كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون

ومن أمثالهم: وإنه لأبعد من بيض الأنوق، وذلك أنها لا تبيض إلا في قلل الجبال؛ وأبعد من النجم، وأنأى من الكواكب؛ وأرفع من السماء، أبعد من مناط العيوق.
ويقولون: إنه لأنم من صبح، إذ كان لا يكتم شيئاً، وقد جاء في شعر محدث: من الوافر
أنم من النسيم على الرياض ... أنم من الرياض على السحاب
أنم من الزجاج.
ومن أمثالهم: إنه لأسأل من فلحس، وهو الذي يتحين طعام الناس، يقال منه أتانا يتفلحس، وهو الذي تسميه العامة الطفيلي. وقال ابن حبيب: هو رجلٌ من شيبان، كان سيداً عزيزاً يسأل سهماً في الجيش وهو في بيته، فيعطى فإذا أعطيه سأل لامرأته، فإذا أعطي سأل لبعيره، وكان له ابن يقال له زاهر فكان مثله، فقيل له: العصا من العصية.
ويقولون: أمطل من عرقوب، وخبره يجيء فيما بعد.
ويقولون: إنه لأشهر من فارس الأبلق؛ وأشهر من الشمس، وأشهر من البدر، وأشهر من القمر؛ وأشهر من قطرب.
ومن أمثالهم: إنه لأروى من النقاقة، وهي الضفدع، وذلك أن مسكنها الماء؛ وأروى من ضب، لأنه لا يشرب الماء، وأروى من الحوت، وأظمأ من حوت أيضاً.
ومن أمثالهم: هو أشأم من خوتعة، وهو رجلٌ من بني عميلة بن قاسط، أخي النمر بن قاسط، وكان مشؤوماً؛ وأشأم من قدار، وهو عاقر الناقة؛ وأشأم من أحمر عاد، وهو عاقرها أيضاً، وإنما هو أحمر ثمود؛ وأشأم من طويس، وهو مخنث كان يقول: ولدت يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفطمت يوم مات أبو بكر رضي الله عنه، وبلغت الحنث يوم قتل عمر رضي الله عنه، وتزوجت يوم قتل عثمان، وولد لي ليلة قتل عليٌّ عليه السلام، وأشأم من الأخيل وهو الشقراق، وأشأم من منشم، وهي امرأة عطارة، قال زهير: من الطويل
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
أشأم من غراب البين؛ أبين شؤماً من زحل؛ أشأم من البسوس، وهي ناقة كانت لخالة جساس بن مرة، رماها كليبٌ بسهم فاختلط لبنها ودمها، فكانت سب قتله، وفيها كانت حرب بكرٍ وتغلب.
ومن أمثالهم: هو أصح من عير أبي سيارة، قال الأصمعي: دفع بالناس من جمعٍ أربعين سنة على حماره.
ويقولون: إنه لأخيب صفقة من شيخ مهوٍ، وهم حيٌّ من عبد القيس، لهم في هذا المثل قصة قبيحة: اشترى الفسو من إياد - وكانوا يعرفون به - ببردي حبرة، فعرفت بعد ذلك عبد القيس بالفسو، ويروى أحمق من شيخ مهوٍ، ويقال: أخسر صفقةً من أبي غبشان، باع مفاتيح الكعبة من قصيٍّ بزقٍّ من خمر.
ومن أمثالهم: أهون مقتولٍ أمٌّ تحت زوجٍ، وأصله أن ربيعة البكاء، وهو ربيعة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، رأى أمه تحت زوجها، فقدر أنه يقتلها، فبكى وصاح، فسمي البكاء، وقيل فيه هذا المثل، وضرب به المثل في الحمق، وقيل أحمق من ربيعة البكاء؛ وقد قال الشاعر في الحمق: من الطويل
رمتني بنو عجلٍ بداء أبيهم ... وهل أحدٌ في الناس أحمق من عجل
قالوا: كان له فرسٌ جوادٌ فقيل له: لكل جوادٍ من خيل العرب اسمٌ، فما اسم جوادك؟ ففقأ عينه وقال: أسميه الأعور.
أهون من تبالة على الحجاج، وتبالة بلد صغير من بلدان اليمن، يقال إنها أول بلدةٍ وليها الحجاج، فلما سار إليها قال للدليل: أين هي؟ قال: قد سترتها عنك هذه الأكمة، فقال: أهون بعمل بلدةٍ تسترها الأكمة، ورجع.
أهون من قعيس على عمته، رهنته على صاعٍ من برٍّ فلم تفتكه. أهون هالكٍ عجوزٌ في عام سنة، أهون مظلومٍ عجوزٌ معقومة، أهون مظلوم سقاءٌ مروبٌ، أصله السقاء يلف حتى يبلغ أوان المخض، والمظلوم السقاء الذي يمخضن قبل أوان المخض، أهون من الشعر الساقط؛ أهون من ذباب.
ومن أمثالهم: أضل من موؤدةٍ؛ أضل من سنان؛ أتيه من فقيد ثقيف؛ أما سنان فهو ابن أبي حارثة المري، وكان قومه عنفوه على الجود، فركب ناقةً ورمى بها الفلاة، فلم ير بعد ذلك، وسمته العرب ضالة غطفان، وقالوا: إن الجن استفحلته تطلب كرم نجله؛ وأما فقيد ثقيف فهو الذي هوي امرأة أخيه فتآخيا، وله قصة طويلة. وهو أضل من ولد اليربوع؛ وأضل من قارظ عنزة، ويقولون: هو أهدى من النجم؛ وأهدى من اليد إلى الفم.

ومن أمثالهم: أحيا من هديٍّ؛ أحيا من فتاةٍ؛ أحيا من مخبأةٍ؛ أحلى من ميراث العمة الرقوب؛ وأحلى من الولد؛ وأحنى من الوالد؛ وقال أعرابي: هو أفرح من المضل الواجد، والظمآن الوارد، والعقيم الوالد.
ومن أمثالهم: أدهى من قيس بن زهير؛ أشد من لقمان بن عاد؛ أبطش من دوسر، وهي كتيبة النعمان، أرمى من ابن تقن، وهو رامٍ كان في زمن لقمان بن عاد، وكان ينافر لقمان حتى هم بقتله.
أفرغ من حجام ساباط؛ أفرغ من يدٍ تفت اليرمع. يقال إن حجام ساباط كان إذا أعوزه من يحجمه حجم أمه، فلم يزل بها حتى نزف دمها وماتت.
أغزل من امرئ القيس.
أكفر من ناشرة، من كفران النعمة.
أنعم من خريم، رجلٌ من ولد سنان بن أبي حارثة، كان في زمن الحجاج، أنعم من حيان أخي جابر.
ومن أمثالهم: أنكح من ابن ألغز، هو رجل من إياد كان ينام فتأتي الفصلان تحتك بذكره تحسبه أصل شجرة، وله خبر مشهور مع شيرين زوجة كسرى، ولأجله نفى إياداً إلى أرض الروم.
أنكح من جويرية، وهو رجل من عبد القيس.
أشغل من ذات النحيين، هي امرأةٌ من هذيل، وخبرها مع خواتٍ بن جبير أشهر من أن يذكر.
ويقولون: هو ألزم لليمين من الشمال؛ وألزم لك من شعرات قصك، وذلك لأنها كلما حلقت نبتت.
ويقولون: هو أندم من الكسعي، وكان أرمى الناس لا يخطئ له سهمٌ، فرمى في الليل فأنفذ، فظن أنه أخطأ، فخلع إبهامه، فلما أصبح رأى رميته فندم على ما فعل بنفسه.
ويقولون: هو أبكى من يتيم؛ أدنى من حبل الوريد؛ أحقد من جملٍ؛ أخلف من ثيل البعير؛ أشرب من الهيم؛ أغير من الفحل؛ أثقل من حمل الدهيم، وهي ناقة لها خبر يجيء في مكان آخر، أنفر من ظبي، وشرحه يرد في مكان غير هذا.
ومن أمثالهم: أقصر من أنملة؛ أقصر من ظمء الحمار؛ أقصر من إبهام القطاة؛ أقصر من إبهام الحبارى؛ أصغر من صعوة؛ أصغر من قراد؛ أقصر من إبهام الضب؛ أصغر من صؤابة؛ أضعف من بعوضة.
آمن من ظبي بالحرم؛ آمن من حمام مكة، آلف من حمام مكة؛ آلف من كلب.
أوقل من وعلٍ.
أبلد من ثورٍ؛ أبلد من سلحفاة.
أبخر من أسد؛ أبخر من صقر.
؟أحرص من ذئب؛ أكسب من ثعلب، أكسب من ذر؛ أكسب من النمل.
أحرس من كلب؛ أوقح من ذئب؛ ألأم من كلبٍ عقور؛ آكل من السوس؛ أفسد من السوس، أفسد من الجراد، أحطم من جراد؛ أجرد من جراد، أجرد من صلعة؛ أجمع من ذرة؛ أدب من قراد، أدب من قرنبى؛ أنزى من الجراد، ألح من الذباب؛ ألح من الخنفساء؛ أشرد من ورل؛ أعقد من ذنب الضب؛ أسبح من نون؛ أكثر من النمل، أثبت من قراد، أكثر من الدباء؛ أخشن من الشيهم؛ أخف حلماً من العصفور.
ويقولون: هو أدب من الشمس إلى غسق الظلمة؛ أرق من الهواء، أضيع من قمر الشتاء.
أقفط من تيس بني حمان، يزعمون أنه فقط سبعين عنزاً بعد ما فريت أوداجه.

غلبة الأقدار والجدود
من أمثالهم في هذا: حارب بجدٍّ أو دع؛ ويقال: عارك.
إذا جاء القدر عشي البصر؛ قاله ابن عباس لنافع بن الأزرق لما سأله عن الهدهد ونظره إلى الماء من تحت الأرض، ولا يرى الفخ تحت التراب، وفي الخبر: لا حذر من قدر.
وقال أكثم بن صيفي: من مأمنه يؤتى الحذر. وتمثل به عمر ابن الخطاب رضي الله عنه على المنبر وقد ذكر ما كان عليه في الجاهلية وما آل أمره إليه من الخلافة: من المتقارب
هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيها ... ولا قاصرٌ عنك مأمورها
وقال عبد الله بن يزيد الهلالي: من الكامل
الجد أملك بالفتى من نفسه ... فانهض بجدٍّ في الحوادث أو ذر
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدرٌ وأبعدها إذا لم تقدر
وقال السموأل بن عاديا: من المتقارب
فلسنا بأول من فاته ... على رفقه بعض ما يطلب
وقد يدرك الأمر غير الأريب ... وقد يصرع الحول القلب
وقال فيها:
ولكن لها آمرٌ قادر ... إذا حاول الأمر لا يغلب
وقال توبة بن مضرس: من الطويل
تجوز المصيبات الفتى وهو عاجزٌ ... ويلعب صرف الدهر بالحازم الجلد
ومن أمثالهم: كيف توقى ظهر ما أنت راكبه؛ وقال شريح في الذين فروا من الطاعون: إنا وإياهم من طالبٍ لقريب.
وقال نصيب: من الطويل

ومن يبق مالاً عزةً وصيانةً ... فلا الدهر مبقيه ولا الشح وافره
ومن يك ذا عودٍ صليبٍ يعده ... ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره
وقال آخر: من الرجز
والسب المانع حظ العاقل ... هو الذي سب رزق الجاهل
وقال آخر: من الطويل
يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه
نظر إليه المتنبي فقال وأحسن وزاد: من الطويل
ويختلف الرزقان والسعي واحدٌ ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا
وقال بشار: من الكامل
تأتي اللئيم وما سعى حاجاته ... عدد الحصى ويخيب سعي الدائب
ومن أمثالهم: لا جد إلا ما أقعص عنك ما تكره، قاله معاوية حين مات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان خافه على الأمر.
وقال معاوية أيضاً حين مات الأشتر من شربة عسل: إن لله جنود منها العسل، وقالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب: من البسيط
كل امرئٍ بطوال العيش مكذوب ... وكل من غالب الأيام مغلوب
وقال النابغة: من البسيط
ما يطلب الدهر تدركه مخالبه ... والدهر بالوتر ناجٍ غير مطلوب
وقال آخر: من الطويل
لعمرك ما يدري امرؤٌ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
وقال أبو قلابة الهذلي: من البسيط
إن الرشاد وإن الغي في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان
لا تأمنن وإن أصبحت في حرمٍ ... إن المنايا بجنبي كل إنسان
ولا تقولن لشيءٍ لست أفعله ... حتى تبين ما يمني له الماني
أي يقدر لك القادر الله تعالى.
وقال آخر: من الطويل
ومن كان مسروراً بطول حياته ... فإني زعيمٌ أن سيصرعه الدهر
وقال ابن الرومي: من الكامل
طامن حشاك فإن دهرك موقعٌ ... بك ما تخاف من الأمور وتكره
وإذا حذرت من الأمور مقدراً ... وفررت منه فنحوه تتوجه

الحنكة والتجارب
ويقولون في أمثالهم: أنا ابن بجدتها.
ويقولون: حلب الدهر أشطره، أي اختبر الدهر شطريه من خيرٍ وشر. وأصله من حلب الناقة، يقال: حلبتها شطرها أي نصفها، وذلك أنه حلب خلفين من أخلافها فهو شطر، ثم يحلبها الثانية خلفين أيضاً فيقول: حلبتها شطرين، ثم يجمع فيقول: أشطر.
ويقولون: فلان مؤدمٌ مبشرٌ، وهو الذي يجمع ليناً وشدة، وأصله من أدمة الجلد، وهي باطنه، وبشرته وهي ظاهره.
ويقولون: عند جهينة الخبر اليقين، ويروى جفينة، ولذلك خبر معروفٌ متداولٌ، وهو رجل كان عنده خبرٌ من قتلٍ قد خفي أمره.
وقال المنذر بن الحباب بن الجموح الأنصاري يوم السقيفة: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب؛ الجذيل تصغير الجذل، وهو أصل الشجرة تقطع أغصانها وتبقى قائمة، فتجيء الجرباء من الإبل فتحتك به، وهو يسمى جذل الحكاك، وأما العذيق فهو تصغير العذق، وهي النخلة نفسها إذا كرمت حملت ما لا تطيقه، فتنحني فتبنى في أصلها دعامةٌ تعتمد عليها، فذلك الترحيب.
وقال علي عليه السلام: رأى الشيخ خيرٌ من مشهد الغلام، فصار هذا الكلام مثلاً متداولاً، ويقولون في التجارب: رجلٌ منجذ. وأنشد الأصمعي: من الوافر
أخو الخمسين مجتمعٌ أشدي ... ونجذني مداورة الشؤون
ويقولون في الخبر: كفى برغائها منادياً.
أعط القوس باريها.
ومن أمثالهم: من يشتري سيفي وهذا أثره، يدل أثره على مخبره.
ويقولون: أتعلمني بضبٍّ أنا حرشته.
أنت أعلم باللقمة أم من غص بها، أي الغاص باللقمة أخبر بها.
الخيل أعلم بفرسانها.
الجواد عينه فراره.
عينٌ عرفت فذرفت.
أفواهها مجاسها، أصله أن الإبل إذا أحسنت الأكل اكتفى الناظر بذلك عن معرفة سنها واستغنى عن جسها.
رب لحظٍ أصدق من لفظٍ.
ليس الخبر كالعيان.
است البائن أعلم.
كمعلمةٍ أمها البضاع.
إني إذا حككت قرحةً أدميتها، المثل لعمرو بن العاص، وكان انعزل في خلافة عثمان رضي الله عنه، فلما بلغه حصره وقتله، قال: أنا أبو عبد الله، إني إذا حككت قرحةً أدميتها، فسارت مثلاً، يعني أنه كان يظن هذا الأمر واقعاً فكان كما ظن.
ومن أمثالهم في المجرب للأمور: العوان لا تعلم الخمرة.
ويقولون: إذا هززت فاهتز، وإذا رمي بك فارتز.

الأخذ بالحزم والاستعداد للأمر
ومن كلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اعقل وتوكل.
ومن كلام العرب وأمثالهم: عش ولا تغتر.
أن ترد الماء بماءٍ أكيس. معنى الأول أن يمر صاحب الإبل بالأرض المكلئة فيقول: أدع أن أعشي إبلي منها حتى أرد على أخرى، ولا يدري ما الذي يرد عليه. وتأويل المثل الثاني: أن الرجل يمر بالماء فلا يحمل منه اتكالاً على ماءٍ آخر يصير إليه، فيقال له: أن تحمل معك ماءً أحزم لك، وإن أصبت ماءً آخر لم يضرك، وإن لم تحمل فأخفقت من الماء عطبت.
قال حماد الراوية: أنشدت أبا عطاءٍ السندي هذا البيت: من المتقارب
إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه
فقال أبو عطاء: بئس ما قال، فقلت: فكيف كان يقول؟ قال: كان يقول: من الوافر
إذا أرسلت في أمرٍ رسولاً ... فأفهمه وأرسله أديبا
فإن ضيعت ذاك فلا تلمه ... على أن لم يكن علم الغيوبا
ومن أمثالهم: قد أحزم لو أعزم.
وقال الشعبي: أصاب متأملٌ أو كاد، وأخطأ مستعجلٌ أو كاد. ومنه قول القطامي: من البسيط
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
ومن أمثالهم في الجد: اجمع جراميزك؛ واشدد حزيمك؛ بينه قول علي عليه السلام: من الهزج
اشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لا قيكا
ويقولون في مثله: اتخذ الليل جملاً؛ هذا أوان الشد فاشتدي زيم، وزيم هاهنا اسم فرس، وهو في موضع آخر المتفرق؛ ولتخرم فإذا استوضحت فاعزم؛ قال بشار: من الطويل
وخل الهوينا للضعيف ولا تكن ... نؤوماً فإن الحزم ليس بنائم
ومن أمثالهم: اشتر لنفسك وللسوق.
ومنها: قبل الرمي يراش السهم.
ومنها: قبل الرمي تملأ الكنائن.
دمث لنفسك قبل النوم مضطجعاً، وقال الحمال العبدي: من الطويل
إذا خفت في أمرٍ عليك صعوبةً ... فأصحب به حتى تذل مراكبه
وقال بعض بني سدوس: من الكامل
وإذا ظلمت فكن كأنك ظالمٌ ... حتى يفيء إليك حقك أجمع
ومن أمثالهم: رمت المحاجزة قبل المناجزة. الفرار بقرابٍ أكيس. المثل الأول لأكثم بن صيفي، والثاني لجابر بن عمرو المازني، وذلك أنه كان يسير يوماً في طريق إذ رأى رجلين شديداً كلبهما عزيزاً سلبهما، فقال: الفرار بقراب أكيس ثم مضى.
انج يا ثعالة فالقتل لا شوى له.
ويقولون: زاحم بعودٍ أو دع، أي لا تستعن إلا بأهل القوة، وقال الشاعر: من الطويل
إذا المرء لم يبدهك بالحزم كله ... قريحته لم تغن عنك تجاربه
ومن أمثالهم في الاستعداد: مخرنبقٌ لينباع، أي مطرقٌ ليثب.
ونحوه: تحسبها حمقاء وهي باخس.
وقولهم: أطري فإنك ناعلة، أي اركب الأمر الشديد فإنك قويٌّ عليه. وأصل هذا أن رجلاً قال لراعية له، وكانت ترك الحزونة وترعى في السهولة، أطري: خذي طرر الوادي، وهي نواحيه. قال أبو عبيد: أحسبه يعني بالنعلين غلظ جلد القدمين.
ومن التحذير والحزم: قولهم: انج سعد فقد هلك سعيدٌ.
ومن أمثالهم في الجد: قرع له ساقه، وقرع له ظنبوبه.
ويقولون: عدوك إذ أنت ربعٌ، يؤمر الرجل بأن يأتي من الحزم ما كان يأتيه من قبل.
ما جاء في الاغترار والتحيل والإطماع
وما يقارب هذه المعاني
النساء حبائل الشيطان، قاله ابن مسعود رضي الله عنه.
ومن أمثالهم: مرعىً ولا أكولة، عشبٌ ولا بعير. وقد يقع هذان المثلان في معنى وجود الشيء حيث لا ينتفع به.
برد غداةٍ غر عبداً من ظمأ، وذلك أنه خرج في برد غداةٍ ولم يتزود الماء لما رأى من روح النهار، فلما حميت عليه الشمس بالفلاة هلك عطشاً.
ليس بأول من غرة السراب.
ومن أمثالهم: كيف بغلام قد أعياني أبوه، ومنه قول الشاعر: من البسيط
ترجو الصغير وقد أعياك والده ... وما رجاؤك بعد الوالد الولدا
ويشبهه قول الفرزدق وإن كان أراد به الهجاء: من الطويل
ترجي ربيعٌ أن تجيء صغارها ... بخيرٍ وقد أعيا ربيعاً كبارها
ويقولون: يا عاقد اذكر حلاً، يضربون لمن يبالغ في الأمر وينسى عاقبته، وأصله الذي يشد عليه رحله ويسرف في الاستيثاق.
ويقولون: لا تقتن من كلي سوءٍ جرواً.
والذئب خالياً أسدٌ، ومثله قول المتنبي: من الخفيف

وإذا ما خلا الجبان بأرضٍ ... طلب الطعن وحده والنزالا
ويقولون في الإطماع: أما كفى العبد أن ينام حتى يحلم برتبةٍ.
إنك لا تجني من الشوك العنب.
وقال كعب بن زهير: من البسيط
فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل
يقولون: إنباضٌ بغير توتير، أي نبض القوس من غير أن يوترها.
قد نفخت لو نفخت في فحم، قاله الأغلب العجلي في شعر له.
ويقولون: هو بنت الجبل، يعنون الصدى، أي هو مع كل من يتكلم.
ويقولون أيضاً: ما أنت إلا كابنة الجبل مهما يقل تقل.
ومن كلام المهلبي في الاغترار: من ضاق الأسد قراه أظفاره، ومن حرك الدهر أراه اقتداره.

البر والعقوق والمحافظة
على الأهل والإخوان
من أمثالهم في هذه المعاني: منك عيصك وإن كان أشباً، أي منك أهلك وإن كانوا على خلاف ما تريد.
ومثله: منك أنفك وإن كان أجدع.
ومنه: الحفاظ يحلل الأحقاد، ومنه قول القطامي: وترفض عند المحفظات الكتائف والكتائف السخائم.
ويقولون: لا يعدم الحوار من أمه حنة.
لا يضر الحوار وطء أمه. وقال الشاعر: من الطويل
أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
وقال آخر: من الطويل
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح
والنصف الثاني من هذا البيت مثل سائر.
ويقال في الأخ متمسك بإخائه: ما عقلك بأنشوطة. ومن ذلك قول ذي الرمة: من الطويل
وقد علقت ميٌّ بقلبي علاقةً ... بطيئاً على مر الشهور انحلالها
ويقولون: هو على حبل ذراعك.
ويقولون: لا تدخل بين العصا ولحائها.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: معاتبة الأخ خيرٌ من فقده، فصارت مثلاً.
وقال طرفة بن العبد: من الطويل
وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا مات مولى المرء فهو ذليل
وقال بدر بن علماء العامري: من الطويل
إذا سيم مولاك الهوان فإنما ... تراد به فاقصد له وتشدد
وقال ابن المولى: من الطويل
لا تطلبي عزاً بذل عشيرةٍ ... فإن الذليل من تذل عشائره
ولما قال الشاعر في جرير بن عبد الله البجلي: من الرجز
لولا جريرٌ هلكت بجيلة ... نعم الفتى وبئست القبيلة
قال قائل: ما مدح من هجي قومه.
ومن الأمثال في العقوق: العقوق ثكل من لم يثكل.
الملك عقيم.
ومن أمثال البر قول بيهس لأمه لما قتل إخوته وعاد فحنت إليه وكانت من قبل تقصيه: الثكل أرأمها.
وقالت له: أجئت من بينهم؟ فقال: لو خيروك لاخترت.
ومن أمثالهم: وابأبي وجوه اليتامى، حكاه المفضل عن سعد القرقرة، وهو رجل من أهل هجر كان النعمان يضحك منه، فدعا بفرسه اليحموم، وقال لسعد: اركبه فاطلب عليه الوحش، قال سعد: إذن والله أصرع، فأبى النعمان إلا أن يركبه، فلما ركبه سعد نظر إلى بعض ولده فقال: وابأبي وجوه اليتامى.
ومن كلامهم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.
ويقولون: أعن أخاك ولو بالصوت، أي إن لم تقدر على معونته بيدك فاستصرخ له حتى يغاث.
ويقولون: مولاك ولا عناك.
ومن الأمثال في الحمية والأنفة قول أكثم بن صيفي: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
الفحل يحمي معقولاً شوله.
ومنه: الخيل تجري على مساويها، أي وإن كان بها أوصابٌ وعيوب.
وقولهم: من عز بز، قاله جابر بن ألاف للمنذر.
وقولهم: محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا، هو سالم بن دارة، هجا فزارة فأفحش فاغتاله أحدهم فقتله.
ومن الحمية قولهم: هاجت زبراء، وهي أمةٌ كانت للأحنف كان يصغي إلى قولها كثيراً، ولها معه خبر قد ورد في موضعه، والأبيات السائرة في هذا المعنى كثيرة، فمن ذلك قول عبد الله بن الزبير الأسدي: من البسيط
فلن ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
وقال مالك بن الريب: من الطويل
وما أنا كالعير المقيم لأهله ... على القيد في بحبوحة الدار يرتع
وقال النابغة: من البسيط
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي صولة المستأسد الحامي
وقال معارك بن مرة العبدي: من الطويل
أتطمع في هضمي لدن شاب عارضي ... وقد كنت آبى الضيم إذ أنا أمرد
وقال منقذ الهلالي: من الوافر

سئمت العيش حين رأيت دهراً ... يكلفني التذلل للرجال
فحسبك بالتنصف ذل حرٍّ ... وحسبك بالمذلة سوء حال
وقال امرؤ القيس ويروى للخنساء: من المتقارب
سأحمل نفسي على آلةٍ ... فإما عليها وإما لها
وقال أبي بن حمام بن قراد بن مخزوم العبسي: من الطويل
ولست بمهيابٍ لمن لا يهابني ... ولست أرى للمرء ملا يرى ليا
وقال العباس بن مرداس: من الطويل
فخذها فليست للعزيز بخطةٍ ... وفيها مقالٌ لامرئٍ متذلل
وقال محمد بن وهيب الحميري: من الطويل
ألا ربما كان التصبر ذلةً ... وأدنى إلى الحال التي هي أسمج
وقد يركب الخطب الذي هو قاتلٌ ... إذا لم يكن إلا عليه معرج
وقال مهيار فأحسن فجاز إلحاقه بالتمثيل بالقدماء: من المنسرح
فاقعد إذا السعي جر مهلكةً ... وجع إذا ما أهانك الشبع
ومن أمثالهم: لو كرهتني يدي لما صحبتني؛ وقال الشاعر: من الطويل
فلو رغبت عني يميني قطعتها ... وفيها لمن رام الوصال وصال

ما جاء في الحلوم والثبات
يشبه هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: جدع الحلال أنف الغيرة.
ومن أمثالهم: إذا نزا بك الشر فاقعد أي فاحلم ولا تسارع إليه.
وقال الأحمر في مثله: الحليم مطية الجهول، يعني أنه يحتمل جهله ولا يؤاخذ به.
ومن أمثالهم: إنه لواقع الطائر.
وإنه لساكن الريح.
وهو واقع الغراب؛ واقع الطير، وقال الشاعر: من البسيط
قل ما بدا لك من زورٍ ومن كذبٍ ... حلمي أصم وأذني غير صماء
ومنه: ملكت فأسجح. قالته عائشة لعلي عليه السلام يوم الجمل.
ومن أمثالهم فيه: إذا ارجحن شاصياً فارفع يداً. يقول: إذا رأيته قد خضع واستكان فاكفف عنه، والشاصي الرافع رجله، والمرجحن الساقط الثقيل.
ومن أمثالهم في الحلم والإيقاظ له: من الطويل
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
قيل: هو عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب، عاش حتى أنكر عقله، فكان إذا زاغ في الحكم قرعت له العصا فينتبه ويعود إلى الحق؛ وقيل: أكثم بن صيفي، وقيل: أول من قرعت له العصا سعد بن مالك الكناني، وقيل و عمرو بن حممة الدوسي.
ومن كلام العرب: عركت ذلك بجنبي أي احتملته.
ربط بالأمر جأشاً أي وطن نفسه عليه.
ما جاء في الصدق والكذب
من أمثال العرب: سبني واصدق.
إذا سمعت بسرى القين فإنه مصبح. يضرب للكذوب ولا يصدق ولو صدق، وأصله أن القين إذا نزل بالحي قال لهم: إني أسري الليلة، يحثهم بذلك على معاملته ثم يصبح بمكانه.
ويقولون في كلامهم: من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه.
وقال حكيم: الصدق عزٌّ والكذب خضوع.
ومن أمثالهم: لا يكذب الرائد أهله.
ومنها: الكذب داءٌ والصدق شفاءٌ.
ومنها: ليس لمكذوب رأي، كان المفضل يحدث أن صاحب هذا المثل هو العنبر بن عمرو بن تميم قاله لابنته الهيجمانة؛ وذلك أن عبد شمسٍ بن سعد بن زيد مناة بن تميم كان يزورها، فنهاه قومها فأبى، حتى وقعت الحرب بين قومه وقومها، فأغار عليهم عبد شمسٍ في جيشه، فعلمت الهيجمانة فأخبرت أباها، وقد كانوا يعلمون إعجاب الهيجمانة به كإعجابه بها.
فلما قالت هذه المقالة لأبيها قال مازن بن مالك بن عمرو بن تميم: حنت ولات هنت، وأنى لك مقروع، وهو عبد شمس بن سعد كان يلقب به، فقال لها أبوها عند ذلك: أي بنية، اصدقيني أكذاك هو فإنه لا رأي لمكذوب.
فقالت: ثكلتك إن لم أكن صدقتك فانج ولا إخالك ناجياً، فذهبت كلمته وكلمتها وكلمة مازن مثلاً.
ومن أمثالهم: إن الكذوب قد يصدق.

عند النوى يكذبك الصادق. قال المفضل: إن رجلاً كان له عبدٌ فلم يكذب قط، فبايعه رجل ليكذبنه، وجعل الخطر بينهما أهلهما ومالهما، فقال الرجل لسيد العبد: دعه يبيت عندي الليلة. ففعل؛ فأطعمه الرجل لحم حوارٍ وأسقاه لبناً حليباً في سقاءٍ قد كان فيه لبنٌ حازرٌ؛ فلما أصبحوا تحملوا وقالوا للعبد: الحق بأهلك، فلما توارى عنهم نزلوا؛ فأتى العبد سيده فسأله فقال: أطعموني لحماً لا غثاً ولا سميناً، وسقوني لبناً لا محضاً ولا حقيناً، وتركتهم قد ظعنوا فاستقلوا فساروا بعد أو حلوا، وفي النوى يكذبك الصادق، فأرسلها مثلاً. وأحرز مولاه مال الذي بايعه وأهله.
ومن أمثالهم: لا يدري الكذوب كيف يأتمر.
القول ما قالت حذام، المثل للجيم بن مصعب بن علي بن بكر بن وائل وحذام امرأته.
صدقته الكذوب أي نفسه.
صدقني سن بكره. قال علي عليه السلام في رجل أخبره بشيء فصدقه.
لا ألية لسالية، زعم يونس أن ذلك لكذبها، تحلف أنها قليلة السلاء مخافة العين.
وفي الكذوب أحاديث وبان استه حين أصعدا.
وصف الرجل بالتبريز والفعل الحميد من أمثالهم في هذا: هو نسيج وحده، إذا كان مكتفياً بنفسه.
ويقولون: هو يرقم على الماء، يضرب في الحذق.
ويقولون في المحافظة والحمى: جار كجار أبي دواد.
وفي الوفاء أنجز حرٌ ما وعد، قال ذلك الحارث بن عمرو بن حجر الكندي لصخر بن نهشل بن دارم، وكان له مرباع من حنظلة، فقال له: هل أدلك على غنيمة ولي خمسها؟ قال: نعم. فدله على قبيلة فأغار عليها بقومه، فتنجزه ما بذله له.
ويقولون في المجرب: جري المذكي القارح.
وقال قيس بن زهير لحذيفة بن بدر في الرهان بينهما: جري المذكيات غلابٌ.
ويقولون للرجل المبرز: ما يشق غباره، وأصله قول قصير بن سعد في العصا فرسه حين قال لجذيمة: اركبها فإنه لا يشق غبارها، والخبر مشهور.
ويقولون: ما يقعقع له بالشنان؛ ولا يصطلى بناره.
ويقولون: هو ألوى بعيد المستمر، للشرس الشديد، قاله النعمان بن المنذر لخالد بن معاوية السعدي. وقال الشاعر: من الرجز
وجدتني ألوى بعيد المستمر ... أحمل ما حملت من خيرٍ وشر
ومن أمثالهم: هل يخفى على الناس النهار.
وهل يجهل القمر. وقال ذو الرمة: من البسيط
لقد بهرت فما تخفى على أحدٍ ... إلا على أحدٍ لا يعرف القمرا
ومن أمثالهم: لا حر بوادي عوف، المثل للمنذر يقوله لعوف بن محلم الشيباني وقد أجار عليه، وقيل هو عوف بن كعب بن زيد مناة بن تميم، وكان يقتل الأسارى ولا يعتقهم.
ويقولون في الرجل المقدام على الأمور: ما يبالي على أي قتريه وقع، ويقال: قطريه، أي جانبيه.
ويقال: بمثلي تنكأ القرحة.
ويقولون: هو عندي باليمين عند الوصف والإحماد.
ولا تجعلني في اليد الشمال، أي لا تحقرني.
ويقولون: رجلٌ مقابلٌ مدابرٌ أي كريم الطرفين.

التمسك بالأمر الواضح
من أمثالهم فيه: من سلك الجدد أمن العثار.
ومن أمثالهم: الحق أبلج والباطل لجلج، يتردد صاحبه فيه فلا يجد مخرجاً.
ليس لعينٍ ما رأت ولكن لكفٍّ ما أخذت.
أكرمت فارتبط.
ومنه: اشدد يديك بغرزه.
ويقولون: محسنة فهيلي، يضربونه للأمر المستقيم، وأصله أن رجلاً نزل بامرأة ومعه سلف دقيقٍ، فلما غاب الرجل اغتنمت غيبته، فجعلت تهيل من سلفه الدقيق في سلفها؛ فهجم عليها غفلةً فدهشت فجعلت تهيل من دقيقها في دقيقه، فعند ذلك قال: محسنةٌ فهيلي.
ويقولون: خلاؤك أقنى لحيائك، أقنى أي ألزم، ومنه قول عنترة: من الكامل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني تمرؤٌ سأموت إن لم أقتل
ومن أمثالهم: اقصدي تصيدي.
دع عنك بنيات الطريق، أي عليك واضح الأمر، ودع الروغان يميناً وشمالاً.
التوسط في الأمور
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين ذكر العبادة والغلو فيها: إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. يقول إذا كلف نفسه فوق طاقتها من العبادة بقي حسيراً كالذي أفرط في إغذاذ السير حتى عطبت راحلته ولم يقض سفره.
لا تكن حلواً فتسترط ولا مراً فتعقى، أي تلفظ من المرارة، يقال: قد أعقى الشيء إذا اشتدت مرارته، قال أبو عبيدة: وقول العامة فتلفظ غير صحيح.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن هذا الأمر لا يصلحه إلا لينٌ في غير ضعف وشدةٌ في غير عنف.

وقيل: خير الأمور الأوساط.
وقالوا في مثله: لا وكس ولا شطط.
وقال زهير: من البسيط
دون السماء ودون الأرض قدرهما ... دون الذنابى فلا فوتٌ ولا درك
وقال عنترة: من الكامل
لا ممنعاً هرباً ولا مستسلم
وقالوا: شر السير الحقحقة.
وفي الخبر: خير الأمور أوساطها. فالوسط محمودٌ على كل حالٍ إلا في العلوم؛ فإن الغايات فيها خيرٌ وأولى. وقيل: سائر العلوم والصناعات ينفع فيها التوسط ولا يضر، كالنحو ليس يضر من أحسن باب الفاعل والمفعول، وباب الإضافة، وباب المعرفة والنكرة، أن يكون جاهلاً بقية أبواب النحو؛ وكذلك من نظر في علم الفرائض فليس يضر من أحكم باب الصلب أن يجهل باب الجد. وغاية ذلك أن يكون علم من ذلك العلم نوعاً دون نوعٍ إلا علم الطب والكلام، فأصلح الأمور لمن تكلف علم الطب أن لا يحسن منه شيئاً أو يكون حاذقاً، فإنه إن أحسن منه شيئاً ولم يبلغ فيه المبالغ هلك أو أهلك المرضى؛ وكذلك العلم بصناعة الكلام: إن قصر فيه عرضت إليه الشبهة، ولم يبلغ الغاية التي تزيلها فيضل ويضل.

التساوي في الأمر
سواسيةٌ كأسنان الحمار.
سواسيةٌ كأسنان المشط.
القوم إخوانٌ وشتى في الشيم.
هما كركبتي البعير، هذا مثل قاله هرم بن قطبة الفزاري في منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة إليه.
هما كفرسي رهان.
هما زندان في وعاء.
هما كحماري العبادي حين قيل له أيهما شرٌّ؟ فقال: هذا ثم هذا، وهذا المثل لا يوضح في المدح.
ومن أمثالهم: وقعا كعكمي عير.
أنصف القارة من راماها. قال هشام: والقارة هم عضل والديش ابنا الهون بن خزيمة، وإنما سموا قارةً لاجتماعهم والتفافهم؛ قال أبو عبيدة: وأصل القارة الأكمة وجمعها قورٌ. قال ابن واقد: وإنما قيل قد أنصف القارة من راماها في حرب كانت بين قريش وبكر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت القارة مع قريش وهم قومٌ رماةٌ؛ فلما التقى الفريقان راماهم الآخرون فقيل: قد أنصفكم هؤلاء إذ ساووكم في العمل الذي هو شأنكم وصناعتكم.
ومن أمثالهم: سواءٌ علينا سالباه وقاتله، وهو نصف بيت للوليد بن عقبة من شعرٍ قاله في قتل عثمان رضي الله عنه، وأصله أن رجلاً يقال له الحطم قتل فصارت خميصةٌ له إلى غير القاتل، فرؤيت معه فقال: لست بقاتله، فقيل له ذلك.
ومن أمثالهم: أشبه امرؤٌ بعض بزه، قاله ذو الإصبع العدواني، وهو خبر طويل يجيء في موضعه.
كل ذات صدارٍ خالة؛ قاله همام بن مرة الشيباني.
ويقولون: ما أشبه الليلة بالبارحة.
وحذو القذة بالقذة.
كل نجار إبلٍ نجارها.
لا تنبت الحقلة إلا بقلةً، أي لا يلد الوالد إلا مثله.
المجازاة
من أمثالهم في هذا: أضئ لي أقدح لك. ويقال: اكدح لي، أي كن لي أكن لك.
ومنها: من ينكح الحسناء يعط مهراً.
ومنها: أساء سمعاً فأساء إجابةً. قال النابغة: من البسيط
لقد جزتكم بنو ذبيان ضاحيةً ... بما فعلتم ككيل الصاع بالصاع
لما مات محمد بن الحجاج بن يوسف اشتد جزع أبيه الحجاج عليه، ودخل الناس عليه يعزونه ويسلونه وهو لا يزداد إلا جزعاً، وكان ممن دخل عليه رجلٌ كان الحجاج قتل ابنه يوم الزاوية، فلما رأى جزع الحجاج وقلة ثباته شمت به وتمثل بقول طفيلٍ الغنوي: من الطويل
فذوقوا كما ذقنا غداة محجرٍ ... من الغيظ في أكبادنا والتحوب
وقال حسان بن عمرو: من الطويل
متى ما يشأ مستقبض الشر يلقه ... سريعاً وتجمعه إليه أنامله
التفوق والزيال
من أمثالهم في ذلك: أتى أبدٌ على لبدٍ، وهو نسر لقمان السابع.
من يجتمع يتقعقع عمده، أي قصاراهم التفرق.
طارت بهم العنقاء.
أودت بهم عقاب ملاع.
ذهبوا أيدي سبأ.
ويقال في مثله: خفت نعامته.
وشالت نعامته.
وزف رأله.
ويقولون: فسا بينهم ظربان.
أودى كما أودى إرم. وقال الخنوت السعدي وهو توبة بن مضرس: من الطويل
أرب بهم ريب المنون كأنما ... على الدهر فيهم أن يفرقهم نذر
ومن أمثالهم: لكل ذي عمودٍ نوى.
حفظ اللسان
من ذلك قوله تعالى: كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. وفي الحديث: وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
وقال أكثم بن صيفي: مقتل الرجل بين فكيه، يعني لسانه.

وقال عمر بن عبد العزيز: التقي ملجمٌ.
وقال بعض العرب لرجل يوصيه: إياك أن يضرب لسانك عنقك. ومنه قول الشاعر: من المتقارب
رأيت اللسان على أهله ... إذا ساسه الجهل ليثاً مغيرا
وقال علقمة بن علاثة: أول العي الاختلاط، وأسوأ القول الإفراط.
ومن أمثالهم: من أكثر أهجر.
اجعل هذا في وعاءٍ غير سرب.
ويقولون: صدرك أوسع لسرك.
في أمثال أكثم بن صيفي: لكل ساقطة لاقطة، يحذر به من سقط الكلام.
ومن أمثاله: رب قولٍ أنفذ من صول، يضرب لحفظ اللسان، فيما يبقى من العار. وقال طرفة بن العبد: من الطويل
وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاةٌ على عوراته لدليل
وقال كعب بن سعد: من الطويل
إذا أنت جالست الرجال فلا يكن ... عليك لعورات الرجال دليل
وكان يجالس الأحنف رجلٌ يطيل الصمت حتى أعجب به الأحنف، فقال الرجل يوماً للأحنف: يا أبا بحر، هل تقدر أن تمشي على شرف المسجد؟ فتمثل الأحنف: من الطويل
وكائن ترى من صامتٍ لك معجبٍ ... زيادته أو نقصه في التكلم
ومن أمثال العرب: سكت ألفاً ونطق خلفاً، قال ابن الأعرابي: الخلف الرديء من القول. يقال: فأسٌ ذات خلفين، أي ذات رأسين، والخلف الطريق وراء الجبل. ويقال: خلف صدقٍ من أبيه وخلف سوء. ويقال لمن هلك والده: أخلف الله عليك، أي كان الله خليفة والدك عليك. ويقال لمن ذهب ماله: أخلف الله عليك، وخلف الرجل الوالي إذا كان خليفته. ويقال: خلف فوه من الصيام يخلف خلوفاً إذا تغير. ويقال: هو خالف أهله وخالفه أهله إذا كان فاسداً. ويقال في مثله: خلفناةٌ وخليفة، ويقال: عبدٌ خالفٌ، أي فاسدٌ. ويقال: أبيعك العبد وأبرأ إليك من خلفته، ورجل ذو خلفة؛ والخالفة عمودٌ من أعمدة البيت، وخوالف البيت زواياه، واحدتها خلفة. قال الأصمعي: خلف فلان يخلف خلوفاً إذا فسد ولم يفلح والخوالف النساء اللواتي غاب أزواجهن عنهن وليس عندهن رجال. قال الله تعالى: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف التوبة 87، 93 وحيٌّ خلوفٌ، أي غيبٌ، وخلوفٌ حضورٌ؛ والخلفة الورقة تخرج بعد الورق اليابس. ويقال: الليل والنهار خلفةٌ، أي إذا ذهب هذا جاء هذا. ويقال: خلف ثوبه إذا قطع وسطه وجمع بين طرفيه. ويقال: برئت إليك من خلفة العبد، أي فساده؛ والخلف طرف الضرع. ويقال: أخلف بيده إذا أهوى بها إلى خلفه ليتناول شيئاً؛ والإخلاف أن يعيد على الناقة فلا تلقح، والإخلاف أن يعد الرجل عدةً فلا ينجزها؛ والإخلاف أن يجعل الحقب وراء الثيل، والثيل وعاء مقلم البعير، وهو قضيبه؛ يقال: أخلف عن بعيرك. قال أبو زيد: الخالف الفاسد الأحمق، وقد خلف يخلف خلافةً. ويقال: جاء فلانٌ خلافي وخلفي، وهما واحد، وقد جاءت اللغتان في كتاب الله عز وجل؛ ويقال اختلف فلانٌ صاحبه في أهله اختلافاً، وذلك أن يناظره حتى إذا غاب عن أهله جاء فدخل عليهن. قال: ويقال: خلف الشراب واللبن يخلف خلوفاً إذا حمض ثم أطيل إنقاعه ففسد. وقال أبو زيد والأصمعي: خلفت نفسي عن الطعام، تخلف خلوفاً إذا أضربت عنه من مرض. وقال أبو زيد: لا يقال ذلك إلا من المرض. قال الأصمعي واللحياني في الخلف المربد يكون وراء البيت. وقال الأصمعي: الخلفة الاستقاء. يقال: من أين خلفتكم؟ أي من أين تستقون.
ويقال: نتاج فلانٍ خلفةٌ، أي عامٌ ذكر وعامٌ أنثى؛ والخلفة النبت في الصيف، والخلفة اختلاف البهائم وغيرها. ويقال: حلب الناقة خليف لبأها، يعني الحلبة التي بعد ذهاب اللبأ؛ والخليف الطريق في الجبل، وقال أبو نصر: هو الطريق وراء الجبل أو في أصله. وقال اللحياني: الخليف الطريق في ما وراء الجبل أو بين الجبلين؛ ويقال المخلفة: الطريق أيضاً، يقال: عليك المخلفة الوسطى.

ما جاء في التصريح والمكاشفة
من ذلك قولهم: صرح الحق عن محضه.

أبدى الصريح عن الرغوة، الرغوة والرغوة، لغتان. وهذا المثل لعبيد الله بن زياد قاله لهانئ بن عروة المرادي في شأن مسلم بن عقيل. يقال للبن حين يحلب: حليب، فإذا ذهبت رغوته فهو صريح. فإذا أمكن أن يصب في الإناء فهو صريفٌ، ثم نقيع يومه، ثم حقين إذا جعل في السقاء، فإذا أخذ طعم السقاء فهو ممحلٌ، فإذا أخذ في الحمض فهو قارسٌ، فإذا راب فأمكن أن يمخض فهو ظليمٌ ومظلومٌ، فإذا انقطع زبده فلم يخرج مستقيماً فهو مثمرٌ وثامرٌ، فإذا خرج زبده فهو رائب، فإذا اشتد حمضه فتقطع فصار اللبن ناحيةً والماء ناحيةً فهو الممذق، فإذا اشتد حمضه جداً فهو الأدل. يقال: جاءنا بأدلةٍ تروي الوجه، فإذا بلبل وغلظ فهو الهدبد والعكلط والعجلط، وهو الغنمي إذا صب فلم يسمع من خثورته، والمحض الذي لم يخالطه ماءٌ. والخامط الذي أخذ ريحاً، فإذا ذهبت عن اللبن حلاوته قبل له السامط، والحازر الذي يشتد أيضاً، والضريب الذي حقن أياماً فاشتدت حموضته، والدواية شبيه الجليدة تعلو اللبن، والرثيئة حليبٌ يصب على حامض وقد رثأته. والصير ماء الجبن والمصل - عربيٌّ صحيح - والماء الذي يسيل منه المصالة، ويقال للكشك الزهيدة، والنسء حليبٌ يصب عليه ماءٌ، نسأته أنسؤه نسئاً، والنخيسة لبن الضأن يصب عليه لبن المعزى. والضيح الذي كثر ماؤه وهو الضياح، والمذيق الذي فيه ماء. والرخف الرخو من الزبد، والنهيد الذي لم يتم روب لبنه، والصرد أن ينقطع منتفثاً لا يلتئم.
ومن أمثالهم: قد بين الصبح لذي عينين.
ومنها: برح الخفاء.
ومنها: أخبرته بعجري ويجري، أي أظهرته من ثقتي على معايبي، وأصل العجر العروق المتعقدة، فأما البحر فهي أن تكون في البطن خاصة.
ومنها: لبست له جلد النمر.
قشرت له العصا.
لا مخبأ لعطرٍ بعد عروس؛ وقد يضرب في الخطأ وترك الشيء وقت الحاجة إليه. قال أبو زيد: وأصله أن رجلاً تزوج بامرأة فوجدها تفلةً، فقال: أين الطيب؟ فقالت: خبأته فعنفها، قال: لا مخبأ لعطر بعد عروس. وذكر المفضل: أن المثل لامرأة عروسٍ، وكان رجلاً جميلاً يسمى عروساً، فهلك فحملت المرأة عطراً وآلة النساء والطيب، فمر بها بعض معارفها فوبخها وعنفها، فقالت عند ذلك هذا المثل.
ومن أمثالهم: لا أطلب أثراً بعد عين، وقد يضرب في الاحتياط للأمر، المثل لمالك بن عمرو الباهلي، كان له أخٌ يقال له سماك، فقتله رجلٌ من غسان، فلقيه مالكٌ فأراد قتله، فقال الغساني: دعني ولك مائةٌ من الإبل، فقال: لا أطلب أثراً بعد عين، ثم قتله.
ومن أمثالهم: ترك الخداع من أجرى من مائة، المثل لقيس بن زهير في رهان داحسٍ والغبراء لما جعل المدى مائة غلوة.
ويقولون في المكاشفة والتحذير: قد أعذر من أنذر.
وما له سترٌ ولا حجرٌ، الستر هاهنا الحياء والحجر العقل.
ويقولون في الأمر الجلي: ما يوم حليمة بسرٍّ، وحليمة بنت الحارث بن أبي شمر الغساني، ويوم حليمة من أيام العرب المشهورة، ولها فيه حديث معروف، وقد ذكر هذا اليوم في موضع آخر بشرحه.
ومن أمثالهم في الأمر الشائع: يكفيك من شرٍّ سماعه، قالته فاطمة بنت الخرشب الأنمارية أم الربيع بن زياد، وهي أم الكملة إحدى المنجبات، لقيس بن زهير، وكان الربيع أخذ منه درعاً فعرض لها قيسٌ ليرتهنها عليه، فقالت: يا قيس أترى بني زياد مصالحيك وقد ذهبت بأمهم يميناً وشمالاً فقال الناس ما شاءوا، ويكفيك من شرٍّ سماعه.
ومن أمثالهم: عند التصريح تريح.

ما جاء في التسويف والوعد والعويد
يقولون: مطله مطلاً كنعاس الكلب، وذاك أنه دائمٌ متصل.
ويقولون: أسمع جعجعةً ولا أرى طحناً، والطحن الدقيق.
ومن أمثالهم: الصدق ينبي عنك لا الوعيد، غير مهموز من نبا ينبو.
ومنها: جاء ينفض مذرويه، إذا جاء يتوعد ويتهدد، ولا يقال هذا إلا لمن يتوعد من غير حقيقة، والمذروان فرعا الإليتين.
ومنها ويقاربها قولهم: ارق على ظلعك.

والمثل السائر: مواعيد عرقوب. قالوا: كان عرقوب رجلاً من العماليق أتاه أخ له يسأله شيئاً فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها، فلما أطلعت أتى الرجل أخاه للعدة فقال: دعها حتى تصير بلحاً، فلما أبلحت أتاه فقال له: دعها حتى تصير زهواً، فلما أزهت قال: دعها حتى تصير ثمراً، فلما أثمرت عمد إليها عرقوب من الليل فجدها ولم يعط أخاه منها شيئاً، وفيه يقول الأشجعي: من الطويل
وعدت وكان الخلف منك سجيةً ... مواعيد عرقوبٍ أخاه بيثرب
ويقولون في الوعيد: برق لمن لا يعرفك.
ويقولون لمن يعد ولا ينجز وعده ذكر ولا حساس.
ومن أمثالهم في التسويف: إلى ذاك ما باض الحمام وفرخا.

المكر والمداهنة
ومن أمثالهم في ذلك: يسر حسواً في ارتغاء.
أمكرٌ وأنت في الحديد؛ قاله عبد الملك بن مروان لعمرو بن سعيد الأشدق عند قتله؛ وخبره معه طويل، وقد ذكر في موضع آخر، وقال له عمرو حين قيده: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن لا تفضحني بأن تخرجني إلى أهل الشام فتقتلني بحضرتهم فافعل؛ وإنما أراد عمرو أن يخالفه فيخرجه، فإذا ظهر منعه أصحابه وحالوا بينه وبين عبد الملك.
ومن أمثالهم: من حفر مغواةً وقع فيها.
أعن صبوحٍ ترقق.
أصل المغواة البئر تحفر للذئب ثم يجعل فيها جديٌ أو غيره، فيسقط الذئب فيها ليأخذه فيصطاد.
والمثل الثاني: قال النمفضل الضبي فيه: كان نزل رجل بقوم أضافوه ليلاً وغبقوه فلما فرغ قال لهم: إذا أصبحتموني غداً فكيف آخذ في حاجتي؟ فقالوا له: أعن صبوحٍ ترقق؟ عاد الرمي على النزعة، والنزعة الرماة.
ومن أمثالهم في هذا المعنى: لأمرٍ ما جدع قصيرٌ أنفه، وخبر جذيمة يشتمل على هذا المثل وغيره فلا حاجة إلى إعادة ذكره.
أطرق كرى إن النعام في القرى.
ما زال يقتل في الذروة والغارب، إذا بالغ في الخداع.
الإيناس قبل الإبساس.
إياك أعني واسمعي يا جارة، المثل لسهل بن مالك الفزاري، قاله لأخت حارثة بن لأم الطائي.
ومن أمثالهم في المكر: خامري أم عامر.
ويقارب ذلك قولهم: أمر نهارٍ قضي ليلاً.
ويقولون للخب: أروغاً ثعالة.
حفظ المودة بالتباعد
من أمثالهم في هذا: فرق بين معدٍّ تحاب. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى أن مر ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا، وروي عنه وابن مسعود أنهما قالا: خالطوا الناس وزايلوهم، أي خالطوهم في المعاشرة والأخلاق وزايلوهم بأعمالكم، ويحتمل المباعدة أيضاً، ويقارب هذا الكلام قول صعصعة بن صوحان: إذا لقيت المؤمن فخالطه، وإذا لقيت الفاجر فخالفه، ودينك فلا تكلمنه. ويشبه ما روي عن عيسى عليه السلام: كن وسطاً وامش جانباً.
ما جاء في الضرورة والمعذرة والاعتذار
أزهد الناس في عالمٍ جاره ويروى أهله.
ومن أمثالهم في ذلك: مكره أخوك لا بطل، خبره في قصة بيهس نعامة، وهو مذكور في مكانه من هذا الكتاب.
لو ترك القطا لنام، هو لامرأة عمرو بن أمامة، وكان نزل بقوم من مراد فطرقوه ليلاً فلما رأت امرأته سوادهم أنبهته فقالت: قد أتيت، فقال: إنما هذه القطا، فقالت: لو ترك القطا لنام. فأتاه القوم فبيتوه فقتلوه.
ومن أمثالهم: الشر ألجأه إلى مخ العراقيب، وقد يضرب عند مسألة اللئيم.
ويقولون: الطعن أظأر، يضرب للبخيل يعطي عن ضرورة، يقول: إذا خاف أن يطعنه عطفه ذلك عليه فجاد بماله خوفاً منه.
ويقولون: الخلة تدعو إلى السلة، أي الحاجة تدعو إلى السرقة.
ويقولون: لكل جوادٍ كبوة ولكل عالمٍ هفوة ولكل صارم نبوة.
ويقولون: ترك الذنب أيسر من الاعتذار.
ومن أمثالهم: حياك من لا خلا فوه، وأصله أن رجلاً سلم عليه وهو يأكل فلم يرد السلام، فلما فرغ قال هذه المقالة أي كنت مشغولاً.
ومن أمثالهم في لاضرورة: بيتي يبخل لا أنا.
شغلت شعابي جدواي.
بالساعد تبطش الكف في الضرورة، هذا المثل يضرب أيضاً في قلة الأعوان.
ومن الأعذار قول قصير بن سعد لعمرو بن عدي حين أمره أن يطلب ثأر خاله جذيمة من الزباء، افعل كذا وخلاك ذم. قال الشاعر: من الطويل
إذا ما شفيت النفس أبلغت عذرها ... ولا لوم في أمرٍ إذا بلغ العذر
ومن أمثال الضرورة: يلبس الخلق من لا جديد له.
تعذر الكمال والمحض
من أمثالهم فيه: أي الرجال المهذب.

وقول أبي الدرداء رضي الله عنه: من لك بأخيك كله.
وقولهم: لا تعدم الحسناء ذاماً، مخففٌ وهو العيب.
تعلق الفعل بما يتعذر والامتناع عنه ما اتصل المانع، أو فعله ما استمر الشيء ومن أمثالهم في هذا: لا آتيك ما حنت النيب.
ومثله: لا آتيك ما أطت الإبل.
وقال أبو زيد: لا آتيك ما اختلفت الدرة والجرة، واختلافهما أن الدرة تنتقل إلى الضروع والجرة تعلو إلى الرأس.
ما اختلف الملون، وهما الليل والنهار، والواحد منهما ملى مقصور.
ومثله: ما اختلف الأجدان، وكذلك: ما اختلف الفتيان، ومنه قول الشاعر: من الكامل
ما لبث الفتيان أن عصفا بهم ... ولكل قفلٍ يسرا مفتاحا
ويقولون: ما أفعله ما سمر ابنا سمير.
ولا آتيك السمر والثقمر، يريدون ما كان السمر وما طلع القمر.
ولا آتيك سن الحسل، والحسل ولد الضب، حتى تسقط أسنانه، ويقال إنها لا تسقط أبداً حتى تموت.
قال الأحمر في هذا: لا آتيك سجيس الأوجس.
سجيس عجيس، ومعناهما: الدهر.
ولا آتيك الأزلم الجذع، وهو الدهر.
وما حي حيٌّ وما مات ميت. ويروى عن المفضل أنه قال: هذا المثل للقمان بن عاد.
ومثله: لا أفعله دهر الداهرين، وعوض العائضين.
وأبد الآبدين، وأبد الأبيد.
وما حملت عيني الماء.
وحتى يرجع السهم على فوقه وهو لا رجع أبداً إنما مضاؤه قدماً.
وقال ابن الكلبي: من هذا قولهم: لا أفعل ذلك معزى الفزر، قال: والفزر سعد بن زيد مناة بن تميم، وكان وافى الموسم بمعزى فأنهبها هنالك، فتفرقت في البلاد، فالمعنى في معزى الفزر حتى تجتمع تلك، وهي لا تجتمع الدهر كله، وإنما سمي الفزر لأنه قال: من أخذ منها واحدة فهي له، ولا يؤخذ منها فزر، قال: وهي الاثنان.
ولا أفعل ذلك حتى يؤوب القارظان، وهما من عنزة، فالأول منهما يذكر بن عنزة لصلبه، عشق فاطمة بنت خزيمة بن نهد، وخبرهما يرد في أخبار العرب، والقارظ الآخر زهير بن عامر بن عنزة خرج يجتني القرظ فلم يرجع ولا علم بخبره.
ومن أمثالهم: حتى يؤوب المنخل، وخبره شبيه بهذا الخبر.
وضع الشيء في موضعه من أمثالهم في هذا: ذكرتني الطعن وكنت ناسياً. وأصله أن رجلاً حمل على رجل ليقتله، وكان في يد المحمول عليه رمح فأنساه الدهش والجزع ما في يده، فقال الحامل: ألق الرمح، فقال الآخر: أرى معي رمحاً وأنا لا أشعر به، ذكرتني الطعن وكنت ناسياً، وكر على صاحبه فقتله أو هزمه، وقيل إن الحامل: صخر بن معاوية السلمي والمحمول عليه: يزيد الصعق الكلابي.
ومن أمثالهم: خلع الدرع بيد الزوج.
التجرد لغير النكاح مثلة، وهما مثلان قالتهما رقاش بنت عمرو ابن تغلب بن وائل، تزوجها كعب بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة فقال لها: اخلعي درعك، فقالت: خلع الدرع بيد الزوج، فقال: اخلعيه لأنظر إليك، فقالت: التجرد لغير النكاح مثلة.
وقريب من معنى هذا الفصل قولهم: اذكر الغائب يقترب.
اذكر غائباً تره. والثاني قاله عبد الله بن الزبير وقد ذكر المختار وهو غائب فقدم عليه.
وقال عتبة بن أبي سفيان: العجب من علي بن أبي طالب عليه السلام ومن طلبه الخلافة وما هو وهي؟ فقال معاوية: اسكت يا اوزه، فوالله إنه فيها كخاطب الحرة إذ يقول: من الطويل
لئن كان أدلى خاطب فتعذرت ... عليه وكانت رائداً فتمطت
لما تركته رغبة عن حباله ... ولكنها كانت لآخر حطت
وقال النجاشي الحارثي: من البسيط
إني امرؤٌ قل ما أثني على أحدٍ ... حتى أبين ما يأتي وما يذر
لا تحمدن امرءاً حتى تجربه ... ولا تذمن من لم يبله الخبر
وفي بعض الحديث: لا تعجلوا بحمد الناس ولا ذمهم، فإن أحداً لا يدري بما يختم له.
ومن أمثال العرب: لا تحمدن أمةً عام اشترائها ولا حرةً عام بنائها.
ومثله: لا تهرف قبل أن تعرف، والهرف الإطناب.
وضع الشيء في غير موضعه قال أوس بن حجر: كمن دب يستخفي وفي الحلق جلجل.
ومن أمثال العرب: خرقاء ذات نيقة.
ومنها: كالحادي وليس له بعير.
ومن أمثالهم: وحمى ولا حبل، يضربونه للشهوان وليس بجائع.
ومنها: يحمل شنٌّ ويفدى لكيز، وهما ابنا قصي بن عبد القيس، قاله شنٌّ لأمهما، وكانت تؤثر لكيزاً عليه.
ويقولون: ليس هذا بعشك فادرجي.
ويقولون: كمستبضع التمر إلى هجر.

متى كان حكم الله في كرب النخل وهو نصف بيت لجرير قاله لشاعرٍ من عبد القيس وقد حكم للفرزدق على جرير.
وقال الشاعر: من الوافر
فإنك والكتاب إلى علي ... كدابغة وقد حلم الأديم
يقولون: كالأمة تفخر بحجر ربتها.
وقال ابن هرمة: من المتقارب
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملحفةٍ بيض أخرى جناها
قيل: أراد الكروان، فإنه يترك بيض نفسه ويحضن بيض غيره، وإن حمل على العموم كان حسناً.
وقال العديل بن الفرخ العجلي: من الطويل
وكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آلٍ فوق رابيةٍ صلد
كمرضعةٍ أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال عن القصد
وقال آخر: من الطويل
وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل ترمى ليس فيها نصالها
وقال يزيد بن ضبة: من الكامل
لا تبدين مقالة مأثورةً ... لا تستطيع إذا مضت إدراكها
وقال آخر: من الطويل
إذا عركت عجلٌ بنا ذنب طيءٍ ... عركنا بتيم اللات ذنب بني عجل
وقال حارثة بن بدر، ويروى لأنس بن زنيم الليثي: من الطويل
أهان وأقصى ثم يستنصحونني ... ومن ذا الذي يعطي نصيحته قسرا
وقال آخر: من الطويل
ولم أر ظلماً مثل ظلمٍ ينالنا ... يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
وقال آخر: من الوافر
وكم من موقفٍ حسنٍ أحيلت ... محاسنه فعد من الذنوب
ومن أمثالهم: تبصر القذاة في عين أخيك وتعمى عن الجذع في عينك، وتدع الجذع المعترض في حلقك. وقد روي هذا المثل بألفاظ مختلفة، فمنها: أن رجلاً كان أبوه صلب في حرب، ثم إنه قاول آخر وعابه، فقال له الآخر: أحدكم يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع معترضاً في است أبيه.
ويقولون: في ذنب الكلب تطلب الإهالة والإهالة الودك، لمن يطلب الشيء من غير وجهه.

ما جاء في إصلاح المال
لا جديد لمن لا يلبس الخلق، قالته عائشة رضي الله عنها، وقد وهبت مالاً عظيماً ثم رقعت ثوباً لها.
وقال أحيحة بن الجلاح: التمرة إلى التمرة تمر؛ والذود إلى الذود إبل. ومنه: من الوافر
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
ويقولون: من ذهب ماله هان على أهله.
ويقرب منه قولهم: الشحيح أعذر من الظالم.
ومن أمثالهم: لا تفاكه أمةً ولا تبل على أكمة.
تسهيل الأمور ودفع الأقدم بالأحدث
ومن أمثالهم فيه: كان جرحاً فبرأ، قاله بعض العرب وأصيب بابن له فسئل عنه بعد مدة.
ومثله قول أبي خراش: من الطويل
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
ومنه قولهم: هون عليك ولا تولع بإشفاق.
وقال الأحوص: من البسيط
إن القديم وإن جلت رزيته ... ينضو فينسى ويبقى الحادث الأنف
ويقولون: جاء ثانياً من عنانه، إذا جاء وقد قضى حاجته.
ويقولون: لا تعدم صناعٌ ثلةً: والثلة الصوف تغزله المرأة.
ولن تعدم سارقة حثيثاً.
ومن أمثالهم: أنجد من رأى حضناً، وحضنٌ جبل بنجد، يضرب ذلك لمن بلغ مقصده.
؟ومن أمثالهم في تسهيل الشيء: أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل، يعني أنه أورد إبله شريعة الماء ولم يوردها على بئر فيحتاج إلى الاستقاء.
؟ومنه: أهون السقي التشريع.
؟هذا على طرف الثمام، وذلك أن الثمام لا يطول فيشق على المتناول.
؟ومنه: كلا جانبي هرشى لهن طريق، يضرب إذا سهل الأمر من الوجهين.
ومن التسهيل والمقاربة كلام ابن المعتز: أبق لرضاك من غضبك، وإذا طرت فقع قريباً.
وقال أعرابي: من الطويل
وقد غضبوا حتى إذا ملأوا الربى ... ولو أن إقراراً على الضيم أروح
وقال عمرو بن أسيد الأسدي: من الطويل
كأنك لم تسبق من الدهر ليلةً ... إذا أنت أدركت الذي أنت تطلب
ومثله: من الطويل
كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا
؟وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما قتل القاري الأنصاري عصماء بنت مروان اليهودية وكانت تهجو النبي صلى الله عليه وسلم فطرقها ليلاً فقتلها: لا يتنطح فيها عنزان. وذلك أن العنز لا تبالغ، وإنما تشام وترجع، فهو أسهل ما يكون بين المتلاقيين. ؟

ومن أمثالهم: كل امرئ في بيته صبي، ويراد به تسهيل الخلق.
ويقولون في التسهيل وما يجتزئ به: قد تقطع الدوية الناب.

ما جاء في العداوة والشماتة
والرمي بالعضيهة
من أمثالهم في هذا: رماه بثالثة الأثافي، وهي القطعة المتصلة بالجبل يجعل إلى جنبها اثنتان. وقال خفاف بن ندبة: من الوافر
فإن قصيرةً شنعاء مني ... إذا حضرت كثالثة الأثافي
ويقولون: لا تدريه لعرضك فيلزم، تدريه تغريه ويلزم يضرى.
ويقولون: لا ترى العكلي إلا حيث يسوءك.
ويقولون: رماه بالعضيهة وبالأفيكة وبالبهيتة.
ورماه بأقحاف رأسه.
ومن أمثالهم: رمتني بدائها وانسلت، وقال المفضل: المثل لرهم بنت الخزرج من كلب وكانت امرأة سعد بن زيد مناة، وكان لها ضرائر فسابتها إحداهن يوماً فرمتها رهمٌ بعيبٍ كان في رهم، فقالت ضرتها: رمتني بدائها وانسلت، فذهبت مثلاً. ويشبه هذا المثل: من الكامل
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
وقال عدي بن زيد: من الرمل
واجتنب أخلاق من لم ترضه ... لا تعبه ثم تقفو في الأثر
وقال عبد الله بن معاوية الجعفري: من المتقارب
ولا تقربن الصنيع الذي ... تلوم أخاك على مثله
ومن أمثالهم في هذا: محترسٌ من مثله وهو حارس.
ويقال في العداوة: هو أزرق العين.
وهم سود الأكباد.
وهم صهب السبال، في كشف العداوة.
ويقال: بينهم داء الضرائر.
ويقولون: جلى محبٌّ نظره. قال زهير: من الوافر
فإن يك في صديقٍ أو عدوٍّ ... تخبرك العيون عن القلوب
وقال أكثم بن صيفي: من لا حاك فقد عاداك.
ويقولون: هو يعض على الأرم، يقال ذلك في الغيظ، يقال إنها الحصى ويقال الأضراس.
ويقولون: بينهم عطر منشم، يراد به الشر العظيم.
ويقولون: عصبه عصب السلمة، وهي شجرة لها شوكٌ إذا أرادوا قطعها عصبوا أغصانها حتى يصلوا إليها.
ويقولون في الشماتة: من ير يوماً ير به. ومنه قول نهشل بن حري: من الطويل
ومن ير بالأقوام يوماً يرونه ... معرة يومٍ لا توازى كواكبه
فقل للذي يبدي الشماتة جاهلاً ... سيأتيك كأسٌ أنت لا بد شاربه
وقال حارثة بن بدر: من البسيط
يا أيها الشامت المبدي عداوته ... ما بالمنايا التي عيرت من عار
تراك تنجو سليماً من غوائلها ... هيهات لا بد أن يسري بك الساري
والمستحسن في ذلك قول عدي بن زيد: من الخفيف
أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المبرأ الموفور
وقال الأخطل: من الطويل
لقد عثرت بكر بن وائل عثرةً ... فإن عثرت أخرى فلليد والفم
وقال تميم بن أبي بن مقبل: من الطويل
إذا الناس قالوا كيف أنت وقد بدا ... ضمير الذي بي قلت للناس صالح
ليرضى صديقٌ أو ليبلغ كاشحاً ... وما كل من أسلفته الود ناصح
وقد أحسن المتنبي في قوله: من البسيط
ولا تشك إلى خلقٍ فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
ما جاء في الاتفاق والتحاب والاستمالة
من أمثالهم في هذا: كانت لقوةً صادفت قبيساً، تضرب في سرعة الاتفاق، قال أبو عبيدة: اللقوة السريعة الحمل والقبيس العجل السريع الإلقاح.
ومنه: التقى الثريان، والثرى التراب الندي، فإذا جاء المطر الكثير رسخ في الأرض حتى يلتقي بنداه، والندى الذي يكون في بطن الأرض.
ومن أمثالهم: لا تنقش الشوكة بالشوكة فإن ضلعها معها.
ويقولون: ألقى عليه شراشره.
وألقى عليه بعاعه، أي ألقى عليه نفسه من حبه.
ويقولون: نظرةٌ من ذي علق.
ومنها: وافق شنٌّ طبقة، وفيه تأويلان: أحدهما أنهما قبيلتان كان فيهما شرٌّ فالتقتا، وشن من عبد القيس وطبقة من إياد؛ والآخر أن الشن القربة الخلق عمل منها إداوةً فجاء موافقاً، وقد فسر بوجه ثالثٍ قد ذكر في باب الكناية.
ويقولون: هما كندماني جذيمة، قيل هما مالكٌ وعقيل من بلقين كانا لا يفترقان. وقيل إن جذيمة كان لا ينادم أحداً ترفعاً وكبراً، ويقول: إنما أنادم الفرقدين، والشعر قد دل على الأول وهو الأصح.

ومن أمثالهم في الاستمالة: أرغوا لها حوارها تحن، أصله أن الناقة إذا سمعت رغاء حوارها سكنت وهدأت.
ومنه قول معاوية حين رفع قميص عثمان: حرك لها حوارها تحن.
ومنها: إن الرثيئة مما يفتأ الغضب وأصله أن رجلاً كان غضباناً على قوم، قال أبو زيد: وأحسبه كان جائعاً، فسقوه رثيئة فسكن غضبه.
ومنها: العاشية تهيج الآبية، أي تراها تأكل فتميل فتأكل بعد الإباء.

ما جاء في قوة الخلق على التخلق
من أمثالهم في هذا: إن العناء رياضة الهرم.
ويقولون: إن العروق عليها ينبت الشجر، يضربونه في شبه الفرع بالأصل. قريب من هذا المعنى.
يقولون: أعييتني بأشرٍ فكيف بدردر، يقول: لم تقبلي الأدب وأنت شابة ذات أشرٍ فكيف وقد أسننت وبدأت درادرك، وهي مغارز الأسنان.
ويقولون: أعييتني من شب إلى دب، أي من لدن شببت إلى أن دببت هرماً. وقال ذو الإصبع العدواني: من البسيط
كل امرئٍ صائرٌ يوماً لشيمته ... وإن تخلق أخلاقاً إلى حين
وهو القائل أيضاً: من البسيط
اعمد إلى الحق فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
وقال المخضع النبهاني: من الطويل
ومن يقترف خلقاً سوى خلق نفسه ... يدعه وترجعه إليه الرواجع
وقال سليمان بن المهاجر، وتروى لحاتم: من الطويل
ومن يبتدع ما ليس فيه سجيةً ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها
وقال آخر: من الوافر
وكيف ملامتي إذ شاب رأسي ... على خلقٍ نشأت به غلاما
وقال عمرو بن كلثوم: من الطويل
ولكن فطام النفس أيسر محملاً ... من الصخرة الصماء حين ترومها
وقال صالح بن عبد القدوس: من الطويل
ولن يستطيع الدهر تغيير خلقه ... لئيمٌ ولن يسطيعه متكرم
كما أن ماء المزن ما ذيق سائغٌ ... زلالٌ وماء البحر يلفظه الفم
ما جاء في ذليل استعان بمثله
من أمثالهم فيه: مثقل استعان بدفيه، وأصله البعير يحمل عليه الحمل الثقيل ولا يقدر على النهوض، فيعتمد على دفيه على الأرض، والدف الجنب.
ومثله عبدٌ صريخه أمةٌ.
قال الفرزدق: لقد خزيت قيس وذل نصيرها.
وقال آخر: وداعيةٍ عند القبور نصيرها.
ومن أمثالهم: ذليل عاذ بقرملة، والقرمل نباتٌ كل من رآه انتزعه من أصله لضعفه.
ما جاء في النفع والضر ومعايبهما
من أمثالهم في ذلك: سبق درته غراره، الغرار قلة اللبن، والدرة كثرته. يقولون: سبق شره خيره.
ويقولون: هل بالرمل أوشال؟ أي لا خير عنده، كما أن الرمل لا يكون فيه وشلٌ.
ويقولون: ما يبض حجره، والبض أدنى ما يكون من السيلان.
ومن أمثالهم: ما هو في العير ولا في النفير، فالعير عير قريش والنفير نفير قريش من مكة لحماية العير، فكانت غزوة بدر.
صقرٌ يلوذ بحمام العوسج.
خير مالك ما نفعك.
لم يضع من مالك ما وعظك، وهذا المثل لأكثم بن صيفي.
ويقولون: ما عنده خلٌّ ولا خمرٌ، أي ما عنده من الخير شيء.
ويقولون: من شرٍّ ما ألقاك أهلك، يضرب لمن يتجافاه الناس ولا نفع عنده. وقال ابن لنكك البصري: من البسيط
وهبك كالشمس في حسنٍ ألم ترنا ... نفر منها إذا مالت إلى الضرر
وقال البحتري: من الطويل
يقل غناء القوس نبع نجارها ... وساعد من يرمي عن القوس خروع
وقال عدي بن زيد: من الطويل
إذا أنت لم تنفع بودك أهله ... ولم تنك بالبوسى عدوك فابعد
وقال قيس بن الخطيم: من الطويل
إذا المرء لم يفضل ولم يلق نجدة ... مع القوم فليقعد بضعفٍ ويبعد
وقال عبد الله بن معاوية: من الطويل
إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ... يراد الفتى كيما يضر وينفع
وقال آخر: من الطويل
وإن فتى الفتيان من راح أو غدا ... لضر عدوٍّ أو لنفع صديق
ومن أمثالهم مما جاء في النفع من حيث لا يحتسب حبابٌ فلا تعق آبراً: يضرب في عدم النفع، والجباب الجمار الذي لا طلع فيه، والآبر الذي يلقح النخل.
ما جاء في المبالغة
رب أخٍ لك لم تلده أمك، يقال إنه للقمان بن عاد، وذلك أنه رأى رجلاً مستخلياً بامرأة فاتهمه فقال: من هذا؟ فقالت: أخي، وصار قوله مثلاً لغير ما قصد له.

ويقولون: الضجور قد تحلب العلبة، ويضرب للمنوع قد ينال منه الشيء.
ويقولون: رب رميةٍ من غير رام.
وفي الخواطئ سهم صائب، وقريب منه: الأمر يجيء فوق ما في النفس.
ليس الري عن التشاف، وأصل التشاف أن يشرب الرجل الشفافة كلها، وهي بقية الماء في الإناء. يقول: قد يروى الشارب قبل بلوغ تلك وكذلك الحاجة.
ويقولون: قد يبلغ القطوف الوساع.
وقد يبلغ الخضم القضم.
يقولون: خذها ولو بقرطي مارية، وهي أم ولد جفنة الغسانيين، يقال للرجل يطلب الشيء فيحث على المبالغة فيه.
ومن هذا الفن قوله صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب لما جاء مسلماً وكان هجا النبي صلى الله عليه وسلم: كل الصيد في جوف الفرا.
ويقولون: هو بين الخلب والكبد للمبالغة في الحنو والإشفاق.
ويقولون: ليس لما قرت به العين ثمن.
ويقولون: إذا لم تسمع فألمع.
إذا ضربت فأوجع. ويكون الأول لا تترك في الأمر شبهة.

ما جاء في الأمر النادر
من أمثالهم في ذلك: إنما هو كبارح الأروى، يضرب للرجل لا يرى منه شيءٌ إلا في الزمان مرةً، لأن الأروى مساكنها الجبال، ولا تكاد ترى سانحة ولا بارحة.
استٌ لم تعود المجمر.
كانت كبيضة العقر.
ما جاء في الجبن والذل
؟؟إن الجبان حتفه من فوقه، قاله عمرو بن مامة في شعرٍ له.
كل أزب نفور، قاله زهير بن جذيمة العبسي، وإنما كان نفار الأزب من الإبل لكثرة شعره، ويكون ذلك في عينه، فكلما رآه ظن أنه شخص يطلبه فنفر من أجله.
عصا الجبان أطول، وإنما يطيلها من جنبه إرهاباً لعدوه.
ومنها: روغي جعار فانظري أين المفر.
ومنها: أفلت وانحص الذنب، المثل لمعاوية، وكان بعث رجلاً من غسان إلى ملك الروم، وجعل له ثلاث دياتٍ على أن ينادي بالأذان إذا دخل عليه مجلسه، ففعل ذلك الغساني وعند ملك الروم بطارقته، فوثبوا عليه ليقتلوه، وثاروا إلى وجهه بالسيوف فنهاهم ملكهم وقال: كنت أظن أن لكم عقولاً، إنما أراد معاوية أن أقتل هذا غدراً وهو رسول، فيفعل ذلك بكل مستأمن منا ويهدم كل كنيسة في مملكته، فجهزه وأكرمه ورده. فلما رآه معاوية قال: أفلت وانحص الذنب، فقال: كلا إنه لبهلبه، وحدثه الحديث، فقال معاوية: لقد أصاب ما أردت.
ومن أمثالهم: أفلت وله حصاص.
أفلتني جريعة الذقن، إذا كان منه قريباً.
ويقال للخائف: أفرخ روعك، والمثل لمعاوية، قاله لزياد.
الجهل والحمق
ومن أمثالهم: لا يدري ما هرٌّ من برٍّ.
ولا يدري أي طرفيه أطول، معناه أنسب أبيه أفضل أم نسب أمه؟ ومنها: لا يدري أسعد الله أكثر أم جذام وهما حيان بينهما من التفاوت ما لا يخفى على جاهل، قاله حمزة بن الضليل البلوي لروح بن زنباع الجذامي.
وقال الشاعر: من الوافر
لقد أفحمت حتى لست تدري ... أسعد الله أكثر أم جذام
ويقولون: ضل الدريص نفقه، وهو تصغير الدرص، والدرص ولد اليربوع، يضرب في الحجة إذا أضلها الباغي.
قد يضرط العير والمكواة في النار، كأنه جاهل بما يراد به. ويروى هذا المثل عن عمرو بن العاص.
ويقولون: حدث حديثين امرأةً فإن أبت فأربعة.
ويروى حدث حديثين امرأة فإن لم تفهم فأربع، أي كف عنها واسكت.
ومن أمثالهم: ربما كان السكوت جواباً.
ويقولون: كالممهورة من مال أبيها.
وكالممهورة إحدى خدمتيها.
ويقولون: خرقاء عيابة.
ومن أمثالهم: من كل شيء تحفظ أخاك إلا من نفسه.
سفهٌ بالناب الرغاء، أي سفهٌ بالشيخ التصابي.
البلية على البلية
من أمثالهم في هذا: أغيرةً وجبناً، قالته امرأة من العرب لزوجها، وقال أبو عبيدة: هذه امرأة المثنى بن حارثة، قالته يوم القادسية لسعد ابن أبي وقاص، كان قد تزوجها بعد قتل المثنى.
ومن أمثالهم: هو بين حاذفٍ وقاذفٍ، والحاذف بالعصا والقاذف بالحجر.
ويقولون: ضغثٌ على إبالة، الإبالة الحزمة من الحطب، والضغث الجرزة التي فوقها.
ويقولون: أحشفاً وسوء كيلة.
ومن قول عامر بن الطفيل: أغدةً كغدة البعير وموتاً في بيت سلولية. قال الشاعر: من الكامل
غضبت تميمٌ أن تقتل عامرٌ ... يوم النسار فأعقبوا بالصيلم
ومن أمثالهم: كالمستغيث من الرمضاء بالنار. أخذ العسس المستهل بن الكميت بن زيد في أيام المنصور فحبس، فكتب يشكو حاله وكتب في آخر الرقعة: من الطويل

إذا نحن خفنا في زمان عدوكم ... وخفناكم إن البلاء لراكد
فقال المنصور: صدق المستهل وأمر بتخلية سبيله.
ومن أمثالهم: إن جرجر العود فزده ثقلاً.
ومنها: هل بعد السلب إلا الإسار.

خيبة الأمل والسعي
ومن أمثالهم في نحو هذا: كطالب القرن جدعت أذنه.
ومنها: كالباحث عن الشفرة.
كالشاة تبحث عن سكين جزار.
سقط العشاء به على سرحان.
كمبتغي الصيد في عريسة الأسد.
وقال جرير: من الطويل
يشق على ذي الحلم أن يتبع الهوى ... ويرجو من الأمر الذي ليس لاقيا
وإني لمغرورٌ أعلل بالمنى ... ليالي أرجو أن مالك ماليا
وقال الأقرع بن معاذ: من الطويل
وكم سقت في آثاركم من نصيحةٍ ... وقد يستفيد الظنة المتنصح
وقال عدي بن زيد: من الرمل
لو بغير الماء حلقي شرقٌ ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
ومن أمثال أكثم بن صيفي: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء.
ومن أمثالهم: رجع فلان من حاجته بخفي حنين، وحنين إسكافٌ بالحيرة، ساومه أعرابي بخفين فاختلفا حتى أغضبه الأعرابي، فلما ارتحل ألقى أحد خفيه في طريقه ثم ألقى الآخر في موضع آخر، فلما مر الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا بخف حنين، لو كان معه الآخر أخذته؛ ومضى فلما انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأول، فلما مضى الأعرابي عمد حنين إلى راحلته وما عليها وذهب بها، وأقبل الأعرابي ليس معه غير الخفين، فقال له قومه: ماذا جئن به من سفرك؟ فقال: قد جئتكم بخفي حنين، فصار مثلاً.
ويقال للرجل إذا جاء من حاجته فارغاً: جاء يضرب أصدريه، أي عطفيه، ويقرب من هذا المعنى قول الشاعر: من الطويل
يقولون إن العام أخلف نوؤه ... وما كل عامٍ روضةٌ وغدير
ويقرب من ذلك قولهم: أسمن كلبك يأكلك، ويقال سمن. قال المفضل: كان لرجل من طسم طلب يسقيه اللبن ويطعمه اللحم، وكان يأمل فيه أن يصيد، فضري الكلب على ذلك، فجاع يوماً وفقد اللحم، فجاء ربه فوثب عليه وأكل من لحمه.
ما جاء في العدة بارتحالها فيجدها
من الأمثال في ذك قولهم: إلى أمه يلهف اللهفان.
ولمثله كنت أحسيك الحسى، وأصله الرجل يغذو فرسه بالألبان فيقول ذلك عند الهرب والنجاة. ومثله قول القطامي: من الكامل
وإذا يصيبك والحوادث جمةٌ ... حدثٌ حداك إلى أخيك الأوثق
ويتصل بهذا المعنى من وجه آخر قولهم: كل ضبٍّ عند مرداته، والمرادة الحجر الذي يرمي به، ويقال: إن الضب قليل الهداية فلا يتخذ جحره إلا عند حجر يكون علامةً له، فيه يرميه الطالب له، فهو كالعدة له.
ألزم الأمور بصاحبها من أمثالهم في هذا: ابنك ابن بوحك.
ابنك من دمى عقبيك. ويروى: ولدك. وكان المفضل يخبر بهذا المثل عن امرأة لطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهي امرأة من بلقين، فولدت له عقيل بن الطفيل فتبنته كبشة بنت عروة بن جعفر بن كلاب، فقدم عقيل على أبيه يوماً فضربه، فجاءته كبشة فمنعته وقالت: ابني، فقالت القينية: ابنك من أدمى عقبيك.
ومن أمثالهم من ذلك: منك الحيض فاغسليه.
ومن أمثالهم في تقارب هذا المعنى: الحريص يصيدك لا الجواد.
وقال المساور بن هند: إن الشقي بكل حبل يخنق.
ومثله: إن الشقاء على الأشقين مصبوبٌ.
ومن أمثالهم: شنشنةٌ أعرفها من أخزم.
؟؟؟؟؟؟لا يدعى للجلى إلا أخوها.
رب مملولٍ لا يستطاع فراقه.
رب مخالفة لا يمكن طلاقها.
لا يعجز مسك السوء عن عرف السوء.
ويقرب من هذا المعنى قولهم: أينما أذهب ألق سعداً، قاله الأضبط ابن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، آذته عشيرته من بني سعد، فخرج عنهم فجعل لا يجاور قوماً إلا آذوه، أي أفر من الأذى إلى مثله.
الجاني على نفسه
من أمثالهم في هذا: أتتك بحائن رجلاه.
يداك أوكتا وفوك نفخ، الأول قاله عمرو بن هند وكان آلى ليقتلن من تميم مائة رجل - في خبر طويل - وليحرقنهم، فأحرق تسعة وتسعين وأعوزه الرجل، فإذا براكب يخب وقد رأى القتار فظنه الطعام يصنع، فلما أشرف على عمرو وقال له من أنت؟ قال: من البراجم.

فقال له عمرو: إن الشقي راكب البراجم، فأرسلها مثلاً، ثم أحرقه؛ والمثل الثاني أصله أن رجلاً كان في بعض جزائر العرب، فأراد أن يعبر على زقٍّ قد نفخ فيه فلم يحسن إحكامه حتى إذا توسط البحر خرجت منه الريح فغرق، فلما غشيه الموت استغاث برجل فقال له هذه المقالة.
ومن أمثالهم: لا يضر الشر إلا من جناه.
لا يحزنك دمٌ ضيعه أهله.
على أهلها دلت براقش. الأول قاله جذيمة الأبرش لما قطعت الزباء رواهشه فقال قائل: احفظوا دم الملك لا يقطر منه إلى الأرض شيء فقال جذيمة عند ذلك هذا المثل. وأما براقش فهي كلبة نبحت على جيش مروا ولم يشعروا بالحي الذي فيه الكلبة، فلما سمعوا نباحها علموا أن أهلها هناك، فعطفوا عليهم فاستباحوهم.
ومن أمثالهم مما يقارب هذا: كانت عليهم كراغية البكر وهو بكر ثمود، وخبره سائر.
ويقولان: نزت به البطنة.
ومن أمثالهم : كالنازي بين القرينين، وأصله في الإبل أن يترك الذكر فيأخذ في النزوان حتى يوثق في القران، ويقرب من هذه المعاني قول ابن هرمة: من الوافر
وحسبك تهمةً بريءٍ قوم ... يضم على أخي سقمٍ جناحا
ومن أمثالهم: كمجير أم عامر.
ومنها : ما لاقى يسار الكواعب، وكان من حديثه أن عبداً لبعض العرب ولمولاه بنات فجعل يتعرض لهن ويراودهن عن أنفسهن، فقلن له: يا يسار اشرب ألبان هذه اللقاح ونم في ظلال هذه الخيام، ولا تتعرض لبنات الكرام، فأبى؛ فلما أكثر عليهن واعدنه ليلاً فأتاهن وقد أعددن له موسى، فلما خلا بهن قبض عليه فجببن مذاكيره، فصار مثلاً لكل جانٍ على نفسه متعدٍّ لطوره.
ومن أمثالهم: كالكبش يحمل شفرة وزناداً.
أحسن فوق. وقال نصيب: من الطويل
وإني وإياهم كساعٍ لقاعدٍ ... مقيمٍ وأشقى الناس بالشعر قائله

الإحالة بالذنب على من لم يجنه
من ذلك قول النابغة: من الطويل
وحملتني دنب امرئٍ وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع
والعر داءٌ يأخذ الإبل في مشافرها وقوائمها، تزعم العرب أنهم إذا كووا الصحيح برئ السقيم، والعر بالفتح الجرب.
ومن أمثالهم: كالثور يضرب لما عافت البقر، من شرب الماء ضربوا الثور يزعمون أن الجن تركب الثيران فتصد البقر عن الشرب. قال الحارث بن حلزة: من الخفيف
عنتاً باطلاً وظلماً كما تع ... تر عن حجرة الربيض الظباء
كان الرجل ينذر إذا بلغت إبله أو غنمه مبلغاً ما ذبح عنها كذا، فإذا بلغت ضربها وعمد إلى الظباء يصطادها ويذبحها وفاءً بالنذر. وقال الفرزدق: من الطويل
وشيبني أن لا يزال مرجمٌ ... من القول مأثورٌ خفيفٌ محامله
تقوله غيري لآخر مثله ... ويرمى به رأسي ويترك قائله
وقال نهشل بن حري: من الطويل
تخليت من داء امرئٍ لم يكن له ... شريكاً وألقى رحله في الحبائل
فإن تغرموني داء غيري أحتمل ... ذنوب ذئاب القريتين العواسل
ومن أمثالهم: ما لي ذنب إلا ذنب صحر.
جزاني جزاء سنمار، وخبرهما، قال المفضل: هي صحر بنت لقمان العادي، وكان أبوها لقمان وأخوها لقيم، فخرجا مغيرين فأصابا إبلاً كثيرة، فسبق لقيم إلى منزله، فعمدت أخته صحر إلى جزور منها مما قدم به لقيم فنحرتها وصنعت منها طعاماً يكون معداً لأبيها لقمان إذا جاء تتحفه به، وكان لقمان حسد ابنه لقيماً لتبريزه - كان - عليه، فلما قدم لقمان قدمت صحر إليه الطعام وعلم أنه من غنيمة لقيم لطمها لطمة فقأت عينها، فصارت عقوبتها مثلاً لكل من لا ذنب له يعاقب.
وكان من حديث سنمار أنه كان بناءً وكان مجيداً، وهو من الروم، فبنى الخورنق الذي بظهر الكوفة للنعمان بن امرئ القيس، فلما نظر إليه النعمان كره أن يعمل مثله لغيره فألقاه من أعلى الخورنق فخر ميتاً. وفيه يقول القائل: من الطويل
جزتنا بنو سعدٍ بحسن فعالنا ... جزاء سنمارٍ وما كان ذا ذنب
ومثله: إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً.
الحديد بالحديد يفلح.
النبع يقرع بعضه بعضاً.
رمي فلانٌ بحجره.
ويقولون: ليس هو حقيقةً ولكنه قريب منه.
لئن التقى روعي وروعك لتندمن.
ويقولون: ادفع الشر بمثله إذا أعياك غيره.
وقال الفند الزماني: من الهزج
وفي الشر نجاةٌ حي ... ث لا ينجيك إحسان

دواء الشيء بمثله أو أشد
إن على أختك تطردين، وذلك أن فرساً نفرت فطلبت أختها، يضرب للرجل يلقى مثله في الدهاء والشجاعة أو غير ذلك.
ومثله: إن تك ضباً فإني حسله.
ويقولون: باءت عرار بكحل، وهما ثور وبقرة كانا لسبطين من بني إسرائيل، فقتل أحد السبطين الثور، فكادوا يتفانون بينهم حتى أباءوا به البقرة.
ويقولون: قد بل بعير أعزل أي يمر بين يدي عدة. إن يكن بطريراً فإني صهصلق، كلاهما بمعنى صخوب.
تنافي الحالات
من شواهد الكتاب العزيز في ذلك قوله تعالى: هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون الزمر: 9. وقوله عز وجل: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله وروضوانٍ خيرٌ أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم التوبة: 109. قيل نزلت في شأن مسجد قباء ومسجد الضرار الذي بناه أبو عامرٍ الراهب، أحد المنافقين، بناه ليقطع به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن مسجد قباء. قوله سبحانه: أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون السجدة: 18. قيل نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام وعقبة بن أبي معيط، وكان عقبة فخر على علي عليه السلام فقال له عليٌّ عليه السلام: اسكت إنما أنت فاسق، فنزلت هذه الآية، وشهد ما بعدها لعلي عليه السلام بالجنة ولعقبة بالنار بقوله: أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار السجدة 19، 20. ذكره الزجاج وغيره.
ومن أمثال لاعرب: ماءٌ ولا كصداء، وصداء بئر؛ وأصل هذا المثل أن ابنة هانئ بن قبيصة لما قتل عنها زوجها لقيط بن زرارة تزوجها رجل من أهلها، فكان لا يزال يراها تذكر لقيطاً، فقال لها ذات يوم: ما استحسنت من لقيط؟ فقالت: كل أموره كانت حسنة، ولكني أحدثك أنه خرج مرة إلى الصيد وقد انتشى، فركب ورجع بقميصه نضحٌ من صيده، والمسك يضوع من أعطافه، ورائحة الشراب من فيه، فضمني ضمةً وشمني شمة فياليتني مت ثمة، قال: ففعل زوجها مثل ذلك ثم ضمها إليه وقال: أين أنا من لقيط؟ فقالت: ماء ولا كصداء.
ومثله: رجل ولا كمالك، يعنون مالك بن نويرة.
ومرعى ولا كالسعدان، قالته امرأة من طيء لامرئ القيس، وكان مفركاً، فقال لها: أين أنا من زوجك الأول؟ فقالت: مرعى ولا كالسعدان. وأنشدوا للأسعر بن أبي حمران الجعفي: من المتقارب
أريد دماء بني مازن ... وراق المعلى بياض اللبن
خليلان مختلف بالنا ... أريد العلاء ويبغي الثمن
يريد المعلى فرسه، وكانت بنو مازن قتلت أباه وكانت خالته ناكحاً في بني مازن؛ فكان الأسعر إذا وجد غفلة أغار على بني مازن فقتل فيهم؛ فقالت لهم خالته: بولوا الودق على حافة الطريق وضعوا لبناً فلعل الفرس إذا وجد ريح ذلك احتبس فأصبتموه؛ ففعلوا ذلك وأغار عليهم وانصرف كعادته يحمي أصحابه حتى إذا أراد أن تسرح الفرس طفق الفرس إلى ريح اللبن والأبوال، وكثروه حتى اكتنفوه، فلما رأى ذلك قال: واثكل أماه وخالتاه فلما سمعت ذلك خالته قالت: لا أراني إلا إحدى الثاكلتين، فنادت به أن اضرب فيه، ففعل فانسرح الفرس وذهب، وإنما أمرتهم بذلك لأن الفرس كان غذاؤه اللبن. وقال الأعشى وبيته هذا مثل سائر: من السريع
شتان ما يومي على كورها ... ويوم حيان أخي جابر
ومن أمثال العرب: أنت تئقٌ وأنا مئق فكيف نتفق ؟ ويروى: فمتى نتفق. التئق السريع إلى الشر، والمئق السريع البكاء. ويقال الممتلئ من الغضب.
ومن أمثالهم: ما يجمع بين الأروى وبين النعام، يقولون: تلك في رؤوس الجبال وهذه في السهولة.
ومنها: لا يجتمع السيفان في غمد. ومنه قول أبي ذؤيب: من الطويل
تريدين كيما تجمعيني وخالداً ... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد
ولهذا الشعر خبر قد ذكر في موضعه.
ومنها: ما يلقى الشجي من الخلي.
ويقولون: هان على الأملس ما لاقى الدبر.

ومن أمثالهم: حن قدحٌ ليس منها، وأصله أن رجلاً مدح قوماً وأطراهم وليس منهم. ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بالسيف صبراً قال: أقتل من بين قريش صبراً؟ فقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: حن قدحٌ ليس منها، أي أنك لست من قريش، وكان عمر قائفاً. ويروى أن أبا عمرو بن أمية كان عبداً في صفورية وكان أمية قد عمي فكان يقوده، فغناه بيت جرير يقوله لعدي بن الرقاع: من البسيط
وابن اللبون إذا ما لز في قرنٍ ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
وقال عدي بن الرقاع: من الكامل
والقوم أشباهٌ وبين حلومهم ... بونٌ كذاك تفاضل الأشياء
كالبرق منه وابلٌ متتابعٌ ... جودٌ وآخر ما يجود بماء
والمرء يورث مجده أبناءه ... ويموت آخر وهو في الأحياء
ويقولون في تنافي الحال بين الشبيبة والهرم: كنت وما أخشى بالذئب؛ ويقال: كنت وما أخشى من الذئب.
كنت وما يقاد بي البعير، والمثل لسعد بن زيد مناة بن تميم.
ومن أمثالهم: أريها السهى وتريني القمر.
تفرق من صوت الغراب وتفرس الأسد المشتم.
بئس العوض من جملٍ قيده.
رأسٌ في السماء واستٌ في الماء.
أضرطاً وأنت الأعلى.
ويقولون: سلكى ومخلوجة، يريدون الاختلاف. ويقولون إنما السلكى المستقيمة والمخلوجة المعوجة.
ويقولون: لا تجعل قدك إلى أديمك. القد مسك السخلة، وجمعه قداد، والأديم الجلد العظيم.
ومن أمثالهم: مرةً جيشٌ ومرةً عيشٌ.
اليوم خمرٌ وغداً أمر، قاله امرؤ القيس لما ورد عليه خبر قتل أبيه، وكان يشرب فذهبت مثلاً.
ومن أمثالهم: شخبٌ في الإناء وشخبٌ في الأرض، وقد يضرب مثلاً للرجل يخطئ ويصيب.
ومثله: يشج مرة ويأسو أخرى.
ومثله: أطرقي وميشي، وأصله خلط الصوف بالشعر، وقد يضرب للرجل يخلط كلامه بين صواب وخطأ.
ومما يناسب هذا المعنى المثل السائر: شب عمروٌ عن الطوق، معناه كبر عن سن الصغير الذي يلبس الطوق.
وكذلك قولهم: جلت الهاجن عن الولد، قال أبو عبيد: الهاجن هي الصغيرة، ومنه يقال: اهتجنت الجارية إذا افترعت قبل الأوان، وإنما أرادوا صغرت. قال: وأنا أحسب هذا من الأضداد لأنهم يقولون للعظيم جلل. ويقال أيضاً في الحقير جلل؛ قال امرؤ القيس: من المتقارب
لقتل بني أسدٍ ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل
وقال لبيد في العظيم: من الرمل
ومن الأرزاء رزءٌ ذو جلل
ومما يليق بهذا المعنى قول الشاعر: من الوافر
ألم تر أن سير الخير ريثٌ ... وأن الشر سائره يطير
وقال آخر: من الطويل
إذا ما بريد الشام أقبل نحونا ... ببعض الدواهي المفظعات فأسرعا
فإن كان شراً سار يوماً وليلة ... وإن كان خيراً أبطأ السير أربعا
وتمثل بهذا البيت الثاني معاوية لما بلغه وفاة الحسن بن علي عليهما السلام. وقال أبو ذؤيب: من المتقارب
فيا بعد داري من دراكم ... كبعد سهيلٍ من الفرقد
وقال المؤمل: من الكامل
والقوم كالعيدان يفضل بعضهم ... بعضاً كذاك يفوق عودٌ عودا
ومن أمثالهم: إن كنت ذواقاً فإني نشبة، يقول: إن كنت لا وفاء لك، فإني دائم العهد، والنشبة الذي إذا عبث بالشيء لم يفارقه.
ومنها: جل الرفد عن الهاجن. الرفد: العس، والهاجن البكرة تنتج قبل أن يخرج لها سن.

الرضا بالميسور إذا تعذر المنشود
من أمثالهم في هذا النحو: إذا عز أخوك فهن، قاله الهذيل بن هبيرة الثعلبي، وكان أغار على بني ضبة فغنم وأقبل بالغنائم، فقال أصحابه: اقسمها بيننا، قال: إني أخاف إن تشاغلتم بالاقتسام أن يدرككم الطلب، فلما لم يقبلوا قال المثل حينئذ، ثم نزل فقسم بينهم الغنائم.
ويقارب ذلك قولهم: إن لم يغلب فاخلب.
سوء الاستمساك خيرٌ من حسن الصرعة.
ويناسبه: كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع. وأصله الرجل يمشي في الوقع - وهي الحجارة - حافياً فيصيبه الوجى.
ومنه: ولكن من يمشي سيرضى بما ركب.
ومثله: ركب الصعب من لا ذلول له.
ومنه: رضي من الوفاء باللفاء، واللفاء دون حق الرجل.
ومنه: إن تسلم الجلة فالسخل هدر.
ويقولون: ارض من المركب بالتعليق.
ويقولون: الثيب عجالة الراكب.

ويقولون: من حقر حرم، يحضون على المعروف ولا يحقر قليله. وقال الشاعر: من البسيط
وكل ما سد فقراً فهو محمود
من الرجز
يكفيك ما بلغك المحلا
وقال امرؤ القيس بن حجر: من الوافر
إذا ما لم تجد إبلاً فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي
إذا ما قام حالبها أرنت ... كأن القوم صبحهم نعي
فتملأ بيتنا أقطاً وسمنا ... وحسبك من غنىً شبعٌ وري
قاله امرؤ القيس بن حجر، وقد نزل على المعلى بن تيم الطائي حين طردته العرب، واتخذ هناك إبلاً فغدا قومٌ من جديلة يقال لهم بنو زيد فطردوا الإبل، وكانت لامرئ القيس رواحل مقيدة خوفاً من أن يدهمهم أمرٌ ليسبق عليهن، فخرج نفرٌ منهم فركبوا الرواحل ليطلبوا الإبل، فأخذتهم جديلة، فرجعوا إليه بلا شيء، فذلك قوله: من الطويل
فدع عنك نهباً صيح في حجراته ... ولكن حديثٌ ما حديث الرواحل
ففرقت عليه بنو نبهان فرقاً من معزى يحتلبها. ومن ذلك قول عمرو بن معدي كرب: من الوافر
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وريحانة أخته سباها الصمة الجشمي أبو دريد، فلم يقدر عمرو على استنقاذها، ثم تزوجها الصمة فأولدها دريداً وعبد الله وقيساً وخالداً وعبد يغوث.
ومنه قولهم: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
قال زياد بن منقذ: من الطويل
إذا سد بابٌ عنك من دون حاجةٍ ... فدعه لأخرى بنفتح لك بابها
وقال يحيى بن زياد: من الكامل
وإذا توعر بعض ما تسعى له ... فاركب من الأمر الذي هو أسهل
وقال أيضاً: من الوافر
إذا كدرت عليك أمور وردٍ ... فجزه إلى موارد صافيات
ويقولون: إن الرشف أنقع.
وقبح الله معزى خيرها خطة.
ويقولون: كل فضلٍ من أبي كعبٍ درك، لمن يطلب المعروف من بخيل فينيل يسيراً فيرضى به.

الأمر المضاع المهمل
من أمثالهم في ذلك: صفقةٌ لم يشهدها حاطب، أصله أن بعض أهل حاطب باع بيعةً غبن فيها، فقيل ذلك.
ويقارب ذلك قولهم: يخبط خبط عشواء.
ومن أمثالهم: لا أبوك نشر ولا التراب نفد.
ومنها: لا ماءك أبقيت ولا إناءك أنقيت. قال الأحمر في المثل الأول: أصل هذا أن رجلاً قال: لو علمت أين قتل أبي لأخذت من تراب موضعه فجعلته على رأسي، فقيل له ذلك، أي لا تدرك بهذا آثار أبيك ولا ينفد التراب. وأما المثل الثاني فأصله أن رجلاً كان في السفر ومعه امرأته، وكانت عاركاً، فحضرها طهرها وعها ماءٌ يسير فاغتسلت به، فلم يكفها لغسلها وقد أنفدت الماء، فبقيت هي وزوجها عطشانين.
ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: النساء لحمٌ على وضمٍ إلا ما ذب عنه.
وقول كعب بن زهير: أوسعتهم سباً وراحوا بالإبل، وكانت بنو أسد أغارت على إبلهم فهجاهم.
ويقرب من هذه المعاني قولهم: إن الموصين بنو سهوان، يراد أنهم يغفلون ويسهون عما يوصون به.
ويقرب منه قولهم: كف مطلقةٍ تفت اليرمع، كأنها تفعل فعلاً لا يفيدها .
ويقولون: بعد خيرتها يحتفظ أي راعي الغنم، يضرب في الحذر بعد الإضاعة.
كثرت الحلبة وقل الرعاء، يضرب في ضياع الأمر مع كثرة الولاة.
ارتفاع الخامل
إن البغاث بأرضنا يستنسر، وقد يريدون بذلك وصف بلادهموأن الضعيف بها الجبان يصير شجاعاً.
ومن أمثالهم في هذا المعنى: كان كراعاً فصار ذراعاً، وهذا يروى عن أبي موسى الأشعري.
ومنها: لكن بشعفين أنت جدود، وأصله أن امرأة أخصبت بعد هزل فذكرت درة لبنها ففرحت بها فقيل لها: لكن بشعفين أنت جدود، لم تكوني كذلك، وهو اسم موضع كانت تنزله.
ومن أمثالهم: استنت الفصال حتى القرعى.
ويقولون: الذئب يكنى أبا جعدة، وربما يريدون به إكرام من لا يراد إكرامه.

ويقرب من هذا في طلب الزيادة ممن ليس لها بأهل: أعطي العبد كراعاً فطلب ذراعاً، وأصله أن جارية يقال لها أم عمرو، وكانت لمالك وعقيل ندماني جذيمة، فجلس إليهما رجل طويل الشعر والأظافير هو عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة فناولاه شيئاً من الطعام فطلب أكثر منه، فعندها قالت أم عمرو: أعطي العبد ذراعاً. ثم صاروا إلى الشراب فجعلت أم عمرو تسقي صاحبيها وتدع عمراً، ففيها يقول عمرو بن كلثوم: من الوافر
صددت الكأس عنا أم عمروٍ ... وكان الكأس مجراها اليمينا
فذهب كلامه وكلامها مثلين، وكان هذا كله قبل أن يعرفوه، فلما انتسب إلى مالك وعقيل فرحا وقدما به على خاله جذيمة، فكان من أمره وأمرهما ما ذكرت في موضعه.
وما أحسن ما قال البحتري في هذا المعنى: من الطويل
متى أرت الدنيا نباهة خاملٍ ... فلا تنظر إلا خمول نبيه

خمول النبيه
مما يقارب ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في استعاذته: اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور، أي من النقصان بعد الزيادة.
ومن أمثال العرب: غلبت جلتها حواشيها، الجلة مسان الإبل وحواشيها صغارها ورذالها.
ويقولون: كان حماراً فاستأتن.
ويقولون في قريب منه: أودى العير إلا ضرطاً.
ومن أمثالهم: استنوق الجمل، وهذا المثل لطرفة بن العبد، وكان عند بعض الملوك وشاعرٌ ينشده شعراً، فوصف جملاً ثم حوله إلى نعت ناقة، فقال ذلك عندها، وقد يضرب هذا المثل في التخليط.
ومن أمثالهم: الحمى أضرعتني لك.
ويقولون: لم يبق منه إلا قدر ظمء حمار، يقال: إن الحمار أقل الدواب ظمئاً.
ويقولون: كان جواداً فخصي.
ما جاء في الشر وراءه الخير
من ذلك قوله تعالى: فإن مع العسر يسراً الشرح: 5. وقوله سبحانه: عسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً النساء: 19. وعسى أن يكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم البقرة: 216.
وقيل لبعض الصالحين وقد أجهد نفسه في العبادة: أتعبت نفسك قال: راحتها طلبت.
وقال يزيد بن محمد المهلبي: من الرجز
رب زمانٍ ذله أرفق بك ... لا عار إن ضامك دهرٌ أو ملك
وقال آخر: من الطويل
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولا يكرم النفس الذي لا يهينها
ومن أمثال العرب: لا يضر الحوار ما وطئته أمه.
ومن أمثالهم: لم يذهب من مالك ما وعظك، يقول: إذا ذهب من مالك شيء فحذرك أن يحل بك مثله، فتأدييه إياك عوضٌ من ذهابه.
ومن أمثالهم: الغمرات ثم ينجلين.
عند الصباح يحمد القوم السرى، المثلان للأغلب العجلي.
ومنها: تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه، قاله النعمان بن المنذر للصقعب بن عمرو النهدي. هذا قول ابن الكلبي، وزعم أن قضاعة ابن معد، ونهد بطنٌ من قضاعة؛ وأما المفضل فقال: إن المثل للمنذر بن ماء السماء قاله لشقة بن ضمرة النهشلي، فقال له شقة: أبيت اللعن إن الرجال ليسوا بجزر يراد منهم الأجسام، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، ذهبت مثلاً، وأعجب المنذر ما رأى من بيانه وعقله، فسماه باسم أبيه وقال: أنت ضمرة بن ضمرة.
ما جاء في ضد ذلك
من شواهد الكتاب العزيز في هذا المعنى قوله تعالى: فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ الأحقاف: 24. وقوله تعالى: وإن أدري لعله فتنةٌ لكم ومتاعٌ إلى حينٍ الأنبياء: 111.
ومن أمثال العرب: رب صلفٍ تحت الراعدة، والصلف قلة الخير، والراعدة السحابة ذات الرعد. وقال أعرابي: رب مونق موبق. ومثله لشاعر ينهى عن تزوج الحسناوات: من البسيط
ولن تمر بمرعىً مونقٍ أبداً ... إلا وجدت به آثار مأكول
وقد تقدم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: إياكم وخضراء الدمن.
وقال رجل من عبد القيس: من الرمل
جامل الناس إذا ما جئتهم ... إنما الناس كأمثال الشجر
منهم المذموم في منظره ... وهو صلبٌ عوده حلو الثمر
وترى منه أثيثاً نبته ... طعمه مرٌّ وفي العود خور
وقال آخر: من البسيط
ألح جوداً ولم تضرر سحائبه ... وربما ضره في الحاجة المطر
وقال أبو نواس: من البسيط
بل استترت بإظهار البشاشة لي ... بالبشر مثل استتار النار بالعود

ومن أمثالهم: يا حبذا الميراث لولا الذلة، قاله نعامة حين قتل إخوته.
نعم كلبٍ في بؤس أهله، يقول: إذا وقع الموت في مواشي القوم نعم كلبهم.
ومثله: سمن كلب ببؤس أهله. وقال زهير: من الكامل المرفل
والستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر
ويقارب هذه المعاني قولهم: رب عجلة تهب ريثاً.
من سره بنوه ساءته نفسه، هذا المثل لضرار بن عدي الضبي، وكان طعنه عامر بن مالك فأرداه عن فرسه، فأشبل عليه بنوه حتى استشالوه. ودخل ضرار على المنذر فقال له: ما الذي نجاك يومئذ؟ قال: تأخير الأجل وإكراهي نفسي على المق الطوال.
ومن أمثالهم: رب أمنيةٍ قادت إلى منية.
ويقولون: شر يوميها وأغواه لها، أصله أن امرأة من طسم يقال لها عنز سبيت فحملوها في هودج وألطفوها بالقول والفعل فقالت هذه المقالة. ولها يقول الشاعر: من الرمل
شر يوميها وأغواه لها ... ركبت عنزٌ بحدجٍ جملا
ويقولون: تجنب روضةً وأحال يعدو، أي ترك الخصب واختار الشقاء.
ويقولون: تبرد هذا الضب فذنب، أي أخرج ذنبه فحان، أراد أن يقع في الخير فوقع في الشر.

الخطأ والاختلاط
إن أخا الظلماء أعشى بالليل، يضرب لمن يخطئ حجته ولا يبصر المخرج منها.
ومن أمثالهم: أساء رعياً فسقى، وأصله أن يسيء الراعي رعي الإبل نهاره، حتى إذا أراد أن يريحها إلى أهلها كره أن يظهر سوء أثره فيسقيها الماء فتمتلئ أجوافها.
ويقولون في الاختلاط: اختلط الحابل بالنابل.
ويقولون: اختلفت رؤوسها فرتعت، يضرب مثلاً في الاختلاط واختلاف الكلمة.
الجميل يكدر بالمن
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً، لا يقدرون على شيءٍ مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين. البقرة: 264.
ومن أمثال العرب: شوى أخوك حتى إذا أنضج رمد، وينسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال الحطيئة: من الطويل
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
ومن أمثالهم: ما ضفا ولا صفا عطاؤك، كدره ما قال أحباؤك، أي يمنون علي والمنة تكدر المعروف.
ما جاء في اغتنام الفرصة
من أمثالهم في ذلك: خذ من جذعٍ ما أعطاك. قال المفضل: كان من حديثه أن غسان كانت تؤدي إلى ملوك سليح دينارين كل سنة عن كل رجل، فكان الذي يلي ذلك سبطة بن المنذر السليحي. فجاء سبطة بن المنذر إلى جذع بن عمرو الغساني يسأله الدينارين، فقال: أعجل لك أحدهما وأخر علي الآخر حتى أوسر، فقال سبطة: ما كنت لأؤخر عليك شيئاً، فدخل جذع إلى منزله ثم خرج مشتملاً على سيفه، فضرب سبطة حتى سكت ثم قال: خذ من جذعٍ ما أعطاك. فذهب مثلاً، وامتنعت غسان من الدينارين بعد ذلك.
ومنه قولهم: أسر وقمرٌ بدرٌ.
ويقاربه قولهم: إذا أصبت إبلاً فاذهب بها وأبعدن مراحها من ريها، يقال هذا للرجل بين القوم فيؤمر أن ينأى عنهم كيلا يصيبوه بمثل ما أصابهم.
ومن أمثالهم في اللقاء يقولون في اللقاء عن قرب: لقيته أدنى ظلم.
ولقيته أول عين، أي أول شيء.
ولقيته أول ذات يدين.
ولقيته شد النهار ومده، ومده ارتفاعه.
ولقيته سراة اليوم، أي أوله.
ولقيته أديم الضحى، أي أوسطه وأوله ولقيته التقاطاً. قال الشاعر: من الرجز ومنهلٍ وردته التقاطاً ويقال في المواجهة: لقيته كفاحاً.
ولقيته صراحاً.
ولقيته كفةً.
وإذا لقيته في اليومين أو الثلاثة قلت: لقيته في الفرط. قال الأحمر: ولا يكون الفرط في أكثر من خمس عشرة ليلة.
فإن لقيته بعد شهر أو نحوه قلت: لقيته عن عفر.
فإن لقيته بعد الحول قلت: لقيته عن هجرٍ.
ويقولون: لقيته بين سمع الأرض وبصرها، إذا كان يأتيه ثم يمسك ثم يأتيه، والاعتمار الزيارة متى كانت، قال أعشى باهلة: من البسيط
وراكبٍ جاء من تثليث معتمرا
وقال أبو عبيدة: هو المعتم بالعمامة، وكل شيء جعلته على رأسك من عمامة أو قلنسوة أو تاجٍ أو إكليل فهو عمار.
تعذر الأمر وما يعرض دونه
من أمثالهم في ذلك: من لي بالسانح بعد البارح؛ وأصله أن رجلاً مرت به ظباء بارحة فكره ذلك، فقيل إنها ستمر بك سانحة، فعندها قال ذلك.

ومنها: لا تك كالمختنقة على آخر مدها، وذلك أنها طحنت طحينها فلما بقي مدٌّ انكسر قطب الرحى.
ومن أمثالهم: حيل بين العير والنزوان. قال الشاعر: من الطويل
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
ويقولون: قد علقت دلوك دلواً أخرى، يريدون أنها تعلق بها فتمنعها من الصعود، وقد يقال ذلك في الاشتراك. قال الشاعر: من الطويل
وفي نظر الصادي إلى الماء حسرةٌ ... إذا كان ممنوعاً سبيل الموارد
ومن أمثالهم: حال الجريض دون القريض، والمثل لعبيد بن الأبرص في قصته مع النعمان.
ومنها: سد ابن بيض الطريق. أصله أن رجلاً في الزمن الأول يقال له ابن بيض عقر ناقةً على ثنيةٍ فسد بها الطريق، فمنع الناس من سلوكها. وقال المفضل: كان ابن بيض رجلاً من عاد وكان تاجراً مكثراً، وكان لقمان بن عاد يحفره في تجارته، ويجيره على خرجٍ يعطيه ابن بيض يضعه له على ثنية إلى أن يأتي لقمان فيأخذه، فإذا أبصره لقمان قد فعل ذلك قال: قد سد ابن بيض السبيل. يقول: إنه لم يجعل لي سبيلاً على أهله وماله حتى وفى لي بالجعل الذي سماه.
ويقرب منذ لك قولهم: من لك بذناب لو؛ أي من لك بأن يكون لو حقاً.

ما جاء في طلب الحاجة وما يليق بذلك
ومن أمثالهم: أتبع الفرس لجامها، يضرب للحاجة يطلب تمامها. المثل لعمرو بن ثعلبة الكلبي أخي عدي بن جناب، وكان ضرار بن عمرو الضبي قد أغار عليهم فسبى يومئذ سلمى بنت وائل الصائغ، وكانت يومئذ أمةً لعمرو بن ثعلبة وكان له صديقاً، فقال له: أنشدك بالإخاء والمودة إلا رددت علي أهلي، فجعل يرد شيئاً بعد شيء حتى بقيت سلمى، وكانت قد أعجبت ضراراً فأبى أن يردها، فقال عمرو: يا ضرار أتبع الفرس لجامها، فأرسلها مثلاً. وردها عليه ضرار.
ومن أمثالهم: تمام الربيع الصيف، وأصله في المطر، فأوله الربيع والصيف الذي يليه.
ومنها: السراح مع النجاح.
ومنها: ألق دلوك في الدلاء. قال الشاعر: من الوافر
وليس الرزق عن طلبٍ حثيثٍ ... ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجيء مليئةً طوراً وطوراً ... تجيء بحمأةٍ وقليل ماء
ويقولون: لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقاً، يضربونه مثلاً لمن يسأل حاجةً بعد حاجة قضيت له.
ومن أمثالهم في الطلب من أجدب انتجع.
إن جانب أعياك فالحق بجانب.
ومثله: وفي الأرض للحر الكريم منادح. والندحة السعة.
ويقولون: النفس تعرف من أخوها النافع.
ومن كلامهم: أدرها وإن أبت.
سبق سيله مطره.
ويقولون إذا اهتم بها: جعلها نصب عينيه.
وفي ضده: جعلها بظهره.
ما جاء في التعجيل وفوت الأمر
من أمثالهم في هذا: انقطع السلا في البطن، أي فات الأمر.
ويقولون للساهي يفوته الأمر: يذهب يوم الغيم ولا تشعر به. قال البعيث: من الطويل
ولا تبكين في إثر شيءٍ ندامةً ... إذا نزعته من يديك النوازع
ومن أمثالهم: لا أدري أي الجراد عاره، للأمر يفوت، أي أي الناس آخذه.
ويقولون: ضح رويداً، أي لا تعجل.
وزمن أمثالهم: سبق السيف العذل، كان المفضل يحدث بهذا المثل عن ضبة بن أد، وبدء ذلك أنه كان له ابنان سعد وسعيدٌ، فخرجا في طلب إبل لهما، فرجع سعد ولم يرجع سعيد، وكان ضبة كلما رأى شخصاً مقبلاً قال: أسعدٌ أم سعيد؟ فذهبت هذه كلمته مثلاً. قال: ثم إن ضبة بينما هو يسير ومعه الحارث ابن كعب في الشهر الحرام إذ أتيا على مكان فقال الحارث لضبة: أترى هذا الموضع فإني لقيت به فتى من هيئته كذا وكذا فقتلته وأخذت منه هذا السيف، وإذا هو صفة سعيد؛ فقال له ضبة: أرني السيف أنظر إليه، فناوله فعرفه ضبة، فقال عندها: إن الحديث ذو شجون.
فذهب كلمته هذه الثانية مثلاً، ثم ضرب به الحارث حتى قتله، قال: فلامه الناس في ذلك وقالوا: أتقتل في الشهر الحرام؟ فقال سبق السيف العذل. فذهبت هذه الثالثة مثلاً.
ومن أمثالهم في ترك التعجيل: الليل طويلٌ وأنت مقمرٌ، قاله السليك لما هجم عليه الرجل وجلس على صدره وقال استأسر، يريد بالكلمة لا تعجل حتى تصبح.
الحذر قبل إرسال السهم، أي لا تفعل ما تخاف أن يفوت.
ويقولون: لا يملك حائنٌ دمه.
لا عتاب على الجندل، أي قد وقع الأمر الذي لا مرد له.
ومن أمثالهم في الفوت: هلك القيد وأودى المفتاح.

ومن الفوت قولهم: الصيف ضيعت اللبن، المثل لعمرو بن عمرو بن عدس، وكانت عنده دختنوس ابنة لقيط بن زرارة، وكان ذا مال كثير إلا أنه كان كبير السن، ففركته فلم تزل تسأله الطلاق حتى فعل، فتزوجها بعده عمرو بن معبد بن زرارة ابن عمها، وكان شاباً إلا أنه معدم، فمرت إبل عمرو ابن عمرو ذات يوم بدختنوس فقالت لخادمتها: انطلقي فقولي له يسقينا من اللبن، فقال لها هذه المقالة، فذهبت مثلاً؛ قال: ولعله كان طلقها بالصيف.

ما جاء في سوء المكافأة وظلم المجازاة
من أمثالهم في هذا المعنى: من استرعى الذئب ظلم.
وقال أكثم بن الصيفي: ليس من العدل سرعة العذل.
ومن كلامهم: رب لائمٍ مليم.
ومن أمثالهم: الحرب غشوم، أي يقتل فيها من لم يكن له فيها جناية ولا ذنب.
ويقولون: الظلم مرتعه وخيم. قال الشاعر: من الكامل المجزوء
البغي يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم
ومن أمثالهم: أحشك وتروثيني، يخاطب فرساً له، يقول: أعلفك الحشيش وأنت تروثين علي.
ومن أمثالهم: شر الرعاء الحطمة. وقال الشاعر: من الوافر
أعلمه الرماية كل يومٍ ... فلما اشتد ساعده رماني
ومن أمثالهم: لو ذات سوارٍ لطمتني.
لا تبل في قليبٍ شربت منه، أي لا تذمن من أسدى إليك معروفاً.
ما جاء في الظن
قال الله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم الحجرات: 12.
ومن أمثالهم: الشفيق بسوء الظن مولعٌ.
وقال أكثم بن صيفي: من أحسن الظن أراح نفس.
وقالوا: من يسمع يخل.
وقال الطرماح: من الطويل
متى ما يسؤ ظن امرئٍ بصديقه ... وللظن أسبابٌ عراض المسارح
يصدق أموراً لم يجئه يقينها ... عليه ويعشق سمعه كل كاشح
وقال ابن مقبل: من المتقارب
سأترك للظن ما بعده ... ومن يك ذا ريبةٍ يستبن
ولا تتبع الظن إن الظنون ... تريك من الأمر ما لم يكن
وقال يحيى بن زياد: من البسيط
وسوء ظنك بالأدنين داعيةٌ ... لأن يخونك من قد كان مؤتمنا
وقال أيضاً: من الطويل
إذا أنت خونت الأمين بظنةٍ ... فتحت له باباً إلى الخون مغلقا
فإياك إياك الظنون فإنها ... وأكثرها كالآل لما ترقرقا
وقال آخر: من الطويل
إذا أنت لم تبرح تظن وتقتضي ... على الظن أردتك الظنون الكواذب
ويقرب من البناء على الظن قولهم: من يرقد يحلم.
ما جاء في التبري من الأمر
من أمثالهم في هذا: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، قاله الحارث عباد في قتل جساس كليباً.
ويقولون: ما لي بهذا الأمر يدان.
ويقولون: هذا أحق منزل بترك.
ويقاربه: لا يطاع لقصيرٍ أمرٌ، قاله قصير بن سعد صاحب الزباء حين أشار على جذيمة فصدف عن رأيه.
ويقولون: خل سبيل من هى سقاؤه، أي خل سبيل من لا يريد صحبتك.
ومثله: إنما يضن بالضنين. قال لبيد: من الكامل
فاقطع لبانة من تعرض وصله ... ولخير واصل خلةٍ صرامها
ومن أمثالهم: لا قرار على زأرٍ من الأسد.
ويقولون: خل امرءاً وما اختار، وإن أبى إلا النار.
ويقولون: ألق حبله على غاربه، وأصله الناقة إذا أرسلت ترعى ألقي حبلها على غاربها؛ ولا يترك ساقطاً فيمنعها من الرعي.
ما جاء في الاستهانة وقلة الاحتفال
يقولون: على غريبتها تحدى الإبل، يريدون به تهاون الإنسان بمال غيره.
والمثل السائر: أحق الخيل بالركض المعار.
ومن أمثالهم: عثيثة تقرض جلداً أملساً، قاله الأحنف لحارثة بن بدر الغداني وعابه عند زياد، وذلك أنه طلب إلى علي عليه السلام أن يدخله في الحكومة، فلما بلغه عيب حارثة إياه قال الأحنف ذلك. وهو مثل يضرب عند احتقار الرجل واحتقار كلامه.
ويقولون: من باع بعرضه فقد أنفق، أي من أهان عرضه للشتم وجده حاضراً.
ومن أمثالهم: احمل العبد على الفرس فإن هلك هلك وإن ملك ملك.
ترى من لا حريم له يهون.
ومما يشبه ذلك ويضرب في من يفعل أمراً عظيماً ولا يحتفل به ويظن أنه لم يصنع شيئاً، ما حكاه يونس عن العرب: أن غلاماً أخذ بعيراً فشق نصفه ثم أخرج مصيره وجعل يطويه فمر به قوم فقالوا: مه يا غلام؟ فقال: إني لا أضيره وإنما أطوي مصيره.

ومن أمثالهم: أهون هالكٍ عجوزٌ في عام سنة.
ويقال: خله درج الضب، أي يذهب حيث يشاء.
ويقولون: أجع كلبك يتبعك.
وقال البريق الهذلي: من الطويل
وكنت إذا الأيام أحدثن هالكاً ... أقول شوىً ما لم تصب بصميم
تصب من صاب أي قصد.
وقال الفرزدق في الاستهانة: من الكامل
ما ضر تغلب وائلٍ أهجوتها ... أو بلت حيث تناطح البحران
وقال آخر: من الرمل
ما يضر البحر أضحى زاخراً ... أن رمى فيه غلامٌ بحجر
وقال آخر: من الطويل
ورب أمورٍ لا تضيرك ضيرةً ... وللقلب من مخشاتهن وجيب
وقال آخر: من الطويل
أنا النار في أحجارها مستكنةً ... فإن كنت ممن يقدح النار فاقدح
أنا الليث وابن الليث في حومة الوغى ... فإن كنت ممن ينبح الليث فانبح
وقال ابن الرومي: من البسيط
لينبح الكلب ضوء البدر ما نبحا
وقال الأخطل: من الطويل
عتبتم علينا آل غيلان كلكم ... وأي عدوٍّ لم نبته على عتب
وقال آخر: من الطويل
أهينوا مطاياكم فإني رأيته ... يهون على البرذون موت الفتى الندب
وقال آخر: من البسيط
لا يجفل البرد من يبلي حواشيه ... ولا يبالي على من راحت الإبل
وقال آخر: من الطويل
ألا لا يبالي البرد من جر فضله ... كما لا تبالي مهرةٌ من يقودها

المشاركة في الرخاء والخذلان في الشدة
من أمثالهم في ذلك: يربض حجرةً ويرتعي وسطاً.
ومثله: من الوافر
موالينا إذا افتقروا إلينا ... وإن أثروا فليس لنا موالي
وقريبٌ منه: من البسيط
لا أعرفنك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي
ويقولون: من فاز بفلان فاز بالسهم الأخيب، لمن يخذل في وقت الحاجة، وقاله علي عليه السلام فيما كان يستبطئ به أصحابه.
ما جاء في الرخاء والسعة
يقولون في ذلك: هم في شيء لا يطير غرابه. ومن شعر النابغة: ليس غرابها بمطار. وأصله أن الغراب إذا وقع في موضعه منه لم يحتج أن يتحول إلى غيره. وقد يضرب هذا المثل في الشدة أيضاً.
ويقرب منه قوله: وجد ثمرة الغراب، إنما ينتقي من الثمر أطيبه وأجوده.
ويقولون: هم في مثل حدقة البعير، يريدون الخصب والعشب.
جاء بالضح والريح. الضح الشمس.
وجاء بالطم والرم، يريدون الكثرة.
ومن أمثالهم: إن أضاخا منهلٌ مورود.
ومنها: يوم توافى شأوه وأنعمه، لمن يملك أمره ويكثر جمعه.
ومنها: تتابعي بقر، خبر ذلك أن بشر بن أبي خازم خرج سنةً أسنت فيها قومه فمر بصوارٍ من البقر وإجلٍ من الأروى فذعرت منه فركبت جبلاً وعراً ليس له منفذ، فلما نظر إليها قام على شعبٍ من الجبل وأخرج قوسه وجعل يشير إليها كأنه يرميها، فتلقي أنفسها فتكسر، وجعل يقول: من الرجز
أنت الذي تصنع ما لم يصنع ... أنت حططت من ذرا مقنع
كل شبوبٍ لهقٍ مقنع
ويقول: تتابعي بقر، فخرج إلى قومه فدعاهم إليها فأصابوا من اللحم ما شاءوا وانعشوا.
ومن أمثالهم في السعة لمن يفسد في المال ويضيعه: ليس عليك نسجه فاسحب وجر.
وقعت في مرتعة فعيثي.
عبدٌ وحليٌ في يديه.
عبد ملك عبداً.
ارعي فزارة لا هناك المرتع.
عيثي جعار
خلا لك الجو فبيضي واصفري. وتمثل بذلك عبد الله بن العباس لما خلت مكة لعبد الله بن الزبير وسار الحسين بن علي عليهما السلام إلى العراق.
ومن أمثالهم في نحو ذلك: كل ذات ذيلٍ تختال.
من يطل ذيله ينتطق به.
المعجب بخاصة نفسه
من أمثالهم في ذلك: كل مجرٍ بالخلاء يسر.
زين في عين والد ولده.
كل فتاةٍ بأبيها معجبة، يروى هذا المثل للأغلب العجلي في شعر له، وقيل هو للعجفاء بنت علقمة، وقيل هو لكاهنة منهم تنافر إليها نسوانٌ كل واحدةٍ منهن تذكر مجد أبيها وتفخر به. وأنشد الرياشي: من المنسرح
زينه الله بالفخار كما ... زين في عين والدٍ ولده
وقال أبو تمام: من الكامل
ويسيء بالإحسان ظناً لا كمن ... هو ابانه وبشعره مفتون
الساعي لنفسه وفي خلاصه
من أمثالهم في هذا: سمنكم هريق في أديمكم؛ لمن ينفق على نفسه ويمنع الناس.
كل امرئ قي شأنه ساع.

كل جانٍ يده إلى فيه. أصل المثل أن جذيمة الأبرش نزل منزلاً وأمر الناس أن يجنوا الكمأة، فكان بعضهم إذا وجد شيئاً يعجبه آثر به نفسه، وكان عمرو ابن عدي يأتيه بخير ما يجده فعندها قال عمرو بن عدي: من الرجز
هذا جناي وخياره فيه ... وكل جانٍ يده إلى فيه
وتمثل بذلك علي عليه السلام لما جنيت إليه العراق، فنظر إلى فتنتها وذهبها: يا حمراء يا بيضاء: احمري وابيضي، غري غيري.
هذا جناي وخياره فيه ... وكل جانٍ يده إلى فيه
وقال أكثم بن صيفي: من ضعف عن كسبه اتكل على زاد غيره.
ويقولون في الرضا بما في اليد والإياس مما في يد الغير: ملء عينيك وشيء غيرك.

اليسير يجني الكثير
من أمثالهم: الشر تبدوه صغاره.
قال مسكين الدارمي: من الكامل المجزوء
ولقد رأيت الشر بي ... ن الحي تبدوه صغاره
ولو أنهم يأسونه ... لتنهنهت عنهم كباره
ومنها: إن دواء الشق أن تحوصه، وأصل الحوص الخياطة، يعني قبل تفاقمه.
وقال طرفة بن العبد: من الكامل
قد يبعث الأمر الكبير صغيره ... حتى تظل له الدماء تصبب
وقال يزيد بن الحكم: من الكامل المجزوء
اعلم بني فإنه ... بالعلم ينتفع الحكيم
إن الأمور دقيقها ... مما يهيج له العظيم
وقال أنس بن مساحق العبدي: من المتقارب
بأن الدقيق يهيج الجليل ... وأن العزيز إذا شاء ذل
وقال عقيل بن هاشم القيني: من البسيط
فبينما المرء تزجيه أصاغره ... إذ شمرت فحمة شهباء تستعر
تعيي على من يداويها مكايدها ... عمياء ليس لها سمعٌ ولا بصر
ويقارب هذه المعاني قول ابن نباتة: من المتقارب
فلا تحقرن عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن الحسام يجز الرقاب ... ويعجز عما تنال الإبر
ومن كلام العرب يقولون: الحرب أولها كلام.
ويقال: صغارها شرارها، أي أصغرهن أكثرهن شراً.
ومن أمثالهم: إن الخصاص يرى في جوفه الرقم، أي أن الشيء الحقير الصغير يرى فيه العظيم، والخصاصة الفرجة بين الشيئين والرقم الداهية.
ما جاء في الشدة والداهية
قولهم: جاوز الماء الزبى.
وبلغ الحزام الطبيين.
جرحه حيث لا يضع الراقي أنفه، أي لا دواء له.
ومثله: غادر وهياً لا يرقع، أي فتق فتقاً لا يقدر على رتقه.
ويقال: جاء فلان وقد لفظ لجامه، إذا جاء مجهوداً.
ومثله: جاء وقد قرض لنا رباطه.
ويقال في الشدة: جاء بعد اللتيا والتي.
ولقيت منه عرق القربة.
المنايا على الحوايا، والحوايا ها هنا مراكب، واحدتها حوية، كل ذلك في الشدة.
ويقولون في مثله: رأى فلان الكواكب مظهراً، معناه أظلم عليه يومه حتى رأى الكواكب عند الظهر.
ويقولون: قد أخذ منه بالمخنق.
ويقولون: لقي منه الأمرين، والفتكرين، والبرحين.
ولقيت منه بنات برح.
ويقولون: تركته على مثل ليلة الصدر، يعنون نفر الناس وصدرهم من حجهم، يضرب في الاصطلام.
ومثله: تركته على مثل مشفر الأسد.
وتركته على مثل مقلع الصمغة.
وتركته على أنقى من اراحة.
ويقولون: صبراً وإن كان قتراً، والقتر شدة الزمان.
وصبراً وإن كان جمراً.
ومنه: أساف حتى ما يشتكي السواف، يعني أنه اعتاده، والإسافة ذهاب المال واجتياحه.
ويقولون: ما له ثاغية ولا راغية.
ويقولون للرجل إذا كان داهية: صل أصلال؛ وهتر أهتار.
وهو حولٌ قلبٌ.
وهو عضلة من العضل.
وداهية الغبر؛ وصماء الغبر.
ويقولون في الدواهي: قد بدت جنادعه.
وقع في أم جندب.
وقع في هياط ومياط وهو الصخب والضجر.
و وقع في الدهيم، وأصله أن إخوة قتلوا فحملوا على ناقة يقال لها الدهيم، فصارت مثلاً.
ويقولون: أتتكم الدهيم ترمي بالنشف والتي بعدها ترمي بالرضف.
وجاء بالداهية الدهياء، والزباء والشعراء.
وجاء بالعنقفير.
وجاء بإحدى بنات طبق، وأصلها من الحيات.
ويقولون: صمي صمام.
وصمي ابنة الجبل.
ويسمون الدواهي المآود واحدتها موئدة.
في الدعاء
يقولون في الدعاء: هوت أمه.
وهبلت أمه، ويريدون بذلك المديح، وكأنه أخرج مخرج التفجع.
قال أعشى باهلة: من الطويل

ألا هبلت أم الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر
ويقولون في الدعاء له: نعم عوفك، أي نعم بالك.
ويقولون في الدعاء عليه: لا نعم عوفك.
لا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، فالعدل الفرض والصرف التطوع.
ويقولون: رماه الله بالطلاطلة والحمى المماطلة، الطلاطلة سقوط اللهاة، ويقال: الذبحة.
ويقولون في الشماتة: لليدين وللفم، والمثل لعائشة رضي الله عنها.
و للمنخرين، أي أكبه الله على منخريه، والمثل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، قاله لرجل أتي به سكران في شهر رمضان.
ويقال: بجنبيه الوجبة، يعني الصرعة.
و من كلا جانبيك لا لبيك.
به لا بظبي.
لا لعاً لفلان.
وقولهم: بفيه الحجر.
وبفيه الأثلب والكثكث.
تم الباب بحمد الله ومنه والحمد لله وحده، ويتلوه إن شاء الله تعالى الباب الثالث والثلاثون في الحجج البالغة والأجوبة الدامغة.

الباب الثالث والثلاثون
في الحجج البالغة والأجوبة الدامغة.
في الكتاب العزيز من الحجج البالغة ما يكون غايةً لمن تمثل به، وكيف لا يكون ذلك وهو برهان الشريعة ودليلها، ومحجة الهداية وسبيلها، فمن ذلك قوله تعالى: وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميمٌ، قل يحييها الذي أنشأها أول مرةٍ يس: 78 وقال تعالى: أيحسب الإنسان أن يترك سدىً، ألم يك نطفةً من منيٍّ يمنى، ثم كان علقةً فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادرٍ على أن يحيي الموتى القيامة: 36 - 40 وقوله عز وجل: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه الروم: 27 أي في تقرير عقولكم وقياس ظنونكم المأخوذين من معارفكم. وقوله عز وجل حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الأنعام: 81.
ومن آيات الحجاج القاطع في إقامة التوحيد وتوهين الشرك قوله سبحانه: قل لو كان معه آلهةً كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً الإسراء: 42 وقوله تعالى: ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذن لذهب كل إلهٍ بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ سبحان الله عما يصفون المؤمنون: 91 وقوله تعالى في تفرده بخلق البرية: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقويٌّ عزيزٌ الحج: 73 - 74 ومن الحجة في أمر كتابه: وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله البقرة: 23 وقال في الدلالة على إثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم بتأمل أحواله وتدبر ما جاء به: أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون المؤمنون: 68 - 69 فإنه كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعرف في قريشٍ قبل البعثة بالصادق والأمين. وقوله تعالى: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون يونس: 16.
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: يا معشر قريشٍ، لو قلت لكم إن خيلاً تطلع عليكم من هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ. فلما أقروا بصدقه خاطبهم بالإنذار ودعاهم إلى الإسلام.
والآن نذكر ما تحاور به الناس فيما بينهم، وتحاجوا به بعضهم على بعض في خطابهم ومقاصدهم.
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان: ولك أن تجاب عن هذه لرحمه منك: فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقالته؟ أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه؟ أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه، حتى أتى قدره عليه؟ كلا والله. لقد علم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً، وما كنت أعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له، فرب ملومٍ لا ذنب له.
وقد يستفيد الظنة المتنصح وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب هود: 88.

وذكرت أنه ليس لي عندك ولأصحابي إلا السيف: فلقد أضحكت بعد استعبارٍ: متى ألفيت بنو عبد المطلب عن الأعداء ناكبين، وبالسيوف مخوفين؟ فالبث قليلاً يلحق الهيجا حملٌ، فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وأنا مرقلٌ نحوك في جحفلٍ من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديدٌ زحامهم، ساطعٌ قتامهم، متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، قد صحبتهم ذريةٌ بدرية، وسيوفٌ هاشمية، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك، وما هي من الظالمين ببعيد.
كان قبيصة بن جابر ممن كثر على الوليد بن عقبة لما ولي الكوفة، فقال معاوية يوماً والوليد وقبيصة عنده: يا قبيصة، ما كان شأنك وشأن الوليد؟ قال: خير يا أمير المؤمنين في أول وصل الرحم وأحسن الكلام، فلا تسأل عن شكرٍ وحسن ثناء، ثم غضب على الناس وغضبوا عليه، وكنا منهم، فإما ظالمون فنستغفر الله، وإما مظلومين فيغفر الله له، وخذ في غير هذا يا أمير المؤمنين فإن الحديث ينسي القديم. قال: ولم؟ فوالله لقد أحسن السيرة وبسط الخير وكف الشر، قال: فأنت أقدر على ذلك منه يا أمير المؤمنين، فافعل، قال: اسكت لا سكت. فسكت وسكت القوم، ثم قال له معاوية: ما لك لا تتحدث؟ قال: نهيتني عما أحب فسكت عما أكره.
قال معاوية للأحنف حين وبخه بتخذيله عن عائشة ومشهده صفين: فعلت وفعلت. فقال: يا أمير المؤمنين لم ترد الأمور على أعقابها؟ أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، وإن السيوف التي قاتلناك لها لعلى عواتقنا، ولئن مددت يداً بشرٍّ من غدر لنمدن باعاً من خترٍ، وإن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك، قال: فإني بها أفعل.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم إلى الشام ومعه عبد الرحمن بن عوف رحمه الله وهما على حمارين قريبين من الأرض، فتلقاهما معاوية في كبكبةٍ حسناء، فثنى وركه فنزل وسلم عليه بالخلافة فلم يرد عليه، فقال له عبد الرحمن أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أحصرت الفتى فلو كلمته، فقال: إنك لصاحب الجيش الذي أرى؟ قال: نعم، قال: لأنا في بلادٍ يكثر فيها جواسيس العدو، فإن نحن لم نتخذ العدة والعدد استخف بنا، وهجم على عوراتنا، وأنا - بعد - عاملك، فإن وقفتني وقفت، وإن استزدتني زدت، وإن استنقصتني نقصت؛ قال: فوالله لئن كنت كاذباً إنه لرأي أريبٍ، وإن كنت صادقاً إنه لتدبير أديب، ما سألتك عن شيء قط إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس، لا آمرك ولا أنهاك. فلما انصرف قال أبو عبيدة أو عبد الرحمن: لقد أحسن الفتى في إصدار ما أوردت عليه، قال: لحسن إصداره وإيراده جشمناه ما جشمناه.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعس بالمدينة في الليل، فسمع صوت رجلٍ في بيته فارتاب بالحال، فتسور فوجد رجلاً عنده امرأةٌ وخمرٌ، فقال: يا عدو الله، أكنت ترى أن الله يسترك وأنت تعصيه؟ فقال لارجل: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيته في ثلاثٍ، قال الله سبحانه وتعالى: ولا تجسسوا الحخجرات: 12 وقد تجسست، وقال: وأتوا البيوت من أبوابها البقرة: 189، وقد تسورت، وقال: فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا النور: 61 وما سلمت. فقال عمر: فهل عندك من خيرٍ إن عفوت عنك؟ قال: بلى والله يا أمير المؤمنين، لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبداً، فعفا عنه.
خطب رجلٌ إلى عبد الله بن عباس يتيمةً كانت في حجره، فقال: لا أرضاها لك، قال: ولم؟ قال: لأنها تشرف وتنظر، وهي مع ذلك بذيئة، قال: فإني لا أكره ذلك، فقال ابن عباس: أما الآن فإني لا أرضاك لها.
قيل وقع بين عليٍّ وعثمان كلامٌ فقال عثمان: ما أصنع بكم إن كانت قريش لا تحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدرٍ سبعين كأن وجوههم شنوف الذهب تشرب آنفهم قبل شفاههم.
قدم حماد بن جميل من فارس فنظر إليه يزيد بن المنجاب وعليه جبة وشيٍ، فقال: هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً الإنسان: 1، فقال حماد: كذكلك كنتم من قبل فمن الله عليكم النساء: 94.
دخل وفدٌ على عمر بن عبد العزيز فأراد فتى منهم الكلام، فقال عمر: ليتكلم أسنكم، فقال الفتى: يا أمير المؤمنين، إن قريشاً لترى فيها من هو أسن منك، فقال: تكلم يا فتى.

قال معاوية يوماً: الأرض لله وأنا خليفته، فما أخذت فلي حلالٌ، وما تركت للناس فلي عليهم فيه منةٌ، فقال صعصعة: ما أنت وأقصى الأمة فيه إلا سواءٌ، ولكن من ملك استأثر. فغضب معاوية وقال: لقد هممت، قال صعصعة: ما كل من هم فعل، قال: ومن يحول بيني وبين ذلك؟ قال: الذي يحول بين المرء وقلبه.
وجه معاوية رجلاً إلى ملك الروم ومعه كتابٌ تصديره: إلى طاغية الروم، فقال ملك الروم للرجل: ما لذي الفخر بالرسالة والمتسمي بخلافة النبوة والسفه؟ أظنكم وليتم هذا الأمر بعد إعواز، لو شئت كتبت: من ملك الروم إلى غاصب أهل بيت نبيه، العامل بما يكفره عليه كتابه، لكني أتجالل عن ذلك.
روي أن عائشة رضي الله عنها بعثت إلى معاوية وهو بالمدينة تذكر حاجةً من آل أبي بكر، فأرسل إليها بثلاثين ألف درهم صلةً لها وبمثلها لآل أبي بكر، وبعث إلى أم حبيبة أخته عشرين ألف درهم، فقالت: أتفضل علي وأنا أختك، وحقي ما تعلم؟ فقال: إني آثرت هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتديت به فيكما، فقالت: إن كنت صادقاً فاعتزل ما أنت فيه، وخل بينه وبين من أدخلك في الإسلام، فوالله لهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه كان فوق هواه فيك، فقال معاوية: لله در الحق ما أقمعه.
سمع زيادٌ امرأةً تقول اللهم: اللهم اعزل عنا زياداً فقال: يا أمة الله، زيدي في دعائك: وأبدلنا به من هو خيرٌ لنا منه.
قال الأصمعي: ناظر قومٌ من الخوارج الحسن البصري فقال: أنتم أصحاب دنيا، قالوا: وكيف؟ قال: أيمنعكم السلطان من الصلاة؟ قالوا: لا، قال: أفيمنعكم من الحج؟ قالوا: لا، حتى عدد وجوه البر ويقولون لا، قال: فأراه إنما منعكم الدرهم فقاتلتموه.
قال حاطب بن أبي بلتعة: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكنجرية، فأتيته بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فأبلغته رسالته، فضحك ثم قال: كتب إلي صاحبك يسألني أن أتبعه على دينه، فما يمنعه إن كان نبياً أن يدعو الله فيسلط علي البحر فيغرقني فيكفى مؤونتي ويأخذ ملكي؟ قلت: فما منع عيسى عليه السلام إذ أخذته اليهود فربطوه في حبلٍ وجعلوا عليه إكليلاً من شوكٍ، وحملوا خشبته التي صلبوه عليها على عنقه، ثم أخرجوه وهو يبكي حتى نصبوه على الخشبة، ثم طعنوه حياً بحربة حتى مات - هذا على زعمكم - فما منعه أن يدعو الله فيجيبه فيهلكهم ويكفى مؤونتهم، ويظهر هو وأصحابه عليهم؟ وما منع يحيى بن زكريا حين سألت امرأة الملك الملك أن يقتله، فقتله وبعث برأسه إليها حتى وضع بين يديها، أن يسأل الله أن ينجيه ويهلك الناس؟ فأقبل على جلسائه وقال: والله إنه لحكيم، وما يخرج الحكيم إلا من عند الحكماء.

قال خالد بن يزيد القرشي: كانت لي حاجةٌ بالجزيرة فاتخذتها طريقاً مستخفياً، قال: فبينا أنا أسير بين أظهرهم إذا أنا بشمامسةٍ ورهبانٍ - وكان خالد رجلاً لبيباً لسناً ذا رأي - فقلت لهم: ما جمعكم ها هنا؟ قالوا: إن لنا شيخاً سياحاً نلقاه كل عامٍ في مكاننا هذا مرةً فنعرض عليه ديننا وننتهي فيه إلى رأيه، قال: وكنت رجلاً معنياً بالحديث فقلت: لو دنوت من هذا فلعلي أسمع منه شيئاً أنتفع به، قال: فدنوت منه، فلما نظر إلي قال لي: من أنت؟ أأنت من هؤلاء؟ قلت: أجل، قال: من أمى أحمد؟ قلت: نعم، قال: من علمائهم أنت أو من جهالهم؟ قلت: لست من علمائهم ولا من جهالهم، قال: ألستم تزعمون في كتابكم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون؟ قال، قلت: نعم نقول ذلك وهو كذلك، قال: فإن لهذا مثلاً في الدنيا، فما هو؟ قلت مثل هذا الصبي في بطن أمه يأتيه رزق الرحمن بكرةً وعشيةً ولا يبول ولا يتغوط، فتربد وجهه وقال لي: ألم تزعم أنك لست من علمائهم؟ قلت: بلى ما أنا من علمائهم ولا من جهالهم، ثم قال: ألستم تزعمون أنكم تأكلون وتشربون ولا ينتقص مما في الجنة شيء؟ قال: نقول ذلك وهو كذلك، قال: فإن لهذا مثلاً في الدنيا، فما هو؟ قلت: مثل هذا مثل رجلٍ أعطاه الله علماً وحكمة في الدنيا وعلمه كتابه، فلو اجتمع من خلق الله فتعلموا منه ما نقص ذلك من علمه شيئاً، قال: فتربد وجهه وقال: ألم تزعم أنك لست من علمائهم؟ قال، قلت: أجل ما أنا من علمائهم ولا من جهالهم، فقال: ألستم تقولون في صلواتكم السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؟ قال: قلت نعم، قال: فلها عني ثم أقبل على أصحابه وقال: ما بسط لأحد من الأمم ما بسط لهؤلاء من الخير، إن أحدهم إذا قال في صلواته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لم يبق عبدٌ صالحٌ في السموات والأرض إلا كتب الله له به عشر حسناتٍ، ثم قال: ألستم تستغفرون لأنفسكم وللمؤمنين والمؤمنات؟ قال، قلت بلى، فقال لأصحابه: إن أحد هؤلاء إذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات لم يبق عبدٌ لله مؤمنٌ في السموات والأرض من الملائكة والمؤمنين ولا من كان على عهد آدم أو كائنٌ إلى يوم القيامة إلا كتب الله له به عشر حسنات، ثم أقبل علي فقال لي: إن لهذا مثلاً في الدنيا فما هو؟ فقلت: كمثل رجلٍ مر بملأ كثيراً كانوا أو قليلاً، فسلم عليهم فردوا عليه، أو دعا لهم فدعوا له، قال: فتربد وجهه ثم قال: أتزعم أنك لست من علمائهم؟ قلت: أجل ما أنا من علمائهم ولا من جهالهم، فقال لي: ما رأيت من أمة محمدٍ من هو أعلم منك، سلني عما بدا لك؟ فقلت: كيف أسأل من يزعم أن لله ولداً؟ قال: فشق عن مدرعته حتى أبدى بطنه، ثم رفع يديه فقال: لا غفر الله لمن قالها، منها فررنا واتخذنا الصوامع، وقال: إني سائلك عن شيءٍ فهل أنت مخبري؟ قال، قلت: نعم، قال: أخبرني هل بلغ ابن القرن فيكم أن يقوم إليه الناشئ والطفل فيشتمه ويتعرض لضربه ولا يغير ذلك عليه؟ قال، قلت: نعم، قال: ذلك حين رق دينكم، واستحببتم دنياكم، وآثرها من آثرها منكم. فقال له رجل من القوم: ابن كم القرن؟ قلت: أما أنا فأقول ابن ستين سنة، وأما هو فقال ابن سبعين.
فقال رجل من جلسائه: يا أبا هشام ما كان يسرنا أن أحداً من هذه الأمة لقيه غيرك.
قال العتبي: وفد زياد على معاوية فأتاه بهدايا وأموالٍ عظام وسفطٍ مملوءٍ جوهراً لم ير مثله، فسر معاوية به سروراً شديداً، فلما رأى زياد ذلك صعد المنبر وقال: أنا والله يا أمير المؤمنين أقمت صعر العراق، وجبيت لك مالها، وألفظت إليك بحرها. فقام إليه يزيد بن معاوية فقال: إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى ولاء قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عبيد إلى حرب بن أمية، فقال معاوية: اجلس فداك أبي وأمي.
قال موسى بن عقبة: حج عبد الملك فلقيه رجلٌ من ولد عمر بن الخطاب وقد نالته ولادةٌ من أبي بكر رحمهما الله، فسأله فحرمه وقال متمثلاً: من الطويل
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
فقال له رجل من القوم: إذا ذدت ابن الفاروق وابن الصديق فمن يرده؟ قال: يرده عبد مناف.
سأل رجلٌ رجلاً حاجةً فقال المسؤول: اذهب بسلام، سل الله تعالى، فقال السائل: قد أنصفنا من ردنا إلى الله.

حج الرشيد فلقيه موسى بن جعفر على بغلةٍ، فقال له الرشيد: مثلك في حسبك وشرفك وتقدمك يلقاني على بغلة؟ فقال: تطأطأت عن خيلاء الخيل، وارتفعت عن دناءة العير، وخير الأمور أوسطها.
قدم معاوية المدينة فدخل دار عثمان، فقالت عائشة بنت عثمان: وا أبتاه وبكت. فقال معاوية: يا ابنة أخي إن الناس أعطونا طاعةً وأعطيناهم أماناً، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضبٌ، وأظهروا لنا طاعةً تحتها حقدٌ، ومع كل إنسانٍ سيفه، وهو يرى مكان أنصاره، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا يكون أم لنا، ولأن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خيرٌ من أن تكوني امرأةً من عرض المسلمين.
دخل زفر بن الحارث على عبد الملك بن مروان بعد الصلح فقال: ما بقي من حبك للضحاك؟ قال: ما لا ينفعني ولا يضرك، قال: شد ما أحببتموه معاشر قيس، قال: أحببناه ولم نؤاسه ولو آسيناه لقد كنا أدركنا ما فاتنا منه، قال: فما منعكم من مواساته يوم المرج؟ قال: ما منع أباك من مواساة عثمان يوم الدار.
قال قريش بن أنس: حضرنا جماعةً عند عمرو بن عبيد فقال: يؤتى بي يوم القيامة فيقام بي بين يدي الله عز وجل فيقول لي: أقلت إني لا أغفر للقاتل وإني أدخله النار؟ فأقول: أنت قلت: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها النساء: 93. فسكتت الجماعة، فقلت له، وما في البيت أصغر مني: أرأيت إن قال لك قد قلت: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء: 48، 116 فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر للقاتل؟ فما رد علي شيئاً.
قال الحجاج لبعض الخوارج: أجمعت القرآن؟ قال: أو متفرقاً كان فأجمعه؟ قال: أتقرؤه ظاهراً؟ قال: بلى أقرؤه وأنا أبصره، قال: فتحفظه؟ قال: وهل أخشى فراره فأحفظه؟ قال: ما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: لعنه الله ولعنك معه، قال: إنك مقتولٌ فكيف تلقى الله؟ قال: ألقاه بعملي وتلقاه بدمي.
دنا سقاءٌ من فقيهٍ على باب سلطانٍ فسأله عن مسألةٍ، فقال له: أهذا موضع المسألة؟ فقال له السقاء: أو هذا موضع الفقه؟ كان الحسن يقول: لا توبة لقاتل مؤمنٍ متعمداً. فدس إليه عمرو بن عبيدٍ رجلاً وقال قل له: إنه من أن يكون مؤمناً أو كافراً أو منافقاً أو فاسقاً. فإن كان مؤمناً فإن الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً التحريم: 8، وإن كان كافراً فإنه يقول: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف الأنفال: 38، وإن كان منافقاً فإنه يقول: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً إلا الذين تابوا النساء: 145 - 146، وإن كان فاسقاً فإنه يقول: أولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا النور: 4 - 5. فقال الحسن للرجل: من أين لك هذا؟ قال: شيءٌ اختلج في صدري، قال: اصدقني. فقال الرجل: عمرو بن عبيد، فقال الحسن: عمرو بن عبيد، وما عمرو؟ إذا قام بأمرٍ قعد به، وإذا قعد بأمرٍ قام به.
لما أخذ عمر بن الخطاب في التوجه إلى الشام قال له رجل: أتدع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أدع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاح أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد هممت أن أضرب رأسك بالدرة حتى لا تجعل الرد على الأئمة عادةً فيتخذها الأجلاف سنةً.
ولما أخذ سابور ماني الزنديق قال له نصحاؤه: اقتله، قال: إن قتلته من غير أن أغلبه بالحجة قال عامة الناس بقوله، ويقولون ملكٌ جبارٌ قتل زاهداً، ولكني أحاجه فإن غلبته بالحجة حينئذٍ قتلته، ففعل، ثم حشا جلده تبناً وصلبه.
قال الحجاج بن يوسف ليحيى بن سعيد بن العاص: بلغني أنك تشبه إبليس في قبح وجهك؛ قال: وما ينكر الأمير أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن؟ .
قال إياس بن معاوية: كنت أختلف وأنا غلامٌ إلى رجلٍ من اليهود أتعلم منه الحساب، فسمعته يوماً يقول: ألا تعجبون من المسلمين، يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون؟ قال إياس: فقلت يا معلم ألست تزعم أن الدنيا مرآة الآخرة؟ قال: نعم، قلت: فأخبرني عما يأكله ابن آدم أيصير كله ثفلاً؟ قال: لا ولكن بعضه ثفلٌ وبعضه غذاء؛ قال، قلت: فما أنكرت أن يكون بعضه في الدنيا غذاءً ويصير كله في الآخرة غذاءً، فقال لي: قاتلك الله من غلامٍ ما أفهمك.
قال المتتصر لأبي العيناء: ما أحسن الجواب؟ قال: ما أسكت المبطل وحير المحق.

وقال المسور بن مخرمة: دخلت على معاوية، فقال: ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟ فاستعفيته فأقسم علي؛ فوالله ما تركت عيباً إلا ذكرته. فقال: لا تبرأ من ذنبٍ، فهل لك يا مسور ذنوبٌ تخافها أن تهلك بها إن لم يغفرها الله لك؟ قلت: نعم؛ قال: فما جعلك أحق أن ترجو المغفرة مني؟ فكان المسور إذا ذكره استغفر له وقال خصمني.
خطب معاوية ذات يوم فقال: إن الله يقول: وإن من شيءٍ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدرٍ معلوم الحجر: 21، فما نلام نحن؟ فقام إليه الأحنف بن قيس فقال له: يا معاوية، إنا والله ما نلومك على ما في خزائن الله، وإنما نلومك على ما أنزل الله علينا من خزائنه فأغلقت بابك دونه.
خطب المنصور بمكة، وقد أمل الناس عطاءه، فقال: يا أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وخازنه على فيئه، أعمل فيه بمشيئته، وأقسمه بإرادته؛ وقد جعلني الله تعالى قفلاً عليه، إذا شاء أن يفتحني فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني. فارغبوا إلى الله أيها الناس في هذا اليوم الذي عرفكم من فضله ما أنزله في كتابه، فقال عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً المائدة: 3، أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم فيكم، إنه قريب مجيب.
فقال له ابن عياش المنتوف: أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربه تعالى.
قال صالح بن علي بن عبد الله بن عباس لابنه عبد الملك وقد غضب عليه: يا ابن الفاعلة؛ فقال عبد الملك: الزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشركٌ النور: 3، وأنشد: من الطويل
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فإن الفريقين بالمقارن مقتد
فلم يكلمه صالحٌ حتى مات.
وكانت أم عبد الملك بن صالح جاريةً لمروان بن محمد، فلما قتله صالح بمصر، اتخذ أم عبد الملك لنفسه. فلما سعى قمامة كاتب عبد الملك به إلى الرشيد واعتزم على حبسه كلمه وأغلظ له، فقال الرشيد: ما أنت منا؛ فقال: والله ما أبالي لأي الفحلين كنت، لصالح بن عليٍّ أو لمروان بن محمد.
كلم عروة بن الزبير عبد الملك بكلامٍ غليظٍ والحجاج قائم على رأسه، فقال: يا ابن العمياء، أتكلم أمير المؤمنين بمثل ما أسمع؟ قال عروة: يا ابن المتمنية، وما ذكرك عجائز الجنة؟ وكانت جدة الحجاج القائلة: من البسيط
هل من سبيل إلى خمرٍ فأشربها ... أم هل سبيلٌ إلى نصر بن حجاج
وكان عمر بن الخطاب رض الله عنه اجتار بالمرأة وهي تنشد هذا الشعر، فأحضر نصر بن حجاجٍ، وهو شابٌّ جميلٌ ذو وفرةٍ مليحة، فحلق شعره فكان أجمل، فنفاه، وقال: لا أسمع النساء يتمنينك في حجالهن.
فقال عبد الملك: أقسمت عليك إلا أمسكت.
؟قال أبو حاتم: كنت في حلقة أبي عبيدة، فجاء إلينا غلامٌ من آل المهلب وضيء الوجه في منطقه لينٌ، فكأن القوم استقبحوا منطقه. فقال له رجل من آل صباح بن خاقان المنقري: يا غلام ممن أنت؟ قال: من آل المهلب؛ قال: ومن أمك؟ قال: سبيةٌ من القندهار، قال: نزعت فيك رخاوة الهند؛ فبعث منه شيطاناً؛ فقال: أيها المتكلم فمن أنت؟ قال: من بني تميم؛ قال: أمكنت والله من مقاتلك: أم شبيبكم وفارسكم سوداء، وأم عنترتكم سوداء، وأم ذي الرقيبة سبيةٌ من أمانيا، وأم عمرو بن العاص سبيةٌ من عنزة، وأم عبيد الله بن زياد بن ظبيان سبيةٌ من أصفهان، وأم ابن زياد الذي مزقكم كل ممزقٍ مرجانة، وأم زياد الذي شدخ رؤوسكم سمية، وأم الشعبي من جلولاء، وأم خالد بن عبد الله الذي غمركم نواله سبيةٌ من الروم، وأم وكيع ابن الدورقية الذي أدرك ثأركم سبيةٌ من دروق، وأم عبد الله بن - خازم الذي أباد غابركم بخرسان سبيةٌ، فأيتهن تعيب لا أم لك؟ ثم قام الغلام فما أبقى في الحلقة إلا ضاحكاً أو شامتاً.

وروي عن رجلٍ من قريش، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب فقال لي يوماً: من أخوالك؟ قلت: أمي فتاةٌ، فكأني نقصت من عينه، وأمهلت حتى دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر، فلما خرج من عنده قلت: من هذا يا عم؟ قال: سبحان الله، أتجهل هذا من قومك؟ هذا سالم بن عبد الله بن عمر، قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة؛ ثم أتاه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق فجلس إليه فنهض، فقلت: من هذا يا عم؟ قال: أتجهل من أهلك مثله؟ ما أعجب هذا هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر، قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة؛ قال: فأمهلت حتى جاء علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فسلم عليه ثم نهض، فقلت له: يا عم، من هذا؟ قال: هذا الذي لا يسع مسلماً أن يجهله، هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة؛ قال: فقلت يا عم رأيتني نقصت في عينك لما علمت أني لأم ولد، أما لي في هؤلاء أسوة؟ قال: فجللت في عينه جداً.
وتزوج علي بن الحسين أمةً له أعتقها، فلامه عبد الملك بن مروان وكتب إليه: أما بعد فإنه بلغني أنك أعتقت أمتك وتزوجتها، وقد كان لك في أكفائك من قريش ما تستكرم به في الصهر، وتستنجب به في الولد، فلم تنظر لنفسك ولا لولدك ونكحت في اللؤم. فكتب إليه علي: أما بعد، فإني أعتقتها بكتاب الله عز وجل وارتجعتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه والله ما فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتقى لأحدٍ في مجدٍ، إن الله عز وجل قد رفع بالإسلام الخسيسة، وأتم النقيصة، وأكرم به من اللؤم، فلا عار على مسلم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أمته وامرأة عبده. فقال عبد الملك: إن علي بن الحسين يشرف من حيث يتضع الناس.
سأل الرشيد موسى بن جعفر فقال: لم زعمتم أنكم أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشر فخطب إليك كريمتك أكنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله، وكنت أفتخر بذلك على العجم والعرب؛ فقال: لكنه لا يخطب إلي ولا أزوجه لأنه ولدنا ولم يلدكم.
وروي أنه قال: هل يجوز أن يدخل على حرمك وهن متكشفات؟ فقال: لا، قال: لكنه كان يدخل على حرمي كذلك، وكان يجوز له.
وقيل إنه سأله أيضاً: لم قلتم إنا ذرية رسول الله، وجوزتم للناس أن ينسبوكم إليه فيقولون يا بني رسول الله وأنتم بنو علي، وإنما ينسب الرجل إلى أبيه دون جده؟ فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس الأنعام: 84 - 85، وليس لعيسى أبٌ، وإنما ألحق بذرية الأنبياء من قبل أمه، وكذلك ألحقنا بذرية النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمنا فاطمة عليها السلام، وأزيدك يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم آل عمران: 61. ولم يدع عليه السلام عند مباهلة النصارى غير عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين وهم الأبناء.
قال الرشيد للجهجاه: أزنديقٌ أنت؟ قال: وكيف أكون زنديقاً وقد قرأت القرآن، وفرضت الفرائض، وفرقت بين الحجة والشبهة؟ قال: والله لأضربنك حتى تقر، قال: هذا خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرنا أن نضرب الناس حتى يقروا بالإيمان وأنت تضربني حتى أقر بالكفر.
قال المنصور لإسحاق بن مسلم العقيلي: أفرطت في ولائك لبني أمية، فقال: من وفى لمن لا يرجى كان لمن يرجى أوفى، فصدقه.
ودخل المكي على المأمون، وكان مفرط القصر والدمامة، فضحك المعتصم، فقال المكي: مم ضحك هذا؟ فوالله ما اصطفى الله يوسف عليه السلام لجماله وإنما اصطفي لبيانه، وقد نص الله عز وجل على ذلك بقوله: فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكينٌ أمينٌ يوسف: 54، وبياني أحسن من هذا.
قال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين ملكوا عليهم امرأة، قال: قومك أشد حماقةً إذ قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء الأنفال: 32، هلا قالوا: فاهدنا له.

طاف رجلٌ من بني تغلب بالبيت، وكان وسيماً جسيماً، فبصر به رجلٌ من قريش كان حسوداً، فسأل عنه فخبر أنه من تغلب، فلما حاذاه قال القرشي ليسمعه: إنها لرجلان قلما وطئت البطحاء. فالتفت إليه التغلبي وقال له: يا هذا البطحاوات ثلاثٌ: فبطحاء الجزيرة وهي لي دونك، وبطحاء ذي قار وأنا أحق بها منك، وهذه البطحاء سواءٌ العاكف فيه والباد. قال: فتحير الرجل فما أعاد كلمة.
قال الرشيد لإسماعيل بن صبيح: وددت أن لي حسن خطك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان حسن الخط مكرمةً لكان أولى الناس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن عبد الملك الزيات لبعض أولاد البرامكة: من أنت ومن أبوك؟ قال: أبي الذي تعرفه، ومات وهو لا يعرفك.
ومثل هذا أو قريبٌ منه ما حكي أن المرواني صاحب الأندلس كتب إلى صاحب مصر كتاباً وملأه بسبه وسب أبيه، فكتب إليه في الجواب: يا هذا، عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك، والسلام.
دخل شابٌّ من بني هاشم على المنصور، فسأله عن وفاة أبيه، فقال: مرض رضي الله عنه يوم كذا، ومات رحمه الله يوم كذا، وترك رحمه الله من المال كذا. فانتهره الربيع وقال: بين يدي أمير المؤمنين توالي الدعاء لأبيك. فقال الشاب: لا ألومك لأنك لم تعرف حلاوة الآباء. قال: فما علمنا أن المنصور ضحك في مجلسه قط ضحكاً افتر عن نواجذه إلا يومئذٍ - وكان الربيع لقيطاً.
واستبطأ عبد الملك بن مروان ابنة مسلمة في مسيره إلى الروم فكتب إليه: من الكامل
لمن الظعائن سيرهن تزحف ... سير السفين إذا تقاعس يجذف
فكتب إليه مسلمة في الجواب: من الطويل
ومستعجبٍ مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
وسمع مسلمة رجلاً تمثل بقول الشاعر وقد دلي بعض بني مروان في قبره: من الطويل
وما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
فقال له مسلمة: لقد تكلمت بكلمة شيطانٍ، هلا قلت: من الطويل
إذا مقرمٌ منا ذرا حد نابه ... تخمط فينا ناب آخر مقرم
سابق مسلمة في حلبة فسبق وعبد الملك حاضر، فقال عبد الملك، والشعر لبعض بني عبس: من الطويل
نهيتكم أن تحملوا هجناءكم ... على خيلكم يوم الرهان فتدركوا
فتضعف ساقاه وتفتر كفه ... وتخذر فخذاه فلا يتحرك
وما يستوي المرآن هذا ابن حرةٍ ... وهذا هجينٌ ظهره متشرك
قعدن به خالاته فاختزلنه ... ألا إن إن عرق السوء لا بد مدرك
فقال مسلمة، والشعر لمسكين الدارمي: من الطويل
وما أنكحونا طائعين فتاتهم ... ولكن نكحناها بأسيافنا قهرا
كريمٌ إذا اعتل الزمان وجدته ... وقد سار في ظلمائه قمراً بدرا
فما زادها فينا السباء مذلةً ... ولا خبزت خبزاً ولا طبخت قدرا
وكائن ترى فينا من ابن سبيةٍ ... إذا التقت الخيلان يطعنها شزرا
ولكن خلطناها بحر نسائنا ... فجاءت بهم بيضاً غطارفةً زهرا
لما استخلف المهدي أخرج من في السجون، فقيل له: إنما تزري على أبيك، فقال: لا أزري على أبي، ولكن أبي حبس بالذنب وأنا أعفو عنه.
وجزع المهدي على رخيم جاريته جزعاً شديداً، فكان يأتي المقابر ليلاً فيبكي. فبلغ ذلك المنصور فكتب إليه: كيف ترجو أن أوليك أمر الأمة وأنت تجزع على أمة؟ فكتب إليه المهدي: إني لم أجزع على قيمتها وإنما جزعت على شيمتها.
عرض رجلٌ للرشيد وهو يطوف بالبيت فقال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلمك بكلامٍ فيه خشونة، فاحتمله لي، قال: لا ولا كرامة، قد بعث الله تعالى من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌّ مني فقال: فقولا له قولاً ليناً طه: 44.
قال رجل لمعاوية: والله لقد بايعتك وأنا كاره، فقال معاوية: قد جعل الله لك في الكره خيراً كثيراً.
قال الحجاج يوماً على المنبر: تزعمون أنا من بقايا ثمود، والله جل وعز يقول: وثموداً فما أبقى النجم: 51.
وقال مرةً أخرى: لئن كنا من بقايا ثمود فما أنجى الله مع صالح إلا خيارهم.

وبنو ثقيفٍ يزعمون أن ثقيفاً هو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر؛ وقال قوم: إن ثقيفاً والنخع أخوان من إياد، وقومٌ آخرون يزعمون أن ثقيفاً من بقايا ثمود.
أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج، فقيل له ما تقول في أبي بكر وعمر: فقال خيراً، قيل فعثمان: قال خيراً. قيل فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك: فقال: الآن جاءت المسألة، ما أقول في رجلٍ الحجاج خطيئةٌ من خطاياه.
قال معاوية يوماً لأهل الشام، وعنده عقيل بن أبي طالب: هذا أبو يزيد لولا أنه علم أني خيرٌ له من أخيه لما أقام عندنا وتركه، فقال له عقيل: أخي خيرٌ لي في ديني وأنت خيرٌ لي في دنياي.
وقال له مرة أخرى: أنت معنا يا أبا يزيد، قال: ويوم بدرٍ كنت معكم.
مر معاوية بقومٍ من قريش، فلما رأوه قاموا غير عبد الله بن عباس، فقال: يا ابن عباس، ما منعك من القيام كما قام أصحابك؟ ما ذاك إلا لموجدة أني قاتلتكم بصفين، فلا تجد، فإن عثمان بن عفان قتل مظلوماً. قال ابن عباس: فعمر بن الخطاب قتل مظلوماً، قال: إن عمر قتله كافرٌ، قال ابن عباس فمن قتل عثمان؟ قال: المسلمون، قال: فذاك دحض لحجتك.
لقي أبو العيناء بعض إخوانه في السحر، فجعل يعجب من بكوره ويقول: يا أبا عبد الله، أتركب في مثل هذا الوقت؟ فقال له أبو العيناء: تشاركني بالفعل وتفردني بالتعجب.
وكان أبو العيناء في جملة أبي الصقر، وكان يعادي ابن ثوابة لمعاداته لأبي الصقر. فاجتمعا في مجلس صاعدٍ، فتلاحيا، فقال له ابن ثوابة: أما تعرفني؟ فال له أبو العيناء: بلى والله، أعرفك ضيق العطن، كثير الوسن، قليل الفطن، خاراً على الذقن. قد بلغني تعديك على أبي الصقر، وإنما حلم عنك لأنه لم يجد عزاً فيذله، ولا علواً فيضعه، ولا مجداً فيهدمه، فعاف لحمك أن يأكله، وسهك دمك أن يسفكه. فقال له اسكت، فما تساب اثنان إلا غلب ألأمهما، فقال له أبو العيناء: فلهذا غلبت أبا الصقر بالأمس.
قال عبد الصمد بن علي: كنت عند عبد الله بن علي في عسكره بالشام لما خالف المنصور ودعا إلى نفسه، وكان أبو مسلم بإزائه يقاتله، فاستؤذن لرسول أبي مسلم عليه فأذن له، فدخل رجلٌ من أهل الشام فقال له: يقول لك الأمير علام قتالك إياي وأنت تعلم أني أهزمك؟ فقال، قل له: يا ابن الزانية، ولم تقاتلني عنه وأنت تعلم أنه يقتلك.
وشبيه بهذا ما حكي عن الأمين أنه كتب إلى طاهر بن الحسين وقت محاربته إياه: يا طاهر، اعلم أنه ما قام لنا قائم بأمرٍ فكان جزاؤه منا إلا السيف، فخذ لنفسك أو دع.
فكان طاهر يقول بعد ذلك: والله لقد جعلني على مثل النار من الحذر.
قال المهدي لشريك وعيسى بن موسى عنده: لو شهد عندك عيسى كنت تقبله؟ وأراد أن يغري بينهما، فقال شريك: من شهد عندي سألت عنه، ولا يسأل عن عيسى غير أمير المؤمنين، فإن زكيته قبلته. فقلبها عليه.
وقال مروان بن محمد لحاجبه يوم الزاب وقد ولى منهزماً: كر عليهم بالسيف، فقال: لا طاقة لي لهم؛ قال: والله لئن لم تفعل لأسوأنك، قال: وددت أنك تقدر على ذلك.
قال بحيرا الراهب لأبي طالب: احذر على ابن أخيك فإنه سيصير إلى كذا وكذا. قال: إن كان الأمر على ما وصفت فهو في حصنٍ من الله تعالى.
قال رجلٌ لهشام بن الحكم: أليس اختصم العباس وعليٌّ إلى عمر؟ قال: بلى، قال: فأيهما كان الظالم؟ قال: ليس فيهما ظالمٌ، قال: سبحان الله كيف يتخاصم اثنان وليس فيهما ظالمٌ؟ قال: كما تخاصم الملكان إلى داود وليس فيهما ظالم.
قال رجلٌ لشريك: أخبرني عن قول عليٍّ عليه السلام للحسن: ليت أباك كان قد مات قبل هذا اليوم بعشرين سنة، أقاله إلا هو شاكٌّ في أمره؟ قال له شريك: أخبرني عن قول مريم: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً مريم: 23، قالته شاكة في عفتها؟ فسكت الرجل.
دخل الوليد بن يزيد على هشامٍ وعلى الوليد عمامة وشيٍ، فقال هشام: بكم أخذت عمامتك؟ قال بألف درهم. فقال هشام: عمامةٌ بألف درهم؟ يستكثر ذلك. قال: يا أمير المؤمنين إنها لأكرم أطرافي، وقد اشتريت أنت جارية بعشرة آلاف دينار لأخس أطرافك.
بايت المفضل الضبي المهدي، فلم يزل يحدثه وينشده حتى جرى ذكر حمادٍ الراوية، فقال له المهدي: ما فعل عياله ومن أين يعيشون؟ قال: من ليلةٍ مثل هذه كانت مع الوليد بن يزيد.

شكا يزيد بن أسيد إلى المنصور ما ناله من العباس بن محمد أخيه، فقال المنصور: اجمع إحساني إليك وإساءة أخي فإنهما يعتدلان؛ قال: إذا كان إحسانكم إلينا جزاءً لإساءتكم كانت الطاعة منا تفضلاً.
لما بنى محمد بن عمران قصره حيال قصر المأمون قيل: يا أمير المؤمنين، ماراك وباهاك. فدعاه فقال: لم بنيت هذا القصر حذائي؟ قال: يا أمير المؤمنين، أحببت أن ترى أثر نعمتك علي فجعلته نصب عينيك. فاستحسن جوابه وأجزل عطيته.
قال الأشعث بن قيس لشريحٍ القاضي: يا أبا أمية، عهدي بك وإن شأنك لشؤين، فقال: يا أبا محمد، أنت تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها في نفسك.
تظلم أهل الكوفة إلى المأمون من عامل ولاه عليهم، فقال المأمون: ما علمت في عمالي أعدل ولا أقوم بأمر الرعية، ولا أعود بالرفق عليهم منه. فقام رجلٌ من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحدٌ أولى بالعدل والإنصاف منك، فإذا كان عاملنا بهذه الصفة فينبغي أن تعدل بولايته بين أهل البلدان وتساوي به أهل الأمصار، حتى يلحق كل بلدٍ وأهله من عجله وإنصافه مثل الذي لحقنا؛ وإذا فعل ذلك أمير المؤمنين فلا يصيبنا منه أكثر من ثلاث سنين، فضحك المأمون وعزل العامل عنهم.
وكتب إبراهيم بن سيابة إلى رجلٍ كثير المال يستسلف منه نفقةً، فكتب إليه: العيال كثيرٌ، والدخل قليلٌ، والدين ثقيل، والمال مكذوبٌ عليه. فكتب إليه إبراهيم: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت محجوجاً فجعلك الله معذوراً.
نظر إلى هذا المعنى أبو عبد الله ابن الحجاج فقال من أبيات له: من السريع
مدحته يوماً برائيةٍ ... نفخت في إنشادها شدقي
فلم يزل يقعد لي تارةً ... وتارةً في الدست يستلقي
كأنه في شهرها حاملٌ ... قد نخت يومين بالطلق
ثم اشتكى الفقر وقال ادع لي ... بأن يزيد الله في رزقي
فقلت يا رب بحق الذي ... أرسلته يدعو إلى الحق
إن كان فيما يدعي كاذباً ... فافتح له باباً إلى الصدق
صار الفضل بن الربيع إلى أبي عبادٍ في نكبته يسأله حاجةً فأرتج عليه، فقال له: يا أبا العباس، بهذا البيان خدمت خليفتين؟ فقال: إنا تعودنا أن نسأل ولا نسأل.
قال مالك بن طوق للعتابي: سألت فلاناً حاجة فرأيتك قليلاً في كلامك. قال: كيف لا أقل في كلامي ومعي حيرة الطلب، وذل المسألة، وخوف الرد.
قال بنو تميم لسلامة بن جندل: مجدنا في شعرك. فقال: افعلوا حتى أقول.
ساير ابنٌ لشبيب بن شبة علي بن هشام، وعليٌّ على برذونٍ له فارهٍ، فقال له: سر، قال: كيف أسير وأنت على برذونٍ إن ضربته طار وإن تركته سار، وأنا على برذونٍ إن ضربته قطف وإن تركته وقف. فدعا له ببرذونٍ وحمله عليه.
عاتب الفضل بن سهلٍ الحسين بن مصعبٍ في أمر ابنه طاهر والتوائه عليه وتلونه، فقال له الحسين: أنا أيها الأمير شيخٌ في أيديكم، لا تذمون إخلاصي، ولا تنكرون نصحي؛ فأما طاهر فلي في أمره جوابٌ مختصرٌ، وفيه بعض الغلظ، فإن أذنت ذكرته، قال: قل، فقال: أيها الأمير، أخذت رجلاً من عرض الأولياء، فشققت صدره وأخرجت قلبه، ثم جعلت فيه قلباً قتل به خليفةً، وأعطيته آلة ذلك من الرجال والأموال والعبيد، ثم تسومه بعد ذلك أن يذل لك ويكون كما كان؟ لا يتهيأ هذا إلا أن ترده إلى ما كان، ولا تقدر على ذلك. فسكت الفضل.
أتي هشام برجل قد رمي بخيانة، فأقبل يحتج عن نفسه، فقال له هشام: أو تتلكم أيضاً؟ فقال الرجل: إن الله سبحانه يقول: يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها النحل: 111، أفنجادل الله تعالى جدالاً ولا نكلمك كلاماً؟ فقال: تكلم بما أحببت.
كتب الحسن بن زيد إلى صاحب الزنج بالبصرة: عرفني نسبك؟ فأجابه: ليعنك من شأني ما عناني من أمرك.
قيل لأبي الهذيل: إن قوماً يلعنونك، قال: أرأيت إن أنا اتبعتهم هل يلعنني قومٌ آخرون؟ قال: نعم، قال: فأراني لا أتخلص من لعن طائفةٍ، فدعني مع الحق وأهله.
خلع الرشيد على يزيد بن مزيد، وكان في مجلسه رجلٌ من أهل اليمن، فقال: اجرر يا يزيد ما لم يعرق فيه جبينك، قال: صدقت عليكم نسجه وعلينا سحبه.
قال عمرو بن العاص لمعاوية: ما أشد حبك للمال، قال: ولم لا أحبه وأنا أستعبد به مثلك وأبتاع دينك ومروءتك.

قال أبو العيناء: قال لي المتوكل يوماً: لا تكثر الوقيعة في الناس، فقلت: إن لي في بصري شغلاً عن ذلك، فقال: ذاك أشد لحقدك على أهل العافية.
وقال له المتوكل يوماً: إن سعيد بن عبد الملك يضحك منك، فقال: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون المطففين: 29.
وقال له ابن السكيت: تراك أحطت بما لم أحط به؟ قال: ما أنكرت؟ فوالله لقد قال الهدهد - وهو أخس طائرٍ - لسليمان: أحطت بما لم تحط به.
وقال أبو العيناء: قال لي المتوكل: امص إلى موسى بن عبد الملك واعتذر إليه ولا تعلمه أني وجهتك. فقلت له: تستكتمني بحضرة ألفٍ؟ قال: إنما عليك أن تنفذ لما تؤمر به، قلت: وعلي أن أحترس مما أخاف منه.
وقال له يوماً عبيد الله بن سليمان: كيف حالك؟ قال: أنت الحال، إذا صلحت صلحت.
وقربه يوماً فقال: تقريب المولى وحرمان العدو.
قيل له: لا تعجل فإن العجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: وعجلت إليك ربي لترضى طه: 84.
وقال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة، قال لي أبي: يا بني إن الله قرن طاعته بطاعتي فقال: اشكر لي ولوالديك لقمان: 14، فقلت: يا أبه إن الله تعالى ائتمنني عليك ولم يأتمنك علي فقال سبحانه وتعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ الإسراء: 31.
وقال أبو العيناء: قال لي المتوكل يوماً: بلغني أنك رافضي. فقلت: للدين أم للدنيا؟ فإن أك للدين ترفضت فأبوك مستنزل الغيث؛ وإن أك لدنيا ففي يدك خزائن الأرض. وكيف أكون رافضياً وأنا مولاك، ومولدي البصرة، وأستاذي الأصمعي، وجيراني باهلة؟ فقال: إن ابن سعدان زعم ذلك، فقلت: ومن ابن سعدان والله ما يفرق بين الإمام والمأموم، والتابع والمتبوع، إنما ذلك حامل درةٍ ومعلم صبية، وآخذٌ على كتاب الله أجرة. قال: لا تفعل، فإنه مؤدب المؤيد؛ قلت: يا أمير المؤمنين، لم يؤدبه حسبةً، وإنما أدبه بأجرة، فإذا أعطيته حقه فقد قضيت ذمامه.
وقف بهلولٌ على رجلٍ فقال: خبرني عن قول الشاعر: من الكامل
وإذا نبا بك منزل فتحول
كيف هو عندك؟ قال: جيد، قال: فإن كان في الحبس فكيف يتحول؟ فانقطع الرجل. فقال بهلول: الصواب قول عنترة: من الطويل
إذا كنت في دارٍ يسوؤك أهلها ... ولم تك مكبولاً بها فتحول
قيل لمجنون: ما فعل ضربك للصبيان؟ فقال: من الطويل
وإن امرءاً يمسي ويصبح سالماً ... من الناس إلا ما جنى لسعيد
تزوج أعرابي امرأة أشرف منه حسباً ونسباً فقال: يا هذه إنك مهزولةٌ، فقالت: هزالي أولجني بيتك.
نظر رجلٌ إلى امرأتين تتلاعبان فقال: مرا، لعنكما الله، فإنكن صويحبات يوسف. فقالت إحداهن: يا عم فمن رمى به في الجب؟ أنحن أم أنتم؟ قال علي بن عبيدة: تزاور أختان من أهل القصر فأرهقتهما الصلاة، فبادرت إحداهما فصلت صلاةً خفيفةً، فقال لها بعض النساء: كنت حريةً أن تطولي الصلاة في هذا اليوم شكراً لله تعالى حيث التقيتما، قالت: لا ولكن أخفف صلاتي اليوم وأتمتع بالنظر إليها، وأشكر الله تعالى في صلاتي غداً.
قال عائشة للخنساء: إلى كم تبكين على صخرٍ، وإنما هو جذوةٌ في النار؟ قالت: ذلك أشد لجزعي عليه.
جاءت امرأةٌ إلى عدي بن أرطأة تستعديه على زوجها وتشكو أنه عنينٌ لا يأتيها، فقال عدي: إني لأستحي للمرأة أن تستعدي على زوجها في مثل هذا، فقالت: ولم لا أرغب فيما رغبت فيه أمك، فلعل الله أن يرزقني ابناً مثلك.
مدح رجلٌ هشاماً فقال: يا هذا إنه قد نهي عن مدح الرجل في وجهه، فقال له: ما مدحتك وإنما أذكرتك نعم الله تعالى لتجدد له شكراً.
قال المغيرة بن شعبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في جواب كلامٍ أشار فيه إلى تجنب الفاجر: يا أمير المؤمنين، الضعيف المؤمن له أمانته وعليك ضعفه، والفاجر القوي لك قوته وعليه فجوره. فولاه الكوفة.

لما فتح قتيبة بن مسلمٍ سمرقند أفضى إلى أثاثٍ ومتاعٍ لم ير مثله، وكان في جملة ذلك قدورٌ يرقى إليها بالسلالم. فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليهم، فأمر بدارٍ ففشرت له، وفي صحنها تلك القدور، فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل والناس جلوسٌ على مراتبهم، والحضين شيخ كبير. فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة: ائذن لي في معابثته، قال: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يأذن له - وكان عبد الله يضعف، وكان تسور حائطاً إلى امرأة قبل ذلك - فأقبل على الحضين فقال له: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، أسن عمك عن تسور الحيطان؛ قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من أن لا ترى؛ قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها؛ قال: أجل ولا عيلان، ولو كان رآها لسمي شبعان ولم يسم عيلان، فقال له عبد الله: يا أبا ساسان أتعرف الذي يقول: من الطويل
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائلٍ ... تجر خصاها تبتغي من تحالف
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول: من الوافر
وخيبة من يخيب على غنيٍّ ... وباهلة بن يعصر والرباب
قال: أتعرف الذي يقول: من الطويل
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرقت أفواه بكر بن وائل
قال: نعم وأعرف الذي يقول: من الكامل
قومٌ قتيبة أمهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئاً؟ قال: أقرأ منه الأكثر الأطيب: هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً الإنسان: 1. قال: فأغضبه، فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حاملٌ من غيره، قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى، ثم قال على رسله: وما يكون؟ تلد غلاماً على فراشي فيقال فلان ابن الحضين كما يقال: عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على عبد الله وقال: لا يبعد الله غيرك.
قام عمرو بن العاص بالموسم فأطرى معاوية وبني أمية، وتناول من بني هاشم، وذكر مشاهده بصفين، فقال له ابن عباس: يا عمرو، إنك بعت دينك من معاوية وأعطيته ما في يدك، ومناك ما في يد غيره، فكان الذي أخذ منك فوق الذي أعطاك، وكان الذي أخذت منه دون ما أعطيته، وكلٌّ راضٍ بما أخذ وأعطى؛ فلما صارت مصر في يدك تتبعك فيها بالعزل والتنقص، حتى لو أن نفسك فيها ألقيتها إليه.
وذكرت مشاهدك بصفين، فما ثقلت علينا وطأتك ولا نكأتنا فيها حربك، وإن كنت فيها لطويل اللسان قصير البنان، آخر الحرب إذا أقبلت وأولها إذا أدبرت، لك يدان: يدٌ لا تبسطها إلى خيرٍ، ويدٌ لا تقبضها عن شرٍّ، ووجهان: وجهٌ مونسٌ ووجهٌ موحشٌ، ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحريٌّ أن يطول حزنه على ما باع واشترى؛ ولك بيانٌ وفيك خطلٌ، ولك رأيٌ وفيك نكدٌ، ولك قدرٌ وفيك حسد، فأصغر عيبٍ فيك أعظم عيب غيرك.
فقال عمرو: أما والله ما في قريشٍ أثقل وطأةً منك علي، ولا لأحدٍ من قريشٍ عندي مثل قدرك.
ولما استقام رأي الناس على أبي موسى بصفين، أتاه عبد الله بن عباس - وعنده وجوه الناس وأشرافهم - فقال: يا أبا موسى، إن الناس لم يرضوا بك ولم يجتمعوا عليك لفضلٍ لا تشارك فيه، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمقدمين قبلك، ولكن أهل الشام أبوا غيرك، وايم الله إني لأظن ذلك شراً لنا وخيراً لهم، وإنه قد ضم إليك داهية العرب، وليس في معاوية خصلةٌ يستحق بها الخلافة؛ فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك، وإن تطمع باطله في حقك يدرك حاجته فيك. اعلم أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه من الأحزاب، وأنه ادعى الخلافة من غير مشورةٍ، فإن صدقك فقد صرح بخلعه، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه، وإن ادعى أن عمر وعثمان استعملاه فصدق: فأما عمر استعمله وهو الوالي عليه، بمنزلة الطبيب من المريض يحميه مما يشتهي ويؤخره مما يكره، ثم استعمله عثمان برأي عمر، وما أكثر من استعملاه ثم لم يدعوا الخلافة، وهو منهم واحد. واعلم أن لعمروٍ مع كل شيءٍ يسرك حيناً يسوءك. ومهما نسيت فلا تنس أن علياً بايعه القوم الذي بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، فإنها بيعة هدى، وأنه لم يقاتل إلا غاصباً أو ناكثاً.

فقال أبو موسى: رحمك الله والله ما لي إمامٌ غير علي، وإني لواقفٌ عند ما أرى، ولرضى الله أحب إلي من رضى أهل الشام، وما أنا وأنت إلا بالله.
دخل زيد بن عليٍّ على هشام بن عبد الملك الرصافة فسلم تسليم الخلافة، ثم مال فجلس، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحدٌ فوق أن يوصى بتقوى الله وإني أوصيك بتقوى الله، وكفى به جازياً لعباده الصالحين ومثيباً. فظن هشامٌ أنه يريد أن يتظلم، فقال: أنت الراجي للخلافة المنتظر لها، وكيف ترجوها وأنت ابن أمةٍ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن شئت أجبت وإن شئت سكت، قال: أجب، قال: إنه ليس أحدٌ أعظم عند الله منزلةً من نبيٍّ بعثه رسولاً، فلو كانت ولادة أم ولدٍ تقصر به عن بلوغ غاية الأنبياء والرسل لم يبعث الله إسماعيل بن إبراهيم، وكانت أمه مع أم إسحاق كأمي مع أمك، ثم لم يمنعه ذلك أن يبعثه الله نبياً، وكان عند ربه مرضياً، وكان أبا العرب وأبا خير البشر وخاتم المرسلين؛ فالنبوة أعظم خطراً أم الخلافة؟ وما عار الرجل بأمه وهو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن علي بن أبي طالب؟ ثم طفق فخرج.
قال الإسكندر لابنه: يا ابن الحجامة فقال: أما أمي فقد أحسنت التخير، وأما أنت فلم تحسن.
؟وقال أعرابيٌّ لابنه: يا بن الأمة فقال: لهي والله اعذر منك حيث لم ترض إلا حراً.
قال رجل لأعرابي: أتجلب التمر إلى هجر؟ قال: نعم إذا أجدبت أرضها وعدم نخلها.
لما بلغ معاوية وفاة الحسن بن علي عليه السلام دخل عليه ابن عباس قبل أن يعلم بها، فقال له: آجرك الله أبا عباس في أبي محمدٍ الحسن بن علي - ولم يظهر حزناً - فقال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون، وغلبه البكاء فرده، ثم قال: لا يسد والله مكانه حفرتك، ولا يزيد موته في أجلك، والله لقد أصبنا بمن هو أعظم منه فقداً فما ضيعنا الله بعده.
قال له معاوية: كم كانت سنه؟ قال: هو أشهر من أن تجهل سنه. قال: أحسبه ترك أولاداً صغاراً؟ قال: كلنا كان صغيراً فكبر، ولئن اختار الله لأبي محمدٍ ما عنده وقبضه إلى رحمته، فلقد أبقى الله أبا عبد الله، وفي مثله الخلف الصالح.
لما أهديت بنت عقيل بن علفة إلى عبد الملك بن مروان أو إلى الوليد ابنه بعث مولاةً له لتأتيه بخبرها قبل أن يدخل بها. فأتتها فلم تأذن لها وكلمتها فأحفظتها فهشمت أنفها. فرجعت إليه فأخبرته، فغضب من ذلك، فلما دخل عليها قال: ما أردت إلى عجوزنا هذه؟ قالت: أردت والله إن كان خيراً أن تكون أول من لقي بهجته، وإن كان شراً أن تكون أحق من ستره.
أرسل مسلمة بن عبد الملك إلى هندٍ بنت المهلب يخطبها على نفسه، فقالت لرسوله: والله لو أحيا من قتل من أهل بيتي وموالي ما طابت نفسي بتزويجه، بل كيف يأمنني على نفسه وأنا أذكر ما كان منه، وثأري عنده؟ لقد كان صاحبك يوصف بغير هذا في رأيه.
قال بعضهم: رأيت بالمدينة امرأةً بين عينيها سجادةٌ وعليها ثيابٌ معصفرةٌ، فقلت لها: ما أبعد زيك من سمتك؟ فقالت بصوت نشيط: من الطويل
ولله مني جانبٌ لا أضيعه ... وللهو مني جانبٌ ونصب
ولست أبالي من رماني بريبةٍ ... إذا كنت عند الله غير مريب
قال بعضهم: خرجت في حاجةٍ فلما كنت بالسيالة، وقفت على باب إبراهيم بن هرمة، فصحت: يا أبا إسحاق، فأجابتني ابنته، قالت: خرج آنفاً؛ قلت: هل من قرىً فإني مقوٍ من الزاد؟ قالت: لا والله، قلت: فأين قول أبيك: من المنسرح
لا أمتع العود بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل
قالت: فذاك أفناها.
وقيل أنه اجتمع بباب ابن هرمة جماعةٌ من الشعراء فسألوا ابنته عنه فقالت: وما تريدون منه؟ قالوا: جئنا لنهاجيه، قالت: من الطويل
تجمعتم من كل أوبٍ ووجهةٍ ... على واحدٍ لا زلتم قرن واحد
قيل لسعيد بن المسيب وقد كف بصره: ألا تقدح عينك؟ قال: حتى أفتحها على من؟ .
قال رجل لعامر بن الطفيل: استأسر، قال: بيت أمك لا يسعني.
وقف رجل للحجاج فقال: أصلح الله الأمير، جنى جانٍ في الحي فأخذت بجريرته وأسقط عطائي، فقال: أما سمعت قول الشاعر: من الكامل المرفل
جانيك من يجني عليك وقد ... يعدي الصحاح مبارك الجرب
ولرب مأخوذٍ بذنب صديقه ... ونجا المقارف صاحب الذنب

فقال الرجل: كتاب الله تعالى أول ما اتبع، قال الله عز وجل: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده يوسف: 79؛ فقال الحجاج: صدقت، وأمر برد عطائه.
مر الأحنف بعكراش بن ذؤيب - وكان ممن شهد الجمل مع عائشة فقطعت يداه جميعاً - فصاح به عكراش: يا مخذل، فقال الأحنف: أما إنك لو أطعتني لأكلت بيمينك وتمسحت بشمالك.
وقال له رجل: تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه، فقال: وما ذممت في يا ابن أخي؟ قال: الدمامة وقصر القامة، قال: لقد عبت ما لم أؤامر فيه.
وشخص يزيد بن عمر بن هبيرة إلى هشامٍ فتكلم، فقال هشامٌ: ما مات من خلف مثل هذا؛ فقال الأبرش الكلبي: ليس هناك، أما تراه يرشح جبينه لضيق صدره؟ فقال يزيد: ما لذاك أرشح، لكن لجلوسك في هذا الموضع.
خرج يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري يسير بالكوفة إلى مسجد بني غاضرة وقد أقيمت الصلاة، فنزل فصلى واجتمع الناس لمكانه في الطريق، وأشرف النساء من السطوح، فلما قضى صلاته قال: لمن هذا المسجد؟ قيل: لبني غاضرة، فتمثل قول الشاعر: من الكامل
ولما تركن من الغواضر معصراً ... إلا فصمن بساقها خاخالا
فقالت له امرأةٌ من المشرفات: من الكامل
ولقد عطفن على فزارة عطفةً ... كر المنيح وجلن ثم مجالا
فقال يزيد: من هذه؟ قالوا: بنت الحكم بن عبدل، فقال: هل تلد الحية إلا حيةً.
دخل طريح بن إسماعيل الثقفي على أبي جعفر المنصور في جملة الشعراء، فقال له المنصور حين سلم: لا حياك الله ولا بياك، أما اتقيت الله ويلك حيث تقول للوليد: من المنسرح
لو قلت للسيل دع طريقك وال ... موج عليه كالهضب يعتلج
لساخ وارتد أو لكان له ... في سائر الناس عنك منعرج
ويروى إلى طريق سواك. فقال طريح: قد علم الله أني قلت ذاك ويدي ممتدةٌ إليه عز وجل، وإياه تبارك وتعالى عنيت، فقال المنصور: يا ربيع أما ترى هذا التخلص؟ أنشد إسماعيل بن يسار النساء عبد الملك بن مروان قصيدة مدحه بها يقول فيها: من الطويل
جعلت هشاماً والوليد ذخيرةً ... وليين للعهد الوثيق المؤكد
قال فنظر إليهما عبد الملك مبتسماً، والتفت إلى سليمان فقال: أخرجك إسماعيل من هذا الأمر، فغضب سليمان ونظر إلى إسماعيل نظر مغضبٍ، فقال: يا أمير المؤمنين إنما وزن الشعر أخرجه من البيت الأول وقد قلت بعده: من الطويل
وأمضيت عزماً في سليمان راشداً ... ومن يعتصم بالله مثلك يرشد
فأمر له بألفي درهمٍ، وأمر أولاده الثلاثة فأعطوه ثلاثة آلاف درهم.
ومثله أن أبا تمامٍ أنشد أحمد بن المعتصم: من الكامل
إقدام عمروٍ في سماحة حاتمٍ ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
فقال له مؤدبه - وأراد الغض منه - : الأمير أكبر من كل من وصفت. فقال أبو تمام: الكلام بآخره، ثم أنشد: من الكامل
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس
وقيل إنه ارتجل البيتين لوقته.
اعترض الرشيد قينة ليشتريها فغنت: من المنسرح
ما نقموا من بني أمية إل ... ا أنهم يجهلون إن غضبوا
ثم تنبهت فقالت:
وإنهم معدن النفاق فما ... تفسد إلا عليهم العرب
فقال الرشيد ليحيى بن خالد: سمعت يا أبا علي؟ فقال: تبتاع، يا أمير المؤمنين، وتسنى لها الجائزة، ويعجل لها الإذن ليسكن قلبها، قال: ذلك جزاؤها. وقال لها: أنت مني بحيث تحبين، فأغمي على الجارية.
والشعر الذي غنت لعبيد الله بن قيس الرقيات وهو: من المنسرح
ما نقموا من بني أمية إل ... ا أنهم يحلمون إن غضبوا
وأنهم معدن الملوك فما ... تصلح إلا عليهم العرب
جلس عمرو بن هداب للشعراء فأنشده طريف بن سوادة أرجوزةً فيه حتى انتهى إلى قوله: من الرجز
أبرص فياض اليدين أكلف ... والبرص أندى باللهى وأعرف
وكان عمرو أبرص فصاح به بعض حاضريه: اسكت قطع الله لسانك، فقال عمرو: مه إن البرص من مفاخر العرب، أما سمعت قول ابن حبناء: من البسيط
لا تحسبن بياضاً في منقصةً ... إن اللهاميم في أقرابها بلق

أحضر عبد الملك بن مروان رجلاً يرى رأي الخوارج، فأمر بقتله وقال: ألست القايل: من الطويل
ومنا سويدٌ والبطين وقعنبٌ ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال: يا أمير المؤمنين إنما قلت: أمير المؤمنين شبيب، أردت بك يا أمير المؤمنين فحقن دمه.
خرج رجل على عبد الله بن طاهر كان اصطنعه وأحسن إليه: فحاربه عبد الله فظفر به، فقال له: ما حملك على ما صنعت مع إحساني إليك؟ فقال: حملني على ذلك قولك أيها الأمير: من المنسرح
حتى متى تصحب الرجال ولا ... تصحب يوماً لأمك الهبل
فصفح عنه وأعاده إلى مرتبته وزاد في بره.
مرت امرأة من العرب بمجلس من مجالس نمير، فرماها جماعةٌ منهم بأبصارهم، فوقفت وقالت: يا بني نمير لا لأمر الله أطعتم ولا لقول الشاعر سمعتم، قال الله عز وجل: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم النور: 30، وقال الشاعر: من الوافر
فغض الطرف إنك من نميرٍ ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
قال: فما اجتمع منهم بعد في مجلس اثنان.
أنشد إبراهيم بن هرمة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بحضرة عبد الله بن الحسن بن الحسن شعراً يقول فيه: من الوافر
وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمة الجناح
فغضب عبد الله بن الحسن حتى انقطع زره ثم وثب مغضباً وتجوز ابن هرمة في الإنشاد ثم لحقه فقال: جزاك الله خيراً يا ابن رسول الله، فقال: ولكن لا جزاك الله خيراً يا ماص بظر أمه، أتقول لابن مروان وكان أبوك قادمة الجناح بحضرتي وأنا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فقال ابن هرمة: جعلني الله فداك، إني قلت قولاً أخدعه به طلباً للدنيا، ووالله ما قست بكم أحداً قط، أو لم تسمعني قد قلت فيها: وبعض القول يذهب في الرياح. قال: فضحك عبد الله وقال له: قاتلك الله فما أطرفك.
حجت سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وكانت عائشة أحسنهما آلةً وثقلاً، وكان معها ستون بغلاً فحدا حادي عائشة فقال: من الرجز
عائش يا ذات البغال الستين ... لا زلت ما عشت كذا تحجين
فشق ذلك على سكينة فنزل حاديها فقال: من الرجز
عائش هذي ضرةٌ تشكوك ... لولا أبوها ما اهتدى أبوك
فأمرت عائشة حاديها فكف.
عرض محمد بن واسع حماراً له على البيع فقال له رجلٌ: أترضاه لي؟ فقال لو رضيته ما بعته.
وهذا إنما قال تحرجاً وتحوباً وفيه جوابٌ مسكت.
دعا بعض القراء بعض الأمراء باسمه فغضب وقال: أين الكنية لا أبا لك؟ فقال: إن الله تعالى سمى أحب الخلق إليه فقال: وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل آل عمران: 144، وكنى أبغض الخلق إليه فقال: تبت يدا أبي لهبٍ المسد: 1.
وناظر ابن الزيات رجلاً فصالحه على مالٍ فقال له: عجله، فقال: أظلمٌ وتعجيلٌ؟ فقال ابن الزيات: أصلحٌ وتأجيلٌ؟ كانت قبيحة أم المعتز تحرضه على قتل الأتراك الذين قتلوا أباه، وتبرز إليه قميصه المضرج بدمه، فقال لها يوماً: ارفعه وإلا صار القميص قميصين، فما عادت لعادتها بعد ذلك.
لما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج فإن الخلفاء لا لا يطعنون ولم نر خليفةً طعن، قال: أنتم تريدون أن تجربوني، ونزل الرصافة وهي برية.
وأتي هشامٌ بعودٍ فقال للوليد بن يزيد: ما هذا؟ قال: خشبٌ يشقق ثم يرقق ثم يلصق ثم تعلق عليه أوتارٌ فينطق فتضرب الكرام برؤوسها الحيطان سروراً به، وما في المجلس إلا من يعلم ما أعلمه وأنت أولهم يا أمير المؤمنين.
وقد قيل إن هذا الكلام للوليد بن مسعدة الفزاري مع عبد الملك بن مروان.
ركب الرشيد لينظر إلى هدايا بعث بها علي بن عيسى بن ماهان بعد صرف الفضل بن يحيى عن خراسان، وجعفر بن يحيى يسايره، فقال لجعفر: أين كان هذا أيام أخيك؟ قال: في منازل أربابه، فلم يحر جواباً.
قال التوزي: كان رجل من ولد جرير في حلقة يونس بن حبيب، وفيها رجلٌ من بني شيبان، وأم جرير منهم، فقال الجريري يفتخر على الشيباني: من الطويل
نمتني من شيبان أمٌّ نزيعة ... كذلك ضرب المنجبات النزائع
أما والله - يا أخا بني شيبان - ما أخذناها إلا بأطراف الرماح. فقال الشيباني: صدقت والله، لأنت ألأم من أن يزوجوك بها طوعاً أو يرضوك لها كفؤاً.

وقف الإسكندر على ذيوجانس فقال: أما تخافني؟ فقال: أخيرٌ أننت أم شرٌّ؟ قال: بل خير. فقال ذيوجانس: فإني لا أخاف الخير بل أحبه.
سأل رجل جاهل أفلاطون: كيف قدرت على كثرة ما تعلمت؟ قال: لأني أفنيت من الزيت أكثر مما أفنيت من الشراب.
تكلم صعصعة عند معاوية فعرق، فقال: بهرك الكلام يا صعصعة؟ فقال: الخيل الجياد نضاخة بالماء.
نظر ثابت بن عبد الله بن الزبير إلى أهل الشام فشتمهم، فقال له سعيد بن عثمان بن عفان: تشتمهم لأنهم قتلوا أباك؟ قال: صدقت، ولكن المهاجرين والأنصار قتلوا أباك.
دخل معن بن زائدة على المنصور يقارب في خطوه، فقال أبو جعفر: كبرت سنك يا معن؛ قال: في طاعتك؛ قال: وإنك لجلد قال: على أعدائك، قال: وإن فيك بقيةٌ؛ قال: هي لك يا أمير المؤمنين.
مر أعرابيٌ بمجلس قومٍ فسخروا منه واستهزأوا به، فرجع إليهم وقال: يا هؤلاء إن الناس رجلان: متكلمٌ غانمٌ، وساكتٌ سالمٌ، فوالله ما سلمتم سلامة الصامت، ولا غنمتم غنيمة المتكلم.
قال عبد الله بن عباس: بعثني عليٌّ عليه السلام إلى عائشة أم المؤمنين يأمرها بالرحيل إلى بلادها. فأتيتها فدخلت عليها فلم يوضع لي شيءٌ أجلس عليه، فتناولت وسادةً كانت في رحلها فقعدت عليها، فقالت عائشة: يا ابن عباس، أخطأت السنة: قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا، فقلت: ما هذا بيتك، بيتك الذي أمرك الله سبحانه أن تقري فيه، ولو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلا بإذنك. ثم قلت: إن أمير المؤمنين علياً أرسلني إليك يأمرك بالرحيل إلى بلادك. قالت: وأين أمير المؤمنين؟ ذاك عمر. فقلت: ذاك عمر وعليٌّ أيضاً، قالت: أبيت أبيت. قلت: أما والله ما كان إباؤك إلا قصير المدة، عظيم التبعة، قليل المنفعة، ظاهر الشؤم، بين النكد، وما عسى أن يكون إباؤك وما كان أمرك إلا كحلب شاةٍ حتى صرت، لا تأمرين ولا تنهين، ولا تأخذين ولا تعطين، وما كان مثلك إلا كقول أخي بني أمية حيث يقول: من الكامل
ما زال إهداء الضغائن بينهم ... تترى الحديث وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن صوتك بينهم ... في كل مجمعةٍ طنين ذباب
قال: فبكت حتى سمعت نحيبها من وراء الحجاب، ثم قالت: إني معجلة الرحيل إلى بلادي إن شاء الله، والله ما من بلدٍ أبغض إلي من بلدٍ أنتم فيه. قال: ولم ذاك؟ فوالله لقد جعلنا أباك صديقاً، قالت: يا ابن عباس، أتمن علي برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: ما لي لا أمن عليك بمن لو كان منك لمننت علي.
وقال بعض أصحاب الرشيد: كنت واقفاً على رأس الرشيد وقد دخل عليه عبد الملك بن صالح، فأقبل عليه الرشيد فقال: كأني أنظر إلى شؤبونها وقد لمع، وإلى غبارها وقد سطع، وإلى الوعيد وقد أورى ناراً، وقد كشف عن لهازم بلا حلاقم ورؤوسٍ بلا غلاصم، فمهلاً مهلاً يا بني هاشم، لا تستوعروا السهل ولا تستسهلوا الوعر، ولا تبطروا النعم، ولا تستجلبوا النقم، فعن قليل يذم ذو الرأي منكم رأيه، وينكص ذو الحزم منكم عقبيه، وتستبدلوا الذل بعد العز، وتستشعروا الخوف بعد الأمن. فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، أفذاً أتكلم أم تواماً؟ قال: بل فذاً؛ قال: إن لله عليك حقاً فيما ولاك فأده، واحفظه في رعيته، ولا تجعل الكفر في موضع الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، ولا تقطع رحمك التي أوجب الله عليك صلتها، وألزمك حقها، ونطق الكتاب بها، فإن عقوقها كفرٌ؛ وجاز ذا الحق على حقه، ولا تصرف الحق إلى غير أهله؛ جمعت عليك القلوب بعد افتراقها، وسكنتها بعد نفارها، وشددت أواخي ملكك بأشد من أركان يلملم، وكنت كما قال أخو بني جعفر ابن كلاب: من الرمل
ومقامٍ ضيقٍ فرجته ... بلساني ومقامي وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل
فقال الرشيد: هذا ابنك يخبرنا عنك بمعصيتك وشقاقك. قال: ليس يخلو ابني من أن يكون مأموراً أو عدواً، فإن كان مأموراً فمعذوراً وعدواً فمحذوراً، وقد قال الله تعالى: إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم التغابن: 14، قال: فهذا كاتبك قمامة بن يزيد يخبر بمثل ذلك، وقد سأل أن يجمع بينك وبينه، قال: إن من كذب علي وأشاظ بدمي غير مأمونٍ أن يبهتني، وخرج.

قال ابن مروان لأبي يوسف القزويني الفقيه الحنفي وقد أراه سور آمد وعجبه من حصانته وإحكامه: كيف تراه؟ فقال له أبو يوسف: يحفظك بالليل، ويرد عنك السبل، ولا يحجب عنك دعوة المظلوم.
كان أحمد بن يوسف يكتب بين يدي المأمون، فطلب منه السكين فدفعها إليه والنصاب في يده، فنظر إليه المأمون نظر منكرٍ، فقال: على عمدٍ فعلت ذلك، ليكون الحد على أعدائك. فعجب الناس من سرعة جوابه وشدة فطنته.
وقال المأمون لأحمد بن يوسف: إن أصحاب الصدقات تظلموا منك، فقال: والله، يا أمير المؤمنين، ما رضي أصحاب الصدقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله تعالى فيهم: ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون التوبة: 58، فكيف يرضون عني؟ فاستضحك المأمون وقال له: تأمل أحوالهم وأحسن النظر في أمورهم.
لما ولي يحيى بن أكثم قضاء البصرة استصغروا سنه، فقال له رجلٌ: كم سن القاضي أعزه الله؟ سن عتاب بن أسيدٍ حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فجعل جوابه احتجاجاً.
قيل لابن شبرمة: لم تركت النبيذ؟ فقال: إن كان حلالاً فحظي تركت، وإن كان حراماً فبالحزم أخذت.
لما قال النابغة الجعدي في ليلى الأخيلية من أبياتٍ: من الطويل
ألا حييا ليلى وقولا لها هلا ... فقد ركبت أيراً أغر محجلا
وقد أكلت بقلاً وخيماً نباته ... وقد شربت من آخر الليل أيلا
يعني ألبان الأيل وقد تورث الغلمة
أجابته ليلى من أبياتٍ: من الطويل
تعيرني داءً بأمك مثله ... وأي حصانٍ لا يقال لها هلا
فغلبته.
لما قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين قتل عثمان رضي الله عنه أبياته المشهورة التي من جملتها: من الطويل
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه
أجابه الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بأبياتٍ منها يقول: من الطويل
وشبهته كسرى وقد كان مثله ... شبيهاً بكسرى هديه وعصائبه
أرسل أبو ذؤيب الهذلي خالد بن زهيرٍ إلى امرأةٍ بينه وبينها خلةٌ، فأفسدها خالدٌ لنفسه، وكان أبو ذؤيبٍ من قبل قد فعل مثل ذلك مع عويمر بن مالك بن عويمر، فلما عرف أبو ذؤيب ما فعله خالد كتب إليه بأبيات منها: من الطويل
خليلي الذي دلى لغيٍّ خليلتي ... جهاراً وكلٌّ قد أصاب غرورها
ونفسك فاحفظها ولا تفش للعدى ... من السر ما يطوى عليه ضميرها
فأجابه خالد بن زهير: من الطويل
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راضٍ من يسيرها
أي جعلتها سائرة. ويروى من سنة وعلى هذه الرواية يروى من يسيرها بضم أوله، وفي ذلك يقول أبو ذؤيب: من الطويل
تريدين كيما تجمعيني وخالداً ... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد
شبب الأحوص بن محمد الأنصاري بأم جعفر، وهي امرأة من الأنصار، وشاع شعره فيها، فأوعده أخوها أيمن وتهدده فلم ينته، فاستعدى عليه عمر بن عبد العزيز، فربطهما في حبلٍ ودفع إليهما سوطين وقال لهما: تجالدا، فغلب أخوها وسلح الأحوص في ثيابه وهرب، وتبعه أيمن حتى فاته الأحوص هرباً.
وإنما فعل ذلك عمر اقتداءً بعثمان بن عفان، فإنه لما تهاجى سالم بن دارة ومرة بن رافع الغطفاني لزمهما عثمان بحبل وأعطاهما سوطين فتجالدا بهما.
وكان الأحوص قال في أم جعفرٍ من أبياتٍ: من الطويل
لقد منعت معروفها أم جعفرٍ ... وإني إلى معروفها لفقير
فقال السائب أحد بني عمرو بن عوف يعيره فراره ويعارضه في هذه الأبيات: من الطويل
لقد منع المعروف من أم جعفرٍ ... أخو ثقةٍ عند الجلاد صبور
علاك بمتن السوط حتى اتقيته ... بأصفر من ماء الصفاق يفور
فقال الأحوص: من الطويل
إذا أنا لم أغفر لأيمن ذنبه ... فمن ذا الذي يغفر له ذنبه بعدي
أريد انتقام الذنب ثم ترده ... يدٌ لأدانيه مباركةٌ عندي
هجا الأخطل سويد بن منجوف فقال: من الطويل
وما جذع سوءٍ خرق السوس متنه ... لما حملته وائلٌ بمطيق

فقال سويد: والله يا أبا مالك ما تحسن أن تهجو ولا تمدح. أردت هجائي فمدحتني، جعلت وائلاً تحملني أمورها وما طمعت في بني ثعلبة فضلاً عن بكر.
طعن عامر بن الطفيل ضبيعة بن الحارث فقال ضبيعة: من الكامل
لولا اعتراضٌ في الأغر وجرأةٌ ... لفعلت فاقرةً بجيش سعيد
فقال عامر: يعجز عن فرسه ويتوعدني.
أنشد جريرٌ قول الأخطل: من الطويل
وإني لقوامٌ مقاوم لم يكن ... جريرٌ ولا مولى جريرٍ يقومها
فقال: صدق، أنا لا أقوم عند است قس لآخذ القربان ولا بين يدي سلطانٍ لأداء الجزية.
أنشد رجلٌ يحيى بن خالد: من البسيط
إني امرؤ في أعالي بيت مكرمةٍ ... إذا تمزق ثوبي أرتدي حسبي
فقال يحيى: ما أقل غناء هذا الرداء في كانونين.
قصد شاعرٌ أبا دلفٍ فقال له: ممن أنت؟ قال: من بني تميم، فقال أبو دلف: من الذين يقول فيهم الشاعر: من الطويل
تميمٌ بطرق اللؤم أهدى من القطا
قال: نعم، بتلك الهداية جئتك؛ فخجل أبو دلف واسكتمته وأحسن جائزته.
لما قتل مسلمة بن عبد الملك يزيد بن المهلب قال ثابت قطنة يرثيه: من الكامل
يا ليت إخوتك الذين تغيبوا ... كانوا ليومك بالعراق شهودا
فقال مسلمة: وأنا والله وددت حتى أسقيهم بكأسه.
لما أسلمت بنت شيبة بن ربيعة قالت هند بنت عتبة لها: من الوافر
تدين مع الأولى قتلوا أباها ... أقتل أبيك جاءك باليقين
فقالت: نعم قتله جاءني باليقين.
عرض بلال بن أبي بردة الجند، فمر به رجلٌ من بني نمير ومعه رمح قصير، فقال له بلال: يا أخا بني نمير ما أنت كما قال الشاعر: من الوافر
لعمرك ما رماح بني نميرٍ ... بطائشة الصدور ولا قصار
فقال: أصلح الله الأمير ما هو لي إنما استعرته من رجلٍ من الأشعريين.
بصر الفرزدق بجرير محرماً فقال: والله لأفسدن على ابن المراغة حجه، ثم جاءه مستقبلاً وقال: من الطويل
فإنك لاقٍ بالمشاعر من منىً ... فخاراً فخبرني بمن أنت فاخر
فقال جرير: لبيك اللهم لبيك.
قال الحسن بن قحطبة: دخلت على المهدي بعيساباذ فدخل شريكٌ القاضي فسلم، فقال المهدي: لا سلم الله عليك يا فاسق، فقال شريك: إن للفاسق علامات تعرف: شرب الخمور واتخاذ القينات والمعازف. قال: قتلني الله إن لم أقتلك. قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت في المنام كأني مقبلٌ عليك أكلمك وأنت تكلمني من قفاك. فقال لي المعبر: هذا رجلٌ يطأ بساطك وهو مخالفٌ لك. فقال شريك: إن رؤياك ليست كرؤيا يوسف بن يعقوب، وإن دماء المسلمين لا تستحل بالأحلام. فنكس المهدي رأسه ثم أشار إليه أن اخرج، فخرج وخرجت خلفه. فقال لي: ما رأيت ما أراد صاحبك أن يفعل؟ فقلت: اسكت فلله أبوك.
جاء رجل إلى شريح فكلمه بشيءٍ وأخفاه، فلما قام قال له رجل: يا أبا أمية، ما قال لك؟ قال: يا ابن أخي أما رأيته أسره منك؟ وقيل للشعبي - وقد بنى بأهله - : كيف وجدت أهلك؟ قال: ولم أرخيت الستور إذن.
دعا الرشيد أبا يوسف ليلاً فسأله عن مسألةٍ فأفتاه، فأمر له بمائة ألف درهم، فقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بتعجيلها قبل الصبح، فقال: عجلوها له، فقيل إن الخازن في بيته والأبواب مغلقةٌ، فقال أبو يوسف: وقد كنت في بيتي والدروب مغلقةٌ، فحين دعاني فتحت.
قال عبيد الله بن زياد لبعض بني بكر بن وائل: ما تقول فينا وفي الحسين وفي قتلنا إياه؟ فقال: ما أقول، يجيء جده يوم القيامة فيشفع له ويجيء جدك فيشفع لك.
كان أبو الأسود يتشيع، وكان ينزل في بني قشير وهم عثمانية، فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصبح شكا ذلك. فشكاهم مرةً فقالوا له: ما نحن نرميك ولكن الله يرميك، فقال: كذبتم لو كان الله يرميني لما أخطأني.
كان بعض أهل البصرة يتشيع، وكان له صديقٌ يفد إليه ويوافقه على مذهبه، فأودعه مالاً فجحده، فاضطر إلى أن قال لمحمد بن سليمان، وسأله أن يحضره ويحلفه بحق عليٍّ ففعل ذلك. فقال الرجل: أعز الله الأمير، هذا الرجل صديقي وهو أعز علي وأجل من أن أحلف له بالبراءة من مختلفٍ في ولايته وإيمانه، ولكني أحلف له بالبراءة من المتفق على إيمانهما وولايتهما أبي بكر وعمر. فضحك محمد بن سليمان، والتزم المال، وخلى الرجل.

دخل أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني على معاوية فقال له: أنت من قتلة عثمان؟ قال: لا ولكني ممن حضره فلم ينصره، قال: وما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار؛ قال معاوية: لقد كان حقه واجباً وكان يجب عليهم أن ينصروه، قال: فما منعك يا أمير المؤمنين من نصرته ومعك أهل الشام؟ قال: أو ما طلبي بدمه نصرةٌ له؟ فضحك عامر وقال: أنت والله وعثمان كقوله: من البسيط
لا أعرفنك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي
فقال له معاوية: دع عنك هذا وقل لي ما بقى الدهر من ثكلك علي بن أبي طالب؟ قال: ثكل العجوز المقلات والشيخ الرقوب، قال: كيف حبك له؟ قال: حب أم موسى لموسى، وإلى الله أشكو التقصير.
أتي الحجاج بامرأةٍ من الخوارج فقال لمن حضره: ما ترون فيها؟ قالوا اقتلها. فقالت: جلساء أخيك خيرٌ منك ومن جلسائك قال: ومن أخي؟ قالت: فرعون، لما شاور جلساءه في موسى قالوا: أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين الأعراف: 111.
أتي عتاب بن ورقاء بامرأة من الخوارج، فقال لها: يا عدوة الله ما دعاك إلى الخروج؟ أما سمعت الله تبارك وتعالى يقول: من الخفيف
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
قالت: يا عدو الله، أخرجني قلة معرفتك بكتاب الله تعالى.
قال المنصور لبعض الخوارج وقد ظفر به: عرفني من أشد أصحابي إقداماً كان في مبارزتك؟ قال: ما أعرفهم بوجوههم ولكني أعرف أقفاءهم، فقل لهم يدبروا حتى أصفهم؛ فاغتاظ وأمر بقتله.
قال الحجاج لرجلٍ من الخوارج: والله إني لأبغضكم، فقال الخارجي: أدخل الله أشدنا بغضاً لصاحبه الجنة.
خفف أشعب الصلاة مرةً، فقال له بعض أهل المسجد: خففت الصلاة جداً، قال: لأنه لم يخالطها رياءٌ.
عاد المعتصم أبا الفتح ابن خاقان، والفتح صغير، فقال له: داري أحسن أم دار أبيك؟ قال: يا أمير المؤمنين، دار أبي ما دمت فيها.
اجتاز عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيانٍ يلعبون وفيهم عبد الله بن الزبير، فتهاربوا إلا عبد الله، فإنه وقف. فقال له عمر: لم لم تفر مع أصحابك؟ قال: لم يكن لي جرمٌ فأفر منك، ولا كان الطريق ضيقاً فأوسعه عليك.
أتي الحجاج بأعرابيٍّ في أمرٍ احتاج إلى مساءلته عنه، فقال الحجاج: قل الحق وإلا قتلتك، فقال له: اعمل به أنت، فإن الذي أمرك بذلك أقدر عليك منك علي، فقال الحجاج: صدق. فخلوه.
قدم أعرابيٌّ على سلطان ومعه قصة، فجعل يقول: هاؤم اقرأوا كتابيه، فقيل له: هذا يقال يوم القيامة، فقال: هذا شرٌّ من يوم القيامة، إنه يؤتى يوم القيامة بحسناتي وسيئاتي، وأنتم جئتم بسيئاتي وتركتم حسناتي.
حلف أعرابيٌّ بالمشي إلى بيت الله الحرام لا يكلم ابنه، فحضرته الوفاة، فقيل له: كلمه قبل أن تفارق الدنيا، فقال: والله ما كنت قط أعجز عن المشي إلى بيت الله تعالى مني الساعة.
قيل لأعرابي ينسج: ألا تستحي أن تكون نساجاً فقال: إنما أستحي من أن أكون أخرق لا أنفع أهلي.
مد المأمون يده إلى أعرابيٍّ ليقبلها، فتناولها بكمه، فقال: أتتقزز منها؟ قال: لا بل أتقزز لها.
قال رجلٌ: رأيت أعرابياً في إبلٍ قد ملأت الوادي، فقلت: لمن هذه؟ قال: لله في يدي.
سأل أعرابي فقيل له: بورك فيك، وتوالى عليه ذلك من غير مكان فقال: وكلكم الله إلى دعوة لا تحضرها نية.
سألت أعرابيةٌ المنصور في طريق مكة فحرمها، فقالت: من الطويل
إذا لم يكن فيكن ظلٌّ ولا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات
وسألته أخرى فمنعها، فقالت: من الطويل
دنوك إن كان الدنو كما أرى ... علي وبعد الدار يستويان
قيل لجاذوسيس الصقلي: إنك من مدينةٍ خسيسةٍ، قال: أما أنا فيلزمني العار من قبل بلدي، وأما أنت فعارٌ لازمٌ لأهل بلدك.
وعير آخر سقراط ببلده، فقال سقراط: نسبي مني ابتدأ، ونسبك إليك انتهى.

قيل: طاف الرشيد بالبيت فوطئ جرادةً، فلم يدر ما عليه فيها، فبعث بالمأمون إلى الفضيل بن عياض فسلم عليه وقال: يا أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: لنا إليك حاجةٌ، فأحب أن تعبر إلينا. فلم يجب الفضيل بشيء، فرجع المأمون وقال: رأيت رجلاً ليست به إليك حاجةٌ، فقام الرشيد مغضباً حتى خيف على الفضيل منه؛ فوقف عليه وسلم، فوسع الفضيل له ورد عليه السلام. فلما جلس أقبل على الفضيل فقال: رحمك الله، قد كان الواجب أن تأتينا وتعرف حقنا إذ ولانا الله أموركم فصيرنا الحكام في دمائكم، والذابين عن حريمكم، وإذ لم تأتنا فقد أتيناك؛ إني وطئت الآن في الطواف على جنديةٍ فما ديتها؟ قال: فبكى الفضيل بكاءً شديداً حتى علا صوته وقال: إذا كان الراعي يسأل عن الغنم هلكت الغنم، وإنما يجب على الراعي أن يرتاد لغنمه المرعى، وجيد الكلأ، وعذب الماء، فإذا كنت يا أمير المؤمنين تسألني عن معالم الدين فبأي شيءٍ تسوس رعيتك؟ قال: فخجل الرشيد حتى عرق وانصرف.
ومما وضع على لسان البهائم: قالوا: عير الثعلب لبؤةً بأنها لم تلد في عمرها إلا جرواً واحداً، فقالت: نعم إلا أنه أسد.
وقالوا: صحب ذئبٌ وثعلبٌ أسداً فاصطادوا عيراً وظبياً وأرنباً. فقال الأسد للذئب: اقسم هذا بيننا، فقال: العير لك، والظبي لي، والأرنب للثعلب. فغضب الأسد وأخذ بحلق الذئب حتى قطع رأسه، وقال للثعلب: اقسمه أنت، فقال: العير لغدائك، والظبي لعشائك، والأرنب تفكه به في الليل، فقال: من علمك هذه القسمة العادلة؟ قال: رأس الذئب الذي بين يديك.
قالوا: تعلق ذئبٌ بعوسجةٍ ليصعد حائطاً فعقرته، فأقبل يلومها فقالت: يا هذا لم نفسك في التعلق، فما يتعلق بكل شيءٍ.
كان أبو أيوب المورياني، وزير المنصور، إذا دعاه المنصور يصفر ويرعد مع مكانه منه ومحله عنده. فقيل له في ذلك، فقال: مثلي ومثلكم في هذا مثل بازٍ وديكٍ تناظرا، فقال البازي: ما أعرف أقل وفاءً منك، قال: وكيف ذلك؟ قال: تؤخذ بيضةً فيحضنك أهلك، وتخرج على أيديهم فيطعمونك بأكفهم ويحسنون إليك، حتى إذا وجدت منهم غفلةً طرت وصحت وعلوت الحيطان، وفارقت الدار التي ربيت بها وطرت إلى غيرها؛ وأنا أوخذ من الجبال فأوثق وتخاط عيني، وأطعم الشيء اليسير، وأونس يوماً أو يومين ثم أطلق على الصيد، فأطير وحدي، وآخذ الصيد لصاحبي، وأمسكه عليه، وأعود إلى مكاني. فقال له الديك: ذهب عليك الصواب، أنت والله لو رأيت على السفافيد من البزاة اليسير من الكثير الذي أراه أنا من الديكة ما عدت قط إليهم. ولكن لو عرفتم من المنصور ما أعرفه لكنتم أسوأ حالاً مني عند طلبه لكم.
تهاجى عبد الرحمن بن حسان بن ثابت وعبد الرحمن بن الحكم فأفحشا، فكتب معاوية إلى سعيد بن العاص، وهو عامله على المدينة، أن يجلد كل واحدٍ منهما مائة سوطٍ؛ وكان ابن حسان صديقاً لسعيد، وما مدح أحداً قط غيره، فكره أن يضربه أو يضرب ابن عمه، فأمسك عنهما؛ ثم ولي مروان بن الحكم فضرب ابن حسان مائة سوطٍ ولم يضرب أخاه. فكتب ابن حسان إلى النعمان بن بشير وهو عند معاوية فعرفه. فعزم معاوية على مروان أن يضرب أخاه مائة، فسأل مروان الأنصار سؤال ابن حسان أن يعفو فأبى، فطلبوا إليه أن يقتصر على خمسين ففعل. فلقي ابن حسان بعض من كان لا يهوى ما ترك من ذلك، فقال: ضربك مائةً وتضرب خمسين، بئس ما صنعت إذ وهبتها له، فقال: إنه عبد وإنما يضرب العبد نصف ما يضرب الحر، فحمل هذا الكلام حتى شاع في المدينة، فبلغ ابن الحكم فشق عليه وأتى أخاه مروان وأخبره الخبر، فقال: فضحني لا حاجة لي فيما ترك، فهلم فاقتص، فضرب ابن الحكم خمسين أخرى.
روي أن امرأة أبي الأسود خاصمته إلى زيادٍ في ولدها، فقالت: أيها الأمير، إن هذا يريد أن يغلبني على ولدي، وقد كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحجري له فناءً؛ فقال أبو الأسود: بهذا تريدين أن تغلبيني على ولدي، فوالله لقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه؛ قالت: لا سواء، إنك حملته خفاً وحملته ثقلاً، ووضعته شهوةً ووضعته كرهاً. فقال له زياد إني أرى امرأةً عاقلةً يا أبا الأسود، فادفع إليها ابنها فأخلق أن تحسن أدبه.

لما حبس الحلاج عند القشوري مرض ابنٌ له فاشتهى التفاح الشامي، وكان لا يصاب لفوت أوانه، فتلطف الحلاج واحتال حتى سأله القشوري تفاحةً شامية، قصد بها تعرف أمر الحلاج في صدقه وكذبه، وأراد أيضاً بلوغ مراده في ولده، وكان الحلاج قد أعد تفاحةً لذلك، فحين سأله أومى بيده هكذا وأعادها بتفاحة، وتناولها القشوري يقلبها ويتعجب منها، والحلاج يقول: الساعة قطعتها من الجنة، قال القشوري: إني أرى في موضع منها عيباً، قال الحلاج - غير مطرق ولا مكترث - : أما علمت أنها إذا أخرجت من دار البقاء إلى دار الفناء لحقها جزءٌ من البلاء، فكان جوابه أحسن من حيله وفعله.
وكان كثير قصيراً لا يبلغ ضروع الإبل، فقال له جرير: أي رجلٍ أنت لولا دمامتك؟ فال كثير: من الطويل
إن أك قصداً في الرجال فإنني ... إذا حل أمرٌ ساحتي لطويل
روي أن عزة قالت لبثينة: تصدي لكثير وأطمعيه في نفسك حتى أسمع ما يجيبك به؛ ثم أقبلت إليه وعزة تمشي ورآها متخفيةً وعرضت عليه الوصل فقاربها، ثم قال: من الطويل
رمتني على فوتٍ بثينة بعدما ... تولى شبابي وارحن شبابها
بعينين نجلاوين لو رقرقت بها ... لنوء الثريا لاستهل ربابها
فكشفت عزة عن وجهها، فبادرها الكلام ثم قال:
ولكنما ترمين نفساً مريضةً ... لعزة منها صفوها ولبابها
فضحكت ثم قالت: أولى لك بها نجوت، وانصرفتا تتضاحكان.
قال يزيد بن عروة: لما مات كثير لم تتخلف امرأةٌ بالمدينة ولا رجلٌ عن جنازته، وغلب النساء عليها يبكينه ويذكرن عزة في ندبهن له، فقال أبو جعفر محمد بن علي: أفرجوا لي عن جنازة كثيرٍ لأرفعها، قال: فجعلنا ندفع النساء عنها، وجعل محمد بن علي يضربهن بكمه ويقول: تنحين يا صواحبات يوسف. فانتدبت له امرأة منهن فقالت: يا ابن رسول الله لقد صدقت، إنا لصواحباته وقد كنا خيراً منكم له، فقال أبو جعفر لبعض مواليه: احتفظ بها حتى تجيئني بها إذا انصرفت. قال فلما انصرف أتي بتلك المرأة كأنها شرر النار، فقال لها محمد بن علي: أنت القائلة: إنكن ليوسف خيرٌ منا؟ قالت: نعم، تؤمنني غضبك يا ابن رسول الله؟ قال: أنت آمنةٌ من غضبي فأنبئيني. قالت: نحن - يا ابن رسول الله - دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع والتنعم، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجب وبعتموه بأبخس الأثمان، وحبستموه في السجن، فأينا كان عليه أحنى وبه أرأف؟ فقال محمد: لله درك، لن تغالب امرأةٌ إلا غلبت، ثم قال لها ألك بعلٌ؟ قالت: لي من الرجال من أنا بعله، فقال أبو جعفر: ما أصدقك، مثلك من تملك زوجها ولا يملكها، قال: فلما انصرفت قال رجل من القوم: هذه بنت فلانة بنت معيقيب.
أخبر كثيرٌ عن قطامٍ صاحبة ابن ملجم في قدمةٍ قدمها الكوفة، فأراد الدخول إليها ليوبخها، فقيل له: لا تردها فإن لها جواباً، فأبى كثيرٌ وأتاها؛ فوقف على بابها وقرعه، فقالت: من هذا؟ كثير بن عبد الرحمن الشاعر، فقالت لبنات عمٍّ لها تنحين حتى يدخل الرجل، فولجن البيت، وأذنت له فدخل، وتنحت من بين يديه فرآها وقد ولت، فقال لها: أنت قطام؟ فقالت: نعم قال: صاحبة علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قالت: صاحبة عبد الرحمن بن ملجمٍ، قال: أليس فيك قتل علي بن أبي طالب؟ قالت: بل مات بأجله، قال: أم والله لقد كنت أحب أن أراك، فلما رأيتك نبت عيني عنك، فما احلوليت في صدري، قالت: والله إنك لقصير القامة، عظيم الهامة، قبيح المنظر، وإنك لكما قال الأول: تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه، فقال: من الطويل
رأت رجلاً أودى السفار بوجهه ... فلم يبق إلا منظرٌ وجناجن
فإن أك معروق العظام فإنني ... إذا وزن الأقوام بالقوم وازن
وإني لما استودعتني من أمانةٍ ... إذا ضاعت الأسرار للسر دافن
فقالت: أنت لله أبوك كثير عزة؟ قال: نعم، فقالت: الحمد لله الذي قصر بك فصرت لا تعرف إلا بامرأةٍ، قال: ليس الأمر كذلك، والله لقد سار بها شعري، وطار بها ذكري، وقرب من الخليفة مجلسي، وإنها لكما قلت: من الطويل
فما روضةٌ بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهناً ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها

فإن خفيت كانت لعينك قرةً ... وإن تبد يوماً لم يغمك عارها
فقالت: تاالله ما رأيت شاعراً قط أنقص عقلاً ولا أضعف وصفاً منك حيث تقول هذا، ألا قلت كما قال امرؤ القيس: من الطويل
ألم ترياني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
فخرج وهو يقول: من الكامل
الحق أبلج لا تخيل سبيله ... والحق يعرفه ذوو الألباب
حج سليمان بن عبد الملك ومعه الشعراء، فمر بالمدينة منصرفاً، فأتي بأسراء من الروم نحوٌ من أربعمائة أسير. فقعد سليمان وعنده عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي عليهم السلام، وعليه ثوبان ممصران، وهو أقربهم منه مجلساً، فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعةٍ، فقال لعبد الله بن الحسن: قم فاضرب عنقه فقام فما أعطاه أحدٌ سيفاً حتى دفع إليه حرسيٌّ سيفاً كليلاً، فضربه فأبان عنقه وذراعه وأطن ساعده وبعض الغل، فقال له سليمان: اجلس، فوالله ما ضربته بسيفك ولكن بحبسك، وجعل يدفع الأسراء إلى الوجوه فيقتلونهم، حتى دفع إلى جرير رجلاً، فدست إليه بنو عبسٍ سيفاً قاطعاً في قرابٍ أبيض، فضربه فأبان رأسه؛ فدفع إلى الفرزدق أسيراً، فدست إليه القيسية سيفاً كليلاً، وقيل بل دفع إليه سليمان سيفاً وقال: اقتله به، فقال: لا، أضربه بسيف مجاشعٍ، واخترط سيفه فضربه فلم يغن شيئاً، فقال له سليمان أم والله لقد بقي عليك عارها وشنارها، فقال جرير قصيدةً يهجوه فيها، منها في المعنى: من الطويل
بسيف أبي رغوان سيف مجاشعٍ ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت ... يداك وقالوا محدثٌ غير صارم
وقيل: إن الفرزدق قال لسليمان: يا أمير المؤمنين هب لي هذا الأسير، فوهبه له، فأعتقه وقال: من الطويل
فهل ضربة الرومي جاعلةٌ لكم ... أباً عن كليبٍ أو أباً مثل دارم
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... وتقطع أحياناً مناط التمائم
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
وروي أنه سبق جريراً إلى البيتين الأولين المذكورين، وقال: كأني بابن المراغة قد قال كذا؛ فما لبث إلا مدةً يسيرةً حتى جاءته القصيدة وفيها البيتان.
ومن أجوبة الفرزدق المستحسنة في هذه القصيدة، وعرض بسليمان لأن بني عبسٍ أخواله: من الطويل
فإن يك سيفٌ خان أو قدرٌ أتى ... بتعجيل نفسٍ حتفها غير شاهد
فسيف بني عبسٍ وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
وقوله أيضاً: من البسيط
فما نبا السيف عن جبنٍ ولا دهشٍ ... عند الإمام ولكن أخر القدر
ولو ضربت به عمداً مقلده ... جمع اليدين ولا الصمصامة الذكر
قال أبو العيناء: نظر المأمون إلى يحيى بن أكثم يلحظ خادماً له، فقال للخادم: تعرض له إذا قمت، فإني سأقوم للوضوء، وأمره أن لا يبرح، وعد إلي بما يقول لك، فلما قام غمزه الخادم بعينه، فقال يحيى: لولا أنتم لكنا مؤمنين سبأ: 31 فمضى الخادم إلى المأمون فأخبره، فقال له: عد إليه فقل له: أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين سبأ: 32 فخرج إليه الخادم وقال له ذلك، فأطرق يحيى وكاد يموت جزعاً، فخرج المأمون وهو يقول: من الطويل
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط
قم واتق الله وأصلح دينك.
لما هجا يزيد بن مفرغ بني زياد فأفحش، وظفر به عبيد الله أمر به فسقي نبيذاً حلواً قد خلط معه الشبرم فأسهل بطنه، وطيف به وهو على تلك الحال، وقرن به هرٌّ وخنزيرٌ، فجعل يسلح والصبيان يقولون: إين جست؟ فيقول: آنست ونبيذ است وعصارة زبيب است وسمية روسبي است، وجعل كلما جر الخنزير ضغت فيقول: من البسيط
ضجت سمية لما لزها قرني ... لا تجزعي إن شر الشيمة الجزع
فلما خافوا عليه الهلاك أمر به أن يغسل، فلما غسل قال: من الخفيف
يغسل الماء ما صنعت وقولي ... راسخٌ منك في العظام البوالي

لما وقع التباين بين محمد بن عبد الملك الزيات وأحمد بن أبي دواد في أيام الواثق، وسعى كل واحد منهما بصاحبه، دخل يوماً محمد بن عبد الملك دار الوائق وابن أبي دواد هناك، فلما رآه وثب يصلي صلاة الضحى، فقال محمد بن عبد الملك وأنشدها يسمعه: من الكامل
صلى الضحى لما استفاد عداوتي ... وأراك تنسك بعدها وتصوم
لا تعدمن عداوةً من واحدٍ ... تركتك تقعد بعدها وتقوم
مات رجلٌ وأوصى إلى أبي حنيفة وهو غائب، فقدم أبو حنيفة وارتفع إلى ابن شبرمة، وادعى الوصية وأقام البينة، فقال له ابن شبرمة: يا أبا حنيفة، احلف أن شهودك شهدوا بحقٍّ، قال: ليس علي يمينٌ، كنت غائباً، قال: ضلت مقاليدك يا أبا حنيفة، قال: ضلت مقاليدي؟ ما تقول في أعمى شج فشهد له شاهدان أن فلاناً شجه، أعلى الأعمى يمينٌ أن شهوده شهدوا بحقٍّ وهو لا يرى؟ قال أعرابيٌّ لعبد الملك: الناقة إذا كانت تمنع الحلب قومتها العصا، قال: إذن تكفأ الإناء وتكسر أنف الحالب.
اجتمع شريك بن عبد الله ويحيى بن عبد الله بن الحسن في دار الرشيد، فقال يحيى لشريك: ما تقول في النبيذ؟ قال: حلال، قال: فقليله أم كثيره؟ قال: بل قليله، قال: ما رأيت خيراً قط إلا والازدياد منه خير إلا خيرك هذا فإن قليله خير من كثيره.
كتب ملك الروم إلى الرشيد: إني متوجهٌ إليك بكل صليب في مملكتي وكل بطل في جندي، فوقع الرشيد في كتابه: وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار.
قال أبو حنيفة: قال لي حماد بن أبي سليمان: إذا سئلت عن معضلة فاقلبها سؤالاً على سائلك حتى تتخلص من مسألته، قال: فدس إلي رجلٌ على الباب وأنا عند ابن هبيرة قد أمر بي إلى السجن، فتبعني الرجل إلى السجن فقال لي: يا أبا حنيفة يحل للرجل إذا أمره السلطان الأعظم بقتل رجلٍ أن يقتله؟ قال، قلت: وكان الرجل ممن وجب عليه القتل؟ قلت: إن السلطان الأعظم لا يأمر بقتل من لا يستحق عليه القتل.
قال موسى بن عبد الله بن الحسن لامرأته أم سلمة وكانت من ولد أبي بكرٍ الصديق: من الطويل
إني زعيمٌ أن أجيء بضرةٍ ... فراسيةٍ فراسةٍ للضرائر
فقال الربيع بن سليمان مولى الحسينيين: من الطويل
أبنت أبي بكرٍ تريد بضرةٍ ... لعمري لقد حاولت إحدى الكبائر
أعتق عمر بن عتبة غلاماً كبيراً، فقال له عبدٌ صغير: اذكرني يا مولاي ذكرك الله بخير، فقال: إنك لم تخرف؟ فقال: إن النخلة تجتنى زهواً قبل أن تصير معواً، فقال: قاتلك الله لقد استعتقت فأحسنت، وقد وهبتك لواهبك، كنت أمس لي واليوم مني.
المعو: الجني الرطب، وجاء عن العرب عشر كلمات عينها عينٌ ولا مها واو - البعو: الجناية، الجعو: الطين، الدعو: مصدر دعا يدعو، السعو: الشمع، والسعو أيضاً الرجل الضعيف، وهو أيضاً طائر أصغر من العصفور، القعو: من البكرة، اللعو: الحريص والذئب في بعض اللغات، والمعو: وقد ذكر، النعو: الشق في مشفر البعير.

نوادر من هذا الباب
قال نصر بن سيار بخراسان لأعرابي: هل اتخمت قط؟ قال: أما من طعامك وطعام أبيك فلا. فيقال إن نصراً حم من هذا الجواب أياماً، وقال: ليتني خرست ولم أفه بسؤال هذا الشيطان.
بعث معن بن زائدة إلى ابن عياشٍ المنتوف ألف دينار، وكتب إليه: قد بعثت إليك بألف دينار واشتريت بها دينك.
فكتب إليه: وصل ما أنفذت وقد بعتك ديني ما خلا التوحيد لعلمي بقلة رغبتك فيه.
دخل أشعري على الرشيد فسأله، فقال: احتكم، فقال: أشعري يحكم بعد أبي موسى؟ فضحك وأعطاه.
اعترض عمرو بن الليث فارساً من جيشه، وكانت دابته في غاية الهزال، فقال له: يا هذا، تأخذ مالي فتنفقه على امرأتك وتسمنها وتهزل دابتك التي تحارب عليها وبها تأخذ الرزق؟ امض لشأنك فليس لك عندي شيءٌ. فقال الجندي: أيها الأمير لو استعرضت امرأتي لاستسمنت دابتي. فضحك عمرو وأمر بإعطائه رزقه.
قال زياد لرجلٍ: يا ابن الزانية، فقال: أتسبني بشيءٍ شرفت به.
لما قال ابن هرمة: من المتقارب
ومهما ألام على حبهم ... فإني أحب بني فاطمة
بني بنت من جاء بالمحكما ... ت والدين والسنة القائمة

لقيه رجلٌ فسأله: من قائلها؟ فقال: من عض بظر أمه، فقال له ابنه: ألست قائلها؟ قال: بلى، قال: فلم شتمت نفسك؟ قال: أليس أن يعض المرء بظر أمه خيرٌ من أن يأخذه ابن قحطبة.
ومر ابن هرمة على جيرانه وهو ميتٌ سكراً حتى دخل منزله. فلما كان من الغد، دخلوا إليه فعاتبوه على الحال التي رأوه عليها، فقال لهم: أنا في طلب مثلها منذ دهرٍ، أما سمعتم قولي: من الخفيف
أسأل الله سكرةً قبل موتي ... وصياح الصبيان يا سكران
فنفضوا ثيابهم وخرجوا وقالوا: لا يفلح هذا أبداً.
شهد رجلٌ عند أبي العاج - وكان على البصرة - على رجل من المعيطيين بشهادة، وكان الشاهد سكران، فقال المعيطي المشهود عليه: أعزك الله، إنه لا يحسن أن يقرأ من السكر، فقال الشاهد: بلى إني لأحسن، فقال اقرأ فقال: من الرمل المجزوء
علق القلب الربابا ... بعد ما شابت وشابا
وإنما تماجن بذلك على المعيطي ليحكي به الوليد بن عقبة وإنشاده هذا البيت وهو يصلي في محراب الكوفة. وكان أبو العاج محمقاً وظن أن هذا قرآن، فقال: صدق الله ورسوله. ويلكم فلم تعلمون ولا تعلمون.
لما مات جعفر بن محمد عليهما السلام، قال أبو حنيفة لشيطان الطاق: مات إمامك، قال: لكن إمامك لا يموت إلى يوم القيامة، يعني إبليس. فقال له أبو حنيفة: ما تقول في المتعة؟ قال: حلال، قال: أفيسرك أن تكون بناتك وأخواتك يتمتع بهن؟ قال: شيءٌ قد أحله الله إن كرهت فيا حيلتي؟ قال شيطان الطاق: فما تقول في النبيذ؟ قال: حلال، قال: أفيسرك أن تكون بناك وأخواتك نباذات؟ قال رجل من ولد سعيد بن سلم لأبي العيناء: إن ابني يبغضك، قال: يا بني إن لي أسوةٌ بآل محمد صلى الله عليه وسلم.
قال رجلٌ للفرزدق: ما أقبح وجهك كأنه خلق من أحراح، فقال: انظر هل ترى حر أمك فيه.
وقيل لأبي الأسود: كأن وجهك من فقاح مجتمعة، فقال للقائل: فهل فقحة أمك فيه.
وعلى كلامه احتذى الفرزدق.
قيل لبشار: ما أذهب الله ناظري أحدٍ إلا عوضه منهما شيئاً، فما الذي عوضك؟ قال: أن لا أرى مثلك.
تزوج أعمى امرأة فقالت: لو رأيت حسني وبياضي لعجبت، فقال: اسكتي، لو كنت كما تقولين ما تركك لي البصراء.
نظر ذيوجانس إلى رجل مبذرٍ لماله فقال له: هب لي مناً فضة، قال له: كيف صرت تسأل الناس الحبة والفلس وتسألني مناً فضةً؟ قال: لأني لا أرجو إليك العودة ولا أرجوها منك إذ كان لا يبقى معك.
نظر حكيم إلى معلم رديء الكتابة فقال له: لم لا تعلم الصراع؟ فقال: لا أحسنه، قال: هو ذا أنت تعلم الكتابة ولا تحسنها.
ولي موسى بن مصعب الموصل فاستعمل رجلاً من أهل حران على كورة باهدرا، وهي أجل كور الموصل، فأبطأ عليه الخراج فكتب إليه: من المنسرح
هل عند رسمٍ برامة الخبر ... أم لا فأي الأشياء ننتظر
احمل ما عندك يا ماص بظر أمه وإلا فقد أمرت رسولي يشدك وثاقاً ويأتيني بك. فأخذ الرجل ما كان معه من الخراج ولحق بحران وكتب إليه في الجواب في آخر الرقعة: من البسيط
إن الخليط الذي تهوى قد ائتمروا ... للبين ثم أجدوا السير فانشمروا
اجهد جهدك يا ابن الزانية. فلما قرأ موسى كتابه ضحك وقال: أحسن والله الجواب، والله لا أطلبه أبداً.
قال الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو ولي عهدٍ، للعباس بن الوليد بن عبد الملك وقد تماضا: اسكت يا ابن البظراء، وكانت أم العباس رومية، فقال له العباس: أتفخر علي بما قطع من بظر أمك؟ قال الوليد لأشعب: تمن؟ فقال أشعب: يتمنى أمير المؤمنين ثم أتمنى؟ فقال الوليد: إنما أردت أن تغلبني، إني أتمنى ضعفي ما تتمنى، فقال أشعب: إني أتمنى كفلين من العذاب، قال: إذن نوفرهما عليك.
كانت سعدة بنت سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان تحت الوليد ابن يزيد بن عبد الملك، فهوي أختها سلمى، فطلق سعدة طمعاً أن يتزوج أختها، فلم يزوجه أبوها. وندم على طلاقه سعدة واستهام بها، فتزوجت سعدة فأيس منها. فقال الوليد لأشعب: هل لك في عشرة آلاف درهمٍ على أن تبلغ سعدة رسالتي؟ قال: أحضرها حتى أنظر إليها، فأحضرها الوليد، فوضعها أشعب على عاتقه وقال: هات رسالتك، فقال الوليد تقول لها: من الوافر
أسعدة هل إليك لنا سبيل ... وهل حتى القيامة من تلاق

بلى ولعل دهراً أن يواتي ... بموت من خليلٍ أو فراق
فأصبح شامتاً وتقر عيني ... ويجمع شملنا بعد افتراق
فأتى أشعب باب سعدة فاستأذن عليها، فأخبرت بمكانه فأمرت بفرشٍ لها ففرشت وجلست وأذنت له. فلما دخل أنشدها ما أمر به، فقالت لخدمها: خذوا الفاسق، فقال: يا سيدتي، إنها بعشرة آلاف درهم، قالت: والله لأقتلنك أو تبلغه كما بلغتني، قال: وما تهبين لي؟ قالت بساطي الذي تحتي، قال: قومي عنه، فقامت فطواه، ثم قال: هاتي رسالتك - جعلت فداك - قالت، قل له: من الطويل
أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... فقد ذهبت لبنى فما أنت صانع
فأقبل أشعب فدخل على الوليد فأنشده البيت، فقال: أواه قتلتني يا ابن الزانية ما أنا صانع؟ اختر إما أن أدليك منكساً على رأسك في البئر، أو أرمي بك منكساً من فوق القصر، أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربة، هذا الذي أنا صانع، فاختر الآن ما أنت صانع.
قال أشعب: ما كنت لتفعل من هذا شيئاً، قال: ولم يا ابن الزانية؟ قال: ما كنت لتعذب عينين قد نظرتا إلى سعدة، قال: صدقت؛ أواه أفلت مني بهذا والله يا ابن الزانية كان بالرقة قاصٌّ يكنى أبا عقيل يكثر التحدث عن بني إسرائيل فيظن به الكذب، فقال له يوماً الحجاج بن خيثمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل؟ قال: خيثمة، فقال له رجلٌ من ولد أبي موسى الأشعري: في أي كتابٍ وجدت هذا؟ قال: في كتاب عمرو بن العاص.
وكان أبو الهندي، وهو عبد المؤمن بن عبد القدوس بن شيث بن ربعي الرياحي، عجيب الجواب. فجلس إليه رجلٌ مرةً يعرف ببردين المناقير، وكان أبوه صلب في حرابةٍ، والحرابة عندهم سرق الإبل خاصةً، فأقبل يعرض لأبي الهندي بالشراب، فلما أكثر عليه قال أبو الهندي: أحدهم يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في است أبيه.
ومر به نصر بن سيار الليثي وهو يميل سكراً فقال له: أفسدت شرفك، فقال أبو الهندي: لو لم أفسد شرفي لم تكن أنت والي خراسان.
وخطب إلى رجل من بني تميم فقال له: لو كنت مثل أبيك لزوجتك، فقال له أبو الهندي: لكن لو كنت مثل أبي ما خطبت إليك.
كانت حميدة بنت النعمان بن بشير تحت روح بن زنباع الجذامي، فأشرفت على قومٍ من جذام وفدوا على روح فزجرها روحٌ فقالت: إني والله لأبغض الحلال من جذام، فكيف تخافني على الرحام منهم؟ وخلف عليها بعده الفيض بن محمد عم يوسف، فقالت فيه: من البسيط
سميت فيضاً وما شيءٌ تفيض به ... إلا بسلحك بين الباب والدار
وتمثل الفيض يوماً بهذا البيت: من البسيط
إن كنت ساقيةً قوماً على كرمٍ ... صفو المدامة فاسقيها بني قطن
ثم تحرك فضرط، فقالت: وهذه أيضاً فاسقيها بني قطن.
جلس معن بن زائدة يقسم سلاحاً في جنده إذ دفع إلى رجل منهم سيفاً، وكان سيف سوء، فقال معن: خذه فإنها مأمورة، فقال: هذا مما قد أمر أن لا يقطع شيئاً أبداً، فأبدله له وزاد في عطائه.
أمر بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري بتفريقٍ بين رجلٍ وامرأته، فقال له: يا آل أبي موسى، إنما خلقكم الله للتفريق بين المسلمين.
وقال أبو العيناء: قال لي المتوكل يوماً: هل رأيت طالبياً حسن الوجه قط؟ قلت: نعم، رأيت ببغداد منذ ثلاثين سنةً واحداً، قال: تجده كان يؤاجر وكنت تقود عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين، قد بلغ هذا من فراغي، أدع موالي مع كثرتهم وأقود على الغرباء؟ فقال المتوكل للفتح: أردت أن أشتفي منهم فاشتفى لهم مني.
وقدم إلى مائدةٍ عليها أبو هفان وأبو العيناء فالوذجة، فقال أبو هفان: لهذه أحر من مكانك في جهنم، فقال له أبو العيناء: إن كانت حارةً فبردها بشعرك.
وقال أبو العيناء: أدخل على المتوكل رجلٌ قد ادعى النبوة، فقيل له: ما علامة نبوتك؟ قال: أن يدفع إلي أحدكم امرأةً فإني أحبلها في الحال، فقال: يا أبا العيناء، هل لك أن تعطيه بعض الأهل؟ فقال: إنما يعطيه من كفر به. فضحك وخلاه.
وقال: فلج بعض المجان فرأيته وهو يأكل سمكاً ولبناً فعاتبته على ذلك فقال: آمن ما يكون الطريق إذا قطع فيه.
ومرت جاريةٌ بقومٍ ومعها طبق مغطى، فقال لها بعضهم: أي شيءٍ معك على الطبق؟ قالت: فلم غطيناه؟ قالت امرأة مزبدٍ لمزبد: يا قرنان يا مفلس قال: إن صدقت فواحدةٌ من الله تعالى والأخرى منك.

رفع مزبدٌ مرةً إلى والي المدينة ومعه زقٌ فارغ، فأمر بضربه فقال له: لم تضربني؟ قال: لأن معك آلة الخمر، قال: وأنت - أعز الله - معك آلة الزنا.
قال الرشيد لبهلول: من أحب الناس إليك؟ قال من أشبع بطني، قال: فأنا أشبعك فهل تحبني؟ قال الحب بالنسيئة لا يكون.
وقال له الرشيد: أبو بكر وعمر خير أم علي؟ فقال: واحد بإزاء الاثنين لا يجوز، ولكن عليٌّ والعباس خيرٌ من أبي بكر وعمر.
وشبيه بهذا ما حكي عن السندي بن شاهك أنه أحضر رجلاً ادعى عليه الرفض فقال له: ما تقول في أبي بكر؟ فأثنى عليه، قال: فعمر؟ قال: لا أحبه فاخترط السندي سيفه وقال: لم ويلك؟ قال: لأنه جعل الشورى في ستة من المهاجرين وأخرج العباس منهم، فشام سيفه ورضي عنه.
ضرط ابنٌ صغيرٌ لعبد الملك بن مروان في حجره، فقال له: قم إلى الكنيف، فقال: أنا فيه. وكان عبد الملك شديد البخر.
دخل إبراهيم الحراني الحمام فرأى رجلاً عظيم الذكر فقال له: أيباع متاع البغل؟ قال: لا بل نحملك عليه. فلما خرج بعث إليه بصلةٍ وكسوةٍ وقال لرسوله، قل له: اكتم هذا الحديث فإنه كان مزاحاً. فرده وقال، قل له: لو قبلت حمالتنا لقبلنا صلتك.
قال الفرزدق لزياد الأعجم: يا أقلف، فقال يا ابن النمامة.
كان لبعضهم ابنٌ دميمٌ فخطب إلى قومٍ، فقال الابن لأبيه يوماً: بلغني أن العروس عوراء، فقال الأب: يا بني، بودي أنها عمياء حتى لا ترى سماجة وجهك.
كانت رقية بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان - وأمها فاطمة بنت الحسين - عند هشام بن عبد الملك، وكان يحبها وتبغضه، فاعتلت، فجلس عند رأسها فقال لها: ما تشتكين؟ قالت: بغضك، فسكت عنها ساعةً ثم قال لها: ما تشتهين، قالت: فقدك.
وكان بالبصرة رجلٌ طيبٌ يقال له حوصلة، وكان له جارٌ يعشق ابناً له، فوجه حوصلة بابنه هذا إلى بغداذ في حاجة له ولم يعلم جاره بذلك، فجاء ليلة يطلبه فصاح بالباب: أعطونا ناراً، فقال حوصلة: المقدحة ببغداذ.
وقد حكي مثل هذا سواءً عن ابن أبي عتيق وقد جاء صديق لجاريته يطلب ناراً، فقال له: قداحتنا في البستان.
وقال بعض العلوية لأبي العيناء: أتبغضني ولا تصح صلاتك إلا بالصلاة علي إذا قلت: اللهم صل على محمدٍ وآله؟ قال أبو العيناء: إذا قلت الطيبين الطاهرين خرجت منهم.
سكر مزبدٌ يوماً فقالت امرأته: أسأل الله أن يبغض إليك النبيذ، قال: والفتيت إليك.
قالت امرأة مزبد يوماً، وكانت حبلى ونظرت إلى قبح وجهه: الويل لي إن كان الذي في بطني يشبهك، فقال لها: الويل لي إن كان الذي في بطنك لا يشبهني.
سأل بعض الخلفاء بعض من لا يستحق الولاية فقال: ولني يا أمير المؤمنين أرمينية، قال: يبطئ على أمير المؤمنين خبرك.
وقال رجلٌ لحميدٍ الطوسي، وكان عاتياً: رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكأن الله تعالى قد دعاك وغفر لك وأدخلك الجنة. فقال: إن كانت رؤياك حقاً فالجور ثم أكثر منه ها هنا.
مر الفرزدق وهو راكبٌ على بغلة فضرطت، فضحكت منه امرأة، فالتفت إليها وقال: ما يضحكك؟ فوالله ما حملتني أنثى قط إلا ضرطت. فقالت له المرأة: قد حملتك أمك تسعة أشهر يا ابن الضراطة.
تنبأ رجلٌ فادعى أنه موسى بن عمران، وبلغ خبره الخليفة فأحضره وقال: من أنت؟ قال: موسى بن عمران الكليم قال: وهذه عصاك التي صارت ثعباناً؟ قال: نعم، قال: فألقها من يدك وأمرها أن تصير ثعباناً كما فعل موسى، قال: قل أنا ربكم الأعلى كما قال فرعون حتى أصيرها ثعباناً كما فعل موسى.
وتنبأت امرأةٌ على عهد المأمون فأوصلت إليه، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا فاطمة النبية، قال لها المأمون: أتؤمنين بما جاء به محمد فهو حقٌّ؟ قالت: نعم، فإن محمداً قال لا نبي بعدي، قالت: صدق عليه السلام، فهل قال لا نبية بعدي؟ قال المأمون لمن حضره: أما أنا فقد انقطعت، فمن كان عنده حجةٌ فليأت بها، وضحك حتى غطى وجهه.
وتنبأ آخر في أيام المعتصم، فلما أحضر بين يديه قال له: أنت نبيٌّ؟ قال: إلى من بعثت؟ قال: إليك، قال: أشهد إنك لسفيهٌ أحمق، قال: إنما يبعث إلى كل قومٍ مثلهم، فضحك المعتصم وأمر له بشيء.

وتنبأ آخر في خلافة المأمون فقال له: ما أنت؟ قال: نبيٌّ، قال: فما معجزتك؟ قال: سل ما شئت - وكان بين يديه قفلٌ - فقال: خذ هذا القفل فافتحه، قال: أصلحك الله، لم أقل لك إنني حدادٌ، قلت: أنا نبي. فضحك المأمون واستتابه وأجازه.
قال بصيلة: دخلت سقايةً بالكرخ فتوضأت، فلما خرجت تعلق بي السقاء وقال: هات قطعةً فضرطت ضرطةً وقلت: خل الآن سبيلي فقد نقضت وضوئي، فضحك وخلاني.
دخل رجلٌ من ولد قتيبة بن مسلم الحمام وبشار بن برد فيه فقال: يا أبا معاذ وددت لو أنك مفتوح العين، قال: ولم ذاك؟ قال: لترى استي فتعرف أنك قد كذبت في شعرك حيث تقول: من الوافر
على أستاه سادتهم كتابٌ ... موالي عامر وسم بنارٍ
قال: غلطت يا ابن أخي إنما قلت: على أستاه سادتهم، ولست منهم.
كان بعضهم يتقلد أعمال السلطان، فجاءه أبوه يوماً يسأله في أمر إنسانٍ فاشتد عليه وضجر، فقال لأبيه: أحب وأسألك أن تقول إذا جاءك إنسانٌ وقال: كلم ابنك بسبي قل: ليس ذلك بابني، فقال الأب: أنا هو ذا أقول هذا منذ ثلاثين سنة وما يقبل منى.
كان أبو حنيفة وشيطان الطاق بمشيان ذات يومٍ إذ سمعا رجلاً يقول: من يدلنا على صبيٍّ ضالٍّ؟ فقال شيطان الطاق: أما الصبي فلا أدري ولكن إن أردت أن أدلك على شيخٍ ضالٍّ فها هو ذا، وأومأ إلى أبي حنيفة.
وكان لشيطان الطاق ابنٌ أحمق فقال له أبو حنيفة: أنت من ابنك هذا في بستان، قال: هذا لو كان ابنك.
لما أخذ محمد بن سليمان صالح بن عبد القدوس ليوجه به إلى المهدي قال له: أطلقني حتى أفكر فيولد لك ولدٌ ذكرٌ، ولم يكن لمحمد بن سليمان غير بنتٍ واحدة، قال: بل أصنع ما هو أنفع لك، أفكر حتى تفلت من يدي.
حمل بعض الصوفية طعاماً إلى طحانٍ يطحنه فقال: أنا مشغولٌ، فقال: اطحنه وإلا دعوت عليك وعلى حمارك ورحاك، قال: فأنت مجاب الدعوة؟ قال: نعم، قال: فادع الله عز وجل أن يصير حنطتك دقيقاً فهو أنفع لك وأسلم لدينك.
؟دخل الشعبي الحمام وفيه رجلٌ متكشفٌ، فغمض عينيه فقال له الرجل: يا شيخ متى ذهبت عينك؟ قال: منذ هتك الله سترك.
؟قال رجل من أهل الحجاز لابن شبرمة: من عندنا خرج العلم، قال: ثم لم يعد إليكم.
؟اعترض رجلٌ المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجلٌ من العرب، قال: ما ذاك بعجب، قال: وإني أريد الحج، قال: الطريق أمامك نهجٌ، قال: وليست لي نفقة، قال: قد سقط الفرض عنك، قال: إني جئتك مستجدياً لا مستفتياً. فضحك وأمر له بصلة.
؟وتنظر هذه الحكاية إلى قصة عبد الله بن فضالة الأسدي مع ابن الزبير لما قال: إني جئتك مستجدياً لا مستوصفاً، فلعن الله ناقةً حملتني إليك؛ إلا أن المأمون ولع بالأعرابي وابن الزبير قصد المنع لمجتديه، فلم أثبت الحكاية ها هنا لهذا السبب إذ كان لا يليق بها.
؟قال الأصمعي: مررت بكناس يكنس كنيفاً بالبصرة وهو ينشد: من الوافر
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
فقلت له: أما سداد الكنيف فأنت مليءٌ به، وأما سداد الثغر فلا علم لي بك كيف أنت فيه - وكنت حديث السن وأردت العبث به - قال: فأعرض عني ملياً ثم أقبل علي وأنشد متمثلاً: من الطويل
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها ... وحقك لم تكرم على أحدٍ بعدي
فقلت له: والله ما يكون من الهوان شيءٌ أكثر مما بذلتها له، فبأي شيءٍ أكرمتها؟ فقال: بلى والله، إن من الهوان ما هو شرٌّ مما أنا فيه، فقلت: ما هو؟ فقال: الحاجة إليك وإلى أمثالك من الناس.
أتى الحكم بن عبدلٍ ابن بشرٍ بالكوفة، فسأله فقال: أخمسمائةٍ أحي إليك الآن أم ألفٌ في القابل؟ قال: ألفٌ في القابل، فلما أتاه قال: ألفٌ أحب إليك أم ألفان في القابل؟ قال: ألفان في القابل. فلم يزل ذلك دأبه حتى مات ابن بشر وما أعطاه شيئاً.
ثم إن امرأةً موسرة بالكوفة كانت لها على الناس ديونٌ بالسواد، فاستعانت بابن عبدل في دينها وقالت: إني امرأةٌ ليس لي زوجٌ، وجعلت تعرض بأنها تزوجه نفسها. فقام ابن عبدل في دينها حتى اقتضاه؛ فلما طالبها بالوفاء كتبت إليه: من الوافر
سيخطيك الذي أخطاك مني ... فقطع حبل وصلك من حبالي
كما أخطاك معروف ابن بشرٍ ... وكنت تعد ذلك رأس مال

قال محمد بن إبراهيم الإمام لسعيدٍ الدارمي: لو صلحت عليك ثيابي لكسوتك، قال: فديتك إن لم تصلح علي ثيابك صلحت علي دنانيرك.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: عمل محمدٌ الأمين سفينةٌ فأعجب بها وركب فيها يريد الأنبار وأنا معه. فقال لي: يا إسحاق كيف ترى سفينتي؟ قلت حسنةٌ يا أمير المؤمنين، عمرها الله ببقائك. وقام يريد الخلاء، وقال: قل فيها أبياتاً، فقلت: نعم، وخرج. فقمت بالأبيات إليه فاشتهاها جداً وقال لي: أحسنت يا إسحاق، وحياتي لأهبن لك عشرة آلاف دينارٍ، فقلت: متى يا أمير المؤمنين، إذا وسع الله عليك؟ فضحك ودعا بها على المكان.
وفي حكايةٍ أخرى عنه أنه طرب على غنائه فخرق دراعته وقال: وحياتي لأهبن لك عشرة آلاف درهم، فقال متى يا سيدي؟ إذا بويعت بالخلافة وكنت بين يديك أغني، ووفق لي أن طربت على غنائي؟ وقد حكي عن الحجاج ما يقارب هذا، وخرج في مقام الجد والسخاء، وذلك أنه حج فلما أراد الصدر قال: اعذرونا يا أهل مكة فإنا على سفر. فقام إليه رجل من قريش فقال: لا عذر الله من يعذرك، أمير المصرين وابن عظيم القريتين، فإذا عذرناك فمن نلوم؟ فقال الحجاج: علي بالتجار فأحضروا، فاستسلف منهم ألف ألف درهم وقسمها منهم.
رأى رجل رجلاً يأخذ حجارة قد أعدها لبناءٍ له فاستحيا منه، فقال الآخذ: لم أعلم أنها لك؟ فقال: هب أنك لم تعلم أنها لي، ألم تعلم أنها ليست لك؟ دخل أبو الأقرع على الوليد فقال له: أنشدني قولك في الخمر، فأنشده: من الطويل
كميتاً إذا شجت وفي الكأس وردةٌ ... لها في عظام الشاربين دبيب
تريك القذى من دونه وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب
فقال له الوليد: شربتها ورب الكعبة، فقال: يا أمير المؤمنين، لئن كان نعتي لها رابك لقد رابتني معرفتك بها.
قدم رجلٌ عجوزاً دلالةً إلى القاضي، فقال: أصلح الله القاضي، زوجتني هذه امرأةً فلما دخلت بها وجدتها عرجاء، فقالت: أصلح الله القاضي، زوجته امرأةً يجامعها أو زوجته حمارةً يحج عليها؟ قيل لامرأةٍ ظريفةٍ: أبكرٌ أنت؟ قال: أعوذ بالله من الكساد.
قال أبو العيناء: خطبت امرأةً فاستقبحتني فكتبت إليها: من الطويل
فإن تنفري من قبح وجهي فإنني ... أديبٌ أريبٌ لا عييٌ ولا فدم
فأجابت: ليس لديوان الرسائل أريدك.
خرجت حبى المدينية في جوف الليل فليقها إنسانٌ فقال: أتخرجين في هذا الوقت؟ قالت: وما أبالي؟ إن لقيني الشيطان فأنا في طاعته، وإن لقيني رجلٌ فأنا في طلبه.
غاب رجلٌ عن امرأته فبلغها أنه اشترى جاريةً، فاشترت غلامين، فبلغ الخبر زوجها فجاء مبادراً وقال لها: ما هذا؟ فقالت: أما علمت أن الرحى أحوج إلى بغلين من البغل إلى رحوين، بع الجارية حتى نبيع الغلامين. ففعل ذلك.
أدخل علويٌّ امرأةً فلما طالبها قالت له: هات شيئاً؟ قال: أما ترضين أن يلج فيك بضعةٌ مني؟ قالت: هذا ينفق بقم.
دخل ابن يونس فقيه مصر على بعض الخلفاء، فقال له: ما تقول في رجل اشترى شاةً فضرطت فخرجت من استها بعرةٌ فقأت عين رجلٍ؟ على من الدية؟ قال: على البائع، قال: ولم؟ قال: لأنه باع شاةً في ساتها منجنيق ولم يبرأ من العهدة.
كان ابن قريعة القاضي في مجلس المهلبي، فوردت عليه رقعةٌ فيها: ما يقول القاضي - أعزه الله - في رجل دخل الحمام فجلس في الأبزن لعلةٍ كانت به، فخرجت منه ريحٌ وتحول الماء زيتاً، فتخاصم الحمامي والضارط، وادعى كل واحدٍ منهما أنه يستحق جميع الزيت بحقه فيه؟ فكتب القاضي في الجواب: قرأت هذه الفتيا الظريفة في هذه القصة السخيفة، وأخلق بها أن تكون عبثاً باطلاً وكذباً ماحلاً، وإن كان ذلك كذلك فهو من أعاجيب الزمان وبدائع الحدثان. والجواب - وبالله التوفيق - أن للصاقع نصف الزيت بحق وجعائه، وللحمامي نصف الزيت بحق مائه، وعليهما أن يصدقا المبتاع منهما عن خبث أصله وقبح فصله، حتى يستعمله في مسرجته، ولا يدخله في أغذيته.

وجد شيخٌ مع زنجيةٍ في ليلة الجمعة في مسجدٍ وقد نومها على الجنازة، فقيل له: قبحك الله يا شيخ، قال: إذا كنت أشتهي وأنا شيخ فما ينفعني شبابكم؟ قالوا: فزنجيةٌ؟ قال: فمن يزوجني منكم بعربية؟ قالوا: ففي المسجد؟ قال: من يفرغ لي منكم بيته ساعةً؟ قالوا: فعلى الجنازة؟ قال: من يعطيني سريره؟ قالوا: فليلة الجمعة؟ قال: إن شئتم جئتكم ليلة السبت. فضحكوا منه وخلوه.
وقف أعرابي من بني فقعس على جماعة يسألهم، وهو عريان فأنشد: من الوافر
كساني فقعسٌ وكسا بنيه ... عطاف المجد إن له عطافا
فقال بعضهم: لو كساك خرقةً تواريك كانت أصلح لك من هذا العطاف.
قال شاعرٌ في الصاحب: من المتقارب
وردنا لنشكر كافي الكفاة ... ونسأله الكف عن برنا
فقال له بعضهم: فقد كفيت فليس يعطي أحداً شيئاً.
غضب سعيد بن وهبٍ يوماً على غلام له فأمر به فبطح وكشف عنه الثوب ليضربه، وقال له: يا ابن الفاعلة، إنما غرتك استك هذه حتى اجترأت علي هذه الجرأة، وسأريك هوانها علي. فقال الغلام: طالما غرتك هذه الاست حتى اجترأت على الله تعالى، وسوف ترى هوانك عليه. قال سعيد: فورد علي من جوابه ما حيرني وسقط السوط من يدي.
ركب أعرابيٌّ بحيرةً، فقيل له: إنها حرامٌ لا يحل ركوبها، فقال: يركب الحرام من لا حلال له.
وسأل أعرابيٌّ عبد الملك فقال: سل الله تعالى، فقال الأعرابي: قد سألته فأحالني عليك. فضحك وأعطاه.
ودخل أعرابيٌّ المخرج فخرج منه صوت، فجعل فتيانٌ حضور يضحكون منه، فقال: يا فتيان، هل سمعتم شيئاً في غير موضعه؟ وقال بعض المجان: حضرنا مجلساً فيه قينةٌ، فتحركت فضرطت وتشورت وقطعت الزير، فتغافلوا عنها، ثم قالت لبعضهم: ما تحب أن أغنيك؟ قال من المنسرح:
يا ريح ما تصنعين بالدمن ... كم لك من محو منظر حسن
قال: فكان خجلها في اقتراحه أشد من خجلها من ضرطها.
وقال ابن أبي البغل لرجلٍ: ولد لي مولودٌ فما أسميه؟ قال: لا تخرج من الاصطبل وسمه ما شئت.
قال برصوما الزامر لأبيه: لم تجد اسماً تسميني به أحسن من هذا؟ قال: لو علمت أنك تجالس الخلفاء لسميتك يزيد بن مزيد.
لما قال إبراهيم بن هرمة: من المنسرح
لا أمتع العود بالفصال ولا ... ابتاع إلا قريبة الأجل
قال مزبد: صدق ابن الخبيثة فإنه لا يشتري إلا شاة الأضحى التي يذبحها من ساعته.
لما قال أرطأة بن سهية، وهي أمه، للربيع بن قعنب: من البسيط
لقد رأيتك عرياناً ومؤتزراً ... فما علمت أأنثى أنت أم ذكر
قال له: لكن سهية قد علمت، فغلبه.
قال محمد بن الحارث بن بسخنر: كان علويه بعيد الخجل صفيق الوجه لا يكاد يخجله شيءٌ. فاجتمعنا يوماً عند المعتصم ومعنا إبراهيم بن المهدي، فلما خرجنا قال إبراهيم لعلويه: هل أحدثت شيئاً من الغناء؟ قال: صنعت: من الطويل
إذا كان لي شيئان يا أم مالكٍ ... فإن لجاري منهما ما تخيرا
وفي واحدٍ إن لم يكن غير واحدٍ ... أراه له أهلاً وإن كنت معسرا
قال إبراهيم: وإن كانت امرأتك؟ فانقطع علوية انقطاعاً قبيحاً، وخجل حتى لم ينتفع بنفسه ذلك اليوم.
ومما وضع على لسان البهائم أيضاً: وقع في شرك صيادٍ ثعلبان، فقال أحدهما لصاحبه: يا أخي أين ترى نلتقي؟ قال: في الفرائين بعد ثلاثة أيام.
دخل كلب مسجداً خراباً فبال في المحراب، وفي المسجد قردٌ نائم، فقال للكلي: أما تخاف تبول في المحراب؟ فقال الكلب: ما أحسن ما خلقك حتى تتعصب له.
وقالوا: إن جدياً وقف على سطح يشتم ذئباً في الأرض، فقال له الذئب: لست الذي تشتمني ولكن مكانك الذي يفعل ذلك.
عدا كلبٌ خلف ظبيٍ فقال له الظبي: إنك لا تلحقني، قال: لم؟ قال: لأني أعدو لنفسي وأنت تعدو لصاحبك.
هاج بأبي علقمة الدم فأتوه بحجامٍ يحجمه، فقال له: اشدد قصب الملازم وأرهف ظبة المشارط، وأسرع الوضع، وعجل النزع، وليكن شرطك وخزاً، ومصك نهزاً، ولا تكرهن أبياً، ولا تردن آتياً. فوضع الحجام محاجمه في جونته وقال: اسقوا هذا شربةً فإنه إلى الدواء أحوج منه إلى الحجامة.

استأجر رجل حمالاً ليحمل معه قفصاً فيه قوارير على أن يعلمه ثلاث خصالٍ ينتفع بها. فلما بلغ ثلث الطريق قال: هات الخصلة الأولى، قال: من قال لك إن الجوع خيرٌ من الشبع فلا تصدقه، قال: نعم. فلما بلغ نصف الطريق قال: هات الثانية، قال: من قال لك إن المشي خيرٌ من الركوب فلا تصدقه، قال: نعم. فلما بلغ إلى باب الدار قال: هات الثالثة، قال: من قال لك إنه وجد حمالاً أرخص منك فلا تصدقه. فرمى الحمال بالقفص وقال له: من قال لك إنه بقي في القفص قارورةٌ واحدةٌ فلا تصدقه.
جاء رجل إلى السيد الحميري فقال: بلغني أنك تقول بالرجعة، قال: صدق الذي أخبرك وهذا ديني، قال: أفتعطيني ديناراً بمائة ديناراً إلى الرجعة؟ قال السيد: نعم وأكثر من ذلك إن وثقت لي بمن يضمن لي أنك ترجع إنساناً. قال: وأي شيءٍ أرجع؟ قال: أخشى أن ترجع كلباً أو خنزيراً أو حماراً وتذهب بمالي، فأفحمه.
وقف مطيع بن إياسٍ على رجلٍ يعرف بأبي عميرٍ من أصحاب المعلى الخادم، فجعل يعبث به ويمازحه إلى أن قال له: من الوافر
ألا أبلغ لديك أبا العمير ... أراني الله في استك نصف أير
فقال له أبو العمير يا أبا سلمى، لو جدت بالأير كله لأحدٍ لجدت لي به لما بيننا من المصادقة، ولكنك لحبك له لا تريده كله إلا له. فأفحمه ولم يعاود العبث به. وكان مطيعٌ يرمى بالأبنة.
ألقى أبو دلفٍ العجلي على فضلٍ الشاعرة المتوكلية يوماً: من الكامل
قالوا عشقت صغيرةً فأجبتهم ... أشهى المطي إلي ما لم يركب
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبةٍ ... لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب
فقالت فضلٌ مجيبةً له: من الكامل
إن المطية لا يلذ ركوبها ... ما لم تذلل بالزمام وتركب
والحب ليس بنافعٍ أربابه ... ما لم يؤلف للنظام ويثقب
وقف الفرزدق بالبصرة على رجل يكري النساء الحمير يعرف بباب المكاري، فقال له: أنت باب؟ قال: نعم، فقال: من الطويل
كم من حرٍ يا باب ضخمٍ حملته ... على الرحل فوق الأخدري المكرم
فقال: الساعة والله - جعلني الله فداك - نزلت النوار - استودعها الله - عن ذلك الحمار، وأشار بيده إلى بعض الحمير، فقال له ابنه: ما كان أغناك عن هذا العبث.
تكلم البصري مع بعض المتكلمين في مجلس المرتضى فقال البصري: إن العقل غير العلم، وقال الآخر: العقل هو العلم. فدل البصري وأوضح حجته والخصم يرده بجحودٍ وبهتٍ لا دليل وراءه؛فلما أعياه وضحك الحاضرون من فهمه، قال البصري: قد أتيت بالبرهان لست تقبله، وقد بقي عندي دليلٌ واضحٌ أذكره ولا ترده، قال: ما هو؟ قال: أنت، فإنك غايةٌ في العلم والفضل، وليس لك عقل كلب. فاستشاط الآخر وسبه وسفه عليه، وقال: يا زوج كذا، فقال البصري وأشار إلى الحاضرين: سيدنا يدل.
قال الأصمعي: ولي أعرابيٌّ على تيماء، وكان هناك قومٌ من بني ضبة، وكان فيهم امرأةٌ ماجنةٌ. فمر بها الوالي ذات يومٍ وهو وحده وليس معه أحدٌ من أعوانه، فقالت: أيها الرجل إني أحب الشعر وسماعه، فهل تروي لجميلٍ شيئاً؟ قال: نعم، وأراد أن يجمشها، فقال: أروي قوله: من الطويل
هممت بأمرٍ يا بثينة لو مضى ... لشد بواقي حبها من فؤاديا
لأجعل فخذاً من بثينة كالنقا ... يميناً وأخرى مثلها عن شماليا
وأراد أن تنقمع وتحتشم بسماع هذا وتنصرف عنه. فقالت: ما أحسن ما فوق لو أصاب القرطاس، فقال: قبحك الله ما أمجنك، وانصرف مستحيياً.
قال شريكٌ الحارثي لجاريةٍ سوداء: لمن أنت يا سوداء؟ - وكان أصلع - قالت: أنا لفلان يا أصلع، فغضب وقال: كأنك لست سوداء، فلم غضبت؟ فقالت له: الحق أغضبك، لا تسب حتى لا تسب.
جلس بعض الأعراب يبول وسط الطريق بالبصرة فقيل له: يا أعرابي أتبول في طريق المسلمين؟ قال: وأنا من المسلمين، بلت في حقي من الطريق.

كان في يحيى بن أكثم حسدٌ شديدٌ، وكان مفننا في العلوم، إذا ناظر رجلاً فرآه عالماً بالفقه أخرجه إلى الحديث، وإن وجده عالماً بالفقه والحديث أخرجه إلى العربية، فقدم من أهل خراسان رجلٌ له افتنانٌ في العلوم فناظره، فجعل يحيى لا يخرجه إلى فنٍّ إلا قام به. فناظره في الحديث وقال له: ما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ عن شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أن علياً عليه السلام رجم لوطياً. فسكت يحيى ولم يناظره بعد ذلك بحرف.
أخرج نصر بن سيار محمد بن قطن الأسدي إلى قتال الكرماني كارهاً، فأصابه سهم غرب فقتله، ورمي ذلك اليوم برذون الكرماني فنفق، فصاح أصحاب نصرٍ: يا أصحاب الكرماني، ما فعل البرذون؟ فصاحوا بهم: ركبه محمد بن قطن إلى النار.
قال رجل لبعض الأعراب: لا أحسبك تحسن الخراءة قال: بلى وأبيك، إني بها لحاذق، أبعد الأثر، وأعد المدر، وأستقبل الشيح، وأستدبر الريح، وأقعي إقعاء الظبي، وأجفل إجفال النعام.
قال أبو زيد الأنصاري: دعا ابن أبي بردة أبا علقمة، وهو معتوهٌ بصريٌّ، فلما دخل عليه قال: تدري لم أرسلت إليك؟ قال: لا، قال: لأسخر منك. فقال أبو علقمة: لئن فعلت ذاك لقد سخر أحد الحكمين من صاحبه. فلعنه ابن أبي بردة وأمر بحبسه. فبقي أياماً ثم أخرجه يوم السبت، فلما وقف بين يديه قال له: أبو علقمة ما هذا الذي في كمك؟ قال: طرفٌ من طرف السجن، قال: أفلا تهب لنا منه، قال: هذا يوم لا نأخذ فيه ولا نعطي، قال ابن أبي بردة: ما أبردك وأثقلك يا أبا علقمة، قال: أبرد مني وأثقل من كانت جدته يهوديةً من أهل السواد.
قال أبو زيد النحوي: مر رجلٌ من قيسٍ ومعه ابنٌ له يريد الجمعة، وأبو علقمة المعتوه هذا على باب المسجد جالس. فقال الغلام لأبيه: أكلم أبا علقمة؟ قال: لا، فأعاد الكلام ثلاثاً، فقال له أبوه: أنت أعلم. فقال له الغلام: يا أبا علقمة، ما بال لحى قيسٍ خفيفةً قليلة المؤونة ولحى اليمن كبيرة عريضة شديدة المؤونة؟ قال: من قول الله تعالى: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً الأعراف: 58، مثل لحية أبيك، قال: فجذب القيسي يده من يد ابنه ودخل في غمار الناس حياءً وخجلاً.
قيل كان في همذان مجنونٌ يجتمع عليه الناس، فإذا اجتمعوا عليه قال لهم: هل ترون ما أنتم فيه من حيرتكم وغفلتكم شيئاً؟ ما هو إلا محنة العبودية ووطأة الشريعة في الدنيا، والحبس والسؤال والعذاب في الآخرة، وإنما الراحة ما أنا فيه: لا حرج في الدنيا ولا حساب في الآخرة.
مر حوشبٌ بمجنونٍ من بني أسدٍ وهو راكبٌ قصبةً والصبيان معه. فقال حوشب: قبحك الله تصنع هذا وأنت امرؤٌ من العرب؟ فأنشأ المجنون يقول: من الكامل
نجى وليدته وأسلم شيخه ... بئس الفتى عند الحفيظة حوشب
واتبعه الصبيان يصيحون به: بئس الفتى عند الحفيظة حوشب، وهو يركض هارباً.
وقيل بينا أحمد بن طولون في فيئته إذ سمع صائحاً يصيح: يا أحمد بن طولون، يا أخا ثمود، يا أحمد بن طولون، يا أخا فرعون فقال: علي بهذا الصائح، فمضوا وعادوا وقالوا: هو أبو نصر المجنون - لمجنون كان بمصر - فجيء به فقال: ما لك يا أبا نصر؟ قال جائع. قال: فأمر بطعامٍ فجيء به وشواءٍ وحلواء، فأكل الطعام والحلواء وشرب ثم نام بحضرة ابن طولون فما أيقظه بحرف، ولم يزل ساكتاً حتى انتبه. فقال له: متى نراك يا أبا نصر؟ قال: حتى أجوع.
قال عبد الله بن خزيمة لبعض أصحابه، وكان صاحب شرطته، ذات يومٍ: أين تذهب يا هامان؟ قال: أبني لك صرحاً.
قال رجل لصاحب منزل: أصلح خشب هذا السقف فإنه يتفرقع، قال: لا تخف إنما هو تسبيحٌ، فقال: أخاف أن تدركه رقةٌ فيسجد.
سمع إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة يحيى بن أكثم يغض من جده، فقال: ما هذا جزاؤه منك، قال: حين فعل ماذا؟ قال: حين أباح النبيذ ودرأ الحد عن اللوطي.
قال رجلٌ لحسين بن منصورٍ الحلاج: إن كنت فيما تدعيه صادقاً فامسخني قرداً، فقال لو هممت بذاك لكان نصف العمل مفروغاً منه.
سأل رجلٌ رجلاً: ما اسمك؟ قال: بحر، قال: أبو من؟ قال: أبو الفيض، قال: ابن من؟ قال: ابن الفرات قال: ما ينبغي لصديقك أن يلقاك إلا في زورق.

وأسرت مزنية حسان بن ثابت في الجاهلية فأراد أهله أن يفادوه، فقالت مزينة: لا نفاديه إلا بتيسٍ أجم، فقالوا: والله لا نرضى أن يفتدى شاعرنا ولساننا بتيس، فقال حسان ويحكم أتغبنون أنفسكم عياناً، إن القوم تيوس، فخذوا من القوم أخاكم وأعطوهم أخاهم.
قال موسى بن قيس المازني قلت لأبي فراسٍ المجنون: أنت النهار كله ماشٍ أفتشتكي بدنك بالليل؟ فقال: من المتقارب
إذا الليل ألبسني ثوبه ... تقلب فيه فتى موجع
فقلت: يا أحمق أسألك عن حالك وتنشدني الشعر؟ قال: أجبتك يا مجنون، قلت: أتقول لي هذا وأنا سيدٌ من سادات الأنصار فقال: من الطويل
وإن بقومٍ سودوك لفاقةً ... إلى سيدٍ لو يظفرون بسيد
ثم لطم عينه، ومر وهو يقول: هكذا يكون الجواب المقشر.
تم الباب بحمد الله وعونه والحمد لله، اللهم صل على محمد النبي وآله وسلم. ويتلوه باب كبوات الجياد وهفوات الأمجاد والله المعين والموفق بحوله وقوته قوبل بجميعه فصح وكان الفراغ منه في سابع عشر رجب من سنة تسعين وستمائة، والله يطيل بقاء مالكه ويمتعه به آمين.

الباب الرابع والثلاثون
في كبوات الجياد وهفوات الأمجاد
ويتصل به سرقات فحول الشعراء وسقطاتهم.
قال الله تعالى: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفورٌ حليمٌ آل عمران: 155. فهذه كانت هفوةً من المسلمين وفيهم سادات الصحابة وأعيان الشجعان في يوم حنينٍ غفرها الله وعفا عنها. وكان بعض القوم قال في ذلك اليوم: لن نؤتى اليوم من قلةٍ، وهم في اثني عشر ألفاً، فأنزل الله تعالى: ويوم حنينٍ إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين التوبة: 25.
ويليق بهذا الباب قصص الأنبياء عليهم السلام التي نسب إليهم فيها الخطأ: كخطيئة آدم عليه السلام، وكقضية داود في الحكم، وقضية سليمان في قوله تعالى: ولد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب ص: 34 فغفرنا له ذلك؛ وقد نسبوا إلى الخليل إبراهيم عليه السلام نحو ذلك، حيث رأى الكوكب ثم القمر ثم الشمس؛ وقصة يوسف عليه السلام حيث همت به وهم بها.
ولكني ألغيت شرح هذه الأخبار التي أوردها أصحاب السير تنزيهاً لهم، وإكباراً عن تمثيلهم ممن أدركه الزلل فهفا، وعثر في سنن هديه فكبا؛ وعلى أن الناس مختلفون فيما يجوز عليهم من الخطأ، وفيهم من لم يجوز عليه وقوع الخطيئة، لا كبيرها ولا صغيرها، قبل النبوة وبعدها. فأما الذين جوزوا وقوع الخطأ منهم واختلفوا، فجوز أصحاب الحديث ومن تابعهم وقوع الكبائر منهم قبل النبوة؛ وأفرط قومٌ منهم فجوزوها في حال النبوة، سوى الكذب فيما يتعلق بأداء الشريعة؛ ومنهم من جوز ذلك في حال النبوة بشرط الإسرار دون الإعلان؛ وفيهم من جوزه على الأحوال كلها، ومنعت المعتزلة من وقوع الكبائر والصغائر المستخفة من الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة وفي حالها، وجوزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغائر، ثم اختلفوا: فمنهم من جوز النبي الإقدام على المعصية الصغيرة لا على سبيل العمد، ومنهم من منع ذلك وقال: إنهم لا يقدمون على ما يعملونه معصيةً على سبيل التأويل.
وحكي عن النظام وجعفر بن مبشرٍ أنهما قالا مع جماعة اتبعتهما إن ذنوبهم لا تكون إلا على سبيل السهو والغفلة، وأنهم مؤاخذون بذلك وإن كان موضوعاً عن أممهم لقوة معرفتهم وعلو مرتبتهم، وحجج هذه المقالات و تسمية قائليها و الذاهبين إليها، تحتاج إلى بيانٍ و شرحٍ لا يليق بهذا الكتاب. وحصل من هذا إجماع أكثر الناس أن أحداً لا يخلو من هفوةٍ وزلةٍ، والله بكرمه ولي العفو عنها والمسامحة بها، فلا يعاب ذو فضيلة بوقوعها منه.
كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقةٌ تسبق ما يجاريها. فجاء أعرابي بناقة له فسبقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حقيق على الله تعالى أن لا يرفع شيئاً إلا وضعه.
وقال الأحنف: الشريف من عدت سقطاته. قال النابغة: أي الرجال المهذب. وقالوا: كل صارمٍ ينبو، وكل جوادٍ يكبو. ومنه قول الآخر: من الطويل
هو السيف إلا أن للسيف نبوةً

وكان الأحنف حليماً سيداً، يضرب به المثل، وقد عدت له سقطاتٌ. فمن ذلك أنه نظر إلى خيلٍ لبني مازن وقال: هذه خيلٌ ما أدركت بالثار ولا نقضت الأوتار؛ فقال له سعيد بن العلقم المازني: أما يوم قتلت أباك فقد أدركت بثأرها. فقال الأحنف: لشيءٍ ما قيل: دع الكلام حذر الجواب. وكانت بنو قتلت أبا الأحنف في الجاهلية.
ومن سقطاته أن عمرو بن الأهتم دس إليه رجلاً يسفهه، فقال: يا أبا بحرٍ من كان أبوك في قومه؟ قال: كان من أوسطهم لم يسدهم ولم يتخلف عنهم، فرجع إليه ثانيةً ففطن أنه من قبل عمروٍ، فقال: ما كان مال أبيك؟ قال: كانت له صرمةٌ يمنح منها ويقري ولم يكن أهتم سلاحاً.
ولما خرج الأحنف مع مصعبٍ أرسل إليه بمائة ألف درهم، ولم يرسل إلى زبراء جاريته بشيءٍ، فجاءت حتى تقدمت بين يدي الأحنف ثم أرسلت عينيها، فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما لي لا أبكي عليك إذا لم تبك على نفسك؟ أبعد نهاوند ومرو الروذ تجمع بين غارين من المسلمين؟ فقال: نصحتني والله في ديني إذ لم أنتبه لذلك، ثم أمر بفساطيطه فقوضت، فبلغ مصعباً ذلك فقال: ويحكم من دهاني في الأحنف؟ فقالوا: زبراء، فبعث إليها بثلاثين ألف درهم، فجاءت حتى أرخت عينيها بين يديه فقال: ما لك يا زبراء؟ قالت: جئت بإخوانك من أهل البصرة تزفهم كما تزف العروس حتى إذا صيرتهم في نحور أعدائهم أردت أن تفت في أعضادهم، قال: صدقت والله، يا غلام دع الفساطيط، فاضطرب العسكر بمجيء زبراء مرتين فذهبت مثلاً.
وأنا أجتنب ذكر ما جاء في هفوات الصالحين والصدر الأول إجلالاً لهم عن سوء الظن إلا أن يجيء ما ليس بخطأ على الحقيقة، وإنما اعترفوا به تواضعاً، كما جاء عن عمر رضي الله عنه، قال: لا يبلغني أن أحداً تجاوز بصداقه صداق النبي صلى الله عليه وسلم إلا ارتجعته منها. فقامت امرأةٌ فقالت: ما جعل الله تعالى ذلك لك، يا ابن الخطاب، إن الله عز وجل يقول: وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً النساء: 20، فقال عمر: ألا تعجبون من إمامٍ أخطأ وامرأةٍ أصابت؟ ناضلت إمامكم فنضلته، وعمر رضي الله عنه إنما قال ذلك زجراً ليقتدوا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في صدقات النساء ولم يوجبه عليهم، والآية التي احتجت بها المرأة ليست في الصداق.
روى قتادة أن الحسن سئل عن قوله تعالى: قد جعل ربك تحتك سرياً مريم: 24، فقال: إن كان لسرياً وإن كان لكريماً، فقال: من هو؟ قال: المسيح، فقال له حميد بن عبد الرحمن: أعد نظراً إنما السري الجدول فتمعر لونه، وقال: يا حميد، غلبنا عليك الأمراء.
وكان أبو حنيفة يلحن، فسمعه أبو عمرو بن العلاء يتكلم في الفقه ويلحن، فاستحسن كلامه واستقبح لحنه، فقال: إنه لخطابٌ لو ساعده صوابٌ، ثم قال لأبي حنيفة: إنك أحوج إلى إصلاح لسانك من جميع الناس.
وسأله رجلٌ يوماً فقال: ما تقول في رجلٍ تناول صخرةً فضرب بها رأس رجلٍ فقتله أتقيده به؟ فقال: لا ولو ضربه بأبا قبيس.
وقد احتج قومٌ لأبي حنيفة وزعموا أنه لم يلحن، وقالوا: اسم الجبل هكذا وليس بكنية؛ وروي أن عطاءً كذا كان يقول، وكذاك ابن عباس، ولا يشك في فصاحته، ويحتجون بلغة بلحارث بن كعب، وأنهم يسوون في التثنية بين النصب والجر؛ وينشدون بين المتلمس: من الطويل
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغاً لناباه الشجاع لصمما
ويقولون: رأيت أباه وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
والأحسن في هذا أن يكون قولهم: أبا قبيس اسماً للجبل ليس بكنية، فلا يغير بتغيير العوامل فيه، ويصير كالاسم الواحد.
وكان بشر المريسي يقول لجلسائه: قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهنؤها، فسمع قاسم التمار قوماً يضحكون من ذلك فقال: هذا كما قال الشاعر: من المنسرح
إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيءٍ ما كان يرزؤها
فكان احتجاجه لبشرٍ أعجب من لحنه، وهما متقدمان في أصحاب الكلام.
قال سعيد بن المسيب: ما فاتني الأذان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعين سنة، ثم قام يريد الصلاة فوجد الناس يخرجون من المسجد.
وقال قتادة: ما نسيت شيئاً قط، ثم قال: يا غلام ناولني نعلي، قال: النعل في رجلك.

كان عامر بن عبد الله بن الزبير في غاية الفضل والدين، وكان لا يعرف الشر، فأتي بعطائه إلى المسجد فأخذه، وقام إلى منزله ونسيه ثم ذكره في بيته، فقال لخادمه: ادخل المسجد فائتني بعطائي، قال: وأين تجده بعد؟ قال: سبحان الله ويأخذ أحدٌ ما ليس له؟ قال الحسن بن زياد: مر ابن أبي ليلى بجبانة الكوفة على امرأةٍ مجنونةٍ يقال لها أم عمران تعرض لها رجلٌ فشتمته، فأمر ابن أبي ليلى بإدخالها إلى المسجد وبأن تضرب الحد، فشتمت آخر بأقبح من شتيمة الأول، فأمر أن تضرب الحدين. قال فبلغ أبا حنيفة ذلك، قال الحسن: وكنت حاضراً مجلس أبي حنيفة، فبعث أربعة أنفسٍ واحداً بعد واحدٍ حتى تقصوا الخبر وعادوا إليه، فوقف على صحته، فقال: إن للعلماء زلاتٍ، ولكن يجب أن تخفى وأن يقال لهم في السر: فإن كان الأمر كما قلتم فانظروا من يثق به من أصدقائه يلقاه في سرٍّ، ويخبره أن الذي قد عمل قد وهم فيه. أما أولها فإن المجنون لا يجب عليه الحد، وأنه حكم بغير خصمٍ حاضرٍ ادعى ذلك، وذلك أن الرجل الذي شتمه مضى ولم يقف؛ وأنه أقام حداً في المسجد، والحدود لا تقام في المساجد؛ وجمع عليها حدين في مقامٍ واحد، ولا يجوز أن يجمع على مسلم حدان في موضع حتى يبرأ الأول ويقام عليه الثاني. وأما حده إياها وهي قائمةً، فليس بين المسلمين خلافٌ أن المرأة لا تضرب قائمةً، ولكن تضرب جالسةً، والمرأة إذا احتاج الحاكم أن يحدها، أحضر وليها حتى يتولى من سترها ما لعله أن ينكشف منها؛ وأما انكشاف شعرها حين ضربت فلم يأمر أحداً أن يغطيه، وقد كان يجب أن يأمر امرأةً تغطيه.
قال الشعبي: أخطأت عند عبد الملك بن مروان في أربع، حدثني بحديث فقلت: أعده علي، فقال: أما علمت أن أمير المؤمنين لا يستعاد؛ وقلت حين أذن لي: أنا الشعبي يا أمير المؤمنين؟ فقال: ما أدخلناك حتى عرفناك؛ وكنيت عنده رجلاً فقال: أما علمت أنه لا يكنى أحدٌ عند أمير المؤمنين؛ وسألته أن يكتبني حديثاً، فقال: إنا نكتب ولا نكتب.
وليس ما ذكره الشعبي عن نفسه ونسبها فيه إلى الخطأ بخطأ، وإنما تخلق عبد الملك بأخلاق الجبابرة، وخالف أخلاق الحنيفية السهلة، فكان غلط الشعبي مضافاً إليها.
؟وأنا أكره ذكر ما أخ على الفقهاء ونسبوا فيه إلى الغلط، بل لكل منهم فضيلة الاجتهاد، وزلة الرأي - ما لم يتعمد - مغفورة. وترك ما وهموا فيه وتجنبه، مع الاعتراف لهم، جامع للاحتياط وحسن الظن بهم.
قال المعتمر بن سليمان: إياك والاقتداء بزلات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: فلانٌ شرب النبيذ، وفلانٌ سمع الغناء، وفلان لعب بالشطرنج، فيجيء منك فاسق تام.
؟كان هشام بن عبد الملك من رجال بني أمية ودهاتهم، وكان المنصور يعده أفضل من معاوية ومن عبد الملك أبيه، وعدت له سقطاتٌ، منها أن الحادي حدا به فقال: من الرجز
إن عليك أيها البختي ... أكرم من يمشي به المطي
فال هشام: صدق. والأخرى ذكر عنده سليمان فقال: والله لأشكونه يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك. والأخرى أنه لما ولي الخلافة خطب فقال: الحمد لله الذي أنقذني من النار بهذا المقام.
؟؟؟كان الحجاج فصيحاً محباً للبلاغة، متحفظاً في خطبه، حتى أنه غير القرآن خوف اللحن، حيث بدر لسانه إلى فتح الهمزة في إن، فقرأ أن ربهم يومئذٍ، ثم علم أن اللام لا تكون إلا في جواب إن المكسورة فقال: خبير، ومع هذا قرأ: إنا من المجرمون منتقمين.
قدم العريان بن الهيثم على عبد الملك بن مروان فقيل له: تحفظ من مسلمة فإنه يقول: لأن يلقمني رجلٌ حجراً أحب إلي من أن يسمعني لحناً، فأتاه العريان ذات يومٍ فسلم عليه فقال: كم عطاءك؟ قال العريان: ألفين، فقال: كم عطاؤك؟ قال: ألفان، قال: ما الذي دعاك إلى اللحن الأول؟ قال: لحن الأمير فكرهت أن أعرب، وأعرب فأعربت. فاستحسن كلامه.
وكان يزيد بن المهلب فصيحاً لم تؤخذ عليه زلةٌ في لفظٍ، ثم أخذ عليه غلطٌ، فإنه قال على المنبر - وذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد ابن الخطاب - فقال: وهذه الضبعة العرجاء، فاعتدت عليه لحناً، لأن الأنثى إنما يقال لها الضبع ويقال للذكر الضبعان.
قال الزبير: عيب على ابن قيس الرقيات قوله: من الطويل
تقدت بي الشهباء نحو ابن جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلها ونهارها

فناقض بين صدر البيت وعجزه لأنه قال في الأول: إنه سار سيراً غير عجلٍ، ثم قال في عجز البيت: سواء عليها ليلها ونهارها، وهذا غاية الدأب في السير.
وقد أخطأ أيضاً في قوله: من المنسرح
ما مر يومٌ إلا وعندهمالحم رجالٍ أو يالغان دماهكذا الرواية، فغيرته الرواة إلى الصحيح وهو: أو يولغان دما.
العنزي أحد رواة العرب المشهورين، قال: دخلت على زيادٍ فقال: أنشدني، فقلت: من شعر من أيها الأمير؟ قال: من شعر الأعشى فأنشدته: من الكامل
رحلت سمية غدوةً أجمالها
غما أتممت القصيدة حتى تبينت الغضب في وجهه، وقال الحاجب للناس: ارتفعوا، فقاموا. قال: ثم لم أعد إليه والله بعدها.
واستمع حماد لرواية هذه الحكاية قال: فكنت بعد ذلك إذا استنشدني خليفةٌ أو أميرٌ تنبهت قبل أن أنشده لئلا يكون في القصيدة ذكر امرأةٍ له أو بنت أو أم.
قال ابن دريد: وجدت للجاحظ في كتاب البيان تصحيفاً شنيعاً، فإنه قال: حدثني محمد بن سلام قال: سمعت يونس يقول: ما جاءنا عن أحدٍ من روائع الكلام ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما هو عن أبي عثمان البتي. فأما النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك عند الملي والذمي أنه كان أفصح الخلق.
وفي هذا الكتاب قال الجاحظ: يستحسن من النساء اللحن، وأنشد لمالك بن أسماء بن خارجة يحتج لقوله: من الخفيف
منطقٌ صائبٌ وتلحن أحيا ... ناً وخير الحديث ما كان لحنا
قال علي بن المنجم: قلت له: مثلك في فضلك وعلمك يقول هذا؟ وإنما أراد وصفها بالظرف والفطنة، وأنها توري عما قصدت له، وتتنكب التصريح. فاعترف بذلك وقال: إني تنبهت له من بعد؛ قلت: فلم لا تغيره من الكتاب؟ فقال: كيف بما سارت به الركبان؟ واللحن هنا: الكناية عن الشيء والتعريض بذكره، والعدول عن الإيضاح به على معنى قوله تعالى: ولتعرفنهم في لحن القول محمد: 30. وقد تبع عبد الله بن مسلم بن قتيبة الجاحظ، فذكر في كتابه المعروف بعيون الأخبار أبيات مالك هذه، واعتذر لها من لحن أن أصيب فيه. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعل أحدكم ألحن بحجته، أي أفطن وأغوص عليها.
من هذا أيضاً: أنشد أبو البيداء الرياحي أبا عمرو: من الطويل
ولو أن حياً للمنايا مقاتلاً ... يكون لقاتلنا المنية عن معن
فتىً لا يقول الموت من حر وقعه ... لك ابنك خذه ليس من شيمتي دعني
فقال له أبو عمرو: صحفت، إنما هو قتالاً يقول الموت.
أنشد العماني الراجز الرشيد شعراً يقول منه: من الرجز
كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمةٌ أو قلماً محرفا
وعلم الجماعة أنه لحن ولم يهتدوا إلى إصلاحه؛ فقال الرشيد: اجعله تخال أذنيه.
كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي من الأدب والفضل بالمكان المشهور، وكان الأصمعي يعارضه. فأنشده إسحاق بيتين كان يعجب بهما وهما: من الخفيف
هل إلى نظرة إليك سبيل ... يرو منك الصدى ويشف الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثيرٌ من المحب القليل
فقال له الأصمعي: قد لحنت في قولك يرو، وأخذت البيت الثاني من قول عمر بن أبي ربيعة: من الخفيف
وكثير منها القليل المهنا
فلم يكن من إسحاق جواب - وقد احتج قوم لإسحاق بما أنشده أبو إسحاق الشيرازي: من الرجز
كفاك كفٌّ لا تليق درهما ... جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما
وقالوا: الأصل في الأفعال الجزم، وإنما دخل في المضارع لمضارعته الأسماء، واستعملوه كذا في ضرورة الشعر.
إسحاق مع كثرة فضائله، وتوفر معانيه وخصائصه، ومنها دماثته وكمال عقله، يتحقق بالشجاعة والفروسية، ويحب أن ينسب إليها آفةً من الآفات المعترضة على العقول، وغفلةً لا يخلو منها ذوو الحلوم؛ وشهد بعض الحروب فأصابه سهم فنكص على عقبيه حتى قال أخوه طياب فيه: من المتقارب
وأنت تكلف ما لا تطيق ... وقلت أنا الفارس الموصلي
فلما أصابتك نشابةٌ ... رجعت إلى بيتك الأول
قال كيسان: سمعت أبا عبيدة ينشد: من البسيط
ما زال يضربني حتى خزيت له ... وحال من دون بعض البغية الشفق
فقلت: خزيت خزيت؟ وضحكت فغضب وقال: كيف هو؟ قلت: إنما هو خذيت. فانخزل وما أحار جواباً.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19