك تسليم الخلافة سمعهينادى به بين السماطين من بعدِ
وأي امرئٍ سمى بها قط نفسهففارقها حتى يغيب في اللحدِ
وليس سواء خارجي رمى بهإليك سفاه الرأي والرأي قد يردي
ومن هو في بيت الخلافة تلتقيبه وبك الآباء في ذروة المجدِ
فمولاك مولاهُ وجندك جندهوهل يجمعُ القين الحسامين في غمدِ
وقد رابني من أهل بيتك أننيرأيت لهم وجداً به أيما وجدِ
يقولون لا تَبعدْ من ابن ملمةٍصبور عليها النفس ذي مرة جلدِ
فما كان فينا من أبى الضيم غيرهكريم كفى ما في القبول وفي الرد
وجرد إبراهيم للموت نفسهوأبدى سلاحاً فوق ذي مَيعة نهدِ
وأبلى ولم يبلغ من الأمر جهدفليس بمذمومٍ وإن لم يكن يجدي
فهذي أمور قد يخاف ذوو النهىمغبتها والله يهديك للرشدِ

نوادر من الباب

تزوج عبد الملك بن مروان لبابة بنت عبد الله بن جعفر فقالت له يوماً: لو استكت فقال: أما منك فأستاك، وطلقها فتزوجها علي بن عبد الله بن عباس وكان أقرع لا تفارقه قلنسوته، فبعث إليه عبد الملك جارية وهو جالس مع لبابة، فكشفت رأسه على غفلة لتري ما به، فقالت للجارية: قولي له: هاشمي أصلع أحب إلينا من أموي أبخر.
كان أعشى همدان شديد التحريض على الحجاج في حرب ابن الأشعث، فجال أهل العراق جولة ثم عادوا، فنزل عن سرجه ونزعه عن فرسه، ونزع درعه فوضعها فوق السرج ثم جلس عليها وأحدث والناس يرونه ثم قال: لعلكم أنكرتم ما صنعت. قالوا: أوليس هذا بمنكر؟ قال: لا، كلكم قد سلح في سرجه ودرعه خوفاً وفرقاً، ولكنكم سترتموه وأظهرته، فحي القوم وقاتلوا أشد قتال يومهم إلى الليل، وشاع فيهم الجراح والقتلى، وانهزم أهل الشام يومئذٍ ثم عاودوهم من غدٍ وقد نكأتهم الحرب، وجاء مدد من الشام، فباكروهم القتال وهو مستريحون فهرب ابن الأشعث.
ومما حرضهم به أبو جلدة في ذلك اليوم أبيات منها:
وناديتنا أين الفرارُ وكنتمُتغارون أن تبدو البُرَى والوشائح
أأسلمتمونا للعدو وطرتمشلالاً وقد طاحت بهن الطوائحُ
فما غار منهم غائر لحليلةٍولا عزب عزت عليه المناكحُ
أبو نواس في معلم بعض أولاد الأكابر:
قل للأمير جزاك الله صالحةًلا تجمعِ الدهر بين السخل والذيبِ
السخلُ يعلمُ أن الذئب آكلهُوالذئب يعلم ما في السخل من طيبِ
البسامي:
ألا يا دولة السفلأطلت المكث فانتقلي
ويا هذا الزمان أفقْنقضت الشرط في الدولِ

الباب الخامس والعشرون
التقريع والتوبيخ
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي
الحمد لله الواهب سجُحاً بلا تعقيب، والعفو صفحاً فلا تثريب، مسبل ستر التجاوز عن المسيء فلا تقري، ومسم المحسن في مرعى من سعة رحمته مريع، باسط الرزق لعباده ما بسطوا، ومنزل الغيث من بعد ما قنطوا. أحمده حمداً يكون للمقصر بلاغاً وللمشمر زاداً، ومن المكاره حمىً وللنجاةِ عتاداً، وأعود على نفسي بالتوبيخ والتعنيف، لما اطمأنت إليه من التعليل والتسويف، وأسأله توفيقاً للتنبه من سنة الغفلة، والتيقظِ لاغتنام أيام المهلة. والصلاة على رسوله الكريم المسامح، وعلى آله البهاليل الجحاجح.
في الكتاب العزيز مواضعُ تتضمن التوبيخ على سوء الفعل، فمن ذلك قوله عز وجل حكاية عن أهل الجنة إذ يقولون لأهل النار: " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " وقوله عز وجل: " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين " وقوله: " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " وقوله تعالى: ذلك بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون " .
ولما قتل أهل بدر وقف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم على أهل القليب فقال: يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال له أصحابه: يا رسول الله أتكلم قوماً موتى؟ فقال: لقد علموا أن ما وعدتم حق.
قالت عائشة رحمها الله: والناس يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم، وإنما قال صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم لقد علموا. قالوا: معناه إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم يومئذٍ: " يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناسُ، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس.
قال سميع لأهل اليمامة بعد إيقاع خالدٍ بهم: يا بني حنيفة، بعداً كما بعد عاد وثمود، قد والله أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه وكأني أسمع جرسه وأبصر غبه، ولكنكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة، وإنني لما رأيتكم تتهمون النصيح. والله ما منعكم الله التوبة ولا أخذكم على غرة، ولقد أمهلكم حتى مل الواعظ وهزئ الموعوظ به. وكنتم كأنما يعنى بما أنتم فيه غيركم، فأصبحتم وفي أيديكم من تكذيبي التصديق، ومن نصيحتي الندامة، وأصبح في يدي من هلاككم البكاء، ومن ذلكم الجزع، وأصبح ما مضى غير مردود، وما بقي غير مأمون.

ومن كلام علي عليه السلام يوبخ أهل العراق على تخاذلهم عن حرب أهل الشام: أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء. تقولون في المجالس: كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم حيدي حيادِ. ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل، دفاع ذي الدين المطول، لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد. أي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، ومن رمى منكم فقد رمى بأفوق ناصل. أصبحت والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعدُ العدو بكم. ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبعك؟ القومُ رجالٌ أمثالكم. أقوالاً بغير علم، وغفلةً من غير ورع، وطمعاً في غير حق.
خطب الحجاج بعد دير الجماجم فقال: يا أهلَ العراق، إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والشغاف، ثم أفضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعششَ، ثم باض وفرخ، ثم دب ودرج، فحشاكم نفاقاً وشقاقاً، وأشعركم خلافاً، فاتخذتموه دليلاً تتبعونه، وقائداً تطيعونه، ومؤامراً تشاورونه. فكيف تنفعكم تجربة، وتعظكم نصيحة، أو يحجزكم إسلام أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، وأجمعتم على الكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرمقكم بطرفي: تتسلون لواذاً، وتنهزمون سراعاً. ثم يوم الزاوية وما يوم الزاوية، بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، وبراءة الله منكم، ونكوص وليكم عنكم، إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرءُ عن أخيه، ولا يلوي الشيخُ على بنيه، حين عضكم السلاح، وقصمكم الرماح. ثم يوم دير الجماجم وما يوم دير الجماجم؟ به أكانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهامَ عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله. يا أهل العراق، الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والنزوة بعد النزوات. إن بعثتم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم. لا تتذكرون نعمةً، ولا تشرون معروفاً. هل استخفكم ناكث ، أو ستغواكم غاوٍ، أو استنفركم عاصٍ، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع إلا لبيتم دعوته، وأجبتم صيحته، ونفرتم إليه خفافاً وفرساناً ورجلاناً. يا أهل العراق هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر زافر، إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟ يا أهل العراق ألم تنهكم المواعظ، ألم تزجركم الوقائع، ألم يشدد الله عليكم وطأته، ويذيقكم حر سيفه وأليم باسه ومثلاته.
لما استكف الناس بالحسين بن علي عليه السلام استنصت الناس وحمد الله تبارك وتعالى، وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم ثم قال: تباً لكم أيها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا ولهينَ فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً كان بأيماننا وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوكم وعدونا، فأصبحتم إلباً على أوليائكم، ويداً عليهم مع أعدائكم، لغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، ومن غير حدث كان فينا، ولا رأي تفيل منا؟ فهلا لكم الويلات أذكيتموها وتركتموها والسيف مشيم، والجأشُ طامنٌ، والرأيُ لم يستحصف؟ ولن استسرعتم إليها كطيرة الذباب، وتداعيتم عليها كتداعي الفراش، فشجاً وبهلةً لطواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكلم، ومطفئي السنن، وملحقي العهر بالنسب، واسف المؤمنين، ومراجي المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين. لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. أفهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون؟ أجل والله. خذل فيكم معروفٌ وشجت عليه عروقكم، وتأزرت عليه أصولكم فأفرعتم، فكنتم ينقضون الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلاً. ألا وإن ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين الشدة والذلة، وهيهات منا الدنية، يأبى الله ورسوله ذلك والمؤمنون، وحجورٌ طابت، وحجز طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، أن تؤثر مقام اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني زاحفٌ بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلة الناصر:
فإن نَهْزِم فهزامون قدماًوإن نُهْزَمْ فغيرُ مهزمينا
وما إن طبنا جبن ولكنمنايانا ودولة آخرينا

ألا ثم لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور. عهد عهده إلي أبي علي، فأجمعوا أمركم وشركاءَكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم أفضوا إلي ولا تنظرون.
علقمة بن عبدة
ومولى كمولى الزبرقان دملتهكما دملت ساق تهاضُ بها وقرُ
إذا ما أحالت والجبائر فوقهاإلى الحول لا يؤ جميل ولا كسرُ
نراه كأنَّ الله يجد أنفهوأذنيه إن مولاه ثاب له وفر
ترى الشر قد أفنى دوائر وجههكضب الكُدَى أفنى براثنه الحفرُ
ابن نباتة
ولكنما سامرتُ أحلام باطلٍوحاورت وسناناً ينام وأسهرُ
تفكر لما جئت مستصرخاً بهولا يُصْرِخُ المحروبَ من يتفكرُ
رأى المجد بين الجحفلين غنيمةًتكون لمن يغشى الطعان ويصبرُ
فلم يركب التغريرَ في طلب العلاتسربلَ ثوبَ الذلِّ من لا يغررُ
لحا الله ملآن الفؤادِ من المنىإذا أمكنتهُ فرصةٌ لا يشمرُ
يلاحظها حتى يفوت طلابهاويصبح في أدبارها يتدبرُ
دعوتكم للخيل وهي تلفنيفكنتم إماء للقوابل تزجرُ
ومن حذر البلوى فررتُ إليكمفلاقيت منكم في بعضي ما أتخيرُ
وقلتُ لكم ردُّوا وسيقة جاركمفلم تقدروا أنتم على الذل أقدرُ
مسلم بن الوليد يوبخ نفسه:
وإني لأستحيي القنُوعَ ومذهبيعريضٌ وآبى الشحَّ إلاّ على عرضي
وما كان مثلي يعتريك رجاؤُهُولكن أساءت شيمةٌ من فتىً محضِ
وإني وإشرافي عليك بهمتيلكم المبتغي زبداً من الماء بالمخضِ
خطب عتبة بن أبي سفيان أهل مصر فقال: يا أهل مصر قد طالت معاتبتنا إياكم بأطرافِ الرماحِ وظُبَا السيوفِ، أفحينَ استرخت عقد الباطل عنكم حلاً واشتدت عقد الحق عليكم عقداً، أرجفتم بالخليفة، وأردتم توهينَ الخلافة، وخضتم الحق إلى الباطل، وأبعدُ عهدكم به قريب؟! فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم، فهذا كتابُ أمير المؤمنين بالخبر السار عنه والعهد القريب منه.
قال شبيب بن شيبة: كثر قطع بني تميمٍ الطريق بين مكة والبصرة، فبعثني المنصور أقوم في المناهل، وأتكلم فأذم أهل البادية وأوبخهم بما يردعهم، فلم أرد ماء إلا تكلمت بما حضرني فما أحد ينطق، حتى قمت على ما حمدته وحمده الحامدون قبلك وبعد، وصلى الله على محمد نبيه وجيه أفضل صلاةٍ وأتمها، وأخصَّها وأعمها. ثم إني قد سمعت ما تقول في مدح الحضارة وأهلها، وذم البداوة وأهلها، ومهما كان منا أهل البادية من شر فليس فينا نقب الدور، ولا شهادة الزور، ولا نبش القبور، ولا نيك الذكور. قال: فأفحمني، فتمنيت أني لم أخرج لذلك الوجه.
عتب عبد الله بن طاهر على كاتب له فنحاه فرفعَ إليه رقةً يعتذرُ فها، فوقع عبد الله بين سطورها: قلة نظرك لنفسك حرمك سني المنزلة، وغفلتك عن حظَّك حطتك عن أعلى الدرجة، وجهلك موضع النعمة، أحل بك الغير والنقمة، وعماك عن سبيل الجعة، أسلكك طريق المشقة، حتى صرت من قوة الأمل معتاضاً شدة الوجل، ومن رخاء العيش معتقباً يأس الأبد، وحتى ركبت مطية المخافة بعد مجلس الأمن والكرامة، وصرت موضعاً للرحمة بعد أن كنت موضع الغبطة. على أني أرى أملك أمريك بك أدعاهما إلى المكروه إليك، وأوسع حاليك لديك أضعفهما متنفساً عليك، كقول القائل:
إذا ما بدأت امرءاً جاهلاًببر فقصر عن حملهِ
ولم تلقه قابلاً للجميلولا عرف العز من ذلهِ
فسمه الهوان فإن الهوانداء لذي الجهل من جهلهِ
نفيع بن صفار الكوفي يقوله للأخطل:
أبا مالكٍ لا يدركُ الوترُ بالخناولكن بأطراف المثقفة السمر
قتلتم عميراً لا تعدون غيرهوكم قد قتلنا من عمير ومن عمرو
القاسم بن طوق بن مالك التغلبي يقوله شامتاً بموت الفضل بن مروان،وهي في معنى التقريع:
أبا العباس صبراً واعترافاًبما يلقى من الظلم الظلومُ
رزقت سلامة فبطرت فيهاوكنت تخالها أبداً تدومُ
وقد ولت بدولتك اللياليوأنت ملعن فيها ذميمُ
وزالت لم يعش فيها كريمٌولا استغنى بثروتها عديمُ
فبعداً لا انقضاءَ له وسحقاًفغيرُ مصابك الحدثُ العظيمُ
يقال إن النعامة إذا انكسرت إحدى رجليها بقيت جاثمة لا تمشي خلاف كل ذي رجلين، وكان لبعض الأعرابِ أخ اسمه دحية، وكانت امرأته تطرده فقال:
أدحية عني تطردين تبددتْبلحمك طير طِرنَ كل مطيرِ

فإني وإياه كرجلي نعامةٍكل حالٍ من غني وفقير
لما قبض المعتصم على الفضل بن مروان قعد للعامة فوجد قصة فيها:
يا فضل لا تجزعنْ مما بليتَ بهمن خاصم الدهر جاثاه على الركبِ
خنت الإمام وهذا الناس قاطبةًوجرت حتى أتى المقدار في الكتبِ
جمعت شتى وقد أديتها جملاًلأنت أخسرُ من حمالةِ الحطبِ
دخل أبو العيناءِ إلى أحمد بن أبي دواد لما فلج فقال له: ما جئتك مسلياً ولا معزياً، ولكن جئتُ لحمد الله فيك إذ حبسك في جلدك، وأبقى لك عيناً تنظر بها إلى زوال النعمة عنك.
إبراهيم بن العباس:
تخذتكمُ درعاً وترساً لتدفعوانبالَ العدى عني فكنتم نصالها
ابن الزيات:
خلتكم عدة لصرف زمانيفإذا أنتم صروف الزمان
قال حفص بن غياث: مررت بعيان فسمعته يقول: من أراد سرور الدنيا وخزي الآخرة فليتمن ما هذا فيه. قال: فوالله لتمنيت أني مت قبل أن ألِي القضاء.
قال الرضي:
للذل بين الأقربين مضاضةوالذل ما بين الأباعد أروحُ
وإذا رمتك من الرجال قوارصٌفسهام ذي القربى القريبة أجرحُ
ألبس نسيجَ الذلِّ إن ألبستهُمتململاً وإناءُ قبلك يطفح
ما دمت تنتظر العواقب لا بداًلا تغتدي لعلاً ولا تتروحُ
وضجيعك العضبُ الذي لا يُنتضىوخليطُك الزور الذي لا يبرحُ
واعلم بأن البيت إن أوطنتهُسجن وطول الهم غل يجرحُ
أأخي لا تك مضغةً مزؤودةًتنساغُ لينة القيادِ وتَسْرَحُ
ألا أبيتَ وأنتَ من جمراتَهاومن العجائب جمرةٌ لا تلفحُ
كن شوكة يعيي انتفاشُ شباتهاأو حَمْضَةً يشجى بها المتملحُ
وانفض يديك من الثراء فكم مضىمن دون ثروته البخيل المصلحُ
يبقى لوارثه كرائمُ مالهولقد يرقع عيشه ويرقحُ
قد ينتج المرءُ العشارَ بجدهوسواه يعتام الفحول ويلقحُ

نوادر من هذا الباب
قال الشعبي: حضرت عبد الله بن الزبير وهو يخطب بمكة، فقال في آخر خطبته: أما والله لو كانت الرجال تصرف لصرفتكم تصريف الذهب والفضة. أما والله لوددت أن لي بكل رجلين منكم رجلاً من أهل الشام، بل بكل خمسة، بل بكل عشرة، فما بكم يدرك الثار، ولا بكم يمنع الجار. فقال إليه رجل من أهل البصرة فقال: ما نجد لنا ولك مثلاً إلا قول الأعشى:
علقتها عرضاً وعلقت رجلاًغيري وعلق أخرى ذلك الرجلُ
علقناك وعلقت أهل الشام، وعلق أهل الشام بني مروان، فما عسينا أن نصنع؟!
الباب السادس والعشرون
الوعيد والتحذير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المطلوب ثوابه، المرهوب عذابه، الذي لا يفوت طلابه، ولا يؤمن عقابه، قرن الواعد بالوعيد ترغيباً وتحذيراً، وخوف من النار موئلاً ومصيراً، وبعث إلينا رسوله مبشراً ونذيراً، فدعا إلى معالم الإيمان، وهدم دعائم الشرك والطغيان، وأمر بطاعة الرحمن، ونهى عن متابعة الشيطان، وقمع عبدة الطاغوت والأوثان، وأوجب به الحجة على الجاحدين، وأيقظ بدعوته قلوب الغافلين، حتى استقام عمود الإسلام وارتفع، ووضحت سبل الهدى واستبانت لمن اتبع. وصلى اله عليه وعلى آله ما نجم نجمٌ وطلع، وأشاء بارق ولمع.
في كتبا الله تعالى من آيات الوعيد والتحذير الكثير الجم، ومخرجها الوعظ والزجر، ونقتصر هنا على ما يحصل معه الوفاء بقاعدة هذا المجموع: قال الله عز وجل: " ويحذركم الله نفسه " آل عمران:28،30 " نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد " ق: 45 " إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع " الطور: 7 - 8 " فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون " الطور: 45 " وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون " هود: 122 " إن لدينا أنكالاً وجحيماً. وطعاماً ذا غصَّةٍ وعذاباً أليماً " المزامل: 12 - 13.
قال الأصمعي في قول الشاعر:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنتولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررتَ بهاوعند صفو الليالي يحدثُ الكدرُ
كأنه مأخوذ من قول الله عز وجل: " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " الأنعام:44.

خطب عتبة بن ألي سفيان بمصر فقال: يا حاملي ألأم آناف ركبت بين عرانين، إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم، وسألتكم صلاح أمركم إذ كان فساده راجعاً عليكم، فإن أبيتم إلا الطعن على الولاة والتعرض للسيف فوالله لأقطعن على ظهوركم بطون السياط، فإن حسمت داءكم وإلا فالسيف من ورائكم. فكم من موعظة منا لكم مجتها قلوبكم، وزجرة صمت عنها آذانكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم لنا بالمعصية، ولا أويسكم من مراجعة الحق إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى.
قال أعرابي لرجل: ويحك إن فلاناً وإن ضحك إليك فإن قلبه يضحك منك، وإن أظهر الشفقة عليك فإن عقاربه لتسري إليك. فإن لم تتخذه عدواً في علانيتك، فلا تجعله صديقاً في سريرتك.
وحذر آخر رجلاً فقال: احذر فلاناً فإنه كثير المسألة، حسن البحث، لطيف الاستدراج، يحفظ أول كلامك على آخره، وباثَّهُ مباثَّةَ الآمن، وتحفظ منه تحفظ الخائف. واعلم أن من يقظة المرء إظهار الغفلة مع الحذر.
قطع ناس من بني مخزوم الطريق فكتب إليهم الحجاج: أما بعد فقد استخفتكم الفتنة، فلا عن حق تقاتلون، ولا عن منكرٍ تنتهون.
بلغ قتيبة من مسلم أن سليمان بن عبد الملك يريد عزله واستعمال يزيد بن المهلب، فإن دفعه إلى يزيد بن المهلب فادفع إليه الثاني، فإن شتمني عند الثاني فادفع إليه الثالث. فدفع إليه الكتاب الأول فإذا فيه: إن بلائي في طاعة أبيك وأخيك كذا. قال: فرمى بالكتاب إلى يزيد، فأعطاه الثاني فإذا فيه: كيف تأمن يزيد على أسرارك وكان أبوه لا يأمنه على أمهات أولاده؟! قال: فشتمه فدفع إليه الكتاب الثالث، فإذا فيه: من قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلأوثقن لك آخية لا ينزعها المهر الأرن. فقال سليمان: ما أرانا إلا قد عجلنا على قتيبة. يا غلام، جدد له عهده على خراسان.
كتب إبراهيم بن العباس إلى أهل حمص: أما بعد فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله سبحانه وتعالى عليه استعمال ثلاث يقدم بعضهن على بعض: الأولى تقديم تنبيه وتوقيف، ثم يستظهر به من تحذير وتخويف، ثم التي لا ينفع لحسم الداء غيرها:
أناةً فإن لم تُغن أعقب بعدهاوعيداً فإن لم يجد أغنت عزائمه
ويقال: إن هذا أول كتبا صدر عن خليفة من بني العباس وفيه شر. وقيل إن إبراهيم لم يعتمد أن يقول شعراً، ولكنه لما رآه موزوناً تركه.
ولإبراهيم:
يا أيها السادر في بغيهلم تخف الله وإرصادهُ
إني من الله على موعدٍفيك ولن يخلف ميعادهُ
وقال أيضاً:
إيهاً أبا جعفر فللدهر كرْ ... راتٌ وعما يريب متسعُ
بعثت ليثاً على فرائسهوأنت منها فانظر متى تقعُ
لمظته قوته وفيك لهلو قد تقضت أقواته شبعُ
وقال:
أبا جعفر خف نبوةً بعد دولةوعرج قليلاً عن مدى غلوائكا
فإن يك هذا اليوم يوماً حويتهفإن رجائي في غدٍ كرجائكا

النجاشي الحارثي
أبلغ شهاباً أخا خولان مالكةًأن الكتائب لا يهزمن بالكتبِ
تهدي الوعيد برأس السرو متكئاًفإن أردت مصاع القوم فاقترب
وإن تغب في جمادى عن وقائعنافسوف نلقاك في شعبان
وفد الحتات المجاشعي عم الفرزدق على معاوية في وفد قومه، فخرجت جوائزهم، فانصرفوا، ومرض الحتات فأقام عند معاوية حتى مات، وأمر معاوية بماله فأدخل في بيت المال، فخرج الفرزدق إلى معاوية وهو غلام، فلما أذن للناس مثل ما بين السماطين فقال:
أبوك وعمي يا معاوي أورثاتراثاً ويحتاز التراث أقاربهْ
فما بال ميراثِ الحتاتِ أكلتهوميراث حرب جامدٌ لك ذائبه
فلو كان هذا الأمرُ في جاهليةعلمت من المولى القليل حلائبه
ولو كان هذا الأمر في ملك غيركملأديته أو غص بالماء شاربه
فقال له معاوية: من أنت؟ قال: أنا الفرزدق بن غالب، قال: ادفعوا إليه ميراثَ عمه الحتات، وكان ألف دينار، فدفع إليه.
قبيصة بن ذُؤيب يقوله لامرئ القيس:
لعلك أن تستوخم الورد أن غدتكتائبنا في مأزق الموت تمطرُ

لما قتل عبد الملك بن مروان مصعباً دخل الكوفة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم، ثم قال: أيها الناس إن الحرب صعبة مرة، وإن السلم أمن ومسرة، وقد زبنتنا الحرب وزبناها، فعرفناها وألفناها، فنحن بنوها وهي أمنا. أيها الناس فاستقيموا على سبل الهدى، ودعوا الأهواء المردية، وتجنبوا فراق جماعة المسلمين، ولا تكلفنا أعمال المهاجرين الأولين وأنت لا تعملون أعمالهم، ولا أظنكم تزدادون بعد الموعظة إلا شراً، ولن نزداد بعد الإعذار إليكم والحجة عليكم إلا عقوبة، فمن شاء منكم أن يعود بعد لمثلها فليعد، فإنما مثلي ومثلكم كما قال قيس بن رفاعة:
من يصل ناري بلا ذنب ولا ترةٍيصل بنار كريم غير غدار
وهي أبيات مختارة قد وردت في باب الفخر.
لقي أبو علي البصير علي بن الجهم في بعض ما جرى بينهما، فقال له أبو علي: يا أبا الحسن لا تزد في أعدائك، فلعله أن يقع عليك مطبوع من الشعراء يسهل عليه من حوك القريض ما يعسر على غيره. واعمل أ، مع الملوك ملالة، فلا تأتهم من حيث لا يحبون فينبو بك منهم المطمئن، فقال ابن الجهم: نصيحة، وإن كان مخرج الكلام مخرج تهدد.
نازع عبد الله بن الزبير مروان بن الحكم عند معاوية، فقال ابن الزبير: يا معاوية لا تدع مروان يرمي جماهير قريش بمشاقصه، ويضرب صفاتهم بمعوليه، فإنه لولا مكانك لكان أخف على رقابنا من فراشةٍ وريشة نعامة، وأقل في نفوسنا من خشاشة، ولئن ملك أعنة خيل تنقاد له ليركبن منك طبقاً تخافه. فقال له معاوية: إن يطلب هذا الأمر فقد طمع فيه من هو دونه، وإن تركه تركه لمن هو فوقه، وإن أراكم منتهين حتى يبعث الله عليكم من لا يعطف عليكم بقرابة، ولا يذكركم عند ملمة، ويسومكم خسفاً، ويوردكم حتفاً. قال ابن الزبير: إذن والله نطلق عقال الحرب بكتائب تمور كرجل الجراد حافتاه الأسل، لها دوي كدوي الريح، تتبع غطريفاً من قريش لم تكن أمه براعية ثلة. فقال معاوية: أنا ابن هند أطلقت عقال الحرب، فأكلت ذروة السنام، وشربت عنفوان المكرع، وليس للآكل إلا الفلذة، ولا للشارب إلا الرنق.
من كلام ابن نصر الكاتب في التحذير: فكن - حرسك الله - لابساً جنة التوقي والاحتراس، راصداً فرصة الوثبة والافتراس، غير مهون الأمر وإن دق خطبه، ولا مسترسلٍ فيه وإن تضاءل خطرُهُ، فإن الهفوات تهتدي جهة القار الغافل، وتسري في محجة الغارّ الذاهل، فتتنكب طريق العالم المتبصر، وتتجنب سبيل الحازم المستظهر.
المتنبي:
توهم القوم أن العجز قربناوفي التقرب ما يدعو إلى التهمِ
ولم تزل قلة الإنصافِ قاطعةًبين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
من اقتضى بسوى الهندي حاجتهُأجاب كل سؤالٍ عن هل بلم
هون على بصر ما شق منظرهُفإنما يقظات العين كالحلمِ
ولا تشك إلى خلق فتشمتهُشكوى الجريح إلى الغربان والرحم
وكن على حذر للناس تسترهُولا يغرك منهم ثغر مبتسم
أنشد الجاحظ:
القوم أمثال السباع فانشمرْفمنهم الذئبُ ومنهم النمر
والضبعُ الغثراء والليثُ الهمر
آخر:
فدع الوعيد فما وعيدك ضائريأطنين أجنحة الذباب يضيرُ
أوس بن حجر:
رأيت بريداً يدربني بعينهتشاوس رويداً إنني من تأملُ
كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى أهل البصرة: فإن خطت بكم الأهواء المردية والآراء الجائرة إلى منابذتي وخلافي فهاأنا ذا قد قربت جيادي، ورحلت ركابي، ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق، مع أني عارف لذي الطاعة منكم فضله، ولذي النصيحة حقه، غير متجاوز متهماً إلى بري، ولا ناكثاً إلى وفيّ.
قطع على قوم بالبادية فكتب الحجاج إلى عمرو بن حنظلة: أما بعد فإنكم أقوام قد استخفتكم هذه الفتنة فلا علي حق تقيمون، ولا عن باطل تمسكون، وإني أقسم بالله لتأتينكم مني خيلٌ تدع أبناءكم يتامى، ونساءكم أيامى، ألا وأيما رفقة مرت بأهل ماء فأهل الماء ضامنون لها حتى تأتي الماء الآخر. فكانت الرفقة إذا وردت أهلَ الماء أخذوها حتى يوردوها الماء الآخر.

بلغ داود بن علي أن أهل المدينة ينقمون عليه قتله من قتل من بني أمية، وبسط ألسنتهم بما يكره من ذكره، فنادى في أهله: الصلاة جامعة. فاجتمعوا وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم ثم قال: يا أيها الناس النوام، حتى متى يهتف بكم صريخكم؟ أما آن لراقدكم أن يهب من رقدته؟ بل هم كما قال الله عز وجل: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " المطففين:14. أغركم الإمهال حتى خلتموه الإهمال، أيهات منكم وكيف بكم والسوط لفاً والسيف مشيم؟ لا والله لا تنفرون من سنتكم حتى يجوس أولياب الله بسيوفهم خلال دياركم:
حتى تبيد قبيلة وقبيلةٌويعض كل مذكر بالهامِ
يخرجن ربات الخدور حواسراًيمسحن عرض ذوائب الأيتام
معاشر السبابة، فاقبلوا العافية قبل نزول البلايا بسيوف المنايا. ثم نزل.
معاذ بن كليب الخويلدي:
فلا تحسبن الدين يا غلب منسياًولا الثائر الحران ينسى التقاضيا
الأخطل:
حتى استكانوا وهم مني على مضضٍوالقول ينفذ ما لا تنفذ الإبرُ
مالك بن الريب:
فشأنكم بي يا آل مروان فاطلبواسقاطي فما فيه لباغيه مطمعُ
وما أنا كالعير المقيم لأهلهعلى القيد في بحبوحة الضيم يرتعُ
فلولا رسول الله إذ كان منكمتبين من بالنصف يرضى ويقنعُ
بعض العلوية:
أرى ناراً تشب بكل وادٍلها في كل ناحيةٍ شعاعُ
وقد رقدت بنو العباس عنهاوباتت وهي آمنةٌ رتاعُ
كما رقدت أمية ثم هبتلتدفع حين ليس بها دفاعُ
تساب بدويان فقال أحدهما لصاحبه: أراك والله تعطس عن أنف طالما جدع على الهوان، فقال صاحبه: والله لئن لم تكف عني شر لسانك، ولم تستر دوني عورة سبك، لأصدعن صفاتك بمعول لا ينبو عن مضره، ولأحصدن رأسك بمنجل لا ينثني عن مأخذه. فقال له الأول: لا تسعر نارنا، ولا تطلب عوارنا، فإن سفه الجاهل بلسانه، وسفه النسيب في يده، وكأني بك وقد وعيت مني كلاماً يمنعك الشراب البارد، ويشمت بك الصادر والوارد، وقل من تمرد على العافية إلا تمرد عليه البلاء. فانقلب عنه مغيظاً بهمهم.
سوار بن مضرب:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتيوقومي تميم والفلاة ورائيا
أبو نهشل ابن حميد الطائي:
أما والراقصات بذات عرقورب الركن والبيت العتيقِ
لقد أطلعت لي تهماً أراهاستحملني على مضض العقوقِ
ويد بن منجوف:
فأبلغ مصعباً عني رسولاًوهل يلفى النصيح بكل وادِ
تعلم أن أكثر من تناجيوإن ضحكوا إليك هم الأعادي
وقع الطاعون بالكوفة فخرج في من خرج صديق لشريح فكتب إليه: أما بعد فإنك والمكان الذي أنت به بعين من لا يعجزه هرب، ولا يفوتهُ طلبٌ، وإن المكان الذي حلفته لا يعجل أحداً إلى حمامه، ولا يظلمه شيئاً من أيامه. وأنا وإياكم لعلى بساط واحد، وإن النجف من ذي قدرة لقريب.
ابن ميمون الأنباري الكاتب:
يا وزراء الملك لا تفرحواأيامكم أقصر أيامِ
وزارة مختصر عمرهاأطولها يقصر عن عامِ
نظر الفضل بن مروان في رقاع الناس فإذا رقة فيها :
تعززت يا فضل بن مروان فاعتبرْفقبلك مات الفضل والفضل والفضلُ
ثلاثة أملاكٍ مضوا لسبيلهمْأبادتهم الأقياد والحبس والقتلُ
وإنك قد أصبحت للناس ظالماًستودي كما أودى الثلاثة من قبلُ
أعرابي يقول لوالٍ: ما أطول سكر كأسٍ شربها، ولما يخاف من عاقبتها أشد سكراً، ولئن كانت الدنيا مشغولة بك ليوشك أن تكون فارغةً منه حيث لا تُرجى له أوبة، ولا تقبل منه توبة.
ابن نباته:
فلا تحقرن عدواً رماكَوإن كان في ساعديه قصرْ
فإن السيوف تجذ الرقابَوتعجز عما تنال الإبر
لا تحقرني فربما نفذتْفي ردم يأجوج حيلة الجرذ
الرضي:
حذار فإن الليثَ قد فر نابهُوقد أوتر الرامي المصيب فأنبضا
وقال:
وصلعاء من مظلمات الخطو ... بِ عمياء ليس لها مطلعُ
يكاد وجيب قلوب الرجا ... لِ من خوف مكروهها يسمعُ
وقال:
هيهاتِ لا يرجو لها رقعةًاثأي عليك الخرقُ يا راقعُ
وقال:
حذار بني العنقاءِ من متطاولٍإلى الحرب لا يخشى جناية جانٍ
فهذا وعيد سطوتي من ورائهوعنوان ناري أن يبين دخاني
فلا تحسب الأعداء كيدي غنيمةولا أنني في الشر غير معانِ

فإني بحمد الله أقوى على الأذىوأنمي على البغضاء والشنآنِ
وقال أيضاً:
لا تدنين مواريين دعوتهميوم الطعان فسوفوك إلى الغد
تركوا القنا تهفو إليك صدورهوالقوم بين مهلل ومعردِ
حتى اتقوا بك ثم فاغرة الردىفنجوا وأنت على طريق المزردِ
قذفوك في غمائها وتباعدواعنها وقالوا قم لنفسك واقعدِ
قطع الزمان قبال نعلك فانتعلْأخرى تقيك من العثار وجدد
وقال:
رب قول نمى إلي وعزميغالفٌ والهموم عني نيامُ
وتعرفت قائليه ولكنْآه لو كان في يميني حسامُ

نوادر من هذا الباب
أغارت عكل على إبل لبني حنظلة، فاستغاثوا بإسحاق بن إبراهيم، فكتب إلى عامله كتاباً فخرج الحنظلي وخرق الكتاب وقال:
جعلتم قراطيس العراق سيوفكمولن يقطع القرطاس رأس المكابرِ
وقلت خذوا البر التقي فإنهأقل امتناعاً واتركوا كل فاجر
فرحنا بقرطاس طويل وطينةٍوراحت بنو أعمامنا بالأباعرِ
تزوج سعيد بن عباد بن حبي بن المهلب بنت سفيان بن معاوية ابن يزيد بن المهلب، وكان قد تزوجها قبله رجلان فدفنتهما فكتب إليه أبو عيينة المهلبي:
رأيت أثاثها فرغبت فيهفكم نصبت لغيرك بالأثاثِ
إلى دار المنون فجهزتهمْتحثهم بأربعةٍ حثاثِ
فصير أمرها بيدي بنيهاوعيشك من حبالك بالثلاثِ
وإلا فالسلام عليك منيسأبدأ من غد لك بالمراثي
م: آخر باب الوعيد والتحذير ويتلوه إن شاء الله تعالى باب النعوت والصفات، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
الباب السابع والعشرون
في الأوصاف والنعوت
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن الحمد لله المستعلي عن الشبيه والنظير، المستغني عن المشير والظهير، البعيد بجلاله وكبريائه، القريب بعطفه على أوليائه، السميع بلا جارحة واعية، البصير الذي لا تخفى عنه خافية. أحمده على صدق اليقين، وأسأله شكر الموحدين المتقين، وأستمده الرشاد والهداية، وأومن بالإعادة كما كانت منه البداية، وأعوذ به أن اتخذ الهوى إلهاً، وأن أجعل له أنداداً وأشباهاً. والصلاة على نبينا المصطفى، ورسوله المجتبي، المبعوث جلاء للأفهام من صدأ الارتياب، وشفاء للأوهام من علل الشبهات والأوصاب، وعلى آله مصابيح كل ليلٍ داجٍ مظلم، ومفاتيح كل مشكل مستبهم.
في الكتاب العزيز روائع من التشبيهات، وبدائع من الأوصاف، وأنا ألم بذكر شيء منها ثم أعود إلى أنواع ما جاء في هذا المعنى مضيفاً كل معنى إلى جنسه. فمن ذلك قوله تعالى في صفة الأفعال: " مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف " إبراهيم: 18. وقوله عز وجل: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً " النور: 39. وقوله عز وجل: " والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم " يس:39، وقوله سبحانه وتعالى: " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، والمصباح في زجاجةٍ، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور " النور:35.
ويشتمل هذا الباب على أربعين نوعاً: الخيل وما يتبعها. وصف البغال والحمير. الإبل. الفيل. الأسد. وحش الفلاة وسباعها. القنص وآلاته وأماكنه من الحيوان. الطير. أنواع شتى من الحيوان. الحية. الهوام والحشرات. النساء: لباسهن وزينتهن. الغلمان السودان. السماء والنجوم وما يتعلق بها. الليل والصبح وما جاء في طول الليل وقصره. السحاب والغيث وما كان مهما. الرياح. الخصب والمحل. المياه والغدران والأنهار. السفن والبحر. الرياض والأزهار. النخل والشجر. الحرب والجيش. السلاح والجنن. أنواع القتل والجرح. الأبنية والمعاقل. الديار والرسوم. الفلاة. السير والسرى. البيان والمحاورة. القوافي. الكتاب والقلم وآلاتهما. النار والحر وما يتنوع منهما. القر والصلا. المآكل والأكول. القدر. الملاهي. الشواذ. النوادر.
وصل الخيل
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم: الخيل معقود في نواصيها الخير. وخص الناصية من بين سائر الأعضاء لأن العرب تقول: فلان مغضور الناصية أي مباركها.

وقال صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم، وذكر الخيل: بطونها كنز وظهورها حرز وروي عن مكحول قال: سبق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم على فرس فجثا على ركبتيه وقال: إنه لبحر. فقال عمر، رضي الله عنه: كذب الحطيئة حيث يقول:
وإن جياد الحيل لا تستفزناولا جاعلاتُ الريط فوق المعاصم
وقد أمر الله عز وجل بإعدادها إرهاباً لأعدائه. وكانت العرب تفتخر بارتباطها وتراه من أسرى مآثرها وتجيع لها العيال. والأخبار في ذلك تجيء في أماكنها. وهذا موضع إثبات ما جاءفي أوصافها من معنى بديع ولفظ بليغ.
والمقدم في ذلك قول امرئ القيس، وليس إخلاقه بتداول الألسن بمانعه من هذه الرتبة:
وقد أغتدي والطير في وكناتهابمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معاًكجلمود صخرٍ حطَّه السيل من علِ
له أبطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍوإرخاء سرحان وتقريب تتفل
وقال بشر بن أبي خازم الأسدي يصف جملة خيل:
متى ما أدعُ في أسد تجبنيعلى خيل مسومة صيامِ
تراها نحو داعيها سراعاًكما انسل الفريد من النظام
وقال الاسعر بن أبي حمران الجعفي:
باعوا جوادهم لتسمن أمهمولكي يعود على فراشهم فتى
لكن قعيدة بيتنا مجفوةٌبادٍ جناجنُ صدرها ولها غنى
تقفى بغيبة أهلها وثابةٌأو جرشع عبل المحازم والشنى
ولقد علمت على تجشمي الردىأن الحصون الخيل لا مدر القرى
راحوا بصائرهم على أكتافهموبصيرتي يعدو بها عتد وأي
نهد المراكل مدمج أرساغهُعبل المعاقم لا يبالي ما أتى
إني وجدت الخيل عزاً ظاهراًتنجي من الغمي ويكشفن الدجى
ويبتن بالثغرِ المخوف طليعةًويبتن للصعلوك حكة ذي الغنى
يحرجن من خلل الغبار عوابساًكأصابع المقرور أقعى فاصطلى
وقال مزرد بن ضرار أخو الشماخ:
وعندي إذا الحرب العوان تلقحتْوأبدت هواديها الخطوب الزلازلُ
أجش صريحي كأن صهيلهمزامير شربٍ جاوبتها جلاجلُ
متى يرَ مركوباً تقل بازُ قانصٍوفي مشيه عند القياد تساتلُ
تقول إذا أبصرته وهو صائمٌخباء على نشزٍ أو السيد ماثل
خروج أضاميمٍ وأحصن معقلٍإذا لم يكن إلا الجياد معاقلُ
يرى طامح العينين يرنو كأنهمؤانس ذُعرٍ فهو بالأنس خاتلُ
وصم الحوامي ما يبالي إذا عداأوعث نقاً عنت له أم جنادل
وقال جرير يصف حالاً منها:
وطوى الطراد مع القياد بطونهاطي التجار بحضرموت برودا
وقيل لأعرابي: كيف عدو فرسك؟ فقال: يعدو ما وجد أرضاً.
وقال زهير بن أبي سلمى:
صبحتُ بمشتد النواشر سابحٍممر أسيل نهد مراكلهْ
أمين شظاه لم يخرق صفاقهبمنقبةٍ ولم تقطع أباجلهْ
إذا ما غدونا نبتغي الصيد مرةًمتى نره فإننا لا تخاتلهْ
فبتنا عراةً عند رأس جوادنايزاولنا عن نفسه ونزاولهْ
فنضربه حتى اطمأن قذالهولم يطمئن قلبه وخصائله
النواشر: عروق الذراع، واحدها ناشرة، والنهد: الضخم، والممر: المفتول، والشظا: عظم ملصق بالذراع، وبعضهم يقول: الشظايا: انشقاق العصب. والصفاق: الجلدة السفلى تحت الجلد عليه الشعر. المنقب: حيث ينقب البيطار من البطن، والمنقبة حديدة ينقب بها البيطار، وتقال منقبة بكسر الميم، والخصائل جمع خصيلة وكل لحمة في عصبة خصيلة.
وقال زهير أيضاً:
ولقد غدوت على القنيص بسابحٍمثل الوذيلة جرشع لأمِ
قيد الأوابد ما يغيبهاكالسيف ولا ضرع ولا قحمِ
صعل كسافلة القانة من ال ... مران ينفي الخيل بالعذْمِ
الوذيلة: الفضبة شبه بريقه وصفاءَه بها، والجرشع: الضخم الجنبين واللأم: الملتئم الشديد والسيد: الذئب، والضرع: الصغير السن. القحم : الكبير. والصعل: الدقيق العنق الصغير الرأس. والمران: شجر تتخذ منه الرماح. والعذم: العض.
وقال آخر:
جاء كلمع البرق جاش ما طرهتسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمس الأرض منه حافرهْ
وصف عبد الحميد فرساً ركبها فقال: همها أمامها، وسوطها عنانها، وما ضربت قط إلا ظلماً.
وصف ابن القرية فرساً أهداه الحجاج إلى عبد الملك بن مروان فقال: قد وجهت إليك بفرس أسيل الخد، حسن القد، يسبق الطرف، ويستغرق الوصف.
وقال عبد العزيز الحمصي في وصف فرس: كأنه إلا علا دعاء، وإذا هبط قضاء.
وقال النجاشي الحارثي:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19