كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم السعي فوق سقف المسعى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، وبعد (1) :
فبناء على خطاب سمو نائب وزير الداخلية للمملكة العربية السعودية رقم ( 26 \ 10612 ) وتاريخ 21 \ 3 \ 1393 هـ المتضمن رغبة وزارة الداخلية في دراسة موضوع السعي فوق سقف المسعى من قبل هيئة كبار العلماء بالمملكة .
وبناء على ما تقتضيه لائحة سير عمل الهيئة من قيام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداد بحث علمي فيما يحتاج إلى بحث من المواضيع التي تتجه الرغبة إلى دراستها في الهيئة - قامت اللجنة بإعداد بحث في حكم السعي فوق سقف المسعى .
__________
(1) نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الأول ، ص 179 - 196 ، عام 1395 هـ .

وفيما يلي ما تيسر إعداده من النصوص والنقول التي يمكن أن يستعان بها في هذا الموضوع :
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
وبعد : فإنه قد عرض على هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في دورتها الرابعة المنعقدة ما بين 29 \ 10 \ 1393 هـ و 12 \ 11 \ 1393 هـ موضوع ( حكم السعي فوق سقف المسعى ) ؛ ليكون وسيلة لعلاج ازدحام الناس في المسعى أيام موسم الحج .
واطلعت الهيئة على البحث المقدم عنه من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء . هذا نصه .

حكم السعي فوق سقف المسعى (1)
الأمر الأول : قال البخاري في [ صحيحه ] : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : حدثني طلحة بن عبد الله : أن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل أخبره : أن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من ظلم من الأرض شيئا طوقه من سبع أرضين » (2) .
قال ابن حجر : وفي الحديث تحريم الظلم والغصب ، وتغليظ عقوبته ، وإمكان غصب الأرض ، وأنه من الكبائر ، قاله القرطبي ، وكأنه فرعه على أن الكبيرة ما ورد فيه وعيد شديد ، وأن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى منتهى الأرض ، وله أن يمنع من حفر تحتها سربا أو بئرا بغير رضاه ، وفيه أن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة ثابتة وأبنية ومعادن وغير ذلك ، وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ، ما لم يضر بمن يجاوره . اهـ . (3) .
وقال العيني : بعد أن ساق حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من ظلم من الأرض شيئا طوقه من سبع
__________
(1) يمكن أن يرجع في ( حكم السعي بين الصفا والمروة فوق سقف المسعى ) إلى الأمور الآتية : أن من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين . الطواف والسعي على بعير ونحوه . استقبال الكعبة في الصلاة . رمي الحاج الجمرات وهو راكب .
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2320),صحيح مسلم المساقاة (1610),سنن الترمذي الديات (1418),مسند أحمد بن حنبل (1/190),سنن الدارمي البيوع (2606).
(3) [ صحيح ] البخاري ، مع شرحه [ فتح الباري ] ، ( 5 \ 38 ) .

أرضين » (1) (2) :
ذكر ما يستفاد منه : فيه دليل على أن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى منتهاها ، وله أن يمنع من حفر تحتها سربا أو بئرا ، سواء أضر ذلك بأرضه أو لا ، قاله الخطابي ، وقال ابن الجوزي : لأن حكم أسفلها تبع لأعلاها ، وقال القرطبي : وقد اختلف فيما إذا حفر أرضه فوجد فيها معدنا أو شبهه فقيل : هو له ، وقيل : بل للمسلمين ، وعلى ذلك فله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بجاره ، وكذلك له أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد . اهـ .
وقال الأبي (3) : قوله : « من ظلم شبرا من الأرض » (4) . . . واستدل بعضهم على أن من ملك ظاهر الأرض يملك ما تحته مما يقابله ، فله منع من يتصرف فيه أو يحفر ، وقد اختلف العلماء في هذا الأصل فيمن اشترى دارا فوجد فيها كنزا أو وجد في أرضه معدنا ، فقيل : له ، وقيل : للمسلمين .
ووجه الدليل من الحديث : أنه غصب شبرا فعوقب بحمله من سبع أرضين . . . إلى أن قال : وكذلك يملك ما قبل ذلك من الهواء يرفع فيه من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد . اهـ .
فدل ما تقدم على أن حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملك والاختصاص ونحوهما ، وعلى ذلك يمكن أن يقال : إن السعي فوق الطابق الذي جعل سقفا لأرض المسعى له حكم السعي على أرض
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2320),صحيح مسلم المساقاة (1610),سنن الترمذي الديات (1418),مسند أحمد بن حنبل (1/190),سنن الدارمي البيوع (2606).
(2) [ صحيح ] البخاري ، مع شرحه [ عمدة القاري ] ( 12 \ 298 ) .
(3) [ صحيح مسلم ] ، مع شرحه [ إكمال المعلم ] ( 4 \ 313 ، 314 ) .
(4) صحيح البخاري بدء الخلق (3026),صحيح مسلم المساقاة (1610),سنن الترمذي الديات (1418),مسند أحمد بن حنبل (1/187),سنن الدارمي البيوع (2606).

المسعى .

الأمر الثاني : وقد جاءت أحاديث في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير ، » (1) ومن رواية أم سلمة : « شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي ، فقال : طوفي وأنت راكبة » (2) ، وقد بوب البخاري في [ صحيحه ] فقال : ( باب المريض يطوف راكبا ) ثم ساق الحديثين السابقين : حديث ابن عباس ، وحديث أم سلمة ، قال ابن حجر (3) : أن المصنف حمل سبب طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا على أنه كان عن شكوى ، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ : « قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته » (4) (5) ، ووقع في حديث جابر عند مسلم : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس وليسألوه . وطاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ؛ ليراه الناس ، ويشرف ليسألوه » .
فيحتمل أن يكون فعل ذلك لأمرين ، وحينئذ لا دلالة فيه على جواز الطواف راكبا لغير عذر ، وكلام الفقهاء يقتضي الجواز ، إلا أن المشي أولى والركوب مكروه تنزيها ، والذي يترجح المنع ، لأن طوافه صلى الله عليه وسلم وكذا أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد ، ووقع في حديث أم سلمة : « طوفي من
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1534),صحيح مسلم الحج (1272),سنن النسائي المساجد (713),سنن أبو داود المناسك (1877),سنن ابن ماجه المناسك (2948),مسند أحمد بن حنبل (1/215).
(2) صحيح البخاري الصلاة (452),صحيح مسلم الحج (1276),سنن النسائي مناسك الحج (2925),سنن أبو داود المناسك (1882),سنن ابن ماجه المناسك (2961),مسند أحمد بن حنبل (6/319),موطأ مالك الحج (832).
(3) [ صحيح ] البخاري ، مع شرحه [ الفتح ] ، ( 3 \ 460 ) .
(4) سنن الترمذي الحج (865),سنن النسائي المساجد (713),سنن أبو داود المناسك (1881),سنن ابن ماجه المناسك (2948),مسند أحمد بن حنبل (1/248),سنن الدارمي المناسك (1845).
(5) تمام الحديث : كلما أتى على الركن استلم الركن بمحجنه فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين ، سكت عنه أبو داود ، وقال المنذري : في إسناده يزيد بن أبي زياد ولا يحتج به ، وقال البيهقي : في حديث يزيد بن أبي زياد لفظة لم يوافق عليها وهي قوله '' وهو يشتكي '' [ مختصر السنن ] ( 2 \ 377 ) .

وراء الناس » (1) ، وهذا يقتضي منع الطواف في المطاف ، وإذا حوط المسجد امتنع داخله ، إذ لا يؤمن التلويث ، فلا يجوز بعد التحويط ، بخلاف ما قبله ، فإنه كان لا يحرم التلويث كما في المسعى ، وعلى هذا فلا فرق في الركوب إذا ساغ بين البعير والفرس والحمار ، وأما طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه ولذلك عده بعض من جمع خصائصه فيها . اهـ .
وفي [ صحيح البخاري ] بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما . قال : « طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن » (2) .
قال العيني : وأخرج مسلم عن أبي الطفيل : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن » (3) ، وروى مسلم عن جابر : « طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ، ليراه الناس ، وليشرف ليسألوه » . . . قال : ذكر معناه قوله : « طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير » (4) . قال ابن بطال : استلامه بالمحجن راكبا يحتمل أن يكون لشكوى به . . . إلى أن قال : وقال النووي : قال أصحابنا : الأفضل أن يطوف ماشيا ، ولا يركب إلا لعذر من مرض ونحوه ، أو كان يحتاج إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى به ، فإن كان لغير عذر جاز بلا كراهة ، لكنه خلاف الأولى . . . إلى أن قال : وقال مالك وأبو حنيفة : إن طاف راكبا لعذر أجزأ ولا شيء عليه ، وإن كان لغير عذر فعليه دم ، قال أبو حنيفة : وإن كان بمكة أعاد الطواف . اهـ (5) .
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (452),صحيح مسلم الحج (1276),سنن النسائي مناسك الحج (2925),سنن أبو داود المناسك (1882),سنن ابن ماجه المناسك (2961),مسند أحمد بن حنبل (6/319),موطأ مالك الحج (832).
(2) صحيح البخاري الحج (1530),صحيح مسلم الحج (1272),سنن النسائي المساجد (713),سنن أبو داود المناسك (1877),سنن ابن ماجه المناسك (2948),مسند أحمد بن حنبل (1/248).
(3) صحيح مسلم الحج (1275),سنن أبو داود المناسك (1879),سنن ابن ماجه المناسك (2949),مسند أحمد بن حنبل (5/454).
(4) صحيح البخاري الحج (1530),صحيح مسلم الحج (1272),سنن النسائي المساجد (713),سنن أبو داود المناسك (1877),سنن ابن ماجه المناسك (2948),مسند أحمد بن حنبل (1/248).
(5) [ صحيح البخاري ] مع شرحه [ عمدة القاري ] ( 6 \ 523 ) .

وقال السرخسي : وإن طاف راكبا أو محمولا ؛ فإن كان لعذر من مرض أو كبر لم يلزمه شيء ، وإن كان لغير عذر أعاده ما دام بمكة ، فإن رجع إلى أهله فعليه الدم عندنا ، وعلى قول الشافعي لا شيء عليه ؛ لأنه صح في الحديث : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف للزيارة يوم النحر على ناقته واستلم الأركان بمحجنه » (1) .
ولكن نقول : المتوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا الطواف ماشيا ، وهذا على قول من يجعله كالصلاة ؛ لأن أداء المكتوبة راكبا من غير عذر لا يجوز ، فكان ينبغي أن لا يعتد بطواف الراكب من غير عذر ، ولكنا نقول : المشي شرط الكمال فيه ، فتركه من غير عذر يوجب الدم ؛ لما بينا ، فأما تأويل الحديث فقد ذكر أبو الطفيل رحمه الله أنه طاف راكبا لوجع أصابه ، وهو أنه وثبت رجله ؛ فلهذا طاف راكبا ، وذكر أبو الزبير عن جابر : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا لكبر سنه » ، وعندنا إذا كان لعذر فلا بأس به ، وكذلك إذا طاف بين الصفا والمروة محمولا أو راكبا ، وكذلك لو طاف الأكثر راكبا أو محمولا فالأكثر يقوم مقام الكل على ما بينا . ا هـ (2) .
وقال ابن الهمام : على قول صاحب [ الهداية ] : ( وإن أمكنه أن يمس الحجر شيئا في يده ) كالعرجون وغيره ، ثم قبل ذلك فعل ؛ لما روي : « أنه عليه السلام طاف على راحلته واستلم الأركان بمحجنه » (3) ، وقوله : وإن أمكنه أن يمس الحجر شيئا في يده أو يمسه بيده ، ويقبل ما مس به - فعل ،
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/237).
(2) [ المبسوط ] ( 4 \ 45 ) .
(3) سنن الترمذي الحج (858),سنن ابن ماجه المناسك (2953),مسند أحمد بن حنبل (1/237).

أما الأول فلما أخرج الستة إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ؛ لأن يراه الناس ويشرف ، وليسألوه ، فإن الناس غشوه » (1) .
وأخرجه البخاري عن جابر إلى قوله : لأن يراه الناس ، ورواه مسلم عن أبي الطفيل : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن » (2) ثم أورد إشكالا حديثيا وهو : أن الثابت بلا شبهة : أنه عليه السلام رمل في حجة الوداع ، وطوافه راكبا على البعير ينافي ذلك . . . إلى أن قال : والجواب : أن في الحج للآفاقي أطوفة ، فيمكن كون المروي من ركوبه كان في طواف الفرض يوم النحر ليعلمهم ، ومشيه كان في طواف القدوم ، وهو الذي يفيده حديث جابر الطويل ؛ لأنه حكى ذلك الطواف الذي بدأ به أول دخوله مكة المكرمة ، كما يفيده سوقه للناظر فيه .
فإن قلت : فهل يجمع بين ما عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما : « إنما طاف راكبا ليشرف ويراه الناس فيسألوه » وبين ما عن سعيد بن جبير : « أنه إنما طاف كذلك ؛ لأنه كان يشتكي » كما قال محمد : أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان : أنه سعى بين الصفا والمروة مع عكرمة ، فجعل حماد يصعد الصفا وعكرمة لا يصعد ، ويصعد حماد المروة وعكرمة لا يصعد ، فقال حماد : يا أبا عبد الله ، ألا تصعد الصفا والمروة ، فقال : هكذا كان طواف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال حماد : فلقيت سعيد بن جبير فذكرت له ذلك ، فقال : إنما طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وهو شاك يستلم الأركان بمحجن ، فطاف بين الصفا والمروة على
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1273),سنن النسائي مناسك الحج (2975),سنن أبو داود المناسك (1880).
(2) صحيح مسلم الحج (1275),سنن أبو داود المناسك (1879),سنن ابن ماجه المناسك (2949),مسند أحمد بن حنبل (5/454).

راحلته ، فمن أجل ذلك لم يصعد . اهـ (1) .
وقال الدسوقي : ( قوله : إذ هو واجب . . . إلخ ) .
حاصله : أن المشي في كل من الطواف والسعي واجب على القادر عليه ، فلا دم على عاجز طاف أو سعى راكبا أو محمولا ، وأما القادر إذا طاف أو سعى محمولا أو راكبا فإنه يؤمر بإعادته ماشيا ما دام بمكة المكرمة ، لا يجبر بالدم حينئذ ، كما يؤمر العاجز بإعادته إن قدر ما دام بمكة المكرمة ، وإن رجع لبلده فلا يؤمر بالعودة لإعادته ، ويلزمه دم ، فإن رجع وأعاده ماشيا سقط الدم عنه ، ثم قال : وهذا في الطواف الواجب ، وأما الطواف غير الواجب فالمشي فيه سنة ، وحينئذ فلا دم على تارك المشي فيه ، قاله عج . اهـ (2) .
قال النووي : والأفضل : أن يطوف راجلا ؛ لأنه إذا طاف راكبا زاحم الناس وآذاهم ، وإن كان به مرض يشق معه الطواف راجلا لم يكره الطواف راكبا ؛ لما « روت أم سلمة أنها قدمت مريضة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : طوفي وراء الناس وأنت راكبة » (3) ، وإن كان راكبا من غير عذر جاز ؛ لما روى جابر : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس وسألوه » (4) .
حديث أم سلمة رواه البخاري ، وحديث جابر رواه مسلم ، وثبت طواف النبي صلى الله عليه وسلم في [ الصحيحين ] من رواية غير هؤلاء ، ولفظ حديث ابن عباس : « أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة
__________
(1) [ شرح فتح القدير ] ( 2 \ 147 ) .
(2) [ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ] ( 2 \ 40 ) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (452),صحيح مسلم الحج (1276),سنن النسائي مناسك الحج (2925),سنن أبو داود المناسك (1882),سنن ابن ماجه المناسك (2961),مسند أحمد بن حنبل (6/319),موطأ مالك الحج (832).
(4) سنن النسائي مناسك الحج (2975).

الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن » (1) رواه البخاري ومسلم ، وفي حديث : « طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجنه؛ لأن يراه الناس ، وليشرف ليسألوه ، فإن الناس غشوه » (2) رواه مسلم . وعن عائشة قالت : « طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن كراهة أن يضرب عنه الناس » (3) رواه مسلم .
وأما ا لأحكام :
فقال أصحابنا : الأفضل أن يطوف ماشيا ، ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه ، أو كان ممن يحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى بفعله ، فإن طاف راكبا بلا عذر جاز بلا كراهية ، لكنه خالف الأولى ، كذا قاله جمهور أصحابنا . . . إلى أن قال : ( فرع ) قد ذكرنا مذهبنا في طواف الراكب ، ونقل الماوردي إجماع العلماء على أن طواف الماشي أولى من طواف الراكب . اهـ (4) .
وقال أيضا : أما سنن الطواف وآدابه فثمان : أحدها : أن يطوف ماشيا ، فإن طاف راكبا لعذر يشق معه الطواف ماشيا أو طاف راكبا ليظهر ويستفتى ويقتدى بفعله - جاز ولا كراهة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا في بعض أطوافه ، وهو طواف الزيارة ، ولو طاف راكبا بلا عذر جاز . اهـ .
وقال ابن حجر الهيتمي في حاشيته على الشرح قوله : وهو طواف الزيارة ، أما ما أشار إليه من ركوبه صلى الله عليه وسلم فيه إنما كان ليظهر فيستفتى ، هذا ما
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1530),صحيح مسلم الحج (1272),سنن النسائي المساجد (713),سنن أبو داود المناسك (1877),سنن ابن ماجه المناسك (2948),مسند أحمد بن حنبل (1/248).
(2) صحيح مسلم الحج (1273),سنن النسائي مناسك الحج (2975),سنن أبو داود المناسك (1880).
(3) صحيح مسلم الحج (1274),سنن النسائي مناسك الحج (2928).
(4) [ المهذب مع شرحه المجموع ] للنووي ( 8 \ 29 ، 30 ) .

رواه مسلم ، قال السبكي : وهذا أصح من رواية من روى أنه طاف راكبا لمرض ، أشار بذلك إلى ما رواه أبو داود على أن في إسناده من لا يحتج به ، وقال البيهقي : في حديثه : لفظه لم يوافق عليها ، وهي قوله : ( وهو يشتكي ) ، ومن ثمة قال الشافعي : لا أعلم أنه صلى الله عليه وسلم فعله ماشيا ، وخبر مسلم أنه طاف في حجة الوداع راكبا على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة - لا ينافي ذلك ، وإن كان سعيه في تلك الحجة إنما كان مرة واحدة وعقب طواف القدوم ؛ لأن الواو لا تقتضي ترتيبا . اهـ (1) .
وقال في [ الإيضاح ] أيضا : ويجوز الطواف في أخريات المسجد ، وفي أروقته وعند بابه من داخله وعلى أسطحته ، ولا خلاف في شيء من هذا ، لكن قال بعض أصحابنا : يشترط في صحة الطواف أن يكون البيت أرفع بناء من السطح ، كما هو اليوم حتى لو رفع سقف المسجد فصار سطحه أعلى من البيت لم يصح الطواف على هذا السطح ، وأنكره عليه الإمام أبو القاسم الرافعي . اهـ (2) .
وقال ابن قدامة : لا نعلم خلافا في صحة طواف الراكب إذا كان له عذر . . . إلى أن قال : فصل : فأما الطواف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي أنه لا يجزئ ، وهذا هو إحدى الروايات عن أحمد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الطواف بالبيت صلاة » (3) (4) .
ولأنها عبادة تتعلق بالبيت
__________
(1) [ متن الإيضاح في مناسك الحج للنووي مع شرحه ] لابن حجر الهيتمي ( 11 \ 255 ) .
(2) [ الإيضاح ] للنووي ( 1 \ 239 ) مع شرحه للهيتمي .
(3) سنن النسائي مناسك الحج (2922),مسند أحمد بن حنبل (4/64).
(4) قال الزيلعي في [ نصب الراية ] ( 3 \ 57 ) : قلت : رواه ابن حبان في [ صحيحه ] في النوع السادس والستين من القسم الثالث من حديث فضيل بن عياض ، والحاكم في [ المستدرك ] من حديث سفيان كلاهما عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : '' الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه النطق ، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير '' انتهى . وسكت الحاكم عنه ، وأخرجه الترمذي في كتابه عن جرير عن عطاء بن السائب به بلفظ : '' الطواف حول البيت مثل الصلاة '' قال : وروي هذا الحديث عن ابن طاووس وغيره عن طاووس موقوفا ، ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن السائب . انتهى ، وعن الحاكم رواه البيهقي في [ المعرفة ] بسنده ، ثم قال : وهذا حديث قد رفعه عطاء بن السائب في رواية جماعة عنه وروي عنه موقوفا وهو أصح . اهـ .

فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر كالصلاة ، والثانية : يجزئه ويجبره بدم ، وهو قول مالك ، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال : يعيد ما كان بمكة المكرمة ، فإن رجح جبره بدم ؛ لأنه ترك صفة واجبة من واجبات الحج فأشبه ما لو وقف بعرفة نهارا ودفع قبل غروب الشمس ، والثالثة : يجزئه ولا شيء عليه . اختارها أبو بكر وهي مذهب الشافعي وابن المنذر ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالطواف مطلقا فكيفما أتى به أجزأه ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل ثم قال : فصل فأما السعي راكبا فيجزئه لعذر ولغير عذر ؛ لأن المعنى الذي منع الطواف راكبا غير موجود فيه . اهـ (1) .
وقال البهوتي (2) : ومن طاف أو سعى راكبا أو محمولا لغير عذر لم يجزئه الطواف ولا السعي ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « الطواف بالبيت صلاة » (3) ، ولأنه عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكبا كالصلاة ، والسعي كالطواف ، والطواف أو السعي راكبا أو محمولا لعذر يجزئ ؛ لحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ، وعن أم سلمة قالت : « شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال : طوفي من وراء
__________
(1) [ المغني والشرح الكبير ] ( 3 \ 415 ) .
(2) [ كشاف القناع ] ( 2 \ 433 ) .
(3) سنن النسائي مناسك الحج (2922),مسند أحمد بن حنبل (4/64).

الناس راكبة » (1) متفق عليه ، ولأن طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا لعذر - كما يشير إليه قول ابن عباس - كثر عليه الناس ، يقولون : هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا تضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب . رواه مسلم ، واختار الموفق والشارح : يجزئ السعي راكبا ولو لغير عذر . اهـ .
مما تقدم يتبين : أنه يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكبا لعذر باتفاق ، ولا شيء عليه ، أما غير المعذور فله أن يسعى راكبا لكن المشي له أفضل ، وفي طوافه راكبا خلاف ، فقيل : يجزئه ولا شيء عليه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة راكبا ، وقيل يجزئه وعليه دم جبرا ؛ لأن الطواف له حكم الصلاة في الجملة ، والمفترض لا يصلي محمولا ، ولأن ركوبه صلى الله عليه وسلم في الطواف كان لوجع في رجله أو ليراه الناس فيسألوه ، وقيل : لا يجزئه لحديث : « الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام » (2) والمفترض لا تصح صلاته راكبا لغير عذر ، وطواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا كان لعذر كما تقدم .
وعلى هذا يمكن أن يقال بإجزاء السعي على سقف المسعى ؛ بل بجوازه ، وإن كان المشي أفضل لشبهه بالسعي راكبا بعيرا ونحوه ، إذ الكل غير مباشر للأرض في سعيه ، وخاصة أنه لم يرد في السعي ما يلحقه بالصلاة في حكمها ؛ بل أنه أولى من الطواف راكبا بالإجزاء ، فإذا صح الطواف راكبا لعذر صح السعي فوق سقف المسعى لعذر ، وفي سعيه فوقه لغير عذر يكون فيه الخلاف في جوازه وإجزائه ، وأخيرا إن اعتبر في إجزاء
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (452),صحيح مسلم الحج (1276),سنن النسائي مناسك الحج (2925),سنن أبو داود المناسك (1882),سنن ابن ماجه المناسك (2961),مسند أحمد بن حنبل (6/319),موطأ مالك الحج (832).
(2) سنن النسائي مناسك الحج (2922),مسند أحمد بن حنبل (4/64).

السعي فوق سقف المسعى أو جوازه وجود العذر نظر في زحام السعاة في الحج والعمرة ، هل يقوم عذرا أو لا . والله الموفق .

الأمر الثالث : وقد يسترشد فيه بالقرآن وأقوال الفقهاء ، قال الله تعالى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } (1) في هذه الآية خطاب من الله للناس في كل مكان أن يولوا وجوههم قبل المسجد الحرام سواء منهم من كان بأرض منخفضة عن المسجد الحرام فيكون مستقبلا في صلاته لتخوم أرضه ومن كان منهم بمكان مرتفع عن سطح الكعبة ، فيكون مستقبلا لما فوق الكعبة من الهواء ، فدل ذلك على أن حكم ما تحت البيت الحرام من تخوم الأرض وما فوقه من الهواء في استقبال القبلة في الصلاة حكم استقبال البيت نفسه .
وفيما يلي نقول عن بعض أهل العلم في الموضوع :
قال السرخسي : ومن صلى على سطح الكعبة جازت صلاته عندنا ، وإن لم يكن بين يديه سترة ، وقال الشافعي : لا يجوز إلا أن يكون بين يديه سترة ، بناء على أصله : أن البناء معتبر في جواز التوجه إليه للصلاة ، ثم قال : وعندنا القبلة هي الكعبة ، فسواء كان بين يديه سترة أو لم يكن فهو مستقبل القبلة ، وبالاتفاق : من صلى على أبي قبيس جازت صلاته وليس بين يديه شيء من بناء الكعبة ، فدل على أنه لا معتبر للبناء . اهـ . (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 150
(2) [ المبسوط ] ( 2 \ 79 ) .

وقال المرغيناني (1) : ( ومن كان غائبا ففرضه إصابة جهتها هو الصحيح ؛ لأن التكليف بحسب الوسع ) .
وقال ابن الهمام تعليقا على قول المرغيناني : ( إصابة جهتها ) قال : قوله : ( إصابة جهتها ) في [ الدراية ] عن شيخه ما حاصله : أن استقبال الجهة أن يبقى شيء من سطح الوجه مسامتا للكعبة أو لهوائها ؛ لأن المقابلة إذا وقعت في مسافة بعيدة لا تزول بما يزول به من الانحراف لو كانت مسافة قريبة ، ويتفاوت ذلك بحسب تفاوت البعد وتبقى المسامة مع انتقال مناسب لذلك البعد ، فلو فرض خط من تلقاء وجه المستقبل للكعبة على التحقيق في بعض البلاد وخط آخر يقطعه على زاويتين قائمتين من جانب يمين المستقبل وشماله لا تزول تلك المقابلة والتوجه بالانتقال إلى اليمين والشمال على ذلك الخط بفراسخ كثيرة . . . اهـ .
وقال الدسوقي (2) : قوله : ( وبطل فرض على ظهرها ) أي : على ظهر الكعبة قوله : ( فيعاد أبدا ، أي : على المشهور ، ولو كان بين يديه قطعة من حائط سطحها بناء على أن المأمور به استقبال جملة البناء لا بعضه ولا الهواء ، وهو المعتمد ، وقيل : إنما يعاد بناء على كفاية استقبال هواء البيت أو استقبال قطعة من البناء ولو من حائط سطحه . اهـ .
وقد ذكر نحوا من ذلك الحطاب (3) .
__________
(1) [ الهداية وعليها فتح القدير ] ( 1 \ 189 ) .
(2) [ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ] ( 1 \ 299 ) .
(3) [ مواهب الجليل على مختصر خليل ] ( 1 \ 511 - 513 ) .

وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي : ملخصا حكم الصلاة على ظهر الكعبة (1) : ( فتحصل من كلام الشارح أن الفرض على ظهرها ممنوع اتفاقا ، وأما النفل ففيه أقوال ثلاثة ، الجواز مطلقا ، والجواز إن كان غير مؤكد ، والمنع وعدم الصحة مطلقا ، قال شيخنا : وهذا الأخير هو أظهر الأقوال .
( تنبيه ) : سكت المصنف عن حكم الصلاة تحت الكعبة في حفرة ، وقد قدم أن الحكم بطلانها مطلقا ، فرضا أو نفلا ؛ لأن ما تحت المسجد لا يعطى حكمه بحال ، ألا ترى أن الجنب يجوز له الدخول تحته ، ولا يجوز له الطيران فوقه ، كذا قرره شيخنا .
وكتب الشيخ محمد عليش في تقريره على [ حاشية الدسوقي والشرح الكبير ] ، للشيخ أحمد الدردير ما نصه : وإنما جاز على جبل أبي قبيس مع أنه أعلى من بنائها ؛ لأن المصلى عليه مصل إليها وأما المصلي على ظهرها فهو فيها ، انتهى ( ضوء الشموع ) .
وقال النووي (2) : أما حكم المسألة : فقال أصحابنا : ولو وقف على أبي قبيس أو غيره من المواضع العالية على الكعبة وبقربها صحت صلاته بلا خلاف ؛ لأنه يعد مستقبلا وإن وقف على سطح الكعبة نظر إن وقف على طرفها واستدبر باقيها لم تصح صلاته بالاتفاق ؛ لعدم استقبال شيء منها ،
__________
(1) [ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمختصر خليل ] ، وما فيها من تقرير الشيخ عليش على الحاشية ( 1 \ 129 )
(2) [ المهذب مع شرحه المجموع ] للنووي ( 3 \ 198 ) .

وهكذا لو انهدمت - والعياذ بالله - فوقف على طرف العرصة واستدبر باقيها لم تصح صلاته ، ولو وقف خارج العرصة واستقبلها صح بلا خلاف ، أما إذا وقف في وسط السطح أو العرصة فإن لم يكن بين يديه شيء شاخص - لم تصح صلاته على الصحيح المنصوص ، وبه قال أكثر الأصحاب ، وقال ابن سريج : تصح ، وبه قال أبو حنيفة وداود ومالك في رواية عنه ، كما لو وقف على أبي قبيس ، وكما لو وقف خارج العرصة واستقبلها ، والمذهب الأول ، والفرق أنه لا يعد هنا مستقبلا بخلاف ما قاس عليه ، وهذا الوجه الذي لابن سريج جاز في العرصة والسطح كما ذكرنا ، كذا نقله عنه إمام الحرمين وصاحب التهذيب وآخرون ، وكلام المصنف يوهم أنه لا يقول به في السطح وليس الأمر كذلك . اهـ
وقال ابن قدامة : ولو صلى على جبل عال يخرج من مسامتة الكعبة صحت صلاته ، وكذلك لو صلى في مكان ينزل عن مسامتتها ؛ لأن الواجب استقبالها وما يسامتها من فوقها وتحتها بدليل ما لو زالت الكعبة - والعياذ بالله - صحت الصلاة إلى موضع جدارها . اهـ (1) .
وقال البهوتي : ولا يضر علو على الكعبة كما لو صلى على أبي قبيس ، ولا نزوله عنها كما لو صلى في حفيرة تنزل عن مسامتتها ؛ لأن العبرة بالبقعة لا بالجدران . اهـ (2) .
مما تقدم يتبين أن من صلى على مكان مرتفع عن سطح الكعبة مستقبلا
__________
(1) [ المغني مع الشرح الكبير ] ( 1 \ 463 ) .
(2) [ متن الإقناع مع شرح كشاف القناع ] ( 2 \ 79 ) .

ما فوق سطحها من هواء صحت إجماعا ، كمن صلى فوق جبل أبي قبيس ، أو في بلاد سطح أرضها أعلى من سطح الكعبة ، ومن صلى الفريضة فوق الكعبة مستقبلا ما أمامه من هوائها أو مستقبلا سترة بين يديه ففي صحة صلاته خلاف ، بناء على الاكتفاء باستقبال جزء من بناء الكعبة أو جزء من هوائها في صحة الصلاة ، وعدم الاكتفاء بذلك ؛ بل لا بد من شاخص أو استقبال جملة البناء أو جملة الهواء أما من على سطحها أو في جوفها فيقال فيه إنه مستدبر الكعبة أو هواءها باعتبار كما يقال أنه مستقبل باعتبار آخر ، فلم يتحقق فيه شرط الاستقبال بإطلاق ، فلا تصح صلاته ، ومن صلى على طرفها وجعل هواءها وراءه بطلت صلاته ؛ لأنه لم يستقبل شيئا من بنائها ولا من هوائها .
وعلى هذا يمكن أن يقال : إذا كان استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة كاستقبال بنائها ، فالسعي فوق سقف المسعى في حكم السعي على أرض المسعى .

الأمر الرابع : روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه » (1) رواه أحمد ومسلم والنسائي (2) .
وما روى أبو داود وابن ماجه في [ سننهما ] ، عن يزيد بن أبي زياد عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه قالت : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1297),سنن النسائي مناسك الحج (3062),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337).
(2) [ المنتقى مع شرحه ] للشوكاني ( 5 \ 70 ) .

الجمرة من بطن الوادي وهو راكب يكبر مع كل حصاة ورجل خلفه يستره فسألت عن الرجل فقالوا : الفضل بن عباس ، وازدحم الناس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس ، لا يقتل بعضكم بعضا ، وإذا رأيتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف » (1) سكت أبو داود عن الحديث ، وقال المنذري : في إسناده يزيد بن أبي زياد (2) .
وقال الشوكاني : قوله : ( على راحلته ) استدل به على أن رمي الراكب لجمرة العقبة أفضل من رمي الراجل ، وبه قالت الشافعية ، والحنفية ، والناصر ، والإمام يحيى ، وقال الهادي والقاسم : إن رمي الراجل أفضل . اهـ (3) .
وقال ابن عابدين : وقوله : ( وجاز الرمي راكبا . . . إلخ ) عبارة المتلقي أخص وهي : وجاز الرمي راكبا ، وغير راكب أفضل في جمرة العقبة . انتهى ، وفي اللباب : والأفضل أن يرمي جمرة العقبة راكبا وغيرها ماشيا في جميع أيام الرمي - إلى أن قال : والضابط : أن كل رمي يقف بعده فإنه يرميه ماشيا ، وهو كل رمي بعده رمي ، كما مر وما لا فلا ، ثم هذا التفصيل قول أبي يوسف ، وله حكاية مشهورة ذكرها ( ط ) وغيره وهو مختار كثير من المشايخ ، كصاحب [ الهداية ] و [ الكافي ] و [ البدائع ] ، وغيرهم ، وأما قولهما : فذكر في [ البحر ] : أن الأفضل الركوب في الكل على ما في الحاشية ، والمشي في الكل على ما في الظهيرية ، وقال : فتحصل أن في
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1966),سنن ابن ماجه المناسك (3028).
(2) [ مختصر سنن أبى داود ] للمنذري ( 2 \ 415 ) .
(3) [ نيل الأوطار ] ( 5 \ 71 ) .

المسألة ثلاثة أقوال . . . ثم قال : ( قوله : ورجحه الكمال ) أي : بأن أداءها ماشيا أقرب إلى التواضع والخشوع ، وخصوصا في هذا الزمان ، فإن عامة المسلمين مشاة في جميع الرمي فلا يؤمن من الأذى بالركوب بينهم بالزحمة ، ورميه عليه السلام راكبا إنما هو ليظهر فعله ليقتدى به كطوافه راكبا . اهـ .
قال في [ البحر ] : ولو قيل بأنه ماشيا أفضل إلا في رمي جمرة العقبة وفي اليوم الأخير لكان له وجه ؛ لأنه ذاهب إلى مكة المكرمة في هذه الساعة كما هو العادة ، وغالب الناس راكب فلا إيذاء في ركوبه مع تحصيل فضيلة الاتباع له عليه الصلاة والسلام . اهـ (1) .
وقال السرخسي : وإن رماها راكبا أجزأه ؛ لحديث جابر رضي الله عنه :
« أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار راكبا » . اهـ . (2) .
وفي [ المدونة الكبرى ] : قلت : فهل يرمي الرجل الجمار راكبا أو ماشيا ، قال : قال مالك : أما الشأن يوم النحر فيرمي جمرة العقبة راكبا كما يأتي على دابته يمضي كما هو يرمي ، وأما في غير يوم النحر فكان يقول : يرمي ماشيا ، قلت : فإن ركب في رمي الجمار في الأيام الثلاثة أو مشى يوم النحر إلى جمرة العقبة فرماها ماشيا هل عليه لذلك شيء ؟ قال : ليس عليه لذلك شيء . اهـ . (3) .
__________
(1) [ رد المحتار على الدر المختار ] ( 1 \ 254 ) .
(2) [ المبسوط ] ( 4 \ 69 ) .
(3) [ المدونة الكبرى ] ( 1 \ 325 ) .

وقال الدسوقي : ( قوله : وإن راكبا ، أي : إذا وصل إليها ماشيا ؛ بل إن وصل إليها راكبا ، وهذا من تعلقات الندب ، أي : أنه يندب أن يرميها حين وصوله على الحالة التي وصل عليها من ركوب أو مشي فلا يصبر حتى ينزل إذا وصل راكبا ولا يصبر حتى يركب إذا وصل إليها ماشيا ؛ لأن فيه عدم الاستعجال برميها . اهـ (1) .
وقال الشافعي : ولا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة وحدها ويرميها راكبا ، وكذلك يرميها يوم النفر راكبا ويمشي في اليومين الآخرين أحب إلي . ثم قال : وإن ركب فلا شيء عليه ثم ساق رواية قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي قال : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة على ناقته الصهباء وليس ضرب ولا طرد ولكن قيل : إليك إليك » (2) اهـ (3) .
وقال النووي (4) : ( فرع ) مذهبنا : أنه يستحب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا إن كان دخل منى راكبا ، ويرمي في أيام التشريق ماشيا ، إلا يوم النفر فراكبا ، وبه قال مالك ، قال ابن المنذر : وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون مشاة واستحبه أحمد ، وكره جابر الركوب إلى شيء من الجمار إلا لضرورة . قال : وأجمعوا على أن الرمي يجزئه على أي حال إذا وقع في المرمى ، دليلنا : الأحاديث الصحيحة السابقة (5) . أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى
__________
(1) [ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ] ( 2 \ 45 ) .
(2) سنن الترمذي الحج (903),سنن النسائي مناسك الحج (3061),سنن ابن ماجه المناسك (3035),مسند أحمد بن حنبل (3/413),سنن الدارمي المناسك (1901).
(3) [ الأم ] للشافعي ( 2 \ 213 ) .
(4) [ المجموع ] للنووي ( 8 \ 183 )
(5) يشير بذلك إلى حديث أم سلمة قالت : رأيت رسول الله ،صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب ( 8 \ 154 ) من [ المجموع ] . وإلى حديث أم أبي الأحوص قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب ( 8 \ 175 ) من [ المجموع ] .

جمرة العقبة راكبا يوم النحر والله أعلم .
وقال ابن قدامة (1) : ويرميها راكبا أو راجلا كيفما شاء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها على راحلته رواه جابر ، وابن عمر ، وأم أبي الأحوص ، وغيرهم ، قال جابر : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : خذوا عني مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه » (2) .
وقال نافع : « كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا ذاهبا وراجعا ، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأتيها إلا ماشيا ذاهبا وراجعا » (3) رواه أحمد في [ المسند ] ثم قال : وفي هذا بيان للتفريق بين هذه الجمرة وغيرها اهـ .
وقال البهوتي (4) : فإذا وصل إلى منى . . . بدأ بها راكبا ؛ إن كان راكبا ؛ لحديث ابن مسعود : أنه « انتهى إلى جمرة العقبة فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات وهو راكب ، يكبر مع كل حصاة » (5) . . . إلى أن قال : هاهنا كان يقوم الذي أنزلت عليه سورة البقرة . رواه أحمد . وظاهر كلام الأكثر ماشيا وإلا - أي : لم يكن راكبا - رماها ماشيا . اهـ .
مما تقدم يتبين : أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة راكبا ، وأن الفقهاء اتفقوا على أنه يجزئ الرمي راكبا وماشيا .
واختلفوا في الأفضل منهما ، هل هو الرمي ماشيا ؛ لأنه أقرب للتواضع
__________
(1) [ المغني مع الشرح الكبير ] ( 3 \ 449 ) .
(2) صحيح مسلم الحج (1297),سنن النسائي مناسك الحج (3062),سنن أبو داود المناسك (1970).
(3) سنن الترمذي الحج (900),سنن أبو داود المناسك (1969),مسند أحمد بن حنبل (2/138).
(4) [ كشاف القناع ] ( 2 \ 449 )
(5) صحيح البخاري الحج (1664),صحيح مسلم الحج (1296),سنن الترمذي الحج (901),سنن النسائي مناسك الحج (3073),سنن أبو داود المناسك (1974),سنن ابن ماجه المناسك (3030),مسند أحمد بن حنبل (1/427).

والبعد عن إيذاء المشاة ، وإنما رماها صلى الله عليه وسلم راكبا ؛ ليراه الناس ويسألوه ويقتدوا به ، أو الرمي راكبا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا يمكن أن يقال : إذا جاز رمي الجمرات راكبا جاز السعي فوق سقف المسعى ، فإن كلا منهما نسك أدي من غير مباشرة مؤدية للأرض التي أداه عليها ؛ بل السعي فوق السقف أقرب من أداء أي شعيرة من شعائر الحج أو العمرة فوق البعير ونحوه ؛ لما في البناء من الثبات الذي لا يوجد في المراكب . .
ونظرا إلى أن السعي فوق سقف المسعى لم نقف فيه على نصوص للفقهاء ، وأن ما يرجع إليه من أقوالهم للاسترشاد بها على هذه المسألة ليس بكثير وليس الخلاف فيه كثيرا - اكتفينا بما نقلناه ، سائلين الله التوفيق للجميع .
وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 21 ) وتاريخ 12 \ 11 \ 1393 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فبناء على الخطاب الوارد لفضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من معالي وزير العدل رقم ( 267 ) وتاريخ 23 \ 3 \ 1393هـ المبني على خطاب سمو نائب وزير الداخلية رقم ( 26 \ 10612 ) وتاريخ 21 \ 3 \ 1393 هـ بخصوص الرغبة في إبداء الحكم الشرعي في ( حكم السعي فوق سقف المسعى ) ليكون وسيلة من وسائل علاج ازدحام الحجاج أيام الموسم ، وبناء على ما رآه فضيلته من إدراج هذا الموضوع في جدول أعمال هيئة كبار العلماء في دورتها الرابعة فقد تم إدراج ذلك ، وفي تلك الدورة جرى الاطلاع على أوراق المعاملة المتعلقة بالاستفتاء ، كما جرى الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء ، والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
وبعد دراسة المسألة ، واستعراض أقوال أهل العلم في حكم الطواف والسعي والرمي راكبا ، والصلاة إلى هواء الكعبة أو قاعها ، وكذا حكم الطواف فوق أسطحة الحرم وأروقته ، وحكمهم بأن من ملك أرضا ملك أسفلها وأعلاها .
وبعد تداول الرأي والمناقشة انتهى المجلس بالأكثرية إلى الإفتاء بجواز السعي فوق سقف المسعى عند الحاجة ، بشرط استيعاب ما بين الصفا والمروة ، وأن لا يخرج عن مسامتة المسعى عرضا لما يأتي :

1 - لأن حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملك والاختصاص ونحوهما ، فللسعي فوق سقف المسعى حكم السعي على أرضه .
2 - لما ذكره أهل العلم من أنه يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكبا لعذر باتفاق ، ولغير عذر على خلاف من بعضهم ، فمن يسعى فوق سقف المسعى يشبه من يسعى راكبا بعيرا ونحوه ، إذ الكل غير مباشر للأرض في سعيه ، وعلى رأي من لا يرى جواز السعي راكبا لغير عذر ، فإن ازدحام السعاة في الحج يعتبر عذرا يبرر الجواز .
3 - أجمع أهل العلم على أن استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة كاستقبال بنائها ، بناء على أن العبرة بالبقعة لا بالبناء ، فالسعي فوق سقف المسعى كالسعي على أرضه .
4 - اتفق العلماء على أنه يجوز الرمي راكبا وماشيا ، واختلفوا في الأفضل منهما ، فإذا جاز رمي الجمرات راكبا جاز السعي فوق سقف المسعى ، فإن كلا منهما نسك أدي من غير مباشرة مؤدية للأرض التي أداه عليها ، بل السعي فوق السقف أقرب من أداء أي شعيرة من شعائر الحج أو العمرة فوق البعير ونحوه ؛ لما في البناء من الثبات الذي لا يوجد في المراكب .
5 - لأن السعي فوق سقف المسعى لا يخرج عن مسمى السعي بين الصفا والمروة ؛ ولما في ذلك من التيسير على المسلمين والتخفيف مما هم فيه من الضيق والازدحام ، وقد قال الله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (1) وقال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78

مع عدم وجود ما ينافيه من كتاب أو سنة ، بل إن فيما تقدم من المبررات ما يؤيد القول بالجواز عند الحاجة .
وقد ذكر ابن حجر الهيتمي رحمه الله رأيه في المسألة : فقال في حاشيته على [ الإيضاح ] لمحيي الدين النووي ص ( 131 ) : (ولو مشى أو مر في هواء المسعى فقياس جعلهم هواء المسجد مسجدا ، صحة سعيه) . اهـ .
أما المشايخ : محمد بن حركان ، وعبد العزيز بن صالح ، وسليمان بن عبيد ، وصالح بن لحيدان ، وعبد الله بن غديان ، وراشد بن خنين - فقد توقفوا في هذه المسألة .
وأما الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فيرى عدم جواز ذلك ، وله وجهة نظر في المنع مرفقة .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الثالثة
عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط ... محمد الأمين الشنقيطي له وجهة نظر مخالفة ... عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... محمد الحركان
عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

وجهة نظر
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد :
فإن لنا وجهة نظر مخالفة للقرار الصادر بالأغلبية من هيئة كبار العلماء في شأن جواز السعي فوق السقف الكائن فوق المسعى والصفا والمروة ، وحاصل وجهة نظرنا في ذلك هو :
أنا لا نرى جواز تعدد المسعى وإباحة السعي في مسعيين : مسعى أسفل ، ومسعى أعلى ؛ وذلك للأمور الآتية :
الأمر الأولى : أن الأمكنة المحددة من قبل الشرع لنوع من أنواع العبادات لا تجوز الزيادة فيها ولا النقص إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .
الأمر الثاني : أن الأمكنة المحددة شرعا لنوع من أنواع العبادات ليست محلا للقياس ؛ لأنه لا قياس ولا اجتهاد مع النص الصريح المقتضي تحديد المكان المعين للعبادة ، ولأن تخصيص تلك الأماكن بتلك العبادات في دون غيرها من سائر الأماكن ليست له علة معقولة المعنى حتى يتحقق المناط بوجودها في فرع آخر حتى يلحق بالقياس ، فالتعبدي المحض ليس من موارد القياس .
الأمر الثالث : هو أنه لا نزاع بين أهل العلم في أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم الوارد لبيان إجمال نص من القرآن العظيم له حكم ذلك النص القرآني الذي ورد لبيان إجماله . فإن دلت آية من القرآن العظيم على وجوب حكم من

الأحكام وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم المراد منها بفعله - فإن ذلك الفعل يكون واجبا بعينه وجوب المعنى الذي دلت عليه الآية ، فلا يجوز العدول عنه لبدل آخر . ومعلوم أن ذلك منقسم إلى قسمين كما هو مقرر في الأصول :
الأول منهما : أن تكون القرينة وحدها هي التي دلت على أن ذلك الفعل الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم وارد لبيان نص من كتاب الله ، كقوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (1) فإن الآية تحتمل القطع من الكوع ، ومن المرفق ، ومن المنكب ؛ لأن لفظ اليد قد يستعمل في كل ما ذكر ، وقد دلت القرينة على أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو : قطعه يد السارق من الكوع وارد لبيان قوله تعالى : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (2) فلا يجوز العدول عن هذا الفعل النبوي الوارد لبيان نص من القرآن لبدل آخر إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .
القسم الثاني من قسمي الفعل المذكور : هو أن يرد قول من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك الفعل الصادر منه صلى الله عليه وسلم بيان لنص من القرآن ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « صلوا كما رأيتموني أصلي » (3) فإنه يدل على أن أفعاله في الصلاة بيان لإجمال الآيات التي فيها الأمر بإقامة الصلاة ، فلا يجوز العدول عن شيء من تلك الأفعال الصادرة منه صلى الله عليه وسلم لبيان تلك الآيات القرآنية إلا بدليل من كتاب أو سنة يجب الرجوع إليه ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لتأخذوا عني مناسككم » (4) فإنه يدل على أن أفعاله في الحج بيان لإجمال آيات الحج ، فلا يجوز العدول عن شيء منها لبدل آخر إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) سورة المائدة الآية 38
(3) صحيح البخاري أخبار الآحاد (6819),سنن الدارمي الصلاة (1253).
(4) صحيح مسلم الحج (1297),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337).

وإذا علمت هذا فاعلم أن الله جل وعلا قال في كتابه العزيز : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } (1) فصرح في هذه الآية بأن المكان الذي علمه الصفا ، والمكان الذي علمه المروة من شعائر الله . ومعلوم أن الصفا والمروة كلاهما علم لمكان معين ، وهو علم شخص لا علم جنس ، بلا نزاع ولا خلاف بين أهل اللسان في أن العلم يعين مسماه - أي : يشخصه - فإن كان علم شخص كما هنا شخص مسماه في الخارج ، بمعنى : أنه لا يدخل في مسماه شيء آخر غير ذلك الشخص ، عاقلا كان أو غير عاقل ، وإن كان علم جنس شخص مسماه في الذهن ، وليس البحث في ذلك من غرضنا .
وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكر الله في الآية أنه من شعائر الله هو شخص الصفا وشخص المروة ، أي : الحقيقة المعبر عنها بهذا العلم الشخصي ، ولا يدخل شيء آخر البتة في ذلك لتعين المسمى بعلمه الشخصي دون غيره ، كائنا ما كان ، سواء كان الفراغ الكائن فوق المسمى المشخص بعلمه أو غير ذلك من الأماكن الأخرى . وإذا علمت ذلك فاعلم أن الله تعالى رتب بالفاء قوله { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } (2) على كونهما من شعائر الله ، وفي قوله تعالى : { أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } (3) إجمال يحتاج إلى بيان كيفية التطوف ومكانه ومبدئه ومنتهاه .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا النص القرآني بالسعي بين الصفا والمروة ، مبينا أن فعله المذكور واقع لبيان القرآن العظيم المذكور ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني مناسككم » (4) وقوله : « أبدأ بما بدأ الله به » (5) يعني : الصفا في قوله : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } (6)
__________
(1) سورة البقرة الآية 158
(2) سورة البقرة الآية 158
(3) سورة البقرة الآية 158
(4) سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(5) سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).
(6) سورة البقرة الآية 158

الآية ، ومن جملة البيان المذكور بيان جواز السعي حالة الركوب على الراحلة ، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو سعيه بين الصفا والمروة مبينا لذلك مراد الله في كتابه لا يجوز العدول عنه في كيفيته ولا عدده ولا مكانه ولا مبدئه ولا منتهاه إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .
ولا شك أن المسعى الجديد الكائن فوق السقف المرتفع الذي فوق المسعى النبوي المبين بالسعي فيه معنى القرآن غير المسعى النبوي المذكور ، ومغايرته له من الضروريات ؛ لأنه مما لا نزاع فيه أن المتضايفين اللذين تستلزمهما كل صفة إضافية متباينان تباين المقابلة لا تباين المخالفة ، ومعلوم أن المتباينين تباين المقابلة بينهما غاية المنافاة ؛ لتنافيهما في حقيقتيهما ، واستحالة اجتماعهما في محل آخر .
ومعلوم أن المتباينات هذا التباين التقابلي التي بينها منتهى المنافاة أربعة أنواع : هي : التقابل بين النقيضين ، والتقابل بين الضدين ، والتقابل بين المتضايفين ، والتقابل بين العدم والملكة ، كما هو معلوم في محله . فكما أن الشيء الواحد يستحيل أن يتصف بالوجود والعدم في وقت واحد من جهة واحدة ، وكما أن النقطة البسيطة من اللون يستحيل أن تكون بيضاء سوداء في وقت واحد ، وأن العين الواحدة يستحيل أن تكون عمياء مبصرة في وقت واحد ، فكذلك يستحيل أن يكون الشيء الواحد فوق هذا وتحته في وقت واحد . فالمسعى الذي فوق السقف يستحيل أن يكون هو المسعى الذي تحت السقف . فهو غيره قطعا ، كما هو الشأن في كل متضايفين وكل متباينين تباين تقابل أو مخالفة .
وإذا حققت بهذا أن المسعى الذي فوق السقف مغاير في ذاته لحقيقة المسعى الذي تحت السقف ، وعلمت أن السعي في المسعى الذي

تحت السقف هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم مبينا بالسعي فيه مراد الله في كتابه قائلا : « خذوا عني مناسككم » (1) وأن أفعاله صلى الله عليه وسلم المبينة للقرآن لا يجوز العدول عنها لبدل آخر إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة - علمت بذلك أن العدول بالسعي عن المسعى النبوي إلى المسعى الجديد الكائن فوق السقف الذي فوق الصفا والمروة يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله ، ويحتاج جدا إلى معرفة من أخذ عنه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرنا بأخذ مناسكنا عنه هو وحده صلى الله عليه وسلم ، ولم يأذن لنا في أخذها عن زيد ولا عمرو .
فعلينا أن نتحقق الجهة التي أخذنا عنها هذا المنسك الجديد ؛ لأن المناسك مرهونة بأمكنتها وأزمنتها ، ولا يجوز التحكم في مكان أو زمان غير الزمان والمكان المحدودين من قبل الشارع ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين الأمكنة التي أنيط بها النسك ، وعمم البيان في ذلك ، وجعله شاملا للأمكنة التي أقام فيها هو النسك ، وغيرها من الأمكنة الصالحة للنسك ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « وقفت هنا وعرفة كلها موقف » (2) ونظير ذلك في مزدلفة ومنى بالنسبة للنحر كما هو معلوم .
الأمر الرابع : أن السعي في المسعى الجديد خارج عن مكان السعي الذي دلت عليه النصوص ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الظرف المكاني للسعي بالنسبة إلى الصفا والمروة هو ظرف المكان الذي يعبر عنه بلفظة : ( بين ) وأما المسعى الجديد فظرفه المكاني بالنسبة إلى الصفا والمروة هو لفظة ( فوق ) ومعلوم أن لفظ : ( بين ) ولفظ : ( فوق ) وإن كانا ظرفي مكان فمعناهما مختلف ، ولا يؤدي أحدهما معنى الآخر ؛ لتباين مدلوليهما ، فالساعي في المسعى الأعلى الجديد لا يصدق عليه أنه ساع بين الصفا والمروة ، وإنما هو ساع فوقهما ، والساعي فوق شيئين ليس ساعيا بينهما ؛ للمغايرة
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(2) صحيح مسلم الحج (1218).

الضرورية بين معنى : ( فوق ) و ( بين ) كما ترى .
ويزيد هذا إيضاحا ما ثبت في الصحيح من حديث - عائشة رضي الله عنها المرفوع ، وإن ظن كثير من طلبة العلم أنه موقوف عليها . فقد روى البخاري عنها في جوابها لعروة بن الزبير في شأن السعي بين الصفا والمروة أنها قالت ما لفظه : « وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ؛ فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما » (1) انتهى محل الغرض منه بلفظه .
فتأمل قولها وهي هي ، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، وقولها : ( فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) وتأمل معنى لفظة ( بين ) يظهر لك أن مفهوم كلامها : أن من سعى فوقهما لم يأت بما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك ليس له . وهذا المعنى ضروري للمغايرة الضرورية بين الظرفين ، أعني : ( فوق ) و ( بين ) وفي لفظ عند مسلم عنها أنها قالت : « ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة » (2) انتهى محل الغرض منه ، وهو يدل على أن من طاف فوقهما لا يتم الله حجه ولا عمرته ؛ لأن الطائف فوقهما يصدق عليه لغة أنه لم يطف بينهما ، وفي لفظ لمسلم عنها : أنها قالت : « فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة » (3) وقد علمت أن الساعي فوقهما لم يطف بينهما . وقد أقسمت على أن من لم يطف بينهما لا يتم حجه كما ترى .
واعلم أن ما يظنه بعض أهل العلم من أن حديث عائشة هذا الدال على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه ، وأنه لا يتم بدونه حج ولا عمرة أنه موقوف عليهما غير صواب . بل هو مرفوع .
ومن أصرح الأدلة في ذلك أنها رتبت بالفاء قولها : ( فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) على قولها :
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1561),سنن النسائي مناسك الحج (2968),سنن أبو داود المناسك (1901),مسند أحمد بن حنبل (6/144).
(2) صحيح البخاري الحج (1698),صحيح مسلم الحج (1277),موطأ مالك الحج (838).
(3) صحيح البخاري الحج (1561),صحيح مسلم الحج (1277),سنن ابن ماجه المناسك (2986).

« قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما » (1) وهو صريح في أن قولها : ( ليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) لأجل أنه صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما .
ودل هذا الترتيب بالفاء على أن مرادها بأنه سنة : أنه فرضه بسنته ، كما جزم به ابن حجر في [ الفتح ] مقتصرا عليه ، مستدلا له بأنها قالت : ( ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة ) فقولها : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما ) وترتيبها على ذلك بالفاء قولها : ( فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) وجزمها بأنه لا يتم حج ولا عمرة إلا بذلك - دليل واضح على أنها إنما أخذت ذلك مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا برأي منها كما ترى .
الأمر الخامس : أن إقرار المسعى الأعلى الجديد لا يؤمن أن يكون ذريعة لعواقب غير محمودة ؛ وذلك من جهتين :
الأولى : أنه يخشى أن يكون سببا لتغييرات وزيادات في أماكن النسك الأخرى ؛ كالمرمى ، وكمطاف مماثل فوق الكعبة .
الثانية : أنه لا يؤمن أن يكون ذريعة للقال والقيل ، وقد شوهد شيء من ذلك عند البحث في تأخير المقام لتوسعة المطاف ، فلا يؤمن أن يقال : إن الهيئة الفلانية أو الجهة الفلانية بدأت تغير مواضع النسك التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون أربعة عشر قرنا ، والدعايات المغرضة كثيرة ، فسدا للذريعة إليها مما يستحسن - ولا يخفى أن إقرار هذا المسعى الأعلى الجديد يلزمه جواز إقرار مطاف أعلى جديد مماثل - فقد يقترح مقترح ، ويطلب طالب جعل سقف فوق الكعبة الشريفة على قدر مساحة المطاف الأرضي ، ويجعل فوق السقف المذكور علامات واضحة تحدد مساحة الكعبة تحديدا دقيقا ، مع تحقيق كون مساحة الكعبة المحددة فوق
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1561),صحيح مسلم الحج (1277),سنن النسائي مناسك الحج (2968),مسند أحمد بن حنبل (6/144).

السقف مسامتة للكعبة مسامتة دقيقة ، ويبقى صحن ذلك المطاف الأعلى واضحا متميزا عن قدر مساحة الكعبة من الهواء الذي فوق السطح ، فيطوف الناس حول ذلك الهواء المسامت للكعبة ؛ لتخف بذلك وطأة الزحام في المطاف الأرضي ، ولا شك أن هذا المطاف الأعلى المفترض لو فرض جوازه فهو أقل مشقة على الطائفين من توسعة المطاف الأرضي ؛ لأن المطاف الأرضي كلما اتسع كانت مسافة الشوط في أقصاه أكثر من مسافته فيما يقرب منه من الكعبة ، وأما المطاف الأعلى فلا تزيد مسافة الشوط فيه عن مسافته في المطاف الأرضي ؛ لاتحادهما في المساحة ، فهو أخف على الطائف ، ولا نعتقد أن لهذا المطاف الأعلى المفترض مستندا من الشرع ، كما لا نعتقد أن بينه وبين المسعى الجديد فرقا .
وفي الختام فإن زيادة مكان نسك على ما كان عليه المسلمون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم تحتاج إلى تحر وتثبت ونظر في العواقب ، ودليل يجب الرجوع إليه من كتاب الله ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، مع العلم بأن الزحام في أماكن النسك أمر لا بد منه ، ولا محيص عنه بحال من الأحوال ، والله الذي شرح ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عالم بما سيكون ، والعلم عند الله تعالى .
أملاه الفقير إلى رحمة ربه وعفوه .
حرر في 12 \ 11 \ 1393 هـ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي

( 2 )
حكم الأوراق النقديةهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الأوراق النقدية
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه (1) .
وبعد : فقد عرض على هيئة كبار العلماء برئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية - موضوع ( الورق النقدي ) حيث تم إدراجه في جدول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة في شهر ربيع الثاني عام 1393 هـ .
__________
(1) نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الأول ، ص 197 - 222 ، عام 1395 هـ .

وفي تلك الدورة قدمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع هذا نصه :
تعريف النقد .
نشأة النقود وتطورها .
قاعدة النقد الورقي .
سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل .
آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية .
الأوراق النقدية أسناد .
الأوراق النقدية عروض .
الأوراق النقدية فلوس . الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة وأجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها .
علة الربا في النقدين .
الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه .

حكم الأوراق النقدية
تعريف النقديقول علماء الاقتصاد : إن للنقد ثلاث خصائص متى توفرت في مادة ما اعتبرت هذه المادة نقدا :
الأولى : أن يكون وسيطا للتبادل .
الثانية : أن يكون مقياسا للقيم .
الثالثة : أن يكون مستودعا للثروة .
وعلى هذا الأساس قيل : إن النقد هو أي شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل مهما كان ذلك الشيء وعلى أي حال يكون ، وفي أقوال بعض أهل العلم الشرعي ، ما قد يؤيد هذا التعريف ، ففي [ المدونة الكبرى ] ، ما نصه : ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة . ا هـ (1) .
قد يقال : إن كراهة مالك لذلك من باب الاحتياط ، لا لأنه أنزلها منزلة الذهب والفضة حقيقة ، بدليل ما جاء في [ المدونة الكبرى ] من كتاب الزكاة ، قال ابن القاسم : سألت مالكا عن الفلوس تباع بالدارهم والدنانير نظرة ويباع الفلس بالفلسين ؟ قال مالك : إني أكره ذلك وما أراه مثل الذهب
__________
(1) انظر : كتاب الصرف من [ المدونة ] .

والورق في الكراهية .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي ، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح ؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به ؛ بل الفرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به ، والدراهم والدنانير لا تقصد بنفسها ، بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولهذا كانت أثمانا بخلاف سائر الأموال ، فإن المقصود الانتفاع بها نفسها فلهذا كانت مقدرة بالأموال الطبيعية أو الشرعية ، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت . اهـ (1) وبهذا يمكن القول بأن النقد شيء اعتباري ، سواء كان ذلك الاعتبار ناتجا عن حكم سلطاني أو عرف عام ، وقد يقال : إن النقد ليس شيئا اعتباريا محضا ناتجا عن حكم سلطة الإصدار ؛ بل يتوقف اعتباره نقدا على قيمة ذاتية أو غطاء كامل مع اعتبار السلطة لنقديته أو جريان العرف بذلك .
__________
(1) [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ] ( 19 \ 551 ، 252 ) .

نشأة النقود وتطورها
الإنسان مدني بطبعه ، قليل بنفسه كثير بغيره ، فكل محتاج إلى ما عند غيره ، ومن طبيعة الإنسان أن يضن ببذل ما عنده إلا بعوض ، لذا نشأت الحاجة إلى ما يسمى بالمقايضة ، ويذكر أن نظام المقايضة قد ساد وقتا ما إلا أن تطور الحياة وما في الأخذ بالمقايضة من صعوبات أدى إلى الأخذ بوسيط آخر يكون أيسر ويصلح وحده للمحاسبة ومقياسا للقيم ، وخزانة

للثروة وقوة شرائية غير محدودة ، إلا أن كل أمة اختارت وسيطا يناسب البيئة التي تعيشها ، ولم يعد هذا الوسيط أن يكون سلعا متنوعة من الأصداف والخرز والرياش وأنياب الفيلة ونحوها ، ولما تطورت الحياة البشرية ظهر عجز السلع عن مسايرة هذا التقدم ، فاتجه الفكر إلى وسيط سهل الحمل عظيم القيمة له من المميزات ما يحفظه من عوامل التلف والتأرجح بين الزيادة والنقصان فاتخذوا الوسيط للتبادل من المعادن النفيسة على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة ، غير أن اختلاف أنواعها وعدم وجود سكة لها أدى إلى التلاعب في وزنها ، وإلى صعوبات في تقديرها عند التبادل ، فتدخل ولاة الأمر ، ورأوا احتكار إصدار الوسيط ، وأن يكون قطعا متنوعة من المعادن معلومة الوزن مختوما على كل قطعة ما يدل على مسئولية الحاكم عنها .
وبهذا تحقق في النقد الثقة به والاطمئنان إليه والقدرة على إدارة التعامل به ، إلا أن هذه القدرة غير تامة للصعوبة النسبية في حمله ونقله من مكان إلى آخر ؛ لذلك اتجه الفكر إلى الأخذ بالعملات الورقية على أن الأخذ بالعملات الورقية لم يكن دفعة واحدة ، وإنما كان على مراحل ، فخوفا على ضياع النقد في الأسفار التجارية اختار التجار طريق التحويل لمن يريدون التعامل معه ، ثم رأوا عدم تعيين أشخاصهم في الحوالة ، ولما كثر التعامل بهذه الطريقة ووجدت الأوراق التحويلية قبولا أصدر الصيارفة أوراقا مصرفية جديدة بقدر الجزء المتداول في الأسواق .
وبهذا صارت جزءا من النقود لها قبول عام ، وصارت خزائن للثروة

ومقياسا للقيم ، وقوة شرائية مطلقة ، لكن إصدارها كان مشوبا بالفوضى والتلاعب ، فساءت سمعة هذه الأوراق وضعفت الثقة بها فتدخل ولاة الأمور في الإصدار ومراقبته وتحديده وتعيين شكل للورقة النقدية فاكتسبت بذلك قوة الإبراء التام ، ثم جرى العمل على أن من طلب من جهة الإصدار والاستعاضة عما تعهدت به في الورقة بنقود معدنية دفع إليه ، ثم تخلف الوفاء بهذا التعهد إلا إذا كان ما طلب استرجاعه كثيرا ، وأخيرا تخلف الوفاء بما تعهد به إلا بمثله من الورق ، وبذلك انقطعت العلاقة بين الورقة النقدية والنقد المعدني وصارت قيمة وحدة النقود الورقية قيمة مستقلة .

قاعدة النقد الورقي
لا شك أن أي نقد قابل للتداول العام كوسيط للتبادل لا بد أن يكون له ما يسنده ويدعو إلى الثقة به كقوة شرائية لا حد لها ، هذا السند إما أن يكون في ذات النقد نفسه كالذهب والفضة إذ فيهما قيمتهما المقاربة لما يقدران به ، أو يكون ركيزة تدعم النقد وتوحي بالثقة به .
ثم إن هذه الركيزة قد تكون شيئا ماديا محسوسا كالغطاء الكامل للأوراق النقدية من ذهب أو فضة أو عقار أو أوراق مالية من أسهم وسندات .
وقد تكون التزاما سلطانيا باعتبارها وضمان قيمتها ، وتكون بذلك أوراقا وثيقية .
وقد تكون الركيزة المستند عليها النقد شيئا ماديا محسوسا والتزاما

سلطانيا معا فيغطي بعض النقد الورقي بقيمته المادية عينا ويلتزم السلطان في ذمته بقيمة باقيه دون أن يكون لهذا الباقي غطاء مادي محفوظ وقد يمثل هذا الباقي غالب النقد الورقي (1)
__________
(1) انظر : [ مبادئ الاقتصاد السياسي ] للدكتورين رفعت المحجوب ، وعاطف صدقي ، وكتاب [ قصة النقود ] لوهيب مسيحة .

سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل
لعلماء الاقتصاد ثلاث نظريات في سر قابلية النقد للتبادل العام ، قد تكون كل منها صحيحة في فترة ما :
الأولى : النظرية المعدنية : إن النقد مادة لها قيمة في نفسها قبل اتخاذها وسيطا للتبادل فلذلك حصلت الثقة بها وكانت ذات قابلية - عامة للوساطة في التبادل ، وهذه النظرية صحيحة حينما كان النقد معدنيا ، أما اليوم فإن النقد كل ما لقي من الناس قبولا عاما وثقة في اعتباره وسيطا للتبادل فيدخل في ذلك النقد الورقي سواء أكان له غطاء حسي أم كان من اعتبار الحاكم له وسيطا وضمانه له .
الثانية : النظرية السلطانية : وهذه النظرية تقول بأن أمر السلطان هو الذي أكسب النقد قبولا عاما وثقة به ولاشك أن مجرد أمر السلطان لا يكفي في ذلك دون أن يستند إلى مبرر يضمن اطمئنان الأمة إلى هذا الوسيط ؛ لتقف إلى جانب السلطان وتنفذ أمره طائعة مختارة .
الثالثة : النظرية النفسانية : بأن النقد هو الذي تطمئن النفس إلى اعتباره

قوة شرائية مطلقة ثقة به واطمئنانا إليه سواء أكان له غطاء أم لا ، وسواء أكانت له قيمة ذاتية أم لا ، وسواء أمر السلطان باعتباره أم حصل التراضي والتعارف على استعماله وقبوله .
مما تقدم يمكن أن يستنتج ما يلي :
1 - النقد هو كل شيء يلقى قبولا عاما كوسيط متبادل .
2 - التعهد المسجل على كل ورقة نقدية بتسليم حاملها قيمتها عند الطلب كان سابقا في وقت ما لاعتبار خاص بالأوراق النقدية ، أما الآن فليس له من واقع التعامل به نصيب ، وإنما هو الآن يحكي ما مضى ويعني التذكير بمسئولية الجهات المختصة تجاه قيمتها والحد من إصدارها بلا تقدير .
3 - من الجائز وجود كميات من الأوراق النقدية رعاية عن الغطاء العيني إلا أن الغالب ألا تزيد هذه الكميات عن 65% من مجموع الأوراق النقدية المتداولة .
4 - ليس متعينا أن تكون القاعدة للورق النقدي ذهبا أو فضة إذ لا مانع أن تكون من غيرها كعقار أو أوراق مالية .
5 - القابلية العامة للنقد من حيث هو نقد في الجملة ليس ناتجا عن قيمة ذاتية في النقد أو عن وازع سلطاني يفرض التعامل به فقط ، وإنما هي الثقة العامة به كقوة شرائية مطلقة ، سواء أكانت هذه الثقة صادرة عن تغطيتها بالمعدن النفيس أو عن الانقياد إلى حكم سلطاني باعتبارها أو عن أي اعتبار آخر يضمن هذه الثقة .

هذه الأمور المستنتجة يمكن أن تكون عونا في إدراك حقيقة الأوراق النقدية والقدرة على تكييفها فقهيا .

آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية
لم تكن الأوراق النقدية معروفة عند قدماء فقهاء الإسلام ؛ لعدم تداولها في زمنهم ، فلذا لم نجد منهم من تعرض لحكمها ، ولما كثر تداولها في البلاد الإسلامية بعد ذلك بحثها الفقهاء من حيث الحقيقة والحكم ، واختلفت أنظارهم في ذلك تبعا لاختلاف تصورهم لحقيقتها .
وجملة ذلك خمسة أقوال :
القول الأول : الأوراق النقدية أسناد :
أن الأوراق النقدية أسناد بدين على جهة إصدارها ، ويوجه أصحاب هذا القول قولهم بما يأتي :
( أ ) التعهد المسجل على كل ورقة نقدية بتسليم قيمتها لحاملها عند طلبه .
( ب ) ضرورة تغطيتها بذهب ، أو فضة ، أو بهما معا في خزائن مصدريها .
( ج ) انتفاء القيمة الذاتية لهذه الأوراق حيث إن المعتبر ما يدل عليه من العدد لا قيمتها الورقية .
( د ) ضمان سلطات إصدارها قيمتها عند إبطالها ، ومنع التعامل

بها (1) .
مستلزمات هذا القول :
إن القول باعتبار الأوراق النقدية أسنادا على مصدريها يستلزم الأحكام الشرعية الآتية :
( أ ) منع السلم بها فيما يجوز السلم فيه إذ يشترط في صحة السلم قبض رأس مال السلم في مجلس العقد وقبض البائع الأوراق النقدية ، والحال أنها أسناد يعتبر حوالة بها على صدريها .
( ب ) عدم جواز صرفها بنقد معدني من ذهب أو فضة ولو كان يدا بيد لأن الورقة النقدية على رأي أصحاب هذا القول وثيقة بدين غائب عن مجلس العقد ومن شروط الصرف التقابض في مجلس العقد .
( ج ) يعتبر التعامل بالأوراق النقدية بموجب هذا القول من قبيل الحوالة بالمعاطاة على الجهة التي أصدرتها وفي القول بصحة العقود بالمعاطاة خلاف بين أهل العلم ، فالمشهور في مذهب الشافعي - رحمه الله - عدم صحتها مطلقا ؛ لاشتراط أن يكون الإيجاب والقبول فيها لفظيين وعلى فرض أن القول باعتبار المعاطاة موضع اتفاق بين أهل العلم فمن شروط الحوالة أن يستطيع المحال استيفاء حقه من المحال عليه وفي مسألتنا لا يمكن أن يستوفي المحال مقابل الورقة من رصيدها ، كما يدل على ذلك
__________
(1) انظر ( مجلة الأزهر ) في سنواتها الأولى ، وكتاب [ بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة الأوراق ] للشيخ محمد الحسيني ص 68 ، 71 .

التطبيق العملي ، فتعتبر الحوالة بذلك باطلة .
( د ) القول باعتبارها أسنادا بديون على مصدريها يخضعها للخلاف بين أهل العلم في زكاة الدين هل تجب زكاته قبل قبضه أم بعده ؟ وبالتالي عدم وجوب زكاتها لدى من يقول بعدم وجوبها قبل قبض الدين لامتناع قبض مقابل هذه الأسناد .
( هـ ) بطلان بيع ما في الذمة من عروض أو أثمان بهذه الأوراق ؛ لكونها وثائق بديون غائبة ؛ لأن ذلك من قبيل بيع الكالئ بالكالئ ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ .
مناقشة هذا القول : المبررات التي وجه بها أصحاب هذا القول قولهم يمكن الإجابة عنها بما يلي :
أولا : إن التعهد القاضي بتسليم المبلغ المرقوم على الورقة لحاملها وقت الطلب ليس له من حقيقة معناه نصيب إذ لا يختلف اثنان أن المرء لو تقدم لمؤسسة النقد السعودي أو لغيرها من البنوك المركزية المختصة بإصدار الأوراق النقدية بورقة نقدية صادرة ممن تقدم إليه طالبا منه الاستعاضة عنها بما تحتويه من ذهب أو فضة لما وجد استجابة لذلك ، ولا وفاء لهذا التعهد ، وإنما يرجع الإبقاء على هذا المتعهد - بالرغم من أن الوفاء به لا يتم - إلى تأكيد مسؤوليته على جهات إصداره .
ثانيا : أما الاستدلال على سنديتها بضرورة تغطيتها جميعا بذهب أو فضة أو بهما معا فقد سبق القول بأن الحاجة إلى تغطيتها جميعها ليست

ملحة ، وأنه يكفي تغطية بعضها ، فإنا نجد أن الغالب في النقد الورقي أنه غير مغطى بنقد معدني ، وإنما غطاؤه التزام سلطاني بضمان قيمته في حال تعرضه للبطلان ، وإذن فلا يصلح هذا الدليل سندا لهذا القول .
ثالثا : أما انتفاء القيمة الذاتية لهذه الأوراق النقدية فقد سبق لنا تعريف النقد بأنه أي شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل ، كما سبقت الإشارة إلى بعض أقوال أهل العلم الشرعي المؤيدة لهذا التعريف ، وعليه فمتى ثبت للأوراق النقدية القابلية العامة لتكون وسيطا فلا فرق بين أن تكون قيمتها في ذاتها أو في خارج عنها ، ويؤيد هذا أن سلطات سك النقود المعدنية جرت على أن تجعل للنقود المعدنية قيما أكثر من قيمتها الذاتية ؛ حفاظا على بقائها ومنعا من صهرها سبائك معدنية ، ومتى كنا نرى جزءا من قيمة النقد المعدني ليس له مقابل إلا الالتزام السلطاني ، ولم نقل بأن الزيادة على قيمته الذاتية سند على الدولة فليبطل القول بأن الأوراق النقدية سند على الدولة على أن هذا القول لا يعني انتفاء مسئولية الدولة عن الهيمنة على ثبات قيمتها في حدود المستوى الاقتصادي العام أو ضمان قيمتها في حال إبطالها .
رابعا : أما ضمان سلطات إصدارها قيمتها وقت إبطالها وتحريم التعامل بها ، فهذا سر اعتبارها والثقة بتمولها وتداولها ، إذ أن قيمتها ليست في ذاتها وإنما هي في ضمان السلطات لها وليس في هذا دلالة على اعتبارها أسنادا بديون على مصدريها ما دام الوفاء بسدادها نقدا معدنيا عند الطلب مستحيلا .

على أن في القول بسنديتها من الحرج والضيق وإيقاع الناس في مشقة عظيمة في معاملاتهم ما يتنافى مع المقتضيات الشرعية ، لا سيما بعد أن عم التعامل بهذه الأوراق بين الشعوب الإسلامية ، وأصبحت هي العملة الوحيدة الرائجة السائدة ، وما عداها من أنواع النقود فقد كاد ترك استعمالها وسيطا للتبادل يسلبها صفة النقد وأحكامه .
ومن الأصول العامة في الشريعة الإسلامية أن الأمر الذي لم ينص على حكمه إذا دار بين ما يقتضي التشديد على الناس وما يقتضي التخفيف عليهم في عباداتهم ومعاملاتهم ترجح جانب التخفيف على جانب التشديد { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (1) وقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (2) وقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } (3) وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده ، والنسائي وابن ماجه عن أنس بن مالك ، ورواه البخاري وغيره عن أبي موسى الأشعري : « يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا » (4) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: « إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه » (5) .
وفي لفظ: « إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه » (6) وفي الترمذي وغيره : « ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما » (7) ، (8)
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة النساء الآية 28
(4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1732),سنن أبو داود الأدب (4835),مسند أحمد بن حنبل (4/412).
(5) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6528),صحيح مسلم السلام (2165),سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701),سنن الدارمي الرقاق (2794).
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594),سنن أبو داود الأدب (4808),مسند أحمد بن حنبل (6/125).
(7) صحيح البخاري الحدود (6404),صحيح مسلم الفضائل (2327),سنن أبو داود الأدب (4785),مسند أحمد بن حنبل (6/130),موطأ مالك الجامع (1671).
(8) انظر في الرد على هذا الرأي ص 20 ، 21 من رسالة الشيخ أحمد الخطيب [إقناع النفوس بإلحاق أوراق الأنوات بعملة الفلوس] ، وص 15 من الرسالة نفسها .

القول الثاني : الأوراق النقدية عروض :
هذا القول: أن الأوراق النقدية عرض من العروض لها ما للعروض من الخصائص والأحكام ، ويوجهه القائلون به توجيهات نلخصها فيما يلي:
(1) الورق النقدي مال متقوم مرغوب فيه ومدخر ويشترى ، وتخالف ذاته ومعدنه ذات الذهب والفضة ومعدنهما.
(ب) الورق النقدي ليس بمكيل ولا موزون ، وليس له جنس من الأجناس الربوية المنصوص عليها .
(ج) ما كتب عليها من تقدير قيمتها وتعيين اسمها يعتبر أمرا اصطلاحيا مجازيا لا تخرج به عن حقيقتها من أنها مال متقوم ليست من جنس الذهب والفضة ولا غيرهما من الأموال الربوية .
(د) انتفاء الجامع بين الورق النقدي والنقد المعدني في الجنس وإمكان التقدير والمماثلة : أما الجنس فالورق النقدي قرطاس والنقد المعدني معدن نفيس من ذهب أو فضة أو غيرهما من المعادن ، وأما إمكان التقدير فالنقد المعدني موزون ، أما القرطاس فلا دخل للوزن ولا للكيل فيه .
(هـ) الأصل في المعاملات الحل حتى يرد دليل المنع ، وليس عندنا دليل يمنع ذلك (1)
__________
(1) انظر [الفتاوى السعدية ، ص 213- 229 ، وانظر مقالين للشيخ يحيى أمال في (جريدة حراء) في 27 ، 28 جمادى الآخرة عام 1387 هـ ، وانظر : فتوى منسوبة للشيخ سليمان بن حمدان في (جريدة البلاد) السعودية في 22 \ 5 \ 1378 هـ .

مستلزمات هذا القول :
إن القول بعرضية الأوراق النقدية يستلزم الأحكام الشرعية التالية :
(أ) عدم جواز السلم بها لدى من يقول باشتراط أن يكون رأس مال السلم نقدا من ذهب أو فضة أو غيرهما من أنواع النقد ؛ لأن الأوراق النقدية بمقتضى هذا القول عروض وليست أثمانا .
(ب) عدم جريان الربا بنوعيه فيها فلا بأس ببيع بعضها ببعض متفاضلة ، فيجوز بيع العشرة بخمسة عشر أو أقل أو أكثر كما يجوز بيع بعضها ببعض أو بثمن من الأثمان الأخرى كالذهب أو الفضة أو البرنز أو غيرها من المعادن النقدية نسيئة .
(ج) عدم وجوب الزكاة فيها ما لم تعد للتجارة ؛ لأن من شروط وجوب الزكاة في العروض إعدادها للتجارة .
مناقشة هذا القول :
1 - إن في القول بعرضية الأوراق النقدية تفريطا تنفتح به أبواب الربا على مصاريعها ، وتسقط به الزكاة عن غالب الأموال المتمولة في زماننا هذا ، يتضح ذلك بالمثال الآتي :
مسلم يملك مليون جنيه إسترليني أودعه أحد المصارف بفائدة قدرها 8% لم يقصد بهذا المبلغ التجارة وإنما يريد باقيا عند البنك بصفة مستمرة على أن يأخذ فائدته ليقوم بصرفها على نفسه في شئون حياته مثلا ، فلا بأس

بمقتضى هذا القول بصنيعه هذا ؛ لأن هذا المبلغ ليس نقدا فيجري فيه الربا ولا زكاة فيه ؛ لكونه عرضا لم يقصد به التجارة .
2 - إذا عمدت الجهات المختصة إلى نوع من جنس الورق فأخرجت للناس منه قصاصات صغيرة مشغولة بالنقش والصور والكتابات وقررت التعامل بها وتلقاها الناس بالقبول فقد انتقل هذا الورق من جنسه باعتبار وانتفى عنه حكم جنسه لذلك الاعتبار لانتفاء فوائد الانتفاع به ورقا يكتب فيه وتحفظ فيه الأشياء ، فإذا كان الناس يحرصون على الحصول عليه ويرضونه ثمنا لسلعهم سواء أكانت سلعا عينية أو خدمات فليس؛ لأنه مال متقوم مرغوب فيه بعد تقطيعه قصاصات صغيرة مشغولة بالنقش والكتابة والصور ؛ بل لأنه انتقل إلى جنس ثمني بدليل فقده قيمته كليا في حال إبطال السلطان التعامل به .
أما مخالفة ذاته ومعدنه ذات النقدين والفضة ومعدنهما ، فالجواب عن ذلك فرع عن تحقيق القول في علة الربا في النقدين هل هي الثمنية كما هو رأي المحققين من أهل العلم فينتفي الفارق المؤثر بينهما لاشتراكهما فيها أم أن العلة غيرها.
3 - أما القول بأن قيمتها النقدية وتعيين اسمها اصطلاح مجازي لا تخرج به عن حقيقتها من أنها مال متقوم ليس له جنس الذهب ولا الفضة ولا غيرهما من الأموال الربوية فيمكن أن يجاب عن ذلك بأن تسمية هذه الأوراق بريال أو جنيه أو دولار أو دينار أو غيرها تعتبر حقائق عرفية لا مجازية لا سيما في وقتنا هذا الذي اختفى فيه الذهب والفضة عن الأسواق

كنقد سائد في التداول وحلت هذه المسميات محلها في الثمنية .
4 - وأما القول بانتفاء الجامع بينهما في الجنس وإمكان التقدير فيمكن أن يجاب عنه بعد تحقيق القول في علة الربا في النقدين فإذا كانت العلة في ذلك الثمنية كما سيأتي بيانه وتوضيحه فالجامع موجود .
5 - وأما القول بأن الأصل في المعاملات الحل حتى يرد دليل المنع فيجاب بالتسليم بهذه القاعدة إلا أن دليل المنع وارد بناء على أن علة الربا في النقدين الثمنية .

القول الثالث : الأوراق النقدية فلوس :
يتلخص هذا الرأي في أن الأوراق النقدية كالفلوس في طروء الثمنية عليها ، فما ثبت للفلوس من أحكام الربا والزكاة والسلم وغيرها ثبت للأوراق النقدية مثلها ، ويوجه أصحاب هذا القول رأيهم بأن الأوراق النقدية عملة رائجة أعيانها بما رقم عليها رواج النقدين بقيمتها المرقومة عليها وليست ذهبا ولا فضة ، وإنما هي كالفلوس .
ولكنهم اختلفوا في مقتضيات هذا القول : فمنهم من لم يلحقها بالنقدين مطلقا ، فلم يوجب فيها الزكاة إلا بنية التجارة ولم يجر فيها الربا بنوعيه ، ومنهم من فصل فألحقها بالنقدين في وجوب الزكاة وجريان ربا النسيئة فيها ؛ للإجماع على حرمته ، واعتراف من حرم ربا الفضل بأن حرمة ربا النسيئة أشد إثما من ربا الفضل ، ولدخول النسيئة في الأنواط في عموم قوله تعالى ؛ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } (1)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130

ولأن مفسدة بيع عشرة أنواط باثني عشر منها ، أو بأحد النقدين إلى أجل لا تقل عن مفسدة بيع عشرة دنانير ذهبا باثني عشر دينارا ، وتكاد معرفة الفساد فيهما تكون ضرورية .
وأباح هؤلاء ربا الفضل في الأنواط ، فأجازوا بيع بعضها ببعض أو بأحد النقدين مع التفاضل إذا كان ذلك يدا بيد ؛ لأن ربا الفضل حرم تحريم الوسائل ، ولكونها غير نقود حقيقية ولموضع الحاجة ، ونظير هذا أن بعض العلماء أجاز بيع الفلوس بعضها ببعض أو بأحد النقدين مع التفاضل إذا كان يدا بيد ومنع من ذلك مؤجلا ، ولأن ربا الفضل أبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كبيع العرايا ، ولأن بعض العلماء أجاز بيع الحلي من الذهب بالدنانير ، وبيع الحلي من الفضة بالدراهم متفاضلا يدا بيد ، فجعلوا للصنعة أثرا (1) .
مناقشة هذا القول:
1 - إن قياس الأوراق النقدية بالفلوس قياس مع الفارق .
ويتبين ذلك فيما يأتي:
(أ) الأوراق النقدية بمزيد قبولها ، وكثرة رواجها في المعاملات ، وطغيانها على سائر الأثمان في سوق المعاوضات - صارت موغلة في الثمنية إيغالا لا تقصر دونه الفلوس ، بل نقود الذهب والفضة بعد ندرة
__________
(1) انظر ص 48 من كتاب [إقناع النفوس بإلحاق أوراق الأنوات بعملة الفلوس] ، للشيخ أحمد الخطيب ، وانظر [الفتاوى السعدية] ، ص 313- 329 ، وانظر (جريدة حراء) الصادرة بتاريخ 10 \ 6 \ 1378 هـ .

التعامل بهما في المعاوضات.
(ب) في انتقال الأوراق النقدية من أصلها العرضي إلى الثمنية قوة أفقدتها القدرة على رجوعها إلى أصلها في حال إبطالها ، بخلاف الفلوس فهي إذا كسدت أو أبطل السلطان التعامل بها فلها قيمة في نفسها كسائر العروض.
(ج) الأوراق النقدية في غلاء قيمتها كالنقدين ، بل إن بعضا من الورق النقدي يعجز عن اللحاق بقيمته أكبر قطعة نقدية من ذهب أو فضة.
(د) تستخدم الفلوس في تقييم المحقرات من السلع ، وهذه المحقرات مما تعم الحاجة إليها ، فالتخفيف في أحكامها أمر حاجي تقتضيه المصلحة العامة كالعرايا والتجاوز عن يسير الغرر والجهالة.
(هـ) نظرا لتفاهة قيمة الفلوس فإن الصفقات ذات القيمة العالية لا تتم بها ، وإنما تتم بالنقدين أو بالأوراق النقدية والربا في الغالب لا يكون إلا في صفقات ذات قيمة عالية نسبيا.
هذه الفروق لها أثرها في إعطاء الأوراق النقدية مزيد فضل على الفلوس تختلف به عنها في الأحكام وتجعلها في معنى النقدين : الذهب والفضة في الثمنية ، وفي جريان الأحكام.
2 - على فرض التسليم بإلحاق الأوراق النقدية بالفلوس فقد بحث العلماء رحمهم الله مسألة الفلوس ، واختلفوا في تكييفها ، وانقسموا في ذلك الاختلاف قسمين تبعا لعاملين يتجاذبانها : عامل أصلها ، وهو العرضية

وعامل ما انتقلت إليه وهو الثمنية ، فبعضهم اعتبر أصلها وهو العرضية ففرق بينها وبين النقدين ، فأثبت لها أحكام أصلها ومنع عنها أحكام النقدين في الربا والصرف والسلم والزكاة وغيرها (1) ، والبعض الآخر اعتبرها نقدا ، وأثبت لها ما للنقدين من أحكام في الربا والصرف والسلم والزكاة وغيرها (2) ، وبمزيد من العمق في دراسة مسألة الفلوس والموازنة بين الرأيين - يظهر وجاهة القول باعتبارها نقدا ، لها ما للنقدين الذهب والفضة من أحكام .
__________
(1) انظر [شرح المنتهى ] ، (2 \ 194 ، 205 ، 212) و[ كشاف القناع عن متن الإقناع] ، (3 \ 206) ، وانظر ص 34 ، 28 ، 29 ، 30 من رسالة [إمتاع الأحداق والنفوس بمطالعة أحكام أوراق الفلوس] ، ص 34 ، 28 ، 29 ، 30 حيث أورد مجموعة نقول عن [ شرح المنهاج ] ، وعن [فتاوى عليش] ، وعن [شرح الدردير على مختصر خليل] ، وعن [ الفتاوى الهندية] ، وعن [ الدر المختار ] ، وعن حاشيته .
(2) انظر [ الفروع ] ، وتصحيحه (2 \ 546 ، 548) ، و[ الروض المربع ] ، (2 \ 117) و[إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) ، و [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] ، (29 \ 468 ، 471) و[المدونة الكبرى] ، في كتاب الزكاة وكتاب الصرف ، وكتاب [ شمس الإشراق في حكم التعامل بالأوراق] ، ص 57 ، 58 نقلا عن [ المدونة ] ، وص 67 نقلا عن [ قاري الهداية ] ، و[ بدائع الصنائع ] ، (5 \ 185).

القول الرابع : الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة :
يتلخص هذا القول في : أن الأوراق النقدية بدل لما استعيض بها عنه ، وهما النقدان : الذهب ، والفضة ، وللبدل حكم المبدل عنه مطلقا ، ويوجهه أصحابه بأن هذه الأوراق النقدية قائمة في الثمنية مقام ما تفرعت عنه من ذهب أو فضة حالة محلها ، جارية مجراها ، معتمدة على تغطيتها بما تفرعت عنه منهما ، والأمور الشرعية بمقاصدها ، يؤيد القول بثمنيتها أنها إذا زالت عنها الثمنية أصبحت مجرد قصاصات ورق لا تساوي بعد

إبطالها شيئا مما كانت تساويه قبل الإبطال ، ويلزم سلطة الإصدار تعويض حاملها إما بمقابلها من جنس رصيدها ، وإما بأوراق أخرى تقوم مقام مقابلها من الرصيد ما تراه الدولة من المصلحة .
مستلزمات هذا الرأي:
يستلزم هذا الرأي ما يأتي:
(أ) جريان الربا بنوعيه في الأوراق النقدية .
(ب) ثبوت الزكاة فيها متى بلغت قيمتها مائتي درهم فضة أو عشرين مثقالا ذهبا إذا استكملت شروط وجوب الزكاة في النقدين ، مع ملاحظة أن ما كان بدلا عن ذهب فلا تجب زكاته حتى تبلغ ثمنيته نصاب الذهب ، وما كان بدلا عن فضة فلا تجب زكاته حتى تبلغ ثمنيته نصاب الفضة .
(ج) جواز السلم بها .
(د) اعتبارها بغض النظر عن أشكالها وأسمائها وجنسياتها متفرعة عن جنسين هما : الذهب والفضة ، فما كان عن ذهب فله حكم الذهب ، وما كان عن فضة فله حكم الفضة .
(هـ)) إذا بودل بين نوعين من الورق النقدي متفرعين عن ذهب أو فضة - امتنع التفاضل بينهما ، وإذا بودل بين جنسين من الورق أحدهما متفرع عن ذهب والثاني متفرع عن فضة - جاز فيهما التفاضل إذا كان يدا بيد ، وامتنع فيهما التأخير .

مناقشة هذا القول :
هذا الرأي مبني على افتراض أن الأوراق النقدية مغطاة غطاء كاملا بذهب أو فضة ، وحيث إن الواقع خلاف ذلك ، وأن غالب الأوراق النقدية مجرد أوراق وثيقية قيمتها مستمدة من سن الدولة التعامل بها ، وتلقي الناس إياها بالقبول ، وأن القليل المغطى لا يلزم أن يعطى بالذهب أو الفضة ؛ بل قد يغطى بغيرهما من عقار أو أوراق مالية من أسهم أو سندات لا تقدر قيمتها بذهب ولا فضة وإنما تقدر بعمل ورقية ، فضلا عن الحرج والمشقة في القول بهذا الرأي في مسائل الصرف عند اشتراط المماثلة في الجنس ، وذلك إذا صح ما قيل بانتفاء أي نقد ورقي غطاؤه فضة .
ويمكن أن يورد على هذا النقاش ما يلي :
إن رصيد الأوراق النقدية وإن كان مختلفا فبعضه ذهب أو فضة وآخر منه عقار أو أوراق مالية من أسهم وأسناد إلا أن ما كان منه عقارا أو أوراقا مالية لم يعتبر رصيدا بنفسه ، وإنما اعتبر بما قدر به من العمل المتعامل بها سابقا في دولة الإصدار ، ذهبا كانت أم فضة ، وكذا ما كان أوراقا وثيقية عمادها التزام سلطة الإصدار ليست قيمتها من مجرد سن الدولة التعامل بها ؛ لما سبق في بيان السبب الثاني من أسباب سر قابلية النقد وسيطا في التبادل وإنما كسبت الأوراق الوثيقية ثقة الناس بها وقبولهم إياها وسيطا في التعامل مع ملاءة سلطة الإصدار القائمة مقام الذهب أو الفضة مع سنها التعامل بها ، فعاد الأمر إلى قيمة ما كان به مليئا من ذهب أو فضة أو ما يقدر بهما ، وبذلك كان بعض الرصيد ذهبا أو فضة بالفعل ، وبعضه الآخر في

حكم الذهب أو الفضة تبعا لنوع العمل المتعارف عليها في الدولة قبل إصدار الأوراق النقدية ، أما ما قيل من أن هذا الرأي يستلزم الحرج والمشقة في مسائل الصرف لاشتراط المماثلة في الجنس فغير مسلم ، فإن ما اشترط من المماثلة في حال معاوضة بديل الذهب مثلا بعضه ببعض قد اشترط في حال معاوضة الذهب نفسه بعضه ببعض ولم يعتبر ذلك حرجا ، فكذا لا يعتبر اشتراط المماثلة في حال المعاوضة في البديل حرجا ، ويؤيد ما ذكر من البدلية واعتبار الرصيد قائما أن قيمة الأوراق النقدية لا تخضع في صعودها وهبوطها لحالة السوق التجارية عرضا وطلبا فقط ، بل تخضع في ذلك أيضا لحالة رصيدها قوة وضعفا ، فإن كان لها نسبة معتبرة من الرصيد مع ملاءة الدولة أو ارتبطت بعملة لدولة أخرى مليئة معتبرة كعملة الدولار أو الإسترليني في الوقت الحاضر أثبتت وجودها وعلت قيمتها ، وإلا تزلزلت وهبطت قيمتها ، ومن هنا قيل هذه عملة صعبة ، وقيل في أخرى ليست صعبة ، ويشهد لذلك حالة الورق النقدي في بعض الدول العربية حينما انفصل عن الإسترليني فهبط بعد أن كان صاعدا مرتفعا سعره في السوق العالمية .
ويؤيد اعتبار الرصيد أيضا وأنه لم يزل قائما أن الدولة إذا أبطلت نوعا من الأوراق النقدية لزمها تعويض من بيده الأوراق إما بأصل الرصيد أو بأوراق أخرى تقوم مقام نصيبها من الرصيد ، وإنما منعت الدولة التعويض عن الأوراق بما يقابلها من نفس الرصيد محافظة على خاماتها الثمينة وحماية لها من تلاعب الناس فيها أو تهريبها ، إلى غير هذا من أنواع العبث ، وقد

يكون احتفاظها بالرصيد لمعنى اقتصادي جعل الدولة تحل الأوراق محل الذهب أو الفضة .

القول الخامس : الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه :
يتلخص هذا القول : في أن الورق النقدي نقد قائم بنفسه ؛ كالذهب والفضة ، وغيرهما من الأثمان مما يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل بين الناس ، وأن العملات الورقية أجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها .
توجيه هذا القول :
ويمكن أن يوجه هذا القول بما يأتي :
1 - ما عليه البلاد من حال اقتصادية (1) .
2 - ثقة الناس بها ثقة تامة جعلتها صالحة لتكون مستودعا عاما للادخار ، وقوة للشراء ، ومقياسا للقيم (2) 3 - قانونيتها بسن الدولة لها ، وحمايتها إياها ، والاعتراف بذلك أكسبها قوة الإبراء العام (3) 4 - لا يحتم قانون إصدار الأوراق النقدية تغطيتها جميعها ، فيكفي تغطية بعضها بغطاء مادي له قيمة في نفسه ولو لم يكن ذهبا ولا فضة ، على
__________
(1) انظر [قصة النقود] ، ص 107 لوهيب مسيحة ، وكذلك ص 118 من الكتاب نفسه ، وانظر ص 31 من الفصل الرابع من كتاب [ النقود والائتمان ] ، للأستاذين: محمد لهيطة ] ، ومحمد عليش .
(2) انظر ص 6 ، 7 من [ الموجز في اقتصاديات النقود ] ، للأستاذ ج . ف . كرواذ .
(3) انظر ص 98 ، 99 من كتاب [ قصة النقود ] .

أن يكون الباقي أوراقا وثيقية لا غطاء لها إلا التزام سلطة الإصدار سجل بما سجل عليها عند إبطالها .
5 - التعهد المسجل على هذه الأوراق لا يقصد إلا تذكير المسئولين عن مسئوليتهم تجاهها والحد من الإفراط في الإصدار دون استكمال أسباب الثقة بها ، وإذن فليست أسنادا وليس التعهد بها سر قبولها .
6 - ليس للأوراق النقدية قيمة في نفسها ، وإنما قيمتها في أمر خارج عنها فليست عروضا.
7 - رجحان القول بأن علة الربا في النقدين الثمنية مع الاعتراف بثمنية الأوراق النقدية .
8 - تحقق الشبه بينها وبين الذهب والفضة المسكوكتين في الثمنية وفي وقوع الظلم والعدوان والاضطراب في المعاملات إذا جعل كل من هذه الأثمان سلعا كالعروض تباع وتشترى فأعطيت حكمها لا حكم العروض .
9 - اختلاف جهات الإصدار فيما تتخذه من أسباب الثقة بالأوراق النقدية لتحل محل الذهب والفضة وتكسب قبولا عاما وإبراء تاما ، واختلاف هذه الجهات أيضا قوة وضعفا وسعة وضيقا في الاقتصاد والسلطان وغير ذلك مما يقضي بأنها أجناس مختلفة باختلاف جهات إصدارها ، فكما أن الذهب والفضة جنسان لاختلاف كل منهما عن الآخر في القيمة الذاتية ، فكذلك العملات الورقية أجناس لاختلاف كل منها عن الأخرى بما تقدرها به جهات إصدارها وفيما تتخذه من أسباب لقبولها

وإحلال الثقة بها .
10 - في القول بتفرع الأوراق النقدية عن الذهب والفضة مجانبة للواقع ، وفي العمل به حرج ومشقة حينما تعتبر الأوراق النقدية جنسا واحدا.
وحيث كان سر قبول الأوراق النقدية ثقة الناس به لا التعهد المسجل على كل ورقة بتسليم حاملها ما سجل عليها وقت الطلب ، ولا أن جميعها مغطى بذهب أو فضة ، ولا لأن سلطة الإصدار ألزمت الناس التعامل بها ، وحيث أنها أشبهت الذهب والفضة في الثمنية وتقويم الأشياء بها ، واطمئنان النفوس إلى تمولها وادخارها ، وفي اضطراب أحوال المعاملات وانتشار الظلم والعدوان باتخاذها سلعا تباع وتشترى ، وكان الراجح في علة جريان الربا في الذهب والفضة الثمنية ، وتبين أنها ليست أسنادا ولا عروضا وأن الفلوس جارية مجرى الذهب والفضة في أحكامها وأنها ليست متفرعة عن الذهب والفضة ، وأن قيمة الأوراق الثمنية وقوتها الشرائية تختلف باختلاف جهات الإصدار في حالتها الاقتصادية ، وقوتها وضعفها ، وسعتها وضيقها في الاحتياط لحفظ كيان هذه الأوراق وفي نوع ما تسندها ثبت أنها نقد قائم بنفسه ، وأنها أجناس مختلفة تبعا لاختلاف جهات إصدارها ، وأن لها ما للذهب والفضة من أحكام (1)
__________
(1) انظر كتاب [ يسر الإسلام ] ، للشيخ رشيد رضا ، وكتاب [قصة النقود] ، لوهيب مسيحة ، والفصل الرابع من كتاب [النقود والائتمان] ، للأستاذين فهمي لهيطة ومحمد حمزة عليش.

مستلزمات هذا القول :
يستلزم هذا القول الأحكام الشرعية الآتية :
(1) جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان .
(ب) عدم جواز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض أو بيع جنس منها بغيره من الأجناس الثمنية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة .
(ج) عدم جواز بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض متفاضلا ، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد .
(د) جواز بيع الأوراق النقدية بعضها ببعض متفاضلا ، إذا اختلف الجنس وكان يدا بيد ، فيجوز بيع الريال الفضة بريالين من الورق مثلا ، وبيع الليرة بريال سعودي فضة كان أو ورقا ، وبيع الدولار بخمسة ريالات أو أقل أو أكثر إذا كان يدا بيد .
(هـ) وجوب زكاتها إذا بلغت أدنى النصابين من ذهب أو فضة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها وحال عليها الحول .
(و) جواز السلم بها .
مناقشة هذا القول :
ويمكن أن تناقش هذه التوجيهات بما يأتي :
أما الأول : فيناقش بأن تغير أسعار الورق النقدي ونحوه ارتفاعا وانخفاضا لا يخضع فقط لحالة السوق التجارية طلبا وعرضا وكثرة الإنتاج

وقلته وكثرة الأثمان وقلتها ، بل يخضع أيضا لحالة رصيد هذه الأوراق قوة وضعفا ، فإن كان لها نسبة معتبرة من الرصيد مع ملاءة الدولة أو ارتبطت بعملة أخرى مليئة ولها رصيد معتبر كعملة الدولار والإسترليني في الوقت الحاضر ، أثبتت وجودها وغلت قيمتها وإلا تزلزلت وهبط سعرها في الأسواق العالمية ، ومن هنا قيل : عملة صعبة وعملة ليست صعبة ، ويشهد لذلك واقع الورق النقدي في بعض الدول العربية حينما انفصل عن الإسترليني هبط بعد أن كان مرتفعا سعره في السوق العالمية .
ويناقش الثاني والثالث : بأن ثقة الناس بها وقانونيتها بسن الدولة لها وحمايتها والاعتراف بذلك إنما أكسبها قوة الشراء والإبراء العام وجعلها مقياسا للقيم من أجل ما استندت إليه من رصيد لا يزال اعتباره قائما ، يدل على ذلك ما جاء في التوجيه الرابع والخامس والسادس والتاسع ، وما تقدم في بيان سر قابلية النقد الورقي للتبادل والإبراء العام .
ويناقش الرابع : بأنه وإن لم يتعين تغطية الأوراق النقدية بالذهب أو الفضة لكن لابد من التغطية ولو بعقار يقدر بالعملة المتعارف عليها في دولة الإصدار حتى يمكن الوقوف عند حد معقول اقتصاديا في إصدار الأوراق النقدية يتناسب مع الرصيد ، وما كان غير مغطى منها قام فيه التزام جهة الإصدار المليئة مقام الغطاء بالعملة المتعارف عليها سابقا ، وبذلك كان الغطاء من عقار والتزام مثلا في حكم الذهب والفضة وكانت ثقة الناس بهذه الأوراق وكانت قوة الشراء والإبراء العام .
(انظر التعليق على مناقشة القول الرابع) .

ويناقش الخامس : بأنه يحمل رده في طيه حيث ذكر فيه أن مما يقصد بالتعهد المسجل على الأوراق الحد من الإفراط في الإصدار دون استكمال أسباب الثقة ، واستكمال أسباب الثقة إنما يكون بزيادة الرصيد بنسبة ما يراد زيادة إصداره من الأوراق النقدية ، وبذلك يتبين أن اعتبار الرصيد ولو اختلف نوعه لا يزال قائما ، وإنما لم يسلم العوض ذهبا أو فضة عند إبطال عملة الأوراق واكتفي بتسليم عملة أخرى من الأوراق لمصلحة رآها ولي الأمر ، كالمحافظة على المعادن النفيسة من تهريبها مثلا ، أو الرغبة في الانتفاع بها فيما يعود على الدولة بالخير مع قيام أوراق نقدية لا تكلفه شيئا سوى إصدارها مع دعمها بالتزام الوفاء ورصيد يتصرف فيه رجاء فائدة تعود إلى الحكومة والأمة .
ويناقش السادس : بأنه يحمل رده في طيه أيضا كالخامس ؛ بل هذا أوضح ، حيث صرح فيه بأن قيمة الأوراق النقدية في أمر خارج عنها لا في نفسها ، فدل ذلك على اعتبار الرصيد قائما وإن لم يستجب إلى من طلبه من حملة الأوراق النقدية ولم يدفع إليه شيء من الرصيد بعينه ، لما تقدم بيانه في رد الوجه الخامس .
ويناقش السابع والثامن : بأنه إن صح القول بأن الثمنية علة الربا في النقدين وصح قياس الأوراق النقدية عليها دل ذلك على أنها فرع عنهما لا على استقلالها جنسا أو أجناسا قائمة بنفسها ، فما كان منها متفرعا عن الذهب ألحق به وما كان منها متفرعا عن الفضة أعطي حكمها في كل ما يتعلق بالربا والزكاة ونحوهما .

ويناقش التاسع بأمرين :
الأول : أن فيه التصريح باتخاذ رصيد لهذه الأوراق ، وأنه سبب الثقة بها وحلولها محل الذهب أو الفضة وكسبها القبول العام والإبراء التام فدل على أنها فرع عما دعمت به من ذهب أو فضة أو ما يقدر بهما من عقار ونحوه ، فكانت بدلا عن أصلها الذي حلت محله لا جنسا أو أجناسا مستقلة بنفسها .
الثاني : أن اختلاف جهات الإصدار قوة وضعفا وسلطانا وسعة وضيقا واختلافها في نوع ما تدعم به عملتها الورقية لا تأثير له في اختلاف رصيده منهما أو مما قدر بهما فيكون بعض الورق تبعا للفضة وبعضها تبعا للذهب لا غير ، يدل على ذلك أن جهات إصدار نقد من الذهب أو الفضة لا يؤثر اختلافها ولا وحدتها في جنس كل من الذهب والفضة ، بل هما جنسان اتحدت الجهة أو اختلفت.
ويناقش العاشر : بأنه لا حرج ولا مشقة في القول بتفرعها عن الذهب والفضة ، فإن ما اشترط فيها من المماثلة في بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض قد اشترط فيما هي بديل عنه من الذهب أو الفضة ولم يعتبر ذلك حرجا ، فكذا لا يعتبر اشتراط المماثلة في حال المعاوضة في البديل حرجا .

علة الربا في النقدين
نظرا إلى أن الأوراق النقدية أصبحت تلقى قبولا عاما في دنيا

المعاوضات كوسيط للتبادل ، وأنها بذلك حلت محل الذهب والفضة في الثمنيه ، وحيث أن السنة النبوية نصت على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة ، ونظرا إلى أن أهل العلم اختلفوا في تعيين علة لجريان الربا فيهما ، نظرا إلى ذلك كله كان من المناسب أن يشتمل هذا البحث على بيان أقوال أهل العلم في علة الربا في النقدين ونقاش ما استند إليه كل قول مما يقبل النقاش.
لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في النقدين الذهب والفضة : فمن نفى التعليل أو تعذر عليه إقامة دليل يرضاه لإثبات علة التحريم : قصر العلة فيهما مطلقا سواء كانا تبرا أو مسكوكين أو مصنوعين .
وهذا مذهب أهل الظاهر ونفاة القياس وابن عقيل من الحنابلة ، حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها ، فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية ولا في غيرها مما يعذ نقدا ، وتحريم الربا فيهما عندهم تعبدي ، وأما غيرهم فقد استنبط مناطا تنضبط به قاعدة ما يجري فيه الربا إلا أتهم اختلفوا في تخريج المناط .
ويمكن حصر آرائهم في ثلاثة أقوال :
الأولى : يتلخص القول الأول في أن علة الربا في النقدين الوزن ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن » (1) (2) ، ولقوله : « الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل ، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل » (3) (4)
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591),سنن أبو داود البيوع (3353),مسند أحمد بن حنبل (6/22).
(2) أخرجه مسلم برقم (1584) (77) وأبو داود برقم (3353) والنسائي في [المجتبى] ، برقم (5470) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1588).
(4) أخرجه أحمد (2 \ 262) و (6 \ 19) ومسلم برقم (1588) (84) والنسائي في [المجتبى] ، برقم (4569) .

وقوله : « ما وزن مثلا بمثل » (1) ، وقوله : « بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا » (2) .
وقال في [الميزان] ، مثل ذلك (3) ، فجعل ضابط ما يجري فيه الربا وتجب فيه المماثلة الوزن في الموزونات ، وطرد أصحاب هذا القول القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن ؛ كالحديد ، والنحاس ، والرصاص ، والصفر ، والصوف ، والقطن والكتان ، وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد ، وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي . ويمكن أن يورد على هذا القول ما يلي :
(أ) الوزن وصف طردي محض لا مناسبة فيه (4) .
(ب) العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزونات ، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل ، وفي جواز ذلك نقض للعلة (5) .
(ج) أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على ما يوزن ؛ بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا ولا يتعامل به وزنا ، كالفلوس ، والورق النقدي ، فإن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي وبشكل واضح في غالبه تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في
__________
(1) رواه الدارقطني برقم (58) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2089),صحيح مسلم المساقاة (1593),سنن النسائي البيوع (4553),موطأ مالك البيوع (1314).
(3) [صحيح البخاري] ، (3 \ 35 ، 61) و (5 \ 83 ، 84) .
(4) انظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) .
(5) انظر [ المغني ] ، (4 \ 4) ، وانظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، (29 \ 471) ، وانظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) .

التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين ، نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها كفئات المائة ريال والألف دولار .
الثاني : ويتلخص هذا القول في أن علة الربا في النقدين غلبة الثمنية ، وهذا القول هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي فالعلة عندهما قاصرة على الذهب والفضة ، والقول بغلبة الثمنية احتراز عن الفلوس إذا راج رواج النقدين فالثمنية طارئة عليها فلا ربا فيها .
ويمكن أن يورد على هذا الرأي ما يلي:
(أ) أن العلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم منقوضة طردا بالفلوس ؛ لأنها أثمان وعكسا بالحلي (1)
(ب) أن حكمة تحريم الربا في النقدين ليست مقصورة عليهما ؛ بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي .
الثالث : ويتلخص في أن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية .
وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة .
قال أبو بكر من أصحاب أحمد : روى ذلك عن أحمد جماعة ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله وغيرهما من محققي أهل العلم (2)
__________
(1) انظر [مجموع النووي] ، (9 \ 445) ، وانظر الفروع ، (2 \ 545) .
(2) انظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، (29 \ 473 ، 474) ، وانظر إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) .

وقد أورد ابن مفلح على هذا القول إيرادا ملخصه : بأن التعليل بالثمنية تعليل بعلة قاصرة لا يصلح التعليل بها في الأكثر منقوضة طردا بالفلوس لأنها أثمان وعكسا بالحلي (1) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد : بأنه لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية ، أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين ، بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا كما يجري فيهما ، كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة ؛ لأن الصناعة قد نقلته من جنس الثمنية إلى أجناس السلع والثياب ؛ ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور في مذهب الإمام أحمد مع أنه من الذهب والفضة (2) .
كما يمكن أن يورد على القائلين بمطلق الثمنية إيراد ملخصه : بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة ، سواء أكانا سبائك أو مسكوكين ، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه ؛ لكونه ثمنا وإنما الإشكال في جريان الربا في سبائكهما مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا ، ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد: بأن الثمنية موغلة في الذهب والفضة وشاملة لسبائكهما ، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا ، وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن .
__________
(1) انظر [ الفروع ] ، وتصحيحه (2 \ 545) .
(2) انظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 145 - 142 ) ، وانظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (29 \ 453) .

ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس قال : « جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة ، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي ، فساومنا سراويل فبعناه ، وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: " زن وارجح » ، ومثله حديث جابر في بيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: « يا بلال أقضه وزده » (1) فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (2) .
هذا ما تيسر إيراده. وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2185),صحيح مسلم المساقاة (715),مسند أحمد بن حنبل (3/314).
(2) انظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، (19 \ 248) ، وانظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 140) .

قرار هيئة كبار العلماء
رقم (10) وتاريخ 17 \ 8 \ 1393هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فبناء على توصية رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، والأمين العام لهيئة كبار العلماء - بدراسة موضوع الورق النقدي من قبل هيئة كبار العلماء ؛ استنادا إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في الهيئة التي تنص على أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر ، أو بتوصية من الهيئة ، أو من أمينها ، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة - فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1 \ 4 \ 1393 هـ و 17 \ 4 \ 1393 هـ ، وفي تلك الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم عنه من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
وبعد استعراض الأقوال الفقهية التي قيلت في حقيقة الأوراق النقدية من اعتبارها أسنادا ، أو عروضا ، أو فلوسا ، أو بدلا عن ذهب أو فضة ، أو نقدا مستقلا بذاته ، وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية - جرى تداول الرأي فيها ، ومناقشة ما على كل قول منها من إيرادات. فتنتج عن ذلك عديد من التساؤلات التي تتعلق بالإجراءات المتخذة من قبل الجهات المصدرة لها :

وحيث إن الموضوع من المسائل التي تقضي المادة العاشرة من لائحة سير عمل الهيئة بالاستعانة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والأنظمة العامة بما في ذلك القضايا البنكية والتجارية والعمالية ، فإن عليها أن تشرك في البحث معها واحدا أو أكثر من المتخصصين في تلك العلوم - فقد جرى استدعاء سعادة محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي الدكتور أنور علي ، وحضر معه الدكتور عمر شابريه أحد المختصين في العلوم الاقتصادية ، ووجهت إلى سعادته الأسئلة التالية:
س1 : هل تعتبر مؤسسة النقد ورق النقد السعودي نقدا قائما بذاته أم تعتبره سندات تتعهد الدولة بدفع قيمتها لحاملها ، كما هو مدون على كل فئة من فئات أوراق النقد السعودي ، وإذا لم يرد معنى هذه العبارة ، فما معنى الالتزام بتسجيلها على كل ورقة ، وهل يعني ذلك التعهد أن ورق النقد السعودي مغطى بريالات فضية أم لا ؟
س2: هل لكل عملة ورقية غطاء مادي محفوظ في خزائن مصدريها ، وإذا كان كذلك فهل هو غطاء كامل أم غطاء للبعض فقط ، وإذا كان غطاء للبعض فما هو الحد الأعلى للتغطية ، وما هو الحد الأدنى لها؟
س 3: ما نوع غطاء العملات الورقية ، وهل توجد عملة لأي دولة ما مغطاة بالفضة ، وله هناك جهات إصدار تخلت عن فكرة التغطية المادية مطلقا ؟
س4 : المعروف أن الورقة النقدية لا قيمة لها في ذاتها ، وإنما قيمتها في أمر خارج عنها ، فما هي مقومات هذه القيمة؟

س5 : نرغب شرح نظرية غطاء النقد بصفة عامة ، وما هي مقومات اعتبار العملة الورقية على الصعيدين الدولي والمحلى؟
س6: هل الغطاء لا يكون إلا بالذهب ، وإذا كان بالذهب وغيره فهل غير الذهب فرع عن الذهب باعتبار أنه قيمة له ، وهل يكفي للغطاء ملاءة ومتانة اقتصادها وقوتها ولو لم يكن لنقدها رصيد؟
س7 : ما يسمى بالدينار ، والجنيه هل هو مغطى بالذهب ، ولذا سمي دينارا أو جنيها رمزا لما غطي به ، ومثله الريال السعودي هل هو مغطى بفضة أم أن هذه التسميات يقصد منها المحافظة على التسميات القديمة للعمل المتداولة فيما مضى بغض النظر عما هي مستندة عليه من ذهب أو فضة ؟
س8: ما السبب في عدم الثقة في النقد المتداول اليوم مما أدى إلى ارتفاع الذهب ارتفاعا لم يسبق له نظير؟
وأجاب سعادته عنها بواسطة المترجم القائد الدكتور أحمد المالك إجابة جرى رصد خلاصتها في محضر الجلسة مع سعادته ، وقد توصلت بها الأكثرية من الهيئة إلى الاقتناع بما ارتأته فيها من رأي .
ثم بعد إعادة النظر في الأقوال الفقهية التي قيلت فيها على ضوء الإيضاحات التي ذكرها سعادة المحافظ - قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:
بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح ، بحيث يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل ، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال : (وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا

شرعي ، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به ، بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به ، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها ، بل هي وسيلة إلى التعامل بها ؛ ولهذا كانت أثمانا . . . إلى أن قال : والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض ، لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت ) اهـ (1) .
وذكر نحو ذلك الإمام مالك في [ المدونة ] ، من كتاب الصرف حيث قال: ( ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة ) اهـ (2) .
وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولا عاما في التداول ، ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياسا للقيم ومستودعا للثروة ، وبه الإبراء العام ، وحيث ظهر من المناقشة مع سعادة المحافظ : أن صفة السندية فيها غير مقصودة ، والواقع يشهد بذلك ويؤكده ، كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملا لجميع الأوراق النقدية ، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزء من عملتها بدون غطاء ، وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهبا ، بل يجوز أن يكون من أمور عدة كالذهب والعملات الورقية القوية ، وأن الفضة ليست غطاء كليا أو جزئيا لأي عملة في العالم ، كما اتضح أن مقومات الورقة النقدية قوة وضعفا مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية ، فتقوى الورقة بقوة دولتها وتضعف بضعفها ، وأن الخامات المحلية؛ كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار
__________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] ، (29 \ 251) .
(2) [المدونة الكبرى] ، للإمام مالك (3 \ 5 ) توزيع \ مكتبة دار الباز بمكة المكرمة.

غطاء للعملات الورقية.
وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلا ، والأقرب إلى مقاصد الشريعة ، وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك وأبي حنيفة وأحمد ، قال أبو بكر : روى ذلك عن أحمد جماعة ، كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما.
وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية ؛ لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها: أن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرها من الأثمان ، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار ، بمعنى: أن الورق النقدي السعودي جنس ، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس ، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته ، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية:
أولا: جريان الربا بنوعيه فيها ، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان كالفلوس ، وهذا يقتضي ما يلي :
(أ) لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما - نسيئة مطلقا ، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة.
(ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا ، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد ، فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا.

(ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا ، إذا كان ذلك يدا بيد ، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ، ورقا كان أو فضة ، أو أقل من ذلك أو أكثر ، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يدا بيد ، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يدا بيد ؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثانيا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
ثالثا: جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات.
والله أعلم ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة الثالثة
. ... . ... محمد الأمين الشنقيطي
متوقف
عبد الرزاق عفيفي
لي وجهة نظر أخرى في الأوراق النقدية أقدم بها بيانا إن شاء الله ... عبد الله بن حميد
متوقف ... عبد الله خياط
عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح ... عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... محمد الحركان
عبد الله بن غديان
متوقف ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون
صالح بن لحيدان
متوقف ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

(3)
{ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1)
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
__________
(1) سورة التوبة الآية 60

بسم الله الرحمن الرحيم
بيان المراد من قول الله تعالى في
آية مصارف الزكاة : وفي سبيل الله (1)
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده وبعد:
فقد عرض على هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين يوم 5\ 8\ 1394 هـ ويوم 22\ 8\ 1394 هـ موضوع بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر من إدراج بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3) في جدول أعمال هيئة كبار العلماء لدورتها الخامسة هل هو خاص بالجهاد في سبيل الله أو عام في كل وجه من وجوه البر- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مشتملا على أقوال أهل العلم في ذلك، مع ذكر مستند كل قول ومناقشته:
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثاني، ص 23- 60، عام 1395 هـ.
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سورة التوبة الآية 60

{ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1)
اختلف العلماء رحمهم الله في تعيين المقصود من قوله تعالى في آية حصر أهل الزكاة { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) على ثلاثة أقوال:
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60

القول الأول: إن المقصود بذلك الغزاة في سبيل الله، وقد قال بهذا القول جمهور العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء.
وفيما يلي نقل لبعض أقوالهم:
قال ابن جرير الطبري : وأما قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار، وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) قال: الغازي في سبيل الله. حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، ورجل اشتراها بماله، وفي سبيل الله، وابن السبيل، أو رجل كان له جار تصدق عليه فأهداها له » (3) (4) ا هـ .
وقال القرطبي : الثانية والعشرون: قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5)
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) [جامع البيان]، (14\ 320) تحقيق محمود شاكر.
(5) سورة التوبة الآية 60

هم الغزاة وموضع الرباط يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء، وهذا قول أكثر العلماء، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله (1) اهـ.
وقال ابن العربي : (المسألة التاسعة عشرة) قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) قال مالك : سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا: الغزو، ومن جملة سبيل الله، إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج، والذي يصح عندي من قولهما: أن الحج من جملة السبل مح الغزو؛ لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل، وهذا يحل عقد الباب، ويخرم قانون الشريعة، وينثر سلك النظر، وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر، وقد قال علماؤنا: ويعطى منها الفقير بغير خلاف؛ لأنه قد سمي في أول الآية، ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله تعالى، ولو كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: غاز في سبيل الله » (3) .
وقال أبو حنيفة : لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا، وهذه زيادة على النص. وعنده أن الزيادة على النص نسخ ولا نسخ في القرآن إلا بقران مثله أو بخبر متواتر، وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس في قوله: { وَلِذِي الْقُرْبَى } (4) فشرط في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر، وحينئذ يعطون من الخمس، وهذا كله ضعيف حسبما بيناه.
__________
(1) [الجامع لأحكام القرآن]، (9\ 185).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) سورة الأنفال الآية 41

وقال محمد بن عبد الحكم : يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة؟ لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن حثمة إطفاء للثائرة (1) ا هـ.
وقال الجصاص : قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) روى ابن أبي ليلى عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له » (3) واختلف الفقهاء في ذلك: فقال قائلون: هي للمجاهدين الأغنياء منهم والفقراء، وهو قول الشافعي .
وقال الشافعي : لا يعطى منها إلا الفقراء منهم ولا يعطى الأغنياء من المجاهدين فإن أعطوا ملكوها وأجزأ المعطي وإن لم يصرفه في سبيل الله، لأن شرطها تمليكه، وقد حصل لمن هذه صفته فأجزأ، وقد روي « أن عمر تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع بعد ذلك فأراد أن يشتريه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تعد في صدقتك » (4) فلم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحمول على الفرس من بيعها... إلى أن قال:
وروي عن أبي يوسف فيمن أوصى بثلث مآله في سبيل الله أنه للفقراء الغزاة .
فإن قيل: فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لأغنياء الغزاة أخذ الصدقة بقوله: « لا تحل
__________
(1) [أحكام القرآن]، (1 \ 396 ، 397) الطبعة الأولى]، عام 1331 هـ.
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) صحيح البخاري الزكاة (1418),صحيح مسلم الهبات (1620),سنن الترمذي الزكاة (668),سنن النسائي الزكاة (2617),سنن أبو داود الزكاة (1593),سنن ابن ماجه الأحكام (2392),مسند أحمد بن حنبل (2/55),موطأ مالك الزكاة (624).

لغني إلا في سبيل الله » (1) .
قيل له: قد يكون الرجل غنيا في أهله وبلده بدار يسكنها وأثاث يتأثث به في بيته وخادم يخدمه وفرس يركبه وله فضل مائتي درهم أو قيمتها- فلا تحل له الصدقة، فإذا عزم على الخروج في سفر غزو واحتاج من آلات السفر والسلاح والعدة إلى ما لم يكن محتاجا إليه في حال إقامته فينفق الفضل عن أثاثه وما يحتاج إليه في مصره على السلاح والآلة والعدة- فتجوز له الصدقة، وجائز أن يكون الفضل عما يحتاج إليه من دابة الأرض أو سلاح أو شيء من آلات السفر لا يحتاج إليه في المصر، فيمنع ذلك جواز إعطائه الصدقة إذا كان ذلك يساوي مائتي درهم، وإن هو خرج للغزو فاحتاج إلى ذلك جاز أن يعطى من الصدقة وهو غني في هذا الوجه، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : « الصدقة تحل للغازي الغني » اه (2)
وقال السيوطي في تفسير قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3) أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) قال: هم المجاهدون، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) قال: الغازي في سبيل الله. اهـ (6)
وقال الخازن : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7) يعني: وفي النفقة في سبيل الله، وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسلاح
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(2) [أحكام القرآن]، (3\ 156، 157) المطبعة البهية، عام 1347 هـ.
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) [الدر المنثور] (3\ 352).
(7) سورة التوبة الآية 60

والحمولة فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء. اهـ (1) .
وقال الشوكاني في [تفسيره]: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء وهذا قول أكثر العلماء. اهـ (3) .
وقال ابن حجر العسقلاني : وأما { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو فقيرا، إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج. اهـ (5) .
وقال بدر الدين العيني : قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (6) وهو منقطع الغزاة عند أبي يوسف، ومنقطع الحاج عند محمد، وفي [المبسوط]، { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7) فقراء الغزاة عند أبي يوسف، وعند محمد فقراء الحاج.
وقال ابن المنذر : وفي الإشراف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد : سبيل الله هو: الغازي غير الغني وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أنه الغازي دون الحاج وذكر ابن بطال : أنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، ومثله النووي في [شرح المهذب]، وقال صاحب [ التوضيح]: وأما قول أبي حنيفة : لا يعطى الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجا فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (8) وأما السنة فروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن
__________
(1) [لباب التأويل في معاني التنزيل]، (3\ 92).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) [فتح القدير] (2\ 373).
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [فتح الباري]، (3\ 59).
(6) سورة التوبة الآية 60
(7) سورة التوبة الآية 60
(8) سورة التوبة الآية 60

أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو لغاز في سبيل الله أو غني اشتراها بماله أو فقير تصدق عليه فأهدى لغني أو غارم » (1) .
(قلت): ما أحسن الأدب سيما مع الأكابر، وأبو حنيفة لم يخالف الكتاب ولا السنة وإنما عمل بالسنة فيما ذهب إليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني » (2) . وقال: المراد من قوله: « لغاز في سبيل الله » (3) هو الغازي الغني بقوة البدن والقدرة على الكسب لا الغني بالنصاب الشرعي بدليل حديث معاذ: وردها إلى فقرائهم. اهـ (4)
وقال أبو الحسن المباركفوري : اختلفوا في المراد من سبيل الله في آية المصارف فقيل: المراد به الغزاة وعليه الجمهور، قال الباجي : هو الغزو والجهاد قاله مالك وجمهور الفقهاء، وقال الخرقي : وسهم في سبيل الله هم الغزاة. قال ابن قدامة : هذا الصنف السابع من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو. اهـ، ثم اختلف أهل هذا القول فقال الأكثر: إنهم يعطون ما ينفقون في غزوهم وإن كانوا أغنياء.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به .
قال الحافظ: أما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(2) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) [عمدة القاري]، (9\ 45).

فقيرا إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج- ثم ذكر الأقوال الأخرى في المراد بقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) ثم قال: والقول الراجح عندي: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد به الغزو والجهاد خاصة؛ لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه.
قال ابن العربي في [أحكام القرآن] ، قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) قال مالك : سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا الغزو؛ لحديث عطاء بن يسار الذي نحن في شرحه، وهو حديث صريح مفسر لقوله في سبيل الله في الآية، فيجب حمله عليه، ولم أر عنه جوابا شافيا من أحد، وإليه ذهب ابن حزم، إذ قال: وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق، ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد من طريق أبي داود (3) ، وهو الذي رجحه ابن قدامة حيث قال: وهذا أصح؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير فيجب أن يحمل ما في هذه الآية على ذلك؛ لأن الظاهر إرادته به. انتهى، وهو الذي صححه الخازن في [تفسيره]، حيث قال: والقول الأول هو الصحيح؛ لإجماع الجمهور عليه ورجحه أيضا العلامة القنوجي اليوناني في [تفسيره]، إذ قال: والأول أولى؛ لإجماع الجمهور عليه وبه فسر الشوكاني في [فتح القدير]، ورجحه، واختاره أيضا غيرهم من المفسرين. اهـ .
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) حديث عطاء بن يسار: ''لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة '' الحديث وقد تقدم ذكره.

وقال أبو سليمان الخطابي في معرض تعليقه على حديث عطاء بن يسار : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » (1) ما نصه:
قلت: فيه بيان أن للغازي وإن كان غنيا أن يأخذ الصدقة ويستعين بها في غزوه، وهو من سهم سبيل الله، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه، وقال أصحاب الرأي: لا يجوز أن يعطى للغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعا به.
قلت: سهم السبيل غير سهم ابن السبيل، وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو الذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الآخر فقال: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ } (2) والمنقطع به هو: ابن السبيل، فأما سهم السبيل فهو على عمومه وظاهره في الكتاب، وقد جاء في هذا الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه (3) اهـ.
قال ابن الأثير : وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه (4) .
وقال البابرتي على عبارة [الهداية]،: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) منقطع الغزاة
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) [معالم السنن]، (2\ 234، 235).
(4) [النهاية في غريب الحديث]، (2\ 145).
(5) سورة التوبة الآية 60

عند أبي يوسف رحمه الله: وقوله: منقطع الغزاة، أي: فقراء الغزاة ... ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا؛ لأن المصرف هو للفقراء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم » (1) .
وقال الشافعي : يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » (2) من جملتهم الغزاة في سبيل الله وتأويله الغني بقوة البدن، ومعناه: أن المستغني بكسبه لقوة بدنه لا يحل له طلب الصدقة إلا إذا كان غازيا فيحل له لاشتغاله بالجهاد عن الكسب. اهـ (3)
وفي [الفتاوى الهندية]، ما نصه: ومنها: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) وهم: منقطعو الغزاة الفقراء منهم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى، وعند محمد رحمه الله تعالى: منقطعو الحاج الفقراء منهم، هكذا في [التبيين]، والصحيح: قول أبي يوسف رحمه الله تعالى، كذا في [المضمرات] ، (5) اهـ.
وقال أبو البركات أحمد دردير في [شرحه]: وأشار للسابع بقوله: ومجاهد، أي: المتلبس به إن كان ممن يجب عليه؟ لكونه حرا مسلما ذكرا بالغا قادرا، ولا بد أن يكون غير هاشمي، ويدخل فيه المرابط وآلته كسيف ورمح تشترى منها، ولو كان المجاهد غنيا حين غزوه كجاسوس يرسل للاطلاع على عورات العدو يعلمنا بها فيعطى ولو كافرا، ولا تصرف الزكاة في سور حول البلد؟ لتحفظ به من الكفار، ولا في عمل مركب يقاتل فيها
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4090),صحيح مسلم الإيمان (19),سنن الترمذي الزكاة (625),سنن النسائي الزكاة (2435),سنن أبو داود الزكاة (1584),سنن ابن ماجه الزكاة (1783),مسند أحمد بن حنبل (1/233),سنن الدارمي الزكاة (1614).
(2) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(3) [العناية على الهداية]، هامش على [فتح القدير]، (2\ 17، 18).
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [الفتاوى الهندية] (1\ 188).

العدو . ا هـ (1) .
وقال المواق ومجاهد : وآلته ولو غنيا. ابن عرفة : من الثمانية الأصناف التي تصرف الزكاة فيها سبيل الله. أبو عمرو : ذلك الجهاد والرباط. اللخمي : ويعطى الغازي الفقير حيث غزوه الغني ببلده ويعطى الغزاة المقيمون في نحر العدو وإن كانوا أغنياء حيث غزوهم.
واختلف إذا كان غنيا بالموضع الذي هو به: فقيل: يعطى لحديث: « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز... » (2) الحديث؛ ولأن أخذه في معنى المعاوضة والأجرة إذا كان أوقف نفسه لذلك، ولأن في إعطائه ضربا من الاستئلاف لمشقة ما يكلفون من بذل النفوس. اهـ (3) .
وقال الإمام الشافعي : ويعطى من سهم سبيل الله جل وعز من غزا من جيران الصدقة فقيرا كان أو غنيا، ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين. اهـ (4) .
وقال النووي على [المهذب]: قال المصنف رحمه الله تعالى: وسهم في سبيل الله، وهم: الغزاة إذا نشطوا غزوا، وأما من كان مرتبا في ديوان السلطان من جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة؛ لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء. قال النووي: ومذهبنا: أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق
__________
(1) [الشرح الكبير]، هامش على [حاشية الدسوقي]، (1\ 456).
(2) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(3) [التاج والإكيل لمختصر خليل، هامش على [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل]، (2\ 351).
(4) [الأم]، للإمام الشافعي (2\ 60).

لهم في الديوان، بل يغزون متطوعين، وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى. اهـ (1) .
وقال النووي أيضا في معرض الاحتجاج بما عليه المذهب الشافعي من أن سهم سبيل الله يصرف إلى الغزاة: واحتج أصحابنا بأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو: الغزو، وأكثر ما جاء في القرآن كذلك، واحتج الأصحاب أيضا بحديث أبي سعيد السابق في فصل الغارمين (2) : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » (3) فذكر منهم الغارم، وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى. اهـ (4) .
وقال ابن قدامة : السابع: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) وهم: الغزاة الذين لا ديوان لهم، ولا يعطى منها في الحج. اهـ . وقال في [حاشية المقنع]، على قوله: السابع في سبيل الله: لا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم، ولا خلاف في أنهم الغزاة؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو، قال الله تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (6) وقال: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } (7) وإنما يستحق هذا الاسم الغزاة الذين لا ديوان لهم، وإنما يتطوعون بالغزو إذا نشطوا، وهم الذين لا ديوان لهم، أي: لا حق لهم في الديوان؛ لأن من له رزق راتب فهو مستغن به
__________
(1) [المجموع]، (6\ 211) الطبعة الأولى.
(2) أي: من [المجموع].
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) [المجموع وحاشيته]، (1\ 249).
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) سورة البقرة الآية 190
(7) سورة الصف الآية 4

فيدفع إليهم كفاية غزوهم وعودهم . . . إلى أن قال: قوله: (ولا يعطى منها في الحج) في رواية اختارها في [المغني]، وصححها في [الشرح]، وقاله أكثر العلماء، منهم: مالك وأبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر؛ لأن سبيل الله تعالى حيث أطلق ينصرف إلى الجهاد غالبا، والزكاة لا تصرف إلا لمحتاج إليها كالفقير، أو من يحتاجه المسلمون كالعامل، والحج لا نفع فيه للمسلمين، ولا حاجة بهم إليه، والفقير لا فرض في ذمته فيسقطه، وإن أراد به التطوع فتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة أو صرفها في مصالح المسلمين أولى. اهـ (1)
وقال المرداوي في أثناء الكلام على أصناف أهل الزكاة : قوله السابع: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) وهم: الغزاة الذين لا ديوان لهم، فلهم الأخذ منها بلا نزاع، لكن لا يصرفون ما يأخذون إلا لجهة واحدة، كما تقدم في المكاتب والغارم (3) . تنبيه: ظاهر قوله: (وهم الذين لا ديوان لهم) أنه لو كان يأخذ من الديوان لا يعطى منها وهو صحيح، لكن بشرط أن يكون فيه ما يكفيه، فإن لم يكن فيه ما يكفيه فله أخذ تمام ما يكفيه. قاله في [الرعاية]، وغيرها.
... إلى أن قال: قوله: (لا يعطى منها في الحج) هذا إحدى الروايتين. اختاره المصنف والشارح، وقالا: هي أصح، وجزم به في [الوجيز]، ا هـ . (4)
__________
(1) [المقنع وحاشيته]، (1\ 349).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) أي: من [الإنصاف]، للمرداوي.
(4) [الإنصاف] (3\ 235).

وقال ابن حزم : وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق، حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا ابن السليم، حدثنا ابن الأعرابي، حدثنا أبو داود، وحدثنا الحسن بن علي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني » (1) .
وقد روي هذا الحديث عن غير معمر فأوقفه بعضهم ونقص بعضهم مما ذكر فيه معمر، وزيادة العدل لا يحل تركها.
فإن قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن « الحج من سبيل الله » وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج. قلنا: نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص، وهو الذي ذكرنا. وبالله تعالى التوفيق. اهـ (2) .
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: 1 - أن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه؛ لأن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير، فيجب أن يحمل قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3)
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(2) [المحلى]، (6\ 151) المطبعة المنيرية.
(3) سورة التوبة الآية 60

عليه؛ لأن الظاهر إرادته، قال تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } (2)
2 - أن حديث عطاء بن يسار : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله » (3) الحديث، وهو حديث صريح مفسر لقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) فيجب حمله عليه.
3 - ما ورد من الآثار الدالة على أن المقصود بسبيل الله: الجهاد ومن ذلك: ما ذكره الطبري في [تفسيره] قال: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) قال: الغازي في سبيل الله. وما ذكره السيوطي في تفسيره [الدر المنثور]، قال: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (6) قال: هم: المجاهدون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7) قال: الغازي في سبيل الله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 190
(2) سورة الصف الآية 4
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) سورة التوبة الآية 60
(7) سورة التوبة الآية 60

القول الثاني: أن المراد بسبيل الله: الغزاة والحجاج والعمار، وقد قال بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء.
وفيما يلي بعض من أقوالهم:
قال ابن كثير : وأما في سبيل الله، فمنهم: الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان، وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق : والحج من سبيل الله؟ للحديث. اهـ (1)
__________
(1) [تفسير القرآن العظيم]، (2\ 366).

وقال الخازن في تفسير قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) وقال قوم: يجوز أن يصرف سهم سبيل الله إلى الحج يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه . اهـ (2)
وقال الشوكاني في تفسير قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3) وقال ابن عمر : هم الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله. اهـ (4)
وقال القرطبي : الثانية والعشرون: قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) وهم الغزاة وموضع الرباط... إلى أن قال: وقال ابن عمر : الحجاج والعمار. ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا: سبيل الله الحج. وفي البخاري : ويذكر عن أبي لاس : « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج » (6) . ويذكر عن ابن عباس : ويعتق من (زكاة) ماله ويعطى في الحج. خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ، حدثنا محمد بن محمد الخياش، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم ويكنى أبا الحكم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله، قال ابن عمر : فهو كما قال في سبيل الله، فقلت: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما، قال: فما تأمرني يا ابن أبي نعم، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) [لباب التأويل في معاني التنزيل]، (3\ 92).
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) [فتح القدير] (2\ 373).
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) مسند أحمد بن حنبل (4/221).

فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل؟ قال: قلت: فما تأمرها؟ قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها. قلت: يا أبا عبد الرحمن، وما وفد الشيطان؟ قال: قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء فينمون إليهم الحديث، ويسعون في المسلمين بالكذب فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا اهـ (1) .
وقال الجصاص : وإن أعطى حاجا منقطعا به أجزأ أيضا، وقد روي عن ابن عمر : أن رجلا أوصى بماله في سبيل الله، فقال ابن عمر : إن الحج في سبيل الله فاجعله فيه، وقال محمد بن الحسن في السير الكبير في رجل أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه يجوز أن يجعل في الحاج المنقطع به، وهذا يدل على أن قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) قد أريد به عند محمد الحاج المنقطع به، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « الحج والعمرة من سبيل الله » (3) اهـ (4) .
وقال البخاري : باب قوله تعالى: { وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج. وقال الحسن : إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطي في المجاهدين والذي لم يحج، ثم تلا: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } (6) الآية، في أيهما أعطيت أجزأت. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن خالدا احتبس أدراعه في
__________
(1) [الجامع لأحكام القرآن]، (8\ 185).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سنن الدارمي الوصايا (3304).
(4) [أحكام القرآن]، (3\ 156) المطبعة البهية.
(5) سورة التوبة الآية 60
(6) سورة التوبة الآية 60

سبيل الله » (1) ويذكر عن أبي لاس : « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج » (2) اهـ (3) .
وقال المجد تحت باب الصرف في سبيل الله وابن السبيل: وعن ابن لاس الخزاعي قال: « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة إلى الحج » (4) رواه أحمد، وذكره البخاري تعليقا. وعن أم معقل الأسدية « أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فأمره أن يعطيها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج والعمرة في سبيل الله » (5) رواه أحمد .
وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل قالت: « لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض، وهلك أبو معقل وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من حجته جئته فقال: يا أم معقل، ما منعك أن تخرجي؟ " قلت: لقد تهيأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال: "فهلا خرجت عليه، فإن الحج من سبيل الله » (6) رواه أبو داود .
قال الشوكاني : حديث ابن لاس سيأتي الكلام عليه. وحديث أم معقل أخرجه بنحو الرواية الأولى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وفي إسناده رجل مجهول، وفي إسناده أيضا إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي الكوفي، وقد تكلم فيه غير واحد، وقد اختلف على أبي بكر بن
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1399),صحيح مسلم الزكاة (983),سنن النسائي الزكاة (2464),سنن أبو داود الزكاة (1623),مسند أحمد بن حنبل (2/323).
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/221).
(3) [صحيح البخاري]، (2\ 104).
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/221).
(5) سنن أبو داود المناسك (1988),مسند أحمد بن حنبل (6/406).
(6) سنن أبو داود المناسك (1989).

عبد الرحمن فيه، فروي عنه عن رسول مروان الذي أرسله إلى أم معقل عنها، وروي عنه عن أم معقل بغير واسطة، وروى عنه عن أبي معقل، والرواية الثانية التي أخرجها أبو داود في إسنادها محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف.
قوله: ( ابن لاس ) هكذا في نسخ الكتاب الصحيحة بلفظ (ابن) والذي في البخاري ( أبي لاس ) وكذا في [التقريب]، من ترجمة عبد الله بن عنمة، ولاس؛ بسين مهملة خزاعي، اختلف في اسمه فقيل: زياد، وقيل: عبد الله بن عنمة - بمهملة ونون مفتوحتين-، وقيل غير ذلك، له صحبة وحديثان هذا أحدهما، وقد وصله مع أحمد : ابن خزيمة، والحاكم وغيرهما من طريقه، قال الحافظ: ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق؛ ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته.
وأحاديث الباب تدل على أن الحج والعمرة من سبيل الله، وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج والمعتمرين، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج والمعتمر عليه، وتدل أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدي الحج والعمرة اهـ (1)
وقال المباركفوري في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) وقيل: المراد منه: منقطع الحاج، وبه قال محمد، وروي
__________
(1) نيل الأوطار، (4\ 180، 181) الطبعة الثانية- 1371هـ.
(2) سورة التوبة الآية 60

عن أحمد وإسحاق : أن الحج أيضا من سبيل الله يعني: أن الحج من جملة السبل مع الغزو؟ لأنه طريق بر إلى أن قال:
قلت: واحتج للقول الثاني بما روى أبو داود عن ابن عباس : « أن امرأة قالت لزوجها: احججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك فلان، قال: (ذاك حبيس في سبيل الله) الحديث، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله » (1) ، وبما روي عن أم معقل الأسدية : « أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله وأنها أرادت الحج.. الحديث، وفيه: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيها البكر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج من سبيل الله » (2) أخرجه أحمد وغيره، وبما روي عن أبي لاس قال: « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة للحج » (3) ذكره البخاري تعليقا بصفة التمريض، ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم، وقال الشوكاني : حديث أم معقل، وحديث أبي لاس يدلان على أن الحج من سبيل الله، وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج عليه، ويدلان أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة على قاصدين الحج . انتهى، وبما روى أبو عبيد في [الأموال]، عن أبي معاوية، وابن أبي شيبة في [مصنفه] عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس : أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وأن يعتق منه الرقبة، وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله، فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: (أما إنه من سبل الله) أخرجه أبو عبيد بإسناد
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1990).
(2) مسند أحمد بن حنبل (6/406).
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/221).

صحيح عنه. اهـ (1) .
وقال الكسائي في معرض كلامه عن المراد من قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) وقال محمد : المراد منه: الحاج المنقطع ؛ لما روي « أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل عليه الحجاج » . اهـ (3) .
وقال أبو الفرج ابن قدامة في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) وروي عنه أن الفقير يعطى قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه، يروى إعطاء الزكاة في الحج عن ابن عباس وعن ابن عمر، الحج من سبيل الله، وهو قول إسحاق؛ لما روي: « أن رجلا جعل ناقة له في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اركبيها، فإن الحج من سبيل الله » (5) اهـ (6) .
وقال البهوتي : والحج من السبيل أيضا، روي عن ابن عباس وابن عمر، لما روى أبو داود : « أن رجلا جعل ناقته في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اركبيها، فإن الحج من سبيل الله » (7) فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة أو يستعين به فيه، أي: في فرض الحج والعمرة؛ لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض، وأما التطوع فله عنه مندوحة، وذكر القاضي جوازه في النفل كالفرض، وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي، وصححه بعضهم؛ لأن كلا من سبيل الله، والفقير
__________
(1) [المرآة على المشكاة]، (3\ 117).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) [بدائع الصنائع]، (2\ 45) الطبعة الأولى.
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) مسند أحمد بن حنبل (6/406).
(6) [الشرح الكبير] (2\ 702).
(7) سنن أبو داود المناسك (1988),مسند أحمد بن حنبل (6/406).

لا فرض عليه فهو منه كالتطوع. اهـ (1) .
وقال النووي ناسبا القول بكون الحج من سبيل الله إلى الإمام أحمد ما نصه: وقال أحمد رحمه الله تعالى في أصح الروايتين عنه: يجوز صرفه إلى مريد الحج، وروي مثله عن ابن عمر رضي الله عنهما.
واستدل له بحديث أم معقل الصحابية رضي الله عنها قالت: « لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض فهلك أبو معقل، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجه جئته، فقال: يا أم معقل، ما منعك أن تخرجي معنا؟ " قالت: قلت: لقد تهيأنا، فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله. قال: "فهلا خرجت عليه، فإن الحج في سبيل الله ". » (2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقالت امرأة لزوجها: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي ما أحججك عليه، فقالت: أحججني على جملك فلان، قال: ذلك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، إنها سألتني الحج معك، قالت: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما عندي ما أحججك عليه، فقالت: أحججني على جملك فلان، فقلت: ذلك حبيس في سبيل الله، فقال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله » (3) [قال] ، (4) : « وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك، قال
__________
(1) [كشاف القناع عن متن الإقناع]، (2\ 256).
(2) سنن أبو داود المناسك (1989).
(3) سنن أبو داود المناسك (1990).
(4) الزيادة من [المجموع]، (6\159) تحقيق وتكميل\ محمد نجيب المطيعي (الناشر).

رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقرئها السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، وأخبرها أنها تعدل حجة » (1) يعني: عمرة في رمضان، رواهما أبو داود في [سننه] ، في أواخر كتاب الحج في باب العمرة، والثاني: إسناده صحيح، وأما الأول: حديث أم معقل فهو من رواية محمد بن إسحاق وقال فيه: (عن) وهو مدلس، والمدلس إذا قال: (عن) لا يحتج به بالاتفاق. اهـ (2) .
واستدل أصحاب هذا الرأي بما استدل به أصحاب القول الأول بالنسبة لإرادة الغزاة من كلمة (في سبيل الله).
وأما بالنسبة لدخول الحجاج والعمار في ذلك فقد استدلوا عليه بما روى أبو داود عن ابن عباس : « أن امرأة قالت لزوجها: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك الفلاني، قال: ذاك حبيس في سبيل الله... الحديث، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله » (3) ، وبما روي عن أم معقل الأسدية « أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت الحج.. وفيه: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيها البكر وقال: الحج من سبيل الله » (4) أخرجه أحمد وغيره، وبما روي عن أبي لاس قال: « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة للحج » (5) ذكره البخاري تعليقا، ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم، وبما روى أبو عبيد في [الأموال]، عن أبي معاوية وابن أبي شيبة في [مصنفه]، عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس : أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1990).
(2) [المجموع، (6\ 212، 213) المطبعة المنيرية.
(3) سنن أبو داود المناسك (1990).
(4) مسند أحمد بن حنبل (6/406).
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/221).

امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله، فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: (أما إنه من سبيل الله) أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه.
وقال القرطبي في [تفسيره]: خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ، حدثنا محمد بن محمد الخياش، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم، ويكنى: أبا الحكم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر، فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله، قال ابن عمر : (فهو كما قال في سبيل الله)، فقلت: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما، قال: (فما تأمرني يا ابن أبي نعم؟ ! آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل)! قال: قلت: فما تأمرها؟ قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها.
وقد أجيب بما يلي:
بأن المتبادر إلى الأفهام من كلمة { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) في آية المصارف: هو: الغزو.
وقال المباركفوري : وأما الأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني فقد أجيب عنها بوجهين:
الأول: الكلام فيها إسنادا، فإن حديث ابن عباس في إسناده عامر بن
__________
(1) سورة التوبة الآية 60

عبد الواحد الأحول، وقد تكلم فيه أحمد والنسائي، وقال الحافظ: صدوق يخطئ، وقد روى الشيخان عن ابن عباس نحو هذه القصة، وليس عندهما أنه جعل جمله حبيسا في سبيل الله، ولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لو أحججتها عليه كان في سبيل الله » (1) ، وأما حديث أم معقل ففيه اضطراب كثير واختلاف شديد في سنده ومتنه حتى تعذر الجمع والترجيح مع ما في بعض طرقه من راو ضعيف ومجهول ومدلس قد عنعن، وهذا مما يوجب التوقف فيه، وذلك لا شك فيه، من ينظر في طرق هذا الحديث في [مسند الإمام أحمد ]، وفي السنن، مع حديث ابن عباس عند الشيخين وأبي داود وابن أبي شيبة، ومع قصة أم طليق عند ابن السكن وابن منده والدولابي، وقد حمل ذلك بعضهم على وقائع متعددة ولا يخفي بعده، وأما حديث أبي لاس، فقال الحافظ في [الفتح]،: رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ؟ ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته. اهـ .
ويشير بذلك ما حكي عنه أنه قال: إن ثبت حديث ابن لاس قلت بذلك، قال الحافظ: وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة ولم يتملكوها. انتهى.
وأما أثر ابن عباس فهو أيضا مضطرب صرح به أحمد، كما في [الفتح]، وقد بين اضطرابه الحافظ؛ ولذلك كف أحمد عن القول بالإعتاق من الزكاة تورعا، وقيل: بل رجع عن هذا القول.
والثاني: أنه لا ينكر أن الحج من سبيل الله، بل كل فعل خير من سبل الله، لكن لا يلزم من هذا أن يكون السبيل المذكور في هذه الأحاديث هو
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1990).

المذكور في الآية، فإن المراد في هذه الأحاديث المعنى الأعم، وفي الآية نوع خاص منه وهو الغزو والجهاد؛ لحديث أبي سعيد وإلا فجميع الأصناف من سبيل الله بذلك المعنى.
قال ابن حزم : فإن قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن « الحج من سبيل الله، » وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج قلنا: نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضح إلا حيث بين النص، وهي الذي ذكرنا. انتهى.
وقال ابن قدامة : هذا- أي: عدم صرف الزكاة في الحج- أصح؛ لأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين: محتاج إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم وابن السبيل، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحج من الفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضا إليه؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقط ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها، وخفف عنه إيجابها، وأما الخبر (يعني: حديث أن « الحج في سبيل الله » فلا يمنع أن يكون الحج من سبيل الله، والمراد بالآية غيره لما ذكرنا. انتهى.
وقال ابن الهمام متعقبا على الاستدلال المذكور: ثم فيه نظر؛ لأن المقصود ما هو المراد بسبيل الله المذكور في الآية؟ والمذكور في الحديث لا يلزم كونه إياه لجواز أنه أراد الأمر الأعم وليس ذلك المراد في الآية، بل

نوع مخصوص، وإلا فكل الأصناف في سبيل الله بذلك المعنى انتهى. وقال صاحب تفسير [المنار] ، بعد الكلام في سند حديث أم معقل ما لفظه: وأقول من جهة المعنى: أولا: إن جعل أبي معقل جمله في سبيل الله أو وصيته به صدقة تطوع وهي لا يشترط فيها أن تصرف في هذه الأصناف التي قصرتها عليها الآية. وثانيا: إن حج امرأته عليه ليس تمليكا لها يخرج الجمل عن بقائه على ما أوصى به أبو معقل ويقال مثل هذا في حديث أبي لاس . وثالثا: أن الحج من سبيل الله بالمعنى العام للفظ، والراجح المختار: أنه غير مراد في الآية. انتهى (1)
وقال أبو الفرج ابن قدامة : ولأن الزكاة إنما تصرف لأحد رجلين: محتاج إليها؛ كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم، أو من يحتاج إليه المسلمون؛ كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحج للفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه، ولا حاجة به أيضا؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه، ولا مصلحة له في إيجابه عليه، وتكليفه مشقة قد رفعه الله منها، وخفف عنه إيجابها، وتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة من سائر الأصناف أو صرفه في مصالح المسلمين أولى. اهـ (2) .
__________
(1) [المرآة على المشكاة]، (3\ 117، 118).
(2) [الشرح الكبير]، (2\ 701) (الطبعة المشتركة مع المغني).

القول الثالث: أن المراد بذلك: جميع وجوه البر؛ لأن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده إلا بدليل صحيح، ولا دليل على ذلك، ولقد قال

بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء.
وفيما يلي بعض من أقوالهم:
قال الفخر الرازي : إن ظاهر اللفظ في قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) لا يوجب القصر على الغزاة - ثم قال: فلهذا المعنى نقل القفال في [تفسيره]، عن بعض الفقهاء: أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد؛ لأن قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) عام في الكل. اهـ (3) .
وقال الخازن في [تفسيره]: وقال بعضهم: إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط؛ ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد، وغير ذلك، قال: لأن قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره. اهـ (5) .
وقال محمد جمال الدين القاسمي : ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (6) فيصرف على المتطوعة في الجهاد، ويشترى لهم الكراع والسلاح، قال الرازي : لا يوجب قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7) القصر على الغزاة، ولذا نقل القفال في [تفسيره]، عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى،
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) [تفسير الرازي]، (16\ 113).
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [لباب التأويل في معاني التنزيل]، (3\ 92).
(6) سورة التوبة الآية 60
(7) سورة التوبة الآية 60

وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) عام في الكل. انتهى.
ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من سبيل الله فيصرف للحجاج منه.
قال في [الإقناع]، وشرحه: والحج من سبيل الله نصا، وروي عن ابن عباس وابن عمر؛ لما روى أبو داود : « أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اركبيها، فإن الحج من سبيل الله » (2) فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة أو يستعين به فيه وكذا في نافلتهما؛ لأن كلا من سبيل الله . انتهى.
قال ابن الأثير : وسبيل الله عام، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه انتهى.
وقال في [التاج] ،: كل سبيل أريد به الله عز وجل- وهو بر- داخل في سبيل الله. اهـ (3) .
وقال أحمد مصطفى المراغي : في [تفسيره]، قوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) وسبيل الله: هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به:
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) مسند أحمد بن حنبل (6/406).
(3) [محاسن التأويل]، (8\ 3181) مطبعة الحلبي.
(4) سورة التوبة الآية 60

الغزاة، والمرابطون للجهاد، وروي عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله، ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد ونحو ذلك.
والحق: أن المراد بسبيل الله: مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد؛ كتأمين طرق الحج، وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج، وإن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج الأفراد؛ لأنه واجب على المستطيع فحسب. اهـ (1) .
وقال الألوسي : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) أريد بذلك عند أبي يوسف : منقطعو الغزاة، وعند محمد : منقطعو الحجيج، وقيل: المراد: طلبة العلم، واقتصر عليه في [الفتاوى الظهيرية]، وفسره في [البدائع]، بجميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخير (3) اهـ.
وقال السيد رشيد رضا في تفسيره: [المنار]، بعد استعراضه الأقوال التي قيلت في المراد بقوله تعالى: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) ما نصه: والتحقيق أن سبيل الله هنا مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد، وأن حج الأفراد ليس منها؛ لأنه واجب على المستطيع دون غيره، وهو من الفرائض العينية بشرطه؛ كالصلاة والصيام لا من المصالح الدينية الدولية.. ولكن شعيرة الحج وإقامة الأمة لها منها، فيجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة
__________
(1) [تفسير المراغي]، (10\ 745) مطبعة الحلبي.
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) [روح المعاني]، (10\ 123) المطبعة المنيرية.
(4) سورة التوبة الآية 60

للحجاج إن لم يوجد لذلك مصرف آخر. اهـ (1) .
وقال أيضا: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة... إلى أن قال: ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا: إعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي. اهـ (3) .
وقال سيد قطب رحمه الله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة تحقق كلمة الله، وفي أولها: إعداد العدة للجهاد، وتجهيز المتطوعين، وتدريبهم، وبعث البعوث للدعوة إلى الإسلام، وبيان أحكامه وشرائعه للناس أجمعين، وتأسيس المدارس والجامعات التي تربي الناشئة تربية إسلامية صحيحة، فلا نكلهم إلى مدارس الدولة تعلمهم كل شيء إلا الإسلام، ولا مدارس المبشرين تعتدي على طفولتهم وحداثتهم وهم لا يملكون رد العدوان. اهـ (5)
وقال الحسين السيافي في معرض كلامه على قول زيد رحمه الله:
لا يعطى من الزكاة في كفن ميت، ولا بناء مسجد، ولا تعتق منها رقبة. قال: وذهب من أجاز ذلك إلى الاستدلال بدخولهما في صنف سبيل
__________
(1) [تفسير المنار]، (10\ 585).
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) تفسير المنار (10\ 587).
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [في ظلال القرآن]، (10| 82).

الله إذ هو طريق الخير على العموم وإن كثر استعماله في فرد من مدلولاته وهو الجهاد؛ لكثرة عروضه في أول الإسلام كما في نظائره لكن لا إلى حد الحقيقة المعرفية فهو باق على الوضع الأول فيدخل فيه جميع أنواع القرب على ما يقتضيه النظر في المصالح العامة والخاصة إلا ما خصه الدليل، وهو ظاهر عبارة البحر في قوله: قلنا: ظاهر سبيل الله العموم إلا ما خصه الدليل. ا هـ (1) .
وقال صديق حسن خان : أما سبيل الله فالمراد هنا الطريق إليه عز وجل والجهاد، وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به، بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقا إلى الله عز وجل، هذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل هنا شرعا. ا هـ (2) .
وقال الصنعاني في الكلام على حديث: « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » (3) الحديث: كذلك الغازي يحل له أن يتجهز من الزكاة وإن كان غنيا؛ لأنه ساع في سبيل الله.
قال الشارح: ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة من مصالح المسلمين، كالقضاء والإفتاء والتدريس وإن كان غنيا، وأدخل أبو عبيد من كان في مصلحة عامة في العاملين ، وأشار إليه البخاري حيث قال: (باب رزق الحاكم والعاملين عليها) وأراد بالرزق ما يرزقه الإمام من بيت المال
__________
(1) [الروض النضير شرح مسند الإمام زيد]، (2\ 622) الطبعة الثانية.
(2) [الروضة الندية]، (1\ 206).
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).

لمن يقوم بمصالح المسلمين كالقضاء والفتيا والتدريس فله الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا . اهـ . المقصود (1) .
وقال المباركفوري : وقيل : اللفظ عام ، فلا يجوز قصره على نوع خاص ، ويدخل فيه جميع وجوه الخير ، من تكفين الموتى ، وبناء الجسور والحصون ، وعمارة المساجد ، وغير ذلك ، نقل ذلك القفال عن بعض الفقهاء من غير أن يسميه كما في حاشية [تفسير البيضاوي ] لشيخ زاده ، وإليه مال الكاساني ، إذ فسره بجميع القرب ، قال في [البدائع] : سبيل الله عبارة عن جميع القرب ، ويدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا . وقال النووي في [شرح مسلم ] : وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء : أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة ، وتأول عليه هذا الحديث- أي : ما روى البخاري في القسامة « أنه صلى الله عليه وسلم وداه- أي : الذي قتل بخيبر - مائة من إبل الصدقة » (2) . اهـ (3) .
وقال الكاساني : وأما قوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) عبارة عن جميع القرب ، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا . (5) اهـ .
وذكر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله : أن معنى { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (6) أنه : المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد ، والتي لا يختص بالانتفاع بها
__________
(1) [سبل السلام] (2 \ 198) مطبعة الاستقامة .
(2) صحيح البخاري الديات (6502),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن النسائي القسامة (4719),سنن أبو داود الديات (4523),مسند أحمد بن حنبل (4/3),سنن الدارمي الديات (2353).
(3) [المرآة على المشكاة] (3 \ 117) .
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [بدائع الصنائع] (2 \ 245) .
(6) سورة التوبة الآية 60

أحد ، فملكها لله ، ومنفعتها لخلق الله ، وأولاها وأحقها : التكوين الحربي الذي ترد به الأمة البغي وتحفظ الكرامة ، ويشمل العدد والعدة على أحدث المخترعات البشرية ، ويشمل المستشفيات عسكرية ومدنية ، ويشمل تعبيد الطرق ، ومد الخطوط الحديدية ، وغير ذلك مما يعرفه أهل الحرب والميدان ، ويشمل الإعداد القوي الناضج لدعاة إسلاميين يظهرون جمال الإسلام وسماحته ، ويفسرون حكمته ، ويبلغون أحكامه ، ويتعقبون مهاجمة الخصوم لمبادئه بما يرد كيدهم إلى نحورهم ، وكذلك يشمل العمل على دوام الوسائل التي يستمر بها حفظة القرآن الذي تواتر- ويتواتر- بهم نقله كما أنزل ، من عهد وحيه إلى اليوم ، وإلى يوم الدين إن شاء الله (1) . اهـ .
وأفتى من سأله عن جواز صرف الزكاة في بناء المساجد ، فكان جوابه :
(إن المسجد الذي يراد إنشاؤه أو تعميره إذا كان هو المسجد الوحيد في القرية أو كان بها غيره ولكن يضيق بأهلها ويحتاجون إلى مسجد آخر- صح شرعا صرف الزكاة لبناء هذا المسجد أو إصلاحه ، والصرف على المسجد في تلك الحال يكون المصرف الذي ذكره في آية المصارف الواردة في سورة التوبة باسم سبيل الله) .
وهذا مبني على اختيار أن المقصود بكلمة (سبيل الله) المصالح العامة التي ينتفع بها المسلمون كافة ولا تخص واحدا بعينه ، فتشمل المساجد
__________
(1) [الإسلام عقيدة وشريعة] ص 97 ، 98 الأزهر .

والمستشفيات ودور التعليم ومصانع الحديد والذخيرة وما إليها ، مما يعود نفعه على الجماعة . وأحب أن أقرر هنا أن المسألة محل خلاف بين العلماء .
ثم ذكر ما نقله الرازي في [تفسيره] عن القفال من صرف الصدقات في جميع وجوه الخير .
ثم قال : وهذا ما أختاره وأطمئن إليه وأفتي به ، ولكن مع القيد الذي ذكرناه بالنسبة للمساجد ، وهو أن يكون المسجد لا يغني عنه غيره وإلا كان الصرف إلى غير المسجد أولى وأحق (1) . اهـ .
وسئل الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق عن جواز الدفع لبعض الجمعيات الخيرية الإسلامية من الزكاة ، فأفتى بالجواز ، مستندا إلى ما نقله الرازي عن القفال وغيره في معنى سبيل الله (2) .
وقد استدل أصحاب هذا القول على قولهم بما يأتي :
إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده دون سائرها إلا بدليل ولا دليل على ذلك ، وما قيل بأن حديث عطاء بن يسار : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » (3) وذكر منهم غاز في سبيل الله يعين أن سبيل الله هو الغزو فغير صحيح ، ذلك أن غاية ما يدل عليه الحديث هو أن المجاهد يعطى من سهم سبيل الله ولو كان غنيا ، وسبل الله كثيرة لا تنحصر في الجهاد في
__________
(1) [الفتاوى] لمحمود شلتوت ، ص219 .
(2) [فتاوى شرعية] حسنين مخلوف (1 \ 296) ط \ مطبعة المدني بمصر .
(3) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).

سبيل الله .
جاءت الأحاديث والآثار بتطبيق العموم في مدلول قوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) فقد اعتبرت السنة الحج والعمرة من سبيل الله ، يتضح ذلك من حديث أبي لاس وحديث أم معقل وحديث ابن عباس وفيه : « أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله » (2) .
وقد جاءت الآثار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار الحج سبيلا من سبل الله ، فقد ذكر أبو عبيد في كتابه [الأموال] بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما : أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله للحج ، وما أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إلى ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله فقيل له : أتجعل في الحج قال : (أما إنه من سبيل الله) ، وما ذكره القرطبي في [تفسيره] من أن عبد الرحمن بن أبي نعم قال : كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له : يا أبا عبد الرحمن ، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله . . . وفيه : آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين إلى حجاج بيت الله الحرام أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن .
كما اعتبرت السنة إشاعة الألفة بين المسلمين وتطييب خواطرهم وحفظ حقوقهم سبيلا من سبل الله . . ففي [صحيح البخاري ] في باب القسامة قال : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار : « زعم أن رجلا من الأنصار يقال له : سهل بن أبي حثمة ، أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا ، وقالوا للذي
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سنن أبو داود المناسك (1990).

وجد فيهم : قد قتلتم صاحبنا ، قالوا : ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا ، فقال : " الكبر الكبر " فقال لهم : " تأتون بالبينة على من قتله " ؟ قالوا : ما لنا بينة ، قال : " فيحلفون " قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه ، فوداه مائة من إبل الصدقة . » (1)
قال ابن حجر : ووقع في رواية ابن أبي ليلى : فوداه من عنده . وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأن المراد من قوله : من عنده ، أي : بيت المال المرصد للمصالح ، قال ابن حجر : وقد حمله بعضهم على ظاهره فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة ، واستدل بهذا الحديث وغيره . قلت : وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة (2) ، في الكلام على حديث أبي لاس قال : « حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة في الحج » (3) ، وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت أمره وحكمه وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم ، قال القرطبي في [المفهم] : فعل صلى الله عليه وسلم ذلك على مقتضى كرمه ، وحسن سياسته ، وجلبا للمصلحة ، ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف ، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق . اهـ (4) .
وذكر النووي في معرض شرحه حديث القسامة قال : وقال الإمام أبو إسحاق المروزي من أصحابنا : يجوز صرفها من إبل الزكاة لهذا الحديث
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6502),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677).
(2) أي : من [صحيح البخاري] .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/221).
(4) [فتح الباري] (12 \ 235) المطبعة السلفية .

فأخذ بظاهره . اهـ (1) .
ورأى حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه يجوز الإعتاق من الزكاة ، ففي [صحيح البخاري] تحت : باب قول الله تعالى : { وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما : يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج . وقال الحسن : إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطى في المجاهدين والذي لم يحج ثم تلا : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } (3) الآية في أيها أعطيت أجزأت .
قال ابن حجر : ووصله أبو عبيد في كتاب [الأموال] من طريق حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عنه : أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة ، وأخرجه عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : أعتق من زكاة مالك . اهـ (4) .
تعبير النبي صلى الله عليه وسلم بمن التبعيضية في حديث أم معقل في قوله : « فإن الحج من سبيل الله » يشعر أن سبيل الله الوارد في آية مصارف الزكاة على عمومه وأنه يتناول مجموعة من الأمور وأن الحج منها ، وبمثل تعبيره صلى الله عليه وسلم عبر ابن عمر ، فقال عن الحج : (أما إنه من سبيل الله) .
وقد أجيب عن القول بعموم اللفظ بأجوبة منها ما ذكره المباركفوري حيث قال :
وأما القول الثالث فهو أبعد الأقوال ؛ لأنه لا دليل عليه من كتاب ، ولا
__________
(1) [شرح صحيح مسلم] (11 \ 147) .
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) [فتح الباري] (3 \ 331) المطبعة السلفية .

من سنة صحيحة أو سقيمة ، ولا من إجماع ، ولا من رأي صحابي ، ولا من قياس صحيح أو فاسد ؛ بل هو مخالف للحديث الصحيح الثابت ، وهو حديث أبي سعيد ، ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف إلا ما حكى القفال في [تفسيره] عن بعض الفقهاء المجاهيل والقاضي عياض عن بعض العلماء غير المعروفين .
قال صاحب تفسير [المنار] : أما عموم مدلول هذا اللفظ فهو يشمل كل أمر مشروع أريد به مرضاة الله تعالى بإعلاء كلمته وإقامة دينه وحسن عبادته ومنفعة عباده ، ولا يدخل فيه الجهاد بالمال والنفس إذا كان لأجل الرياء والسمعة ، وهذا العموم لم يقل به أحد من السلف ولا الخلف ، ولا يمكن أن يكون مرادا هنا ؛ لأن الإخلاص الذي يكون للعمل في سبيل الله أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى فلا يمكن أن تناط به حقوق مالية دولية ، وإذا قيل : إن الأصل في كل طاعة من المؤمن أن تكون لوجه الله تعالى فيراعى هذا في الحقوق ؛ عملا بالظاهر اقتضى هذا أن يكون كل مصل وصائم ومتصدق وتال للقرآن وذاكر لله تعالى ومميط الأذى عن الطريق ، مستحق بعمله هذا للزكاة الشرعية ، فيجب أن يعطى منها ، ويجوز له أن يأخذ منها وإن كان غنيا ، وهذا ممنوع بالإجماع أيضا وإرادته تنافي حصر المستحقين في الأصناف المنصوصة ؛ لأن هذا الصنف لأحد جماعاته فضلا عن أفراده وإذا وكل أمره إلى السلاطين والأمراء تصرفوا فيه بأهوائهم تصرفا تذهب حكمة فرضية الصدقة من أهلها . انتهى .
وأما ما يذكر للاحتجاج لذلك من رواية البخاري في دية الأنصاري

الذي قتل بخيبر مائة من إبل الصدقة- فهو مخالف لما روى البخاري أيضا في قصته أنه وداه من عنده ، وجمع بين الروايتين بأنه اشتراه من أهل الصدقة بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعا إلى أهل القتيل ، حكاه النووي عن الجمهور ، وعلى هذا فلا حجة فيه لمن ذهب إلى التعميم .
وإذا تقرر هذا فلا يجوز صرف الزكاة في عمارة المساجد والمعاهد الدينية ، وبناء الجسور ، وإصلاح الطرق والشوارع ، وتكفين الموتى ، وقضاء ديونهم وغير ذلك من أنواع البر ؛ لأنه ليس هذا في شيء من المصارف المنصوصة ، وهو مذهب أحمد ، كما يظهر من [المغني] (1) ، ومالك كما في [المدونة] (2) ، وسفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء ، كما في [الأموال] لأبي عبيد . (3) .
هذا وقد ألحق بعض العلماء بالغازي من كان قائما بمصلحة من مصالح المسلمين ؛ كالقضاء ، والإفتاء ، والتدريس ، وإن كان غنيا وأدخله بعضهم في العاملين ، فأجاز له الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا ولا يخفى ما فيه .
وقال صاحب المنار : إن سبيل الله هنا مصالح المسلمين الشرعية التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد والأشخاص ، وأن الحج ليس منها ، قال : وأولها وأولاها بالتقديم : الاستعداد للحرب بشراء السلاح ، وأغذية
__________
(1) [المغني] (2 \ 667) .
(2) المدونة ، (2 \ 59) .
(3) [الأموال] ص 610 .

الجند ، وأدوات النقل ، وتجهيز الغزاة ، قال : ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية والخيرية وإشراع الطرق وتعبيدها ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية ، ومنها : بناء البوارج المدرعة والمنطادات والطيارات الحربية والحصون والخنادق ، قال : ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة ، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر ، ولا يعطى عالم غني لأجل علمه وإن كان يفيد الناس به . انتهى .
قلت : حديث أبي سعيد ينافي هذا التعميم ؛ لكونه كالنص في أن المراد بسبيل الله المطلق في الآية هم : الغزاة والمجاهدون خاصة ، فيجب الوقوف عنده . اهـ (1) .
ومنها ما ذكره الشيخ يوسف القرضاوي حيث قال ما نصه :
ولكن الرد الصحيح على القائلين بهذا الرأي يكون بتحديد المراد من (سبيل الله) هل هو خاص بالغزو والقتال -كما هو رأي الجمهور- أم هو عام يشمل كل بر وخير وقربة-كما هو رأي من ذكرنا- وكما يدل عليه عموم اللفظ .
ولكي نحدد هذا المراد تحديدا دقيقا ، علينا أن نستعرض موارد هذه الكلمة في القرآن ، لنبين ماذا يراد بها حيث وردت ، فخير ما يفسر القرآن
__________
(1) [المرآة على المشكاة] (3 \ 118 ، 119) .

بالقرآن .

سبيل الله في القرآن
ذكرت كلمة : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) في القرآن العزيز بضعا وستين مرة (2) ، وقد جاء ذكرها على طريقين :
1 - فتارة تجر بحرف في { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3) كما في آية مصارف الزكاة هذه ، وهو أكثر ما ورد في القرآن ، وتارة تجر بحرف (عن) " عن
سبيل الله
" وذلك في ثلاثة وعشرين موضعا من القرآن .
وفي هذه المواضع جاءت بعد واحد من فعلين :
إما الصد : مثل : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا } (4) { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (5)
وإما الإضلال : مثل { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (6)
2 - وحينما تجر بـ (في)- وهو أكثر ما ورد في القرآن- يكون ذلك بعد فعل الإنفاق { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7) أو الهجرة
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) راجع [المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم] مادة (سبل) .
(3) سورة التوبة الآية 60
(4) سورة النساء الآية 167
(5) سورة الأنفال الآية 36
(6) سورة لقمان الآية 6
(7) سورة البقرة الآية 195

{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) أو الجهاد { وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) أو القتال أو القتل : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } (3) { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ } (4) أو المخمصة أو الضرب وما يشبهها .
__________
(1) سورة الحج الآية 58
(2) سورة البقرة الآية 218
(3) سورة التوبة الآية 111
(4) سورة البقرة الآية 154

فما

المراد بسبيل الله في القرآن
إن السبيل في اللغة هو : الطريق ، وسبيل الله هو : الطريق الموصل إلى رضاه ومثوبته ، وهو الذي بعث الله النبيين ليهدوا الخلق إليه ، وأمر خاتم رسله بالدعوة إليه { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (1) النحل ، وأن يعلن في الناس { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (2)
وهناك سبيل آخر مضاد هو سبيل الطاغوت . وهو الذي يدعو إليه إبليس وجنوده ، وهو الذي ينتهي بصاحبه إلى النار وسخط الله ، وقد قال الله تعالى مقارنا بين الطريقين وأصحابهما : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } (3)
وسبيل الله دعاته قليلون ، وأعداؤه الصادون عنه كثيرون
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النساء الآية 76

{ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (1) { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (2) { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (3) هذا إلى أن تكاليف هذا الطريق تجعل أهواء النفوس مخالفة له صادة عنه ؛ ولهذا جاء التحذير من اتباع الهوى : { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (4)
وإذا كان أعداء الله يبذلون جهودهم وأموالهم ليصدوا عن (سبيل الله) فإن واجب أنصار الله من المؤمنين أن يبذلوا جهودهم ، وينفقوا أموالهم في (سبيل الله) وهذا ما فرضه الإسلام ، فجعل جزءا من الزكاة المفروضة يخصص لهذا المصرف الخطير { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (5) كما حث المؤمنين بصفة عامة على إنفاق أموالهم في (سبيل الله) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 36
(2) سورة لقمان الآية 6
(3) سورة الأنعام الآية 116
(4) سورة ص الآية 26
(5) سورة التوبة الآية 60

معنى سبيل الله إذا قرن بالإنفاق
والمتتبع لكلمة (سبيل الله) مقرونة بالإنفاق يجد لها معنيين :
1 - معنى عام- حسب مدلول اللفظ الأصلي- : يشمل كل أنواع البر والطاعات وسبل الخيرات ، وذلك كقوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (1) وقوله :
__________
(1) سورة البقرة الآية 261

{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (1) فلم يفهم أحد من هذه الآية خاصة أن سبيل الله فيها مقصور على القتال وما يتعلق به بدليل ذكر المن والأذى ، وهما إنما يكونان عند الإنفاق على الفقراء وذوي الحاجة وبخاصة الأذى ، وكذلك قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } (2) فالمراد بسبيل الله في هذه الآية المعنى الأعم - كما قال الحافظ ابن حجر (3) - لا خصوص القتال ، وإلا لكان الذي ينفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل ونحوها- دون خصوص القتال- داخلا في دائرة الكانزين المبشرين بالعذاب . وزعم بعض المعاصرين : أن كلمة { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) إذا قرنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزما ولا تحتمل غيره مطلقا (5) ، وهو زعم غير مبني على الاستقراء التام لموارد الكلمة في الكتاب العزيز ، وآيتا البقرة والتوبة المذكورتان تردان عليه .
2 - والمعنى الثاني معنى خاص ، وهو : نصرة دين الله ، ومحاربة أعدائه ، وإعلاء كلمته في الأرض ، { حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (6) والسياق هو الذي يميز هذا المعنى الخاص من المعنى العام السابق ، وهذا المعنى هو الذي يجيء بعد القتال والجهاد مثل : { قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (7)
__________
(1) سورة البقرة الآية 262
(2) سورة التوبة الآية 34
(3) [فتح الباري] (3 \ 172) .
(4) سورة التوبة الآية 60
(5) [النظام الاقتصادي في الإسلام] د . تقي الدين النبهاني ، من منشورات حزب التحرير ص 208 ، ط \ الثالثة .
(6) سورة البقرة الآية 193
(7) سورة آل عمران الآية 167

{ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) ومن ذلك قوله تعالى بعد آيات القتال في سورة البقرة : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (2) فالإنفاق هنا إنفاق في نصرة الإسلام وإعلاء كلمته على أعدائه المحاربين له الصادين عنه .
ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الحديد : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (3) فالسياق يدل على أن الإنفاق هنا كالإنفاق في الآية السابقة .
وفي سورة الأنفال قال تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } (4)
فالمقام يدل بوضوح على أن سبيل الله في الآية هو محاربة أعداء الله ونصرة دين الله ، كما صرح بذلك الحديث الصحيح : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » (5) (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 218
(2) سورة البقرة الآية 195
(3) سورة الحديد الآية 10
(4) سورة الأنفال الآية 60
(5) صحيح البخاري العلم (123),صحيح مسلم الإمارة (1904),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1646),سنن النسائي الجهاد (3136),سنن أبو داود الجهاد (2517),سنن ابن ماجه الجهاد (2783),مسند أحمد بن حنبل (4/417).
(6) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري [صحيح البخاري] (1 \ 40) و[صحيح مسلم] برقم (1904) .

وهذا المعنى الخاص هو الذي يعبر عنه أحيانا بالجهاد والغزو ، وتفسيرنا له بنصرة الإسلام أولى ، وإلا لكان مضمون معنى { وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) جاهدوا في الجهاد .
__________
(1) سورة البقرة الآية 218

" سبيل الله" في آية مصارف الزكاة :
وإذا كان لسبيل الله مع الإنفاق هذان المعنيان : العام والخاص- كما ذكرنا- فما المراد به معنا في الآية التي حددت مصارف الزكاة ، والإنفاق ملحوظ فيها وإن لم يذكر لفظه ؟
إن الذي أرجحه أن المعنى العام لسبيل الله لا يصلح أن يراد هنا ؛ لأنه بهذا العموم يتسع لجهات كثيرة ، لا تحصر أصنافها فضلا عن أشخاصها ، وهذا ينافي حصر المصارف في ثمانية ، كما هو ظاهر الآية ، وكما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء » (1) ، كما أن سبيل الله بالمعنى العام يشمل إعطاء الفقراء والمساكين وبقية الأصناف السبعة الأخرى ؛ لأنها جميعها من البر وطاعة الله ، فما الفرق إذا بين هذا المصرف وما سبقه وما يلحقه ؟
إن كلام الله البليغ المعجز يجب أن ينزه عن التكرار بغير فائدة ، فلا بد أن يراد به معنى خاص يميزه عن بقية المصارف ، وهذا ما فهمه المفسرون والفقهاء من أقدم العصور ، فصرفوا معنى سبيل الله إلى الجهاد ، وقالوا : إنه المراد به عند إطلاق اللفظ ؛ ولهذا قال ابن الأثير : إنه صار لكثرة الاستعمال فيه كأنه مقصور عليه ، كما نقلنا عنه في أول الفصل ، ومما يؤيد ما قاله ابن الأثير ؛ ما رواه الطبراني : إن الصحابة كانوا يوما مع رسول الله
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1630).

صلى الله عليه وسلم فرأوا شابا جلدا ، فقالوا : لو كان شبابه وجلده في سبيل الله ؟ " (1) . يريدون . في الجهاد ونصرة الإسلام .
وصحت أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على أن المعنى المتبادر لكلمة (سبيل الله) هو الجهاد ، كقول عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح : (حملت على فرس في سبيل الله) يعني : في الجهاد ، وحديث الشيخين : « لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها » (2) ، وحديث البخاري : « من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده ، فإن شبعه وريه وروثه ، وبوله في ميزانه يوم القيامة » (3) يعني : حسنات ، وحديث الشيخين ؛ « ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا » (4) وحديث النسائي والترمذي وحسنه : « من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف » (5) وحديث البخاري : « ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله ، فتمسه النار » (6) (7) وغيرها كثير . ولم يفهم أحد من سبيل الله فيها إلا الجهاد .
فهذه القرائن كلها كافية في ترجيح أن المراد من (سبيل الله) في الآية المصارف : هو الجهاد ، كما قال الجمهور ، وليس المعنى اللغوي الأصلي ، وقد أيد ذلك حديث : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة . . . » (8) وذكر منهم الغارم والغازي في (سبيل الله) اهـ (9) .
__________
(1) قال المنذري في [الترغيب] : رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح ، (3 \ 4) ط المنيرية .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2639),صحيح مسلم الإمارة (1880),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1651),سنن ابن ماجه الجهاد (2824),مسند أحمد بن حنبل (3/264).
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2698),سنن النسائي الخيل (3582),مسند أحمد بن حنبل (2/374).
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2685),صحيح مسلم الصيام (1153),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1623),سنن النسائي الصيام (2248),سنن ابن ماجه الصيام (1717),مسند أحمد بن حنبل (3/26),سنن الدارمي الجهاد (2399).
(5) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1625),سنن النسائي الجهاد (3186).
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2656),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1632),سنن النسائي الجهاد (3116),مسند أحمد بن حنبل (3/479).
(7) خرج هذه الأحاديث كلها المنذري في [الترغيب] ج (2) كتاب الجهاد .
(8) سنن أبو داود الزكاة (1635),سنن ابن ماجه الزكاة (1841),مسند أحمد بن حنبل (3/56),موطأ مالك الزكاة (604).
(9) [فقه الزكاة] للقرضاوي (2 \ 652-657) ط \ الأولى .

هذا ما تيسر ذكره ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء
رقم (24) وتاريخ 21 \ 8 \ 1394 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد ، وآله وصحبه وبعد :
قد جرى اطلاع هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المعقودة بمدينة الطائف بين يوم 5 \ 8 \ 1394 هـ ويوم 22 \ 8 \ 1394 هـ على ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من بحث في المراد بقول الله تعالى في آية مصارف الزكاة { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) هل المراد بذلك الغزاة في سبيل الله وما يلزم لهم ، أم عام في كل وجه من وجوه الخير ؟
وبعد دراسة البحث المعد والاطلاع على ما تضمنه من أقوال أهل العلم في هذا الصدد- ومناقشة أدلة من فسر المراد بسبيل الله في الآية : بأنهم الغزاة وما يلزم لهم ، وأدلة من توسع في المراد بالآية ، ولم يحصرها في الغزاة فأدخل فيه بناء المساجد والقناطر وتعليم العلم وتعلمه وبث الدعاة والمرشدين وغير ذلك من أعمال البر- رأى أكثرية أعضاء المجلس الأخذ بقول جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء من أن المراد بقوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) الغزاة المتطوعون بغزوهم ، وما يلزم لهم من استعداد ، وإذا لم يوجدوا صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى ، ولا يجوز صرفها في شيء من المرافق العامة إلا إذا لم يوجد لها مستحق من
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 60

الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليهم في الآية الكريمة .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة الخامسة
عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله خياط مخالف وله وجهة نظر ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
محمد الحركان ... مخالف وله وجهة نظر ...
. ... عبد المجيد حسن مخالف وله وجهة نظر ... عبد العزيز بن صالح مخالف وله وجهة نظر
صالح بن غصون مخالف وله وجهة نظر ... . ... .
. ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
. ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع مخالف وله وجهة نظر

(4)
الشرط الجزائيهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
الشرط الجزائي
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، وبعد : (1)
فقد عرض على هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المنعقدة فيما بين 5 و22 \ 8 \ 1394 هـ بمدينة الطائف موضوع الشرط الجزائي هذا نصه .
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فبناء على ما تقرر من إدراج موضوع (الشرط الجزائي) في جدول أعمال الدورة (الخامسة) لهيئة كبار العلماء- فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في موضوع الشرط الجزائي يشتمل على بيان المراد منه ونشأته ونماذج من صوره ، وما ذكره بعض أهل العلم من ضوابط للشروط والعقود الصحيحة والفاسدة ، وبيان ما يمكن اندراجه تحتها من ذلك ، وذكر مسائل وصور يمكن أن يكون الشرط الجزائي نظيرا لها .
وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثاني ، ص 59- 144 ، عام 1395 هـ .

الشرط الجزائي
1 -

المراد بالشرط الجزائي والداعي إليه
الشرط الجزائي لم يكن معروفا بهذا الاسم لدى فقهائنا الأقدمين ، وإنما جاء ذكره في صور مسائل فقهية .
ولعل أول وجود له في الفقه الإسلامي ما روى البخاري في [صحيحه] بسنده عن ابن سيرين أن رجلا قال لكريه : أدخل ركابك ، فإن لم أرحل معك يوم كذا أو كذا فلك مائة درهم فلم يخرج ، فقال شريح : من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه ، وقال أيوب عن ابن سيرين : أن رجلا باع طعاما وقال : إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع فلم يجئ ، فقال شريح للمشتري : أنت أخلفت فقضى عليه . اهـ .
أما الفقهاء المعاصرون فقد تعرضوا لبحثه في كتبهم بهذا الاسم ، وبينوا العوامل التي أدت إلى التوسع في الأخذ به .
فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء (1) :
في أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوربا وتطورت أساليب التجارة الداخلية والصنائع وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة ؛ كامتياز المؤلف والمخترع وكل ذي أثر فني جديد في استثمار مؤلفاته ، أو مخترعاته ، أو آثاره الفنية مما سمي
__________
(1) [المدخل الفقهي العام] ص 713- 714 ، ف 386 .

بالملكية الأدبية والصناعية ، واحتاج أصحاب هذه الحقوق الامتيازات إلى بيعها والتنازل عنها لغيرهم من القادرين على استثمارها .
إلى أن قال : واتسع مجال عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء على المصنوعات مع المعامل والمصانع الأجنبية وكذا عقود المتعهد بتقديم اللوازم والأرزاق والمواد الأولية إلى الدوائر الحكومية والشركات والمعامل والمدارس مما سمي (عقود التوريد) وكل ذلك يعتمد على المشارطات في شتى صورها .
وقد ازدادت أيضا قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية ، فأصبح تأخر أحد المتعاقدين أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضرا بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما قبل ، فلو أن متعهدا بتقديم المواد الصناعية إلى صاحب معمل تأخر عن تسليمها إليه في الموعد المضروب لتعطل العمل وعماله .
ولو أن بائع بضاعة لتاجر تأخر في تسليمها حتى هبط سعرها لتضرر التاجر المشتري بخسارة قد تكون فادحة ، وكذا تأخر الصانع عن القيام بعمله في وقته ، وكل متعاقد إذا تأخر أو امتنع عن تنفيذ عقده في موعده .
ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الملتزم بتنفيذ التزامه الأصلي ؛ لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه وليس فيه جبر لضرر التعطل أو الخسارة ، ذلك الضرر الذي يلحقه من جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاونا منه أو امتناعا ، وهذا قد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه ، ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي

"الشرط الجزائي " اهـ .
وذكر الدكتور عبد الرزاق السنهوري تعريف الشرط الجزائي وسبب تسميته بذلك فقال (1) : يحدث كثيرا أن الدائن والمدين لا يتركان تقدير التعويض إلى القاضي كما هو الأصل بل يعمدان إلى الاتفاق مقدما على تقدير هذا التعويض ، فيتفقان على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم يقم المدين بالتزامه ، وهذا هو التعويض عن عدم التنفيذ ، أو على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه ، وهذا هو التعويض عن التأخير ، هذا الاتفاق مقدما على التعويض يسمى بالشرط الجزائي ، وسمي بالشرط الجزائي ؛ لأنه يوضع عادة كشرط ضمن شروط العقد الأصلي الذي يستحق التعويض على أساسه . اهـ .
وفي [الموسوعة العربية الميسرة] ، ما نصه : (شرط جزائي) : اتفاق يقدر فيه المتعاقدان سلفا التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم ينفذ المدين التزامه أو إذا تأخر في تنفيذه . اهـ .
__________
(1) [الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام] ص 851 ف 477 .

2 -

ما للشرط الجزائي من صور مختلفة
الشرط الجزائي وإن كان يعني اشتراط التعويض عن الضرر اللاحق في طريقة تنفيذ العقد إلا أنه له صورا مختلفة باختلاف العقود والالتزامات ، وقد أشار الدكتور عبد الرزاق السنهوري إلى شيء من هذه الصور فقال (1) :
__________
(1) [الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام] ص 852 ف 477 .

والأمثلة على الشرط الجزائي كثيرة ومتنوعة : فشروط المقاولة قد تتضمن شرطا جزائيا يلزم المقاول بدفع مبلغ معين عن كل يوم أو عن كل أسبوع أو عن كل مدة أخرى من الزمن يتأخر فيها المقاول عن تسليم العمل المعهود إليه إنجازه ، ولائحة المصنع قد تتضمن شروطا جزائية تقتضي بخصم مبالغ معينة من أجرة العامل جزاء له على الإخلال بالتزاماته المختلفة .
وتعريفة مصلحة السكك الحديدية أو مصلحة البريد قد تتضمن تحديد مبلغ معين هو الذي تدفعه المصلحة للمتعاقد معها في حالة فقد طرد أو فقد رسالة . واشتراط حلول جميع أقساط الدين إذا تأخر المدين في دفع قسط منها هو أيضا شرط جزائي ، ولكن من نوع مختلف ، إذ هو هنا ليس مقدارا معينا من النقود قدر به التعويض ، بل هو تعجيل أقساط مؤجلة . اهـ .
وقال في [الحاشية] في الصفحة نفسها ما نصه : ( هذا والأصل في الشرط الجزائي هو أن يكون تقديرا مقدما للتعويض كما أسلفنا ، ولكن قد يستعمله المتعاقدان لأغراض أخرى : من ذلك أن يتفقا على مبلغ كبير يزيد كثيرا على الضرر الذي يتوقعانه فيكون الشرط الجزائي بمثابة تهديد مالي ، وقد يتفقان على مبلغ صغير يقل كثيرا عن الضرر المتوقع فيكون الشرط الجزائي بمثابة إعفاء أو تخفيف من المسئولية . . وقد يكون الغرض من الشرط الجزائي تأكيد التزام المتعهد عن الغير بتحديد مبلغ التعويض الذي يكون مسئولا عنه إذا لم يقم بحمل الغير على التعهد ، وقد يوضع شرط جزائي في الاشتراط لمصلحة الغير لتقدير التعويض المستحق للمشترط

في حالة إخلال المتعهد بالتزامه نحو المنتفع ، فيمثل الشرط الجزائي في هذه الحالة المصلحة المادية للمشترط في اشتراطه لمصلحة الغير . اهـ .
وجاء في نظام المناقصات والمزايدات السعودي ما نصه :
( إذا تأخر المقاول عن إتمام العمل وتسليمه كاملا في المواعيد المحددة ولم تر اللجنة صاحبة المقاولة داعيا لسحب العمل منه توقع عليه غرامة عن المدة التي يتأخر فيها إكمال العمل بعد الميعاد المحدد للتسليم إلى أن يتم الاستلام المؤقت دون حاجة إلى أي تنبيه للمقاول ويكون توقيع الغرامة على المقاول كما يلي :
1 % عن الأسبوع الأول 1.5% عن الأسبوع الثاني 2% عن الأسبوع الثالث 2.5% عما زاد عن ثلاثة أسابيع 3% عن الآية مدة تزيد على أربعة أسابيع . ا هـ (1) .
__________
(1) انظر : ص 107 [نظام المناقصات] .

3 -

ما يندرج تحته الشرط الجزائي من أنواع الشروط التي تشترط في عقود المعاملات أو إجارة أو نحو ذلك مع بيان وجه الاندراج
نستعرض فيما تحت هذا العنوان
ما ورد من الأحاديث والآثار في الشروط المقترنة بالعقود
من حيث الجملة وما ذكره بعض العلماء في تفسيرها وما بنوه عليها من تقسيم الشروط إلى قسمين : شروط صحيحة وشروط فاسدة ، وما وضعوه من الضوابط لكل منهما ؛ ليتسنى معرفة ما يندرج تحته الشرط الجزائي من هذه الضوابط ، وما يلتحق به من المسائل

التي يشبهها وأدرجوها تحتها ، أو جعلوها أمثلة شارحة لها .
روى البخاري في [صحيحه] تحت باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله عن عروة : « أن عائشة رضي الله عنها أخبرته : أن بريرة جاءت تستفتيها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا . فقالت لها عائشة : (ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت) فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا ، وقالوا : إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ابتاعي فأعتقي ، فإنما الولاء لمن أعتق " قال : ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة شرط ، شرط الله أحق وأوثق » (1) ، وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « أرادت عائشة رضي الله عنها أن تشتري جارية لتعتقها ، فقال أهلها : على أن ولاءها لنا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق » (2) .
قال ابن حجر في [الفتح] : قوله : (باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله) ، جمع في هذه الترجمة بين حكمين وكأنه فسر الأول بالثاني ، وأن ضابط الجواز ما كان في كتاب الله ، وسيأتي في كتاب [الشروط] (3) : أن المراد بما ليس في كتاب الله ما خالف كتاب الله ، وقال ابن بطال : المراد بكتاب الله هنا : حكمه ؛ من كتابه ، أو سنة رسوله ،
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2422),صحيح مسلم العتق (1504),سنن أبو داود العتق (3929),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2) صحيح البخاري العتق (2423),سنن النسائي البيوع (4644),مسند أحمد بن حنبل (2/30).
(3) أي : من [صحيح البخاري] .

أو إجماع الأمة ، وقال ابن خزيمة : (ليس في كتاب الله) أي : ليس في كتاب الله جوازه أو وجوبه ، لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل ؛ لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن شروطا من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك فلا يبطل .
قال النووي : قال العلماء : الشروط في البيع أقسام :
أحدها : يقتضيه إطلاق العقد كشرط تسليمه .
الثاني : شرط فيه مصلحة كالرهن وهما جائزان اتفاقا .
والثالث : اشتراط العتق في العبد ، وهو جائز عند الجمهور ؛ لحديث عائشة وقصة بريرة .
الرابع : ما يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري كاستثناء منفعته فهو باطل .
وقال القرطبي : قوله : (ليس في كتاب الله) ، أي : ليس مشروعا في كتاب الله تأصيلا ولا تفصيلا ، ومعنى هذا : أن من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله كالوضوء ، ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله كالصلاة ، ومنها ما أصل أصله كدلالة الكتاب على أصلية السنة والإجماع ، وكذلك القياس الصحيح ، فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلا . . . إلى أن قال : وقال القرطبي : قوله : (ولو كان مائة شرط) ، يعني : أن الشروط الغير مشروعة باطلة ولو

كثرت . اهـ (1) .
وقال البخاري في [صحيحه] (باب الشروط التي لا تحل في الحدود) .
عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما : أنهما قالا : « إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله ، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه : نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قل" ، قال : إن ابني كان عسيفا على هذا ، فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة ، وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، الوليدة والغنم رد ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" قال : فغدا عليها فاعترفت ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت » (2) .
قال ابن حجر في [الفتح] : وقد ترجم له في الصلح (3) : إذا اصطلحوا على جور فهو مردود .
ويستفاد من الحديث : أن كل شرط وقع في رفع حد من حدود الله فهو باطل ، وكل صلح وقع فيه فهو مردود . اهـ (4) .
وروى البخاري في [صحيحه] عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » (5) .
__________
(1) [صحيح البخاري] مع شرحه [فتح الباري] (5 \ 142) .
(2) صحيح البخاري الشروط (2575),صحيح مسلم الحدود (1698),سنن الترمذي الحدود (1433),سنن النسائي آداب القضاة (5411),سنن أبو داود الحدود (4445),سنن ابن ماجه الحدود (2549),مسند أحمد بن حنبل (4/115),موطأ مالك الحدود (1556),سنن الدارمي الحدود (2317).
(3) أي : من [صحيح البخاري] .
(4) [صحيح البخاري] مع شرحه [فتح الباري] (5 \ 347) .
(5) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/270).

قال ابن حجر : وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده ، فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه ، قال النووي : هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك ، وقال الطرقي : هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع ؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين ، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه
وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه ؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم ، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس : هذا ليس من أمر الشرع ، وكل ما كان كذلك فهو مردود ، فهذا العمل مردود ، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث
وإنما يقع النزاع في الأولى ، ومفهومه : أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح ، مثل : أن يقال في الوضوء بالنية : هذا عليه أمر الشرع ، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح ؛ فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث والأولى فيها النزاع فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع ، لكن هذا الثاني لا يوجد ، فإذا حديث الباب نصف أدلة الشرع ، والله أعلم .
وقوله : "رد" معناه مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول مثل : خلق ومخلوق ، ونسخ ومنسوخ ، وكأنه قال : فهو باطل غير معتد به .
واللفظ الثاني وهو قوله : من "عمل" أعم من اللفظ الأول وهو قوله : "من أحدث" ، فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها ، وفيه رد المحدثات ، وأن النهي يقتضي الفساد ؛ لأن

المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها
ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر ؛ لقوله : "ليس عليه أمرنا" ، والمراد به : أمر الدين وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد . اهـ (1) .
__________
(1) [صحيح البخاري] مع شرحه [فتح الباري] (5 \ 331) .

و

ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة عامة في العقود والشروط فيها
، فقال (1) :
القاعدة الثالثة : في العقود والشروط فيها ، فيما يحل منها ويحرم ، وما يصح منها ويفسد . ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا . والذي يمكن ضبطه فيها قولان :
أحدهما : أن يقال : الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك : الحظر ، إلا ما ورد الشرع بإجازته ، فهذا قول أهل الظاهر ، وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد ، فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس ، كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه ، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ، ويقولون : ما خالف مقتضى العقد فهو باطل
أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقدا ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع ، وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله ، وطردوا ذلك
__________
(1) [القواعد النورانية] ص 184- 220 .

طردا جاريا ، لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم .
وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي : أنه يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق ، وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه ؛ ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار ، ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال ؛ ولهذا منع بيع العين المؤجرة وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته
وإنما جوز الإجارة المؤخرة ؛ لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة ، أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به ، أو أن يشترط المشتري بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره ، ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا ؛ لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ ، ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما ، ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا ، وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر ، وهو عنده موضع استحسان .
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل ، لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص ، فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث ، ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع ، حتى منع الإجارة المؤخرة ؛ لأن موجبها- وهو القبض- لا يلي العقد
ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق ، لما فيه من السنة والمعنى ، ولكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع ، كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه ، وكبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك
ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض ، ولا يجوز

اشتراطها دارها أو بلدها ، وأن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ، ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها ، وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه ، وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار ، وانفساخه بالشروط التي تنافيه ؛ كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار ، بخلاف فساد المهر ونحوه .
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول ، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي ، كالخيار أكثر من ثلاث ، وكاستثناء البائع منفعة المبيع ، واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها ، ونحو ذلك من المصالح ، فيقولون : كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل ، إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين .
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي ، فقد يوافقونه في الأصل ، ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى ، كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل ويستثني أكثر مما يستثنى للمعارض .
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر ، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم ؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة ، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر
وعمدة هؤلاء : قصة بريرة المشهورة ، وهو ما خرجاه في [الصحيحين] عن عائشة رضي الله عنها قالت : « جاءتني بريرة فقالت : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني ، فقلت : (إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي

فعلت . فذهبت بريرة إلى أهلها ، فقالت لهم ، فأبوا عليها ، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، فقالت : إني قد عرضت ذلك عليهم ، فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء ، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "خذيها ، واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق" ففعلت عائشة ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : "أما بعد : ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق » (1)
وفي رواية للبخاري : « اشتريها فأعتقيها ، وليشترطوا ما شاءوا فاشترتها فأعتقتها ، واشترط أهلها ولاءها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الولاء لمن أعتق ، وإن اشترطوا مائة شرط » (2) وفي لفظ : « شرط الله أحق وأوثق » (3)
وفي [الصحيحين] عن عبد الله بن عمر : « أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها ، فقال أهلها نبيعكها على أن ولاءها لنا ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "لا يمنعنك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق » (4)
وفي [صحيح مسلم ] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا يمنعنك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق » (5) .
ولهم من هذا الحديث حجتان :
إحداهما : قوله : ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع : فليس في كتاب الله ، بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2060),صحيح مسلم العتق (1504),سنن أبو داود العتق (3929),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2) صحيح البخاري الشروط (2576).
(3) صحيح البخاري البيوع (2047),صحيح مسلم العتق (1504),سنن أبو داود العتق (3929),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(4) صحيح البخاري البيوع (2061),سنن النسائي البيوع (4644),مسند أحمد بن حنبل (2/100),موطأ مالك العتق والولاء (1520).
(5) صحيح مسلم العتق (1505).

دلالته على اتباع السنة والإجماع .
ومن قال بالقياس- وهم الجمهور- قالوا : إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة ، أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله : فهو في كتاب الله .
الحجة الثانية : أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء ؛ لأن العلة فيه ؛ كونه مخالفا لمقتضى العقد ، وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع ، بمنزلة تغيير العبادات ، وهذا نكتة القاعدة ، وهي أن العقود مشروعة على وجه ، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع
ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي - في أحد القولين- لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها ، فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر ، ومتابعة لعبد الله بن عمر ، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول : (أليس حسبكم سنة نبيكم ؟ ) وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (1) وقوله : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (2)
قالوا : فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله ، وزيادة في الدين ، وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا : ذلك منسوخ ، كما قاله بعضهم في شروط
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة البقرة الآية 229

النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية ، أو قالوا : هذا عام أو مطلق ، فيخص بالشرط الذي في كتاب الله .
واحتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك : « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط » وقد ذكره جماعة من المسلمين في الفقه ، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث ، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء ، وذكروا أنه لا يعرف ، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه .
وأجمع الفقهاء المعروفون- من غير خلاف أعلمه من غيرهم- أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا ، أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك : شرط صحيح .
القول الثاني : أن الأصل في العقود والشروط : الجواز وا
لصحة ، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله ، نصا أو قياسا عند من يقول به ، وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول ، ومالك قريب منه ، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط ، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه .
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس ، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة ، ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص ، وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما لا تجده عند غيره من الأئمة ، فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه ، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته
وكذلك قد يضعف

ما اعتمدوه من قياس ، وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط (1) ، كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقا ، فمالك يجوزه بقدر الحاجة ، وأحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا
ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان نحوه ، ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود ، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق ، فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط والنقص منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع ، كما سأذكره إن شاء الله .
فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع ؛ كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك ، وإذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير ، اتباعا لحديث جابر لما باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله ، واستثنى ظهره إلى المدينة .
ويجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما ؛ اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة ، واشترطت عليه خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش .
ويجوز على عامة أقواله : أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها ، كما في حديث صفية ، وكما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة ، كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع ، لكنه استثناها بالنكاح ؛ إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز ، بخلاف منفعة الخدمة .
__________
(1) أي : في [القواعد النورانية] .

واستمر رحمه الله في ذكر الأمثلة إلى أن قال :
وجماع ذلك : أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة ، فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع ، يجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه ، وجوز أيضا استثناء بعض التصرفات .
وعلى هذا فمن قال : هذا الشرط ينافي مقتضى العقد ، قيل له : أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقا ؟ فإن أراد الأول : فكل شرط كذلك ، وإن أراد الثاني : لم يسلم له ، وإنما المحذور : أن ينافي مقصود العقد ، كاشتراط الطلاق في النكاح ، أو اشتراط الفسخ في العقد ، فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده ، هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي .
أما الكتاب : فقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (1) والعقود هي العهود ، وقال تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } (2) وقال تعالى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } (3) وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } (4)
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة الأنعام الآية 152
(3) سورة الإسراء الآية 34
(4) سورة الأحزاب الآية 15

فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود وهذا عام ، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد ، وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه ، بدليل قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ } (1) فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه ، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر والبيع ، إنما أمر بالوفاء به .
ولهذا قرنه بالصدق في قوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } (2) ؛ لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر ، والوفاء بالعهد يكون في القول المعلق بالمستقبل ، كما قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } (3) { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } (4) { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } (5) .
واستمر رحمه الله في ذكر آيات في الحث على الوفاء بالعهود والتحذير من نقضها .
إلى أن قال : والأحاديث في هذا كثيرة ، مثل ما في [الصحيحين] عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 15
(2) سورة الأنعام الآية 152
(3) سورة التوبة الآية 75
(4) سورة التوبة الآية 76
(5) سورة التوبة الآية 77

فجر » (1) .
وفي [الصحيحين] عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة » (2) .
وفي [صحيح مسلم ] عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة » (3) وفي رواية : « لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة » (4) .
وفي [صحيح مسلم ] عن بريدة بن الحصيب قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : "اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . . » (5) الحديث ، فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول .
وفي [الصحيحين] عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم : (هل يغدر ؟ فقال : لا يغدر ، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها . قال : ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة . وقال هرقل في جوابه : سألتك : هل يغدر ؟ فذكرت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر) فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين .
وفي [الصحيحين] عن عقبة بن عامر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج » (6) فدل على استحقاق الشروط بالوفاء ، وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (34),صحيح مسلم الإيمان (58),سنن الترمذي الإيمان (2632),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020),سنن أبو داود السنة (4688),مسند أحمد بن حنبل (2/189).
(2) صحيح البخاري الفتن (6694),صحيح مسلم الجهاد والسير (1735),سنن الترمذي السير (1581),سنن أبو داود الجهاد (2756),مسند أحمد بن حنبل (2/70).
(3) صحيح مسلم الجهاد والسير (1738),سنن الترمذي الفتن (2191),سنن ابن ماجه الجهاد (2873),مسند أحمد بن حنبل (3/61).
(4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1738),سنن الترمذي الفتن (2191),سنن ابن ماجه الجهاد (2873),مسند أحمد بن حنبل (3/61).
(5) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731),سنن الترمذي السير (1617),سنن أبو داود الجهاد (2612),سنن ابن ماجه الجهاد (2858),مسند أحمد بن حنبل (5/358),سنن الدارمي السير (2439).
(6) صحيح البخاري الشروط (2572),صحيح مسلم النكاح (1418),سنن الترمذي النكاح (1127),سنن النسائي النكاح (3281),سنن أبو داود النكاح (2139),سنن ابن ماجه النكاح (1954),مسند أحمد بن حنبل (4/150),سنن الدارمي النكاح (2203).

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره » (1) فذم الغادر ، وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر .
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود ، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك ، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك .
ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد إلا ما أباحه الشرع- لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا ، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه ، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح ، بخلاف ما كان جنسه واجبا ؛ كالصلاة والزكاة ، فإنه يؤمر به مطلقا ، وإن كان لذلك شروط وموانع ، فينهى عن الصلاة بغير طهارة ، وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك
وكذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ، ويجب السكوت أو التعريض .
وإذا كان جنس الوفاء ، ورعاية العهد مأمورا به : علم أن الأصل صحة العقود والشروط ، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره ، وحصل به مقصوده ، ومقصود العقد : هو الوفاء به ، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة .
وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال ، حدثنا
__________
(1) صحيح البخاري الإجارة (2150),سنن ابن ماجه الأحكام (2442),مسند أحمد بن حنبل (2/358).

كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحل حراما ، أو حرم حلالا ، والمسلمون على شروطهم » (1) وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية : هو ثقة وضعفه في رواية أخرى .
وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا ، أو أحل حراما » (2) قال الترمذي : حديث حسن صحيح
وروى ابن ماجه منه الفصل الأول ، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة ، وضرب أحمد على حديثه في [المسند] فلم يحدث به ، فعلل الترمذي له بروايته من وجوه .
وقد روى أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الناس على شروطهم ما وافق الحق » وهذه الأسانيد- وإن كان الواحد منها ضعيفا- فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا .
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة ، وهو حقيقة المذهب ، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله ، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله
وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله ، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه
فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما ، وعدم الإيجاب ليس نفيا بالإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع ، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا ، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من
__________
(1) سنن أبو داود الأقضية (3594),مسند أحمد بن حنبل (2/366).
(2) سنن الترمذي الأحكام (1352),سنن ابن ماجه الأحكام (2353).

الإقباض ما لم يكن واجبا ، ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا ، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما
وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين ، وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا ، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها : فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك .
وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط ، قال ؛ لأنها إما أن تبيح حراما ، أو تحرم حلالا ، أو توجب ساقطا ، أو تسقط واجبا ، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع
وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض ، وليس كذلك ، بل كل ما كان حراما بدون الشرط : فالشرط لا يبيحه ؛ كالربا ، وكالوطء في ملك الغير ، وكثبوت الولاء لغير المعتق ، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو ملك يمين ، فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك ، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز ، وكذلك الولاء .
فقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته) وجعل الله الولاء كالنسب ، يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا » (1) وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره ، وانتساب المعتق إلى غير مولاه ، فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط ، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما
وأما ما كان مباحا بدون الشرط : فالشرط يوجبه ، كالزيادة في المهر والثمن والرهن ، وتأخير الاستيفاء ، فإن الرجل له أن يعطي المرأة ،
__________
(1) سنن الترمذي الوصايا (2121),سنن ابن ماجه الوصايا (2712),مسند أحمد بن حنبل (4/238),سنن الدارمي السير (2529).

وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار ، ونحو ذلك ، فإذا شرطه صار واجبا ، وإذا وجب فقد حرمت (1) المطالبة التي كانت حلالا بدونه ؛ لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط ، فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا ، فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره .
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا : فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله ، وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله ، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم ، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب ، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب .
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب ، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك ، كما قال عمر رضي الله عنه : (مقطع الحقوق عند الشروط) .
وأما الاعتبار فمن وجوه : أحدها : أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية ، والأصل فيها عدم التحريم ، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم ، كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم ، وقوله تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } (2) عام في الأعيان والأفعال ، وإذا لم يكن حراما لم تكن فاسدة ، وكانت صحيحة .
__________
(1) قال المعلق على [القواعد الفقهية] : كذا في الأصلين ولعله (وجبت) .
(2) سورة الأنعام الآية 119

وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط ، إلا ما ثبت حله بعينه ، وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة ، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا ، كالأعيان التي لم تحرم .
وغالب ما يستدل به على الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله ، فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها ، سواء سمي ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم
فإن ما ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع : منه ما سببه تحريم الأعيان ، ومنه ما سببه تحريم الأفعال كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أحمسيا ويأمرونه بالتعري ، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه ، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف ، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت مجبية ، ويحرمون الطواف بالصفا والمروة ، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع ، فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم .
فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة ، وإن لم يثبت حلها بشرع خاص ، كالعهود التي عقدها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها ، وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا

ما حرمه الله ؛ لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله ، وحرموا ما لم يحرمه الله
فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله ، بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله ، فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به ، فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله ، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله
والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر ، وإن كان فيها قربة من وجه آخر ، فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة .
فإن قيل : العقود تغير ما كان مشروعا ؛ لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال : فقد غير ما كان مشروعا ، بخلاف الأعيان التي لم تحرم ، فإنه لا يعتبر في إباحتها .
فيقال : لا فرق بينهما ، وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون ، فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع إلى غيره لا يغيرها ، وهو من باب العقود ، وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه هو فعل من الأفعال مغير لحكمها ، بمنزلة العقود .
وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة ، فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال ، فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة الأصل فيه الحل ، وإن غير حكم العين ، فكذلك أفعالنا في الأملاك في العقود ونحوها الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك .
وسبب ذلك : أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك

البضع الثابت بالنكاح ، نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام ، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا ، لم يثبته ابتداء ، كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة ، فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ، ولم يحرم الشارع علينا رفعه لم يحرم علينا رفعه
فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره ؛ لإثباته سبب ذلك ، وهو الملك الثابت بالبيع
وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب ما لم يحرمه الشارع عليه ، كمن أعطى رجلا مالا فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه ، وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطي ما لم يمنع مانع ، وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها ، وهو أن الأحكام الجزئية- من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو- لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا ، وإنما شرعها شرعا كليا .
مثل قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) وقوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } (2) وقوله تعالى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } (3)
وهذا الحكم الكلي ثابت ، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد ، فإذا وجد بيع معين أثبت ملكا معينا ، فهذا المعين سببه فعل العبد ، فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله لا ما أثبته الله من الحكم الجزئي إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط ؛ لأن الشارع أثبته ابتداء .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة النساء الآية 24
(3) سورة النساء الآية 3

وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام ، وليس كذلك ، فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته الشارع ، وأما هذا المعين فإنما ثبت ؛ لأن العبد أدخله في المطلق ، فإدخاله في المطلق إليه ، فكذلك إخراجه ، إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا ، مثل أن يقول : هذا الثوب بعه أو لا تبعه ، أو هبه أو لا تهبه
وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين ، فتدبر هذا ، وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق ، وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد
وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع ، فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا إلا ما خصه الدليل ، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل ، بل والعقلاء جميعهم
وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي ، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع ، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذن ، ولإيجاب العقل أيضا .
وأيضا فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين ، وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد ؛ لأن الله قال في كتابه العزيز : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (1) وقال تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (2)
فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة النساء الآية 4

بشرطه فدل على أنه سبب له ، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم ، وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات قياسا عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن .
وكذلك قوله تعالى : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (1) لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة ، وإذا كان كذلك ، فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة ، أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن ، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله ، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك .
وأيضا فإن العقد له حالان : حال إطلاق ، وحال تقييد . ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود
فإذا قيل هذا شرط ينافي مقتضى العقد ، فإن أريد به ينافي العقد المطلق : فكذلك كل شرط زائد ، وهذا لا يضره ، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك .
وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد ، فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره ، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين : بين إثبات المقصود ونفيه ، فلا يحصل شيء ، ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق ، بل هو مبطل للعقد عندنا .
__________
(1) سورة النساء الآية 29

و

الشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع
، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق ، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصود الملك ، والعتق قد يكون مقصودا للعقد ، فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا ،

فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد ، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه ، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « كتاب الله أحق وشرط الله أوثق » (1) فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا ، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله.
فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما فلم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله : فلا وجه لتحريمه ، بل الواجب حله ؟ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه ، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه ، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج .
وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو ، إما أن يقال : لا يحل ولا يصح (2) ، إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص ، من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور ، كما ذكرناه من القول الأول ، أو يقال : لا تحل وتصح (3) حتى يدل على حلها دليل سمعي وإن كان عاما أو يقال : تصح ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام .
والقول الأول : باطل ؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر ، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم ، فقال سبحانه في آية الربا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (4) فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم ، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا ، بل
__________
(1) صحيح مسلم العتق (1504),سنن ابن ماجه الأحكام (2521).
(2) هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية] (الناشر) .
(3) هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية] (الناشر) .
(4) سورة البقرة الآية 278

مفهوم الآية- الذي اتفق العمل عليه- يوجب أنه غير منهي عنه .
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم ، ولم يأمرهم برد المقبوض وقال صلى الله عليه وسلم : « أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم ، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام » (1) وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية ، ولم يستفصل : هل عقد به في عدة أو غير عدة ؟ بولي أو بغير ولي ؟ بشهود أو بغير شهود ؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته ، إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن ، وكما أمر فيروز الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق الأخرى ، وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارق ذوات المحارم .
ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين ، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع ، ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع .
فإن قيل : فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام ثم أسلموا بعد زواله : مضت ، ولم يؤمروا باستئنافها ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله ، فليس ما عقدوه بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع ، وكلاهما عندكم سواء .
قلنا : ليس كذلك ، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا
__________
(1) سنن أبو داود الفرائض (2914),سنن ابن ماجه الأحكام (2485).

اتصل به التقابض ، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ لا قبل القبض ولا بعده ، ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض ، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده ؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه ، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها ، كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح ، فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه وإن لم يقترن بالآخر أقرهم الشارع على ذلك ، بخلاف الأموال ، فإن المقصود بعقودها هو التقابض ، فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها ، فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود .
فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم ؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل .
وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها ، فإن الفقهاء جميعهم- فيما أعلمه- يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها ، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد ، ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله ، فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود : لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد ، فإنه آثم ، وإن كان قد صادف الحق .
وأما إن قيل : لا بد من دليل شرعي يدل على حلها ، سواء كان عاما أو خاصا ، فعنه جوابان :

أحدهما : المنع كما تقدم .
والثاني : أن نقول : قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة ، إلا ما استثناه الشارع ، وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله (1) ، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : « أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق » (2) فالشرط يراد به المصدر تارة ، والمفعول أخرى ، وكذلك الوعد والخلف ، ومنه قولهم : درهم ضرب الأمير ، والمراد به هنا- والله أعلم- : المشروط لا نفس التكلم .
ولهذا قال : إن كان مائة شرط أي : وإن كان قد شرط مائة شرط ، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط ، وإنما المراد : تعديد الشرط ، والدليل على ذلك قوله : كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق أي : كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه ، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه ، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى .
وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله ، فلم يخالف كتاب الله وشرطه ، حتى يقال : (كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق) فيكون المعنى : من اشترط أمرا ليس في حكم الله ولا في كتابه بواسطة وبغير واسطة : فهو باطل ؛ لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط ، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط .
ولما لم يكن في كتاب الله : أن الولاء لغير
__________
(1) أي : في [القواعد النورانية] .
(2) صحيح البخاري البيوع (2060),صحيح مسلم العتق (1504),موطأ مالك العتق والولاء (1519).

المعتق أبدا كان هذا المشروط- وهو ثبوت الولاء لغير المعتق- شرطا ليس في كتاب الله ، فانظر إلى المشروط إن كان أصلا أو حكما ، فإن كان الله قد أباحه ؛ جاز اشتراطه ووجب ، وإن كان الله لم يبحه : لم يجز اشتراطه ، فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته فهذا المشروط في كتاب الله ؛ لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها ، فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله .
فمضمون الحديث : أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة أو يقال : ليس في كتاب الله ، أي : ليس في كتاب الله نفيه (1) ، كما قال : « سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم » (2) أي : بما تعرفون خلافه ، وإلا فما لا يعرف كثير .
ثم نقول : إذا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة ، بمعنى أنه لا يلزم بها شيء لا إيجاب ولا تحريم : فإن هذا خلاف الكتاب والسنة ، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام ، فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه ، وسماه منكرا من القول وزورا ، ثم إنه أوجب به على من عاد : الكفارة ، ومن لم يعد : جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد ، وكذا النذر : فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر ، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر فقال : « إنه لا يأتي بخير » (3) ثم أوجب الوفاء به ، إذا كان طاعة في قوله صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » (4) .
__________
(1) هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية] (الناشر) .
(2) صحيح مسلم مقدمة (7),مسند أحمد بن حنبل (2/321).
(3) صحيح مسلم النذر (1639),سنن النسائي الأيمان والنذور (3801),مسند أحمد بن حنبل (2/86).
(4) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6318),سنن الترمذي النذور والأيمان (1526),سنن النسائي الأيمان والنذور (3807),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289),سنن ابن ماجه الكفارات (2126),مسند أحمد بن حنبل (6/36),موطأ مالك النذور والأيمان (1031),سنن الدارمي النذور والأيمان (2338).

فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم ، نعم لا يكون سببا لإباحة ، كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم ونحو ذلك لم يستفد المنهي بفعله لما نهى عنه الاستباحة ؛ لأن المنهي عنه معصية ، والأصل في المعاصي : أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته ، والإباحة من نعمة الله ورحمته ، وإن كانت قد تكون سببا للإملاء ولفتح أبواب الدنيا ، لكن ذلك قدر ليس بشرع ، بل قد يكون سببا لعقوبة الله والإيجاب ، والتحريم قد يكون عقوبة ، كما قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } (1) وإن كان قد يكون رحمة أيضا ، كما جاءت شريعتنا الحنيفية .
والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص : فهو عقد حرام ، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه ، وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم .
وقد يجاب على هذه الحجة بطريقة ثانية ، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد الشروط التي لم يبحها- وإن كان لم يحرمها- باطلة ، فنقول :
قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما ، وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها ، وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة ، فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة ، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة ، وذلك لأن
__________
(1) سورة النساء الآية 160

قوله : ليس في كتاب الله إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه ، إنما ما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله ؛ لأن قولنا : (هذا في كتاب الله) يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم ، وعلى هذا معنى قوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (1) وقوله تعالى : { وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } (2) وقوله تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (3) على قول من جعل الكتاب هو القرآن ، وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ : فلا يجيء هاهنا .
يدل على ذلك : أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع : صحيح بالاتفاق ، فيجب أن يكون في كتاب الله ، وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه ، لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين ، فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار ؛ لأن جامع الجامع جامع ، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار .
يبقى أن يقال على هذا الجواب : فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما فشرط الولاء داخل في العموم ، فيقال : العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص ، فإن الخاص يفسر العام ، وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته وقوله : « من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » (4) .
ودل الكتاب
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة يونس الآية 37
(3) سورة الأنعام الآية 38
(4) سنن الترمذي الوصايا (2121),سنن ابن ماجه الوصايا (2712),مسند أحمد بن حنبل (4/238),سنن الدارمي السير (2529).

على ذلك بقوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } (1) { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } (2) فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده ، دون من تبناه ، وحرم التبني ، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخاه في الدين ومولاه ، كما « قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة أنت أخونا ومولانا » (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس » (4) .
فجعل سبحانه الولاء نظير النسب ، وبين سبب الولاء في قوله تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } (5) فبين أن سبب الولاء : هو الإنعام بالإعتاق ، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد ، فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق ؛ لأنه في معناه ، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره .
وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : « إنما الولاء لمن أعتق » (6) .
وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه : لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها ؛ لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه ، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلا المعنى
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 4
(2) سورة الأحزاب الآية 5
(3) صحيح البخاري الصلح (2553).
(4) صحيح البخاري العتق (2407),صحيح مسلم الأيمان (1661),سنن الترمذي البر والصلة (1945),سنن أبو داود الأدب (5157),سنن ابن ماجه الأدب (3690),مسند أحمد بن حنبل (5/161).
(5) سورة الأحزاب الآية 37
(6) صحيح البخاري البيوع (2048),سنن النسائي البيوع (4644),مسند أحمد بن حنبل (2/100).

الأول وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله ، والتقدير : من اشترط شيئا لم يبحه الله ، فيكون المشروط قد حرمه ؛ لأن كتاب الله قد أباح عموما لم يحرمه ، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله ، بدليل قوله : « كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق » (1) .
فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلان : الأدلة الشرعية العامة ، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب وانتفاء المحرم ، فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة : هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا ؟
أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي : فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام ؛ أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك ، فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مفسر لهذا الاستصحاب ، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك .
وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة ؛ فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به ، إلا بعد البحث عن تلك المسألة : هل هي من المستخرج أو من المستبقى ؟ وهذا أيضا لا خلاف فيه ، وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه ، أو علم تخصيص صور معينة فيه : هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له ؟
فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما ، وذكروا عن
__________
(1) صحيح مسلم العتق (1504),سنن ابن ماجه الأحكام (2521).

أحمد فيه روايتين ، وأكثر نصوصه : على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم ، وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره ، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه ، فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه ، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض ، سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة- كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم- أو جعل المعارض باب المانع للدليل فيكون الدليل هو الظاهر ، لكن القرينة مانعة لدلالته ، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم ، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي ، أو إطلاق لفظي ، أو اصطلاح جدلي ، لا يرتفع إلى أمر علمي أو فقهي .
فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها : مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط ، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع ، فهي بأصول الفقه- التي هي الأدلة العامة- أشبه منها بقواعد الفقه التي هي الأحكام العامة .
نعم ، من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة ، فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة .

فمن ذلك : ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع أو تبرع كالوقف والعتق : أن يستثني بعض منافعها ، فإن كان مما لا يصلح فيه القربة- كالبيع- فلا بد أن يكون المستثنى معلوما ؛ لما روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي « عن جابر قال : (بعته- يعني بعيره- من النبي صلى الله عليه وسلم واشترطت حملانه إلى أهلي) » (1) وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده أو عاش فلان ، ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف .
ومن ذلك : أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد : صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث بريرة ، وإن كان عنهما قول بخلافه .
ثم وهل يصير العتق واجبا على المشتري ، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع ، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق ، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع ؛ على وجهين في مذهبهما ، ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس ؛ لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق ، وذلك مخالف لمقتضى العقد فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا .
قالوا : وإنما جوزته السنة ؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره ، ولذلك أوجب فيه السراية ، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره ، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3505).

يلحق به غيره ، فلا يجوز اشتراط غيره .
وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح ، وإن كان فيه منع من غيره ، قال ابن القاسم : قيل لأحمد : الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها ؟ فأجازه ، فقيل له : فإن هؤلاء- يعني : أصحاب أبي حنيفة - يقولون : لا يجوز البيع على هذا الشرط ، قال : لم لا يجوز ؟ قد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة ، واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها ، فلم لا يجوز هذا ؟ قال : وإنما هذا شرط واحد ، والنهي إنما هو عن شرطين ، قيل له : فإن شرط شرطين أيجوز ؟ قال : لا يجوز .
فقد نازع من منع منه ، واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر بعير لجابر ، وبحديث بريرة ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين في بيع ، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع وهو نقص لموجب العقد المطلق ، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق .
فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك ، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله ، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره ، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره .
وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان : سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط هو حر بعد موتي ؟ قال : هذا مدبر . فجوز اشتراط

التدبير كالعتق ، ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف ، صحح الرافعي أنه لا يصح .
وكذلك جوز اشتراط التسري ، فقال أبو طالب : سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها ، تكون نفيسة ، يحب أهلها أن يتسرى بها ، ولا تكون للخدمة ؟ قال : لا بأس به ، فلو كان التسري للبائع وللجارية فيه مقصود صحيح جوزه .
وكذلك جوز أن يشترط باع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع ، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول ، كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب .
وجماع ذلك : أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع » (1) فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق ، وهو جائز بالإجماع . ويملكان اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق ، وهو جائز بالإجماع ، ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن (الثنيا إلا أن تعلم) فدل على جوازها إذا علمت ، وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة .
وقد أجمع المسلمون- فيما أعلمه- على جواز استثناء الجزء الشائع ، مثل : أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها ، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر ، مثل : أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها ، أو الثياب أو العبيد أو الماشية- التي قد رأياها- إلا شيئا منها قد عيناه .
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2567),صحيح مسلم البيوع (1543),سنن الترمذي البيوع (1244),سنن النسائي البيوع (4636),سنن أبو داود البيوع (3433),سنن ابن ماجه التجارات (2211),مسند أحمد بن حنبل (2/82),موطأ مالك البيوع (1302).

واختلفوا في استثناء بعض المنفعة كسكنى الدار شهرا، أو استخدام العبد شهرا، أو ركوب الدابة مدة معينة أو إلى بلد بعينه، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك قد يقع، كما إذا اشترى أمة مزوجة، فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد، كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة، لكن هي اشترتها بشرط العتق، فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق، والعتق لا ينافي نكاحها، فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما- وهو ممن روى حديث بريرة - يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } (1) قالوا: فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فتباح له، ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج، واحتج بعض الفقهاء على ذلك: بحديث بريرة .
فلم يرض أحمد هذه الحجة؛ لأن ابن عباس رواه وخالفه، وذلك- والله أعلم- لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا.
ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها- ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك وكان مالكها معصوم الملك- لم يزل عنها ملك الزوج، وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع.
ومن حجتهم: أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك، فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه، ولا يكون الملك
__________
(1) سورة النساء الآية 24

الثابت للمشتري أتم من ملك البائع، والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه، بخلاف المسبية، فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه، لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم، وكذلك ما ملكوه من الأبضاع.
وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره- كالنخل المؤبر- فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح، وكذلك بيع العين المؤجرة- كالدار والعبد- عامتهم يجوزه، ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر.
ففقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد، كما في صور الوفاق، وكاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا، وكذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معينا، إذا كانت العادة جارية بفصله، كبيع الشاة واستثناء بعضها، سواء قطعها من الرأس والجلد والأكارع، وكذلك الإجارة، فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضا للزرع أو حانوتا لتجارة فيه أو صناعة أو أجيرا لخياطة أو بناء ونحو ذلك: فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص عنه فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح، فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء، فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر، إلا ما استثناه من الاستمتاع المحرم الذي هو مهر المثل، وملكها للاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء المشاهير، ولو آلى منها ثبت لها

فراقه إذا لم يفئ بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من يوجب عليه الوطء وقسم الابتداء، بل يكتفي بالباعث الطبيعي، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد، فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء والقسم كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار، وقيل: يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر اعتبارا بالإيلاء، ويجب أن يطأها بالمعروف، كما ينفق عليها بالمعروف، فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره.
والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد وعليه أكثر السلف: أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (1) والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » (2) ، وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده، كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق فهو كتقدير الشافعي النفقة، إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد، وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار، والشافعي إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود قياسا على المنع من بيع الغرر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا لذلك، وقد تقدم
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) صحيح البخاري النفقات (5049),صحيح مسلم الأقضية (1714),سنن النسائي آداب القضاة (5420),سنن أبو داود البيوع (3533),سنن ابن ماجه التجارات (2293),مسند أحمد بن حنبل (6/206),سنن الدارمي النكاح (2259).

التنبيه على هذا الأصل.
وكذلك يوجب العقد المطلق: سلامة الزوج من الجب والعنة عند عامة الفقهاء، وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق وسلامتها من الجنون والجذام والبرص، وكذلك سلامتها من العيوب التي تمنع كماله كخروج النجاسات منه أو منها أو نحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره، دون الجمال ونحو ذلك، وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك.
ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة؛ كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك، وملك المشترط الفسخ عند فواته في أصح الروايتين عند أحمد أو أصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك، والرواية الأخرى: لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين، وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان، سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل أو الرجل في المرأة، بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك: لا أصل له.
وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد، مثل: أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين، أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء، فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع، كما ذكرته لك، فإن مذهب أبي حنيفة : أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح،

وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق.
كذلك يجوز أكثر السلف- أو كثير منهم- وفقهاء الحديث ومالك - في إحدى الروايتين- أن ينقص ملك الزوج، فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق صرفوا عليها نفسه (1) فلا يتزوج عليها ولا يتسرى، وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى: لا يصح هذا الشرط، لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر.
والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز مالم يمنع منه الشرع، فإذا كانت الزيادة في العين أو المنفعة المعقود عليها، والنقص من ذلك على ما ذكرت- فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك، فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع أو غيره، أو أن يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك فهو اشتراط تصرف مقصود، ومثله: التبرع المفروض والتطوع.
وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع- فضعيف، فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه، فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه، كما نص عليه أحمد، « فإن ميمونة زوج النبي
__________
(1) كذا في المطبوع

صلى الله عليه وسلم، أعتقت جارية لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك » (1) ؛ ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كان الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق، وما أعلم في هذا خلافا، وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم، فإن فيه عن أحمد روايتين:
إحداهما: تجب، كقول طائفة من السلف والخلف.
والثانية: لا تجب، كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم، ولو وصى لغيرهم دونهم: فهل تسري تلك الوصية على أقاربه دون الموصى له، أو يعطي ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه، كما تقسم التركة بين الورثة والموصى له؛ على روايتين عن أحمد، وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه هو القول بنفوذ الوصية، فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة.
وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري أفضل، كما لو كان عليه دين لله من زكاة أوكفارة أو نذر أو دين لآدمي، فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع، أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك، فهذا أوكد من اشتراط العتق.
وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية، وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للمشتري، لما في الشركة من الضرار، ونحن نقول: شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة، فإن أمكن قسمة العين، وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك فتكميل العتق نوع من ذلك، إذ الشركة تزول بالقسمة تارة
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2452),صحيح مسلم الزكاة (999),سنن أبو داود الزكاة (1690),مسند أحمد بن حنبل (6/332).

وبالتكميل أخرى.
وأصل ذلك: أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف، بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا، كما يثبت ذلك حسا، ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا، كما أن القدرة تتنوع أنواعا، فالملك التام يملك فيه التصرف في القربة بالبيع والهبة، ويورث عنه، ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمات عليه بالرضاع فلا يملك منهن الاستمتاع، ويملك المعاوضة عليه بالتزويج، بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين، ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم، وكذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ويملك المرهون، ويجب عليه مؤونته، ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا ببيع ولا هبة، وفي العتق خلاف مشهور.
والعبد المنذور عتقه والهدي والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا؟ وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق، فمن قال: لم يزل ملكه عنه- كما قد يقوله أكثر أصحابنا- فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق أو النسك أو الصدقة وهو نظير العبد المشترى بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة، أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم، ومن قال: زال ملكه عنه فإنه

يقول: هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به، وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع.
وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين: هل يصير الموقوف ملكا لله، أو ينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقيا على ملك الواقف؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.
وعلى كل تقدير: فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة، وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع، كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد : نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده.
ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز، وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين، فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه، وجنس الملك يجمعهما، وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة.
وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للابن، بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الابن ثابت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21