كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون

أطرد الحجاج عمران بن حطان، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل، وكان رأس القعدة من الخوارج الصفرية، فكان يتنقل في القبائل، فإذا نزل في حي انتسب نسباً يقرب منه. فنزل مرة عند روح بن زنباع الجذامي، وكان يقري الأضياف، فانتمى له من الأزد. وكان لا يسمع شعراً نادراً ولا غريباً عند عبد الملك، فيسأل عنه عمران بن حطان إلا عرفه وزاد فيه. فذكر ذلك لعبد الملك فقال: إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه. قال: خبرني بعض أخباره، فخبره وأنشده فقال: إن اللغة عدنانية، وإني لأحسبه عمران بن حطان، حتى تذاكروا قول عمران بن حطان: (من البسيط)
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
وإني لأذكره حيناً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
فلم يدر عبد الملك امن هو، فرجع روح فسأل عمران بن حطان عنه فقال: هذا يقوله عمران بن حطان يمدح به عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله ولعن مادحه، قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. فرجع روح فأخبره، فقال عبد الملك: ضيفك عمران بن حطان قبحه الله، اذهب فجيء به، فرجع إليه فقال: إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك. قال له عمران: قد أردت أن أسألك ذلك فاستحيين منك، فامض فإني بالأثر. فرجع روح إلى عبد الملك فخبره، فقال له عبد الملك: أما إنك سترجع فلا تجده. فرجع وعمران بن حطان قد احتمل، وخلف رقعة فيها: (من البسيط)
يا روح كم من أخي مثوىً نزلت به ... قد ظنّ طنك من لحم وغسان
حتى إذا خفته فارقت منازله ... من بعد ما قبل عمران بن حطان
قد كنت جارك حولاً لا تروعني ... فيه روائع من إنس ولا جان
حتى أردت بي العظمى فأدركني ... ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له ... في النائبات خطوباً ذات ألوان
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني
لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية ... كنت المقدم في سري وإعلاني
لكن أبت لي آيات مطهرة ... عند التلاوة في طه وعمران

لما طالت الحرب بين الخوارج وبين المهلب بن أبي صفرة، ورأى ثباتهم وأنهم كلما تفرقوا بالحرب عادوا وتجمعوا باتفاق أهوائهم، علم أنه لا يظفر بهم تاماً ويستأصلهم إلا باختلاف يقع بينهم. وكان في الخوارج حداد يعمل نصالاً مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب، فوجه المهلب رجلاً من أصحابه بكتاب وألف درهم إلى عسكر قطري والخوارج، فقال: ألق هذا الكتاب في العسكر واحذر على نفسك. وكان الحداد يقال له: أبزى. فمضى الرجل، وكان في الكتاب: أما بعد، فإن نصالك قد وصلت إلي، وقد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها، وزدنا من هذه النصال. فوقع الكتاب إلى قطري فدعا بأبزى، فقال له: ما هذا الكتاب؟ قال: لا أدري، قال: فهذه الدراهم؟ قال: لا أعلم علمها، فأمر به فقتل. فجاء عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له: أقتلت رجلاً على غير ثقة ولا تبين؟ قال: فما حال هذه الدراهم؟ قال: يجوز أن يكون أمرها كذباً ويجوز أن يكون حقاً. فقال له قطري: فقتل رجل في صلاح الناس غير منكر، وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحاً، وليس للرعية أن تعترض عليه. فتنكر عبد ربه في جماعة معه ولم يفارقوه. فبلغ ذلك المهلب فدس إليه رجلاً نصرانياً، فقال له: إذا رأيت قطرياً فاسجد له، فإذا نهاك فقل: إنما سجدت لك، ففعل النصراني فقال له قطري: إنما السجود لله، فقال: ما سجدت إلا لك. فقال له رجل من الخوارج: قد عبدك من دون الله، وتلا: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " . فقال له قطري: إن هؤلاء النصارى قد عبدوا المسيح بن مريم فما ضر المسيح ذلك شيئاً. فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر ذلك عليه وقال: أقتلت ذمياً! فاختلفت الكلمة، فبلغ ذلك المهلب غوجه إليهم رجلاً يسألهم عن شيء تقدم به إليه. فقال: أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكما، فمات أحدهما في الطريق، وبلغكم الآخر فامتحنتموه فلم يجز المحنة، ما تقولون فيهما؟ فقال بعضهم: أما الميت فمؤمن من أهل الجنة، وأما الذي لم يجز فكافر حتى يجيزها. فقال له قوم آخرون: بل هما كافران حتى يجيز المحنة. فكثر الاختلاف بينهم، وكان سبب تفرقهم وتمكن المسلمين منهم وانقطاع دابرهم.
كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل مستتراً يجلس في حلقة أزهر السمان المحدث. فلما أفضت إليه الخلافة قدم عليه، فرحب به وقربه وقال: حاجتك يا أزهر، قال: يا أمير المؤمنين، داري متهدمة، وعلي أربعة آلاف دينار، وأريد أن أزوج محمداً ابني، فوصله باثني عشر ألفاً وقال: قد قضينا حاجتك يا أزهر، فلا ت؟أتنا طالباً، فأخذها وانصرف. فلما كان بعد سنة أتاه، فقال: له أبو جعفر: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: جئت مسلّماً. قال: إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالباً، فقال: ما جئت إلا مسلّماً. قال: قد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، واذهب ولا تأتنا طالباً ولا مسلّماً. فأخذها ومضى، فلما كان بعد سنة أتاه، قال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: جئت عائداً، قال: إنه وقع في خلدي أنك جئت طالباً، قال: ما جئت إلا عائداً، قال: قد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، ولا تأتنا طالباً ولا مسلّماً ولا عائداً، فأخذها وانصرف. فلما مضت السنة أقبل، قال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: دعاء كنت أسمعه منك يا أمير المؤمنين تدعو به جئت لأكتبه فإنه مستجاب. فضحك المنصور وقال: إنه غير مستجاب؛ وذاك أني دعوت الله تعالى أن لا أراك، فلم يستجب لي، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، وتعال إذا شئت، فقد أعيتني الحيلة فيك.

أكثر الأحوص من التشبيب بأم جعفر، وهي امرأة من الأنصار، ولم يكن بينهما معرفة، فنهاه عنها أخوها أيمن فلم ينته. فاستعدى عليه عمر بن عبد العزيز، فربطهما في حبل ودفع إليهما سوطين وقال لهما: تجالدا، وقد ذكرنا خبرهما في ذلك في باب الأجوبة الدامغة. فلم أعيا أم جعفر أمر الأحوص جاءت إليه وهي منتقبة فوقفت عليه في مجلس قومه ولا يعرفها، فقالت: اقضني ثمن الغنم التي ابتعتها مني، قال: ما ابتعت منك شيئاً. فأظهرت كتاباً قد وضعته عليه وبكت وشكت حاجة وضراً وقالت: يا قوم كلموه، فلامه قومه وقالوا له: أوصل إلى المرأة حقها. فجعل يحلف وما يعرفها ولا رآها قط. فكشف وجهها وقالت: ويلك، وما تعرفني؟! فجعل يحلف مجتهداً أنه ما رآها قط ولا يعرفها، حتى استفاض قولها وقوله، واجتمع الناس وكثروا وسمعوا ما دار بينهما، وكثر لغطهم. ثم قامت وقالت: يا عدو الله، صدقت، والله ما لي عليك حق ولا تعرفني، وقد حلفت على ذلك وأنت صادق، وأنا أم جعفر وأنت تقول: قلت لأم جعفر، وقالت لي أم جعفر في شعرك. فخجل الأحوص وانكسر عند ذلك، وبرئت عندهم.
سأل ابن جامع المغني الرشيد في أن يأذن له في المهارشة بين الدويك والكلاب، وأن لا يحد في النبيذ، فأذن له وكتب له كتاباً إلى العثماني عامله على مكة. فلما وصل الكتاب قال: كذبت، أمير المؤمنين لا يحل ما حرم الله، وهذا كتاب مزور، والله لئن ثقفتك على حال من هذه الأحوال لأؤدبنك أدبك. فحذره ابن جامع.
ووقع بين العثماني وحماد البربري وهو على البريد ما يقع بين العمال. فلما حج الرشيد قال حماد لابن جامع: أعني عليه حتى نعزله، قال: أفعل، فابدأ أنت فقل لأمير المؤمنين إنه ظالم فاجر واستشهدني، قال له ابن جامع: هذا لا يقبل في العثماني، ويفهم أمير المؤمنين كذبنا، ولكني أحتال من جهة ألطف من هذه. قال: فسأله الرشيد ابتداء فقال له: يا ابن جامع، كيف أميركم العثماني؟ قال: خير أمير وأفضله وأعدله وأقومه بالحق لولا ضعف في عقله؛ قال: وما ضعفه؟ قال: قد أفنى الكلاب قال: وما دعاه إلى قتلها؟ قال: زعم أن كلباً دنا من عثمان بن عفان يوم ألقي على الكناس فأكل وجهه، فغضب على الكلاب فهو يقتلها. فقال: هذا ضعيف العقل فاعزلوه. فكان ذلك سبب عزله.
ولي بعض العرب السعاية على أحياء من العرب والنظر في أمورهم. فاختصم إليه اثنان في غنم كل واحد منهما يدعيها، وليس هناك من يشهد لواحد منهما، فأمرهما أن يجعلا الغنم في موضع وكان فيها كلب لصاحب الغنم وأن يبيتا بالقرب منها، فلما كان الليل أتاهما فقال لأحدهما: قم فأتني برأس من الغنم. فمضى لذلك فنبحه الكلب فعاد، فقال له: اثبت مكانك، ودعا الآخر وقال: اذهب فجئني برأس منها، فجاءه به ولم ينبحه الكلب، فحكم له بالغنم.
واختصم إليه اثنان زعم أحدهما أن الآخر عبد له، والآخر ينكر. فقال لمدعي العبد: ما اسم العبد؟ قال: ميمون، وقال للآخر سراً: ما اسمك: قال: عبد الله. فأجلسهما، ولها عنهما ساعة واشتغل بغيرهما، ثم قال: يا ميمون، فقال: لبيك، قال: اذهب مع مولاك.
واختصم إليه شيخ وشاب في امرأة معها صبي كل يدعي أنها زوجته، وأن الصبي ابنه منها، وليس مع واحد منهما بينة، والمرأة تعترف للشاب. ففرق بينهم وأجلس الصبي بين يديه، وأخرج تمراً فأطعمه منه، ثم أعطاه منه وقال: اذهب به إلى أمك. فذهب إليها فأعطاها التمر وعاد إليه. فأعطاه تمراً وقال: اذهب بهذا إلى أبيك، فذهب فأعطاه الشيخ، وعاد فأعطاه منه وقال: اذهب به إلى أبيك فأعطاه الشيخ أيضاً. فحكم بالمرأة والولد للشيخ. وتهدد الشاب حتى أقر بالقصة على حقيقتها.
ابتاع شريك بن عبد الله القاضي من رجل مملوكاً عبداً أو أمة، فوجد به عيباً فرده على البائع بالعيب، فقال له البائع: لا تردده، أنا أربح لك فيه دنانير، وقال: أوتفعل؟ قال: نعم، قال: فبعه. فذهب البائع ولم يعرضه، فلما أبطأ على شريك دعا به، فقال له: ألم تقل إنك تربح؟ قال: بلى، قد قلت ذلك؛ قال: فأين الربح؟ قال: ما عرضته؛ قال: فاردد علينا الثمن، قال: ليس إلى ذلك سبيل، قد رضيته بعد العيب أمرتني بعرضه. فعلم شريك أنه قد وجب عليه، فأمسك.

كان سراقة البارقي شاعراً ظريفاً أسره المختار في بعض حروبه، فأمر بقتله، فقال: والله لا تقتلني حتى تنقض دمشق حجراً حجراً. فقال المختار: من يخرج أسرارنا؟ ثم قال: من أسرك؟ قال: قوم على خيل بلق عليهم ثياب بيض لا أراهم في عسكرك. فأقبل المختار على أصحابه فقال: إن عدوكم يرى من هذا ما لا ترون، ثم قال له: إني قاتلك، قال: والله يا أمير آل محمد إنك لتعلم أن هذا ليس باليوم الذي تقتلني فيه. قال: ففي أي يوم أقتلك؟ قال: يوم تضع كرسيك على باب مدينة دمشق فتدعوني يومئذ فتضرب عنقي. فقال: يا شرطة الله! من يذيع حديثك؟ ثم خلى عنه، فقال سراقة: (من الوافر)
ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت الخيل دهماً مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذراً ... علي قتالكم حتى الممات
أرى عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالترهات
يروى: ترياه. وهو من أبيات لعروض الشواهد. والحرف الذي فيه الزحاف مفاعيل أصله مفاعلتن أسكن خامسه وحذف سابعه، فما أسكن خامسه يسمى معصوباً، وما يحذف سابعه يسمى مكفوفاً. ويروى: ترأياه بإظهار الهمز إعادة له إلى الأصل، وهو شاذ.
سخر الرشيد على حميد الطوسي فدعا له بالنطع والسيف فبكى، فقال: ما يبكيك؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما أفزع من الموت فإنه لا بد واقع، وإنما بكيت أسفاً على خروجي من الدنيا وأمير المؤمنين ساخط علي، فضحك وعفا عنه وقال: (من البسيط)
إن الكريم إذا خادعته انخدعا
ولى عبد الملك بن مروان أخاه بشراً الكوفة، وكان شاعراً ظريفاً غزلاً، وبعث معه روح بن زنباع، وكان شيخاً متورعاً، فثقل على بشر مراقبته. فذكر ذلك لنديم له، فتوصل إلى أن دخل بيته ليلاً في خفية، فكتب على حائط قريب من مجلسه: (من البسيط)
ياروح من لبنيات وأرملة ... إذا نعاك لأهل المغرب الناعي
إن ابن مروان قد حانت منيته ... فاحتل لنفسك يا روح بن زنباع
فاستوحش من ذلك، وخرج من الكوفة حتى أتى عبد الملك، فحدثه بذلك، فاستغرب ضحكاً، فقال: ثقلت على بشر وأصحابه، فاحتالوا لك.
أراد المنصور أن يعقد للمهدي ويقدمه على عيسى بن موسى، فأراده على ذلك وأداره عليه وكتب إليه، فأبى وأجاب بجواب عنيف في آخره: (من البسيط)
خيّرت أمرين ضاح الحزم بينهما ... إما صغار وإما فتنة غمم
وقد هممت مراراً أن أساقيكم ... كأس المنية لولا الله والرحم
ولو فعلت لزالت عنكم نعم ... بكفر أمثالها تستنزل النقم
فلما يئس منه قال لخالد بن برمك: إن كانت عندك حيلة فقدمها فقد أعيتنا وجوه الحيل. قال: يا أمير المؤمنين، ضم إلي ثلاثين رجلاً من كبار الشيعة، فمضوا إليه، فلم يزدد إلا نبوّاً، فخرجوا، فقال لهم خالد: ما الحيلة؟ فأعضلتهم، فقال: ما هي إلا أن نخبر أمير المؤمنين أنه قد أجاب ونشهد عليه إن أنكر، قالوا: نفعل. فصاروا إلى المنصور وقالوا: قد أجاب، وخرج التوقيع بالبيعة للمهدي وكتب بذلك إلى الآفاق، وجاء عيسى فأنكر وشهدوا عليه بالإجابة. وكان المهدي يعرف ذلك لخالد، ويصف جزالة الرأي فيه.

وجد شاب قتيلاً بظهر الطريق أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يقدر على قاتله، فقال: اللهم أظفرني بقاتله، حتى إذا كان على رأس الحول وجد صبي ملقى موضع القتيل، فقال: ظفرت بدم القتيل إن شاء الله. فدفعه إلى ظئر وقال لها: إن جاءتك امرأة تقبله وترحمه أعلميني. فلما شب وطال إذا هي بجارية قالت لها: إن سيدتي تطلب أن تذهبي إليها؛ ففعلت، فضمته إلى صدرها وقبلته، وتلك بنت شيخ من الأنصار. فأخبرت عمر، فاشتمل على سيفه ةوخرج إلى منزلها فوجد الشيخ متكئاً على باب داره، فقال: ما فعلت بنتك؟ قال: جزاها الله خيراً، هي من أعرف الناس بحق الله وحق أبيها؛ وذكر من حسن صلاتها وصيامها وقيامها بدينها. فقال: أحببت أن أزيدها رغبة، فدخل وأخرج من هناك، وقال: أصدقيني خبر القتيل والصبي وإلا ضربت عنقك؛ وكان عمر رضي الله عنه لا يكذب. فقالت: كانت عندي عجوز قد تأممتها، فعرض لها سفر فقالت: لي بنت أحب أن أضمها إليك وكان لها ابن أمرد، فجاءت به في هيئة الجارية وأنا لا أشعر، فمكث عندي ما شاء الله؛ ثم اعتقلني وأنا نائمة، فما شعرت حتى خالطني فمددت يدي إلى شفرة فضربته وأمرت أن يلقى على الطريق، وقد أراني اشتملت منه على هذا الصبي ، فألقيته حيث وجد. فقا لها عمر رحمة الله عليه: صدقتني بارك الله فيك، ثم وعظها ودعا لها وخرج. فقال للشيخ: بارك الله لك في ابنتك، فنعم البنت بنتك.
تحاكمت امرأتان إلى إياس في كبة غزل، فقال لإحداهما: على أي شيء كببت غزلك؟ قال: على كسرة، وقال للأخرى: على أي شيء كببت غزلك؟ قالت: على خرقة، فنقضت الكبة فإذا هي على كسرة. فسمع بذلك ابن سيرين فقال: ويح له، فما أفهمه!

كان مصعب بن الزبير لا يقدر على عائشة بنت طلحة زوجته إلا بتلاح يناله منها وينالها منه، فشكا ذلك إلى ابن أبي فروة كاتبه، فقال: أنا أكفيك إن أذنت لي، قال: نعم، افعل ما شئت، فإنها أفضل شيء عندي في الدنيا. فأتاها ليلاً معه أسودان، فاستأذن عليها، فقالت له: في مثل هذه الساعة؟ قال: نعم، فأدخلته. فقال للأسودين: احفرا ها هنا بئراً، فقالت له مولاتها: ما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك؛ أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية، وهو أسفك خلق الله لدم حرام. قالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه، قال: هيهات لا سبيل إلى ذلك. وقال للأسودين: احفرا، فلما رأت الجد منه بكت وقالت: يا ابن أبي فروة، إنك لقاتلي؟ قال: ما منه بد، وإني لأعلم أن الله سيخزيه بعدك، ولكنه كافر الغضب. قالت: وفي أي شيء غضبه؟ قال: في امتناعك عليه، وقد ظن أنك تبغضينه وتتطلعين إلى غيره، فقد جن. فقالت: أنشدك الله إلا عاودته، قال: أخاف أن يقتلني. فبكت وبكى جواريها، فقال: قد رققت لك، وحلف أنه يغرر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول؟ قالت: تضمن عني أني لا أعود أبداً، قال: فما لي عندك؟ قالت: قيام بحقك ما عشت، فقال: أعطيني المواثيق؛ فأعطته، فقال: مكانكما. وأتى مصعباً وأخبره الخبر، فقال: استوثق منها بالأيمان، قال: قد فعلت؛ وصلحت بعد ذلك لمصعب. حدث عقبة بن سلم قال: دعاني أبو جعفر المنصور فسألني عن اسمي ونسبي، فقلت أنا عقبة بن سلم بن نافع الأزدي، قال: إني لأرى لك هيئة وموضعاً، وإني لأريدك لأمر أنا معني به، قلت: أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين، قال: فأخف شخصك وأتني يوم كذا وكذا، فأتيته فقال: إن بني عمنا قد أبوا إلا كيداً لملكنا، ولهم شيعة بخراسان بقرية يقال لها كذا وكذا، يكاتبونهم ويرسلون إليهم بألطاف وصدقات، فاخرج بكسى وألطاف حتى تأتيهم متنكراً بكتاب أكتبه عن أهل تلك القرية، ثم تسير ناحيتهم، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر منهم حتى تلقى عبد الله بن حسن متخشعاً، فإن جبهك وهو فاعل فاصبر وعاوده أبداً حتى يأنس بك، فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل إلي. ففعل ذلك حتى أنس عبد الله بناحيته، وقال له عقبة: الجواب، فقال: أما الكتاب فلا أكتب، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام، وأخبرهم أني خارج لوقت كذا وكذا. فشخص عقبة حتى قدم على أبي جعفر وأخبره الخبر. قال صالح صاحب المصلى: إني لواقف على رأس أبي جعفر وهو يتغذى بأوطاس وهو متوجه إلى مكة، ومعه على مائدته عبد الله بن الحسن، وأبو الكرام الجعفري وجماعة من بني العباس، فأقبل على عبد الله بن الحسن فقال: يا أبا محمد، محمد وإبراهيم قد استوحشا من ناحيتي، وأني أحب أن يأنسا بي ويأتياني، فأصلهما وأزوجهما وأخلطهما بنفسي. قال: وعبد الله يطرق طويلاً ويقول: وحقك يا أمير المؤمنين ما لي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم، ولقد خرجا عن يدي؛ فيقول: لا تفعل يا أبا محمد، واكتب إليهما وإلى من يوصل كتابك إليهما، قال: فامتنع أبو جعفر من غدائه ذلك اليوم إقبالاً على عبد الله، وعبد الله يحلف أنه لا يعرف موضعهما، وأبو جعفر يكرر عليه: لا تفعل يا أبا محمد، لا تفعل يا أبا محمد. وقال أبو جعفر لعقبة بن مسلم: إذا فرغنا من الطعام فلحظتك، فامثل بين يدي عبد الله، فإنه سيصرف بصره عنك، فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينيه منك، ثم حسبك، وإياك أن يراك ما دام يأكل. ففعل عقبة ذلك، فلما رآه عبد الله وثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر وقال: يا أمير المؤمنين أقلني أقالك الله، قال: لا أقالني الله إن أقلتك، ثم أمر بحبسه.
كان عيسى بن جعفر متنوقاً، فخاطره الرشيد على مائة ألف أن يلبس ثوباً ليس له مثله، فلما لبسه قال له عيسى: عندي فرش من هذا، فأحضره، وأخذ المال. ثم خاطره على مائة ألف أن يلبس جبة ليس له مثلها، فأحضر أحسن منها، وانصرف بمائتي ألف، فاغتاظ الرشيد. فقال له ابراهيم بن المهدي: إن أحببت أن تسترجع المائتين ومثلهما، فخاطره والبس البردة. ودعا به وخاطره فغلبه وأخذ أربعمائة ألف وأعطاها ابراهيم.

أراد عمر رضي الله عنه أن يعزل المغيرة بن شعبة عن العراق بجبير بن مطعم وأن يكتم ذلك، وأمر بالجهاز. وأحس بذلك المغيرة فأمر جليساً له أن يدس امرأته - وكانت تسمى لقاطة الحصى - لتدور في المنازل حتى دخلت منزل جبير، فوجدت امرأته تصلح امره، فقالت: إلى أين يخرج زوجك؟ قال: إلى العمرة، قالت: كتمك، ولو كان لك عنده منزلة لأطلعك. فجلست متغضبة فدخل إليها جبير وهي كذلك، فلم تزل به حتى أخبرها، وأخبرت لقاطة الحصى. ودخل المغيرة على عمر: فقال: بارك الله لأمير المؤمنين في رأيه وتوليته جبيراً. فقال: كأني بك يا مغيرة فعلت كذا، فقص عليه الأمر كأنما شاهده وقال: أنشدك الله، هل كان ذلك؟ قال: اللهم نعم. ثم رقي المنبر وقال: أيها الناس، من يدلني على المخلط المزيل النسيخ وحده؟ فقام المغيرة فقال: ما يعرف ذاك في أمتك غيرك؛ فولاه، ولم يزل والي العراق حتى طعن عمر.
يقال إن الفيل من طبعه الهرب من السنور، فحكي عن هارون مولى الأزد الذي كان يرد على الكميت ويفخر بقحطان، وكان شاعر أهل المولتان أنه خبأ معه هراً تحت حضنه، ومشى بسيفه إلى الفيل وفي خرطومه السيف، والفيالون يذمرونه؛ فلما دنا منه ألقى الهر على وجهه فأدبر الفيل هارباً وتساقط الذين على ظهره، وكبر المسلمون، وكان سبب الهزيمة.
من الخدائع والحيل في الحرب ما فعله كسرى بن هرمز بالروم. وذلك أن شهريزار المقيم بثغر الروم وطأ ملكهم على الغدر بكسرى في خبر طويل، فسار قيصر في أربعين ألفاً وخلف شهريزار في أرض الروم، وكان رجل فارس همة وشجاعة ومعه رجال فارس وأساورتها. وتفرق عن كسرى جنده، وكانوا قد أبغضوه. فعلم أن لا طاقة له بالروم، فعمد إلى قس نصراني مستبصر في دينه، وقال: إني أكتب معك كتاباً لطيفاً في حريرة وأجعله في قناة إلى شهريزار، انطلق به فإن قيصر وجنوده لا يتهمونك، فادفع كتابي هذا إلى شهريزار. وأعطاه على ذلك ألف دينار. وقد علم كسرى أن القس لا يذهب بكتابه ولا يحب هلكة الروم. وكان في الكتاب: إني كتبت إليك وقد دنا قيصر مني، وقد أحسن الله إليك بصنيعك، وقد فرقت لهم الجيوش، وإني تاركه حتى يدنو مني فيكون قريباً من المدائن، ثم أبث الخيول في يوم كذا، فإذا كان ذلك اليوم فأغر على من قبلك، فإنه استئصالهم.
فخرج القس بالكتاب حتى لقي قيصر، وقد كانت أرض العراق صورت له، وصور النهروان في غير حين المد ولم يصور المد ولا الجسر، فلما انتهى إليه انتهى المد وليس عليه جسر. فلما قرأ الكتاب قال: ها الحق، وانصرف منهزماً، وأتبعه كسرى بإياس بن قبيصة الطائي وكان يعجب به، فأدركه أياس بساتيدما، فأدركهم مرعوبين، فقتلهم قتل الكلاب، ونجا قيصر في جماعة من أصحابه.
لما أراد هشام صرف خالد بن عبد الله القسري عن العراق، وكان بحضرته رسول ليوسف بن عمر ورد عليه من اليمن وهو يتقلدها، فدعا به وقال: إن صاحبك لمتعد طوره، يسأل فوق قدره؛ وأمر بتخريق ثيابه وضربه أسواطاً وقال له: الحق بصاحبك، فعل الله بك وفعل. ودعا بسالم الكاتب على ديوان الرسائل وقال له: اكتب إلى يوسف بن عمر بشيء أمره به، واعرض الكتاب علي. فمضى سالم ليكتب ما أمره به، وخلا هشام وكتب كتاباً صغيراً إلى يوسف وفيه: سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم أحد بك، واشفني من ابن النصرانية وعماله؛ وأمسكه في يده.

وحضر سالم بالكتاب الذي كتبه فعرضه عليه، فاغتفله وجعل الكتاب الصغير في طيه، وختمه ودفعه إلى الربيع وقال له: ادفعه إلى رسول يوسف. فلما وصل الرسول إلى يوسف قال له: ما وراءك؟ قال: الشر؛ أمير المؤمنين ساخط عليك، وقد أمر بتخريق ثيابي وضربي، ولم يكتب جواب كتبك، هذا كتاب صاحب الديوان. ففض الكتاب فقرأه، فلما انتهى إلى آخره وقف على الكتاب الصغير الذي بخط هشام. فاستخلف ابنه الصلت بن يوسف على اليمن، وصار إلى العراق. وكان يخلف سالماً الكاتب على ديوان الرسائل بشير بن أبي دلجة من أهل الأردن، وكان فطناً، فلما وقف على ما كان من هشام قال: هذه حيلة وقد ولي يوسف العراق وكتب إلى عالم أجمة سالم، وكان واداً له ويقال له عياض: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني، فإذا أتاك كتابي فالبسه واحمد الله، وأعلم طارقاً ذلك. فعرف عياض ذلك لطارق بن أبي زياد، وكان عامل خالد على الكوفة وما يليها ثم ندم بشير على ما كتب به إلى عياض، فكتب إليه: إن القوم قد بدا لهم في البعثة إليك يالثوب اليماني، فعرف أيضاً عياض طارقاً. فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول، ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر أمره. وركب من ساعته إلى خالد فخبره الخبر فقال له: ما ترى؟ قال: تركب من ساعتك إلى امير المؤمنين، فإذا رآك استحيا منك، وزال شيء إن كان في نفسه عليك، فلم يقبل ذلك، فقال له: أفتأذن لي أن أصير إلى حضرته وأضمن له جميع مال هذه السنة؟ قال: وما مبلغ ذلك؟ قال: مائة ألف ألف، وآتيك بعهدك، قال: ومن أين هذه؟ والله ما أملك عشرة آلاف درهم فقال: أتحمل أنا وسعيد بن راشد بأربعين ألف ألف وكان سعيد بن راشد يتقلد له الفرات ومن الوصي وأبان بن الوليد عشرين ألف ألف، وتفرق الباقي على باقي العمال. فقال له: إني إذاً للئيم، إذ أسوغ قوماً شيئاً ثم أرجع عليهم به. فقال له: إنما نقيك ونقي أنفسنا ببعض أموالنا، وتبقى النعم علينا فيك وعليك، ونستأنف طلب الدنيا خير من أن نطالب بالأموال وقد حصلت عند تجار الكوفة، فيتقاعسون عنا ويتربصون بنا فنقتل وتذهب أنفسنا ونحصل الأموال يأكلونها، فأبى وودعه وبكى وقال: هذا آخر العهد بك.
ووافاهم يوسف، ومات طارق في العذاب وغيره من عمال خالد. ولقي خالد ومن بقي شراً عظيماً.
ثقل على أبي العباس الصفاح هيبة الجند لأبي مسلم. فشكا ذلك إلى خالد بن برمك، فقال له: مره بعرضهم وإسقاط من لم يكن من أهل خراسان منهم، ففعل ذلك. فجلس أبو مسلم للعرض، فأسقط في أول يوم بشراً كثيراً، ثم جلس في اليوم الثاني فأسقط بشراً كثيراً، ثم جلس في اليوم الثالث فلم يقم إليه أحد، فدعا ثانية فلم يجب، ودعا ثالثة فلم يقم أحد. وقام إليه رجل فقال: علام تسقط الناس أيها الرجل منذ ثلاث؟ قال: أسقط من لم يكن من أهل خراسان. قال: فابدأ بنفسك أيها الرجل فإنك من أهل أصفهان وقد دخلت في أهل خراسان. فوثب من مجلسه وقال: هذا أمر أبرم بليل، وحسبك من شر سماعه، وفطن للحيلة وبلغ أبا العباس فسره.
كان خالد بن برمك يتقلد لأبي جعفر فارس. فخافه أبو أيوب المورياني، فلم يزل يغري به ابا جعفر ويكيده عنده حتى عزله ونكبه وقرر عليه ثلاثة آلاف ألف درهم، ولم يكن له غير سبعمائة ألف، فحلف له على ذلك فلم يصدقه. فأسعفه الأماثل بالمال، واتصل ذلك بأبي جعفر، فتحقق قوله وصدقه وصفح له عن المال. فشق ذلك على أبي أيوب، وأحضر بعض الجهابذة، ودفع إليه مالاً، وأمره أن يعترف بأنه لخالد، ودس إلى أبي جعفر من سعى بالمال، وأحضر الجهبذ وسأله عن المال فاعترف به، وأحضر خالداً فسأله عن ذلك، فحلف بالله أنه لم يجمع مالاً قط، ولا ذخر ذخيرة، ولا يعرف هذا الجهبذ، ودعا إلى كشف الحال، فتركه أبو جعفر بحضرته، وأحضر الجهبذ فقال له: أتعرف خالداً إن رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أعرفه إذا رأيته، فالتفت إلى خالد فقال: قد أظهر الله براءتك، وهذا مال أصبناه بسببك. ثم قال للجهبذ: هذا خالد، فكيف لم تعرفه؟ فقال: الأمان يا أمير المؤمنين، واخبره الخبر، فكان بعد ذلك لا يقبل شيئاً في خالد.

قال أبو عبيدة: أصاب رجل من الضباب ناقة ضالة فنحرها وسلق لحمها، فلم ينشب أن جاء جمل ضال فنحره وفعل به فعلته بالناقة. فجاء صاحب الناقة ينشدها وأبصر اللحم، فسأله فقال: انزل نطعمك، فنزل فأطعمه وأخرج إليه ثيل الجمل يابساً وقال: جمل لنا كسر، ثم جاء صاحب الجمل ينشده ففعل به فعلته بصاحب الناقة وأخرج إليه ضرع الناقة، وقال: ناقة لنا كسرت، وقال: (من الوافر)
وملتمس قعوداً ظل يشوى ... له منه ويتبعه قدير
فلما أن رأى ضرعاً نضيجاً ... تبين أنه خلف درور
فلما أن تروح جاء باغ ... أضلته علاة عيسجور
فراع فؤاده منها قديد ... على الأطناب مصفوف شرير
فقال طلبتها أدماء جلسا ... نمى من فوقها قرد وثير
فأذهب شكه ثيل فأمسى ... يظن بأن ناقته بعير
العلاة: الصلبة، شبهت بعلاة الحداد وهي السندان، والعيسجور: السريعة. والجلس: المشرفة، من الجلس وهو ما ارتفع من الأرض.

نوادر من هذا الباب
اختلف ابراهيم بن هشام وقرشي في حرف، فحكما أبا عبيدة بن محمد بن عمار فقال: أما أفرس الكلامين فما يقول الأمير. أما ما يقول النحويون الخبثاء فما يقول هذا.
خطب رجل امرأة فقالت له: إن في تقززاً، وأخاف أن أرى منك بعض ما أتقزز منه فتنصرف نفسي عنك. فقال الرجل: أرجو ألا تري ذلك. فتزوجها فمكث أياماً معها، ثم قعد يوماً يتغدى فلما رفع الخوان تناول ما سقط من الطعام تحت الخوان وأكله. فنظرت إليه وقالت له: أما كان يقنعك ما على ظهر الخوان حتى تلتقط ما تحته؟ قال: بلغني أنه يزيد في القوة على الباه، فكانت بعد ذلك تفعله هي، وتفت له الخبز كما يفت للفروج.
ركض رجل دابة وهو يقول: الطريق، الطريق، فصدم رجلاً لم يتقدم عن طريقه، فاستعدى عليه فتخارس الرجل، فقال العامل: هذا أخرس، قال: أصلحك الله! يتخارس عمداً. والله ما زال يقول: الطريق الطريق، فقال الرجل: ما تريد وقد قلت لك: الطريق، الطريق؟ قال العامل: صدق.
اختلف نصراني إلى أبي دلامة يتطبب لابن له، فوعده إن برأن على يديه أن يعطيه ألف درهم. فبرأ ابنه. فقال المتطبب: إن الدراهم ليست عندي ولكن والله لأوصلنها إليك؛ إدع على جاري فلاه هذه الدراهم فإنه موسر، وأنا وابني نشهد لك، فليس دون أخذها شيئ. فصار النصراني بالجار إلى ابن شبرمة؛ فسأله البينة، فطلع عليه أبو دلامة وابنه، ففهم القاضي، فملا جلس بين يديه قال أبو دلامة: (من الطويل)
إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث
قال ابن شبرمة: ومن ذا الذي يبحثك يا أبا دلامة؟ ثم قال للمدعي: قد عرفت شأنك، فخل عن الخصم ورح العشية. فراح إليه وغرمها من ماله.
وشهد أبو عبيدة عند عبيد الله بن الحسن العنبري على شهادة رجل عدل، فقال عبيد الله للمدعي: أما أبو عبيدة فقد عرفته، فزدني شهوداً.
وروي أن وكيعاً شهد عند إياس بن معاوية، فقال: يا أبا المطرف، ما لك والشهادة؟ إنما نتشهد الموالي والتجار والسقذاط، قال: صدقت، وانصرف. فقيل له: خدعك ولم يقبل شهادتك فردك. فقال: لو علمت لعلوته بالقضيب.
وشهد الفرزدق عند بعض القضاة فقال: قد قبلت شهادة أبي فراس، فزيدونا شهوداً، فقيل للفرزدق: إنه لم يقبل شهادتك، قال: وما يمنعه من ذلك وقد قذفت ألف محصنة؟ عتبت عائشة بنت طلحة على مصعب بن الزبير فهجرته، فقال مصعب: هذه عشرة آلاف لمن احتال لي أن تكلمني. فقال له ابن أبي عتيق: عد لي المال؛ ثم صالر إلى عائشة، فجعل يستعتبها لمصعب فقالت: والله ما عزمي أن أكلمه أبداً. فلما رأى جدها قال: يا ابنة عم، إنه ضمن لي إن كلمته عشرة آلاف درهم، فكلميه حتى آخذها، ثم عودي إلى ما عودك الله من سوء الخلق.
قال أشعب: جاءتني جارية بدينار وقال: هذا وديعة عندك.

فجعلته بين ثنيي الفراش، فجاءت بعد أيام فقالت: يا أبي، الدينار، فقلت: ارفعي الفراش وخذي ولده. وكنت تركت إلى جنبه درهماً، فتركت الدينار وأخذت الدرهم، وعادت بعد أيام فوجدت معه درهماً آخر فأخذته، وعادت في الثالثة كذلك. فلما رأيتها في الرابعة بكيت، فقالت: ما يبكيك؟ قلت: مات دينارك في النفاس، قالت: وكيف يكون للدينار نفاس؟ قلت: يا فاسقة، تصدقين بالولادة ولا تصدقين بالنفاس؟! تنبأ رجل في أيام المأمون فقال: أنا أحمد النبي، فحمل إليه فقا له: مظلوم أنت فتنصف؟ فقال: ظلمت في ضيعتي، فتقدم بإنصافه، ثم قال له: ما تقول في دعواك؟ فقال: أنا أحمد النبي، فهل تذمه أنت؟ أخذت الخوارج رجلاً فقالوا: ابرأ من عثمان وعلي، فقال: أنا من علي، ومن عثمان بريء. تناظر شيطان الطاق وأبو حنيفة مرة في الطلاق. فقال له أبو حنيفة: أنتم معشر الشيعة لا تقدرون على أن تطلقوا نساءكم، فقال شيطان الطاق، نحن نقدر على أن نطلق على جميع من خالفنا نساءهم، فكيف لا نقدر على ذلك في نسائنا؟ وإن شئت طلقت عليك امرأتك. فقال أبو حنيفة: افعل. قال: قد طلقتها بأمرك، فقد قلت لي افعل.
مر طفيلي إلى باب عرس فمنع من الدخول، فذهب إلى أصحاب الزجاج ورهن رهناً وأخذ عشرة أقداح، وجاء وقال للبواب: افتح حتى أدخل هذه الأقداح التي طلبوها، ففتح له ودخل فأكل وشرب، ثم حمل الأقداح وردها إلى صاحبها فقال: لم يرضوها، وأخذ رهنه.
وجاء آخر إلى باب عرس، فمنع من الدخول، فمضى وعاد وقد جعل إحدى نعليه في كمه وعلق الأخرى بيده، وأخذ خلالاً يتخلل به، وجاء فدق الباب، فقال له البواب: ما لك؟ قال: الساعة خرجت وبقيت نعلي هناك، فقال: ادخل. فدخل وأكل مع القوم، وخرج.
مر عبد الأعلى القاص بقوم وهو يتمايل سكراً، فقال إنسان: هذا عبد الأعلى القاص، فقال: ما أكثر من يشبهني بذاك الرجل الصالح! نظر مزيد يوماً إلى امرأته تصعد في درجة، فقال لها: أنت طالق إن صعدت، وأنت طالق إن وقفت، وأنت طالق إن نزلت. فرمت بنفسها من حيث بلغت. فقال لها: فداك أبي وأمي! إن مات مالك احتاج إليك أهل المدينة في أحكامهم.
قال بهلول يوماً: أنا والله أشتهي من فالوذج ومن سرقين، فقالوا: والله لنبصرنه كيف يأكل. فاشتروا له الفالوذج وأحضروا السرقين، فأقبل على الفالوذج وترك السرقين، فقالوا له: لم تركت هذا؟ قال: أقول لكم أنا والله وقع لي أنه مسموم، من شاء يأكل منكم ربع رطل حتى آكل الباقي.
وجاء فوقف عند شجرة ملساء فقال: من يعطيني نصف درهم حتى أصعد، فعجب الناس فأعطوه، فأحرزه ثم قال: هاتوا سلماً، قالوا: كان السلم في الشرط؟ قال: وكان بلا سلم في الشرط؟ قال الجاحظ: وقفت على قاص قد اجتمع عليه خلق كثير ومعهم جماعة من الخصيان، فوقفت إلى جانبه وجعلت أشير إلى الناس أنه هو ذا يجود، قال وهو يفرح بذلك فلم يعطه أحد شيئاً، فالتفت إلي خفياً وقال: الساعة إن شاء الله أعمل الحيلة، ثم صاح: حدثنا فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال، قال رب العالمين عز وجل: ما أخذت كريمتي عبد من عبيدي إلا عوضته في الجنة. أتدرون ما الكريمتان في هذا الموضع؟ قال الناس: ما هما؟ فبكى وقال: هما الخصيتان، الخصيتان! وهو يتباكى. فجعل كل واحد من الخصيان يحل منديله حتى اجتمعت له دراهم كثيرة.
وقص واحد معه تعاويذ يبيعها، فجعلوا يسمعون قصصه ولا يشترون التعاويذ، فأخذ محبرته وقال: من يشتري مني كل تعويذة بدرهم حتى أقوم فأغوص في هذه المحبرة باسم الله الأعظم الذي كتبته في هذه التعاويذ؟ فاشتريت منه التعاويذ في ساعة، وجمع الدراهم وقالوا: قم فادخل الآن في المحبرة، فنزع ثيابه وتهيأ، والجهال يظنون أنه يغوص فيها. فبدرت ارمأة من خلف الناس وتعلقت به وقالت: أنا امرأته، من يضمن لي نفقته حتى أتركه يدخل؟ فإنه دخلها عام أول وبقيت ستة أشهر بلا نفقة.

كان مالك بن الريب المازني من تميم لصاً فاتكاً شجاعاً شاعراً يقطع الطريق ومعه أبو حردبة أحد بني أثالة بن مازن، وغويث أحد بني كعب بن مالك بن حنظلة، وشظاظ مولى لبني تميم وكان أخبثهم. فقال مالك لأبي حردبة وشظاظ: ما أعجب ما عملتم في سرقكم؟ فقال أبو حردبة: أعجب ما سرقت وأعجب ما صنعت أني صحبت رفقة فيها رحل على جمل فأعجبني، فقلت لصاحبي: والله لأسرقن رحله، ثم لا رضيت أو آخذ عليه جعالة؛ فرصدته حتى رأيته قد خفق رأسه فأخذت بخطام جمله فعدلت به عن الطريق حتى إذا صيرته في موضع لا يغاث فيه إن استغاث أنخت البعير وصرعته وأوثقت يديه ورجليه، وقدت الجمل فغيبته؛ ثم رجعت إلى الرفقة وقد فقدوا صاحبهم وهم يسترجعون، فقلت: ما لكم؟ فقالوا: صاحب لنا فقدناه، فقلت: أنا أعلم الناس بأثره؛ فجعلوا لي جعالة، فخرجت بهم أتبع الأثر حتى وقفوا عليه فقالوا: ما لك؟ قال: لا أدري، نعيت فانتبهت فإذا بخمسين رجلاً قد أخذوني فقاتلتهم فغلبوني. قال أبو حردبة: فجعلت أضحك من كذبه، وأعطوني جعالتي وذهبوا بصاحبهم.
وأعجب ما سرقت أنه مر بي رجل معه ناقة وجمل، وهو على الناقة، فقلت: لآخذنهما جميعاً. فجعلت أعارضه وقد خفق رأسه، فدرت فأخذت الجمل فحللته وسقته، فغيبته في القصيم، وهو الموضع الذي كانوا فيه يسرقون، ثم انتبه فلم ير جمله فنزل وعقل ناقته ومضى في طلب الجمل، فجئت فحللت عقال ناقته وسقتها.
قال شظاظ: أعجب ما رأيت في لصوصيتي أن رجلاً من أهل البصرة كان له بنت عم ذات مال كثير وهو وليها، وكانت له نسوة فأبت أن تتزوجه. فحلف أن لا يزوجها من أحد إضرارً بها وكان يخطبها رجل غني من أهل البصرة، فحرصت عليه، وأبى الآخر أن يزوجها منه؛ ثم إن ولي الأمر حج حتى إذا كان بالدو على مرحلة من البصرة وهو منزل الرفاق إذا صدرت أو وردت مات الولي فدفن برابية وشيد على قبره، فتزوجت الرجل الذي كان يخطبها. قال شظاظ: ويخرج رفقة من البصرة معهم بز ومتاع، فتبصرتهم وما معهم، واتبعتهم من البصرة حتى نزلوا؛ فلما ناموا بيتهم فأخذت متاعهم. ثم إن القوم أخذوني وضربوني ضرباً مبرحاً وجرحوني. قال: وذلك في ليلة قرة، وسلبوني كل كثير وقليل فتركوني عرياناً. قال: وتماوت لهم، وارتحل القوم، فقلت: كيف أصنع؟ ثم ذكرت قبر الرجل فأتيت فنزعت لوحه، ثم احتفرت فيه سرباً فدخلت فيه، ثم سددت علي باللوح وقلت: لعلي الآن أفيق فأتبعهم. قال: ومر الرجل الذي تزوج بالمرأة بالرفقة، فمر بالقبر الذي أنا فيه فوقف عليه وقال لرفقته: والله لأنزلن إلى قبر فلان، حتى أنظر هل يحمي بضع فلانة؟ قال شظاظ: وعرفت صوته فقلعت اللوح ثم خرجت عليه بالسيف من القبر وقلت: بلى ورب الكعبة لأحمينها. قال: فوقع والله على وجهه مغشياً عليه ما يتحرك ولا يعقل، وسقط من يده خطام الراحلة، فأخذت وعهد الله بخطامها، فجلست عليها وعلى كل أداة وثياب ونقد كان معه، ووجهتها قصد مطلع الشمس هارباً من الناس فنجوت بها، وكنت بعد ذلك أسمعه يحدث الناس بالقصة ويحلف لهم أن الميت الذي كان منعه من تزوج المرأة خرج عليه من قبره فسلبه وكتفه، فبقي يومه ثم هرب. والناس يعجبون منه؛ فعاقلهم يكذبه، والأحمق منهم يصدقه، وأنا أعرف القصة وأضحك معهم كالمتعجب.
قالوا: فزدنا، قال: أنا أزيدكم أعجب من هذا وأحمق من هذا الرجل: إني لأمشي في الطريق أبتغي شيئاً أسرقه، فلا والله ما وجدت شيئاً. قال: وشجرة ينام تحتها الركبان بمكان ليس فيه ظل غيرها، فإذا أنا برجل يسير على حمار له، فقلت له: أتسمع؟ قال: نعم، فقلت له: إن المقيل الذي تريد أن تقيل فيه يخسف بالدواب فاحذره. فلم يلتفت إلى قولي، ورمقته حتى إذا نام أقبلت على حماره فأخذته، حتى إذا برزت به قطعت طرف أذنه وذنبه وخبأت الحمار؛ وأبصرته حين استيقظ من نومه، فقام يطلب الحمار ويقفو أثره، فبينا هو كذلك إذا نظر إلى طرف ذنبه وأذنيه فقال: لعمري لقد حذرت لو نفعني الحذر. واستمر هارباً خوفاً أن يخسف به. فأخذت جميع ما بقي من رحله فحملته على الحمار واستمررت، فألحق بأهلي.

كان بهلول يجمع ما يوهب له عند مولاة له من كندة وكانت له كالأم، وربما أخفىعنها شيئاً ودفنه. فجاء يوماً بعشرة دراهم كانت معه إلى خربة فدفنها فيها، ولمحه رجل، فلما خرج بهلول ذهب الرجل وأخذ الدراهم، وعاد بهلول فلم يجدها. وقد كان رأى الرجل يوم دفنها، فعلم أنه صاحبه. فجاء إليه فقال: اعلم يا أخي أن لي دراهم مدفونة في مواضع كثيرة متفرقة، وأريد جمعها في موضع دفنت فيه هذه الأيام عشرة دراهم، فإنه أحرز من كل موضع، فاحسب كم تبلغ جملتها؟ قال: هات، قال: خذ عشرون درهماً في موضع كذا، وخمسون درهماً في موضع كذا، حتى طرح عليه مقدار ثلاثمائة درهم؛ ثم قام من بين يديه ومر. فقال الرجل في نفسه: الصواب أن أرد العشرة دراهم إلى الموضع الذي أخذتها منه حتى يجمع إليها هذه الجملة ثم آخذها، فردها. وجاء بهلول فدخل الخربة وأخذ الدراهم وخري مكانها وغطاه بالتراب ومر. وكان الرجل مترصداً لبهلول وقت دخوله وخروجه، فلما خرج مر بالعجلة فكشف عن الموضع وتلوثت يده بالخراء ولم يجد شيئاً، ففطن لحيلة بهلول عليه. ثم إن بهلولاً عاد إليه بعد أيام فقال: احسب سيدي عشرين وخمسة عشر درهماً وعشرة دراهم وشم يدك. فوثب الرجل ليضربه، وعدا بهلول.
وجاز بهلول بسوق البزازين فرأى قوماً مجتمعين على باب دكان ينظرون إلى نقب قد نقب على بعضهم. فاطلع في النقب، فقال: كأنكم لا تعلمون ذا من عمل من؟ قالوا: لا، قال: فإني أعلم، فقال الناس: هذا مجنون يراهم في الليل ولا يتحاشونه، فأنعموا له القول لعله يخبر بذلك فسألوه أن يخبرهم فقال: إني جائع فهاتوا أربعة أرطال رقاق ورأسين. فأحضروا ذلك، فلما استوفى قال: هو ذا، أشتهي شيئاً حلواً، فأحضروا له رطلين فالوذج، فأكله وقام وتأمل النقب ثم قال: كأنكم ليس تعلمون ذا من عمل من؟ قالوا: لا، قال: هذا من عمل اللصوص ولا شك، وعدا.
ولما مات والد بهلول خلف ستمائة درهم، فحجر عليها القاضي، فجاءه يوماً فقال له: أيها القاضي، ادفع لي مائة درهم حتى أقعد في الحلقات، فإن أحسنت أن أتجر بها دفعت إلي الباقي. فدفع إليه ذلك، فذهب وأتلفه، وعاد إلى مجلس القاضي وقال له: إني قد أتلفت المائة فتفضل بردها، فقد أسأت إذ دفعت إلي ولم يثبت عندك رشدي. قال القاضي: صدقت، والتزم المائة من ماله.
قيل: إن هشام بن عبد الملك حج، فلما قدم المدينة نزل رجل من الأشراف من أهل الشام وقوادهم بجنب دار الدلال المخنث. وكان الشامي يسمع غناء الدلال فيصغي إليه، ويصعد فوق السطح ليقرب من الصوت. ثم بعث إلى الدلال: إما أن تزورنا وإما أن نزورك. فبعث إليه الدلال: بل تزورنا، فبعث الشامي بما يصلح ومضى إليه. وكان للشامي غلمان روقة، فمضى بغلامين منهم كأنهما درتان مكنونتان، فغناه الدلال: (من الكامل المرفل)
قد كنت آمل فيكم أملاً ... والمرء ليس بمدرك أمله
حتى بدا لي منكم خلف ... فزجرت قلبي عن هوى جهله
ليس الفتى بمخلد أبداً ... حقاً وليس بفائت أجله

فاستحسن الشامي غناءه فقال: زدني، فقال: أوما سمعت ما يكفيك؟ قال: لا والله ما يكفيني. قال: فإن لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: تبيعني أحد هذين الغلامين أو كليهما؛ قال: اختر أيهما شئت، فاختار أحدهما، فقال له الشامي: هو لك، فقبله منه الدلال، ثم غناه صوتاً آخر، فقال له الشامي: أحسنت، ثم قال: أيها الرجل الجميل، إن لي حاجة، قال الدلال: وما هي؟ قال: أريد وصيفة ولدت في حجر صالح، ونشأت في خير، جميلة الوجه مجدولة، وضيئة، جعدة في بياض، مشربة حمرة، حسنة القامة، سياطية، أسيلة الخد، عذبة اللسان، لما شكل ودل، تملأ العينوالنفس. فقال له الدلال: قد أصبتنها لك، فما لي عليك إن دللتك؟ قال: غلامي هذا. قال: إذا رأيتها وقلبتها فالغلام لي؟ قال: نعم. قال: فأتى امرأة كنى عنها ولم يذكر اسمها، فقال لها: جعلت فداك، إنه نزل بي رجل من قواد هشام له ظرف وسخاء، وجاءني زائراً فأكرمته، ورأيت معه غلامين كأنهما الشمس الطالعة المنيرة والكواكب الزاهرة، ما وقعت عيني على مثلهما، ولا ينطلق لساني بوصفهما، فوهب لي أحدهما والآخر عنده، وإن لم يصر إلي فنفسي خارجة. قالت: فتريد ماذا؟ قال: طلب مني وصيفة يشتريها على صفة لا أعرفها في أحد إلا في ابنتك، فهل لك أن تريه إياها؟ قالت: وكيف لك بأن يدفع الغلام إليك إذا رآها؟ قال: إني قد شرطت عليه ذلك عند النظر لا عند البيع، قالت: فشأنك، ولا يعلم بذلك أحد. فمضى الدلال وجاء بالشامي معه. فلما صار إلى المرأة أدخلته، فإذا هو بحجلة وفيها امرأة على سرير مشرف ببزة جميلة. فوضع له كرسي وجلس. فقالت له: أمن العرب أنت؟ قال: نعم، قالت: من أيهم؟ قال: من خزاعة، قالت: مرحباً بك وأهلاً، أي شيء طلبت؟ فوصف لها الصفة، قالت: قد أصبتها، وأصغت إلى جارية لها فدخلت، فمكثت هنيهة ثم خرجت. فنظرت إليها، فقالت لها المرأة: يا حبيبتي، اخرجي. فخرجت وصيفة ما رأى مثلها، فقالت لها: أقبلي فأقبلت. ثم قالت لها: أدبري، فأدبرت؛ تملأ العين والنفس؛ فما بقي منها شيء إلا وضع يده عليه؛ فقالت: أتحب أن نؤزرها لك؟ قال: نعم، قالت: يا حبيبتي اتزري، فضمها الإزار وظهرت محاسنها الخفية، فضرب يده على عجيزتها وصدرها، ثم قالت: أتحب أن تجردها؟ قال: نعم، قالت: يا حبيبتي، أوضحي، فألقت الإزار، فإذا أحسن خلق الله كأنها السبيكة. فقالت: يا أخا العرب، كيف رأيت؟ قال: منية المتمني، بكم تقولين؟ قالت: ليس يوم النظر يوم البيع، ولكن تعود غداً حتى نبايعك، فلا تنصرف إلا على رضاً، فانصرف من عندها، فقال له الدلال: أرضيت؟ قال نعم، ما كنت أحسب أن مثل هذه في الدنيا، وإن الصفة لتقصر دونها، ثم دفع إليه الغلام الثاني.
فلما كان من الغد قال له الشامي: قم بنا، فمضيا حتى قرعا الباب فأذن لهما، فدخلا فسلما، ورحبت المرأة بهما، ثم قالت للشامي: أعطنا ما تبذل، قال: ما لها عندي ثمن إلا وهي أكثر منه، فقولي يا أمة الله، قالت: بل قل، فأنا لم نوطئك أعقابنا ونحن نريد خلافك، وأنت لها رضاً. قال: ثلاثة آلاف دينار، فقالت: والله لقبلة من هذه خير من ثلاثة آلاف دينار، قال: فأربعة آلاف، قلت: غفر الله لك أيها الرجل، قال: والله ما معي غيرها ولو كان لزدتك، إلا رقيق ودواب وخرثي أحمله إليك، قالت: ما أراك إلا صادقاً، ثم قالت: أتدري من هذه؟ قال: تخبريني، قالت: ابنتي فلانة بنت فلان، وأنا فلانة بنت فلان، قد كنت أردت أن أعرض عليك وصيفة عندي فأحببت إذا رأيت غداً غلظ أهل الشام وجفاءهم ذكرت ابنتي، فعلمت أنكم في غير شيء، قم راشداً. فقال للدلال: أخدعتني؟ قال: أولا ترضى أن ترى ما رأيت من مثلها وتهب مائة غلام مثل غلامك؟ قال: أما هذا فنعم، وخرج من عندها.

كان حمزة بن بيض يسامر عبد الملك بن بشر بن مروان ، وكان عبد الملك يعبث به عبثاً شديداً. فوجه إليه ليلة برسول وقال: خذه على أي حال وجدته ولا تدعه لغيرها، وحلفه على ذلك. ومضى الرسول فهجم عليه، فوجده يريد الخلاء، فقال: أجب الأمير، فقال: ويحك، إني أكلت طعاماً كثيراً وشربت نبيذاً حلواً وقد أخذني بطني. فقال: والله ما تفارقني أو تمضي إليه، ولو سلحت ثيابك. فجهد في الخلاص فلم يقدر ومضى به إلى عبد الملك، فوجده قاعداً في طارمة له، وجارية جميلة كان يتحظاها جالسة بين يديه تسجر الند. فجلس يحادثه وهو يعالج ما به. قال حمزة: فعرضت لي ريح فقلت: أسرحها وأستريح لعل ريحها لا تبين مع هذا البخور. فأطلقتها، فغلبت والله ريح الند وغمرته. فقال: ما هذا يا حمزة؟ فقلت: علي في عهد الله وميثاقه وعلي المشي والهدي إن كنت فعلتها، وما هذا إلا عمل الجارية الفاجرة، فغضب وأحفظ، وخجلت الجارية فما قدرت على الكلام، ثم جاءتني الأخرى فسرحتها وسطع والله ريحها فقال: ما هذا ويلك؟ أنت والله الآفة؟ فقال: امرأته طالق ثلاثاً إن كنت فعلتها، قلت: وهذه اليمين لازمة لي إن كنت فعلتها، وما هو إلا عمل الجارية. فقال: ويلك ما قصتك؟ قومي إلى الخلاء إن كنت تجدين حساً، فزاد خجلها وأطرقت. وطمعت فيها وسرحت الثالثة، فسطع من ريحها ما لم يكن في الحساب، فغضب عبد الملك حتى كاد يخرج من جلده، ثم قال: يا حمزة، خذ هذه الجارية الزانية قد وهبتها لك وامض فقد نغصت علي ليلتي. فأخذت بيدها وخرجت. فلقيني خادم له فقال: ما تريد أن تصنع؟ فقلت: أمضي بهذه، قال: لا تفعل، فو الله إن فعلت ليبغضنك بغضاً ما تنتفع به بعده أبداً، وهذه مائتا دينار فخذها ودع الجارية فإنه يتحظاها وسيندم على هبته إياها لك. قلت: والله لا نقصتك من خمسمائة دينار، قال: ليس غير ما قلت لك. فلم تطب نفسي أن أضيعها فقلت: هاتها، فأعطانيها وأخذ الجارية. فلما كان بعد ثلاث دعاني عبد الملك، فلما قربت من داره لقيني الخادم فقال: هل لك في مائة دينار أخرى وتقول ما لا يضرك ولعله ينفعك؟ قلت: وماذا؟ قال: إذا دخلت إليه ادعيت عنده الفسوات الثلاث ونسبتها إلى نفسك، وتنضح عن الجارية ما قرفتها به. قلت: هاتها، فدفعها إلي. فلما دخلت على عبد الملك وقفت بين يديه وقلت له: لي الأمان حتى أخبرك بخبر يسرك ويضحكك؟ قال: لك الأمان، فقلت: فسوات غيري. فضحك حتى سقط على قفاه وقال: ويلك، لم لم تخبرني؟ قال، فقلت: أردت بذلك خصالاً: منها أني قمت فقضيت حاجتي، وقد كان رسولك قد منعني من ذلك، ومنها أني أخذت جاريتك، ومنها أني كافيتك على أذاك لي بمثله. قال: وأين الجارية؟ قلت: ما برحت من دارك ولا خرجت حتى سلمتها إلى فلان الخادم وأخذت منه مائتي دينار. فسر بذلك وأمر لي بمائتي دينار أخرى وقال: هذه لجميل فعلك بي وتركك أخذ الجارية.
إذا أشعب جدياً بلبن أمه وغيرها حتى بلغ غاية. ومن مبالغته في ذلك أن قال لزوجته أم ابنه وردان: إني أحب أن ترضعيه بلبنك. قال: ففعلت: ثم جاء به إسماعيل بن جعفر بن محمد فقال: تالله إنه لابني قد رضع بلبن زوجتي، وقد حبوتك به ولم أر أحداً يستأهله سواك. فنظر إسماعيل إلى قنة من القنن، فأمر به فذبح وسمط. فأقبل عليه أشعب فقال: المكافأة، فقال: والله ما عندي اليوم شيء ونحن من تعرف، وذلك غير فائت لك. فلما أيس قام من عنده فدخل على أبيه جعفر، ثم اندفع يشهق حتى التقت أضلاعه ثم قال: أخلني، قال: ما معك أحد يسمع ولا عليك عين، قال: وثب إسماعيل ابنك على ابني فذبحه وأنا أنظر إليه. فارتاع جعفر وصاح: ويلك! وفيم؟ وتريد ماذا؟ قال له: أما ما أريد والله ما لي في إسماعيل حيلة، ولا يسمع هذا سامع بعدك أبداً. فجزاه خيراً وأدخله منزله وأخرج إليه مائتي دينار وقال له: خذ هذه، ولك عندنا ما تحب. قال: وخرج إلى إسماعيل لا يبصر ما يطأ عليه؛ وإذا به مسترسل في مجلسه. فلما رأى وجه أبيه أنكره وقام إليه، فقال: يا إسماعيل، فعلتها بأشعب؟ قتلت ولده. قال: فاستضحك وقال: جاءني بجدي من صفته، وخبره الخبر. فأخبره أبوه بما كان منه وصار إليه. وكان جعفر عليه السلام يقول لأشعب: رعتني راعك الله، فيقول: روعة ابنك والله بنا في الجدي أكثر من روعتك بالمائتي دينار.

ودعا الحسن بن الحسن علي أشعب فأقام عنده، وكان عند الحسن شاة، فقال لأشعب: أنا أشتهي أن آكل من كبد هذه الشاة، فقال له أشعب: بأبي أنت وأمي. أعطنيها وأنا أذبح لك أسمن شاة بالمدينة، فقال له: أخبرك أني أشتهي كبد هذه الشاة وتقول لي أسمن شاة بالمدينة؟ اذبح يا غلام، فذبحها وشوي له من كبدها وأطايبها فأكل. وقال من غد: يا أشعب، أنا أشتهي من كبد نجيبي هذا لنجيب عنده ثمنه ألوف دراهم فقال له أشعب: في ثمن هذا والله غناي، فأعطنيه وأنا والله أطعمك من كبد كل جزور بالمدينة. فقال: أخبرك أني أشتهي كبد هذا وتطعمني من غيره؟ يا غلام، انحر، فنحر النجيب وشوى كبده فأكلا. فلما كان اليوم الثالث قال له: يا أشعب، أنا والله أشتهي أن آكل من كبدك؛ قال: سبحان الله! أتأكل أكباد الناس؟ قال: قد أخبرتك، فوثب أشعب فرمى بنفسه من درجة عالية فانكسرت رجله، فقيل له: ويلك، أظننت أنه يذبحك؟ فقال: والله لو أن كبدي وجميع أكباد العالمين اشتهاها لأكلها. وإنما فعل الحسن ما فعل حيلة على أشعب وتوطئة للعبث به.
وروي أن الرشيد ساوم في عنان جارية الناطفي، فبلغ ذلك أم جعفر فشق عليها، فدست إلى أبي نواس في أمرها فقال يهجوها: (من المنسرح)
إن عنان النطاف جارية ... أصبح حرها للنيك ميدانا
ما يشتريها إلا ابن زانية ... أو فلطبان يكون من كانا
فبلغ الرشيد شعره فقال: لعن الله أبا نواس وقبحه، فلقد أفسد علي لذتي بما قال فيها، ومنعني من شرائها.
وقال الأصمعي بعثت إلى أم جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان، فإن صرفته عنها فلك حكمك. قال: وكنت أريغ لأن أجد للقول فيها موضعاً فلا أجده ولا أقدم عليه هيبة له، إذ دخلت عليه يوماً وفي وجهه أثر الغضب، فانخزلت. فقال: ما لك يا أصمعي؟ فقلت: رأيت في وجه أمير المؤمنين أثر غضب، فلعن الله من أغضبه. فقال: هذا الناطفي، والله لولا أني لم أجر في حكم قط متعمداً لجعلت على كل جبل منه قطعة، وما لي في جاريته أرب غير الشعر. فذكرت رسالة أم جعفر فقلت: أجل والله ما فيها غير الشعر، أفيسر أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق؟ فضحك حتى استلقى على قفاه، واتصل قولي بأم جعفر، فأجزلت لي الجائزة.
ويروى أنه لما استامها أبى أن يبيعها إلا بمائة ألف دينار. ثم مات الناطفي، فروي أن الرشيد اشتراها من تركته بمائتين وخمسن ألف درهم، وخرج بها معه إلى خراسان وأولدها ابنين ماتا، ومات الرشيد وماتت عنان بعده.
أمر زياد بضرب عنق رجل فقال: أيها الأمير، إن لي بك حرمة، قال: وما هي؟ قال: إن أبي جارك بالبصرة، قال: ومن أبوك؟ قال: نسيت اسم نفسي فكيف اسم أبي؟ فرد زياد كمه إلى فيه وعفا عنه.
ركب رجلاً دين عجز عن ادائه، فقال له بعض غرمائه: أما أعلمك حيلة تتخلص بها على أن تقضيني؟ قال: لك ذلك. فتوثق منه ثم قال له: كل من لقيك من غرمائك وغيرهم فلا تزد على النباح عليه، فإنك إن عرفت بذلك قالوا: ممسوس، فكفوا عنك. ففعل، فلما كفوا عنه أتاه معلم بالحيلة وقال: الشرط أملك، فنبح عليه، فقال: وعلي أيضاً؟ فلم يزده على النباح حتى يئس منه وتركه.

الباب الثالث والأربعون
في الكناية والتعريض
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، عالم صريح القول من الكناية. لا يخفى عنه مكنون الغوامض، ولا يخادع في علمه بالمعارض، يعلم سرائر القلوب كعلم إعلانها، ويطلع على مستقبل الغيوب عارفاً بأوقاتها وأوانها. أحمده حمداً يؤدي شكر آلائه ونعمه، وأعوذ به من نزول بلوه ونقمه، وأسأله توفيق ألسنتنا للنطق الصائب، وسلامة قلوبنا من تورية المغل الموارب، وأن يجمعنا على الخير حتى يطابق فيه اللسان الضمير، ونبرأمن كدر التعمية والتغبير، وأن يصلي على رسوله الأمين الصادق، العارف في لحن القول المؤمن من المنافق، وعلى آله وأصحابه أولي البصائر والحقائق.
الباب الثالث والأربعون
ما جاء في الكناية والتعريض والأحاجي
والمعاياة والتورية واستطراد الشعراء

الكنايات لها موضع. فأحسنها العدول عن الكلام الدون إلى ما يدل على معناه في لفظ أبهى ومعنى أجل، فيجيء أقوى وأفخم في النفس؛ ومنه اشتقت الكنية، وهو أن يعظم الرجل فلا يدعى باسمه. ووثعت على ضربين: لمن لا ولد له على سبيل التفاؤل بأن يكون له ولد يدعة باسمه، أو على حقيقة أو يكنى باسم ابنه صيانة لاسمه. وقيل في قوله تعالى: (فقولا له قولاً ليناً) كناية.
فمن الكنية بغير الولد قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام: أبو تراب، وذلك أنه نام في غزوة ذي العشيرة. فذهب به النوم، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متمرغ في البوغاء، فقال: اجلس أبا تراب. وكانت من أحب أسمائه إليه.
ومما يدل على إرادتهم التبجيل بالكنية قول البحتري: (من الخفيف)
يتشاغفن بالصغير المسمى ... موضعات وبالجليل المكنى
وقال ابن الرومي: (من الطويل)
بكت شجوها الدنيا فلما تبينت ... مكانك منها استبشرت وتثنت
وكان ضئيلاً شخصها فتطاولت ... وكانت تسمى ذلة فتكنت
وإليه يشير أبو صخر الهدلي: (من الطويل)
أبى القلب إلا حبها عامرية ... لها كنية عمرو وليس لها عمرو
ووجه له ديباجة قرشية ... بها تدفع البلوى ويستنزل القطر
ومن شأن العرب استعمال الكنايات في الأشياء التي يستحى من ذكرها قصداً منهم التعفف باللسان كما يتعفف لسائر الجوارح. ألا ترى إلى ما أدب الله سبحانه وتعالى به عباده في قوله: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم). فقرن عفة البصر بعفة الفرج، وكذلك يقرن عفة اللسان بعفة البصر.
وفي التنزيل كنايات عجيبة عدل بها عن التصريح تنزيهاً عن اللفظ المستهجن كقوله عز وجل: (نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم). قال أبو عبيدة: هو كناية، شبه النساء بالحرث.
وقوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لهم شهدتم علينا) قيل: هو كناية عن الفروج. وفي موضع آخر: (... شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون).
وقوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)؛ وقوله: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام). قال المفسرون: هذا تنبيه على عاقبته وعلى ما يصير إليه وهو الحدث، لأن من أكل الطعام فلا بد أن يحدث، ثم قال: (انظر كيف نبين لهم الآيات) وهذا من ألطف الكناية.
ومنه قوله عز وجل: (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء). فالغائط: المطمئن من الأرض وكانوا يأتونه لحاجتهم فيستترون به عن الأماكن المرتفعة، ومن لم ير الوضوء من لمس النساء جعل الملامسة ها هنا كناية عن الفعل.
ومن الكنايات من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إياكم وخضراء الدمن. قال بعضهم: يريد المرأة الحسناء في المنبت السوء. وتفسير ذلك تجمع الدمن وهو البعر في البقعة من الأرض، ثم يركبه الساقي؛ فإذا أصابه المطر نبت نبتاً غضاً يهتز تحته الدمن الخبيث. يقول: فلا تنكحوا هذه المرأة لجمالها ومنبتها خبيث كالدمن، فإن أعراق السوء تنتزع أولادها.
والتفسير الآخر معنى قول زفر بن الحارث: (من الطويل)
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
يقول: تحت الظاهر من البشر الحقد والسخيمة، وهكذا الدمن الذي يظهر فوقه النبت مهتزاً وتحته الفساد.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الآن حمي الوطيس. قال: هو لما جال المسلمون يوم حنين ثم ثابوا واختلط الضرب،وهو منتصب مشرف في ركائبه على بغلته الشهباء، والوطيس: حفيرة تحفر في الأرض شبيهة بالتنور يختبز فيها، والجمع وطس.
قال الحسن: لبث أيوب عليه السلام في المزبلة سبع سنين، وما على الأرض يومئذ خلق أكرم على الله منه، فما سأل العافية إلا تعريضاً: (أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين).
والعرب تكني عن الفعلة المستقذرة بألفاظ كلها كنايات منها: الرجيع والنجو والبراز والغائط والحش. فبعض هذه الألفاظ يراد بها نفس الحدث. ولذلك استعملوا في إتيان النساء المجامعة والمواقعة والمباضعة والمباشرة والملامسة والمماسة والخلوة والإفضاء والغشيان والتغشي، كل هذه الألفاظ مذكورة في القرآن.

المباضعة اشتقت من التقاء البضعين، والبع: اللحم. والمباشرة اشتقت من التقاء البشرين، والبشر ظاهر الجلد.
ومن الكنايات البديعة: قال الشاعر: (من السريع)
آليت لا أدفن قتلاكم ... فدخنوا المرء وسرباله
يقول: إذا طعنه أحدث في سرجه فأغرب في الكناية وأبعد.
وروي أن رجلاً من بني العنبر حصل أسيراً في بكر بن وائل، وعزموا على غزو قومه، فسألهم رسولاً إلى قومه، فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا لئلا تنذرهم. وجيء بعبد أسود فقال له: تعقل؟ قال: نعم إني لعاقل. قال: ما أراك عاقلاً، ثم أشار بيده إلا الليل فقال: ما هذا؟ قال: الليل، قال: أراك عاقلاً، ثم ملأ كفيه من الرمل فقال: كم هذا؟ فقال: لا أدري وإنه لكثير، قال: أيما أكثر النجوم أم النيران؟ قال: كل كثير. قال: أبلغ قومي التحية وقل لهم ليكرموا فلاناً يعني أسيراً كان في أيديهم من بكر فإن قومه لي مكرمون، وقل لهم: إن العرفج قد أدبى وشكت النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبهم إياها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معكم حيساً، واسألوا عن خبري أخي الحارث. فلما أدى العبد الرسالة إليهم قالوا: لقد جن الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملاً أصهب. ثم سرحوا العبد ودعوا الحارث فقصوا عليه فقال: أنذركم؛ أما قوله: قد أدبى العرفج يريد أن الرجال قد استلأموا ولبسوا السلاح. وقوله: شكت النساء أي اتخذن الشكاء للسفر، وقوله: الناقة الحمراء أي ارتجلوا عن الدهناء واركبوا الصمان وهو الجمل الأصهب، وقوله: أكلت معكم حيساً أي أخلاط من الناس وقد غزوكم، لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط، فامتثلوا ما قال وعرفوا لحن كلامه.
ومن هذا الفن قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول).
وقوله صلى الله عليه وسلم: لعل أحدكم ألحن بحجته، أي أغوص عليها.
بعث بشامة بن الأعور إلى أهله ثلاثين شاة ونحياً صغيراً فيه سمن، فسرق الرسول شاة واحدة وأخذ من رأس النحي شيئاً من السمن. فقال لهم الرسول: ألكم حاجة أخبره بها؟ قالت امرأته: أخبره أن الشهر محاق، وأن جدينا الذي كان يطالعنا وجدناه مرثوماً. فارتجع منه الشاة والسمن.
ومن التخلص المليح المتوصل إليه بالكناية ما روي عن عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي قال يوماً في حق الوليد بن عقبة بن أبي معيط: ألا تعجبون لهذا أشعر بركا متولي قبل هذا المصر؟ والله ما يحسن أن يقضي بين تمرتين. فبلغ ذلك الوليد فقال على المنبر: أنشد الله رجلاً سماني أشعر بركا إلا قام. فقام عدي بن حاتم فقال: أيها الأمير، إن الذي يقوم فيقول: أنا سميتك أشعر بركا لجريء، فقال له: اجلس أبا طريف فقد برأك الله منها. فجلس وهو يقول: والله ما برأني الله منها.
والأصمعي يزعم أن زياداً هو الذي كان يسمى أشعر بركا. والبرك: الصدر. وكان زياد أشعر الصدر.
أسرت طيء غلاماً من العرب، فقدم أبوه ليفديه، فاشتطوا عليه فقال أبوه: لا والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلي طيء، ما عندي غير ما بذلته. ثم انصرف وقال: لقد أعطيته كلاماً إن كان فيه خير فهمه، كأنه قال: الزم الفرقدين على جبلي طيء، ففهم الابن تعريضه وطرد إبلاً لهم من ليلته ونجا.
ومن البلاغة والتنقل في الكلام إلى حيث شاء بلطيف الكناية ما روي عن واصل بن عطاء وكان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، وكان يخلص كلامه منها، ولا يفطن بذاك لاقتداره وسهولة ألفاظه، وفيه يقول الشاعر: (من البسيط)
ويجعل البر قمحاً في تصرفه ... وخالف الرأي حتى احتال للشعر
ولم يطق مطراً والقول يعجله ... فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر
فمما يحكى عنه أنه قال وأراد بشاراً: ما لهذا الأعمى الملحد المكنى بأبي معاذ، من يقتله؟ والله لولا الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسياً أو عقيلياً، وذكر هاتين القبيلتين لأن بشاراً كان نازلاً في بني سدوس ويتولى بني عقيل، ثم لم يقل بشار ولا ابن برد ولا الضرير، ولم يقل أرسلت، ولا فراشه.

ومن الكنايات الدقيقة والاستعارات الرشيقة ألفاظ كان يوردها أحمد بن محمد بن محمد الغزالي الواعظ على طريق الصوفية فيغرب فيها، فمنها: ماجت بحار التشبيه في قلب الخليل. ونقطة خاء الخلة تبرز من صميم صفا. صدر كمين القلب فيقول: لا أحب الآفلين. صاحب اليرقان يرى العالم كله أصفر. كان بإبراهيم يرقان العشق فكل شيء رآه ظنه المحبوب. (من البسيط)
ومستطيل على الصهباء باكرها ... في فتية باصطباح الراح حذاق
يمضي بها ما مضى من عقل صاحبها ... وفي الزجاجة باق يطلب الباقي
فكل شيء رآه ظنه قدحاً ... وكل شخص رآه ظنه الساقي
ومن كلامه: عزازيل وجد في باب الرحمة زحمة، طلب ما لا رحمة فيه. (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين). (من الطويل)
لئن ساءني ذكراك لي بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك
كانت علية بنت المهدي تهوى خادماً اسمه طل، فكانت تكنى في شعرهاعنه، فمن ذلك قولها وقد صحّفت اسمه: (من الطويل)
أيا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل إليك سبيل
ومنه قولها: (من الكامل المجزوء)
خليت جسمي ضاحياً ... وسكنت في ظل الحجال
وحلف الرشيد أن لا تكلم طلاً ولا تذكره في شعرها، فاطلع عليها يوماً وهي تقرأ من آخر سورة البقرة: (فإن لم يصبها وابل) فما نهى عنه أمير المؤمنين. فدخل إليها وقبل رأسها وقال: قد وهبت لك طلاً ولا أمنعك بعدها من شيء تريدينه.
ثم عشقت خادماً يقال له رشا، وكانت تكني عنه في شعرها بريب في قافية منصوبة، فعلم بذلك فقالت: (من السريع)
القلب مشتاق إلى ريب ... يا رب ما هذا من العيب
كان شريح عند زياد وهو مريض، فلما خرج من عنده أرسل مسروق إليه رسولاً وقال: كيف تركت الأمير؟ قال: تركته يأمر وينهى. قال مسروق: إنه صاحب عويص، فارجع إليه واسأله: ما يأمر وينهى؟ قال: يأمر بالوصية وينهى عن النوح.
وتقدم إلى شريح قوم فقالوا: إن هذا خطب إلينا فقلنا له: ما تبيع؟ قال: أبيع الدواب، فإذا هو يبيع السنانير، قال: أفلا قلتم له: أي الدواب؟ وأجاز النكاح.
قال رجل يجلس إلى الشعبي يقال له: حبيس، فتحدث الشعبي يوماً فقال له حبيس: ما أحوجك إلى محدرج شديد الفتل لين المهزة عظيم التمرة، قد أخذ من عجب ذنب إلى مغرز عنق، فيوضع على مثل ذلك منك فتكثر له رقصاتك من غير جذل، قال: وما هو يا أبا عمرو؟ قال: هو والله أمر لنا فيه أرب ولك فيه أرب.
خطب رجل إلى قوم فجاءوا إلى الشعبي يسألونه عنه، وكان به عارفاً فقال: هو والله ما علمت نافذ الطعنة ركين الجلسة، فزوجوه فإذا هو خياط. فأتوه فقالوا: غررتنا، فقال: ما فعلت وإنه لكما وصفت.
دخل رجل على عيسى بن موسى يالكوفة يكلمه، وحضر عبد الله بن شبرمة فأعانه وقال: أصلحك الله فإن له شرفاً وبيتاً وقدماً. فقيل لابن شبرمة: أتعرفه؟ قال: لا، قال: فكيف أثنيت عليه؟ قال: إن له شرفاً أي أذنين ومنكبين، وبيتاً يأوي إليه، وقدماً يطأ عليه.
خطب باقلاني إلى قوم وذكر أن الشعبي يعرفه، فسألوه عنه، فقال: إنه لعظيم الرماد كثير الغاشية.
وأخذ العسس رجلاً فقالوا له: من أنت؟ فقال: (من الطويل)
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود
فظنوه من أولاد الأكابر، فلما أصبح سئل عنه فقيل: هم ابن باقلاني

وروي أن جميلاً أراد زيارة بثينة فلقي أعرابياً من بني حنظلة، فقال له: هل لك في خير تصطنعه إلي؟ فإن بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم، فإن رأيت أن تأتيهم فإنك تجد القوم في مجلسهم فتنشدهم بكرة أدماء تجر خفها غفلاً من السمرة، فإن ذكروا لك شيئاً فذاك، وإلا استأذنهم في البيوت وقل: إن المرأة والصبي قد يريان ما لا يرى الرجال، فتنشدهم، ولا تدع أحداً تصيبه عينك عنك، ولا بيتاً من بيوتهم إلا نشدتها فيه. قال الرجل: فأتيت القوم فإذا هم في جزور يقسمونها، فسلمت وفعلت ما قال، واستأذنتهم في البيوت فأتيتها بيتاً بيتاً فلم يذكورا شيئاً حتى انتصف النهار، وفرغتمن البيوت، وذهبت لأنصرف، فإذا بثلاثة أبيات، فقلت، ما عند هؤلاء إلا ما عند غيرهم، ثم تذممت فانصرفت عائداً إلى أعظمها بيتاً فذكرت لهم ضالتي، فقالت جارية منهم: يا عبد الله، مالا أظنك إلا قد اشتد علك الحر واشتهيت الشراب، قلت: أجل، قالت: ادخل. فأضافتني وأكرمت، فأتيت عليها ثم قلت: يا أمة الله، هل ذكرت في ضالتي ذكراً؟ قالت: أترى هذه الشجرة فوق الشرف؟ قلت: نعم، قالت: فإن الشمس غربت أمس وهي تطيف حولها، ثم حال الليل بيني وبينها. فرجع الرجل إلى جميل فعرف لحن الكلام وأتاها ليلاً فحادثها.
وروي أن لقاءها تعذر عليه لمراعاة أبيها وزوجها لها. فنزل بهم قوم من قريش فأحسن قراهم، فقال له أحدهم: هل لك حاجة؟ قال: نعم، تنزل بأبي بثينة وتبيت عنده، فإذا وجدت غفلة قلت له: إن لي غريماً وعدني وحلف لي ألا أطلبه ولا أرسل إليه إلا أتاني وقد طال مطله إياي، وهو رجل منكم، وأريد أن تعينني عليه، فإنها ستجيبك بوعد تحصله لي. ففعل القرشي ذلك، وخاطب أباها به، فقالت بثينة: يا أبه، قد رأيت هذا الفتى القرشي ملازماً لرجل يطالبه بحق له في وقت مساء تحت شجرات بأعلى الوادي، ولست أعرف الرجل بعينه لأنه كان في وقت مظلم، فقال له أبوها: إذا غدوت عليه وطالبته عاونتك وكرامة. فلما أصبح مضى إلى جميل فأخبره الموعد فتوافيا فيه.
كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: أنت عندي كسالم، فلم يدر ما هو، فكتب إلى قتيبة يسأله، فكتب إليه: إن الشاعر يقول: (من الطويل)
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
وكتب إليه مرة أخرى: أنت عندي قدح ابن مقبل، فلم يدر ما هو، فكتب إلى قتيبة فكتب إليه قتيبة: إن ابن مقبل نعت قدحاً له فقال: (من الطويل)
غدا وهو مجدول وراح كأنه ... من المش والتقليب بالكف أفطح
خروج من الغمى إذا صك صكة ... بدا والعيون المستكفة تلمح
المش: المسح، ومنه:
نمش بأعراف الجياد أكفنا
ومنه قيل: لمنديل الغمر مشوش.
قال بعض الشيعة لبعض الخوارج: أنا من علي ومن عثمان بريء. فظاهر كلامه البراءة منهما، وأراد: أنا من علي وإليه، أتولاه، وبريء من عثمان وحده.
ورسمت الفقهاء في أيمانهم عند الشيء يتوقى شره، أو لإصلاح أمر معاد أو معاش. فمن ذلك: كل مالاً أملكه على أنه لاحن ومعناه ما لن أملكه.
وقولهم: واللاه ما فعلت، على فاعل من اللهو، وأشباه ذلك على أن ينويه الإنسان بضميره ويتحرى قصده.
ويقال: ما رأيت فلاناً: أي ما ضربت رئته؛ ولا كلمته من الكلوم، على تكرر الفعل.
ولا أمليت هذا الكتاب ولا قرأته من قوله تعالى: " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " وقرأت: جمعت.
وما رأيت جعفراً ولا كلمت سرياً. فالجعفر: النهر الكبير، والسري: النهر الصغير.
وما رأيت ربيعاً ولا كلمته. فالربيع حظ الأرض من الماء في كل ربع يوم وليلة، والربيع: النهر.
وما كلمت عمر. والعمر عمور الإنسان.
وما وطئت لفلان أرضاً ولا دخلتها. فالأرض باطن الحافر، قال الشاعر: (من الطويل)
إذا ما استحمت أرضه من سمائه
وما أخذت من فلان عسلاً ولا خلاً. فالعسل من عسلان الذئب، والخل: الطريق في الرمل.
وما رأيت كافراً ولا فاسقاً. فالكافر: السحاب، والكافر: الليل، والكافر أيضاً: الذي يغطيه سلاحه ويستره. والفاسق: الذي يجرد من ثيابه.
ويقال: ما عرفت لفلان طريقاً. فالطريق: النخل الذي لا ينال باليد.
وما أمرت فلاناً: أي ما صيرته أميراً؛ وما أحببت كذا، من أحب البعير إذا برك.

وما عرفت له نخلاً ولا شجراً. فالنخل مصدر نخلت الشيء أنخله نخلاً، والشجر من قولهم: تشاجر القوم، إذا اختلفوا، وفي التنزيل: " حتى يحكموك فيما شجر بينهم " .
وما رأيت فلاناً راكعاً ولا ساجداً ولا مصلياً. فالراكع: العاثر الذي كبا لوجهه، والساجد: المد من النظر، والملي: الذي يجيء بعد السابق.
ويقال: ما أخذت لفلان دجاجة ولا فروجاً. فالدجاجة: الكبة من الغزل، والفروج: الدراعة.
وما أخذت لفلان بقرة ولا ثوراً. فالبقر: العيال الكثير، يقال: جاء فلان يسوق بقره أي عياله، والثور: القطعة العظيمة من الأقط. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن معدي كرب فقال: أكلت ثوراً وقوساً وكعباً، فالثور قد فسر، والقوس: ما يبقى في أسفل الحلة، والكعب: الشيء القليل من السمن.
وما أخذت لفلان حملاً ولا عنزاً. فالحمل: السحاب الكثير الماء، والعنز: الأكمة السوداء.
وما ضربت لفلان ظهراً ولا بطناً. فالظهر: المرتفع من الأرض، والبطن: الغامض. ويقال: ما أخذت لفلان قناة. فالقناة: قناة الظهر.
وما سببت لفلان أماً ولا جداً ولا خالة. فالأم: أم الدماغ. الجد: الحظ، والخالة: الأكمة الصغيرة.
وما أخذت لفلان قلوصاً ولا رأيتها. فالقلوص: ولد الحبارى. وما رأيت لدابة فلان سواداً ولا بلقاً. فالسواد: الخيال تراه بالليل، والبلق: الفسطاط.
وما أخبرت فلاناً بشيء: أي ما ذبحت له خبرة، وهي شاة يشتريها قوم فيقتسمونها.
قال أبو بكر بن دريد: تقول: والله ما سألت فلاناً حاجة قط. فالحاجة ضرب من الشجر له شوك والجميع حاج.
وما رأيت فلاناً قط وما كلمته. فمعنى رأيته: ضربت رئته، ومعنى كلمته: جرحته.
وما أعلمت فلاناً ولا أعلمني: أي ما جعلته أعلم وهو المشقوق الشفة العليا.
وما لفلان عندي جارية: أي سفينة.
وما أملك فهداً ولا كلباً. فالفهد: المسمار في واسطة الرحل، والكلب: المسمار في قائم السيف.
وما عندي صقر ولا أملكه. فالصقر: دبس الرطب، والصقر: اللبن الحامض الشديد الحموضة.
أنشد أبو عبيدة: (من السريع)
بئس قريناً يفن هالك ... أم عبيد وأبو مالك
هما كنيتا المفازة والجوع.
كان في جوار أبي حنيفة رجل يسرف في حسده ويذكره بكل سوء. فكان أبو حنيفة يمر به فيسلم عليه فلا يرد عليه السلام. فقيل لأبي حنيفة في أمره فقال: إن للجوار حقاً. ثم إن الرجل ساب رجلاً من أصحاب السلطان، فشتمه وشهد عليه جماعة بشتمه إياه، فهرب من بين يدي السلطان وأتى أبا حنيفة فأخبره بخبره وقال: أنا مستح منك ولكن أغثني، فقال يا فلان، لا تبذأ على المسلمين، فإن البذاء لؤم، والفحش من قلة الدين، إذا صرت إلى السلطان فاعترف وقل: كانت أمه مسلمة صالحة، وسمعت بيتاً من الشعر، فأردت غيظه به فأنشدته إياه: (من الخفيف)
رب ركب وهم مشاة رأينا ... ورناً للزانيين حلالاً
قال: فغدا الرجل إلى السلطان وأحضرت البينة، فقال: أيسها الأمير، صح عندي أن أمه مسلمة حرة عفيفة ورعة، وأخبرني هو أن أباه وأمه زنيا حلالاً، فأنشدته بيتاً قيل؛ فلم يوجب عليه السلطان عقوبة.

وقال رجل لأبي حنيفة: ما تقول في رجل قال: لا أرجو الجنة ولا أخاف النار، وآكل الميتة وأهد بما لم أرد، ولا أخاف الله، وأصلي بلا ركوع ولا سجود، وأبغض الحق وأحب الفتنة؟ قال أبو حنيفة، وكان هو يعرفه شديد البغض له: يا فلان، سألتني عن هذه المسألة ولك بها علم؟ قال: لا، ولكن لم أجد شيئاً هو أشنع من هذا فسألتك عنه، قال: فقال أبو حنيفة لأصحابه: ما تقولون في هذا؟ قالوا: شر رجل هذه صفة كافر، قال: فتبسم أبو حنيفة وقال له: لقد شنعت القول فيه، ثم قال: هو والله من أولياء الله حقاً، ثم قال للرجل: إن أنا أخبرتك أنه من أولياء الله حقاً تكف عني شرك، ولا تمل على الكتبة ما يضرك؟ قال: نعم، قال أبو حنيفة: أما قولك: إنه لا يرجو الجنة ولا يخاف النار، فإنه يرجو رب الجنة ويخاف رب النار، وقولك: لا يخاف الله، فإنه لا يخاف ظلمه ولا جوره وقال الله تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " . وقولك: يأكل الميتة، فهو يأكل السمك، وقولك: يصلي بلا ركوع ولا سجود، فقد جعل أكثر عمله الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد لزم موضع الجنائز فهو يصلي عليها ويعتبر ويقصر أمله ويصلي على كل مسلم ومسلمة، ويدعو للأحياء والأموات ومن هو آت من المؤمنين والمؤمنات، وقولك: يشهد بما لم ير، فهو شهادة الحق، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وقولك: يبغض الحق، فهو يحب البقاء حتى يطيع الله ويكره الموت وهو الحق، قال الله تعالى: " وجاءت سكرة الموت بالحق " ، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ: " وجاءت سكرة الحق بالموت " ، وأما الفتنة فالقلوب مجبولة على حب المال والولد وذاك من الفتنة العظيمة على قلوب المؤمنين، قال الله تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم " ، لكم فاحذروهم.
قال سيف الدولة بن حمدان لابن عم له: ما أعاقك اليوم عن التصبح؟ قال: دخلت الحمام وقلمت أظفاري، فقال: لو قلت: أخذت من أطرافي كان أوجز.
كان الجاحظ يتعجب من فطنة طويس ووضعه الكلام موضعه من حسن الأدب في قوله لبعض القرشيين: أمك المباركة وأبوك الطيب، يعني إصابته في قسمة الصفتين وإن لم يصفها بالطيب.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للأحنف: أي الطعام أحب إليك؟ قال: الزبد والكمأة. فقال: ما هما بأحب الطعام إليه، لكنه يحب الخصب للمسلمين، فما أحسن ما كنى عن إيثاره الخير، وما أحسن فطنة عمر له! ويقولون: أطيب اللحم عوذه، أي ما عاذ باللحم فهي استعارة وكناية.
وقال لقمان لابنه: كل أطيب الطعام ونم على أوطأ الفراش، كنى عن إكثار الصيام وإطالة القيام فإذا أطال الصيام استطاب الطعام، وإذا أطال القيام استمهد الفراش.
ومن مليح التورية وعجيبها مع توخي الصدق في موطن الخوف قول أبي بكر الصدري رضي الله عنه وقد أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رديفه عام الهجرة، فقيل له: من هذا يا أبا بكر؟ فقال: هذا رجل يهديني السبيل.
ومما يقارب هذه الكناية وليس هو بعينها أن أبا بكر رضي الله عنه مر به رجل ومعه ثوب فقال: أتبيعه؟ قال: لا رحمك الله، فقال أبو بكر: قد قومت ألسنتكم لو تستقيمون، ألا قلت: لا ورحمك الله؟ ومثله ما حكي أن المأمون قال ليحيى بن أكثم: هل تغديت؟ قال: لا وأيد الله أمير المؤمنين. فقال المأمون: ما أظرف هذه الواو وأحسن موقعها!وكان الصاحب يقول: هذه الواو أحسن من واوات الأصداغ.
ومن الكناية قولهم: الرجال ثلاثة: سابق، ولاحق، وماحق. فالسابق الذي سبق بفضله، واللاحق الذي لحق بأبيه من فضه، والماحق الذي محق شرف آبائه.
روي أن عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة رفعت إليه وصية لرجل بما أمر أن يتخذ به حصوناً، قال: اشتروا به خيلاً للسبيل، أما سمعتم قول الجعفي: (من الكامل)
ولقد علمت على تجنبي الردى ... أن الحصون الخيل لا مدر القرى
قال أعرابي لأهله: أين بلغت قدركم؟ قالت: قام خطيبها، أرادت الغليان.
ونذكر هاهنا الألقاب والكنى التي اشتهر بها أربابها وغلبت على أسمائهم وأغنت عنها.
امرؤ القيس بن حجر: قيل له: الملك الضليل لأنه أضل ملك أبيه، ولقب ذا القروح لأن ملك الروم كساه حلة مسمومة فقرحته.

ذو الثدية: وقيل: اليدية، هو حرقوص بن زهير، ناب الخوارج وكبيرهم الذي أعلمهم الضلال. أخبر هب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وطلبه علي عليه السلام في القتلى يوم النهروان، فقالوا: ما وجدناه، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت، حتى جاءوا فقالوا: وجدناه، فخر ساجداً، ونصب يده المخدجة وكانت كالثدس عليها شعرات كشارب السنور.
عثمان ذو النورين: تزوج برقية وأم كلثوم بنتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.وقيل: لم ير زوجان أحسن من عثمان ورقية. ولذلك لقب به نفسه ونور رقية.
ذو النور عبد الله بن الطفيل الدوسي الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نوراً في جبينه ليدعو به قومه، فقال: يا رسول الله، هي مثلة، فجعله في سوطه، فكان كالمصباح يضيء له الطريق بالليل.
ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصاري: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقضاه يهودي ديناً، فقال عليه السلام: أو لم أقضك؟ فطلب البينة. فقال لأصحابه: أيكم يشهد لي؟ فقال خزيمة: أنا يا رسول الله، قال: وكيف تشهد بذلك ولم تحضره ولم تعلمه؟ قال: يا رسول الله، نحن نصدقك على الوحي من السماء، فكيف لا نصدقك على أنك قضيته؟! فسماه صلى الله عليه وسلم ذا الشهادتين.
الحسن بن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام ذو الدمعة: كان كثير البكاء، فقيل له في ذلك، فقال: وهل تركت النار والسهمان لي مضحكاً؟ يويد السهمسن اللذين أصابا زيد بن علي ويحيى بن زيد.
أبو هريرة: قال: كنيت بهرة صغيرة كنت ألعب بها. واختلف في اسمه فقيل: عبد الله، وعبد شمس، وعمير، وسكين.
جهبذ العلماء سعيد بن جبير: قيل إنه مات وما أحد من اهل الأرض إلا وهو محتاج إلى علمه.
عنبسة الفيل النحوي: سمي بذلك لأن أباه معدان كان يروض فيلاً للحجاج.
غيلان الراجز راكب الفيل: وسعدويه الطنبوري عين الفيل لأن الحجاج كان يحملهما على الفيل.
ذو المشهرة أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري كانت له مشهرة يلبسها ويختال بين الصفين.
سخينة لقب لقريش وهو حساء كانوا يتخذونه في الحرب.
العتيق والصديق: أبو بكر رضي الله عنه لجماله وتصديقه واسمه عبد الله.
الفاروق عمر رضي الله عنه لأنه كان يوم أسلم لا يعبد الله سراً، فظهر به الإسلام وفرق بين الحق والباطل.
الكامل سعد بن عبادة لأنه كان يكتب ويحسن الرمي والغوص.
طلحة بن عبيد الله: كان يقال له طلحة الخير وطلحة الفياض وطلحة الطلحات لسخائه.
يعسوب قريش: عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. شهد الجمل فمر به علي عليه السلام مقتولاً فقال: لهفي عليك يعسوب قريش، شفيت نفسي وجدعت أنفي، قتلت الصنديد من قريش وفاتني الأغيار من بني جمح، فقال له رجل: تقول هذا فيه وقد خرج عليك؟ فقال: إنه قام عني وعنه نسوة لم يقمن عنك.
الجراضم: معاوية لأكله في سبعة أمعاء.
رشح الحجر وأبو الذبان: لقبا عبد الملك بن مروان لبخله وبخره.
عكة العسل: سعيد بن العاص، وكان دميماً نحيفاً.
البحر والحبر: عبد الله بن عباس لعلمه.
عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق: كان مائل الشدق. ويقال: بل قال له معاوية: إن هذا الأشدق، يريد التشادق في الكلام، فغلبت عليه.
الجرادة الصفراء: مسلممة بن عبد الملك لصفرة لونه، ولقول يزيد بن المهلب: وما مسلمة إلا جرادة صفراء أتاكم في أقباط وأنباط وأخلاط.
الفياض: عكرمة بن ربعي لسخائه وكرمه.
القباع: الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، عرض عليه مكيال فقال: إن مكيالكم هذا لقباع وهو الذي يسع اكثر مما يقتضيه ظاهره، فلقب به.
صالح قبّه: كان ينكر أن يتولد شيء من شيء ويقول: إن الله عز وجل يبتديء ذلك في حال وجوده، ولو قربت النار من الحطب اليابس ولم يخلق الله الاحتراق لم يحترق أبداً. ولو طرح حيوان في النار ولم يخلق الله الألم فيه لم يتألم، حتى قيل له: فما تنكر أن تكون في هذا الوقت قاعداً بمكة في قبة وأنت لا تعلم أن الله لم يخلق فيك العلم؟ قال: لا أنكر ذلك، فلقب بذلك.
الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر، غلب عليه لجحظه.
واصل بن عطاء الغزّال: كان يكثر الجلوس في سوق الغزالين. وقيل: كان يتبع فيه العجائز فيتصدق عليهن.
خالد الحذّاء: لم يكن حذّاء وإنما كان يجلس في الحذّائين. وقيل: كان يكثر إذا ناظر: احذوا على هذا الكلام.

سليمان التيمي: كان داره ومسجده في بني تيم ولم يكن منهم، وهو شيباني.
أبو عمرو الشيباني: لم يكن منهم وإنما كان يعلم يزيد بن مزيد الشيباني.
اليزيدي: كان معلم يزيد بن منصور الحميري فنسب إليه.
سلم الخاسر: باع مصحفاً لأبيه واشترى بثمنه دفتراً من شعر.
العماني الراجز ولم يكن من عمان، وإنما رآه دكين الراجز وهو غليم نضو مصفر مطحول يمتح على بكرة ويرتجز، فقال: من هذا العماني؟ فلزمه لأن أهل عمان والبحرين يعتريهم الطحال وسامه محمد بن ذؤيب الفقيمي.
ثابت قطنة: أصيبت عينه في حرب فكان يحشوها قطنة.
زياد الأعجم: يكنى أبا أمامة. تشبه بالنابغة في الكنية والاسم. غلب عليه الأعجم للكنة يرتضخها.
منظور بن زبان الفزاري: سمي بذلك لأنه بقي في بطن أمه سنتين كما قيل فانتظر.
خارجة بن سنان المري: ماتت أمه وهو حمل، فتحرك في بطنها، فبقر عنه حتى خرج فسمي خارجة وبقير غطفان.
أنشد ثعلب: (من المنسرح)
ليست بشامية النحاس ولا ... صفواء مصموحة معاصمها
بل ذات أكرومة تكنفها ال ... أحجار مشهورة مواسمها
وقال: الأحجار: جندل وصخر وحزون بني نهشل. وأنشد غيره: (من الكامل)
وحللت من مضر بأكرم ذروة ... منعت بحد الشوك والأحجار
يريد بالشوك أخواله وهم قتادة وطلحة وعوسجة، والأحجار أعمامه وهم صفوان وفهر وجندل.
سفينة: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو عبد الرحمن. كان معه في سفر، فكان كل من أعيا ألقى عليه بعض متاعه، فمر به صلى الله عليه وسلم فقال: أنت سفينة، فغلب عليه.
المبرد النحوي: أبو العباس محمد بن يزيد، اختبأ في تبن، فكشف عنه فقال: هذا مبرد، فغلبت عليه.
ثعلب صاحب الفصيح: هو أبو العباس أحمد بن يحيى.
ذو اليمينين طاهر بن الحسين: لقب بذلك لأن المأمون قال له: يا أبا الطيب، يمينك يمين أمير المؤمنين وشمالك يمين، فبايع بيمينك يمين أمير المؤمنين. وقيل: لما له في دولة المأمون من الاستحقاق، ولجده مصعب بن رزيق في مبدأ الدولة.
ذو الرئاستين: الفضل بن سهل لأنه دبر أمر السيف والقلم، رياسة الجيوش والدواوين.
أبو لهب: كنية وقعت عليه لحمرة لونه.
بعث الجنيد بن عبد الرحمن المري إلى خالد بن عبد الله القسري بسبي من الهند بيض، فجعل يهب أهل البيت كما هو للرجل من قريش ومن وجوه الناس حتى بقيت جارية جميلة كان يذخرها لنفسه، فقال لأبي النجم العجلي الراجز: هل عندك فيها شيء حاضر وتأخذها الساعة؟ قال: نعم أصلحك الله. فقال العريان بن الهيثم النخعي وكان على شرطته: ما يقدر على ذلك، قال أبو النجم: (من الرجز)
علقت خوداً من بنات الزط ... ذات جهاز مضغط ملط
رابي المجس جيد المحط ... كأنه قط على مقط
إذا بدا منها الذي تغطي ... كأن تحت ثوبها المنعط
شطاً رميت فوقه بشط ... لم يعل في البطن ولم ينحط
فيه شفاء من أذى التمطي ... كهامة الشيخ اليماني الثط
وأومأ بيده إلى هامة العريان. فضحك خالد وقال للعريان: هل تراه احتاج إلى روي فيها؟ قال: ولكنه ملعون ابن ملعون.
وقال عبد الرحمن بن عائشة: (من الخفيف)
من يكن إبطه كآباط ذا الخل ... ق فإبطاي في عداد الفقاح
لي إبطان يرميان جليسي ... بشبيه السلاح أو كالسلاح
فكأني ما بين هذا وهذا ... قاعد بين مصعب وصباح
يعني مصعب بن عبد الله الزهري وصباح بن خاقان المنقري، وكانا جليسين لا يكادان يفترقان وصديقين متواصلين، فلقيهما أحمد بن هشام يوماً فقال: أما سمعتما ما قال فيكما هذا، يعني إسحاق بن إبراهيم الموصلي؟ فقالا: ما قال إلا خيراً، قال: (من المديد)
لا فيها مصعب وصباح ... فعصينا مصعباً وصباحاً
وأتينا غير سعي إليها ... فاسترحنا منهما واستراحا
ولكن المكروه ما قال فيك إذ يقول: (من الطويل)
وصافية تعشي العيون رقيقة ... رهينة عام في الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الروية موهناً ... من الليل حتى انجاب كل ظلام

فما ذر قرن الشمس حتى كأننا ... من العي نحكي أحمد بن هشام
أبو عمران الموصلي: (من الطويل)
وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ... وبرد أعانيه وطول قرونه
قطعت ونومي فيه نوم مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أولق فيه التفاف كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه
البحتري من أبيات يصف فرساً: (من الكامل)
ما إن يعاف قذى وإن أوردته ... يوماً خلائق حمدويه الأحول
الرضي رضي الله عنه: (من الكامل)
ما زلن حتى لفهن على الوجى ... ليل كعرض أبي فلان المظلم
قال المأمون لقاريء: اقرأ، فقرأ: " فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله " . فأمر بحبسه.
دخل رجل من محارب على عبد الله بن يزيد الهلالي وهو بأرمينية، فقال له عبد الله: ماذا لقينا البارحة من شيوخ محارب، ما تركونا ننام! يريد الضفادع، قال المحاربي: أصلحك الله، إنهم أضلوا برقعاً لهم وكانوا في بغائه.أراد الأول قول الشاعر: (من الطويل)
تكش بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
وأراد الآخر قول الشاعرك (من الطويل)
لكل هلالي من اللؤم برقع ... ولابن يزيد برقع وجلال
قال رجل لآخر: مرحباً بأبي المنذر، فقال: ليست هذه كنيتي، فقال: نعم، ولكنها كنية مسيلمة، يعرض بأنه كذاب.
خرج المأمون يوماً برقعة فيها مكتوب: يا موسى، فقال: هل تعرفون لها معنى؟ فقالوا: لا، فقال إسحاق بن إبراهيم الطاهري: يا أمير المؤمنين هذا إنسان محذر إنساناً، أما سمعت الله عو وجل يقول: " يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين " . فقال المأمون: صدقت، هذه صرف جاريتي كتبت إلى أختها متيم جارية علي بن هشام أني عازم على قتله، فحذرته.
كان هشام بن عمرو التغلبي على نصيبين، فخرج يشيع أبا مسلم، فقال أبو مسلم: كيف يقول عمك مهلهل: (من الكامل)
إني لأذكر منيتي ونجيبتي ... تحتي وأرفعها تخب ذميلا
إني لأكره أن أعيش مظلماً ... طول الحياة وأن أعيش ذليلا
فقال هشام لكاتبه: اكتب إلى امير المءمنين عرفه أن أبا مسلم قد خلع الطاعة.
دخل الحسن بن سهل إلى المأمون، فحلف عليه أن يشرب عنده، فأخذ القدح، فقال له: بحقي عليك إلا أمرت من شئت أن يغنيك، فأومأ الحسن إلى ابراهيم بن المهدي، فقال له المأمون: غنه يا إبراهيم، فاندفع وغنى: (من البسيط)
تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل
فغضب المأمون ووثب عن مجلسه ودعا بإبراهيم وقال له: لا تدع كبرك وغلك؛ أنفت م إيمائه إليك فغنيت معرضاً بما تعرض له من المرار بشعر فيه ذكر الوسواس، والله لقد عزمت على قتلك إذ خرجت علي، ونزعت يدك من طاعتي، حتى قال لي: إن قتلته فعلت ما فعله الناس قبلك، وإن عفوت عنه فعلت ما لم يفعله أحد قبلك، فعفوت عنك لقوله، فلا تعد.
كان البراء بن قبيصة صاحب شراب، فدخل إلى الوليد بن عبد الملك وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ فقال: فرس لي أشقر ركبته فكبا بي، فقال: لو ركبت الأشهب لما كبا بك، يريد الماء.
دخل خليلان المعلم وكان يغني على تستر وتصون يوماً على عقبة بن مسلم الأزدي فاحتبسه عنده، فأكل معه ثم شرب، وحانت منه التفاتة فرأى عوداً معلقاً فعلم أنه عرض له به، فدعا به فأخذه وغناهم: (من المديد)
يا ابنة الأزدي قلبي كئيب ... مستهام عندها ما ينيب
وحانت منه التفاتة فرأى وجه عقبة قد تغير، وقد ظن أنه عرض به، ففطن لما أراد به فغنى: (من الهزج)
ألا هزئت بنا قرشية ... يهتز موكبها
فسري عن عقبة وشرب، فلما فرغ وضع العود من حجره وحلف بالطلاق أنه لا يغني بعد يومه ذلك إلا من يجوز أمره عليه.

دخل حطيئة على عيينة بن النهاس العجلي، فسأله وهو لا يعرفه، فقال له: ما أنا على عمل فأعطيك، ولا في مالي فضل عن قومي، قال له: لا عليك وانصرف. فقال له بعض قومه: قد عرضتنا ونفسك للشر، قال: فكيف؟ قالوا: هذا الحطيئة وهو هاجينا أخبث هجاء، فقال: ردوه، فردوه إليه، فقال: كتمتنا أمرك بنفسك كأنك كنت تطلب العلل علينا، اجلس فلك عندنا ما يسرك فجلس، فقال له: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: (من الطويل)
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتقي الشتم يشتم
فقال له عيينة: إن هذا من مقدمات أفاعيك. ثم قال لوكيله: اذهب معه إلى السوق فلا يطلب شيئاً إلا اشتريته له. فجعل يعرض عليه الخز ورقيق الثياب فلا يريدها، ويوميء إلى الكرابيس الغلاظ، فيشتريها له حتى قضى أربه، ثم مضى. فلما جلس عيينة في نادي قومه أقبل الحطيئة، فلما رآه عيينة قال: هذا مقام العائذ بك يا أبا مليكة من خيرك وشرك، قال: قد قلت بيتين فاسمعهما، فأنشده: (من الطويل)
سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلاً ... فسيان لا ذم عليك ولا حمد
وأنت امرؤ لا الجود منك سجية ... فتعطي، ولا يعدي على النائل الوجد
كان الفرزدق في حلقة في المسجد وفيها المنذر بن الجارود العبدي، فقال المنذر: من الذي يقول: (من الوافر)
وجدنا في كتاب بني تميم ... أحق الخيل بالركض المعار
فقال الفرزدق: يا أبا الحكم، هو الذي يقول: (من الوافر)
أشارب قهوة وخدين زير ... وضراط لفسوته بخار
وجدنا الخيل في أفناء بكر ... وأفضل خيله خشب وقار
فخجل المنذر حتى ما قدر على الكلام.
وفد سعيد بن عبد الرحمن بن حسان، وكان جميل الوجه، على هشام بن عبد الملك، فاختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن يزيد، فأراده على نفسه، وكان لوطياً زنديقاً وكان كثير الشبق، فدخل سعيد على هشام مغضباً وهو يقول: (من الرمل)
إنه والله لولا أنت لم ... ينج مني سالماً عبد الصمد
فقال هشام: لماذا؟ فقال:
رام جهلاً بي وجهلاً بأبي ... يدخل الأفعى إلى خيس الأسد
فضحك هشام وقال: لو فعلت به شيئاً لم ننكر عليك.
ابن مناذر في رجل كان يرمى بالزندقة: (من الخفيف)
يا أبا جعفر كأنك قد صر ... ت على أجرد طويل الحران
من مطايا ضوامر ليس يصهل ... ن إذا ما ركبن يوم رهان
لم يذللن بالسروج ولا أق ... رح أشداقهن جذب العنان
قائمات مسومات لذي الجس ... ر لأمثالكم من الفتيان
قال عبد الملك بن مروان لثابت بن الزبير: ما ثابت من الأسماء؟ لا باسم رجل ولا بامرأة، قال: يا أمير المؤمنين، لا ذنب لي، لو كان اسمي إلى لسميت نفسي زينب، يعرض بأبيه كان يعشق زينب بنت عبد الرحمن بن هشام، وخطبها فقالت: لا أوسخ نفسي بأبي الذبان.
ذكروا أن السليك أملق، فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به في ليلة باردة مقمرة، فاشتمل الصماء ثم نام، واشتمال الصماء أن يرد فضل ثوبه على عضده اليمنى ثم ينام عليها، فبينا هو نائم إذ جثم عليه رجل فقعد إلى جنبه وقال: استأسره، فرفع السليك إليه رأسه وقال: الليل طويل وأنت مقمر، فأرسلها مثلاً، فجعل الرجل يلمزه ويقول: يا خبيث استأسر، فلما آذاه بذلك أخرج السليك يده وضم الرجل إليه ضمة ضرط منها وهو فوقه، فقال السليك: أضرطاً وأنت الأعلى! فأرسلها مثلاً، ثم قال السليك: ما أنت؟ قال: رجل افتقرت فقلت: لأخرجن فلا أرجع إلى أهلي حتى أستغني قال: فانطلق معي، فانطلقا فوجدا رجلاً قصته مثل قصتهما، فاصطحبوا جميعاً حتى أتوا الجوف جوف مراد، فلما أشرفوا عليه إذا فيه نعم قد ملأ كل شيء من كثرته، فهابوا أن يغيروا فيطردوا بعضها ويلحقهم الطلب فقال لهم سليك: كونوا قريباً مني حتى آتي الرعاء فأعلم لكما علم الحي، أقريب أم بعيد هم، فإن كانوا قريباً رجعت إليكما، وإن كانوا بعيداً قلت لكما قولاً أوحي إليكما به فأغيرا. فانطلق حتى أتى الرعاء فلم يزل يستنطقهم حتى أخبروه مكان الحي. فإذا هم بعيد، إن طلبوا لم يلحقوا، فقال السليك للرعاء: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى، غنينا، فرفع صوته وغنى: (من البسيط)

يا صاحبي ألا لاحي بالوادي ... سوى عبيد وأم بين أذواد
أتنظران قريباً ريث غفلتهم ... أم تغدوان فإن الريح للغادي
فلما سمعا ذلك أتيا السليك فطردوا الإبل فذهبوا بها، ولم يبلغ الصريخ الحي حتى فاتوهم بالإبل.
قال نميري لفقعسي: إني أريد إتيانك فأجد على بابك خرءاً، فقال له الفقعسي: اطرح عليه تراباً وادخل، أراد النميري قول الشاعر: (من الوافر)
ينام الفقعسي ولا يصلي ... ويخرأ وق قارعة الطريق
وأراد الفقعسي: (من الوافر)
ولو وطئت نساء بني نمير ... على ترب لخبثن الترابا
كان بالمدينة رجل يسمى جعدة يرجل شعره ويتعرض للنساء، فكتب رجل من الأنصار، وكان في الغزو، إلى عمر رضي الله عنه: (من الوافر)
ألا أبلغ أبا حفص رسولاً ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
قلائضنا هداك الله إنا ... شغلنا عنكم زمن الحصار
يعقلهن جعد شيظمي ... وبئس معقل الذود الظوار
كنى بالقلائص عن النساء، وعرض لأن اسمه جعدة، فسأل عمر عنه، فدل عليه ونفاه عن المدينة.
أخذ علي عليه السلام رجلاً من بني أسد في حد، فاجتمع قومه ليكلموه فيه، وطلبوا إلى الحسن أن يصحبهم فقالوا: ائتوه فهو أعلى بكم عيناً، فدخلوا عليه فرحب بهم وقال لهم معروفاً، وسألوه فقال: لا تسألوني شيئاً أملكه إلى أعطيتكم. فخرجوا وهم راضون يرون أنهم أنجحوا. فسألهم الحسن فقالوا: أتينا خير مأتى، وحكوا له قوله. فقال: ما كنتم فاعلين إذا جلد صاحبكم فاصنعوه، فأخرجه علي عليه السلام فحده فقال: هذا والله لست املكه.
قال عبد الله بن الزبير لامرأة عبد الله بن خازم السلمي: أخرجي المال الذي وضعته تحت استك فقالت: ما ظننت أن أحداً يلي شيئاً من أمور المسلمين يتكلم بهذا، فقال بعض الحاضرين: أما ترون الخلع الخفي الذي أشارت إليه؟! فلما أخذ الحجاج أم عبد الرحمن بن الأشعث تجنب ما عيب على ابن الزبير، فكنى عن المعنى فقال لها: عمدت إلى مال الله فوضعته تحت ذيلك.
2ق - ال الشقراني مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرج العطاء أيام أبي جعفر، وما لي شفيع، فبقيت متحيراً، فإذا أنا بجعفر بن محمد عليهما السلام، فقمت إليه فقلت: جعلني الله فداك، أنا مولاك الشقراني، فرحب بي وذكرت له حاجتي فنزل ودخل دار أبي جعفر وخرج وعطائي في كمه، فصبه في كمي، ثم قال: يا شقراني، إن الحسن من كل أحد حسن، وإنه منك أحسن لمكانك منا، وإن القبيح من كل أحد قبيح وهو منك أقبح لمكانك منا، عرض له فإنه كان يصيب من الشراب، فأكرم في تعريضه بعد إحسانه في الشفاعة وتنجز حاجته.
ماتت للهذلي أم ولد، فأمر المنصور الربيع بأن يعزيه ويقول له: إن امير المؤمنين موجه إليك جارية نفيسة لها أدب وظرف تسليك عنها، وأمر لك بفرش وكسوة وصلة، فلم يزل الهذلي يتوقعها، ونسيها المنصور، فحج ومعه الهذلي فقال له وهو بالمدينة: أحب أن أطوف الليلة بالمدينة، فاطلب لي من يطوف بي، فقال أنا لها يا أمير المؤمنين. فطاف به حتى وصل إلى بيت عاتكة، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص: (من الكامل)
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
فأنكر المنصور ذكر بيت عاتكة من غير أن يسأله عنه، فلما رجع أمر القصيدة على قلبه فإذا فيها:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فذكر الوعد فأنجز له واعتذر له.
طلب المتوكل جارية الزقاق بالمدينة، وكاد يزول عقله لفرط حبه لها، فقالت لمولاها: أحسن ظنك بالله وبي، فإني كفيل لك بما تحب. فحملت فقال لها المتوكل: إقرأي! فقرأ: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " . ففهم المتوكل ما أرادت فردها إلى مولاها.
اختفى ابراهيم بن المهدي في هربه من المأمون عند عمته زينب بنت أبي جعفر، فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك، واحدة زمانها في الحسن والأدب، طلبت منها بخمسمائة ألف درهم فأبت، فهويها وتذمم أن يطلبها منها، فغنى يوماً وهي قائمة على رأسه: (من الرمل المجزوء)
يا غزالاً لي إليه ... شافع من مقلتيه
والذي أجللت خدي ... ه فقبلت يديه
بأبي وجهك ما أك ... ثر حسادي عليه

أنا ضيف وجزاء الض ... يف إحسان إليه
ففطنت الجارية فحكت ذلك لمولاتها، فقالت: إذهبي إليه وأعلميه أني قد وهبتك له. فعادت له، فلما رآها أعاد الغناء، فانكبت عليه فقال لها: كفي، فقالت: قد وهبتني لك مولاتيوانا الرسول، فقال: أما الآن فنعم.
كان بين يزيد بن معاوية وبين إسحاق بن طلحة بن عبيد الله كلام بين يدي معاوية، فقال يزيد: يا إسحاق إن خيراً لك أن يدخل بنو حرب كلهم الجنة، فقال إسحاق: وأنت والله خير لك أن يدخل بنو العباس كلهم الجنة، فانكسر يزيد ولم يدر ما عناه. فلما قام إسحاق قال معاوية: أتدري ما عناه إسحاث؟ قال يزيد: لا، قال: فكيف تشاتم رجلاً قبل أن تعلم ما يقال لك وفيك؟ عنى ما زعم الناس بأن العباس أبي أنا. وكانت هند اتهمت به وبغيره. وذلك لما جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبايعه، فتلا عليها الآية، فبلغ قوله: " ولا يزنين " . قالت: وهل تزني الحرة؟! فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمر رضي الله عنه وتبسم.
خاصم خيلان رجلاً من أولاد زياد، فقال له الزيادي: يا دعي، فأنشأ خيلان يقول: (من الطويل)
بثينة قالت يا جميل أربتني ... فقلت كلانا يا بثين مريب
فبلغ قولهما ابن عائشة فقال: والله إن خيلان في التمثل بهذا البيت أشعر من جميل.
كان يونس يختلف إلى الخليل يتعلم منه العروض، فصعب عليه تعلمه، فقال له الخليل يوماً: من أي بحر قول الشاعر: (من الوافر)
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
ففطن يونس إلى ما عناه الخليل وترك العروض.
الأحاجي أنشد ابن الأعرابي في أيام الأسبوع: (من الرجز)
ما سبعة كلهم إخوان ... ليسوا يموتون وهم شبان
لم يرهم في موضع إنسان
وأنشد أحمد بن يحيى: (من المتقارب)
إذا القوس وترها أيد ... رمى فأصاب الذرى والكلى
فأصبحت والليل لي ملبس ... وأصبحت والأرض بحر طمى
يعني قوس الله التي تدل على الخصب، والأيد: القوي، وهو الله عز وجل. وأصاب كلى الإبل وذراها بالشحم، ومعنى أصبحت: أسرجت المصباح.
محمد بن محمد اليزيدي يصف قنفذاً: (من الطويل)
وطارق ليل جاءنا بعد هجعة ... من الليل إلا ما تحدث سامر
قريناه صفو الزاد حتى رأيته ... وقد جاء خفاق الحشى وهو سادر
جميل المحيا في الرضا فإذا أبى ... حمته من الضيم الروام الشواجر
ولست تراه واضعاً لسلاحه ... يد الدهر موتوراً ولا هو واتر
الحميري في المائدة: (من السريع)
ما ناهد ممسوحة الصدر ... ظاهرة الآية في الظهر
يقوم بالنسر لها بدرها ... وبدرها يقعد بالنسر
امتحن يحيى بن أكثم رجلاً أراده على القضاء فقال: ما تقول في رجلين، زوج كل واحد منهما الآخر أمه، فولد لكل واحد من المرأة ولد، ما قرابة ما بين الولدين؟ فلم يعرف ذلك، فسئل عنها فقال: كل واحد منهما عم الآخر لأمه.
دخل رجل من أهل الشام على عبد الملك بن مروان فقال: إني قد تزوجت امرأة، وزرجت ابني امها، ولا غنى بها عن رفدك، فقال له عبد الملك: إن أخبرتني ما قرابة ما بين اولادكما إذا ولدتما فعلت، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا حميد بن بحدل قد قلدته سيفك ووليته ما وراء بابك، فسله عنها، فإن أصاب لزمني الحرمان، وإن أخطأ اتسع لي العذر. فدعا بالبحدلي فسأله: فقال: يا امير المؤمنين، إنك والله ما قدمتني على العلم بالأنساب، ولكن على الطعن بالرماح، أحدهما عم الآخر، والآخر خاله. وهذه القضية هي التي ضمنها الحريري مقاماته في قوله: (من الخفيف)
رجل مات عن أخ مسلم حر ... ر نقي من امه وأبيه
وله زوجة لها أيها الحب ... ر أخ خالص بلا تمويه
فجرت سهمها وحاز أخوها ... ما تبقى بالإرث دون أخيه
وهي منقولة من كتاب ابن قتيبة " عيون الأخبار " .
وقد وضعت أحاج فقهية ليس فيها طائل ولا يحصل بها علم، وعلى ذلك فقد ذكرت منها ما يجعل الباب حاوياً لما جاء من جنسه.
رجل من اهل الجنة نهى الله أن يعمل مثل عمله؟ ونس بن متى لقوله تعالى: " ولا تكن كصاحب الحوت " .

ميت أحيا ميتاً؟ بقرة بني إسرائيل لقوله: " اضربوه ببعضها " .
شيء قليله حلال وكثيره حرام؟ نهر طالوت لقوله: " إلا من اغترف غرفة بيده " .
صلاة مفروضة تصلى على غير طهر؟ صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
صوم لا يحجز عن أكل ولا شرب؟ في قوله تعالى: " إني نذرت للرحمن صوماً " أي سكوتاً.
رجل مسلم محصن أخذ مع امرأة مسلمة محصنة، فوجب الرجم عليه ولم يجب عليها؟ هو رجل أشهد على طلاق امرأة ولم تعلم، ثم جامعها، فرجم.
رجلان خطبا امرأة فحلت لأحدهما وحرمت على الآخر من غير نسب ولا معرفة ولا رحم ولا رضاع؟ كان للذي حرمت عليه أربع نسوة.
رجلان كانا في سطح، فسقط أحدهما فمات، فحرمت امرأة الآخر عليه؟ الجواب عن ذلك أنه كان الحي مولى للميت وتحته ابنته، فإذا مات صارت مولاته، فحرمت عليه.
مكان لا قبلة له؟ ظهر البيت الحرام.
رجل زوج أمه وأخته من رجل في عقد واحد، والعقد صحيح؟ الجواب: أن الرجل المزوج كانت أمه أمة مشتركة بين اثنين، فجاءت به فادعاه كل واحد من الموليين، والولد لاحق بهما جميعاً يرثهما ويرثانه، ولكل واحد من الأبوين بنت من امرأة أخرى، وكلتاهما أخت له، فإذا جمع بينهما وبين أمه في نكاح فلا مانع من ذلك.
رجل صلى المغرب فلزمه أن يتشهد فيها عشر مرات؟ الجواب أنه رجل لحق الإمام وهو ساجد في الركعة الثانية فتشهد معه، ثم قام الإمام إلى الركعة الثالثة وتشهد فيها، وهي الأولى للمأموم، وكان الإمام قد سها فسجد سجود السهو وتشهد، وذكر قبل السلام أن عليه سجدة تلاوة قد سها عنها، فسجدها وتشهد، ثم سجد للسهو عنها وتشهد فصارت خمس مرات، وليس للمأموم فيها غير ركعة واحدة، وقام ليتم صلاته ركعتين، فاتفق له مثل ما اتفق للإمام من السهو فلزمه التشهد خمس مرات، فصارت عشراً.
أبو الفضل بن العميد في الشمس: (من البسيط)
ماذا ترى يا أبا العباس في رجل ... تشابهت منه أولاه وأخراه
يرى مقدمه شروى مؤخره ... حسناً ويمناه في تمثال يسراه
من حيث واجهته أرضاك منظره ... وكيف قابلته أغناك مغناه
يهوى المباعد عنه قرب منزله ... حتى إذا ما تغشاه تحاماه
آخر في الشطرنج: (من الوافر)
وجيش في الوغى بإزاء جيش ... لهام جحفل لجب خميس
تراهم يبذلون لمذرهيهم ... إذا حمي الوغى مهج النفوس
نفوس ليس ينفعها نعيم ... وليس يضيرها إيقاع بوس
وليسوا باليهود ولا نصارى ... ولا العرب الصليب ولا مجوس
آخر في السماء والأرض: (من المنسرح)
أختان إحداهما إا انتحبت ... تبكي كذاك بعبرة حرى
وما بها علة ولا سقم ... تضحك منها الأخية الأخرى
آخر في الأيام والليالي: (من الطويل)
سرينا فأدلجنا فكان ركابنا ... يسرن بنا في غير بر ولا بحر
مطايا يقربن البعيد وإنما ... يقربن أشلاء الكريم إلى القبر
آخر في الشمعة: (من الرجز)
مجدولة تحكي لنا ... في قدها قد الأسل
كأنها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل
أبو طالب المأموني في المنارة: (من الطويل)
وقائمة بين الجلوس على شوى ... ثلاث فما تخطى بهن مكانا
على رأسها نجل لها لم يجنه ... حشاها ولا علته قط لبانا
تسدد في أعلاه كل عشية ... لشق جلابيب الظلام سنانا
كشاجم في البطيخ: (من السريع)
وطيب أهدى لنا طيبا ... فدلنا المهدى على المهدي
لم تأتنا حتى أتينا له ... روائح أغنت عن الند
بظاهر أخشن من قنفذ ... وباطن ألين من زبد
كأنما تكشف عنه المدى ... عن زعفران شيب بالشهد

ابن العميدمن رسالة كتبها إلى بعض إخوانه في الشمعة وربعة المصحف: زرت أطال الله بقاء سيدي في هذه الأيام صدراً من صدور الكرام، قد ساعده زهو الشبيبة، وأسعده زمن اللهو والطيبة، وجنجت الأقدار لسلمه، وأسلمت لمراده وحكمه. يقول فيها: إذ دخل علينا واحد من خدمه ومعه شجرة قائمة على ساقها، عارية عن أوراقها، تحمل ناراً، وتعيد ليلها نهاراً، إن انتبهت استأنس جلاسها، وإن قمصت تطلع رأسها، واقفة وما لها قدم، وناحلة وما بها من سقم، أرضها من فضة، ودموعها منفضة، تجمع أوصاف العشاق، وتحكي اعتدال القدود الرشاق. فلما انجلى بها الحندس، وأضاء عنها المجلس، حانت مني التفاتة فرأيت بين السماء والأرض شيئاً بديعاً، بطنه ساج، وفرشه ديباج، أطرافه كجيد الفتاة، وآثاره مس كعوب القناة، ولباسه خزائن البحار، وقلائده بضائع الأبارا والفجار، فهو موصول ومفصول، وإبهامه مقطوع ومأكول، نطاقه في صدره، وأزراره من ظهره، فيه نفس بلا علل، وعين بلا مقل، وأذن بلا قذال، وقلب بلا طحال، قصيره كطويله، وجملته كتفصيله، يصغر وهو عظيم، ويمنع وهو كريم، ويحكم وهو غير حاكم، ويقطع وهو غير صارم، ويسبح وهو غير عائم، ويتكيء وهو غير نائم، يجمع ألوان الأزهار والأنوار، ويدل على صورة الفلك الدوار، يخبر عن غرائب الجواهر، ويؤذن بالدواهي والفواقر، مقيد لم تمسه السلاسل، ومخمل لم تدنسه الغلائل، معلم الطرفين، أحمر الظواهر، أبلق البواطن؛ تضمنته نيران لا تحرقه، ومياه لا تغرقه، حلو يسره، طيب لا يفيد إلا نشره. إن مددت اسمه فكلمتان، وإن تركته فذو معان، لا يوافقه ذم، ولا تفارقه أم، ما رضع من لبان، ولا رصع بنقصان، إخوانه أمجاد، وأخواته أزواج وأفراد، يركب وهو راجل، ويركب وهو غير راحل، حامله محمول، وأثره منقول. فاهتززت لاستهدائه اهتزاز واثق بأن نواله يسبق السؤال، وأفعاله تبلغني الآمال. فلما عرف رغبتي فيه قربه ناحية، فأنجح آمالي قبل أن أخلق وجهي بذل السؤال.
وجه ملك الروم إلى معاوية بقارورة وقال: ابعث إلي فيها من كل شيء، فبعث إلى ابن عباس فقال: إحدى بنات طبق! قال: وما ذاك؟ فقص عليه القصة، فقال: لتملأ له ماء. فلما ورد به على ملك الروم قال: لله أبوه ما أهاه! وقيل لابن عباس: كيف اخترت ذلك؟ فقال: لقول الله عز وجل: " وجعلنا من الماء كل شيء حي " .
وقيل لرجل من بني هاشم: ما طعم الماء؟ فقال: طعم الحياة.
صحب أعشى همدان خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي، فكان يعده ويمنيه إن ولي عملاً أن يحكمه فيه. فلما ولي خالد أصفهان سار معه، فلما وصل إلى العمل جفاه وتناساه ففارقه الأعشى وقال فيه من أبيات: (من الوافر)
أتذكرني ومرة إذ غزونا ... وأنت على بغيلك ذي الوشوم
وتركب رأسه في كل وحل ... وتعثر في الطريق المستقيم
وليس عليك إلا طيلسان ... نصيبي وإلا سحق نيم
فبعث إليه خالد: هذا الذي ادعيت أني وأنت غزونا معه على بغل ذي وشوم، متى كان ذلك؟ ومتى رأيت علي الطيلسان والنيم اللذين وصفتهما؟ فأرسل إليه: هذا كلام أردت وضعك بظاهره، وأما تفسيره: فإن مرة مرارةثمر ما غرست عندي من القبح، والبغل: المركب الذي ارتكبته مني لا يزال يعثر بك في وعث وجدد ووعر وسهل، وأما الطيلسان فما ألبستك إياه من العار والذم، وإن شئت راجعت الجميل فراجعته لك. قال: لا، بل أراجع الجميل وتراجعه، فوصله بمال عظيم وترضاه.
ومن هذا الجنس قول القائل: (من المتقارب)
ألا لا تصل ألا لا تصل ... حرام عليك فلا تفعل
فإن المزكي إلى ربه ... من النار في الدرك الأسفل
ظاهر هذا الكلام نهي عن الصلاة وعن الزكاة، وإنما أراد: لا تزن ولا تلط ولا تقامر، فإن هذه الخصال تورد صاحبها في النار. فالصلوان عرقان في الردف يقول: لا تركب الصلوين، يريد: فجوراً. والمزكي: المقامر الذي يلعب حساً أو زكاً أي فرداً أو زوجاً.
خرج المعتصم متنزهاً مستخلياً من غلمانه يسير بين أيديهم وقد بعد عنهم. فلقي رجلاً فقال له: ما صناعتك أيها الرجل؟ قال: حلية الأحياء وجهاز الموتى. فوقف وجازه الرجل، فلحقه ابن أبي داود وأخبره بما قال الرجل، فقال: هذا حائك يا أمير المؤمنين.

وجه عبد الملك بن صالح بن علي إلى الرشيد فاكهة في أطباق خيزران وكتب إليه: أسعد الله أمير المؤمنين وأسعد به، دخلت بستاناً لي أفادنيه كرمك وغمرته نعمتك، وقد ينعت أشجاره، وأتت ثماره، فوجهت من كل شيء شيئاً على السعة والإمكان في أطباق القضبان، لتصل إلى من بركة دعائه مثل ما وصل إلى من كثرة عطائه، فقال له بعض من حضره: يا أمسر المؤمنين، ما سمعت بأطباق قضبان! فقا له الرشيد: يا أبله، إنما كنى عن الخيزران إذ كان اسماً لأمنا.
ومن كنايات العرب قول بعض اللصوص: (من الوافر)
أيذهب بارح الجوزاء عني ... ولم أذعر هوامل بالستار
عنى أنه إذا سرق الهوامل عفت الريح على أثر وطئه، فلم يوقف له ونجا بالذي يقتطعه ويسرقه. وأراد بالبارح بوارح الرياح.
ومنه قول الأخر: (من الطويل)
أيا بارح الجوزاء ما لك لا ترى ... عيالك قد أمسوا مراميل جوعا
أي إذا هببت أمكنتنا السرقة بتعفيتك آثار الأقدام.
ومثله قول الآخر: (من الوافر)
ألا يا جارنا بأناص إنا ... وجدنا الريح أكرم منك جارا
تعدينا إذا هبت علينا ... وتملأ وجه ناظركم غبارا
وقول الآخر: (من الوافر)
إذا لم تطعمونا أطعمتنا ... بحمد الله معصفة جنوب
يونس عن امرأة من العرب زارتها بنت أختها وبنت أخيها، فأحسنت تزويدهم. فلما كان عند رجوعهما قالت لابنة أخيها: جف حجرك وطاب نشرك. فرت الجارية بما قالت لها عمتها، وقالت لابنة أختها: أكلت دهشاً وحطبت قمشاً، فوجدت لذلك المصيبة وشق عليها ما قالت لها خالتها، فانطلقت بنت الأخ إلى أمها مسرورة فقالت لها أمها: ما قالت لك عمتك؟ فقالت: قالت لي خيراً ودعت لي. قالت: ويحك، وكيف قالت ذلك؟ قالت، قالت: جف حجرك وطاب نشرك. فقالت: يا بنية، ما دعت لك بخير، ولكن دعت بأن لا تلدي ولداً أبداً فيبل حجرك ويغير نشرك. وانطلقت الأخرى إلى أمها فقالت لها: ما قالت لك خالتك؟ قالت: وما عسى أن تقول لي؟ دعت الله علي، فقالت، قالت لي: أكلت دهشاً وحطبت قمشاً، قالت: بل دعت الله لك يا بنية أن يكثر ولدك فينازعونك في المال ويقمشوك حطباً.
ومن أخبار العرب في هذا المعنى أن شناً كان رجلاً من دهاة العرب، وكان ألزم نفسه أن لا يتزوج إلا بامرأة تلائمه. فكان يجوب البلاد في ارتياد طلبته، فصاحبه رجل في بعض أسفاره. فلما أخذ منهما السير قال له شن: أتحملني أم أحملك؟ فقال له: يا جاهل، هل يحمل الراكب الراكب؟ فأمسك وسار حتى أتيا على زرع، فقال له شن: أترى لهذا الزرع أكل أم لا؟ فقال: يا جاهل، ألا تراه في سنبله؟ فأمسك إلى أن استقبلتهما جنازة، فقال له شن: أترى صاحبها حياً أم لا؟ فقال له صاحبه: ما رأيت أجهل منك، أتراهم حملوا إلى القبر حياً؟ ثم أنهما وصلا إلى قرية الرجل فصار به إلى منزله، وكانت له بنت تسمى طبقة، فأخذ يطرفها بحديث رفيقه فقال له: ما نطق إلا بالصواب: أما قوله تحملني أم أحملك؟ فإنه أراد تحدثني أم أحدثك حتى نقطع الطريق؟ وأما قوله: أترى هذا الزرع أكل أم لا؟ فإنه أراد هل استسلف ربه ثمنه؟ وأما استفهامه عن حياة صاحب الجنازة فإنه أراد به: أخلف عقباً يحيي ذكره أم لا. فلما خرج إلى الرجل حدثه بتأويل ابنته كلامه، فخطبها إليه، فزوجه إياها، وسار إلى قومه بها، فلما خبروا ما فيها من الدهاء والفطنة قالوا: وافق شن طبقة، فصارت مثلاً. هذا أحد الأقوال في تفسير هذا المثل وهو بعيد.
وقد قيل في تفسيره ما هو أسد من هذا، وهو مورد في باب الأمثال.

من كلام أبي محمد القاسم بن علي الحريري يصف الإبرة ويلغز عنها: كانت لي مملوكة رشيقة القد، أسيلة الخد، صبور على الكد، تخب أحياناً كالنهد، وترقد أطواراً في المهد. وتجد في تموز مس البرد، ذات عقل وعنان، وحد وسنان، وكف ببنان، وفم بلا أسنان، تلدغ بلسان نضناض، وترفل في ثوب فضفاض، وتجلى في سواد وبياض، وتسقى ولكن من غير حياض، ناصحة خدعة، خبأة طلعة، مطبوعة على المنفعة، ومطواعة في الضيق والسعة. إذا قطعت وصلت، ومتى فصلتها عنك انفصلت، وطالما خدمتك فجملت، وربما جنت عليك فآلمت وململت. وإن هذا الفتى استخدمنيها لغرض، فأخدمته إياها بلا عوض، على ان يجتني نفعها، ولا يكلفها إلا وسعها، فأولج فيها متاعه، وأطال بها استمتاعه. ثم أعادها وقد أفضاها، وبذل عنها قيمة لا أرضاها. الجواب.
من كلامه يلغز بالميل: رهنته، على أرش ما أوهنته، مملوكاً لي متناسب الطرفين، منتسباً إلى القين، نقياً من الدرن والشين، يقارن محله سواد العين، يفشي الإحسان، وينشيء الاستحسان، ويغذي الإنسان، ويتحامى اللسان. إن سود جاد، أو وسم أجاد، وإذا زود وهب الزاد، ومتى استزيد زاد. لا يستقر بمغنى، وقلما ينكح إلا مثنى. يسخو بموجوده، ويسمو عند جوده، وينقاد مع قرينته، وإن لم تكن من طينته، ويستمتع بزينته، وإن لم يطمع في لينته.
ابن القزاز المغربي وكنى عن غلام اسمه لؤلؤ، وأشار إلى أن الأصداغ توصف باللامات والطرر بالواوات: (من الكامل المرفل)
م يكفه أن اسمه علم ... ينبيك مبسمه بصورته
حتى أراد بأن يعنونه ... بصفات صدغيه وطرته
أبو الحسن علي بن إسماعيل الزيدي العلوي المغربي وقد عمد إلى جرتي شراب، فوجد إحداهما خلاً نقيفاً: (من الخفيف)
رب أختين أمستا طوع ملكي ... نجل أم يصبو إليها الرجال
هذه حسنها مقيم وهذي ... غيرت حسن حالها الأحوال
فافتضاض الحسناء سهل حرام ... وافتضاض السواء صعب حلال
وه في المائدة: (من الخفيف)
هاكها روضة تعيش بها الأج ... سام مثل نورها نوار
دبجتها الأيدي فجاءت تهادى ... بوجوه كانها أقمار
كل روض غض ينمقه الما ... ء وهاتيك نمقتها النار
وله في الزربطانة بديهاً: (من الخفيف)
سمهري تزخمنه نجوم ... لذوات اللحون فيها رجوم
تخرق الأيك فوقهن بحتف ... فلها في صدورهن كلوم
كل قوس تحنى إذا سمتها الرم ... ي وهذا في رميه مستقيم
حسن بن علي الصيرفي يلغز بإبراهيم: (من السريع)
يا ابن المغيث اسمع بأعجوبة ... جاءتك مني تستخف الحليم
قد صرت في ذا الحب أحدوثة ... ذا كبد حرى وجسم سقيم
يلعب بي ضدان باسم الذي ... أهوى كريح لعبت بالهشيم
بعض اسمه يأمر أن أرعوي ... وبعضه يأمرني أن أهيم
وقد أتت في لفظه لحنة ... ألذ من راح بكفي نديم
ومنه وصفي حالتي إن أتى ... يسألني عنها صديق حميم
ولست أرعى النجم إلا لأن ... ني بت عديلاً لدراري النجوم
وجدته في الآس والبان والر ... راح وفي نعتي وبعض النسيم
لو كنت إلا مثل ما قال في ... بعض اسمه ما لاح برق وشيم
أكثر مقاصده في هذه الأبيات مفهوم إلا قوله: وجدته في الآس... البيت، فإن فيه استغلاقاً. أراد الألف من الآس، والباء من البان، والراء من الراح، والألف الثانية تسقط لتكررها، والهاء من هائم وهو نعت له، والياء والميم من النسيم وهي بعضه كما قال.
اسماعيل بن عبدون الكاتب المغربي في الشمعة: (من المتقارب)
وصفراء تنشر من رأسها ... ذوائب صفراً على المجلس
تعم الندامى بها كسوة ... فكل نديم بها مكتسي
تمازج مشروبهم رقة ... وتلقي شعاعاً على الأكوس
وتهدي إذا حضرت مجلساً ... نشاطاً وأنساً إلى الأنفس
تريك إذا حدقت عينها ... عيوناً من الزهر والنرجس
وله أيضاً فيها: (من المتقارب)

وفوارة ماؤها رقة ... تفيض على كل راء لها
إذا قابلته كسا الحاضرين ... كساها عموماً لها كلها
تفيض عليهم بمثل الغما ... م أتبع وابلها طلها
يصوب فيغرق أبوابهم ... ويخرج منها وما بلها
تمازج كاساتهم رقة ... ويظهر فيها وما حلها
وليس بملح ولا بالفرا ... ت يروي العطاش إذا علها
صفات يظل لها ذوي النهى ... كليل القريحة معتلها
إذا ما اهتدى لطريق أرت ... ه أخرى فعاد وقد ضلها
البديع الهمذاني رحمه الله في البهار: عدو في بردة صديق. من نجار الصفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظفر، كدارة العين، يحط ثقل الدين.
ابن نصر الكاتب في اصطرلاب: قطب الزمن ومداره، وميزان الفلك ومعياره، وأساس الحكمة وموضوعها، وتفصيل القضية ومجموعها، الناطق في صمته، الموفي على نعته، مظهر السر الكنون، المخبر عما كان وعما يكون، ذو شكل مقمر مستدير، ولون مشمس مستنير، ومنطقة محيطة بأجزائه، وخطوط معدلة على أعضائه، وكتابة مطيفة بتلاويزه، ورموز بائحة بضميره، متقابل الأطراف والأهداف، متكامل الأوصاف، بحجرة مسكونة وصفائح موضونة، وقد مرموق، وباب مطروق، يتعلم فتحه ورتاجه، وعليه طريقه ومنهاجه، إذا انتصب قال فحمد، وإذا اضطجع عي فلم يفد، صفري الانتساب، ذهبي الإهاب، يخترق الأنوار من نقابه، ويستخدم الشمس في حسابه، يجمع الشرق والغرب في صفحته، وستره الحامل في راحته. رافعه ينظر من تحته، وأخباره تسند عن خرته.
والكناية في شعر العرب قليل، ولم يكونوا يتعاطونه، وعلى شذوذه فلهم منه النادر. فمن ذلك قول ذي الرمة، وكنى عن الأرض: (من الطويل)
فما أم أولاد ثكول وإنما ... بنو بطنها حين تثكل
أسرت جنيناً في حشا غير خارج ... فلا هو منتوج ولا هو معجل
أسرت جنيناً: أي ما يزرع فيها.
تموت وتحيا حائل من بناتها ... ومنهن أخرى عاقر وهي تحمل
عمانية مهرية دوسرية ... على ظهرها للكور والحلس محمل
مفرجة حمراء عيساء جونة ... صهابية العثنون دهماء صندل
مفرجة: لها فروج أي طرق فيها حمرة. صهابية العثنون: يريد ما تقدم من الرياح. وصندل: عظيمة الرأس، يريد أول الريح.
تراها أما الريح في كل منزل ... ولو طال إيجاف بها وترحل
ترى الخمس بعد الخمس لا يفتلانها ... ولو فار للشعرى من الحر مرجل
لا يفتلانها: لا يردانها، يقال: فتله أي صرفه.
تقطع أعناق المطي ولا ترى ... على السير إلا صلدماً لا تزيل
ترى أثر الأنساع فيها كأنه ... على طي عادي يعاليه جندل
ولو جعل الكور العلافي فوقها ... وراكبه أعيت به ما تحلحل
عادي: قليب. يقول: لو جعل الرحل وراكبه فوق الأرض ما تحلحلت.
ترى الموت إن قامت، فإن بركت به ... يرى موته عن ظهرها حين ينزل
ترى ولها بطن وظهر وذروة ... وتشرب من برد الشراب وتأكل
قامت: يريد به قيام الساعة. وذروتها: الجبال. وأكلها: ما يزرع فيها.
ولبعض العرب في الجرادة: (من الوافر)
وما صفراء تكنى أو عوف ... كأن رجيلتيها منجلان
وقال أعرابي: أتعرفون شيئاً إذا قام كان أقصر منه إذا قعد. هو الكلب لأنه إذا أقعى سمكاً منه إذا قام على أربع.
ومن لغزهم في العين: (من الوافر)
وباسطة بلا قصب جناحاً ... وتسبق ما يطير ولا تطير
إذا ألقمتها الحجر اطمأنت ... وتجزع أن يباشرها الحيري
أراد بالحجر الإثمد.
وسئل أعرابي عن قول القائل: (من الطويل)
أبى علماء الناس لا يخبرونني ... بناطقة خرساء مسواكها حجر
فقال: هي ما علمت أم سويد.
في القلم: (من المتقارب)
وأجوف يمشي على رأسه ... يطير حثيثاً على أملس
فهمت آثاره ما مضى ... وما هو آت ولم يبلس
ولآخر فيه: (من الطويل)
وبيت بعلياء الفلاة بنيته ... بأسمر مشقوق الخياشيم يرغف
كشاجم في لوح الهندسة: (من الرجز)

وقلم سطوره حساب ... في مدادها تراب
يكثر فيها المحو والإضراب ... من غير أن يسود الكتاب
حتى يبين الحق والصواب ... وليس إعجام ولا إعراب
سألني سيدنا ومولانا الإمام المستنجد بالله صلوات الله عليه عما قيل في أحول، فأنشدته أبياتاً، ووردت في هذا الكتاب، وأنشد هو ما حضره وأشار إلى نظم لغز فيه: (من المتقارب)
وأختين لم تعرفا ما الفراق ... كما التأمت صحبة الفرقدين
ويصطحبان على رقبة ... كمثل الزبانى رقيب البطين
وقلت غير ملغز: (من الرجز)
وأحول محبب ممدوح ... مبارك العين خفيف الروح
ينظر من خادعة لموح ... بعرض وهو مقتل الطموح
كصائد مخاتل مشيح ... أو كوكب مال إلى الجنوح

نوادر من هذا الباب وأنواعه
تزوج حماد عجرد امرأة، فدخل أصدقاؤه صبيحة البناء بها فسألوه عن خبره معها فقال: (من المديد)
قد فتحت الحصن بعد امتناع ... بمبيح فاتح للقلاع
ظفرت كفي بتفريق شمل ... جاءنا تفريقه باجتماع
فإذا شملي وشمل حبيبي ... إنما يلتام بعد انصداع
سأل خلف أو الأصمعي رجلاً عن قول الشاعر: (من الكامل)
ولقد غدوت بمشرف يافوخه ... عسر المكرة ماؤه يتدفق
مرح يسيل من النشاط لعابه ... ويكاد جلد إهابه يتمزق
فقال: يصف فرساً. فقال: أرأسك الله على مثله.
مر أعرابي بجارية تمدر حوضاً لها، فقال: من دل على بعير بعنقه علاط، وبأنفه خزام، تتبعه بكرتان سمراوان؟ فقالت الجارية: لا حفظ الله عليك يا عدو الله، فقيل لها: ما ذاك؟ قالت: ينشد سوءته.
شكا رجل إلى مزبد سوء خلق امرأته، فقال مزبد: بخرها بمثلثة، يريد الطلاق.
دخل مطيع بن إياس على قوم وعندهم قينة، فقالوا: اسقوه، ولم يكن أكل شيئاً، فاستحيا وشرب. فلما أوجعه النبيذ قال لها تغنين: (من المتقارب)
خليلي داويتما ظاهرا ... فمن ذا يداوي جوى باطنا
فعلموا أنه عرض بالجوع، فأطعموه.
عر شريح ناقة للبيع فقال له المشتري: كيف غزارتها؟ قال: احلب في أي إناء شئت، قال: فكيف وثاقها؟ قال: احمل على حائط ما شئت، قال: كيف وطاؤها؟ قال: افرش ونم، قال: كيف نجاؤها؟ قال: هل رأيت البرق قط؟ قال الأصمعي: كنت مع خلف جالساً، فجرى كلام في شيء من اللغة، وتكلم فيه أبو محمد اليزيدي وجعل يشغب، فقال له خلف: دعني من هذا يا أبا محمد، وأخبرني من الذي يقول: (من الكامل المجزوء)
وإذا انتشيت فإنني ... رب الحريبة والرميح
وإذا صحوت فإنني ... رب الدويبة واللويح
يعرض به أنه معلم وأنه يلوط فغضب اليزيدي وقام فانصرف.
كان لمطيع بن إياس صديق من العرب يجالسه، فضرط ذات يوم وهو عنده، فاستحيا وغاب عن المجلس، ففقده مطيع وعرف سبب انقطاعه، فكتب إليه يقول: (من البسيط)
أظهرت منك لنا هجراً ومقلية ... وغبت عنا ثلاثاً لست تغشانا
هون عليك فما في الناس ذو إبل ... إلا وأينقه يشردن أحيانا
حدث الأصمعي الرشيد معرضاً أنه كان بالبصرة فتى له كوخ من قصب كان يغشاه الفتيان، فإذا أطربهم سمره قال بعضهم: غداً علي ألف آجرة، وقال آخر: علي الجص، وقال آخر: علي أجرة البناء، فيصير كوخه قصراً من ساعته،ثم يصبح فلا يرى شيئاً، فقال: (من الوافر)
إذا ما طابت الأسمار قالوا ... غداً نبني بآجر وجص
وكيف يشيد البنيان قوم ... يزجون الشتاء بغير قمص
فاستضحك الرشيد وقال: لكننا نبني لك قصراً لا تخاف فيه ما خاف الفتى، وأمر له بألفي دينار.
قال أشعب لفقيه: ما تقول في صلاة صليتها في ثوبين؟ قال: هي جائزة في ثوب فكيف في ثوبين؟ قال: هما جورب وقلنسوة.
قال يموت بن المزرع: قال لي ابن صدقة المري: ضربك الله باسمك، فقلت: أحوجك الله إلى اسم أبيك.
قيل لبعض صبيان الأعراب: ما اسمك؟ قال: قراد، قيل: لقد ضيق أبوك عليك الاسم، قال: إن ضيق الاسم فقد وسع الكنية، قيل: وما كنيتك؟ قال: أصحاب الصحارى.

كان داود بن عيسى يلقب بأترجة، وعبد السميع بن محمد بن منصور بشحم الخزيرة، ومحمد بن أحمد بن عيسى الهاشمي يلقب كعب البقر، وكانوا مع المستعين فلما صاروا إلى المعتز قال فيهم: (من المتقارب)
أتاني أترجة في الأمان ... وعبد السميع وكعب البقر
فأهلاً وسهلاً بمن جاءنا ... ويا ليت من لم يجيء في سفر
فقالوا: قد شرفنا أمير المؤمنين، ولكنه ذكرنا باللقب دون عبد السميع، فقال: ما عرفت لقبه، فقالا: شحم الخزير، فقال: هو في وزنه سواء بسواء، فضعوه في موضعه.
اجتاز المبرد رحمه الله بسذاب الوراق، فسأله دخول منزله، فقال له: ما عندك؟ قال: أنا وأنت، يعني اللحم البارد والسذاب.
أبو نواس يكني عن نكاح اليد: (من الطويل)
وقل بالرفا ما نلت من وصل حرة ... منعمة حفت بخمس ولائد
تعقفه ما دام في السجن ثاوياً ... ودامت عليه محكمات القلائد
أعرابي: يا ابن التي خمارها في فيها، أراد ما خمرت به فاها، فهي تستره ببخرها.
حج مع ابن المنكدر رحمه الله شبان، فكانوا إذا رأوا امرأة جميلة قالوا: قد أبرقنا، وهو يظنون أنه لا يفطن. فرأوا قبة فيها امرأة فقالوا: بارقة، وكانت قبيحة، فقال: صاعقة.
وكان أصحاب ابن أبي علي الثقفي إذا رأوا امرأة جميلة قالوا: حجة، فعنت لهم امرأة قبيحة فقالوا: داحضة.
أنشد العجاج: (من الرجز)
أمسى الغواني معرضات صددا
وأعرابي حاضر فقال: تنح عن صدده لا تسقط منه كلمة فتخدشك. كنى عن خشونة كلامه وغلظه.
ساير هشام بن عبد الملك أعرابي، فقال له: انظر ما على ذلك الميل، فجاء الأعرابي وتأمله وقال: رأيت شيئاً كرأس المحجن متصلاً بحلقة يتبعها ثلاثة كأطباء الكلبة، كأن رأسها رأس قطاة بلا منقار، فعرف هشام أنه يصف خمسة.
وأضل رجل بعيراً، فقال لأعرابي: هل رأيت بعيراً جعفراً؟ فقال: ما أعرف جعفراً، ولكن رأيت بعيراً سمته محجن، وشابوره وحلقه وهلاله متصل بعضه ببعض، فقال: هوذا.
وقال مشمشة المخنث لرجل: اكتب، مشمشة يقرأ عليك السلام، فقال: قد كتبت، فقال: أرنيه، فإن اسمي يشبه دخالة الأذن.
مخلد الموصلي: (من الرمل المجزوء)
أنت عندي عربي ... ليس في ذاك كلام
عربي عربي ... عربي والسلام
شعر أجفانك قيصو ... م وشيح وثمام
التقط أعرابي اسمه موسى كيساً، ثم دخل مسجداً يصلي فيه، وقرأ الإمام: " وما تلك بيمينك يا موسى " ، فرمى إليه بالكيس وقال: والله إنك لساحر.
وفد شاعران على المأمون ، فقال لأحدهما : ممن؟ قال: من ضبة، فأطرق، فقال: يا أمير المؤمنين من ضبة الكوفة لا من ضبة البصرة. وسأل الآخر فقال: من الأشعريين. فقال: أنت أشعر أم صاحبك؟ قال: ما ظننت أن هاشمياً يحكم أشعرياً بعد أبي موسى، فضحك وقال: أعطوا الضبي ألفاً لفطنته، والأشعري ألفاً لنادرته.
كان رجل يتعاطى الصراع. فلم يصرع أحداً، فتركه وتعاطى الطب، فمر به حكيم فقال له: الآن تصرع خلقاً كثيراً.
تنبأ رجل في زمن المنصور، فقال له: أنت نبي سفلة، فقال: جعلت فداك، كل إنسان يبعث إلى شكله.
قص قاص، فأقبل جماعة من المرد فقال: ها هو قد جاء العدو، أمنوا، اللهم امنحنا أكتافهم، وكبهم على وجوههم، وولنا أدبارهم، وأرنا عورتهم، وسلط أرماحنا عليهم، والناس يؤمنون ولا يدرون.

الباب الرابع والأربعون
في الخمر والمعاقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
اللهم إنا نحمدك على اجتناب المحارم والآصار، ونعوذ بك من ارتكاب المآثم والأوزار، ونسألك العصمة من متابعة الهوى والأوطار، والنجاة من دواعي التداعي في درك النار. اللهم وكما جعلت لنا فيما أحللت عرضاً عما حرمت، وأقمت فيما آتيت خلقاً مما منعت، فاجعلنا بالحلال راضين قانعين، وعن الحرام منتهين مقلعين، ولأمرك فيهما متبعين، وجنبنا إثم الخمر والميسر ومضرتهما، واصرف عنا العداوة فيهما وفتنتهما، وصل على رسولك الناهي عنهما صلاة مقامه وتعليه، وتزلف محله وتدنيه، وعلى أصحابه وأهل الفضل وذويه.
الباب الرابع والأربعون
ما جاء في الخمر والمعاقرة

نضمنه ما جاء في تحريمها والنهي عنها، وأخبار من تركها تنزهاً وترفعاً، أو تحرجاً وتحوباً، ومن حث عليها ودعا إليهم خلاعة وتطرباً، وما قيل في مدحها وذمها، ونفعها وضرها، وأوصافها ونعت آنيتها وظروفها، وأخبار معاقريها، والمشهور من أسمائهم صفاتها، دون الغريب الوحشي، وغير ذلك من الفنون المتعلقة بها، الموردة في أماكنها. والله الموفق لما يرضيه، وإياه نسأل أن يجنبنا ما يسخطه.
قال الله عز وجل: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما " .
وآية التحريم قوله سبحانه: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون " . روي أن هذه الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
ومن الأخبار المتفق عليها في الصحيحين أن علياً رضي الله عنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفاً من الخمس يومئذ، فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعدت رجلاً صواغاً من بني قينقاع يرتحل معي، فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصواغين، فأستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبال، (فإذا) شارفاي قد اجتبت أسنمتهما وبقرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر، فقلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، غنته قينة وأصحابه:
ألا يا حمز للشرف النواء
فوثب حمزة إلى السيف فاجتب أسنمتهما، وبقر خواصرهما، وأخذ من أكبادهما. قال علي: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة، قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه في وجهي الذي لقيت، فقال: ما لك؟ قلت: يا رسول الله، ما رأيت كاليوم! عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما، وها هو ذا في بيت معه شرب. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه بردائه، فارتداه ثم انطلق يمشي، واتبعته أنا وزيد بن حارثة، حتى جاء البيت الذي فيه حمزة، فاستأذن فأذن له، فإذا هم شرب، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه بلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر إلى ركبته، ثم صعد النظر إلى سرته، ثم صعد النظر إلى وجهه ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل، فنكص رسول الله على عقبيه القهقرى وخرج وخرجنا معه. وذلك قبل تحريم الخمر.
والأبيات التي غني فيها حمزة: (من الوافر):
ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء
ضع السكين في اللبات منها ... فضرجهن حمزة بالدماء
وعجل من أطايبها لشرب ... كرام من قدير أو شواء
الأخبار في تحريمها والتغليظ فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه: من مات مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن. وقال صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة مدمن خمر. وقال صلى الله عليه وسلم : ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان شرب الخمر وملاحاة الرجال.
أخبار من تركها ترفعاً عنها منهم عبد الله بن جدعان التيمي، وكان سيداً جواداً من سادات قريش. وسبب ذلك أنه شرب الخمر مع أمية بن أبي الصلت الثقفي، فأصبحت عين أمية مخضرة يخاف عليها الذهاب، فقال له عبد الله: ما بال عينك؟ فسكت، فلما ألح عليه قال له: أنت صاحبها، أصبتها البارحة؛ قال: أو بلغ مني الشراب ما أبلغ معه من جليسي هذا؟! لا جرم لأدينها لك ديتي عينين. فأعطاه عشرة آلاف درهم وقال: الخمر علي حرام أن أذوقها أبداً. وقال عبد الله بن جدعان يذكر ما حاله في شربها: (من الوافر)
شربت الخمر حتى قال صحبي ... ألست عن السفاه بمستفيق
وحتى ما أوسد في مبيت ... أنام به سوى الترب السحيق
وحتى أغلق الحانوت رهني ... وآنست الهوان من الصديق

وممن حرمها في الجاهلية قيس بن عاصم المنقري. والسبب في ذلك أنه سكر فغمز عكنة ابنته أو أخته، فهربت منه، فلما صحا سأل عنها فقيل له: أو ما علمت ما صنعت البارحة؟ قال: لا، فأخبروه، فحرم الخمر على نفسه، وقال في ذلك: (من الوافر)
وجدت الخمر جامحة وفيها ... خصال تفضح الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي ... ولا أدعو لها أبداً نديما
ولا أعطي لها ثمناً حياتي ... ولا أشفي بها أبداً سقيما
ويروى أن تاجراً نزل به ومعه خمر، فقال له قيس: أصبحني قدحاً، ففعل، ثم قال له: زدني، ففعل، وسكر قيس فقال له: زدني، فقال: أنا رجل تاجر طالب خير وربح، ولا أستطيع أن أسقيك بغير ثمن؛ فقام إليه قيس فربطه إلى دوحة في داره حتى أصبح، وكلمته أخته فلطمها وخمش وجهها، وزعموا أنه أرادها على نفسها، (وجعل يقول): (من البسيط)
وتاجر فاجر جاء الإله به ... كأن لحيته أذناب أجمال
فلما أصبح قال: من فعل هذا بضيفي؟ قالت له أخته: الذي فعل هذا بوجهي، أنت والله صنعته، وأخبرته بما فعل. فأعطى لله عهداً ألا يشرب خمراً بعدها.
وروي أن البرج بن الجلاس الطائي شرب الخمر، فلما سكر انصرف إلى أخته فافتضها فلما صحا ندم وجمع قومه وقال لهم: أي رجل أنا فيكم؟ قالوا: فارسنا وأفضلنا وسيدنا، قال: فإنه إن علم أحد من العرب بما صنعت ركبت فرسي فلم تروني، ففعلوا. ثم إن أمة من قومه وقعت إلى الحصين بن الحمام المري وكان نديماً للبرج فأخبرته بحاله. وفسد ما بينهما، فعيره الحصين بفعله في شعر قاله. فقال البرج لقومه: فضحتموني وأشعتم خبري، ثم ركب فرسه ولحق ببلاد الروم فلم يعرف له خبر. وقيل: بل شرب الخمر صرفاً، فقتله.
وممن حرمها عامر بن الظرب العدواني، وقال: (من البسيط)
سآلة للفتى ما ليس في يده ... ذهابة لعقول القوم والمال
أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يفرق ترب القبر أوصالي
قال أعرابي من بني مرة يعظ ابناً له وقد أفسد ماله الشراب: لا الدهر يعظك، ولا الأيام تنذرك، والساعات تعد عليك، والأنفاس تعد منك، أحب أمريك إليك أعودهما بالمضرة عليك.
ومنهم العباس بن مرداس. قيل له: لم تركت الشراب وهو يزيد في جرأتك وسماحتك؛ قال: أكره أن أصبح سيد قومي، وأمسي سفيههم.
روي أن رجلاً ذا بأس كان يفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبأسه، وكان من أهل الشام، وأن عمر فقده فسأل عنه، فقيل له: تتايع في هذا الشراب، فدعا كاتبه فقال: اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان، السلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، " غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير " ؛ ثم دعا وأمن من عنده، ودعوا أن يقبل على الله بقلبه وأن يتوب عليه. فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: غافر الذنب: قد وعدني الله أن يغفر لي؛ وقابل التوب شديد العقاب: قد حذرني الله عقابه؛ ذي الطول: والطول الخير الكثير؛ إليه المصير. فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ونزع وأحسن النزوع. فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة، فسددوه ووفقوه وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه.
وذكر يزيد بن الأصم أن رجلاً في الجاهلية شرب فسكر، فجعل يتناول القمر، فحلف لا يدعه حتى ينزله، فيثب الوثبة ويخر، فيتكدح وجهه، فلم يزل يفعل ذلك حتى خر فنام؛ فلما أصبح قال لأهله: ويحكم، ما شأني؟ قالوا: كنت تحلف لتنزلن القمر، فتثب فتخر، فهذا الذي لقيت منه ما لقيت. قال: أرأيت شراباً حملني على أن أنزل القمر؟ والله لا أعود فيه أبداً.
وقال زيد بن ظبيان: (من البسيط)
بئس الشراب شراب حين تشربه ... يوهي العظام وطوراً يأتيك بالغضب
إني أخاف مليكي أن يعذبني ... وفي العشيرة أن يزرى على حسبي
قال رجل من قريش: (من الطويل)
من تقرع الكأس اللئيمة سنه ... فلا بد يوماً أن يسيء ويجهلا
ولم أر مطلوباً أخس غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا
فوالله ما أدري أخبل أصابهم ... أم العيش فيها لم يلاقوه أشكلا

قال رجل لسعيد بن سلم: ألا تشرب النبيذ؟ فقال: تركت كثيره لله تعالى وقليله للناس.
دخل نصيب على عبد الملك بن مروان فأنشده، فاستحسن عبد الملك شعره ووصله، ثم دعي بالطعام فطعم منه، فقال له عبد الملك: هل لك فيما يتنادم عليه؟ قال: يا أمير المؤمنين تأملني، قال: قد أراك، قال: يا أمير المؤمنين، جلدي أسود، وخلقي مشوه، ووجهي قبيح، ولست في منصب؛ وإنما بلغ بي مجالستك ومؤاكلتك عقلي، فأنا أكره أن أدخل عليه ما ينقصه، فأعجبه كلامه وأعفاه.
سمع عالم قول شاعر: (من الرمل المجزوء)
ما لها تحرم في الدن ... يا وفي الجنة تنهل
فقال: لصداع الرأس ونزف العقل؛ وذهب إلى قوله تعالى: " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " .
قال الحسن: لو كان العقل عرضاً لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب أن يشتري بماله شيئاً فيشربه فيذهب عقله.
وعن عبد الله بن الأهتم: لو كان العقل يشترى ما كان علق أنفس منه، فالعجب لمن يشتري الحمق بماله فيدخله رأسه، فيقيء في رأسه وجيبه، ويسلح في ذيله، يمسي محمراً، ويصبح مصفراً.
كان لأردشير غلامان ذكيان يتوكلان بحفظ ألفاظه إذا غلب عليه السكر، أحدهما يملي والآخر يكتب حرفاً حرفاً، فإذا صحا قرئ عليه، فإذا كان فيه شيء خارج من أمر الملوك وآدابهم جعل على نفسه أن لا يزمزم ذلك اليوم إلا على خبز الشعير والجبن عقوبه لنفسه.
قال الوليد بن عبد الملك للحجاج في وفدة وفدها عليه وقد أكلا: هل لك في الشراب؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ليس بحرام ما أحللته، ولكني أمنع أهل عملي منه، وأكره أن أخالف قول العبد الصالح، وهو قول الله عز وجل: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " .
فأما من ليس فيها ثوب الخلاعة، وطاوع لها هواه المردي وأطاعه فيها من أحسن ما اكتسب فضيلة، وأقرب إلى تحصيل المكارم وسيلة. كانت العرب تفتخر بسبائها، وتضيفه في مفاخرها إلى عظيم غنائها ومذكور بلائها.
فمن ذلك قول عنترة وقد وصف نفسه بالإقدام على مكافحة قرنه، وعظم شأنه بأنه حامي الحقيقة، معلم يوم الكريهة، وقرن ذلك بأنه معدل على إتلاف ماله في شرب الشراب هناك، وأبان أنه قليل الاحتفال بملامة اللوام في الاستهتار به، وذلك حيث يقول: (من الكامل)
ومشك سابغة هتكت فروجها ... بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
ربذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك رايات التجار ملوم
وإنما أراد أنه يأتي الخمارين فيبتاع جميع ما عندهم من الخمر، فيقلعون لذلك راياتهم التي يرفعونها ليعرفوا بها وينصرفون.
وإلى هذا المعنى ذهب أبو نواس في قوله: (من الطويل)
أعاذل ما فرطت في جنب لذة ... ولا قلت للخمار كيف تبيع
أسامحه إن المكاس ضراعة ... ويرحل عرضي عنه وهو جميع
وقال زهير يصف شربها وكرمهم: (من الوافر)
وقد أغدو على شرب كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء
لهم راح وراووق ومسك ... تعل به جلودهم وماء
فأمسي بين قتلى قد أصيبت ... نفوسهم ولم تقطر دماء
يجرون البرود وقد تمشت ... حميا الكأس فيهم والغناء
وقال الأخطل في نحوه: (من الكامل)
ولقد غدوت على التجار بمسمح ... هرت عواذله هرير الأكلب
لذ تقبله النعيم كأنما ... مسحت ترائبه بماء مذهب
لباس أردية الملوك يروقه ... من كل مرتقب عيون الربرب
ينظرن من خلل السجوف إذا بدا ... نظر الهجان إلى الفنيق المصعب
خضل الكؤوس إذا انتشى لم تكن ... خلفاً مواعده كبرق الخلب
وإذا تعوورت الزجاجة لم يكن ... عند الشراب بفاحش متقطب
ومن الافتخار بالسباء قول امريء القيس: (من الطويل)
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
فقرن جوده في سباء الزق ببسالته في كر الخيل ورئاسته في التقدم عليها.
وذكر أن أبا الطيب المتنبي لما أنشد سيف الدولة أبا الحسن علي بن حمدان قصيدته التي يقول فيها: (من الطويل)
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
قال له: قد انتقدنا عليك يا أبا الطيب هذين البيتين كما انتقد على امرئ القيس بيتاه، وذكرهما. وبيتاك لا يلتئم شطراهما كما لا يلتئم شطرا هذين البيتين، كان ينبغي لامرئ القيس أن يقول:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولك أن تقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال: أيد الله مولانا. إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا اعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا. ومولانا يعلم أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك، لان البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جملته وتفاريقه لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية؛ وإنما قرن امرؤ القيس لذة المساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وإنما لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه؛ ولما كان الجريح المنهزم لا يخلو من ان يكون عبوساً، وعينه من أن تكون باكية قلت: ووجهك وضاح وثغرك باسم، لأجمع بين الأضداد في المعنى وإن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله بخمسين ديناراً من دنانير الصلات وزنها خمسمائة دينار.
وقال لقيط بن زرارة: (من الوافر)
شربت الخمر حتى خلت أني ... أبو قابوس أو عبد المدان
أمشي في بني عدس بن زيد ... رخي البال منطلق اللسان
وقال حسان بن ثابت: (من الوافر)
إذا ما الأشربات ذكرن يوماً ... فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إن المنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء
المغث: المماغثة باليد، واللحاء: الملاحاة باللسان.
ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
روي أن حسان عنف جماعة من الفتيان على شرب الخمر وسوء تنادمهم عليها، وأنهم يضربون عليها ضرب غرائب الإبل ولا يرجعون عنها، فقالوا: إنا إذا هممنا بالإقلاع عن شربها ذكرنا قولك:
ونشربها فتتركنا ملوكاً، فعاودناها
وقال آخر: (من الطويل)
إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني أذاي ولا بخلي
ولست بفحاش عليه وإن أسا ... وما شل من آذى نداماه من شكلي
وقال آخر: (من الطويل)
شربنا من الداذي حتى كأننا ... ملوك لهم بر العراقين والبحر
فلما انجلت شمس النهار رأيتنا ... تولى الغنى عنا وعاودنا الفقر
ومثله للمنخل اليشكري: (من الكامل المجزوء)
فإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
قال الأطباء: الخمر تسخن الجسم، وتجود الهضم، وترطب الأعضاء، وتسكن الظمأ والعطش إذا مزجت، وتدر البول، وتسهل الطبيعة، وتسر النفس، وتحدث الظرف والأريحية ولا سيما في الأبدان المعتدلة، وهذا في الحد القصد، فإذا أكثر منها أحدث ذلك السهر وورم الكبد، وقلة شهوة الجماع والغذاء، والنسيان، والبخر، والرعشة، والزمع، وضعف البصر، والحميات، واختلاط العقل، والتبلد، والسكتة، والصرع، وموت الفجأة؛ لأن الخمر تملأ الدماغ فتغمره الحرارة كما يغمر الدهن نار السراج فيطفأ.
وقالوا: منافعها بشرط الاقتصاد عشر: خمس منها نفسية، وخمس منها جسمية.
فالنفسية: تسر النفس، وتبسط الأمل، وتشجع القلب، وتحسن الخلق، وتقاوم البخل. والجسمية: تجيد الهضم، وتدر البول، وتحسن البشرة، وتطيب النكهة، وتزيد في الباه.
وقالوا: أجود الخمر لتوليد الدم المعتدل في المزاج المعتدل الأحمر الناصع المعتدل القوام الطيب الرائحة، المتوسط بين العتق والحداثة.
وكان بعض الأطباء إذا لم ير في العليل موضعاً لسقي الدواء سقاه الخمر بالماء ممزوجة، فينبعث من النفس بالمسرة ما أسقطه الداء بالعلة.

وقال بعض البلغاء: الشراب ريحانة الروح، ودرياق الهم، ومطية اللهو، ومسرة القلب. قد خلص من الأقذاء، وأخذ لدونة الهواء، وعذوبة الماء، فهو معطر للنكهة، محرك للصبابة، ممازج للطبيعة، دقيق المسلك، سريع الذهاب في الجسد، واصل لحبل الفتوة، عاقد للإخاء، باعث على الوفاء، فاسخ للرجاء، ناف للفكرة، ممسك لرماق المهجة، مذك للقريحة، ملائم للغريزة، سام بالهمة، مستل للسخيمة، صاقل للعزيمة، مذهب للترة، مسهل للحمالة، كاسب للثراء من غير ثروة، جامع للشمل، مقرب للسبيل، مهون للجليل، داع إلى الجميل، منساب في المفاصل بغير دليل، كاس للأنفس سروراً، وللأجفان فتوراً، وللخدود اشتعالاً ونوراً، يطيب عند الازدياد، ويلذ عند الأعواد، ويتغلغل في القلب إلى حيث لا يبلغه الفكر.
وقال بهرام جور: هموم الدنيا داء دواؤه الراح.
وقال آخر: للنبيذ حدان: فحد لا هم فيه، وحد لا عقل فيه، فعليك بالأول واتق الثاني.
قال عبد الملك بن مروان للأخطل: ما تصنع بالخمر؟ فإن أولها لمر، وإن آخرها لسكر، قال: أما لئن قلت ذاك، فإن فيما بين ذاك الحالين لمنزلة ما ملكك فيها إلا كعلقة من ماء الفرات بالأصبع.
وكان أبو الهندي يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني، وكان أبو الوليد ناسكاً، فاستعدى عليه وعلى ابنه فهربا منه، وقال أبو الهندي: (من البسيط)
قل للسري أبي قيس أتوعدنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا
أبا الوليد أما والله لو عملت ... فيك الشمول لما حرمتها أبدا
ولا نسيت حمياها ولذتها ... ولا عدلت بها مالاً ولا ولدا
قال مطيع بن إياس: إن في النبيذ لمعنى من الجنة كما حكى الله عن أهلها: " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " .
جرى في مجلس حامد بن العباس وهو الوزير حينئذ ذكر الخمار وما يلحق الناس منه، فقال حامد لعلي بن عيسى وكان يخلفه: ما تقول يا أبا الحسن في دواء الخمار، وما عندك فيه؟ فقال له علي بن عيسى: وما أنا وهذه المسألة؟! فخجل حامد، ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمر، فقال له: ما عندك في هذا؟ فقال أبو عمر: قال الله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا " ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه: " استعينوا على كل صناعة بأهلها " ، والأعشى هو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية، يقول: (من المتقارب)
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
ثم أبو نواس في الإسلام يقول: (من البسيط)
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
فقال حامد لعلي بن عيسى: ا بارد، ما كان ضرك لو جئت ببعض ما أجاب به قاضي القضاة؟ فقد استظهر المسألة ألا بقول الله تعالى، ثم يقول نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ثانياً، وأدى المعنى وتبرأ من العهدة. فكان خجل علي بن عيسى أكبر من خجل حامد.
كان أبو شروان يعجبه الورد ويفضله على سائر الرياحين، فابتنى قبة الكلستان وزخرفها بالذهب ورصعها بالجوهر، وزينها بالتصاوير، وحفها بالتماثيل، وجعل في أعاليها فتوحاً ينثر عليه منها الورد. ومر أنو شروان بوردة ساقطة فقال: أضاع الله من أضاعك، ونزل فأخذها وقبلها وشرب في مشكاتها سبعة أيام.
كان بشار في شرب فقال: لا تجعلوا يومنا حديثاً كله، ولا شرباً كله، ولا غناء كله، تناهبوا العيش تناهباً فإنما الدنيا فرص.
شهد رجل عند شريك، فقال المدعى عليه: إنه يشرب النبيذ، فقال له شريك: أتشربه؟ قال: نعم، وأنا الذي أقول: (من الرمل المجزوء)
وإذا المعدة جاشت ... فارمها بالمنجنيق
بثلاث من نبيذ ... ليس بالحلو الرقيق
يهضم المطعم هضماً ... ثم يجري في العروق
فقال شريك: قم فأثبت شهادتك.
قال برج بن مسهر الطائي: (من الوافر)
وندمان يزيد الكأس طيباً ... سقيت وقد تغورت النجوم
رفعت برأسه وكشفت عنه ... بمعرقة ملامة من يلوم
فلما أن تنشى قام خرق ... من الفتيان مختلق هضوم
إلى وجناء ناوية فكاست ... وهي العرقوب منها والصميم
فأشبع شربه وسعى عليهم ... بإبريقين كأسهما رذوم

ترها في الإناء لها حميا ... كميتاً مثل ما فقع الأديم
ترنح شربها حتى تراهم ... كأن القوم تنزفهم كلوم
فبتنا بين ذاك وبين مسك ... فيا عجباً لعيش لو يدوم
نطوف ما نطوف ثم يأوي ... ذوو الأموال منا والعديم
إلى حفر أسافلهن جوف ... وأعلاهن صفاح مقيم
وقال عبدة بن الطبيب: (من البسيط)
وقد غدوت وضوء الصبح منفتق ... ودونه من سواد الليل تجليل
إذ أشرف الديك يدعو بعض أسرته ... لدى الصباح وهم قوم معازيل
على التجار فأعداني بلذته ... رخو الإزار كصدر السيف مشمول
خرق يجد إذا ما الأمر جد به ... يخالط اللهو واللذات ضليل
حتى اتكأنا على فرش يزينها ... من جيد الرقم أزواج تهاويل
فيها الدجاج وفيها الأسد مخدرة ... من كل شيء يرى فيها تماثيل
في كعبة شادها بان وزينها ... فيها ذبال يضيء الليل مفتول
لنا أصيص كجذم الحوض هدمه ... وطء العراك لديه الزق مغلول
والكوب أزهر معصوب بقلته ... فوق السياع من الريحان إكليل
أصل السياع: الطين الذي يلاط به الحائط. فجعله للقير إذ كان يطلى به الدن.
مبرد بمزاج الماء بينهما ... حب كجوز حمار الوحش مبزول
شبه الإناء الذي فيه الماء بحب، ثم تعجب منه بأن قال: مبزول.
والكوب ملآن طاف فوقه زبد ... وطابق الكبش في السفود مخلول
يسعى به منصف منتطق ... فوق الخوان وفي الصاع التوابيل
ثم اصطحبنا كميتاً قرقفاً أنفاً ... من طيب الراح، واللذات تعليل
صرفاً مزاجاً وأحياناً يعللنا ... شعر كمذهبة السمان محمول
تذري حواشيه جيداء آنسة ... في صوتها لسماع الشرب ترتيل
تذري: أي ترفع، مأخوذ من الذروة وهي أعلى كل شيء.
تغدو علينا تلهينا ونصفدها ... تلقى البرود عليها والسرابيل
وقال معبد بن سعيد الضبي: (من الطويل)
وكأس رنوناة دعوت بسحرة ... إليها فتى لا يحمل اللؤم أروعا
خميص الحشا هشاً يراح إلى الندى ... قؤولاً إذا ما زل صاحبه لعا
فباكر مختوماً عليه سباعه ... دواليك حتى أنفذ الدن أجمعا
عدي بن زيد العبادي: (من الخفيف)
بكر العاذلون في فلق الصب ... ح يقولون لي ألا أستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد ال ... له والقلب عندكم موثوق
لست أدري وقد بدأتم بصرمي ... أعدو يلومني أم صديق
أطيب الطيب طيب أم علي ... مسك فأر بعنبر مفتوق
زانها وارد العذار(...) ... واصل صلت الجبين عتيق
وثنايا كالأقحوان عذاب ... لا قصار كن ولا هن روق
مشرفات تخالهن إذا ما ... حان من غابر النجوم خفوق
(...) قرقف كدم الجو ... ف تريك القذى كميت رحيق
صانها التاجر اليهودي حولي ... ن وأذكى من ريحها التعتيق
ثم فضوا الختام عن جانب الدن ... س وحانتا من اليهودي سوق
فاستباها أشم خرق كريم ... أريحي غذاه عيش رقيق
ثم نادوه بالصبوح فقامت ... قينة في يمينها إبريق
قدمته على عقار كعين الد ... ديك صفى سلافها الراووق
وطفت فوقها فواقع كاليا ... قوت خمر يثيرها التصفيق
ثم كان المزاج ماء سحاب ... غير ما آجن ولا مطروق
فوق علياء ما يرام ذراها ... يلعب النسر فوقها والأنوق
جميل: (من الوافر)
فما بكت النساء على قتيل ... بأشرف من قتيل الغانيات
بلى ندمان صدق بات يسعى ... تضمنه أكف الساقيات

فلما مات من طرب وسكر ... رددن حياته بالمسمعات
فقام يجر عطفيه خماراً ... وكان قريب عهد بالممات
الأخطل: (من البسيط)
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار
السوار: المعربد. ويروى بسآر، من أسار إذا أبقى في الإناء بقية.
نازعته طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
من خمر عانة ينصاع الفؤاد لها ... في جدول صخب الآذي مرار
ليست بسوداء من ميثاء مظلمة ... ولم تعذب بإدناء من النار
لها رداءان نسج العنكبوت وقد ... لفت بآخر من ليف ومن قار
صهباء قد كلفت من طول ما حبست ... في مخدع بين جنات وأنهار
عذراء لم يجتل الخطاب بهجتها ... حتى اجتلاها عبادي بدينار
إذا أقول تراضينا على ثمن ... ضنت بها نفس خب البيع مكار
كأنما المسك نهبى بين أرحلنا ... مما تضوع من ناجودها الجاري
وقال أيضاً: (من الطويل)
وأبيض لا نكس ولا واهن القوى ... سقيت إذا أولى العصافير صرت
رددت عليه الكأس غير بطيئة ... من الليل حتى هرها وأهرت
فقام يجر البرد لو أن نفسه ... بكفيه من رد الحميا لخرت
وقال: (من الكامل)
ومعتق حرم الوفود كرامة ... كدم الذبيح تمجه أوداجه
ضمن الكروم له أوائل حمله ... وعلى الدنان تمامه ونتاجه
كان الأعشى ميمون بن قيس مشهوراً بتعاطي الخمر، مشغوفاً بها، كثير الذكر لها في شعره حتى لعله لا يخلي قصيدة من الافتخار بسبائها، لكنه كان يشير إلى وصفها أو إلى إدمانه لها، ثم يتجاوز ذلك إلى غيره من قصده. ومن اشتهاره بها قال المفضل بين قدماء الشعراء: أشعرهم امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، وأعشى إذا طرب.
وقصد الأعشى النبي صلى الله عليه وسلم وامتدحه بقصيدته التي أولها: (من الطويل)
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا
فاعترضه في طريقه من أراد منعه، فقالوا له: إنه يحرم عليك الزنا والخمر، فقال: أما الزنا فقد كبرت ولا حاجة لي فيه، وأما الخمر فلا أستطيع تركها. وعاد لينظر في أمره، فأدركه الموت ولم يسلم.
فمن شعره فيها:
وصهباء صرف كلون الفصو ... ص باكرت في الصبح سوارها
فطوراً تميل بنا مرة ... وطوراً نعالج إمرارها
تدب لها فترة في العظام ... وتغشي الذؤابة فوارها
معي من كفاني غلاء السبا ... وسمع القلوب وإبصارها
ومسمعتان وصناجة ... تقلب بالكف أوتارها
وبربطنا دائب معمل ... فقد كاد يغلب إسكارها
ومن شعره فيها: (من الرمل)
وشمول تحسب العين إذا ... صفقت، جندعها نور الذبح
مثل ريح المسك ذاك ريحها ... صبها الساقي إذا قيل توح
من زقاق التجر في باطية ... جونة حارية ذات روح
فإذا ما الراح منها أزبدت ... أفل الإزباد فيها وامتصح
وإذا مكوكها صادمه ... جانباها كر فيها فسبح
فترامت بزجاج معمل ... يخلف النازح منها ما نزح
فإذا غاصت رفعنا زقنا ... طلق الأوداج فيها فانسفح
تحسب الزق لدينا مسنداً ... حبشياً نام عمداً فانبطح
ولقد أغدو على ندمانها ... وعدا عندي عليها واصطبح
ومغن كلما قيل له ... أسمع الشرب تغنى وصدح
وثنى الكف على ذي عتب ... يصل الصوت بذي زير أبح
في شباب كمصابيح الدجى ... ظاهر النعمة فيهم والفرح
وقال: (من المتقارب)
وصهباء صرف كلون الفصوص ... سريع إلى الشرب أكسالها
كمثل دم الجوف إذ عتقت ... فزاد على العتق إحوالها
تريك القذى وهي من دونه ... إذا ما يصفق جريالها

شربت إذا الراح بعد الأصي ... ل طابت ورفع أطلالها
وأبيض كالنجم آخيته ... وبيداء مطرد آلها
ومن إلمامه بذكرها قوله في بيتين لم يزد عليهما: (من الكامل المجزوء)
ولقد شربت الراح أس ... قى من إناء الطرجهاره
حتى إذا أخذت مآ ... خذها تغشتني استداره
وقوله: (من المتقارب)
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
كميت ترى دون قعر الإنا ... كمثل قذى العين يقذى بها
وشاهدنا الورد والياسمي ... ن والمسمعات بقصابها
ومزهرنا معمل دائم ... فأي الثلاثة أزرى بها
مضى لي ثمانون من مولدي ... كذلك تفصيل حسابها
فأصبحت ودعت لهو الشبا ... ب والخندريس بأصحابها
لكي يعلم الناس أني امرؤ ... أتيت المروءةمن بابها
ومن شعره فيها: (من المتقارب)
وأبيض مختلط بالكرا ... م لا يتغطى بإنفاذها
أتاني يؤامرني في الشمو ... ل ليلاً فقلت له غادها
يعرض بحسان بن ثابت لأنه شرب عنده، فلما فني الشراب قام. يقول: إذا أفنى الشراب لم يستتر من أصحابه. وقوله: أتاني يؤامرني: كأنه أتاه بالغداة، فقال له: نشربها الليلة، فقال له: غادها الساعة.
أرحنا نباكر جد الصبو ... ح، قبل النفوس وحسادها
فقمنا ولما يصح ديكنا ... إلى جونة عند حدادها
فقام فصب لنا قهوة ... تسكننا بعد إرعادها
كميتاً تكشف عن حمرة ... إذا صرحت بعد إزبادها
فجال علينا بإبريقه ... مخضب كف بفرصادها
وقال: (من المتقارب)
وذات نوف كلون الفصو ... ص باكرتها وادلجتابتكارا
بكرت عليها قبيل الشرو ... ق، إما نقالاً وإما اغتمارا
يعاصي العواذل طلق الندى ... يروي اليدينويرخي الإزارا
فما نطق الديك حتى ملأ ... ت كوب الرباب له فاستدارا
الرباب: صاحب الخمر.
إذا انكب أزهر بين السقاة ... تراموا به غرباً أو نضارا
حضر حسان بن ثابت مأدبة، فغنته قينة من شعره، وذلك بعدما عمي: (من المنسرح)
انظر خليلي بباب جلق هل ... تؤنس دون البلقاء من أحد
أجمال شعثاء إذ هبطن من ال ... محمض بين الكثبان فالسند
يحملن حوراً حو المدامع في الر ... ريط وبيض الوجوه كالبرد
من دون بصرى ودونها جبل الث ... لج عليه السحاب كالقدد
إني وأيدي المخيسات وما ... يقطعن من كل سربخ جدد
أهوى حديث الندمان في فلق الص ... بح وصوت المسامر الغرد
هل في تصابي الكريم من فند ... أم هل لمدى الأيام من نفد
لا أخدش الخدش للنديم ولا ... يخشى نديمي إذا انتشيت يدي
تقول شعثاء لو صحوت عن ال ... كأس لقد كنت مثري العدد
يأبى لي السيف والسنان وقو ... م لم يضاموا كلبدة الأسد

فكان يقول: قد أراني سميعاً بصيراً، وعيناه تدمعان، فإذا سكتت سكت عنه البكاء. وقدم الطعام فكان يقول لولده عبد الرحمن: أطعام يد أم طعام يدين؟ فإذا قال: طعام يدين، أمسك عن الطعام يعني بطعام يد: الثريد، وطعام يدين: الشواء لأنه ينهش نهشاً. فلما انقلب حسان إلى منزله استلقى على فراشه وقال: لقد ذكرتني رائقةوصاحبتها أمراً ما سمعته أذناي بعد ليالي جاهليتنا مع جبلة بن الأيهم. فقيل له: أكان القيان يكن عند جبلة بن الأيهم؟ فتبسم ثم جلس فقال: لقد رأيت عنده عشر قيان: خمس منهن روميات يغنين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة، أهداهن إليه إياس بن قبيصة. وكان إذا جلس للشراب فرش تحته الورد والآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب (له) بالعنبر والمسك في صحاف الفضة، وأوقد له العود الهندي إن كان شاتياً وإن كان صائفاً (بطن) بالثلج، وأتي هو وأصحابه بكسى من لين الكتان يتفضل فيها هو وأصحابه. وفي الشتاء الفراء من الفنك وما أشبهه. ولا والله ما جلست معه يوماً قط إلا خلع علي ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه. هذا مع حلم عمن جهل، وضحك وبدل من غير مسألة، مع حسن وجه وجسن حديث. ما رأيت في مجلسه خناً قط ولا عربدة، ونحن يومئذ على دين الشرك، فجاء الله بالإسلام فمحا به كل كفر، وتركنا الخمر وما كره؛ وأنتم اليوم مسلمون تشربون، النبيذ من التمر، والفضيح من الزهو والرطب، فلا يشرب أحدكم ثلاثة أقداح حتى يصاخب صاحبه ويقارفه، وتضربون فيه كما تضرب غرائب الإبل فلا تنتهون.
كان ابن عمار الطائي خطيباً فصيحاً. بلغ النعمان بن المنذر حسن حديثه ولذاذة منادمته، فدعاه إلى صحبته، وقال له: يا ابن عمار، أتدري لمن أريدك؟ قال: والله أبيت اللعن ما أدري، غير أني أدري أنك لا تريدني لخير، قال: أجل، أريدك لنفسي أخصك بها وأهنئها بك، قال: أبيت اللعن، إنك تريدني للنفس الخطيرة الرفيعة الشريفة، غير أني أقول واحدة، قال: قل عشراً. قال: إن الملك إذا ألزمني نفسه احتجت أن أفرح إذا فرحت، وأحزن إذا حزنت، وأنام إذا نامت، وأستيقظ إذا استيقظت، وأكون تابعاً لها في كل ما ساءها وسرها، وإذا كنت في هذه الحال فما أملك من نفسي شيئاً، إنما هي لغيري. قال النعمان: فما منك لي بد، فاعمل كيف شئت.
وكان النعمان أحمر الجلد، أحمر العين، أحمر الشعر، وكان من أشد الملوك عربدة وأسوئها أخلاقاً، وأقتلها للندماء. فأجابه ابن عمار عن ذلك، فنهاه فتى من أهله يقال له أبو قردودة الطائي عن منادمته، فأبى ونادم النعمان بعد أن اشترط عليه ابن عمار شروطاً منها: أنه لا يسقيه إذا سكر، ولا يحول بينه وبين المنام إذا غلبته عيناه، ولا ينبه من سنته حتى يستوفيها، فأجابه إلى كل ما سأل. فأقام بهذه الحال سنة لا يجد عليه النعمان ما يقتله به. فقال له النعمان ذات ليلة، وكان قد غلب على عقله: يا ابن عمار، أتزعمون أنكم خير منا ونحن الملوك وأنتم السوقة؟ ونحن الأشراف وأنتم الأرذال؟ ونحن الرؤساء وأنتم الأذناب؟ ونحن الأرباب وأنتم الأتباع؟ فضحك ابن عمار، فقال: مم تضحك لا أم لك؟! قال: أبيت اللعن، إنك قد عزمت على قتلي، قال: وكيف علمت؟ قال: قد هيأت لي كلاماً إن سكت عنه كنت عنه منقوصاً، وإن أجبت عنه كنت به مقتولاً. قال: والله لتجيبن أو لأقتلنك. قال: وأنا أحلف أنك تقتلني إن أجبتك، وقد كذبت فيما قلت؛ لنحن أقدم في الشرف والعز والعدد والثروة والتبع منك، فانتضى النعمان سيفه وشد عليه فقتله.
كلن يحيى بن جبريل البجلي صديقاً لرجل من بني أسد لا يقدم عليه أحداً. فولي يحيى بن جبريل جرجان، فقيل لصديقه: لو خرجت إلى صديقك فقد أصاب في ولايته، فخرج إليه فأكرمه وسر به، وأحضره مائدته، ثم جيء بعد الطعام بشراب، فأبى الأسدي أن يشربه وقال: هذا شراب لم أشربه قط، فكأن يحيى انقبض منه، فكتب إليه الأسدي: (من الطويل)
وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف ولم ينغر بها ساعة قدر
ولم يشهد القس المهينم نارها ... طروقاً ولم يشهد على طبخها حبر
أتاني بها يحيى وقد نمت نومة ... وقد غابت الشعرى وقد جنح النسر
فقلت اغتبقها أو لغيري أهدها ... فما أنا بعد الشيب ويبك والخمر

تعففت عنها في العصور التي خلت ... فكيف التصابي بعدما كلأ العمر
إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي أتى ... وإن مد أسباب الحياة له الدهر
المعروف بالعطار المغربي: (من الطويل)
وكأس ترينا آية الصبح والدجى ... فأولها شمس وآخرها بدر
الشمس عند الفلاسفة حمراء الجرم، صفراء الشعاع؛ والقمر أصفر الجرم أبيض النور، وإلى هذا ذهب.
مقطبة ما لم يزرها مزاجها ... فإن زارها جاء التبسم والبشر
فيا عجباً للدهر لم يخل مهجة ... من العشق حتى الماء تعشقه الخمر
نديمي هات الكأس ممزوجة الرضا ... بسخط فقد طاب التنادم والسمر
ونبه لنا من كان في الشرب نائماً ... فقد نام جنح الليل وانتبه الفجر
ابن قاضي ميلة: (من الكامل)
ومدامة عني الرضاب بمزجها ... فأطابها وأدارها التقبيل
ذهبية ذهب الومان بجسمها ... قدماً فليس لجسمها تحصيل
بتنا ونحن على الفرات نديرها ... وهناً فأشرق من سناها النيل
فكأنها شمس وكف مديرها ... فيها ضحى وفم النديم أصيل
عبد العزيز (بن محمد) الطارفي المغربي: (من البسيط)
أما ترى المزن قد فضت خواتمه ... والروض يضحك عجباً من بكا المطر
والجو كالمنخل المسود جانبه ... يكسو الظهيرة أثواباً من السحر
فاقدح سرورك من صهباء صافية ... تكاد تقذف منها الكأس بالشرر
ابن نباتة رحمه الله: (من الطويل)
نعمت بها يجلو علي كؤوسه ... أغر الثنايا واضح الجيد أحور
فوالله ما أدري أكانت مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر
إذا صبها جنح الظلام وعبها ... رأيت رداء الليل يطوى وينشر
قد تقدم من أشعار الأعشى والأخطل في الخمر، وكانا قدوة عصرهما فيها، ما نتبعه بشعر فتاها خلاعة وكهلها تجربة وعلماً بها، أبي نواس الحسن بن هانئ، ونذكر مختاره متتابعاً متصلاً.
فمن ذلك قوله: (من الطويل)
وكأس كمصباح السماء شربتها ... على قبلة أو موعد بلقاء
أتت دونها الأيام حتى كأنها ... تساقط نور من فتوق سماء
ترى ضوءها من ظاهر الكأس ساطعاً ... عليك ولو غطيتها بغطاء
وله: (من الطويل)
ألا دارها بالماء حتى تلينها ... فما تكرم الصهباء حتى تهينها
أغالي بها حتى إذا ما ملكتها ... أهنت لإكرام النديم مصونها
وقال: (من الوافر)
مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأذكت نارها الشعرى العبور
فقوما فألقحا خمراً بماء ... فإن نتاج بينهما السرور
نتاج لا تدر عليه أم ... وحمل لا تعد له الشهور
إذا الطاسات كرتها علينا ... تكون بيننا فلك يدور
تسير نجومه عجلاً وريثاً ... مشرقة وتارات تغور
إذا لم يجرهن القطب متنا ... وفي دورانهن لنا نشور
وله: (من البسيط)
جلت عن الوصف حتى ما يطالبها ... وهم فيخلفها في الوهم أسماء
تقسمتها ظنون الفكر إذ خفيت ... كما تقسمت الأديان آراء
وقال: (من البسيط)
كأن منظرها والماء يقرعها ... ديباج غانية أو رقم وشاء
تستن من مرح في كف مصطبح ... من خمر عانة أو من خمر سوراء
وقال: (من البسيط)
كأنها دمعة في عين غانية ... مرهاء رقرقها ذكر الصيبات
تنزو إذا مسها قوع المزاج لها ... نزو الجنادب أوقات الظهيرات
وتكتسي لؤلؤات في تعطفها ... عند المزاج شبيهات بواوات
وقوله: (من الكامل)
قال ابغني المصباح قلت له اتئد ... حسبي وحسبك ضوؤها مصباحا
فسكبت منها في الزجاجة شربة ... كانت له حتى الصباح صباحا

من قهوة جاءتك قبل مزاجها ... عطلاً فألبسها المزاج وشاحا
شك البزال فؤادها فكأنما ... أهدت إليك بريحها تفاحا
عمرت تكاتمك الزمان حديثها ... حتى إذا بلغ السآمة باحا
فابتاع من أسرارها مستودعاً ... لولا السآمة لم يكن ليباحا
فأتتك في صور تداخلها البلى ... فأزالهن وأثبت الأرواحا
وقال: (من الكامل المرفل)
ردا علي الكأس إنكما ... لا تدريان الكأس ما تجدي
خوفتماني الله جهدكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي
لا تعذلا في الراح إنكما ... في غفلة عن كنه ما تسدي
لو نلتما ما نلت، ما مزجت ... إلا بدمعكما من الوجد
هاتا بمثل الراح معرفة ... بلطافة التأليف والود
ما مثل نعماها إذا اشتملت ... إلا اشتمال فم على خد
إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي
وقال: (من السريع)
أعطتك ريحانها العقار ... وحان من ليلك انسفار
فانعم بها قبل رائعات ... لا خمر فيها ولا خمار
ووقر الكأس عن سفيه ... فإن آتيها الوقار
بنت مدى الدهر لو أسنت ... كبيرة شأنها كبار
تخيرت والنجوم وقف ... لم يتمكن بها المدار
فلم تزل تأكل الليالي ... جثمانها ما بها انتصار
حتى إذا ذامها تلاشى ... وخلص السر والنجار
آلت إلى جوهر لطيف ... عيان موجوده ضمار
كأن في كأسها سراباً ... تخيله المهمه القفار
لا ينزل الليل حيث حلت ... فدهر شرابها نهار
وقال: (من السريع)
وقهوة عذراء لم يجلها ... على الندامى قط خمار
كأنها في دنها عاتق ... أهدى إليها العطر عطار
أتى بها الدهقان نقبضها ... لها سراويل وزنار
كأنما الكأس على كفه ... لؤلؤة في جوفها نار
يهابها الناس ويرجونها ... كأنها الجنة والنار
وقال: (من الكامل المرفل)
أطع الخليفة واعص ذا عزف ... وتنح عن طرب وعن قصف
عين الخليفة بي موكلة ... عقد الحذار بطرفها طرفي
صحت علانيتي له وأرى ... دين الضمير له على حرف
ولئن وعدتك تركها عدة ... إني عليك لخائف خلفي
ومدامة تحيا الملوك بها ... جلت مآثرها عن الوصف
قد عتقت في دنها حقباً ... حتى إذا آلت إلى النصف
سلبوا قناع الدن عن رمق ... حتى الحياة مسارق الحتف
فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف
وقال: (من الكامل المرفل)
صفة الطلول بلاغة الفدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم
ولا تخدعن عن التي جعلت ... سقم الصحيح وصحة السقم
وصديقة النفس التي حجبت ... عن ناظريك وقيم الجسم
صهباء فضلها الملوك على ... نظرائها لفضيلة القدم
فإذا أطفن بها صمتن لها ... صمت البنات لهيبة الأم
وإذا هتفن بها لنائبة ... قدمن كنيتها على الإسم
وإذا أردن لها مخاطبة ... روحن ما عزبن من حلم
شجت فعالت فوقها حبباً ... متراصفاً كتراصف النظم
ثم انفرت لك عن مدب دبى ... عجلان صعد في ذرى أكم
فكأنما يتلو طرائقها ... نجم تواتر في قفا نجم
فعلام تذهل عن مشعشعة ... وتهيم في طل وفي رسم
تصف الطلول على السماع بها ... أفذو العيان كأنت في العلم
وإذا نعت الشيء متبعاً ... لم تخل من غلط ومن وهم
وقال: (من المديد)
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم

فاسقني البكر التي اختمرت ... بخمار الشيب في الرحم
ثمت انصات الشباب لها ... بعدما جازت مدى الهرم
فهي لليوم الذي بزلت ... وهي ترب الدهر في القدم
عتقت حتى لو اتصلت ... بلسان ناطق وفم
لاحتبت في القوم ماثلة ... ثم قصت قصة الأمم
قرعتها بالمزاج يد ... خلقت للكأس والقلم
في ندامى سادة زهر ... أخذوا اللذات عن أمم
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرث في السقم
وقال: (من الوافر)
شققت من الصبا واشتق مني ... كما اشتقت من الكرم الكروم
فلست أسوف اللذات نفسي ... مياومة كما دفع الغريم
ولا بمدافع للكأس حتى ... يهيجني على الطرب النديم
ومتصل بإطراف المعالي ... له في كل مكرمة حميم
رفعت له النداء فقم فخذها ... وقد أخذت مطالعها النجوم
بتفدية يذال العلق فيها ... وتمتهن الخؤولة والعموم
فقام وقمت من أخوين هاجا ... على طرب وليلهما بهيم
أجر الزق وهو يجر رجلاً ... يجور بها النعاس وتستقيم
وقال: (من الخفيف)
وغرير الشباب محتنك السن ... ن على جيده مناط التميم
قد غذاه النعيم فاحمرت الوج ... نة منه ففيه طرد الهموم
فهو عف االجفون في النظر العم ... د حذاراً على فؤاد النديم
يتثنى إذا مشى فهو لدن ... في اعتدال بجودة التقويم
فهو الراحل المطي إلينا ... من أباريق قهوة الخرطوم
حكى أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه عن الحسين بن الضحاك قال: كنت مع أبي نواس بمكة عام الحج، فسمع صبياً يقرأ: " يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " . فقال أبو نواس: في مثل هذا يجيء للخمر صفة حسنة، ففكر ساعة ثم أنشدني: (من الطويل)
وسيارة ضلت عن القصد بعدما ... ترادفهم أفق من الليل مظلم
فأصغوا إلى صوت ونحن عصابة ... وفينا فتى من سكره يترنم
فلاحت له مناً على البعد قهوة ... كأن سناها ضوء نار تضرم
إذا ما حسوناها أقاموا مكانهم ... وإن مزجت حثوا الركاب ويمموا
قال: وحدثت بهذا الحديث محمد بن الحسن فقال: لا، ولا كرامة: ما سرقه من القرآن ولكنه من قول الشاعر: (من الطويل)
وليل بهيم كلما قلت غورت ... كواكبه عادت فما تتزيل
به الركب إما أومض البرق يمموا ... وإن لم يلح فالقوم بالسير جهل
وقال أبو نواس: (من الطويل)
تزيد حسى الكأس السفيه سفاهة ... وتترك أخلاق الكريم كما هيا
وجدت أقل الناس عقلاً إذا انتشى ... أقلهم عقلاً إذا كان صاحيا
وقال: (من السريع)
خلوت بالخمر أناجيها ... آخذ منها وأعاطيها
نادمتها إذ لم أجد صاحباً ... أرضى بأن يشركني فيها
أشربها صرفاً على وجهها ... فكنت حاسيها وساقيها
لم تنظر العين إلى منظر ... في الحسن والشكل يدانيها
ما زلت خوف العين لما بدت ... أنفث في كأسي وأرقيها
من كان مولاه أميراً له ... فالخمر مولاة مواليها
وقال: (من الكامل المرفل)
صرفاً إذا استبطأت سورتها ... أهدت إلى معقولك الفرحا
فكأن فيها من جنادبها ... فرساً إذا سكنته جمحا
وأخذ ذلك من حسان في قوله: (من الكامل)
بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل
ومن هذه القصيدة:
ولها دبيب في العظام كأنه ... قبض النعاس وأخذه بالمفصل
عبقت أكفهم بها فكأنما ... يتنازعون بها سخاب قرنفل

كان أبو الهندي منهمكاً على الشراب مدمناً له على كرم منصبه وشرفه في عشيرته، فحج به نصر بن سيار مرة، فلما ورد الحرم قال له نصر: إنك بفناء بيت الله وحرم رسوله، فدع الشراب حتى ينفر الناس واحتكم علي، ففعل، فلما كان يوم النفر أخذ الشراب فوضعه بين يديه وأقبل يشرب ويبكي ويقول: (من الطويل)
رضيع مدام فارق الراح روحه ... فظل عليها مستهل المدامع
أديرا علي الكأس إني فقدتها ... كما فقد المفطوم در المراضع
وقال أبو نواس حين ترك العراق: (من الخفيف)
كبر حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما
لم يطق حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألا يقيما
نظر الحسن بن وهب إلى رجل يعبس في كأسه فقال: ما أنصفتها؛ تضحك في وجهك، وتعبس في وجهها. ومنه قول الرضي: (من البسيط)
كالخمر يعبس حاسيها على مقة ... والكأس تجلو عليه ثغر مبتسم
وقبله قد قال ابن المعتز: (من الكامل)
ما أنصف الندمان كأس مدامة ... ضحكت إليه فشمها بتعبس
قيل لعمر بن عبد العزيز: إن بنيك يشربون النبيذ، قال: صفوهم لي، فوصفوهم بالطيش، فقال: هؤلاء يدعونه، قالوا له: لكن آدم أوقر ما يكون إذا شرب، قال: إنا لله! هذا الذي لا يدعه أبداً.
وكانت علية بنت المهدي تقول: من أصبح وعنده فضلة من طباهجة، وقنينة ناقصة، وتفاحة معضوضة ولم يصطبح، فلا تعده من الفتيان.
أبو الفرج الببغاء: (من الخفيف)
واجل شمس العقار في يد بدر ال ... حسن يخدمك منهما النيران
وأدرها عذراء وانتهز الإم ... كان من قبل عائق الإمكان
في كؤوس كأنها زهر الخش ... خاش ضمت شقائق النعمان
واختدعها عند البزال بألفا ... ظ المثاني ومطربات الأغاني
فهي أولى من العرائس إن زف ... فت بعزف النايات والعيدان
قال علي بن الجهم: قلت لجارية لي: نجعل الليلة مجلسنا في القمر، فقالت: ما أولعك بالجمع بين الضرائر! وسألتها: أي الشراب أحب إليك؟ فقالت: ما ناسب طبعي في الرقة، وروحي في الخفة، ونكهتي في الطيب، ومراشفي في البرد، وريقي في اللذة، وكلامي في العذوبة، ووجهي في الحسن، وخلقي في السلاسة.
قال المتوكل لأبي العيناء: كيف شربك للنبيذ؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره. فقال: دع هذا عنك ونادمنا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أجهل الناس من جهل نفسه، ومهما جهلت من الأمر فلن أجهل نفسي. أنا امرؤ محجوب، والمحجوب بخظرف إشارته ويجوز قصده، ولا ينظر إلى من ينظر إليه، وكل من في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخدم. وأخرى: فلست آمن أن تنظر إلي بعين غضبان وقلبك راض، (وبعين) راض (وقلبك) غضبان، ومتى لم أمير بين هاتين هلكت؛ ولم أقل هذا جهلاً بما لي في المجلس من الفائدة، فأختار العافية على التعرض للبلية.
وقال المتوكل لبختيشوع: ما أخف النقل على الشراب؟ قال: نقل أبي نواس، قال: ما هو؟ فأنشده: (من المنسرح)
ما لي في الناس كلهم مثل ... مائي خمر ونقلي القبل
وقال ابن سكرة الهاشمي: (من المنسرح)
فما ترى في اصطباح صافية ... بكر حناها في الحانة الكبر
رقت فراقت من لين ملمسها ... ولم يفتها النسيم والنظر
فهي لمن شم ريحها أثر ... وهي لمن رام لمسها خبر
ثم ذكر الوقت والمكان والرفيق فقال:
ترى الثريا والغرب يجذبها ... والبدر يهوي والفجر ينفجر
كف عروس لاح خاتمها ... وعقد در في الجو ينتثر
في روضة راضها الربيع وما ... قصر في وشي بردها المطر
وقد نأى النأي بالعقول وما ... قصر في نيل وتره الوتر

أتي الوليد بن يزيد بشراعة بن الزندبوذ من الكوفة، فحين رآه لم يسأله عن نفسه ولا عن سفره حتى قال له: يا شراعة، والله إني ما أرسلت إليك لأسألك عن كتاب الله، ولا عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . قال: والله لو سألتني عنهما لألفيتني فيهما حماراً. قال: ولكني أرسلت إليك لأسألك عن الفتوة. قال: دهقانها الخبير، وطبيبها الرفيق، سل. قال: أخبرني عن الماء؟ قال: لا بد منه، والحمار شريكي فيه. قال: فما تقول في اللبن؟ قال: ما رأيته قط إلا استحييت من أمي من طول ما أرضعتنيه. قال: فالسويق؟ قال: شراب الحزين والمستعجل المريض. قال: فما تقوله في نبيذ التمر؟ قال: سريع الملء سريع الانفشاش، ضراط كله. قال: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: حومة حاموا بها حول الشراب. قال: فما تقول في الخمر؟ قال: تلك صديقة روحي. قال: وأنت صديقي، أقعد. أي الطعام أحب إليك؟ قال: يا أمير المؤمنين، ليس لصاحب النبيذ على الطعام حكم، إلا أن أشهاه إليه أمرؤه، وأنفعه أدسمه. قال: فأي المجالس أحب إليك؟ قال: البراز ما لم تحرقه الشمس ويغرقه المطر؛ والله يا أمير المؤمنين ما شرب الناس على وجه أحسن من وجه السماء.
قال أحمد بن أبي خالد: دخلت على المأمون وهو قاعد يصفي نبيذاً بيده، فبادرت لأتولى ذلك فقال: مه! أما أحد يكفيني هذا؟! ولكن مجراه على كبدي فأحببت أن أتولاه بيدي.
الأعشى: (من الكامل)
وسبية مما تعتق ببابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
الرواة تفسر هذا البيت تقول: شربتها حمراء، وبلتها صفراء. وقال أبو نواس: وهو مثل قولي: (من البسيط)
كأساً إذا انحدرت في حلق شاربها ... أجدته حمرتها في العين والخد
وقال الحسن بن هانئ: (من السريع)
أثن على الخمر بآلائها ... وسمها أحسن أسمائها
لا تجعل الماء لها قاهراً ... ولا تسلطها على مائها
كرخية قد عتقت حقبة ... حتى مضى أكثر أجزائها
فلم يكد يدرك خمارها ... منها سوى آخر حوبائها
دارت فأحيت غير مذمومة ... نفوس حسراها وأنضائها
والخمر قد يشربها معشر ... ليسوا إذا عدوا بأكفائها
وقال: (من البسيط)
قامت بإبريقها والليل معتكر ... فلاح من ضوئها في البيت لألاء
فأرسلت من فم الإبريق صافية ... كأنما أخذها بالعين إغفاء
رقت عن الماء حتى ما يلائمها ... لطافة وجفا عن شكلها الماء
دارت على فتية ذل الزمان لهم ... فلا يصيبهم إلا بما شاؤوا
وقال:
فإذا علاها الماء ألستها ... نمشاً شبيه جلاجل الحجل
حتى إذا سكنت جوانحها ... كتبت بمثل أكارع النمل
ولابن المعتز في (هذا) المعنى: (من المنسرح)
للماء فيها كتابة عجب ... كمثل نقش في فص ياقوت
وقال الماهر: (من الخفيف)
هو يوم حلو الشمائل فاجمع ... بكؤوس الشمول شمل السرور
من مدام أرق من نفس الصب ... ب وأصفى من دمعة المهجور
رق جلبابها فلم تر إلا ... روح نار قد حل في جسم نور
وقال علي بن جبلة العكوك: (من الوافر)
وصافية لها في الكأس لين ... ولكن في النفوس لها شماس
كأن يد النديم تدير منها ... شعاعاً لا يحيط عليه كاس
وقال ابن المعتز: (من الطويل)
معتقة صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل در ما لمنظومه سلك
وقد خفيت من ضوئها فكأنها ... يقين ضمير ليس يدخله شك
وقال أيضاً: (من الطويل)
وكرخية الأنساب أو بابلية ... ثوت حقباً في ظلمة القار لا تسري
أرقت صفاء الماء فوق صفائها ... فخلتهما سلا من الشمس والبدر
وقال أبو عون الكاتب: (من الخفيف)
بنت عشر كخاطر الوهم أو خا ... طف برق أو مثل حسن السماع
وقال ابن أبي كريمة: (من البسيط)
كأنها عرض في كف شاربها ... تخاله فارغاً والكأس ملآن
وللبحتري في مثله: (من الكامل)
فاشرب على زهر الرياض يشوبه ... زهر الخدود وزهرة الصهباء

من قهوة تنسي الهموم وتبعث الش ... وق الذي قد ضل في الأحشاء
يخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء
وقال: (من الطويل)
وكأس سباها التجر من أرض بابل ... كرقة ماء الشوق في الحدق النجل
إذا شجها الساقي حسبت حبابها ... عيون الدمى من تحت أجنحة الليل
وقال ابن المعتز: (من الخفيف)
يا نديمي سقياني فقد لا ... ح صباح وأذن الناقوس
من كميت كأنها أرض تبر ... ونواحيه لؤلؤ مغروس
وقال ابن الرومي: (من البسيط)
كأنه وكأن الكأس في فمه ... هلال أول شهر عب في شفق
(من الكامل المرفل)
ومهفهف تمت محاسنه ... حتى تجاوز منتهى النفس
فكأنه والكاس في يده ... قمر يقبل عارض الشمس
نظر فيه إلى قول أبي نواس: (من الطويل)
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا
ويروى أنه أخذ هذا البيت من الحسين بن الضحاك مصالتة.
الطائي: (من الطويل)
وكأس كمعسول الأماني شربتها ... ولكنها أجلت وقد شربت عقلي
إذا عوتبت بالماء كان اعتذارها ... لهيباً كوقع النار في الحطب الجزل
إذا اليد نالتها بوتر توقرت ... على ضغنها ثم استفادت من الرجل
ومثله لديك الجن: (من الطويل)
فقام تكاد الكأس تخضب كفه ... وتحسبه من وجنتيه استعارها
معتقة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
فظلنا بأيدينا نتعتع روحها ... وتأخذ من أقدامنا الراح ثارها
وقريب من المعنى الأخير قول أبي علي الخالدي: (من البسيط)
كانت لها أرجل الأعلاج واترة ... بالدوس فانتصفت من أرؤس العرب
أخذ هذا المعنى أبو غالب الأصباغي الكاتب فقال: (من الكامل)
عقرتهم معقورة لو سالمت ... شرابها ما سميت بعقار
لانت لهم حتى انتشوا وتمكنت ... منهم فصاحت فيهم بالنار
ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت ... صرعى تداس بأرجل العصار
وفي معنى البيتين الأول والثاني من قول ديك الجن قول ابن المعتز، وزاد عليهما: (من الطويل)
تدور علينا الراح من يد شادن ... له لحظ عين يشتكي السقم مدنف
كأن سلاف الخمر من ماء خده ... وعنقودها من شعره الجعد يقطف
ومثاهما للبحتري رحمه الله: (من الطويل)
ألا ربما كأس سقانس سلافها ... رهيف التثني واضح الثغر أشنب
إذا أخذت أطرافه من فتورها ... رأيت اللجين بالمدامة يذهب
كأن بخديه الذي جاء حاملاً ... بكفيه من ناجودها حين يقطب
ومن الغريب المستطرف قول آخر: (من الوافر)
وزنا الكأس فارغة وملأى ... فكان الوزن بينهما سواء
نذكر ها هنا أصل الخمر، ولغة العرب في أحوالها المتنقلة، ثم أسماء الخمر وصفاتها ومعاني ذلك.
شجرة العنب: الكرمة، والجمع كرم وكروم. والجفنة: الكرمة، ويقال: الجفنة بفتحتين.
ويقال للقضيب منها: الحبلة، وقيل: الحبلة أصل الكرمة، والقضيب: السرغ معجمة الغين، والجمع سروغ. روى ذلك أبو عمرو عن ثعلب. وقال أبو بكر: السرع بعين غير معجمة: قضيب من قضبان الكرم. وفي القضيب: الأبنة، والجمع أبن، وهي العقد التي تكون فيه. فإذا أخرج القضيب ورقه قيل: قد أطلع؛ فإذا أظهر حمله قيل: قد أحثر وحثر؛ فإذا صار حصرماً قيل: حصرم، ويقال للحصرم: الكحب، الواحدة كحبة؛ ولما تساقط من العنب: الهرور؛ فإذا اسود نصف حبه قيل: قد حلقم يحلقم: فإذا استوى بعض حبه قيل: قد أوشم إيشاماً، ولا يقال للعنب الأبيض أوشم، فإذا فشا فيه الإيشام قيل: قد أطعم؛ فإذا أدرك غاية الإدراك قيل: ينع وأينع وطاب. والعنقود معروف ما دام عليه حبه؛ فإذا أكل فهو شمراخ. ويقال لمعلق الحب من الشمراخ المقمع. ويقال إذ أجنى: قد قطف قطافاً، فإذا يبس فهو الزبيب والعنجد. والقطف: العنقود، وفي التنزيل: " قطوفها دانية " .

الخمر إذا عصر فاسم ما يسيل منه قبل أن يطأه الرجال بأقدامهم السلاف، وأصله من السلف وهو المتقدم من كل شيء. وهو في مثل ذلك الخرطوم أيضاً. ويقال للذي يعصر بالأقدام العصير، وللموضع المعصرة. والطلة: ما عصر بعد السلاف، ويقال للمعاصر: المناطل. ثم يترك العصير حتى يغلي، فإذا إلى فهو خمر. قيل: سميت خمراً لأنها تخامر العقول فتختلط بها. وقالوا: سميت خمراً لأنها تخمر في الإناء أي تغطى، يقال: خمر أنفه: إذا غطاه، وهي مؤنثة. ويقال لها القهوة لأنها تقهي عن الطعام والشراب، يقال: أقهى عن الطعام وأقهم عنه إذا لم يشتهه. ومن أسمائها الشمول، سميت بذلك لأن لها عصفة كعصفة الشمال، وقيل: لأنها تشمل القوم بريحها. ومن أسمائها السلاف، والسلافة، والخرطوم، وقد تقدم معناها في هذه الأسماء. ومنها القرقف قالوا: لأن شاربها يقرقف إذا شربها، أي يرعد، يقال: قرقف وقفقف. قال أبو عمرو: القرقف: اسم للخمر غير صفة، وأنكر قولهم: سميت بها لأنها ترعد.
ومنها الراح لأنها تكسب صاحبها أريحية، أي خفة للعطاء، يقال: قد رحت لكذا أراح وارتحت له أرتاح. ومنها العقار لأنها عاقرت الدن، وقيل: لأنها تعقر شاربها من قول العرب: كلاب بني فلان عقار، أي تعقر الماشية. ومن اسمائها المدامة، والمدام، والرحيق، والكميت، والجريال، والسبيئة، والسباء، والعاتق، والمشعشعة، والشموس، والخندريس، والصهباء، والحانية، والماذية، والعانية، والسخامية، والمزة، والإسفنط، والقنديد، وأم زنبق، والفيهج، والغرب، والحميا، والمسطار، والخمطة، والخلة، والمعتقة، والإثم، والحمق، والمعرق، والمزاء.
والمدام والمدامة، لأنها داومت الظرف الذي انتبذت فيه. والرحيق: الخالص من الغش. كل ذلك ذكره أصحاب التفسير والعريب، ولم يذكر أحد منهم الاشتقاق. والكميت للونها إذا كان يضرب إلى السواد. والجريال عندهم: صبغ أحمر اللون سميت به ولذلك قال: سلبتها جريالها.
والسبيئة والسباء: المشتراة، وأصلها مسبوءة، يقال: سبأت الخمر إذا اشتريتها. والمشعشعة: الممزوجة التي أرق مزاجها. والصهباء: التي عصرت من العنب الأبيض سميت بذلك للونها. والشموس سميت بالدابة الشموس التي تجمح براكبها.
والخندريس: القديمة، يقال: حنطة خندريس أي قديمة. والحانية منسوبة إلى الحانة. والماذية: اللينة، يقال: عسل ماذي إذا كان ليناً. والعانية منسوبة إلى عانة. والسخامية: اللينة من قولهم: قطن سخام، أي لين، وثوب سخام أي لين. قال الراجز: (من الرجز)
كأنه بالصحصحان الأبخل ... قطن سخامي بأيدي غزل
والمزة والمزاء: لطعمها. والإسفنط، قال الأصمعي: هو بالرومية. والقنديد، والفيهج، وأم زنبق ولم يذكر اشتقاقها. وقد جاء في كلامهم: انزبق إذا دخل، ويمكن أن يكون من ذلك لسلاستها وسهولتها، ويقولون: زبق شعره وزبقته: حبسته، وليس من ذلك. والغرب من كل شيء: حده، ولعلها سميت بذلك لحدتها. وحميا كل شيء: سورته وحدته. والمسطار، الخلة. والخمطة: الحامض منها، ويقال: المصطار بالصاد أيضاً. وقد يراد بالخمطة المتغيرة الطعم.
والمعتقة: التي قد طال مكثها. والإثم اسم لها، ولعله وقع عليها لما في شربها من المآثم، وكذلك الحمق، قال الشاعر: (من الوافر)
شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يفعل بالعقول
والمعرق: الممزوج قليلاً، يقال: فيه عرق من ماء، أي ليس بكثير. روى المدائني أن معاوية قال: ما اللذة؟ فأكثر جلساؤه الوصف، فلم يقع له، فقال عمرو بن العاص: نح الأحداث حتى أخبرك بها من فصها، فنحوا، فقال: اللذة هتك المروءة، والمجاهرة بالخطيئة، وأن لا يبالي قبيحاً من حسن.
ومما جاء في أواني المشروب والظروف قال شبرمة بن الطفيل: (من الطويل)
ويوم شديد الحر قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاف المزاهر
لدن غدوة حتى أروح وصحبتي ... عصاة على الناهين شم المناخر
كأن أبارق الشمول عشية ... إوز بأعلى الطف عوج الحناجر
قال الأخطل وأكثر الزقاق: (من الطويل)
أناخوا فجروا شاصيات كأنها ... رجال من السودان لم يتسربلوا
الشاصي: الرافع رجليه. والشاغر: الرافع إحدى رجليه.
قال أبو الهندي: (من الرمل)

أتلف المال وما جمعته ... طلب اللذات في ماء العنب
واستباء الزق من حانوته ... شائل الرجلين معضوب الذنب
كلما صبت لشرب خلته ... حبشياً قطعت منه الركب
وقال ابن المعتز: (من الرمل المجزوء)
وتراها وهي صرعى ... فرغاً بين الندامى
مثل أبطال الحروب ... قتلوا فيها كراما
وقال: (من الخفيف)
ودنان كمثل صف الرجال ... قد أقيموا ليرقصوا دستبندا
أبو الفرج الببغاء: (من الهزج)
ومعصرة أنخت لها ... وقرن الشمس لم يغب
فخلت قزازها بالرا ... ح بعض معادن الذهب
وقد ذرفت لفقد الكر ... م فيها أعين العنب
وجاش عباب واديها ... بمنهل ومنسكب
وياقوت العصير بها ... يلاعب لؤلؤ الحبب
فيا عجبي لعاصرها ... وما يفنى به عجبي
وكيف يعيش وهو يخو ... ض في بحر من اللهب
وقال يصف القدح: (من المنسرح)
من كل جسم كأنه عرض ... يكاد لطفاً باللحظ ينتهب
نور وإن لم يغب، وهم وإن صح ... ح، وماء لو كان ينسكب
لا عيب فيه سوى إذاعته الس ... ر الذي في حشاه يحتجب
كأنما صاغه النفاق فما ... يخلص منه صدق ولا كذب
وقال القاضي أبو القاسم التنوخي: (من المتقارب)
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
هواء ولكنه خامد ... وماء ولكنه غير جاري
آخر: (من الكامل)
يا رب مجلس فتية نادمتهم ... من عبد شمس في ذرى العلياء
وكأنما إبريقهم من حسنه ... ظبي على شرف أمام ظباء
وقال ابن المعتز: (من الكامل)
وكأن إبريق المدام لديهم ... ظبي على شرف أناف مدلها
لما استحثته السقاة حنى لها ... فبكى على قدم النديم وقهقها
وقال إسحاق الموصلي: (من الطويل)
كأن أباريق المدام لديهم ... ظباء بأعلى الرقمتين قيام
وقد شربوا حتى كأن رقابهم ... من اللين لم يخلق لهن عظام
وكلهم نظروا إلى قول علقمة بن عبدة: (من البسيط)
كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم
وقال أبو الهندي: (من الطويل)
مفدمة قزاً كأن رقابها ... رقاب بنات الماء أفزعها الرعد
وقال ابن المعتز: (من السريع)
غدا بها صفراء كرخية ... كأنما في كأسها تتقد
وتحسب الماء زجاجاً جرى ... وتحسب الأقداح ماء جمد
وقال أبو نواس: (من البسيط)
الخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة ... من كف جارية ممشوقة القد
وقال آخر في الراووق: (من الرجز)
كأنما الراووق وانتصابه ... خرطوم فيل سقطت أنيابه
فالبيت منه عطر ترابه ... كأن مسكاً فتقت عيابه
وقال ابن الرومي يصف قدحاً أهداه إلى علي بن يحيى: (من الخفيف)
وبديع من البدائع يسبي ... كل عقل ويطبي كل طرف
رق في الحسن والملاحة حتى ... ما يوفيه واصف حق وصف
كفم الحب في الملاحة أو أص ... فى وإن كان لا يناغي بحرف
تنفذ العين منه حتى تراها ... أخطأته من رقة المستشف
كهواء بلا هباء مشوب ... بضياء أرقق بذاك وأصف
وسط القدر لم يكبر لجرع ... متوال ولم يصغر لرشف
لا عجول على العقول جهول ... بل حليم عنهن في غير ضعف
ما رأى الناظرون قداً وشكلاً ... مثله فارساً على ظهر كف
وقال أيضاً في قدح فيه نبيذ أسود: (من الخفيف)
علني أحمد من الدوشاب ... شربة نغصت لذيذ الشراب
لو تراني وفي يدي قدح الدو ... شاب أبصرت بازيار غراب
وللبحتري: (من المتقارب)
فجاء بنبيذ له حامض ... يشد على الكبد المقفره
إذا صب مسوده في الزجاج ... فكأس النديم به محبره

وقال محمد بن هانئ: (من الخفيف)
رب يوم لنا رقيق حواشي ال ... لهو حسناً جوال عقد النطاق
قد لبسناه وهو من نفحات ال ... مسك ردع الجيوب ردع التراقي
والأباريق كالظباء العواطي ... أوجست (...) الجياد العتاق
مصغيات إلى الغناء مطلا ... ت عليه كثيرة الإطراق
وهي شم الأنوف يشمخن كبراً ... ثم يرعفن بالدم المهراق
عبد الله بن المعتز في الدن: (من المنسرح)
كأنه منذ قام معتمداً ... بعظم ساق شلاء في بدن
ميت وفيه الحياة كامنة ... تدرجه العنكبوت في كفن
بشار، وروي لأبي نواس: (من البسيط)
كأن قرقرة الإبريق بينهم ... صوت المزامير أو ترجيع فأفاء
أبو نواس: (من الكامل)
والكوب يضحك كالغزال مسبحاً ... عند الركوع بلثغة الفأفاء
وكأن أحداق الرحيق إذا جرت ... وسط الظلام كواكب الجوزاء
النامي: (من الكامل)
وكأنما الروض السماء ونهره ... فيه المجرة والكؤوس الأنجم
وقال أبو عثمان الخالدي: (من الخفيف)
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... قهوة تترك الحليم سفيها
لست أدري من رقة وصفاء ... هي في كأسها أو الكأس فيها
وقال البحتري: (من الخفيف)
قد سقاني ولم يصرد أبو الغو ... ث على العسكرين شربة خلس
من مدام نقولها وهي نجم ... ضوأ الليل أو مجاجة شمس
أفرغت في الزجاج من كل قلب ... فهي محبوبة إلى كل نفس
أخذ هذا المعنى من قول بعضهم وقد وصف ابن سريج المغني فقال: كأنه خلق من كل قلب، فهو يغني لكل إنسان ما يشتهيه. وقد قال الحسن بن وهب ووصف صديقاً له: هو كما يشتهي إخوانه.
ابن الرومي رحمه الله تعالى: (من الخفيف)
وردة اللون في خدود الندامى ... وهي صفراء في خدود الكؤوس
وقال ابن المعتز: (من الطويل)
يجول حباب الماء في جنباتها ... كما جال الدمع فوق خد مورد
السري الرفاء: (من المتقارب)
كستك الشبيبة ريعانها ... وأهدت لك الراح ريحانها
فدم للنديم على عهده ... وغاد المدام وندمانها
فقد خلع الأفق ثوب الدجى ... كما نضت البيض أجفانها
وساق يواجهني وجهه ... فتجعله العين بستانها
يتوج بالكأس كف النديم ... إذا نظم الماء تيجانها
وطوراً يوشح ياقوتها ... وطوراً يرصع عيقانها
رميت بأفراسها حلبة ... من اللهو ترهج ميدانها
ودير شغفت بغزلانه ... فكدت أقبل صلبانها
سكرت بقطريل ليلة ... لهوت فغازلت غزلانها
وأي ليالي الهوى أحسنت ... إلي فأنكرت إحسانها
أبو طاهر بن جلنك: (من الخفيف)
مرحباً بالتي بها قتل الهم ... م وعاشت مكارم الأخلاق
وهي في رقة الصبابة والوج ... د وفي قسوة النوى والفراق
لست ادري أمن خدود العذارى ... سفكوها أم أدمع العشاق
حزم بعض الأمراء بالكوفة وتشدد على الخمارين وركب فكسر نبيذهم، فجاء بكر بن خارجة ليشرب عندهم على عادته، فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب والطرق فبكى ثم قال، وتروى لذؤيب بن حبيب الخزاعي: (من الخفيف)
يا لقومي لما جنى السلطان ... لا يكونن لما أهان الهوان
صبها في التراب من حلب الكر ... م عقاراً كأنها الزعفران
صبها في مكان سوء لقد صا ... دف سعد السعود ذاك المكان
من كميت يبدي المزاج لها لؤ ... لؤ نظم والفصل منها جمان
كيف صبري عن بعض نفسي وهل يص ... بر عن بعض نفسه الإنسان
قال الكرماني: أنشدتها الجاحظ فقال: إن من حق الفتوة أن أكتب هذه الأبيات قائماً وما أقدر على ذلك إلا أن تعمدني، وقد كان نقرس، فعمدته فقام، فكتبها قائماً.

كان آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز من المعاقرين المدمنين حتى فسد أمره ووهن، وكان يقول: إذا اصطبحت فكل كسرة بملح وافتح دنك، فإن كان حامضاً دبغ معدتك، وإن كان حلواً خرطك، وإن كان مدركاً فهو الذي أردت. ثم إنه أقلع وأناب، فاستأذن يوماً على يعقوب بن الربيع فقال يعقوب: ارفعوا الشراب فإن هذا قد تاب، وأحسبه يكره أن يراه. فرفع وأذن له، فلما دخل قال: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون. قال يعقوب: هو الذي وجدت، ولكنا ظننا أنه يثقل عليك لتركك الشراب، قال: أي والله إنه لثقل ذلك علي. قال: فهل قلت في ذلك شيئاً منذ تركته؟ قال: قد قلت: (من الطويل)
ألا هل فتى عن شربها اليوم صابر ... ليجزيه يوماً بذلك قادر
شربت فلما قيل ليس بنازع ... نزعت وثوبي من أذى اللوم طاهر
وقال آخر: (من الطويل)
وأغيد معسول الشمائل زادني ... على فرق والنجم حيران طالع
فلما جلا صبح الدجى قلت حاجب ... من الشمس أو برق من الشرق لامع
إلى أن دنا والسحر رائد طرفه ... كما ريع ظبي بالصريمة راتع
فنازعته الصهباء والليل ناصل ... رقيق حواشي البرد والنسر وقع
عقاراً عليها من دم الصب نفضة ... ومن عبرات المستهام فواقع
معودة غصب العقول كأنما ... لها أرباب الرجال ودائع
تدير إذا شجت عيوناً كأنها ... عيون العذارى شق عنها البراقع
بعث الوليد بن يزيد إلى جماعة من أهله لما ولي الخلافة فقال: أتدرون لم دعوتكم؟ قالوا: لا، قال: ليقل قائلكم، فقال رجل منهم: أردت يا أمير المؤمنين أن ترينا ما جدد الله لك من نعمه وإحسانه، قال: نعم ولكني: (من الخفيف)
أشهد الله والملائكة الأب ... رار والعابدين أهل الصلاح
أنني أشتهي السماع وشرب ال ... كاس والعض للخدود الملاح
والنديم الكريم والخادم الفا ... ره يسعى علي بالأقداح
قوموا إذا شئتم.
وأخبار الوليد هذا في خلاعته لو تكلفت ذكرها لاحتاجت إلى كتاب مفرد.
وروي أن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام خرج يوماً إلى بعض الديارات فنزل فيه، وهو وال على الرملة، فسأل صاحب الدير: هل نزل بك أحد من بني أمية؟ قال: نعم،نزل بي الوليد بن يزيد ومحمد بن سليمان بن عبد الملك، قال: فأي شيء صنعا؟ قال: شربا، قال: أين شربا؟ قال: في ذلك الموضع، ولقد رأيتهما شربا في آنيتهما، ثم قال أحدهما لصاحبه: هلم نشرب بهذا الجرن، وأومأ إلى جرن عظيم من رخام، فقال: افعل؛ فلم يزالا يتعاطيانه بينهما يشربان به حتى ثملا، فقال عبد الوهاب لغلام له أسود كان يوصف بالشدة: هاته، فذهب يحركه فلم يقدر. فقال له الراهب: والله لقد رأيتهما يتعاطيانه، وكل واحد يملؤه لصاحبه فيرفعه ويشرب به غير مكترث.
كان لسليمان بن وهب نديم يأنس به ويلائمه ويألفه، فعربد عليه ليلة من ليالي عربدة قبيحة فاطرحه وجفاه مدة، فوقف له على الطريق، فلما مر به وثب إليه وقال له: أيها الوزير، ألا تكون في أمري كما قال علي بن الجهم: (من البسيط)
القوم إخوان صدق بينهم نسب ... من المودة لم يعدل به نسب
تراضعوا درة الصهباء بينهم ... فأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب
لا يحفظون على السكران زلته ... ولا يريبك من أخلاقهم ريب
فقال له سليمان: قد رضيت عنك رضاً صحيحاً، فعد إلى ما كنت عليه من ملازمتي.
قال إسحاق: دخلت على المأمون يوماً فوجدته حائراً معكراً غير نشيط، فأخذت أحدثه بملح الأحاديث وطرفها أستميله حتى يضحك أو ينشط فلم يفعل، وخطر ببالي بيتان فأنشدته إياهما، وهما: (من الطويل)
ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل نشوز النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
فتنبه كالمتفزع ثم قال: من يقول هذا، ويحك؟ فقلت: ؟أبو الطمحان القني يا أمير المؤمنين، فقال: صدق والله، أعدهما علي، فأعدتهما حتى حفظهما، ثم دعا بالطعام فأكل، ثم دعا بالشراب فشرب، أمر لي بعشرين ألف درهم.

قال ابن الأعرابي: كنا مع محمد بن الجنيد الجبلي أيام الرشيد، فشرب ذات ليلة، فكان صوته: (من الخفيف)
عللاني بعاتقات الكروم ... واسقياني بكأس أم حكيم
فلم يزل يقترحه ويشرب عليه حتى السحر، فوفاه كتاب خليفته في دار الرشيد أن الخليفة على الركوب، وكان محمد أحد أصحاب الرشيد ومن يقدم دابته، فقال: ويحكم، كيف أعمل والرشيد لا يقبل لي عذراً وأنا سكران؟ فقالوا: لا بد من الركوب. فركب على تلك الحال، فلما قدم إلى الرشيد دابته قال له: يا محمد، ما هذه الحال التي أراك عليها؟ قال: لم أعلم برأي أمير المؤمنين في الركوب، فشربت ليلتي أجمع، قال: فما كان صوتك؟ فأخبره، فقال له: عد إلى منزلك فلا فضل فيك. فرجع إلينا وخبرنا بما جرى، وقال: خذوا بنا في شأننا. فجلسنا على سطح، فلما متع النهار إذا خادم من خدم الرشيد قد أقبل على برذون وفي يده شيء مغطى بمنديل قد كاد ينال الأرض. فصعد إلينا وقال: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: قد بعثنا إليك بكأس أم حكيم لتشرب فيه وبألف دينار تنفقها في صبوحك. وقام محمد فأخذ الكأس من يد الخادم وقبلها وصب فيها ثلاثة أرطال وشربها قائماً وسقانا مثل ذلك، ووهب للخادم مائتي دينار، وغسل الكأس وردها إلى موضعها، وجعل يفرق علينا تلك الدنانير حتى بقي معه أقلها.
والشعر المذكور للوليد بن يزيد بن عبد الملك. وأم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية.
قال ابن إسحاق الموصلي: دخلت إلى الرشيد يوماً وهو يخاطب جعفر بن يحيى بشيء لم أسمع ابتداءه، وقد علا صوته، فلما رآني مقبلاً قال لجعفر: أترضى بإسحاق؟ قال جعفر: بلى والله، ما في علمه مطعن إن أنصف، فقال له: أي شيء تروي للشعراء المحدثين في الخمر؟ أنشدني من أفضل ما عندك وأشده تقدماً، فعلمت أنهما كانا يتماريان في تقديم أبي نواس، فعدلت عنه إلى غيره، لئلا أخالف أحدهما، فقلت: لقد أحسن أشجع في قوله: (من الكامل)
ولقد طعنت الليل في أعجازه ... بالكأس بين غطارف كالأنجم
يتمايلون على النعيم كأنهم ... قضب من الهندي لم تتثلم
يسعى بها الظبي الغرير يزيدها ... طيباً ويغشمها إذا لم تغشم
والليل ملتحف بفضل ردائه ... قد كاد يحسر عن أغر أرثم
فإذا أدارتها الأكف رأيتها ... تثنى الفصيح إلى لسان الأعجم
وعلى بنان مديرها عقيانه ... من سكبها وعلى فضول المعصم
تغلي إذا ما الشعريان تلظيا ... صيفاً وتسكن في طلوع المرزم
ولها سكون في الإناء وخلفه ... شغب يطوح بالكمي المعلم
تعطي على الظلم الفتى بقيادها ... قسراً وتظلمه إذا لم تظلم
فقال لي الرشيد: قد عرف تعصبك على أبي نواس، فإنك عدلت عنه متعمداً، ولقد أحسن أشجع ولكنه لا يقول أبداً مثل أبي نواس: (من المديد)
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
فقلت له: ما علمت ما كنتما فيه يا أمير المؤمنين، وإنما أنشدت ما حضرني، قال: حسبك قد سمعت الجواب. وكان في إسحاق تعصب على أبي نواس لشيء جرى بينهما.
وقال إسحاق: اصطبح الواثق في يوم مطير، واتصل شربه، وشربنا معه حتى سقطنا لجنوبنا صرعى وهو معنا على حالنا، فما حول أحد منا عن مضجعه، وخدم الخاصة يطوفون علينا ويتفقدوننا، وبذلك أمرهم، وقال: لا تحركوا أحداً منهم عن مضجعه. وكان هو أول من أفاق منا، فقام وأمر بإنباهنا، فقمنا وتوضأنا وأصلحنا من شأننا، وجئنا إليه وهو جالس وفي يده كأس وهو يروم شربها والخمار يمنعه، فقال: يا إسحاق، أنشدني شيئاً في هذا المعنى، فأنشدته قول أشجع:
ولقد طعنت الليل في أعجازه.... إلى آخر الأبيات
فطرب وقال: أحسن والله أشجع وأحسنت يا أبا محمد، أعد بحياتي، فأعدتها فشرب كأسه عليها وأمر لي بألف دينار.
كان عبد الله بن العباس الربيعي مصطحباً دهره لا يفوته ذلك إلا يوم جمعة أو صوم شهر رمضان. وكان يكثر المدح للصبوح ويقول الشعر فيه، فمن ذلك قوله: (من البسيط)
ومستطيل على الصهباء باكرها ... في فتية باصطباح الراح حذاق
فكل شيء رآه خاله قدحاً ... وكل شخص رآه ظنه الساقي

اشتهى أبو الهندي الصبوح في الحانة، فأتى خماراً بسجستان في محلة يقال لها: كوه زيان وتفسيره: درب الخسران، يباع فيه الخمر والفاحشة، ويأوي إليها كل خارب وزان ومغنية، فدخل إلى الخمار وقال له: اسقني، وأعطاه ديناراً، فكال له، وجعل يشرب حتى سكر. وجاء قوم يسلمون عليه فصادفوه على تلك الحال فقالوا للخمار: ألحقنا به، فسقاهم حتى سكروا. وانتبه أبو الهندي فسأل عنهم، فعرفه الخمار خبرهم، فقال: هذا الآن وقت السكر، الآن طاب، ألحقني بهم، فجعل يشرب حتى سكر، وانتبهوا فقالوا للخمار: ويحك، هذا نائم بعد! فقال: لا، قد انتبه فلما عرف خبركم شرب حتى سكر، قالوا: فألحقنا به، فلم يزل ذلك دأبه ودأبهم ثلاثة أيام، ولم يلتقوا وهم في موضع واحد، ثم تركوا هم الشراب حتى أفاق، فلقوه، فقال أبو الهندي: (من الوافر)
ندامى بعد ثالثة تلاقوا ... يضمهم بكوه زيان راح
وهي أبيات. وتروى هذه القصة لأبي نواس مع والبة بن الحباب، والأصح أنها لأبي الهندي.

نوادر من هذا الباب
شرب الأقيشر في حانة الحيرة حتى نفد ما معه، ثم رهن ثيابه، وكان الزمان بارداً، فجلس في تبن كان هناك، فاجتاز رجل ينشد ضالة له، فقال: اللهم اردد عليه واحفظ علينا، قال الحاني: ويحك، أي شيء يحفظ عليك ربك؟ قال: هذا التبن لا يأخذه فأموت برداً. فضحك الحاني وأعاد عليه ثيابه.
دخل طفيلي على سالم بن عقل، فجعل يشرب معه مطبوخاً يحتاج إلى مزاج كثير، فسقاه الطفيلي وأقل المزاج، وأراد أن يتقرب إلى سالم فأنشأ يقول: (من الطويل)
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
فقال له سالم: لو أخذت الماء من هذا البيت وجعلته في أقداحنا لصلح شعرك ونبيذنا.
ابن لنكك البصري: (من الوافر)
فديتك لو علمت ببعض ما بي ... لما جزعتني إلا بمسعط
وحسبك أن كرماً باب داري ... أمر ببابه فأكاد أسقط
ودخل أعرابي على رجل من أعمال السلطان وهو يشرب، فجعل يحدثه ثم سقاه كما يشرب، فقال الأعرابي: والله أيها الأمير، إنها هي الخمر، فقال: كلا، ولكنها زبيب وعسل، فشرب الأعرابي، فلما طرب قال له الرجل: قل فيها. فقال: (من الطويل)
أتانا بها صفراء يزعم أنها ... زبيب فصدقناه وهو كذوب
فما هي إلا ليلة غاب نحسها ... أواقع فيها الذنب ثم أتوب
قال الجماز: حرام النبيذ على اثني عشر نفساً: على من غنى الخطأ، واتكأ على اليمنى، وأكثر أكل النقل، وكسر الزجاج، وسرق الريحان، وبل ما بين يديه، وطلب العشاء، وقطع اليم، وخلس أول قدح، وأكثر الحديث، وامتخط في منديل الشراب، وبات في موضع لا يحتمل المبيت.
وذكر إسحاق بن إبراهيم الندماء فقال: واحد منهم، واثنان غم، وثلاثة قوام، وأربعة تمام، وخمسة مجلس، وستة زحام، وسبعة جيش، وثمانية عسكر، وتسعة اضرب طبلك، وعشرة ألق بهم من شئت.
جلست عجوز من الأعراب في طريق مكة إلى فتيان يشربون نبيذاً لهم، فسقوها ثلاثاً فقالت: أخبروني عن نسائكم بالعراق، أيشربن من هذا الشراب؟ قالوا: نعم، قالت: زنين ورب الكعبة.
سمع مخنث رجلاً يقول: دعا أبي أربعة أنفس أنفق عليهم أربعمائة دينار، فقال: يا ابن البغيضة، لعله ذبح لهم مغنيتين وزامرة! وإلا أربعمائة دينار في أي شيء أنفقها؟ قال المتوكل: لولا ذهاب بصر أبي العيناء لجعلته نديمي، فقال: إن كان يريدني لرؤية الأهلة وقراءة نقوش الخواتيم لم أصلح لذلك، فضحك منه واتخذه نديماً وقد روي أنه امتنع من منادمته واحتج بما ورد قبل هذا المكان.
شرب داود المصاب مع قوم في شهر رمضان، فقالوا له في وجه السحر: قم فانظر هل تسمع أذاناً، فأبطأ عنهم ساعة، ثم رجع فقال: اشربوا فإني لم أسمع الأذان سوى من مكان بعيد.
كان بعض أولاد الملوك إذا شرب وسكر عربد على ندمائه، وكان إذا صحا يندم ويستدعي من عربد عليه ويعطيه ألف درهم وما يقارنها. فقال له بعضهم يوماً: أنا رجل مضيق، وأنا مع ذلك ضعيف لا أحتمل عربدة بألف درهم، فإن رأيت أن تعربد علي عربدة إلى مائتي درهم فعلت، فاستظرفه وأعطاه وأحسن إليه.

قيل لبعض المدمنين: كم الصلاة؟ قال: الغداة والظهر، قالوا: فالعصر؟ قال: تعرف وتنكر، قالوا: فالعشاء؟ قال: يبلغها الجواد، قالوا: فالعتمة؟ قال: ما كانت لنا في حساب قط.
دخل علي بن شبابة على رجل وبين يديه زق خمر قد اشتراه ولم يشرب منه بعد، فقال: لك الويل إن كان خمراً، فقال ابن شبابة: بل الويل إن لم يكن خمراً.
قال بعضهم: رأيت أبا نواس يوماً يضحك من سكران وقال: ما رأيت سكران قبله، قلت: وكيف ذاك؟ قال: لأني كنت أسكر قبل الناس فلا أدري ما يكون حال السكارى.
وقال آخر: رأيت سكران قد وقع في الطين وهو يقول: رحم الله من أخذ بيدي، وأرانيه في مثل حالتي، وهو يرى أن حاله حال نعمة.
وقال آخر: شربت يوماً عند خنثى النباذ، إذ دفع إنسان الباب ودخل، فقام خنثى وقال: أمه زانية إن تركك تذوق قدحاً أو تزن ثمنه أو تعطي رهناً ثم تشرب، قال: فساره بشيء لم أسمعه، وتراضيا وجلس يشرب. فقلت لخنثى: ما أعطاك؟ قال: أعطاني رهناً وثيقاً، قلت: وما هو؟ قال: جعل أمر امرأته في يدي إلى أن يجيء بثمن ما يشرب يوم كذا، قال: فغلبني الضحك وقلت: والله ما ظننت أن الطلاق يرهن إلا الساعة.
وشرب آخر عند بعض الخمارين فلم يسكر، فشكا ذلك إلى الخمار، فقال: اصبر، فإن هذا يأخذ في آخره، فلما خرج أخذه الطائف فقال: صدق الخمار، قد أخذ في آخره.
شرب جعفري ولهبي على سطح، فلما أخذ الشراب منهما رمى الجعفري بنفسه وقال: أنا ابن الطيار في الجنة، فتكسر؛ وتشبث اللهبي بالحائط وقال: أنا ابن المقصوص في النار.
قيل لشيخ: كم تشرب من النبيذ؟ قال: بقدر ما أتقوى به على ترك الصلاة.
مر سكران برجل يبول، فقال له: من أنت؟ قال: رجل من أهل الأرض، قال: فأقطعني نصفها؛ قال: قد فعلت، قال السكران: أمه زانية إن زرعها إلا داذي.
باع بعضهم ضيعة فقال له المشتري: بالعشي أشهد عليك، فقال: لو كنت ممن يفرغ بالعشي ما بعت ضيعتي.
كتب أخو العطوي إليه يعذله في النبيذ فكتب إليه: أما تستحي أن تكون توبتي على يدك.
قال الجاحظ: رأيت أسود في يده قنينة وهو يبكي فقلت له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن تنكسر قبل أن أسكر.
كان محمد بن (يسير) يعاشر يوسف بن جعفر بن سليمان بن علي الهاشمي، وكان يوسف شديد العربدة إلا أنه كان يخاف لسان بن يسير فيتقيه ولا يعربد عليه، ثم جرى بينهما كلام على النبيذ ولحاء، فعربد عليه وشجه، فقال ابن يسير فيه: (من الكامل)
لا تجلسن مع يوسف في مجلس ... أبداً ولا تحمل دم الأخوين
ريحانه بدم الشجاج ملطخ ... وتحية الندمان لطم العين
عاتب مسلم بن الوليد أبا نواس وقال له: خلعت عذارك، وأطلت الإكباب على المجون، حتى غلب على لبك وما كذا يفعل الأدباء، فأطرق هنيهة ثم قال: (من المتقارب)
فأول شربك طرح الرداء ... وآخر شربك طرح الإزار
وما هنأتك الملاهي بمثل ... إماتة مجد وإحياء عار
وما جاد دهر بلذاته ... على من يضن بخلع العذار
فانصرف مسلم آيساً من فلاحه وهو يقول: جواب حاضر من كهل فاجر.
قيل: كان رجل من قيس من كنانة يعاقر الشراب، وكانت أمه لا تكاد تعظه وتقبح عنده فعله. فشرب ليلة حتى ثمل، فقالت له أمه: يا بني اتق الله وقم فصل، فألحت عليه في القول، وزادت في الوعظ، فحلف بالطلاق ألا يصبح حتى يغنيه سليمان التيمي فزاد اغتمام أمه وقلقها؛ وكنت امرأته بنت عمه، فأشفقت أن تبين منه. ففزع أهله إلى النهاس بن قهم، وهو من بني عمهم، فقال: يا قوم، أي شيء أصنع؟ سليمان يحيي الليل كله مصلياً، فكيف أمضي إليه فأقول له: نحن، فلما أكثروا عليه مضى فوقف على باب سليمان، فسمع تلاوته القرآن وتلاوة ابنه المعتمر، وهما يتهجدان. فقرع الباب فخرج إليه المعتمر فقال: ما جاء بك يا أبا الخطاب في هذا الوقت؟ فقال: ابن عم لي جرت عليه يمين فحلف أن لا يغنيه إلا أبو المعتمر، يعني سليمان التيمي. فدخل المعتمر إليه فأخبره، فخرج سليمان فقص عليه النهاس القصة من أولها إلى آخرها. فأقبل سليمان على الحالف فجعل يعظه ويوبخه ويضرب له الأمثال، وأطال في ذلك حتى خاف أن يطلع عليه الفجر، فلما كاد الفجر أن يطلع قال له: يا ابن أخي، إنا سمعناهم يقولون: (من الرمل المجزوء)
ليس للنرجس عهد ... إنما العهد للآس

قم فانصرف، ولا تعد.
شرب الأخطل مع رفيق له فطرأ عليهما طارئ لا يعرفانه وأطال الجلوس، فوقع ذباب في الباطية، فقال الرجل: يا أبا مالك، الذباب في شرابك، فقال: (من الطويل)
وليس القذى بالعود يسقط في الخمر ... ولا بذباب نزعه أيسر الأمر
ولكن قذاها زائر لا نحبه ... رمتنا به الغيطان من حيث لا ندري
فقام الرجل وانصرف.
حكى الضبي معلم المعتز قال: كان ببغداد مؤذن إذا لاحت له وردة انغمس في لجة قصفه إلى أن يمضي زمن الورد، وكان يقول: (من المجتث)
يا صاحبي اسقياني ... من قهوة خندريس
على حثيات ورد ... يذهبن هم النفوس
ما تنظران فهذا ... وقت لحث الكؤوس
فبادرا قبل فوت ... لا عطر بعد عروس
وإذا لم تبق وردة أقبل إلى مسجده وهو يقول: (من الطويل)
تبدلت من ورد جني ومسمع ... شهي ومن لهو وشرب مدام
أذاناً وإخباتاً ولوماً لمعشر ... أرى منهم إلمامة بحرام
وذلك دأبي لا أرى الورد طالعاً ... فأترك أصحابي بغير إمام
وأرجع في لهوي وأترك مسجدي ... يؤذن فيه من يشا بسلام
دخل الهيثم بن خالد على عبد الملك وبوجهه آثار، فقال: ما هذا؟ قال: قمت بالليل فصدمني الباب، فقال عبد الملك: (من الطويل)
رأتني صريع الكأس يوماً فسؤتها ... وللشاربيها المدمنيها مصارع
فقال الهيثم: لا آخذك الله بسوء ظنك يا أمير المؤمنين: قال: بل لا آخذك الله بسوء مصرعك يا أبا الهيثم.
عاتب أعرابي ابنه في شرب النبيذ فلم يعتب، وقال: (من الطويل)
أمن شربة من ماء كرم شربتها ... غضبت علي الآن طابت لي الخمر
سأشرب فاسخط لا رضيت كلاهما ... إلي لذيذ أن أعقك والسكر
مر أبو نواس (......): (من الطويل)
وما مسها نار سوى أن علجهم ... سعى في نواحي كرمها بسراج
فالتفت إليه وقال: ما له؟ أحرق الله قلبه كما أحرقها! اجتمع محدث ونصراني في سفينة، فصب النصراني من زكرة كانت معه في مشربة، وشرب، وصب فيها وعرضها على المحدث، فتناولها من غير فكر ولا مبالاة، فقال النصراني: جعلت فداك، إنما هو خمر، فقال: من أين علمت أنها خمر؟ قال: اشتراها غلامي من يهودي وحلف أنها خمر. فشربها بالعجلة وقال للنصراني: أنت أحمق؛ نحن أصحاب الحديث نضعف سفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، أفنصدق نصرانياً عن غلامه عن يهودي؟ والله ما شربتها إلا لضعف الإسناد.
كان رجل يقول لوكيله: اشتر لي المطبوخ، وحلف الخمار على أنه مطبوخ، فيأتي بالمطبوخ فيقول الرجل: ليس له صفاء ولا حسن، أريد أرق منه. فلا يزال يردده حتى يأتيه بالخمر الصرف، فيقول: أما استوثقت منه؟ فيقول: بلى، فيقول: ثقة والله وقد حج، ثم يقعد يشربه بقلب مطمئن.
أخذ الطائف فتياناً يشربون ومعهم أعرابي، فأتى بهم الحجاج، فقال الأعرابي: والله ما كنا في شر؛ قدم هذا الكريم عافاه الله إلينا خبزاً من لباب البر، ولحماً من سمان الضأن، وطيباً من نبيذ السعن، وعنده رجل معه خشبة يفرك أذنها فينطق جوفها، فبينا نحن على أحمد حال وأرضاها إذ وغل هذا اللئيم فأكل وشرب، حتى إذا انضلع غدر بنا وساقنا إليك لؤماً وسفالاً، فضحك الحجاج ووهب لهم الطائف يفعلون به ما شاءوا.
قيل لرجل: ما تقول في نبيذ السعن؟ قال: نبيذ الرعن، قيل: ففي نبيذ الجر؟ قال: اشرب حتى تخر، قيل: فنبيذ الدن؟ قال: اشرب حتى تجن، قيل: فالداذي؟ قال: أحلى من العسل الماذي، قيل: فنبيذ العسل والزبيب؟ فستر وجهه وقال: العظمة لله، قيل: فالخمر؟ قال لا تشربوها، قيل: ولم؟ قال: أخاف ألا تؤدوا شكرها فتنزع منكم.
أبو نواس: (من الوافر)
دع الأطلال تسفيها الجنوب ... وتبلي عهد جدتها الخطوب
بلاد نبتها عشر وطلح ... وأكثر صيدها ضبع وذيب
ولا تأخذ عن الأعراب لهواً ... ولا عيشاً، فعيشهم جديب
دع الألبان يشربها رجال ... رقيق العيش بينهم غريب
إذا راب الحليب فبل عليه ... ولا تحرج فما في ذاك حوب

فأطيب منه صافية شمول ... يطوف بكأسها ساق أديب
كأن هديرها في الدن يحكي ... قراة القس قابله الصليب
أعاذل أقصري عن بعض لومي ... فراجي توبتي عندي يخيب
تعيبين الذنوب وأي حر ... من الفتيان ليس له ذنوب
غريت بتوبتي ولججت فيها ... فشقي الآن جيبك، لا أتوب

المجلد التاسع
الباب الخامس والأربعون
ما جاء في الغناء وأخبار المغنين والقيان
نذكر فيه ما جاء في حظره وإباحته، وأخبار من سامح نفسه في استماعه، وأهواء الناس فيه، وملحاً من أخبار المغنين والقيان. ونسأل من الله حسن التجاوز والغفران، وأن يسبل على ما أفضنا فيه من اللغو أستار الصفح والعفو، إنه جواد كريم.
قال الله عز وجل: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً. لقمان: 6 قال ابن مسعود رضي الله عنه: لهو الحديث: الغناء.
وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وروى أبو أمامة الباهلي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المغنيات وشرائهن والتجارة فيهن وأكل أثمانهن، وثمنهن حرام.
قال الشافعي رضي الله عنه: الغناء بغير آلة مكروه. وحكي عن سعيد ابن إبراهيم الزهري وعبد الله بن الحسن العنبري أنهما قالا: ليس بمكروه.
وروي أن ابن مليكه بينا هو يؤذن إذ سمع الأخضر الجدي يغني من دار العاص بن وائل: من الطويل:
تعلَّقْتُ ليلى وهي ذاتُ ذؤابةٍ ... ولم يَبْدُ للأَتْرابِ من ثَدْيِها حَجْمُ.
صغيرين نَرْعى البَهْمَ يا ليْتَ أَنَّنا ... إِلى اليومِ لم نكبرْ ولم تكبَر البَهْمُ
فأراد أن يقول: حي على الصلاة، فقال: حي على البهم، حتى سمعه أهل مكة، فغدا يعتذر إليهم.
قيل التقى ابن سلمة الزهري والأخضر الجدي ببئر النضيخ، فقال ابن سلمة: هل لك في الاجتماع لنستمع بك؟ فقال الأخضر: لقد كنت إلى ذلك مشتاقاً، قال، فقعدا يتحدثان، فمر بهما أبو السائب فقال: يا مطربي الحجاز، ألشيء كان اجتماعكما؟ فقالا: لغير موعد كان ذلك، أفتونسنا؟ قال: نعم. فقعدوا يتحدثون، فلما مضى بعض الليل قال الأخضر لابن سلمة: يا أبا الزهري، قد ابهار الليل وساعدك القمر، فرجع بقهقهة ابن سريج وانصب مغناك، فاندفع يغني: من الطويل:
تجنَّب بلا جُرْمٍ وصدًّتْ تَغَضُّباً ... وقالت لتِرْبَيْها مقالةَ عاتبِ
سيعلمُ هذا أَنني بنتُ حرَّةٍ ... سأَمنع نفسي من ظنون الكواذبِ
فقولي له عنَّا تَنَحَّ فإِننَّا ... أَبِيَّاتُ فُحْشٍ طاهراتُ المَناسبِ
فجعل أبو السائب يزفن ويقول: أبشر حبيبي فلأنت أفضل من شهداء قزوين! ثم قال ابن سلمة للأخضر: نعم المساعد على هم الليل أنت، فوقع بنوح ابن سريج ولا تعد مغناك، فاندفع يغني: من الطويل:
فلمَّا التقينا بالحَجْونِ تَنَفَّسَتْ ... تَنَفُّسَ محزونِ الفؤادِ سقيمِ
وقالت وما يَرْقا من الخوفِ دَمْعُها ... أَقاطنُها أَم أَنْتَ غيرُ مُقيمِ
فإِنَّا غداً تُحدى بنا العِيسُ بالضُّحى ... وأَنْتَ بما نلقاه غيرُ عليمِ
فقطًّع قَلْبي قولُها ثمَّ أَسْبَلَتْ ... محاجرُ عَيْني دَمْعَهَا بسُجومِ
فجعل أبو السائب يتأفف: أعتق ما يملك إن لم تكن فردوسية الطينة، وأنها بعملها أفضل من آسية امرأة فرعون.
ويروى أن أبا دهبل الجمحي قال: كنت وأبا السائب المخزومي عند مغنية بالمدينة يقال لها الذلفاء، فغنتنا بشعر جميل بن معمر: من الطويل:
لهُنَّ الوَجا لِمْ كُنَّ عَوْناً على النَّوى ... ولا زال منها ظالعٌ وحسيرُ
كأَني سُقيتُ السَّمَّ يومَ تحمَّلوا ... وجدَّ بهم حادٍ وحان مسيرُ
فقال أبو السائب: يا أبا دهبل، نحن والله على خطر من هذا الغناء، فنسأل الله السلامة، وأن يكفينا كل محذور فما آمن أن يهجم بي على أمر يهتكني، قال: وجعل يبكي.

قال إسحاق بن يحيى بن طلحة: قدم جرير بن الخطفي المدينة ونحن يومئذ شبان، فطلب الشعراء فاحتشدنا له ومعنا أشعب، فبينا نحن عنده إذ قام لحاجة وأقمنا لم نبرح، ويجيء الأحوص بن محمد الشاعر من قباء على حمار، فقال: أي هذا؟ قلنا: قد قام لحاجة فما حاجتك إليه؟ قال: أريد والله أن أعلمه أن الفرزدق أشرف منه وأشعر، قلنا له: ويحك، لا تعرض له فانصرف. وخرج جرير، فلم يك بأسرع من أن أقبل الأحوص، فوقف عليه فقال: السلام عليك، فقال جرير: وعليك السلام، فقال: يا ابن الخطفي، الفرزدق أشرف منك وأشعر، قال جرير: من هذا أخزاه الله! قلنا: الأحوص بن محمد بن عبد الله ابن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقال: نعم، هذا الخبيث ابن الطيب، أنت القائل: من الطويل:
يقَرُّ بعيني ما يقرُّ بعَيْنها ... وأَحسنُ شيءٍ ما به العينُ قَرَّتِ
فقال: نعم، قال: فإنه يقر بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر، أفيقر ذاك بعينك؟ وكان الأحوص يرمي بالحلاق، فانصرف فبعث إليه بتمر وفاكهة. وأقبلنا على جرير نسأله وأشعب عند الباب وجرير في مؤخر البيت، فألح عليه أشعب يسأله، فقال: والله إني لأراك أقبحهم وجهاً، وأراك ألأمهم حسباً، قد أبرمتني منذ اليوم، فقال: إني والله أنفعهم وخيرهم لك، فانتبه جرير وقال: ويحك، وكيف ذاك؟ قال: إني أملح شعرك وأجيد مقاطعه ومبادئه، قال: قل، ويحك! فاندفع أشعب فتغنى بلحن لابن سريج في شعره: من الكامل:
يا أُخْتَ ناجيةَ السلامُ عليكم ... قَبْلَ الرحيلِ وقَبْلَ لومِ العُذَّلِ
لو كُنتُ أَعلمُ أَنَّ آخِرَ عهدكم ... يومُ الرحيلِ فعلتُ ما لم يُفْعَلِ
فطرب جرير وجعل يزحف حتى مست ركبته ركبته، وقال: لعمري لقد صدقت، إنك لأنفعهم لي، وقد حسنته وأجدته وزينته، أحسنت والله! ووصله وكساه. فلما رأينا إعجاب جرير بذلك الصوت قال له بعض أهل المجلس: فكيف لو سمعت واضع هذا الغناء؟ قال: وإن له لواضعاً غير هذا؟ قلنا: نعم، قال: وأين هو؟ قلنا: بمكة، قال: فلست بمفارق حجازكم حتى أبلغه. فمضى ومضى معه جماعة ممن يرغب في طلب الشعر في صحابته وكنت فيهم. فقدمنا مكة فأتيناه بأجمعنا فإذا هو في فتية من قريش كأنهم المها مع ظرف كثير، فرحبوا وأذنوا وسألوا عن الحاجة، فأخبرناهم الخبر، فرحبوا بجرير وأدنوه وسروا بمكانه، وأعظم عبيد بن سريج موضع جرير وقال: سل ما تريد جعلت فداك، قال: أريد أن تغنيني لحناً سمعته بالمدينة أزعجني إليك، قال: وما هو؟ قال:
يا أُخْتَ ناجيةَ السلام عليكم.
فغناه ابن سريج وبيده قضيب يوقع به وينكت، فو الله ما سمعنا شيئاً قط أحسن من ذلك، فقال جرير: لله دركم يا أهل مكة، ماذا أعطيتم! والله لو أن نازعاً نزع إليكم ليقيم بين أظهر كم يسمع هذا صباح مساء لكان أعظم الناس حظاً ونصيباً، ومع هذا بيت الله الحرام، ووجوهكم الحسان، ورقة ألسنتكم وحسن شارتكم، وكثرة فوائدكم.
روي أن ابن عائشة كان واقفاً بالموسم متحيراً، فمر به بعض أصحابه، فقال له: ما يقيمك ههنا؟ قال: إني أعرف رجلاً لو تكلم لحبس الناس ههنا؛ فلم يذهب أحد ولم يجئ، فقال له الرجل: ومن ذاك؟ قال: أنا، ثم اندفع يغني: من الوافر:
جرَتْ سُنُحاً فقُلْتُ لها أَجيزي ... نوىً مشمولةً فمتى اللقاءُ
بنَفْسي مَنْ تذكُّرُهُ سَقامٌ ... أُعانيه ومَطْلَبُه عَناءُ
البيت الأول لزهير، والثاني ألحقه به المغنون. فحبس الناس فاضطربت المحامل، ومدت الإبل أعناقها، وكادت الفتنة أن تقع، فأتي به هشام بن عبد الملك فقال له: يا عدو الله، أردت أن تفتن الناس؟ قال: فأمسك عنه وكان تياهاً، فقال له هشام: ارفق بتيهك، فقال: حق لمن كانت هذه مقدرته على القلوب أن يكون تياهاً. فضحك منه وخلى سبيله.
والموصوفون بحسن الصوت من المغنين: ابن سريج وقد مر بعض أخباره الدالة على ذلك، وابن عائشة وهذا الخبر كاف في ما ذكر عنه، وعمرو بن أبي الكنات، وابن تيزن، وإسماعيل بن جامع، ومخارق، وإبراهيم بن المهدي.

فأما عمرو بن أبي الكنات، فإن علي بن الجهم حدث عمن يثق به قال: واقفت ابن أبي الكنات على جسر بغداد أيام الرشيد، فحدثته بحديث اتصل بي عن ابن عائشة أنه فعله أيام هشام، وأنه حبس الناس بغنائه، واضطربت المحامل ومدت الإبل أعناقها حتى كادت الفتنة أن تقع. قال: فبرق ابن أبي الكنات وقال: فأنا أفعل كما فعل، وقدرتي على القلوب أكثر من قدرته كانت، ثم اندفع يغني: من الخفيف:
عَفَت الدارُ بالهضابِ اللواتي ... بين ثَوْرٍ فمُلْتقى عَرَفات
ونحن على جسر بغداد. وكان إذ ذاك على دجلة ثلاثة جسور معقودة، فانقطعت الطرق، وامتلأت الجسور بالناس، وازدحموا عليها، واضطربت حتى خيف عليها أن تنقطع لثقل ما عليها من الناس. فقبض عليه وحمل إلى الرشيد فقال له: ويلك! أردت أن تفتن الناس؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنه بلغني أن ابن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام، فأحببت أن يكون في أيامك مثله. فأعجبه ذلك من قوله وأمر له بمال، وأمره أن يغني، فسمع شيئاً لم يسمع مثله، فاحتبسه عنده شهراً.
قال هذا المخبر: وكان ابن أبي الكنات كثير الغشيان لي، فلما أبطأ توهمته قد قتل، فصار إلي بعد شهر بأموال جسيمة، وحدثني ما جرى بينه وبين الرشيد.
وأما ابن جامع فغنى ذات يوم صوتاً يرثي به أمه، وكان أحسن الناس صوتاً إذا حزن، فلم يملك الحاضرون أنفسهم، وضرب الغلمان برؤوسهم الحيطان والأساطين. وأخباره دالة بأنه كان إذا عارض المغنين بذهم بصوته في مجلس الرشيد، وكان في وقته فحولهم وذوو النباهة منهم مثل إبراهيم، وحكم الوادي وأمثالهما.
وأما إبراهيم بن المهدي فكان إذا غنى أنصت له الوحش وجاء حتى يقف قريباً من المجلس الذي يكون فيه حتى ينقضي غناؤه، فإذا سكت عاد الوحش إلى أماكنه من البستان أو الحائر الذي يكون فيه.
ويقال: إنه كان إذا تنحنح أطرب، وكان يخاطب وكيله من روشنة على دجلة فيسمعه من الجانب الآخر من غير أن يجهد نفسه.
وأما مخارق فروي أنه خرج إلى بعض المتنزهات، فنظر إلى قوس مذهبة مع أحد من خرج معه، فسأله إياها فضن بها، وسنحت ظباء بالقرب منه، فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنيت صوتاً يعطف عليك خدود هذه الظباء أتدفع إلي هذه القوس؟ قال: نعم، فاندفع يغني: من المجتث:
ماذا تقولُ الظِّباءُ ... أَفُرْقَةٌ أَم لقاءُ
أَم عَهْدُها بسُلَيْمى ... وفي البيانِ شِفاءُ
مرَّت بنا سانحات ... وقد دنا الإمساءُ
فما أَحارَتْ جَواباً ... وطال فيها العَناءُ
فعطفت الظباء راجعةً إليه حتى وقفت بالقرب منه مصغيةً إلى صوته، فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها، وناوله الرجل القوس.
غضب المعتصم على مخارق، فأمر أن يجعل في المؤذنين، فأمهل حتى علم أن المعتصم يشرب وأذنت العصر، فدخل إلى الستر حيث يقف المؤذن للسلام، ثم رفع صوته وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله، فبكى حتى جرت دموعه وبكى كل من حضر، ثم قال: أدخلوه إلي، وأقبل على الحاضرين وقال: سمعتم هكذا قط؟ هذا الشيطان لا يترك أحداً يغضب عليه! ورضي عنه وغناه، وأعاده إلى مرتبته.
يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في بعض أسفاره لرباح ابن المعترف: إن، فغناه: من الطويل:
أَتعْرِفُ رَسْماً كاطّرادِ المذاهبِ ... لعَمْرَةَ قَفْراً غير موقِف راكبِ
فأصغى إليه عمر فقال: أجدت بارك الله عليك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو قلت: زه كان أعجب إلي؛ قال: وما زه؟ قال: كلمة كان كسرى إذا قالها أعطى من قالها أربعة آلاف درهم. قال: إن شئت أن أقولها لك فعلت، فأما إعطاء أربعة آلاف درهم فلا يجوز لي من مال المسلمين، قال: فبعضها من مالك، فأعطاه أربعمائة درهم، فقال يرفأ: أتصل المغني؟ قال: خدعني.
قيل لإسحاق الموصلي: كيف كانت حال بني مروان في اللهو؟ قال: أما معاوية وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان فكانت بينهم وبين الندماء والمغنين ستارة لئلا يظهر منهم طلب الخلفاء اللذة والغناء، وأما أعقابهم فكانوا لا يتحاشون، ولم يكن منهم في مثل حال يزيد بن عبد الملك في السحف.

قيل: فعمر بن عبد العزيز؟ قال: ما أظن أنه سمع حرفاً قط من الأغاني بعدما أفضت إليه الخلافة، وقبلها كان يسمع جواريه خاصة. قيل: فيزيد الناقص؟ قال: ما بلغني أنه سمع الغناء قط؛ كان يظهر التاله، وهو يقول بالقدر.
عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: يجيء قوم من بعدي يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح لا يجاوز حناجرهم. مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم.
وسئل الفضيل رحمه الله عن قراءة القرآن بألحان، فقال: إنما أخذ هذا من الغناء قوم اشتهوا الغناء فاستحبوا فحولوا نصب الغناء على القرآن، وعسى أن يقرأ رجل ليس له صوت فلا يعجبهم وهو خير من صاحب الصوت؛ ويقرأ الآخر فيعجبهم صوته فيقولون: ما أحسن قرآنه! ولعله لا يجاوز قرآنه حنجرته.
وقال رجل للحسن: ما تقول في الغناء؟ فقال: نعم الشيء الغنى! توصل به الرحم، وينفس به عن المكروب، ويفعل فيه المعروف، قال: إنما أعني الشدو، قال: وما الشدو؟ أتعرف منه شيئاً؟ قال: نعم، قال: فما هو؟ فاندفع الرجل يغني ويلوي شدقيه ومنخريه ويكسر عينيه، فقال: ما كنت أرى أن عاقلاً يبلغ من نفسه ما أرى.
وقال نافع: سمع ابن عمر مزماراً فوضع اصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال: يا نافع، هل تسمع شيئاً؟ فقال: لا، فرفع اصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا.
قال الأصمعي: قلت لأعرابي: ألك شعر؟ قال: قلت أبياتاً، فتغنى بها حكم الوادي فما حرك بها قصابةً إلا خفت النار، فأبغضت قول الشعر.
أ قال عبد الرحمن بن عوف: أتيت باب عمر رضي الله عنه فسمعته يغني بالركبانية: من الطويل:
فكيف ثوائي بالمدينةِ بَعْدَما ... قَضى وَطَراً منها جميلُ بن مَعْمَرٍ
هو جميل الجمحي وكان مختصاً به. فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ما قلت؟ قلت: نعم، قال: إنا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم.
وعن عبد الله بن عوف: قال أفلاطن: من حزن فليسمع الأصوات الحسنة؛ فإن النفس إذا حزنت خمد نورها، وإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمد.
وما زالت ملوك فارس تلهي المحزون بالسماع، وتعلل به المريض، وتشغله عن التفكير.
قال سلام الخالدي رحمه الله للمنصور وكان يضرب بحدائه المثل: مر يا أمير المؤمنين أن يظمئوا الإبل ثم يوردوها الماء، فإني آخذ في الحداء فترفع رؤوسها وتترك الشرب حتى أسكت.
وأذن البعلبكي مؤذن المنصور فرجع وجارية تصب الماء على يديه، فارتعدت حتى وقع الإبريق من يدها، فقال للمؤذن: خذ هذه الجارية فهي لك، ولا ترجع هذا الترجيع.
روي أن بعض المحدثين سمع غناء بخراسان، فلم يدر ما هو، غير أنه شوقه وأشجاه بحسنه فقال في ذلك: من الوافر:
حَمِدْتُك ليلةً شرُفَتْ وطابَتْ ... أَقامَ سُهادُها ومضى كَراها
سمعتُ بها غِناءُ كان أَوْلى ... بأَن يعتادَ نَفْسي من عَناها
ومُسْمِعَةٍ يحارُ السمعُ فيها ... ولم تصممه، لا يُصمم صَداها
ولم أَفهم معانيها ولكن ... وَرَتْ كبدي فلم أَجْهَلْ شَجاها
فكنتُ كأَننَّي أَعمى مُعَنَّى ... بحُبِّ الغانياتِ ولا يراها
قال أبو عثمان الناجم: بحوحة الحلق الطيب تشبه مرض الأجفان الفاترة.
وقال مالك بن أبي السمح: سألت ابن سريج عن قول الناس: فلان يصيب وفلان يخطئ وفلان يحسن وفلان يسيء، فقال المصيب المحسن من المغنين هو الذي يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدل الأوزان، ويفخم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسن مقاطع النغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواضع النبرات، ويستوفي ما يشاكلها من النقرات. فعرضت ما قال على معبد فقال: لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا.
وقال إبراهيم الموصلي: الغناء على ثلاثة أضرب: فضرب مله مطرب يحرك ويسخف وضرب ثان له شجىً ورقة، وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة، وقال: كان هذا كله مجموعاً في غناء ابن سريج.
قال عكاشة العمي: من الكامل:
من كفِّ جاريةٍ كأَنَّ بنانَها ... من فِضَّةٍ قد طرِّفَتْ عُنَّابا

وكأَنَّ يُمناها إِذا نطقت بها ... تُلْقي على يَدِها اليسارِ حِسابا
وقال ابن الرومي وذكر مغنيات: من الخفيف:
وقِيانٍ كأَنَّها أُمَّهاتٌ ... عاطفات على بنيها حواني
مُطْفِلات وما حَمَلْنَ جنيناً ... مرضعات ولسن ذات لبانِ
كلُّ طفل يدعى بأَسماء شَتَّى ... بين عودٍ ومزر وكِرانِ
أُمُّه دَهْرَها تُتَرْجم عنه ... وهو بادي الغِنى عن التَّرْجُمانِ
وقال أيضاً: من السريع:
كأنَّما رقَّةُ مسموعِها ... رِقَّةُ شكوى سبقت دَمْعَه
وقال: من السريع:
غَنَّيْتَ فلم تَحْتَجْ إلى زامرٍ ... هَلْ تُحْوَجُ الشمسُ إِلى شَمْعَهْ
كأَنَّما غَنَّتْ لشَمْسِ الضُّحى ... فأَلبَسَتْها حُسْنَها خِلْعَهْ
وقال ابن كشاجم: من الكامل المجزوء:
تَأْتي أَغاني عاتبٍ ... أَبداً بأَفراحِ النُّفوسِ
تشدو فنرقص بالرؤو ... سِ لها ونزمر بالكؤوس
وقال أيضاً: من المتقارب:
لقد جاد من عاتبٍ ضَرْبُها ... وزاد كما زاد تغريدُها
إِذا نَوَتِ الصوتَ قبل الغنا ... ءِ أَنْشَدَنا شِعْرَها عودُها
وقال أيضاً: من المنسرح:
ما صَدَحَتْ عاتبٌ ومزْهَرُها ... إِلا وَثِقْنا باللَّهْوِ والفَرَحِ
لها غناءٌ كالبُرْءِ في جَسَدٍ ... أَضناهُ طولُ السَّقامِ والتَّرَحِ
تعيدها الراح فهي ما صَدَحَتْ ... إِبريقُنا ساجدٌ على القَدَحِ
وقال: من الخفيف:
ما تغَّنت إِلا تكشَّفَ همٌّ ... عن فُؤادٍ مبرَّحٍ أحزانُ
تَفْضُلُ المُسْمِعين طيباً وحُسْناً ... مِثْلَما يَفْضُلُ السماعَ العِيانُ
وقال: من الكامل المجزوء:
شَدْوٌ أَلذُّ من ابتدا ... ءِ العينِ في إِغْفائِها
أَحْلى وأَشْهى من مُنى ... نَفْسٍ وصدْقِ رَجائِها
وقال ابن المعتز يصف مجلساً وذكر الغناء في الجملة: من الخفيف:
وندامايَ في شبابٍ وعَيْشٍ ... أَتْلَفَتْ وَفْرَهُم نفوسٌ كرامُ
بين أَقداحِهِم حديثٌ قَصيرٌ ... هو سِحْرٌ وما سواه كلامُ
وغِناءٌ يستعجلُ الراحَ بالرا ... حِ كما ناحَ في الغُصونِ الحَمامُ
وكأَنَّ السُّقاةَ بين الندامى ... أَلِفاتٌ على سطورٍ قيامُ
وكتب يحيى بن علي إلى ابن المعتز: من الخفيف:
سيِّدي إِنَّ عنْدَنا زِرْيابا ... ملأَتْنا رِوايةً وصوابا
أَخْلقَتْ سنّها، وإِحسانها في السْ ... مَعِ يزدادُ جدَّةً وشَبابا
وقال أبو الجهم الكاتب في بنات جارية محمد بن حماد: من الراجز:
أَقْفَرَ إِلا من بناتٍ منزلُهْ ... ودَرَسَتْ آياتُه وطَلَلُهْ
قد بان منها كلُّ شيءٍ حَسَن ... إِلا الغِناءَ نَصْبُه ورَمَلُهْ
وقال آخر في مغن: من الوافر:
فوجْهُكَ نُزْهةُ الأَبصارِ حُسْناً ... وصَوْتُك مُتْعَةُ الأَسماعِ طيبا
رنا ظَبْياً وغَنّى عَنْدَليباً ... ولاحَ شقائقاً ومشى قضيبا
أ قال علي بن عبد الكريم: زار إسماعيل بن جامع إبراهيم الموصلي، فأخرج إليه ثلاثين جارية فضربن جميعاً طريقةً واحدةً وغنين، فقال ابن جامع: في الأوتار وتر غير مستو، فقال إبراهيم: يا فلانة، شدي مثناك، فشدته فاستوى. فعجبت أولاً من فطنة ابن جامع لوتر في مائة وعشرين وتراً غير مستو، ثم ازداد عجبي من فطنة إبراهيم له بعينه.

وحكي مثل ذلك عن إسحاق بن إبراهيم: قال إسحاق: دعاني المأمون وعنده إبراهيم بن المهدي، وفي مجلسه عشرون جاريةً قد أجلس عشراً عن يمينه وعشراً عن يساره، ومعهن العيدان يضربن بها: فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته، فقال المأمون: يا إسحاق، أتسمع خطأ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ فقال لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ قال: لا، فأعاد علي السؤال فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وإنه لفي الجانب الأيسر، فأعار إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما في هذه الناحية خطأ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، مر الجواري اللواتي عن اليمين يمسكن فأمرهن فأمسكن؛ فقلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فتسمع ثم قال: ما ههنا خطأ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، يمسكن وتضرب الثامنة، فأمسكن وضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ههنا خطأ. فقال عند ذلك يا إبراهيم، لا تمار إسحاق بعدها؛ فإن رجلاً فهم الخطأ من ثمانين وتراً وعشرين حلقاً لجدير أن لا تماريه. قال: صدقت يا أمير المؤمنين، وقال المأمون: لله درك يا أبا محمد. وكناني في ذلك اليوم دفعتين.
أ وكانت لإسحاق نظائر لهذا تنبئ عن حذقه وعلمه بهذا الشأن وتبريزه على غيره. حدث إسحاق بن إبراهيم الظاهري قال: حدثتني مخارق مولاتنا قالت: كان لمولاي الذي علمني الغناء فراش رومي، وكان يغني بالرومية صوتاً مليح اللحن، فقال لي مولاي: يا مخارق، خذي هذا اللحن الرومي فانقليه إلى شعر صوت من أصواتك العربية حتى أمتحن بن الموصلي إسحاق فأعلم أين تقع معرفته، ففعلت ذاك.
وصار إليه إسحاق فاحتسبه مولاي فأقام، وبعث إلي أن أدخلي اللحن الرومي في وسط غنائك؛ فغنيته إياه في درج أصوات مرت قبله، فأصغى إليه إسحاق وجعل يتفهمه ويقسمه ويتفقد أوزانه ومقاطعه ويوقع بيده، ثم أقبل على مولاي وقال: هذا الصوت رومي اللحن، فمن أين وقع لك؟ وكان مولاي بعد ذلك يقول: ما رأيت شيئاً أعجب من استخراجه لحناً رومياً لا يعرفه ولا العلة فيه وقد نقل إلى غناء عربي وامتزجت نغمته حتى عرفه ولم يخف عليه.
وروي أن المغنين تناظروا يوماً عند الواثق فذكروا الضراب وحذقهم، فقدم إسحاق زلزلاً على ملاحظ، ولملاحظ في ذلك الرئاسة على جميعهم. فقال له الواثق: هذا حيف وتعد منك. فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، اجمع بينهما وامتحنهما، فإن الأمر سينكشف لك فيهما. فأمر بهما فأحضرا، فقال إسحاق: إن للضراب أصواتاً معروفةً فأمتحنهما بشيء منه؟ قال: أجل افعل، فسمى ثلاثة أصوات كان أولها، والشعر والغناء لإبراهيم: من السريع:
عُلِّقَ قلبي ظَبْيَةَ السَّيب ... جَهْلاً فقد أُغري بتعذيبي
نَمَّتْ عليها حين مرَّت بنا ... مجاسِدٌ يَنْفَحْنَ بالطّيبِ
تصدُّها عنَّا عجوزٌ لها ... مُنكَرةٌ ذاتُ أَعاجيبِ
فكلَّما همَّتْ بإِتيانِنا ... قالت تَوَقَّي عَدْوَةَ الذيبِ

فضربنا عليه فتقدم زلزل وقصر ملاحظ. فعجب الواثق من كشفه عما ادعاه في مجلس واحد، فقال له ملاحظ: فما باله يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس، ولم لا يضرب هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لم يكن في زماني أحد أضرب مني، إلا أنكم أعفيتموني، فتفلت مني، وعلى أن معي بقية لا يتعلق بها أحد من هذه الطبقة، ثم قال: يا ملاحظ، شوش عودك وهاته، ففعل ذلك ملاحظ. فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، هذا يخلط الأوتار خلط متعنت، فهو لا يألوا ما أفسدها. ثم أخذ العود فجسه ساعةً حتى عرف مواقعه، وقال لملاحظ: عن أي صوت شئت. فغنى ملاحظ صوتاً وضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية، فلم يخرجه عن لحنه في موضع واحد حتى استوفاه عن نقرة واحدة، ويده تصعد وتنحدر على الدساتين. فقال له الواثق: لا والله، ما رأيت مثلك ولا سمعت به قط! اطرح هذا على الجواري، فقال: هيهات يا أمير المؤمنين! هذا شئ لا يفي به الجواري ولا يصلح لهن، إنما بلغني أن الفلهيذ ضرب يوماً بين يدي كسرى أبرويز، فأحسن فحسده رجل من حذاق أهل صناعته، فترقبه حتى قام لبعض شأنه، ثم خالفه إلى عوده فشوش بعض أوتاره، فرجع وضرب وهو لا يدري، والملوك لا تصلح العيدان في مجالسها، فلم يزل يضرب بذلك العود إلى أن فرغ، ثم قام على رجليه فأخبر الملك بالقصة فامتحن العود فعرف ما فيه، فقال له: زه وزهان زه ووصله بالصلة التي كان يصل بها من يخاطبه بهذه المخاطبة، فلما تواطأت الروايات بذلك، أخذت به نفسي ورضتها عليه وقلت: لا ينبغي أن يكون الفلهيذ أقوى على هذا مني، فما زلت أستنبطه بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأوتار موضع على طبقة من الطباق إلا وأنا أعرف نغمته كيف هي والمواضع التي تخرج النغمة كلها من أعاليها إلى أسافلها، وكل شيء منها يجانس شيئاً غيره، كما أعرف ذلك في مواضع الدساتين، وهذا شيء لا يفي به الجواري. فقال له الواثق: لعمري لقد صدقت، ولئن مت لتموتن هذه الصناعة معك. وأمر له بثلاثين ألف درهم.
قال أحمد بن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غناني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي، ولا سمعته يغني غناء ابن سريج قط إلا ظننت أنه قد نشر؛ وإنه ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضراً فيتقدمه عندي وفي نفسي بطيب الصوت، حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو، ورأيت من تقدم ينقص، وإن إسحاق لنعمة من نعم الملك التي لم يحظ أحد بمثلها، ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له بشطر ملكي.
قال دحمان الأشقر: كتب عامل لعبد الملك بن مروان بمكة إليه أن رجلاً أسود يقال له سعيد بن مسجح قد أفسد فتيان قريش وأنفقوا عليه أموالهم، فكتب إليه: أن اقبض ماله وسيره إلي. فتوجه ابن مسجح إلى الشام، فصحبه رجل له جوار مغنيات في طريقه، فقال له: أين تريد؟ فأخبره خبره وقال له: أريد الشام، قال له: فتكون معي؟ قال: نعم. فصحبه ثم بلغا دمشق فدخلا مسجدها فسألا: من أخص الناس بأمير المؤمنين؟ فقالوا: هؤلاء النفر من قريش وبنو عمه. فوقف ابن مسجح عليهم، فسلم ثم قال: يا فتيان، هل فيكم من يضيف رجلاً غريباً من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض، وكان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها: برق الأفق. فتثاقلوا به إلا فتىً منهم تذمم فقال له: أنا أضيفك؛ فقال لأصحابه: انطلقوا أنتم، وأنا أذهب مع ضيفي. فقالوا: لا، بل تجيء معنا أنت وضيقك. فذهبوا جميعاً إلى بيت القينة. فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد: إني رجل أسود، ولعل فيكم من يقذرني، فأنا أجلس وآكل ناحيةً، وقام، فاستحيوا منه، وبعثوا إليه بما أكل. فلما صاروا إلى الشراب قال لهم مثل ذلك، ففعلوا به، وأخرجوا جاريتين فجلستا على سرير قد وضع لهما تغنيان، فغنتا إلى العشاء، ثم دخلتا، وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة وهما معها، فجلستا أسفل السرير وجلست هي على السرير، قال ابن مسجح: فتمثلت بهذا البيت: من الطويل:
فقُلْتُ أَشَمْسٌ أَم مصابيحُ بِيعةٍ ... بَدَتْ لك خَلْفَ السَّجْفِ أَم أَنْتَ حالمُ

فغضبت الجارية وقالت: أيضرب مثل هذا الأسود بي الأمثال! فنظروا إلي نظراً منكراً، ولم يزالوا يسكنونها، ثم غنت صوتاً. قال ابن مسجح: فقلت أحسنت والله! فغضب مولاها وقال: أمثل هذا الأسود يقدم على جاريتي! فقال لي الرجل الذي أنزلني عنده: قم فانصرف إلى منزلي، فقد ثقلت على القوم، فذهبت أقوم، فتذمم القوم وقالوا لي: أقم وأحسن أدبك. فأقمت، وغنت فقلت: أخطأت والله يا جارية يا زانية وأسأت، واندفعت فغنيت الصوت، فوثبت الجارية وقالت لمولاها: هذا أبو عثمان سعيد بن مسجح؛ فقلت: أي والله أنا هو، والله لا أقيم عندكم! ووثبت، فوثب القرشيون، فكل قال: هذا يكون عندي، فقلت: والله لا أقيم إلا عند سيدكم - يعني الرجل الذي أنزله منهم - وسألوه عما أقدمه، فأخبرهم الخبر. فقال له صاحبه: إني أسمر الليلة مع أمير المؤمنين، فهل تحسن أن تحدو؟ فقال: لا، ولكني أستعمل حداء. قال: فإن منزلي بحذاء منزل أمير المؤمنين، فإذا وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك. ومضى إلى عبد الملك، فلما رآه طيب النفس أرسل إلى ابن مسجح، فأخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا: من الرجز:
إنك يا عبد الملِك المُفْضل ... إِن زُلْزِلَ الأَقدامُ لم تُزلْزَلِ
عن دينِ موسى والكتاب المنزل ... تُقيمُ أَصداغَ القُرونِ المُيَّلِ
للحقْ حتى يَنْتَحوا للأَعدَلِ
قال عبد الملك للقرشي: من هذا؟ قال: رجل حجازي قدم علي، قال: أحضره، فأحضره ثم قال له: أحد مجداً، ثم قال له: هل تغني غناء الركبان؟ قال: نعم؛ قال: غنه، فتغني، قال له: فهل تغني الغناء المتقن؟ قال: نعم، قال: غنه فغنى، فاهتز عبد الملك طرباً، ثم قال له: أقسم أن لك في القوم أسماء كثيرة، من أنت، ويلك!؟ قال: أنا المظلوم المقبوض ماله المسير عن وطنه سعيد بن مسجح، قبض عامل الحجاز مالي ونفاني. فتبسم عبد الملك ثم قال: قد وضح عذر فتيان قريش في أن ينفقوا عليك أموالهم، وأمنه ووصله، فكتب إلى عامله يردد ماله وأن لا يعرض له بسوء.
روي أن سليمان بن عبد الملك كان في بادية له يسمر ليلةً على ظهر سطح، ثم تفرق عنه جلساؤه، فدعا بوضوء فجاءته جارية له به، فبينا هي تصب على يده إذ أومى بيده وأشار بها مرتين أو ثلاثاً فلم تصب عليه، فأنكر ذلك فرفع رأسه فإذا هي مصغية بسمعها إلى ناحية العسكر، وإذا صوت رجل يغني، فأنصت حتى تسمع جميع ما يغني به، فلما أصبح أذن للناس ثم أجرى ذكر الغناء حتى ظن القوم أنه يشتهيه ويريده، فأفاضوا فيه بالتسهيل وذكر من كان يسمعه. فقال رجل من القوم: عندي يا أمير المؤمنين رجلان من أهل أيلة مجيدان محكمان، قال: وأين منزلك؟ فأومأ إلى الناحية التي كان منها الغناء قال: فابعث إليهما فجئني بهما. ففعل. فوجد الرسول أحدهما فأدخله على سليمان، فقال له: ما اسمك؟ قال: شمير، فسأله عن الغناء، فاعترف به. فقال له: متى عهدك به؟ قال: الليلة الماضية، قال: وأين كنت؟ فأشار إلى الناحية التي سمع سليمان منها الغناء. قال: فما غنيت به؟ فأخبره بالشعر الذي سمعه منه سليمان. فأقبل على القوم فقال: هدر الجمل فضبعت الناقة، ونب التيس فشكرت الشاة، وهدر الطائر فزافت الحمامة، وغنى الرجل فطربت المرأة، ثم أمر به فخصي.
وسأل عن الغناء، وأين أصله؟ فقيل: بالمدينة في المخنثين، وهم أئمته والحذاق به، فكتب إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم، وكان عامله عليها: أن أخص من قبلك من المغنين المخنثين ، فخصى تسعةً، منهم: الدلال، وطريفة، وحبيب، ونومة الضحى.
وقد روي في خبر سليمان غير هذا، وأنه شك في الجارية لما ألهاها الغناء، وكانت إلى جنبه، وظن أن بينها وبين المغني شيئاً، وكان سليمان شديد الغيرة، فكشف عن أمرهما فلم يكن بينهما سبب ولا معرفة، فلم تطب نفسه أن يتركه سوياً فخصاه.
والشعر الذي غنى فيه: من البسيط:
محجوبةٌ سمعت صوتي فأَرَّقها ... مِن آخرِ الليلِ لمّا طلَّها السَّحَرُ
تثني على جيدِها ثنني مُعَصْفَرَةً ... والحلْيُ منها على لَبّاتِها خَصِر
في ليلةِ النصفِ ما يدري مُضاجعُها ... أَوَجْهُها عنده أَبْهى أَم القمرُ؟
لو خُلِّيَتْ لمشَتْ نحوي على قَدَمٍ ... يكادُ من رِقَّةٍ للمَشْيِ ينفطرُ

قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: لم يكن الناس يعلمون الجارية الحسناء الغناء، وإنما كانوا يعلمونه الصفر والسود، وأول من علم الجواري المثمنات الغناء أبي؛ فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ ورفع من أقدارهن. وفيه يقول أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة المهلبي، وكان يهوى جاريةً يقال لها أمان فأغلى بها مولاها السوم وجعل يرددها إلى إبراهيم وإسحاق ابنه، فتأخذ عنهما، وكلما زادت في الغناء زاد سومه؛ فقال أبو عيينة: من الخفيف:
قلتُ لمّا رأَيْتُ مولى أَمانٍ ... قد طغى سَوْمُه بها طغيانا
لا جزى الله الموصليَّ أَبا إِس ... حاقَ عنّا لا خَيْراً ولا إحسانا
جاءَنا مُرْسَلاً بوحي من الشي ... طانِ أَغلى به علينا القِيانا
من غناءٍ كأَنَّه سَكَراتِ ال ... حبِّ يُصبي القلوب والآذانا
قال إبراهيم بن المهدي: انصرفت ليلةً من الشماسية، فمررت بدار إبراهيم الموصلي، وإذا هو في روشن له، وقد صنع لحنه في قوله: من الطويل:
أَلا رُبَّ نَدْمانٍ عليَّ دُموعُه ... تَفيضُ على الخدَّيْنِ سحّاً سُجومُها
فهو يعيده ويلعب به بنغمته ويكرره ليستوي له، وجواريه يضربن عليه؛ فوقفت تحت الروشن حتى أخذته وانصرفت إلى منزلي، فما زلت أعيده حتى بلغت فيه الغاية، وأصبحت فغدوت إلى الشماسية واجتمعنا عند الرشيد، فاندفع إبراهيم فغناه أول شيء غنى، فلما سمعه الرشيد طرب واستحسنه وشرب عليه، ثم قال: لمن هذا يا إبراهيم؟ فقال: لي يا سيدي صنعته البارحة؛ فقلت: كذب يا أمير المؤمنين، هذا الصوت قديم وأنا أغنيه، فقال لي: غنه يا حبيبي، فغنيته كما غناه، فبهت إبراهيم وغضب الرشيد وقال له: يا ابن الفاجرة، أتكذبني وتدعي ما ليس لك!؟ قال: فظل إبراهيم بأسوإ حال؛ فلما صليت العصر قلت للرشيد: الصوت - وحياتك - له، وما كذب؛ ولكني مررت به البارحة، وسمعته يكرره ويردده على جارية له، ووقفت حتى دار لي واستوى فأخذته منه، فدعا به الرشيد ورضي عنه وأمر له بخمسة آلاف دينار.
وروي أن الرشيد قال يوماً لجعفر بن يحيى: قد طال سماعنا لهذه العصابة على اختلاط الأمر فيها، فهلم أقاسمك إياها وأخايرك، فاقتسما المغنين على أن جعلا بإزاء كل رجل نظيره، وكان إسماعيل بن جامع في حيز الرشيد، وإبراهيم الموصلي في حيز جعفر، وحضر الندماء لمحنة المغنين. وأمر الرشيد ابن جامع بالغناء، فغنى صوتاً أحسن فيه كل الإحسان، وأطرب الرشيد كل الإطراب. فلما قطعه قال الرشيد لإبراهيم: هات يا إبراهيم هذا الصوت فغنه، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ما أعرفه! وظهر الانكسار فيه. فقال الرشيد لجعفر: هذا واحد. ثم قال لابن جامع: غن إن يا إسماعيل، فغنى صوتاً ثانياً أحسن من الأول وأرضى في كل حال. فلما استوفاه قال الرشيد لإبراهيم: هاته يا إبراهيم قال: ولا أعرف هذا. قال: هذان اثنان، غَنِّ يا إسماعيل، فغنى ثالثاً يتقدم الصوتين الأولين ويفضلهما، فلما أتى على آخره قال: هاته يا إبراهيم، قال: لا، ولا أعرف هذا أيضاً. فقال له جعفر: أخزيتنا أخزاك الله! قال: وأتم ابن جامع يومه والرشيد مسرور به، وأجازه الجوائز الكثيرة وخلع عليه خلعاً فاخرةً. ولم يزل إبراهيم منخزلاً منكسراً حتى انصرف، فمضى إلى منزله، فلم يستقر فيه حتى بعث إلى محمد المعروف بالزف، وكان محمد من المغنين المحسنين، وكان أسرع من عرف في أيامه بأخذ الصوت يريد أخذه، وكان الرشيد وجد عليه في بعض ما يجده الملوك على أمثاله، فألزمه بيته وتناساه. فقال إبراهيم للزف: إني اخترتك عمن هو أحب إلي منك لأمر لا يصلح له غيرك، فانظر كيف تكون. قال: أبلغ في ذلك محبتك إن شاء الله. فأدى إليه الخبر وقال: أريد أن تمضي من ساعتك إلى ابن جامع فتعلمه أنك صرت إليه مهنئاً بما تهيأ له علي، وتنقصني وتثلبني وتشتمني وتحتال في أن تسمع منه الأصوات وتأخذها ولك كل ما تحبه من جهتي من عرض من الأعراض مع رضاء الخليفة إن شاء الله.

قال: فمضى من عنده فاستأذن علي ابن جامع فأذن له، فدخل عليه وقال: جئتك مهنئاً بما بلغني من خبرك، والحمد لله الذي أخزى ابن مفاضة على يدك، وكشف الفضل في محلك من صناعتك. قال: وهل بلغك خبرنا؟ قال: هو أشهر من أن يخفى على مثلي، قال: ويحك! إنه يقصر عن العيان، قال: أيها الأستاذ، سرني بأن أسمعه من فيك حتى أرويه عنك وأسقط بيني وبينك الأسانيد. قال: أقم عندي حتى أفعل، فقال: السمع والطاعة. فدعا ابن جامع بالطعام فأكلا، ثم دعا بالشراب، ثم ابتدأ وحدثه بالخبر حتى انتهى إلى خبر الصوت الأول، فقال له الزف: وما هو أيها الأستاذ؟ فغناه ابن جامع إياه، فجعل محمد يصفق وينعر ويشرب وابن جامع مجتهد في شأنه حتى أخذه. ثم سأله عن الصوت الثاني فغناه إياه، وفعل مثل فعله في الصوت الأول، وكذلك في الصوت الثالث. فلما أخذ الأصوات وأحكمها قال له: يا أستاذ، قد بلغت ما أحب، فأذن لي في الانصراف، قال: إذا شئت. فانصرف محمد من وجهه إلى إبراهيم، فلما طلع من باب داره قال له: ما وراءك؟ قال: كل ما تحب، ادع لي بعود. فدعا له به فضرب وغناه الأصوات، فقال إبراهيم: هي وأبيك! هي بصورها وأعيانها، رددها علي، فلم يزل يرددها حتى صحت لإبراهيم.
وغدا إبراهيم على كبر سنه، فلما دعي بالمغنين دخل فيهم. فلما بصر به قال له: أو قد حضرت! أو ما كان ينبغي لك أن تجلس في منزلك شهراً بسبب ما لقيت من ابن جامع؟ قال: ولم ذاك يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك؟ والله إن أذنت لي أن أقول لأقولن. فقال: وما عساك أن تقول؟ فقال له: ليس لي ولا لغيري أن يراك نشيطاً لشيء فيعارضك فيه، ولا أن تكون متعصباً لحيز وجنبة فيغالبك، وإلا فما في الأرض صوت لا أعرفه. قال: دع ذا عنك، قد أقررت أمس بالجهالة بما سمعت من صاحبها فإن كنت أمسكت بالأمس عنه على معرفة كما تقول، فهاته فليس ههنا عصبية ولا تمييز. فاندفع فأمر الأصوات كلها، وابن جامع مصغ يستمع منه حتى أتى على آخرها. فاندفع ابن جامع فحلف بالأيمان المحرجة أنه ما عرفها قط ولا سمعها، وما هي إلا من صنعته، لم تخرج إلى أحد غيره. فقال له: ويحك، فما أحدثت بعدي؟ فقال: ما أحدثت حدثاً، فقال: يا إبراهيم، بحياتي اصدقني، قال: وحياتك لأصدقنك؛ رميته بحجره، وبعثت إليه بمحمد الزف وضمنت له ضمانات أحدها رضاك عنه، فمضى فاحتال لي عليه حتى أخذها عنه ونقلها إلي، وقد سقط عني الآن اللوم بإقراره لأنه ليس علي أن أعرف ما صنعه هو ولم يخرجه إلى الناس، وهذا باب من الغيب ولو لزمني أن أروي صنعته للزمه أن يروي صنعتي، ولزم كل واحد منا لسائر طبقته ونظرائه مثل ذلك، فمن قصر عنه كان مذموماً ساقطاً. فقال الرشيد له: صدقت يا إبراهيم ونصحت عن نفسك وقمت بحجتك. ثم أقبل على ابن جامع فقال له: يا إسماعيل، أتيت أتيت! دهيت دهيت! أبطل عليك الموصلي ما فعلته بالأمس وانتصف منك، ثم دعا بالزف ورضي عنه.
روي أن الرشيد هب ليلةً من نومه، فدعا بحمار كان يركبه في القصر أسود قريب من الأرض، فركبه وخرج في دراعة وشي متلثماً بعمامة وشي ملتحفاً بإزار وشي، وبين يديه أربعمائة خادم أبيض سوى الفراشين. وكان مسرور الفرغاني جريئاً عليه لمكانه عنده، فلما خرج من باب القصر قال: أين تريد يا أمير المؤمنين في هذه الساعة؟ قال: منزل الموصلي. قال مسرور: فمضى ونحن معه حتى انتهى إلى منزل إبراهيم، فخرج فتلقاه وقبل حافر حماره وقال له: يا أمير المؤمنين في مثل هذه الساعة تظهر! قال: نعم، شوق طرق لك بي، ثم نزل فجلس في طرف الإيوان وأجلس إبراهيم، فقال له إبراهيم: يا سيدي، أتنشط لشيء تأكله؟ قال: نعم، خاميز ظبي، فأتي به كأنما كان معداً، فأصاب منه شيئاً يسيراً، ثم دعا بشراب حمل معه، فقال له الموصلي: يا سيدي، أغنيك أم تغنيك إماؤك؟ قال: بل الجواري. فخرج جواري إبراهيم فأخذن صدر المجلس وجانبيه، فقال: أيضربن كلهن أم واحدة واحدة؟ قال: بل تضرب اثنتان اثنتان وتغني واحدة. ففعل ذلك حتى مر صدر الإيوان وأحد جانبيه، والرشيد لا ينشط لشيء من غنائهن إلى أن غنت صبية من حاشية الصفة: من البسيط:
يا مُوريَ الزَّنْدِ قد أَعْيَتْ مقادحه ... اقْبِسْ إِذا شِئْتَ من قلبي بمقباسِ
ما أَقْبَحَ الناسَ في عيني وأَسمَجَهُم ... إِذا نَظَرْتُ فلم أُبصِرْكَ في الناسِ

قال: فطرب لغنائها واستعاد الصوت مراراً وشرب أرطالاً، ثم سأل الجارية عن صاحبه فأمسكت، فاستدناها فتقاعست، فأمر بها فأقيمت حتى وقفت بين يديه، فأخبرته بشيء وأسرته إليه، فدعا بحماره فركبه وانصرف، ثم التفت إلى إبراهيم فقال: ما ضرك ألا تكون خليفة! وكادت نفسه تخرج حتى دعا به وأدناه بعد ذلك. قال: وكان الذي أخبرته به أن الصنعة في الصوت لأخته علية بنت المهدي، وكانت الجارية لها وجهت بها إلى إبراهيم يطارحها.
أ وكان إبراهيم ممن حظ في الغناء ونال به درجةً من الغنى علياء، وكسب به ما لم يدركه من تقدمه ولا من تأخر عنه. وكان المهدي قد حبسه وعذبه في الدخول على ابنيه: موسى وهارون، وحلفه لما أطلقه بالطلاق والعتاق أن لا يدخل عليهما أبداً ولا يغنيهما. فلما ولي موسى الهادي الخلافة استتر إبراهيم منه، ولم يظهر له بسبب الأيمان التي أحلفه بها المهدي، فكان منزله يكبس وأهله يروعون بطلبه حتى أصابوه، فمضوا به إلى موسى، فلما رآه قال: يا سيدي، فارقت أم ولدي أعز الخلق علي، ثم غناه: من الخفيف:
يا ابْنَ خيرِ الملوكِ لا تَتْركَنّي ... غَرَضاً للعدوِّ يَرمي حيالي
فلَقَدْ في هواكَ فارَقْتُ أَهلي ... ثمَّ عرَّضْتُ مُهْجتي للزَّوالِ
ولقد عِفْتُ في هواكَ حياتي ... وتغرَّبْتُ بين أَهلي ومالي
فقال إسحاق ابنه: فموله والله الهادي وخوله؛ وبحسبك أنه أخذ منه في يوم واحد مائةً وخمسين ألف دينار، ولو عاش لنا لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة.
ب وقال حماد بن إسحاق بن إبراهيم: قال لي أبي: نظرت إلى ما صار إلى جدك من الأموال والصلات وثمن ما باعه من جواريه فوجدته أربعةً وعشرين ألف ألف درهم سوى أرزاقه الجارية وهي عشرة آلاف درهم في كل شهر، وسوى غلات ضياعه، وسوى الصلات النزرة التي لم يحفظها؛ ولا والله ما رأيت أكمل مروءةً منه، كان له طعام معد في كل وقت. فقلت لأبي: كيف يمكنه ذلك؟ قال: كان له في كل يوم ثلاث شياه: واحدة مقطعة في القدور، فإذا فرغت قطعت الشاة المعلقة ونصبت القدور، وذبحت الحية فعلقت، وأتي بأخرى فجعلت وهي حية في المطبخ، وكانت وظيفته لطعامه وطيبه وما يتخذ له في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجري وسوى كسوته. ولقد اتفق عندنا مرةً من الجواري الودائع لإخوانه ثمانون جاريةً ما منهن واحدة إلا ويجري عليها من الطعام والكسوة والطيب مثل ما يجري لأخص جواريه، فإذا ردت الواحدة منهم إلى مولاها وصلها وكساها. ومات وما في ملكه إلا ثلاثة آلاف دينار وعليه من الدين سبعمائة دينار قضيت منها.
قال داود المكي: كنا في حلقة ابن جريج وهو يحدثنا وعنده جماعة فيهم عبد الله بن المبارك وعدة من العراقيين، إذ مر به ابن تيزن المغني قال حماد: ويقال ابن بيرن وقد ائتزر بمئزر على صدره، وهي إزرة الشطار عندنا، فدعاه ابن جريج فقال: أحب أن تسمعني، قال: إني مستعجل، فألح عليه، فقال: امرأته طالق إن غناك أكثر من ثلاثة أصوات، قال له: ويحك، ما أعجلك إلى اليمين، علي بالصوت الذي غناه ابن سريج في اليوم الثاني من أيام مني على جمرة العقبة فقطع طريق الذاهب والجائي حتى تكسرت المحامل، فغناه: من الكامل المرفل:
عوجي عليَّ فسلِّمي جَبْرُ ... ماذا الوُقوفُ وأَنتمُ سَفْرُ
ما نلتقي إلا ثلاث مِنى ... حتَّى يُفَرِّقَ بيننا النَّفْرُ
الحَوْلُ بعد الحولِ يَتْبَعُهُ ... ما الدَّهْرُ إِلا الحَوْلُ والشَّهْرُ
فقال له ابن جريج: أحسنت والله! ثلاث مرات، ويحك أعده، قال: من الثلاثة، فأعاده فأقام، ومضى وقال: لولا مكان هؤلاء الثقلاء عندك لأطلت معك حتى تقضي وطرك. فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال: لعلكم أنكرتم ما فعلت؟ فقالوا: إنا لننكره عندنا بالعراق ونكرهه، قال: فما تقولون في الرجز؟ يعني الحداء، قالوا: لا بأس به عندنا، قال: فما الفرق بينه وبين الغناء.
روي أن إبراهيم الموصلي غنى الرشيد يوماً في شعر هلال بن الأسعر المازني: من البسيط:
يا رَبْعَ سلمى لقد هيَّجْتَ لي طربا ... زِدْتَ الفؤادَ على عِلاّتِه وَصَبا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19