كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون

إلى أن حكم الله بينهما حكمه العادل، وأمضى عليهما أمره النافذ، بإظهار رايتنا المنصورة، وتنكيس تلك الراية المخذولة، فانهزم أسفار وفلان، فريدين وحيدين، واستباح الأولياء ما كان هذا اللعين اشتمل عليه من أموالنا، وحاربني به من سلاحي وكراعي، وحصل الأخ أبو نصر في قبضتي أسيراً نادماً، ومتأسفاً واجماً، وقتل في المعركة خلق كثير من أولئك الفسقة، واستأمن الباقون ولجج سرعان الخيل في قص آثار الهاربين، ولا شك أن الله يظفر بهم أجمعين على عادة قضيته لهذه الدولة بإظهارها على كل غامط لها نعمة، وجار عليها فتنة، فالحمد لله حمداً لا تضرب عليه حدود الغايات، ولا يقف عند الأقاصي والنهايات، لكنه ينمي ويزيد، ويبدأ ويعود، حتى يبلغ رضي الله سبحانه، ويقضي حقه ويؤدي فرضه، ويقتضي وعده، بمنه وطوله، وإحسانه وفضله.
وهذه حال يسرها الله بيمن مولانا، وببركة أيامه، وإقبال دولته، وسعادة جده، وما يجمعني إليه من جوامع الموالاة وأسباب المشاركة، فهنأه الله إياها من نعمة جل موقعها، وعم نفعها وحسن أثرها، وعز الولي بها، وذل العدو لها. ولا أخلاه من استماع البشائر بأمثالها في الاستعلاء والظهور، والابتهاج والحبور، وتذلل الخطوب، وتأتي المحبوب، واستقامة الأمور، ومسالمة المقدور، إنه بذلك جدير وعليه قدير.
كتاب لعبد الحميد بن يحيى في فتح: أما بعد فالحمد لله أهل الحمد ووليه، الذي كرم الإسلام وفضله، واصطفاه لنفسه، وبعث به نبيه صلى الله عليه وسلم واختاره لمن كرم عليه من خلقه، ورضي به لعباده ديناً، ثم تولى حفظه وإكرامه واختاره لمن كرم عليه من خلقه، ورضي به لعباده ديناً، ثم تولى حفظه وإكرامه وإعزازه، ونصر أهله ومن جاهد عليه، على من زهد فيه ورغب عنه، وحاد أولياءه وابتغى غير سبيلهم. والحمد لله الذي أكرم أمير المؤمنين بخلافته، وعرفه في ما ولاه واسترعاه من أمر عباده وبلاده، وابتعثه له من مجاهدة أعدائه وأهل الإلحاد في دينه والمخالفة لحقه، أفضل ما أرى أحداً من خلفائه في ما ولأهم من ذلك وابتعثهم له: من العاقبة والنصر والتمكين والفلج في كل موطن يجمع فيه بين أهل طاعته وأهل الخلاف عليه والمعصية. والحمد لله على ما يحدث له من نعمه، ويتابع من فتوحه وكراماته، ويعرفه من حسن قضائه له في ما حضره وغاب عنه ويوقع بعدوه من قوارعه وسطواته وبأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
واقتص الفتح ثم قال في آخره: وأمير المؤمنين يسأل الله أن يلهمه وإياكم من الشكر لنعمه، والعمل بطاعته، والمعرفة لحقه، في ما يتابع له ولكم من كراماته ونصره وفلجه وعاقبته ما يكون له رضىً، ولحقه أداء، ولكرامته ولنعمه إسباغاً وللزيادة من فضله استيجاباً، فإنه ولي ذلك والقادر عليه، والمرغوب إليه فيه، وإنه لا حول ولا وقوة لأمير المؤمنين إلا به وحده لا شريك له، والسلام.
إبراهيم الرقيق الكاتب المغربي يذكر فتح صور: من الكامل
ومسائل بالثغر يقسم ظنه ... فيه فبين مكذبٍ ومصدق
سائل به البيض الصوارم تصدق ... واستنطق السمر العوالي تنطق
أبقين صوراً للنفاق كأنها ... آثار أقلام درسن بمهرق
نظم الإمام إليهم شمل الوغى ... فأصار شمل جميعهم لتفرق
في جحفل ملأ الفضاء بعارضٍ ... متألقٍ كالعارض المتألق
أحيا بها الإسلام عزم إمامها ... من بعد ما شرقت بداء مشرق
ثم ذكر الفرار فقال:
حيران تفرق نفسه من نفسه ... فرق العدو من العدو المحنق
وغدا الفرار أباً عليه مشفقاً ... لو كان ينجيه مخافة مشفق
كتب أخي رحمه الله عن ديوان الخلافة إلى الملك مسعود بن قتلمش، تهنئة بفتح، وكان الإفرنج وردوا بلاده من المغرب في عدد عظيم فبدد الله شملهم وعادوا خائبين: كتابي - أطال الله بقاء سيدنا الملك - ومواهب الله في الجناب الأشرف آهلة الربوع، عذبة الينبوع، صافية الورود، ضافية البرود، والحمد لله رب العالمين.

وبعد: فهو - أدام الله علوه - ممن اختاره الله تعالى من عباده، وجمع له بين عاجلته وخير معاده، بما جعله عن حوزه الجميل في الذب عن الثغور مبيناً، وبشعار الحق ولو كره المشركون معلناً، فالسعادة قد حيزت له من جميع أطرارها، والمحامد منتشرة له في آفاق الأرض وأقطارها، والثناء بمناقبه زينة أحاديث الأندية وأسمارها، والمودة له مستحكمة في ضمائر القلوب على اختلافها وأسرارها.
ووردت البشائر المبهجة، والأخبار المعربة، بتلاوة سور حمده والملهجة، بما أجراه الله على يده من الفتح المبين الذي فض به جمع الشرك وفرقه، وأدحض الباطل وأزهقه، وفرق فرق الكفر الناجمة أسراً وقتلاً، وسقاهم كؤوس الردى نهلاً وعلاً، ورجع آمالهم التي قدروها خائبة، وظنونها بالإخفاق آيبة، وجعل نهلاً وعلاً، ورجع آمالهم التي قدروها خائبة، وظنونهم بالإخفاق آبية، وجعل كيدهم في تضليل، وبوأهم من الخذلان شر مقيل، فأهدى ذلك من الجذل ما يوازي عظم خطره، وحسن موقع أثره، وحل من المراضي الشريفة الإمامية محلاً - أدم الله علوه - بحيازة فخره حقيق، ونسب مقاماته الغر في كسب مثله عريق، ورسم - أعلى الله المراسم وأمضاها - مكاتبته شكراً لله سبحانه بادياً على ما سناه من هذه المنحة التي ثلجت لها الصدور، وابتسمت الثغور، وحبطت المعاقل الإسلامية وسكنت القلوب الواجفة والنفوس، وانجلت غياهب الضراء المخوفة والبوس، وصدق الله في إظهار دينه وعده، ونصر حزبه وجنده، وأعز الحق وأداله، وقهر الباطل وأزاله، جلت عظمته ثانياً على أن سناها بمن أيمن الله نقيبته، وأعلى في الأولى والأخرى رتبته، وأصفى في الطاعة الإمامية عقيدته، وخصه في نصرة الدين بكل مقام محمود، وموقف مشهود، وحسن بلاء مألوف منه معهود.
ومنها: وما يزال له من الهمم الشريفة الإمامية أنصار وجنود، وحظ صاحبه مغبوط محسود، ومدد لا يتقلص عنه ظل بركاته، ولا يعدوه بمكانة التوفيق في سكناته وحركاته.

الفصل الثاني
الولاية
تهنئة بخلافة: فإن أولى النعم بالدوام، وأرجاها للبقاء والتمام، وأجدرها بالخلود، وأقربها إلى المزيد، وأحراها بالسلامة على نوب الأيام وتصاريف الأحداث، نعمة نشأت بفنائه، وسكنت ذراه، فحمدت مثواه، وساسها أولياؤها بحسن المجاورة وكرم المصاحبة، سياسة الحاني الشفيق، وكفلوها كفالة الحدب الرفيق، فزكت ونمت، وخصت وعمت، ثم اعترضها من ريب الزمان ما هاج سواكنها، وأزعج كوامنها، وأصارها إلى الوحشة بعد الأنس، والنفرة بعد الإلف، تتقلقل تقلقل العوادي، وتشرد شرود الضوال، لافظة لها الأقطار، ونابية بها المحال، إلى أن أعادها الله تعالى بلطفه إلى معانها المعروف، وربتها المألوف، واستقرت بعد الاضطراب، وفاءت بعد الاغتراب، وتلك نعمة الله عند سيدنا أمير المؤمنين بما جدده له من كرامته، واصطفاه من خلافته، وطوقه إياه من أمانته، ورده إليه من تدبير الملك، واعتمد عليه من سياسة الأنام، فأحيا به السنن القاصرة، وأزال به الرسوم الجائرة، ونهج به سبل العدل، وأقام به منار الفضل.
من كتاب: وكان تفويضه إليك بعد امتحانه إياك، وتسليط الحق على الهوى فيك، وبعد أن ميل بينك وبين الذين سموا لرتبتك، وأجروا إلى غايتك، فأسقطهم مضمارك، وخفوا في ميزانك.
روي أن الوليد قام على المنبر بعد موت عبد الملك فقال: يا لها من مصيبة ما أفجعها وأعظمها وأشدها وأوجعها وأعمها، موت أمير المؤمنين، ويا لها من نعمة ما أعظم المنة من الله علي فيها، وأوجب الشكر له بها، خلافته التي تسربلتها. فكان أول من عزى نفسه وهنأها بالخلافة، فأقبل غيلان بن سلمة الثقفي فسلم عليه بالخلافة قال: أصبحت يا أمير المؤمنين ورثت خير الآباء، وسميت خير الأسماء، وأعطيت أفضل الأشياء، فعزم الله لك على الرزية بالصبر، وأعطاك في ذلك فواضل الأجر، وأعانك في حسن ثوابه على الشكر، ثم قضى لعبد الملك بخير القضية، ونزله المنازل المرضية.
فأعجبه كلامه وقال: أثقفي أنت؟ قال: نعم، وأحد بني معتب، فسأله في كم هو من العطاء، فقال: في مائة دينار، فألحقه بشرف العطاء.
وقال محمد بن العلاء السجزي: لما ولي عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزارة دفع إلي عبيد الله بن عبد الله بن طاهر رقعة فيها تهنئة بالوزارة فأوصلتها إلى عبيد الله بن سليمان، وفيها: من الطويل

أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... فأسعفنا في من نحب ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم
فضحك وقال لي: يا أبا علي، ما ترى كيف لطف بشكوى حاله في تهنئته؟ امض إليه فأبلغه سلامي وجئني برقاه في حوائجه، فمضيت وجئته برقاعه، فوقع في جميعها بما أحب.
البحتري: من الكامل
اليوم أطلع للخلافة سعدها ... وأضاء فيها بدرها المتهلل
لبست جلال جعفر فكأنها ... سحر تجلله النهار المقبل
جاءته طائعة ولم يهزز لها ... رمح ولم يشهر لديها متصل
حتى أتته يقودها استحقاقة ... ويقوده حظ إليها مقبل
وقال أيضاً: من الخفيف
ما تصرفت في الولاية إلا ... فزت من حمدها بحظ جسيم
لم تزل من عيوبها أبيض الثو ... ب ومن دائها صحيح الأديم
وقال أيضاً: من الكامل
ولتهنك الآن الولاية إنها ... طلبتك من بلد بعيد المنزع
لم تعطها أملاً ولم تشغل بها ... فكراً ولم تسأل لها عن موضع
وقال أيضاً: من الطويل
هنيئاً لأهل الشام أنك سائر ... إليهم مسير القطر يتبعه القطر
تفيض كما فاض الغمام عليهم ... وتطلع فيها مثل ما طلع البدر
ولن يعدموا حسني إذا كنت فيهم ... وكان لهم جارين جودك والبحر
مضى الشهر محموداً ولو قال مخبراً ... لأثنى بما أوليت أيامه الشهر
وقال أيضاً: من البسيط
أرضى الإله نفوساً طالما سخطت ... وأعتب الدهر قوماً طالما عتبوا
وأكسف الله بال الكاشحين على ... عمدٍ وأبطل ما قالوا وما كذبوا
طريح بن إسماعيل الثقفي في المنصور: من المنسرح
لما أتى الناس أن ملكهم ... إليك قد صار أمره سجدوا
واستبشروا بالرضى تباشرهم ... بالخلد لو قيل إنهم خلدوا
كنت أرى أن ما وجدت من ال ... فرحة لم يلق مثله أحد
حتى رأيت العباد كلهم ... قد وجدوا فيك مثل ما أجد
قد طلب الناس ما بلغت فما ... نالوا ولا قاربوا وقد جهدوا
يرفعك الله بالتكرم والت ... قوى فتعلو وأنت تقتصد
قد صدق الله مادحيك فما ... في قولهم فرية ولا فند
تهنئة لأبي إسحاق الصابي: أهنئ الوزير - أطال الله بقاءه - بالحال التي جددها الله له، كما يهنأ ناشد الضالة إذا وجدها، أو كما يهنأ طالب الغريبة إذا ظفر بها، وقديماً ألقت الوزارة إليه بالمقاليد، وتحملت به تحمل من سواه بها، وسمت إليه سمو غيره لها، بما جمع الله من الأدوات التي ببعضها تستحق والرياسات. فالحمد لله على أن جعله لها نصاباً تستقر فيه، وملاذاً تعتصم به، وكفؤا كريماً تؤثره ولا تفركه، وتأوي إليه ولا تنشز عنه. وعرفه الله بركة مقدمها بعد الاغتراب، واستيطانها بعد التقلب والاضطراب، ولا أعدمه النهوض بأعبائها، ولا عرى مناكبه من ردائها، وأعانه فيها على اكتساب المكارم، وادخار المثاوب، مشتملاً عليها حائزاً، ومستبداً بها فائزاً، ليكون فناؤه - عمره الله - سوقاً لبضائعها، وأيامه - أطالها الله - موسماً لوفودها، فيسعد بعاجل ثمرها وجناها، ويحظى بآجل ذكرها وثناها، بمنه.

سعيد بن حميد: النعمة فيك أجل من أن يقضى حقها بالقول دون الاجتهاد في كل ما يرضي الله عز وجل من الفعل. ولكن الله جعل تقديم الحمد عند المنعم عليه علامة من علامات الشكر، وفرقاً بين العالم بالحق والجاهل به، والحمد لله رب العالمين حمد معترف لله بأن أقصى ما يبلغه من الشكر مقصر عن أداء ما تطول به من نعمه، وصلى الله على محمد عبده ورسوله صلاة تبقى بعد موت قائلها، ويتصل على طول الأيام تتابعها، وأسأل الله الذي بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير أن يتولاك بالتوفيق للشكر، فإن كل نعمة خلت من الشكر فإن اسم البلية أولى بها، وأن يمدك بالمزيد، ويحرسك من الغير، ويحسن لك العواقب، ويبسط يدك ولسانك بجمل القول والفعل، فإن أولى الدعاء بالإجابة دعاء خرج من نية صادقة وطوية صحيحة، والله يعلم كيف النية لك، والكر لسالف بلائك، والعلم بفضلك على كثير من أهل دهرك بل على من تقدمهم من أهل الدهور المذكورة بالخير، الموصوفة بالفضل.
كاتب آخر: لو أمسكت عن التهنئة بما جده الله من هذه النعمة اعتماداً عليك بالنية ومشاركتي إياك في السرور بكل ما خصك الله به من الكرامة، وخلطت بذلك ذكر ما أنا متصرف فيه من المحنة التي تحول بيني وبين كثير من الفرض والنافلة، لكنت في ذلك على سبيل يجب بها العذر، وتزول معها الحجة؛ لكني كرهت الإخلال بالعادة، وإضاعة ما جرت به السنة، فأقتصر على ما حضرني من القول والدعاء الذي أرجو من الله الإجابة لأنه يخرج عن إخلاص من السريرة وصدق من النية؛ وأنا أسأل الله المتطول بالنعم قبل الاستحقاق لها، والهادي إلى شكرها ليوجب بذلك المزيد منها، أن يصلي على محمد عبده ورسوله، فإن ذلك أولى ما تفتتح به المسألة، وتستنجح به الطلبة، وأن يتولاك في لطيف أمورك وجليلها بالحياطة، ولا يخليك من جميل الصنع والكفاية، فإنه لا ضيعة على من تولاه، ولا خوف على من حاطه وكفاه، ون يقرن لك رأيك بالتوفيق، فإنه خير قائد وقرين، ويصل أمرك بالتسديد، فإنه أفضل صاحب ومعين، ولا يكلك إلى نفسك في قريب من الأمر ولا بعيد، فإنه من وكل إلى نفسه فقد وكل إلى غير كاف، وأسلم إلى أضعف ناصر، وأن يصحبك في أمرك كله العافية، ويختم لك بحسن العاقبة. ولم أكن أكلفك أعزك الله الجواب في أوقات الفراغ، إبقاء عليك من الأذى، وعلى نفسي من مزلة التثقيل، فكيف أكلفك ذلك مع اتصال الشغل والعمل؟ كتب عبد الحميد عن مروان بن محمد إلى الوليد بن يزيد يهنئه بالخلافة: أصلح الله أمير المؤمنين وبارك له في ما صار إليه من ولاية عباده، ووراثة بلاده، فإنه لم يقم محمل قط بمثقل أعباء الخلافة أنهض بها ولا أقوى عليها من أمير المؤمنين، زاد الله في عمره وازداد لنا من جميل رأيه.
ومنها: حتى آزره الله بأكرم مناطق الخلافة، ورداه بأبهى أرديتها، وقلده أعز سيوفها، وعطف عليه المجتنبة من قلوب رعيته وأهل بيته، فقام بما رآه الله أهله، ثم حوى على منفسها، ونهض بمثقلها مستقلاً بما حمل منها، ولو رامها سواه قعدت به واهيات القوى ضعيفات الحيل و مذمات السجايا وفواضح الهمم، مثبتة له ولايته في سابق القدر. فالحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لخلافته، وقلده وثائق عري دينه، إحياء لشرائعه، وذباً له عمن كاده فيه الظالمون له، القاطعون لرحمه، ثم جعل سعيه في ذلك خسراً عليهم وحسرةً لهم، إلى أن رفعه ووضعهم، وأعزه وأذلهم، وكرمه وأهانهم. فمن أقام على تلك الخسيسة من الأمر أوبق نفسه، وأوتغ دينه، وأسخط ربه، وعادى خليفته، ومن عدلت به التوبة نازعاً عن باطل إلى حق، ومنصرفاً عن ضلالة إلى هدى، وجد الله تواباً رحيماً.

كتب ابن نصر تهنئة لوزير: إنما التهنئة - أطال الله بقاء الوزير - لمن يترقى المنازل، ويتسنم ذروة الفضائل، فيخص بها لما استفاده من الكسب الطارف، واستجده من العز الآنف، وحازه من النسب الذي عزي له وكان غريباً منه، وقدم إليه وكان بعيداً عنه. فأما الذي تصعد المناقب إلى علائه، وتعرف الرتب إلى سمائه، وتعلق منه الرياسة بسبب، وتجتمع معه السيادة في نسب، فالتهنئة للكافة لما تيسر لها من ولايته، وتسهل من رياسته عليها وإيالته التي بها تبلغ الآمال، وفيها تمرع الأحوال، وعليها يرفرف الإقبال. فهنأ الله الفضل وذويه، والزمان ومن فيه، بما اختاره لهم من نظر الوزير في أمورهم، وتملكه أزمة تدبيرهم، وجعل التوفيق لأفعاله مصاحباً، ولعزائمه مواكباً، وبإيجابه موكولاً، وبتمام أغراضه كفيلاً، فلا يحاول أمراً بعيداً مناله إلا دنا وأقبل، ولا مطلباً صعباً قياده إلا استجاب وتذلل، ولا إرادة إلا أكثبت، ولا مشيئة إلا نفذت، وخصنا معاشر أوليائه، والمعرقين في نسب ولائه، بإدامة أيامه، وملاحظة إنعامه، والمزيد من شرف اهتمامه، ومد علينا سابغ ظلاله، وأسكننا طيب آصاله، إنه على كل شيء قدير.
دخل إسماعيل بن عبد الله القسري علي المهدي لما أفضت الخلافة إليه فقال: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قصم بك أنياب الكفرة، وأزال بك سلطان الغصبة، وزلزل بك جبال الفجرة، وأعذب بك الآجن، وشفى صدور المسلمين، ولسنا نصفك بشيء إلا وأنت فوقه، ولا نقدر من بلوغ شكرك على ما تغمدتنا به نعمك، غير أنك قد زنت الملك ولم يزنك، وشرفته ولم يشرفك، وإنك فاروق هذه الأمة، وولي هذه النعمة، جمع الله بك الشمل، وآمن بك السبل، فالناس جميعاً يوجبون حقك، ويعرفون فضلك، فيتذكرون مثلك في من مضى فلا يعرفونه، ولا في الذين غبروا يرتجونه، قد أخصب لهم جنابك، واحلولى لهم ثوابك، وكرمت مقدرتك، وحسنت نظرتك، وجبر الكسير الفقير، وفككت الأسير، فأنت يا أمير المؤمنين كما قال الأول: من المنسرح:
ما زلت في البذل للنوال وإط ... لاق لعان بجرمه غلق
حتى تمنى البراء أنهم ... عندك أمسوا في القد والحلق
كان خالد بن عبد الله القسري أخا هشام بن عبد الملك من الرضاعة، وكان يقول: إني لأرى فيك مخايل الخلافة، ولا تموت حتى تليها. قال: فإن وليتها فلك العراق. فلما ولي أتاه فقام بين السماطين فقال: يا أمير المؤمنين، أعزك الله بعزته، وأيدك بملائكته، وبارك لك في ما ولاك، ورعاك في استرعاك، وجعل ولايتك على أهل الإسلام نعمة، وعلى أهل الشرك نقمة، لقد كانت الولاية إليك أشوق منك إليها، وأنت لها أزين منها لك، وما مثلك ومثلها إلا كما قال الأحوص: من الخفيف.
وإذا الدار زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا
وتزيدين أطيب الطيب طيباً ... أن تمسيه أين مثلك أينا
قال رجل من بني تميم في المهدي لما ولي العهد: من الكامل
يا ابن الخليفة إن أمة أحمدٍ ... تاقت إليك بطاعة أهواؤها
ولتملأن الأرض عدلاً كالذي ... كانت تحدث أمة علماؤها
حتى تمنى لو ترى أمواتها ... من عدل حكمك ما ترى أحياؤها
وعلى أبيك اليوم بهجة ملكها ... وغداً عليك إزارها ورداؤها

الفصل الثالث
الخلع وما كتب فيها
كتب الصابي في حمل بعض الملوك على فرس: جعل الله الخير معقد ناصيته، والإقبال غرة وجهه، وإدراك المطالب تحجيل قوائمه، ونيل الأماني طلق شده، وفتح الفتح غاية شأوه، وسلامة العواقب مثنى عنانه.
أبو الحسن السلامي يذكر خلعة الطائع على عضد الدولة: من الكامل
متسوراً بأهلةٍ متطوقاً ... بالشمس أو بالبدر أو بإطاره
في خلعة صبغ الشباب بلونها ... فالخلق قد جبوا على إيثاره
الفصل الرابع
الولد وما كتب فيه

ولد للحسن بن أبي الحسن غلام فقال له بعض جلسائه: بارك الله لك في هبته، وزادك في أحسن نعمته. فقال الحسن: الحمد لله على كل حال حسنة، ونسأل الله الزيادة في كل نعمة، ولا مرحباً بمن إن كنت مقلاً أنصبني، وإن كنت غنياً أذهلني لا أرضى بسعيي له في الحياة سعياً، ولا بكدي له في الحياة كداً، حتى أشفق عليه من الفاقة بعد وفاتي، وأنا في حال لا يصل إلي من همه حزن، ولا من فرحه سرور.
زوج الصاحب ابن عباد ابنته من بعض العلويين فأولدها، فذكر ذلك بعض العلويين وهنأ الصاحب بالولد فقال: من البسيط
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أفق العلا صعدا
وقد تفرع في أرض الوزارة عن ... دوح الرسالة غصن مورق رشدا
لله آية شمس للعلا ولدت ... نجماً وغابة عز أطلعت أسدا
فليهنإ الصاحب المولود لم تزل الس ... عود تجلو عليه الفارس النجدا
لم يتخذ ولداً إلا مبالغة ... في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا
ولد لجابر الفزاري بعد ما كبر غلام له إبهامان في يد فقال: من الرجز
الحمد لله العلي الماجد ... أعطى على رغم العدو الحاسد
بعد مشيب الرأس ذا الزوائد ... ليثاً يرى السبعة مثل الواحد
وقال آخر: من الرجز
مد لك الله البقاء مداً ... حتى ترى نجلك هذا جداً
مؤزراً بمجده مردى ... ثم يفدي مثلما تفدى
كأنه أنت إذا تبدى ... شمائلاً محمودة وقدا
كاتب: تفضل الله بإبقائه وإنمائه، كما تفضل بإبدائه وإنشائه.
ابن نصر الكاتب عن بعض الملوك تهنئة إلى دار الخلافة بولد. انتهى إلينا من نبأ الأمير الوارد فرع الدولة القائمية وسنخ المنتظرين من أبنائها ما أضاءت به ظلم الأيام، وأشرقت معه أنوار الإسلام، واستحكمت به مرائر الدين، وقرت بمطلعه عيون المسلمين، وشهد بدوام الإقبال، وتكفل ببلوغ المنى والآمال، وتطامن معه منكب العدو الراصد، وعز به جانب الولي الذائد. وعلم أن لله عز اسمه عناية بهذه الدعوة الميمونة لا تزال معها حتى يكثر عديدها، وينصر وحيدها، ويضمن لها الدوام، ويورثها الأيام، فلا يعترضها ثلم إلا سدته، ولا يذوي لها غصن إلا أخلفته، لطفاً من الله تعالى في حفظ نظام الألفة، وحسم مادة الفرقة، وجمعاً لشتات الكلمة والآراء، وضماً لبدائد الأغراض والأهواء، والحمد لله الذي أطلع بالأمير الوارد نجماً لا تخبو أنواره، وشام به عضباً لا ينبو غراره، وجدد به أملاً لا تخلف أنواؤه، وعقد بمكانه عزاً لا يخلق لواؤه، وهن الله الحضرة النبوية الموهبة الجليلة بمقدمه، وأسعد أقطار الأرض بمواطئ قدمه، وجعل ميامنة عليها غادية رائحة، وبركاته لديها سانحة بارحة، حتى يصير لدولتها يداً ناصرة، ويرى من أبنائه ذرية طاهرة، إنه على كل شيء قدير.
الرضي يهنئ بمولود: من الطويل
ليهنك مولود يولد فخره ... أب بشره للسائلين ذرائع
وليدٌ لو أن الليل ردي بوجهه ... لما جاورته بالجنوب المضاجع
ومبتسم يرتج في ماء حسنه ... له من عيون الناظرين مواقع
رمى الله منه كل قلب من العدا ... بسهم نضا أحقادهم وهو وادع
يودون أن لو كان بين قلوبهم ... مع الحقد حتى لا تراه المجامع
وقال يهنئ بمولودة: المتقارب
بمولد غراء أعطيتها ... بدو الأهلة بعد السرار
ولا عجب أن ترى مثلها ... وزندك في كرم العرق وار
نثرنا عليها سواد القلوب ... وكان الهنا في خلال النثار
ولو أنصف الدهر لم يقتنع ... بغير قلوب النجوم الدراري
وذلت عمائم قوم بها ... كما أنها شرفٌ للخمار

الفصل الخامس
النكاح
ابن الرومي: من السريع
زفت إلى بدر الدجى الشمس ... ولاح سعدٌ وخبا نحس
وأقبلت نفسي إلى منيةٍ ... بمثلها تغبط النفس
وذاك عرس الدهر من أجله ... حن غدٌ والتفت الأمس
الصابي: من الكامل

عرسٌ يعرس عنده الإقبال ... وتنال في جنباته الآمال
بدرٌ يزف عليه وسط سمائه ... شمسٌ عليها بهجةٌ وجمال
وإذا تقاربت السعود فعندها ... يرجى الصلاح وتحسن الأحوال

الفصل السادس
المواسم
هنأ رجل رجلاً في يوم فطر فقال: قبل الله منك الفرض والسنة، واستقبل منك الخير والنعمة.
ابن الرومي: من الخفيف
قد مضى الصوم صاحباً محمودا ... وأتى الفطر صاحباً مودودا
ذهب الصوم وهو يحكيك نسكاً ... وأتى الفطرُ وهو يحكيك جودا
وقال يهنئ أبا الصفر بيوم أضحى هو يوم النيروز: من البسيط
عيدان أضحى ونيروز كأنهما ... يوماً فعالك من بؤسٍ وإنعام
كذاك يوماك يومٌ سيبه ديمٌ ... على العفاة ويومٌ سيفه دام
أولها:
اسعد بعيدٍ أخي نسك وإسلام ... وعيد لهوٍ طليق الوجه بسام
لا يبعد الله أياماً لنا جمعت ... إلى سكون ليالٍ أنس أيام
الصابي: من الكامل المجزوء
يا سيداً أضحى الزما ... ن بأنسه منه ربيعا
أيام دهرك لم تزل ... للناس أعياداً جميعا
حتى لأوشك بينها عيد الحقيقة أن يضيعا
أبو بكر الخالدي: من المتقارب
رأى العيد وجهك عيداً له ... وإن كان زاد عليه جمالا
وكبر حين رآك الهلال ... كفعلك حين رأيت الهلالا
رأى منك ما منه أبصرته ... هلالاً أضاء ووجهاً تلالا
وقال السري الرفاء: من الرمل
قد تقضى الصوم محموداً فعد ... لهوىً يحمد أو راح تسر
أنت والعيد الذي عاودته ... غرتا هذا الزمان المعتكر
لذا فيك المدح حتى خلته ... سمراً لم أشق فيه بسهر
ابن نصر الكاتب تهنئته بمهرجان: كتابي - أطال الله بقاء مولانا - يوم المهرجان، أسعده الله بمورده وبكل زمان يأتي من بعده، وأحياه لأمثاله، في سبوغ من نعمه وأفضاله، ولا زالت الأيام ترد إليه بها مرسلة، وتصدر عنه غراء مخجلة، قد وسمها بفخره، وأنا بما آمله من خدمته الشريفة رضي البال ولما أرجوه من المثول بحضرته العزيزة منفسح الآمال، وما زال هذا اليوم الميمون مطلعه، المأمول مرجعه، مكرماً على الأيام، ومعظماً بين الأنام، يرونه عيداً، ويعتقدون له مزية ومزيداً، حتى عادل بينها عدله، ومائل بين رتبتها إنعامه وفضله، فصار وإياها سيان، وغدا وإحسانه فيها كفرسي رهان، فلم يبق فناء إلا أمرع، ولا رجاء إلا أينع، ولا نعمة إلا سبغت، ولا أمنية إلا بلغت، ولا زند منصلت إلا وري لقادحه، ولا باب خير مقفل إلا استجاب لفاتحه، وخلص لخدمته بالدعاء، وصفا للتوفر على الحمد والثناء، واشتغل المتقرب إليه، بتجهيز ما ينفق من البضائع عليه.
وكتب أيضاً تهنئة لوزير بتحويل سنته: أما بعد فإن اتصال النعم يؤذن برضى المنعم، وامتداد الشكر مظهر لموضع البر، وقد منحنا الله في الوزير أطال الله مدته وكمل سعادته منحة غادرتنا قرناء ذكرها، وأسراء شكرها، خلفه عامه الماضي عطراً بطيب خلاله، وتقمصه حوله الثاني مستبشراً بوصاله. فأسبغ الله علينا معاشر أوليائه، نعمته العامة ببقائه، وموهبته الخاصة في حفظ نعمائه، حتى يخلق جدة الدهور، ويفني مدة العصور، حامياً حوزة الدين، ناهضاً بأعباء المؤمنين.

كتب أبو الخطاب الصابي تهنئة بإقبال السنة: يومنا هذا - أطال الله بقاء سيدي - مفتتح الحول الجديد، وغرة العام المقبل وعيد، قد اعتاد أسلافنا تعظيمه، وألف أوائلنا تبجيله وتكريمه، وسنوا فيه التواصل بأنواع التحف، والتقابل بصنوف اللطف، تيمناً بمنجمه، وتبركاً بمقدمه، واستبشاراً بمطلعه، واغتباطاً بعودته، ومحبة لتلقيه بما يزيد التصافي بينهم خلوصاً، والأحوال لطفاً وخصوصاً، وتفاؤلاً بالمسرة التي توافي بها الطرفة عند حضورها، وتشكر لها التحفة مع بكورها، لأن أوائل العصور، وفواتح الأمور، دلائل يعلم منها ما تؤذن به أواخرها، وشواهد تتيح ما تنكشف عنه عواقبها، كما يعد الوسمي العجول بالولي المتتابع، ويدل العارض المخيل على الغيث الهامع. ولما أراني الله هذا العيد الذي عرفت بركته من سبوغ النعمة لديك، وضفو ملابسها عليك، فكرت في ما أقيم به رسم المؤانسة، وأحيي معه سنة المباسطة، وأجري على عادة من مضى من السلف، وبقي من الخلف، في توفيته على الدنيا كما يوفى حق الدين وعمارته بالتواصل كما يعمل القروض، فتساوى عندي ما أتكلفه من قليل البر وكثيره، وصغيره وكبيره، قصوراً عن علوك، وانحطاطاً عن سموك، وزاد عليه وإن جل محلك الباسق، وفرعه وإن فخم موضعك السامق، فعدلت إلى الدعاء الذي يستوي فيه ما أضمر وأظهره، ويتوارى ما أبطن وأعلن منه، ويكون الزعيم بسماعه والكفيل بتمامه أولى مخبر بالوفاء، وأحرى بالملاء، وقريب من دقيق الألطاف، ما جعلته شعارً للافتداء بالأسلاف، وتوخيت في أسمائه وأوصافه وصوره وهيئاته أن يكون فألها مؤذناً باستجابة ما قدمته من الدعاء، ومحقق ما أسلفته من الرجاء، وأنا أسأل الله الذي كل خير بيديه، ومتوجه الرغبات إليه، وأن يعظم يمن هذا اليوم عليك، ويضاعف المواهب فيه لديك، ويتقبل أعمالك من فرض ونقل، ويزكي قرباتك من قول وفعل، ويبقيك بقاء تتوالى فيه البركات طلقاً، وتنتظم فيه السعادات نسقاً، ويكون آتيه زائداً في الخير على ماضيه، وخاليه مقتصراً في اليمن عن جائيه، ويوم أفضل من أمسه، وغده أرجى من يومه، حتى يكون خير أيامك يوم لقائك إياه، وأسعد أوقاتك يوم قدومك عليه، ويتصل لك الحظ الفاني بالباقي، ويؤديك النعيم الأمدي إلى الأبدي، إنه جوادٌ كريم.
وقد أنفذت إليك مع هذه الرقعة ما اقتديت فيه بأحرار فارس، وهو السكر والدرهم، فأما السكرة فلما في مذاقها من الحلاوة التي أرجو أن تصحبك بها الأيام، وتنتظم بامتدادها لك الأعوام، فيحلولي لك جناها، ويمرع عندك مرعاها، وتجعلك السلامة أبداً في ضمانها، وتمر لك الليالي عقد أمانها، وتجري الأقدار فيها بمشيئتك، وتتصرف الأقضية على طاعتك، وتأوي من أيدي الحوادث إلى معقل عزيز، وتعتصم من سهام النوائب بموئل حريز، فلا تختلك بغامض كيدها، ولا تقصفك بهائض أيدها، ويتصل ذلك ببلوغ الأماني العذاب ونيل العطايا الرغاب، والحياة إلى أنفس مدد الأجل، وأرخى مدد المهل. وأما الدرهم فإنه شعار النصر، وأمارة القهر، وعلم النجاح، وعنوان الفلاح، والرائد الذي لا يخيب سعيه، والقاصد الذي لا ترد رايته، والذريعة التي لا تخفق، والوسيلة التي لا تكدي، والشافع الذي لا تبور شفاعته، والخصم الذي لا تدحض حجته، ولسان العي الذي أفحم عن الخطاب، وهادي الغي الذي ضل عن الصواب، وسيف الجبان الذي أفحم عن الخطاب، وهادي الغي الذي ضل عن الصواب، وسيف الجبان الذي خام عن القراع، ولأمة الهدان الذي أحجم عن المصاع. فتفاءلت أن يكسوك الله محبته في النفوس، ويرزقك قربه من القلوب، ويعزك عزه في الأقطار، ويبلغك مبلغه من الأوطار، ويعلي ذكرك علو ذكره عند الأمم، ويشهر فضلك شهرته بين العرب والعجم.

وأضفت إليهما أقلاماً تفؤلاً بأن ينفذ أمرك في الأقاليم، وتجري لك سعود النجوم بخيرتها سليمة من المعايب، مبرأة من المثالب، جمة المحاسن، بعيدة عن المطاعن، لم يزر بها طول ولا قصر، ولم ينقصها ضعف ولا خور، ولم يشبها لين ولا رخاوة، ولم يعمها كزازة ولا قساوة، فهي آخذة بالفضائل من جميع جهاتها، مستوفية للممادح بسائر صفاتها، صلبة المعاجم، لدنة المقاطع، مؤنقة القدود والألوان، محمودة المخبر والعيان، قد استوى في الملامسة خارجها وداخلها، وتناسب في السلاسة عاليها وسافلها، وتعاصي الكاسر المعاسر، وتمانع المغامر المكاثر، حتى إذا انتحتها مدى التقويم، وتباشرتها شفار التعليم، أقام التثقيف أودها، وهدى التسديد زيغها، نبتت بين الشمس والظل، واختلف عليها الحر والقر، فلاحها وقدان الهواجر، وسفعها سماء شهر ناجر، ووقذها الشفان بصرده، وقذفها الغمام ببرده، وصابتها الأنواء بصيبها، واستهلت عليها السحائب بشآبيبها، فاستمرت مرائرها على إحكام، واستحصد سحيلها بالإبرام، وجاءت شتى الشيات، متغايرة الهيئات، متباينة المنابت والأوطان، مختلفة المحال والبلدان، تختلف بتباعد ديارها، وتأتلف بكرم نجارها، فمن أنابيب قنا ناسبت رماح الخط في أجناسها، وشابهت أسود الغيل في أخياسها، وشاكلت المذهب في ألوانها، وضاهت الحرير في لمعانها، كأنها الأميال استواء، والآجال مضاء، بطيئه الحفا، ممرة القوى، لا يشظيها القط، ولا يتشعب بها الخط، من مصرية بيض كأنها قباطي مصر نقاء، وغرقئ البيض صفاء، غذاها الصعيد من ثراه بلبه، وسقاها النيل من نميره وعذبه، لم تستقيم شقوقها في أطوالها، ولا تنكب عن يمينها ولا شمالها، يقترن بها صفر كأنها معها عقيان قرن بلجين، أو ورق خلط بعين، وكأنما أشربت ماء الجساد، أو صبغت بالخلوق قبل المداد، تختال في صفر ملاحفها، تميس في مذهب مطارفها، بلوه غياب الشمس، وصبغ ثياب الورس، ومن منقوشه تروق العين وترق النفس، ويهدي حسنها الأريحية إلى القلوب، ويحل الطرب لها حبية الكريم اللبيب، كأنها اختلاف الزهر اللامع، وأصناف الثمر اليانع، تقول إذا رأيتها متأملاً، ونظرت فيها متفرساً، أهدت لها الأنوار الأنواء، أو حبتها بالبرود صنعاء، ومن بحرية موشية الليط، رائقة التخطيط، كأن داخلها نضرة دم، أو حاشية رداء معلم، وكأن خارجها إهاب أرقم، أو متن واد مفعم، قصر باطنها عن حوة العظم، وضاهى ظاهرها صبغ عندم، وتشربت ألواناً تزري بورد الخدود، وأبدت قامات تفضح تأود القدود، إن امتد وشيها قلت تثني ثعبان، أو اعوج قلت: مناقذ بغدان، وقرنت بها مدية حديد كأن القدر سابقها، والأجل سائقها، بنت سيف يمان، أو سليلة نصل هنداون، وهي تنزع بطيب أعراقها وتحز بكرم سنخها، كأنها الحسام القاطع والعضب الباتر، لا يتوى رميه، ولا ينبو عن ضريبة؛ مرهفة الصدر، مخطفة الخصر ممهاة الشفر، مطلقة الظبة، رقيقة الحد، ملسة الطرف، يجول عليها فرند العقيق، ويترقرق فيها ماء الجوهر، كأن المنية تبرق من حدها، والأجل يلمع في متنها، ركبت على نصاب آبنوس، كأنما ناسب سواده خافية الغراب، واستعيد لونه من شرخ الشباب، وكأن الحدق نفضت عليها صبغها، وحب القلوب كستها لباسها، فهي آنق في العين من كل مرأى أنيق، وألوط بالقلب من كل قد رشيق، أخذ لها حديدها الناصع بحظ من الروم، وضرب لها نصابها الحالك بسهم من الزنج، وكأنها ليل من تحت نهار، أو نجم أبدي سنا نار.
وأشهد لقد جئنك يا سيدي شوقاً وبادرن نحوك توقاً، واستشعرن إليك ارتياحاً، واكتسبن بك مراحاً، حتى كأنها اشتاقت من أناملك أخواتها، وحنت من دويك إلى أمهاتها، ولقد ردت القوس إلى باريها، وهديت العروس إلى واليها، لأنك بحمد الله ومنه الوثاب للجراثيم، والخراج من الأضاميم، والشهاب الثاقب علماً، والطود الراسب حلماً، ومن يوسعها اللؤلؤ فذاً وتؤاماً، والعقود نسقاً ونظماً، فتدر لها أخلاف البلاغة، وتسيل عليها شعاب الكتابة، وتجلو بلسانها الشبهات، وتكشف ببيانها الغمرات. لا أعدمك الله مواد الفضل المنصبة إليك، وجلائل المنح المقصورة عليك، بقوته وحوله، وكرمه وطوله.

وكتب أخي رحمه الله نسخة لما يبرز به التوقيع الإمامي في عيد الفطر: الحمد لله الواجب شكره، الغالب أمره، المنصور حزبه، المثبور حربه، الدال على وحدانيته ببدائع فطرته، المانع بعجائب صنعه من أن يتقرر في الأوهام كنه معرفته، الذي أرسل محمداً إلى كافة الأمم، وجلا بضياء نبوته حنادس الظلم، وبعثه رسولاً بالحق صادعاً، ولعرانين الشرك جادعاً، حتى استعلت كلمة الإيمان واتضح مناره، وكبا زناد الباطل وخبت ناره. فصلى الله عليه ما طرف ناظر، ورف غصن ناضر، والحمد لله على أن أصار إلى أمير المؤمنين ميراث الطاهرين من آبائه، وخصه بما حاز له منه بجزيل منه وحبائه، وحقق للدولة القاهرة العباسية وعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول لعمه العباس رضوان الله عليه: ألا أبشرك يا عم، بي ختمت النبوة، وبولدك تختم الخلافة، إلى غير هذا من الأخبار التي ضل من أضمر عناد شيء منها وأسر خلافه، وجعل أيامه بالعدل آهلة، ومن مشارب الأمن ناهلة، والرعية في ظل إيالته الوارف وادعة، وسيرته لروائع الجور عنها وازعة، والحمد لله الذي منح عباده المؤمنين منائح من نعمه تستوعب الشكر، وتستوجب الإذاعة لها والنشر، فجعل لهم من أيامهم مواسم يكفر بطاعته فيها سيئاتهم، ويرفع بتوفيقهم لصالح العمل عنده درجاتهم. وخص شهر رمضان بالصيام الذي ختمه لهم بعيد يبشرهم بالقبول، ويتقارضون فيه التهاني بدرك المأمول. وأمرهم باتخاذ الزينة وإظهارها، وإراحة النفوس بقضاء المباح من لذاتها وأوطارها، تكميلاً لنعمته في الصوم المفضي بهم عاجله إلى آجل الفوز والرضوان، وإخراجه لهم من ضيقة إلى سعة الفطر المريح لما أجهده من الأبدان، بكل ذلك يجزل ثوابهم، ويحسن مآبهم، ويعرفهم مواقع لطفه، ويريهم دلائل رحمته وعطفه، فله على ذلك حمد يمتري المزيد من آلائه، ويستدعي الإجراء على عادة إحسانه وبلائه، وقد عرف ما أنهي من حضور جماعة الأولياء، وإفاضتهم والحاضرين معهم في صالح الدعاء، الموجب لهم شرف الملاحظة والإرعاء، وأذن لهم بعد أشعارهم بتحقيق خدمتهم في الانكفاء والسلام.
قال البحتري: من الطويل
مضى الشهر محموداً ولو قال مخبراً ... لأثنى بما أوليت أيامه الشهر
عصمت بتقوى الله والورع الذي ... أتيت فلا لغو لديك ولا هجر
وقدمت سعياً صالحاً لك ذخره ... وكل الذي قدمت من صالح ذخر
وحال عليك الحول بالقطر مقبلاً ... فالباليمن والإقبال قابلك الفطر
الرضي يهنئ نصرانياً بيوم السعانين: من البسيط
ورب يوم صقيل الوجه تحسبه ... مرصعاً بجباه الخرد العين
أتاك يقتاد عيداً في حقائبه ... زاد السرور على الطير الميامين
فالبس جلابيبه البيض التي شرفت ... وأخرج عن الصوم من أثوابه الجون
جاءت تهنيك بالود الذي علقت ... منا الضمائر لا يوم السعانين

الفصل السابع
الإياب
قدم المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي من الحج فتلقاه محمد بن وهيب الحميري مستقبلاً مع من تلقاه، وأنشده في اليوم الثالث: من الطويل
وما زلت أسترعي لك الله غائباً ... وظهر إشفاقاً عليك وأكتم
وأعلم أن الجود ما غبت غائبٌ ... وأن الندى في حيث كنت مخيم
؟إلى أن زجرت الطير سعداً سوانحاً وحم لقاء بالسعود ومقدم
فظل يناجيني بمدحك خاطر ... وليلي ممدود الرواقين أدهم
وقال طواه الحج فاخشع لفقده ... فلا عيش حتى يستهل المحرم
؟سيفخر ما ضم الحطيم وزمزم بمطلب لو أنه يتكلم
أعدت إلى أكناف مكة بهجةً ... خزاعية كانت تجل وتكرم
فلو نطقت بطحاؤها وحجونها ... وخيفا مني والمأزمان وزمزم
إذن لادعت أجزاء جسمك كلها ... تنافس في أقسامه أو تحكم
لو رد مخلوق إلى بدء خلقه ... إذن كنت جسماً بينهن يقسم
ولو رد مخلوق إلى بدء خلقه ... إذن كنت جسماً بينهن يقسم
سما بك منه كل خيف وأبطحٍ ... نصابك منه الجوهر المتقدم
وحن إليك الركن حتى كأنه ... وقد جئته خل عليك مسلم
ابن الرومي: من الطويل

قدمت قدوم البدر بيت سعوده ... أمرك عال صاعد كصعوده
لبست سناه واعتليت اعتلاءه ... ونأمل أن تحظى بمثل خلوده
الصابي: من الكامل
أهلاً بأشرف أوبةٍ وأجلها ... لأجل ذي قدم يلاذ بنعلها
فرشت لك الترب التي باشرتها ... بشفاهها من كهلها أو طفلها
لم تخط فيها خطوة إلا وقد ... وضعت لرجلك قبلةً من قبلها
وإذا تذللك الرقاب تقرباً ... منها إليك فعزها في ذلها
علي بن نصر الكاتب يهنئ بعض إخوانه وقد قدم من سفر في زمن فتنة: ما زلت - أطال الله بقاء سيدنا - أتنسم بركات هذا اليوم منذ تنفس صبحه، وأتوسمه باديةً ميامنه ونجحه، وأرى في أثنائه سعوداً، وفي ضيائه مزيداً، حتى باين الأيام الخالية، ونافى الأزمان الماضية، وأنا أستطرف ما أجده، استطراف من عدم منه ما يعهده، حتى إذا هزم نهاره، واستغرق بياضه اصفراره، أتت الأنباء مبشرةً بمقدمه، فظهرت العلة الغامضة، وزالت الشبهة العارضة، وعلمت أنه أقدم بقدومه سعداً غائباً، واغرب بطلوعه نحساً راتباً، واستصحب الإقبال متمسكاً بأذياله أين نحا ويمم، متفيئاً بظلاله أين سار وخيم، والله تعالى ذكره يسعده بهذا الورود، سعادة تقضي له بالبقاء والخلود، ويبلغه فيه وفي كل أمر يحاوله ويبتغيه أقصى مطارح همته، وأنأى مسارح أمنيته. ولست محيلاً في التأخر عن الخدمة والتباطؤ عن المشافهة بالتهنئة على قاطع علةٍ ولا مانع رحله، غير أني أرهب هذا المرهب المستجد في فتنتنا هذه، وقى الله شرها، ودفع أذاها وضرها، من إرجال الفرسان، وإعراء الأجسام. وهذا أمر لا يصبر عليه حر، وعذرٌ لا يشبهه عذر، فإن رأى استماعه وبسطه، وإعطاءه من القبول حكمه وشرطه، فعل، إن شاء الله تعالى.
وقال الرضي: من الكامل
قدم السرور بقدمةٍ لك بشرت ... غرر العلا وعوالي التيجان
قلقت ظبا الأسياف منك بفرحةٍ ... فتكاد تنهضها من الأجفان
وأتى الزمان مهنئاً بحدو به ... غل المشوق وغلة اللهفان
فالآن حين قدمت عدن صروفه ... يرمقنني بنواظر الغزلان

الفصل الثامن
شواذ التهاني
حضر أعرابي وليمةً فرأى نعمةً فقال: النعم ثلاث: نعمة في حال كونها، ونعمة ترجى مستقبلة، ونعمة تأتي غير محتسبة، فأدام الله لك ما أنت فيه، وحقق ظنك في ما ترجوه، وتفضل عليك بما لا تحتسبه.
كتب جعفر بن يحيى إلى صديق له: ما جاوزتني نعمة خصصت بها، وما قصرت دوني ما كان محلها بك.
وكتب أبو إسحاق الصابي إلى رجل زوج أمه: قد جعلك الله - وله الحمد - من أهل التحصيل، والرأي الأصيل، وصحة الدين، وخلوص اليقين، فكما أنك لا تتبع الشهوة في محظورٍ تحله، فكذلك لا تطيع الأنفة في مباح تحظره، وتأدى إلي من اتصال الوالدة - نفس الله لها في مدتها ومدتك، وأحسن في البقية منها إمتاعك - بأبي فلان، أعزه الله، ما علمت فيه أنك بين طاعة للديانة توخيتها، ومشقة فيها تجشمتها، وأنك جدعت أنف الغيرة لها، وأضرعت خد الحمية فيها، وأسخطت نفسك بإرضائها، وعصيت هواك إليها. فنحن نهنئك بعزيمة صبرك، ونعزيك عن فائت مرادك، ونسأل الله الخيرة لك فيه، وأن يجعلها أبداً معك في ما شئت وأتيت، وتجنبت وأبيت.
ولكاتب متقدم في المعنى: الرضى بما يبيحه حكم الشريعة أولى من الامتعاض مما تحظره أنفه الحمية، ولا قبح في ما أحل الله، كما لا جمال في ما حرم الله، فعرفك الله الخيرة في ما اختارته من طهارة العفاف ونبل الحصانة، وعطفك من برها على ما تؤدي به حقها، وما ألزمك من المعروف في مصاحبتها.
البحتري يهنئ الفتح بن خاقان بسلامته من الغرق: من الكامل
بعدوك الحدث الجليل الواقع ... ولمن يكايدك الحمام الفاجع
قلنا لعاً لما عثرت ولا تزل ... نوب الليالي وهي عنك رواجع
ولربما عثر الجواد وشأوه ... متقدم ونبا الحسام القاطع
لن يظفر الأعداء منك بزلة ... والله دونك حاجز ومدافع
إحدى الحوادث شارفتك فردها ... صنع الإله ولطفه المتتابع
وفضيلة لك أن منيت بمثلها ... فنجوت مبتدئاً وقلبك جامع

حتى برزت لنا وجأشك ساكنٌ ... من نجدة وضياء وجهك ساطع
ما حال لونك عند ذاك ولا هفا ... عزم ولا راع الجوانح رائع
فر أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد منم أبي فديك الخارجي، فدخل إليه أهل البصرة فلم يدروا كيف يكلمونه، ولا ما يلقونه به من القول، يهنئونه أم يعزونه، حتى دخل عبد الله بن الأهتم فاستشرف الناس له وقالوا: ما عسى أن يقول لمنهزم؟ فسلم وقال: مرحباً بالصابر المخذول، والحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا، فقد تعرضت لشهادة جهدك، ولكن الله علم حاجة أهل الإسلام إليك، فأبقاك لهم بخذلان من معك.
فقال أمية: ما وجدت أحداً أخبرني عن نفسي غيرك.
عزل الرشيد الفضل بن يحيى عن عمل وقلده جعفراً أخاه، فكتب يحيى إلى الفضل: قد رأى أمير المؤمنين أن تحول الخاتم من شمالك إلى يمينك. فأجاب الفضل: سمعاً لأمير المؤمنين وطاعة، وما انتقلت عني نعمة صارت إلى أخي.
كتب عامل إلى المصروف به: قد قلدت العمل بناحيتك، فهناك الله تجدد ولايتك، وأنفذت خليفتي لخلافتك، فلا تخله من هدايتك إلى أن يمن الله بزيارتك. فأجابه: ما انتقلت عني نعمة صارت إليك، ولا خلوت من كرامة اشتملت عليك، وإني لأجد صرفي بك ولاية ثانية وصلة من الوزير وافية، لما أرجو لمكانك من حسن الخاتمة ومحمود العاقبة، والسلام.
إبراهيم ابن عيسى الكاتب يهنئ إبراهيم بن المدبر بالعزل عن عمل: من الطويل
لتهن أبا إسحاق أسباب نعمة ... مجددة بالعزل والعزل أنبل
شهدت لقد منوا عليك وأحسنوا ... لأنك يوم العزل أعلى وأفضل
آخر في ما يشبهه: من الكامل المجزوء
إن الأمير هو الذي ... يضحي أميراً عند عزله
إن زال سلطان الولا ... ية فهو في سطلان فضله
وصف للمتوكل كلب بأرمينية يفترس الأسد فأرسل من جاء به، فقال له الطريحي: يا أمير المؤمنين هناك الله ما خصك به من نيل مباغيك، وإدراك محابك، فما شيء يصغر مع طلب أمير المؤمنين عن أن يهنأ به، ويرغب إلى الله في زيادته، فقال له المتوكل: هو لك جزاء عن هذه التهنئة، فبعه مني بحكمك. فباعه منه بألفي دينار، فألقاه على أسد فتواثبا وتناهشا حتى وقعا ميتين.
كتب أخي رحمه الله تهنئة بالسلامة من حريق وقع في دار الخلافة: الدنيا - أعز الله أنصار المواقف الشريفة - دار الامتحان والاختبار، ومجاز الابتلاء والاعتبار، ولله تعالى في ما نزل فيها إلى عباده من نعمه، وتخوله من مواهبه وقسمه، عادات يقتضيها بالغ حكمته، وماضي إرادته ومشيئته، ليستيقظ الذاهل، ويعرف الجاهل، ويزداد العالم اللبيب اعتباراً، ويستفيد العاقل الأريب تفكراً، واستبصاراً، فلا يغفل عن واجب الشكر إذا سيقت النعمة إليه، ولا يلهو عن استدعاء المزيد منها بالاعتراف إذا سبغت عليه، وهو أن الباري سبحانه إذا تابع آلاءه إلى عبده ووالاها، وهنأها له من الشوائب وأخلاها، وأماط عن مشاربها أكدار الدنيا المطبوعة على الكدر، و عمر مساربها بالأمن من طوارق الغير، خيف عليها الانتقاض والزوال، وتوقع لها الانتهاء والانتقال. ومن ذلك الخبر المروي أنه لما أنزل الله عز وجل قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً " المائدة: 3 ابتهج الصحابة رضي الله عنهم، واعتقدوا التهنئة واستشعروا، وما عدا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه بكى من بينهم. فقالوا له: ما يبكيك وقد أكمل الله لنا ديننا برحمته، وأتم لنا سابغ نعمته؟ فقال: يبكيني أنه ما تم أمر إلا بدا نقصه. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرب. وإذا كانت مشوبة برائع يتخلل صفوها، وطارئ يجهد في بعض الأوقات عفوها، كان ذلك صارفاً عنها عين الكمال، مؤذناً لها بطول الآجال، حاكماً لها بتراخي عمر البقاء، دالاً على الصعود بها إلى درج المكث الطويل والارتقاء، وحكمه حكم المرض الذي تصح به الأجساد، ويمحص ذنوب من يسلط عليه من العباد: من الطويل
فلا يبهج الأعداء سوء ظنونهم ... فلله صنع في الذي شاء ظاهر
فكم طالب شيئاً به الشر كامنٌ ... وكم كاره أمراً به الخير وافر

فالحمد لله الذي جعل ما جرت به الأقدار من الأمر الرائع ظاهره، الوجل لوقعه ناظره، لعنايته - جلت عظمته - عنواناً، وعلى دوام نعمه دليلاً واضحاً وبرهاناً. وإليه الرغبة في أن يجعل الديار وساكنيها، والنفائس في أقاصي الدنيا وأدانيها، لشريف الحوزة التي بها صلاح العالم فداء، وعنها للمكروه وقاء، فلكل حادث مع دوام هذه الأيام الزاهرة خلل، وكل غمر من نوائب الدهر ما دافع لطف الله عنها وشل.

نوادر في التهاني
مر أعرابي بامرأة تبكي زوجها فقال لها ما يبكيك؟ لا جمع الله بينه وبينك في الجنة. ثم مر بها عبد ذلك فقال: يا فلانة رفئيني فإني قد تزوجت فقالت: نعم بالبيت المهدوم، والطائر المشؤوم، والرحم المعقوم.
وقال الجاحظ: كان لنا جار مغفل فولد له ولد، فقيل له: ما تسميه؟ قال: عمر بن عبد العزيز. وهنأوه بهذا الولد فقال: هو من الله ومنكم.
لما خلع على أحمد خلع الوزارة اغتم وانخزل، فقيل له في ذلك فقال: مثلي مثل الناقة التي تزين للنحر، فأخذ ابن بسام هذا المعنى فقال: من الكامل المجزوء
خلعوا عليه وزينو ... هذا وهو في خيرٍ ورفعه
وكذاك يفعل بالجما ... ل لنحرها في كل جمعه
شكا رجل إلى أبي العيناء امرأته فقال: أتحب أن تموت؟ قال: لا والذي لا إله إلا هو، قال: ولم يا ويحك، وأنت معذب بها؟ فقال: أخشى والله أن أموت من الفرح.
أبو الحسن ابن سكرة الهاشمي: من الوافر
وهنوا بالصيام فقلت مهلاً ... أما أنا طول دهري في صيام
وهل فطرٌ لمن يضحي ويمسي ... يؤمل فضل أقوات اللئام
جلس عميد الدولة أبو منصور ابن جهير للتهنئة بالوزارة قادماً من سفر، فدخل عليه أبو الحسن ابن فضالة النحوي، وكان من وجوه أهل الأدب، فأنشده: من السريع
بان هناء العيش مذ بنتا ... وعادت الأفراح مذ عدتا
ما أقبح الدست إذا لم تكن ... وأحسن الدست إذا كنتا
فعجب الحاضرون من إسقاطه في هذا الشعر مع مشهور فضله.
وأراد المردوسي تهنئة فقال: من الوافر
فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك القعود على السرير
فكان العجب من هذا التعويذ الثاني، وهو من أرباب الرتب ومقدمي الدولة، أشد، وانقضى المجلس على الضحك.
تم الباب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
الباب التاسع عشر
في المراثي والتعازي
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله الخالق الباعث، الرازق الوارث، الذي قدر الحياة والموت، وجعل لهما أجلاً لم يخش فيه الفوت، ونقل خلقه من دار الفناء إلى مقر البقاء، وقرن النعم إذا اطمأن إليها المغرور بالبلاء، مفرق الألاف بعد اجتماع، ومشتت كل شمل ببين وانصداع، حكمة منه لا تدرك غايتها ومدامها، ومنافع في عباده قدرها وأحصاها، فالطائع يبلو أخباره، والعاصي يوقظه ليتقي ناره، والصابر يعجل له الراحة ويؤجل له الثواب، والجازع يرده إلى الصبر كارهاً غير مثاب، ونحن مع قصر الأعمار ودنوها، في جهاد من تجبر النفس وعتوها، ترى المدة قريبةً وهي تقنط للادخار، والمسافة دانية وهي تستبعد الدار، فكيف بها لو طالت الآجال وامتدت، وبلغت الآمال واطمأنت، كانت حينئذ تقسو فلا تلين، وتشح فلا تستكين، لا يتعلق بالأطماع صلاحها، ولا يرجى على حال فلاحها؛ فسبحان من جعل الخيرة في المكروه وله في كل فعل سر مكنون، وبكل غائب علم مخزون، وصلاته على رسوله الذي هو لنا قدوة، ولكل حي به في الممات أسوةٌ، وعلى آله وأصحابه، وارثي علمه وآدابه.
فيه ستة فصول: الملوك والرؤساء - الأهل والإخوان - الأطفال - النساء - الشواذ - النوادر. ويتصل بهذا الباب حسن التأسي في الشدة، والصبر والتسلي عن نوائب الدهر.
ونقدم الآن ذكر ما جاء في جميل العزاء والحث عليه، وما أعد لصاحبه من جزيل الأجر وتعجله من الحظ.
قد أثنى الله عز وجل على قوم بقوله: " والصابرين على ما أصابهم والمقيمين الصلاة " الحج: 35 وقال في وصية لقما لابنه " واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور " لقمان: 17 وقال تعالى: " الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " البقرة: 156

وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: " لا يزال الرجل يصاب في ماله وحامته حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة " .
وقال علقمة في قوله تعالى: " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " التغابن: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى.
وعزى علي عليه السلام الأشعث بن قيس عن ابن له فقال: يا أشعث، ن تحزن على ابنك فقد استحقت ذلك منك الرحم، وإن تصبر ففي الله من كل مصيبة خلف. يا أشعث إن صبرت جرى القدر عليك وأنت مأجور، وإن جزعت جرى القدر عليك وأنت مأزور، سرك وهو بلاء وفتنةٌ، وحزنك وهو ثوابٌ ورحمة.
وعزى عليه السلام قوماً فقال: عليكم بالصبر فإن به يأخذ الحازم، وإليه يرجع الجازع.
وقال الحسن بن علي: المصائب مفاتيح الأجر.
وقال علي بن الحسين حين مات ابنه ولم يجزع: أمر كنا نتوقعه فلما وقع لم ننكره.
وقال محمد بن علي بن الحسين: استتر من الشامتين بحسن العزاء عن المصائب.
وقال ابن السماك: المصيبة واحدةٌ، فإن كان فيها جزع فهي اثنتان.
وكان محمد بن واسع يقول: المصيبة في إثر المصيبة خير حط للخطيئة.
وقال آخر: إنما الجزع والإشفاق قبل وقوع الأمر، فإذا وقع فالرضى والتسليم.
وقال أوس بن حجر: من المنسرح
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
وهي أبيات مختارة نذكر تمامها هاهنا في غير موضعه لئلا تنقطع:
إن الذي جمع السماحة وال ... نجدة والبر والتقى جمعا
الألمعي الذي يظن لك ال ... ظن كأن قد رأى وقد سمعا
والمخلف المتلف المرزأ لم ... يمتع بضعف ولم يمت طبعا
ليبكك الشرب والمدامة وال ... فتيان طراً وطامعٌ طمعا
والحي إذ حاذروا الصباح وقد ... خافوا مغيراً وسائراً قلعا
وازدحمت حلقتا البطان بأق ... وامٍ وجاشت نفوسهم جزعا
ونعود إلى المعنى الذي بدأنا به.
قال أبو علي الرازي: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً ولا متبسماً إلا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك فقال: إن الله أحب أمراً، فأحببت ما أحب الله.
وقال صالح المري: إن تكن مصيبتك في أخيك أحدثت لك خشية فنعم المصيبة مصيبتك، وإن تكن مصيبتك بأخيك أحدثت لك جزعاً فبئس المصيبة مصيبتك.

الفصل الأول
مراثي الأكابر والرؤساء
وقف علي بن أبي طالب عليه السلام على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة دفن وقال: إن الصبر لجميل إلا عنك، وإن الجزع لقبيحٌ إلا عليك، وإن المصاب بك لجليل، وإنه قبلك وبعدك لجلل.
وألم الشعراء بهذا المعنى فأكثروا. فمن ذلك قول إبراهيم بن إسماعيل في علي بن موسى الرضا عليه السلام: من الكامل
إن الرزية يا ابن موسى لم تدع ... في العين بعدك للمصائب مدمعا
والصبر يحمد في المواطن كلها ... والصبر أن يبكي عليك ويجزعا
وقال الشماخ يرثي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من الطويل
جرى الله خيراً من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامةٍ ... ليلحق ما قدمت بالأمس يسبق
أتيت أموراً ثم غادرت بعدها ... بوائج في أكمامها لم تفتق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتي أزرق العين مطرق
وقال زهير بن أبي سلمى يرثي النعمان بن المنذر: من الطويل
ألم تر للنعمان كان بنجوةٍ ... من الشر لو أن امرءاً كان ناجيا
فغير عنه رشد عشرين حجةً ... من الدهر يومٌ واحدٌ كان غاويا
فلم أر مسلوباً له مثل قرضه ... أقل صديقاً معطياً ومؤاسيا
فأين الذين كان يعطي جياده ... بأرسانهن والحسان الغواليا
وأين الذين كان يعطيهم القرى ... بغلاتهن والمئين الغواديا
رأيتهم لم يشركوا بنفوسهم ... منيته لما رأوا أنها هيا
وقالت أعرابية ترثي ابن عمها: من الطويل
عجبت لطود للمعالي وزاخر ... من الجود أتى صير اللحد مضجعا

فلم يلتحد جهم وحيداً وإنما ... حوى لحده طود المكارم أجمعا
ولم يخترمه الدهر فرداً وإنما ... أصاب به بحر الندى والسدى معا
وقد كانت الدنيا بجهم نضيرةً ... فأحر بها من بعده أن تخشعا
وقالت ليلى بنت وهب ترثي أخاها المنتشر بن وهب الباهلي، وإنما أثبتناها في هذا الفصل لأنها أبنته تأبين الأكابر، والمقصود معنى المرثية لا من قيلت فيه، وبعض الرواة ينسبها إلى أعشى باهلة: من البسيط
تنعى الذي لا يغب الحي جفنته ... إذا الكواكب أعمى نورها القتر
من ليس في خيره شر ينكده ... على الصديق ولا في صفوه كدر
وليس فيه إذا استنظرته عجل ... وليس فيه إذا ياسرته عسر
أخو رغائب يعطيها ويسألها ... جم المواهب مقسومٌ له الظفر
لم تر أرضاً ولم تسمع بساكنها ... إلا بها من بوادي غزوه أثر
لا يأمن القوم ممساه ومصبحه ... من كل أوب وإن لم يأت ينتظر
يكفيه حزة فلذ إن ألم بها ... من الشواء ويكفي شربه الغمر
لا يصعب الأمر إلا ريث يركبه ... وكل شيء سوى الفحشاء يأتمر
فإن جزعنا فمثل الخطب أجزعنا ... وإن صبرنا فإنا معشرٌ صبر
إن تقتلوه فقد أشجاكم حقباً ... كذلك الرمح ذو النصلين ينكسر
إما سلكت سبيلاً كنت سالكها ... فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر
إما علاك عدو في منازلةٍيوماً فقد كانت تستعلي وتنتصروقالت الخنساء ترثي أخاها صخراً: من الوافر
ألا يا صخر إن أبكيت عيني ... لقد أضحكتني دهراً طويلا
دفعت بك الجليل وأنت حي ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيلٍ ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
وقالت أيضاً: من الطويل
ألا هبلت أم الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر
وماذا يواري القبر تحت ترابه ... من الجود يا بؤس الحوادث والدهر
فشأن المنايا إذ أصابك ريبها ... لتغد على الفتيان بعدك أو تسري
وقال الأبيرد الرياحي يرثي أخاه: من الطويل
تطاول ليلى لم أنمه تقلباً ... كأن فراشي حال من دونه الجمر
أراقب من ليل التمام نجومه ... لدن غاب قرن الشمس حتى بدا الفجر
تذكرت قرماً بان منا بنصره ... ونائله يا حبذا ذلك الذكر
فإن تكن الأيام فرقن بيننا ... فقد عذرتنا في صحابته العذر
وكنت أرى هجراً فراقك ساعةً ... ألا لا بل الموت التفرق والهجر
فتى إن هو استغنى تخرق في الغنى ... وإن قل مالاً لم يؤد متنه الفقر
وسامى جسيمات الأمور فنالها ... على العسر حتى أدرك العسر اليسر
ترى القوم في العزاء ينتظرونه ... إذا ضل رأي القوم أو حزب الأمر
فليتك كنت الحي في الناس ثاوياً ... وكنت أنا الميت الذي غيب القبر
فتى يشتري حسن الثناء بماله ... إذا السنة الشهباء قل بها القطر
ولما نعى الناعي بريداً تغولت ... بي الأرض فرط الحزن وانقطع الصبر
عساكر تغشى النفس حتى كأنني ... أخو سكرة مالت بهامته الخمر
إلى الله أشكو في بريدٍ مصيبتي ... وبثي وأحزاناً تضمنها الصدر
وقد كنت أستعفي إلهي إذا اشتكى ... من الأجر لي فيه وإن سرني الأجر
وما زال في عيني بعد غشاوة ... وسمعي عما كنت أسمعه وقر
على أنني أقنى الحياء وأتقي ... شماتة أعداء عيونهم خزر
فحياك عني الليل والصبح إذ بدا ... وهوجٌ من الأرواح غدوتها شهر
حلفت برب الرافعين أكفهم ... ورب الهدايا حيث حل بها النحر
ومجتمع الحجاج حيث تواقفت ... رفاقٌ من الآفاق تكبيرها جأر

يمين امرئ آلى وليس بكاذبٍ ... وما في يمين بثها صادقٌ وزر
لئن كان أمسى ابن المعذر قد ثوى ... بريد لنعم المرء غيبه القبر
فتى الحي والأضياف إن روحتهم ... بليل وزاد السفر إن أرمل السفر
إذا جارة حلت إليه وفى لها ... فباتت ولم يهتك لجارته ستر
خفيف عن السوءات ما التبست به ... صليبٌ فما يلفي لعود به كسر
سلكت سبيل العالمين فما لهم ... وراء الذي لاقيت معدى ولا قصر
وكل امرئ يوماً سيلقى حمامه ... وإن نأت الدعوى وطال به العمر
وأبليت خيراً في الحياة وإنما ... ثوابك عندي اليوم أن ينطق الشعر
وقال جرير يرثي جبير بن عياض: من الطويل
لعمري لقد عالى على النعش محرز ... فتى نال قدماً عفة وتكرما
فتىً كان أحيا من فتاةٍ حييةٍ ... وأجراً من ليثٍ بخفان مقدما
إذا الأمر ناب الحي لم يقض دونه ... وإن طرق الأضياف ليلاً تبسما
وقال يرثي قيس بن ضرار بن القعقاع بن معبد: من الطويل
وباكية من نأي قيسٍ وقد نأت ... بقيسٍ نوى بين طويلٍ بعادها
أظن انهلال الدمع ليس بمنته ... عن العين حتى يضمحل سوداها
لحق لقيس أن يباح له الحمى ... وأن تعقر الوجناء إن خف زادها
وقال الحكم بن عبدل يرثي بشر بن مروان: من الكامل المرفل
أصبحت جم بلابل الصدر ... متعجباً لتصرف الدهر
ما زلت أطلب في البلاد فتىً ... ليكون لي ذخراً من الذخر
حتى إذا جاء القضاء به ... جاء القضاء بحيته يجري
فلأصبرن فما رأيت دوا ... ء الهم غير عزيمة الصدر
وقال النابغة الذبياني: من البسيط
لا يهنئ الناس ما يرعون من كلأٍ ... وما يسوقون من أهل ومن مال
بعد ابن عاتكة الثاوي على أمر ... أمسى ببلدة لا عم ولا خال
ضخم الدسيعة مشاءٌ بأقدحه ... إلى ذوات الذرى حمال أثقال
وقال أبو الشغب السعدي: من الطويل
أبعد بني الزهراء أرجو بشاشةً ... من العيش أو أرجو رخاء من الدهر
غطارفةٌ زهرٌ مضوا لسبيلهم ... ألهفي على تلك الغطارفة الزهر
يذكرنيهم كل خير رأيته ... وشر فما أنفك منهم على ذكر
ومثله لأعرابي: من الطويل
يذكرنيك الخير والشر والذي ... أخاف وأرجو والذي أتوقع
وقال أبو عطاء السندي: من الطويل
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسطٍ ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشية قام النادبات وشققت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود
فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
فإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد
وقال محمد بن بشير: من الطويل
أقول وما يدري أناس غدوا به ... إلى القبر ماذا أدرجوا في السبائب
وكل امرئ يوماً سيركب كارهاً ... على النعش أعناق العدا والأقارب
وقال أيضاً: من الكامل
نعم الفتى فجعت به إخوانه ... يوم البقيع حوادث الأيام
سهل الفناء إذا حللت ببابه ... طلق اليدين مؤدب الخدام
وإذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام
وقال عبد الملك بن عبد الرحيم: من الطويل
ولما حضرنا لاقتسام تراثه ... وجدنا عظيمات اللهى والمآثر
وأسمعنا بالصمت رجع جوابه ... فأبلغ به من ناطق لم يحاور
وقال أبو الحجناء العبسي: من البسيط
أضحت جياد أبي عبس مقسمةً ... في الأقربين بلا من ولا ثمن
ورثتهم فتسلوا عنك إذ ورثوا ... وما ورثتك غير الهم والحزن
؟وقال العجير السلولي: من الطويل
تركنا أبا الأضياف في ليلة الصبا ... بمر ومردى كل خصمٍ يجادله

تركنا فتى قد أيقن الجوع أنه ... إذا ما ثوى في أرحل القوم قاتله
فتى قُدَّ قَدَّ السيف لا متضائلٌ ... ولا رهلٌ لباته وبآدله
إذا جد عند الجد أرضاك جده ... وذو باطل إن شئت ألهاك باطله
يسرك مظلوماً ويرضيك ظالماً ... وكل الذي حملته فهو حامله
إذا نزل الأضياف كان عزوراً ... على الحي حتى تستقل مراجله
وقال آخر: من الطويل
لعمرك ما وارى التراب فعاله ... ولكنما وارى ثياباً وأعظما
ومثله لمنصور النمري: من الطويل
فإن يك أفتته الليالي وأوشكت ... فإن له ذكراً سيفني اللياليا
وقال التميمي في منصور بن زياد: من الكامل
أما القبور فإنهن أوانسٌ ... بفناء قبرك والديار قبور
عمت فواضله فعم مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور
يثني عليك لسان من لم توله ... خيراً لأنك بالثناء جدير
ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
فالناس مأتمهم عليه واحدٌ ... في كل دار رنة وزفير
وقد روي البيت الثاني والثالث والخامس من هذه الأبيات لكثير في عبد العزيز ابن مروان، ورويت لرجل من خزاعة.
وقال رقيبة الجرمي: من الطويل
أقول وفي الأكفان أبيض ماجدٌ ... كغصن الأراك وجهه حين وسما
أحقاً عباد الله أن لست رائياً ... رفاعة بعد اليوم إلا توهما
فأقسم ما جشمته من ملمةٍ ... تؤود كرام الناس إلا تجشما
ولا قلت مهلاً وهو غضبان قد إلا ... من الغيظ وسط القوم إلا تبسما
وقال الربيع بن زياد العبسي: من الكامل
من كان مسروراً بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تستراً ... فاليوم حين برزن للنظار
يضربن حر وجوههن على فتىً ... عف الشمائل طيب الأخبار
قيل كان الرشيد بعد قتله البرامكة شديد الأسف عليهم والندم على ما فعله بهم، ففطن لذلك زبير بن دحمان المغني، فكان يغنيه في هذا المعنى فيحركه، فغناه يوماً بهذه الأبيات فقال له: أعد، فأعاد فقال: ويحك كأن قائل هذا الشعر يصف به يحيى بن خالد وجعفر بن يحيى، وبكى حتى جرت دموعه، ووصل زبيراً صلة سنية.
وقالت أم قيس الضبية: من البسيط
من للخصوم إذا جد الخصام بهم ... بعد ابن سعد ومن للضمر القود
ومشهد قد كفيت الغائبين به ... في مجمعٍ من نواصي الناس مشهود
فرجنه بلسان غير ملتبسٍ ... عند الحفاظ وقلب غير مزؤود
إذا قناة امرئ أزرى بها عوج ... هز ابن سعد قناة صلبة العود
وقف رجل على قبر النجاشي فترحم وقال: لولا أن القول لا يحيط بما فيك، والوصف يقصر دونك، لأطنبت بل لأسهبت، ثم عقر ناقته على قبره وقال: من الطويل
عقرت على قبر النجاشي ناقتي ... بأبيض عضب أخلصته صياقله
على قبر من لو أنني مت قبله ... لهانت عليه عند قبري رواحله
وقالت امرأة من طيء: من الطويل
ألهفي عليك ابن الأشد لبهمة ... أفر الكماة طعنها وضرابها
متى يدعه الداعي إليه فإنه ... سميع إذا الآذان صم جوابها
هو الأبيض الوضاح لو رميت به ... ضواحٍ من الريان زالت هضابها
الريان: جبل ببلاد بني عامر.
وقالت العوراء بنت سبيع: من الكامل المجزوء
أبكي لعبد الله إذ ... حشت قبيل الصبح ناره
طيان طاوي الكشح لا ... يرخى لمظلمة إزاره
يعصي البخيل إذا أرا ... د المجد مخلوعاً عذاره
وقالت أخت الوليد بن طريف: من الطويل
أيا شجر الخابور ما لك مورقاً ... كأنك لم تحزن على ابن طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف
فقدناك فقدان الربيع وليتنا ... فديناك من دهمائنا بألوف

وقال زياد الأعجم: من الكامل
مات المغيرة بعد طول تعرضٍ ... للقتل بين أسنة وصفائح
والقتل ليس إلى القتال ولا أرى ... حياً يؤخر للشفيق الناصح
إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبراً بمرو على الطريق الواضح
فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دمٍ وذبائح
هلاً ليالي لا يزال مشمراً ... يغشى الأسنة فوق نهد قارح
الآن لما كنت أكمل من مشى ... وافتر نابك عن شباة القارح
وتكاملت فيك المروءة كلها ... وأعنت ذلك بالفعال الصالح
وقالت الخنساء ترثي معاوية أخاها: من البسيط
اذهب فلا يبعدنك الله من رجلٍ ... أباء ضيم وطلاب بأوتار
قد كنت تحمل قلباً غير مؤتشب ... مركباً في نصاب غير خوار
فسوف أبكيك ما ناحت مطوقةٌ ... وما أضاءت نجوم الليل للساري
كأنه يوم راموه بجمعهم ... راموا الشكيمة من ذي لبدة ضار
وقال ابن الغريرة، ويروي لكثير: من البسيط
يا أوس ما طلعت شمس ولا غربت ... إلا ذكرتك والمحزون يدكر
إني يذكرنيه كل نائبه ... والخير والشر والإيسار والعسر
وقال منصور النمري: من الطويل
أبا خالد ما كان أدهى مصيبةً ... أصابت نزاراً يوم أصبحت ثاويا
لعمري لئن سر الأعادي وأظهروا ... شماتاً لقد مروا بربعك خاليا
وأوتار أقوام لديك لويتها ... وزرت بها الأحداث وهي كما هيا
يعزي فؤادي عن يزيد بن مزيد ... وأيامه أن المنايا أماميا
وقال الرقاشي يرثي البرامكة: من الطويل
ألان استرحنا واستراحت ركابنا ... وقل الذي يجدي ومن كان يجتدي
فقل للمطايا قد أمنت من السرى ... وطي الفيافي فدفداً بعد فدفد
وقل للمنايا قد ظفرت بجعفرٍ ... ولن تظفري من بعده بمسود
وقل للعطايا بعد فضل تعطلي ... وقل للرزايا كل يوم تجددي
ودونك سيفاً برمكياً مهنداً ... أصيب بسيف هاشمي مهند
دخل البلاذري على علي بن موسى الرضا يعزيه عن أبيه فقال له: أنت تجل عن وصفنا، ونحن نقصر عن عظتك، وفي علمك ما كفاك، وفي ثواب الله ما عزاك.
وقال علي بن موسى للفضل بن سهل يهنيه ويعزيه: التهنئة بآجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة.
وقال علي عليه السلام: من صبرت صبر الأحرار وإلا سلا سلو الأغمار. وفي خبر آخر أنه قال للأشعث بن قيس: إن صبرت صبر الأكارم، وإلا سلوت سلو البهائم.
وأتى نصراني مسلماً يعزيه فقال: مثلي لا يعزي مثلك، ولكن انظر ما زهد فيه الجاهل فارغب فيه.
وقال الحسين بن الضحاك يرثي محمداً الأمين: من الوافر
أعزي يا محمد عنك نفسي ... معاذ الله والأيدي الجسام
فهلا مات قومٌ لم يموتوا ... ودوفع عنك لي يوم الحمام
كأن الموت صادف منك غنماً ... أو استشفى بقريبك من سقام
وللحسين في الأمين مراث مختارة فمنها قوله: من الطويل
ومما شجا قلبي وكفكف عبرتي ... محارم من آل النبي استحلت
ومهتوكةٌ بالخلد عنها سجوفها ... كعاب كقرن الشمس حين تبدت
إذا حفزتها روعة من منازعٍ ... لها المرط عاذت بالخشوع ورنت
وسرب نساء من ذؤابه هاشمٍ ... هتفن بدعوى خير حي وميت
أرد يداً مني إذا ما ذكرته ... على كبد حرى وقلب مفتت
فلا يأت ليل الشامتين بغبطة ... ولا بلغت آمالها ما تمنت
ابن القزاز المغربي: من الطويل
ألا قل لركبٍ فرق الدهر شملهم ... فمن منجد نائي المحل ومتهم
إذا يمم الحادي بكم قصد بلدةٍ ... فسرتم على قبر هناك معظم
تحل بمثواه الوفود رحالها ... وينحر أبناء الجديل وشدقم

فعرج به واستوقف الركب وابكه ... وصل على المقبور فيه وسلم
فقد ضم قطراها ثلاثة أقبر ... يضم نواحيها ثلاثة أنجم
بعيدة مسرى الزائرين غريبةً ... معظمةً فيها رمائم أعظم
تمر عليها الريح وهي مريضةٌ ... ويسقي ثراها كل هتان مثجم
وقد فرقت أيدي الفراق بحورها ... أيادي سبا في كل غفلٍ ومعلم
كأن الردى خاف الردى في اجتماعهم ... فقسمهم في الأرض كل مقسم
فبالعدوة القصوى من الغرب واحد ... وآخر ضمته رجام المقطم
وبينهما قبر غريب ببرقة ... بنوه على بحر من الجود خضرم
وأعجب شيء قيس شبرٍ تضمنت ... نواحيه قطري يذبلٍ ويلملم
سأبكيك لا أن البكا عدل لوعتي ... ولا أن وجدي فيك كفؤ تندمي
وقل لعيني أن تفيض دموعها ... عليك ولو أن الذي فاض من دمي
القاضي الحسن بن محمد التميمي المغربي المعروف بابن الربيب: من الكامل
ومصرف للملك راح مصرفاً ... في الترب بين صفائحٍ ورجام
حكمت عليك الحادثات وطالما ... نزلت به قسراً على الأحكام
يا قبر لا تظلم عليه فطالما ... جلى بغرته دجى الإظلام
أعجب بقبرٍ قيس شبرٍ قد حوى ... ليثاً وبحر ندى وبدر تمام
يا ويح أيدٍ أسلمتك إلى الثرى ... ما كنت تسلمها إلى الإعدام
إبراهيم الرقيق الكاتب المغربي: من الطويل
وهون ما ألقى وليس بهين ... بأن المنايا للنفوس بمرصد
وأني وإن لم ألقك اليوم رائحاً ... بصرف رزاياها لقيتك في غد
فلا يبعدنك الله ميتاً بقفرةٍ ... معفر خد في الثرى لم يوسد
تردى نجيعاً حين بزت ثيابه ... كأن على أعطافه فضل مجسد
مضاء سنان في سنانٍ مذلقٍ ... وفتك حسامٍ في حسامٍ مهند
حاطب بن قيس بن هيشة يرثي عمرو بن حممة الدوسي: من الطويل
سلامٌ على القبر الذي ضم أعظماً ... تحوم المعالي حولها فتسلم
سلامٌ عليه كلما ذر شارقٌ ... وما امتد قطعٌ من دجى الليل مظلم
فيا قبر عمرو جاد أرضاً تعطفت ... عليك ملث دائم القطر مرزم
وقفت عائشة على قبر أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقالت: يا أبة، نضر الله وجهك، وشكر لك سعيك، فلقد كنت للدنيا مذلاً بإدبارك عنها، وللآخرة معزاً بإقبالك عليها. ولئن كان أجل الحوادث - بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله - رزوك، وأعظم المصائب فقدك، إن كتاب الله عز وجل ليعد فيك بحسن العزاء عنك، وحسن العوض منك، بالاستغفار لك، فعليك السلام ورحمة الله توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك؛ ثم انصرفت.
وقف رجل من ولد حاجب بن زرارة على قبر على بن أبي طالب عليه السلام فقال: لقد كانت حياتك مفتاح خير ومغلاق شر، ووفاتك مفتاح شر ومغلاق خير، ولو أن قبلوك بقبولك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكن آثروا الدنيا فانتقض الأمر كما ينتقض الحبل من مرائره.
مات مخلد بن يزيد بن المهلب بخناصرة فخرج عمر بن عبد العزيز في جنازته وكان به معجباً لأنه كان سيداً جواداً شجاعاً، فصلى عليه ثم تمثل عند قبره: من الطويل
على مثل عمرو تهلك النفس حسرة ... وتضحي وجوه القوم مسودةً غبرا
وقال: لو أن الله أراد بيزيد خيراً لأبقى له هذا الفتى.
عزيت هند بنت عتبة عن يزيد بن أبي سفيان وقيل: إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه، فقالت: أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد؟ فوالله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيها لخرج من أي أعراضها شاء.
عباءة بن يزيد بن جعشم: من الطويل
كأن لم يقل يوماً يزيد بن جعشم ... لنار الندى ارفع لي سناها وأوقد
وأذك سنا نار الندى عل ضوءها ... يجيء بمقوٍ أو طريدٍ مشرد

فباتت على علياء نار ابن جعشمٍ ... تشب لغوري وآخر منجد
وبات الندى والجود يصطليانها ... حليفي كريم واجد غير مجحد
العيزار بن الأخنس السنبسي: من الطويل
إلى الله أشكو أن كل قبيلةٍ ... من الناس قد أفنى الحمام خيارها
جزى الله زيداً كلما ذر شارقٌ ... وأسكن من جنات عدنٍ قرارها
الحسين بن مطير الأسدي: من الطويل
فيا قبر معن كنت أول حفرةٍ ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
بلى قد وسعت الجود والجود ميتٌ ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
فلما مضى معنٌ مضى الجود والندى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
تعز أبا العباس عنه ولم يكن ... جزاؤك من معن بأن يتضعضعا
فما مات من كنت ابنه لا ولا الذي ... له مثل ما أسدى أبوك وما سعى
وقال أعشى همدان: من الطويل
فإن يك عتابٌ مضى لسبيله ... فما مات من يبقى له مثل خالد
وشبيه بهذين المعنيين من قول أعشى همدان وابن مطير، قول أبي تمام: من الكامل
أودى بخير إمام اضطربت به ... شعب الرحال وقام خير إمام
تلك الرزية لا رزية مثلها ... والقسم ليس كسائر الأقسام
ما أبصر الأقوام شمساً قبلها ... أفلت فلم يعقبهم بظلام
وقال مسلم بن الوليد في يزيد بن مزيد: من الكامل
قبر ببرذعة استسر ضريحه ... خطراً تقاصر دونه الأخطار
أبقى الزمان على معد بعده ... حزناً كعمر الدهر ليس يعار
نقضت بك الآمالُ أحلاس الغني ... واسترجعت نزاعها الأمصار
فاذهب كما ذهبت غوادي مزنةٍ ... أثنى عليها السهل والأوعار
ومثل المعنى الأول قول امرأة عزت المنصور على أبي العباس مقدمه من مكة: عظم الله أجرك، فلا مصيبة أعظم من مصيبتك، ولا عوض أعظم من خلافتك.
وقال أشجع السلمي: من الطويل
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرقٌ ... ولا مغربٌ إلا له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح
فأصبح في لحدٍ من الأرض ميتاً ... وكانت به حياً تضيق الصحاصح
فما أنا من رزء وإن جل جازعٌ ... ولا بسرورٍ بعد موتك فارح
لئن حسنت فيك المراثي وذكرها ... لقد حسنت من قبل فيك المدايح
وقال يحيى بن زياد الحارثي: من الطويل
دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت ... تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا
مضى فمضت عنا به كل لذة ... تقر بها عيناي فانقطعا معا
هما مضيا واستقبل الدهر ضرعتي ... ولا بد أن ألقى حمامي فأضرعا
وما كنت إلا السيف لاقى ضريبةً ... فقطعها ثم انثنى فتقطعا
وقال أبو خراش الهذلي: من الطويل
وإن تك غالتك المناي وصرفها ... فقد عشت محمود الخلائق والحلم
كريم سجيات الأمور محبباً ... كثير فضول الكف ليس بذي وصم
أشم كنصل السيف يرتاح للندى ... بعيداً من الآفات والخلق الوخم
وقال الفرزدق يرثي مالك بن مسمع: من الطويل
تضعضع طودا وائلٍ بعد مالكٍ ... وأصبح منها معطس العز أجدعا
لقد بان لم يسبق بوتر ولم يدع ... إلى الغرض الأقصى من المجد منزعا
وقال أيضاً: من الطويل
لقد رزئت حلماً وحزماً ونائلاً ... تميم بن مر يوم مات وكيع
وما كان وقافاً وكيعٌ إذا بدت ... سحائب موت صوبهن نجيع
فصبراً تميم إنما الموت منهلٌ ... يصير إليه صابرٌ وجزوع
وقال آخر: من الطويل
سأبكيك للدنيا وللدين إني ... رأيت يد المعروف بعدك شلت
ربيع إذا ضن الغمام بمائه ... وليث ٌ إذا ما المشرفية سلت

وقال النهشلي: من الطويل
فبعدك أبدى ذو الضغينة ضغنه ... وشد لي الطرف العيون الكواشح
وقال الطائي: من البسيط
عهدي بهم تستنير الأرض إن نزلوا ... فيها وتجتمع الدنيا إذا اجتمعوا
ويضحك الدهر منهم عن غطارفة ... كأن أيامهم من أنسها جمع
قال أبو هلال العسكري: أنشد ثعلب: من الكامل
ما كنت أحسب قبل نعشك أن أرى ... رضوى على أيدي الرجال يسير
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن الكواكب في التراب تغور
وهي أبيات في قصيدة للمتنبي أولها: من الكامل
إني لأعلم واللبيب خبير ... أن الحياة وإن حرصت غرور
لعله ضمنها شعره أو وهم الراوي فيها.
وقال الأسود بن يعفر: من الكامل
ماذا أومل بعد آل محرقٍ ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم دواد
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشةٍ ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوماً يصير إلى بلى ونفاد
وقال الفرزدق: من الطويل
ولو أن قوماً قاتلوا الموت قبلنا ... بشيء لقاتلنا المنية عن بشر
ولكن فجعنا والرزية مثله ... بأبيض ميمون النقيبة والأمر
وما أحد ذو فاقة كان مثلنا ... إليه ولكن لا بقية للدهر
وقال سليمان بن قتة التيمي، تيم قريش، يرثي الحسين بن علي: من الطويل
مررت على أبيات آل محمدٍ ... فلم أرها أمثالها يوم حلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت فيهم برغمي تخلت
وكانوا رجاءً ثم أضحوا رزيةً ... ألا عظمت تلك الرزايا وجلت
وإن قتيل الطف من آل هاشمٍ ... أذل رقاب المسلمين فذلت
لما مات الرشيد رقي الأمين المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس وخصوصاً يا بني العباس، إن المنون مراصد ذوي الأنفاس، حتم من الله تعالى لا يدفع حلوله، ولا ينكر نزوله، فارتجعوا قلوبكم من الحزن على الماضي إلى السرور بالباقي تجزون ثواب الصابرين، وتعطون أجور الشاكرين. فتعجب الناس من جرأته وبلة ريقه وشدة عارضته.
وخطب المأمون بمرو وقد ورد عليه كتاب الأمين يعزيه بالرشيد ويحثه على أخذ البيعة له فقلا: إن ثمرة الصبر الأجر، وثمرة الجزع الوزر، والتسليم لأمر الله عز وجل فائدة جليلة، وتجارة مربحة؛ والموت حوضٌ مورودٌ، وكأسٌ مشروب. وقد أتى على خليفتكم ما أتى على نبيكم صلى الله عليه وسلم، فنا لله وإنا إليه راجعون، فما كان إلا عبداً دعي فأجاب، وأمر فأطاع. وقد سد أمير المؤمنين ثلمه، وقام مقامه، وفي أعناقكم من العهد ما قد عرفتم، فأحسنوا العزاء عن إمامكم الماضي، واغتبطوا بالنعماء لخليفتكم الباقي. يا أهل خراسان إن الموت نازلٌ والأجل طالب، وأمس واعظ، واليوم مغتنم، وغدٌ منتظرٌ. ثم نزل.
قال العتبي: أغمي على معاوية في مرضه الذي مات فيه، فقالت ابنته رملة أو امرأة من أهله متمثلةً: من الطويل
إذا مت مات الجود وانقطع الغنى ... من الناس إلا من قليلٍ مصرد
وردت أكف السائلين وأمسكوا ... من الدين والدنيا بخلف مجدد
فأفاق فقال: من المنسرح
لو فات شيءٌ إذن لفات أبو ... حسان لا عاجزٌ ولا وكل
الحول القلب الأريب ولا ... يدفع رزء المنية الحيل
عزى أبو العيناء عبيد الله بن سليمان عن أبيه فقال: عقم والله البيان، وخرست الأقلام، ووهى النظام.
وقف جبار بن سلمى على قبر عامر بن الطفيل فقال: كان والله لا يضل حتى يضل النجم، ولا يعطش حتى يعطش البعير، ولا يهاب حتى يهاب السيل، وكان والله خير ما يكون حين لا تظن نفسٌ بنفسٍ خيراً.
وقال زهير بن أبي سلمى: من الكامل
يا من لأقوام فجعت بهم ... كانوا ملوك العرب والعجم

استأثر الدهر الغداة بهم ... والدهر يرميني ولا أرمي
لو كان لي قرناً أناضله ... ما طاش عند حفيظة سهمي
أو كان يعطي النصف قلت له ... أحرزت قسمك فاله عن قسمي
يا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت في العظم
وسلبتنا ما لست معقبنا ... يا دهر ما أنصفت في الحكم
أجلت صروفك عن أخي ثقةٍ ... حامي الذمار مخالط الحزم
وقالت ليلى الأخيلية ترثي توبة بن الحمير: من الطويل
أقسمت أبكي بعد توبة هالكاً ... وأحفل من دارت عليه الدوائر
لعمرك ما بالموت عارٌ على امرئٍ ... إذا لم تصبه في الحياة المعاير
ومن كان مما يحدث الدهر جازعاً ... فلا بد يوماً أن يرى وهو صابر
فلا الحيُّ مما يحدث الدهر معتبٌ ... ولا الميت إن لم يصبر الحي ناشر
وكل شباب أو جديدٍ إلى بلى ... وكل امرئ يوماً إلى الله صائر
وكل قريني ألفة لتفرق ... شتات وإن ضنا وطال التعاشر
فلا يبعدنك الله يا توب هالكاً ... أخا الحرب إذ دارت عليك الدوائر
فأقسمت لا أنفك أبكيك ما دعت ... على فنن ورقاء أو طار طائر
وقالت عمرة أخت عمرة أخت عمروٍ ذي الكلب: من البسيط
تعلما أن طول العيش تعذيب ... وأن من غالب الأيام مغلوب
وكل حي وإن طالت سلامته ... طريقه في سبيل الشر دعبوب
أبعد عمروٍ وخير القوم قد علموا ... ببطن شرية يعوي عنده الذيب
الطاعن الطعنة النجلاء يتبعها ... مثعنجر من دم الأجواف مسكوب
تمشي النسور إليه وهي لاهيةٌ ... مشي العذاري عليهن الجلابيب
والمخرج الكاعب الحسناء مذعنةً ... في السبي ينفح من أردانها الطيب
فلن يروا مثل عمروٍ ما خطت قدمٌ ... وما استحثت إلى أوطانها النيب
بينا الفتى ناعمٌ راضٍ بعيشته ... تاح له من بوار الدهر شؤبوب
وقال ابن سكرة الهاشمي: من البسيط
لا عذب الله ميتاً كان ينعشني ... فقد لقيت بضري مثل ما لاقى
طواه موتٌ طوى عني مكارمه ... فذقت من بعده بالموت ما ذاقا

كتب إبراهيم بن هلال الصابي إلى أبي الفتح ابن العميد يعزيه بأبيه: قد سبق في العلم، وثبت في العقل - أطال الله بقاء سيدنا الأستاذ الجليل - أن الله عز وجل جلت كبرياءه، وتقدست أسماؤه، القديم بلا ابتداء، الباقي بلا انتهاء، لا يشركه في ذلك غيره، ولا يختص به سواه، وأنه تعالى أبدع المخلوقات على اختلاف ذواتها، وتباين موجوداتها، وأعطى كلاً منها ما أوجبت الحكمة أن يعطاه، فلا سبيل إلى مزيد لها على حدودها التي وقفت عندها، ولا نقصان من غاياتها التي انتهت إليها. ولهذه المخلوقات منازل في الأعمار لا تتعداها، ومواقيت في الآجال لا تتخطاها، فلو أمكن فيها البقاء لارتفع الحدث ولساوى المفعول فاعله، والمجبول جابله، وسقط التفاضل بين الأدنى والأشرف، والأقوى والأضعف. فوجود شخص الإنسان كأن لم يزل مود إلى عدم وكأن لم يكن. ولله عز وجل في ذلك منةٌ على البرية لا يعرفها منهم إلا الفذ الفريد، والشاذ الوحيد، لأضعاف عدد عوامهم على خواصهم، وجهالهم على علمائهم. وكلهم مركب من نفسٍ تسمو إلى الأرفع الأسنى، ومن جسد يسف إلى الأدون الأدنى؛ فمن غلب أخس ما فيه أشرفه، قنط من الموت قنوط الغبي وكرهه كراهة الغر، وظن أن الله عز وجل قد قطع به عصمته، وأزال معه نعمته. ومن غلب أشرف ما فيه أخسه أيقن أن الله لا يعبث في خلقه، ولا يفكه في نطقه، ولا يخلفه ما وعد، ولا ينكل عما ضمن، وأنه عز وجل قد حبر مصاب الميت جبرين ظاهرين يشهد بأحدهما العيان عاجلاً، وبالآخر العقل آجلاً، فالعاجل النسل، والآجل النشر. فإن أخطأه الأول على عادة الدنيا في تلون أحداثها وتفاضل أرزاقها فهو حاصل على الثاني لا شك فيه ولا شبهة عند كل ذي لب وديانة، ولا يعدم مزيداً، لأن حظوظه بقدر الفائت من غيره. فإذا تدبر الإنسان أمره وجده مبنياً على تدريج في الزيادة، قد لزم نطاقاً لا يقطعه، ومنهاجاً لا يزول عنه وصادف كل منزلة من منازله فوق التي أمامها، ودون التي وراءها، إذ كان معدوماً ثم صار موجوداً على ضروبٍ يخرج فيها من واحدة إلى أخرى: قد مار في ظهور الذكور، وارتكض في أرحام الإناث، ثم برز إلى الهواء فنسمه، ووقع إلى الثدي فارتضعه، ونما على الأرض فحبا، ونهض فسعى، ووعى وعقل ورأى، وأخذ وأعطى واستمر به النشوء مترقياً من حالٍ إلى ما هو أعلى، ومن كل غاية إلى ما هو أوفى، وهو مع ذلك لا ينتقل إلى الرتبة الفاضلة إلا بمفارقة المفضولة، ولا يصل إلى المستأنفة إلا بالانفصال عن السالفة، حتى إذا نال الكمال أطلعه الله على ضروب مواهبه لديه، وصنوف إحسانه إليه، وأمره بأوامره، وزجره بزواجره، ووعده وأوعده، وخبره وأنذره، ووفاه ما رزقه من أجله توفاه عند المحتوم من أجله، ثم بعثه إلى مقر بناه على إمكان البقاء والخلود، وسقوط التكاليف والحدود، وهناك تتناهى النعمة عليه التي هو في هذا العالم مجتازٌ إليها ومتوجهٌ نحوها في طريق قد أمر بلزوم جوادها، ونهي عن التعسف في أغوارها؛ لكنه ينتقل في هذه المراتب مكرهاً لا طائعاً، ومجبراً لا مختاراً. فمن ذلك أنه يستقر في الرحم استقرار الموافقة، ويستوطن استيطان الملاءمة، فلو كان له هناك عقل مع الحس لكره النقلة عن موضعه، لظنه نه أوطأ مواضِعِه ولجهله بالأمر الذي فوقه. وهذه صورته في دنياه تريه البشرية أنها خير مواطنه فيفارقها ضنيناً بها متأسفاً عليها، وهو إذا حصل في التي بعدها حمد الله على ما صار إليه، ولم يجب العود إلى ما كان فيه، لما أزاح الله علته في العقل الآمر بالخير، الناهي عن الشر، ولم يعول به في كل أمره عليه، ولم يكله في جميعه إليه، بل بعث إليه أنبياء بآيات واضحة، وبيناتٍ لائحة، فأقاموا له الدليل، ووقفوه على سواء السبيل، وأرشدوه إلى الشرائع المنجية، وحذروه من الموارد المردية. كل ذلك عناية من خالقه به، ورأفةٌ منه عليه، وإرادةٌ للأصلح فيه. ولا يصلح أن يكون الموت مبيداً له إبادةً لا رجعة فيها، ولا إنابة منها، لأن الحكيم يصير حينئذ مبتور الحكمة، منبت العصمة، وتعود البرية إلى العدم عند انقراضها، كما كانت قبل ابتدائها، فينتقض الغرض في خلقها، وتفسد العلة في إيجادها. وهو سبحانه أعظم من ذلك شأناً، وأتم سلطاناً، وأكمل صنعاً، وأتقن عملاً. فالمصير إذن من هذه الدار إنما هو إلى الأخرى التي هي أرغد وأفسح، وأفضل وأصلح، وحقيقٌ على الإنسان أن

يشتاقها وينازع إليها ويستحبها ويثابر عليها، إلا من خالف المأمور به، وقارف المنهي عنه، وخطب على نفسه، وحمل على ظهره، وأسخط خالقه، واستحق عذابه، فلا بد أن يتقاعس عن سوء المآل، وأن يتعجل إلى النكال، ومن وراء ذلك رب يحمله على العدل، ويقضي فيه بالفصل، من القصاص الذي يظهره، وبقدر ما احتقب من الآثام التي تدنس، فتكون عقوبته بكسب يديه، وعاقبته بالتفضل عليه. وقد نزه الله عن هذا المورد من أحسن العمل، وسلك الجدد، وقدم في أولاه لآخرته، وتزود من عاجلته لآجلته، وأخذ من ممره لمقره، واحتشد لمقدمه في سفره، وتلك حال الأستاذ الرئيس أبي الفضل - نصر الله وجهه - فيما أرجح الله من دينه، وصحح من يقينه، وأجزل من أدبه، وكرم من منقلبه. فإنه تعالى ذكره جعله في هذه الدنيا سيداً، علياً قدره، سامياً خطره، بعيداً صيته، وافياً حلمه، ثاقباً فهمه، غزيراً علمه، زاخراً بحره، فائضاً بره، وأخرجه عنها عالماً بدناءتها، عازفاً عن زخارفها، صادراً عن شرورها، صادفاً عن غرورها، منافساً في التي بعدها، واثقاً بجزيل حظه منها، مغتبطاً بتأثل محله فيها، مشوقاً إلى ما قدم وجهز إليها. وأعطاه من سيدنا الأستاذ الجليل - أيده الله - خلفاً يسد مكانه، ويشيد بنياته، ويحفظ معاليه، ويحرس مساعيه. وهو حري أن يجري على تلك الشاكلة ويوفي، ويسبق فيها ويجلي. وكان انصرافه عنه بعد أن رأى فيه سوله، وبلغ مأموله، وقرت عينه باستقلاله ووفائه، واضطلاعه وغنائه، وشاهد فيه المنظر السار، وسكن منه إلى الولد البار. وقضى الله عز وجل بما هو الأولى بهما من تقدم الأصل وتأخر الفرع، ومضي السلف وبقاء الخلف، ووثقنا لذلك بالفوز العظيم فيما صار وتأخر الفرع، ومضي السلف وبقاء الخلف، ووثقنا لذلك بالفوز العظيم فيما صار إليه، ولهذا بالمنح الجسيم فيما حصل عليه. وتظاهرت مواهب الله في ذلك تظاهراً تكون به المحنة منحةً، والرزية عطية، وإلى الله جل اسمه الرغبة في أن يتغمد الثاوي بأتم الرحمة والغفران، وأطيب التحية والرضوان، ويخير له فيما أقدمه عليه، ويسعده بما أسرع به إليه، ويزلفه مراتب الأعيان الأخيار، ويبوئه منازل الصديقين الأبرار، ويعلي شأنه في دار القرار، كما أعلاه في هذه الدار، ويتولى السيد الباقي الذي يملأ العين قرة، والصدر مسرة، بامتداد البقاء، وترادف النعماء، ويرعاه بعينه اليقظى، ويدافع عنه بيده الطولى، ولا يخليه من الصنع والتأييد، والإناقة والمزيد، ويلهمه الصبر المؤدي إلى الأجر، والاحتساب العائد بالثواب، بجوده ومجده، وطوله وحوله.قها وينازع إليها ويستحبها ويثابر عليها، إلا من خالف المأمور به، وقارف المنهي عنه، وخطب على نفسه، وحمل على ظهره، وأسخط خالقه، واستحق عذابه، فلا بد أن يتقاعس عن سوء المآل، وأن يتعجل إلى النكال، ومن وراء ذلك رب يحمله على العدل، ويقضي فيه بالفصل، من القصاص الذي يظهره، وبقدر ما احتقب من الآثام التي تدنس، فتكون عقوبته بكسب يديه، وعاقبته بالتفضل عليه. وقد نزه الله عن هذا المورد من أحسن العمل، وسلك الجدد، وقدم في أولاه لآخرته، وتزود من عاجلته لآجلته، وأخذ من ممره لمقره، واحتشد لمقدمه في سفره، وتلك حال الأستاذ الرئيس أبي الفضل - نصر الله وجهه - فيما أرجح الله من دينه، وصحح من يقينه، وأجزل من أدبه، وكرم من منقلبه. فإنه تعالى ذكره جعله في هذه الدنيا سيداً، علياً قدره، سامياً خطره، بعيداً صيته، وافياً حلمه، ثاقباً فهمه، غزيراً علمه، زاخراً بحره، فائضاً بره، وأخرجه عنها عالماً بدناءتها، عازفاً عن زخارفها، صادراً عن شرورها، صادفاً عن غرورها، منافساً في التي بعدها، واثقاً بجزيل حظه منها، مغتبطاً بتأثل محله فيها، مشوقاً إلى ما قدم وجهز إليها. وأعطاه من سيدنا الأستاذ الجليل - أيده الله - خلفاً يسد مكانه، ويشيد بنياته، ويحفظ معاليه، ويحرس مساعيه. وهو حري أن يجري على تلك الشاكلة ويوفي، ويسبق فيها ويجلي. وكان انصرافه عنه بعد أن رأى فيه سوله، وبلغ مأموله، وقرت عينه باستقلاله ووفائه، واضطلاعه وغنائه، وشاهد فيه المنظر السار، وسكن منه إلى الولد البار. وقضى الله عز وجل بما هو الأولى بهما من تقدم الأصل وتأخر الفرع، ومضي السلف وبقاء الخلف، ووثقنا لذلك بالفوز العظيم فيما صار وتأخر الفرع، ومضي السلف وبقاء الخلف، ووثقنا لذلك بالفوز العظيم فيما صار إليه، ولهذا بالمنح الجسيم فيما حصل عليه. وتظاهرت مواهب الله في ذلك تظاهراً تكون به المحنة منحةً، والرزية عطية، وإلى الله جل اسمه الرغبة في أن يتغمد الثاوي بأتم الرحمة والغفران، وأطيب التحية والرضوان، ويخير له فيما أقدمه عليه، ويسعده بما أسرع به إليه، ويزلفه مراتب الأعيان الأخيار، ويبوئه منازل الصديقين الأبرار، ويعلي شأنه في دار القرار، كما أعلاه في هذه الدار، ويتولى السيد الباقي الذي يملأ العين قرة، والصدر مسرة، بامتداد البقاء، وترادف النعماء، ويرعاه بعينه اليقظى، ويدافع عنه بيده الطولى، ولا يخليه من الصنع والتأييد، والإناقة والمزيد، ويلهمه الصبر المؤدي إلى الأجر، والاحتساب العائد بالثواب، بجوده ومجده، وطوله وحوله.

ولم أطل هذه الإطالة - أيد الله سيدنا - إغراباً عليه بها، ولا انه من النفر المحتاجين إليها، وكيف ذلك وعلمه يوفي عليها، وصدره يجيش بأضعافها، لكنني اتبعت الأمر في الذكرى وتوخيت من إيناسه الغاية القصوى، وسلكت طريق المجتهد في تعزيته، وذهبت مذهب المبالغ في تسليته، وكرهت أن أكون في شيء من ذلك واقعاً دون قدرتي، أو تاركاً شيئاً من استطاعتي. وسيدنا ولي ما يراه في التقدم بإجابتي بذكر خبره وحاله، وأمره ونهيه، وما وليه الله به في هذا الحادث الكارث، والملم المؤلم، من العمل بما يرضاه، والتجنب لما يأباه؛ إن شاء الله تعالى.
كانت هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله الحارثي عند عبد الله بن حسن ابن الحسن، فلما مات أبوها جزعت عليه جزعاً شديداً ووجدت وجداً عظيماً، فكلم عبد الله بن الحسن محمد بن بشير الخارجي أن يدخل إليها فيعزيها ويؤسيها عن أبيها، فدخل معه إليها، فلما نظر إليها صاح بأعلى صوته: من الطويل
قومي اضربي عينيك يا هند لن تري ... أباً مثله يسمو إليه المفاخر
وكنت إذا فاخرت أسميت والداً ... يزين كما زان اليدين الأساور
وقد علم الأقوام أن بنانه ... صوادق إذ يندبنه وقواصر
وهي أطول من هذا. فقامت هند فصكت وجهها وعينيها، وصاحت بويلها وخربها، والخارجي معها، حتى لقيا جهداً. فقال له عبد الله بن الحسن: ألهذا دعوتك ويحك؟ فقال له: أظننت أني أعزيها عن أبي عبيدة؟ والله ما يسليني عنه أحد ولا لي عزاء عن فقده، فكيف يسليها عنه من ليس يسلوه؟ علي بن جبلة يرثي حميداً الطوسي: من الطويل
أللدهر تبكي أم علي الدهر تجزع ... وما صاحب الأيام إلا مفجع
تعز بما عزيت غيرك إنها ... سهام المنايا حائمات ووقع
أصبنا بيومٍ من حميد لو أنه ... أصاب عروش الدهر ظلت تضعضع
وأدبنا ما أدب الناس قبلنا ... ولكنه لم يبق للصبر موضع
ألم تر للأيام كيف تصرفت ... به وبه كانت تذاد وتدفع
وكيف التقى مثوى من الأرض ضيقٌ ... على جبل كانت به الأرض تمنع
حمامٌ رماه من مواضع أمنه ... حمامٌ كذاك الخطب بالخطب يقرع
وليس بغروٍ أن تصيب منيةٌ ... حمى أختها أو أن يذل الممنع
هوى جبل الدنيا المنيع وغيثها ال ... مريع وحاميها الكمي المشيع
وقد كانت الدنيا به مطمئنةً ... فقد جعلت أوتادها تتقلع
بكى فقده روح الحياة كما بكى ... نداه الندى وابن السبيل
وأيقظ أجفاناً وكان لها الكرى ... ونامت عيونٌ لم تكن قط تهجع
أبو عطاء السندي: من البسيط
فاضت دموعي على نصرٍ وما ظلمت ... عينٌ تفيض على نصر بن سيار
يا نصر من للقاء الحرب إذ لقحت ... يا نصر بعدك أو للضيف والجار
بالخندفي الذي يحمي حقيقتهم ... في كل يومٍ مخوف الشر والعار
والقائد الخليل قباً في أعنتها ... بالقوم حتى يلف الغار بالغار
من كل أبيض كالمصباح من مضر ... يجلو بسنته الظلماء للساري
ماضٍ على الهول مقدام إذا اعترضت ... سمر الرماح وولى كل فرار
إن قال قولاً وفي بالقول موعده ... إن الكناني وافٍ غير غدار
قيل بينا جريرٌ جالس بفناء داره بحجرٍ إذا راكبٌ قد أقبل، فقال له جرير: من أين أوضع الراكب؟ قال: من البصرة. فسأله عن الخبر فأخبره بموت الفرزدق فقال: من الكامل
مات الفرزدق بعد ما جدعته ... ليت الفرزدق كان عاش قليلا
ثم سكت ساعةً فظن أنه يقول شعراً، فدمعت عيناه، فقيل له: سبحان الله، أتبكي على الفرزدق؟ فقال: والله ما أبكي إلا على نفسي، أما والله إن بقائي خلافه لقليل، لأنه قلما تصاول فحلان في شول فمات أحدهما إلا أسرع لحاق الآخر به. وقال: من الطويل
فجعنا بحمال الديات ابن غالبٍ ... وحامي تميم كلها والبراجم

بكيناك حدثان الفراق وإنما ... بكيناك إذ نابت أمور العظائم
فلا حملت بعد ابن ليلى مهيرةٌ ... ولا مد أنساع المطي الرواسم
كان بين سليمان بن فهد وبين أبي القاسم المغربي عداوة، وقتل سليمان نفسه في نكبة ومصادرة طلب بها، فقال المغربي يرثيه: من الكامل المجزوء
يا ابن الكرام أرى الغما ... م تمر بي ولها حنين
ولهى فتلتدم الرعو ... د لها وتسود الدجون
أترى لها بالموصل ال ... غراء مفقود دفين
قبرٌ جفاه الأقربو ... ن وباع خلته القرين
عجباً له ضم البلا ... غة وهو أخرس ما يبين
نصر المنون ولو يشا ... ء لما تجاسرت المنون
وتحكمت فيه يمي ... ن لا يجاريها يمين
لو غير كفك ساورت ... ك لردها كيدٌ زبون
وعزائم يعيا اللبي ... ب بها أعقل أم جنون
وهواجس كانت طلا ... ئعها على الغيب الظنون
تبكي عليك ولو تعي ... ش إذن بكتْ منك العيون
ثم أثارته العداوة فقال:
آهاً سليمان بن فه ... د والحديث له شجون
أفمالك لك مالكٌ ... أم أنت موقوف رهين
أم أنت منتظرٌ فأن ... ت لناره نعم الزبون
لما أتى معاوية نعي عمرو بن العاص تمثل: من البسيط
ماذا رزئنا به من حية ذكرٍ ... تضناضة بالمنايا صل أصلال
خراجة من ذرى الأهوال إذ نزلت ... ولأجة في ذراها غير زمال
أعشى همدان: من الطويل
فإن يك عناب مضى لسبيله ... فما مات من يبقى له مثل خالد
أنشدت لأبي الفضل ابن الخازن من شعراء عصرنا وكتابه هذه الأبيات، ثم وجدتها في أمالي أبي علي القالي قال، أنشدني إسحاق بن الجنيد قال، أنشدني أحمد الجوهري، ولم يذكر شاعرها، فإما وهم الراوي عن ابن الخازن أو يكون انتحلها: مخلع البسيط
واحربا من فراق قومٍ ... هم المصابيح والحصون
والأسد والمزن والرواسي ... والخفض والأمن والسكون
لم تتنكر لنا الليالي ... حتى توفتهم المنون
فكل نارٍ لنا قلوبٌ ... وكل ماء لنا عيون
المتنبي يرثي فاتكاً الكبير: من الكامل
الحزن يقلب والتجمل يردع ... والدمع بينهما عصي طيع
يتنازعان دموع عين مسهدٍ ... هذا يجيء بها وهذا يرجع
النوم بعد أبي شجاع نافرٌ ... والليل معي والكواكب ظلع
إني لأجبن من فراق أحبتي ... وتحس نفسي بالحمام فأشجع
ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلم بي عتب الصديق فأجزع
تصفو الحياة لجاهل أو غافلٍ ... عما مضى فيها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتتبع
المجد أخسر والمكارم صفقةً ... من أن يعيش لها الكريم الأروع
ولقد أراك وما تلم ملمة ... إلا نفاها عنك قلب أصمع
ما زلت تدفع كل أمرٍ فادحٍ ... حتى أتى الأمر الذي لا يدفع
بأبي الوحيد وجيشه متكاثرٌ ... يبكي ومن شر السلاح الأدمع
وإذا حصلت من السلاح على البكا ... فحشاك رعت به وخدك تقرع
وله: من الوافر
نعد المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال
ونرتبط السوابق مقربات ... وما ينجين من خبب الليالي
ومن لم يعشق الدنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى الوصال

نصيبك في حياتك من حبيبٍ ... نصيبك في منامك من خيال
رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي ... في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهامٌ ... تكسرت النصال على النصال
أبو العيزار: من الكامل
يدنو وترفعه الرماح كأنه ... شلوٌ تنشب في مخالب ضار
فثوى صريعاً والرماح تنوشه ... إن الشراة قصيرة الأعمار
الرضي يرثي عبد العزيز بن يوسف: من الكامل
من يشرق الخصم الألد بريقه ... عياً ويقدع منه ما لم يقدع
بنوافذ للقول يبلغ وقعها ... ما ليس يبلغ بالرماح الشرع
حتى يقول الغابطون وقد رأوا ... فعلاته زاحم بجد أو دع
ويود من حمل القنا لو أصبحت ... تلك الأداة على الكمي الأروع
إلا تكن في الجمع أمضى طعنةً ... فلأنت أمضى خطبةً في المجمع
وقال: من الطويل
ألا ناشدٌ ذاك الجناب الممنعا ... وجرداً يناقلن الوشيج المزعزعا
ومن يملأ الأيام بأساً ونائلاً ... وتثنى له الأعناق خوفاً ومطعما
أجلى إليه ذلك الخطب مقدماً ... وقد كان لا يلقاه إلا مروعا
وجاز أضاميم الجياد مغيرةً ... وحيي نزار حاسرين ودرعا
وسمر عقيل تحمل الموت أحمراً ... وبيض عقيل تقطر السم منقعا
ولم يخش من حد الصوارم مضرباً ... ولم يلق من أيدي القبائل مدفعا
رأى ورق البيض الخفاف هشائماً ... وشوك العوالي ناصلاً ومنزعا
هو القدر الألوى الذي يقص القنا ... ويلوي من الجبار جيداً وأخدعا
وأبيض من عليا معد سما به ... إلى السورة العليا أب غير أضرعا
كأنك تلقى سنة البدر طالعاً ... إذا ابتدر القوم الرواق المرفعا
فإن ألهبت فيه الحفيظة خلته ... وراء اللثام الأرقم المتطلعا
يقوم اهتزاز الرمح خبت كعوبه ... ويعقد إقعاء ابن غيل تسمعا
ضمامٌ عن الهم الذي بات ضيفه ... جموعٌ على الأمر الذي كان أزمعا
صليبٌ على قرع الخطوب كأنما ... يرادين طوداً من عماية أفرعا
فبعداً لطيب العيش بعد فراقكم ... ولا أسمع الداعي إليه ولا دعا
ألا أسفاً للدهر إن صد مؤيساً ... ولا مرحباً بالدهر إن عاد مطمعا
وإن عثر الأحياء من بعد يومكم ... فلا دعدعا للعاثرين ولا لعا
وقال يرثي إبراهيم بن ناصر الدولة الحسن بن حمدان وقد قتله أبو الذواد محمد بن المسيب العقيلي: من الكامل
ألقي الرماح ربيعة بن نزار ... أودى الردى بقريعك المغوار
وترجلي عن كل أجرد سابحٍ ... ميل الرقاب نواكس الأبصار
ودعي الأعنة من أكفك إنها ... فقدت مصرفها ليوم مغار
وتجنبي جر القنا فلقد مضى ... عنهن كبش الفيلق الجرار
اليوم صرحت النوائب كيدها ... فينا وبان تحامل الأقدار
أين الجياد مللن من طول السرى ... يقذفن بالمهرات والأمهار
في معشر غلب الرقاب جحاجح ... غلبوا على الأقدار والأخطار
من كل أروع طاعنٍ أو ضاربٍ أو واهبٍ أو خالعٍ أو قار
ركبوا رماحهم إلى أغراضهم ... أمم العلى وجروا بغير عثار
واستنزلوا أرزاقهم بسيوفهم ... فغنوا بغير مذلة وصغار
كانوا هم الحي اللقاح وغيرهم ... ضرع على حكم المقاول جار
لا ينبذون إلى الخلائف طاعةً ... بقعاقع الإيعاد والإنذار
عقدوا لواءهم ببيض أكفهم ... كبراً عن العقاد والأمار
واستفظعوا خلع الملوك وأيقنوا ... أن اللباس لها أدراع العاري

كثر النصير لهم فلما جاءهم ... أمر الردي وجدوا بلا أنصار
هم أعجلوا داعي المنون تعرضاً ... للطعن بين ذوابل وشفار
أوليس يكفينا تسلط بأسها ... حتى نسلطها على الأعمار
نزلوا بقارعة تشابه عندها ... ذلك العبيد وعزة الأحرار
خرسٌ قد اعتنقوا الصفيح وطالما اع ... تنقوا الصفائح والدماء جوار
شرفاً بني حمدان إن نفوسكم ... من خير عرق ضاربٍ ونجار
أنفت من الموت الذليل فأشعرت ... جلداً على وقع القنا الخطار
تتابع أهلي فمات منهم أحد عشر من عصبتي وجماعة من إخواني في مدة تقاربها فرثيتهم بهذه الأبيات: من الطويل.
يقولون صبراً عن محبتك الألى ... دعا بهم داعي المنون إلى القبر
أبي وبني ابني وولدي تتابعوا ... سراعاً وإخواني فعز بهم صبري
فلو أن ميتاً يرتجى منه أوبةٌ ... صبرت ولكن لا إياب إلى الحشر
وهم سلكوا نحو الردى فتتابعوا ... إليه كما انفض الجمان من النحر
إذا أنست نفسي الأسى عز فقدهم ... بحيهم أخنت عليه يد الدهر
فقدت بهم أنس الصديق وراحة ال ... رفيق وريحان العشا وقوي الأزر
غنينا زماناً في سرور وغبطةٍ ... وعيش رخي غير ضنك ولا وعر
تطالعنا الأيام لا تستطيعنا ... ويرنو إلينا الدهر بالنظر الشزر
تسر الأودّا بالسلامة والغنى ... وتعتبر الأعداء بالعدد الدثر
فما برحت زرق العيون تصيبنا ... إلى أن أصابت عندنا سالف الوتر
إلى الله أشكو يوم أهلي ومعشري ... وعادية ضاقت لها ساعة الصبر
فيا رب أنت العدل في ما قضيته ... فلا تحبطن في لوعتي بهم أجري
أسر إذا نوديت حباً إليهم ... سرور رياض آنست نبأة القطر

الفصل الثاني
مراثي الأهل والإخوان
تمثل علي كرم الله وجهه عند قبر فاطمة عليها السلام: من الطويل
لكل اجتماعٍ من خليلين فرقةٌ ... وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحداً بعد واحد ... دليل على أن لا يدوم خليل
تروي لشقران السلاماني وأولها:
ذكرت أبا أروى فبت كأنني ... برد الهموم الماضيات كفيل
وقال النابغة الذبياني: من البسيط
حسب الخليلين نأي الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها بال
وقال بعض العرب يرثي قومه: من الطويل
أبعد بني عمرو على داره النقا ... يرجى البنون أو تطيب الموارث
أرى الأرض مذ حلوا ثراها بسيطةً ... وقد قلبت عنها الجبال المواكث
وأستجدب الدار الخصيبة بعدهم ... وفيها الغوادي والرياض الأثائث
لعمر الأكف الضارحات لحودهم ... لقد زل عنهن النجوم الغوائث
لقد غادروني بعدهم لحمة العدى ... وطعمة ما تبغي الخصوم العوائث
أضام فلا يأوي لضيمي مانعٌ ... وأظلم لا يأتي بصوتي غائث
وأعطي بكفي للقليل من الأذى ... وقد كنت يخشاني الألد المماغث
وحيداً بنفسي لا ألايم منزلاً ... كما اعتزل النسك النساء الطوامث
إذا ضافني هم وضقت بذرعه ... ظهرت بأين المصرخون المغاوث
ولا خير في فرع تجاذبه الصبا ... إذا ذهبت عنه الأصول اللوابث
ورثتك الملح الأجاج على الصدى ... وإن قيل أثرى أو تمتع وارث
أمصغيةٌ أحداثكم فأزيزها ... منادب فيها للدموع بواعث
وأصدر حاجات عنيت بحملها ... فقد يمحق الهم الأنيس المنافث
وما كنت أرضى بالغمام لتربكم ... لو انبعثت عني العروق الفوارث

وإني مذ أمهلت نفسي بعدكم ... فواقاً لمضعوف الوثيقة ناكث
وقال صخر بن عمرو أخو الخنساء يرثي أخاه معاوية: من الطويل
إذا ما امرؤ أهدى لميت تحية ... فحياك رب الناس عني معاويا
وهون وجدي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل عليه بماليا
وذي إخوة قطعت أقران بينهم ... كما تركوني واحداً لا أخاً ليا
وقال آخر: من الطويل
ومن عجب أن بت مستشعر الثرى ... وبت بما زودتني متمتعا
ولو نني أنصفتك الود لم أبت ... خلافك حتى ننطوي في الثرى معا
وقال آخر: من الطويل
أبعد الذي بالنعف نعف كويكبٍ ... رهينة رمس ذي تراب وجندل
أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهدٌ غير مؤتلي
وقال لبيد بن ربيعة يرثي أخاه أربد: من الطويل
لعمري لئن كان المخبر صادقاً ... لقد رزئت في حادث الدهر جعفر
أخ لي أما كل شيء سألته ... فيعطي وأما كل شيء فيغفر
فإن يك نوء من سحابٍ أصابه ... فقد كان يعلو في اللقاء ويظفر
وقال دريد بن الصمة: من الطويل
تقول لا تبكي أخاك وقد أرى ... مكان البكا لكن بنيت على الصبر
فقلت أعبد الله أبكي أم الذي ... له الجدث الأعلى قتيل أبي بكر
وعبد يغوث أو خليلي خالداً ... وعز مصاباً حثو قبرٍ على قبر
أبي القتل إلا آل صمة إنهم ... أبوا غيره والقدر يجري إلى القدر
يغار علينا واترين فيشتفي ... بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
بذاك قسمنا الدهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلا ونحن على شطر
وقال دريد أيضاً: من الطويل
عاذلتي كل امرئ وابن أمه ... متاعٌ كوعد الراكب المتزود
أعاذل إن الرزء أمثال خالدٍ ... ولا رزء فيما أهلك المرء عن يد
دعاني أخي والخيل بيني وبينه ... فلما دعاني لم يجدني بقعدد
فما زلت حتى جرحتني رماحهم ... وغودرت أكبو في القنا المتقصد
قتال امرئ آسى أخاه بنفسه ... ويعلم أن المرء غير مخلد
قليل التشكي للمصيبات حافظ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وقال إبراهيم بن العباس يرثي ابنه: من الكامل المجزوء
كنت السواد لمقلة ... تبكي عليك وناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
وهو مأخوذ من قول أبي نواس: من الطويل
طوى الموت ما بيني وبين محمدٍ ... وليس لما تطوي المنية ناشر
وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
وقول الآخر: من الطويل
أجاري ما أزداد إلا صبابةً ... عليك وما تزداد إلا تنائيا
أجاري لو نفس فدت نفس ميت ... فديتك مسروراً بنفسي وماليا
وقد كنت أرجو أن أملاك حقبةً ... فحال قضاء الله دون رجائيا
إلا ليمت من شاء بعدك إنما ... عليك من الأقدار كان حذاريا
وقالت فاطمة بنت الأحجم: من الكامل
قد كنت لي جبلاً ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاح
قد كنت ذات حميةٍ ما عشت لي ... أمشي البراز وكنت أنت جناحي
فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراح
وأغض من بصري وأعلم أنه ... قد بان حد فوارسي ورماحي
وقالت صفية الباهلية: من البسيط
كنا كغصنين في جرثومة سمقا ... حيناً بأحسن ما يسمو له الشجر
حتى إذا قيل قد طالت فروعهما ... وطاب فيئهما واستنظر الثمر
أخنى على واحدي ريب الزمان وما ... يبقي الزمان على شيء ولا يذر
فاذهب حميداً على ما كان من حدثٍ ... فقد ذهبت وأنت السمع والبصر
كنا كأنجم ليل بينها قمر ... يجلو الدجى فهوى من بيننا القمر

كان المأمون يحب أخاه أبا عيسى بن الرشيد حباً شديداً ويعده للأمر بعده، فمات في سنة تسع ومائتين، فقال المأمون: حال القدر دون الوطر.
وصلى عليه ونزل في قبره وبكى ساعة ثم مسح عينيه وتمثل: من الطويل
سابكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك مني ما تجن الجوانح
كأن لم يمت حي سواك ولم يقم ... على أحد إلا عليك النوائح
وهي من أبيات لأشجع السلمي قد ذكرتها في موضعها. ثم التفت إلى أحمد ابن أبي دواد مستنطقاً فقال: هيه يا أحمد، فتمثل بقول عبدة بن الطبيب: من الطويل
عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أوليته منك نعمةً ... إذا زار عن شحطٍ بلادك سلما
فلما كان قيس هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قوم تهدما
فبكى ساعةً ثم التفت إلى عمرو بن مسعدة فقال: هيه يا عمرو فقال: من الكامل
بكوا حذيفة لن تبكوا مثله ... حتى تعود قبائل لم تخلق
قال: فإذا عريب وجوارٍ معها يسمعن ما يدور بينهم، فقالت: اجعلوا لنا معكم في القول نصيباً، فقال المأمون: قولي فرب صواب منك كثير، فقالت: من الطويل
كذا فليجل الخطب أو يفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
كأن بني العباس يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر
لما دفن سليمان بن عبد الملك ابنه أيوب وقف على قبره ينظر إليه ثم قال: من السريع
كنت لنا أنساً ففارقتنا ... فالعيش من بعدك مر المذاق
ثم قرب دابته فركب وقال: من الطويل
وقوفٌ على قبر مقيم بقفرة ... متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارق
ثم قال السلام عليك، ثم عطف دابته وقال: من البسيط
فإن صبرت فلم ألفظك من شبعٍ ... وإن جزعت فعلقٌ منفسٌ ذهبا
وقال سليمان عند موت ابنه لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة: إي لأجد في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة، فقال عمرك اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك بالصبر. فنظر إلى رجاء بن حيوة كالمستريح إلى مشورته فقال رجاء: أفضها يا أمير المؤمنين فما بذاك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وقال: العين تدمع، والقلب يوجع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون. فأرسل سليمان عينه فبكى حتى قضى أرباً ثم أقبل عليهما وقال: لو لم أنزف هذه العبرة لا تصدعت كبدي، ثم لم يبك بعدها.
قال أبو ذؤيب الهذلي: من الطويل
يقولون لي لو كان بالرمل لم يمت ... نشيبة والطراق يكذب قيلها
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت ... إليه المنايا عينها ورسولها
وقال معن بن زائدة يرثي ابن المقفع: من البسيط
كذبتك الود لم تقطر عليك دماً ... عيني ولم تنقطع نفسي من الحزن
عزى عبد الرحمن بن أبي بكرة سليمان بن عبد الملك فقال: إنه من طال عمره فقد الأحبة، ومن قصر عمره كانت مصيبته في نفسه.
وكتب محمد بن عيسى الكاتب إلى صديق له: من سره امتداد عمره، ساءته فجائع دهره، بفقد حميم أو طارق هموم، عادة للزمان مألوفة، وسنة للحدثان معروفة، وأحق من سلم للأقضية من وهب الله تعالى له جميل الاصطبار، فإن أصابته مصيبة تلقاها مصطبراً، وإن نابته نائبة وجدته محتسباً.

لما مات ذر بن عمر بن ذر الهمذاني، وكان موته فجاءة، أتاه أهل بيته يبكونه فقال: ما لكم؟ إنا والله ما ظلمنا ولا قهرنا، ولا ذهب لنا بحق، ولا أخطئ بنا، ولا أريد غيرنا، وما لنا على الله معتب. فلما وضعه في قبره قال: رحمك الله يا بني، والله لقد كنت بي بارً، ولقد كنت عليك حدباً، وما بي إليك من وحشة، ولا لي إلى أحدٍ بعد الله فاقة، ولا ذهبت لنا بعز، ولا أبقيت علينا من ذل. ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك. يا ذر ماذا قيل لك وماذا قلت؟ ثم قال: اللهم إنك وعدتني الثواب بالصبر على ذر، اللهم فعلى ذر صلواتك ورحمتك، واللهم إني قد وهبت ما جعلت لي من أجر على ذر لذر صلة مني له، فلا تعرفه قبيحاً وتجاوز عنه فإنك أرحم الراحمين. اللهم وإني قد وهبت لذر إساءته إلي فهب له إساءته إليك، فإنك أجود مني وأكرم. فلما ذهب لينصرف قال: يا ذر قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك.
وقال شاعر: من الطويل
إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعاً ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر
وقال هشام أخو ذي الرمة: من الطويل
تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاء وجفن العين ملآن مترع
نعى الركب أوفى حين آبت ركابهم ... لعمري لقد جاءوا بشر فأوجعوا
نعوا باسل الأفعال لا يخلقونه ... تكاد الجبال الشم منه تصدع
فلم ينسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع
وقال حريث بن زيد الخيل: من الطويل
ألا بكر الناعي بأوس بن خالدٍ ... أخي الشتوة الغبراء والزمن المحل
فلا تجزعي يا أم أوس فإنه ... تصيب المنايا كل حاف وذي نعل
ولولا الأسى ما عشت في الناس ساعةً ... ولكن إذا ما شئت جاوبني مثلي
والبيت الأخير يروي للشمردل بن شريك.
ومثله لنهشل بن حري: من الطويل
أغر كمصباح الدجنة يتقي ... قذى الزاد حتى تستفاد أطايبه
وهون وجدي عن خليلي أنه ... إذا شئت لاقيت امرءاً صاحبه
أخ ماجدٌ لم يخزني يوم مشهدٍ ... كما سيف عمرو ولم تخنه مضاربه
وروي أن الإسكندر كتب إلى أمه قبل وفاته بقليل: إذا وصل إليك كتابي هذا فاجمعي أهل بلدك، وأعدي لهم طعاماً، ووكلي بالأبواب من يمنع من أصابته مصيبةٌ في أب أو أم أو أخ أو أخت أو ابن أو أهل أو حبيب أو صديق من حضور ذلك الطعام، ولا يحضرنه إلا من لم يصب بمصيبة قط في أحدٍ. فلما ورد الكتاب عليها أمرت بالطعام فاصطنع، ووكلت بالأبواب قوماً لا يأذنون لأحدٍ إلا بعد أن يسألوه عن مصابه في أهله وناسه، فصدر الناس ولم يبق أحد. فلما رأت ذلك تعزت وصبرت وأيقنت بالحال وقالت: إن الإسكندر عزاني عن نفسه.
لما مات العباس بن المأمون جزع عليه المعتصم جزعاً شديداً وامتنع من الطعام، وأمر أن لا يحجب عنه أحدٌ للتعزية. فدخل أعرابي في غمار الناس فأنشده: من الكامل
اصبر نكن لك تابعين وإنما ... صبر الجميع بحسن صبر الراس
خير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعباس
فتسلى ودعا بالطعام.
كذا وجدت الخبر وأظنه سهواً، فإن العباس مات في حبس المعتصم، فكيف يجزع عليه هذا الجزع وهو كان المتهم بقتله، وخبره حيث أراد الفتك بالمعتصم ومواطأة عجيف عليه مشهور، وأظنه العباس بن الفضل بن الربيع، والمعزى به أبوه.
وقال البراء بن ربعي: من الطويل
أبعد بني أمي الذين تتابعوا ... أرجى الحياة أم من الموت أجزع
ثمانية كانوا ذؤابة قومهم ... بهم كنت أعطى ما أشاء وأمنع
أولئك إخوان الصفاء رزئتهم ... وما الكف إلا إصبعٌ ثم إصبع
وقال الغطمش الضبي: من الطويل
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
أخلاي لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الدهر معتب
وقال أرطأة بن سهية المري: من الطويل
هل أنت ابن ليلى إن نظرتك رائح ... مع الركب أم غادٍ غداة غدٍ معي

وقفت على قبر ابن ليلى فلم يكن ... وقوفي عليه غير مبكي ومجزع
عن الدهر فاصفح إنه غير منته ... وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع
وقال آخر: من الطويل
عجبت لصبري بعده وهو ميتٌ ... وكنت له أبكي دماً وهو غائب
على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
وقال رجل يرثي أباه: من الطويل
تحل رزيات وتغزو مصائبٌ ... ولا مثل ما أنحت علينا يد الدهر
لقد عركتنا للزمان ملمةٌ ... أذمت بمحمود الجلادة والصبر
لما أتى معاوية موت عتبة أخيه تمثل: من الطويل
إذا سار من خلف امرئٍ وأمامه ... وأوحش من أصحابه فهو سائر
فلما أتاه موت زياد تمثل: من الطويل
وأفردت سهماً في الكنانة واحداً ... سيرمى به أو يكسر السهم كاسر
تمثلت عائشة عند قبر عبد الرحمن بن أبي بكر بقول متمم بن نويرة: من الطويل
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماعٍ لم نبت ليلة معا
وروي أن متمماً صلى مع أبي بكر رضي الله عنه الفجر في عقب قتل أخيه، فلما صلى أبو بكر قام تمم بحذائه فاتكاً على سية قوسه ثم قال: من الكامل
نعم القتيل إذا الرياح تناوحت ... خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور
أدعوته بالله ثم غدرته ... لو هو دعاك بذمة لم يغدر
وكان خالد بن الوليد أمر ضرار بن الأزور بقتله، في خبر طويل وأومأ متمم إلى أبي بكر فقال أبو بكر فقال أبو بكر قام متمم بحذائه فاتكاً على سية قوسه ثم قال: من الكامل
نعم القتيل إذا الرياح تناوحت ... خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور
أدعوته بالله ثم غدرته ... لو هو دعاك بذمةٍ لم يغدر
وكان خالد بن الوليد أمر ضرار بن الأزور بقتله، في خبر طويلٍ وأومأ متمم إلى أبي بكر فقال أبو بكر: والله ما دعوته ولا غدرته. ثم أتم شعره فقال: من الكامل
لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه ... حلوٌ شمائله عفيف المئزر
ولنعم حشو الدرع كنت وحاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المتنور
ثم بكى وانحط على سية قوسه، وكان أعور دميماً، فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء، فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: لوددت أني أشعر فكنت أرثي أخي زيداً مثلما رثيت به أخاك مالكاً. فقال: يا أبا حفص، والله لو علمت أن أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيته. فقال عمر: ما عزاني أحد عن أخي بمثل تعزيته. وجاء في لفظ آخر: إن أخي قتل في عميته.
وروي أن متمماً رثى زيداً أخا عمر فلم يجد، فقال له عمر: لم ترث زيداً كما رثيت مالكاً فقال: إنه والله ليحركني لمالك ما لا يحركني لزيد.
وقال متمم يرثي مالكاً أيضاً: من الطويل
جميل المحيا ضاحكٌ عند ضيفه ... أغر جميع الرأي مشترك الرحل
وقورٌ إذا القوم الكرام تقاولوا ... فحلت حباهم واستطيروا من الجهل
وكنت إلى نفسي أشد حلاوةً ... من الماء بالماذي من عسل النحل
وكل فتى في الناس بعد ابن أمه ... كساقطةٍ إحدى يديه من الخيل
وبعض الرجال نخلةٌ لا جنىً لها ... ولا ظل إلا أن تعد من النخل
وقال لبيد بن ربيعة يرثي أخاه أريد وأحرقته صاعقة، وخبره في موضع آخر: من المنسرح
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد
فجعني البرق والصواعق بال ... فارس يوم الكريهة النجد
يا عين هلاً بكيت أربد إذ ... قمنا وقام العدو في كبد
ما إن تعري المنون من أحدٍ ... لا والدٍ مشفقٍ ولا ولد
وقال أيضاً: من الكامل
يا أربد الخير الكريم جدوده ... غادرتني أمشي بقرنٍ أعضب
إن الرزية لا رزية مثلها ... فقدان كل أخٍ كضوء الكوكب
وقال رجل من قريش تتابع له بنون: من الطويل

لقد شمت الأعداء بن وتغيرت ... عيون أراها بعد موت أبي عمرو
تجر علي الدهر لما فقدته ... ولو كان حياً لاجترأت على الدهر
وقاسمني دهري بني مشاطراً ... فلما توفى شطره مال في شطري
وقال أبو ذؤيب الهذلي يرثي بنيه وتتابعوا: من الكامل
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
قالت أمامة ما لجسمك شاحباً ... منذ ابتدلت ومثل مالك ينفع
أم ما لجسمك لا يلائم مضجعاً ... إلا أقض عليك ذاك المضجع
فأجبتها أما لجسمي إنه ... أودى بني من البلاد فودعوا
أودى بني وأعقبوني حسرةً ... بعد الرقاد وعبرة ما تقلع
فالعين بعدهم كأن حداقها ... سملت بشوك فهي عورٌ تدمع
سبقوا هوي وأعتقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنب مصرع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتجلدي للشامتني أريهم ... أني لريب الدهر لا تضعضع
كان لزهير بن أبي سلمى ابن يقال له سالم، جميل الوجه، حسن الثغر، وبعث إليه رجل بردتين فلبسهما الفتى وركب فرساً، فمر بامرأة من العرب فقالت: ما رأيت كاليوم قط رجلاً ولا بردتين ولا فرساً، فعثرت به الفرس فاندق عنق الفرس وعنق سالم وانشقت البردتان، فقال زهير يرثي ابنه سالماً: من الطويل
رأت رجلاً لاقى من العيش غبطةً ... سلامة أعوامٍ له وغنائم
فأصبح محبوراً ينظر حوله ... بمغبطة لو أن ذلك دائم
وعندي من الأيام ما ليس عنده ... فقلت تعلم إنما أنت حالم
لعلك يوماً أن ترعي بفاجعٍ ... كما راعني يوم النساءة سالم
وقالت ليلى الأخيلية: من الطويل
آليت أبكي بعد توبة هالكاً ... وأحفل من دارت عليه الدوائر
وقالت امرأة ترثي زوجها ولم يكن دخل بها: من المنسرح
أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والفرس
أبكي على فارس فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس
يا فارساً بالعراء مطرحاً ... خانته قواده مع الحرس
من لليتامى إذا هم شغبوا ... وكل عانٍ وكل محتبس
أمن لبر أمن لقائدةٍ ... أمن لذكر الإله في الغلس
وقالت الذلفاء بنت الأبيض ترثي زوجها وابن عمها نجدة: من البسيط
يا قبر نجدة لم أهجرك مقليةً ... ولا سلوتك عن صبرٍ ولا جلد
لكن بكيتك حتى لم أجد مدداً ... من الدموع ولا عوناً على الكمد
وأيأستني جفوني من مدامعها ... فقلت للعين جودي من دم الكبد
فلم أزل بدمي أبكيك جاهدةً ... حتى بقيت بلا روح ولا جسد
وقالت أيضاً ترثيه: من الطويل
سئمت حياتي يوم فارقت نجدةً ... ورحت وماء العين ينهل هامله
ولم أر مثل الموت للنفس راحةً ... يعاجلها من بعده أو تعاجله
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ترثي زوجها عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عنهما: من الطويل
آليت لا تنفك عيني حزينةً ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
فلله عينا من أر مثله فتى ... أكر وأحمى في الهياج وأصبرا
إذا أشرعت فيه الأسنة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الجون أشقرا
وكان عبد الله بن أبي بكر يجد بعاتكة وجداً شديداً، فاجتاز به أبوه راجعاً من الجمعة وعبد الله يناغيها، فقال: يا عبد الله أجمعت؟ قال: أوصلي الناس؟ قال: نعم، وقد كانت شغلته عن سوق وتجارة كان فيها، فقال له أبو بكر: قد شغلتك عاتكة عن المعاش والتجارة، وقد ألهتك عن فرائض الله، طلقها، فطلقها تطليقةً، وتحولت إلى ناحية الدار، فبينا أبو بكر يصلي على سطح له في الليل إذ سمعه وهو يقول: من الطويل
أعاتك لا أنساك ما ذر شارقٌ ... وما ناح قمري الحمام المطوق
لها خلق جزل ورأي ومنصبٌ ... وخلقٌ سويٌ في حياء ومصدق

فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير شيء تطلق
فرق له أبو بكر وقال: يا عبد الله راجع عاتكة، فقال: أشهدك أني قد راجعتها. وأشرف على غلام له يقال له أيمن فقال: يا أيمن أنت حر لوجه الله، أشهدك أني قد راجعت عاتكة. ثم خرج يجري إليها وأعطاها حديقةً حين راجعها على أن لا تتزوج بعده.
فلما قتل عبد الله من السهم الذي أصابه بالطائف خطبها عمر بن الخطاب فذكرت له أمر الحديقة فاستفتى لها علي بن أبي طالب فقال: ردي الحديقة على أهله وتزوجي، ففعلت. ودعا عمر رضي الله عنه جماعة من أصحاب النبي عليه السلام فيهم علي بن أبي طالب، فقال له علي: إن لي إلى عاتكة حاجة أريد أن أذكرها إياها، فقل لها تستتر حتى أكلمها. فقال لها عمر: استتري يا عاتكة فإن ابن أبي طالب يريد أن يكلمك، فأخذت مرطها فلم يظهر منها إلا ما بدا من براجمها، فقال يا عاتكة: من الطويل
فأقسمت لا تنفك عيني سخينةً ... عليك ولا ينفك جلدي أصفر
فقال له: يرحمك الله وإذا أردت إلى هذا؟ فقال علي: وما أرادت إلى أن تقول ما لا تفعل، وقد قال الله عز وجل: " كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " الصف: 3 هذا شيء كان في نفسي أحببت أن يخرج، فقال عمر: ما حسن الله فهو حسن.
ولما قتل عنها عمر تزوجت الزبير بن العوام، فلما قتل تزوجت بعده الحسين ابن علي، فكانت أول من رفع خده من التراب يوم قتل. وتأيمت بعد فخطبها مروان بن الحكم فقالت: ما كنت لأتخذ حمواً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولها في كل واحد من أزواجها مراثٍ مشهورة.
ولما قتل عنها الزبير خطبها علي عليه السلام فقالت: إني لأضن بك يا ابن عم رسول الله عن القتل. وكان عبد الله بن عمر يقول من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة.
كاتب: ولكنه أمر الله الذي لا مدفع له، وحكمه الذي لا حيف فيه، وقدره الذي سوى فيه بين عباده، فليس للساخط فيه عتبى، ولا للراضي منه منجى، وليس إلا الانقياد فيه لنازل القضاء. جعلك الله ممن يتلقى أمره بالقبول، وأقداره بالتسليم، وأصحبك في هذه الحال وفي كل حال التوفيق والتسديد حتى تجوز في المحنة ثواب الصابرين، وفي النعمة مزيد الشاكرين.
آخر: أعقبك الله من فراقه عظيم الثواب، وأعقبه من دنياه حسن المآب.
لما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن وحمل رأسه إلى المنصور، أنفذه المنصور مع الربيع إلى أبيه وعميه إدريس ومحمد، وكانوا في حبسه، فوضعه بين أيديهم، وكان أبوه عبد الله قائماً يصلي، فقال له محمد: أوجز في صلاتك، فأوجز وسلم وأخذ الراس فوضعه في حجره وقال: أهلاً وسهلاً يا أبا القاسم، والله لقد كنت من الذين قال الله فيهم: " الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل " الرعد: 20 - 21 ثم قبله وأنشد: من الطويل
فتى كان يحميه من العار سيفه ... ويكفيه سوءات الأمور اجتنابها
ثم قال للربيع: قل لصاحبك قد مضى بؤسنا أيام، ومن نعيمك أيام، والملتقى بين يدي الله في غدٍ، فما رؤي في المنصور انكسار مثل ذلك اليوم.
لأم معدان الأنصارية: من البسيط
لا يبعد الله فتياناً رزئتهم ... بانوا لوقت مناياهم فقد بعدوا
أضحت قبورهم شتى ويجمعهم ... زو المنون ولم يجمعهم بلد
رغوا من المجد أكنافاً إلى أجلٍ ... حتى إذا بلغت أظماؤهم وردوا
كانت لهم هممٌ فرقن بينهم ... إذا القعادد عن أمثالها قعدوا
فعل الجميل وتفريج الجليل وإع ... طاء الجزيل إذا لم يعطه أحد

وقال الأصمعي: دفعت يوماً في تلمسي بالبادية إلى واد خلاء لا أنيس به إلا بيت معتز، بفنائه أعتز، وقد ظمئت فيممته فسلمت فإذا عجوز قد برزت كأنها نعامة راخم، فقلت: هل من ماء؟ فقالت: أو لبن؟ فقلت: ما كانت بغيتي إلا الماء فإذا يسر الله اللبن فإني إليه فقير. فقامت إلى قعبٍ فأفرغت فيه ماء ونظفته وغسلته، ثم جاءت إلى الأعنز فتغبرتهن حتى احتلبت قراب ملئ القعب ثم أفرغت عليه ماء حتى رغا وطفت ثمالته كأنها غمامةٌ بيضاء، ثم ناولتني إياه فشربت حتى تحببت رياً واطمأنت فقلت: إني أراك معتنزةً في هذا الوادي الموحش، والحلة منك قريب، فلو انضممت إلى خبائهم فأنست بهم، قالت: يا ابن أخي، إني لآنس بالوحشة وأستريح إلى الوحدة، ويطمئن قلبي إلى هذا الوادي الموحش، فأتذكر من عهدت، فكأني أخاطب أعيانهم، وأتراءى أشباحهم، وتتخيل إلي أندية رجالهم، وملاعب ولدانهم، ومندى أموالهم، والله يا ابن أخي لقد رأيت هذا الوادي بشع اللديدين بأهل أدواح وقباب، ونعم كالهضاب، وخيل كالذئاب، وفتيان كالرماح، يبارون الرياح، ويحمون الصباح، فأحال عليهم الجلاء قماً بغرفةٍ، فأصبحت الآثار دارسة، والمال خامسةً وكذلك سيرة الدهر في من وثق به. ثم قالت: ارم بعينيك في هذا الملأ المتباطن، فنظرت فإذا قبور نحو من أربعين أو خمسين؛ فقلت: أترى تلك الأجداث؟ قلت: نعم. قالت: ما انطوت إلى على أخٍ أو ابن أخٍ أو عم أو ابن عم، فأصبحوا قد ألمأت عليهم الأرض، وأنا أنتظر ما غالهم. انصرف راشداً رحمك الله.
الغريب: المعتز: المنفر، والراخم: التي تحضن بيضها، وتغبرتهن: اجتلبت الغبر وهو بقية اللبن في الضرع وجمعه أغبار، وقراب وقريب واحد مثل كبار وكبير، والثمالة، الرغوة، وتحببت: امتلأت، والمندى: المكان الذي يندى فيه المال، وبشع: ملآن، واللديدان: الجانبان، وقماً: كنساً، والقمامة: الكناسة والمقمة: المكنسة، والغرفة: الواحدة من الغرف وهو ضرب من الشجر، والمتباطن: المتطامن، وألمأت علهم: احتوت عليهم، وتلمأت عليه الأرض استوت عليه ووارته.
دخل قوم على سليمان بن علي يعزونه بمصيبةٍ نالته فكثر كلامهم فقال سليمان: إنما أموالنا وأنفسنا من مواهب الله الحسنة وعواريه الجميلة، نمتع بما أمتع منها في سرور وغبطة، ونسلب ما سلب منها بأجرٍ وحسبة، فمن غلب جزعه صبره حبط أجره.
قال عبد الله بن يعقوب بن داود: جاءنا سفيان بن عيينة يعزي أبي عن عمي فقال: من البسيط
كيف أعزيك والأحداث مقبلةٌ ... فيها لكل امرئ في نفسه شغل
فقال له أبي: يعزى من بلغت النوبة إليه وأنشد: من الطويل
وما أنا بالمخصوص من بين من ترى ... ولكن أتتني نوبتي في النوائب
مسلمة الجعفي: من الطويل
فتى لا يعد المال رباً ولا ترى ... به جفوةً إن نال مالاً ولا كبرا
وكنت أرى نأياً به بين ليلةٍ ... فيكف بين صار ميعاده الحشرا
كلثوم بن عمرو العتابي: من الخفيف
غر من ظن أن يفوت المنايا ... وغراها قلائد الأعناق
أينا قدمت سهام المنايا ... فالذي أخرت سريع اللحاق
ندبت أعرابية ابنها فقالت: لم يكن مالك لبطنك، ولا برك لعرسك.
أبنت الخنساء أخاها صخراً فقالت: لقد كان كريم الجدين، واضح الخدين، يأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد.
جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك.
مات عبد الله بن مطرف فخرج مطرف في ثياب حسنة وقد ادهن، فأنكروا عليه، قال: أفأستكين لها وقد وعدني ربي عليها ثلاثاً إحداهن أحب إلي من الدنيا وما فيها " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " البقرة: 157.
سمع الحسن امرأة تبكي خلف جنازة وتقول: يا أبتاه مثل يومك لم أره، فقال لها: بل أبوك مثل يومه لم يره.
عزت أعرابية قوماً فقالت: جافى الله عن ميتكم الثرى، وأعانه على طول البلى، وآجركم ورحمه.
الرضي: من الطويل
ولا عجب أن تمطر العين فوقه ... فإن سواد العين فيه دفين
وقال أبو خراش الهذلي: من الطويل
تقول أراه بعد عروة لاهياً ... وذلك رزء لو علمت جليل
فلا تحسبي أني تناسيت عهده ... ولكن صبري يا أميم جميل

ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... خليلاً صفاء مالك وعقيل
وقال الخريمي: من الطويل
تذكرني شمس الضحى نور وجهه ... فلي لحظاتٌ نحوها حين تطلع
وأعددته ذخراً لكل ملمةٍ ... وسهم المنايا بالذخائر مولع
وإني وإن أظهرت مني جلادةً ... وصانعت أعدائي عليه لموجع
ملكت دموع العين حين رددتها ... إلى ناظري وأعين القلب تدمع
ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وأيقنت أن الحي لا بد هالك ... وأن الفتى في أهله لا يمتع
وقال مسلم بن الوليد في إسماعيل بن جامع: من الطويل
وإني وإسماعيل يوم فراقه ... لكالغمد يوم الروع فارقه النصل
فإن أغش قوماً بعده أو أزرهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحل
وقال كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار: من الطويل
تقول سليمى ما لجسمك شاحباً ... كأنك يحميك الشراب طبيب
تتابع أحداث ذهبن بجدتي ... وشيبن رأسي والخطوب تشيب
أتى دون حلو العيش حتى أمره ... نكوبٌ على آثارهن نكوب
لعمري لئن كانت أصابت مصيبةٌ ... أخي والمنايا بالرجال شعوب
لقد كان أما حلمه فمروح ... علينا وأما جهله فعزيب
حليم إذا ما زين الحلم أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً ... وماذا يؤدي الليل حين يؤوب
أخ كان يكفيني وكان يعينني ... على نائبات الدهر حين تنوب
هو العسل الماذي حلماً ونائلاً ... وليثٌ إذا يلقى العدو غضوب
فتى لا يبالي أن يكون بوجهه ... إذا حاز خلات الكرام شحوب
أخو القوم لا باغ عليهم بفضله ... ولا مزمهر في الوجوه سبوب
كعالية الرمح الرديني لم يكن ... إذا ابتدر القوم النهاب يصيب
يبيت الندى يا أم عمر ضجيعه ... إذا لم يكن في المنديات حليب
إذا ما تراءاه الرجال تحفظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب
فتىً أريحي كان يهتز للندى ... كما اهتز من ماء الحديد قضيب
حليف الندى يدعو الندى فيجيبه ... سريعاً ويدعوه الندى فيجيب
وقالت أعرابية: من الطويل
لقد كنت أخشى لو تمليت خشيتي ... عليك الليالي مرها وانفتالها
فأما وقد أصبحت في قبضة الردى ... فشأن المنايا فلتصب ما بدا لها
وأنشد الأصمعي لامرأة من العرب: من الطويل
طوى الدهر ما بيني وبين أحبةٍ ... بهم كنت أعطى ما أشاء وأمنع
فلا يحسب الواشون أن قناتنا ... تلين ولا أنا من الموت نجزع
ولكن للآلاف لا بد لوعةً ... إذا جعت أقرانها تنقطع
وقال آخر: من الطويل
أيا عمرو لم أصبر ولي فيك حليةٌ ... ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر
تصبرت مغلوباً وإني لموجعٌ ... كما صبر العطشان في البلد القفر
وما كان لي حظ من الدهر غيره ... فويحي على فقدان حظي من الدهر
وقال أراكة يرثي ابنه عمراً: من الطويل
لعمري لئن أتبعت عينيك ما مضى ... به الدهر أو ساق الحمام إلى القبر
لتستنفدن ماء الجفون بأسره ... وإن كنت تمريهن من لجج البحر
تأمل فإن كان البكا رد هالكاً ... على أحدٍ فاجهد بكاك على عمرو
لما مات ابن عمر بن عبد العزيز خطب عمر الناس فقال: الحمد لله الذي جعل الموت حتماً واجباً على عباده، فسوى فيه بين قويهم وضعيفهم، ورفيعهم ودنيهم، فقال تبارك وتعالى: " كل نفس ذائقة الموت " آل عمران: 185. فليعلم ذوو النهى منهم نهم صائرون إلى قبورهم، مفردون بأعمالهم، واعلموا أن الله مسألة فاحصة قال تبارك وتعالى: " فوربك لنسالنهم أجمعين عما كانوا يعملون " الحجر: 92 - 93.

قال محمد بن عبد الله العتبي يذكر ابناً له مات: من الكامل
أضحت بخدي للدموع رسوم ... أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم
والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
وهذا معنى متداول، وقد ألم به أبو تمام فقال: من الطويل
وقد كان يدعى لابس الصبر حازماً ... فأصبح يدعى حازماً حين يجزع
رأى الحجاج في منامه أن عينيه قلعتا فطلق الهندين: هند بنت المهلب وهند بنت أسماء بن خارجة، فلم يلبث أن جاءه نعي أخيه من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه فقال: هذا والله تأويل رؤياي ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، محمد ومحمد في يوم واحد. وقال: من الطويل
حسبي بقاء الله من كل ميت ... وحسبي رجاء الله من كل هالك
إذا كان رب العرش عني راضياً ... فإن شفاء النفس فيما هنالك
وقال من يقول شعراً يسليني به؟ فقال الفرزدق: من الكامل
إن الرزية لا رزية مثلها ... فقدان مثل محمد ومحمد
ملكين قد خلت المنابر منهما ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد
فقال: لو زدتني، فقال الفرزدق: من البسيط
إني لباك على ابني يوسف جزعاً ... ومثل فقدهما للدين يبكيني
ما سد حيٌّ ولا ميتٌ مسدهما ... إلا الخلائف من بعد النبيين
فقال ما صنعت شيئاً إنما زدت في حزني، فقال: من الطويل
لئن جزع الحجاج ما من مصيبةٍ ... تكون لمحزونٍ أجل وأوجعا
من المصطفى والمصطفى من خيارهم ... جناحاه لما فارقاه فودعا
أخ كان أغنى أيمن الأرض كلها ... وأغنى ابنه أهل العراقين أجمعا
جناحا عقابٍ فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا
قال: الآن.
قال الرضي أبو الحسن الموسوي: من الكامل
برد القلوب بمن نحب بقاءه ... مما يجر حرارة الأكباد
يا ليت أني ما اتخذتك صاحباً ... كم قنيةٍ جلبت أسى لفؤادي
وأبيات الرضي هذه من عيون المراثي، ومنها:
مما يطيل الهم أن أمامنا ... طول الطريق وقلة الأزواد
ولقد كبا طرف الرقاد بناظري ... أسفاً عليك فلا لعاً لرقادي
من للبلاغة والفصاحة إن همى ... ذاك الغمام وغب ذاك الوادي
من للملوك تحز في أعدائها ... بظباً من القول البليغ حداد
من للممالك لا يزال يلمها ... بسداد أمر ضائع وسداد
من للجحافل يستنزل رماحها ... ويرد رعلتها بغير جلاد
من للموارق يسترق قلوبها ... بزلازل الإبراق والإرعاد
وصحائف فيها الأرقم كمن ... مرهوبة الإصدار والإيراد
ويكون سوطاً للحرون إذا ونى ... وعنان عنق الجامح المتمادي
ري الخدود من المدامع شاهد ... إن القلوب من الغليل صواد
ضاقت علي الأرض بعدك كلها ... وتركت أضيقها علي بلادي
وله يرثي أبا عبد الله ابن الحجاج: من المتقارب
وكم صاحب كمناط الفؤاد ... عناني من يومه ما عناني
قد انتزعت من يدي المنون ... ولم يغن ضمي عليه بناني
فزل كزيال الشباب الرطي ... ب خانك يوم لقاء الغواني
ليبك الزمان طويلاً عليك ... فقد كنت خفة روح الزمان
عزى العباس بن الحسن العلوي رجلاً فقال: إني لم آتك شاكاً في عزمك، ولا زائداً في علمك، ولا متهماً لفهمك، ولكنه حق الصديق، وقول الشقيق، فاسبق السلوة بالصبر، وتلق الحادثة بالشكر، يحسن لك الذخر، ويكمل لك الأجر.
وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا عزى رجلاً قال: ليس مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع فائدة، والموت أشد ما قبله وأهون ما بعده، واذكروا فقد رسول اله صلى الله عليه وسلم، تذل عندكم مصيبتكم، وعظم الله أجركم.

وكتب إبراهيم بن المهدي في تعزية: أما الصبر فمصير كل ذي مصيبة، غير أن الحازم يقدم ذلك عند اللوعة طلباً للمثوبة، والعاجز يؤخر ذلك إلى السلوة فيكون مغبوناً نصيب الصابرين. ولو أن الثواب الذي جعل الله تعالى لنا على الصبر كان لنا على الجزع لكان ذلك أثقل علينا، لأن جزع الإنسان قليل وصبره طويل، والصبر في أوان الجزع أيسر مؤونةً من الجزع فبد السلوة.
وقال ابن الرومي: من الطويل
شجى أن أروم الصبر عنك فيلتوي ... علي ولؤم أن يساعدني الصبر
فيا حسرتا ألا سلوٌ يطيعني ... ويا سوءتا من سلوتي إنها غدر
قال ابن السماك: كان يجلس إلي رجل مسن فبلغتني شكايته فأتيته أعوده، فإذا هو قد نزل به الموت، وإذا أم له عجوز كبيرة، ولم أكن أظن أن له أماً يومئذ. قال: فجعلت تنظر إليه حتى أغمض وعصب وسجي. قال: ثم قالت: رحمك الله قد كانت بنا براً وعلينا شفيقاً، فرزق الله عليك الصبر، وقد كنت تطيل القيام وتكثر الصيام، لا حرمك الله ما أملت من رحمته، وأحسن عنك العزاء. قال: ثم نظرت إلي فقالت: أيها القاعد قد رأيت واعظاً ونحن معك، ولو بقي أحد لأحد لبقي، فقلت في نفسي: تقول لبقي ابني لحاجتي إليه، فقالت: لبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله لأمته. فخرجت وأنا أقول: ما رأيت امرأة أجزل منها ولا أجل.
لما دخل المأمون بغداد دخلت عليه أم جعفر فقالت: يا أمير المؤمنين أهنيك بخلافة قد هنأت بها نفسي عنك قبل أن أراك، ولئن فقدت ابناً خليفةً قد عوضت ابناً خليفةً لم ألده، وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أم ملأت يدها منك، فأسأل الله تعالى أجراً على ما أخذ وإمتاعاً بما وهب.
ولما قتل الفضل بن سهل دخل المأمون إلى أمه يعزيها فيه فقال: يا أمه لا تحزني على الفضل فإني خلف لك منه، فقالت له: وكيف لا أحزن على ولد عوضني خلفاً مثلك؟ فتعجب المأمون من جوابها، وكان يقول: ما سمعت جواباً قط كان أحسن منه ولا أخلب للقلب.
مر رجل بامرأة من غاضرة وإذا ابن لها مسجىً بي يديها وهي تقول: يرحمك الله يا بني، فوالله ما كان مالك لبطنك، ولا أمرك لعرسك، ولقد كنت لي لين العطفة، يرضيك أقل مما يسخطك. قال، فقلت لها: يا أمه ألك منه خلف؟ قالت: بلى ما هو خير منه، ثواب الله تعالى والصبر على المصيبة.
لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي عليه السلام، وهي أول هاشمية ولدت هاشمياً، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله، بأبي كنت وأمي تجوعين وتشبعينني، وتعرين وتكسينني، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعمينني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه صلى الله عليه وسلم بيده ثم خلع قميصه وألبسها إياه، وكفنها فوقه، ثم دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال: الحمد لله الذي يحي ويميت وهو حي لا يموت؛ اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين. وكبر عليها أربعاً وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق.
قال أبو عبيدة: لما قتل جعفر بن علبة الحارثي قوداً قام نساء الحي يبكين عليه، وقام أبوه إلى كل شاة وناقة فنحر أولادها وألقاها بين أيديها وقال: ابكين معنا على جعفر، فما زالت النوق ترغو والشاء تثغو والنساء يصحن ويبكين وهو يبكي معهن، فما رؤي يوم كان أوجع وأحرق مأتماً في العرب من يومئذ.
الشمردل بن شريك اليربوعي يرثي أخويه قدامة ووائلاً: من الطويل
أعاذل كم من روعة قد شهدتها ... وغصة حزن من فراق أخ جزل
إذا وقعت بين الحيازيم اسدفت ... علي الضحى حتى يثبتني أهلي
أقول إذا عزيت نفسي عن اخوةٍ ... مضوا لا ضعافٍ في الحياة ولا عزل
أبى الموت إلا أن كل بني أب ... سيمسون شتى غير مجتمعي الشمل
سبيل حبيبي اللذين تبرضا ... دموعي حتى أسرع الحزن في عقلي
كأن لم نسر يوماً ونحن بغبطةٍ ... جميعاً وينزل بين رحليهما رحلي

خليلي من دون الأخلاء أصبحا ... رهيني ثواء من وفاة ومن قتل
فلا يبعدا للراغبين إليهما ... إذا اغبر آفاق السماء من المحل
فقد عدم الأضياف بعدهما القرى ... وأخمد نار الليل كل فتى وغل
وله يرثي أخاه وائلاً ويذكر سامة: من الطويل
لعمري لئن غالت أخي دار فرقةٍ ... وآب إلينا سيفه ورواحله
وحلت به أثقالها الأرض وانتهى ... بمثواه منها وهو عف مآكله
لقد ضمنت جلد القوى كان يتقى ... به جانب الثغر المخوف زلازله
وصول إذا استغنى وإن كان مقتراً ... من المال لم يخف الصديق مسائله
وصول لأضياف الشتاء كأنما ... هم عنده أيتامه وأرامله
رخيص نضيج اللحم مغلٍ بنيه ... إذا بردت عند الصلاء أنامله
أقول وقد رجمت عنه فأسرعت ... إلي بأخبار اليقين مخايله
إلى الله أشكو لا إلى الناس فقده ... ولوعة حزن أوجع القلب داخله
وتحقيق رؤيا في المنام رأيتها ... فكان أخي رمحي ترفض عامله
قيل: كان الشمردل رأى في منامه كأن سنان رمحه سقط منه فعبره فقيل له: تصاب بمن في بقائه عز، فأتاه نعي أخيه.
بمثوى غريب ليس منا مزاره ... بدانٍ ولا ذو الود منا مواصله
إذا ما أتى يومٌ من الدهر بيننا ... فيحاك عنا شرقه وأصائله
تحية من أدى الرسالة حببت ... إلينا ولم ترجع بشيء رسائله
أبى الصبر أن العين بعدك لم يزل ... يخالط جفنيها قذى ما تزايله
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات بعدك شاغله
يذكرني هيف الجنوب ومنتهى ... نسيم الصبا رمساً عليه جنادله
وهاتفةٌ فوق الغصون تفجعت ... لفقد حمام أفردتها حبائله
وسورة أيدي القوم إذ حلت الحبى ... حبى الشيب واستغوى أخا الحلم جاهله
فعيني إذ أبكاكما الدهر فابكيا ... لمن نصره قد بان منا ونائله
إذا استعبرت عوذ النساء وشمرت ... مآزر يوم لا توارى خلاخله
وأصبح بيت الهجر قد حال دونه ... وغال امرءاً ما كان يخشى غوائله
وثقن به عند الحفيظة فارعوى ... إلى صوته جاراته وحلائله
إلى ذائدٍ في الحرب لم يك خاملاً ... إذا عاذ بالسيف المجرد حامله
كما ذاد عن عريسة الغيل مخدرٌ ... يخاف الردى ركبانه ورواحله
فما كنت ألقى لامرئ عند موطنٍ ... أخاً بأخي لو كان حياً أبادله
وكنت به أغشى القتال فعزني ... عليه من المقدار ما لا أقاتله
لعمرك إن الموت منا لمولعٌ ... بمن كان يرجى نفعه ونوافله
فما البعد إلا أننا بعد صحبةٍ ... كأن لم نبايت وائلاً أو نقابله
سقى جدثاً أعراف غمرة دونه ... ببيشة ديمات الربيع ووابله
وما بي حب الأرض إلا جوارها ... صداه وقول ظن أني قائله

لما كانت وقعة بدر فقتل فيها عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة بن ربيعة، أقبلت هند بنت عتبة ترثي أباها وعمها وأخاها، وتقول فيهم الأشعار، وبلغها تسويم الخنساء هودجها بالموسم ومعاظمتها العرب بمصيبتها، وقد كانت أصيبت بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية، فجعلت تشهد المواسم وتبكيهم وقد سومت هودجها براية، وكانت تقول أنا أعظم العرب مصيبةٌ، وعرفت لها العرب بعض ذلك. فما أصيبت هند بنت عتبة بما أصيبت وبلغها ما تصنع الخنساء قالت: أنا أعظم من الخنساء مصيبةٌ، فأمرت بهودجها فسوم برايةٍ، وشهدت الموسم بعكاظ، وكانت سوقاً يجتمع إليها العرب، فقالت: اقرنوا جملي بجمل الخنساء، ففعلوا، فلما دنت منها قالت لها الخنساء: من أنت يا أخية؟ قالت: أنا هند بنت عتبة بن ربيعة، وأنا أعظم العرب مصيبةً، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك فبم تعاظمينهم؟ فقالت الخنساء: بعمرو بن الشريد وصخر ومعاوية ابني عمرو. فبم تعاظمينهم أنت؟ قالت هند: بأبي عتبة بن ربيعة وعمي شيبة وأخي الوليد. قالت الخنساء: أوسواء هم عند؟ ثم أنشأت تقول: من الطويل
أبكي أبي عمراً بعين غزيرةٍ ... قليل إذا نام العيون هجودها
وصنوي لا أنسى معاوية الذي ... له من سراة الحرتين وفودها
وصخراً ومن ذا مثل صخر إذا غدا ... بسلهبة الأبطال قب يقودها
فذلك يا هند الرزية فاعلمي ... ونيران حرب حين شب وقودها
فقالت هند مجيبةً لها: من الطويل
أبكي عميد الأبطحين كليهما ... وحاميهما من كل باغٍ يريدها
أبي عتبة الخيرات ذلك فاعلمي ... وشيبةُ الحامي الحقيق وليدها
أولئك آل المجد من آل غالبٍ ... وفي العز منها حين ينمي عديدها
ولم تزل الخنساء تبكي على أخويها وأبيها في الجاهلية حتى أدركت الإسلام، فأقبل بها بنو عمها إلى عمر بن الخطاب وهي عجوز كبيرة، فقالوا: يا أمير المؤمنين هذه الخنساء لم تزل تبكي على أبيها وأخويها في الجاهلية حتى ذهبت عيناها، وأدركت الإسلام وهي تبكي، وقد قرحت مآقيها كما ترى، فلو نهيتها رجونا أن تنتهي. فقال عمر لها: حتى متى يا خنساء؟ اتقي الله وأيقني بالموت، فقالت: إني أبكي أبي وخيري مضر: معاوية وصخراً، وإني لموقنةٌ بالموت يا ابن الخطاب، فكأن عمر رحمه الله رق لها وقال: خلو سبيل عجوزكم لا أبا لكم، فإن كل امرئ يبكي شجوه، نام الخلي عن بكاء الشجي.

الفصل الثالث
ما جاء من المراثي والتعازي
في الصغار والأطفال
عزى عبد الله بن عباس عمر بن الخطاب رضي الله عنهم على بني له فقال: عوضك الله منه ما عوضه منك. وهذا الصبي هو الذي قال فيه عمر رضي الله عنه: ريحانة أشمها، وعن قريبٍ ولد بارٌ أو عدو حاضر.
وقال علي بن عبيدة لرجل يعزيه عن ابنه: كان أبوك أصلك، وابنك فرعك، فما بقاء شيء ذهب أصله ولم يبق فرعه؟ وقال أبو الشغب: من البسيط
قد كان شغب لو أن الله عمره ... عزاً تزاد به في عزها مضر
فارقت شغباً وقد قوست من كبرٍ ... بئس الحليفان طول الحزن والكبر
ليت الجبال تداعت عند مصرعه ... دكاً فلم يبق من أركانها حجر
وقال آخر: من الطويل
تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذي الصغير ويولد
هل ابنك إلا من سلالة آدمٍ ... لكل على حوض المنية مورد
وقال أبو حكيم المري: من الطويل
وكنت أرجي من حكيمٍ قيامه ... علي إذا ما النعش زال ارتدانيا
فقدم قبلي نعشه فارتديته ... فيا ويح نفسي من رداء علانيا
وقال العتبي: من الطويل
وقاسمني دهري بني مشاطراً ... فلما تقضى شطره عاد في شطري
ألا ليت أمي لم تلدني وليتني ... سبقتك إذ كنا على غاية نجري
وكنت به أكنى فأصبحت كلما ... كنيت به فاضت دموعي على نحري
وقد كنت ذا نابٍ وظفرٍ على العدا ... فأصبحت لا يخشون نابي ولا ظفري
وقال الفرزدق: من الوافر
ولو أن البكاء يرد شيئاً ... على الباكي بكيت على صقوري

بني أصابهم قدر المنايا ... وما منهن من أحدٍ مجيري
ولو كانوا بني جبل فماتوا ... لأضحى وهو مختشع الصخور
إذا حنت نوار يهيج مني ... حزازاً مثل ملتهب السعير
حنين الوالهين إذا ذكرنا ... فؤادينا اللذين مع القبور
وقال أيضاً: من الطويل
أسنة أرماحٍ تخرمن بعدما ... أقيمت عواليها وسنت حرابها
إذا ذكرت عيني الذين هم لها ... قذى هيج مني بالبكاء انسكابها
بنو الأرضِ قد كانوا بني فعزني ... عليهم بآجالِ المنايا كتابُها
وداعٍ علي الله لو متُّ قد رأى ... بدعوته ما يتقى لو يجابها
ومن متمن أن أمون وقد بنت ... حياتي له شماً عظاماً قبابها
فنيت وأبقت من قناتي مصيبتي ... عشوزتةً زوراء صماً كعابها
على حدث لو أن سلمى أصابها ... بمثل بني انفض منها هضابها
وقال: من الطويل:
بفي الشامتين الترب إن كان مسني ... رزية شبلي مخدرٍ في الضراغم
وما أحدٌ كان المنايا وراءه ... ولو عاش أياماً طوالاً بسالم
أرى كل حي ما تزال طليعةً ... عليه المنايا من ثنايا المخارم
يذكرني أبني السماكان موهناً ... إذا ارتفعا فوق النجوم العواتم
وقد رزئ الأقوام قبلي بنيهم ... وإخوانهم فاقني حياء الأكارم
وما ابناك إلا من بني الناس فاصبري ... فلن يرجع الموتى حنين المآتم
وقال إبراهيم بن المهدي يرثي بنياً له: من الطويل
وإني وإن قدمت قبلي لعالمٌ ... بأني وإن أبطأت منك قريب
وإن صباحاً نلتقي في مسائله ... صباح إلى قلبي الغداة حبيب
وقال رجل من قريش في مثله: من الكامل
بأبي وأمي من عبأت حنوطه ... بيدي وودعني بماء شبابه
كيف السلو وكيف صبري بعده ... وإذا دعيت فإنما أكنى به
وقال أبو تمام يعزي عبيد الله بن طاهر عن ابنين طفلين ماتا في يوم واحد: من الكامل
لهفي على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا
لغدا سكونهما حجىً وصباهما ... حلماً وتلك الأريحية نائلا
إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيكون بدراً كاملا
نجمان شاء الله ألا يطلعا ... إلا ارتداد الطرفٍ حتى يافلا
إن الفجيعة بالرياض نواضراً ... لأجل منها بالرياض ذوابلا
لو ينسآن لكان هذا غارباً ... للمكرمات وكان هذا كاهلا
بعث معاوية بسر بن أرطأة أحد بني عامر بن لؤي، بعد تحكيم الحكمين، لقتل شيعة علي فمر في البلاد يشن الغارات، ولا يكفون أيديهم عن النساء والصبيان، ففعل ذلك بالمدينة ومكة والسراة ونجران واليمن. وكان عبيد الله بن العباس عاملاً لعلي على اليمن وكان غائباً، وقيل بل هرب من بسر، ووجد صبيين له فذبحهما ذبحاً بمدية، ثم انكفا راجعاً إلى معاوية. وأصاب أم الصبيين، واسمهما عبد الرحمن وقثم، وهي أم حكيم بنت فارط، على ابنيها كالجنون، فكانت لا تعقل ولا تصغي إلى قول من أعلمها أنهما قد قتلا، ولا تزال تطوف في الموسم تنشد الناس أبياتاً منها: من البسيط
يا من أحس بنيي اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف
يا من أحس بنيي اللذين هما ... سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف
نبئت بسراً وما صدقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني مرهفةً ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف
حتى لقيت رجالاً من أرومته ... شم الأنوف لهم في قومهم شرف
فالآن ألعن بسراً حق لعنته ... هذا لعمر أبي بسر هو السرف

ولما بلغ علياً قتل الصبيين جزع ودعا على بسر فقال: اللهم اسلبه دينه، ولا تخرجه من الدنيا حتى تسلبه عقله، فأصابه ذلك، وفقد عقله، فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ، فلا يزال يضربه ما شاء حتى مات.
ولما كانت الجماعة واستقر الأمر على معاوية دخل عليه عبيد الله بن العباس وعنده بسر بن أرطأة، فقال له عبيد الله: أأنت القاتل للصبيين أيها الشيخ؟ فقال بسر: نعم أنا قاتلهما، فقال له عبيد الله: لوددت أن الأرض أنبتتني عندك، فقال له بسر: فقد أنبتتك الآن عندي، فقال عبيد الله: ألا سيف؟ فقال بسر: هاك سيفي، فلما أهوى عبيد الله إلى السيف ليتناوله أخذه معاوية ثم قال لبسر: أخزاك الله شيخاً قد كبرت وذهب عقلك، تعمد إلى رجلٍ من بني هاشم قد وترته وقتلت ابنيه تدفع إليه سيفك؟ إنك لغافل عن قلوب بني هاشم، والله لو تمكن منه لبد بي قبلك. فقال عبيد الله: أجل والله ثم لثنيت به.
وقال الأصمعي: سمع رجل من اليمن، وقد قدم مكلة، امرأة عبيد الله تندب ابنيها فرق لها وتوصل إلى أن اتصل ببسرٍ وخدمه، فلما وثق به احتال لقتل ابنيه، فخرج بهما إلى وادي أوطاس فقتلهما وهرب، وقال أبياتاً منهما: من البسيط
فاشرب بكأسيهما ثكلاً كما شربت ... أم الصبيين أو ذاق ابن عباس
وقال إبراهيم بن العباس: من الطويل
لئن كنتَ زيناً للعيون وقرةً ... لقد صرت سقماً للنفوس الصحائح
وهون وجدي أن يومك مدركي ... وأني غداً من أهل تلك الضرائح
مات ولد لأبي العباس أحمد بن المختار بن أبي الجبر، وعمي عقيب فقده فقال: من الكامل المجزوء
عيني وفت فكأنما ... حلفت يميناً فيه بره
ألا ترى من بعده ... أحداً فما سمحت بنظره
قال دعبل: كنت عند حميد الطوسي وقد أصيب بطفلٍ له، فعزم على دفنه في داره، إذ أتاه بعض الخدم فقال: ليهنك الفارس أيها الأمير، فقال: يا دعبل أتعرف في الشعر صفة ما نحن فيه؟ فقلت: نعم، قول القائل: من الكامل
ذهب الذين تكملوا آجالهم ... ومضوا وحان من آخرين ورود
يمضي الصغير إذا انقضت أيامه ... إثر الكبير ويولد المولود
والناس في قسم المنية بينهم ... كالزرع منه قائم وحصيد
كتب رجل إلى صديق له ولد له مولود فمات من يومه فجزع عليه: من الطويل
فإن كنت تبكيه اطلاباً لنفعه ... فقد نال جنات الخلود مسارعا
وإن كنت تبكي أنه فات عوده ... عليك ينفع فاسل قد صار شافعا
وقال المتنبي: من الطويل
فإن تك في قبر فإنك في الحشا ... وإن تك طفلاً فالأسى ليس بالطفل
ومثلك لا يبكي على قدر سنه ... ولكن قد قدر المخيلة والأصل
بدا وله وعد السحابة بالروي ... وصد وفينا غلة البلد المحل
هل الولد المحبوب إلا تعلةً ... وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل
وقال محمد بن هاني: من الرمل
نافس الدهر عليه يعرباً ... ورأى موضع حقد فحقد
هاب أن يجري عليه حكمه ... فنوى الغدر له يوم ولد
حين لم ينظر به ريعانه ... إنما استعجله قبل الأمد
وقال الرضي في موت مولود: من الطويل
فلا تحسبن رزء الصغائر هيناً ... فإن وجى الأخفاف ينضي الغواربا

الفصل الرابع
مراثي النساء
قال الوليد بن يزيد بن عبد الملك يرثي امرأته سلمى، وكان هويها وتحته أختها سعدة، فطلق أختها حتى تزوجها، فلما دخل بها لبثت عنده أياماً وماتت: من الكامل
يا سلم كنت كجنة قد أطعمت ... أقناؤها دان جناها مونع
أربابها شفقاً عليها نومهم ... تحليل مرضعةٍ ولما يهجعوا
حتى إذا فسح الربيع ظنونهم ... نثر الخريف ثمارها فتصدعوا
وماتت امرأة الفرزدق بجمع فقال: من الطويل
وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا
وفي جوفه من دارمٍ ذو حفيظةٍ ... لو أن المنايا أنشأته لياليا
يقال: ماتت المرأة بجمع وجمع إذا ماتت وولدها في بطنها.

هوي يعقوب بن الربيع جارية فطالبها سبع سنين يبذل فيها جاهه وماله وإخوانه حتى ملكها، وأقامت عنده ستة أشهر، ثم ماتت فقال فيها أشعاراً كثيرة فمنها: من الكامل المرفل
لله آنسة فجعت بها ... ما كان أبعدها من الدنس
أتت البشارة والنعي معاً ... يا قرب مأتمنا من العرس
يا ملك نال الدهر فرصته ... فرمى فؤاداً غير محترس
كم من دموع لا تجف ومن ... نفسٍ عليك طويلة النفس
ما بعد فرقة بيننا أبداً ... في لذة درك لملتمس
ومن شعره فيها: من الخفيف
وأتاني النعي منك مع البش ... رى فيا قرب أوبةٍ من ذهاب
وفيها: من الكامل
حتى إذا فتر اللسان وأصبحت ... للموت قد ذبلت ذبول النرجس
وتسهلت منها محاسن وجهها ... وعلا الأنين تحثه بتنفس
رجع اليقين مطامعي يأساً ... كما رجع اليقين مطامع المتلمس
وقال شاعر لرجل ماتت له جارية، وولد له تلك الليلة ولد، فهنأه وعزاه في حالة واحدة: من الكامل
أوما رأيت الدهر أقبل معتبا ... متنصلاً بالعذر لما أذنبا
بالأمس أذوى في رياضك أيكةً ... واليوم أطلع في سمائك كوكبا
وقال الأعين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سهيل بن عمرو يرثي امرأته: من الطويل
لعمرك إني يوم زيل بنعشه ... ولم تتبعها مهجتي لصبور
كذوب الصفاء يوم ذاك موكل ... بباقي الحياة والحياة غرور
وقال محمد بن عبد الملك الزيات: من الطويل
يقول لي العذال لو زرت قبرها ... فقلت وهل غير الفؤاد لها قبر
على حين لم أحدث فأجهل فقدها ... ولم أبلغ السن التي معها الصبر
وقال الناجم يرثي عجائب جارية ابن مروان: من الكامل المجزوء
أضحى الثرى بجوارها ... عطر المسالك والمسارب
حلت حفيرتها حلو ... ل المسك من سرر الكواعب
يا درة كانت تضي ... ئ لناظرٍ من كل جانب
والفلاسفة يقولون: المدورة لا أول لها، وعلى ذلك قول إبراهيم بن العباس: من الخفيف
درة حيث ما أديرت أضاءت ... ومشم من حيث ما شم فاحا
وقال ابن الرومي يرثي جارية لابن الراس: من المنسرح
واهاً لذاك الغناء من طبقٍ ... على جميع القلوب مقتدر
أضحت من الساكني حفائرهم ... سكنى الغوالي مداهن السرر
يا مشرباً كان لي بلا كدرٍ ... يا سمراً كان لي بلا سهر
يا طفلة السن يا صغيرته ... أصبحت إحدى المصائب الكبر
وقال إسحاق بن خلف يرثي ابنة أخته وكان تبناها: من البسيط
يا شقة النفس إن النفس والهة ... حرى عليك ودمع العين منسجم
قد كنت أخشى عليها أن تقدمني ... إلى الحمام فيبدي وجهها العدم
فالآن نمت فلا هم يورقني ... تهدا العيون إذا ما أودت الحرم
للموت عندي أياد كنت أشكرها ... أحيا سروراً وبي مما أتى ألم
كانت لمسلم بن الوليد زوجة من أهله، وكانت تكفيه مره، فماتت فجزع عليها، وتنسك مدة طويلة، وعزم على ملازمة ذلك، فأقسم عليه بعض إخوانه ذات يوم أن يزوره ففعل، فأكلوا وقدموا الشراب فامتنع منه وأباه، وأنشأ يقول: من الطويل
بكاء وكأس كيف يجتمعان ... سبيلاهما في القلب مختلفان
دعاني وإفراط البكاء فإنني ... أرى اليوم فيه غير ما تريان
غدت والثرى أولى بها من وليها ... إلى منزل ناء لعينك دان
فلا حزن حتى تنزف العين ماءها ... وتعترف الأحشاء بالخفقان
وكيف بدفع اليأس والوجد بعدها ... وهماهما في القلب يعتلجان

كتب عبد الحميد عن مروان بن محمد إلى هشام بن عبد الملك يعزيه بامرأة من نسائه رسالة من جملتها: إن خير نعم الله على خلفائه ما رزقهم الشكر عليه، وكل ما اختار الله لخليفته من أمر وهبه له أو قبضه منه خير له؛ والدنيا دار متاع وبلغة، وما فيها عواري بين أهلها، ثم منقول عنهم سروره إن كان ساراً أو مكروهه إن كان لهم ضاراً. إن الله أمتع أمير المؤمنين من مؤنسته وقرينته متاعاً بمدة إلى أجلٍ مسمى، فلما تمت مواهب الله وعاريته قبض إليه العارية وليها، وكان أحق بها، ثم أعطى عليها أنفس منها في المتقلب، وأرجح في الميزان، وأكفى في العوض، فإنا لله وإنا إليه راجعون. احتسب مصيبتك يا أمير المؤمنين على الله فإنه وليك فيها وفي كل أمر إذا تصفحت عواقب قضائه أسهلت بك عوائد خياره إلى المنجيات من المخاوف، والدرك للفوز من المطلب، والحرز من ظلم المهالك؛ والله وليك فيما اختار لك وقضى عليك. إن تكن يا أمير المؤمنين أرضيت الله في شكرك إياه على الهبة وصبرك على الرزية، فإن مواهب الله لك أجزل، وثواب الله لك أفضل. فامض على رويتك في الخير فإن ما عند الله لا يبلغه كتاب، ولا يحصيه حساب، وتاليات المزايد مقرونات بشكر العباد بضمان أوفى واعدٍ وأكرم مثيب.
نعيت إلى ابن عباس بنت له في طريق مكة، فنزل عن دابته فصلى ركعتين، ثم رفع يده وقال: عورة سترها الله، ومؤونة كفاها الله، وأجر ساقه الله؛ ثم ركب ومضى.
ماتت لبعض ملوك كندة بنت فوضع بدرة بين يديه وقال: من أبلغ في التعزية فهي له، فدخل أعرابي فقال: عظم الله أجر الملك، كفيت المؤونة وسترت العورة، ونعم الختن القبر، فقال: أبلغت وأوجزت؛ وأعطاه البدرة.

الفصل الخامس
شواذ المراثي والتعازي
قال ابن سيابة، ويروى لأبي الأسد، يرثي إبراهيم الموصلي: من الوافر
تولى الموصلي فقد توليت ... بشاشات المزاهر والقيان
وأي بشاشة بقيت فتبقى ... حياة الموصلي على الزمن
ستبكيه المزاهر والملاهي ... وتسعدهن عاتقة الدنان
وتبكيه الغوية إذ تولى ... ولا تبكيه تالية القران
وقال آخر فيه أيضاً: من الخفيف
بكت المسمعات حزناً عليه ... وبكاه الهوى وصفو الشراب
وبكت آلة المجالس حتى ... رحم العود دمعة المضراب
ابن بسام يرثي عبد الله بن المعتز: من البسيط
لله درك من ميت بمضيعةٍ ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لولا ولا ليت فتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
ابن طباطبا: من الطويل
إذا فجع الدهر امرءاً بخليله ... تسلى ولا يسلى لفقد الدفاتر
منيع بن كوثل السلمي، وكان يقطع الطريق فقطع فقال يرثي يده من الطويل
هل أنت على باقي جناح كسرته ... وريش الذنابي مستقل فطائر
وكيف يطير الصقر أودى جناحه ... كسيراً وغالت دابريه المقادر
لقد كنت مما أحدث الدهر آمناً ... ألا ليتني ضمت علي المقابر
حنظلة بن عرارة التميمي في يزيد بن معاوية: من الكامل
طرقت منيته وعند وساده ... كوب وزق راعف مرثوم
ومرنة تبكي على نشواته ... بالصبح تقعد تارة وتقوم
الفصل السادس
نوادر التعازي والمراثي
دخل أبو دلامة على أم سلمة يعزيها بأبي العباس السفاح زوجها، فبكى وبكت، ثم قال: من الكامل
ولقد أردت الصبر عنك فلم يكن ... جزعي ولا صبري عليك جميلا
يجدون أبدالاً سواك ونني ... لو عشت دهري ما أصبت بديلا
فقالت أم سلمة: ما أصيب به غيري وغيرك، فقال: لا والله ولا سواء رحمك الله، لك منه ولد وليس لي أنا منه ولد، فضحكت منه أم سلمة، ولم تكن ضحكت قبل ذلك، وقالت: لو حدث الشيطان لأضحكه.
وكان ابن الجصاص الموصوف باليسار مغفلاً، فعزى رجلاً عن بنت له ماتت فقال له: من أنت حتى لا تموت بنتك البظراء؟ قد ماتت عائشة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.

وذكر محمد بن إبراهيم اليزيدي أنه كان عند أبي إسحاق الزجاج النحوي يعزيه عن أمه، وعنده جماعة من الوجوه والرؤساء، إذ دخل ابن الجصاص ضاحكاً وهو يقول: الحمد لله يا أبا إسحاق، قد والله سرني، فدهش الزجاج ومن حضر، فقال له بعضهم: كيف سرك ما غمه وغمنا له؟ قال: ويحك بلغني أنه هو الذي، فلما صح عندي أنها هي التي، سرني؛ فضحك الناس.
أصيب إسحاق بن محمد بن الصباح الكندي بابن له فجزع عليه، فدخل أهل الكوفة يعزونه وفيهم بهلول، فقال: أيسرك أنه بقي وأنه مثلي؟ قال: لا والله وإنها لتعزية.
ماتت أم ابن عياش فأتاه سيفويه القاص معزياً فقال: يا أبا محمد عظم الله مصيبتك، فتبسم ابن عياش وقال: قد فعل، فقال: يا أبا محمد هل كان لأمك ولد؟ فقام ابن عياش عن مجلسه وضحك حتى استلقى على قفاه.
أصيب الحجاج بصديق له وعنده رسول لعبد الملك شامي، فقال الحجاج: ليت إنساناً يعزينا بأبيات، فقال الشامي: أقول؟ قال: قل، فقال: كل خليل سوف يفارق خليله بموت أو بصلبٍ أو وقوع من فوق البيت، أو وقوع البيت عليه، أو سقوط في بئر، أو يكون بشيء لا يعرفه. قال الحجاج: قد سليتني عن مصيبتي بأعظم منها في أمير المؤمنين إذ يوجه مثلك رسولاً.
صارت عجوز إلى قوم تعزيهم في ميت، فرأت عندهم عليلاً فلما أرادت أن تقوم قالت: والحركة تغلظ علي في كل وقت، فأعظم الله أجركم في هذا العليل فلعله يموت.
عزى إنسان ابن الجصاص عن ميت له وقال: لا تجزع واصبر، فقال: نحن قوم لم نتعود أن نموت.
عبد الصمد بن المعذل يرثي بعض الطفيليين: من البسيط
أحزان نفسي عنها غير منصرمه ... وأدمعي من جفوني الدهر منسجمه
على صديق ومولى لي فجعت به ... ما إن له في جميع الصالحين لمه
كم جفنة مثل جوف الحوض مترعةٍ ... كوماء جاء بها طباخها رذمه
قد كللتها شحوم من قليتها ... ومن سنام جزور عبطة سنمه
غيبت عنها فلم تعرف لها خبراً ... لهفي عليك وعولي يا أبا سلمه
ولو تكون لها حياً لما بعدت ... عليك يوماً ولو في جاحمٍ حطمه
قد كنت أعلم أن الأكل يقتله ... لكنني كنت أخشى ذاك من تخمه
؟إذا تعمم في شبليه ثم أتى فإن حوزة من يأتيه مصطلمه أبو الشبل يرثي طبيباً: من الخفيف
قد بكاه بول المريض بدمعٍ ... واكف فوق مقلتيه ذروف
ثم شقت جيوبهن القواري ... ر عليه ونحن نوح اللهيف
يا كساد الخيار شنبر والأق ... راص طراً ويا كساد السفوف
وكان لأبي الشبل كبش يعلفه ويسمنه للأضحى، فأفلت يوماً على قنديل له وسراج وقارورة للزيت فنطحه وكسره أجمع، فذبح الكبش قبل الأضحى، وقال يرثي سراجه: من المنسرح
يا عين بكي لفقد مسرجةٍ ... كانت عمود الضياء والنور
كانت إذا ما الظلام ألبسني ... من حندس الليل ثوب ديجور
شقت بنبراسها غياطله ... شق دجى الليل بالتباشر
صينية الصين حين أبدعها ... مصور الحسن بالتصاوير
وقيل ذا بدعةٌ أتيح لها ... من عقب الدهر قرن يعفور
فإن تولت عني لقد تركت ... ذكراً سيبقى على الأعاصير
من ذا رأيت الزمان ياسره ... فلم يشب يسره بتعسير
ومن أتاح الزمان صفوته ... فلم يشب صفوه بتكدير
مسرجتي كم كشفت من ظلمٍ ... جليت ظلماءها بتنوير
من لي إذا ما النديم دب إلى الن ... دمان في ظلمة الدياجير
وقام هذا يبوس ذاك وذا ... ينيك هذا بغير تقدير
وازدوج القوم في الظلام فما ... يسمع إلا الرشاء في البير
إن كان أودى بك الزمان فقد ... أبقيت منك الحديث في الدور
دع ذكرها واهج قرن ناطحها ... وانشر أحاديثه بتفسير
كان حديثي أني اشتريت فلا اش ... تريت كبشاً سليل خنزير

فلم أزل بالنوى أسمنه ... والتبن فيه كل محذور
فلم يزل يغتذي السرور وما ال ... محزون في عيشه كمسرور
حتى عدا طوره وحق لمن ... يكفر نعمى بقرب تغيير
فمد قرنيه نحو مسرجةٍ ... تعد في صون كل مذخور
شد عليها بقرن ذي حنقٍ ... معودٍ للنطاح مشهور
وليس يقوي بروقه جبلٌ ... صلد من الشمخ المناكير
فكيف يبقى عليه مسرجةٌ ... أرق من جوهر القوارير
أديل منه فباكرته يدٌ ... من المنايا بحد مطرور
ومزقته المدى فما تركت ... كف القرى منه غير تعشير
واغتاله بعد كسرها قدرٌ ... صيره نهزة السنانير
واختلسته الحداء خلساً مع ال ... غربان لم يزدجر بتطيير
وصار حظ الكلاب أعظمه ... تهشم أنحاءها بتكسير
كم كاسرٍ نحوه وكاسرةٍ ... سلاحها في شغا المناقير
كتب أحمد بن يوسف الكاتب إلى عمرو بن سعيد بن سلم يرثي ببغاء له ماتت: من الخفيف
عجباً للمنون كيف أتتها ... وتخطت عبد الحميد أخاكا
شملتنا المصيبتان جميعاً ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا
أبو بكر ابن العلاف من مرثية الهر المشهورة: من المنسرح
يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلا قنعت بالغدد
أطعمك الغي لحمها فرأى ... قتلك أربابها من الرشد
ولم تزل للحمام مرتصداً ... حتى سقيت الحمام بالرصد
ما كان أغناك عن تسلقك ال ... برج ولو كان جنة الخلد
لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد
أذاقك الموت من أذاق كما ... أذقت أطياره يداً بيد
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد
عاقبة البغي لا تنام وإن ... تأخرت مدة من المدد
كم دخلت أكلةٌ حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد
إن الزمان استقاد منك ومن ... يظلم بعين الزمان يستقد
قيل لرجل: مات فلان، فقال: من لم تنفع حياته لم يجزع لوفاته: من الوافر
فبعداً لا انقضاء له وسحقاً ... فغير مصابه الخطب العظيم
وقف شاطر على قبر سارق فقال: رحمك الله فقد والله كنت أحمر الإزار، حاد السكين، إن نقبت فجرذٌ، وإن تسلقت فسنور، وإن استلبت فحدأة، وإن ضربت فأرضٌ، وإن شربت فحب؛ ولكنك اليوم وقعت في زاوية سوء.
أصيب أحمد بن الخصيب بمصيبة، فخرج إلى الحاضرين لتعزيته وهو يعصر عينيه ويقول: من الكامل
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فقال أحدهم: ما هذا؟ فقال: لما رأيت النساء يبكون ويلطمون حضرني هذا البيت، فقيل له: هذا لجرير، فقال: لعله اتفاق.
سرق من أبي الشبل ثلث قرطاس فقال يرثيه: من الخفيف
فكر تعتري وحزن طويل ... وسقيم أنحى عليه النحول
ليس يبكي رسماً ولا طللاً م ... ح كما تندب الربى والطلول
إنما حزنه على ثلثٍ كا ... ن لحاجاته فغالته غول
كان للسر والأمانة والكت ... مان إن باح بالحديث الرسول
كان مثل الوكيل في كل سوقٍ ... إن تلكا أو مل يوماً وكيل
كان للهم إن تراكم في الصد ... ر فلم يشف من غليل غليل
كان لا يتقي الحجاب من الح ... جاب إن قيل ليس فيها دخول
يقف الناس وهو أول من يد ... خله القصر غادةٌ عطبول
فإذا أبرزته فاح به في ال ... قصر مسك وعنبر معلول
كان مع ذا عدل الشهادة مقبو ... لاً إذا عز شاهداً تعديل
وإذا ما التوى الهوى بالأليفي ... ن فلم يرع واصلاً موصول

فهو الحاكم الذي قوله بي ... ن الأليفين جائز مقبول
مات ولد لأعربي فصلى عليه وقال: اللهم إن كنت تعلم أنه كريم الجدين، سهل الخدين، فاغفر له، وإلا فلا.

كتب ابن نصر الكاتب يعزي بعنز ماتت عند الولادة: أحق الناس، أيها الحاجب، بالأنين من ألم محنته، وأخلقهم بفضل الحنين إلى نعمته، وأولاهم بالحزن الطويل، وأحراهم بالبكاء والعويل، وأشدهم تصعيداً لأنفاسه، وأعذرهم في تناول أخدعه ورأسه، من عجز بعد القدرة، وأترب بعد الثروة، وفارق السعة واليسار، ولابس الإضافة والاقتار، وعدم ماله الزائد النامي، وفقد حرثه الرائع الزاكي، وبلغني مصابك بالعنز التي كانت لك من أعظم جاه وعز، وأنها قبضت نفساء بمرأى عينيك، واعتبطت منقلبة على صفحتي يديك، فقلت بما طرقك قلق المساهم في الوجد بها، المهتم بتشعث حالك من بعدها، العالم بعدم النظير لها. وأين لك مثلها في قناء الأنف وإنافته، وانتصاب القرن وصلابته، وحمرة اللون وكمتته، وزرقة العين واتساعها، وكبر الضروع وانسدالها، والدر الذي لا ينزف والإتام الذي لا يخلف. وكيف لا تكون كربتك لازمة،وحسرتك دائمة، وقد عدمت بها جاهاً عريضاَ، وذكراً مستفيضا، وجلاء للقلب والنظر، وقضاء للشهوة والوطر، ومادة معينة على الاتصال، وسبباً ينصرك بأهل البذل والنوال، فألطافك منها مشتهاة محبوبة، وتحفك بها مستدعاة مطلوبة، وهداياك مشهورة على الأطباق، وتحاياك موصوفة بالقبول نصبتها نصب الدبق، وجعلتها سلم الرزق، فهي تستأذن لك إذا طرقت، وتؤمنك التثقيل إذا أشفقت. فأنت بها صاحب سر الكيمياء، والظافر عنها بحصول الكفاف والثراء. لكنها الأيام ذات الألوان والتبدل، والحؤول والتنقل، فالإنسان منها بعرضة المخاوف والأخطار، وعلى فرصة أحكامٍ تجري وأقدار، لذتها منقطعة زائلة، وسعودها غائرة آفلة، بينما ترضعه درها مختارة طائعة، وتلبسه زينتها رائقةً ناصعة، وتجنح إليه مساعدة موثرة، وتقبل عليه ضاحكة مستبشرة، حتى يمر مذاقها فلا يساغ، ويذهب رونقها فلا يراغ، وتجمح نافرة فلا ترجع، وتعرض مزورة فلا تعطف، عادة جارية مستقر، وسنة ماضية مستمرة. فاسترجع أيها الحاجب أيدك الله تذكراً واسبتصاراً، واصطبرا تفكراً واعتباراً، وإن غلبتك الدموع فأجرها استرواحاً، وإن هممت بالصلف فرفقاً لا اعتسافاً، فبماء العين تطفأ نار الوجد، وبصك الأخدعين يشفي غليل القلب. وكل ذاك حقير في جنب ما لحقك، ويسير في عظيم ما طرفك. فماذا يصف الواصف من عنزك ونبلها، ويعدد من خيرها وفضلها: أخلاقها الطيبة أم آدابها المعجزة، أم ذكاءها عند الرجعة من الرعي، ووقوفها على بابك بالسكون والهدي، حتى إذا فتح لها ولجته ذاهبة إلى مربطها، منقادة لقائدها، فمهما تنسى لا تنس أيها الحاجب لبأها المزعفر عند الولاد، ووطبها الملقف في البجاد، والائتدام بلبنها إذا أعوز الإدام، ورواسلها العامرة للمنزل، وأنيابها المشيدة بذكرك في المحفل، وأمصالها المتناقلة بين الدور، وأبعارها الساجرة للتنور. وكائن من عنز حاولت اللحاق بها فنكلت، ورامت المماثلة لها فعجزت؛ هذا وقد عدمت من فضلات ألبانها الوسيعة، وأثمان عنقها المبيعة، ما كان عدتك في عامة أمورك، ومادتك في ملبسك وبخورك. وكم جدي لها أكرم عن الذبح، واستخلص للقراع والنكح، قد نتج أولاداً أنجاباً يعرفون بك ويعزون إليك، ويحيلون بصريح نسبهم في التيوسة عليك، وهذه فضيلة مغفول عن ذكرها، ومنقبة يقصر لسانك عن شكرها، وكأني بك متى لقيت من أسباطه نجيباً، وجاراً لخصييه ينب نبيباً، خار صبرك وقلبك، وطار حلمك ولبك، وتذكرت ما يبكيك، ونسيت عند رؤيته ما كان يسليك، وحق لك، غير أن الثواب المكتسب أجل الأعواض عنها، والأجر المذخور خير لك منها، فلا مرد للقضاء المحتوم فقد فقد الناس الأغنام، ومارسوا الضرورة والإعدام، ثم جبر الله المصائب، وعوض عن الفائت الذاهب، فأحسن الله لك العزاء عن عنزك وجديك، وخفف ثقل أسفك عليهما ووجدك، ودمل بالتسلي خموش وجهك وخدك، وربط على قلبك بالصبر عند مشاهدة مربطها، وآنسك بالسلوة عن عطاسها وضرطها، ولا أخلاك من قرينة تسد مسدها في عمارة خلتك، وتقوم مقامها في مطاعمك وأغذيتك، وألحقها بالأغنام الشهداء، وجمع بينها وبين قرابين الأولياء، وحشرها مع الأضحيات، ورفعها إلى منازل الهدايا المشعرات، ووفر أجرك عليها من متوفاه، ولا أجرى دمعك بعدها على شاة، إنه على كل شيء قدير.
كتب أبو إسحاق الصابي إلى القاضي أبي بكر ابن قريعة عن الوزير أبي طاهر ابن بقية يعزيه عن ثور له مات:

التعزية عن المفقود أطال الله بقاء القاضي إنما تكون بحسب محله من فاقده، من غير أن تراعي قيمته ولا قدره ولا ذاته ولا عينه، إذ كان الغرض تبريد الغلة، وإطفاء اللوعة، وتسكين الزفرة، وتنفيس الكربة. فرب ولد عاق، وشقيق مشاق، وذي رحم عاد لها قاطعاً، وقريب قوم قلدهم عاراً، وناط بهم شناراً، فلا لوم على التارك للتعزية عنه، وأحر بها أن تستحيل تهنئة بالراحة منه. ورب مال صامت أو ناطقٍ كان صاحبه به مستظهراً وله مستثمراً، فالفجيعة به إذا فقد موضوعةٌ موضعها، والتعزية عنه واقعة موقعها. وبلغني أنه كان للقاضي أيده الله ثور أصيب به فجلس للعزاء عنه، وأنه أجهش عليه باكياً، والتدم عليه والهاً، وحكيت عنه حكايات في التأبين له، وإقامة الندبة عليه، وتعديد ما كان فيه من فضائل البقر التي تفرقت في غيره واجتمعت فيه، فصار بها منفرداً عنهم كالذي قيل فيه من الناس: من السريع
وليس لله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحد
وأنه كان يكرب الأرض مغمورة، ويربها مزروعة، ويدور في الدولاب ساقيا، وفي الرحى طاحناً، ويحمل الغلات مستقلاً، والأثقال مستخفاً، فلا يؤوده عظيم، ولا يبهظه جسيم، ولا يجري في القران مع شقيقه، ولا في الطريق مع رفيقه إلا كان مجلياً لا يسبق، ومبرزاً لا يلحق، وفائتاً لا ينال شأوه ونهايته، وماضياً لا يدرك مداه وغايته، وأشهد الله أن الذي ساءه ساءني فيه، وما آلمه آلمني له، ولم يجز عندي في حكم ما بيني وبينه استصغار خطب جل عنده وأرمضه، ولا يهونن صعب بلغ منه وأمضه؛ فكتبت هذه الرقعة قاضياً بها من الحق في مصابه بقدر ما أظهره من إكباره، وأبله من إعظامه. وأسأل الله أن يخص القاضي من المعوضة بأفضل ما خص به البشر عن البقر، وأن يفرد هذه العجماء بأثرة من الثواب، يضيفه بها إلى المكلفين من ذوي الألباب، فإنها وإن لم تكن منهم فقد استحقت أن تلحق بهم، بأن مس القاضي أيده الله سببها، وأن كان إليه منتسبها، حتى إذا أنجز الله ما وعد به عباده المؤمنين من تحميص سيئاتهم، وتضعيف حسناتهم، والإفضاء بهم إلى الجنة التي جعلها الله لهم داراً، ورضيها لجماعتهم قراراً، أورد القاضي حينئذ موارد النعيم، مع أهل الصراط المستقيم، وثوره مجنوب معه مسموح له به. وكما أن الجنة لا يدخلها الخبث، ولا يكون من أهلها الحدث، إنما هو عرق يجري من أبدانهم، ويروي أغراضهم كالمسك، كذلك يجعل الله مجرى الأخبثين من هذا الثور يجريان للقاضي بالعنبر الشحري، وماء الورد الجوري، فيصير ثوراً له طوراً، وجونة عطار طوراً. وليس ذلك بمستبعد ولا مستنكر، ولا مستصعب ولا متعذر، إذ كانت قدرة الله جل ثناؤه محيطة، ومواعيده لأمثاله ضامنة بما وعد الله في الجنة لعباده الصادقين، وأوليائه الصالحين، من شهوات نفوسهم وملاذ أعينهم، وما هو سبحانه مع غامر فضله وفائض كرمه بمانِعِه ذاك مع صالح مساعيه ومحمود شيمه. وقلبي متعلق بمعرفة خبره أدام الله عزه فيما أدرعه من شعار الصبر، واحتفظ به من صالح الأجر، ورجع إليه من التسليم لأمر الله عز وجل الذي طرقه، والسكون لما أزعجه وأقلقه، فليعرفني القاضي من ذلك ما أكون به ضارباً معه بسهم المشاركة فيه، وآخذاً بقسط المساعدة عليه، إن شاء الله.
الجواب من القاضي ابن قريعة:

وصل توقيع سيدنا الوزير بالتعزية عن اللاي الذي كان للحرث مثيراً، وللدولاب مديراً، وبالسبق إلى كثير من المنافع شهيراً، وعلى شدائد الزمان مساعداً وظهيراً. ولعمري لقد كان بعمله ناهضاً، ولحماقات البقر رافضاً، وأنى لنا بمثله وشرواه ولا شروى له، فإنه كان من أعيان البقر، وأنفع أجناسها للبشر، مضاف ذلك إلى خلائق حميدة، وطرائق سديدة. ولولا خوفي تجديد الحزن عليه، وتهييج الجزع لفقده، لعددتها فيه ليعلم أن الحزين عليه غير ملوم، وكيف يلام امرؤ فقد من ماله قطعةً يجب في مثلها الزكاة، ومن خدم معيشته بهيمة تعين على الصوم والصلاة. وفهمته فهم متأمل لمراميه، وشاكر على النعمة فيه، فوجدته مسكناً ما خاطر اللب وخامر القلب، ففقد هذا اللاي من شدة الحرق، وتضاعف القلق، وتزايد اللوعة، وترادف الارتماض بعظم الروعة، فرجعت إلى أمر الله فيه من التسليم والرضا، والصبر على ما حكم وقضى، واحتذيت ما مثله سيدنا الوزير من جميل الاحتساب، والصبر على أليم المصاب، وإنا لله وإنا إليه راجعون، قول من علم أنه سبحانه أملك بنفسه وماله وولده وأهله منه، وأنه لا يملك شيئاً دونه، إذ كان جل ثناه وتقدست أسماؤه الملك الوهاب، المرجع ما يعوض عنه نفيس الثواب.
ووجدت أيد الله سيدنا الوزير للبقر خاصة على سائر بهيمة الأنعام التي أكثر أقوات البشر بكدها وعلى ظهرها وحرائها إلا قليلاً، قال الله سبحانه: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " الواقعة: 63 - 64. ولما رأى الحجاج الأسعار قد تضايقت، وقرى السواد قد خربت، حرم لحوم البقر، لعلمه وعلم جميع الناس بما في بقائها من المنافع والمصالح. ورأيت الله تعالى قد أمر في القتيل الذي وجد في بني إسرائيل أن يضرب بقطعة من بقرة بلغ ثمنها ثلاثمائة ألف دينار؛ فلولا فضيلة البقر لما خصت من بني الأنعام بذلك، ووجدت بني إسرائيل بعدما شاهدوه من قدرة الله جل وعلا في جفوف البحر ويبسه وأمر الحية والعصا، فلما غاب عنهم موسى عليه السلام عبدوا عجلاً. ووجدت الحكمة في أربعةٍ من الأمم: الهند والفرس تعظمها وتتطهر بأبوالها. ووجدنا الروم تعظمها وقد جعلت لها عيداً، وتمنع من أكل لحومها. ووجدنا العرب قد جعلتها أجل قرباناتها إلى الله في أعيادها، وعقيقتها عن أولادها. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن ملكين من حملة العرش على صورة البقرة يدعوان الله بأرزاق البهائم، فلولا ما فيها من التكريم والتعظيم والتقديم على سائر البهائم لما خصت بهذه المناقب العظام، ولولا إشفاقي من الخروج في الإطناب عن الغرض المطلوب، والمذهب المركوبات، والمثيرات والحارثات، ولكن قد مضى ما فيه كفاية، وإن لم يكن بلغ النهاية. وبعده الدعاء وهذا فصل نضمه إلى الباب يتضمن حسن التأسي في الشدة، والصبر والتسلي عن نوائب الدهر.
ثمرة الصبر الظفر، ونتيجته الراحة. وإذا تلقي به الحوادث فكأن لم تقع. قال علي عليه السلام: من لم ينجه الصبر شجاعة. وكتب إلى أخيه عقيل بن أبي طالب من كتاب له: ولا تحسبن ابن أبيك، ولو أسلمه الناس، متضرعاً متخشعاً، ولا مقراً للضيم واهناً، ولا سلس الزمام للقائد، ولا وطيء الظهر للراكب، ولكنه كما قال أخو بني سليم: من الطويل
إن تسأليني كيف أنت فإنني ... صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن ترى بي كآبةٌ ... فيشمت عاد أو يساء حبيب
وقال شاعر: من الوافر
ولو جعل الإله الحزن فرضاً ... مكان الصبر في حال الخطوب
لكان الحزن فيها غير شك ... أشد المعنيين على القلوب
وقال السفاح: الصبر حسن إلا على ما أوتغ الدين وأوهن السلطان.
سئل ابن عباس عن الحزن والغضب فقال: أصلهما وقوع الأمر بخلاف المحبة، وفرعاهما يختلفان. فمن أتاه المكروه ممن فوقه نتج عليه حزناً، ومن أتاه ممن دونه هيج غضباً.
وأنشد الزبير بن بكار: من البسيط
اصبر فكل فتى لا بد مخترمٌ ... والموت أيسر مما أملت جشم
الموت أسهل من إعطاء منقصة ... إن لم تمت عبطة فالغاية الهرم
وأنشد للرشيد عند موته: من الطويل
وإني لمن قومٍ كرامٍ يزيدهم ... شماساً وصبراً شدة الحدثان

والصبر صبران: صبر على ما يكره، وصبر عما يحب، والثاني أشدهما على النفوس، وفنون ذلك تجده في باب الآداب الدينية. ونذكر هاهنا الصبر على المكاره واحتمال الفوادح.
قال الشاعر: من الطويل
تعز فإن الصبر بالحر أجمل ... وليس على ريب الزمان معول
فلو كان يعني أن يرى المرء جازعاً ... لحادثة أو كان يغني التذلل
لكان التعزي عند كل مصيبة ... ونائبةٍ بالحر أولى وأجمل
فكيف وكل ليس يعدو حمامه ... وما لامرئ عما قضى الله مزحل
فإن تكن الأيام فينا تبدلت ... بئيساً بنعمى والحوادث تفعل
فما تكن الأيام فينا تبدلت ... بئيساً بنعمى والحوادث تفعل
فما تكن الأيام فينا تبدلت ... بئيساً بنعمى والحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صليبةً ... ولا ذللتنا للذي ليس يجمل
ولكن رحلناها نفوساً كريمة ... تحمل ما لا يستطاع فتحمل
وقينا بحسن الصبر منا نفوسنا ... فصحت لنا الأعراض والناس هزل
وروي أن جابر بن عبد الله استأذن على معاوية فلم يؤذن له أياماً ثم دخل فمثل بين يديه فقال: يا معاوية أشهد أني سمعت المبارك صلى الله عليه وسلم يقول: ما من أمير احتجب عن الفقراء إلا احتجب الله عنه يوم يفتقر إليه. فغضب معاوية وقال: يا جابر، ألست ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا معشر الأنصار، يصيبكم بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض؟ قال: قد سمعت الطيب المبارك صلى الله عليه وسلم يقوله. قال معاوية: فألا صبرت؟ قال: إذن والله أصبر كما صبرت حين ضربت أنفك وأنف أبيك حتى دخلتما في الإسلام كارهين؛ ثم انصرف وهو يقول: من الطويل
إني لأختار البلاء على الغنى ... وأجزأ بالماء القراح عن المحض
وأدرع الإملاق صبراً وقد أرى ... مكان الغنى أن لو أهين له عرضي
فناشده معاوية أن يأخذ صلته، وبعث في أثره يزيد بن معاوية، فقال: والله لا يجمعني وإياه بلد أبداً. فلما خرج لقي عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن سابط، فقال له ابن عباس: قد بلغني ما كان من ابن آكلة الأكباد، وكهف النفاق، ورأس الأحزاب. هلم إلي أشاطرك مالي كما قاسمتني مالك، ولك نصف داري كما أسكنتني دارك، فقال جابر: ثمر الله مالك، وبارك لك في دارك، فقد أثبت ما أنت أهله، وقال معاوية ما كان يشبهه.
وقال بعض الحكماء: امتحن صبر العباد بالعلة، وشكرهم بالعافية.
وقال جهم بن مسعدة الفزاري متسلياً عن انهدامه: من الرجز
إني وإن أفنى الزمان نحضي ... وابتزني بعضي وأبقى بعضي
وأسرعت أيامه في نقضي ... بمجحفات وأمور تمضي
حتى حنت طولي وضمت عرضي ... وقصرت رجلاي دون الأرض
وهم أهل ثقتي برفض ... ينفع حبي ويضر بغضي
وقال الفرزدق متأسياً بالشامت: من الوافر
إذا ما الدهر جر على أناسٍ ... كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
وقال الأحوص بن محمد الأنصاري: من الطويل
فمن يك أمسى سائلاً عن شماتةٍ ... بما ساءني أو شامتاً غير سائل
فقد عجمت مني الحوادث ماجداً ... صبوراً على عضات تلك الزلازل
إذا سر لم يفرح وليس بنكبةٍ ... ألمت به بالخاشع المتضائل
ومعنى هذا البيت مطروق متداول، فالأول فيه قول النابغة: من الطويل
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب
وتبعه كثير فقال: من الطويل
فما فرح الدنيا بباق لأهله ... ولا شدة البلوى بضربة لازم
وقال طريح مثله: من البسيط
لا يفرحون إذا ما الدهر طاوعهم ... يوماً بيسرٍ ولا يشكون إن نكبوا
وقال النابغة الجعدي: من المتقارب
إذا مسه الشر لم يكتئب ... وإن مسه الخير لم يعجب
وقال عبد الرحمن بن يزيد الهمداني: من الكامل
باق على الحدثان غير مكذبٍ ... لا كاسف بالي ولا متلهف

إن نلت لم أفرح بشيء نلته ... وإذا سبقت به فلا أتلهف
وقال هدبة بن خشرم: من الطويل
ولست بمفراحٍ إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
وكان الأحوص جلداً حين ابتلي: وفد على الوليد بن عبد الملك فامتدحه، فأنزله منزلاً وأمر بمطبخه أن يمال عليه. ونزل على الوليد شعيب بن عبد الله بن عمرو بن العاص فكان الأحوص يراود وصفاء للوليد خبازين على أنفسهم، وكان شعيب قد غضب على مولى له ونحاه. فلما خاف الأحوص أن يفتضح بمراودته الغلمان اندس بمولى شعيب ذلك فقال له: ادخل على أمير المؤمنين فاذكر له أن شعيباً أرادك على نفسك؛ فالتفت الوليد إلى شعيب فقال: ما يقول هذا؟ فقال: لكلامه غور يا أمير المؤمنين فاشدد به يديك يصدقك، فشد عليه فقال: أمرني بذلك الأحوص. فقال قيم الخبازين: أصلحك الله، إن الأحوص يراود غلمانك على أنفسهم. فأرسل به الوليد إلى ابن حزم بالمدينة وأمره أن يجلده مائة، ويصيب على رأسه زيتاً، ويقيمه على البلس، فقال وهو على البلس أبياته النونية التي فيها: من الكامل
إني على ما تعلمون محسدٌ ... أنمي على البغضاء والشنآن
ما من مصيبة نكبة أمنى بها ... إلا تشرفني وترفع شاني
وتزول حين تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
إني إذا خفي الرجال وجدتني ... كالشمس لا تخفى بكل مكان
ومن التسلي الحسن قول مجنون: ليس في الدنيا أجل مني، لا حاسب في الدنيا أجل مني، لا حاسب في الدنيا ولا في الآخرة.
وقال أبو الشغب في حبس خالد بن عبد الله القسري: من الطويل
ألا إن خير الناس قد تعلمونه ... أسير ثقيف موثقاً في السلاسل
لعمري لئن أعمرتم السجن خالداً ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل
لقد كان نهاضاً بكل ملمةٍ ... ومعطي اللهى غمراً كثير النوافل
فإن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل
وقال علي بن الجهم لما حبسه المتوكل: من الكامل
قالت حبست فقلت ليس بضائري حبسي وأي مهندٍ لا يغمد
أوما رأيت الليث يألف غليه ... كبراً وأوباش السباع تردد
والبدر يدركه السرار فتنجلي ... أيامه وكأنه متجدد
والشمس لولا أنها محجوبةٌ ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والزاعبية لا يقيم كعوبها ... إلا الثقاف وجذوة تتوقد
والنار في أحجارها مخبوءةٌ ... لا تصطلى إن لم تثرها الأزند
والحبس ما لم تغشه لدنيةٍ ... شنعاء نعم المنزل المتورد
بيت يجدد للكريم كرامةً ... ويزار فيه ولا يزور ويحمد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه ... لا تستذلك بالحجاب الأعبد
غير الليالي بادياتٌ عود ... والمال عاريةٌ يعار وينفد
ولكل حين معقبٌ ولربما ... أجلى لك المكروه عما تحمد
لا يؤيسنك من تفرج نكبةٍ ... خطب رماك به الزمان الأنكد
كم من عليل قد تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعود
صبراً فإن اليوم يعقبه غد ... ويد الخلافة لا تطاولها يد
ولما حبسه بلغه أنه هجاه، فنفاه إلى خراسان، وكتب إلى طاهر بن عبد الله بن طاهر بأن يصلب إذا وردها يوماً إلى الليل، فصلب مجرداً ثم أنزل فقال: من الكامل
لم ينصبوا بالشاذياخ عشية ال ... اثنين مغموراً ولا مجهولا
نصبوا بحمد الله ملء قلوبهم ... كرماً وملء صدورهم تبجيلا
ما عابه أن بز عنه ثيابه ... والسيف أهول ما يرى مسلولا
إن يبتذل فالبدر لا يزري به ... أن كان ليل تمامه مبذولا
أو يسلبوه المال يحزن فقده ... ضيفاً ألم وطارقاً ونزيلا
وقال أبو إسحاق الصابي وحبسه عضد الدولة ونكبه: من الطويل
يعيرني بالحبس من لو يحله ... حلولي طالت واشمخرت مراتبه

ورب طليقٍ أعتق الذل رقه ... ومعتقل عانٍ وقد عز جانبه
وإن يك قد أودت بمالي نكبةٌ ... نظيري فيها كل قرم أناصبه
فما كنت كالقسطار يثري بكيسه ... ويملق أن أنحى على الكيس سالبه
ولكن كليث الغيل إن رام ثروةً ... حوتها له أنيابه ومخالبه
يبيت خميصاً طاوياً ثم يغتدي ... مباحاً له من كل طعم أطايبه
كذلك مثلي نفسه رأس ماله ... بها يدرك الربح الذي هو طالبه
ولي بين أقلامي ولبي ومنطقي ... غنى قل ما يشكو الخصاصة صاحبه
وكتب إليه ابنه أبو علي المحسن في نكبته هذه يسليه عنها: من البسيط
لا تأس للمال إن غالته غائلة ... ففي حياتك من فقد اللهى عوض
إذا أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت ... يداك من طارفٍ أو تالدٍ عرض
قيل لرجل كف بصره: قد سلبت حسن وجهك، فقال: صدقت غير أني منعت النظر إلى ما يلهي، وعوضت الفكرة فيما يجدي. فحكي ذلك لبعض الخلفاء فقال: العفا على التعزي إلا بمثل هذا الكلام.
وقال الجنيد: بصرت أبا عبد الله الأشناني وكان ضريراً فقرأ قارئ " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " غافر: 19 فقال سقط عني نصف العمل وبقي علي نصفه وهو ما تخفي الصدور.
ومما يروى لعبد الله بن عباس: من البسيط
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخلٍ ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
ولأبي علي البصير الأنباري: من الطويل ؟لئن كان يهديني الغلام لوجهتي ويقتادني في السير إذ أنا راكب
لقد يستضيء القوم بي في وجوههم ... ويخبو ضياء العين والقلب ثاقب
استقبل الخثعمي مالك بن طوق وقد عزل عن عمل فقال مسلياً له عن العزل: من الطويل
فلا يحسب الواشون عزلك مغنماً ... فإن إلى الإصدار ما غاية الورد
وما كنت إلا السيف جرد للوغى ... فأحمد فيها ثم عاد إلى الغمد
وقال أبو عثمان الخالدي يسلي نفسه عن الفقر: من الكامل المجزوء
صدت مجانبةً نوار ... ونأى بجانبها ازورار
يا هذه إن رحت في ... سلم فما في ذاك عار
هذي المدام هي الحيا ... ة قميصها طين وقار
وأنشد الأصمعي لامرأة من العرب مفجعة بالحوادث لم تيأس ولم تسل: من الطويل ؟أنوح على دهر مضى بغضارة إذ العيش غض والزمان موات
أبكي زماناً صالحاً قد فقدته ... تقطع قلبي إثره زفرات
أيا زمناً ولى على رغم أهله ... ألا عد كما قد كنت مذ سنوات
تمطى علي الدهر في متن قوسه ... فاقصدني منه بسهم شتات
وقال تاج الدولة أبو الحسين أحمد بن عضد الدولة وقد عدم عزاءه عن نكبته: من الطويل
هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه ... وأعقب بالحسنى من الحبس والأسر
فمن لي بأيام الهموم التي مضت ... ومن لي بما أنفقت في الحبس من عمري
كتب محمد بن الحنفية إلى عبد الله بن عباس حين سيره ابن الزبير إلى الطائف يسليه عن فعله به: أما بعد، فإنه بلغني أن لبن الزبير سيرك إلى الطائف، فأحدث الله عز وجل بذلك ذخراً حط به عنك وزراً. يا ابن عم إنما يبتلى الصالحون وتعد الكرامة للأخيار، ولو لم تؤجر إلا فيما تحب لقل الأجر. وقد قال الله تعالى: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم " البقرة: 216. عزم الله لنا ولكم بالصبر على البلاء، والشكر على النعماء، ولا أشمت بنا عدواً، والسلام.

وكان عروة بن الزبير صبوراً حين ابتلي. خرج إلى الوليد بن بعد الملك فوطئ عظماً فلم يبلغ دمشق حتى ذهب به كل مذهب. فجمع الوليد الأطباء فأجمع رأيهم على قطعها، فقالوا له: اشرب مرقداً، فقال: ما أحب أن أغفل عن ذكر الله تعالى. فأحمي له منشار، وكان قطعاً وحسماً، فما توجع وقال: ضعوها بين يدي، لئن كنت ابتليت في عضو لقد عوفيت في أعضاء. فبينا هو على ذلك أتاه نعي ابنه محمد، وكان قد اطلع من سطح على دواب الوليد فسقط بينها فخبطته، فقال عروة: الحمد لله لئن أخذت واحداً لقد أبقيت جماعة. ولما عاد من سفره أتاه المعزون وفيهم عيسى بن طلحة فقال: يا أبا عبد الله ما كنا نعدك للسباق، وما فقدنا منك إلا أيسر ما فيك، إذ أبقى الله لنا سمعك وبصرك وعقلك.
وقدم على الوليد وفد من عبس فيهم شيخ ضرير، فسأله عن حاله وذهاب عينيه فقال: بت ليلة في بطن واد ولا أعلم عبسياً يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد غير صبي صغير وبعير، وكان صعباً، فند فوضعت الصبي عن منكبي وتبعت البعير، فلم جاوز حتى سمعت صيحة الصبي، فرجعت إليه ورأس الذئب في بطنه يأكله، فاستدرت بالبعير لأحبسه فنحني برجله فحطم وجهي فذهبت عيناي، فأصبحت لا عين ولا أهل ولا مال ولا ولد. فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أن في الدنيا من هو أعظم مصيبة منه، ويتسلى.
وقيل: الحوادث الممضة مكسبة لحظوظ جزيلة منها ثواب مدخر، وتطهير من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريف لقدر النعمة، ومرون على مقارعة الدهر. ومن ولج في النائبة صابراً خرج منها مثقفاً.
ومن التأسي العجيب والاحتساب الجميل ما فعلته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما في حرب ابنها عبد الله بن الزبير: دخل عليها في اليوم الذي قتل فيه فقال: يا أمه، خذلني الناس حتى أهلي وولدي ولم يبق إلا اليسير ومن لا دفع عنده أكثر من صبر ساعة من النهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ قالت: إن كنت على الحق وتدعو إليه فامض عليه فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيتلعبوا بك، وإن قلت إني كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي ليس هذا فعل الأحرار، ولا فعل من فيه خير. كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما نقع به يا ابن الزبير. والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بسوط في ذل. قال لها: هذا والله رأيي الذي قمت به داعياً إلى الله، والله ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله تعالى، أن تهتك محارمه. ولكني أحببت أن أطلع رأيك فزدتني قوة وبصيرة مع قوتي وبصيرتي. والله ما تعمدت إتيان منكر، ولا عملاً بفاحشة، ولم أجر في حكم، ولم أغدر في أمان، ولم يبلغني عن عمالي ظلم فرضيت به، بل أنكرت ذلك، ولم أغدر في أمان، ولم يبلغني عن عمالي ظلم فرضيت به، بل أنكرت ذلك، ولم يكن شيء عندي آثر من رضى ربي سبحانه وتعالى، اللهم إني لا أقول ذلك تزكية لنفسي ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. قالت له: والله إني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسناً بعد أن تقدمتني، فإن في نفسي منك حوجاء حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة وبره بأمه. اللهم إني قد سلمت فيه لأمرك، ورضيت منك بقضائك، فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين. فودعها فوجدت مس الدرع تحت ثوبه. فقالت: ما هذا فعل من يريد ما تريد. فقال: إنما لبسته لأشد منك. قالت: فإنه لا يشد مني. وقال لها فيما خاطبها به: إني ما أخاف القتل وإنما أخاف المثلة، فقالت: يا بني إن الشاة لا تبالي بالسلخ بعد الموت.
وكانت تقف على خشبته وهو مصلوب فتقول: لقد قتلوك صواماً قواماً ظمآن الهواجر، ومن قتل على باطلٍ فقد قتل على حق؛ وما ينزل منم عينها قطرة.
ووقفت عليه بعد مدة من صلبه فقالت: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟!

ومن عظيم صبر النساء وعجيبه ما كان من أمر أم سليم امرأة أبي طلحة الأنصاري: مرض ابنها منه فمات، فسجته في المخدع ثم قامت فهيأت لأبي طلحة إفطاره، كما كانت تهيئ له كل ليلة، فدخل أبو طلحة وقال لها: كيف الصبي؟ قالت: بأحسن حال بحمد الله، ثم قامت فقربت إلى أبي طلحة إفطاره، ثم قامت إلى ما تقوم إليه النساء، فأصاب أبو طلحة من أهله، فلما كان في السحر قالت: يا أبا طلحة ألم تر آل فلانٍ استعاروا عارية فلما طلبت منهم شق عليهم، فقال: ما أنصفوا، قالت: فإن ابنك كان عاريةً من الله وإن الله قد قبضه إليه، فحمد الله واسترجع، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا أبا طلحة بارك الله لكما في ليلتكما.
ومن ذلك خبر الأنصارية لما كان يوم أحد، حاص أهل المدينة حيصة وقالوا: قتل محمد حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار فاستقبلت بأخيها وابنها وزوجها وأبيها قتلى، فلما مرت بهم قالت: ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: أمامك، حتى ذهبت إليه فأخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: بأبي وأمي يا رسول الله لا أبا لي إذا سلمت من عطب.
قال المدائني: أتى عبيد الله بن زياد بامرأة من الخوارج فقطع رجلها وقال لها: كيف ترين؟ قالت: إن في الفكر في هول المطلع لشغلاً عن حديدتكم هذه. ثم قطع رجلها الأخرى وجذبها فوضعت يدها على فرجها فقال: إنك لتسترينه، فقالت: لكن سمية أمك لم تستره.
أتى البرد على زرع عجوز في البادية، فأخرجت رأسها من الخباء ونظرت إلى الزرع وقد احترقت فقالت، ورفعت رأسها إلى السماء: اصنع ما شئت فإن رزقي عليك.
قال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: من الوافر
وإن قالت رجالٌ قد تولى ... زمانكم وذا زمنٌ جديد
فما ذهب الزمان لنا بمجدٍ ... ولا حسب إذا ذكر الجدود
وما كنا لنخلد إذ ملكنا ... وأي الناس دام له الخلود
وقيل لأخيه، بعد أن رأوه حمالاً: لقد حطك الزمان، وعضك الحدثان، فقال: ما فقدنا من عيشنا إلا الفضول.
وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي: من البسيط
وليلة من ليالي الدهر كالحة ... باشرت في هولها مرأىً ومستمعا
ونكبةٍ لو رمى الرامي بها حجراً ... أصم من جندل الصمان لا تصدعا
مرت علي فمل أطرح لها سلبي ... ولا اشتكيت لها وهناً ولا جزعا
ما سد من مطلع يخشى الهلاك به ... إلا وجدت بظهر الغيب مطلعا
لا يملأ الهول قلبي قبل وقعته ... ولا يضيق به صدري إذا وقعا
وقال أبو هفان: من الطويل
لعمري لئن بيعت في دار غربةٍ ... ثيابي أن عزت علي المآكل
فما أنا إلا السيف يأكل جلده ... له حليلةٌ من نفسه وهو عاطل
وقال البحتري يسلي محمد بن يوسف عن حبسه: من الطويل
وما هذه الأيام إلا منازلٌ ... فمن منزل رحبٍ ومن منزلٍ ضنك
وقد هذبتك الحادثات وإنما ... صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبك
أما في رسول الله يوسف أسوةٌ ... لمثلك محبوساً على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في السجن برهةً ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
ومن الرضا بالموت وإيثاره لمعنى لطيف قول يزيد بن أسد، ودعا له رجل فقال: أطال الله بقاءك، قال يزيد: دعوني أمت وفي بقية تبكون بها علي.
ووصف الحسن بن سهل المحن فقال: فيها تمحيص للذنب، وتنبيه من الغفلة، وتعريض للثواب بالصبر، وتذكير بالنعمة، واستدعاء للتوبة، وفي نظر الله عز وجل وقضاياه بعد الخيار.
سئل بزر جمهر في نكبته عن حاله فقال: عولت على أربعة أشياء قد هونت علي ما أنا فيه، أولها: أني قلت القضاء والقدر لا بد من جريانهما، والثاني: أني قلت إن لما أصبر فما أصنع؟ والثالث: قلت قد كان يجوز أن يكون أشد من هذا، والرابع: قلت لعل الفرج قريب وأنت لا تدري.
قال علي بن الحسين عليهما السلام: من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا عليهما السلام أهدي رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل في طست من ذهب، وفيه تسلية لحر فاضل يرى الناقص الذي يظفر من الدنيا بالحظ السني.

قال أبو العتاهية: حبسني الرشيد لما تركت قول الشعر فأدخلت السجن وأغلق الباب علين فدهشت كما يدهش مثلي لتلك الحال، وإذا أنا برجل جالس في جانب الحبس مقيد، فجعلت أنظر إليه ساعة ثم تمثل: من الطويل
تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصيرني يأسي من الناس راجياً ... لحسن صنيع الله من حيث لا أدري
فقلت: أعد أعزك الله هذين البيتين، فقال لي: ويلك يا أبا العتاهية ما أسوأ أدبك، وأقل عقلك، دخلت علي الحبس فما سلمت تسليم المسلم على المسلم، ولا سالت مسألة الحر للحر، ولا توجعت توجع المبتلي للمبتلي، حتى إذا سمعت بيتين من الشعر الذي لا فضل فيك غيره لم تصبر عن استعادتهما، ولم تقدم قبل مسألتهما عذراً لنفسك في طلبهما. فقلت: يا أخي إني دهشت لهذه الحال، فلا تعذلني واعذرني متفضلاً بذلك. فقال: أنا أولى بالدهش والحيرة منك، لأنك حبست في أن تقول شعراً به ارتفعت وبلغت، فإذا قلت أمنت، وأن مأخوذ بأن أدل على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتل أو أقتل دونه، ووالله لا أدل عليه أبداً. والساعة يدعى بي فأقتل، فأينا أحق بالدهش؟ فقلت: أنت أولى سلمك الله وكفاك، ولو علمت أن هذه حالك ما سألتك. فقال: فلا نبخل عليك إذن، ثم أعاد البيتين حتى حفظتهما، فسألته من هو؟ فقال: أنا حاضر، داعية عيسى بن زيد وابنه أحمد. ولم نلبث أن سمعنا صوت الأقفال، فقام فسكب عليه ماء كان عنده في جر، ولبس ثوباً نظيفاً، ودخل الحرس والجند معهم الشمع، فأخرجنا جميعاً، وقدم قبلي إلى الرشيد، فسأله عن أحمد بن عيسى فقال: لا تسألني عنه واصنع ما أنت صانع، فلو أنه تحت ثوبي هذا ما كشفته عنه؛ فأمر بضرب عنقه فضربت، ثم قال لي: أظنك قد ارتعت يا إسماعيل، فقلت: دون ما رأيته تسيل منه النفوس، فقال: ردوه إلى محبسه، فرددت وانتحلت البيتين وزدت فيهما.
إذا أنا لم أقبل من الدهر كل ما ... تكرهت منه طال عتبي على الدهر
قال أحمد الأحول: لما قبض على محمد بن عبد الملك الزيات تلطفت في الوصول إليه فرأيته في حديد ثقيل، فقلت: عزز علي بما أرى، فقال: من الرمل
سل ديار الحي ما غيرها ... وعفاها ومحا منظرها
وهي الدنيا إذا ما انقلبت ... صيرت معروفها منكرها
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أبالي على أي حال أصبحت: على ما أحب أو على ما أكره، لأني لا أدري الخيرة في أيهما.
قال حكيم: أشد الناس مصيبة مغلوب لا يعذر، ومبتلى لا يرحم.
سئل علي عليه السلام: أي شيء أقرب إلى الكفر؟ فقال: ذو فاقة لا صبر له.
أبو جلدة اليشكري: من البسيط
ما عضني الدهر إلا زادني كرماً ... ولا استكنت له إن خان أو خدعا
وما تزيد على العلات معجمتي ... في النائبات إذا ما سيء طبعا
ولا يؤبس من عودي خوالفه ... إذا المغمر منها خان أو خضعا
ما يسر الله من خير قنعت به ... ولا أموت على ما فاتني جزعا
المتنبي: من الطويل
كثير حياة المرء مثل قليلها ... يزول وباقي عمره مثل ذاهب
إليك فإني لست ممن إذا اتقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
أبو الفتح البستي: من الطويل
فلا تعتقد للحبس غماً ووحشة ... فأول كون المرء في أضيق الحبس
عبد الله بن المعتز: من الطويل
وكانت على الأيام نفسي عزيزةً ... فلما رأت صبري على الذل ذلت
فقلت لها يا نفس موتي كريمةً ... فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت
قال الشيباني: أخبرني صديق لي قال: سمعني شيخ وأنا أشتكي بعض ما غمني إلى صديق، فأخذ بيدي وقال: يا ابن أخي إياك والشكوى إلى غير الله، فإنه لا يخلو من تشكو إليه أن يكون صديقاً أو عدواً، فأما الصديق فتحزنه ولا ينفعك، وأما العدو فيشمت بك. انظر إلى عيني هذه، وأشار إلى إحدى عينيه، والله ما أبصرت بها شخصاً ولا طريقاً مذ خمس عشرة سنة، وما أخبرت بها أحداً إلى هذه الغاية. أما سمعت قول العبد الصلاح " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " يوسف: 86 فاجعله مشتكاك ومفزعك عند كل نائبة، فإنه أكرم مسؤول وأقرب مدعو إليه.

ومثله ما روي عن الأحنف بن قيس قال: شكوت إلى عمي صعصة ابن معاوية وجعاً في بطني، فهزني ثم قال: يا ابن أخ، إذا نزل بك شيء فلا تشكه إلى أحد، فإنما الناس رجلان: صديق تسوءه وعدو تسره، والذي بك لا تشكه إلى مخلوق مثلك لا يقدر على دفع مثله عن نفسه، ولكن إلى من ابتلاك به وهو قادر أن يفرج عنك. يا ابن أخي إحدى عيني هاتين ما أبصر بها سهلاً ولا جبلاً من أربعين سنة وما أطلعت على ذلك امرأتي ولا أحداً من أهلي.
شكا رجل إلى آخر فقال له فضيل: يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك.
قال الأصمعي: مررت بأعرابية وبين يديها فتى في السياق، ثم رجعت فرأيت بيدها قدح سويق تشربه، فقلت لها: ما فعل الشاب؟ قالت: واريناه، قلت: ما هذا السويق؟ فقالت: من الطويل
على كل حال يأكل المرء زاده ... على البؤس والضراء والحدثان
حدث معقل بن علي قال: كان عندنا بالمدينة رجل من ولد كثير بن الصلت، حسن الوجه، نظيف الثياب، كثير المال، ملازم لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلبت عليه المرة فأحرقته وذهبت بعقله، فكان بعد ذلك يتتبع المزابل فمررت به يوماً وهو على رماد حمام فقلت: يا ابن كثير عز علي ما أرى بك فقال: الحمد لله الذي لم يجعلني ساخطاً لقضائه وقدره يا أخا الأنصار.
روى أهل العراق أن عطاء الخراساني كان يغازيهم في سبيل الله، فيقوم الليل، حتى انفجر الصبح نادى بأعلى صوته: يا عبد الرحمن بن يزيد ويا هشام بن الغاز قوموا فصلوا فإن مكابدة هذا الليل الطويل خير من مفظعات النيران والسلاسل والأغلال. النجاء النجاء، الوحى الوحى، فلعل يا أخا الأنصار ما أنا فيه بدل من النار.
قال أبو القاسم الحسن بن حبيب النيسابوري: دخلت بهراة دار المرضى فإذا شيخ مسلسل، فقلت له: يا شيخ أتريد النجاة مما أنت فيه؟: قال: لا، قلت: ولم؟ قال: لأن القلم مرفوع عني فيما أتعاطاه، فإذا نجوت من هذه البلية أجري علي القلم؛ وقد حبست وأطلق عنك وستحبس ويطلق عني.
سعية بن عريض اليهودي: من الكامل
عن امرءاً أمن الحوادث وارتجى ... طول الحياة كضارب بقداح
إن أمس قد سدت علي مذاهبي ... أو أمس قد جمدت علي لقاحي
فلقد أجر الخصم يخشى ذرعه ... وأرد فضل جماحه بجماحي
سعيد بن حميد الكاتب: من الكامل المجزوء
لا تعتبن على النوائب ... فالدهر يرغم كل عاتب
واصبر على حدثانه ... إن الأمور لها عواقب
كم نعمة مطويةٍ ... لك أثناء النوائب
ومسرةٍ قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب
أيوب عليه السلام قالت له امرأته: لو دعوت الله أن يشفيك، قال: ويحك كنا في النعماء سبعين عاماً، فهلمي نصبر إلى الضراء مثلها. فلم ينشب إلا يسيراً أن عوفي.
أعرابي: كان حلو الصبر عند مر النازلة.
العتابي: من الكامل المرفل
اصبر إذا يدهتك نائبةٌ ... ما عال منقطع إلى صبر
الصبر أولى ما اعتصمت به ... ولنعم حشو جوانح الصدر
قال الملك لبزر جمهر: ما علامة الظفر بالأمور المستصعبة؟ قال: المحافظة على الصبر، وملازمة الطلب، وكتمان السر.
قال الأحنف: لست حليماً إنما أنا صبور.
أبو حية النميري: من البسيط
إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطالبه ... فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
يقال: اصبر على عمل لا غنى بك عن ثوابه، وعن عمل لا صبر بك على عقابه.
من لم يتلق نوائب الدهر بالصبر طال عتبه عليه.
اصبر لحكم من لا تجد معولاً إلا عليه ولا مفزعاً إلا إليه.
المحنة إذا تلقيت بالرضى والصبر كانت نعمة دائمة، والنعمة إذا خلت من الشكر كانت نقمة لازمة.
رستم: حسن الصبر طليعة الظفر.
علي عليه السلام: إن كنت جازعاً على ما يفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك.
أغارت الروم على أربعمائة جاموس لبشير الطبري، فلقيه عبيده الذين كانوا يرعونها ومعهم عصيهم فقالوا: ذهبت الجواميس، قال: فاذهبوا أنتم معها، أنتم أحرار لوجه الله، وكانت قيمتهم ألف دينار، فقال له ابنه: قد أفقرتنا فقال: اسكت يا بني إن الله اختبرني فأحببت أن أزيده.

لما دفن عمر بن عبد العزيز ابنه عبد الملك رأى رجلاً يتكلم ويشير بشماله، فصاح به: إذا تكلمت فاشر بيمينك. فقال الرجل: ما رأيت كاليوم رجلاً دفن أعز الناس عليه ثم هو يهمه يميني من شمالي. فقال عمر: إذا استأثر الله بشيء فاله عنه.
خرج معاوية يوماً يسير ومعه عبد العزيز بن زرارة الكلابي، وكان مقدماً في فهمه وأدبه إلى شرفه ومنصبه، فقال له: يا عبد العزيز أتاني نعي سيد شباب العرب، فقال: ابني أم ابنك؟ قال: بل ابنك؟ قال: للموت ما تلد الوالدة.
هلك لأعرابي إبل فقال: إن موتاً تخطاني إلى ما لي لعظيم النعمة علي.
هلال بن نضلة الربعي: من الطويل
سبحت واسترجعت من بعد صدمةٍ ... لها رجفت كبدي ومست فؤاديا
صبرت فكان الصبر أدنى إلى التقى ... على حزة قد يعلم الله ما هيا
قال المحاسبي: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر.
بث رجل في وجه بي عبيدة مكروهاً فقال: من الطويل
فلو أن لحمي إذ وهى لعبت به ... سباع كرام أو ضياع وأذؤب
لهون وجدي أو لسلى مصيبتي ... ولكن ما أودى بلحمي أكلب
آخر: من الوافر
عذرت البزل إن هي خاطرتني ... فما بالي وبال ابن اللبون
آخر: من الطويل
ولا غرو أن يبلى شريف بخامل ... فمن ذنب التنين تنكسف الشمس
بلغ عمرو بن عتبة شماتة قوم به في مصائب فقال: والله لئن عظم مصابنا بموت رجالنا لقد عظمت النعمة علينا بما أبقى الله لنا: شباناً يشبون الحروب، وسادة يسدون المعروف، وما خلقنا ومن شمت بنا إلا للموت.
المسهري العكي: من الطويل
إذا حرسي قعقع الباب أرعدت ... فرائص أقوام وطارت قلوبها
فإن تك عكل سرها ما أصابني ... فقد كنت مصبوباً على من يريبها
الرضي: من الكامل
ولربما ابتسم الفتى وفؤاده ... شرق الجنان برنة وعويل
ولربما احتمل اللبيب موهاً ... عض الزمان ببشره المبذول
وله من قصيدة كتب بها إلى الصابي يواسيه وقد ناله ألم المفاصل: من الطويل
لئن رام قبضاً من بنانك حادث ... لقد عاضنا منك انبساط جنان
وإن أقعدتك النائبات فطالما ... سرى موقراً من مجدك الملوان
وإن هدمت منك الخطوب بمرها ... فثم لسان للمناقب بان
وما زل منك الرأي والحزم والحجى ... فتأسى إذا ما زلت القدمان
ولو أن لي يوماً على الدهر إمرةً ... وكان لي العدوى على الحدثان
خلعت على عطفيك برد شبيبتي ... جواداً بعمري واقتبال زماني
وحملت ثقل الشيب عنك مفارقي ... وإن قل من غيري وغض عناني
وقال يسلي باه عن الحبس: من الخفيف
ظن بالعجز أن حبسك ذلك ... والمواضي تصان بالأغماد
ظن أن المدى يطول وفي الآ ... مال ما لا يعان بالأجداد
كل حبس يهون عند الليالي ... بعد حبس الأرواح في الأجساد
الخريمي: من الطويل
لقد وقرتني الحادثات فما أرى ... لنائبة من ريبها أتوجع

نوادر من هذا الفصل
لما ذهب بصر عمرو بن هداب، ودخل عليه الناس يعزونه، دخل فيهم إبراهيم بن جامع، فقام بين يدي عمرو فقال: يا أبا أسيد لا تجزعن من ذهاب عينيك وإن كانتا كريمتيك، فإنك لو رأيت ثوابهما في ميزانك تمنيت أن يكون الله تعالى قد قطع يديك ورجليك، ودق ظهرك، وأدمى ظلفك. قال: فصاح به القوم، وضحك بعضهم، فقال عمرو: معناه صحيح ونيته حسنة، وإن كان قد أخطأ في اللفظ.
كان لمحمد بن عبد الملك الزيات برذون أشهب لم ير مثله فراهة وحسناً، فسعي به إلى المعتصم فأخذه منه، فقال محمد بن عبد الملك فيه: من الكامل
كيف العزاء وقد مضى لسبيله ... عنا فودعنا الأحم الأشهب
دب الوشاة فأبعدوك وربما ... بعد الفتى وهو الأحب الأقرب
لله يوم نأيت عني ظاعناً ... وسلبت قربك أي علقٍ يسلك
نفس مقربة أقام فريقها ... ومضى لطيته فريق يجنب
فالآن إذ كملت أداتك كلها ... ودعا العيون إليك لون معجب

واختير من شر الحديد وخيره ... لك خالصاً ومن الحلي الأغرب
وغدوت طنان اللجام كأنما ... في كل عضو منك صنج يضرب
وكأن سرجك إذ علاك غمامة ... وكأنما تحت الغمامة كوكب
ورأى علي بك الصديق جلالةً ... وغدا العدو وصدره يتلهب
أنساك لا زالت إذن منسيةً ... نفسي ولا زالت بمثلك تنكب
أضمرت فيك اليأس حين رأيتني ... وقوى حبالي من حبالك تقضب
ورجعت حين رجعت منك بحسرة ... لله ما فعل الأصم الأشيب
لما خلع المستعين قيل له: اختر بلداً تحله، فاختار البصرة، فقيل: هي حارة، فقال: أترونها أحر من فقد الخلافة.
نفق دابة لجندي فقيل له: لا تغنم فلعله خيرة، فقال: لو كان خيرة لكان حياً وإلى جنبه بغل.
أنشد ابن الأعرابي: من الطويل
وليس بتعزير الأمير خزانة ... علي ولا عار إذا لم يكن حداً
وما الحبس إلا ظل بيت دخلته ... وما السوط إلا جلدة صادفت جلدا

الباب العشرون
ما جاء في العيادة والمرض
بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن واختم بخير
الحمد لله خالق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً، ومصيب عبده بقضائه المحتوم قدراً منه مقدوراً، ومنقله بين السلامة والسقم اختباراً وابتلاءً، وجاعل حاليه من نعمة وضر علاجاً لأدواء القلوب وداء؛ نصب المرء لسهام الرزايا هدفاً وغرضاً، وبلاه باختلاف أطواره صحة ومرضاً، فكان الصابر الراضي أحمدهما عاقبة وأكرمهما عوضاً؛ إن أسدى نعمة فبكرمه يوليها، وإن اختبر عباده بنقمة يحلها ضمن الصلاح في مطاويها؛ وأحمده على تظاهر آلائه، والعافية من عدواء الدهر ولأوائه؛ وأسأله الصلاة على محمد خير أنبيائه، المصطفى من أكرم عنصر بشرف اصطفائه، والمخصوص بكرم اختياره واجتبائه، متخذ التواضع خلقاً وطبعاً، وعايد الإخوان تكرمة لهم ورفعاً، وسنة يهدي إليها من ائتم بهداه، واقتدى بشرف سجاياه، وعلى آله وصحبه، ما همى صيب من فتوق سحبه.
قد خفف الله عز وجل في المرض عن عباده، ورفع عنهم الجناح فيما افترضه عليهم فقال تعالى في الجهاد: " ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم " النساء: 102. وقال تعالى في الصيام: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدةٌ من أيام أخر " البقرة: 185. وقال في الحج: " فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ " البقرة: 196. وقال عز وجل: " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج " النور: 61 فهذا التخفيف الذي من به عوضاً عن البلوى وما وعد به من عوض الآخرة أجل وأعلى وأبقى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: ما من مسلم يمرض مرضاً إلا حط الله به عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها.
وقال أبو عثمان النهدي: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي ذو جثمان عظيم فقال له: متى عهدك بالحمى؟ قال: ما أعرفها قال: فالصداع؟ قال: ما أدري ما هو، قال: فأصبت بمالك؟ قال: لا، قال: فرزئت بولدك؟ قال: لا، قال: إن الله ليبغض العفرية النفرية الذي لا يرزأ في ولده ولا يصاب في ماله.
عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مريضاً من الأنصار فلما أراد الانصراف أقبل عليه فقال: جعل الله ما مضى كفارة وأجراً، وما بقي عافيةً لعلةٍ وذخراً.
وعاد صلى الله عليه وعلى آله آخر فقال: اللهم آجره على وجعه، وعافه إلى منتهى أجله.
وعنه صلى الله عليه وسلم: أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة أن يقال له: ألم أصح بدنك وأروك من الماء البارد؟ وقال صلى الله عليه وسلم: إليك انتهت الأماني يا صاحب العافية.
وقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثة في ظل العرش: عائد المرضى، ومشيع الموتى، ومعزي الثكلى.
وقال صلى الله عليه وعلى آله: ثلاثة لا يعادون: صاحب الدمل، والرمد، والضرس.
دخل عبد الوارث بن سعيد على رجل يعوده فقال له: كيف أنت؟ قال: ما نمت مذ أربعون ليلة، فقال: يا هذا أحصيت أيام البلاء فهل أحصيت أيام الرخاء؟!

مرض الفضل بن سهل مدة طويلة ثم أبل واستقل وجلس للناس، فدخلوا عليه وهنأوه بالعافية، فأنصت لهم حتى تقضى كلامهم، ثم اندفع فقال: إن في العلل نعماً لا ينبغي للعقلاء أن يجهلوها، منها تمحيص الذنوب، وتعريض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وأذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للتوبة، وحض على الصدقة. وفي قضاء الله تعالى وقدره بعد الخيار. فانصرف الناس بكلامه وأنسوا ما قال غيره. وقد نسب هذا الكلام بعينه إلى أخيه الحسن في وصف المحن وكتبه في باب التسلي عن الحوادث.
قال أبو بكر بن عبد الله لقوم عادوه فأطالوا القعود: المريض يعاد، والصحيح يزار.
وقال الشعبي: عيادة النوكى أشد على المريض من وجعه.
كاتب: اتصل بي خبر الفترة في إلمامها وانحسارها، ونبأ الشكاة في حلولها وارتحالها، فكاد تعجل القلق بأوله عن السكون لآخره، وتذهب عادية الحيرة عن عائدة المسرة في أثنائه، وكان التصرف في كلتا الحالتين بحسب قدرهما: ارتياعاً للأولى وارتياحاً للأخرى.
واعتل بعض إخوان الحسن بن سهل فكتب إليه الحسن: أجدني وإياك كالجسم الواحد إذا خص عضواً منه ألم عم سائره، فعافاني الله عز وجل بعافيتك، وأدام لي الإمتاع بك.
دخل الأخطل على عبد العزيز بن مروان وهو مريض يعوده فقال: من الكامل
ونعود سيدنا وسيد غيرنا ... ليت التشكي كان بالعواد
لو كان يقبل فدية لفديته ... بأناملي وبطارفي وتلادي
فقال عبد العزيز: يا غلام أعطه عشرة آلاف درهم، إن هؤلاء والله ما يعطونا صافي ما عندهم إلا ليصيبوا خالص ما عندنا.
وقال ابن قيس الرقيات في ابن جعفر: من الخفيف
قد أتانا بما كرهنا أبو السل ... اس كانت بنفسه الأوجاع
قال ما قال ثم راع قليلاً ... أدركت نفسه المنايا السراع
قال يشكو الصداع وهو مريض ... بك لا بالذي عنيت الصداع
وقال آخر في شارب دواء: من المنسرح
لا زلت في صحة من الزمن ... لا يرتع السقم منك في بدن
وجل نفع الدواء فيك كما ... يجول ماء الربيع في الغصن
وقال آخر: من البسيط
يا فاصداً من يد جلت أياديها ... ونال منها الردى قسراً أعاديها
يد الندى هي فارفق لا ترق دمها ... فإن أرزاق طلاب الندى فيها
وقال أبو الفرج الببغاء في محبوب أفتصد: من الخفيف
باشرته كف الطبيب فلو نل ... ت الأماني قبلت كف الطبيب
فعلت في ذراعه ظبة المب ... ضع أفعال لحظه بالقلوب
فأسالت دماً كأن جفوني ... عصفرته بدمعها المسكوب
طاب جداً فلو به سمح الده ... رُ لأمسى عطري وأصبح طيبي
وقال أبو الحسن علي بن هارون المنجم: من الخفيف
كيف نال العثال من لم يزل من ... هُ مقيلاً في كل خطب جسيم
أو ترفى الأذى إلى قدمٍ لم ... تخط إلا إلى مقام كريم
وقال أبو نواس وقد طال مرضه: من الخفيف
شعر ميت أتاك من لفظ حي ... صار بين الحياة والموت وقفا
أنحلت جسمه الحوادث حتى ... كاد عن أعين الحوادث يخفى
وله: من الطويل
أراني مع الأحياء حياً وأكثري ... على الدهر ميت قد تخرمه الدهر
فما لم يمت مني بما مات ناهض ... فبعضي لبعض دون قبر البلى قبر
فيا رب قد أحسنت عوداً وبدأة ... إلي فلم ينهض بإحسانك الشكر
فمن كان ذا عذر لديك وحجةٍ ... فعذري إقراري بأن ليس لي عذر
عمارة بن حمزة: من الكامل المرفل
لا تشكون دهراً صححت به ... إن الغنى في صحة الجسم
هبك الإمام أكنت منتفعاً ... بغضارة الدنيا مع السقم
زيد الخيل وقد مرض منصرفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها مات من أبيات: من الطويل
هنالك لو أني مرضت لعادني ... عوائد من لم يشف منهن يجهد
فليت اللواتي عدنني لم يعدنني ... وليت اللواتي غبن عني عودي
قال لقمان: ثلاث فرق يجب على الناس مداراتهم، الملك المسلط، والمريض، والمرأة.

كان يقال إذا اشتكى الرجل فعوفي فلم يحدث خيراً ولم يكف عن شر لقيت الملائكة بعضها بعضاً فقالت: إن فلاناً داويناه فلم ينفعه الدواء.
ويقال: البحر لا جواز له، والملك لا صديق له، والعافية لا ثمن لها.
وقال بزرجمهر: إن كان شيء فوق الحياة فالصحة، وإن كان شيء مثل الحياة فالغنى، وإن كان شيء فوق الموت فالمرض، وإن كان شيء مثل الموت فالفقر.
وقال جعفر بن محمد عليهما السلام: ثلاث قليلهن كثير: النار والفقر والمرض.
خرجت قرحة في كف محمد بن واسع فقيل له: إنا نرحمك منها، فقال: وأنا أشكر الله إذ لم تخرج في عيني.
قيل للربيع بن خثيم: لو تداويت، فقال: قد عرفت أن الدواء حق، ولكن عاداً وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً كانت فيهم الأوجاع، وكانت لهم الأطباء، فما بقي المداوي ولا المداوى.
دخل ابن السماك على الرشيد في عقب مرض فقال: يا أمير المؤمنين إن الله ذكرك فاذكره، وأطلقك فاشكره.
دخل علي عليه السلام على صعصعة بن صوحان عائداً فقال له: والله ما علمتك إلا خفيف المؤونة، حسن المعونة، فقال صعصعة: وأنت يا أمير المؤمنين إن الله في عينك لعظيم، وإنك بالمؤمنين لرحيم، وإنك بكتاب الله لعليم. فلما قام ليخرج قال: يا صعصة لا تجعل عيادتي فخراً على قومك، فإن الله لا يحب كل مختال فخور. وروي: لا تتخذها أبهة على قومك أن عادك أهل بيت نبيك.
اعتل المسور فجاءه ابن عباس نصف النهار يعوده، فقال المسور: هلاَّ وساعةً غير هذه؟ قال إن أحب الساعات غلي أن أؤدي فيها الحق إليك أشقها علي.
عاد سفيان فضيلاً فقال: يا أبا محمد وأي نعمة في المرض لولا العواد؟ قال: وأي شيء تكره من العواد؟ قال: الشكية.
قيل لرجل من عبد القيس في مرضه أوصنا، قال: أنذركم سوف...
اعتل الفضل بن يحيى فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائداً لم يزد على السلام والدعاء، ويخفف الجلوس، ثم يلقى حاجبيه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه، وكان غيره يطيل الجلوس، فلما أفاق قال: ما عادني في علتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح.
قال قبيصة بن ذؤيب: كنا نسمع نداء عبد الملك من وراء الحجرة في مرضه: يا أهل النعم لا تستقلوا شيئاً من النعم مع العافية.
وروي أنه لما حضرته الوفاة أمر فصعد به إلى أعلى سطح في داره فقال: يا دنيا ما أطيب ريحك، يا أهل العافية لا تستقلوا منها شيئاً.
علي بن العباس النوبختي: من المنسرح
كيف رأيت الدواء أعقبك الل ... ه شفاء به من السقم
أئن تخطت إليك نائبةٌ ... مشت جميع القلوب بالألم
فالدهر لا بد محدث طبعاً ... في صفحتي كل صارم خذم
القصافي في الفصد: من الطويل
أرقت دماً لو تسكب المزن مثله ... لأصبح وجه الأرض أخضر زاهيا
دماً طيباً لو يطلق الدين شربه ... لكان من الأسقام للناس شافيا
أبو النجم العجلي: من الرجز
والمرء كالحالم في المنام ... يقول إني مدرك أمامي
من قابل ما فاتني في العام ... والمرء يدنيه إلى الحمام
مر الليالي السود والأيام ... إن الفتى يصبح للأسقام
كالغرض المنصوب للسهام ... أخطأ رام وأصاب رام
وقال محمد بن هانئ في الفصد: من الكامل
ما حق كفك أن تمد لمبضعٍ ... من بعد زعزعة القنا الأملود
ما كان ذاك جزاء بمجالها ... بين الندى والطعنة الأخدود
لو ناب عنها فصد شيء غيرها ... لوقيت معصمها بحبل وريدي

نوادر من هذا الباب

كان بالمدينة عجوز شديدة العين لا تنظر إلى شيء تستحسنه إلا عانته، فدخلت على أشعب وهو مريض في الموت، وهو يقول لبنته: يا بنية إذا مت فلا تندبيني والناس يسمعونك، وتقولين وإذا أبتاه أندبك للصوم والصلاة، للفقه والقرآن، فيكذبك الناس ويلعنوني. والتفت أشعب فرأى المرأة فغطى وجهه بكمه وقال لها: يا فلانة، بالله إن كنت استحسنت شيئاً مما أنا فيه فصلي على النبي عليه السلام ولا تهلكيني، فغضبت المرأة وقالت: سخنت عينك، وفي ي شيء أنت مما يستحسن؟ أنت في آخر رمق، قال: قد علمت، ولكن قلت لا تكونين قد استحسنت خفة الموت علي وسهولة النزع، فيشتد ما أنا فيه. فخرجت من عنده وهي تشتمه، وضحك من كان حوله من كلامه، ثم مات.
كان لنا صديق يعرف بأبي نصر الكلوذاني ويلقب بالرفشعر جمعاً بين رفاء وشاعر مرض بواسط فأشفى، وسمع أخوه وهو ببغداد خبره فانحدر ظناً أنه يموت فيحوز ميراثه، فلما وصل إليه وجده قد أبل فقال: يا أخي ما جاء بك؟ قال: سمعت بمرضك فجئت أعودك وأمرضك، فقال: عد يا أخي فإن الحاجة ما قضيت.
مرض الأعمش فعاده رجل وأطال الجلوس، فقال: يا أبا محمد ما أشد شيء مر عليك في علتك هذه؟ قال: دخولك إلي، وقعودك عندي.
ودخل عليه أبو حنيفة يعوده فقال له: يا أبا محمد لولا أنه يثقل عليك لعدتك في كل يوم، فقال له: أنت تثقل علي وأنت في بيتك فيكف في بيتي؟ وعاده آخر فقال له: كيف نجدك؟ فقال: في جهد من رؤيتك، قال: ألبسك الله العافية، قال: نعم منك.
مرض مزبد فعاده رجل فقال له: احتم، قال: يا هذا أنا ما أقدر على شيء إلا على الأماني أفأحتمي منها؟! دخل على الجماز رجلٌ يعوده من مرضه، فلما نهض قال للجماز: تأمر بشيء؟ قال: نعم، بترك العودة.
كان إسماعيل بن علية أحمق، فعاد مريضاً، وقد كان مات لأهل المريض رجل فلم يعلموه بموته، فقال إسماعيل: يهون عليكم إذا مات هذا أن لا تعلموني أيضاً؟! أصابت سعيداً الدارمي قرحة في صدره، فدخل عليه بعض أصدقائه يعوده، فرآه قد نفث نفثاً أخضر، فقال له: أبشر فقد اخضرت القرحة وعوفيت، فقال: هيهات والله لو نفثت كل زمردة في الأرض ما أفلت منها.
أصاب حمزة بن بيض حصر، فدخل عليه قوم يعودونه وهو في كرب القولنج، إذ ضرط رجل منهم فقال حمزة: من هذا المنعم عليه؟ رأى رجل قوماً يعودون عليلاً فعزاهم فقالوا: لم يمت بعد، فقام وهو يقول: يموت إن شاء الله.
مرض حماد عجرد فعاد أصدقاؤه جميعاً إلا مطيع بن إياس، وكان خاصاً به، فكتب إليه: من الوافر
كفاك عيادتي من كان يرجو ... ثواب الله في صلة المريض
فإن تحدث لك الأيام سقماً ... يحول جريضه دون القريض
يكن طول التأوه منك عندي ... بمنزلة الطنين من البعوض
دخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وهو يتأوه فقال: يا أمير المؤمنين لو أدخلت عليك من يؤنسك بأحاديث العرب وفنون الأسمار. قال: لست صاحب هزل، والجد مع علتي أحجى بي، قال: وما علتك يا أمير المؤمنين؟ قال: هاج بي عرق النسا في ليلتي هذه فبلغ مني، قال: فإن بديحاً أرقى الخلق منه، فوجه إليه عبد الملك. فلما مضى الرسول إليه أسقط في يدي ابن جعفر وقال: كذبة قبيحة عند خليفة؛ فما كان بأسرع من أن طلع بديح، فقال له عبد الملك: كيف رقيتك من عرق النسا؟ قال: أرقى الخلق يا أمير المؤمنين. فسري عن عبد الله بن جعفر لأن بديحاً كان صاحب فكاهة يعرف بها، فمد رجله فتفل عليها ورقاها مراراً؛ فقال عبد الملك: الله أكبر وجدت والله خفاً، يا غلام ادع فلانة حتى تكتب الرقية فإنا لا نأمن من هيجها بالليل، فلا نذعر بديحاً. فلما جاءت الجارية قال بديح: يا أمير المؤمنين امرأته الطلاق إن كتبتها حتى تعجل حبائي، فأمر له بأربعة آلاف درهم. فلما صارت بين يديه قال: وامرأته الطلاق إن كتبتها حتى يصير المال في منزلي؛ فلما أحرزه قال: يا أمير المؤمنين وامرأته الطلاق إن كنت قرأت على رجلك إلا أبيات نصيب: من الطويل
ألا إن ليلى العامرية أصبحت ... على النأي مني ذنب غيري تنقم
وهي أبيات مشهورة. قال: ويلك ما تقول؟ قال: امرأته الطلاق إن كان رقاك إلا بما قال، قال: فأكتمها علي. قال: وكيف وقد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر، فضحك عبد الملك حتى فحص برجله.

دخل على محمد بن مغيث المغربي بعض إخوانه يعوده في مرضه الذي مات فيه، وكان ابن مغيث مستهتراً بالخمر، فقال له: هل تقدر على النهوض لو رمته؟ فقال: لو شئت مشيت من هاهنا إلى حانوت أبي زكريا النباذ، قال: فألا قلت إلى الجامع؟ قال: لكل امرئ ما نوى، قال: ولكل امرئ من دهره ما تعودا.
دخل ابن مكرم على أبي العيناء يعوده فقال: ارتفع فديتك، فقال: رفعك الله إليه، أي أماتك.
كان لرجل غلام من أكسل الناس، فأمره بشراء عنب وتين، فأبطأ ثم جاء بأحدهما، فضربه وقال: ينبغي لك إذا استقضيتك حاجةً أن تقضي حاجتين. ثم مرض فأمره أن يأتي بطيب، فجاء به وبرجل آخر، فسأله: من هذا؟ فقال: أما ضربتني وأمرتني أن أقضي حاجتين في حاجة؟ جئتك بطبيب فإن رجال وإلا حفر هذا قبرك، فهذا طبيب وهذا حفار.
عاد أعرابي أعرابياً فقال له: بأبي أنت وأمي بلغني أنك مريض، فضاق علي والله الفضاء لعريض، فأردت إتيانك فلم يكن بي نهوض، فلما حملتني رجلاي، ولساء ما تحملان، جئتك بجرزة شيح ما مسها عرنين قط، فاشممها واذكر نجداً، فهو الشفاء بإذن الله.
ابن الحجاج: من الرمل المجزوء
أيها النزلة بيني ... واصعدي فوق لهاتي
و دعي حلقي بحقي ... فهو دهليز حياتي
دخل الخليل على مريض نحوي وعنده أخ له فقال للمريض: افتح عيناك، وحرك شفتاك، فإن أبو محمد جالساً، فقال: إني أرى أن أكثر علة أخيك من كلامك.

الباب الحادي والعشرون
في المودة والإخاء والمعاشرة والاستزارة
بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن
الحمد لله جامع أهواء القلوب بعد شتاتها، وواصل حبال المودة بعد بتاتها، الذي من علي المؤمنين بأن جعلهم بعد الفرقة إخواناً، ووعدهم على التآلف مغفرة ورضواناً، وبعث رسوله من أكرم محتد وأطهر ميلاد، فأطفأ ببعثته نيران الإحن والأحقاد؛ أرسله والكفر ممتد الرواق، والعرب قائمة حربها على ساق، قد جبلت قلوبها على الافتراق، ودانت فيما بينها بالتباين والشقاق، فدعاهم إلى منار الهدى، وأنقذهم من هوة الردى، لاءم بين نفوس أعيت من قبله على داعيها، واستقاد بعد النفرة عاصي شاردها وآبيها، فجمعهم على المودة والصفاء، وأزال عنهم كلفة الضغينة والشحناء، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً، وعادوا بفضله بعد العداء خلاناً، صلى الله عليه وعلى آله، صلاة تضاهي شرف مبعثه ومآله.
المودة والإخاء سبب للتآلف، والتآلف سبب القوة، والقوة حصن منيع وركن شديد، بها يمنع الضيم، ويدرك الوتر، وتنال الرغائب، وتنجح المطالب. وقد امتن الله عز وجل على قوم وذكرهم نعمته عندهم بأن جمع قلوبهم على الصفاء، وردها بعد الفرقة إلى الألفة والإخاء، فقال: " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً " آل عمران: 103، ووصف نعيم الجنة وما أعد فيها من الكرامة لأوليائه فكان منها أن جعلها إخواناً على سرر متقابلين.
قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: أكثروا من الإخوان فإن ربكم حيي كريم يستحي أن يعذب عبده بين إخوانه.

وقد سن صلى الله عليه وعلى آله وسلم الإخاء وندب إليه إذ آخى بين أصحابه. روى زيد بن أبي أوفى قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده فقال: أين فلان بن فلان؟ فجعل ينظر في وجوه أصحابه ويتفقدهم ويبعث إليهم حتى توافوا عنده، فلما توافوا عنده حمد الله وأثنى عليه ثم قال: غني محدثكم حديثاً فاحفظوه وعوه، وحدثوا به من بعدكم. إن الله عز وجل اصطفى من خلقه خلقاً يدخلهم الجنة ثم تلا " الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس " الحج: 75. وإني أصطفي منكم من أحب أن أصطفيه، ومواخٍ بينكم كما آخى الله عز وجل بين ملائكته. قم يا أبا بكر فاجث بين يدي، فإن لك عندي يداً الله يجزيك بها، فلو كنت متخذاً خليلاً لأتخذتك خليلاً، فأنت مني بمنزلة قميصي من جسدي. ثم تنحى أبو بكر، ثم قال: ثم قال: ادن يا عمر، فدنا منه فقال: لقد كنت شديد الشغب علينا أبا حفص، فدعوت الله أن يعز الإسلام بك أو بأبي جهل بن هشام، ففعل الله ذلك بك، وكنت أحب إلى الله، فأنت معي في الجنة ثالث ثلاثة من هذه الأمة. ثم تنحى عمر ثم آخى بينه وبين أبي بكر. ثم دعا عثمان فقال: ادن أبا عمرو، ادن أبا عمرو، فلم يزل يدنو منه حتى ألصق ركبتيه بركبتيه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء فقال: سبحان الله العظيم، ثلاث مرات، ثم نظر إلى عثمان وكانت أزراره محلولة فزرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال: اجمع عطفي ردائك على نحرك. ثم قال: إن لك شأناً في أهل السماء، أنت ممن يرد علي حوضي وأوداجه تشخب دماً، فأقول: من فعل بك هذا؟ فتقول: فلان وفلان، وذلك كلام جبريل، إذا هاتف يهتف من السماء فقال: ألا إن عثمان أمير على كل مخذول. ثم تنحى عثمان، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: ادن يا أمين الله، أنت أمين الله وتسمى في السماء الأمين، يسلطك الله على مالك بالحق. ما إن لك عندي دعوة قد وعدتكها وقد أخرتها. قال خر لي يا رسول الله، قال: حملتني يا عبد الرحمن أمانة. ثم قال: إن لك شأناً يا عبد الرحمن، أما إنه أكثر الله مالك، وجعل يقول بيده هكذا وهكذا، ووصف حسين بن محمد: جعل يحثو بيده ثم تنحى عبد الرحمن، ثم آخى بينه وبين عثمان. ثم دعا طلحة والزبير فقال لهما: ادنوا مني فدنوا منه فقال لهما: أنتما حواري كحواري عيسى بن مريم، ثم آخى بينهما. ثم دعا عمار بن ياسر وسعداً فقال: يا عمار، تقتلك الفئة الباغية، وآخى بينه وبين سعد. ثم دعا عويمر بن زيد أبا الدرداء وسلمان الفارسي فقال: يا سلمان، أنت منا أهل البيت، وقد آتاك الله العلم الأول والآخر والكتاب الآخر، ثم قال: ألا أرشدك يا أبا الدرداء؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: إن تنتقدهم ينتقدوك، وإن تتركهم لا يتركوك، وإن تهرب منهم يدركوك، فأقرضهم عرضك ليوم فقرك، واعلم أن الجزاء أمامك، ثم آخى بينه وبين سلمان. ثم نظر في وجوه أصحابه فقال: ابشروا وقروا عيناً، أنتم أول من يرد علي حوضي وأنت في أعلى الغرف. ثم نظر إلى عبد الله بن عمر فقال: الحمد لله الذي يهدي من الضلالة، ويلبس الصلاة على من يحب. فقال علي: لقد ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت غيري، فإن كان هذا من سخط علي فلك العتبى والكرامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدين وأنت أخي ووارثي. قال: وما أرث منك يا نبي الله؟ قال: ما ورثت الأنبياء من قبلي. قال: وما ورثت الأنبياء من قبلك؟ قال: كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي، وأنت أخي ورفيقي. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " إخواناً على سررٍ متقابلين " الحجر: 47. المتحابين في الله ينظر بعضهم إلى بعض.
وقال صلى الله عليه وسلم: " المؤمن مرآة أخيه المؤمن، لا يخذله ولا يخونه ولا يعيبه ولا يمكر به، ولا يدفعه مدفع سوء ليغشه فيه، ولا يحل له من ماله إلا ما أعطاه من طيبة نفسه " . وتمام الخبر في غير المعنى.
وقال صلى الله عليه وسلم: " إنما المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عضو من أعضائه اشتكى له جسده أجمع، وإذا اشتكى المؤمن اشتكى له المؤمنون " .
وفي خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: المرء كثير بأخيه.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء.
وحق ما قيل: القرابة تفتقر إلى المودة، وليست المودة مفتقرة إلى القرابة، فإن المودة إذا صدقت لم يكن بين الخليلين امتياز في مال ولا جاه، ولا مسرة ولا مساءة. والقرابة إذا خلت من الود استدعت القطيعة، فكانت العداوة بها أشد من عداوة الأباعد. وما أجود قول أبي فراس ابن حمدان في نحو هذا المعنى: من الطويل
وهل أنا مسرور بقرب أقاربي ... إذا كان لي منهم قلوب الأباعد
ومن هذا المعنى قول جعفر بن محمد: ولائي لأمير المؤمنين علي عليه السلام أحب إلي من ولادتي منه.
وقد قال محمد بن علي بن الحسين يوماً لأصحابه: أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ حاجته من الدنانير والدراهم؟ قالوا: لا، قال: فلستم إذن بإخوان.
وقال جعفر بن محمد: من حق أخيك أن تحمل له الظلم في ثلاث مواقف: عند الغضب، وعند الدالة، وعند الهفوة. وروي نحوه عن الأحنف بل هو المعنى بعينه.
ونظر فيثاغورس الحكيم إلى رجلين لا يكادان يفترقان فقال: أي قرابة بين هذين؟ فقل له: ليس بينهما قرابة ولكنهما متصادقان، قال: فلم صار أحادهما فقيراً والآخر غنياً؟ يريد لو كانا صديقين لتواسيا.
وإلى هذا المعنى نظر إبراهيم بن العباس في قوله: من الطويل
ولكن عبد الله لما حوى الغنى ... وصار له من بين إخوانه مال
رأى خلةً من حيث يخفى مكانها ... فساهمهم حتى استوت بهم الحال
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في لثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته. هذه هي الخلقة المحمودة والمودة المندوب إليها والمحافظة عليها.
ومن كلامه عليه السلام: أيها الناس إنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه، وألمهم لشعثه، وعطفهم عليه عند نازلة إن نزلت به. ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما يقبض عنهم يداً واحدة وتقبض منهم عنه أيد كثيرة. ومن لم يلن جانبه لم يستدم من قومه المودة. فرأى حفظ العشيرة وتألفها بالمودة.
وكذلك أوصى عبد الملك بن مروان عند موته بنيه لما رأى أن الرحم لا تنفعهم إلا بالتآلف والتوازر، والقرابة لا يحفظها إلا التودد والتناصر، وأنشدهم متمثلاً: من الكامل
انفوا الضغائن والتحاسد بينكم ... عند المغيب وفي حضور المشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مد في عمري وإن لم يمدد
فلمثل ريب الدهر ألف بينكم ... بتواصل وتراحم وتودد
إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيد
عزت فلم تكسر وإن هي بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد
قال عبد الله بن شداد بن الهاد لابنه: لا تؤاخ أحداً حتى تعاشره، وتتفقد موارد أمره ومصادره، فإذا استطبت العشرة، ورضيت بالخبرة، فآخه على إقالة العثرة، والمواساة في العشرة، وكن كما قال أبو يزيد العدوي ويروى لعبد الله بن معاوية الجعفري: من الكامل
ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمن أمورهم وتفقد
فإذا ظفرت بذي الديانة والتقى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد
ومتى يزل ولا محالة زلةً ... فعلى أخيك بفضل حلمك فاردد
وكان عمر بن عبد العزيز ينشد في ذلك: من الكامل المرفل
وإذا أخ لي حال عن خلقٍ ... داويت منه ذاك بالرفق
إني لأمنح من يواصلني ... مني صفاء ليس بالمذق
والمرء يصنع نفسه ومتى ... ما تبله ينزع إلى العرق
وقال علي عليه السلام: المودة قرابة مستجدة. وقد ذكر الله عز وجل أهل جهنم وما يلقون فيها من الحسرة والأسف، ويعانون من الكمد واللهف، إذ يقولون " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " الشعراء: 100 - 101.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: رأس العقل بعد الإيمان بالله عز وجل التودد إلى الناس.

وقال أنس بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي عليه السلام: يا علي استكثر من المعارف من المؤمنين، فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة. فمضى علي فأقام حيناً لا يلقى أحداً إلا اتخذه للآخرة، ثم جاء بعد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعلت فيما أمرتك؟ قال: قد فعلت يا رسول الله، فقال له: اذهب فابل أخبارهم، فأتى علي النبي صلى الله عليه وسلم وهو منكس رأسه، فقال له، وتبسم: ما أحسب يا علي ثبت معك إلا أبناء الآخرة، فقال له علي: لا والذي بعثك بالحق، فقال له النبي عليه السلام: " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " الزخرف: 67 يا علي أقبل على شأنك، واملك لسانك، واعقل من تعاشر من أهل زمانك، تكن سالماً غانماً.
قال صاحب كليلة ودمنة: لا يحقرن الكبير مودة صغير المنزلة، فإن الصغير ربما عظم فعظم، كالعقب يؤخذ من الميتة فإذا علمت به القوس أكرمت، واتخذها الملك لبأسه.
وقال علي بن الحسين عليهما السلام: لا تعادين أحداً وإن ظننت أنه لا يضرك، ولا تزهدن في صداقة أحد وإن ظننت أنه لا ينفعك، فإنك لا تدري متى ترجو صديقك، ولا تردي متى تخاف عدوك، ولا يعتذر إليك أحد إلا قبلت عذره، وإن علمت أنه كاذب.
وقال الشارع: من المتقارب
وما المرء إلا بأعوانه ... كما تقبض الكف بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعة ... ولا خير في الساعد الأجذم
وقال آخر: من الطويل
تثاقلت إلا عن يد أستفيدها ... وخلة ذي ود أشد به أزري
ونظر إلى معنى كلام فيثاغورس بعض العرب فقال: من الطويل
عجبت لبعض الناس ببذل وده ... ويمنع ما ضمت عليه الأصابع
إذا أنا أعطيت الخليل مودتي ... فليس لمالي بعد ذلك مانع
واختر صديقك ملائماً لشكلك، مناسباً لطبعك، فإن التباين والتنائي لقاح المقت وداعية القلى؛ وقد قيل: الصاحب كالرقعة في الثوب فاطلبه مشاكلاً.
وقال عبد بني الحسحاس: من الطويل
فإن تقبلي بالود أقبل بمثله ... وإن تدبري أدبر على حال باليا
ألم تعلمي أني قليل لبانتي ... إذا لم يكن شيء لشيء مؤاتيا
وارتده قليل التلون، فإن الزمان لا يثبت على حاله، وأخلق به إذا لم يكن محافظاً أن يدور مع الدهر كيفما دار، واحذر أن تكون منه على قول زهير: من الوافر
لعمرك والخطوب مغيرات ... وفي طول المعاشرة التقالي
وسأل رجل علياً عليه السلام عن الإخوان فقال: الإخوان صنفان: إخوان الثقة، وإخوان المكاثرة؛ فأما إخوان الثقة فهم الكهف والجناح والأهل والمال، فإذا كنت من صاحبك على حد الثقة فابذل له مالك ويدك، وصاف من صافاه، وعاد من عاداه، واكتم سره وغيبه، وأظهر منه الحسن. واعلم أيها السائل أنهم أقل من الكبريت الأحمر. وأما إخوان المكاثرة فإنك تصيب منهم لذتك، فلا تقطعن ذلك فيهم، ولا تطلبن ما وراء ذلك من ضميرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان.
ومن دواعي الود ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ثلاث يثبتن لك الود في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام وتوسع له في المجلس، وتدعون بأحب الأسماء إليه. وقول علي كرم الله وجهه من لانت كلمته وجبت محبته. وقول جعفر بن محمد: داو المودة بكثرة التعاهد فإن قدرت على أن يكون من تؤاخيه كما قال الشاعر: من الطويل
أخ لي كذوب الشهد طعم إخائه ... إذا اشتبهت بيض الليالي وسودها
كأمنية الملهوف بذلاً ونائلاً ... وعوناً على عمياء أمر يكيدها
له نعم عندي بعلت بشكرها ... على أنه في كل يوم يزيدها
وإلا فاقنع بالهوينا، واقبل منه عفوه، واعتذر لهفوته: من الطويل
فلست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
ومن لك بأخيك كله. وقد قال محمد بن علي: من لم يرض من أخيه بحسن النية لم يرض بالعطية. وقال طلحة: كل أحد يتمنى صديقاً على ما يصفه، ولا يكون هو لصديقه على ما يقترحه، فلهذا يطول التشكي ويقوي الأسف.

وقال صاحب كليلة ودمنة: المودة بين الصالحين بطيء انقطاعها، سريع اتصالها، كآنية الذهب: بطيئة الانكسار، هينة الإعادة. والمودة بين الأشرار سريع انكسارها، بطيء اتصالها، كالآنية من الفخار، يكسرها أدنى علة ثم لا وصل لها.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله: أي الأصحاب خير؟ قال: صاحب إن ذكرت أعانك، وإن نسيت لم يذكرك، وإن ذكرت لم يعنك.
وقيل: صاحب من ينسى معروفه عندك ويتذكر حقوقك عليه.
وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أحب إليك؟ قال: الذي يسد خللي، ويغفر زللي، ويقبل عللي.
افتقد عبد الله بن جعفر صديقاً له من مجلسه ثم جاءه فقال: أين كانت غيبتك؟ فقال: خرجت إلى عرض من أعراض المدينة مع صديق لي، فقال له عبد الله: إن لم تجد من صحبة الرجل بداً فعليك بصحبة من إذا صحبته زانك، وإن خففت له صانك، وإن احتجت إليه مانك، وإن رأى منك خلة سدها، أو حسنة عدها، وإن وعدك لم يحرضك، وإن كثرت عليه لم يرفضك، وإن سألته أعطاك، ون أمسكت عنه ابتداك.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: من لم يكن فيه ثلاث خصال فلا تؤاخه: ورع يحجزه عن معاصي الله عز وجل، وحلم يطرد به فحشه، وخلق يعيش به في الناس.
وقال حكيم لابنه: يا بني، المدبر لا يوفق لطرق المرشد، فإياك وصحبة المدبر، فإنك إن صحبته علق بك إدباره، وإن تركته بعد صحبتك إياه تتبعت نفسك آثاره.
وقال عمرو بن مسعدة أو ثابت أبو عباد: لا تستصحب من يكون استمتاعه بمالك وجاهك أكثر من إمتاعه لك بشكر لسانه وفوائد علمه. ومن كانت غايته الاحتيال على مالك وإطراءك في وجهك فإن هذا لا يكون إلا رديء الغيب سريعاً إلى الذم.
وقال علي عليه السلام: لا تؤاخ الفاجر فإنه يزين لك فعله، ويحب لو أنك مثله، ويحسن لك سوء خصاله، ومخرجه من عندك ومدخله شين وعار.
وقال: لا تؤاخ الأحمق فإنه يجهد لك نفسه ولا ينفعك، وربما أراد أن ينفعك فضرك، فسكوته خير من نطقه، وبعده خير من قربه، وموته خير من حياته. ولا تؤاخ الكذاب فإنه لا ينفعك معه عيش: ينقل حديثك وينقل الحديث إليك حتى نه ليحدث بالصدق ولا يصدق.
وقيل: إخوان السوء كشجرة النار يحرق بعضها بعضاً.
ومن كلام جمعه عبد الله بن المعتز: إخوان الخير يسافرون في طلب المودة حتى يبلغوا الثقة؛ فتطمئن أبدان، وتؤمن خبايا الضمائر، وتلقى ملابس التخلق، وتحل عقد التحفظ. وإخوان السوء ينصرفون عند النكبة، ويقبلون مع النعمة، ومن شأنهم التوسل بالإخلاص والمحبة إلى أن يظفروا بالأنس والثقة، ثم يوكلون الأعين بالأفعال، والأسماع بالأقوال، فإن رأوا خيراً أو نالوه لم يذكروه ولم يشكروه، وعملوا على أنهم خدعوا صاحبهم عنه وقمروه، وإن رأوا شراً أو ظنوه أذاعوه ونشروه، فإن أدمت مواصلتهم فهو الداء المماطل، المخوف على المقاتل وإن استرحت إلى مصارمتهم ادعوا الخبرة بك لطول العشرة، فكان كذب حديثهم مصدقاً، وباطله محققاً.
وروي أنه جلس أبو إسحاق الفزاري وابن عيينة وابن المبارك يتذاكرون فقال ابن المبارك: قال داود عليه السلام: يا رب أعوذ بك من جليس مماكر، عينه تراني، وقلبه يرعاني، إن رأى حسنة كتمها، وإن رأى سيئة أذاعها. فقال أبو إسحاق: نعم الجليس هذا، فقال ابن عيينة: يا أبا إسحاق، داود نبي الله يتعوذ من هذا وأنت تقول: نعم الجليس؟ قال: نعم هذا الذي ينتظر حتى يرى مني زلة، ليت أنه لا يرميني بها قبل أن يراها مني.
وقال الشاعر: من الوافر
صديقك حين تستغني كثير ... ومالك عند فقرك من صديق
فلا تغضب على أحد إذا ما ... طوى عنك الزيارة عند ضيق
وقيل: ليس كل من حنت عليه النفس يستحق هبة المودة، ولا يؤتمن على المؤانسة، فالبسوا للناس الحشمة في الباطن، وعاشروهم بالبشر في الظاهر حتى تختبرهم المحن.
وقال جعفر بن محمد عليهما السلام: من لم يقدم الامتحان قبل الثقة قبل الأنس، أثمرت مودته ندماً.
وقال: من لم يؤاخ إلا من لا عيب فيه قل صديقه، ومن لم يرضى من صديقه إلا بإيثاره إياه على نفسه دام سخطه، ومن عاتب على كل ذنب كثر تعتبه؛ وقريب منه قول الشاعر: من الطويل
ومن لم يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يعش وهو عاتب

وقال محمد بن علي بن موسى لبعض الثقات عنده، وقد أكثر من تقريظه: أقلل من ذلك، فإن كثرة الملق تهجم على الظنة، وإذا حللت من أخيك في الثقة فاعدل عن الملق إلى حسن النية.
وقال أسماء بن خارجة: إذا قدمت المودة سمج الثناء.
وقال علي عليه السلام: من ضيعه الأقرب أتيح له الأبعد؛ ومنه قول الشاعر: من الكامل المجزوء
ولقد يكون لك الصدي ... ق أخاً ويقطعك الحميم
وقال عليه السلام: أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم.
وقال عليه السلام: لا يكونن أخوك على قطيعتك أقوى منك على صلته، ولا يكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان.د وقيل: لا يفسدك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له. لا تقطع أخاك إلا بعد عجز الحيلة عن استصلاحه ولا تتبعه بعد القطيعة وقيعة فيه فتسد طريقه عن الرجوع إليك؛ ولعل التجارب أن ترده عليك وتصلحه لك.
وقال صاحب كليلة ودمنة: من اتخذ صديقاً ثم أضاع رب صداقته حرم ثمرة إخائه، وآيس الإخوان من نفسه. ومثله قول محمد بن عبيد الأزدي ويروي لغيره: من الطويل
ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه ... لترجعه يوماً إلي الرواجع
وقال ديك الجن: من الوافر
إذا شجر المودة لم تجده ... سماء البر أسرع في الجفاف
قال محمد بن علي عليهما السلام: اعرف المودة لك في قلب أخيك بما له في قلبك.
وقال ربيعة بن مقروم الضبي: من الوافر
أخوك أخوك من يدنو وترجو ... مودته وإن دعي استجابا
إذا حاربت حارب من تعادي ... وزاد سلاحه منك اقترابا
يواسي في كريهته ويدنو ... إذا ما مضلع الحدثان نابا
وكنت إذا قريني جاذبته ... حبالي مات أو تبع انجذابا
بمثلي فاشهد النجوى وعالن ... بي الأعداء والقوم الغلابا
قال رجل لخالد بن صفوان: علمني كيف أسلم على الإخوان، فقال: لا تبلغ بهم النفاق، ولا تتجاوز قدر الاستحقاق.
نهض هشام بن عبد الملك عن مجلسه مرة فسقط رداؤه عن منكبه، فتناوله بعض جلسائه ليرده إلى موضعه، فجذبه هشام من يده وقال: مهلاً إنا لا نتخذ جلساءنا خولاً.
وكان الصاحب أبو القاسم ابن عباد يقول لجلسائه ومعاشريه: نحن بالنهار سلطان، وبالليل إخوان.
وقريب منه قول أبي الحسن ابن منقذ: من الخفيف
لست ذا ذلة إذا عضني الده ... رُ ولا شامخاً إذا واتاني
أنا نار في مرتقى نفس الحا ... سد ماء جار مع الإخوان
وقال سليمان بن عبد الملك: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا الفاره، وامتطينا العذراء، فلم يبق من لذتي إلا صديق أطرح فيما بيني وبينه مؤونة التحفظ.
قال سالم بن وابصة: من الطويل
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كأن به عن كل فاحشةٍ وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى ... ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجرا
إذا ما أتت من صاحب لك لزلة ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا
وقال أوس بن حجر: من الطويل
وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمناً ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
وقال الهذيل بن مشجعة البولاني: من الكامل
إني وإن كان ابن عمي غائباً ... لمقاذف من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرءاً ... متزحزحاً في أرضه وسمائه
ومتى أجده في الشدائد مرملاً ... ألق الذي في مزودي بوعائه
وإذا تتبعت الجلائف ماله ... خلطت صحيحتنا إلى جربائه
فإذا أتى من وجهه بطريقة ... لم أطلع مما وراء خبائه
وإذا اكتسى ثوباً جميلاً لم أقل ... يا ليت أن علي فضل ردائه
وإذا غدا يوماً ليركب مركباً ... صعباً قعدت له على سيسائه
وقال بعض بني غطفان: من الطويل
إذا أنت لم تستبق ود صحابةٍ ... على دخن أكثر بث المعاتب
وإني لأستبقي امرأ السوء عدة ... لعدوة عريض من الناس عائب
أخاف كلاب الأبعدين ونبحها ... إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب

ابن دينار الواسطي في مدح صديق: من الطويل
بنفسي من صافيته فوجدته ... أرق من الشكوى وأصفى من الدمع
يوافقني في الجد والهزل طائعاً ... فينظر من عيني ويسمع من سمعي
ابن الرومي في ضده: من الطويل
وزهدني في كل خل وصاحبٍ ... من الناس كشفي صاحباً بعد صاحب
وما ظفرت كفي بخل تسرني ... بواديه إلا ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لدفع ملمةٍ ... من الدهر إلا كان إحدى المصائب
وقال أيضاً في قلة الاحتمال للصديق: من الخفيف
أنت عيني وليس من حق عيني ... غض أجفانها على الأقذاء
وقال عبد الله بن المعتز يعتذر له: رب صديق يؤتى من جهله لا من نيته.
قال الحسن بن وهب: كاتب رئيسك بما يستحق، ومن دونك بما يستوجب. وكاتب صديقك كما تكاتب حبيبك، فإن غزل المودة أرق من غزل الصبابة.
قيل لعبد الحميد: أخوك أحب إليك أم صديقك؟ فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقاً.
قيل لروح بن زنباع: ما معنى الصديق؟. قال: هو لفظ بلا معنى؛ يعني لعوزه.
كان بعضهم يقول: اللهم احفظني من أصدقائي، فسئل عن ذلك فقال: إني أحفظ نفسي من أعدائي.
قال بعضهم: أنا بالصديق آنس مني بالأخ فقال له ابن المقفع: صدقت، الصديق نسيب الروح، والأخ نسيب الجسم.
قيل: أبعد الناس سفراً من كان في طلب صديق يرضاه.
صن الاسترسال حتى تجد له مستحقاً، واجعل أنسك آخر ما تبذله من ودك.
لا تعدن من إخوانك من آخاك في أيام مقدرتك للمقدرة، واعلم أنه يثقل عليك في أحوال ثلاثة فيكون صديقاً يوم حاجته إليك، ومعرفة يوم استغنائه عنك، ومتجنباً يوم حاجتك إليه.
يحيى بن زياد: من الطويل
وإذا تخيرت الرجال لصحبةٍ ... فالعاقل البر السجية فاختر
إبراهيم بن العباس: من الطويل
إذا أنت لم تملك أخاك بقلبه ... وخانتك آمال به ومطالب
غدوت به مر المذاق وأجلبت ... عليك به في النائبات العواقب
بعض بني أسد: من الطويل
وما أنا بالنكس الدنيء ولا الذي ... إذا صد عني ذو المودة أحرب
ولكنني إن دام دمت وإن يكن ... له مذهب عني فلي عنه مذهب
ألا إن خير الود ود تطوعت ... به النفس لا ود أتى وهو متعب
جرير: من الطويل
وإني لسهل للصديق ملاطفٌ ... وللكاشح العادي شجىً داخل الحلق
وقيل: كل شيء شيء، ومصافاة الملوك لا شيء.
سئل شبيب بن شبة عن خالد بن صفوان فقال: ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية.
وقال آخر: إن من الناس ناساً ينقصونك إذا زدتهم، وتهون عليهم إذا خاصمتهم، ليس لرضاهم موضع تعرفه، ولا لسخطهم موضع تحذره، فإذا عرفت أولئك بأعيانهم فابذل لهم موضع المودة، واحرمهم موضع الخاصة، ليكون ما بذلت لهمم من المودة حائلاً دون شرهم، وما حرمتهم من الخاصة قاطعاً لحرمتهم.
صالح بن عبد القدوس: من الطويل
تجنب صديق السوء واصرم حباله ... فإن لم تجد عنه محيصاً فداره
ولله في عرض السموات جنة ... ولكنها محفوفةٌ بالمكاره
وقيل: دار عدوك لأحد أمرين: إما لصداقة تؤمنك، أو فرصة تمكنك.
شاعر: من الطويل
إذا كان ذواقاً أخوك مصارماً ... موجهةً من كل أوبٍ ركائبه
فخل له ظهر الطريق ولا تكن ... مطية رحال كثير مذاهبه
آخر: من الطويل
أخوك الذي إن سرك الأمر سره ... وإن ناب أمر ظل وهو حزين
يقرب من قربت من ذي مودة ... ويقصي الذي أقصيته ويهين
أراد الحسن الحج فطلب ثابت البناني أن يصاحبه فقال: ويحك دعنا نتعايش بستر الله. إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه.
قال المنصور: ما تلذذت بشيء تلذذي بمصادقة عمرو بن عبيد، ثم وليت هذا الأمر فهجرني، فوالله لساعة منه أحب إلي مما أنا فيه. كنت إذا أعسرت ملأ قلبي بأنس القناعة، وإذا اغتممت آنسني بنيل الثواب.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19