كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون

قال الربيع: لما حبس المهدي موسى بن جعفر رأى في النوم علياً عليه الصلاة والسلام وهو يقول: يا محمد " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " قال الربيع: فأرسل إلي ليلاً فراعني ذلك، فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية، وكانت أحسن الناس صوتاً. فعرفني خبر الرؤيا وقال: علي بموسى بن جعفر، فجئته به، فعانقه وأجلسه إلى جنبه وقال: يا أبا الحسن إني رأيت أمير المؤمنين قرأ علي كذا، أفتؤمنني أن تخرج علي أو على أحد من ولدي؟ فقال: والله ما ذاك من شأني. قال: صدقت، يا ربيع! أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده إلى أهله إلى المدينة. قال الربيع: فأحكمت أمره ليلاً فما أصبح إلا على الطريق خوف العوائق.
قال أبو الزبير المنذر بن عمرو وكان كاتباً للوليد بن يزيد: أرسل إلي الوليد صبيحة اليوم الذي أتته فيه الخلافة فقال: يا أبا الزبير، ما أتت علي ليلة من هذه الليلة، عرضت لي أمور وحدثت نفسي فيها بأمور، وهذا الرجل قد أولع بي، فاركب بنا نتنفس. فركب وسرت معه، فسار ميلين ووقف على تل، فجعل يشكو هشاماً، إذ نظر إلى رهج قد أقبل، وسمع قعقعة البريد، فقال: أعوذ بالله من شر هشام، وقال: إن هذا البريد قد أقبل بموت وحي أو ملك عاجل؛ فقلت: لا يسؤك الله أيها الأمير، بل يسرك ويبقيك؛ إذ بدا رجلان على البريد مقبلان، أحدهما مولى لآل أبي سفيان بن حرب، فلما قربا أتيا الوليد يعدوان حتى سلما عليه بالخلافة، فوجم، وجعلا يكرران التسليم عليه بالخلافة، فقال: ويحكما ما الخبر؟ أمات هشام؟ قالا: نعم، فقال: مرحباً بكما! ما معكما؟ قالا: كتاب سالم مولاك. فقرأ الكتاب وانصرفنا. وسأل عن عياض بن مسلم كاتبه الذي كان هشام حبسه وضربه، فقالا: لم يزل محبوساً حتى نزل بهشام أمر الله تعالى. فلما صار إلى حال لا ترجى الحياة لمثله معها، أرسل عياض إلى الخزان: احتفظوا بما في أيديكم، فلا يصلن أحد إلى شيء. فأفاق هشام إفاقة، فطلب شيئاً فمنعه، فقال: أرانا كنا خزاناً للوليد؛ وقضى من ساعته. فخرج عياض من السجن ساعة قضى هشام، فختم الأبواب والخزائن؛ وأمر بهشام فأنزل عن فراشه، ومنعهم أن يكفنوه من الخزائن، فكفنه غالب مولى هشام، ولم يجدوا قمقماً حتى استعاروه.
إسماعيل بن يسار: (من البسيط)
وكل كرب وإن طالت بليته ... يوماً تفرج غماه وتنكشف
وقال عبيد بن الحر الجعفي: (من البسيط)
الأمن والخوف أيام مداولة ... بين الأنام وبعد الضيق متسع
وقال مسكين الدارمي: (من البسيط)
لم يجعل الله في قلبي حين ينزل بي ... هم يضيقني ضيقاً ولا حرجا
ما أنزل الله بي أمراً فأكرهه ... إلا سيجعل لي من بعده فرجا
وقال آخر: (من الطويل)
وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها ... بكائنة إلا سيتبعها يسر
فلا تقتلن النفس هماً وحسرة ... فحشو الليالي إن تأملتها غدر
هجا يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري بني زياد في قصة كانت بينهم طويلة، وهرب منهم إلى معاوية بعد أن كان عباد بن زياد قد حبسه بخراسان. فرده معاوية إلى عبيد الله بن زياد، وقال: اشف نفسك منه بما يشد سلطانك ولا تتجاوز إلى نفسه، واعلم أنها عزمة مني. فسقاه عبيد الله نبيذاً حلواً قد خلط بالشبرم حتى سلح، وقرن به هراً وخنزيراً وطاف به في السواق، وجعل يسلح والصبيان يصيحون وراءه؛ ثم أنفذه إلى أخيه عباد بخراسان. وكان ابن مفرغ، حيث هجاهم وتنقل من خوفه منهم، يكتب هجاءهم على أبواب القرى التي ينزلها؛ فأمر الموكلين الذين معه أن يلزموه بحك تلك الكتابة بأظفاره، فكان يفعل ذلك حتى ذهبت أظفاره، فكان يمحو بعظام أصابعه ودمه يسيل؛ ومنعه أن يصلي إلى الكعبة وألزمه الصلاة إلى قبلة النصارى للمشرق، وسلمه الموكلون إلى عباد فحبسه وضيق عليه. فذلك قول ابن مفرغ: (من الطويل)
قرنت بخنزير وهر وكلبة ... زماناً وشان الجلد ضرب مشرب
وجرعتها صهباء في غير لذة ... تصعد في الجثمان ثم تصوب
وأطعمت ما لا إن يحل لآكل ... وصليت شرقاً ببيت مكة مغرب
فلو لحمي إذ هوى لعبت به ... كرام الملوك أو أسود وأذؤب
لهون وجدي أو لزلت بصيرتي ... ولكنما أودت بلحمي أكلب

أعباد ما للؤم عنك محول ... ولا لك أم في قريش ولا أب
وقل لعبيد الله ما لك والد ... بحق ولا يدري امرؤكيف تنسب
فلما طال مقام ابن مفرغ في السجن، استأجر رسولاً إلى دمشق وقال له: إذا كان يوم الجمعة فقف على درج جامع دمشق، ثم اقرأ هذين البيتين بأرفع ما يمكنك من صوت. وكتب له في رقعة وهما: (من البسيط)
أبلغ لديك بني قحطان قاطبة ... عضت بأير أبيها سادة اليمن
أضحى دعي زياد فقع قرقرة ... يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن
ففعل الرسول ما أمره به. فحميت اليمانية وغضبوا له، ودخلوا على معاوية فسألوه فيه، فدافعهم فيه، فقاموا غضاباً، وعرف ذلك في وجوههم، فردهم ووهبه لهم، ووجه رجلاً من بني أسد يقال له حجامبريداً إلى عباد، وكتب له عهداً وأمره أن يبدأ بالحبس فيخرج ابن مفرغ ويطلقه قبل أن يعلم عباد بما قدم له فيغتاله. ففعل ذلك، فلما خرج من الحبس قربت له بغلة من بغال البريد فركبها وقال: (من الطويل)
عدس! ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
وإن الذي نجى من الكرب بعد ما ... تلاحم في درب عليك مضيق
أتاك بحجام فأنجاك فالحقي ... بأرضك لا يحبس عليك طريق
لعمري قد أنجاك من هوة الردى ... إمام وحبل للإمام وثيق
سأشكر ما أوليت من حسن نعمة ... ومثلي لشكر المنعمين حقيق
فلما دخل على معاوية بكى، وقال: ركب مني ما لم يركب من مسلم قط على غير حدث في الإسلام، ولا خلع يد من طاعة ولا جرم، فقال: ألست القائل: (من الوافر)
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف ... وترضى أن يقال أبوك زان
فاشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان
واشهد أنها ولدت زياداً ... وصخر من سمية غير دان
فقال: والذي عظم حقك يا أمير المؤمنين، ما قلته، ولقد بلغني أن عبد الرحمن ابن الحكم قاله ونسبه إلي، قال أفلم تقل: (من الوافر)
شهدت بأن أمك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمر فيه لبس ... على وجل شديد وارتياع
أولست القائل: (من المنسرح)
إن زياداً ونافعاً وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب
إن رجالاً ثلاثة خلقوا ... في رحم أنثى وكلهم لأب
ذا قرشي كما يقول وذا ... مولى وهذا بزعمهعربي
في أشعار كثيرة قلتها في زياد وبنيه؟ اذهب فقد عفوت عن جرمك، ولو إيانا تعامل لم يكن شيء مما كان، فاسكن أي ارض أحببت. فاختار الموصل فنزلها.

قال مسلم بن الوليد: كنت يوماً جالساً في دكان خياط بإزاء منزلي إذ رأيت طارقاً بابي، فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل الكوفة قد قدم من قم، فسررت به، وكأن إنساناً لطم وجهي لأنه لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه. فقمت فسلمت عليه وأدخلته منزلي، وأخذت خفين كانا لي أتجمل بهما، فدفعتهما إلى جاريتي، وكتبت معها إلى بعض معارفي في السوق أسأله أن يبيع الخفين ويشتري لحماً وخبزاً بشيء سميته. فمضت الجارية وعادت إلي وقد اشترت ما حددته لهاوقد باع الخف بتسعة دراهم، وكانت كأنهاجاءتني بخفين جديدين. فقعدت أنا وضيفي نطبخ وسألت جاراً أن يسقينا قارورة نبيذ، فوجه بها إلي، وأمرت الجارية أن تغلق الباب. فإنا لجالسان نطبخ حتى طرق الباب طارق، فقلت للجارية: انظري من هذا. فنظرت من شق الباب، فإذا رجل عليه سواد وشاشية ومنطقة ومعه شاكري؛ فخبرتني بموضعه فأنكرت أمري، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: لست بصاحب دعارة ولا للسلطان علي سبيل. ففتحت الباب وخرجت إليه، فنزل عن دابته وقال: أنت مسلم؟ فقلت: نعم. قال: كيف لي بمعرفتك؟ قلت: الذي دلك إلى منزلي يصحح لك معرفتي، فقال لغلامه: امض إلى الخياط فاسأله عنه. فمضى إليه فسأله عني فقال: نعم هو مسلم بن الوليد. فأخرج لي كتاباً من خفه وقال: هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إلي أمرني ألا أفضه إلا عند لقائك. فإذا فيه: إذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع إليه هذه العشرة آلاف درهم التي أنفذتها تكون له في منزله، وادفع إليه ثلاثة آلاف درهم نفقة ليتحمل بها إلينا. فأخذت الثلاثة آلاف والعشرة آلاف ودخلت منزلي، والرجل معي. فأكلنا ذلك الطعام، وازددت منه ومن الشراب، واشتريت فاكهة واتسعت ووهبت لضيفي من الدراهم ما يهدي به هدية لعياله. وأخذت في الجهاز، ثم ما زلت معه حتى صرنا بالرقة إلى باب يزيد بن مزيد. فدخل الرجل فإذا هو أحد حجابه، فوجده في الحمام، فخرج إلي فجلس معي. ثم خرج الحاجب فأدخلني إليه، فإذا هو على كرسي جالس وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة ومشط يسرح لحيته. فقال لي: يا مسلم، ما الذي أبطأ بك عنا؟ فقلت له: أيها الأمير قلة ذات اليد. فأنشدته قصيدتي التي مدحته بها: (من البسيط)
أجررت حبل خليع في الصبا غزل
فلما صرت إلى قولي: (من البسيط)
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه
قال للجارية: انصرفي فقد حرم مسلم علينا الطيب. فلما فرغت من القصيدة قال لي: يا مسلم، أتدري ما الذي حداني على أن وجهت إليك؟ قلت: لا والله ما أدري. فقال: كنت عند الرشيد منذ ليال أغمز رجليه إذ قال: يا يزيد من القائل فيك: (من البسيط)
سل الخليفة سيفاً من بني مطر ... يمضي فيخترم الأجسام والهاما
كالدهر لا ينثني عما يهم به ... قد أوسع الناس إنعاماً وإرغاما
فقلت: لا والله ما أدري، فقال الرشيد: يا سبحان الله! إنك مقيم على أعرابيتك، ويقال فيك مثل هذا الشعر ولا تدري من قائله؟ فسألت عن قائله فأخبرت أنك أنت هو؛ فقم حتى أدخلك على أمير المؤمنين. ثم قام فدخل إلى الرشيد، فما علمت حتى خرج علي الآذن، فأدخلت على الرشيد فأنشدته ما لي فيه من الشعر، فأمر لي بمائتي ألف درهم. فلما انصرفت إلى يزيد أمر لي بمائة وتسعين ألفاً وقال لي: لا يجوز لي أن أعطيك مثل ما أعطاك أمير المؤمنين، وأقطعني إقطاعات تبلغ غلتها مائتي درهم.
قال المستعين: كان المنتصر قد جعلني في ناحية أخيه موسى الأحدب، وكان لأبيه وأمه وأحسن إلي. فلما قتل اغتممت ورأيت موسى مسروراً طامعاً في الخلافة، فانصرفت إلى بيتي مغموماً. فطرقني رسول أوتامش، ففزعت لذلك، وودعت أمي وخرجت مع جماعة من الموالي، حتى أدخلت إلى حجرة، وجاءني كاتب أوتامش، فسكن مني وجعل يؤنسني ويخدمني، فأصبحت صائماً، وأخرجوني في عشية ذلك اليوم فبايعوني.

قال الوضاح بن خيثمة: لما ولي عمر بن عبد العزيز أمرني فحبست يزيد بن أبي مسلم، فلما مات عمر ولي يزيد بن أبي مسلم إفريقية ونذر دمي. وكنت أتخبأ منه، فوقعت في يده، فقال: طال والله ما نذرت دمك. فقلت: وأنا والله طال ما استعذت بالله منك، قال: فلا والله ما أعاذك الله مني، والله لو أن ملك الموت سابقني إلى قبض روحك لسبقته. قال: فأمر بي فكتفت ووضعت في النطع، وقام السياف وأقيمت الصلاة للعصر وقام يصلي، فما فرغ من صلاته حتى قطعإرباً إرباً، وحلكتافي، وقالوا: انطلق.
قيل: وكان سبب قتله أن جنده كانوا من البربر، فوسم في يدي كل واحد في إحدى يديه حرسي وفي الأخرى اسم الرجل؛ فأنفوا من ذلك فوثبوا عليه فقتلوه.
قال إسحاق بن إبراهيم المصعبي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ذات ليلة وهو يقول: أطلق القاتل. فارتعت لذاك ودعوت بالشموع ونظرت في الكتب الواردة لأصحاب السجون، فلم أجد كتاباً فيه ذكر قاتل، فأمرت بإحضار السندي وعياش، وسألتهما هل رفع إليهما أحد ادعي عليه القتل؟ فقال لي عياش: نعم، وقد كتبنا بخبره. فأعدت النظر فوجدت الكتاب في أضعاف القراطيس، وإذا الرجل قد شهد عليه بالقتل وأقر به. فأمرت بإحضاره، فلما رأيت ما به من الارتياع قلت له: إن صدقتني أطلقتك. فانبرى يحدثني، وذكر أنه كان هو وعدة من أصحابه يرتكبون كل عظيمة ويستحلون كل محرم، وأنه كان اجتماعهم في منزل بمدينة أبي جعفر المنصور يعكفون فيه على كل بلية؛ فلما كان هذا اليوم جاءتنا عجوز كانت تختلف للفساد ومعها جارية بارعة الجمال، فلما توسطت الجارية الدار صرخت صرخة عظيمة ثم أغمي عليها؛ فلما أفاقت قالت: الله! الله في! فإن هذه العجوز خدعتني وأعلمتني أن في جيرانها قوماً لهم حق عظيم لم يكن مثله، وشوقتني إلى النظر إلى ما فيه، فخرجت معها واثقة بقولها، فهجمت بي عليكم، وجدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمي فاطمة وأبي الحسين بن علي، فاحفظوهم في! قال: فكأنها أغرتهم بنفسها. فقمت دونها ومنعت منها، وقاتلت من أرادها، ونالتني جراحات أظهرها فرأيتها، قال: وعمدت إلى أشدهم كان في أمرها، فقتلته وخلصت الجارية آمنة مما خافته؛ فسمعتها تقول: سترك الله كما سترتني، وكان لك كما كنت لي! وسمع الجيران فدخلوا إلينا، والرجل متشحط بدمائه، والسكين في يدي، فرفعت على هذه الحال. قال إسحاق: فقلت له قد وهبتك لله ورسوله، قال: فوحق الذي وهبتني لهما لا عاودت معصية ولا دخلت في ريبة أبداً.
أمر الحجاج بإحضار رجل من السجن، فلما حضر أمر بضرب عنقه، فقال: يا أيها الأمير أخرني إلى غد، قال: وأي فرج لك في تأخير يوم واحد؟ ثم أمر برده إلى السجن. فسمعه الحجاج وهو يذهب به إلى السجن يقول: (من الطويل)
عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر
فقال الحجاج: والله ما أخذه إلا من كتاب " كل يوم هو في شأن " وأمر بإطلاقه.
قال بعض جلساء المعتمد: كنا بين يديه ليلة، فحمل عليه النبيذ، فجعل يخفق نعاساً، وقال: لا تبرحوا أنتم. ثم نام مقدار نصف ساعة، وانتبه كأنه ما شرب شيئاً، فقال: أحضروني ممن في الحبس رجلاً يعرف بمنصور الجمال، فأحضر فقال: مذ كم أنت في السجن محبوس؟ قال: مذ ثلاث سنين؛ قال: فاصدقني عن خبرك؛ قال: أنا رجل من أهل الموصل كان لي جمل أحمل عليه وأعود بأجرته على عائلتي، فضاق المكسب الموصل علي، فقلت أخرج إلى سر من رأى فإن العمل ثم أكثر؛ فخرجت فلما قربت منها إذا جماعة من الجند قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق، وكتب صاحب البريد بخبرهم وكانوا عشرة، فأعطاهم واحد من العشرة مالاً على أن يطلقوه، فأطلقوه وأخذوني مكانه، وأخذوا جملي، فسألتهم بالله عز وجل، وعرفتهم خبري فأبوا وحبسوني معهم، فمات بعض القوم وأطلق بعضهم وبقيت وحدي. فقال المعتمد: أحضروني خمسمائة دينار، فجاءوا بها، فدفعها إليه وأجرى له ثلاثين ديناراً في كل شهر، وقال: اجعلوا إليه أمر جمالنا. ثم أقبل علينا وقال: رأيت الساعة النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وقال لي: يا أحمد وجه الساعة إلى الحبس فأخرج منصوراً الجمال فإنه مظلوم، وأحسن إليه. ففعلت ما رأيتم، ثم نام.

قال المدائني: أرسل زياد إلى رجل من بني تميم من قعدة الخوارج، فاستدعاه فجاءه خائفاً. فقال له زياد: ما منعك من إتياني؟ قال: قدمت علينا فقلت: إني لا أعدكم خيراً ولا شراً إلا وفيته وأنجزته، وقلت من كف يده ولسانه لم اعرض إليه؛ وكففت يدي ولساني وجلست في بيتي. فأمر له بصلة. فخرج إلى الناس ومعه الجائزة، وهم يتوقعون خروجه مقتولاً. فقالوا: ما قال لك الأمير؟ فقال: ما كلكم أستطيع أن أخبره ما كان بيننا، ولكن وصلت إلى رجل لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فرزق الله منه خيراً.
حدث منارة صاحب الخلفاء قال: رفع إلى هارون الرشيد ابن دمشق رجلاً من بقايا بني أمية عظيم الجاه، واسع الحال، كثير المال والأملاك، مطاعاً في البلد، له جماعة أولاد ومماليك وموال يركبون الخيل ويحملون السلاح ويغزون الروم، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن منه فتق يتعذر رتقه، فعظم ذلك على هارون. قال منارة: وكان وقوف الرشيد على هذا إذ هو بالكوفة في بعض خرجاته إلى الحج، وقد عاد من الموسم وبايع لأولاده، فدعاني وهو خال فقال لي: قد دعوتك لأمر يهمني، وقد منعني النوم، فانظر كيف تعمل وكيف تكون. ثم قص علي خبر الأموي، وقال: اخرج الساعة فقد أعددت لك الجمازات وأزحت علتك في الزاد والنفقة والآلات وضم إليك مائة غلام واخرج في النوبة، وهذا كتابي إلى أمير دمشق، وهذه قيود إذا دخلت البلد فابدأ بالرجل. فإن سمع وأطاع فقيده بها وجئني به، وإلا فتوكل أنت ومن معك به حتى لا يهرب، وأنفذ الكتاب إلى أمير البلد ليركب في جيشه، فاقبضوا عليه وجئني به؛ وقد أجلتك لذهابك ستاً ولعودك ستاً ويوماً لمقامك، وهذا محمل يجعل في شقه إذا قيدته، وتقعد أنت في الشق الآخر، ولا تكل حفظه إلى غيرك حتى تأتيني به في اليوم الثالث عشر من خروجك؛ فإذا دخلت داره فتفقدها وجميع ما فيها وولده وأهله وحاشيته وغلمانه وما يقولون، وقدر النعمة والحال والمحل، واحفظ ما يقوله الرجل حرفاً بحرف من ألفاظه منذ وقوع طرفك عليه إلى أن تأتيني به، وإياك أن يشذ عليك شيء من أمره.
قال منارة: فخرجت فركبت الإبل وسرت على ما أمر لي إلى أن وصلت إلى دمشق في أول الليلة السابعة، وأبواب البلد مغلقة. فكرهت طروقها، فنمت بظاهر البلد إلى أن فتح من غد، فدخلت على هيئتي حتى أتيت باب دار الرجل، وعليه صفف عظيمة وحاشية كثيرة، فلم استأذن ودخلت بغير إذن. فلما أن رأى ذلك القوم سألوا بعض من معي عني، فقالوا: هذا منارة رسول أمير المؤمنين الرشيد إلى صاحبكم، فسكتوا. فلما صرت في صحن الدار نزلت ودخلت مجلساً رأيت فيه قوماً جلوساً، فظننت الرجل فيهم. فقاموا ورحبوا بي وأكرموني، فقلت: أفيكم فلان؟ قالوا: لا، نحن أولاده وهو في الحمام. قلت: فاستعجلوه. فمضى بعضهم يستعجله وأنا أتفقد الدار والحال والحاشية، فوجدتها قد ماجت بأهلها موجاً شديداً. فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن أطال، فاشتد خوفي وقلقي من أن يتوارى، إلى أن رأيت شيخاً قد أقبل من الحمام يتمشى في الصحن وحوله جماعة كهول وأحداث حسان وهم أولاده وغلمان كثير، فعلمت أنه الرجل. فجاء حتى جلس وسلم علي سلاماً خفيفاً وسألني عن أمير المؤمنين واستقامة أمر حضرته، فأخبرته بما وجب. وما قضى كلامه حتى جاءوه بأطباق فاكهة، فقال لي: تقدم يا منارة، فقلت: ما بي إلى ذلك حاجة. فلم يعاودني وأكل هو والحاضرون عنده، ثم غسل يده، ودعا بالطعام فجاءوه بمائدة حسنة عظيمة لم أر مثلها إلا في دار الخليفة، فقال: تقدم يا منارة، ساعدنا على الأكل. وهو لا يزيدني على أن يدعوني باسمي كما يدعوني الخليفة. فامتنعت فما عاودني. وأكل هو وأولاده وكانوا تسعة، عددتهم وجماعة كثيرة من أصحابه وحاشيته وجماعة من أولاد أولاده، وتأملت أكله في نفسه، فوجدته أكل الملوك، ووجدت جأشه رابطاً، وذلك الاضطراب الذي كان في داره قد سكن. ووجدته لا يرفع شيء قد جعل على المائدة إلا نهب. وقد كان غلمانه لما نزلت الدار أخذوا جمالي وغلماني فغدوا بهم إلى دار له فما طاقوا ممانعتهم، وبقيت وحدي ليس بين يدي إلا خمسة أو ستة منهم كانوا وقوفاً على رأسي. فقلت في نفسي هذا جبار عنيد، فإن امتنع علي من الشخوص فأنا ومن معي هالكون.

فجزعت ولا سبيل لإعلام أمير البلد، وإلى أن يلحقني أمير البلد لا أملك لنفسي دفع ضرر يريده بي، وذاك أني استربت باستخفافه بي، وتهاونه ودعائه لي باسمي، ولا يفكر في امتناعي من الأكل، ولا يسأل عما جئت له، بل أكل مطمئناً. وأنا أفكر في ذلك إذ فرغ من طعامه وغسل يده، ودعا ببخور فتبخر، وقام إلى الصلاة فصلى وطول، وأكثر من الدعاء والابتهال، ورأيت صلاته حسنة، فلما انفتل من المحراب أقبل علي وقال: ما أقدمك يا منارة؟ قلت: أمر لك من أمير المؤمنين. فأخرجت الكتاب ودفعته إليه ففضه وقرأه، فلما استتم قراءته دعا أولاده وحاشيته، فاجتمع منهم خلق كثير، فلم أشك إلا أنه يريد أن يوقع بي، فلما تكاملوا ابتدأ فحلف أيماناً مغلظة، فيها الطلاق والحج والصدقة والوقف والحبس، إن اجتمع منهم اثنين في موضع واحد إلى أن ينكشف له أمر يعمل عليه. وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني بالمصير إلى بابه، ولست أقيم بعد هذا ولا لحظة واحدة لأنظر في أمري مسارعة إلى أمره؛ فاستوصوا بمن ورائي من الحرم، وما بي حاجة إلى أن يصحبني غلام. هات أقيادك يا منارة. فدعوت بها وكانت في سفط، وأحضرت حداداً ومد ساقيه فقيدته، وأمرت غلماني حتى حصل في المحمل، وركبت في الشق الآخر، وسرت من وقتي لم ألق أمير البلد ولا غيره، وسرت بالرجل ليس معه أحد إلى أن صرنا بظاهر دمشق، فابتدأ يحدثني بانبساط حتى انتهينا إلى بستان حسن بالغوطة. فقال لي: أترى هذا؟ قلت: نعم، قال: إنه لي، وفيه من غرائب الأشجار كيت وكيت، ثم انتهى إلى آخر فيه مثل ذلك، ثم انتهينا إلى قرى حسان سرية، فأقبل يقول: هذا لي، ويصف كل شيء من ذلك. فاشتد غيظي منه فقلت له: علمت أني شديد التعجب، قال: ولم تعجب؟ قلت: ألست تعلم أن أمير المؤمنين قد أهمه أمرك حتى أرسل إليك من انتزعك من بين أهلك وولدك ومالك، وأخرجك عن جميع مالك وحيداً فريداً مقيداً، لا تدري إلى ما تصير إليه ولا كيف تكون، وأنت فارغ البال من هذا وتصف بساتينك وقراك وضياعك، هذا بعد أن رأيتني قد جئت وأنت تعلم فيم جئت، بل أنت ساكن الجأش مطمئن القلب، ولقد كنت عندي شيخاً فاضلاً. فقال لي مجيباً: إنا لله وإنا إليه راجعون! أخطأت فراستي فيك، قدرتك رجلاً كامل العقل وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل إلا بعدما عرفوك بذلك، فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام العوام وعقولهم، والله المستعان! أما قولك في أمير المؤمنين وإزعاجه لي وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي هذه فإني على ثقة بالله عز وجل الذي بيده ناصية كل شيء، ولا يملك شيء لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا لغيره إلا بإذن الله ومشيئته، ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه، وبعد فإذا عرف أمري وعرف سلامتي وصلاح ناصيتي، وأن الحسدة والأعداء رموني عنده بما لست في طريقته، وتقولوا علي الأكاذيب الباطلة، لم يستحل دمي وتحرج من أذيتي وإزعاجي، فردني مكرماً أو أقامني ببابه معظماً. وإن كان قد سبق في علم الله تعالى أن تبدر إلي منه بادرة سوء وقد حضر أجلي، وحان سفك دمي على يده، فلو اجتهدت الملائكة والأنبياء وأهل الأرض والسماء على فوت ذلك وتزحزحه عني ما استطاعوه؛ فلم أتعجل الهم والغم وأتسلف الفكر فيما قد فرغ منه؛ وإني أحسن الظن بالله عز وجل الذي خلق ورزق، وأمات وفطر، وجبل وأحسن وأجمل، وقد كنت أظن أن مثلك يحسن ويعرف هذا؛ والآن قد عرفتك حق معرفتك، وعلمت حد فهمك، فإني لا أكلمك بعد هذا حتى تفرق حضرة أمير المؤمنين بيني وبينك. ثم أعرض عني فما سمعت له لفظة بغير التسبيح والقرآن إلا طلب الماء أو حاجة تجري مجراه، حتى شارف الكوفة في اليوم الثالث عشر بعد الظهر. وإذا النجب قد استقبلتني على فراسخ من الكوفة يتحسسون خبري؛ فحين رأوني رجعوا عني متقدمين بالخبر إلى أمير المؤمنين. ودخلت إلى الرشيد فقبلت الأرض بين يديه ووقفت. قال: هات ما عندك، وإياك أن تغفل منه لفظة واحدة. فسقت الحديث من أوله إلى آخره، حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة والطعام والغسل والطهور والبخور والصلاة، وما حدثت به نفسي من امتناعه، والغضب يظهر في وجهه ويتزايد، حتى انتهيت إلى فراغ الأموي من الصلاة والتفاته إلي ومسألته إياي عن سبب قدومي، ودفعي الكتاب إليه، ومبادرته إلى أمر ولده وأسبابه وأهله وأصحابه وخدمه ألا يتبعه أحد منهم، وصرفه إياهم، ومد رجله حتى أقيده. فما زال وجه

الرشيد يسفر، فلما انتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخي إياه، فقال: صدق والله! ما هذا إلا رجل محسود على النعمة مكذوب عليه؛ ولعمري لقد أزعجناه وآذيناه وأرعبناه وأرعبنا أهله، فبادر بنزع أقياده عنه، وأتني به. فخرجت فنزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد. فما هو أن رآه حتى رأيت الحياء يجول في وجه الرشيد. فدنا الأموي فسلم بالخلافة ووقف، فرد عليه السلام رداً جميلاً، وأمره بالجلوس فجلس. وأقبل عليه الرشيد يسائله عن حاله، ثم قال له: بلغنا عنك فضل هيئة، وأمور أحببنا أن نراك معها، ونسمع كلامك فاذكر حاجتك، فأجاب الأموي جواباً جميلاً وشكر ودعا وقال: أما حاجتي فلا حاجة لي إلا واحدة. قال: مقضية فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين، تردني إلى بلدي وأهلي وولدي، قال: نحن نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من صلاح جاهك ومعاشك، فمثلك لا يخلو أن يحتاج إلى شيء من هذا. فقال: عمال أمير المؤمنين منصفون، وقد استغنيت بعدله عن مسألة شيء من أمواله، وأموري منتظمة، وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور بلدي بالعدل الشامل في ظل دولة أمير المؤمنين، فلا استغنم ماله. فقال الرشيد: انصرف محفوظاً إلى بلدك، واكتب إلينا بأمر إن عرض لك. فودعه الأموي. فلما ولى خارجاً قال لي الرشيد: يا منارة احمله من وقته، فسر به راجعاً كما سيرته إلينا حتى إذا أوصلته إلى المجلس الذي أخذته منه فدعه فيه وانصرف. ففعلت ذلك.لرشيد يسفر، فلما انتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخي إياه، فقال: صدق والله! ما هذا إلا رجل محسود على النعمة مكذوب عليه؛ ولعمري لقد أزعجناه وآذيناه وأرعبناه وأرعبنا أهله، فبادر بنزع أقياده عنه، وأتني به. فخرجت فنزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد. فما هو أن رآه حتى رأيت الحياء يجول في وجه الرشيد. فدنا الأموي فسلم بالخلافة ووقف، فرد عليه السلام رداً جميلاً، وأمره بالجلوس فجلس. وأقبل عليه الرشيد يسائله عن حاله، ثم قال له: بلغنا عنك فضل هيئة، وأمور أحببنا أن نراك معها، ونسمع كلامك فاذكر حاجتك، فأجاب الأموي جواباً جميلاً وشكر ودعا وقال: أما حاجتي فلا حاجة لي إلا واحدة. قال: مقضية فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين، تردني إلى بلدي وأهلي وولدي، قال: نحن نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من صلاح جاهك ومعاشك، فمثلك لا يخلو أن يحتاج إلى شيء من هذا. فقال: عمال أمير المؤمنين منصفون، وقد استغنيت بعدله عن مسألة شيء من أمواله، وأموري منتظمة، وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور بلدي بالعدل الشامل في ظل دولة أمير المؤمنين، فلا استغنم ماله. فقال الرشيد: انصرف محفوظاً إلى بلدك، واكتب إلينا بأمر إن عرض لك. فودعه الأموي. فلما ولى خارجاً قال لي الرشيد: يا منارة احمله من وقته، فسر به راجعاً كما سيرته إلينا حتى إذا أوصلته إلى المجلس الذي أخذته منه فدعه فيه وانصرف. ففعلت ذلك.
حدث أبو عبد الله بن محمد السمري كاتب ديوان البصرة قال: وكان أبو محمد المهلبي في وزارته قد قبض علي بالبصرة، وطالبني بما لا قدرة لي عليه، وأطال حبسي حتى أيست من الفرج. فرأيت ليلة من الليالي، وأنا أشد ما كنت فيه من الهم، كأن قائلاً يقول لي: اطلب من ابن الراهبوني دفتراً خلقاً عنده، على ظهره دعاء فادع به فإن الله عز وجل يفرج عنك. قال: وكان ابن الراهبوني هذا صديقاً لي من أبناء أهل واسط، وهو مقيم بالبصرة حينئذ. فلما كان من غد أنفذت إليه: أعندك دفتر على ظهره دعاء؟ فقال: نعم. فقلت: جئني به، فجاءني به، فرأيت على ظهره مكتوباً: اللهم أنت أنت، انقطع الرجاء إلا منك، وخاب الأمل إلا فيك، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، ولا تقطع اللهم منك رجائي، ولا رجاء من يرجوك في شرق الأرض ولا في غربها، يا قريباً غير بعيد، يا شاهداً لا يغيب ويا غالباً غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، وارزقني رزقاً واسعاً من حيث لا أحتسب، إنك على كل شيء قدير. قال: فواصلت الدعاء بذلك، فما مضت إلى أيام يسيرة حتى وجه المهلبي فأخرجني من الحبس وقلدني الإشراف على أبي الحسن أحمد بن محمد الطويل بأسافل الأهواز.

وذكر المدائني أن توبة العنبريقال: أكرهني يوسف بن عمر على العمل، ثم أخذني وقيدني وحبسني حتى لم يبق في رأسي شعرة سوداء؛ فأتاني آت في منامي فقال لي: يا توبة، أطالوا حبسك؟ قلت: أجل، فقال: سل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة ثلاثاً. فاستيقظت وكتبتها، ثم توضأت وصليت ما شاء الله، ثم جعلت أدعو بها حتى وجبت صلاة الصبح فصليتها، فجاء حرسي فقال: أين توبة العنبري، فحملني في أقيادي وأدخلني عليه وأنا أتكلم بهن، فلما رآني أمر بإطلاقي، قال: وعلمتها وأنا في السجن رجلاً، فقال: لم أدع إلى عذاب فقلتها إلا خلي عني، فدعي بي يوماً إلى العذاب، فجعلت أتذكرها فلم أذكرها حتى جلدت مائة سوط، ثم ذكرتها فخلي عني.
قال نعيم بن أبي هند: كنت عند يزيد بن أبي مسلم وهو يعذب الناس، فذكر رجل في السجن فبعث إليه بغضب وغيظ، وأنا لا أشك في أنه سيوقع به؛ فلما وقف بين يديه رأيته يحرك شفتيه بشيء لم أسمعه، فرفع يزيد رأسه إليه وقال: خلوا سبيله. فقمت إلى الرجل فقلت له: ما الذي قلت؟ قال: قلت اللهم إني أسألك بقدرتك التي تمسك بها السموات السبع أن يقع بعضهن على بعض أن تكفينيه.
قال أبو عمرو بن العلاء: كنت هارباً من الحجاج فسمعت منشداً ينشد: (من الخفيف)
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
فقلت له: ما الخبر؟ قال: مات الحجاج. فما أدري بأي قوليه كنت أفرح: بقوله فرجة أم بقوله مات الحجاج، وكان أبو عمرو يقرأ: " إلا من اغترف غرفة " احتاج إلى شاهد، ففرح بقوله المنشد " فرجة " وقبل هذا البيت: (من الخفيف)
صبر النفس عند كل مهم ... إن في الصبر حيلة المحتال
لا تضيقن في الأمور فقد تك ... شف لأواؤها بغير احتيال
عبد الله بن المعتز: (من الطويل)
لهذا الزمان الصعب يا نفس فاصبري ... فما ناصحات المرء إلا تجاربه
ولا تحزني إن أغلق الصبر بابه ... فبعد انغلاق الباب يأذن حاجبه
حدث عبيد الله بن سليمان بن وهب عن أبيه قال: كنت وأبا العباس أحمد بن الخصيب مع خلق من العمال والكتاب معتقلين في يد محمد بن عبد الملك الزيات في آخر وزارته للواثق، نطالب ببقايا مصادرتنا، ونحن آيس ما كنا من الفرج، إذ اشتدت علة الواثق وحجب الناس ستة أيام. فدخل عليه أبو عبد الله أحمد بن أبي داود القاضي، فقال له الواثق: يا أبا عبد الله، ذهبت مني الدنيا والآخرة، قال: كلا يا أمير المؤمنين، قال: بلى والله، أما الدنيا فقد ذهبت كما ترى من حضور الموت وذهبت الآخرة بما أسلفت من العمل القبيح، فهل عندك من دواء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قد عزل محمد بن عبد الملك الزيات من العمال والكتاب عالماً وملأ بهم الحبوس، يصادرهم ولم يحصل من جهتهم على كثير شيء، وهم عدد كثير، ووراءهم ألف يد ترتفع بالدعاء إلى الله تعالى، فتأمر بإطلاقهم لترتفع تلك الأيدي بالدعاء لك، فلعل الله سبحانه وتعالى يهب عافيتك، على كل حال فأنت محتاج إلى أن تقل خصومك. فقال: نعم ما أشرت به علي؛ وقال: وقع إليه عني بإطلاقهم، فقال: إن رأى خطي عاند ولج ولكن يغتنم أمير المؤمنين المثوبة، ويتساند ويحمل نفسه، ويوقع بخطه. فوقع الواثق بخطه وهو مضطرب إلى ابن الزيات بإطلاقهم وإطلاق من في الحبوس من غير استئمار ولا مراجعة. وتقدم إلى ايتاخ أن يمضي بالتوقيع ولا يدعه يعمل شيئاً أو يطلقهم وأن يحول بينه وبين الوصول إليه أو كتب رقعة واستئمار أو اشتغال بشغل إلا بعد إطلاقهم، وإن لقيه في الطريق أن ينزله عن دابته ويجلسه على غاشيته في الطريق حتى يوقع.

فتوجه ايتاخ فلقي ابن الزيات يريد دار الخليفة، فقال له: تنزل عن دابتك وتجلس على غاشيتك فارتاع، وظن أن الحال قد نزلت به، فنزل وجلس على غاشيته. فأوصل إليه التوقيع فامتنع، وقال: إذا أطلقت هؤلاء فمن أين أنفق الأموال وأقيم الأنزال؟ فقال: لا بد من ذلك. فقال: أركب وأستأذنه، فقال: ليس إلى ذلك سبيل، قال: فدعني أكاتبه. قال: ولا إلى هذا. فما تركه من موضعه حتى وقع بإطلاق الكل. فصار ايتاخ إلينا ونحن في الحبس آيس ما كنا من الفرج، وقد بلغنا اشتداد علة الواثق، وأرجف لابنه بالخلافة، وكان صبياً. فخفنا أن يتم ذلك، فيجعل ابن الزيات الصبي شيخاً ويتولى التدبير فيتلفنا. وقد امتنعنا لفرط الغم والهم من الأكل والشرب. فلما دخل ايتاخ لم نشك أنه ما دخل إلا لبلية، فأطلقنا وعرفنا الصورة. فدعونا الله لابن أبي داود والخليفة، وانصرفنا إلى منازلنا. فجلسنا لحظة ثم خرجنا فوقفنا لابن أبي داودفحين رأيناه ترجلنا له ودعونا له وشكرناه، فأكبر ذلك ومنعنا من الترجل فلم نمتنع، ووقف حتى ركبنا وسايرناه. فأخذ يخبرنا الخبر حتى زدنا في الشكر، وهو يستقصر ما فعله ويقول: هذا أقل حقوقكم علي، وكان الذي لقيه أنا وأحمد بن الخصيب، وقال: وستعلمان ما أفعله مستأنفاً.
ورجع ابن أبي داود إلى دار الخليفة عشاء فقال له الواثق: قد تبركت برأيك يا أبا عبد الله، ووجدت خفاً من العلة، ونشطت وأكلت خمسة دراهم خبزاً بصدر دراج. فقال له: يا أمير المؤمنين، تلك الأيدي التي كانت ترتفع بالدعاء عليك صارت ترتفع بالدعاء لك غدوة وعشية، ويدعو لك بسببهم خلق كثير من رعيتك، إلا أنهم قد صاروا إلى دور خراب وأحوال قبيحة، بلا فرش ولا كسوة ولا دواب ولا ضياع، موتى جوعاً وهزلاً، قال: فما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، في الخزائن والاصطبلات بقايا ما أخذ منهم، فلو أمرت بأن ينظر في ذلك، فكل من وجد له شيء باق من هذا رد عليه، وأطلقت عن ضياعهم، فعاشوا وخف الإثم، وتضاعف الدعاء، وقويت العافية. قال: قال فوقع بذلك عني، فوقع ابن أبي داود، فما شعرنا من الغد إلا وقد رجعت نعمتنا علينا. ومات الواثق بعد ثلاثة أيام أو أربعة، وفرج الله عنا بابن أبي داود، وبقيت له المكرمة العظيمة في أعناقنا.

وحدث جماعة من أهل الموصل: أن فاطمة بنت أحمد الهزارمردي الكردي زوجة أبي ثعلب بن حمدان اتهمت غلام لها يقال له ابن ابي قبيصة من الموصل بجناية من مالها، فقبضت عليه وحبسته في قلعتها ثم رأت أن تقتله، وكتبت إلى الموكل بالقلعة بقتله. فورد عليه الكتاب، وكان أمياً وليس عنده من يقرأ أو يكتب إلا ابن أبي قبيصة، فدفع الكتاب إليه، وقال له: اقرأه. فلما رأى الأمر فيه بقتله قرأ الكتاب بأسره إلى الموضع الذي أمر فيه بقتله، ورد الكتاب عليه. قال ابن أبي قبيصة: ففكرت وقلت: أنا مقتول على كل حال إن أقمت، فلا بد أن يرد كتاب آخر في معناي، ويتفق حضور من يقرأه فينفذ في الأمر، فسبيلي أن أحتال فيه بحيلة، إن تمت سلمت وإن لم تتم فليس غير القتل، ولا يلحقني أكثر منه، وأنا حاصل فيه، قتأملت القلعة فإذا فيها موضع يمكنني أن أطرح منه نفسي إلى أسفلها، إلا أن بينه وبين الأرض ثلاثة آلاف ذراع، وفيه صخر لا يجوز أن يسلم من يقع عليه من بعد. قال: فلم أجسر؛ ثم ولد لي الفكر أن تأملت الثلج وقد سقط عدة ليال فغطى تلك الصخور، وصار فوقها أمر عظيم، يجوز أن أسقط عليه وكان في أجلي تأخير أن أسلم؛ وكنت مقيداً، فقمت لما نام الناس وطرحت نفسي من الموضع قائماً على رجلي؛ فحين حصلت في الهواء ندمت وأقبلت أستغفر الله وأتشهد، وأغمضت عيني حتى لا أرى كيف أموت، وجمعت رجلي بعض الجمع لأني كنت سمعت قديماً أن من اتفق عليه أن يسقط من موضع عال إذا جمع رجليه ثم أرسلهما إذا بقي بينه وبين الأرض ذراع أو أكثر قليلاً أنه يسلم من أن يناله ما ينال مثله، وتنكسر حدة الوقوع، ويصير بمنزلة من سقط من ذراعين. قال: ففعلت ذلك، فلما سقطت إلى الأرض ذهب علي أمري وزال عقلي، ثم ثاب إلي عقلي، فلم أجد ما كان ينبغي أن يلحقني، فأقبلت أجس أعضائي شيئاً شيئاً فأجدها سالمة، وقمت وقعدت وحركت يدي ورجلي فوجدت ذلك سالماً كله. فحمدت الله عز وجل على حالي، وأخذت صخرة لأكسر بها قيودي، فوجدت الحديد الذي في رجلي قد صار كالزجاج لشدة البرد. قال: فضربته فانكسر، وقطعت تكتي، فشددت بعضها على القيد إلى ساقي وقمت أمشي في الثلج على المحجة، ثم خفت أن يروا أثري في غد في الثلج علىالمحجة فيتبعوني فلا أفوتهم، فعدلت على المحجة إلى الخابور. فلما صرت على شاطئه نزلت في الماء إلى ركبتي، وأقبلت أمشي كذلك فرسخاً أو أكثر حتى انقطع أثري؛ وربما حصلت في موضع لا يمكنني المشي لأنه يكون جرفاً فأسبح، على ذلك أربعة فراسخ حتى حصلت في خيم فيها قوم، فأنكروني وهموا بي، فإذا هم أكراد؛ فقصصت عليهم قصتي، واستجرت بالله وبهم، فرحموني ودفأوني وغطوني، وأوقدوا بين يدي ناراً، وأطعموني وستروني، وانتهى الطلب إليهم من غد فما أعطوهم خبري. فلما انقطع الطلب سيروني، فدخلت الموصل مستتراً، وكان ابن حمدان بها إذ ذاك، فانحدرت إليه فأخبرته بخبري كله، فعصمني من زوجته وأحسن إلي وصرفني.
أخذ الحجاج رجلاً اتهمه برأي الخوارج وكتب اسمه في أسماء من يقتل. فجاءت أمه فوقفت عليه وقال: أصلح الله الأمير! امنن علي بابني فلان، فإنه والله لضهياء دباء. فقال الحجاج لجلسائه: أتدرون ما قالت؟ قالوا: لا والله، قال: الضهياء التي لا تحيض والدباء التي لا تلد، خلوا سبيل ابنها. فدفعه إليها وقال: خذ بيدها، لعنك الله إن لم تبرها.
وأتي بأسرى فأمر بضرب رقابهم، فقال رجل منهم: لا جزاك الله يا حجاج عن السنة والمروءة خيراً، فإن الله تعالى يقول: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداءً " . فهذا قول الله في كتابه. وقال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: (من الطويل)
وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد
فقال الحجاج: ويحكم! أعجزتم أن تخبروني ما أخبرني هذا المنافق، وأمسك عمن بقي.

وأتي معاوية يوم صفين بأسير من العراق فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك. قال: لا، لا تقل ذلك يا معاوية فإنها مصيبة، قال: وأي نعمة أفضل من أن أمكنني الله من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة؟ اضرب عنقه يا غلام. فقال الأسير: الحمد لله، أشهد أن معاوية لم يقتلني فيك، ولا أنك ترضى بقتلي في الغلبة على حطام هذه الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله. قال له: ويحك! لقد سببت فأبلغت ودعوت فأحسنت، خليا عنه.
لما ظفر المأمون بأبي دلف العجلي، وكان يقطع في الجبال، قال: يا أمير المؤمنين دعني أركع ركعتين. فركع وكبر، وصنع أبياتاً ثم وقف بين يديه وقال:
بع بي الخلق فإني ... خلق ممن تبيع
واتخذني لك درعاً ... قلصت عنه الدروع
ارم بي بحر عدو ... فأنا السهم السريع
فأطلقه وولاه تلك الناحية، فأصلحها وحسنت آثاره.
جرف الطاعون أهل بيت فسد بابه، وثم طفل لم يشعروا به. ففتح بعد شهر فإذا الطفل وثم كلبة مجر قد عطفها الله عليه، فكانت ترضعه مع جرائها.
وسجن رجل شهراً، وقد أغلق بيته على زوجي حمام طيارين وزوجين مقصوصين فتخلص وهو لا يشك في هلاك المقصوصين، فإذا هو بهما سالمان فد هدى الله الطائرين إلى زقهما حتى عاشا.
حبس عضد الدولة أبا إسحق الصابي فأطال حبسه، واستصفى ماله، بعد أن هم بقتله. فسأله فيه عبد العزيز بن يوسف والمطهر بن عبد الله حتى استحياه واقتصر على حبسه ومصادرته. ولبث في الاعتقال سنين إلى أن دخل الصاحب على عضد الدولة بهمذان، وهو مكب على دفتر يقرأه، فقال: يا أبا القاسم، هذه رسالة لك في بعض فتوحنا، نحن نأخذها بأسيافنا، وأنت تجملها بأقلامك، فقال: المعنى مستفاد من مولانا وإن كانت الألفاظ لخادمه ثم أنشد: (من البسيط)
وأنت أكتب مني في الفتوح وما ... تجري مجيباً إلى شأوي ولا أمدي
فقال: لمن البيت؟ فقال: لعبده أبي إسحاق الصابي. فأمر بالإفراج عنه والخلعة عليه. فكان ذلك سبب خلاصه من نكبته.
سعيد بن حميد: (من الكامل المجزوء)
كم فرجة مطوية ... لك بين أثناء النوائب
ومسرة قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب
رأى دهقان أصحاب نصر بن سيار ضعفاء، فأخذ دوابهم فقطع جحافلها وأذنابها، فلما أصبحوا قال نصر: أبشروا بخير فإني رأيت في النوم كأن قائلاً يقول: (من المجتث)
إذا ابتليت فصبراً ... فالعسر يعقب يسرا
فبعد مدة يسيرة ولي خراسان فأخذ الدهقان فضربه ألف سوط وحبسه.
أراد عمر بن هبيرة قتل رجل فضاقت عليه الأرض بما رحبت، فرأى في منامه من يقول: (من الرجز)
ما يسبق الإنسان قيد فتر ... ما كان في اللوح عليه يجري
فلما تم عليه شهر حتى قتله أبو جعفر.
أبو الخطاب علي بن عبد الرحمن بن عيسى بن الجراح قي المقتدي: (من البسيط)
وافى البشير فأعطى السمع منيته ... وقوض الهم لما خيم الفرج
من أخبار الفرج السريع الآتي بغير سعي ولا تدبير ما كان من أمر المقتدر لما خلع ونصب أخوه القاهر أبو منصور مكانه، وجلس على السرير، وبايعه الناس، واستحكم أمره، وقبض على المقتدر وحبس في خزانة. واتفق في بقية اليوم أن شغب الرجالة في طلب حق البيعة، وأدى شغبهم إلى أن قالوا: أخرجوا لنا خليفتنا، ولم يكن وقع تأهب لهم، فلجوا في الشغب حتى هجموا على الدار، ودلهم خادم على المقتدر في حبسه، وكسروا عليه الباب؛ وظنهم يقتلونه، فاستعاذ منهم، وتضرع إليهم. فأخذوه على أعناقهم وهو يستغيث وهم يقولون: إنما نعيدك إلى الخلافة. ووضعوه على سريره وسلموا أخاه القاهر إليه، فعاد ملكه من يومه.
وقد كان خلع قبلها ونصب عبد الله بن المعتز ولقب المرتضي بالله، وبايعه الناس كلهم، وراسل المقتدر بالانتقال إلى الحريم الظاهري فأجاب. ثم إن جماعة من غلمان الدار والخدم أصعدوا في شذاءات بدجلة لينظروا الأمر وعبد الله بن المعتز في دار المحرم. فتطاير من كان معه لغير سبب، وهرب هو واستتر في دار ابن الجصاص فعثر عليه وأهلك، وعاد الأمر إلى المقتدر بغير سعي ولا أعوان.

وكانت له نوبة أخرى أول أمره وفي بداية خلافته. وذاك أن الناس أنكروا صغر سنه، فعزم الوزير العباس بن الحسين وهو المستولي على التدبير حينئذ على خلعه، وأعد لذلك أبا عبد الله محمد بن المعتمد وخالفه وقرر القاعدة معه، وانتظر قدوم بارس صاحب أحمد بن إسماعيل من خراسان ليتقوى به على ما هم به، فاتفق أن فلج محمد بن المعتمد ومات، وانتقض ذلك الأمر وحيل دونه، وقضاء الله لا يرد، وحكمه لا يغالب.
حدثني النقيب أبو الغنائم بن المختار العلوي قال: حدثني اصفهسلار شيخ مقدم الخراسانية على باب محمد بن مشلكاه قال: لما قبض السلطان محمد على وزيره سعد الملك أبي المحاسن سعد بن علي الآبي وصلبه، قبض على أصحابه ومن جملتهم أبو إسماعيل الكاتب المنشئ وسلمه إلي، وكان صديقي وله علي حقوق؛ ثم إنه استدعاني في بعض الأيام ووقفني حيث لم تجر عادتي به وتقدم إلي وأمرني بالخروج من حضرته وعرض أبا إسماعيل على العذاب حتى يؤدي عشرين ألف دينار أو يموت تحت العقوبة، وتشدد علي، فخرجت وأحضرته مقيداً وعرفته بما جرى. فحلف أنه لا يقدر على أكثر من أربعة آلاف دينار هي مودعة عند إنسان ذكره، وليس لي ملك ولا ذخيرة. فقلت لا بد من إنفاذ أمر السلطان فيك. فتضور وبكى. فلم أتمكن من الدفع عنه مع مودتي له خوفاً من السلطان ولتمكن هيبته في النفوس. قال: فأمرت به فضرب ثلاث مقارع، فإذا بمن يستدعيني إلى السلطان حثيثاً. فأمرت أصحابي بأن يكون على حاله إلى أن أرجع. فلما دخلت عليه قال: ما فعلت في أمر أبي إسماعيل؟ فأخبرته. فلما انتهيت إلى ذكر العقوبة، قال: ليتك لم تكن فعلت. ثم قال: اخرج فاحمله إلى الحمام، وأمط عنه الدرن، وخذ له من الخزانة جبة وعمامة، ومره بأن يبادر إلى الدار قبل الكتاب وقبل الناس كلهم. فخرجت من بين يديه وأنا شديد التعجب، وأمرت به إلى الحمام فارتاب بي، وأخذ يتمرغ على قدمي، ويقول: من أنا حتى أقتل في الحمام؟ وأنا أقول له: لا بأس عليك. وكلما سكنته انزعج، إلى أن أحضرت المزين فأخذ من شعره وألبسته ثياباً نظيفة، وجيء بالجبة والعمامة من الخزانة فلبسها، وركب وأصحابي معه. وشاع الخبر، فاستغربه الوزير وجماعة الكتاب. وحضر أبو إسماعيل من بكرة غد، فوصل إلى الخدمة السلطانية، وأقام ستة شهور يخلو بالسلطان كل يوم من بكرة إلى الظهر، والناس يهابونه ويواصلونه بالتحف والخدم والألطاف، وأنا منهم، ولا نعرف السبب فيما اتفق له به. ثم ظهر من بعد أن السلطان ورد عليه مكتوب مستظهري، وقد كتب عنه جوابه بخط الكاتب، ومن العادة أن يكون عنوان الكتاب السلطاني إلى الخليفة بخط السلطان، فتأمل خط الخليفة فاستحسنه واسترذل خطه، وقال: كيف أكتب الجواب عن هذا الخط الحسن بهذا الخط الرذل؟ فألهمه الله لما قدره من خلاص أبي إسماعيل أن يجود خطه وأن يعول عليه في ذلك. وأسر إليه هذا الأمر وطواه عن كل أحد، وكانت خلوته لأجله، وقربه منه وقدمه وجعله طغرائياً، وكبر محله عنده.
كنت واقفاً على فرسي بسوق الخيل، وبهروز الخادم إذ ذاك والي بغداد، وقد ورد الخبر بتولية آخر مكانه. وقد أخرج من حبسه اثنان: أحدهما قاطع طريق والآخر عليه قود، وقدما للقتل. فبدأ بقاطع الطريق فقتل، ثم قرب الآخر إلى السياف فطلعت خيل أخر، فاشتغل أصحاب بهروز وأعادوا الرجل إلى الحبس، ونحن وقوف؛ وخرج منه أصحاب الجرائم وذلك الرجل فيهم وهو يحجل في عتلته، وتبعه أرباب الدم وكانوا أطفالاً ونساء فعجزوا عنه وهرب حتى لحق بالدار السلطانية، واعتصم بها فنجا.
حدثت عن نجاح الخادم المسترشدي قال: أعطيت رقعة عن محبوس ونحن بحلوان في الخدمة المقتفية، فعرضتها بين يدي فوقع فيها: ليخلد في السجن. فانزعجت وقلت في نفسي: ليتني لم أكن عرضتها، ولم يكن لي فيها حيلة، فإنه وقع فيها وألقاها بين الرقاع لتخرج في الجمع إلى الوزير على العادة. قال: ثم أعاد التأمل للرقاع فوقعت تلك الرقعة في يده، فخرق التوقيع الأول ووقع: يسأل عن حاله؛ وألقاها في الجمع. ثم قلب الرقاع فعادت في يده، فخرق التوقيع الثاني ووقع فيها: ليفرج عنه.

كان اسفنديار بن رستم العارض ديناً كثير العبادة والصدقة. وهو مع ذاك يتعمل ويخدم السلاطين. فقبض عليه المسترشد، وقصده الوزير أبو علي بن صدقة وقرر عليه خمسمائة دينار أخذ خطه بها وهو في الاعتقال ليؤديها. وكان الوزير يدخل على الخليفة ويلقاه كل جمعة. فدخل عليه في يوم نوبته فقال له: أفرج عن اسفنديار بن رستم. فقال له: يا مولانا قد أخذنا خطه بخمسمائة دينار. فقال: أعد عليه خطه ولا تأخذ منه شيئاً. فراجعه فقال: قد أمر في حقه من لا يمكن مخالفة أمره. فخرج الوزير من الخدمة، وأحضره وأعاد خطه عليه، وصرفه إلى منزله، فأخذ في شكره والدعاء للخليفة. فقال: لا تشكر أحداً، والزم ما أنت عليه.
وقيل أنه رأى في النوم الأمر بتخلية سبيله.
وقد كان اسفنديار هذا قبض عليه دبيس بن صدقة بن منصور، فاعتقله في مخيمه تحت الرقة ببغداد، وكان ينقم عليه صحبته وخدمته لسعيد بن حميد العمري صاحب جيش أبيه، وخافه اسفنديار على نفسه. فبينا هو على حاله إذ انتبه دبيس نصف الليل، وجلس على فراشه، واستدعى اسفنديار من محبسه، فانزعج وظن أنه يريد به الهلاك في ذلك الوقت، وإخفاء أمره. فلما حضر عنده قام واعتنقه، واعتذر إليه وصرفه.
وكان ذلك لمنام رآه. ومن العجب أن أمه كانت تلك الليلة بمقابر قريش ملازمة تدعو له. فرأت في منامها البشارة بالإفراج عنه، فجاءت فرأته مخلى سبيله.
؟حدثني أبو الحارث بن المعجون المغني، قال: كنت في شرب بالكرخ وقد صلب الشحنة جماعة من العيارين على باب السماكين. فلما انتصف الليل تعاطى الجماعة شدة القلب والجلد، فقالوا: من يخرج فيقف على هؤلاء المصلوبين في هذا الوقت ويأتي بعلامة منهم؟ فانتدب أحدهم، فلما وصلهم رأى رجلاً منهميتضور في خناقه، فدنا منه فوجده حياً، وقد وقع الحبل تحت حنكه، وهو بآخر رمق؛ فأرخى الحبل وحطه وحمله على ظهره إلينا، وقال: هذه علامة لا تنكر. وعاش الرجل، فكان ما تعاطاه أولئك الجهلة في نصف الليل سبباً لحياته واستنقاذه.
حدثني أبو طالب بن البابقوني قال: حبست في محبس المخزن بسعي تقدم من أبي القاسم بن الأيسر في حقي، وكان يتولى مكروهي وانتدب لأذيتي. واتفق من بعد فساد حال ابن الأيسر، وظهر عليه أخذه أموال الناس بما كان يعتمده من تخويفهم بشره، وانكشف من ذلك مال عظيم أعيد عليهم ما تهيأ منه، وقبض عليه وحمل إلى الموضع الذي أنا فيه، وجمعنا الحبس. قال: فكان كل وقت يطلب أن أحاله فأمتنع عليه وأقول له: لا مال لي يؤخذ فأطيب نفساً عنه، وما بقي إلا روحي وما أحالك عنها، وأنا هالك ها هنا. فقال لي: كلانا هالكان، فقلت: لا جرم أنني آمل الجنة لأني أهلك مظلوماً، وأنت تدخل النار بظلمك. قال: فبت في بعض الليالي آيساً قلقاً، ولجأت إلى الله تعالى، ونذرت عتق عبد كان لي، والصدقة والزيارة والحج إن وجدت النفقة، ونمت فأريتوقت السحر في المنام امرأة حسناء وضعت يدها على بدني كأني أجد لين مسها يقظان، وقالت لي: قم واخرج ولا تنتظر هذا يعني ابن الأيسر فإنه يقيم ها هنا ست سنين. قال: فانتبهت أروي: هل أخبره بالرؤيا أم لا؟ فبينا أنا في ذلك إذ فتح الباب وأخرجت ولا أعلم كيف ذاك ولا ما سببه إلى الآن.

نوادر من هذا الفن
قدم عبد الله بن علي بعض الأمويين للقتل، وجرد السيف ليقتله، فضرط الأموي، فانزعج السياف فألقى السيف من يده، فضحك عبد الله بن علي وأمر بتخليته. فقال الأموي: وهذا أيضاً من الإدبار: كنا ندفع الموت بأسيافنا ونحن الآن ندفعه بأستاهنا.
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله

الحمد لله الغني عن عباده وهم الفقراء، القوي بقدرته عليهم وهم الضعفاء،الذي قدر الأرزاق وقسمها في خلقه، وجعل حذق المرء محسوباً عليه من رزقه، قرن الغنى بالعناء في الدنيا والخطر في دار المنامة، والفقر بالراحة فيها والسلامة، إلا من عمل في ذاك بطاعته، فكان نعم المطية إلى آخرته، أو تلقى هذا بسوء الاحتمال، فانقلبت به إلى شر عقبى ومآل؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة غني به عن سواه، عالم ألا معبود إلا إياه، وأعوذ به من بطر الثراء واليسر، واسأله العصمة في قنوط العدم واليسر؛ والصلاة على محمد رسوله الذي صبر نفسه مع عيل صحابته، ودعا بأن يكون المحيا والممات مع مساكين أمته، وعلى آله مؤثري الافتقارعلى اليسار، وعلى عترته، وسلم تسليماً كثيراً.

الباب الثامن والثلاثون
ما جاء في الغنى والفقر
قد دل قوله تعالى: " كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى " ، على ذم الغنى إذ كان سبب الطغيان.
وسئل أبو حنيفة عن الغنى والفقر فقال: وهل طغى من طغى من خلق الله إلا بالغنى؟ وتلا هذه الآية.
والمحققون يرون الغنى والفقر في الأنفس لا في المال. وفي قوله تعالى: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً " ، وقوله عز وجل: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف " ، معنى في هذا وإشارة إليه.
قال رسول اله صلى الله عليه وسلم : " هلاك أمتي في شيئين: ترك العلم وجمع المال " .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يعجبك امرؤ كسب مالاً حراماً، فإنه إن أنفق لم يقبل منه، وإن أمسك لم يبارك الله له فيه، وإن مات وتركه كان زاده إلى النار " .
وفي الحديث: " مثل الفقر للمؤمن كمثل فرس مربوط بحكمته إلى أخية، كلما رأى شيئاً مما يهوى ردته حكمته " .
قال وهب: وجدت في كتب الأنبياء: من استغنى بأموال الفقراء، جعلت عاقبته الفقر، وأي دار بنيت بالضعفاء جعلت عاقبتها الخراب.
حدث أبو سعيد الخدري أنه أصبح ذات يوم وليس لهم طعام، وأصبح وقد عصب على بطنه حجراً من الجوع، فقالت امرأتي: ائت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد أتاه فلان فأعطاه. فأتيته وهو يخطب وهو يقول: من يستعف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن سألنا شيئاً فوجدناه أعطيناه وواسيناه، ومن استعف واستغنى فهو أحب إلينا. قال: فرجعت وما سألته حتى ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالاً منا.
قال جابر بن عبد الله: جاء عبد الرحمن بن عوف يوماً إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أعني بنفسك وبمن حضر من المسلمين، قال عمر: وما ذاك؟ قال: جهزت ألف بعير إلى الشام فيها مائتا مملوك يمتارون لي ما قدروا عليه من أصناف التجارات، فلما قمت الليلة أصلي وردي حدثت نفسي وقدرت الإبل كأنها قدمت وساومني التجار بما فيها، وضعفوا لي ما كنت أتمناه، فوالله ما أدري على ما أصبحت: على قرآن أم هذيان، فدونكها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها ومماليكها، فاجعلها في سبيل الله، فلا حاجة لي فيما يشغلني عن عبادة ربي.
قال محمد بن كعب القرظي: سمعت علياً عليه السلام يقول: لقد رأيتني وأنا أربط على الحجر على بطني في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الجوع، وإن صدقتي اليوم أربعون ألف دينار.
وكانت الصحابة رضوان الله عليهم ترى الفقر فضيلة ومنزلة يتنافس عليها، وفي بعض هذه الأخبار ما يدل على ذلك.
وروي أن عمر رضي الله عنه خطب الناس وهو خليفة، وعليه إزار فيه ثلاث عشرة رقعة إحداها من أدم، وعليه عمامة وبيده الدرة.
وقال ابن سيرين: كنا عند أبي هريرة وعليه ممشقتان من كتان فتمخط فيهما فقال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني أجر فيما بين منبر رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حجرة عائشة مغشياً علي من الجوع، فيجيء الرجل فيجلس على صدري فأرفع رأسي فأقول: إنه ليس ذاك إنما هو الجوع.
وقال أبو بردة عن أبيه: لو رأيتنا مع نبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظننت أن ريحنا ريح الضأن، لباسنا الصوف وطعامنا الأسودان: الماء والتمر.
وقال محمد بن سيرين: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجتزئ أحدهم بالفلذة يشويها، فإذا لم يجد شيئاً أقام صلبه بخشبة أو حجر يوثقه على صلبه.

وقال سهل بن سعد: كنا نفرح بيوم الجمعة. قيل: ولم ذاك؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلي بضاعة، فتأخذ من أصول السلق، وتنثر عليه حبات من شعير فيطرحه، وكنا نأتيها إذا صلينا الجمعة ونسلم عليها فتقدمه إلينا. فكنا نفرح بيوم الجمعة لأجل ذلك.
حدث الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين عاماً. فقال جليس للحسن يقال له فروخ: أمن الأغنياء أنا أم من الفقراء؟ فقال الحسن: أتغديت اليوم؟ قال: نعم، قال: فعندك ما تتعشى به الليلة؟ قال: نعم، قال: أنت من الأغنياء.
وقال صلى الله عليه وسلم لرجل: استغن بغنى الله، قالوا: يا رسول الله وما غنى الله؟ قال: غداء يوم وعشاء ليلة.
وقال أبو هريرة: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالساً، فقلت: يا نبي الله، أتصلي جالساً؟ فما أصابك؟ قال: الجوع. فبكيت، فقال: لا تبك فإن شدة يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا.
وقال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبيت طاوياً ليالي ما له ولأهله عشاء، وكان عامة طعامه الشعير.
وروى أنس بن مالك أن فاطمة عليها السلام جاءت بكسرة من خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ما هذه يا فاطمة؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة. فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث.
وقال أنس بن مالك: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رغيفاً محوراً حتى لقي الله.
وروى عروة عن عائشة قالت: لقد كان يأتي على آل محمد شهر لا يخبزون فيه، فقلت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قال: كان له خيرة من الأنصار جزاهم الله خيراً، وكان لهم شيء من لبن فيهدون منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأهله.
وقال أبو هريرة: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله ثلاثة أيام تباعاً من خبز حنطة حتى فارق الدنيا.
قال يزيد بن أبي رافع: نزل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ضيف، فبعثني إلى يهودي فقال: قل له إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك بعنا أو أسلفنا إلى وقت؛ قال: فقلت له، فقال: والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن. فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أم والله لو باعني أو أسلفني لأعطيته وقضيته، وإني لأمين في السماء، أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد فارهنها. فرهنتها، قال: فنزلت هذه الآية يعزيه عن الدنيا: " ولا تمدن عينيك إلى ما منعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا " .
قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع، ورفعنا عن بطوننا حجراً حجراً فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه حجرين.
وروي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني والله لأحبك في الله، فقال: فإن كنت صادقاً فأعد للفقر تجفافاً، فالفقر إلى من يحبني أسرع من مسيل السهل إلى منتهاه.
وقال صلى الله عليه وسلم : عرض علي ربي أن يجعل لي الصفا ذهباً، فقلت: لا يا رب! ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك.
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اللهم توفني إليك فقيراً ولا توفني إليك غنياً، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة، وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة.
وقيل أن ضجاعه عليه السلام كان من أدم حشوه ليف.
رؤي يحطب وعليه عباءة شامية. وكان يسم الغنم وهو مؤتزر بكساء.
وقال علي عليه السلام: أهديت فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان فراشنا إلا مسك كبش.
روي عن داود عليه السلام أنه قال: نعم العون الغنى واليسار على الدين. هذا عذر لمن عمل فيه بطاعة الله، وأنفقه في سبيل الله، حتى نال به الدرجات العلى. فأما من شح على المال وأعد الغنى لدنياه، فالحجة عليه قوله عز وجل: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " .
عيرت اليهود عيسى بن مريم عليه السلام بالفقر، فقال: من الغنى أتيتم.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هلك المثرون؛ وقال في الثالثة: إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وشماله وأمامه وخلفه، وقليل ما هم.
قال بعض الزهاد: تأمل ذا الغنى ما أدوم نصبه وأقل راحته، وأخسر من ماله حظه، وأشد من الأيام حذره، ثم هو بين سلطان يهتضمه، وعدو يبغي عليه. وحقوق تلزمه، وأكفاء يسوءونه، وولد يود فراقه. قد بعث الغنى عليه من سلطانه العنت، ومن أكفائه الحسد، ومن أعدائه البغي، ومن ذوي الحقوق الذم، ومن الولد الملامة.
ليم أفلاطون على الزهد في المال فقال: كيف أرغب فيما ينال بالبخت لا بالاستحقاق، ويأمر البخل والشره بحفظه والجود والزهد بإتلافه.
خطب اثنان إلى حكيم ابنته، وكان أحدهما غنياً والآخر فقيراً، فاختار الفقير. وسأله الاسكندر عن ذلك فقال: لأن الغني كان جاهلاً فكنت أخاف عليه الفقر، والفقير كان عاقلاً فرجوت له الغنى.
قال رجل لسقراط: ما أفقرك! قال: لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عن التوجع لي، فالفقر ملك ليس عليه محاسبة.
قال ابن المعتز: الناس ثلاثة أصناف: أغنياء وفقراء وأوساط. فالفقراء موتى إلا من أغناه الله عز وجل بعز القناعة، والأغنياء سكارى إلا من عصمه الله تعالى بتوقع الغير، وأكثر الخير مع أكثر الأوساط، وأكثر الشر مع الفقراء والأغنياء لسخف الفقر وبطر الغنى.
وفي الحديث أن قيس بن عاصم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيد أهل الوبر، يا رسول الله ما المال الذي ليست علي فيه تبعة في إمساكه من طالب ولا ضيف؟ فقال عليه السلام: نعم المال أربعون والكثر ستون، ويل لأصحاب المئين إلا من أعطى الكريمة ومنح الغزيرة، ونحر السمينة، فأكل وأطعم القانع والمعتر.
وفي رواية أخرى إلا من أعطى من رسلها، وأطرق فحلها، وأفقر ظهرها، وذبح من غزيرتها، وأطعم القانع والمعتر. فقلت: يا رسول الله ما أكرم هذه الأخلاق وأحسنها، إنها لا تحل بالوادي الذي فيه إبلي من كثرتها. قال: فكيف تصنع في العطية؟ قلت: أعطي البكرة وأعطي الناب، قال: وكيف تصنع في المنحة؟ قلت: إني لأمنح المائة، قال: كيف تعطي الطروقة؟ قلت: يغدو الناس بإبلهم فلا يوزع رجل عن جمل يختمطه فيمسكه ما بدا له حتى يكون هو الذي يرده.
وفي الرواية الأخرى قال: فكيف تصنع في الإطراق؟ قلت: يغدو الناس فمن شاء أن يأخذ رأس بعير فيذهب به، قال: فكيف تصنع بالإفقار؟ قلت: إني لأفقر الناب المدبرة والضرع الصغيرة، قال: فكيف تصنع في المنحة؟ قلت: إني لأمنح في السنة المائة، قال: فمالك أحب إليك أم مال مواليك؟ قلت: لا بل مالي، قال: فإن مالك ما أكلت فأفنيت وأعطيت فأمضيت. وفي الرواية الأخرى أو لبست فأبليت وسائره لمواليك. قلت: لا جرم والله لئن رجعت لأقلن عددها.
المنحة: الناقة والشاة يدفعها الرجل إلى من يحلبها ويردها، ومنه الحديث: العارية مؤداة والمنحة مردودة. والقانع: الذي يسأل، والمعتر الذي يجلس عند الذبيحة ولا يسأل وكأنه يعرض بالمسألة ولا يصرح بها. والناب: الناقة الهرمة. وقوله: لا يوزع رجل أي لا يمنع ولا يحبس، يقال وزعت الرجل توزيعاً أي منعته وكففته، والوزع: الرجل المتحرج المانع نفسه مما تدعوه إليه. والطروقة: التي قد حان لها أن تطرق وهي الحقة. والرسل: اللبن، والأفقار: هو أن يركبها الناس وتحملهم على ظهورها، مأخوذ من فقار الظهر. والإطراق للفحول: هو أن يبذلها لمن ينزيها على إناث إبله.
سئل بعضهم عن الغنى فقال: شر محبوب، وعن الفقر فقال: ملك ليس فيه محاسبة.
وقالوا سوء احتمال الغنى يورث مقتاً وسوء حمل الفاقة يضع شرفاً. وسوء احتمال الغنى تسميه العرب الحجل، وتسمي سوء احتمال الفقر الدقع. ومنه الحديث المرفوع في النساء: إنكن إذا سبغتن حجلتن وإذا جعتن دقعتن.
وقال بعضهم: في مجاوزتك ما يكفيك فقر لا منتهى له حتى تنتهي عنه.
ويقال: العفاف زينة الفقر والشكر زينة الغنى.
قيل لبعض الحكماء: أي الأمور أعجل عقوبة وأسرع لصاحبها صرعة؟ قال: ظلم من لا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى، ومجاوزة النعم بالتقصير، واستطالة الغني على الفقير.
ليس الموسر من ينقص على النفقة ماله، ولكن الموسر من يزكو على الإنفاق ماله.
وقال آخر: احتمال الفقر أحسن من احتمال الذل، على أن الرضا بالفقر قناعة والرضا بالذل ضراعة.

قيل لبعضهم: إن فلاناً أفاد مالاً عظيماً، قال: فهل أفاد معه أياماً ينفقه فيها؟ سافر سقراط مع بعض الأغنياء، فقيل لهما: في الطريق صعاليك يأخذون سلب الناس ويطالبونهم بالمال، فقال الغني: الويل لي إن عرفوني، فقال سقراط: الويل لي إن لم يعرفوني.
سمع العطوي رجلاً يحدث أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن فلاناً قد جمع مالاً، فقال له عمر: فهل جمع له أياماً؟ فأخذ العطوي هذا المعنى فقال: (من البسيط)
أرفه بعيش فتى يغدو على ثقة ... أن الذي قسم الأرزاق يرزقه
فالعرض منه مصون لا يدنسه ... والوجه منه جديد ليس يخلقه
جمعت مالاً فقل لي هل جمعت لوارثه ... يا جامع المال أياماً تفرقه
ما المال عندك مخزون لوارثه ... ما المال....
قال جابر: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة وهي تبكي وتطحن بالرحى وعليها كساء من أجلة الإبل. فلما رآها بكى، وقال لها: يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً، فأنزل الله تعالى: " ولسوف يعطيك ربك فترضى " .
وقال عطاء: كانت فاطمة تعجن حتى تضرب عقيصتها الجفنة.
وقال علي عليه السلام لابن أعين: ألا أحدثك عني وعن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت أحب أهله إليه، وجاءت عندي فجرت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وقمشت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار حتى دكنت ثيابها، في حديث طويل.
وقال أنس: بينا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وقريش والأنصار ينتظرون بلالاً أن يجيء فيؤذن احتبس عليهم ثم جاء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما حبسك يا بلال عن الأذان؟ قال: خرجت مقبلاً إليك، لكني مررت على باب فاطمة عليها الصلاة والسلام وهي تطحن واضعة ابنها الحسن عند الرحى وهي تبكي، فقلت لها: أيما أحب إليك: إن شئت كفيتك ابنك، وإن شئت كفيتك الرحى؟ فقالت: أنا أرفق بابني؛ فأخذت الرحى فطحنت؛ فذاك الذي حبسني عنك. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رحمتها رحمك الله.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زوج فاطمة، بعث معها بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف وجرتين وزوجي سقاء. قال علي عليه السلام: فقلت لفاطمة عليها السلام: لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بالسبي. فأتياه جميعاً. فذكرا ذلك له وقالا: أخدمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لا أخدمكما وأدع أهل الصفة تنطوي بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم. فرجعا فدخلا في خميلتهما، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتبادرا، فقال: مكانكما! ألا أخبركما بشيء خير لكما مما سألتماني، علمنيه جبريل عليه السلام: تكبران في عقب كل صلاة عشراً وتسبحانه عشراً وتحمدانه عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما حمدتما الله ثلاثاً وثلاثين وتسبحان ثلاثاً وثلاثين وتكبران أربعاً وثلاثين. قال علي عليه السلام: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ قال علي: قاتلكم الله يا أهل العراق، ولا ليلة صفين.
وعن أنس: جاءت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو مجلاً بيدها من الطحين. فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم بغلام وعليها ثوب، فذهبت تغطي وجهها فتخرج رجلاها، فذهبت تغطي رجليها فذهب رأسها. فقال صلى الله عليه وسلم : إنما هو أبوك وغلامك.
ومدح الفقر والرضا به مخرجة من الدنانير. فأما المنغمس في الدنيا والراغب فيها فجماله وفخره في الغنى، ووباله وفساد حاله وفضائله الفقر. وقد أكثر الناس في ذلك، فكانوا أكثر ممن رضي بالفقر، كنسبة كثرة الراغبين في الدنيا إلى قلة طالبي الآخرة.

وقد قالوا: الفقر رأس كل بلاء، وداعية إلى مقت الناس، وهو مع ذلك مسلبة للعقل والمروءة، ومذهبة للحياء والأدب والعلم، معدن للتهمة. ومتى نزل بالرجل الفقر لم يجد بداً من ترك الحياء. ومن فقد حياءه فقد مروءته، ومن فقد مروءته مقت، ومن مقت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن أنكر عقله، واستحال ذهنه، وذهب حفظه وفهمه، ومن صار إلى ذلك كان قوله وفعله عليه لا له. وإذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان ظنه به حسناً. فإن أذنب غيره أظنوه، وكان عندهم للتهمة أهلاً. وليست خلة هي للغني مدح إلا وهي للفقير عيب، فإن كان شجاعاً قيل أهوج، وإن كان جواداً قيل مبذر، وإن كان حليماً قيل ضعيف، وإن كان وقوراً قيل بليد، وإن كان لسناً قيل مهذار، وإن كان صموتاً قيل عيي.
وأوصى قيس بن معدي كرب الكندي بنيه فقال: عليكم بهذا المال فاطلبوه أجمل الطلب، واجعلوه جنة لأعراضكم يحسن في الدنيا مقالكم، فإن بذله كمال الشرف وثبات المروءة، وإنه ليسود غير السيد، ويقوي غير الأيد، حتى يكون في أنفس الناس نبيهاً، وفي أعينهم مهيباً. ومن كسب مالاً فلم يصل منه رحماً، ولم يعط منه سائلاً، ولم يصن به عرضاً، بحث الناس عن أصله، فإن كان ناقصاًهتكوه، وإن كان صحيحاً كسبوه إما دنية أو عرقاً لئيماً حتى يمتحنوه.
قال لقمان لابنه: إني قد ذقت المر فلم أذق أمر من الفقر، فإن افتقرت يوماً فاجعل فقرك فيما بينك وبين الله ثم سله، فما من أحد دعا الله فلم يجبه، أو سأله فلم يعطه. ولا تحدث الناس بفقرك فتهون عليهم ويبغضوك.
وقيل للقمان: أي الناس أعلم؟ قال: من ازداد من علم الناس إلى علمه. قيل: فأي الناس أغنى؟ قال: من رضي بما أوتي. قيل: فأي الناس خير؟ قال: المؤمن الغني. قيل: الغنى من المال؟ قال: بل الغنى من العلم، فإن احتاج الناس إليه وجدوا عنده علماً، وإن لم يحتج الناس إليه أغنى نفسه.
باع طلحة ضيعة بخمسين ألف درهم وتصدق بها، ثم راح إلى الجمعة في قميص مرقوع.
وقال قيس بن عاصم في وصيته لولده: أكرموا الإبل فإن فيها مهر الكريمة ورقوء الدم.
ورقوء الدم حبسه، وكذلك الدمع يقال لا أرقأ الله له مدمعاً.
ومن أمثالهم في إكرام المال: من ذهب ماله هان على أهله.
ودخل أحيحة بن الجلاح حائطاً، فرأى تمرة ساقطة فتناولها، فعوتب في ذلك فقال: التمرة إلى التمرة تمر، والذود إلى الذود إبل، فذهبا مثلين. وهو القائل: (من البسيط)
استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب ... من ابن عم ولا عم ولا خال
إني أقيم على الزوراء أعمرها ... إن الحبيب إلى الإخوان ذو المال
ومن محبتهم بالمال والغنى أمروا بإصلاحه، ومنه البيت السائر: (من الوافر)
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وهو للمتلمس. وقبله:
لحفظ المال خير من بغاه ... وسير في البلاد بغير زاد
ومنه الخبر عن عائشة رضي الله عنها أنها وهبت مالاً كثيراً ثم أمرت بثوب لها أن يرفع، وقالت: لا جديد لمن لا يلبس الخلق.
ومن أمثال العرب: من استغنى كرم على أهله.
قال الشاعر: (من الرمل)
يكرم الناس دنياً مكثراً ... ويهان الماجد العف العديم
وقال بعض الفرس: من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب حتى يثبت صدقه، فإن ثبت صدقه فهو عندي أحمق.
وروي عن رجل من أهل العلم أنه مر به رجل من أرباب المال فنحر له وأكرمه، فقيل له بعد ذلك: أكانت لك إلى هذا حاجة؟ قال: لا والله، ولكني رأيت ذا المال مهيباً، أو قال رأيت المال مهيباً.
ويشبه ذلك قول عروة بن الورد: (من الوافر)
ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير
ويقضيه الدني وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذنب جم ... ولكن الغنى رب غفور
ورأى أنو شروان فقيراً جاهلاً فقال: بئس ما اجتمع على هذا، فقر ينغص دنياه وجهل يفسد آخرته.
وقال آخر: نعم أخو الشريف درهمه: يغنيه عن اللئام ويتجمل به في الكرام.
وقال آخر: الفقير في الأهل مصروم، والغني في الغربة موصول.

قيل لرجل مستهتر بجمع المال: ما هذا كله؟ قال: إنما أجمعه لروعة الزمان، وجفوة السلطان، وتخلي الإخوان، ودفع الأحزان.
قال رجل: كنت أمشي مع سفيان بن عيينة، فسأله سائل فلم يكن معه ما يعطيه فبكى. فقلت له: وما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيراً فلا يصيبه منك.
قال سعيد بن عبد العزيز: ما ضرب العباد بسوط أوجع من الفقر.
وكان العياشييقول: الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع للشمس، ومن الذنب للمصر، ومن الحكم للمقر؛ وهو عندهم أرفع من السماء، وأعذب من الماء، وأحلى من الشهد، وأذكى من الورد؛ خطأه صواب، وسيئته حسنة، وقوله مقبول؛ يغشى مجلسه ولا يمل حديثه. قال: والمفلس عند الناس أكذب من لمعان السراب، ومن رؤيا الكظة، ومن مرآة اللقوة؛ لا يسلم عليه إن قدم، ولا يسأل عنه إن غاب؛ إن غاب شتموه، وإن حضر زبروه، وإن غضب صفعوه؛ مصافحته تنقض الوضوء، وقراءته تقطع الصلاة؛ أثقل من الأمانة، وأبغض من الملحف المبرم.
رأى أعرابي إبل رجل قد كثرت بعد قلة، فقيل: إنه زوج أمه فجاءت بمال. فقال: اللهم إنا نعوذ بك من بعض الرزق.
وقال أعرابي: اجمعوا الدراهم فإنها تلبس اليلمق وتطعم الجردق.
وقال بعضهم: طلبت الراحة لنفسي فلم أجد شيئاً أروح لها من ترك ما لا يعنيها، وتوحشت في البرية فلم أر وحشة أشد من قرين سوء، وشهدت الزحوف ولقيت الأقران فلم أر قرناً أغلب للرجل من امرأة سوء، ونظرت إلى كل ما يذل العزيز ويكسره فلم أر شيئاً أذل له ولا أكسر من الفاقة.
قال حضين بن المنذر: لوددت أن لي أساطين مسجد الجامع ذهباً وفضة لا أنتفع منه بشيء. قيل له: لم يا أبا ساسان؟ قال: يخدمني والله عليه موتان الرجال.
قال علي بن سويد بن منحوف: أعدم أبي إعدامة بالبصرة، فخرج إلى خراسان فلم يصب بها طائلاً، فبينا هو يشكو تعذر الأشياء عليه إذ عدا غلامه على كسوته وبغلته فذهب بها، فأتى أبا ساسان حضين بن المنذر الرقاشي، فشكا إليه حاله، فقال له: والله يا ابن أخي ما عمك ممن يحمل محاملك، ولكن لعلي أحتال لك. فدعا بكسوة حسنة فألبسني إياها، ثم قال: امض بنا. فأتى باب سويد بن منحوف، فدخلت على الوالي فإذا حضين على فراش إلى جنبه. فسلمت على الوالي فرد علي. ثم أقبل عليه حضين فقال: أصلح الله الأمير هذا علي بن سويد بن منحوف سيد فتيان بكر بن وائل وابن سيد كهولها، وأكثر الناس مالاً، وقد تحمل بي على الأمير في حاجة، قال: حاجته مقضية؛ قال: فإنه يسألك أن تمد يدك من ماله ومراكبه وسلاحه إلى ما أحببت، قال: لا والله ما أفعل ذلك بل نحن أولى بزيادته؛ قال: فقد أعفيناك من هذه إذ كرهتها، وهو يسألك أن تحمله حوائجك بالبصرة؛ قال: إن كان فيها حاجة فهو فيها ثقة، ولكني أسألك أن تكلمه في قبول معونة منا فإنا نحب أن نرى على مثله من أثرنا. فأقبل علي فقال: يا أبا الحسن، عزمت عليك أن لا ترد على عمك شيئاً أكرمك به. فسكت فدعا لي بمال ودواب وكسوة ورقيق. فلما خرجت قلت: يا أبا ساسان لقد وافقتني على خطة، قال: اذهب! إليك يا بن أخي، فعمك أعلم بالناس منك، إن الناس إن يعلموا لك غرائر من مال حشوا لك أخرى، وإن علموا أنك فقير تعدوا عليك مع فقرك.
كان سعية بن غريض اليهودي ينادم قوماً من الأوس والخزرج، ويأتونه فيقيمون عنده، ويزورونه في أوقات قد ألف زيارتهم فيها، فأغار عليه بعض ملوك اليمن فانتسف ماله حتى افتقر، فانقطع عنه إخوانه وجفوه، فلما أخصب وتراجعت حاله راجعوه. فقال في ذلك: (من الوافر)
أرى الإخوان لما قل مالي ... وأجحفت النوائب ودعوني
فلما أن غنيت معاد مالي ... أراهم لا أبا لك راجعوني
وكان القوم خلاناً لمالي ... وإخواناً لما خولت دوني
فلما شذ مالي باعدوني ... ولما عاد مالي عاودوني
صخر بن حبناء: (من الطويل)
رأيتك لما نلت مالاً وعضنا ... زمان نرى في حد أنيابه شغبا
تجنى علي الذنب أنك موسر ... فأمسك ولا تجعل غناك لنا ذنبا
كاتب: حسر الدهر عن تجملي قناع القناعة، ولكني مع الظمأ عن ذي الموارد نافر، ومع الفاقة بغنى النفس مكاثر.

قال رجل لابن عبد الرحمن بن عوف: ما ترك أبوك؟ قال: ترك مالاً كثيراً، فقال له: ألا أعلمك شيئاً هو خير لك مما ترك أبوك؟ إنه لا مال لعاجز، ولا ضياع على حازم، والرفق جمال وليس بمال، فعليك من المال بما لا يعولك ولا تعوله.
قيل: لا تصحب غنياً فإنك إن ساويته في الإنفاق أضر بك، وإن تفضل عليك استنصر واستذلك.
قال الحجاج لكاتبه: لا تجعلن مالي عند من لا أستطيع أخذه منه. قال: ومن لا يستطيع الأمير أن يأخذ منه ماله؟ قال: المفلس.
فكان من شأن الفقير على هذا أن لا يعامل. ومن لا يعامل انقطعت مواردكسبه.
وقد كانوا يتظاهرون بالغنى، ويرونه مروءة وفخراً، فمن ذلك ما اعتمده الحسن بن سهل حين زوج بوران ابنته من المأمون، وتكفله في ذلك مشهور. قيل إنه نثر على الناس كتب الأملاك، فمن حصل بيده شيء منها جعل له ما تضمنه، وأعوزهم الحطب فأوقد عوضه العود المندلي.
ابن الرومي: (من الطويل)
وصبري على الأقتار أيسر محملاً ... علي من التغرير بعد التجارب
ومن يلق ما لاقيت في كل مجتنى ... من الشوك يزهد في الثمار الأطايب
أنشد أبو عثمان الخالدي: (من البسيط)
تزيدني قسوة الأيام طيب ثناً ... كأنني المسك بين الفهر والحجر
لقد فرحت بما عانيت من عدم ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر
أنشد سفيان بن عيينة: (من البسيط)
كم من قوي قوي في تصلبه ... مهذب الرأي عنه الرزق منحرف
ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط ... كأنه من خليج البحر يغترف
هذا دليل على أن الإله له ... بالخلق سر خفي ليس ينكشف
استضاف رجل أعرابياً فقال لامرأته: هل من لبن تسقينا؟ قالت: لا والله، قال: فتمرات، قالت: لا والله، قال: فكسيرات، قالت: لا والله، فالتف بكسائه وخرج على ضيفه وهو يقول: (من الطويل)
إلى الله أشكو ما طوى من سجيتي ... ومن خلقي هذا الزمان المبرح
قال قبيصة بن المهلب: نظر أعرابي إلى المنصور بالكوفة بعد أن ولي الخلافة وكان يعرفه في أيامه الأولى، فقال: ولي هذا الخلافة؟ قيل: نعم، فنظر إليه ساعة ثم قال: (من الطويل)
حديث غنى لاقى من الدهر شبعة ... يحاذر أن يلقى بها جوع قابل
أبو العالية: (من البسيط)
إذا رأيت امرءاً في حال عسرته ... مصافياً لك ما في وده خلل
فلا تمن له أن يستفيد غنى ... فإنه بانتقال الحال ينتقل
كان سعد بن عبادة يقول: اللهم هب لي حمداً وهب لي مجداً، لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم إنه لا يصلحني القليل ولا أصلح عليه.
القاضي أبو الحسن بن عبد العزيز: (من الطويل)
قالوا توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرما ... علي الغنى نفسي الأبية والدهر
إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر
وماذا على مثلي إذا خضعت له ... مطامعه في كف من حصل التبر
وأكثر ما عندي لمن قعدت به ... فضائله الإعراض والنظر الشزر
قال حكيم: احتمال الفقر أحسن من احتمال الذل، على أن الرضى بالفقر قناعة، والرضى بالذل نذالة.
وروي أن الحجاج بن يوسف لما زوج محمد بن الحجاج قال: لأصنعن طعاماً لم يسبقني إليه الأولون ولا يلحقني به الآخرون. فقيل له: لو وجهت إلى المدائن فسألت كيف يصنع كسرى بالطعام فعملت على نحو ذلك. فأرسل إلى بعض من يعلم ذلك، فقال: حين تزوج كسرى هنداً بنت بهرام كتب إلى عماله في الآفاق: ليقدم علي كل رجل منكم وخليفة شرطته، فوافى عنده اثنا عشر ألفاً، فأطعمهم في ثلاثة أيام، كل يوم أربعة آلاف خوان، يقعدون على بسط الديباج المنسوجة بالذهب ووسائد الديباج المنسوجة بالذهب؛ فلما أكلوا أتى كل واحد بمثقال من مسك فغسل به يده، فلما قاموا بعث بتلك الآنية والبسط فقسمت عليهم. فقال الحجاج: أفسدت علي لعنك الله! اذهبوا فاشتروا الجزر فانحروها في مربعات واسط.

وقيل: دخل خمارويه بن أحمد بن طولون يوماً إلى بعض بساتينه، فرأى قراح نرجس قد فتح جميع زهره فاستحسنه، فدعا بغدائه فتغدى، ثم دعا بشرابه، فلما انتشى قال: علي بألف مثقال مسك الساعة، ثم قال: يسحق ويسمد به النرجس. فجعلوا ينثرونه على أوراقه ويطرح في أصوله.
وهذا الغنى المفسد الذي يكب صاحبه على وجهه.
كان يونس يقول: لا تعادوا القضاة فيختاروا عليكم المذاهب، ولا العلماء فيضعوا عليكم المثالب، ولا المياسير فيبذلوا في تلفكم الأموال.
شاعر: (من الطويل)
إذا قل مال المرء قل صديقه ... وأهوت إليه بالعيوب الأصابع
وقال آخر: (من الطويل)
ولا خير في رزق وإن كان واسعاً ... إذا كنت في مجنى اللئيم تطالبه
وقال آخر: (من الطويل)
ولا مستزاد تبتديه بذلة ... وتفضي إلى من عليك عواقبه
وقال آخر: (من الكامل المرفل)
خلقان لا أرضاهما أبداً ... تيه الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطراً ... وإذا افتقرت فته على الدهر
قال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم العون الغنى على طاعة الله عز وجل، ونعم السلم إلى الغنى طاعة الله تلا: " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، وقوله: " استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين " .
وقال حكيم لابنه: اطلب المال فإنه عز في قلبك وذل في قلب عدوك.
وقال آخر لابنه: لأوصيك باثنتين لن تزال بخير ما تمسكت بهما: دلاهمك لمعاشك، ودينك لمعادك.
وقالوا: يجمع المال فيصان به العرض، وتحمى به المروءة، وتوصل به الرحم.
وقال عبد الرحمن بن عوف: حبذا المال أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي.
وقال سفيان الثوري: صلاح المؤمن في هذا الزمان المال.
قال حكيم: لا توحشنك الغربة إذا أنست بالكفاية.
الغنى أنس الأوطان.
لاتفزع لفراق الأهل مع لقاء اليسار.
ذكر عند سعيد بن المسيب المال وحرص الناس عليه، فقال سعيد: لا خير في من لا يحب المال، أقضي به ديني، وأصل به رحمي، وأتقرب به إلى ربي عز وجل، وأستعين به على معاشي وأكف به وجهي.
وكان عروة بن الورد العبسي موسراً، وكان له ابن عم معسر، وكانا يسكنان الأردن وكان عروة كثيراً ما يعطف عليه ويبره، وكان ذاك يشكو إليه الحاجة، فلما أكثر عليه كتب إليه وتروى الأبيات لأبي عطاء السندي: (من الطويل)
إذا المرء لم يكسب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلاً وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
فما طالب الحاجات من حيث يبتغي ... من الناس إلا من أجد وشمرا
ولا ترض من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا
عبد الله بن همام السلولي: (من البسيط)
وأطعم الله أقواماً على قدر ... ولم يحاسبكم في الرزق والطعم
المتوكل الليثي: (من الكامل)
ومعيري بالفقر قلت له اقتصد ... إني أمامك في الزمان قديم
قد يكثر النكس المقصر همه ... ويقل مال المرء وهو كريم
الأقرع بن معاذ: (من البسيط)
فاختر لنفسك جيراناً تجاورهم ... لا يصلح المال حتى يصلح الجار
مر رجل من أهل المال برجل من أهل العلم، فأكرمه فقيل له بعد ذلك: أكانت لك إلى هذا حاجة؟ قال: لا، ولكني رأيت ذا المال مهيباً أو قال رأيت المال مهيباً.
أبو الفتح البستي: (من البسيط)
إذا حوى فاضل ذو همة نشباً ... بنى به لبنيه بعده رتبا
ومن سعى بطلب العليا بلا سبب ... من ثروة وغنى أعياه ما طلبا
أما ترى النار والعلياء مركزها ... لا ترتقي صعداً إن لم تجد حطبا
قال الأصمعي: لقيت أرعابياً فسايرته ثم نزلت معه، وكانت له حالة رثة بذة، فحادثته واستنشدته، فأنشدني أشعاراً كأنه هو قائلها، واستخبرته عن أخبار وكأنه كان مشاهدها، فطفقت أتعجب من جماله وكماله وسوء حاله، فسكت سكتة ثم أنشأ يقول: (من الكامل المجزوء)

أأخي إن الحادثا ... ت عركنني عرك الأديم
ففللن غرب بطالتي عن ذي مماحكة خصيم
لا تنكرن أن قد رأي ... ت أخاك في طمرة عديم
إن كن أثوابي بلي ... ن فإنهن على كريم
الأعشى: (من الكامل)
والمال زين في الحياة وغبطة ... ولقد ينال المال غير كريم
قال حميد بن هلال: خطبنا عتبة بن غزوان فقال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة قد سلعت أفواهنا من أكل الشجر، وقد رأيتني وأنا وسعد التقطنا بردة فشققناها بيننا نصفين، وإنا اليوم ليس منا رجل إلا وهو أمير على مصر، ألا وإني أعوذ بالله من أن أكون في نفسي عظيماً وفي أعين الناس صغيراً، ألا وإنها لم تكن نبوة إلا تناسخت ملكاً، وستجربون الأمراء بعدي.
وقال عبد الرحمن بن أزهر: سمعت أبا عبيدة بن الجراح قال: كنت حفاراً أحفر القبور بمكة ولا مال لي، فأسلمت وأنا أكسب طعام يومي، فكنت حين أسلمت إذا حفرت قبراً صنعت طعاماً فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لا يفارقه عمار وخباب بن الأرت، وكنا يومئذ إنما نحن بضعة عشر رجلاً، وإني حفرت يوماً فبراً بدرهمين فمررت بشملة تباع بدرهمين فابتعتها، وكنت قد عريت، فلما وقعت في يدي ندمت ألا أكون صنعت بها طعاماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنها لمعي إذ مر بي رجل فساومني بها وبعته بأربعة دراهم، فما وصلت إلى منزلي حتى ابتعت شملة خيراً منها بدرهمين وابتعت بدرهمين خبزاً ولحماً، فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسل وجمع إليه أصحابه فأكلنا، ثم قال: اللهم إنا قليل فكثرنا، وإنا مقلون فكثر لنا. قلت: يا نبي الله ألا ترى إلى هذه الشملة علي؟ ألا أخبرك بخبرها؟ فقصصت عليه خبرها فضحك ثم قال: أما إنه لو أخبرتكم بما يفتح الله عليكم سركم، ولو أخبرتكم كيف تكونون فيها ساءكم. قلنا: يا نبي الله فلا حاجة بالدنيا. قال: يأبى الله. قلنا: ونهلك وأنت بين أظهرنا؟ قال: لا تصلحون ما بقيت وتهلكون إذا هلكت إلا قليلاً. قلنا: وكيف ذلك؟ قال: تفتح فارس فتأكلون طعامهم وتلبسون لباسهم، وليس من قبل هذا تهلكون، ولكنكم تنعمون فتشبعون وتوسرون فتطغون، وتفتح الروم فيكون كذلك. قلنا: يا رسول الله فأوصنا، فقال: إن الدنيا أفضت إليكم فما لقيتم منها فلا تأخذوه إلا طيباً وما لبستم فلا تلبسوا مشهوراً، يرفع إليكم البصر وأنتم ملوكها وأمراؤها، فاقضوا عدلاً، وسيروا قصداً، ولا تتخذوا مجالس الرفعة فإنها وضيعة، وسوف ألقاكم غداً، فمن قبض على طريقتي فأولئك هم السالمون، فأقول فلان بن فلان؟ فيقال: ربك أعلم، فأقول ربي أعلم.
وروي أن علياً عليه السلام حدث، قال: لقد غدوت في غداة شاتية جائعاً خصراً، وأيم الله لو كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم طعام لأطعمت منه، وقد أخذت إهاباً مطعوناً فجئت وسطه ثم شددته علي ليدفئني ألتمس كسباً لعلي أجد شيئاً آكله، فمررت بيهودي وهو في حائط له ينزع فيه بيده يسقيه، فأطلعت عليه من ثلمة الحائط، فقال: يا أعرابي ما لك؟ هل لك في كل دلو بتمرة؟ قلت: نعم، افتح الباب. ففتحته لي فدخلت فأعطاني دلواً، فجعلت كلما نزعت دلواً أعطاني تمرة، حتى إذا امتلأت كفاي طرحت إليه دلوه وقلت: حسبي، ثم أكلتهن وحمدت الله، وشربت الماء الذي نزعت بكفي حتى رويت، ثم أقبلت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته جالساً في المسجد في الناس، فبينما نحن عنده إذ طلع مصعب بن عمير في بردة خلق مرقوعة بفرو، فجاء وهو مستحيي يتقفى الناس حتى جلس في أدناهم، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ما كان فيه من النعمة وذكر ما أصابه من الجهد في الإسلام. قال: فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: يوشك أن يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى، وأن يغدى على أحدكم بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة أفأنتم يومئذ خير منا اليوم؟ فقلنا: يا رسول الله نحن يومئذ خير منا اليوم، كفينا المؤونة فتفرغنا للعبادة، قال: بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ.
قال جعفر بن سليمان لأعرابي رآه في إبل قد ملأت الوادي: امن هذه الإبل؟ قال: لله في يدي. فهذا الشكر الجميل النافع.
قال النخعي: إنما يهلك الناس في فضول الكلام وفضول المال.

أبو بكر العرزمي: (من الطويل)
أرى عاجزاً يدعى جليداً لغشمه ... ولو كلف التقوى لكلت مضاربه
وعفاً يسمى عاجزاً لعفافه ... ولولا التقى ما أعجزته مذاهبه
وليس بعجز المرء أخطأه الغنى ... ولا باحتيال أدرك المال كاسبه
آخر: (من المنسرح)
كم من لئيم الآباء شرفه ال ... مال أبوه وأمه الورق
ومن كريم الجدود ليس له ... عيب سوى أن ثوبه خلق
الحسن: إن أشد الناس صراخاً يوم القيامة رجل سن سنة ضلالة فاتبع عليها، ورجل فارغ مكفي قد استعان بنعم الله علىمعاصيه.
قيل: أمور الدنيا أربعة: إمارة وتجارة وصناعة وزراعة، فمن لم يكن أحد أهلها كان كلاً على الناس.
قوام الدين والدنيا العلم والكسب، فمن رفضهما وقد ابتغى الزهد لا العلم ولا الكسب وقع في الجهل والطمع.
قال حكيم: الدين مجمع كل بؤس، هم بالليل وذل بالنهار، وهو ساجور الله في أرضه، فإذا أراد أن يذل عبداً جعله طوقاً في عنقه.
قال الشاعر: (من الوافر)
لقد كان القريض سمير قلبي ... فألهتني القروض عن القريض
أبو سعيد المخزومي: (من الطويل)
ولست بنظار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر
العتابي: (من البسيط)
إني امرؤ هدم الإقتار مأثرتي ... واجتاح ما بنت الأيام من خطري
أيام عمرو بن كلثوم يسوده ... حيا ربيعة والأحياء من مضر
أرومة عطلتني من مكارمها ... كالقوس عطلها الرامي من الوتر
قال رجل لفيلسوف: ما أشد فقرك، فقال: لو علمت ما الفقر لشغلك الغم لنفسك عن الغم لي.
قرئ على درهم على أحد جانبيه: (من السريع)
قرنت بالنجح وفي كل ما ... يراد من ممتنع يوجد
وفي الجانب الآخر:
وكل ما كنت له آلفاً ... فالجن والإنس له أعبد
وقال الحسن: ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله، ومن حفظ ماله فقد حفظ الأكرمين: دينه وعرضه.
قال الثوري: المال في هذا الزمان عز للمؤمن.
وقال: المال سلاح المؤمن في هذا الزمان، وكان بين يديه دنانير يقلبها، فقيل له: أتحبها؟ قال: دعنا منك، فلولا هذه لتمندلت بأعراضنا القوم تمندلاً.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : إنما يخشى المؤمن الفقر مخافة الآفات على دينه.
ترك ابن المبارك دنانير وقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجمعها إلا لأصون بها حسبي وديني.
وقيل لآخر: لم تحب هذه الدنانير والدراهم وهي تدينك من الدنيا؟ قال: هي وإن دلتني منها فقد صانتني عنها.
وقال ابن عيينة: من كان له مال فليصلحه، فإنكم في زمان من احتاج فيه إلى الناس كان أول ما يبذل دينه.
قال أبو الفضل الميكالي: (من الطويل)
وقد يهلك افنسان كثرة ماله ... كما يذبح الطاووس من أجل ريشه
وقيل: الغنى ينبوع الأحزان.
عبد الله بن طاهر: (من الطويل)
ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى ... ويأخذ ما أعطى ويفسد ما أسدى
فمن سره إلا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا
مالك بن حريم الهمداني جد مسروق بن الأجدع: (من الطويل)
انبيك والأيام ذات تجارب ... وتبدي لك الأيام ما لست تعلم
بأن ثراء المال ينفع ربه ... ويثني عليه الحمد وهو مذمم
وإن قليل المال للمرء مفسد ... يحز كما حز القطيع المخذم
يرى درجات المجد لا يستطيعها ... ويقعد وسط القوم لا يتكلم
قال الأصمعي: كان رجل من العرب مؤاخياً لابن عم له، فهاجر أحدهما فنال شرفاً وكسب مالاً، فقدم عليه الأعرابي فألقاه قد تنكر له، فأقام عنده يوماً وقد نكر حاله، فشد كوره على راحلته وأقبل حتى وقف على ابن عمه وقال: (من الطويل)
إن تك قد أوتيت مالاً فلا تكن ... به بطراً فالحال قد يتحول
فكم قد رأينا من أناس ذمي غنى ... وجدة عيش أصبحوا قد تبدلوا
ثم كر راحلته وولى راجعاً إلى بلده.

دخل داود عليه السلام غاراً فيه رجل ميت وعند رأسه لوح مكتوب فيه: أنا فلان بن فلان ملكت ألف عام، وبنيت ألف مدينة، وتزوجت ألف امرأة، وهزمت ألف جيش، ثم صار أمري إلى أن بعثت إلى السوق قفيزاً من الدراهم في رغيف فلم يوجد، فبعثت قفيزاً من الدنانير فلم يوجد، فبعثت قفيزاً من الجواهر فلم يوجد، فدققت الجواهر فاستففتها فمت مكاني، فمن أصبح له رغيف وهو يحسب أن على وجه الأرض أغنى منه فأماته الله كما أماتني.
وذكر أن عبد الرحمن بن زياد ولي خراسان، فعاد وقد كسب ثمانين ألف ألف درهم وافية، وقدر لنفسه أنه إذا عاش مائة سنة ينفق في كل يوم ألفاً أنه يكفيه، فرئي بعد مدة على حمار تنال رجله الأرض، واحتاج حتى باع حلية مصحفه.
وقال هيثم بن خالد الطويل: دخلت على صالح مولى منارة في يوم شات وهو جالس في قبة له مغشاة بالسمور وجميع فرشها سمور، وبين يديه كانون فضة يسجر عليه العود، ثم رأيته بعد ذلك في رأس الجسر وهو يسأل الناس ويقول: أنا مولى منارة، فربما وهب له درهم والشيء (اليسير).
ومثل هذا كثير لا يحصى. وقد رأينا في عصرنا مسعود بن المؤمل بن الهيتي اليهودي، ملك مائتي ألف دينار عيناً وأجناساً وقروضاً، ثم رأيناه بعد وقد أسلم وهو يطلب رغيف خبز من اليهود يقتاته في السوق مكانه.
ورأينا نصر بن الدريج ملك ستين ألف دينار عيناً سوى ما له من الأملاك والعقار، ثم احتاج حتى كتب رقاعاً يستميح الناس، ومات على تلك الحال.
وهذان لما ابتدأت حالهما في التناقص، وقبل أن تنتهي إلى الفقر لم يراقبا الله ولا استعانا بلطفه في حفظ ما أبقى من نعمتهما، بل طلبا العوض عما ذهب منهما بضمان المكس والدخول في المحرمات، فآل بهما فعلهما إلى الفقر الذي ذكرناه.
وأعجب من كل ما وجد في السير خبر القاهر وخروجه إلى جامع المدينة في حشو جبة بغير ظهارة يمد كفه إلى الناس، بعد الخلافة ونفاذ أمره في أقطار الأرض. فتبارك الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء.
قال علي عليه السلام: إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما منع غني، والله سائلهم عن ذلك.
وعنه: العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى.
إبراهيم بن أدهم: اكتسب فإنك إن لم تفعل احتجت فداهنت الناس للطمع، فخالفت حينئذ الحق وأهله.
كان لعمر بن عبد العزيز سفينة يحمل فيها الطعام من مصر إلى المدينة فيبيعه وهو واليها. فحدثه محمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه وآله سلم: أيما عامل تجري في رعيته هلكت رعيته. فأمر بما في السفينة فتصدق به، وفكّكها وتصدّق بخشبها على المساكين.
قيل لرجل أصابته حاجة: لو خالطت هؤلاء فأصبت من دنياهم، فقال: دعوني عنكم فإني قد لقيت من فقر الدنيا ما لا أحب أن أجمع إليه فقر الآخرة.
أبو نواس: من الطويل
كفى حزناً أن الجواد مقتَّر ... عليه ولا معروف عند بخيل
آخر: من الطويل
ألم تر أن المال عون على التقى ... وليس جواد معدم كبخيل
المتنبي: من الخفيف
والغنى في يد اللئيم قبيح ... قدر قبح الكريم في الإملاق
يقال: كثرة مال الميت تعزّى عنه ورثته.
قيل للحسن البصري: لم صارت الحرفة مقرونة بالعلم، والثروة مقرونة مع الجهل؟ قال: ليس كما قلتم، ولكن طلبتم قليلاً في قليل فأعجزكم، طلبتم المال وهو قليل في أهل العلم وهو قليل، ولو نظرتم إلى من يحارف من أهل الجهل لوجدتموهم أكثر.
وقد قال أبو إسحاق الصابي ولم يقنعه الحسن: من الطويل
فحيث يكون النقص فالرزق واسع ... وحيث يكون الفضل فالرزق ضيّق
وهذا معنى مطروق، وقد تداوله الشعراء وأصحاب النثر كلهم. نظروا إلى الخبر المشهور: حذق المرء محسوب عليه من رزقه.

نوادر من هذا الكتاب
دخل الصوص على رجل فقير ليس في بيته شيء، وجعلوا يطلبون ويفتشون، فانتبه الرجل فرآهم فقال: يا قتيان هذا الذي تطلبون بالليل قد طلبناه بالنهار فلم نجده.
دخل لص داراً فلم يجد فيها شيئاً إلا دواة، فكتب على الحائط: عز علي فقركم وغناي.
احتاج مزبد أن يبيع جبة لسوء حاله فنادى المنادي عليها فلم تطلب بشيء، فقال مزيد: ما كنت عرياناً إلا الساعة.
قيل لأعرابي فقير: ما تلبس؟ قال: الليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس.

أتى أعرابي الحضر فجعل يؤجر بعيره ويحمل عليه، فقيل: قد أتعبت نفسك وكددت بعيرك، فقال: (من الرجز)
يشكو إلي جملي طول السرى ... يا جملي ليس إلي المشتكى
الدرهمان كلفاني ما ترى ... حمل الجواليق وجذباً بالعرى
صبراً قليلاً فكلانا مبتلى كان أبو الشمقمق الشاعر أيباً ظريفاً عاقلاً محارفاً صعلوكاً متبرماً قد لزم بيته في أطمار مسحوقة. وكان إذا استفتح أحد بابه خرج فنظر من فروج الباب، فإن أعجبه فتح له وإلا سكت عنه. فأقبل إليه بعض إخوانه، فلما رأى سوء حاله قال له: أبشر أبا الشمقمق فإنا نجد في الحديث أن العارين في الدنيا الكاسون في الآخرة. قال: لئن كان هذا الذي تقوله حقاً لأكونن يوم القيامة بزازاً، وقال: (من الرمل المجزوء)
أنا في حال تعالى ال ... له ربي أي حال
ليس لي شيء إذا قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي
ولقد أفلست حتى ... محت الشمس خيالي
ولقد أملقت حتى ... حل أكلي لعيالي
وقال: (من الخفيف)
أتراني أرى من الدهر يوماً ... لي فيه مطية غير رجلي
حيثما كنت لا أخلف شيئاً ... من رآني فقد رآني ورحلي
آخر: (من الخفيف)
خلق المال واليسار لقوم ... وأراني خلقت للإملاق
أنا فيما أرى بقية قوم ... خلقوا بعد قسمة الأرزاق
حبس عمرو بن الليث أبا سعيد الكاتب وعلي بن النضر فتبلح أبو سعيد في أداء ما طولب به، فحلف المطالب ليقلعن أضراسه إن لم يؤده، فلما خبأ ماله في كيس عمد إليه ابن النضر فسرقه ودعا بالطبيب والكلبتين فقلعت أضراسه. ونمي الخبر إلى عمرو فاغتم له وأطلقه، فلما كان بعد مدة أتاه علي بالكيس، فقال: ما حملك على ما فعلت، دخلت في ذنبي وفجعتني بأضراسي؟ قال: اسكت فإنه إذا لم يكن لك أضراس ولك دراهم اتخذت الهرائس والأخبصة، وإذا لم يكن لك مال وأنت سالم الأضراس مت جوعاً. فضحك وتسلى.
نظر ابن سيابة إلى مبارك التركي على دابة، فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا رب هذا حمار له فرس وأنا إنسان وليس لي حمار.
أنشد أبو محلم لنفسه في مثله: (مخلع البسيط)
ما بصنع الليل والنهار ... ما للفتى منهما انتصار
من لم يؤدبه والداه ... أدبه الليل والنهار
كم من حمار له جواد ... وسيد ما له حمار
آخر: (من الوافر)
رضينا قسمة الرحمن فينا ... لنا أدب وللثقفي مال
سأل بعض رؤساء المغاربة الجرواني الشاعر: أي بروج السماء لك؟ فقال: واعجباً منك! ما لي بيت في الأرض، يكون لي برج في السماء؟ فضحك وأمر له بدار وأحسن إليه.
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله الحمد لله الذي لا تنأى فوائد جوده ولا تنزح، ولا تبعد عوائد فضله ولا تبرح، ينجي الملجج في غمرات البحار، كما يحفظ مقتحم الفلوات والقفار، الذي قسم الأيام بين عباده دولاً، وألزمهم أحكامه فلم يستطيعوا عنها حولاً، وقضى على كل نفس بما توجهت له حتى لا تدري بأي أرض تموت، وغيب عنها ما تستقبله حتى لا تدري ما تكسب غداً وما تقوت، وأعقب الاستقرار نقلة وظهنا، وجعل النهار معاشاً والليل سكنا. أحمده على ما آتانا من رزقه وادعين ومرتكضين، وأيدينا به من كلاءته مطمئنين ومغتربين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة يعضد الإقرار بها اليقين، وترفع الناطق بها مخلصاً في عليين، واسأله الصلاة على رسوله البشير الداعي إلى دار القرار، النذير المحذر من التداعي في درك النار، جاعل طيبة دار هجرته، وهجرة الوطن سبب نصرته، وعلى آله الطيبين الطاهرين وعترته.

الباب التاسع والثلاثون
ما جاء في الأسفار والاغتراب
وينضم إلى المعنى ما قيل في الوداع والمسرة بالإياب، وورود الكتاب وإصدار
الجواب
في قوله عز وجل: " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه " ، باعث على طلب الرزق الأسفار.
وفي الأثر: سافروا تغنموا.
وجاء فيه أيضاً: السفر قطعة من العذاب، ولكل منهما موضع، فالغنيمة بما فيه من ربح التجارات وحصول التجارب وغير ذلك من فوائد توجد في المقام، والعذاب بالعناء ومشقة الأجساد والإعياء.

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفراً قال: اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم أصحبنا بنصح، وأقبلنا بنجح، اللهم ازو لنا الأرض، وهون علينا السفر، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة.
وفي هذا الكلام حث على السفر عند الضرورة.
قال محمد بن سيرين: ثلاثة ليس معها غربة: حسن الآداب، وكف الأذى، ومجانبة الريب.
وقال بزرجمهر: يستحب من الخريف الخصب، ومن الربيع الزهر، ومن الجارية الملاحة، ومن الغلام الكيس، ومن الغريب الانقباض.
قيل: السفر ميزان الأخلاق. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للرجل الذي وصف عنده آخر: املته أو سافرت معه؟ قيل لرجل أراد السفر: تموت في الغربة، قال: ليس بين الموت في الوطن والموت في الغربة فرق، لأن الطريق إلى الآخرة واحد.
قال عروة بن الورد العبسي: (من الوافر)
ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير
وهي أبيات قد كتبت في باب الغنى والفقر لأنها به أليق. وكان عروة بن الورد كثير الاغتراب والارتكاض، ضارباً في الأرض حرصاً على الغنى. وكان شجاعاً فاتكاً كريماً جواداً، يجمع الصعاليك ويغير بهم على العرب. وله أخبار ترد في موضعها من هذا الكتاب. وكان يسمى عروة الصعاليك لفعله هذا ولا يزداد بتردد أسفاره وتوالي غاراته إلا فقراً، ولا يزداد الغنى منه إلا بعداً.
وكان عبد الله بن جعفر ينهى معلم ولده أن يرويهم أبيات عروة هذه، ويقول: هي تدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم.
وكان عروة مغرى بالأسفار كثير الحض عليها، وله في ذلك شعر كثير، فمن ذلك قوله: (من الطويل)
دعيني أطوف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي الحق محمل
أليس عظيماً أن تلم ملمة ... وليس علينا في الحقوق معول
وقوله: (من الطويل)
أرى أم حسان الغداة تلومني ... تخوفني الأعداء والنفس أخوف
لعل الذي خوفتنا من أمامه ... يصادفه في أهله المتخلف
إذا قلت قد جاء الغنى حال دونه ... أبو صبية يشكو المفاقر أعجف
له خلة لا يدخل الحق دونها ... كريم أصابته حوادث تجرف
تقول سليمى لو أقمت لسرنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف
وقوله: (من الطويل)
لعل ارتيادي في البلاد وبغيتي ... وشدي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يوماً إلى ربي هجمة ... يدافع عنها بالعقوق وبالبخل
قيس بن الخطيم: (من الوافر)
ولم أر كامرئ يدنو لضيم ... له في الأرض سير والتواء
وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلا عناء
وقال عبد قيس بن خفاف البرجمي: (من الكامل)
احذر محل السوء لا تحلل به ... وإذا نبا منك منزل فتحول
دار الهوان لمن رآها داره ... أفراحل عنها كما لم يرحل
الفرزدق: (من الطويل)
وفي الأرض عن دار القلى متحول ... وكل بلاد أوطئت كبلادي
عبيد الله بن الحر الجعفي: (من الطويل)
فإن تجفو عني أو ترد لي إهانة ... أجد عنك في الأرض العريضة مذهبا
فلا تحسبن الأرض باباً سددته ... علي ولا المصرين أماً ولا أبا
سلمة بن زيد البجلي: (من الكامل)
لا خير في بلد يضام عزيزه ... وعن الهوان مذاهب ومنادح
النسير العجلي: (من الطويل)
وإن بلدة أعيا علي طلابها ... صرفت لأخرى رحلتي وركابي
أسامةبن زيد: (من الطويل)
فلا يمنعنك من طريق مخافة ... ولا حذر وانفذ فهن المقادر
ولا تدع الأسفار من خشية الردى ... فكم رأينا من رد لا يسافر
ولو كان يبدو شاهد الأمر للفتى ... كأعجازه ألفيته لا يؤامر
أبو الأسود: (من الطويل)
لا تحسبن السير أقرب للردى ... من الخفض في دار المقامة والثمل
فكم رأينا حافظاًمتحفظاً ... أصيب وألقته المنية في الأهل
بعض الطرداء: (من الخفيف)

لو تراني بذي المجازة فرداً ... وذراع ابنة الفلاة وسادي
ترب بث أخا هموم كأن ال ... أفقر والبؤس وافيا ميلادي
أتصدى الردى وأتدرع اللي ... ل بهوجاء فوقها أقتادي
حظ عيني من الكرى خفقات ... بين شرخ ومنحنى أعواد
شرخا الرحل: آخره وواسطته.
أوحش الناس جانبي فما آ ... نس إلا بوحدتي وانفرادي
آخر: (من الطويل)
رمى الفقر بالفتيان حتى كأنهم ... بأطراف آفاق البلاد نجوم
إياس بن القائف: (من الطويل)
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا
فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً ... كفى بالممات فرقة وتنائيا
إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها ... فقدت صديقي والبلاد كما هيا
ولآخر: (من الطويل)
وفارقت حتى لا أبالي من النوى ... وإن بان جيران علي كرام
فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي ... وعيني على فقد الحبيب تنام
آخر: (من البسيط)
لا يمنعنك خفض العيشة في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أهلاً بأهل وجيراناً بجيران
وقال آخر: (من الكامل)
ومشتت العزمات لا يلوي على ... وطن ولا أهل ولا جيران
ألف النوى حتى كأن رحيله ... للبين رحلته إلى الأوطان
آخر: (من البسيط)
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظلم
وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم
أحاذر الفقر يوماً أن يلم بها ... فيهتك الستر عن لحم على وضم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً ... والموت أكرم نزال على الحرم
أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ ... وكنت أبقي عليها من أذى الكلم
ابن بسام رحمه الله: (من المنسرح)
لي صبية أشتكي فراقهم ... فقد سئمت الحياة مذ ولدوا
أرفه بخلق يبيت ليلته ... مستثقلاً ليس خلفه أحد
همته نفسه فإن عسر ال ... رزق كفاه يسير ما يجد
لم يتعلق بعرضه طمع ... ولا عليه للمنعمين يد
لم يعرف الماس ما دخيلته ... أذو يسار أم ماله سبد
حيث أناخت به مطيته ... فخير داريه ذلك البلد
امرؤ القيس بن حجر: (من الوافر)
لقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
بعض المحدثين: (من الوافر)
رجعنا سالمين كما بدأنا ... وما خابت غنيمة سالمينا
آخر وأبدع، وهو عبد الله بن محمد بن أبي عيينة: (من الطويل)
هو الصبر والتسليم لله والرضى ... إذا نزلت بي خطة لا أشاؤها
إذا نحن أبنا سالمين بأنفس ... كرام رجت أمراً فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنائم إنها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها
ابن الرمي: (من الطويل)
أفادتني الأسفار ما بغض الغنى ... إلي أغراني برفض المكاسب
فأصبحت في الإثراء أزهد زاهد ... وقد كنت في الإثراء أرغب راغب
ومن يلق ما لاقيت في كل مجتنى ... من الشوك يزهد في الثمار الأطايب
وله في بعض أسفاره يذكر بغداد: (من الكامل)
بلد صحبت به الشبيبة واتلصبا ... ولبست فيه العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أفنان الشباب تميد
وله في المعنى: (من الطويل)
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
آخر: (من البسيط)
لئن تنقلت من دار إلى دار ... وصرت بعد ثواء رهن أسفار
فالحر حر عزيز النفس حيث ثوى ... والشمس في كل برج ذات أنوار
البحتري: (من الكامل)
وأحب آفاق البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب

محمد بن أحمد الحزور: (من البسيط)
ما لي وللأرض لم أوطن بها وطناً ... كأنني بكر معنى سار في مثل
أبو الحسن بن المنقذ: (من الوافر)
ونفسك فز بها إن خفت ضيماً ... وخل الدار تنعى من بناها
فإنك واجد أرضاً بأرض ... ولست بواجد نفساً سواها
الطائي: (من الطويل)
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
نظر إليه ابن المعتز فقال: (من الطويل)
كما يخلق الثوب الجديد ابتذاله ... كذا يخلق المرء العيون اللوامح
ولابن المعتز: (من البسيط)
إني غريب بأرض لا كرام بها ... كغربة الشعرة السوداء في الشمط
لا ابسط العين في ئيء أسر به ... ولست ابدي الرضا إلا على سخط
وجد على حائط مكتوب لبعض الغرباء: (من الكامل)
وبقيت بين عزيمتين كلاهما ... أمضى وأنفذ من شباة سنان
هم يشوقني إلى طلب العلى ... وهوى يشوقني إلى الأوطان
ابن أبي عيينة: (من المنسرح)
من أوحشته البلاد لم يقم ... فيها ومن آنسته لم يرم
ومن يبت والهموم قادحة ... في صدره بالزناد لم ينم
ومن ير النقص في مواطنه ... زل عن النقص موطئ القدم
كان عبد الله بن أبي معقل الأوسي كثير الأسفار، فلامته امرأته أم نهيك عن ذلك وقالت له: لا تزال في أسفارك هذه تتردد حتى تموت، فقال: أو أثري، ثم أنشأ يقول: (من الطويل)
أأم نهيك ارفعي الظن صاعداً ... ولا تيأسي أن يثري الدهر بايس
سيغنيك سيري في البلاد ومطلبي ... وبعل التي لم يخط في الحي جالس
سأكسب مالاً أو تبيتن ليلة ... بصدرك من وجد علي وساوس
ومن يطلب المال الممنع بالقنا ... يعش مثرياً أو يود في ما يمارس
ودخل يوماً على مصعب بن الزبير وهو يندب الناس إلى غزاة زرنج ويقول: من لها؟ فوثب إليه عبد الله فقال: أنا لها، فقال: اجلس! كذلك ثلاث مرات وهو يجلسه. فقال عبد الله: أدنني إليك فأدناه فقال: قد علمت أنه ما يمنعك مني إلا أنك تعرفني، ولو انتدب لها رجل لا تعرفه لبعثته، فلعلك تحسدني أن أصيب خيراً أو أستشهد فأستريح من الدنيا والطلب لها. فأعجبه قوله وجزالته فولاه، فأصاب في وجهه ذلك مالاً كثيراً وانصرف إلى المدينة، فقال لزوجته: ألم أخبرك أنه سيغنيك سيري في البلاد ومطلبي؟ قالت: بلى والله! لقد أخبرتني وصدق خبرك.
قيل لأعرابي: إنكم لتكثرون من التجول والرحيل وتهجرون الأوطان، قال: ليس الوطن بأب والد ولا بأم مرضع، فأي بلد طاب فيه عيشك، وحسنت فيه حالك، وكثر فيه درهمك ودينارك، فاحطط به رحلك، فهو وطنك وأبوك وأمك وأهلك.
قال أبو محلم الشاعر: شخصت مع عبد الله بن طاهر إلى خراسان في الوقت الذي شخص، وكنت أعادله فأسايره، فلما صرنا إلى الري مررنا بها سحراً، فسمعنا أصوات الأطيار من القماري وغيرها، قال لي عبد الله: لله در أبي كبير الهذلي حيث يقول: (من الطويل)
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح
ثم قال: يا أبا محلم هل يحضرك في هذا شيء؟ فقلت: أصلح الله الأمير كبرت سني، وفسد ذهني، ولعل شيئاً أن يحضرني، ثم حضر شيء فقلت: أصلح الله الأمير حضر شيء، تسمعه؟ فقلت: (من الطويل)
أفي كل عام غربة ونزوح ... أما للنوى من ونية فيريح
لقد طلح البين المشت ركائبي ... فهل أرين البين وهو طريح
وذكرني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو الشجو الحزين ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعها ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فنلقي عصا التطواف وهي طريح
فقال عبد الله: يا غلام لا والله لا جزت معي خفاً ولا حافراً حتى ترجع إلى أفراخك، كم الأبيات؟ قلت ستة، قال: يا غلام أعطه ستين ألفاً ومركباً وكسوة. وودعته وانصرفت.

زهير: (من الوافر)
فحلي في ديارك إن قوماً ... متى يدعوا ديارهم يهونوا
وتمثل بهذا البيت عروة بن الزبير عند عبد الملك بن مروان، وكان وفد عليه فأكرمه خالياً وأهانه في الملأ بين أهل الشام. فقال له يوماً: بئس المرء أنت، تكرم زورك في الخلاء وتهينه في الملأ، وأنشد البيت واستأذنه في الرجوع إلى المدينة، فأذن له وقضى حوائجه.
معقر بن حمار البارقي: (من الطويل)
فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
عمرو بن الأهتم: (من الطويل)
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق
لما توجه جعفر بن يحيى إلى الشام لإصلاح ما فسد من أمورها، شيعه الرشيد وجميع من بحضرته من الوجوه والأشراف وفيهم عبد الملك بن صالح. فلما ودعه عبد الملك قال له: اذكر حاجتك، قال: حاجتي أعز الله الأمير أن يكون لي كما قال الشاعر: (من الطويل)
وكوني على الواشين لداء شغبة ... كما أنا للواشي ألد شغوب
فقال له جعفر: بل كما قال الآخر: (من الرمل)
وإذا الواشي أتى يسعى بها ... نفع الواشي بما جاء يضر
أوس بن حجر: (من الطويل)
أمن رهبة آتي المتالف سادراً ... وأية أرض ليس فيها متالف
آخر: (من الطويل)
إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعاه إليها حاجة أو تطرب
حسن بن علي الصيرفي المغربي وقد سافر يريد الحج: (من البسيط)
يا نعمة فزت من بين الأنام بها ... وسؤل نفسي بل يا منتهى وطري
يا منة كنت مملوء اليدين بها ... فعاقني دونها صرف من القدر
قد كنت تعلم حالي في مغيبك عن ... عيني وإن كنت لم أجد ولم أغر
فكيف ظنك بي والدار نازحة ... ولم أجد منك في كفي سوى الذكر
والله لا فارقت نفسي عليك أسى ... ما غبت عن بصري أو ينقضي عمري
ولا وحقك لا أخليت قلبي من ... وجد عليك ولا عيني من سهر
ولا سمعت بموصولين نالهما ... سهم من الهجر أو سهم من السفر
إلا بكيت وما يغني البكاء وقد ... عاثت يد الدهر في سمعي وفي بصري
ما أحسب البعد إلا كان يحسدني ... على دنوك يا شمسي ويا قمري
فسهل البين عندي فيك موقعه ... وغير الدهر بي والدهر ذو غير
ابن نباتة: (من الكامل)
ثم استثارهم دليل فارط ... يسمو لغانية بعيني أجدل
يدعى بكنيته لآخر ظمئها ... يوماً ويدعى باسمه في المنهل
ليس الشحوب من الظهائر وجهه ... فكأنه ماوية لم تصقل
سار بلحظته إذا اشتبه الهدى ... بين المجرة والسماك الأعزل
وله: (من البسيط)
رد الهجير بثوب الشمس ملتثماً ... واعقد بطرفك سير الأنجم الشهب
كيما تنال من الدنيا نهايتها ... إما حماماً وإما حسن منقلب
سعى رجال فنالوا قدر سعيهم ... لم يأت رزق بلا سعي ولا تعب
قال المأمون: لا شيء ألذ من السفر في كفاية وعافية، لأنك تحل كل يوم في محلة لم تحلها، وتعاشر قوماً لم تعرفهم قال محكول للحسن: إني أريد أن أخرج إلى مكة، فقال: لا تصحبن رجلاً يكرم عليك فينقطع الذي بينك وبينه.
مالك بن الريب المازني: (من الطويل)
أقول وقد حالت قرى الكرد دوننا ... جزى الله عمراً خير ما كان جازيا
إن الله يرجعني من الغزو لا أكن ... وإن قل مالي طالباً ما ورائيا
لعمري لئن غالت خراسان هامتي ... لقد كنت على باب خراسان نائيا
فلله دري يوم أترك طائعاً ... بني بأعلى الرقمتين وماليا
ودر الظباء السانحات عشية ... يخبرن أني هالك من أماميا
تقول ابنتي لما رأت وشك رحلتي ... سفارك هذا تاركي لا أبا ليا
تذكرت من يبكي علي فلم أجد ... سوى السيف والرمح الرديني باكيا

وأشقر خنذيذ يجر عنانه ... إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا
أقول لأصحابي ارفعوني لأنني ... يقر بعيني أن سهيل بدا ليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا ... برابية إني أقيم لياليا
أقيما علي اليوم أو بعض ليلة ... ولا تعجلاني قد تبين شانيا
وخطا بأطراف الرماحلمصرعي ... وردا على عيني فضل ردائيا
ولا تحسداني بارك الله فيكما ... من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجراني ببردي إليكما ... فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا
وقد كنت عطافاً إذا الخيل أدبرت ... سريعاً لدى الهيجا إلى من دعانيا
فقوما على بئر الشبيك فأسمعا ... بها الوحش والبيض الحسان الروانيا
بأنكما خلفتماني بقفرة ... تهيل علي الريح فيها السوافيا
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا
ويا ليت شعري هل بكت أم مالك ... كما كنت لو عانوا نعيك باكيا
إذا مت فاعتادي القبور وسلمي ... على الرمس أسقيت السحاب الغواديا
أقلب طرفي في الرقاقفلا أرى ... به من عيون المؤنسات مراعيا
وبالرمل منا نسوة لو شهدنني ... بكين وفدين الطبيب المداويا
وما كان عهد الرمل عندي وأهله ... ذميماً ولا ودعت بالرمل قاليا
فمنهن أمي وابنتاي وخالتي ... وباكية أخرى تهيج البواكيا
صافح أبو العميثل عبد الله بن طاهر عند قدومه من سفر فقبل يده، فقال له عبد الله: خدش شاربك كفي، فقال: شوك القنفذ لا يضر برثن الأسد. فتبسم عبد الله وقال: كيف كنت بعدي؟ قال: إليك مشتااً، وعلى الزمان عاتباً، ومن الناس مستوحشاً؛ فأما الشوق إليك فلفضلك، وأما العتب على الزمان فلمنعه منك، وأما الاستيحاش من الناس فإني لا أراهم بعدك. فاحتبسه، فلما حضر الشراب سقاه بيده فقال: (من البسيط)
نادمت حراً كأن البدر غرته ... معظماً سيداً قد أحرز المهلا
فعلني برحيق الراح راحته ... فملت سكراً للذي فعلا
أبو هريرة يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو يعلم الناس رحمة الله للمسافر لأصبح الناس على ظهر سفر. إن الله بالمسافر رحيم.
لما خرج يوسف عليه السلام من الجب واشتري، قال لهم قائل: استوصوا بهذا الغريب خيراً، فقال لهم يوسف: من كان مع الله فليس عليه غربة.
وقالوا: الحركة ولود والسكون عاقر.
وقالت الفرس: وجدنا في مهارقنا القديمة: إذا لم يساعد الجد فالحركة خذلان.
قالت قريبة الأعرابية: إذا كنت في غير قومك فلا تنس نصيبك من الذل.
أعرابي: لا يغني المخلب ما دام في المقنب.
حكيم: لا توحشنك الغربة إذا أنستك الكفاية.
قيل لأعرابي: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان.
إن أعانتك الغربة على الزمن فلا تطع النزاع إلى الوطن.
يقال للرجل المسفار: خليفة الخضر.
قال أبو تمام: (من البسيط)
خليفة الخضر من يربع على وطن ... في بلدة فظهور العيس أوطاني
بالشام قومي وبغداد الهوى وأنا ... بالرقمتين وبالفسطاط إخواني
قيل لأعرابي: إنك لتبعد السفر، قال: رأيت ما في أيدي الناس أبعد مما في السفر.
قيل لابن الأعرابي: لم سمي السفر سفراً؟ قال: لأنه يسفر عن أخلاق القوم، أي يكشف.
قال علي عليه السلام: ست من المروءة: ثلاث في الحضر وثلاث في السفر. فأما اللاتي في الحضر: فتلاوة كتاب الله، وعمارة مساجد الله، واتخاذ الإخوان في الله، وأما اللاتي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، والمزاح في غير معاصي الله.
أغار حذيفة بن بدر على هجائن المنذر، وسار في ليلة مسيرة ثمان، فضرب بمسيره المثل فقيل: سار فلان مسير حذيفة.
قال قيس بن الخطيم: (من الوافر)
هممنا بالإقامة ثم سرنا ... مسير حذيفة الخير بن بدر

ويضربون المثل بسير أبي ذكوان، وهو مولى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، سار من مكة إلى المدينة في يوم وليلة.
الأقرع بن معاذ: (من الطويل)
فما أنس مل أشياء لا أنس قولها ... بنفسي بين لي متى أنت راجع
فقلت لها والله ما من مسافر ... يحيط له علم بما الله صانع
فألقت على فيها اللثام وأدبرت ... وأقبل بالكحل السحيق المدامع
وقالت إلهي كن عليه خليفتي ... وحقك ما خابت لديك الودائع
قال عبد العزيز بن عبد الملك الماجشون من فقهاء المدينة، قال لي المهدي: يا ماجشون! حين فارقت أصحابك الفقهاء ما قلت؟ فقلت، قلت: (من البسيط)
لله باك على أحبابه جزعاً ... قد كنت أحذر من ذا قبل أن يقعا
إن الزمان رأى إلف السرور لنا ... فدب بالبين فيما بيننا وسعى
ما كان والله شؤم الدهر يتركني ... حتى يجرعني من بعدهم جرعا
فليصنع الدهر بي ما شاء مجتهداً ... فلا زيادة شيء فوق ما صنعا
فقال: والله لأغنينك. فأعطاني عشرة آلاف دينار.
غريب مريض: (من الرجز)
لو سلمى أبصرت تخددي ... ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي ... عضت من الوجد بأطراف اليد
النابغة الذبياني: (من الطويل)
إن يرجع النعمان نفرح ونبتهج ... ويأت معداً خصبها وربيعها
ويرجع إلى غسان ملك وسؤدد ... وتلك المنى لو أننا نستطيعها
وله: (من البسيط)
ر يبعد الله جيراناً تركتهم ... مثل المصابيح تجلو طخية الظلم
لا يبرمون إذا ما الأفق جلله ... صر الشتاء من الأمحال والعدم
هم الملوك وأبناء الملوك لهم ... فضل على الناس في الآلاء والنعم
أحلام عاد وأجساد مطهرة ... من المعقة والآفات والأثم
مطيع بن إياس: (من الطويل)
أيا ويحه لا الصبر يملك قلبه ... فيصبر لما قيل سار محمد
ولا الحزن يفنيه ففي الموت راحة ... فحتى متى في جهده يتجلد
فأضحى كئيباًباديات عظامه ... سوى أن روحاً بينها تتردد
كئيباً يمني نفسه بلقائه ... على نأيه والله بالحزن يشهد
يقول لها صبراً عسى الموت آيب ... بإلفك أو جاء بطلعته الغد
وكنت يداً كانت بها الدهر قوتي ... فأصبحت ما ليحين فارقتني يد
ابن طباطبا: (من الكامل)
نفسي الفداء لغائب عن ناظري ... ومحله في القلب دون حجابه
لولا تمتع ناظري بلقائه ... لوهبته لمبشري بإيابه
آخر: (من المنسرح)
ودعته حيث لا تودعه ... روحي ولكنها تسير معه
ثم تولى وفي القلوب له ... ضيق مجال وفي الدموع سعه
أبو تمام الطائي: (من الكامل)
هي فرقة من صاحي لك ماجد ... فغداً إذابة كل دمع جامد
فافزع إلى ذخر الشؤون وغربة ... فالدمع يذهب بعض جهد الجاهد
وإذا فقدت أخاً ولم تفقد له ... دمعاً ولا صبراً فلست بفاقد
ابن نباتة: (من الكامل)
بتنا نودع بالثنية ماجداً ... يصف البلاغة عقله وبيانه
يغنيه عن حمل المثقف طرفه ... وعن الحسام المشرفي لسانه
طوبى لشعب حل فيه فإنه ... تندى رباه وتكتسي قيعانه
ولي إبراهيم بن المدبر البصرة فأحسن إلى أهلها، فلما صرف عنها شيعه أهلها وتفجعوا لفراقه، فجعل يردهم أولاً أولاً على قدر منازلهم، حتى لم يبق إلا أبو شراعة، فقال له إبراهيم: يا أبا شراعة، إن المشيع مودع لا محالة وقد بلغت أقصى الغايات، فبحقي عليك إلا رجعت، ثم أمر غلامه فحمل إليه ثياباً وطيباً ومالاً، فودعه أبو شراعة وبكى، ثم قال: (من الرمل)
يا أبا إسحاق سر في دعة ... وامض مصحوباً فما منك خلف
ليت شعري أي أرض أجدبت ... فأغيثت بك من بعد العجف
حكم الرحمن باللطف لهم ... وحرمناك بذنب قد سلف

لإنما أنت ربيع باكر ... حيث ما صرفه الله انصرف
كتب الوزير ذو السعادات ابن أبي الفرج بن فسانجس إلى أبي غالب بن بشران النحوي: (من الوافر)
أودعكم وإني ذو اكتئاب ... وأرحل عنكم والقلب آبي
وإن فراقكم في كل حال ... لأوجع من مفارقة الشباب
أسير وما ذممت لكم جواراً ... ولا ملت مباركها ركابي
لكم مني المودة في اغتراب ... وأنتم إلف نفسي في اقتراب
وروعات الفراق وإن أغامت ... تقشعها مسرات الإياب
أبو عثمان الخالدي وقد عزم على توديع المهلبي: (من البسيط)
إنا لنرحل والأهواء أجمعها ... لديك مستوطنات ليس ترتحل
لهن من خلقك الروض الأريض ومن ... نداك يغمرهن العارض الهطل
لكن كل فقير يستفيد غنى ... دعاه شوق إلى أوطانه عجل
وكل غاز إذا جلت غنيمته ... فإن آثر شيء عنده القفل
وكتب السري الرفاء إلى بني فهد يتشرقهم: (من الطويل)
تناءوا ولما ينصرم حبل عزهم ... وحاشا لذاك الحبل أن يتصرما
فشرق منهم سيد ذو حفيظة ... وغرب منهم سيد متشائما
كأن نواحي الجو تنثر منهم ... على كل فج قاتم اللون أنجما
البحتري: (من الكامل)
أما مصافحة الوداع فإنها ... ثقلت فما اسطاعت تنوء بها يدي
فعليك تضعيف السلام فإنني ... إما أروح غداً وإما أغتدي
وله: (من الكامل)
سأودع الإحسان بعدك واللهى ... إذ حان منك البين والتوديه
وسأستقل لك الدموع صبابة ... ولو أن دجلة لي عليك دموع
ومن البديع أن انتأيت ولم يرح ... جزعي على الأحشاء وهو بديع
إسحق الموصلي ودع بها الفضل بن يحيى: (من المتقارب)
فراقك مثل فراق الحياة ... وفقدك مثل افتقاد الديم
عليك سلام فكم من وفاء ... أفارق فيك وكم من كرم
المتنبي يودع: (من الوافر)
وإني عنك بعد غد لغاد ... وقلبي عن فناءك غير غاد
محبك حيث ما اتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد
سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات ليلة من بيت مغنية: (من الطويل)
تطاول هذا الليل وازور جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
فأمر برد زوجها.
المتنبي: (من الطويل)
يضاحك في ذا العيد كل حبيبه ... حذائي وأبكي من أحب وأندبه
أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب
فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هم ... فإنك أحلى في فغؤادي وأعذب
وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب
وله: (من المنسرح)
إذا صديقي نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
سير الوليد بن عقبة كعب بن ذي الحنكة النهدي إلى دنباوند فقال: (من الطويل)
وإن اغترابي في البلاد وجفوتي ... وشتمي في ذات الإله قليل
وإن دعائي كل يوم وليلة ... عليكم بدنباوندكم لطويل
الرضي الموسوي: (من السريع)
ما الرزق بالكرخ مقيماً ولا ... طوق العلى في جيد بغداد
وما مقام الحر في عيشه ... لها المقادير بمرصاد
وقال: (من الطويل)
أروغ كأني في الصباح طريدة ... وأسري كأني في الظلام خيال
تمطى بنا أذوادنا كل مهمه ... خفائف تخفيها ربى ورمال
خوارج من ليل كأن وراءه ... يد الفجر في سيف جلاه صقال
تقوم أعناق المطايا نجومه ... فليس لسار فوقهن ضلال
وقال: (من الكامل)
كم مهمه لبست إليك ركابنا ... والأرض برد بالمنون مسهم
حتى تراعفت المناسم والذرى ... فسواء الأعلى ذرى والمنسم
وقال: (من الوافر)

وماء قد تخفر بالدياجي ... عن الطراق والسلم المقيم
وردن ولا دلاء لهن إلا ... مشافرهن في الورد الجموم
وعدن وقد وهى سلك الثريا ... وكر الصبح في طلب النجوم
وقد لاحت لأعيننا ذكاء ... وراء الفجر كالخد اللطيم
ألا هل أطرق السمرات يوماً ... بريء القلب من عبث الهموم
وألصق بالنقا كبدي ويهفو ... علي من النقا ولع النسيم
أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف يصف كتاباً ورد من الصاحب رحمه الله: (من الطويل)
كتاب لو أن الليل يلقى بمثله ... لألقت يداً في حجرتيه ذكاء
تهادى بأبكار المعاني وعونها ... وأعيان لفظ ما لهن كفاء
شوارد إلا أنهن أوالف ... ضرائر إلا أنهن سواء
أبو الفتح البستي: (من البسيط)
لما أتاني كتاب منك مبتسم ... عن كل فضل وبر غير محدود
حكت معانيه في أثناء أسطره ... آثارك البيض في أحوالي السود
المهلبي: (من مجزوء الكامل)
ورد الكتاب مبشراً ... نفسي بأوراد السرور
وفضضته فوجدته ... ليلاً على صفحات نور
مثل السوالف والخدو ... د البيض زينت بالشعور
أنزلته في القلب من ... زلة القلوب من الصدور
الطائي: (من الوافر)
لقد جلى كتابك كل بث ... جو وأصاب شاكلة الرمي
فضضت ختامه فتبلجت لي ... غرائبه عن الخبر الجلي
وكان أغض في عيني وأندى ... على كبدي من الزهر الجني
وأحسن موقعاً مني وعندي ... من البشرى أتت بعد النعي
وضمن صدره ما لم تضمن ... صدور الغانيات من الحلي
فكائن فيه من معنى خطير ... وكائن فيه من لفظ بهي
كتبت به بلا لفظ كريه ... على أذن ولا خط قمي
لئن غربتها في اللفظ بكراً ... لقد زفت إلى سمع كفي
وإن تك من هداياك الصفايا ... فرب هدية لك كالهدي
آخر: (من المتقارب)
وكان خطابك يا سيدي ... ألذ وأحلى من العافيه
وأجدى على النفس من قوتها ... وأطيب من عيشة راضيه
آخر: (من المتقارب)
سرور الكريم بيوم القرى ... وأنس العيون بطيب الكرى
آخر: (من المتقارب)
سرور الرياض بصوب الغمام ... وأنس العيون بطيب المنام
أنشد المبرد في ضده: (من الكامل)
إني أتتني من لدنك صحيفة ... مختومة عنوانها كالعقرب
فعلمت أن الشر في مفتاحها ... ففضضتها عن مثل ريح الجورب
محبة الوطن مستولية على الطباع، مستدعية لشدة التشوف إليها والنزاع.
روي أن أبان بن سعيد قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا أبان، كيف تركت أهل مكة؟ قال: تركتهم وقد جيدوا، وتركت الإذخر وقد أعذق، وتركت النمام وقد حاص. فاغرورقت عيناه صلى الله عليه وآله وسلم.
أعذق: خرجت ثمرته، وحاص: صار أحوص.
ومن حب الوطن وصى يوسف عليه السلام أن يحمل تابوته إلى مقام آبائه، فمنع أهل مصر أولياءه. فلما بعث موسى عليه السلام وأهلك فرعون حملها إلى مقابرهم، فقبره علمبأرض بيت المقدس بقرية تسمى حامي.
ووصى الاسكندر أن تحمل رمته في تابوت من ذهب إلى بلد الروم حباً لوطنه.
وقيل لما غزا اسفنديار بلاد الخزر اعتل بها، فقيل له: ما تشتهي؟ قال: شمة من تربة بلخ وشربة من ماء واديها.
واعتل سابور ذو الأكتاف بالروم، وكان أسيراً، فقالت له بنت الملك وقد عشقته: ما تشتهي؟ قال: شربة من ماء دجلة وشميماً من تراب اصطخر. فأتته بعد أيام بشربة من ماء وقبضة من تراب، وقالت: هذا من ماء دجلة ومن تربة أرضك. فشرب واشتم بالوهم، فأفاق فيقة من علته.
وقالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك، إذ كان غذاؤك منهما وغذاؤهما منه.
وقالت الفرس: تربة الصبا تغرس في القلب حرمة كما تغرس الولادة في القلب رقة.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم لما اشتكى عبد الرزق.

وقال عمر رضي الله عنه: عمر الله البلدان بحب الأوطان.
والعرب تقول: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك.
وقال ابن الزبير: ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم.
قيل لأعرابي: أتشتاق إلى وطنك؟ فقال: كيف لا أشتاق إلى رملة كنت جنين ركامها ورضيع غمامها.
بعض العرب: (من الطويل)
ألا ليت شعري هل تخلف ناقتي ... بصحراء من نجران ذات ثرى جعد
وهل تنفضن الريح أفنان لمتي ... على لاحق الأطلين مضطمر ورد
وهل أردن الدهر حسي مزاحم ... وقد ضربته نفحة من صبا نجد
وقال صاحب الزنج في اليوم الذي قتل فيه، وكان هرب من داره: (من الطويل)
عليك سلام الله يا خير منزل ... خرجنا وخلفناه غير ذميم
فإن تكن الأيام أحدثن فرقة ... فمن ذا الذي من ريبها بسليم
قال الجاحظ: رأيت المتفلسف من البرامكة إذا سافر أخذ معه تربة مولده في جراب يتداوى به.
وقد كان شرف الملك أبو سعيد مستوفي ملكشاه يسافر إلى العراق والشام وسائر الأقطار ومعه حنطة خوارزم يأكل منها، وماؤها في قوارير يشرب منه، وكذلك شربه من خمرها، ويقول: هذه مآلف مزاجي فلا أغيرها.
قال سفيان: والله ما أدري أي البلاد أسكن؟ فقيل له: خراسان، فقال: مذاهب مختلفة وآراء فاسدة؛ قيل: فالشام، قال: يشار إليك بالأصابع أراد الشهرة؛ قيل: فالعراق، قال: بلد الجبابرة؛ قيل: فمكة، قال تذيب الكيس والبدن.
وصف بعضهم بلاد الهند فقال: بحرها در، وجبالها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر.
وقال عبيد الله بن سليمان في نهاوند: أرضها الزعفران، وسماؤها الفاكهة، وحيطانها الشهد.
وقال عمرو بن الليث في نيسابور: حجرها الفيروزج، وترابها النقل، وحشيشها الريباس.
وقال الحجاج لعامله على أصفهان: قد وليتك بلدة حجرها كحل وذبابها النحل، وحشيشها الزعفران.
كان يقال للبصرة: خزانة العرب وقبة الإسلام، لانتقال قبائل العرب إليها، واتخاذ المسلمين لها وطناً ومركزاً.
دخل الرشيد منبج فقال لعبد الملك بن صالح الهاشمي، وكان لسان بني العباس: هذا البلد مقر لك، قال: يا أمير المؤمنين هو لك ولي بك. قال: كيف منازلك به؟ قال: دون منازل أهلي وفوق منازل غيرهم. قال: كيف صفة مدينتك هذه؟ قال: عذبة الماء، طيبة الهواء، قليلة الأدواء. قال: كيف ليلها؟ قال: سحر كله، ولتربها عن الطيب غنى، وهي تربة حمراء، وسنبلة صفراء، وشجرة خضراء وفياف فيح، بين قيصوم وشيح. فقال الرشيد: هذا الكلام والله أحسن منها.
قال أبو العتاهية يوماً لبدوي: هل لك في أرض الريف والخصب، أرض العراق؟ قال: لولا أن الله أرضى بعض العباد بشر البلاد لما وسع خير البلاد جميع العباد.
وقال الجاحظ في ذكر العراق: موضع التميمة، وواسطة القلادة، فيه تلاقحت الطبائع، وصرحت عن اللب الأصيل، والخلق الجميل.
ابن زريق الكاتب: (من البسيط)
سافرت أبغي لبغداد وساكنها ... مثلاً وذلك شيء دونه الياس
هيهات بغداد الدنيا بأجمعها ... عندي وسكان بغداد هم الناس
ويقال لأهل العراق: ملائكة الأرض للطافة أخلاقهم وخفة أرواحهم. قال: (من المتقارب)
ملائكة الأرض أهل العراق ... وأهل الشآم شياطينها
وقال: وكان أبو إسحاق الزجاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية.
وكان أبو الفضل بن العميد إذا امتحن رجلاً من أهل العلم سأله عن بغداد فإن وجده منتبهاً على خصائصها، وعن الجاحظ: فإن رآه منتسباً إلى مطالعة كتبه، رجح في عينيه وإلا لم يعبأ به.
وسأل أبو الفضل بن العميد الصاحب أبا القاسم بن عباد عن بغداد فقال: بغداد في البلاد كسيدنا في العباد.

نوادر من هذا الكتاب
قال الٌرع بن معاذ القشيري: (من البسيط)
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقني طبق منه إلى طبق
فليس أصبو إلى إلف يفارقني ... ولا يقطع أحشائي من الشفق
لقي رجل المهلب فنحر ناقته في وجهه فتطير من ذلك وقال: ما قصتك؟ فقال: (من الكامل)
إني نذرت لئن لقيتك سالماً ... أن يستمر بها شفار الجازر
فقال المهلب: فأطعمونا من كبد هذه المظلومة ووصله.

ولقيته امرأة من الأزد، وقد قدم من حرب كان نهض إليها، فقالت: أيها الأمير إني نذرت إن وافيت سالماً أن أقبل يدك وأصوم يوماً وتهب لي جارية سغدية وثلاثمائة درهم. فضحك المهلب وقال: قد وفينا لك بنذرك فلا تعاودي مثله، فليس كل أحد يفي لك به.
وروي أن أبا دلامة لقي المهدي لما قدم بغداد فقال: (من الكامل)
إني نذرت لئن رأيتك سالماً ... ترد العراق وأنت ذو وفر
لتصلين على النبي وآله ... ولتملأن دراهماً حجري
فقال له: صلى الله على محمد وآله وسلم، وأما الدراهم فلا سبيل إليها. فقال: أنت أكرم من أن تعطيني أسهلهما عليك وتمنعني الآخر. فضحك وأمر له بما سأل.
لقي مخنث آخر ليودعه فقال: أحمد الله على بعد سفرك، وانقطاع أثرك، وشدة ضررك. فقال له الآخر: أستودعك العمى والضنا وقلة الرزق من السما.
شاعر في مثله: (من الطويل)
فسر غير مأسوف عليك فما النوى ... ببرح وما الخطب الملم بفادح
دعا أعرابي على مسافر بالبارح الأشأم، والسانح الأعضب، والصرد الأنكد، والكد الملهب، والهم المكرب، والطائر المنحوس، والظهر المركوس، والرحل المنكوس، فإن عاد لا عاد إلا بكآبة المنقلب، وندامة المعتقب.
خرج أعرابي وكانت له امرأة تفركه، فأتبعته نواة وقالت: شطت نواك، ونأى سفرك، ثم أتبعته روثة وقالت: رثيتك وراث خبرك، ثم أتبعته حصاة وقالت: حاص رزقك، وحص، وحص أثرك.
أراد بعض الأعراب السفر في أول السنة فقال: إن سافرت في المحرم كنت جديراً أن أحرم، وإن رحلت في صفر خشيت على يدي أن تصفر. فأخر السفر إلى شهر ربيع. فلما سافر مرض ولم يحظ بطائل فقال: ظننته من ربيع الرياض فإذا هو من ربيع الأمراض.
شاعر: (من الطويل)
بدأن بنا وابن الليالي كأنه ... حسام جلت عنه القيون صقيل
فما زلت أفني كل يوم شبابه ... إلى أن أتتك العيس وهو ضئيل
سرى شيخ من العرب مع رفيق له فتعب فقال لرفيقه: هذا الجدي فاضبط الأم به، وأراه السمت، حتى أغفى على راحلته، ثم انتبه وقد جار به عن القصد فقال: ما صنعت ويلك؟ فقال: إنه والله اختلط بالجدي جداء كثيرة فلم أدر أيتها هو.
كتب كشاجم: كتبت أعزك الله من المحل الجديب والبلد الفقر الذي أنا به، غريب عن سلامة الجوارح والحواس،إلا حاسة التمييز، فإنها لو صحت لما اخترت المقام بهذه المفازة: (من الطويل)
بلاد كأن الجوع يطلب أهلها ... بذحل إذا ما الصيف صرت جنادبه
أبو العطاف الغنوي: (من الطويل)
أقول لميمون وقد حن حنة ... إلى الريف واغبرت عليه الموارد
سيكفيك ذكر الريف ضب ومذقة ... ونبت بوعثاء الجنينة وارد
وريح بنجد طيب نسماتها ... وأسود من ماء العذيبة بارد
قدم رجل من اليمامة فقيل له: ما أحسن ما رأيت بها؟ قال: خروجي منها.
سافر أعرابي فرجع خائباً فقال: ما ربحنا من سفرنا إلا ما قصرنا من صلاتنا.
خرج رجلان من خراسان إلى بغداد في متجر لهما. فمرض أحدهما وعزم الآخر على الخروج، فقال له: ما أقول لمن يسألني عنك؟ قال: قل لهم لما دخل بغداد اشتكى رأسه وأضراسه، ووجد خشونة في صدره، وحززاً في طحاله، وخفقاناً في فؤاده، وضرباناً في كبده، وورماً في ركبتيه ورعشة فيساقيه وضعفاً عن القيام على رجليه، فقال: بلغني أن الإيجاز في كل شيء مما يستحب، وأنا أكره أن أطول عليهم لكني أقول لهم: قد مات.
ابن الحجاج: (من المنسرح)
سافرت من منزلي إليك على ... نحول جسمي وضعف تركيبي
أسير سيراً جاد الكميت به ... مذللاً في نهاية الطيب
فعدت وهو الشقي مجتهد ... يفتلني تارة ويكبو بي
أصيح واظهري القطيع إذا ... صاح من السير واعراقيبي
ينام تحتي ضعفاً فتنبهه ... مقرعة لي طويلة السيب
فالحمد لله أنني رجل ... مذ كنت لا تنقضي أعاجيبي

الباب الأربعون
في تنجز الحوائج والحث عليها
والسعي فيها

ويتضمن الوعد الإنجاز والمطل، والشفاعة والسؤال، وما يناسب هذه المعاني مما يليق التمثل به في الحوائج من كتاب الله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى " وفي الوعد وإنجازه: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " وفي الشفاعة: " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها " وفي النهي عن السؤال قوله تعالى حاكياً عن شعيب عليه السلام إذ يقول لقومه: " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " ؛ وقوله عز وجل: " ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم " .
فأما ما في الكتاب العزيز من ذكر وعده الصادق، ووعيده المخوف، وخيبة الشافعين فكثير، وليس هذا موضعه. والآثار النبوية نذكر في كل فصل منها ما يليق به ويناسبه، والله الموفق.
تنجز الحوائج والحث عليها والسعي فيها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل خلق خلقاً لحوائج الناس، يفزع إليهم الناس في حوائجهم. هم الآمنون غداً من عذاب الله عز وجل.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه. ومن كلن في حاجة أخيه كان الله عز وجل في حاجته. من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله تعالى يوم القيامة.
وقال صلى الله عليه وسلم : استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان لها؛ فإن كل ذي نعمة محسود عليها.
وروي: فإن لكل ذي نعمة حسدة، ولو أن امرءاً كلن أقوم من قدح لكان له من الناس غامز.
عن علي عليه السلام يرفعه: إذا أراد أحدكم الحجاجة فليبكر في طلبها يوم الخميس، وليقرأ إذا خرج من منزله آخر سورة آل عمران، وآية الكرسي، وإنا أنزلناه في ليلة القدر، وأم الكتاب، فإن فيها حوائج الدنيا والآخرة.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: قلت وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك، فقال عليه السلام: لا تقولوا هكذا؛ فإنه ليس أحد إلا وهو محتاج إلى الناس. قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال، قل: اللهم لا تحوجنا إلى شرار خلقك؛ قلت: من شرار خلقه؟ قال: الذين إن أعطوا منوا، وإن منعوا عابوا.
وأنشد علي عليه السلام: (من الكامل)
وإذا طلبت ثواب ما أوليته ... فكفى بذلك لنائل تكديرا
قال علي عليه السلام: فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها.
وقال: لا يستقيم قضاء الحوائج إلا بثلاث: استصغارها لتعظم، واستكثارها لتطهر، وبتعجيلها لتهنأ.
وقال لكميل بن زياد النخعي: يا كميل، مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم. والذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلباً سروراً إلا وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الإبل.
وقال عليه السلام: إن لله عباداً يخصهم بالنعم لمنافع العباد، فيقرها في أيديهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم.
وقال بعضهم: ما رددت أحداً عن حاجة إلا تبينت العز في قفاه والذل في وجهي.
وقال الحسن البصري: لأن أقضي حاجة أخ لي أحب إلي من أن أعتكف سنة.
من كلام الحكماء: اللطف في الحاجة أجدى من الوسيلة.
إذا سألت كريماً حاجة دعه يتفكر، فإنه لا يفكر إلا في خير،وإذا سألت لئيماً حاجة فأجله حتى يروض نفسه.
لا تسأل الحوائج غير أهلها، ولا تسألها في غير حينها، ولا تسأل ما لست له مستحقاً، فتكون للحرمان مستوجباً.
وكان الأحنف يقول: لا تطلبن الحاجة إلى ثلاث: كذوب، فإنه يقربها عليك وهي بعيدة، ويباعدها وهي قريبة؛ ولا إلى أحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك؛ ولا إلى رجل له إلى صاحب الحاجة حاجة فإنه يجعل حاجتك وقاية لحاجته.
سأل أعرابي رجلاً حاجة فمنعه، فقال: الحمد لله الذي أفقرني من معروفك، ولم يغنك من شكري.
وقال آخر: ألم أكن نهيتك أن تريق ماء وجهك بمسألتك من لا ماء في وجهه؟ قال ذو الرياستين لثمامة بن أشرس: ما أدري ما أصنع بكثرة الطلاب وغاشية الباب، فقال له ثمامة: زل عن موضعك وعلي أن لا يلقاك منهم أحد؛ فقال له: صدقت، وجلس لهم وقضى حوائجهم.
سأل رجل المهلب في حاجة فقال: إن لي حاجة لا ترزوك في مالك، ولا تنكوك في نفسك؛ قال: والله لا قضيتها؛ قال: ولم؟ قال: لأن مثلي لا يسأل مثلها.

دخل ابن شبرمة على عيسى بن موسى وسأله حوائج استكثرها، فقال له: أقضي لك نصفها؛ قال: فما عذري عند الباقين من أربابها؟ قال: فأقضي لك الثلثين، قال: أيها الأمير، من أولى الناس بالجناية؟ قال: جانيها؛ قال: فأنت الجاني إلي إذا أدنيتني وقربت مجلسي حتى رغب الناس في حوائجهم إلي، ورغبت إليك فيها، وإلا فأقصني منك حتى لا يأتوني ولا آتيك. فقضى حوائجه جميعها.
حدث أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي في أيام عطلته وكبر سنه ولزومه بيته قال: عرضت على أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات رقعة في حاجة، فقرأها ووضعها بين يديه ولم يوقع فيها، فأخذتها وقمت وأنا أقول متمثلاً من حيث يسمع: (من الكامل)
وإذا خطبت إلى كريم حاجة ... وأنى فلا تعقد عليه بحاجب
فلربما منع الكريم وما به ... بخل، ولكن سوء حظ الطالب
فقال وقد سمع ما قلت: ارجع يا أبا جعفر بغير شؤم جد الطالب، ولكن إذا سألتمونا الحاجة فعاودونا فيها فإن الله تعالى يقلب القلوب، هات رقعتك. فناولته إياها فوقع بما أردته فيها.
وقال البحتري: (من الطويل)
وكنت إذا مارست عندك حاجة ... على نكد الأيام هان علاجها
فإن تلحق النعمى بنعمى فإنه ... يزين اللآلي في النظام ازدواجها
آخر: (من الكامل)
من عف خف على الصديق لقاؤه ... وأخو الحوائج قربه مملول
لما قدم الأحنف على عمر رضي الله عنه في وفد أهل البصرة، فقضى حوائجهم قال الأحنف: يا أمير المؤمنين إن أهل هذه الأمصار نزلوا على مثل حدقة البعير من العيون العذاب تأتيهم فواكههم لم تخضد، وإنا نزلنا سبخة نشاشة، طرف لها بالفلاة وطرف بالبحر الأجاج، يأتينا ما يأتينا في مثل مريء النعامة، فإن لم ارفع خسيستنا بعطاء تفضلنا به على سائر الأمصار نهلك.
كان ابن أبي داود من أكثر الناس سعياً في حوائج الناس، فقال له الواثق: إن حوائجك ومسائلك تستنفذ بيوت الأموال! فقال: يا أمير المؤمنين، أتخاف الفقر والله مادتك؟! كان الزوار يسمون السؤال إلى أيام خالد ين برمك، فقال خالد: هذا والله اسم أستقبحه لطالب الخير، وأرفع قدر الكريم عن أن يسمى به أمثال المؤمنين، لأن فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النعم، ومن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدباً. لكنا نسميهم الزوار.
قال محمد بن علي الشطرنجي: سألني رجل أن أسأل رجلاً من آل سليمان بن وهب كتاباً إلى مالك بن طوق في حاجة له؛ فصرت إلى الرجل وسألته ذلك، فقال: نعم وكرامة، فقلت: تأذن لي أعزك الله في البكورإليك مسلماً ومذكراً؟ فقال: افعل ما بدا لك. وجئته من غد سحراً فألفيت دابته مسرجة على بابه، فقلت لغلامه: ما خبره؟ قال: ادخل، فدخلت فوجدته جالساً على حصير صلاته بثياب ركوبه، وسلمت عليه وقلت: أحسبك تريد الركوب في حاجتي، فقال: غفر الله لك! قد مضيت لها وقد قضيتها؛ وأعطاني الكتاب الذي سألته إياه وهو على سحاءة، فوقفت عليه وكان على غاية التأكيد. ودعوتله، فقال لي: أتدري ما الذي حداني على ذلك يا أبا جعفر؟ فقلت: إن رأيت أن تعلمني، قال: بيتان لبعض الشعراء رويتهما وتأدبت بهما، وهما: (من الطويل)
أبوك الذي أعطى على الحمد ماله ... وحاز المعالي واحتوته المكارم
يروح إلى جمع المناقب والعلى ... ويدلج في حاجات من هو نائم
كتب أبو العيناء إلى عبيد الله بن سليمان: أنا وولدي زرع من زرعك، إن سقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى. وقد مسني منك جفاء بعد بر، وإغفال بعد تعهد، وشمت عدو وتكلم حاسد، وتعبثت بي ظنون الرجال.
وشديد عادة منتزعة
كتب أبو إسحاق الصابي إلى بعض الرؤساء يستدعي منه إجراء رزق لولده: (من الطويل)
وما أنا إلا دوحة قد غرستها ... وشقيتها حتى تراخى بها المدى
فلما اقشعر العود منها وصوحت ... أتتك بأغصان لها تطلب الندى
وقال أيضاً في ابن سعدان: (من الطويل)
وما زلت من قبل الوزارة جابري ... فكن رائشي إذ أنت ناه وآمر
أمنت بك المحذور إذ كنت شافعاً ... فبلغني المأمول إذ أنت قادر
لعمري لقد نلت المنى لك كلها ... وإني إلى نيل المنى بك ناظر

نظر زياد إلى رجل على مائدته قبيح الوجه يذرع في الأكل فقال له: كم عيالك؟ قال: تسع بنات؛ قال: فأين هن منك؟ قال: أنا أجمل منهن وهن آكل مني. قال: ما أحسن ما سألت! وفرض لهن فرضاً كان سبب غناه.
روي عن الحسين بن علي عليهما السلام أنه قال: كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الناس.
سأل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حاجة يكلم له فيها سليمان بن عبد الملك، فلم يقضها له، ففزع له فيها إلى غيره فقضاها، فقال له: (من الطويل)
سئلت فلم تفعل وأدركت حاجتي ... تولى سواكم حمدها واصطناعها
أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا ما أرادته على الخير مرة ... عصاها، وإن همت بشر أطاعها
أبو عطاء السندي: (من الطويل)
وما يدرك الحاجات من حيث ينبغي ... من القوم إلا المصبحون على رجل
صالح بن عبد القدوس: (من الطويل)
وما لحق الحاجات مثل مثابر ... ولا عاق عنها النجح مثل تواني
قال أبو إسماعيل: سألت إسحاق بن إبراهيم المصعبي حاجة فردني، فقلت: أيها الأمير، أفتأذن لي بإنشادك شعراً؟ قال: نعم، فقلت: (من الطويل)
لا يؤيسنك من كريم نبوة ... ينبو الفتى وهو الجواد الخضرم
فإذا نبا فاستبقه وتأنه ... حتى تفيء به الطباع الأكرم
فضحك وقضى حاجتي.
كاتب: قد عرضت لي حاجة، فإن نجحت فالفاني منها حظي والباقي حظك، وإن تعذرت فالخير مظنون بك، والعذر ممهد لك.
قال عروة بن الزبير، كان الرجل فيما مضى إذا أراد أن يشين جاره أو صاحبه طلب حاجته إلى غيره.
رفع طريح بن إسماعيل الثقفي حاجة إلى كاتب داود بن علي فرفعها إلى داود، وجاء متقاضياً له، قال: هذه حاجتك مع حاجة فلان أخيك من الأشراف، فقال طريح: (من الوافر)
تخل لحاجتي واشدد قواها ... فقد أمست بمنزلة الضياع
إذا أرضعتها بلبان أخرى ... أضر بها مشاركة الرضاع
قال شريح: من سأل حاجة فقد عرض نفسه على الرق، فإن قضاها المسؤول استعبده بها، وإن رده عنها رجع حراً، وهما ذليلان: هذا بذل البخل، وهذا بذل الرد.
قيل: الق صاحب الحاجة بالبشر، فإن عدمت شكره لم تعدم عذره.
حسن البشر مخيلة النجح.
قال الفضل بن محمد بن زياد: أتيت عبد الله بن العباس العلوي في حاجة لبعض جيراننا بعد وفاة أبي، وكانت بينه وبينه مودة، فمتت بها، ثم قلت له: جئت في حاجة إن سهل قضاؤها أعظم الأمير بها المنة، وإن تعذر فالأمير معذور، فقال لي: يا حبيبي، إذا كنت معذوراً فلم جئتني؟ إذا أوجبت على نفسك أن تنهض لرجل في حاجة فاغضب فيها وارض، وإلا فالزم منزلك.
الوعد والاقتضاء به والإنجاز والمطل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العدة دين.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: عدة المؤمن كأخذ باليد.
وقال الحسن بن علي عليهما السلام: الوعد مرض في الجود، والإنجاز دواؤه.
ومن كلامه عليه السلام: المسؤول حر حتى يعد، ومسترق بالوعد حتى ينجز.
وقال بعض القرشيين: من خاف اكذب أقل من المواعيد.
؟وقيل: أمران لا يسلمان من الكذب: كثرة المواعيد، زشدة الاعتذار.
؟وقال المهلب لبنيه: يا بني، إذا غدا عليكم الرجل وراح مسلماً فكفى بذلك تقاضياً.
؟قال الشاعر: (من الطويل)
أروح لتسليم عليك وأغتدي ... فحسبك بالتسليم مني تقاضيا
كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناء وباليأس المصرح ناهيا
؟قال الموبذ: الوعد سحابة والإنجاز مطر.
؟وقيل: الوعد إذا لم يشفعه إنجاز يحققه كان كلفظ لا معنى له، وجسم لا روح فيه.
؟وقال الأبرش الكلبي لهشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، لا تصنع إلي معروفاً حتى تعدني؛ فإنه لم يأتني منك سيب على غير وعد إلا هان علي قدره وقل مني شكره. فقال له هشام: لئن قلت ذلك لقد قال سيد أهلك أبو مسلم الخولاني: أنجع المعروف في القلوب وأبرده على الأكباد معروف منتظر بوعد لا يكدره المطل.
؟وكان يحيى بن خالد لا يقضي حاجة إلا بوعد، ويقول: من لم يبت مسروراً بوعد لم يجد للصنيعة طعماً.
؟وقالوا: الخلف ألأم من البخل، لأنه من لم يفعل المعروف لزمه ذم اللؤم وذم الخلف وذم العجز.

؟؟أبو نواس: (من الطويل)
تأن مواعيد الكرام فربما ... حملت من الإلحاح سمحاً على بخل
ابن داود: (من البسيط)
أنت ابتدأت بميعادي فأوف به ... ولا تربص به صرف المقادير
ولا تكلني إلى عذر تزخرفه ... فالغدر أحسن من بعض المعاذير
بشار: (من البسيط)
لا تجعلني ككمون بمزرعة ... إن فاته الماء أغنته المواعيد
نقله ابن الرومي إلى الهجو فقال: (من المنسرح)
كم شامخ باذخ بنعمته ... أضله قبلي المضلونا
جعلته بالهجاء قلقلة ... إذ جعلتني مناه كمونا
وقال أيضاً: (من البسيط)
ما لي لديك كأني قد زرعت حصى ... في عام جدب فوجه الأرض صفوان
أما لزرعي إبان فأنطره ... حتى يريع كما للزرع إبان
آخر: (من الطويل)
وعدت فأكدت المواعيد جاهداً ... وأقلعت إقلاع الجهام بلا وبل
وأجررت لي حبلاً طويلاً تبعته ... ولم أدر أن اليأس في طرف الحبل
أبو تمام: (من الطويل)
وما نفع من قد كان بالأمس صادياً ... إذا ما سماء اليوم طال انهمارها
وما العرف بالتسويف إلا كخلة ... تسليتعنها حين شط مزارها
بشار: (من الكامل المرفل)
وعد الكريم يحث نائله ... كالغيث يسبق رعده مطره
ابن الرومي: (من الخفيف)
يتخطى العدات عمداً إلى البذ ... ل كسح الحيا بلا إيماض
وقال: (من الخفيف)
أنجز الوعد إن خير مواعي ... دك ما جاء خلفه مصداقك
لا يكن ما وعدته حين تلقا ... ه قذاة تحيلها آماقك
وقال أنس بن زنيم لعبيد الله بن زياد: (من الرمل)
سل أميري ما الذي غيره ... عن وصالي اليوم حتى ودعه
لا تهني بعد إكرامك لي ... فشديد عادة منتزعه
لا يكن وعدك برقاً خلباً ... إن خير البرق ما الغيث معه
والعرب تضرب المثل بمواعيد عرقوب، وكان رجلاً من العماليق أتاه أخ له يسأله شيئاً، فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة، فلك طلعها. فلما أطلعت أتاه الرجل للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحاً؛ فلما أبلحت قال: دعها حتى تصير زهواً؛ فلما أزهت قال: دعها حتى تصير رطباً؛ فلما أرطبت قال: دعها حتى تصير تمراً؛ فلما أتمرت عمد إليها عرقوب فجدها ولم يعط أخاه منها شيئاً.
وفيه يقول الأشجعي: (من الطويل)
وعدت وكان الخلف منك سجية ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب
ابن الرومي: (من الطويل)
إذا أنت أزمعت الصنيعة مرة ... فلا تعتصر ماء الصنيعة بالمطل
ولا تخلط الحسنى بسوء فإنه ... يجشمنا أن نخلط الشكر بالعذل
آخر: (من البسيط)
إن كنت لم تنو فيما قلت لي صلة ... فما انتفاعك من حبسي وترديدي
فالمنع أجمله ما كان أعجله ... والمطل من غير عسر آفة الجود
آخر: (من الكامل)
وكلت مجدك باقتضائك حاجتي ... وكفى به متقاضياً ووكيلا
قال ابن السكيت للمهدي: يا أمير المؤمنين، لو كان الوعد يستنزل بالإهمال والسكوت لشكرتك القلوب بالضمير، ولنظرت إلى فضلك العيون بالأوهام؛ فقال المهدي: هذا جزاء التفريط فيما يكسب الأجر ويدخر الشكر، وأمر بقضاء حاجاته.
وعد رجل رجلاً حاجة، فأبطأت عدته عنه، فقال: صرت بعدي كذاباً فقال: (من البسيط)
نصرة الحق أفضت بي إلى الكذب
وعد بعض الأمراء شاعراً جائزة فأبطأ بها عنه وأطال، فكتب إليه الشاعر: (من البسيط)
لولا الممات وأن العمر منقطع ... لما أكثرت لما تأتي من العلل
فإن عزمت على تطويل وعدك لي ... فاحرس حياتي من الافات والزلل
كتب أبو العيناء: ثقتي بك تمنعني من استبطائك، وعلمي بشغلك يدعوني إلى إذكارك، ولست آمن، مع استحكام ثقتي بطولك والمعرفة بعلو همتك، اخترام الأجل، فإن الآجال آفات الآمال، فسح الله في أجلك، وبلغك منتهى أملك.
من كلام أبي الحسن علي بن القاسم القاشاني:

أظلني من مولاي عارض غيث أخلف ودقه، وشاقني منه لائح غوث كذب برقه، فقل في حران ممحل أخطأه النوء، وحيران مظلم خذله الضوء.
قالت أعرابية لرجل: ما لك تعطي ولا تعد؟ فقال لها: ما لك وللوعد؟ قالت: ينفسح به البصر، وينشر فيه الأمل، وتطيب بذكره النفس، ويرخى به العيش، وتربح أنت به المدح بالوفاء.
قال مسلم بن الوليد: سألت الفضل بن سهل حاجة، فقال: أشرفك اليوم بالوعد، وأحبوك غداً بالإنجاز، فإني سمعت يحيى بن خالد يقول: المواعيد شبكة من شباك الكرام، يصيدون بها محامد الأحرار، ولو كان المعطي لا يعد لارتفعت مفاخر إنجاز الوعد، ونقص فضل صدق المقال.
محمد بن حسان الضبي: (من البسيط)
غذيت بالمطل وعداً رق مورقه ... حتى ذوي منه بعده الخضرة العود
سقياً للفظك ما أحلى مخارجه ... لولا عقارب مطل بعده سود
يقال: المواعيد رؤوس الحوائج، والإنجاز أبدانها.
الشفاعة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى يسأل العبد عن جاهه كما يسأله عن عمره، فيقول له: جعلت لك جاهاً، فهل نصرت به مظلوماً، أو قمعت به ظالماً، أو أعنت به مكروباً؟ وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الصدقة أن تعين بجاهك من لا جاه له.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: الخلق عيال الله، فأخبهم إليه أنفعهم لعياله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : رجلان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: إمام مظلوم غشوم، وغال في الدين مارق فيه.
وقال علي عليه السلام: الشفيع جناح الطالب.
قصد ابن السماك الواعظ رجلاً في حاجة لرجل سأله الشفاعة فيها، فقال ابن السماك: إني أتيتك في حاجة، وإن الطالب والمطلوب إليه عزيزان إن قضيت الحاجة، وذليلان إن لم تقضها، فاختر لنفسك عز البذل على ذل المنع، واختر لي عز النجح على ذل الرد، فقضى حاجته.
أمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب كتاب عناية، فكتب: كتابي كتاب واثق بمن كتبت إليه، معتن بمن كتبت له، ولن يضيع بين الثقة والعناية موصله، والسلام.
قال عمران بن سهل: استعنت على أبي عبد الله معاوية بن يسار كاتب المهدي ببعض إخوانه في حاجة، فلما قام الشفيع قال لي: لولا أن حقك لا يضيعه مثلي لحجبت عنك حسن نظري، أتظنني أجهل الإحسان حتى أعرفه، أو أنكرموضع المعروف حتى أعرفه؟ إذن أكون بمنزلة البعير الذلول وعليه الحمل الثقيل، إن قيد انقاد، وإن أنيخ برك، فقلت: ما جعلت فلاناً شفيعاً إنما جعلته مذكراً. فقال: وأي تذكارلمن كنت منه بمرأى أبلغ من تسليمك عليه؟ إنه متى لم يتصفح المأمول أسماء مؤمليه غدوة وعشية وجب أن تعده نسياً منسياً، وجرى عليه المقدور وهو غير محمود ولا مشكور، وما لي إمام أدرسه بعد وردي من القرآن إلا أسماء رجال التأميل لي، وما أبيت ليلة إلا وأعرضهم على قلبي، فلا تستعن على شريف إلا بشرفه، فإنه يرى الشفاعات عيباً لمعروفه.

كتب الصاحب أبو القاسم بن عباد إلى أبي علي الحسن بن أحمد في شأن أبي عبد الله محمد بن حامد: كتابي هذا صدر عن محبة وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظلام ذيوله، ونحن على الرحيل غداً إن شاء الله إذا مد الصباح غرره، قبل أن يسبغ حجوله، ولولا ذاك لأطلته وقوفالحجيج على المشاعر، ولم أقتصر منه على زاد المسافر، فإن المتحمل له وسيع الحقوق لدي، حقيق أن أتعب له خاطري ويدي، وهو أبو عبد الله الحامدي أعزه الله، وكان وافانا مع ذلك الشيخ الشهيد أبي سعيد الشبيبي رفع الله منازله، وقتل قاتله يكتب له، فآنسنا بفضله وأنسنا الخير من عقله، فلما فجع بتلك الصحبة وما كان له فيها من القربة، لم يرض غير بابيمشرعا، وغير جنابيمرتعا، وقطع إلي الطريق الشاق مؤكداً حقاً لا يشق غباره، ولا ينسى على الزمان ذماره؛ وكنت على جناح النهضة التي لم تستقر نواها، ولم تلق عصاها، وإحراج الحر المبتدإ الأمر، القريب العهد بوطأة الدهر، تحامل عليه بالمركب الوعر؛ فرددته إليك يا سيدي لتسهل عليك حجابك، وتمهد له جنابك، وترصدله عملاً خفيف الثقل، ندي الطل؛ فإذا اتفق عرضته عليه، ثم فوضته إليه، وهو إلى أن يتفق ذلك ضيفي وعليك قراه، وعندك مربعه ومشتاه. ويريد اشتغالاً بالعلم يزيده في الاستقلال إلى أن يأتيه خبرنا في الاستقرار، ثم له الخيار إن شاء أقام على ما وليته، وإن شاء لحق بنا ناشراً ما أوليته، وقد وقعت له إلى فلان بما يعينه على بعض الانتظار إلى أن تختار له أيدك الله كل الاختيار. فأوعز إليه بتعجيله، واكفني شغل القلب بهذا الحر الذي أفردني بتأميله، إن شاء الله تعالى.
وكتب الصابي عن عز الدولة بختيار بن بويه إلى مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة لما قبض على أبي الفتح ابن العميد يشفع فيه: وهذا غلام أفسدته سجية ركن الدولة الشريفة في شدة الاحتمال والصبر على الإدلال، فاجتمع له إلى ذلك التقلب في نعمة حازها حيازة وارث لها، لم يكدح في تأثيلها، ولا مسه النصب في تثميرها، ولا اهتدى إلى طريق استبقائها، ولا تحرز عن دواعي انتقالها. ومن ألزم اللوازم في حكم الرعاية أن نحفظه من سكر نعمة نحن سقيناه كأسها، وأن نعذره عند هفوة قد شاركناه في اتخاذ أسبابها، وأن تكون نفسه محروسة، والبقية من ماله بعد أخذ فضلها المفسد له متروكة، وأن يتحدث الناس بأن سيدي الأمير أصاب غرض الحزم في القبض عليه، ثم طبق مفصل الكرم في التجاوز عنه.
ومن كلامه في الشفاعة إلى أبي تغلب ابن حمدان لأخ له: وقد يكون لعمري في ذوي الأرحام الشابكة، والقرابات الدانية، من يتمادى في العقوق، ويذهب عن حفظ الحقوق، ولا يسع ترك تألفه حتى يرجع، واستصلاحه حتى ينزع، فإن تجشم الإعراض عنه لرياضة تقصد، أو عاقبة نفع تحمد، لم يبلغ به إلى قطع المعيشة ومنع المادة، لأن قباحة ذلك لمن يستعمله أكثر من مضرته لمن يعمل معه. وقد قيل: إن الملوك تعاقب بالهجران ولا تعاقب بالحرمان، هذا في الأتباع والأصحاب، وهو ألزم في الأقران والأتراب.
لما قال دعبل في المعتصم: (من الطويل)
ملوك بني العباس في الكتب سبعة ... ولم تأتنا في ثامن لهم الكتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... خيار إذا عدوا وثامنهم كلب
لقد ضاع أمر الناس حين يسوسهم ... وصيف وأشناس وقد عظم الخطب
نذر المعتصم دمه، فطلب طلباً شديداً، فتوارى وهرب. فسمع ابن أبي داود المعتصم يوماً يقول: لأقتلن دعبلاً، قال: ولم؟ قال: هجاني، قال: يا أمير المؤمنين، إن دعبلاً شريف وعنده من الفضل بمعرفة أهل الفضل ما يردعه عن هذا، ولكن من المبلغ لك ذلك عنه؟ قال: ففي حكمك قبول قول حاقد محفظ؟ قال: معاذ الله! قال: إن دعبلاً هتك إبراهيم عمك أيام توليه الخلافة: (من الكامل)
إن كان إبراهيم مضطلعاً بها ... فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل ... ولتصلحن من بعده للمارق
فضحك وقال: أجل، إن كان إبراهيم خليفة فمخارق ولي عهده، وقد صفحنا عما أردناه. قال: إن أمير المؤمنين أجل من أن يعمر قلباً بحزن ساخطاً، ولا يعمره بسرور راضياً. قال: فاحكم يا أبا عبد الله، قال: وكان دعبل بها، فلم يشكره دعبل، فكافأه بأن قال فيه: (من الخفيف)

سحقت أمه ولاط أبوه ... ليت شعري عنه فمن أين جاء
في أهاج كثيرة له فيه.
ودخل ابن أبي داود إلى الواثق وقد أتي بابن أبي خالد الذي كان بالسند فقال: والله لأضربنك بالسياط، والله لا يكلمني فيك أحد من الناس إلا ضربت بطنه وظهره. فسكت حتى ضربه عشرين سوطاً ثم قال: يا أمير المؤمنين، في هذا أدب، وفي دونه استصلاح، وتجاوزه سرف، وإنما أيقي عليك من القصاص، قال: أوما سمعت يميني ألا يكلمني فيك أحد إلا ضربت بطنه وظهره؟ قال: قد سمعت، ولكن يكفر أمير المؤمنين ويأتي الذي هو إلى الله عز وجل أقرب عنده وأفضل. قال: خليا عنه، كفر يا غلام عن يميني.
أبو تمام في الشفيع: (من الكامل)
ولقيت بين يديك حلو عطافه ... ولقيت بين يدي مر سؤاله
وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله
نظر فيهما إلى قول دعبل وزاد وأحسن: (من الطويل)
وإن امرءاً أسدى إلي بشافع ... إليه ويرجو الشكر مني لأحمق
شفيعك فاشكر في الحوائج إنه ... يصونك عن مكروهها وهو يخلق
قال أبو الضحى: شفع مسروق بن الأجدع لرجل شفاعة، فأهدى إليه جارية، فقال: لو علمت أن ذاك في نفسك ما شفعت لك، ولا أشفع فيما بقي من حاجتك؛ إني سمعت ابن مسعودرحمه الله يقول: من شفع شفاعة ليرد بها حقاً أو يدفع بها ظلماً فأهدي له شيء وقبله، فذاك السحت. فقلنا: يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نظن السحت إلا الأخذ على الحكم! فقال عبد الله: الأخذ على الحكم كفر.
اق المأمون لإبراهيم: بن المهدي بعد اعتذاره: قد مات حقدي عليك بحياة عذرك، وقد عفوت عنك، وأعظم من عفوي يداً عندك أني لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين.
التمس العتابي الإذن على المأمون فتعذر ذلك عليه، فأقبل يحيى بن أكثم، فلما رآه العتابي قام إليه فقال: أيها الشيخ، اذكرني عند أمير المؤمنين، قال: لست بحاجب، قال: قد علمت، ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان على كل خير، قال: قد كلفتني غير طريقي، قال: إن الله قد أتحفك بجاه ونعمة وهو مقبل على صاحبها بتعجيل الزيادة إن شكر، والتغيير إن كفر، وأنا لك اليوم خير لك من نفسك، لأني أدعوك إلى زيادة نعمتك وأنت تأبى ذلك، واعلم أن لكل شيء زكاة، وأن زكاة الجاه رفد المستعين. فقال له يحيى: على رسلك أيها الرجل، ثم دخل على المأمون واستأذن له عليه، فأجازه المأمون وأحسن إليه.
قال رجل لبعض الولاة: إن الناس يتوسلون إليك بغيرك، فينالون معروفك ويشكرون غيرك، وأنا أتوسل إليك بك، ليكون شكري لك لا لغيرك.
شاعر: (من الطويل)
إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة ... فلا خير في ود يكون بشافع
كان المنصور معجباً بمحادثة محمد بن جعفر بن عبيد الله بن عباس، وكان الناس لعظم قدره عنده يضرعون إليه في الشفاعات، فثقل ذلك على المنصور فحجبه مدة؛ ثم لم يصبر عنه، فأمر الربيع أن يكلمه في ذلك، فكلمه وقال له: أعف أمير المؤمنين مما تثقل عليه، فقبل، فلما توجه إلى الباب اعترضه قوم من قريش معهم رقاع سألوه إيصالها إلى المنصور، فقص عليهم قصته، فأبوا أن يقبلوا وألحوا عليه، فرق لهم وقال: اقذفوها في كمي، فدخل عليه وهو في الخضراء مشرف على مدينة السلام وما حولها من البساتين والضياع فقال له: أما ترى إلى حسنها؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، فبارك الله لك فيما آتاك، وهناك بإتمام نعمته عليك فيما أعطاك، فما بنت العرب في دولة الإسلام، ولا العجم في سالف الأيام، أحصن ولا أحسن من مدينتك، ولكن سمجتها في عيني خصلة واحدة، قال: وما هي؟ قال: ليس لي فيها ضيعة، فتبسم وقال: حسنتها في عينك ثلاث ضياع قد أقطعتكها، فقال: أنت والله شريف الموارد كريم المصادر، فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه، وقد بدت الرقاع من كمه وهو يتشكر له، فأقبل يردها وهو يقول: ارجعن خائبات خاسئات، فضحك وقال: بحقي عليك ألا أخبرتني بخبر هذه الرقاع؟ فأعلمه، فقال: أبيت يا ابن معلم الخير إلا كرماً، وتمثل بقول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: (من الكامل المرفل)
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا

وتصفحها وأمر بقضاء حوائجهم. قال محمد: وخرجت من عنده وقد ربحت وأربحت.
ما جاء في السؤال الأخبار النبوية في كراهة السؤال كثيرة وفيه تغليظ.
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لو يعلم صاحب المسألة ما له فيها لم يسأل أحداً.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: من يتقبل لي واحدة وأتقبل له بالجنة؟ فقال له ثوبان: أنا، فقال: لا تسأل الناس شيئاً. فكان ثوبان تسقط علاقة سوطه فلا يأمر أحداً يناوله، وينزل هو فيأخذها.
وقال صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه: ليأتين يوم القيامة أقوام ما في وجوههم مزعة لحم، أخلقوها بالمسألة.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: من فتح على نفسه باب مسألة من غير فاقة نزلت به أو عيال لا يطيقهم فتح الله عليه باب فاقة من حيث لا يحتسب.
وقال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: خير لك أن لا تسأل الناس شيئاً. فلما كان في خلافة عمر جعل يعطي الناس ويعطي حكيم بن حزام، فيأبى أن يأخذه ويقول: لا أرزؤ أحداً بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: وما يغنيه يا رسول الله؟ قال: ما يغديه أو يعشيه.
وقال عوف بن مالك: بايعنارسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنا سبعة أو ثمانية، فقال قائل: علام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتسمعوا وتطيعوا، وأسر كلمة خفية: لا تسألوا الناس شيئاً. قال: ولقد كان بعض ذلك النفر يسقط سوطه ولا يسأل أحد شيئاً.
وعنه صلى الله عليه وسلم : لأن يأخذ أحدكم حبلاً فينطلق به إلى هذا الجبل فيحتطب حطباً ويبيعه ويستغني به عن الناس خير له من أن يسألهم، أعطوه أو حرموه.
وقال أنس بن مالك: أصابت رجلاً من الأنصار حاجة وفاقة، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بذلك، فقال: اذهب واتني بما في منزلك ولا تحقرن شيئاً، قال: فأتاه بحلس وقدح، فأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: من يشتري هذا مني بدرهم؟ فقال رجل: هما علي بدرهم، فقال: من يزيد على درهم؟ فقال رجل: هما علي بدرهمين، فقال: هما لك، ثم أخذ الدرهمين فدفعهما إليه وقال: ابتع بأحدهما طعاماً لأهلك وبالآخر فأساً فأتنا بها. قال: فذهب فأتاه بالفأس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من عند نصاب لهذه الفأس؟ فقال أبو بكر: عندي،فأتى به، فأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأثبته بيده ثم دفعها إليه، ثم قال: فأتاه بعد ذلك وقد حسنت حاله. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذا خير لك من أن تجيء يوم القيامة وفي وجهك كدح الصدقة.
وأهدى صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمر هدية فردها، فقال: يا عمر، لم رددت هديتي؟ قال: إني سمعتك تقول: خيركم من لم يقبل من الناس شيئاً، فقال: يا عمر، إنما ذلك ما كان عن ظهر مسألة، فأما ما أتاك الله من غير مسألة فهو رزق ساقه الله إليك.
وروي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن بني فلان أغاروا على إبلي فذهبوا بالإبل والغنم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما أصبح عند آل محمد غير هذا المد، فسل الله تعالى. قال: فرجع إلى امرأته فحدثها بما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: نعم ما رد عليك. قال: فرد إليه إبله وبقره وغنمه أوفر ما كانت. فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فحدثه فقام فحمد الله وأثنى عليه وأمر الناس أن يسألوا الله ويرغبوا إليه، وقرأ: " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " .
قالت أم الدرداء: قال لي أبو الدرداء: لا تسألي أحداً شيئاً، قلت: فن احتجت؟ قال: تتبعي الحصادين، فانظري ما يسقط منهم فخذيه فاطحنيه ثم اعجنيه، ثم كليه ولا تسألي أحداً.
قال طلق بن حبيب في زبور داود: إن كنت لا بد أن تسأل عبادي فسل معادن الخير ترجع مغبوطاً مسروراً، ولا تسأل معادن الشر ترجع ملوماً محسوراً.
سأل المنكدر عائشة رضي الله عنها، فقالت: لو كانت عندي عشرة آلاف لبعثتها إليك. فلما خرج جاءتها عشرة آلاف فبعثتها إليه، فاشترى منها جارية بألفي درهم، فولدت له محمداً وأبا بكر وهمر فكانوا عباد المدينة.

سمع كعب الأحبار من يقرأ: " من ذا الذي يقرض اله قرضاً حسناً " ، فألقى إلى مسكين رداءه، فقيل له، فقال: مكتوب في التوراة: ليس لأحد أن يسمعها إلا فلذ من ماله فلذة ولم يكن معي إلا ردائي.
أنشد ابن الأعرابي: (من الطويل)
أبا هانئ لا تسأل الناس والتمس ... بكفيك فضل الله فالله أوسع
ولو تسأل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا
قال سهل بن هارون: من ثقل نفسه عليك وغمك بسؤاله فأعره أذناً صماء وعيناً عمياء.
سأل سائل بمسجد الكوفة وقت صلاة الظهر فلم يعط شيئاً، ثم العصر فلم يعط شيئاً، ثم المغرب فلم يعط شيئاً، فقال: اللهم إنك بحاجتي عالم لا تعلم، لا يعوزك نائل، ولا يبخلك سائل، ولا يبلغ مدحك قائل، أسألك صبراً جميلاً، وفرجاً قريباً، وبصراً بالهدى، وقوة فيما تحب وترضى. فتبادروا إليه يعطونه فقال: والله لا أرزأنكم الليلة شيئاً، وقد رفعت حاجتي إلى الله، ثم خرج وهو يقول: (من الكتمل)
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضاً ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال قرنته ... رجح السؤال وخف كل نوال
سأل أعرابي قوماً فمنعوه فقال: اللهم أشغلنا بذكرك، وأعذنا من سخطك، وتغمدنا بمغفرتك. قد ضن خلقك عن خلقك، فلا تشغلنا بما عندهم فيشغلنا عما عندك، وأتنا من الدنيا القنعان، فإن كثيرها يسخطك، ولا خير فيما يسخطك.
قدم وفد على زياد فقام خطيبهم فقال: إنا أصلح الله الأمير وإن كانت نزعت بنا أنفسنا إليك، وأنضينا ركابنا نحوك، التماساً لفضل عطاءك، فإنا عالمون بأنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معط لما منع؛ وإنما أنت أيها الأمير خازن ونحن رائدون، فإن أذن الله وأعطيت حمدنا، وإن لم يأذن لك ومنعت شكرنا، ثم جلس. فقال زياد: تالله ما رأيت خطبة أبلغ ولا أوجز ولا أنفع عاجلة منها. ثم أمر بصلتهم.
سأل أعرابي قوماً فقال: رحم الله امرءاً لم تمج أذنه كلامي، وقدم له معذرة من سوء مقامي، فإن البلاد مجدبة، والحال صعبة، والحياء زاجر عن كلامهم، والفقر عاذر يدعو إلى إخباركم، والدعاء إحدى الصدقتين، فرحم الله امرءاً آسى بمير أو دعا بخير. فقال له رجل: ممن أنت يا أعرابي؟ قال: اللهم غفراً إن لؤم الاكتساب يمنع الانتساب.
ومما قاله الشعراء في ترك الإلحاح قول عدي بن الرقاع: (من البسيط)
حملت نفسي على أمر وقلت لها ... إن السؤول على الأحوال مملول
وقول زهير ابن أبي سلمى: (من الطويل)
ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه ... ولا يعفها يوماً من الذل يسأم
وقول سليم بن خنجر الكلبي: (من الطويل)
ويسأمك الأدنى وإن كان مكثراً ... إذا لم تزل عبئاً عليه ثقيلا
وقفت أعرابية بزبالة على قوم فقالت: أتأذنون في الكلام فإن فيه فرجاً من وساوس الهموم، ومخبراً بضمائر القلوب، فقال لها بعضهم يداعبها: أما بما حسن به الاستمتاع في العاجلة، وخفت به المؤونة في الأجلة، فنعم. فقالت: اللهم غفراً! هذه شريطة لا يتعلق بها الوفاء، فقال: فلا حاجة إذن بك إلى الكلام، وهذا درهم فخذي إليك ما حضر؛ فقالت: اللهم إنه قد كان له في كيسه متمهد، وفي معاشه متصرف، ولكنه اتجر به في إليك، اللهم فلا تجزه على قدر البضاعة، ولكن أجزه على قدر الصبر على المسألة؛ ثم قالت: لا جعلك الله ممن يكره السؤال ويستعذب الرد.
أتى أعرابي باب بعض الملوك فأقام به حولاً ثم كتب إليه: الأمل والعدم أقدماني عليك، وفي السطر الثاني: الإقلال لا صبر معه. وفي الثالث: الانصراف بغير فائدة شماتة الأعداء. وفي الرابع: إما نعم سريح وإما يأس مريح.
سأل أعرابي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فقال: رجل من أهل البادية ساقته الحاجة، وانتهت به الفاقة، والله سائلك عن مقامي هذا. فقال عمر: تالله ما رأيت كلمة أبلغ من قائل، ولا أوعظ لمقول منها.
قال رجل لعبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين، هززت ذوائب الرحال إليك، ولم أجد معولاً إلا عليك، أمتطي الليل بعد النهار، وأقطع المجاهل بالآثار، يقوي نحوك رجاء، ويسوقني إليك بلوى، والنفس راغبة والاجتهاد عاذر، وإذ قد بلغتك قصتي. قال: احطط عن راحلتك فقد بلغت.

وقف دعبل ببعض أمراء الرقة، فلما مثل بين يديه قال: أصلح الله الأمير، إني لا أقول كما قال صاحب معن: (من الوافر)
بأي الحالتين عليك أثني ... فإني عند منصرفي مسول
أبالحسنى لها ضياء ... علي فمن يصدق ما أقول
أم الأخرى ولست لها بأهل ... وأنت لكل مكرمة فعول
ولكني أقول: (من الطويل)
ماذا أقول إذا أتيت معاشري ... صفراً يدي من جود أروع مجزل
وإن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ... ضن الأمير بماله لم يجمل
ولأنت أعلم بالمكارم والعلى ... من أن أقول فعلت ما لم تفعل
فاختر لنفسك ما أقول فإنني ... لا بد أخبرهم وإن لم أسأل
خرج أعشى همدان إلى الشام في ولاية مروان بن الحكم فلم ينل فيها حظاً، فجاء إلى النعمان بن بشير فكلم اليمانية وقال لهم: هذا شاعر اليمن ولسانها، واستماحهم له، فقالوا: نعم، يعطيه كل رجل منا دينارين من عطائه، قال: لا، بل أعطوه منا ديناراً ديناراً واجعلوا ذلك معجلاً، فقالوا: أعطه إياه من بيت المال واحتسبها على كل رجل من عطائه، ففعل النعمان، وكانوا عشرين ألفاً، فأعطاه عشرين ألف دينار وارتجعها منهم عند العطاء. فقال الأعشى يمدح النعمان: (من الطويل)
لم أر للحاجات عند التماسها ... كنعمان نعمان الندى ابن بشير
إذا قال أوفى ما يقول ولم يكن ... كمدل إلى الأقوام حبل غرور
متى أكفر النعمان لا ألف شاكراً ... وما خير من لا يقتدي بشكور
فلولا أخو الأنصار كنت كنازل ... ثوى ما ثوى لم ينقلب بنصير

نوادر من هذا الكتاب
وعد ابن المدبر أبا العيناء بدابة فماطله بها، فلما طالبه بها قال: أخاف أن أحملك عليها فتقطعني ولا أراك. فقال: عدني أنك تضم إليها حماراً لأواظب مقتضياً.
قال أعرابي لمعاوية: استعملني على البصرة، فقال: ما أريد عزل عاملها، قال: فأقطعني البحرين، قال: ما إلى ذلك سبيل، قال: فمر لي بألف درهم، فأمر له بها، فقيل للأعرابي في ذلك، فقال: لولا طلبي الكثير ما أعطاني القليل.
قال أعرابي: سألت فلاناً حاجة أقل من قيمته، فردني رداً أقبح من خلقته.
سأل أبو العيناء أحمد بن صالح حاجة، فوعده، ثم اقتضاه إياها، فقال: حال دونها هذا المطر والوحل، قال: فحاجتي إذاً صيفية.
وسأل إبراهيم بن ميمون حاجة فدفعه عنها واعتذر إليه، وأعلمه أنه قد صدقه، فقال له: والله لقد سرني صدقك لعوز الصدق عندك، فمن صدقه حرمان، فكيف يكون كذبه؟! قال السفاح لأبي دلامة: سلني حاجتك، قال: كلب صيد، قال: أعطوه، قال: وغلام يقود الكلب ويصيد به، قال: أعطوه غلاماً، قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه، قال: أعطوه جارية، قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال ولابد لهم من دار يسكنونها، قال: أعطوه داراً تجمعهم، قال: وإن لم تكن ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أقطعتك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة، قال: وما الغامرة؟ قال: ما لا نبات به، قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين خمسمائة جريب غامرة من فيافي بني أسد، فضحك وقال: اجعلوها كلها عامرة، قال فائذن لي أن أقبل يدك، قال: أما هذه فدعها فإني لا أفعل، قال: والله ما منعتني شيئاً أقل ضرراً على عيالي منها.
سأل أعرابي، فقال له صبي من جوف الدار: بورك فيك، فقال: قبح الله ذلك الفم! لقد تعلم الشر صغيراً.
وقال هذا السائل: (من الرجز)
رب عجوز عرمس زبون ... سريعة الرد على المسكين
تحسب أن بوركا تكفيني ... إذا غدوت باسطاً يميني
جاء أبو الهذيل العلاف إلى الديوان في أيام المأمون، فسأل سهل بن هارون بن راهبون كتاباً إلى حفصويه صاحب الجيش في حاجة له، ونهض أبو الهذيل، فأملى سهل بن هارون على محمد بن الجهم صاحب الفراء: (من الكامل)
إن الضمير إذا سألتك حاجة ... لأبي الهذيل خلاف ما أبدي
فإذا أتاك لحاجة فامدد له ... حبل الرجاء بمخلف الوعد
وألن له كنفاً ليحسن ظنه ... في غير منفعة ولا رفد
حتى إذا طالت شقاوة جده ... ورجا الغنى فاجبهه بالرد

وإن استطعت له المضرة فاجتهد ... فيما يضر بأبلغ الجهد
وانظر كلامي فيه فارم به ... خلف الثريا منك في البعد
وكذاك فافعل غير محتشم ... إن جئت أشفع في أبي الهند
سأل أبو العيناء الجاحظ كتاباً إلى محمد بن عبد الملك في شفاعة لصاحب له، فكتب الكتاب وناوله الرجل فعاد به إلى أبي العيناء وقال: قد أسعف، قال: فهل قرأته؟ قال: لا، لأنه مختوم، فقال: ويحك، فض طينه أولى من حمل طينه، لا يكون صحيفة المتلمس. ففض الكتاب فإذا فيه: موصل كتابي سألني فيه أبو العيناء وقد عرفت سفهه وبذاءة لسانه، وما أراه لمعروفك أهلاً، فإن أحسنت إليه فلا تحسبه إلي أبداً، وإن لم تحسن لم أعتده عليك ديناً، والسلام. فركب أبو العيناء إلى الجاحظ وقال له: قد قرأت الكتاب يا أبا عثمان. فخجل الجاحظ وقال: يا أبا العيناء، هذه علامتي فيمن أعتني به؛ قال: فإذا بلغك أن صاحبي شتمك فاعلم أنه علامته فيمن شكر معروفه.
سأل أبو عون رجلاً فمنعه، فألح عليه فأعطاه، فقال: اللهم آجرنا وإياهم؛ نسألهم إلحاحاً ويعطوننا كرهاً، فلا يبارك لنا في العطية ولا يؤجرون عليها.
وقف سائل يوماً على باب فقال: يا أهل الدار، فبادر صاحب الدار قبل أن يتم السائل كلامه فقال: صنع الله لك، فقال السائل: يا ابن البظراء، أكنت تصبر حتى تسمع كلامي، عسى جئت أدعوك إلى دعوة.
وقف سائل على باب قوم فقال: تصدقوا علي فإني جائع، قالوا: لم نخبز بعد، قال: فكف سويق، قالوا: ما اشترينا بعد، قال: فشربة ماء فإني عطشان، قالوا: ما أتانا السقاء بعد، قال: فيسير دهن أضعه على رأسي، قالوا: ومن أين الدهن؟ قال: يا أولاد الزنا، ما قعودكم ها هنا، قوموا اسألوا معي.
وقف أعرابي على قوم يسألهم فقال أحدهم: بورك فيك، وقال آخر: ما أكثر السؤال! فقال الأعرابي: ترنا أكثر من بورك فيك؟ والله لقد علمكم الله كلمة ما تبالون معها ولو كنا مثل ربيعة ومضر.
وقف سائل على إنسان وهو مقبل على صديق له يحدثه ويتغافل عن السائل، ثم قال بعد ذلك بساعة طويلة: صنع الله لك، فقال السائل: أين كان هذا إلى هذه الغاية؟ كان في الصندوق؟! كان لمزيد غلام، وكان إذا بعثه في حاجة قد جعل بينه وبينه علامة، إذا رجع سأله فقال: حنطة أو شعير؟ فإن عاد بالنجع قال: حنطة، وإن لم يقض الحاجة قال: شعير. فبعثه يوماً في حاجة، فلما انصرف قال له: حنطة أو شعير؟ قال: خرا، قال: ويلك! وكيف ذاك! قال: لأنهم لم يقضوا الحاجة وضربوني وشتموني.
قيل: كان المعتصم جالساً على حاير الوحش يشرب وعنده مخارق وعلويه يغنيانه، والخيل تعرض. فعرض عليه فرس كميت ما رأى مثله، فتغامزا عليه وغناه علويه: (من الرمل)
وإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل جواد وطمر
فتغافل عنه، وغناه مخارق: (من الخفيف)
يهب البيض كالظباء وجرداً ... تحت أجلالها وعيس الركاب
فضحك ثم قال: اسكتا يا ابن الزانيتين، فليس يملكه والله واحد منكما. ثم دار الدور فغناه علويه: (من الرمل)
وإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل بغال وحمر
فضحك وقال: أما هذا فنعم، وأمر لأحدهما ببغل وللآخر بحمار.

رفع صاحب الخبر إلى المنصور رحمه الله تعالى أن مطيع بن إياس زنديق، وأنه يعاشر ابنه جعفراً وجماعة من أهل بيته، ويوشك أن يفسد أديانهم أو ينسبوا إلى مذهبه. فقال له المهدي: أنا به عارف، أما الزندقة فليس من أهلها، ولكنه خبيث الدين فاسق مستحل للمحترم. قال: فأحضره وانهه عن صحبة جعفر وسائر أهله، فأحضره المهدي وقال له: يا خبيث يا فاسق، قد أفسدت أخي ومن يصحبه من أهلي، والله لقد بلغني أنهم يتقارعون عليك، ولا يتم لهم سرور إلا بك، وقد غررتهم وشهرتهم في الناس، ولولا أني شهدت لك عند أمير المؤمنين بالبراءة مما نسبت إليه من الزندقة، لقد كان أمر بضرب عنقك. ثم قال للربيع: اضربه مائة سوط واحبسه. قال: ولم يا سيدي؟ قال: لأنك سكير خمير قد أفسدت أهلي كلهم بصحبتك. فقال: إن أذنت لي وسمعت، احتججت. قال: قل. قال: أنا امرؤ شاعر، وسوقي إنما تنفق مع الملوك، وقد كسدت عندكم، وأنا في أيامكم مطرح، وقد رضيت فيها مع سعتها للناس جميعاً بالأكل على مائدة أخيك ولا يتبع ذلك غيره، وأصفيه مع ذلك شعري وشكري؛ فإن كان ذلك عائباً عندك تبت منه. فأطرق ثم قال: فلقد نقل إلينا أنك تتماجن على السؤال والمساكين وتتنادر بهم ويضحك منهم الناس. فقال: لا والله ما ذلك من فعلي ولا شأني، ولا جرى مني قط إلا مرة، فإن سائلاً أعمى اعترضني وقد عبرت الجسر على بغلتي، وظنني من الجند، فرفع عصاه في وجهي ثم صاح: اللهم سخر الخليفة لأن يعطي الجند أرزاقهم، فيشتروا من التجار الأمتعة، فيربح التجار عليهم، فتكثر فيها أموالهم، فتجب فيه الزكاة عليهم فيتصدقوا علي منها؛ فنفرت بغلتي من صياحه ورفع عصاه في وجهي حتى كدت أسقط في الماء، فقلت له: يا هذا، ما رأيت أكثر فضولاً منك، سل الله أن يرزقك ولا تجعل بينك وبينه هذه الحوالات والوساطات التي لا يحتاج إليها، فإن هذه المسائل فضول. فضحك المهدي وقال: خلوه ولا يضرب ولا يحبس. فقال له: أدخل عليك لموجدة وأخرج عن رضا وتبرأ ساحتي من عضيهة، وأنصرف بلا جائزة! فقال: لا يجوز هذا، أعطوه مائتي دينار ولا يعلم بها أمير المؤمنين، فتجدد عنده ذنوبه.
قال أشعب: بلغني مكان عبد الله بن عمر في مال له يتصدق بثمرته. فركبت إليه بأصحابي ووافيته في ماله، فقلت: يا ابن أمير المؤمنين، ويا ابن الفاروق أوقر لي بعيري هذا تمراً، فقال: أمن المهاجرين أنت؟ قلت: اللهم لا، قال: أفمن الأنصار؟ قلت: اللهم لا، قال: أفمن التابعين بإحسان؟ فقلت: أرجو، فقال لي: إن يحق رجاؤك أفمن أبناء السبيل أنت؟ قلت: لا، قال: فعلام أوقر لك بعيرك تمراً؟ قلت لأني سائل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أتاك السائل على فرس فلا ترده، قال: لو شئنا أن نقول لك إنه قال: إن أتاك على فرس ولم يقل أتاك على بعير، لقلنا، ولكن أمسك ذلك لاستغنائي عنه لأني قلت لأبي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إذا أتاني سائل على فرس أعطيه؟ قال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما سألتني عنه، فقال: نعم، إذا لم تصب راجلاً؛ ونحن أيها الرجل نصيب رجالة، فعلام أعطيك وأنت على بعير؟ فقلت له: بحق أبيك الفاروق ويحق الله عز وجل وبحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما وقرت لي بعيري. فقال عبد الله: أنا أوقره لك تمراً، ووحق الله وحق رسوله لئن عاودت استحلافي لا أبررت لك قسمك، ولو أنك اقتصرت على إحلافي بحق أبي في تمرة أعطيكها لما أنفذت قسمك لأني سمعت أبي يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تشدوا الرحال إلى مسجد لرجاء الثواب إلا إلى المسجد الحرام ومسجدي يثرب، ولا يبر أحد قسم مستحلفه إلا أن يستحلفه بحق الله وحق رسوله. ثم قال للسودان في ذلك المال: أوقروا بعيره تمراً. قال: فلما أخذ السودان في حشو الغرائر قلت: إن السودان أهل طرب، وإن أطربتهم أجادوا حشو غرائري. فقلت: يا ابن الفاروق أتأذن لي في الغناء فأغنيك؟ فقال لي: أنت ورأيك. فاندفعت في النصب، فقال لي: هذا الغناء الذي لم نزل نعرفه، ثم غنيته صوتاً لطويس: (من الطويل)
خليلي ما أخفي من الحب باطن ... ودمعي بما قلت الغداة شهيد
قال، فقال لي عبد الله: يا هنه، لقد جددت في هذا الغناء ما لم يكن. قال: ثم غنيته لابن سريج قوله: (من المنسرح)

يا عين جودي بالدموع السفاح ... وابكي على قتلى قريش البطاح
فقال لي: يا أشعب، هذا يحنق الفؤاد، أراد: هذا يحرق الفؤاد، لأنه كان ألثغ لا يبين الراء ولا اللام؛ قال أشعب: فكان لا يراني بعد ذلك إلا استعادني هذا الصوت.
كان أبو صدقة المغني سائلاً ملحفاً مع إحسانه في الغناء وظرفه، وقيل له: ما أكثر سؤالك وأشد إلحاحك! فقال: وما يمنعني من ذلك واسمي مسكين، وكنيتي أبو صدقة، وامرأتي فاقة وابني صدقة؟ وكان الرشيد يعبث به كثيراً، فقال ذات يوم لمسرور: قل لابن جامع وإبراهيم الموصلي وزبير بن دحمان وبرصوما وزلزل وابن أبي مريم المديني: إذا رأيتموني قد طابت نفسي فليسأل كل واحد منكم حاجة مقدارها مقدار صلته، وذكر لكل واحد منهم مبلغ ذلك، وأمرهم أن يكتموا أمرهم عن أبي صدقة. فقال لهم مسرور ما قال، ثم أذن لأبي صدقة قبل إذنه لهم، فلما جلس قال له: يا أبا صدقة، قد أضجرتني بكثرة مسائلك، وأنا في هذا اليوم ضجر، وقد أحببت أن أتفرج وأفرح ولست آمن أن تنغص علي مجلسي بمسألتك، فأما إن أعفيتني أن تسألني اليوم حاجة، وإلا فانصرف. فقال: لست أسألك في يومي هذا إلى شهر حاجة. فقال له الرشيد: أما إذا اشترطت لي هذا على نفسك فقد اشتريت منك حوائجك بخمسمائة دينار وها هي هذه، فخذها طيبة معجلة، فإن سألتني شيئاً بعدها اليوم فلا لوم علي إن لم اصلك سنة بعدها. قال: نعم وسنتين. فقال له الرشيد رحمه الله تعالى: زدني في الوثيقة، فقال: قد جعلت أمر أم صدقة في يدك فطلقها متى شئت واحدة وإن شئت ألفاً إن سألتك في يومي هذا حاجة، وأشهدت الله ومن حضر على ذلك. ودفع إليه المال، ثم أذن للجلساء والمغنيين، فدخلوا وشرب القوم، فلما طابت نفسه، يعني الرشيد، قال له ابن جامع: يا أمير المؤمنين، قد نلت منك ما لم تبلغه أمنيتي، وكثر إحسانك إلي حتى مبت أعدائي وقتلتهم، وليس لي بمكة دار تشبه حالي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بمال أبني به داراً وأفرشها بباقيه لأفقأ عيون أعدائي وأزهق نفوسهم، فعل. قال: وكم قدرت لذلك؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأمر له بها؛ ثم قام إبراهيم الموصلي فقال له: قد ظهرت نعمتك علي وعلى أكابر ولدي، وفي أصاغرهم من أحتاج أن أطهوه، ومنهم صغار أحتاج أن أتخذ لهم خدماً، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتي على ذلك، فعل. فأمر له بمثل ما أمر به لابن جامع. وجعل كل واحد منهم يقول من الثناء ما يحضره ويسأل حاجته على قدر جائزته، وأبو صدقة ينظر إلى الأموال تفرق يميناً وشمالاً، فوثب قائماً على رجليه ورمى بالدنانير كم كمه وقال للرشيد: أقلني أقلك الله (من) عثرتك. فقال له الرشيد: لا أفعل. فجعل يستحلفه ويضطرب ويلج، والرشيبد يضحك ويقول: ما إلى ذلك سبيل؛ الشرط أملك. فلما عيل صبره أخذ الدنانير فرمى بها بين يدي الرشيد رحمه الله تعالى وقال: هاكها فقد رددتها عليك، وزدتك فرج أم صدقة فطلقها إن شئت واحدة وإن شئت ألفاً، وإن لم تلحقني بجوائز القوم ألحقني بجائزة هذا البارد عمرو الغزال، وكانت ثلاثة ىلاف دينار. فضحك الرشيد حتى استلقى ثم رد عليه الحمسمائة دينار، وأمر له بألف دينار أخرى معها. والله أعلم.
كان ابو نخيلة الحماني سائلاً ملحاً ملحفاً، وبنى داراً، فمر به خالد بن صفوان فوقف عليه، فقال له أبو نخيلة: يا ابن صفوان، كيف ترى؟ قال: رأيتك سألت فيها إلحافاً، وأنفقت ما جمعت فيها إسرافاً، جعلت إحدى يديك سطحاً والأخرى سلحاً، وقلت: من وضع في سطحي وإلا ملأته بسلحي، ثم ولى وتركه. فقيل له: ألا تهجوه؟ فقال: إذن يركب والله بغلته ويطوف في مجالس البصرة ويصف أرنبتي، فما عسى يضر الإنسان صفة أرنبته بما يعيبها سنة لا يعيد فيها كلمة؟ قال العتبي رحمه الله تعالى: لما حبس عمر بن هبيرة وهو أمير العراق الفرزدق، وأبى أن يشفع فيه أحداً، فدخل أبو نخيلة في يوم فطر فوقف بين يديه فقال: (من الرجز)
أطلقت بالأمس أسير بكر ... فهل فداك بقرى ووفر
من سبب أو حجة أو عذر ... تنجي التميمي القليل الشكر
من حلق القد الثقال السمر ... ما زال مجنوباً على است الدهر
ذا حسب يعلي وقدر يزري ... هبه لأخوالك يومة الفطر

فأمر ابن هبيرة بإطلاقه. وكان قد أطلق قبله رجلاً من عجل جيء به من عين التمر قد أفسد؛ فشفعت فيه بكر بن وائل، وإياه عنى أبو نخيلة. فلم خرج الفرزدق سأل عمن شفع له فأخبر، فرجع إلى الحبس وقال: لا أريمه ولو مت، أيطلق قبلي بكري وأخرج بشفاعة دعي؟ والله لا أخرج هكذا أبداً ولو من النار. فأخبر بذلك ابن هبيرة فضحك ودعا فأطلقه وقال: قد وهبتك لنفسك.
وقف علي أبي نواس سائل ملح فآذاه، فقال: (من الطويل)
وأخوس دلاج علي ورائح ... رجاء نوال لو يعان بجود
وإني وإياه لقرنان نصطلي ... من المطل ناراً غير ذات وقود
قطبت له وجهاً قطوباً عن الندى ... وآيسته من نائل بوعيد
فإن كنت لا عن سوء فعلك مقلعاً ... فدونك فاستظهر بنعل حديد
فعندي مطل لا يطير غرابه ... مطير ولا يدعى له بوليد
ذكر أن أعرابياً عري، فطلب من يكسوه فلم يرزق، فطلب خلقاً يتستر به فحرم، فتماوت، فاجتمع قوم وجمعوا بينهم ما ابتاعوا به له كفناً، ووضعوه عند رأسه وذهبوا ليسخنوا له الماء لغسله، فوثب الأعرابي وأخذ الثياب وعدا فلم يلحق.
شاعر: (من المنسرح)
جئتك في حاجة لتقضيها ... يسوقني طائعاً لها جشعي
مستيقناً واثقاً بردك لي ... مستيقظ اليأس نائم الطمع
كتب البحتري رحمه الله تعالى إلى بعض أمراء العسكر، وقد وعده بمزورة من صنعة طباخه، فأخرها عنه: (من البسيط)
وجدت وعدك زوراً في مزورة ... ذكرت مبتدئاً إحكام طاهيها
فلا شفا الله من يرجو الشفاء بها ... ولا غلت كف ملق كفه فيها
فاحبس رسولك عني أن يجيء بها ... فقد حبست رسولي عن تقاضيها
وقع بين رجل وامرأته (شر) فتهاجرا أياماً، ثم وافعها، فلما فرغ قالت: قبحك الله، كلما وقع بيني وبينك شر جئتني بشفيع لا أقدر على رده.
قال رجل لبنيه: يا بني، تعلموا الرد فإنه أشد من الإعطاء. ومن لقيك بالسؤال الحار فرده بالمنع البارد، ربما قضينا حوائج الناس تبرماً لا كرماً.
تعرض أعرابي لمعاوية رضي الله عنه في طريق فسأله، فمنعه، ثمة عاود في مكان آخر، فقال: ألم تسألني آنفاً؟ قال: نعم، ولكن بعض البقاع أيمن من بعض. فضحك ووصله.
إسماعيل بن قطري القراطيسي في الفضل بن الربيع: (من الهزج)
ألا قل للذي لم يه ... ده الله إلى نفعي
لئن أخطأت في مديح ... ك ما أخطأت في منعي
لقد نزلت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع
إدريس بن عبد الله اللخمي الضرير: (مجزوء الرمل)
صاحب الحاجة أعمى ... وأخو المال بصير
فمتى يصبر فيها ... رشده أعمى فقير
أنشد الجاحظ: (من مجزوء الرمل)
قد بلوناك بحمد ال ... له إن أغنى البلاء
فإذا كل مواعي ... دك والجحد سواء
وقف موسوس على ناس فردوه فقال: (من المنسرح)
أسأت إذ أحسنت ظني بكم ... والحزم سوء الظن بالناس
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله الحمد لله المتجلي لذوي البصائر بدلائل قدرته، وإتقان صنعته، المحتجب عن الأبصار لجلال عظمته، ذي الآلاء المتظاهرة المتتابعة، والنعم الظاهرة والباطنة، والمنن الخافية والبادية، والمواهب المترادفة المتوالية. أحمده حمداً يكون لحقه العظيم وفاءً، ومن إحسانه العظيم جزاءً، وعلى القيام بفرض العبودية دليلاً، وإلى إدراك مرضاته منهجاً وسبيلاً. وأسأله الصلاة على رسوله المنتمي إلى أشرف الأنساب، المتخلق ببسط الوجه ورفع الحجاب، وعلى متبعيه أكرم الآل والأصحاب.

الباب الحادي والأربعون
في الإذن والحجاب متيسره ومتصعبه

قد جاء في الباب الأول ما جاء في النهي عن الحجاب تورعاً، وفي باب السياسة ما يعتمده الحاجب تأدباً. ونذكر الآن ما جاء في أدب الاستئذان وسبب الحجاب، وأقوال من مني بذل الحجاب وبلي بغلظة البواب، وما اعتذر به عن ذلك، ومن ترفع عن احتماله، والشكر لتيسره، والذم على تعسره والنوادر منه. قال الله عز وجل مؤدباً لنا بالاستئذان: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكىة لكم " ، فهذا عام.
وقال سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات " ، فهذا خصوص.
وقال: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيت النبي إلا أن يؤذن لكم " ، وكل هذا حجاب إلا بإذن من له الإذن.
وآية الحجاب نزلت لما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها. وفيما أسنده البخاري رحمه الله عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بزينب، فقالت لي أم سلمة: لو أهدينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فقلت لها: افعلي، فعمدت إلى تمر وسمن وأقط، فاتخذت حيسة في برمة فأرسلت بها معي إليه. فانطلقت بها إليه، فقال: ضعها؛ ثم أمرني فقال: ادع لي رجالاً سماهم وادع من لقيت. ففعلت الذي أمرني فرجعت فإذا البيت غاص بأهله، ورأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع يده على تلك الحيسة، وتكلم بما شاء الله. ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون معه ويقول لهم: اذكروا اسم الله وليأكل كل رجل كنكم مما يليه، حتى تصدعوا كلهم عنها، فخرج من خرج وبقي نفر يتحدثون. ثم أخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو الحجرات وخرجت في أثره فقلت: إنهم قد ذهبوا فرجع ودخل البيت وأرخى الستر. وإني لفي الحجرة وهو يقول: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي " إلى قوله: " والله لا يستحي من الحق " .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الاستئذان ثلاث: فإن أذن لك، وإلا فارجع.
واستأذن عليه صلى الله عليه وسلم رجل فقال: آلج؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم لخادمه: اخرج فعلمه الاستئذان وقل له يقل: السلام عليكم، أدخل؟ النهي عن شدة الحجاب قيل: لا شيء أضيع للمملكة وأهلك للرعية والعمال من شدة الحجاب للوالي، ولا أهيب للرعية والعمال من سهولة الحجاب، لأن الرعية إذا وثقت بسهولة الحجاب أحجمت عن الظلم، فإذا وثقت بصعوبته هجمت على الظلم.
قال سعيد بن المسيب: نعم الرجل عبد العزيز لولا حجابه، إن داود عليه السلام ابتلي بالخطيئة لحجابه.
وعن علي عليه السلام: إنما أمهل فرعون مع دعواه لسعولة إذنه وبذل طعامه.
قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: كنت عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقال لآذنه: من بالباب؟ فقال: رجل أناخ الآن زعم أنه بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأذن له. فلما دخل قال: حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من ولي شيئاً من أمور المسلمين ثم حجب عنه، حجبه الله عنه يوم القيامة، فقال عمر لحاجبه: إلزم بيتك، فما رؤي على بابه بعده حاجب.
قال عمر بن العاص رضي الله تعالى عنه لابنه وقد ولي ولاية: انظر حاجبك فإنه لحمك ودمك، فلقد رأيتنا بصفين وقد أشرع قوم رماحهم في وجوهنا يريدون نفوسنا ما لنا ذنب إليهم إلا الحجاب.
ولى المنصور الخصيب حجابته فقال: إنك بولايتي عظيم القدر، وبحجابتي عريض الجاه، فبقها على نفسك، وابسط وجهك للمستأذن، وصن عرضك عن تناول المحجوبين، فما شيء أوقع بقلوبهم من سهولة الإذن وطلاقة الوجه.
وقد قال زياد رحمه الله لابنه في ضد ذلك: عليك بالحجاب؛ فإنما تجرأت الرعاة على السباع بكثرة النظر إليها.
ومن المعنى الأول قول أبي سليمان بن زيد النابلسي: (من الطويل)
سأهجركم حتى يلين حجابكم ... على أنه لا بد أن سيلين
خذوا حذركم من نبوة الدهر إنها ... وإن لم تكن حانت فسوف تحين
آخر: (من السريع)
كم من فتى تحمد أخلاقه ... وتسكن الأحرار في ذمته
قد كثر الحاجب أعداءه ... وسلط الدهر على نعمته

وقيل: يحتجب الوالي لسوء فيه أو لبخل منه.
فنون المعاني في الحجاب قيل لحبى المدينية: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالنت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم رده.
قيل لها: فما الذل؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدني ثم لا يؤذن له؛ قيل لها: فما الشرف؟ قالت: اعتقاد المنن في أعناق الرجال.
استأذن أبو الدرداء رحمه الله تعالى على معاوية فحجبه، فقال: من يغش أبواب الملوك يقم ويقعد، ومن يجد باباً مغلقاً يجد باب الله مفتوحاً؛ إن دعا أجيب، وإن سأل أعطي.
وقف عبد الله بن العباس بن الحسن العلوي رضي الله عنهما على باب المأمون رحمه الله يوماً، فنظر إليه الحاجب ثم أطرق فقال عبد الله لقوم معه: لو أذن لنا لدخلنا، ولو صرفنا لانصرفنا، ولو اعتذر إلينا لقبلنا، فأما الفترة بعد النظرة والتوقف بعد التعرف فلا أفهمه، ثم تمثل: (من الطويل)
وما عن رضىً كان الحمار مطيتي ... ولكن من يمشي سيرضى بما ركب
وانصرف، فبلغ المأمون كلامه، فضرب الحاجب وأمر لعبد الله بصلة جزيلة وعشر دواب.
وكان عنبسة بن سعيد إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانباً، فقيل له: إنك تتباعد من الإذن جهدك، قال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب، ثم قال: (من الطويل)
وإن مسيري في البلاد ومنزلي ... هو المنزل الأقصى وإن لم أقرب
ولست وإن أدنيت يوماً ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التجنب
ويعتده قوم كثير تجارة ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
ومثله: (من الطويل)
رأيت أناساً يسرعون تبادراً ... إذا فتح البواب بابك إصبعا
ونحن سكوت جالسون رزانة ... وحلماً إلى أن يفتح الباب أجمعا
وقال ابن أبي عيينة: (من الوافر)
أتيتك زائراً لقضاء حق ... فحال الستر دونك والحجاب
وأنتم معشر فيكم أخ لي ... كأن إخاءه الآل السراب
ولست بواقع في قدر قوم ... وإن كرهوا كما يقع الذباب
قيل للمغيرة بن شعبة رحمه الله: إن بوابك يأذن لأصحابه قبل أصحابك! فقال: إن المعرفة لتنفع عند الكلب العقور والجمل الصؤل، فكيف بالرجل العقول؟! قدم عبد العزيز بن زرارة الكلابي على معاوية رضي الله عنه، فطال مقامه ببابه فصاح: من يستأذن لي اليوم فاستأذن له غداً؟ فبلغت معاوية فأذن له وأكرمه.
استأذن أبو سفيان على عمر رضي الله عنه فحجبه، فقيل له: حجبك أمير المؤمنين، فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجبني.
قيل ليحيى بن خالد: غير حاجبك، قال: فمن يعرف إخواني القدماء؟ شاعر: (من الكامل)
ولقد رأيت بباب دارك جفوة ... فيها لحسن صنيعك التكدير
ما بال دارك حين تدخل جنة ... وبباب دارك منكر ونكير
استأذن سعد بن مالك على معاوية فحجب، فهتف بالبكاء، فسعى إليه الناس وفيهم كعب فقال: وما يبكيك؟ قال: وما لي لا أبكي وقد ذهب الأعلام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاوية يتلعب بهذه الأمة؟ قال كعب: لا تبك، فإن في الجنة قصراً من ذهب يقال له " عدن " أهله الصديقون والشهداء، وأنا أرجو أن تكون من أهله.
حجب بعض الهاشميين فرجع مغضباً، فرد فلم يرجع، فقال: ليس بعد الحجاب إلا العذاب، لأن الله تعالى يقول: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم " .
وقف رجل بخراسان بباب أبي دلف حيناً لا يصل إليه، فتلطف بإيصال رقعة إليه وكتب فيها: (من الوافر)
إذا كان الكريم له حجاب ... فما فضل الكريم على اللئيم
فأجابه أبو دلف: (من الوافر)
إذا كان الكريم قليل ماله ... ولم يعذر تعلل بالحجاب
وأبواب الملوك محجبات ... فلا تستنكرن حجاب بابي
أبو تمام يعتذر لمحتجب: (من البسيط)
يا أيها الملك النائي برؤيته ... وجوده لمراعي جوده كثب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً ... إن السماء ترجى حين تحتجب
قيل إنه أخذ هذا المعنى من مخنث سمعه يقول لآخر: طلبتك فلم أرك، فقال: السماء أرجى ما كانت إذا احتجبت.
ولأبي تمام: (من الطويل)
سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى يلين قليلا

فما خاب من لم يأته متعمداً ... ولا فاز من قد نال منه وصولا
إذا لم نجد للإذن عندك موضعاً ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا
وللحسن في مثل معنى البيت الثاني: (من الخفيف)
ونعم هبك قد وصلت إلى الفض ... ل فهل في يديك غير التراب
وقال أبو تمام: (من البسيط)
مالي أرى الحجرة الفيحاء مقفلة ... دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها
أظنها جنة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها
وقف أبو العتاهية بباب يحيى بن خاقان فلم يأذن له، فانصرف. فأتاه يوماأ آخر فصادفه حين نزل عليه ودخل إلى منزله، فلم يأذن له. فأخذ قرطاساً وكتب إليه: (من الوافر)
أراك تراع حين ترى خيالي ... فما هذا يروعك من خيالي؟
لعلك خائف مني سؤالي ... ألا فلك الأمان من السؤال
كفيتك إن حالك لم تمل بي ... لأطلب مثلها بدلاً بحالي
وإن اليسر مثل العسر عندي ... بأيهما منيت فلا أبالي
فلما قرأ الرقعة أمر الحاجب بإدخاله، فأبى أن يرجع معه ولم يلتقيا بعد ذلك.
قال ابن عبدل: (من الطويل)
ولو شاء بشر كان من دون بابه ... طماطم سود أو صقالبة حمر
ولكن بشراً سهل الباب للتي ... يكون لبشر عندها الحمد والأجر
بعيد مراد العين ما رد طرفه ... حذار الغواشي باب دار ولا ستر
أعرابي: (من المتقارب)
لعمري لئن حجبتني العبيد ... ببابك ما تحجب القافية
سأرمي بها من وراء الحجاب ... فتغدو عليك بها داهية
تصم السميع وتعمي البصير ... ويسأل من مثلها العافية
وقال بويب اليمامي: (من الطويل)
على أي باب أطلب الإذن بعدما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه
أخذ المعني أبو الكرم بن العلاف فقال في عميد الدولة أبي منصور ابن جهير: (من المتقارب)
فهبك احتجبت عن الناظرين ... فهلا احتجبت عن الألسن
أحمد بن بشر في أحمد بن يوسف: (من الطويل)
لئن عدت بعد اليوم إني لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم
متى ينجح الغادي إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم
أتيتك مشتاقاً إليك مسلماً ... عليك وإني باحتجابك عالم
فخبرني البواب أنك نائم ... فأنت إذا استيقظت أيضاً فنائم
أبو الحسن السلامي: (من الخفيف)
زرت حتى حجبت وانتقب الأن ... س نقابين طرزا باحتشام
إن بوابك القير طويل ال ... باع في سوء عشرتي واهتضامي
هو تعويد ملكك البارع الحس ... ن وشيطان عبدك المستضام
سمج الوجه لو غدا حاجب البي ... ت زهدنا في الحج والإنعام
أبو منصور بن الأصباغي الكاتب: (من البسيط) وقد أغرب في المعنى، ولكنه خلط، وجرى على عادة الشعراء في التجوز؛ لأن الطيف لا يدخل الجفن إنما يتخيل إلى النفس كغيره من خواطر الأحلام.
وفد قبيصة بن هانئ على يزيد بن معاوية، فاحتجب عنه أياماً. ثم إن يزيد ركب يوماً يتصيد، فتلقاه ابن هانئ فقال: إن الخليفة ليس بالمحتجب المتخلي ولا بالمتطرف المتجني ولا الذي ينزل على الغدران والفلوات، ويخلو باللذات والشهوات؛ وقد وليت أمرنا فأقم بين أظهرنا، وسهل إذننا، واعمل بكتاب الله تعالى فينا؛ فإن كنت عجزت عما ها هنا واخترت علينا غيره، فاردد علينا بيعتنا نبايع من يعمل ذلك فينا ويقيمه لنا؛ ثم عليك بخلواتك وصيدك وكلابك. فغضب يزيد وقال: والله لولا أن أسس بالشام سنة العراق لأقمت أودك، ثم انصرف وما هاجه بشيء، وأذن له ولم تتغير منزلته عنده.
كان أبو العتاهية يختلف إلى عمرو بن مسعدة لود كان بينه وبين أخيه مجاشع. فاستأذن عليه يوماً فحجب، فلزم منزله، فاستبطأه عمرو فكتب إليه: إن الكسل يمنعني من لقائك وكتب في أسفل الرقعة: (من المنسرح)
كسلني اليأس منك عنك فما ... أرفع طرفي إليك من كسل
أي مرئ لم يكن أخا ثقة ... قطعت منه حبائل الأمل

واستأذن أيضاً عليه فحجب عنه، فكتب إليه: (من المنسرح)
ما لك قد حلت عن إخائك واس ... تبدلت يا عمرو شيمة كدره
إني إذا الباب تاه حاجبه ... لم يك لي في هجره نظره
لستم ترجون للوفاء ولا ... يوم تكون السماء منفطره
لكن لدنيا كالظل بهجتها ... سريعة الانقضاء منشمره
قال عبد الله بن مصعب الوبيري: كنا بباب الفضل بن الربيع والآذن يأذن لذوي الهيئات والإشارات، وأعرابي يدنو فكلما دنا صرخ به، فقام ناحية وأنشأ يقول: (من البسيط)
رأيت آذننا يعتام بزتنا ... وليس للحسب الزاكي بمعتام
ولو دعينا على الأحساب قدمني ... مجد تليد وجد راجح نامي

نوادر في الحجاب
استأذن رجل على أمير فأعلم بمكانه، فقال: قولوا له: إن الكرى قد خطب إلي نفسي، وإنما هي هجعة ثم أهب، فخرج الحاجب فقال: قد قال كلاماً لا أفهمه، إلا أنه لا يريد أن يأذن لك.
قال: كان عنبر الرومي يحجقب لسلم بن قتيبة، فجاءه رؤبة فحجبه، فجلس بالباب حتى خرج سلم راكباً فوثب إليه رؤبة فقال: (من الرجز)
أأنت سلطت علي عنبراً ... إذا رآني مقبلاً تذمرا
أصير المقدم المؤخرا ... أزرق رومياً وقرداً أبترا
سفاهة منه ورأياً أغبرا
قال: فكان عنبر بعد ذلك إذا رآه حول وجهه عنه، فيدخل إذا شاء ويخرج إذا شاء.
ابن سكرة الهاشمي: (من المتقارب)
تجشأت في وجهة بوابه ... ليعرف شبعي فلا أمنع
وقلت له إن بي تخمة ... فهل من دواء لها ينفع
فقال لقد غرني معشر ... بهذا الكلام الذي أسمع
فلما أتيت بهم صاحبي ... ولاحت ثرائده أوجعوا
فراحوا بطاناً ذوي كظة ... وأصبحت من أجلهم أصفع
ابن الحجاج: (من السريع)
بي علة تقطع أسبابها ... من راحة الصحة أسبابي
وليس يشفيني سوى نهشة ... في قطعة من كبد بواب
فامنن بأن تذبح لي واحداً ... بالنعل في دوارة الباب
فنقطة من دم أوداجه ... أنفع لي من رطل جلاب
وله: (من المنسرح)
سل بي فإن الأبواب تعرفني ... أغرى لزوماً بها من العتب
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله الحمد لله الأليم نكاله، الشديد محاله، فاتق الأذهان لطلب النجاة والخلاص، فالق الإصباح عن ظلم الديماس، وموضح السبل والآراء المتحيرة بعد الإلباس، ومضيء القلوب بالأفكار المنيرة عند نزول البلاء وحين الباس، الصفوح عن المحتال للسلامة من أشراك القنّاص، منكر الخداع على من تعاطاه، وراضيه في الجهاد لمن أتاه. كل فعل في سبيله محمود ومشكور، وكل سعي بسخطه مذموم ومدحور. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة صادقة الإعلان والإسرار، برية من مكر الكفور الختّار. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الكاشف بمعجزاته غطاء اللبس والحيل من ذوي الشرك، الكاسف بشموس آياته الواضحة مطالع الباطل والإفك، المصطفى من أشرف قريش البطاح، صلى الله عليه وسلم وعلى آله ما طرد الليل الصباح، وأعقب الغدو الرواح.
الباب الثاني والأربعون
في الحيل والخدائع المتوصّل بها
إلى نجح المطالب والمقاصد
الحيلة من فوائد الآراء المحكمة، ونتائج الآراء المبصرة، وهي حسنة ما لم يستبح بها محظور أو يحظر مباح، وفضيلة ما قصد بها صاحبها سبيل الإصلاح، وقد سومح الكاذب في الحرب والإئتلاف، ورفع عنه الوزر في كذبه والاقتراف؛ وإنما يكذب بضرب من الخديعة، يجمع بها شتائت الأهواء بعد القطيعة.
وقد سئل بعض الفقهاء عن استجازتهم الحيل في الفقه، فقال: قد علمنا الله عز وجل ذلك؛ فإنه قال: " وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث " . واستعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخديعة في الحرب وقال: الحرب خدعة.
وقال حكيم: اللطف في الحيلة أجدى من الوسيلة.
وقيل: من لم يتأمل الأهمر بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله. والتثبت يسهل طريق الرأي إلى الإصابة، والعجلة تضمن العثرة.

والأمور وإن كانت مقدرة، فمن تقدير الله عز وجل. أكثر ما جربناه أن يكون المحتال أقرب إلى المأثور، وأبعد من المحذور، من المفرط في الأمور، والمستسلم للخطوب، المؤخر لاستعمال الحزم.
على أن الخليل بن أحمد قال: من استعمل الحزم وقت الاستغناء عنه استغنى عن الاحتيال في وقت الحاجة إليه.
الأخبار في الحيل كان سعد القرظ زنجياً عبداً لعمار بن ياسر. وكان على نخلة يجتني منها، فسمع الزنج يتكلمون فيما بينهم، فأذّن فاجتمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال: ما حملك على الأذان؟ قال: خفت عليك، فأذّنت ليجتمع أصحابك. فأمره بعد ذلك بالأذان، فكان مؤذناً.
لما أراد شيرويه قتل أبيه أبرويز، قال أبرويز للداخل عليه ليقتله: إني أدلك على شيء فيه غناك لوجوب حقك علي. قال: ماهو؟ قال: الصندوق الفلاني. فذهب الرجل إلى شيرويه فأخبره الخبر، فأخرج الصندوق وإذا فيه رقعة وفي الرقعة حق، وعلى الحق مكتوب: فيه حب م أخذ منه واحدة افتضّ عشر أبكار، وكان أمره في البه كذا وكذا. فأخذ شيرويه منه حبة كان هلاكه فيها. فكان أول ميت أخذ ثأره من قاتله.
كان الحارث بن مارية الغساني الملك مكرماً لزهير بن جناب الكلبي ينادمه ويحادثه، فقدم على الملك رجلان من بني نهد بن زيد يقال لهما: سهل وحزن ابنا رزاح، وكان عندهما حديث من أحاديث العرب، فاجتباهما الملك ونزلا منه بالمكان الأثير، فحسدهما زهير بن جناب فقال: أيها الملك، هما والله عين لذي القرنين عليك يعني المنذر الأكبر جد النعمان بن المنذر وهما يكتبان إليه بعوزتك وخلل ما يريان منك. قال: كلا. فلم يزل زهير به حتى أوغر صدره. وكان إذا ركب بعث إليهما ببعيرين يركبان معه، فبعث إليهما بناقة واحدة، فعرفا الشر فلم يركب أحدهما وتوقف، فقال له الآخر: (من الطويل)
فإلا تجللها يعالوك فوقها ... وكيف توقى ظهر ما أنت راكبه
فركبها مع أخيه ومضي بهما فقتلا، ثم إن الملك بحث عن أمرهما بعد ذلك فوجده باطلاً، فشتم زهيراً وطرده، فانصرف إلى بلاد قومه. وقدم رزاح أبو الغلامين إلى الملك، وكان شيخاً مجرباً عالماً، فأكرمه الملك وأعطاه دية ابنيه. وبلغ زهيراً مكانه، فدعا ابناً له يقال له عامر، وكان من فتيان العرب لساناً وبياناً، فقال له: إن رزاحاً قدم على الملك، فالحق به، فاحتل في أن تكفينيه. وقال: اذممني عند الملك ونل مني، وأثّر به آثاراً. فخرج الغلام حتى قدم الشام فتلطف في الدخول على الملك حتى وصل إليه، وأعجبه ما رأى منه، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا عامر بن زهير بن جناب. قال: فلا حياك الله ولا حيا أباك الغادر الكذوب الساعي. فقال الغلام: نعم، فلا حياه الله، أنظر أيها الملك ما صنع بظهري، وأراه آثار الضرب. فقبل ذلك منه وأدخله في ندمائه. فبينا هو يوماً يحدثه إذ قال: أيها الملك لست أدع أن أقول الحق، وقد والله نصحك أبي، ثم أنشأ يقول: (من الوافر)
فيا لك نصحة لمّا تذقها ... أراها نصحة ذهبت ضلالا
ثم تركه أياماً وقال له بعد ذلك: ما تقول أيها الملك في حية قد قطعت ذنبها وبقي رأسها؟ قال: ذاك أبوك وصنيعه بالرجلين ما صنع. قال: أبيت اللعن! فوالله ما قدم رزاح إلا لثأر بهما. فقال له: وما آية ذلك؟ قال: اسقه الخمر، ثم ابعث عليه عيناً يأتيك بخبره. فلما انتشى صرفه إلى قبته ومعه بنت له، وبعث عليه عيوناً. فلما دخل قبته قامت بنته تسانده فقال: (من الوافر)
دعيني من سنادك إن حزنا ... وسهلاً ليس بعدهما رقود
ولا تسليني عن شبليك ماذا ... أصابهما إذا اهترش الأسود
فإني لو ثأرت المرء حزناً ... وسهلاً قد بدا لك ما أريد
فرجع القوم إلى الملك فأخبروه بما سمعوا، فأمر بقتل النهدي، ورد زهيراً إلى موضعه.

خرج عمرو بن العاص بن وائل السهمي وعمارة بن الوليد المخزومي، أخو خالد بن الوليد في تجارة إلى النجاشي بأرض الحبشة، وكان عمارة ذا محادثة للنساء. فلما ركبا في السفينة ومع عمرو امرأته أصابا من خمر معهما، فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو: قبليني، فقال لها عمرو: قبلي ابن عمك، فقبلته وحذر عمرو. وراودها عمارة عن نفسها، فامتنعت. ثم إن عمراً جلس إلى ناحية السفينة يبول، فدفعه عمارة في البحر. فلما وقع سبح حتى أخذ بالقلس ونجا. فقال له عمارة: أما والله يا عمرو، لو علمت أنك تحسن السباحة ما فعلت، فاضطغنها عمرو؛ ومضيا في وجههما حتى قدما أرض اليمن. وكتب عمرو بن العاص إلى أبيه العاص: أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته وهو يرصد لعمارة ما يرصد. فمضى العاص بن وائل في رجال من قومه منهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج إلى بني المغيرة وغيرهم من بني مخزوم فقال: إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، وكلاهما فاتك صاحب شر، وهما غير مأمونين على أنفسهما، ولا ندري ما يكون، وإني أبرأ إليكم من عمرو ومن جريرته وقد خلعته. فقال بنو المغيرة: فأنت تخاف عمراً على عمارة، قد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته فخل بين الرجلين. فقال السهميون: قد قبلنا، فابعثوا منادياً بمكة: إنا قد خلعناهما وتبرأ كل قوم من صاحبهم ومما جرَّ عليهم، ففعلوا. فقال الأسود بن عبد المطلب: طل والله دم عمارة إلى آخر الدهر. ولما اطمأنا بأرض الحبشة لم يلبث عمارة أن دب لامرأة النجاشي فاختلف إليها فأدخلته، فجعل إذا رجع من مدخله يخبر عمرو بن العاص بما كان من أمره، ويقول له عمرو: ما أصدقك أنك قدرت على هذا الشأن؛ إن المرأة أرفع من ذلك، وقد كان صدقه عمرو وكانا في منزل واحد، وإنما أراد التثبت ويريد أن يأتيه بشيء لا يستطيع دفعه إن هو رفعه إلى النجاشي. فقال له في بعض ما يذكر من أمرها: إن كنت صادقاً فقل لها: فلتدهنك من دهن النجاشي الذي لا يدهن به غيره، فإني أعرفه، أو ائتني به أصدقك. ففعل عمارة فجاء بقارورة من دهنه، فلما شمها عمرو عرفه وقال له عند ذلك: أشهد أنك صادق، ولقد أصبت شيئاً ما أصاب أحد مثله قط من العرب من امرأة الملك. ثم سكت عنه؛ حتى إذا اطمأن دخل على النجاشي فقال: أيها الملك، إن ابن عمي سفيه وقد خشيت أن يعرني أمره عندك، وقد أردت أن أعلمك شأنه فلم أفعل حتى استثبت، وأنه قد دخل على بعض نسائك فأكثر، وهذا من دهنك قد أعطته منه، ودهنني منه. فلما شم النجاشي الدهن قال: صدقت، هذا دهني الذي لا يكون إلا عند نسائي. ثم دعا بعمارة ودعا السواحر فجردنه من ثيابه ثم أمر فنفخن في إحليله. وقال النجاشي: لو قتلت قرشياً لقتلتك. فخرج عمارة هارباً يهيم مع الوحش، فلم يزل بأرض الحبشة حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فخرج إليه عبد الله بن أبي ربيعة وكان اسمه بحيرا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله فرصده على ماء بأرض الحبشة، وكان يرده مع الوحش. فلما وجد ريح الإنس هرب، حتى إذا جهده العطش ورد فشرب حتى تملا، وخرجوا في طلبه. قال عبد الله فسعيت إليه فالتزمته، فجعل يقول: يا بحيراأرسلني، يا بحيرا أرسلني، فإني أموت إن أمسكتموني. قال عبد الله: وضبطته فمات في يدي مكانه. فواراه وانصرف. وكان شعره قد غطى على كل شيء منه. وفي ذلك يقول عمرو بن العاص من أبيات: (من الطويل)
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ... ولم يعص قلباً غاوياً حيث يمما
قضى وطراً منه يسيراً وأصبحت ... إذا ذكرت أمثاله تملأ الفما

قال ابن الكلبي: كان عامر بن الظرب العدواني يدفع بالناس في الحج. فحج ملك من ملوك حمير، فرآه فقال: لا أترك هذا المعدي حتى أذله وأفسد عليه أمره. فلما رجع الملك إلى بلده وصدر الناس، أرسل إليه الملك: إني أحب أن تزورني، فأحبوك وأكرمك وأتخذك خلاً وصديقاً. فأتاه قومه فقالوا: تغدو ويغدو معك قومك فيصيبون من جنبك ويتجهون بجاهك. فخرج وأخرج معه نفراً من قومه. فلما قدم بلاد الملك تكشف له رأيه وأبصر سوء ما صنع بنفسه. فجمع إليه أصحابه فقال: ألا ترون أن الهوى يقظان والرأي نائم؟ وهو أول من قاله، فمن هناك يغلب الهوى الرأي ومن لم يغلب الهوى بالرأي ندم؛ عجلت حين عجلتم، ولن أعود بعد أعجل برأي؛ إنا قد تورطنا في بلاد هذا الملك، فلا تسبقوني بريث أمر أقيم عليه ولا بعجلة رأي أخف معه، دعوني وحيلتي، فإن رأيي لي ولكم.
فلما قدم على الملك ضرب عليه قبة وأكرمه وأكرم أصحابه، فقالوا: قد أكرمنا كما ترى، وبعد هذا ما هو خير منه. فقال: لا تعجلوا، فإن لكل آكل طعاماً، ولكل راع مرعى، ولكل مراح مريحاً، وتحت الرغوة الصريح. وهو أول من قاله. فمضوا أياماً، ثم بعث إليه الملك: إني قد رأيت أن أجعلك الناظر في أمور قومي، وقد رضيت عقلك، وأتفرغ أنا لما أريد، فما رأيك؟ قال: أيها الملك، ما أحسب أن رغبتك في قربي بلغت أن تخلع لي ملكك؛ وقد تفضلت إذ أهلتني لهذه المنزلة، فإن لي كنز علم لست أعمل إلا به، وتركته في الحي مدفوناً؛ وإن قومي أضناء بي، فاكتب لي سجلاً بحماية الطريق فيرى قومي طمعاً تطيب أنفسهم به غني، فأستخرج كنزي وأعود إليك وافداً. فكتب له سجلاً بحماية الطريق. وجاء إلى أصحابه فقال: ارتحلوا عني، حتى إذا برزوا قالوا: لم نر كاليوم وافد قوم أقل ولا أبعد نوالاً منك! فقال لهم: مهلاً فما على الرزق فوت، وغانم من نجا من الموت، ومن لم ير باطناً يعش واهناً. فلما قدم على قومه قال: رب أكلة تمنع أكلات وهو أول من قاله ولم يرجع إلى الملك.
قال أبو عبيدة: استب عمارة بن عقبة بن أبي معيط وحجر بن زيد الكندي، وكان حجر قد ولي أرمينية لمعاوية، وكان شريفاً. فقال حجر لعمارة: يا صفوري، فقال: اشهدوا. وارتفعا إلى المغيرة بن شعبة، فقال المغيرة: إني لأكره أن أدخل بين عامل أمير المؤمنين وبين ابن عمه، ارحلا إليه. فلما قدما عليه قال عمارة: يا أمير المؤمنين، ركب مني ما لم يركب من أحد؛ شتمت ونفيت عن حسبي ونسبي، فقال: لعلك أشهدت عليه؟ قال: نعم. قال: أصبت. ثم دخل حجر على معاوية وعنده معاوية بن حديج السكوني وسعد بن نمرة الهمذاني، فسلم، فقال معاوية: مرحباً وأهلاً وسهلاً برجل إن حددناه لم ينقص من مروءته ولا شرفه ولا منزلته عندنا شيء. فقال معاوية لابن حديج: أبصرته؟ قال: نعم، قال: أنا أشهد أني سمعتك تذكر أنه صفوري. قال: ويلك، انظر ما تقول. قال ابن حديج لسد: يا أبا سعيد، أما سمعته وهو يقول ذلك؟ قال: بلى غير مرة. قال: ويحكما اتقيا الله! قال ابن حديج لسعد: أما سمعته يقول ذلك؟ قال: بلى، هو لهذا أذكر منك. قال معاوية: عليكم لعنه الله! ثم قال: يا عمارة، المستشار مؤتمن، قال: فإني استشرتك، قال: أشير عليك أن تدع هذا الحد، قال: تركته.

قال الربيع بن زياد الحارثي: كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا جميعاً. فلما قدمنا أتيت يرفأً فقلت: يا يرفأ، مسترشد وابن سبيل، أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيه عماله؟ فأومأ إلى الخشونة، فاتخذت خفين مطارقين، ولبست جبة صوف، ولثت عمامتي على رأسي، فدخلنا على عمر، فصفنا بين يديه، فصعد فينا وصوب، فلم تأخذ عينه أحداً غيري؛ فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى؟ قلت: البحرين. قال: كم ترزق؟ قلت: ألفاً، قال: كثير! فما تصنع به؟ قلت: أتقوت منه شيئاً وأعود به على أقارب لي، فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين. قال: فلا بأس، ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصف، فصعد فينا بصره وصوب، فلم تقع عينه إلا علي، فدعاني وقال: كم سنك؟ قلت: خمس وأربعون قال: الآن حين استحكمت. ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش، فأتي بخبز يابس وأكسار بعير. فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد، فجعلت أنظر إليه يلحظني من بينهم. ثم سبقت مني كلمة تمنيت أني سخت في الأرض معها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الناس محتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا، فزجرني وقال: كيف قلت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أن ينظر إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك، فتؤتى بالخبز ليناً وباللحم غريضاً. فسكن من غربه، فقال: أها هنا عزب؟ فقلت: نعم، فقال: يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم فقال: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " ، ثم أمر أبا موسى بإقراري وأن يستبدل بأصحابي. غريب هذا الخبر.
السبائك: الرفاق، يريد ما يسبك من الدقيق. والصلائق: ما عمل بالنار طبخاً وشياً. والصناب: صباغ يتخذ من الخردل والزبيب، ومن ذلك قيل للفري: صنابي إذا كان في مثل ذلك اللون. والغريض: الطري، والإكسار جمع كسر. والكسر والوصل: العظم ينفصل بما عليه من اللحم. وقوله: نعى على قوم: أي عابهم بها ووبخهم. والمطارق: المرقع.
روي أن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري وقد على عمر ابن عبد العزيز بخناصرة، فسدك بناحية من المسجد فجعل يصلي إليها ويديم الصلاة. فقال عمر رحمه الله للعلاء بن المغيرة البندار: إن كان سر هذا كعلانيته فهو رجل أهل العراق غير مدافع. فقال العلاء: أنا آتيك بخبره. فأتاه وهو يصلي بين المغرب والعشاء، فقال: اشفع صلاتك فإن لي إليك حاجة، ففعل. فقال له العلاء: قد عرفت حالي من أمير المؤمنين، فإن أنا أشرت بك إلى ولاية العراق، فما تجعل لي؟ قال: عمالتي سنة، وكان مبلغها عشرين ألف درهم، قال: فاكتب لي بذلك، قال: فارتد بلال إلى منزله فأتى بدواة وصحيفة، فكتب له بذلك. فأتى العلاء عمر بالكتاب، فلما رآه كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وكان والي الكوفة: أما بعد، فإن بلالاً غرنا بالله فكدنا نغتر، فسبكناه فوجدناه خبثاً كله.

كان عبد الملك بن مروان من أشد الناس حباً لعاتكة امرأته، وهي عاتكة بنت يزيد بن معاوية. فغضبت مرة على عبد الملك، وكان بينهما باب فحجبته، وأغلقت ذلك الباب. فشق غضبها عليه وشكاه إلى خاصته. فقال له عمر بن بلال الأسدي: ما لي عندك إن رضيت؟ قال: حكمك. فأتى عمر بابها وجعل يتباكى وأرسل إليها بالسلام. فخرجت إليه خاصتها ومواليها وجواريها وقلن: ما لك؟ قال: فزعت إلى عاتكة ورجوتها، وقد علمت بمكاني من أمير المؤمنين معاوية ومن أبيها بعده. قلن: وما لك؟ قال: ابناي لم يكن لي غيرهما، فقتل أحدهما الآخر، فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به، فقلت: أنا الولي وقد عفوت؛ قال: لا أعود الناس هذه العادة؛ وقد رجوت أن ينجي الله ابني هذا على يدها. فدخلن عليها فذكرن ذلك لها، فقالت: وكيف أصنع مع غضبي عليه وما أظهرت له؟ قلن: إذاً والله يقتل، فلم يزلن حتى دعت بثيابها فأحضرنها، ثم خرجت نحو الباب؛ وأقبل حديج الخصي وقال: يا أمير المؤمنين، هذه عاتكة قد أقبلت. قال: ويلك ما تقول؟ قال: قد والله طلعت. فأقبلت وسلمت فلم يرد عليها، فقالت: أما والله لولا عمر لما جئت، آلله أن تعدى أحد ابنيه على الآخر فقتله، أردت قتل الآخر به وهو الولي وقد عفا؟ قال: إني أكره أن أعود الناس هذه العادة. قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية ومن أمير المؤمنين يزيد، وهو ببابي. فلم تزل به حتى أخذت رجله تقبلها، فقال: هو لك، ولم يبرحا حتى اصطلحا. ثم راح عمر بن بلال إلى عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، كيف رأيت؟ قال: رأيت أثرك، فهات حاجتك. فقال: مزرعة بعبرتها وما فيها وألف دينار وفرائض لولدي وأهل بيتي وعيالي، قال: ذلك لك. ثم اندفع عبد الملك يتمثل بشعر كثير: (من الطويل)
وإني لأرعى قومها من جلالها ... وإن أظهروا غشاً نصحت لهم جهدي
ولو حاربوا قومي لكنت لقومها ... صديقاً ولم أحمل على قومها حقدي
أقبل واصل بن عطاء بن سفر في رفقة، فأحسوا بالخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم؛ وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويفهموا حدوده، قالوا: قد أجرناكم؛ قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا وأصحابي؛ قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، قال: ليس ذاك لكم؛ قال الله: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا بجمعهم حتى بلغوهم المأمن.
وهمّ الأزارقة بقتل رجل، فنزع ثوبه واتزر ولبى وأظهر الإحرام، فخلوا سبيله لقول الله عز وجل: " لا تحلوا شعائر الله " .
قدم محمد بن الحسن الفقيه العراق، فاجتمع الناس عليه يسألونهويسمعون كلامه فرفع خبره إلى الرشيد وقيل له: إن معه كتاب الزندقة. فبعث بمن كبسه وحمله وحمل معه كتبه، فأمر بتفتيشها. قال محمد: فخشيت على نفسي من كتاب الحيل، فقال لي الكاتب: ما ترجمة هذا الكتاب؟ فقلت: كتاب الخيل، فرمى به.
قال مروان بن الحكم يوماً لابن أبي عتيق: إني مشغوف ببغلة الحسن بن علي عليهما السلام؛ فقال له ابن أبي عتيق: إن دفعتها إليك أتقضي لي ثلاثين حاجة ؟ قال: نعم. قال: فإذا اجتمع الناس عندك العشية فإني آخذ في مآثر قريش ثم أمسك عن الحسن، فلمني على ذلك. فلما أخذ القوم مجالسهم أفاض في أولية قريش، فقال له مروان: ألا تذكر أوّليّة أبي محمد وله في هذا ما ليس لأحد؟ قال: إنما كنا في الأشراف، ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا لأبي محمد. لما خرج ليركب تبعه ابن أبي عتيق، فقال له الحسن وتبسم: ألك حاجة؟ قال: ركوب البغلة، فنزل الحسن كرم الله وجهه فدفعها إليه.
لما بايع الرشيد لأولاده الثلاثة بالعهد، تخلف رجل مذكور من الفقهاء، فأحضره وقال له: لم تخلفت عن البيعة؟ قال: عاقني يا أمير المؤمنين عائق. فأمر بقراءة كتاب البيعة، فلما قريء قال: يا أمير المؤمنين، هذه البيعة في عنقي إلى قيامي الساعة. فلم يفهم الرشيد ما أراد وقدّر أنه إلى قيام الساعة، وذهب ما كان في نفسه.

لما حبس ابن المقفع وألح عليه صاحب الاستخراج في العذاب، خشي على نفسه فقال لصاحب الاستخراج: عندك مال وأنا أربحك ربحاً ترضاه، وقد عرفت وفائي وسخائي وكتماني؟ فعندي مقدار هذا الشهر. فلما صار له عليه مال رفق به مخافة أن يموت تحت العذاب فيثوى ماله.
قال المغيرة بن شعبة: ما خدعني غير غلام من بني الحارث بن كعب؛ فإني ذكرن امرأة منهم، فقال لي: أيها الأمير، لا خير لك فيها، قلت: ولم؟ قال: رأيت رجلاً يقبلها، فأضربت عنها، فتزوجها الفتى، فأرسلت إليه: ألم تعلمني كذا وكذا من أمرها؟ قال: بلى، رأيت أباها يقبلها.
كان لعبد الله بن مطيع غلام مولد قد أدّبه وخرجه وصيره قهرمانه، وكان أتاهم قوم من العدو من ناحية البحر، فرآه يوماً يبكي، فقال: ما لك؟ قال: تمنيت أن أكون حراً فأخرج مع المسلمين. قال: وتحب ذاك؟ قال: نعم، قال: فأنت حر لوجه الله تعالى فاخرج، قال: فإنه قد بدا لي أن لا أخرج، قال: خدعتني والله.
أتي معن بن زائدة بثلاثمائة أسير من حضرموت، فأمر بضرب رقابهم. فقام فيهم غلام حتى سال عذاره، فقال: أنشدك الله أن تقتلنا ونحن عطاش، قال: اسقوهم، فلما شربوا قال: اضربوا أعناقهم، فقال الغلام:أنشدك الله أن تقتل أضيافك، فقال: أحسنت! وأمر بإطلاقهم.
مر شبيب بنيزيد الخارجي على غلام قد استنقع في الفرات، فقال: يا غلام، اخرج إلي لأسألك. فنظر الغلام فعرف شبيباً: فقال: إني أخاف، فهل آمن أنا إلى أن أخرج وألبس ثيابي؟ قال: نعم، قال: فوالله لا ألبسها اليوم ولا أخرج. فقال شبيب: أوّه! خدعني الغلام، وأمر رجلاً يحفظه له ولا تصيبه معرة ومضى، وسلم الغلام.
كان يختلف إلى أبي حنيفة رجل يتجمل بالستر الظاهر والسمت الحسن. فقدم رجل غريب فأودعه مالاً خطيراً وخرج حاجّاً، فلما عاد طالبه بالوديعة فجحده، فألح عليه الرجل فتمادى. وكاد صاحب المال يهيم، ثم استشار ثقة فقال له: كف عنه وصر إلى أبي حنيفة، فدواؤك عنده. فانطلق إليه وخلا به وأعلمه شأنه. فقال له أبو حنيفة: لا تعلم بهذا أحداً وامض راشداً وعد إلي غداً. فلما أمسى أبو حنيفة جلس كعادته للناس، وجعل كلما سئل عن شيء تنفس الصعداء. فقيل له في ذلك. فقال: إن هؤلاء، يعني عن السلطان، قد احتاجوا إلى رجل يبعثونه قاضياً إلى مكان وقالوا لي: اختر من أحببت، ثم أسبل كمه. وخلا بصاحب الوديعة وقال له: أترغب حتى أسميك؟ فذهب متمنعاً عليه، فقال أبو حنيفة: اسكت فإني أبلغ لك ما تحب. فانصرف الرجل مسروراً يظن الظنون بالجاه العريض والحال الحسنة. وصار رب المال إلى أبي حنيفة فقال له: امض إلى صاحبك ولا تخبره بما بيننا، ولوح بذكري وكفاك. فمضى الرجل واقتضاه وقال له: اردد علي مالي وإلا شكوتك إلى أبي حنيفة. فلما سمع ذلك وفّاه المال، وصار الرجل إلى أبي حنيفة وأعلمه برجوع المال إليه. فقال: استر عليه، وغدا الرجل إلى أبي حنيفة طامعاً في القضاء، فنظر إليه أبو حنيفة وقال له: قد نظرت في أمرك فرفعت قدرك عن القضاء.
ونظير هذه الحكاية، قال الحسن بن أبي مالك: أتى رجل أبا حنيفة بالمدينة فقال له: قد وصفوك لي وأريدك أن تخلصني من يمين عجلت فيها، وقد استفتيت ابن شبرمة وابن أبي ليلى وعطاء وغيرهم، فلم يخرجوني من مسألتي بحال. قال: وما هي؟ قال له: إني حلفت أن أطأ امرأتي في شهر رمضان بالنهار، فقال له أبو حنيفة: فإذا أخرجتك عن يمينك تعاود؟ قال: لا. قال: اذهب فاعمل على أن تسافر بامرأتك ثلاثة أيام. فإذا جاوزت أبيات المدينة فافطر وتفطر زوجتك وطأ ولا تعاود ما كان منك، واقض أيام فطرك بعد انقضاء سفرك. قال: فقبل رأسه ودعا له وانصرف.
أرسل أحمد بن طولون والي مصر إلى أبي ابراهيم المزني في الحضور، فقال للرسول: عد إلي، فلما مضى الرسول قال: والله لا حضرت عنده إن شاء الله. فلما عاد الرسول إليه قال: اعذرني، فعلي يمين ليس لها كفارة، فظن الرسول أنها يمين الطلاق، وإنما أراد ما حلف به ولا كفارة فيه.

قال أبو يوسف: بقيت على باب الرشيد حولاً لا أصل إليه، حتى حدثت مسألة، وذلك أن بعض أهله كانت له جارية، فحلف أنه لا يبيعها إياه ولا يهبها له. وأراد الرشيد شراءها فلم يجد أحداً يفتيه في ذلك. فقلت لابن الربيع: أعلم أمير المؤمنين أن بالباب رجلاً من الفقهاء عنده الشفاء من هذه الحادثة. فدخل فأخبره، فأذن لي، فلما وصلت مثلت بين يديه، فقال لي: ما تقول؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أقوله لك وحدك أم بحضرة الفقهاء؟ قال: بل بحضرة الفقهاء، وليكون الشك أبعد. وأمر فأحضر الفقهاء، وأعيد عليهم السؤال، فكل قال: لا حيلة عندنا. فأقبل أبو يوسف فقال: المخرج منها أن يهب لك نصفها ويبيعك نصفها فإنه لا يقع الحنث. فقال القوم: صدق! فعظم أمري عند الرشيد، وعلم أني أتيت بما عجزوا عنه، ثم قال له الرشيد: هي مملوكة ولا بد أن تستبرأ، ووالله إن بت الليلة ولم أبت معها أظن نفسي ستزهق. قال: قلت: يعتقها أمير المؤمنين ويتزوجها، فإن الحرة لا تستبرأ.
وقف أحمد بن أبي خالد بين يدي المأمون، وخرج يحيى بن أكثم من بعض المستراحات، ووقف. فقال له المأمون: اصعد إلى السرير، فصعد فجلس على طرفه، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، إن يحيى صديقي وأخي ومن أثق به في أمري كله ويثق بي، وقد تغير عما كنت أعهده عليه، فإن رأيت أن تأمره بالعود إلى ما كان عليه لي، فإني له على مثله. فقال المأمون: يا يحيى إن فساد أمر الملوك بفساد الحال بين خاصتهم، وما يعدلكما عندي أحد، فما هذا النزاع بينكما؟ فقال له يحيى: والله يا أمير المؤمنين إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف، وأنني أثق بمثل ذلك منه، ولكنه رأى منزلتي هذه منك، فخاف أن أتغير له يوماً فأقدح فيه عندك، فتقبل قولي فيه، فأحب أن يكون هذا. فتأمرني بامريء لو بلغ نهاية مساءتي ما قدرت أن أذكره بسوء عندك؟ فقال المأمون: كذلك هو يا أحمد؟ قال: نعم، قال: أستعين بالله عليكما! ما رأيت أتم دهاء ولا أقرب فطنة منكما.
ولي أبو بردة بن أبي موسى القضاء بالكوفة بعد الشعبي، وكان يحكم بأن رجلاً لو قال لمملوك لا يملكه: أنت حر، فإن المملوك يعتق، ويؤخذ ثمنه من المعتق. قال: وعشق رجل من بني عبس جارية لجار له وجن بها وجنت به، وكان يشكو ذاك إليها، فلقيها يوماً فقال لها: إلى الله أشكو أنه لا حيلة لي فيك. فقالت: بلى والله، إن لك لحيلة ولكنك عاجز؛ هذا أبو بردة يقضي في العتق بما علمت. فقال لها: أشهد إنك لصادقة. ثم قدمها إلى مجلس للنخع فيه قوم معدلون، فقال: هذه جارية آل فلان أشهدكم أنها حرة، فألقت ملحقتها على رأسها. وبلغ ذلك مواليها فقدموه إلى أبي بردة، فأنفذ عتقها أبو بردة، وألزم الرجل ثمنها. فلما أمر به إلى السجن خاف أنها إذا طال أمرها تصير إلى أول من يطلبها وأن يخيب فيما صنع في أمرها، فقال: أصلح الله القاضي، لابد من حبسي؟ قال: لا بد أو تعطيهم ثمنها؛ قال: فليس مثلي من يحبس في شيء يسير، أشهدكم أني قد أعتقت كل مملوك لأبي بردة، وكل مملوك لآل أبي موسى، وكل مملوك لمذحج، فخلى سبيله ورجع عن ذلك القضاء.
خطب سلمان الفارسي إلى عمر بن الخطاب ابنته، فلم يستجز رده، فأنعم له، وشق ذلك عليه وعلى ابنه عبد الله بن عمر. فشكا ذلك عبد الله إلى عمرو بن العاص، فقال له: أفتحب أن أصرف سلمان عنكم؟ فقال له: هو سلمان، وحاله في المسلمين حاله! قال: أحتال له حتى يكون هو التارك لهذا الأمر والكاره له. قال: وددنا ذلك. فمر سلمان بعمرو في طريق فضرب بيده على منكبه وقال له: هنيئاً أبا عبد الله! قال: وما ذاك؟ قال: هذا أمير المؤمنين عمر يريد أن يتواضع بك فيزوجك. قال: وإنما يزوجني ليتواضع بي؟ قال: نعم، قال: لا جرم والله لا خطبت إليه أبداً.
كتب معاوية إلى عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أن يقدما عليه. فقدم عمرو من مصر، والمغيرة من الكوفة، فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا إلا ليعزلنا، فإذا دخلت إليه فاشك الضعف، واستأذنه أن تأتي للطائف أو المدينة، فإني إذا دخلت عليه سألته ذلك، فإنه يظن أنا نريد أن نفسد عليه. فدخل المغيرة فسأله أن يعفيه فأذن له؛ ودخل عليه عمرو فسأله أن يعفيه فأذن له. ودخل عليه عمرو بعد ذلك، فقال لهما معاوية: قد تواطأتما على أمر وإنكما لتريدان شراً، ارجعا إلى عملكما.

وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف العزل: أما بعد فإنه قد كبرت سني، ورق عظمي وقرب أجلي وسفهني رجال قريش، فرأي أمير المؤمنين في عمله موفق. فكتب إليه معاوية: أما ما ذكرت من كبر سنك، فإنك أكلت بسنك عمرك؛ وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك، فإني لو كنت أستطيع دفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان، وأما ما ذكرت من العمل ف: (من الرجز)
ضحّ رويداً يدرك الهيجا حمل
فاستأذن معاوية في القدوم فأذن له. قال الربيع بن هزيم: فخرج المغيرة وخرجنا معه إلى معاوية. فقال له: يا مغيرة، كبرت سنك وقرب أجلك ولم يبق منك شيء، ولا أظنني إلا مستبدلاً بك. قال: فانصرف إلينا ونحن نعرف الكآبة فيه، فقلنا: ما تريد أن نصنع؟ قال: ستعلمون ذلك. فأتى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأنفس يغدى عليها ويراح، ولست في زمن أبي بكر وعمر؛ وقد اجترح الناس، فلو نصبت لنا علماً من بعدك نصير إليه، مع أني قد دعوت أهل العراق إلى يزيد فركنوا إليه حتى جاءني كتابك. قال: يا أبا محمد، انصرف إلى عملك، فأحكم هذا الأمر لابن أخيك. فأقبلنا على البريد نركض.
أصابت المسلمين جولة بخراسان، فمر فيهم شعبة بن ظهير على بغلة له، فرآه بعض الرجالة، فتقدم له على جذم حائط، فلما حاذاه جال في عجز بغلته، فقال له: اتق الله فإنها لا تحملني وإياك؛ قال: امض فإني والله ما أقدر أن أمشي؛ قال: إنك تقتلني وتقتل نفسك، قال: امض فهو ما أقول لك. قال شعبة: فصرف وجه البغلة قبل العدو، فقال له: إلى أين تريد؟ قال: أنا أعلم أني مقتول، فلأن أقتل مقبلاً خير من أن أقتل مدبراً. فنزل الرجل عن بغلته.
سأل عبد الله بن الزبير معاوية شيئاً، فمنعه، فقال: والله ما أجهل أن ألزم هذه البنيّة، فلا أشتم لك عرضاً ولا أقصب لك حسباً، ولكن أسدل عمامتي من بين يدي ذراعاً ومن خلفي ذراعاً، وأقعد في طريق أهل الشام، فأذكر سيرة أبي بكر وعمر فيقول الناس: هذا ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الصديق، فقال معاوية: حسبك بهذا شراً، وقضى حاجته.
أتى رجل الأحنف فلطمه، فقال له: لم لطمتني؟ قال: جعل لي جعل على أن ألطم سيد بني تميم، قال: ما صنعت شيئاً، عليك بجارية بن قدامة فإنه سيدهم. فانطلق فلطم جارية، فأخذه فقطع يده؛ وإنما أراد الأحنف ذلك.
قال عمر بن يزيد الأسدي: خفنا أيام الحجاج وجعلنا نودع متاعنا، وعلم جار لنا، فخشيت أن يظهر أمرنا، فعمدت إلى سفط فيه لبن ودفعته إليه، فمكث عنده حتى أمنا، فطلبته منه، فقال لي: ما وجدت أحداً تودعه لبناً غيري؟! وتوجه عمرو بن العاص حين فتح قيسارية إلى مصر، وبعث إلى علجها فأرسل إليه أن أرسل إلي رجلاً من أصحابك أكلمه. فنظروا فقال عمرو ما أرى لهذا أحداً غيري، فخرج ودخل على العلج وكلمه، فسمع كلاماً لم يسمع مثله قط، فقال: حدثني، هل في أصحابك مثلك؟ قال: لا تسل عن هواني عليهم، إلا أنهم بعثوني إليك وعرضوني لما عرضوني لا يدرون ما تصنع بي. فأمر له بجائزة وكسوة، وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من عنده، فمر برجل من نصارى العرب من غسان فعرفه، فقال: يا عمرو، إنك قد أحسنت الدخول، فأحسن الخروج، فرجع، فقال له الملك: ما ردك؟ قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجده يسع بني عمي، فأردت أن أجيئك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية وتكسوهم بهذه الكسوة، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد. قال: صدقت، فأعجل بهم إلي. وبعث إلى البواب أن خل سبيله. فخرج عمرو وهو يتلفت حتى إذا أمن قال: لا أعود إلى مثلها أبداً، فما فارقها عمرو حتى صالحه. فلما أتي بالعلج قال: أنت هو؟ قال عمرو: نعم على ما كان من غدرك.

كان لأيمن بن خزيم الأسدي منزلة من معاوية، وكان معاوية قد ضعف عن النساء، وكان يكره أن يذكر عنده أحد يوصف بالجماع. فجلس ذات يوم وفاختة زوجته قريبة منه حيث تسمع الكلام. فقال: يا أيمن، ما بقي من طعامك وشرابك وجماعك وقوتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين أنا والله آكل الجفةة الكبيرة الدرمك والقدر، وأشرب الرفد العظيم ولا أقنع بالغمر، وأركض بالمهر الأرن ما أحضر، وأجامع من أول الليل إلى السحر. قال: فغم ذلك معاوية، وكلامه هذا بأذني فاختة فجفاه معاوية. فشكا أيمن ذلك إلى امرأته، فقالت: أذنبت ذنباً، فوالله ما معاوية بعنت ولا متجن قال: لا والله إلا كذا وكذا، الت: هذا والله الذي أغضبه عليك، قال: فأصلحي ما أفسدت، قالت: كفيتك. فأتت معاوية فوجدته جالساً للناس، فأتت فاختة فقالت: ما لك؟ قالت: جئت استعدي على أيمن، قالت: وما له؟ قالت: ما أدري أرجل هو أم امرأة؟ وما كشف لي ثوباً منذ تزوجني؛ قالت: فأين قوله لأمير المؤمنين؟ وحكت لها ما قال؛ قالت: ذاك والله الباطل. وأقبل معاوية فقال: من هذه عندك يا فاختة؟ قالت: هذه امرأة أيمن جاءت تشكوه، قال: وما لها؟ قالت: زعمت أنها لا تدري أرجل هو أم امرأة، وأنه لم يكشف لها ثوباً منذ تزوجها. قال: كذاك هو؟ قالت: نعم، فرق بيني وبينه، فرق الله بينه وبين روحه. قال معاوية: أوخير من ذلك؟ هو ابن عمك وقد صبرت عليه دهراً، فأبت، فلم يزل يطلب إليها حتى سمحت له بذلك، فأعطاها وأحسن إليها، وعادت منزلة أيمن عند معاوية كما كانت.
حلف بعض الأعراب أن لا يكشف لامرأته ثوباً، فسأل القاضي، فأمره باعتزالها، فقالت مريم بنت الحريش: تكشف هي ثوبها صاغرة قمية، فأمره القاضي بذلك.
حدث المدائني أن مخارق بن عفار ومعن بن زائدة في فوارس لقيا رجلاً في بلاد الشرك ومعه جارية لم ير مثلها شباباً وحمالاً، فصاحوا به: خل عنها، ومعه قوس له، فرمى بعضهم فجرحه، فهابوا الإقدام عليه؛ ثم عاد ليرمي فانقطع وتره، فأسلم الجارية وأسند في جبل كان قريباً منه، فابتدروا الجارية وكان في أذنها قرط وفيه درة، فانتزعه بعضهم، فقالت: وما قدر هذه؟ فكيف لو رأيتم درتين في قلنسوته؟ فأتبعوه، فقال: ما لكم، ألم أدع لكم بغيتكم؟ قالوا ألق ما في قلنسوتك، فرفع قلنسوته فإذا فيها وتر للقوس كان قد أعده وأنسيه من الدهش، فلما رآه عقده في قوسه، فولى القوم ليس لهم همة إلا أن ينجوا بأنفسهم وخلوا عن الجارية.
قال المدائني: كان الحجاج حسوداً لا ينشيء صنيعة إلا أفسدها؛ فلما وجه عمارة بن تميم اللخمي إلى ابن الأشعث وعاد بالفتح حسده، فعرف ذلك عمارة وكره منافرته، وكان عاقلاً رفيقاً. فظل يقول: أصلح الله الأمير، أنت أشرف العرب، من شرفته شرف، ومن صغرته صغر، ما ابن الأشعث وخلعه؟ حتى استوفد عبد الملك الحجاج وسار عمارة معه يلاطفه، وقدموا على عبد الملك، وقامت الخطباء بين يديه في أمر فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، سل الحجاج عن طاعتي وبلائي، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، لقد أخلص الطاعة وأبلى الجميل وأظهر البأس، من أيمن الناس نقيبة، وأعفهم سريرة. فلما بلغ آخر التقريظ قال عمارة: أرضيت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فرضي الله عنك. قال عمارة: فلا رضي الله عن الحجاج يا أمير المؤمنين ولا حفظه ولا عافاه؛ فهو الأخرق السييء التدبير، الذي قد أفسد عليك العراق وألب الناس عليك، وما أتيت إلا من خرقه وقلة عقله وفسالة رأيه وجهله بالسياسة، ولك منه يا أمير المؤمنين أمثالها إن لم تعزله. فقال الحجاج: مه يا عمارة! فقال: لا مه ولا كرامة! يا أمير المؤمنين، كل امرأة له طالق وكل مملوك له حر إن سرت تحت راية الحجاج أبداً. فقال عبد الملك: ما عندنا أوسع لك.
قدم معاوية المدينة ودخل المسجد، وسعد بن أبي وقاص جالس إلى ركن المنبر. فصعد المنبر فجلس في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له سعد: يا معاوية، أجهلت أم جننت فنداويك؟ فقال: يا أبا إسحاق، إني قدمت على قومي على غير تأهب لهم، وأنا باعث لهم بأعطياتهم إن شاء الله تعالى. فسمع الناس كلام معاوية ولم يسمعوا كلام سعد. وانصرف الناس يقولون: كلمه سعد في العطاء فأجابه إليه.

جاء بازيار لعبد الله بن طاهر فأعلمه أن بازياً له انحط على عقاب فقتلها، فقال: اذهب فاقطف رأسه، فقال: إنه قتل العقاب! فقال: اقتله فإني لا أحب لشيء أن يجتريء على ما فوقه. وأراد أن يبلغ ذلك المأمون فيسكن إلى جانبه.
غضب المأمون على رجل فقال له: لأقتلنك ولآخذن مالك، اقتلوه! فقال أحمد بن أبي داود: إذا قتلته، فمن أين تأخذ المال؟ قال: من ورثته. فقال: إذن تأخذ مال الورثة، وأمير المؤمنين يأبى ذلك. فقال: يؤخر حتى يستصفى ماله، فانفض المجلس وسكن غضبه، وتوصل إلى خلاصه من بعد.
مرض مولى لسعيد بن العاص ولم يكن له من يخدمه، فبعث إلى سعيد فلما أتاه قال: إنه ليس لي وارث غيرك، وها هنا ثلاثون ألف درهم مدفونة، فإذا أنا مت فخذها بارك الله لك فيها. فقال سعيد حين خرج من عنده: ما أرانا إلا وقد أسأنا إلى مولانا وقصرنا في تعاهده، وهو من شيوخ موالينا. فبعث إليه تعاهده، ووكل به من يخدمه. فلما مات كفنه وشهد جنازته، فلما رجع إلى البيت أمر بأن يحفر الموضع، فلم يجد فيه شيئاً. وجاء صاحب الكفن فطالب بالكفن، فقال: والله لقد هممت أن أنبش عن ابن الفاعلة.
بعث يزيد بن معاوية عبد الله بن عضاه الأشعري إلى ابن الزبير فقال له: إن أول أمرنا كان حسناً فلا تفسده بأخرة. قال ابن الزبير: إنه ليست ليزيد في عنقي بيعة. فقال له: لو كانت، أكنت تفي بها؟ قال: نعم. قال: يا معشر المسلمين. قد سمعتم ما قال، وقد بايعتم ليزيد، وهو يأمركم بالرجوع عن بيعته.
جاءت امرأة إلى أبي حنيفة فقالت: إن زوجي حلف بطلاقي أن أطبخ قدراً أطرح فيها مكوكاً من الملح فلا يتبين طعم الملح فيما يؤكل منها، فقال: خذي قدراً واجعلي فيها الماء، واطرحي فيها مكوكاً ملحاً واطرحي فيه بيضاً واسلقيه، فإنه لا يوجد طعم الملح في البيض.
قال الحجاج لمحمد بن عمير بن عطارد: اطلب لي امرأة حسنة أتزوجها، قال: قد وجدتها إن زوجها أبوها. قال: ومن هذا الذي يمتنع من تزويجي؟ قال: أسماء بن خارجة، يدعي أنه لا كفؤ لبناته إلا الخليفة. قال: فأضمرها الحجاج إلى أن دخل عليه أسماء، فقال: ما هذا الفخر والتطاول؟ قال: أيها الأمير، إن تحت هذا شيئاً، قال: بلغني أنك تزعم أن لا كفؤ لبناتك إلا الخليفة! فقال: والله ما الخليفة بأحب أكفائهن إلي، ولنظرائي من العشيرة أحب إلي منه؛ لأن من خالطني منهم حفظني في حرمتي، وإن لم يكن يحفظني قدرت على أن أنتصف منه، والخليفة لا ينتصف منه إلا بمشيئته، وحرمته مضيمة مطرحة، مقدم عليها من ليس مثلها، ولسان ناصرها أقطع. قال: فما تقول في الأمير خاطباً هنداً؟ فزوجه إياها وحولها إليه، فلما أتى على الحديث حولان دخل أسماء على الحجاج فقال: هل أتى الأمير ولد بحمد الله تعالى على هيئته يسر به؟ قال: أما من هند فلا. فقال: ولد الأمير من هند ومن غير هند عندي بمنزلة؛ قال: والله إني لأحب من هند؛ قال: فما يمنع الأمير من الضر، فإن الأرحام تتغاير، قال: أو تقول هذا القول وعندي هند؟ قال: أحب أن يفشو نسل الأمير، فقال: ممن؟ قال: على الأمير بهذا الحي من تميم، فنساؤهم مناجيب؛ قال: فأيهن؟ قال: ابنة محمد بن عمير، قال: إنه لا فارغة له، قال: ما فعلت فلانة ابنته؟ فلما دخل إليه محمد بن عمير، قال: ألا تزوج الأمير؟ قال: لا فارغة لي، قال: فأين فلانة؟ قال: زوجتها من ابن أخي البارحة، قال: أحضر ابن أخيك، فإن أقر بهذا ضربت عنقه. فجيء بابن أخيه وأبلغ ما قال الحجاج. فلما مثل بين يديه قال: بارك الله لك يا فتى؟ قال: في ماذا؟ قال: في مصاهرتك لعمك البارحة، قال: ما صاهرته البارحة ولا قبلها، قال: فانصرف راشداً. ولم ينصرف محمد حتى زوجه ابنته. وحضر بعد ذلك يوماً جماعة من الأشراف باب الحجاج فحجب الجميع غير أسماء ومحمد. فلما دخلا قال: مرحباً بصهري الأمير، سلاني ما تريدان أشفعكما، فلم يبقيا عانياً إلا أطلقاه، ولا مجمراً إلا أقفلاه. فلما خرجنا أتبعهما الحجاج من يحفظ كلامهما، فلما فارقا الدار ضرب أسماء يده على كتف محمد وأنشأ يقول: (من الطويل)
جزيتك ما أسديته يا ابن حاجب ... وفاء كعرف الديك أو قدة النسر
في أبيات كثيرة. فعاد الرجل فأخبر الحجاج. فقال: لله در ابن خارجة إذا وزن بالرجال رجح!

مر زياد بأبي العريان فقال: من هذا؟ قيل: زياد بن أبي سفيان، فقال: رب أمر قد نقضه الله، وعبد قد رده الله. فسمعها زياد فكره الإقدام عليه وكتب بها إلى معاوية، فأمره بأن يبعث إليه ألف دينار ويمر ويسمع ما يقول. ففعل زياد ذلك، ومر به فقال: من هذا؟ قالوا: زياد، قال: رحم الله أبا سفيان، لكأنهاتسليمته ونغمته. فكتب بها زياد إلى معاوية، فكتب إلى أبي العريان: (من البسيط)
ما لبثتك دنانير رشيت بها ... أن لونتك أبا العريان ألوانا
فدعا أبو العريان وأملى عليه إلى معاوية: (من البسيط)
من يسد خيراً يجده حين يطلبه ... أو يسد شراً يجده حيثما كانا
لما كتب أمان عبد الله بن علي واستفتي ابن المقفع فيه، وكان كاتب أخيه سليمان بن علي، وأكد سليمان بن علي وإخوته الأيمان والعهود على المنصور في أمانه قال لهم المنصور: هذا لازم إلا إذا وقعت عيني عليه، فمل دخل داره أمر أن يعدل به ولم يره المنصور فحبس. فكانت هذه تعد من حيل المنصور.
ولما كتب المنصور إلى عامله بالبصرة بقتل ابن المقفع جاء عمومته فأحضروا الشهود بأن ابن المقفع دخل إلى دار الوالي ولم يخرج منها، فطالبوه بالقود منه. قال المنصور: إن أنا أقدت من عاملي وقتلته، ثم خرج عليكم ابن المقفع من هذا الباب، من الذي يرضى بأن أقتله بعاملي قوداً منه؟ فسكن القوم وأهدروا دم ابن المقفع.
لما دخل الضحاك بن بشر الشيباني الخارجي الكوفة قيل له: لم تقتل أهل الأطراف ومعك بالكوفة أصل الإرجاء أبو حنيفة؟ فأرسل إليه فأحضره. فلما رآه قال: اضربوا عنقه، من قبل أن يكلمه. فقال أبو حنيفة: كفرت، قال: ولم؟ قال: تقتل رجلاً لم تسمع كلامه؟ قال: ما تقول في الإيمان؟ قال: هو قول. قال: قد صح كفرك، اضربوا عنقه. قال: تضرب عنق رجل لم تستتبه؟ قال: فما تقول؟ قال: أنا تائب، فتركه.
قال عباس بن سهل الساعدي: لما ولي عثمان بن حيان المري المدينة، عرض ذات يوم بذكر الفتنة، فقال له بعض جلسائه: عباس بن سهل كان شيعة لابن الزبير، وكان قد وجهه في جيش إلى المدينة. قال عباس: فتغيظ علي وآلى ليقتلني. فبلغت ذلك فتواريت عنه حتى طال علي ذلك، فلقيت بعض جلسائه، فشكوت ذلك إيه وقلت: قد أمنني أمير المؤمنين عبد الملك، فقال لي: ما يخطر ذكرك إلا تغيظ عليك وأوعدك؛ وهو ينشط في الحوائج على طعامه ويشكر، فأحضر طعامه ثم كلمه بما تريد. ففعلت، فأتي بجفنه ضخمة من الثردة عليها اللحم. فقلت: لكأني أنظر إلى جفنة حيان بن معبد يتكاوس الناس عليها بناحيته؛ ووصفت له ناحية. فجعل يقول: أرأيته؟ فقلت: لعمري كأني أنظر إليه حين خرج علينا وعليه مطرف خز يجر هدبه يتعلق به حسك السعدان، ما يكفه عنه؛ ثم يؤتى بجفنة كأني أنظر إلى الناس يتكاوسون عليها، منهم القائم ومنهم القاعد. قال: ومن أنت رحمك الله؟ قلت: آمني أمنك الله، قال: قد آمنتك، قلت: أنا عباس بن سهل الساعدي، قال: فمرحباً بك وأهلاً أهل الشرف والحق. قال عباس: فرأيتني وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده. قال: فقال بعض القوم بعد ذلك: يا عباس، أأنت رأيت حيان بن معبد يسحب الخز يتكاوس الناس على جفنته؟ فقلت: والله لقد رأيته ونزلنا ناحية فأتانا في رحالنا وعليه عباءة قطوانية، فجعلت أذوده بالسوط عن رحالنا خيفة أن يسرقني.
قال الشعبي: وجهني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم فلما وصلت إليه جعل يسألني عن أشياء فأخبره بها. فأقمت عنده أياماً، ثم كتب جواب كتابي، فلما انصرفت دفعته إلى عبد الملك، فجعل يقرأ ويتغير لونه. ثم قال: يا شعبي، علمت ما كتب به إلى الطاغية؟ قلت: يا أمير المؤمنين كانت الكتب مختومة، ولو لم تكن مختومة ما قرأتها وهي إليك. قال: إنه كتب إلي: إن العجب من قوم يكون فيهم مثل من أرسلت به فيملكون غيره. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين ذاك لأنه لم يرك. قال: فسري عنه. ثم قال: إنه حسدني عليك فأراد أن أقتلك.
أخذ الحكم بن أيوب إياس بن معاوية في ظنة الخوارج، فقال له الحكم: إنك خارجي منافق، وأوسعه شتماً. ثم قال له: ائتني بكفيل، فقال: اكفل أيها الأمير بي، فما أحد أعرف منك بي. قال: وما علمي بك وأنا من أهل الشام وأنت من أهل العراق؟ فقال له إياس: ففيم هذه الشهادة منذ اليوم؟ وقد احتال بمثلها بعض أهل زماننا.

كان بهروز الخادم الغبائي وهو على العراق قد أولع بتتبع الباطنية وقتلهم، ونصب لهم بعض العلويين ممن يزعم أنه كان على مذهبهم وتاب وادعى معرفتهم؛ وملأ السجن منهم، وقتل بشراً كثيراً ادعى عليهم هذا المذهب.فدخل يوماً محاسن بن حفص المغني دار بهروز، فرأى هذا العلوي، فأعتقه وألطف له في السلام والسؤال وذاك لا يعرفه. فبهت إليه وقال له: من أنت؟ قال: أوما تعرفني؟ أنا صديقك. فقال: والله ما أعرفك. وكان هذا بحضرة القاضي أحمد بن سلامة الكرخي. فقال له محاسن: يا سيدنا، اشهد عليه أنه لا يعرفني، فضحك الحاضرون وصارت نادرة.
دعا المنصور بن أبي ليلى وأراده على القضاء فأبى، فتوعده إن لم يفعل، فأبى أن يفعل. ثم إن غداء المنصور حضر فأتي بصحفة فيها مثال رأس، فقال لابن أبي ليلى: خذ أيها الرجل من هذا. قال ابن أبي ليلى: فجعلت أضرب بيدي إلى الشيء. فإذا وضعته في فمي سال فلا أحتاج إلى مضغه. فلما فرغ جعل يلحس الصحفة، فقال له: يا محمد، أتدري ما كنت تأكل؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: هذا مخ الثنيان بالسكر الطبرزد؛ وتدري بكم يقوم بهذه الصحفة علينا؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين؛ قال: تقوم بثلاثمائة وبضعة عشر؛ قال: أتدري لم ألحسها؟ هذه صحفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أطلب البركة بذلك. فلما خرج ابن أبي ليلى من عنده رفع رأسه إلى الربيع وقال: لقد أكل الشيخ عندنا أكلة لا يفلح بعدها أبداً. فلما كان عشاء ذلك اليوم راح ابن أبي ليلى إلى المنصور فقال: يا أمير المؤمنين فكرت فيما عرضت علي، فرأيت أنه لا يسعني خلافك، فولاه القضاء؛ ثم قال للربيع: كيف رأيت حديثي بالشيخ؟ عاتبت أم جعفر الرشيد في تقريظه للمأمون دون ابنها محمد، فدعا خادماً بحضرته وقال: وجه إلى محمد وعبد الله خادمين خصيين يقولان لكل واحد منهما على الخلوة ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إليه. فأما محمد فإنه قال للخادم: أقطعك وأعطيك وأقدمك. وأما المأمون فإنه رمى الخادم بدواة كانت بين يديه وقال: يا ابن اللخناء، تسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، وإني لأرجو أن نكون جميعاً فداء له. فرجعا بالخبرين، فقال الرشيد لأم جعفر: كيف ترين؟ ما أقدم ابنك إلا طلباً لرضاك وتركاً للحزم.
ومما ضربوه مثلاً على لسان الحيوان قالوا: صاد رجل قبرة، فلما صارت في يده قالت: وما تريد أن تصنع بي؟ قال: أريد أن أذبحك وآكلك، قالت: فإني لا أشفي من قرم، ولا أشبع من جوع، فإن تركتني علمتك ثلاث كلمات هي خير لك من أكلي. أما الأولى فأعلمك وأنا في يدك، وأما الثانية فأعلمك وأنا على الشجرة، وأما الثالثة فأعلمك وأنا على الجبل. فقال: هات الأولى، قالت: لا تلهفن على ما فاتك، فتركها وصارت على الشجرة، ثم قالت: لا تصدق ما لا يكون، ثم قالت: يا شقي، لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين هما خير لك من كنز. فعض على شفتيه متلهفاً ثم قال: علميني الثالثة، فقالت: أنت قد أنسيت الثنتين فكيف أعلمك الثالثة؟ ألم أقل لك: لا تلهفن على ما فاتك ولا تصدقن ما لا يكون؟ وأنا وريشي ولحمي لا يكون وزنه درتين، فكيف يكون في حوصلتي ذلك، ثم طارت فذهبت.
قال الحجاج يوماً: علي بعدو الله معبد الجهني، وكان في حبسه قد حبسه في القدر، فأتي به وهو شيخ ضعيف، فقال: تكذب بقدر الله؟ قال: أيها الأمير، ما أحب إليك أن تكون عجولاً، إن أهل العراق أهل بهت وبهتان، وإني خالفتهم في أمر فشهدوا علي. قال: وفيم خالفتهم؟ قال: زعموا أن الله تعالى قدر عليهم وقضى قتل عثمان، وزعمت أنا أنهم كذبوا في ذلك، قال: صدقت أنت وكذبوا، خلوا سبيله.

كان أبو الهيجاء عبد الله بن هحمدان يسير بالحاج في أيام المقتدر، وكانت بينهوبين الهجري سليمان بن الحسن الجنابي وقعة بالهبير، فأسر أبا الهيجاء، ونفس به عن القتل لبأسه وفضائله، فاستحياه واستباح الحاج. وكان فيمن أسر العم، وهو عم السيدة أم المقتدر. فلما حصلا عنده في بلده أكرم أبا الهيجاء وبسطه وأكثر من محاضرته. قال أبو الهيجاء في حديث طويل: فكنت أغض من العم عنده وأطنز به وبغيره ممن حصل في الأسر من أصحاب المقتدر حتى استللتهم منه. ثم إنه طمع في العم طمعاً شديداً، واستعصى علي في إطلاقه خاصة، حتى قلت له في بعض الأيام: يدري السيد بكم يقوم هذا المخنث على السلطان في كل سنة؟ قال: لا والله؛ قلت: إنك لو أردت أن تنكب صاحبه بأكثر من إطلاقه وإرساله لما قدرت. قال: وكيف؟ قلت: لأنه يرزق منه في كل سنة لنفسه وولده وسبيه وهم قوم على صورته في التخنيث والبلاء، وهذا رأسهم في الثكل والعمى، مائة ألف دينار، وفي يده من الأقطاع والأملاك ما ارتفاعه مائة ألف دينار، وتقضى له حوائج في السنة بمثلها، فيتهيأ أن يكون في النكبات أكثر من هذا، وهو معه لا يصلح لطفىء سراج بقال.
قال: قد والله صدق أبو الهيجاء، أطلقوا هذا إلى لعنة الله. فكان هذا أصل خلاصه. قال أبو الهيجاء: وهو الآن يشكوني ويقول: كان يستخف بي ويلطمني بحضرة العدو ويخشن اللفظ. وقد كانت العلة، والقصة أقبح وبها نجا.
كان معاوية إذا أتاه عن بطريق من بطارقة الروم كيد للإسلام احتال له فأهدى إليه وكاتبه حتى يغري به ملك الروم. فكانت رسله تأتيه بأن هناك بطريقاً يؤذي الرسل ويطعن عليهم ويسيء عشرتهم. فقال معاوية: أي ما في عمل الإسلام أحب إليه؟ فقيل له: الخفاف الحمر ودهن البان، فألطفه بها حتى عرفت رسله باعتياده. ثم كتب إليه كتاباً كأنه جواب كتابه منه يعلمه فيه أنه وثق بما وعده به من نصره وخذلان ملك الروم؛ وأمر الرسول لأن يظهر على الكتاب، فلما ذهبت رسله في أوقاتها ثم رجعت إليه، قال: ما حدث هناك؟ قال: فلان البطريق رأيناه مقتولاً مصلوباً؛ فقال: أنا أبو عبد الرحمن.
لما أكره الحجاج بن يوسف عبد الله بن جعفر على أن يزوجه ابنته استأجله في نقلها سنة. ففكر عبد الله في الانفكاك منه، فألقي في روعه خالد بن يزيد بن معاوية فكتب إليه يعلمه ذلك، وكان الحجاج تزوجها بإذن عبد الملك. فورد على خالد كتابه ليلاً فاستأذن من ساعته على عبد الملك، فقيل له: أفي هذا الوقت؟ فقال: إنه أمر لا يؤخر، فأعلم عبد الملك بذلك فأذن له. فلما دخل عليه قال له عبد الملك: فيم السرى يا أبا هاشم؟ قال: أمر جليل لم آمن أن أؤخره فتحدث علي حادثة فلا أكون قضيت حق بيعتك. قال: وما هو؟ قال: أتعلم أنه كان بين حيين من العداوة ما كان بين آل الزبير وآل أبي سفيان؟ قال: لا، قال: فإن تزوجي إلى آل الزبير حلل ما كان لهم في قلبي، فما أهل بيت أحب إلي اليوم منهم. قال: فإن ذلك ليكون. قال: فكيف أذنت للحجاج أن يتزوج من بني هاشم وأنت تعلم ما يقولون وما يقال فيهم، والحجاج من سلطانك بحيث علمت؟ فجزاه خيراً، وكتب إلى الحجاج بعزمه أن يطلقها، فطلقها.
فغدا الناس عليه يعزونه عنها.
تقدم رجل إلى سوار بن عبد الله يدعي داراً وامرأة تدافعه وتقول لسوار: إنها والله خطة ما وقع فيها كتاب قط. فأتى المدعي بشاهدين فعرفهما سوار، فشهدا له بالدار. فجعلت المرأة تنكر إنكاراً يعضده التصديق ثم قالت: سل عن الشهود، فإن الناس يتغيرون. فرد المسألة، فحمد الشاهدان، فلم يزل يريث أمورهم ويسأل الجيران، وكل يصدق المرأة، والشاهدان قد ثبتا. فشكا ذلك إلى عبيد الله بن الحسن العنبري وهو ابن عم سوار. فقال له عبيد الله: أنا أحضر معك مجلس الحكم وآتيك بالجلية إن شاء الله. فقال للشاهدين: ليس للقاضي أن يسألكما كيف شهدتما ولكن أنا أسألكما، فقالا: أراد هذا الحج، فأدارنا على حدود الدار من خارج وقال: هذه داري، فإن حدث بي حدث فلتبع وتقسم على سبيل كذا. قال: فعندكما غير هذه الشهادة؟ قالا: لا، قال: الله أكبر! وكذا لو أدرتكما على دار سوار وقلت لكما مثل هذه المقالة، أكنتما تشهدان بها لي؟ ففهما أنهما قد اغترا، فكان سوار بعدها إذا سأل عن عدالة الشاهد يتبع المسألة أن يقول: أفجائز للعدالة هو؟

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19