كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

جنبتهم (1)
قال الإمام مالك : يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم، إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول ولاة الدم الذين يجوز لهم العفو عنه، فإن نكل أحد من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم. قال يحيى : قال مالك : وإنما ترد الأيمان على من بقي منهم إذا نكل أحد ممن لا يجوز لهم العفو عن الدم، وإن كان واحدا فإن الأيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم إذا نكل أحد منهم عن الأيمان، ولكن الأيمان إذا كان ذلك ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن لم يبلغوا خمسين رجلا ردت الأيمان على من حلف منهم، فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعي عليه حلف هو خمسين يمينا وبرئ.
قال الباجي : قوله: فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم، يريد: إن قل عدد المعينين من العصبة أو نكل بعضهم، فإن كانوا أكثر من اثنين فنكل بعضهم عن معونه الولاة فإن من بقي مع الولاة ترد عليهم الأيمان حتى يستوفوا خمسين يمينا، فلا تبطل القسامة بنكول بعض المعينين من العصبة مع بقاء الولاء أو الأولياء عن القيام بالدم والمطالبة به.
ولو نكل الولي لم يكن للمعينين القسامة ولا المطالبة بالدم، وكذلك لو كان الأولياء جماعة فنكل واحد منهم لم يكن لغيرهم قسامة في المشهور من المذهب؛ لأنه لا قسامة لغيرهم, وترد الأيمان على المدعى عليهم.
__________
(1) [المنتقى] (7\55). اهـ.

وجه القول الأول: أنهم لما تساووا في الحق لم يكن نكول بعضهم مؤثرا في سقوط حق الباقين أصله قتل الخطأ.
ووجه الرواية الثانية: أن الحق لجماعتهم وليس بعضهم أولى ببعض بإثباته وهو لا يتبعض.
(فرع) قال القاضي أبو محمد : وهذا في العصبة، وأما البنون والإخوة فرواية واحدة أن من نكل منهم ردت الأيمان على المدعى عليهم.
ووجه ذلك: أن البنين والإخوة يردون الأم من الثلث إلى السدس فكان لقرابتهم مزية، والله أعلم.
وترد الأيمان على المدعى عليهم وفي [العتبية] وغيرها لابن القاسم ورواية عن مالك إذا نكل ولاة الدم عن القسامة ثم أرادوا أن يقسموا لم يكن ذلك لهم إن كان نكولا بينا، ومن نكل عن اليمين فقد أبطل حقه.
ووجه ذلك أن نكول من يجب عليه اليمين توجب رد اليمين على المدعى عليه كالمدعي حقا يشهد له شاهد فينكل عن اليمين مع شاهده فإن اليمين ترد على المدعى عليه.
(مسألة) وإذا حلف الأولياء مع المعينين لهم من العصبة بدئ بالولي، ولا يبدأ بأيمان المعينين لهم، قاله في [المجموعة] و[الموازية] ابن القاسم قال: وإنما يعين الولي من قرابته منه معروفة يلتقي معه إلى جد يوارثه، فأما من هو من عشيرته من غير نسب معروف فلا يقسم كان للمقتول أو لم يكن (1)
__________
(1) [المنتقى] (6\60). .

قال الباجي : (فصل) وقوله: ولكن ترد الأيمان على المدعى عليهم، فيحلف منهم خمسون رجلا، يريد أنه يحلف الجماعة في النكول كما يحلف الجماعة في الدعوى؛ لأن أيمان القسامة لما لم يحلف فيها إلا اثنان فما زاد من المدعى عليهم. وقد روى ابن حبيب عن مطرف عن مالك أنه لا يحلف إلا المدعى عليه وحده بخلاف المدعي، وقال مطرف : لأن الحالف المدعى عليه إنما يبرئ نفسه.
ووجه رواية ابن القاسم : ما روى أبو قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمدعين: « أترضون خمسين يمينا من اليهود ما قتلوه » (1) فمقتضى ذلك أن القسامة مختصة بهذا العدد ولا يزاد عليه؛ لأن اليهود كانوا أكثر من خمسين، ومن جهة المعنى أنه لما جاز أن يحلف مع ولي الدم المدعي له غيره جاز أن يحلف مع المدعى عليه المنكر له غيره.
ووجه آخر: أن الدماء مبنية على هذا، وهو: أن يتحملها غير الجاني مع الجاني كالدية في قتل الخطأ، فإن الأيمان لما كانت خمسين وكانت اليمين الواحدة لا تتبعض- لم يجز أن يكون الحالفون أكثر من خمسين.
(مسألة): فإذا قلنا: يحلف غيره من عصبته فقد قال ابن القاسم، ورواه هو وابن وهب عن مالك : يحلف خمسون من أولياء المقتول خمسين يمينا وإن لم يكن منهم من يحلف إلا اثنان حلفا خمسين يمينا وبرئ المدعى عليه، ولا يحلف هو معهم فيحلف هو بعضها وهم بعضها، فإن لم يوجد من يحلف من عصبته إلا واحد لم يحلف معه وحلف المدعى عليه وحده خمسين يمينا.
وقال عبد الملك : يحلف هو ومن استعان به من عصبته على السواء،
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6503).

وله أن يحلف هو أكثر منهم، فإن لم يوجد من يعينه حلف هو وحده خمسين يمينا.
قال محمد : قول ابن القاسم أشبه بقول مالك في [موطئه]، وإنما أراد محمد قول مالك : يحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا.
قال الباجي : (فصل) وقوله: خمسين يمينا، وجه ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( « فتبرئكم يهود بخمسين يمينا » (1) ، ومن جهة المعنى: أن الأيمان المردودة يعتبر بعدتها فيما انتقلت عنه كأيمان الحقوق، فكذلك الأيمان الثانية في الخمسين، فإن عددها فيها سواء كأيمان اللعان (2) .
قال ابن المواق على قول خليل : ونكول المعين غير معتبر بخلاف غيره ولو بعد، انظر قوله: فسيأتي أن أولياء الدم كانوا أعماما أو أبعد منهم, فإن مالكا حلفهم مرة كالبنين ومرة قال: إن رضي اثنان إن كان لهما أن يحلفا ويستحقا حقهما من الدية، قال ابن شاس : إن كان الولي واحدا استعان ببعض عصبته ثم نكول المعين غير معتبر، فأما نكول أحد الأولياء فمسقط للقود، وعن ابن يونس قال ابن القاسم : إن أكثر أولياء الدم أجزأ أن يحلف اثنان إذا تطاوعا ولم يترك باقيهم اليمين نكولا، قال في [المدونة]: فإن نكل واحد من ولاة الدم الذين يجوز عفوهم إن عفوا فلا سبيل إلى القتل كانوا اثنين أو أكثر، قال محمد : فرق مالك بين نكول أحد الأولياء عن القسامة أو بعد أن حلف جماعتهم فقال: إن نكل منهم من له العفو قبل القسامة فلا قسامة لبقيتهم، ولا دم ولا دية، ويحلف المدعى عليه خمسين
__________
(1) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4712),سنن الدارمي الديات (2353).
(2) [المنتقى] (7\60).

يمينا إن لم يجد من يحلف معه، وإن نكل بعد يمين جماعتهم لم يسقط حظ من بقي من الدية، ونكول هذا كعفوه راجعه فيه ابن عرفة، قول ابن شاس : نكول المعين لغو واضح؛ لعدم استحقاقه ما يحلف عليه (1) انتهى المقصود.
2 - المذهب الشافعي:
قال الشافعي رحمه الله تحت ترجمة نكول الورثة واختلافهم في القسامة ومن يدعى عليهم.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: فإذا كان للقتيل وارثان فامتنع أحدهما من القسامة لم يمنع ذلك الآخر من أدن يقسم خمسين يمينا ويستحق نصيبه من الميراث، وكذلك إذا كان الورثة عددا كثيرا ونكلوا إلا واحدا (2) .
3 - المذهب الحنبلي:
1 - قال الخرقي : (فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ).
2 - وقال ابن قدامة : -على ذلك- هذا ظاهر المذهب، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد ومالك والليث والشافعي وأبو ثور، وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد : أنهم يحلفون ويغرمون الدية لقضية عمر وخبر سليمان بن يسار، وهو قول أصحاب الرأي.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم : « فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم » (3) أي: يتبرءون
__________
(1) [التاج والإكليل على مواهب الجليل] (6\274).
(2) [الأم](6\82).
(3) صحيح البخاري الأدب (5791),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4712),سنن أبو داود الديات (4520),مسند أحمد بن حنبل (4/142),موطأ مالك القسامة (1631).

منكم، وفي لفظ قال: « فيحلفون خمسين يمينا ويبوءون من دمه » (1) . وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغرم اليهود، وأنه أداها من عنده.
ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه فيبرأ بها كسائر الأيمان؛ ولأن ذلك إعفاء لمجرد الدعوى فلم يجز للخبر ومخالفة مقتضى الدليل، فإن قول الإنسان لا يقبل على غيره بمجرده كدعوى المال وسائر الحقوق، ولأن في ذلك جمعا بين اليمين والغرم فلم يشرع كسائر الحقوق (2) .
3 - قال الخرقي : (فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال).
4 - وقال ابن قدامة : - على ذلك- يعني: أدى ديته' لقضية عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فأبى الأنصار أن يحلفوا، وقالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده كراهة أن يطل دمه.
فإن تعذر فداؤه من بيت المال لم يجب على المدعى عليهم شيء؛ لأن الذي يوجبه عليهم اليمين, وقد امتنع مستحقوها من استيفائها فلم يجب لهم غيرها كدعوى المال (3) .
5 - قال ابن مفلح : ( وإن نكلوا أو كانوا نساء، أي: المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ، وعنه يغرم الدية من ماله، وعنه من بيت المال، اختاره أبو بكر، وقدم في [الموجز]: أنه يحلف يمينا واحدة، وهو رواية في [التبصرة] . . . فإن لم يرض الأولياء بيمين المدعى عليه فداه الإمام
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/3).
(2) [المغني] (8\497).
(3) [المغني] (8\498).

من بيت المال (1) .
نكول المدعى عليهم:
أ- قال شمس الدين السرخسي : ( فإن نكلوا -أي: المدعى عليهم- عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا؛ لأن الأيمان في القسامة حق مقصود لتعظيم أمر الدم ومن لزمه حق مقصود لا تجري النيابة في إيفائه، فإن امتنع منه فإنه يحبس ليوفي ككلمات اللعان ) (2) .
ب- وقال أيضا: ( وإذا أبى الذين وجد فيهم القتيل أن يقسموا حبسوا حتى يقسموا؛ لأن القسامة عليهم باعتبار تهمة القتيل وقد ازدادت بنكولهم والأيمان مقصوده هاهنا فيحبسون لإيفائها ) (3) .
ج- قال ابن الهمام على قول صاحب المتن: (ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف) لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها تعظيما لأمر الدم؛ ولهذا يجمع بينه وبين الدية بخلاف النكول في الأموال؛ لأن اليمين بدل عن أصل حقه؛ ولهذا يسقط ببذل المدعى، وفيما نحن فيه لا يسقط ببذل الدية، هذا الذي ذكرنا إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذا إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم، والدعوى في العمد أو الخطأ؛ لأنهم لا يتميزون عن الباقي. ولو ادعى على البعض بأعيانهم أنه قتل وليه عمدا أو خطأ، فكذلك الجواب يدل عليه إطلاق الجواب في الكتاب هكذا الجواب في [المبسوط]، وعن أبي يوسف في غير رواية الأصل: أن في القياس تسقط
__________
(1) [الفروع] (3\456).
(2) [المبسوط](26\111).
(3) [المبسوط] (26\121).

القسامة والدية عن الباقين من أهل المحلة, ويقال للولي: ألك بينة؟ فإن قال: لا، يستحلف المدعى عليه يمينا واحدة، ووجهه أن القياس يأباه؛ لاحتمال وجود القتل من غيرهم، وإنما عرف بالنص فيما إذا كان في مكان ينسب إلى المدعى عليهم والمدعي يدعي القتل عليهم، وفيما وراءه بقي على أصل القياس وصار كما إذا ادعى القتل على واحد من غيرهم.
وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة؛ لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فنوجبه بالنص لا بالقياس، بخلاف ما إذا ادعى على واحد من غيرهم؛ لأنه ليس فيه نص، فلو أوجبناهما لأوجبناهما بالقياس وهو ممتنع، ثم حكم ذلك أن يثبت ما ادعاه إذا كان له بينة، وإن لم تكن استحلفه يمينا واحدة؛ لأنه ليس بقسامة لانعدام النص وامتناع القياس، ثم إن حلف برئ، وإن نكل والدعوى في المال ثبت به، إن كان في القصاص فهو على اختلاف مضى في كتاب الدعوى (1) ). .
قال قاضي زاده على صاحب المتن: (ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف): قال تاج الشريعة: هذا إذا ادعى الولي القتل عمدا، أما إذا ادعاه خطأ فنكل أهل المحلة فإنه يقضي بالدية على عاقلته، ولا يحبسون ليحلفوا انتهى.
(وأما سائر الشراح فلم يقيد أحد منهم هاهنا مثل ما قيده تاج الشريعة إلا أن صاحبي [النهاية] و[العناية] قالا في صدر هذا الباب: حكم القسامة القضاء بوجوب الدية إن حلفوا والحبس حتى يحلفو إن أبوا لو ادعى الولي العمد، ولو ادعى الخطأ فالقضاء بالدية عند النكول) انتهى.
__________
(1) [فتح القدير] (8\388, 389

ولا يخفى أن ظاهر ما ذكراه يطابق تاج الشريعة هنا. أقول: لا يذهب عليك أن الظاهر من إطلاقه جواب مسألة الكتاب هنا, ومن اقتضاء دليلها الذي ذكره المصنف ومن دلالة قوله فيما بعد، هذا الذي ذكرناه إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذلك إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم والدعوى في العمد والخطأ أن يكون الحبس إلى أن يحلف الناكل موجب النكول في كل واحدة من صورتي دعوى العمد ودعوى الخطأ، ومن هذا ترى أصحاب المتون قاطبة أطلقوا جواب هذه المسألة، وكذا أطلقه الإمام قاضي خان في [فتاواه] حيث قال: فإن امتنعوا عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا. انتهى.
وكذا حال سائر ثقات الأئمة في تصانيفهم، وكأن صاحب العناية تنبه لهذا حيث قال في صدر هذا الباب: حكم القسامة القضاء بوجوب الدية على العاقلة في ثلاث سنين عندنا وعند الشافعي إذا حلفوا برئوا، وأما إذا أبوا القسامة فيحبسون حتى يحلفوا أو يقروا. انتهى، فإنه جرى في بيان حكمها أيضا على الإطلاق كما ترى.
ثم أقول: التحقيق هاهنا هو أن في جواب هذه المسألة روايتين إحداهما أنهم إن نكلوا حبسوا حتى يحلفوا على الإطلاق وهو ظاهر الروايتين عن أئمتنا الثلاثة، والأخرى أنهم إن نكلوا لا يحبسون، بل يقضي بالدية على عاقلتهم في ثلاث سنين بلا تقييد بدعوى الخطأ، وهو رواية الحسن بن زياد عن أبي يوسف، وقد أفصح عنه في المحيط البرهاني، حيث قال: ثم في كل موضع وجبت القسامة، وحلف القاضي خمسين رجلا فنكلوا عن الحلف حبسوا حتى يحلفوا، هكذا ذكر في الكتاب، وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه قال: لا يحبسون ولكن يقضي

بالدية على عاقلتهم في ثلاث سنين، وقال ابن أبي مالك : هذا قوله الآخر، وكان ما ذكر في هذه الرواية قول أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف الأول، إلى هنا لفظ المحيط.
ثم أقول: بقي هاهنا إشكال وهو أنه قد مر في باب اليمين من كتاب الدعوى أن من ادعى قصاصا على غيره فجحد استحلف بالإجماع، ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس يلزمه القصاص، وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد : لزمه الأرش في النفس وفيما دونها. انتهى.
فمقتضى إطلاق ذلك أن يكون موجب النكول في القسامة أيضا هو القضاء بالدية دون الحبس عند أبي يوسف ومحمد، وإن ادعى ولي القتيل القصاص مع أن المذكور في عامة الكتب أن يكون موجب النكول في القسامة هو الحبس إلى الحلف بلا خلاف فيه من أبي يوسف ومحمد، كما هو ظاهر الرواية، نعم، قد ذكر أيضا في المحيط والذخيرة. أنه روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف : أنه يقضى بالدية في القسامة أيضا عند النكول. لكن يبقى إشكال التنافي بين ما ذكر في المقامين على قول أبي يوسف في ظاهر الرواية، وعلى قول محمد مطلقا، فتأمل في الدفع (1) .
وقال أيضا على قوله: ( وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة؛ لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فتوجبه بالنص لا بالقياس) قوله فيه بحث؛ لأنه إن أراد بإطلاق النصوص إطلاقها
__________
(1) [نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار], وهو تكملة [فتح القدير] (8\388, 389).

بحسب لفظها فهو مسلم، لكن لا يجدي هنا نفعا، إذ من القواعد المقررة عندهم أن النص الوارد على خلاف القياس يختص بمورده، والنصوص فيما نحن فيه واردة على خلاف القياس كما صرحوا به، فلا بد وأن تكون مخصوصة بموردها، وهو ما إذا وجد القتيل في مكان ينسب إلى المدعى عليهم، والمدعي يدعي القتل عليهم، كما ذكر في وجه القياس، وإن أراد إطلاقها بحسب المورد أيضا فهو ممنوع، إذ لم يسمع في حق القسامة نص ورد فيما إذا ادعى الولي القتل على بعض أهل المحلة بعينه كما لا يخفى على من تتبع النصوص الواردة في هذا الباب . (1) .
المذهب المالكي:
قال الباجي : (فصل) وقوله: فإن لم يجد المدعى عليه القتل من يحلف معه حلف وحده خمسين يمينا وبرئ . . وقوله: وبرئ: يريد: برئ من الدم، وعليه جلد مائة وسجن عام، قاله مالك وابن القاسم .
وإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف، وفي النوادر: وقد ذكر ابن القاسم فيه عن مالك قولا لم يصح عند غيره؛ أن المدعى عليهم إذا ردت عليهم الأيمان فنكلوا - فالعقل عليهم في مال الجارح خاصة، ويقتص منه في الجرح، يريد: فيمن ثبت جرحه واحتيج إلى القسامة أنه من ذلك الجرح مات، وقال القاضي أبو محمد : في المدعى عليه القتل، وأتى المدعون بما يوجب القسامة، ونكلوا عن اليمين حلف المدعى عليه القتل، وتسقط عنه الدعوى نكل ففيها روايتان:
__________
(1) [نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار], وهو تكملة [فتح القدير] (8\389, 390).

إحداهما: يحبس إلى أن يحلف. والثانية: تلزمه الدية في ماله وأراه أشار لرواية ابن القاسم (فرع) فإذا قلنا: أنه يحبس إلى أن يحلف، فإن حبس وطال حبسه فقد روى القاضي أبو محمد : يخلى سبيله، وفي [العتبية]، و[الموازية]: يحبس حتى يحلف، قال ابن المواز : فقد اتفقوا على أن هذا إن نكل سجن أبدا حتى يحلف (1) .
المذهب الشافعي:
قال الشافعي في كلامه على المدعى عليهم في القسامة: ( فإذا حلفوا برئوا، وإذا نكلوا عن الأيمان حلف ولاة الدم خمسين يمينا واستحقوا الدية إن كانت عمدا، ففي أموالهم ورقاب العبيد منهم بقدر حصصهم فيها، وإن كانت خطأ فعلى عواقلهم، وإن كان ولي القتيل ادعى على اثنين منهم فحلف أحدهما وامتنع الآخر من اليمين - برئ الذي حلف وحلف ولاة الدم على الذي نكل، ثم لزمه نصف الدية في ماله إن كان عمدا، وعلى عاقلته إن كان خطأ، أنهم إنما ادعوا أنه قاتل مع غيره وسواء في النكول عن اليمين المحجور عليه وغير المحجور عليه إذا نكل منهم واحد حلف المدعى عليه ) (2) .
وقال الشافعي في (باب الإقرار والنكول والدعوى في الدم): وإذا ادعوا على عشرة فيهم صبي رفعت حصة الصبي عنهم من الدية إن استحقت، وإن نكلوا حلف ولاة الدم وأخذوا منه تسعة أعشار الدية، فإذا بلغ الصبي
__________
(1) [المنتقى] (6\61).
(2) [الأم] (6\85) في اختلاف المدعي والمدعى عليه في الدم.

حلف فبرئ أو نكل فحلف الولي وأخذ منه العشر إذا كان القتل عمدا ، قال الشافعي : وإذا ادعوا على جماعة فيهم معتوه فهو كالصبي لا يحلف ، وذلك أنه لا يؤخذ بإقراره على نفسه ، فإن أفاق من العته أحلف وتسعه اليمين بعد مسألته عما ادعوا عليه ، وإن نكل حلف ولاة الدم واستحقوا عليه حصته من الدية ، وإن ادعوا على قوم فيهم سكران لم يحلف السكران حتى يفيق ثم يحلف ، فإن نكل حلف أولياء الدم واستحقوا عليه حصته من الدية (1) .
المذهب الحنبلي :
1 - قال ابن قدامة : وإن امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا ، وعن أحمد رواية أخرى : أنهم يحبسون حتى يحلفوا وهو قول أبي حنيفة ، ولنا : أنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الأيمان ، إذا ثبت هذا فإنه لا يجب القصاص بالنكول ؛ لأنه حجة ضعيفة فلا يشاط بها الدم ، كالشاهد واليمين ، قال القاضي : ويديه الإمام من بيت المال ، نص عليه أحمد ، وروى عنه حرب بن إسماعيل : أن الدية تجب عليهم ، وهذا هو الصحيح ، وهو اختيار أبي بكر ؛ لأنه حكم ثبت بالنكول فيثبت في حقهم ها هنا كسائر الدعاوى ، ولأن وجوبها في بيت المال يفضي إلى إهدار الدم وإسقاط حق المدعين مع إمكان جبره ، فلم يجز كسائر الدعاوى ، ولأنها يمين توجهت في دعوى أمكن إيجاب المال
__________
(1) [الأم] ( 6\ 85 ، 86 ) ، وزاد : ( وإذا وجد القتيل في دار رجل وحده فقد قيل : لا يبدأ إلا بخمسين يمينا إذا ) .

بها ، فلم تخل من وجوب شيء على المدعى عليه ، كما في سائر الدعاوى ، وها هنا لو لم يجب على المدعى عليه مال بنكوله ، ولم يجبر على اليمين ؛ لخلا من وجوب شيء عليه بالكلية ، وقال أصحاب الشافعي : إذا نكل المدعى عليهم ردت الأيمان على المدعين ، إن قلنا : موجبها المال ، فإن حلفوا استحقوا ، وإن نكلوا فلا شيء لهم .
وإن قلنا : موجبها القصاص فهل ترد على المدعين ؟ فيه قولان :
وهذا القول لا يصلح ؛ لأن اليمين إنما شرعت في حق المدعى عليه إذا نكل عنها المدعي ، فلا ترد عليه كما لا ترد على المدعى عليه إذا نكل المدعي عنها بعد ردها عليه في سائر الدعوى ، ولأنها يمين مردودة على أحد المتداعيين ، فلا ترد على من ردها كدعوى المال (1) .
2 - قال ابن مفلح : وإن نكل - أي : المدعى عليه - فعنه كذلك - أي : فداه الإمام من بيت المال - وعنه : أنه يحبس حتى يقر أو يحلف ، وعنه يلزمه الدية ، وهي أظهر ، ولو رد اليمين على المدعي فليس له أن يحلف ، وفي [الترغيب] على القول بالرد فيه وجهان وهما في كل نكول عن اليمين مع القود إليها في مقام آخر ، هل له ذلك لتعدد المقام ؟ أو لا لنكوله مرة (2) .
قال علي بن سليمان المقدسي : مسألة ( 6 ، 7 ) قوله : وإن لم يرض الأولياء يمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال ، وإن نكل فعنه كذلك ، وعنه يحبسه حتى يقر أو يحلف ، وعنه تلزمه الدية ، وهي أظهر .
__________
(1) [المغني] ( 8\ 498 ) .
(2) [الفروع] ( 3\ 456 ) .

انتهى ، اشتمل كلامه على مسألتين .
المسألة الأولى : إذا طلبوا أيمانهم ونكلوا فهل يحبس حتى يقر أو يحلف أم لا ؟ أطلق الخلاف وأطلقه الزركشي :
( أحدهما ) : لا يحبس ، وهو الصحيح ، جزم به في [الهداية] و[المذهب] و[الخلاصة] ، و[المقنع] و[الهادي] و[الوجيز] وغيرهم ، وقدمه في [المغني] و[الشرح] و[النظم] و[الرعايتين] و[الحاوي الصغير] ، وغيرهم .
( الرواية الثانية ) : يحبس حتى يقر أو يحلف .
تنبيه : ظهر أن في إطلاق المصنف شيئا ، وأن الأولى أنه كان يقدم أنه لا يحبس .
المسألة الثانية : إذا قلنا : لا يحبس فهل تلزمه الدية ، أو تكون في بيت المال ؟ أطلق الخلاف وأطلق في [الهداية] و[المذهب] و[مسبوك الذهب] و[المستوعب] و[الخلاصة] و[الهادي] و[الزركشي] وغيرهم :
( إحداهما ) : تلزمه الدية ، وهو الصحيح . قال المصنف هنا : وهو أظهر ، واختاره أبو بكر ، والشريف ، وأبو الخطاب ، والشيخ الموفق وغيرهم ، وصححه الشارح ، والناظم ، وقدمه في [الرعايتين] .
والرواية الثانية : ( يكون في بيت المال قدمه في [المحرر] و[الحاوي الصغير] ) (1)
__________
(1) [الفروع] ( 3\ 456 ) . .

الثامن : ذكر خلاف العلماء فيما يثبت بالقسامة من قود أو دية وذكر مستند كل مع المناقشة :
اختلف القائلون بمشروعية القسامة :
فمنهم من ذهب إلى أن القسامة توجب القود ، ومنهم : من ذهب إلى أنه لا يجب بها إلا الدية .
أما القائلون بوجوب القود فقالوا : إن دعوى القتل إما أن تكون موجهة على أنه عمد أو خطأ ، فإذا كان القتل خطأ فليس فيه إلا الدية اتفاقا ، وإذا كان القتل عمدا :
أ- فقال الأبي ( ع ) : وعلى إثباتها فالمستحق بها في الخطأ الدية ، واختلف في العمد ، فقال مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه : يجب فيها القصاص (1) .
ب- وقال النووي : نقلا عن القاضي عياض : واختلف القائلون بها فيما إذا كان القتل عمدا هل يجب القصاص بها ؟ فقال معظم الحجازيين : يجب ، وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود ، وهو قول الشافعي في القديم وروي عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز ، قال أبو الزناد : قلنا بها وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون ، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان (2) .
__________
(1) [الأبي] ( 4\ 395 ) .
(2) [شرح النووي على مسلم] ( 11\ 143 ، 144 ) ، ويرجع أيضا إلى [المغني] ( 8\ 416 ) .

ج- وقال ابن مفلح : ويجب القود في قسامة العمد بشرطه ، نص عليه كسائر قتل العمد ، قال أحمد : الذي يدفع القتل في هذا قد يبيحه بأيسر منه فيبيحه بغلبة الظن ، فلو حمل عليه السلاح ليأخذ متاعه أليس دمه هدرا ؟ وإنما هو شيء وقع في نفسه لم ينله بشيء ، فكذا بما دفع في أنفسهم وعرفوه ويقسمون عليه (1) .
د- وأجاب شيخ الإسلام - رحمه الله - عن سؤال وجه إليه فقال : إذا شهد لأولياء المقتول شاهدان ولم يثبت عدالتهما فهذا لوث إذا حلف معه المدعون خمسين يمينا - أيمان القسامة - على واحد بعينه حكم لهم بالدم ، وإن أقسموا على أكثر من واحد ففي القود نزاع ، وأما إن ادعوا أن القتل كان خطأ أو شبه عمد ، مثل : أن يضربوه بعصا ضربا لا يقتل مثله غالبا ، فهنا إذا ادعوا على الجماعة أنهم اشتركوا في ذلك فدعواهم مقبولة ، ويستحقون الدية (2) .
واحتجوا على ذلك بالسنة والأثر :
أما السنة :
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم .
قال الباجي : نص على أن المستحق هو الدم ، ولا خلاف أنه أظهر في القصاص (3) .
وقال ابن قدامة : أراد دم القاتل ، لأن دم القتيل ثابت لهم قبل
__________
(1) [الفروع] ( 3\ 454 ) .
(2) [مجموع الفتاوى] ( 34\ 150 ، 151 ) .
(3) [المنتقى شرح الموطأ] ( 7\ 55 ) .

اليمين (1) .
وأجيب عن الاستدلال بهذا الحديث بما يأتي :
1 - أجاب محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة عنه بقوله : إنما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم » (2) يعني : بالدية ليس بالقود ، وإنما يدل ذلك على أنه إنما أراد الدية دون القود ، قوله في أول الحديث : « إما أن تدوا صاحبكم ، وإما أن تؤذنوا بحرب » (3) فهذا يدل على آخر الحديث وهو قوله : « أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم » (4) لأن الدم قد يستحق بالدية كما يستحق بالقود ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لهم : تحلفون وتستحقون دم من ادعيتم ، فيكون هذا على القود ، وإنما قال لهم : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم فإنما عنى به : تستحقون دم صاحبكم بالدية ؛ لأن أول الحديث يدل على ذلك وهو قوله : إما أن تدوا صاحبكم ، وإما أن تؤذنوا بحرب وقد قال عمر بن الخطاب : القسامة توجب العقل ، ولا تشيط الدم في أحاديث كثيرة فبهذا نأخذ ، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا (5) .
2 - وأجاب السرخسي بقوله : أما قوله : « أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم » (6) فلا تكاد تصح هذه الزيادة ، وقد قال جماعة من أهل الحديث : أوهم سهل بن أبي حثمة ، ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم » (7) (8) .
__________
(1) [المغني] ( 8\ 497 ) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677).
(3) صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),موطأ مالك القسامة (1630).
(4) صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677).
(5) [الموطأ] رواية محمد بن الحسن الشيباني ، صـ 297 ، 298 ، ويرجع أيضا إلى [السنن الكبرى] للبيهقي ( 8\ 127 ) و[معالم السنن] للخطابي ( 6\ 317 ) .
(6) صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677).
(7) صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677).
(8) [المبسوط] ( 26\ 8109 ) .

3 - وأجاب أيضا بقوله : ( ولو ثبت فإنما قال ذلك على طريق الإنكار لا على طريق الأمر لهم بذلك ، فإنه لو كان على سبيل الأمر لكان يقول : أتحلفون فتستحقون دم صاحبكم ) فأما قوله : أتحلفون وتستحقون ؟ فعلى سبيل الإنكار ، كقوله تعالى : { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ } (1) { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ } (2) الآية ، وكذلك قوله : تحلفون معناه : أتحلفون ، كقوله تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } (3) معناه : أتريدون ، وكان - عليه الصلاة والسلام - رأى منهم الرغبة في حكم الجاهلية حين أبوا أيمان اليهود بقولهم : ( لا نرضى بأيمان قوم كفار ) فقال ذلك على سبيل الزجر ، فلما رأوا كراهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك رغبوا عنه بقولهم : كيف نحلف على أمر لم نعاين ولم نشاهد (4) . وقد أيد ذلك الطحاوي (5) .
4 - وأجاب أيضا بقوله : ( ثم يحتمل أن يكون اليهود ادعوا عليهم بنقل القتيل من محلة أخرى إلى محلتهم فصاروا مدعى عليهم فلهذا عرض عليهم اليمين (6) .
وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : « يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته » (7) .
قال القاضي عياض : أي : بالحبل الذي ربط به هذا أصله ثم استعمل فيمن دفع للقود (8) .
__________
(1) سورة الشعراء الآية 165
(2) سورة الشعراء الآية 166
(3) سورة الأنفال الآية 67
(4) [المبسوط] ( 26\ 8109 ) .
(5) [شرح معاني الآثار] ( 3\ 302 ) وما بعدها .
(6) [المبسوط] ( 26\ 8109 ) .
(7) صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4520),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353).
(8) [مشارق الآثار على صحاح الآثار] ( 1\ 291 ) .

وقال ابن دقيق العيد : يستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل ، ولو أن الواجب الدية لبعد استعمال هذا اللفظ فيها وهو في استعماله في تسليم القاتل أظهر (1) .
وقال ابن قدامة بعد أن ذكره دليلا لوجوب الدم قال : والرمة : الحبل الذي يربط به من عليه القود (2) .
وأجيب عن الاستدلال بهذا الدليل : بقول النووي : وتأوله القائلون لا قصاص بأن المراد أن يسلم ؛ ليستوفي منه الدية ؛ لكونه ثبتت عليه (3) .
ومن ذلك ما رواه أبو داود ، عن عمرو بن شعيب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك .
ومن هذا الطريق رواه البيهقي (4) ، وأورده المنذري ، وبناء على هذا الطريق : فقد أعله البيهقي بالانقطاع ، والمنذري بقوله : ( هذا معضل ، وعمرو بن شعيب اختلف في الاحتجاج بحديثه ) .
ويجاب عن هذا الاعتراض بوجوه :
أحدها : أن هذا الحديث ورد في [سنن أبي داود ] هكذا : حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد ، قالا : نا ، ح ، ونا محمد بن الصباح بن سفيان أنا الوليد ، عن أبي عمرو ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر الحديث (5) .
__________
(1) [إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام] ، وعليه [العدة] ( 4\ 311 ) ، و[المغني] ( 8\ 77 ) .
(2) [المغني] ( 8\ 77 ) .
(3) [شرح النووي على مسلم] ( 11\ 149 ) .
(4) [السنن الكبرى] للبيهقي ( 8\ 127 ) .
(5) [بذل المجهود في حل أبي داود] توزيع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض ( 18\ 38 ، 39 ) ويرجع أيضا إلى [أحكام القرآن] لابن العربي ( 1\ 12 ) ، و[الجامع لأحكام القرآن] للقرطبي ( 1\ 459 ) ، و[سنن الدارقطني] ( 2\ 310 ) .

الثاني : أن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حجة . قال بذلك ابن العربي (1) والدارقطني وابن عبد البر (2) ، قال البخاري : رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به (3) .
ومنها : ما أخرجه مسلم والنسائي من طريق الزهري عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أن القسامة كانت في الجاهلية ، وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر . » (4)
واعترض عليه بقول ابن حجر : وهذا - أي : الاستدلال بهذا الحديث على القود - يتوقف على ثبوت أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون في القسامة (5) . ويجاب عن هذا : بقول البيهقي : أخبرنا أبو الحسن بن عبد الله ، أنبأنا أحمد بن عبيد ، حدثنا ابن ملحان ، حدثنا يحيى هو ابن بكير ، أنبأنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار ، عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم ، فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في الجاهلية ، وقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أناس من الأنصار من بني حارثة ادعوا على اليهود » (6) (7) .
__________
(1) [أحكام القرآن] ( 1\ 12 ) .
(2) [الجامع لأحكام القرآن] ( 1\ 459 ) .
(3) [سنن الدارقطني] ( 2\ 310 ) .
(4) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1670),سنن النسائي القسامة (4708),مسند أحمد بن حنبل (4/62).
(5) [فتح الباري] ( 12\ 198 ) .
(6) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1670),سنن النسائي القسامة (4708),مسند أحمد بن حنبل (4/62).
(7) [السنن الكبرى] للبيهقي ( 8\ 122 ) .

وأما الأثر :
فمن ذلك ما ذكره البيهقي قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الرفاء البغدادي بخسروجرد ، أنبأ أبو عمرو عثمان بن بشر ، ثنا إسماعيل بن إسحاق ، ثنا إسماعيل بن أبي أويس وعيسى بن مينا قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد : أن أباه قال : كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهي إلى قولهم ، يعني : من أهل المدينة يقولون : يبدأ باليمين في القسامة الذين يجيئون من الشهادة على اللطخ والشبهة الخفية ما لا يجيء خصماؤهم وحيث كان ذلك كانت القسامة لهم . قال أبو الزناد : وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت : أن رجلا من الأنصار قتل وهو سكران رجلا ضربه بشوبق ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبهة ذلك وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن فقهاء الناس ما لا يحصى ، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا ، فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا ، وكانوا يخبرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالقسامة ويرونها للذي يأتي به من اللطخ والشبهة أقوى مما يأتي به خصمه ، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره . ثم قال البيهقي : ( ورواه ابن وهب عن ابن أبي الزناد وزاد فيه : أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص إن كان ما ذكرنا له حقا أن يحلفنا على القاتل ثم يسلم إلينا . أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا بحر بن نصر ، ثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد : أن هشام بن عروة أخبره أن رجلا من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينهم وبين رجل من آل صهيب منازعة فذكر الحديث في قتله قال : فركب يحيى بن عبد الرحمن

ابن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب فثنى عليهم الأيمان ، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما ، فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد ليقتلوه ، فحلفوا على الصهيبي فقتلوه . قال هشام : فلم ينكر ذلك عروة ، ورأى أن قد أصيب فيه الحق . وروينا فيه عن الزهري وربيعة ويذكر عن ابن أبي مليكة عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير أنهما أقادا بالقسامة ) (1) اهـ كلام البيهقي .
وما ذكره عن أبي الزناد من القتل بالقسامة بمحضر عدد كبير من الصحابة - رضي الله عنهم - ذكره القاضي عياض بلفظ : ( وقتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون ، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان ) وقد علق الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله : ( قلت : إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت ، كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلا عن ألف ) (2) .
وأما ما ذكره البيهقي عن معاوية أنه أقاد بالقسامة ، فقد نقل الحفاظ عن ابن بطال أنه قال : وصح عن معاوية بن أبي سفيان أنه أقاد بالقسامة ، ذكر ذلك عن أبي الزناد في احتجاجه على أهل العراق ، ثم قال الحافظ بن حجر العسقلاني : ( قلت : هو في صحيفة عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، ومن طريقه أخرجه البيهقي قال : - أي : أبو الزناد - حدثني خارجة بن زيد بن ثابت
__________
(1) [السنن الكبرى] ( 8\ 137 ) .
(2) [فتح الباري] ( 12\ 197 ) .

قال : قتل رجل من الأنصار رجلا من بني العجلان ولم يكن على ذلك بينة ولا لطخ - فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه ، فركبت إلى معاوية في ذلك ، فكتب إلى سعيد بن العاص : إن كان ما ذكره حقا ، فافعل ما ذكروه ، فدفعت الكتاب إليه فأحلفنا خمسين يمينا ثم أسلمه إلينا ) (1) .
وقد جمع الحافظ بين ما رواه حماد بن سلمة في [مصنفه] ومن طريق ابن المنذر قال : عن ابن أبي مليكة : سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة ، فأخبرته : أن عبد الله بن الزبير أقاد بها ، وأن معاوية - يعني : ابن أبي سفيان - لم يقد بها ، وهذا سند صحيح ، وجاء في باب القسامة من [صحيح البخاري ] بلفظ : ( وقال ابن أبي مليكة : لم يقد بها معاوية ) جمع الحافظ بين هذا وبين ما تقدم عن معاوية أنه أقاد بها ، بقوله : ( قلت : يمكن الجمع بأن معاوية لم يقد بها لما وقعت له وكان الحكم في ذلك ، ولما وقعت لغيره وكل الأمر في ذلك إليه ونسب إليه أنه أقاد بها لكونه أذن في ذلك ) قال : ( ويحتمل أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثم رجع عن ذلك أو بالعكس ) (2) .
وأما ما ذكره البيهقي عن ابن الزبير أنه أقاد بالقسامة ، فقد قال ابن حزم : ( صح عنه من أجل إسناد أنه أقاد بالقسامة وأنه رأى القود بها في قتيل وجد ، وأنه رأى الحكم للمدعين بالأيمان ، وأنه رأى أن يقاد بها من الجماعة للواحد ، وروى ذلك عنه أوثق الناس سعيد بن المسيب ، وقد شاهد تلك
__________
(1) [فتح الباري] ( 12\ 193 ) .
(2) المرجع السابق ( 12\ 193 ) .

القصة كلها عبد الله بن أبي مليكة قاضي ابن الزبير ) (1) .
أما ما ذكره البيهقي عن عمر بن عبد العزيز أنه أقاد بالقسامة ، فقد قال ابن حزم : ( صح عنه - أي : عن عمر بن عبد العزيز - أنه أقاد بالقسامة صحة لا مغمز فيها (2) .
وقد مضت مناقشة ما نقل عن معاوية وعمر بن عبد العزيز عند الكلام عن حكم القسامة .
وقال النووي نقلا عن القاضي عياض : وقال الكوفيون والشافعي - رضي الله عنه - في أصح قوليه : لا يجب بها القصاص ، وإنما تجب الدية ، وهو مروي عن الحسن البصري والشعبي والنخعي وعثمان الليثي (3) والحسن بن صالح ، وروي أيضا عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية - رضي الله عنهم - (4) .
واحتجوا لذلك بالسنة والأثر :
أما السنة : ما رواه مالك في [الموطأ] عن ابن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل ، عن سهل بن أبي حثمة ، أنه أخبره رجال من كبراء قومه : « أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتى محيصة فأخبر : أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير بئر أو عين ، فأتى يهود فقال : أنتم والله قتلتموه ، فقالوا : والله ما قتلناه ، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك ، ثم أقبل هو وأخوه حويصة ، وهو أكبر منه ،
__________
(1) [المحلى] ( 11\ 70 ) .
(2) [المحلى] ( 11\ 111 ) .
(3) كذا في الأصول .
(4) [شرح النووي على مسلم] ( 11\ 144 ) ، ويرجع أيضا إلى [المغني] ( 8\ 416 ) .

وعبد الرحمن ، فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كبر كبر يريد : السن ، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يأذنوا بحرب فكتب إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فكتبوا : إنا والله ما قتلناه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ فقالوا : لا ، قال : أفتحلف لكم يهود ؟ قالوا : ليسوا مسلمين . فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده ، فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار » (1) ، قال سهل : لقد ركضتني منها ناقة حمراء ) (2) .
قال القرطبي : ( قالوا : - أي : الذين لا يرون سوى الدية في القسامة - هذا يدل على الدية لا على القود ) (3) .
ومنها : ما رواه البخاري في ( باب القسامة ) قال : ( حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي ، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان ، حدثني أبو رجاء من آل أبي قلابة : حدثني أبو قلابة ، أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا ، فقال : ما تقولون في القسامة ؟ قالوا : نقول : القسامة القود بها حق وقد أقاد بها الخلفاء (4) . قال لي : ما تقول يا أبا قلابة ونصبني للناس ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب ، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن النسائي القسامة (4710),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353).
(2) [الموطأ بشرح الزرقاني] ( 4\ 52 ) من رواية يحيى الليثي .
(3) [الجامع لأحكام القرآن] ( 1\ 159 ) .
(4) المراد بالخلفاء هنا : معاوية وعبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان ، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] ( 2\ 201 ) .

على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه أكنت ترجمه ؟ قال : لا ، قلت : أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه ولم يروه ؟ قال : لا ، قلت : فوالله ما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا قط إلا في ثلاث ، فقال : رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، أو رجل زنى بعد إحصان ، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام . إلى آخر الحديث (1) .
ووجه الاستدلال من هذا الحديث الطويل : ما جاء في رواية أبي قلابة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم .
__________
(1) [صحيح البخاري] ( 12\200-204 ) .

وأما قصة الهذليين فليس فيها تصريح بما صنع عمر هل أقاد بالقسامة أو حكم بالدية ؟ كذا في [فتح الباري] ( 12\ 204 ) ثم وجدنا في [مصنف عبد الرزاق ] ( 10\ 48 ) ما يدل على أن عمر حكم بالدية في هذه القضية ، فقد روى عبد الرزاق في ( باب الخلع ) عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال : ( خلع قوم هذليون سارقا منهم كان يسرق الحاج ، قالوا : قد خلعناه فمن وجده يسرق فدمه هدر ، فوجدته رفقة من أهل اليمن يسرقهم ، فقتلوه ، فجاء قومه عمر بن الخطاب فحلفوا بالله : ما خلعناه ، ولقد كذب الناس علينا ، فأحلفهم عمر خمسين يمينا ، ثم أخذ عمر بيد رجل من الرفقة فقال : أقرنوا هذا إلى أحدكم حتى تؤتوا بدية صاحبكم ، ففعلوا ، فانطلقوا حتى دنوا من أرضهم . . . أصابهم مطر شديد فاستنزوا بجبل طويل وقد أمرسوا ، فلما نزلوا كلهم انقض الجبل عليهم فلم ينج منهم أحد ولا من ركابهم إلا التريك وصاحبه ، فكان يحدث بما لقي قومه ) اهـ .

ومما أجيب به عن قوله - صلى الله عليه وسلم - للحارثيين : « إما أن تدوا صاحبكم ، وإما أن تؤذنوا بحرب » (1) .
وما ذكره الباجي قال : يحتمل أن يريد بقوله : أن تدوا صاحبكم إعطاء الدية ؛ لأنه قد جرى في كلام الحارثيين أنهم طلبوا الدية دون القصاص ، ويحتمل أنهم لم يكونوا ادعوا حينئذ قتله عمدا ، ويحتمل أنهم لما لم يعينوا القاتل ، وإنما قالوا : إن بعض يهود قتله ، ولا يعرف من هو - لم يلزم في ذلك قصاص ، وإنما يلزم فيه الدية ، كالقتيل بين الصفين لا يعرف من قتله ، ولا يقول : دمي عند فلان ، ولا يشهد شاهد بمن قتله ، فإن ديته على الفرقة المنازعة له دون قسامة ؛ ولذلك لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بالقسامة في هذا المقام ، ولعل هذا كان يكون الحكم إن لم يقطع يهود بأنها لم تقتل ولم تنف ذلك عن أنفسها وتقول : لا علم لنا ، وإنما أظهر في المقام ما يجب من الحق إن لم يقع النفي للقتل الموجب للقسامة أن عليهم أن يؤدوا الدية ، فإن امتنعوا من الواجب عليهم في ذلك فلا بد من محاربتهم في ذلك حتى يؤدوا الحق ويلتزموا من ذلك حكم الإسلام (2) . اهـ .
ومنهم من طعن في هذا الحديث لما جاء فيه : وإما أن تؤذنوا بحرب قال الخطابي : وقد أنكر بعض الناس قوله : وإما أن تؤذنوا بحرب وقال : إن الأمة على خلاف هذا القول ، فدل على أن خبر القسامة غير معمول به .
وقد أجاب الخطابي عن هذا بقوله بعد ما ذكرت ( قلت : ووجه الكلام بين ، وتأويله صحيح ، وذلك أنهم إذا امتنعوا من القسامة ولزمتهم الدية
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),موطأ مالك القسامة (1630).
(2) [المنتقى شرح الموطأ] ( 8\ 53 ) .

فأبوا أن يؤدوها إلى أولياء الدم أوذنوا بحرب كما يؤذنون بها إذا منعوا الجزية ) (1) .
وأما استدلال أبي قلابة بترك القود بالقسامة ، لقوله : « فوالله ما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا قط إلا في ثلاث خصال : رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، أو رجل زنى بعد إحصان ، ورجل حارب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وارتد عن الإسلام » (2) . فقد قال فيه الحافظ ابن حجر : ( لم يظهر لي وجه استدلال أبي قلابة بأن القتل لا يشرع إلا في الثلاث لرد القود بالقسامة مع أن القود قتل نفس بنفس وهو أحد الثلاثة ، وإنما النزاع في الطريق إلى ثبوت ذلك ) (3) .
وأما قول أبي قلابة : « وقد كان في هذا سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليه نفر من الأنصار فتحدثوا عنده فخرج رجل منهم بين أيديهم فقتل ، فخرجوا بعده فإذا هم بصاحبهم يتشحط في الدم ، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله ، صاحبنا كان تحدث معنا فخرج بين أيدينا ، فإذا نحن به يتشحط في الدم ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : من تظنون أو ترون قتله ؟ قالوا : نرى أن اليهود قتلته ، فأرسل إلى اليهود فدعاهم ، فقال : أنتم قتلتم هذا قالوا : لا ، قال : أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه ؟ فقالوا : ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون ، قال : فتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم ؟ قالوا : ما كنا لنحلف ، فوداه من عنده - قلت : وقد كانت هذيل خلعوا خليعا لهم في الجاهلية فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء
__________
(1) [معالم السنن] للخطابي ( 6\ 318 ) ط \ مطبعة السنة المحمدية ، ومعه في الطبع [مختصر المنذري] و[تهذيب السنن] لابن القيم .
(2) صحيح البخاري الديات (6503).
(3) [فتح الباري] ( 12\ 204 ) .

فانتبه له رجل منهم فحذفه بالسيف فقتله ، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني فرفعوه إلى عمر بالموسم » (1) إلخ .
فقد أجاب البيهقي عن ذلك بقوله : ( وحديث - أي : أبي قلابة - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القتيل مرسل ، وكذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة الهذلي (2) .
ومما استدلوا به من السنة : ما رواه أبو داود في المراسيل ، عن هارون بن زيد عن أبي الزرقاء عن أبيه عن محمد بن راشد بن مكحول : « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقض في القسامة بقود » . ومن هذا الطريق أخرجه البيهقي في باب ترك القود بالقسامة ، قال : أخبرنا محمد بن محمد ، أنبأنا الفسوي ، ثنا اللؤلؤي ، ثنا أبو داود فذكره (3) .
والجواب عن هذا الحديث : أنه منقطع ، قال ابن القيم : وأما حديث محمد بن راشد المكحول عن مكحول : « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقض في القسامة بقود » - فمنقطع (4) .
وما رواه أحمد وأبو داود الطيالسي وإسحاق بن راهويه والبزار في [مسانيدهم] والبيهقي في [سننه] من طريق أبي إسرائيل الملائي ، واسمه : إسماعيل بن إسحاق عن عطية عن أبي سعيد الخدري : « أن قتيلا وجد بين حيين ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أقربهما فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر » (5) ، قال الخدري : كأني أنظر إلى شبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى ديته عليهم ، ورواه
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6503).
(2) [السنن الكبرى] ( 8\ 129 ) .
(3) المرجع السابق ( 8\ 129 ) .
(4) [تهذيب سنن أبي داود] ( 6\ 352 ) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/89).

ابن عدي والعقيلي في كتابيهما بلفظ : فألقى ديته على أقربهما (1) .
والجواب قد أعله ابن عدي والعقيلي في كتابيهما بأبي إسرائيل ، فضعفه ابن عدي عن قوم ووثقه عن آخرين ، وقال فيه البزار : أبو إسرائيل قال النسائي فيه : ليس بثقة ، كان يسب عثمان - رضي الله عنه - قال : وثقه ابن معين (2) .
وقال ابن حجر : قال العقيلي : لا أصل له (3) .
وقال ابن حزم : هالك ؛ لأنه انفرد به عطية بن سعيد العوفي ، وهو ضعفه هشيم وسفيان الثوري ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل ، وما ندري أحدا وثقه ، وذكر عن أحمد بن حنبل : أنه كان يأتي الكلبي الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث ثم يكنيه بأبي سعيد ، ويحدث بها عن أبي سعيد فيوهم الناس أنه الخدري ، وهذا من تلك الأحاديث . والله أعلم ، فهو ساقط ، ثم أيضا من رواية أبي إسرائيل الملائي هو إسماعيل بن إسحاق فهو بلية عن بلية ، والملائي هذا ضعيف جدا ، وليس في الذرع بين القريتين خبر غير هذا لا مسندا ولا مرسلا (4) .
وقال البيهقي تحت عنوان ( باب ما روي في القتيل يوجد بين القريتين ولا يصح ) : أخبرنا أبو بكر بن فورك ، أنبأنا عبد الله بن جعفر ، ثنا يونس بن حبيب ، ثنا أبو داود ، ثنا أبو إسرائيل عن عطية عن أبي سعيد : « أن قتيلا
__________
(1) [نصب الراية] ( 4\ 396 ) .
(2) المرجع السابق ( 4\ 396 ، 397 ) .
(3) [التلخيص الحبير] ( 4\ 39 ) .
(4) [المحلى] ( 11\ 86 ) .

وجد بين حيين فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أيهما أقرب ، فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر » (1) ، قال أبو سعيد : كأني أنظر إلى شبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى ديته عليهم . وأخبرنا أبو سعد الماليني ، أنبأ أبو أحمد بن عدي ، أنبأ الفضل ابن الحباب ، ثنا أبو الوليد الطيالسي عن أبي إسرائيل الملائي بنحوه .
تقول به أبو إسرائيل عن عطية العوفي .
وكلاهما لا يحتج بروايتهما . اهـ نص كلامه في [السنن الكبرى] (2) . وقال في [المعرفة] : ( إنما روى هذا الحديث أبو إسرائيل الملائي عن عطية العوفي ، وكلاهما ضعيف ) اهـ (3) .
وقال ابن القيم : ( وأما حديث أبي سعيد الخدري : « أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أيهما أقرب فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر فألقى ديته عليهم » (4) - فرواه أحمد في [مسنده] وهو من رواية أبي إسرائيل الملائي عن عطية العوفي فيه ضعف ) . اهـ . (5) .
ولو لم يكن في إسناد هذا الحديث سوى البلية أبي إسرائيل لكفى ذلك في تضعيفه ، فقد قال ابن عدي : حدثنا الآجري ، حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا عفان قال : قال لي بهز : قال لي أبو إسرائيل الملائي : عثمان كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، روى ذلك الحافظ الذهبي
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/89).
(2) [السنن الكبرى] ( 8\ 126 ) .
(3) [نصب الراية] ( 4\ 397 ) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (3/89).
(5) [تهذيب السنن] ( 6\ 325 ) قال : ( ومع هذا فليس فيه ما يضاد حديث القسامة ، وقد ذهب إليه أحمد في رواية حكاها في كتابه ) .

عن ابن عدي بسنده إليه (1) .
هذا وعند ابن عدي هذا الحديث أيضا من رواية الصبي بن أشعث بن سالم السلولي ، سمعت عطية العوفي عن الخدري به ، ولكن الصبي هنا لينه ابن عدي ، وقال : إن في بعض حديثه ما لا يتابع عليه ، قال : ولم أر للمتقدمين فيه كلاما ، ورواه عن عطية أبو إسرائيل . اهـ (2) .
وقال ابن القيم : لا تجوز معارضة الأحاديث الثابتة بحديث من قد أجمع علماء الحديث على ترك الاحتجاج به ، وهو ابن صبيح الذي لم يسفر صباح صدقه (3) .
وأما الآثار :
فمنها ما ذكره ابن حزم قال :
قال ابن أبي شيبة : نا عبد السلام بن حرب عن عمرو هو ابن عبيد عن الحسن البصري ، أن أبا بكر والجماعة الأولى لم يكونوا يقيدون بالقسامة (4) .
وما ذكره البيهقي قال : أخبرنا أبو بكر الأردستاني ، أنبأنا أبو نصر العراقي ، أنبأنا سفيان بن محمد الجوهري ، ثنا علي بن الحسن ، ثنا عبد الله بن الوليد ، ثنا سفيان عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : القسامة توجب العقل ولا تشيط
__________
(1) [ميزان الاعتدال] ( 4\ 390 ) .
(2) [نصب الراية] ( 4\ 397 ) .
(3) [تهذيب السنن] ( 6\ 324 ) .
(4) [المحلى] لابن حزم ( 11\ 65 ) ، وفي [عمدة القاري] للعيني ( 10\ 213 ) طبعة \ دار الطباعة العامرة ، ما نصه : وروى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سليمان عن الحسن : أن أبا بكر وعمر والجماعة الأول لم يكونوا يقتلون بالقسامة . اهـ .

الدم (1) .
وما ذكره ابن حزم : قال أبو بكر بن أبي شيبة ، نا وكيع ، نا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : ( انطلق رجلان من أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب فوجداه قد صدر عن البيت عامدا إلى منى فطاف بالبيت ، ثم أدركاه فقصا عليه قصتهما ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، إن ابن عم لنا قتل ، نحن إليه شرع سواء في الدم ، وهو ساكت لا يرجع إليهما شيئا حتى ناشداه الله ، فحمل عليهما ، ثم ذكراه الله فكف عنهما ، قال عمر بن الخطاب : ويل لنا إذا لم نذكر بالله ، وويل لنا إذا لم نذكر الله . فيكم شاهدان ذوا عدل يجيئان به على من قتله فنقيدكم منه . وإلا حلف من بيدكم بالله : ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا ، فإن نكلوا حلف منكم خمسون ثم كانت لكم الدية . إن القسامة قد تستحق بها الدية ولا يقاد بها (2) .
وما ذكره ابن حجر قال : أخرج الثوري في [جامعه] وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي قال : وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمر : قيسوا ما بينهما ، وأيهما وجدتموه إليه أقرب ، فحلفوهم خمسين يمينا وأغرموهم الدية . وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن منصور عن الشعبي : أن عمر كتب في قتيل بين خيوان ووادعة أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسون رجلا حتى يوافوه مكة فأدخلهم الحجر ، فأحلفهم ثم قضى عليهم بالدية فقال : حقنت
__________
(1) [السنن الكبرى] ( 8\ 129 ) .
(2) نقله ابن حزم عن ابن أبي شيبة في [المحلى] ( 11\ 65 ) .

أيمانكم دماءكم ولا يطل دم رجل مسلم (1) .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن عمرو وغيره عن الحسن قال : يستحقون بالقسامة الدية ، ولا يستحقون بها الدم (2) .
ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق عن معمر قال : قلت لعبد الله بن عمر العمري : أعلمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة ؟ قال : لا ، قلت : فأبو بكر . قال : لا ، قلت : فعمر ؟ قال : لا ، قلت : فلم تجترئون عليها ؟ فسكت (3) .
والجواب عنه :
أولا : أنه معارض بما أخرجه أبو عوانة في [صحيحه] وأصله عند الشيخين من طريق حماد بن زيد عن أيوب وحجاج الصواف عن أبي رجاء : أن عمر بن عبد العزيز استشار الناس في القسامة فقال قوم : هي حق قضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقضى بها الخلفاء .
وثانيا : أن من قال : إنه قضى بها مثبت ، ومن قال : لم يقض بها ناف ، والمثبت معه زيادة علم فيقدم على النافي .
وثالثا : كونه لا يعلم ، لا يلزم منه عدم الوقوع ، فعدم علمه ليس بدليل .
ورابعا : هو معلول بالإرسال ، قال ابن حزم : لا يصح ؛ لأنه مرسل ، إنما هو عن عبيد الله بن عمر بن حفص .
وما أخرجه الدارقطني ، ومن طريقه البيهقي ، قال الدارقطني : نا محمد بن القاسم بن زكريا ، نا هشام بن يونس ، نا محمد بن يعلى ، عن
__________
(1) [فتح الباري] ( 12\ 198 ، 199 ) .
(2) [المصنف] ( 10\ 41 ) .
(3) [فتح الباري] ( 12\ 199 ) .

عمر بن صبيح ، عن مقاتل بن حيان ، عن صفوان بن سليم ، عن سعيد بن المسيب : أنه قال : لما حج عمر حجته الأخيرة التي لم يحج غيرها ، غودر رجل من المسلمين قتيلا في بني وادعة ، فبعث إليهم عمر ، وذلك بعدما قضى النسك ، فقال لهم : هل علمتم لهذا القتيل قاتلا منكم ؟ قال القوم : لا ، فاستخرج منهم خمسين شيخا ، فأدخلهم الحطيم ، فاستحلفهم بالله رب هذا البيت الحرام ، ورب هذا البلد الحرام ، ورب هذا الشهر الحرام أنكم لم تقتلوه ، ولا علمتم له قاتلا ، فحلفوا بذلك ، فلما حلفوا قال : أدوا دية مغلظة في أسنان الإبل أو من الدنانير والدراهم دية وثلثا ، فقال رجل منهم ، يقال له : سنان : يا أمير المؤمنين ، أما تجزيني من مالي ؟ قال : لا ، إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فأخذ ديته دنانير دية وثلث دية (1) .
والجواب عن هذا الحديث : بأن فيه عمر بن صبيح ، وهو متروك ، قال ذلك الدارقطني والبيهقي وابن القيم ، فقال الدارقطني : في سنده عمر بن صبيح ، متروك (2) .
وقال البيهقي : رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني : قوله : ( إنما قضيت فيكم بقضاء نبيكم ) منكر ، وهو مع انقطاعه من رواية من أجمعوا على تركه (3) . ونقل الزيلعي عن البيهقي أنه قال في كتاب [المعرفة] : أجمع أهل الحديث على ترك الاحتجاج بعمر بن صبيح ، وقد خالفت روايته هذه
__________
(1) [سنن الدارقطني] ( 2\ 355 ) .
(2) المرجع السابق ( 2\ 355 ) .
(3) [السنن الكبرى] ( 8\ 125 ) .

رواية الثقات الأثبات (1) .
وذكر ابن حزم : أن ذلك صحيح عن الحسن ونصه : وأما الحسن فصح عنه أنه قال : لا يقاد بالقسامة ، لكن يحلف المدعى عليهم بالله : ما فعلنا ، ويبرءون ، فإن نكلوا حلف المدعون وأخذوا الدية ، هذا في القتيل يوجد ، كما ذكر ابن حزم أنه صح عن قتادة : أن القسامة تستحق بها الدية ولا يقاد بها . اهـ (2) .
والجواب عن هذه الآثار ما يأتي :
أما ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد السلام بن حرب عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري : أن أبا بكر والجماعة الأولى لم يكونوا يقيدون بالقسامة فهو مرسل . قال : إنه لا يصح ، لأنه عن الحسن وفي طريق الحسن عبد السلام بن حرب (3) .
وأما ما رواه الثوري عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن : أن عمر بن الخطاب قال : القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم - فقد قال البيهقي فيه : ( هذا منقطع ) (4) ، وقال ابن القيم : أما ما رواه الثوري في [جامعه] عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم - فمنقطع موقوف (5) . اهـ كلام
__________
(1) [نصب الراية] ( 4\ 395 ) .
(2) [المحلى] ( 11\ 70 ، 71 ) .
(3) المرجع السابق ( 11\ 69 ) .
(4) [السنن الكبرى] ( 8\ 129 ) .
(5) [تهذيب السنن] ( 6\ 324 ) .

ابن القيم .
وقد رواه ابن أبي شيبة ، ومن طريقه ابن حزم قال ابن أبي شيبة : نا وكيع ، نا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : انطلق رجلان من أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب ، فذكر الحديث المتقدم ، وفيه : ( أن القسامة تستحق بها الدية ولا يقاد بها ) .
ثم ذكر ابن حزم : في رواية القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عمر بن الخطاب منقطعة قال : لم يولد والد القاسم إلا بعد موت عمر ) (1) .
وأما الأثر الذي أخرجه الثوري في [جامعه] وابن أبي شيبة عن منصور بسند صحيح إلى الشعبي : أنه وجد قتيل بين حيين من العرب ، فقال : عمر : قيسوا ما بينهما ، الحديث ، وأخرجه الشافعي ، وفي روايته : تسمية الحيين : خيوان ووادعة - فقد قال فيه ابن حزم : ( إنه مرسل ؛ لأنه عن عمر من طريق الشعبي ولم يولد إلا بعد موت عمر بأزيد من عشرة أعوام أو نحوها ) (2) .
وقال البيهقي في الجواب عنه من ناحية ما فيه من مخالفة النصوص الدالة على البدء بولاة الدم في الأيمان - قال : أما الأثر الذي أخبرنا أبو حازم الحافظ ، أنبأ أبو الفضل بن خميرويه ، أنبأ أحمد بن نجدة ، ثنا سعيد بن منصور ، ثنا أبو عوانة عن مغيرة عن عامر - يعني : الشعبي - أن قتيلا وجد
__________
(1) [المحلى] ( 11\ 69 ) .
(2) المرجع السابق ( 11\ 69 ) .

في خربة وادعة همدان فرفع إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأحلفهم خمسين يمينا : ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ، ثم غرمهم الدية ثم قال : يا معشر همدان ، حقنتم دماءكم بأيمانكم فما يطل دم هذا الرجل المسلم . وأخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنبأ الربيع بن سليمان ، أنبأ الشافعي ، ثنا سفيان عن منصور عن الشعبي : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب في قتيل وجد بين خيوان ووادعة : أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليهم منهم خمسون رجلا حتى يوافوه مكة فأدخلهم الحجر فأحلفهم ، ثم قضى عليهم بالدية ، فقالوا : ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا ، قال عمر - رضي الله عنه - ، كذلك الأمر . قال الشافعي : وقال غير سفيان عن عاصم الأحول عن الشعبي قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : حقنتم بأيمانكم دماءكم ولا يطل دم مسلم . فقد ذكر الشافعي - رحمه الله - في الجواب عنه ما يخالفون عمر - رضي الله عنه - في هذه القصة من الأحكام ثم قيل له : أفثابت هو عندك ؟ قال : لا ، إنما رواه الشعبي عن الحارث الأعور ، والحارث مجهول ، ونحن نروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسناد الثابت أنه بدأ بالمدعين ، فلما لم يحلفوا قال : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا وإذا قال : تبرئكم فلا يكون عليهم غرامة ، ولما لم يقبل الأنصاريون أيمانهم وداه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يجعل على يهود والقتيل بين أظهرهم شيئا ، قال الربيع : أخبرني بعض أهل العلم عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال : حارث الأعور كان كذابا ، وروي عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر - رضي الله عنه - ومجالد غير محتج به . وروى عن مطرف عن أبي إسحاق عن الحارث بن الأزمع عن عمر ، وأبو

إسحاق لم يسمع من الحارث بن الأزمع ، قال علي بن المديني عن أبي زيد عن شعبة قال : سمعت أبا إسحاق يحدث حديث الحارث بن الأزمع : أن قتيلا وجد بين وادعة وخيوان فقلت : يا أبا إسحاق ، من حدثك ؟ قال : حدثني مجالد عن الشعبي عن الحارث بن الأزمع ، فعادت رواية أبي إسحاق إلى حديث مجالد ، واختلف فيه على مجالد في إسناده ، ومجالد غير محتج به والله أعلم . هذا كلام البيهقي في [السنن الكبرى] (1) .
وأخرج في [المعرفة] عن ابن عبد الحكم أنه قال : سمعت الشافعي يقول : سافرت إلى خيوان ووادعة أربع عشرة سفرة وأنا أسألهم عن حكم عمر بن الخطاب في القتيل وأنا أحكي لهم ما روي فيه ، فقالوا : هذا شيء ما كان ببلدتنا قط (2) . اهـ .
وفي هذا دليل على عناية الشافعي - رحمه الله - بحالة هذا الأثر .
وقد ناقش ابن التركماني ما ذكره البيهقي في [السنن الكبرى] عن الشافعي من ناحية كون الأثر من رواية الحارث الأعور ، وادعوا جهالته فقال : قلت : لم يذكر أحد فيما علمنا : أن الشعبي رواه عن الحارث الأعور غير الشافعي ، ولم يذكر سنده في ذلك ، وقد رواه الطحاوي بسنده عن الشعبي عن الحارث الوادعي ، هو ابن الأزمع ، وسيأتي : أن مجالدا رواه عنه الشعبي كذلك . ورواية أبي إسحاق لهذا الأثر عن الحارث هذا عن عمر أمارة على أنه الواسطة ، لا الحارث الأعور ، كما زعم الشافعي ، ورواه أيضا عبد الرزاق (3)
__________
(1) [السنن الكبرى] ( 8\ 124 ) .
(2) [نصب الراية] ( 4\ 355 ) .
(3) [المصنف] ( 10\ 35 ) .

عن الثوري عن منصور عن الحكم عن الحارث بن الأزمع ، والحارث هذا ذكره أبو عمر وغيره في الصحابة وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، ثم إن الحارث الأعور وإن تكلموا فيه فليس بمجهول كما زعم الشافعي ، بل هو معروف روى عنه الطحاوي والشعبي والسبيعي وغيرهم (1) . اهـ .
__________
(1) [الجوهر النقي] بذيل [السنن الكبرى] ( 8\ 120 ) .

التاسع : خلاف العلماء فيمن يقتل بالقسامة إذا كان المدعى عليه أكثر من واحد :
اختلف أهل العلم في هذه المسألة :
فمنهم من ذهب إلى أنه لا يقتل إلا واحد ، ومنهم من ذهب إلى أنه يستحق بها قتل جماعة ، ومنهم من ذهب إلى العدول إلى الدية .
أما المذهب الأول : فقال مالك - رحمه الله - : لا يقتل في القسامة إلا واحد ، لا يقتل فيها اثنان ، وقال الباجي - رحمه الله - على ذلك : لا خلاف في المذهب : أنه لا يستحق بالقسامة إلا قتل رجل واحد ، خلافا للشافعي في أحد قوليه .
والدليل على ما نقوله : ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم » (1) .
ومن جهة المعنى : أن القسامة أضعف من الإقرار والبينة وفي قتل الواحد ردع ، قاله القاضي أبو محمد (2) .
وقال ابن قدامة - رحمه الله - : لا يختلف المذهب : أنه لا يستحق بالقسامة
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (6769),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4718),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),موطأ مالك القسامة (1630).
(2) [المنتقى] ( 7\ 54 ) ويرجع إلى [عارضة الأحوذي] ( 7 \ 193 ) .

أكثر من قتل واحد ، وبهذا قال الزهري ومالك وبعض أصحاب الشافعي - قال بعد ذكر مذهب آخر سيأتي .
ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته » (1) فخص بها الواحد ، ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد ، فيقتصر عليه ويبقى الأصل فيما عداه ، وبيان مخالفة الأصل بها أنها ثبتت باللوث ، واللوث شبهة فغلبه على الظن صدق المدعي والقود يسقط بالشبهات فكيف يثبت بها ؛ ولأن الأيمان في سائر الدعاوى تثبت ابتداء في جانب المدعى عليه ، وهذا بخلافه ، وبيان ضعفها : أنها تثبت بقول المدعي ويمينه مع التهمة في حقه والشك في صدقه وقيام العداوة المانعة من صحة الشهادة عليه في إثبات حق لغيره فلأن يمنع منه قبول قوله وحده في إثبات حقه أولى وأحرى (2) .
أما المذهب الثاني : فقال ابن قدامة - رحمه الله - ، وقال بعضهم - أي : بعض أصحاب الشافعي - : يستحق بها قتل الجماعة ؛ لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة ، وهذا نحو قول أبي ثور .
وقد ناقش ابن قدامة ذلك فقال : وفارق البينة فإنها قويت بالعدد وعدالة الشهود وانتفاء التهمة في حقهم من الجهتين وفي كونهم لا يثبتون لأنفسهم حقا ولا نفعا ولا يدفعوا عنها ضرا ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه ؛ ولهذا لا يثبت بها سائر الحقوق والحدود التي تنفي الشبهات (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (6769),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669),سنن الترمذي الديات (1422),سنن النسائي القسامة (4711),سنن أبو داود الديات (4520),سنن ابن ماجه الديات (2677),مسند أحمد بن حنبل (4/3),موطأ مالك القسامة (1630),سنن الدارمي الديات (2353).
(2) [المغني] ( 8\ 506 ) .
(3) المرجع السابق ( 8\ 508 ) .

وأما المذهب الثالث : فقال النووي : قال الشافعي : إذا ادعوا على جماعة حلفوا عليهم ، وثبتت عليهم الدية على الصحيح عند الشافعي ، وعلى قول : إنه يجب القصاص (1) .
وقد مضى أن الشافعي - رحمه الله - لم يوجب الدم في القسامة ، ومضت أدلة ذلك ومناقشتها . هذا ما تيسر ذكره .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على محمد ، وعلى آله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) [شرح النووي على صحيح مسلم] ( 11\ 149 ) .

قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 41 ) وتاريخ 13\4\1396هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، محمد ، وآله وصحبه ، وبعد .
ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ - اطلع المجلس على ما سبق أن أجله من الدورة السابعة إلى الدورة الثامنة من بحث القسامة ، هل الورثة هم الذين يحلفون أيمان القسامة أو أن العصبة بالنفس هم الذين يحلفون ولو كانوا غير وارثين إذا كانوا ذكورا بالغين عقلاء ؟ .
وبعد استماع المجلس ما سبق أن أعد في ذلك من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها وتداول الرأي - قرر المجلس بالأكثرية : أن الذي يحلف من الورثة هم الذكور البالغون العقلاء ولو واحدا ، سواء كانوا عصبة أو لا ؛ لما ثبت في [الصحيحين] من حديث سهل بن أبي حثمة في قصة قتل اليهود لعبد الله بن سهل : « أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل : تحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ ، قالوا : لا - وفي رواية - : يقسم منكم خمسون رجلا » (1) ، ولأنها يمين في دعوى حق ، فلا تشرع في حق غير المتداعين كسائر الأيمان .
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الثامنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
متوقف
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي لي وجهة نظر
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
متوقف
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان
عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (6769),سنن النسائي القسامة (4710),سنن أبو داود الديات (4521),سنن ابن ماجه الديات (2677),موطأ مالك القسامة (1630).

(3)
هدي التمتع والقرانهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

(3)
هدي التمتع والقران
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
هدي التمتع والقران (1)
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة المنعقدة في مدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396 هـ موضوع (هدي التمتع والقران، ووقت الذبح ومكانه، وحكم الاستعاضة عن الهدي بالتصدق بقيمته وعلاج مشكلة اللحوم) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
هدي التمتع والقران
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الرابع، ص 183- 231، سنة 1398 هـ.

الطائف في شعبان عام 1395 هـ من الموافقة على إعداد بحث (هدي التمتع والقران)- فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على الأمور الآتية:
أولا : ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة.
ثانيا : نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة.
ثالثا : الذبح ليلا مع الأدلة والمناقشة.
رابعا : مكان الذبح مع الأدلة والمناقشة.
خامسا : حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة.
سادسا : علاج مشكلة اللحوم في منى.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

أولا: ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة
اختلف أهل العلم في تحديد ابتداء وقت ذبح هدي التمتع والقران هل يجوز ذبحه قبل يوم النحر أو أنه لا يجوز إلا ابتداء من يوم النحر؟
القول الأول : يبتدئ وقت ذبحه يوم النحر بعد طلوع الشمس وصلاة العيد أو مضي قدرها عند الحنابلة، وبعد رمي جمرة العقبة عند مالك، ويوم النحر عند الحنفية .
قال النسفي والزيلعي : وخص ذبح هدي المتعة والقران بيوم النحر فقط، وفي [بداية المبتدئ]: ( ولا يجوز ذبح هدي المتعة والقران إلا في يوم النحر ) وجاء معنى ذلك في كثير من كتب الحنفية، تركنا ذكرها اختصارا.

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله : أما مذهب مالك فالتحقيق فيه أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوبا تاما إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة .
وقال ابن العربي : ولو ذبحه قبل يوم النحر لم يجزه.
وقال الباجي : ولا يجوز أن ينحره قبل يوم النحر.
وقال المزني : فإن كان معتمرا نحر بعد ما يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق عند المروة وحيث نحر من فجاج مكة أجزأه، وإن كان حاجا نحره بعد ما يرمي جمرة العقبة قبل أن يحلق. انتهى المقصود.
وقال الرملي : (ووقته -أي: وقت ذبح الهدي- كوقت ذبح الأضحية على الصحيح. وصححه أيضا النووي والرافعي ... وقال الفتوحي : ووقت ذبح أضحية وهدي نذر وتطوع ومتعة وقران من بعد أسبق صلاة العيد بالبلد أو قدرها لمن لم يصل. انتهى كلامه.
ونقل ابن قدامة عن أبي الخطاب : أنه يجب إذا طلع الفجر يوم النحر؛ لأنه وقت إخراجه فكان وقت وجوبه.
واستدل للقول بأنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والمعنى :
أما الكتاب فمنه دليلان :
الأول : قوله تعالى: { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 196

وجه الدلالة: ما ذكره الباجي رحمه الله بقوله: لو جاز قبل يوم النحر لجاز الحلق قبل يوم النحر، ولا سيما على القول بدليل الخطاب، ولا خلاف بينهم في القول به إذا علق بالغاية، وهو قول القاضي أبي بكر وأكثر شيوخنا.
ومما يدل على هذا حديث حفصة وهو قولها: « يا رسول الله، ما بال الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك؟! فقال: "إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر". » (1)
وهذا يفيد أنه تعذر النحر عليه فوجب لامتناعه من الحلاقة ولو كان النحر مباحا لعلل امتناع الإحلال بغير تأخير النحر ولما صح اعتلاله به.
ويمكن أن يناقش الاستدلال بالآية: بأنها في الإحصار، فإن قبلها قوله تعالى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (2) والكلام في هدي التمتع والقران لا الإحصار.
الثاني : قوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (3)
وجه الدلالة: أن الآية مطلقة من جهة تحديد وقت ذبح الهدي، وقد جاء ما يدل على تحديده وهو قوله تعالى: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } (4) { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (5) الآية.
وجه الدلالة: ما ذكره الجصاص وغيره من أن قضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر، ولما رتب هذه الأفعال على ذبح هدي
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1491),صحيح مسلم الحج (1229),سنن النسائي مناسك الحج (2781),سنن أبو داود المناسك (1806),سنن ابن ماجه المناسك (3046),موطأ مالك الحج (897).
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة البقرة الآية 196
(4) سورة الحج الآية 28
(5) سورة الحج الآية 29

البدن دل أنها بدن القران والتمتع؛ لأن جميع الهدايا لا يترتب عليها هذه الأفعال، وأن له أن ينحرها متى شاء فثبت بذلك أن هدي المتعة غير مجز قبل يوم النحر.
وقد نوقش هذا الاستدلال : بقول الجصاص رحمه الله: (إذا كان الصيام بدلا من الهدي ، والهدي لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فكيف جاز الصوم؟).
وأجاب عن ذلك بقوله : لا خلاف في جواز الصيام قبل يوم النحر، وقد ثبت بالسنة امتناع ذبح الهدي قبل يوم النحر، وأحدها: ثابت بالاتفاق، وبدليل قوله تعالى: { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } (1) والآخر: ثابت بالسنة فالاعتراض عليهما بالنظر ساقط.
وأيضا : فإن الصوم مراعى ومنتظر به شيئان: أحدهما: إتمام العمرة والحج في أشهر الحج، والثاني: ألا يجد حتى يحل فإذا وجد المعنيان صح الصوم عن المتعة وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون الصوم متعة وصار تطوعا، وأما الهدي فقد رتب عليه أفعال أخر من حلق وقضاء التفث وطواف الزيارة، فلذلك اختص بيوم النحر.
واعترض على ذلك بما قاله الجصاص من أن الله تعالى قال: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } (2) فلا يجوز تقديمه على الحج.
وأجاب عن ذلك بقوله : لا يخلو قوله تعالى: { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } (3) من أحد معان: إما أن يريد به في الأفعال التي هي عمدة الحج وما سماه
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة البقرة الآية 196

النبي صلى الله عليه وسلم حجا وهو الوقوف بعرفة؛ لأنه قال: « الحج عرفة » (1) أو في أشهر الحج؛ لأن الله قال: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } (2)
وغير جائز أن يكون المراد فعل الحج الذي لا يصح إلا به؛ لأن ذلك إنما هو يوم عرفة بعد الزوال، ويستحيل صوم الثلاثة الأيام منه، ومع ذلك فلا خلاف في جوازه قبل يوم عرفة، فبطل هذا الوجه وبقي من وجوه الاحتمال في إحرام الحج أو في أشهر الحج، وظاهره يقتضي جواز فعله بوجود أيهما كان؛ لمطابقته اللفظ في الآية. وأيضا قوله تعالى: { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } (3) معلوم أن جوازه معلق بوجود سببه لا بوجوبه، فإذا كان هذا المعنى موجودا عند إحرامه للعمرة وجب أن يجزئ ولا يكون ذلك خلاف الآية، كما أن قوله تعالى: { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } (4) دال على جواز تقديمها على القتل لوجود الجراحة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: « ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول » (5) لم يمنع جواز تعجيلها لوجود سببها وهو النصاب، فكذلك قوله تعالى: { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } (6) غير مانع جواز تعجيله لأجل وجود سببه الذي جاز فعله في الحج.
ثم نقده رحمه الله بقوله: لم نجد بدلا يجوز تقديمه على وقت المبدل عنه ولما كان الصوم بدلا عن الهدي لم يجز تقديمه عليه.
وأجاب عن ذلك بقوله : هذا اعتراض على الآية؛ لأن نص التنزيل قد
__________
(1) سنن الترمذي الحج (889),سنن النسائي مناسك الحج (3016),سنن أبو داود المناسك (1949),سنن ابن ماجه المناسك (3015),مسند أحمد بن حنبل (4/335),سنن الدارمي المناسك (1887).
(2) سورة البقرة الآية 197
(3) سورة البقرة الآية 196
(4) سورة النساء الآية 92
(5) سنن الترمذي الزكاة (632).
(6) سورة البقرة الآية 196

أجاز ذلك في الحج قبل يوم النحر.
وأيضا : فإننا لم نجد ذلك فيما تقدم البدل كله على وقت المبدل عنه، وهاهنا إنما جاز تقديم بعض الصيام على وقت الهدي وهو صوم الثلاثة الأيام والسبعة التي معها غير جائز تقديمها عليها؛ لأنه تعالى قال: { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } (1) فإنما أجيز له من ذلك مقدار ما يحل به يوم النحر إذا لم يجد الهدي، وهدي العمرة يصح إيجابه بعد العمرة ويتعلق به حكم التمتع في باب المنع من الإحلال إلى أن يذبحه. انتهى كلامه.
ونوقش الاستدلال بالآية على أن (ثم) للتراخي فربما يكون الذبح قبل يوم النحر وقضاء التفث فيه).
وأجيب عنه : بأن موجب ثم بالتراخي يتحقق بالتأخير ساعة فلو جاز الذبح قبل يوم النحر جاز قضاء التفث بعده بساعة وليس كذلك.
وأما الأدلة من السنة فكثيرة نكتفي منها بما يأتي :
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: « تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هديا، فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله » (2) الحديث.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) صحيح البخاري الحج (1606),صحيح مسلم الحج (1227),سنن النسائي مناسك الحج (2732),سنن أبو داود المناسك (1805).

ولهما عن جابر رضي الله عنه قال: « أهللنا بالحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا، فقال: "يا أيها الناس أحلوا، فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم" قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا كما يفعل الحلال، حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر، أهللنا بالحج » (1) .
ولهما عن أبي موسى رضي الله عنه قال: « قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال: "بم أهللت؟" قال: قلت: أهللت بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "سقت من هدي؟"، قلت: لا، قال: "فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل" فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي » (2) .
وروى البخاري « عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن متعة الحج؟ فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، وإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعمرتنا، وعلينا الهدي، كما قال تعالى: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } (3) » .
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1216),مسند أحمد بن حنبل (3/302).
(2) صحيح البخاري الحج (1637),صحيح مسلم الحج (1221),سنن الدارمي المناسك (1815).
(3) سورة البقرة الآية 196

وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخا، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج » (1) .
وروى البزار في [مسنده] عن أنس رضي الله عنه: « أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة، فلما قدموا مكة طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلوا، فهابوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحلوا، فلولا أن معي الهدي لأحللت، فحلوا حتى خلوا إلى النساء » (2) .
وروى أبو داود عن أنس قال: « بات رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: بذي الحليفة - حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، فحمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما، فلما قدم أمر الناس فحلوا، حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج نحر سبع بدنات بيده قياما » (3) . وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن قرط : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن أعظم الأيام عند الله عز وجل يوم النحر ثم يوم القر » (4) قال ثور : وهو اليوم الثاني، قال: وقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات (خمس أو ست) فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، قال. فلما وجبت جنوبها قال: فتكلم بكلمة خفيفة لم أسمعها ، فقلت: ما قال؟ قال: من شاء اقتطع .
وروى مسلم في [صحيحه] عن جابر بن عبد الله رضي عنه: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن نسائه في حجه بقرة » (5) .
وفي رواية: قال: « نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر » (6) .
وروى البخاري ومسلم في [الصحيحين] عن عمرة بنت عبد الرحمن
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1247),مسند أحمد بن حنبل (3/5).
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/142).
(3) صحيح البخاري الحج (1476),سنن النسائي مناسك الحج (2931),سنن أبو داود المناسك (1796),مسند أحمد بن حنبل (3/268).
(4) سنن أبو داود المناسك (1765),مسند أحمد بن حنبل (4/350).
(5) سنن أبو داود الأطعمة (3747),مسند أحمد بن حنبل (3/301).
(6) صحيح مسلم الحج (1319).

قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل » (1) . قالت عائشة : فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه. قال يحيى : فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد، فقال: أتتك بالحديث على وجهه. ولهما « عن عائشة رضي الله عنها قالت: فلما دخلنا مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي » (2) قالت: « وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر » (3) .
وروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: « وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: "اذبح ولا حرج" ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج " فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "ولا حرج » (4) .
وروى مسلم في [صحيحه] عن جابر رضي الله عنه قال: « أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم » (5) .
وروى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: « أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بالحج، فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه، وحل بقيتهم » (6) .
وله أيضا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: « خرجنا محرمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1623).
(2) صحيح البخاري الحج (1485),سنن أبو داود المناسك (1782),مسند أحمد بن حنبل (6/219).
(3) سنن أبو داود المناسك (1782),مسند أحمد بن حنبل (6/219),سنن الدارمي المناسك (1904).
(4) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6288),صحيح مسلم الحج (1306),سنن الترمذي الحج (916),سنن أبو داود المناسك (2014),سنن ابن ماجه المناسك (3051),مسند أحمد بن حنبل (2/217),موطأ مالك الحج (959),سنن الدارمي المناسك (1907).
(5) صحيح مسلم الحج (1318),سنن ابن ماجه الأضاحي (3132).
(6) صحيح مسلم الحج (1239),سنن النسائي مناسك الحج (2871),سنن أبو داود المناسك (1804).

لم يكن معه هدي فليحل فلم يكن معي هدي فحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحل » (1) .
وروى مسلم من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه، أنه قال: « أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: يا رسول الله، حل ماذا؟ قال: "الحل كله " فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية » (2) الحديث.
وله أيضا من طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر قال: « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا وبالمروة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يكن معه هدي فليحل. قلنا: يا رسول الله، أي الحل؟ فقال: "الحل كله " قال: فأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج » (3) الحديث.
وروى الإمام أحمد، عن أنس رضي الله عنه قال: « خرجنا نصرخ بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلها عمرة، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولكن سقت الهدي، وقرنت بين الحج والعمرة » (4) .
وله أيضا، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: « قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وأصحابه مهلين بالحج، فقال: "من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي " قالوا: يا رسول الله، أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا؟ قال: "نعم ". وسطعت المجامر » (5) .
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1236),سنن النسائي مناسك الحج (2992),سنن ابن ماجه المناسك (2983),مسند أحمد بن حنبل (6/350).
(2) صحيح مسلم الحج (1213),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1785).
(3) صحيح مسلم الحج (1213),سنن أبو داود المناسك (1785).
(4) مسند أحمد بن حنبل (3/148).
(5) مسند أحمد بن حنبل (2/28).

وله أيضا وابن ماجه، عن البراء بن عازب قال: « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة قال: " اجعلوا حجكم عمرة". قال: فقال الناس: يا رسول الله، قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة؟ قال: "انظروا ما آمركم به فافعلوا" فردوا عليه القول فغضب، ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟ فقال: "وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا أتبع » (1) .
وروى أبو داود عن الربيع بن سبرة عن أبيه قال: « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بعسفان، قال له سراقة بن مالك المدلجي : يا رسول الله، اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم، فقال: "إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل، إلا من كان معه هدي » (2) .
فهذه الأحاديث منها: ما هو نص في أن بدء وقت النحر للمتمتع والقارن يوم الأضحى، ومنها: ما يدل عليه بمفهوم أو مع أمره صلى الله عليه وسلم أن نأخذ عنه المناسك وقد نحر عن نفسه وعن أزواجه يوم الأضحى ونحر أصحابه كذلك، ولم يعرف عن أحد منهم أنه نحر هديه لتمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى، فكان ذلك عمدة في التوقيت بما ذكر من جهات عدة.
وأما الإجماع : فقد قال ابن عابدين على قول صاحبي [تنوير الأبصار] وشرحه [الدر المختار]: ويتعين يوم النحر، أي: وقته، هو والأيام الثلاثة لذبح المتعة والقران فقط، فلم يجز قبله قال: (فلم يجزئ) أي: بالإجماع وهو بضم أوله من الإجزاء.
وأما الأثر : فقد نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد أنه قال: روي عن غير
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (2982).
(2) سنن أبو داود المناسك (1801),مسند أحمد بن حنبل (3/405).

واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس .
وأما المعنى : فقد ذكره ابن قدامة بقوله: لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية، فلا يجوز فيه ذبح الهدي للمتمتع كمثل التحلل من العمرة (1) .
القول الثاني: أنه يجوز قبل يوم النحر، وهو منقول عن بعض المالكية، وبه قال الشافعي وبعض أصحابه، وهو رواية عن الإمام أحمد وقول لبعض أصحابه.
والذين قالوا بهذا القول: منهم من يرى جواز ذبحه إذا قدم به قبل العشر، وهو رواية عن أحمد، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا أحرم بالعمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا حل من العمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج.
وفيما يلي نقول عن القائلين بهذا القول مع مناقشتها ثم نتبع ذلك بأدلتهم ومناقشتها :
أ- نقل الأبي عن القاضي عياض رحمه الله - في الكلام على قول جابر رضي الله عنه (فأمرنا إذا أحللنا)- أنه قال: في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد التحلل- من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهو إحدى الروايات عندنا -أي: المالكية - والأخرى: أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج؛ لأنه بذلك يصير متمتعا.
والقول الأول جار على تقديم الكفارة على الحنث، وعلى تقديم الزكاة على الحول.
__________
(1) [المغني] (5\ 359، 360).

وقد يفرق بين هذه الأصول، والأول ظاهر الأحاديث؛ لقوله: (فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي).
وقد ناقش محمد بن أحمد بن يوسف الرهوني، ما نقله الأبي عن القاضي عياض، فقال: وأما ما نقله، ويعني: أبا عبد الله الأبي عن عياض فليس فيه أن الرواية بالجواز هي المشهورة أو الراجحة أو مساوية للأخرى على أن قوله: وفي الحديث حجة لمن نحر هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وإن كان في الأبي كذلك (نحر بالنون والحاء والراء) مخالفا لما وجدته لعياض في [الإكمال] فإن الذي وجدته فيه تقليد هدي التمتع (بالتاء والقاف واللام والياء والدال) كذا وجدته في نسخة عتيقة مظنون بها الصحة لم أجد في الوقت غيرها، ويؤيد ما وجدته في أنه ذكر المسألة في موضوع آخر فلم يذكر فيها جواز ذلك (أي: النحر بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج) عند أحد لا من أهل المذهب ولا من غيره، ونصه: وقوله للمتمتعين: فمن لم يجد هديا فليصم { ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } (1) نص في كتاب الله تعالى مما يلزم المتمتع.
وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الجملة :
فقال جماعة من السلف: ما استيسر من الهدي شاة، وهو قول مالك، وقال جماعة أخرى منهم: بقرة دون بقرة، وبدنة دون بدنة، وقيل: المراد: بدنة أو بقرة أو شاة أو شرك في دم، وهذا عند مالك للحر والعبد، إذ لا يهدي إلا أن يأذن له سيده، وله الصوم وإن كان واجدا الهدي، ولا يجوز عند مالك وأبي حنيفة نحره قبل يوم النحر، وأجاز ذلك الشافعي بعد إحرامه بالحج. اهـ منه بلفظه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196

ونقله الأبي نفسه مختصرا (عن القاضي عياض ) وسلم ذكره قبل كلامه الذي نقله محمد البناني بنحو كراسين في كلامه (أي: القاضي عياض ) يفيد اتفاق الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم على أنه لا يجوز نحره قبل الإحرام بالحج، وكذا بعده مالك وأبو حنيفة، خلافا للشافعي، فكيف يذكر بعد ذلك الروايتين عند مالك في جواز نحره قبل الإحرام بالحج؟!
ويؤيد ذلك أيضا : أن اللخمي إنما ذكر الخلاف في التقليد لا في النحر، ونصه: (ولا يقلد هدي المتعة إلا بعد الإحرام بالحج وكذلك القارن، واختلف: إذا قلد وأشعر قبل إحرام بالحج فقال أشهب وعبد الملك في كتاب ابن حبيب : لا يجزئه، وقال ابن القاسم : يجزئه، فلم يجزئ في القول الأول، لأن المتعة إنما تجب إذا أحرم بالحج وإذا قلد وأشعره قبل ذلك كان تطوعا، والتطوع لا يجزئ عن الواجب، وأجزأ في القول الأخير قياسا على تقديم الكفارة قبل الحنث والزكاة إذا قرب الحول، والذي تقتضيه السنة التوسعة في جميع ذلك) اهـ منه بلفظه.
ولا يخفى على منصف وقف على كلام اللخمي هذا، وعلى كلام عياض : أن الصواب هو ما وجدته في [الإكمال] لا ما نقله عنه الأبي، ونص [الإكمال] قوله: ( فأمرنا حين أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدي ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم لوجوب الهدي على المتمتع، كما قال الله تعالى: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (1) ؛ لأن هؤلاء صاروا بإحلالهم في أشهر الحج وانتظارهم الحج متمتعين.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196

وقد تقدم الكلام عليها في أول الكتاب، ويحتج به من يجيز الاشتراك في الهدي الواجب ومن يجيز تقليد هدي التمتع عند التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهي إحدى الروايتين عندنا، والأخرى لا يجوز إلا بعد الإحرام؛ لأنه حينئذ صار متمتعا ووجب عليه الدم، والقول الأول على أصل تقديم الكفارة قبل الحنث وتقديم الزكاة قبل الحول على من يقول بها، وقد يفرق بين هذه الأصول إذ ظاهر الحديث يدل على ما قلناه. اهـ محل الحاجة منه بلفظه.
ب- قال خليل : (ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله):
لقد ناقش الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله هذه الجملة عن خليل فقال: واعلم أن قول من قال من المالكية : إنه يجب بإحرام الحج، وأنه يجزئ قبله، كما هو ظاهر قول خليل في [مختصره] الذي قال في [ترجمته] مبينا لما به الفتوى (ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله) فقد اغتر به بعض من لا تحقيق عنده بالمذهب المالكي.
والتحقيق : أن الوجوب عندهم برمي جمرة العقبة، وبه جزم ابن رشد وابن العربي وصاحب [الطراز] وابن عرفة، قال ابن عرفة : سمع ابن القاسم إن مات- يعني: المتمتع- قبل رمي جمرة العقبة فلا دم عليه) ابن رشد، لأنه إنما يجب في الوقت الذي يتعين فيه نحره وهو بعد رمي جمرة العقبة فإن مات قبله لم يجب عليه، ابن عرفة، قلت: ظاهره لو مات يوم النحر قبل رميه لم يجب، وهو خلاف نقل النوادر عن كتاب محمد بن القاسم وعن سماع عيسى : من مات يوم النحر ولم يرم فقد لزمه دم، ثم قال ابن عرفة : فقول ابن الحاجب : يجب بإحرام الحج يوهم وجوبه على من

مات قبل وقوفه، ولا أعلم في سقوطه خلافا، ولعبد الحق عن ابن الكاتب عن بعض أصحابنا: من مات بعد وقوفه فعليه الدم. انتهى من الخطاب.
فأصح الأقوال الثلاثة وهو المشهور: أنه لا يجب على من مات إلا إذا كان موته بعد رمي جمرة العقبة، وفيه قول بلزومه إن مات يوم النحر قبل الرمي، وأضعفها أنه يلزمه إن مات بعد الوقوف بعرفة .
أما لو مات قبل الوقوف بعرفة فلم يقل أحد بوجوب الدم عليه من عامة المالكية، وقول من قال منهم: إنه يجب بإحرام الحج لا يتفرع عليه من الأحكام شيء إلا جواز إشعاره وتقليده، وعليه فلو أشعره أو قلده قبل إحرام الحج كان هدي تطوع فلا يجزئ عن هدي التمتع، فلو قلده وأشعره بعد إحرام الحج أجزأه؛ لأنه قلده بعد وجوبه، أي: بعد انعقاد الوجوب في الجملة. اهـ، وعن ابن القاسم أنه لو قلده وأشعره قبل إحرام الحج ثم أخر ذبحه إلى وقته أنه يجزئه عن هدي التمتع وعليه فالمراد بقول خليل : وأجزأ قبله، أي: أجزأ الهدي الذي تقدم تقليده وإشعاره على إحرام الحج، هذا هو المعروف عند عامة علماء المالكية . فمن ظن أن المجزئ هو نحره قبل إحرام الحج أو بعده قبل وقت النحر فقد غلط غلطا فاحشا.
قال الشيخ المواق في [شرحه]: قول خليل : وأجزأ قبله. ما نصه: ابن عرفة يجزئ تقليده وإشعاره بعد إحرام حجه، ويجوز أيضا قبله على قول ابن القاسم . انتهى.
وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في [مختصره]، ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله ما نصه : فإن قلت: إذا كان هدي التمتع إنما ينحر بمنى إن وقف بعرفة أو بمكة بعد ذلك على ما سيأتي فما فائدة

الوجوب هنا. قلت: يظهر في جواز تقليده وإشعاره بعد الإحرام للحج، وذلك أنه لو لم يجب الهدي حينئذ مع كونه يتعين بالتقليد لكان تقليده إذ ذاك قبل وجوبه فلا يجزئ إلا إذا قلد بعد كمال الأركان.
وقال الشيخ الحطاب أيضا : والحاصل: أن دم التمتع والقران يجوز تقليدها قبل وجوبها على قول ابن القاسم، ورواية عن مالك، وهو الذي مشى عليه المصنف، فإذا علم ذلك فلم يبق للحكم بوجوب دم التمتع بإحرام الحج فائدة، لا سيما على القول بأنه لا يجزئه ما قلده قبل الإحرام بالحج، تظهر ثمرة الوجوب في ذلك ويكون المعنى: أنه يجب بإحرام الحج وجوبا غير متحتم؛ لأنه معرض للسقوط بالموت والفوات فإذا رمى جمرة العقبة تحتم الوجوب فلا يسقط بالموت، كما نقول في كفارة الظهار: أنها تجب بالعود وجوبا غير متحتم، بمعنى: أنها تسقط بموت الزوجة وطلاقها، فإن وطئ تحتم الوجوب ولزمت الكفارة ولو ماتت الزوجة وطلقها. إلى أن قال: بل تقدم في كلام ابن عبد السلام في شرح المسألة الأولى: أن هدي التمتع إنما ينحر بمنى إن وقف به بعرفة، أو بمكة بعد ذلك إلى آخره، وهو يدل أنه لا يجزئ نحره قبل ذلك، والله أعلم، ونصوص المذهب شاهدة لذلك.
قال القاضي عبد الوهاب في [المعونة]: ولا يجوز نحر هدي التمتع والقران قبل يوم النحر، خلافا للشافعي، لقوله تعالى: { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } (1) .
وقد ثبت أن الحلق لا يجوز قبل يوم النحر، فدل على أن الهدي لم يبلغ
__________
(1) سورة البقرة الآية 196

محله إلا يوم النحر، وله نحو ذلك في شرح الرسالة. وقال في [التلقين]: الواجب بكل واحد من التمتع والقران هدي ينحره بمنى، ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر وله مثله في [مختصر عيون المجالس]، ثم قال الحطاب رحمه الله: فلا يجوز الهدي عند مالك حتى يحل، وهو قول أبي حنيفة، وجوزه الشافعي من حيث يحرم بالحج، واختلف قوله فيما بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج.
ودليلنا : أن الهدي متعلق بالتحلل وهو المفهوم من قوله تعالى: { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } (1) اهـ. منه، وكلام العلماء المالكية بنحو هذا كثير معروف.
والحاصل : أنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران عند مالك وعامة أصحابه قبل يوم النحر، وفيه قول ضعيف بجوازه بعد الوقوف بعرفة، وهو لا يعول عليه، وإن قولهم: إنه يجب بإحرام الحج لا فائدة فيه إلا جواز إشعار الهدي وتقليده بعد إحرام الحج لا شيء آخر فيما نقل عن عياض وغيره من المالكية مما يدل على جواز نحره قبل يوم النحر، كله غلط، إما من تصحيف الإشعار والتقليد وجعل النحر بدل ذلك غلطا، وإما من الغلط في فهم المراد عند علماء المالكية كما لا يخفى على من عنده علم بالمذهب المالكي، فاعرف هذا التحقيق ولا تغتر بغيره.
قال الشافعي : وإذا ساق المتمتع الهدي أو القارن لمتعته أو قرانه فلو تركه حتى ينحره يوم النحر كان أحب إلي، وإن قدم فنحره في الحرم أجزأه من قبل أن على الناس فرضين: فرضا في الأبدان فلا يكون إلا بعد الوقت، وفرضا في الأموال فيكون قبل الوقت إذا كان شيئا مما فيه الفرض، وهكذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 196

إن ساقه مفردا متطوعا به، والاختيار إذا ساقه معتمرا أن ينحره بعدما يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق عند المروة، وحيث نحره من فجاج مكة أجزأه، والاختيار في الحج أن ينحره بعد أن يرمي جمرة العقبة وقبل أن يحلق.
وقال الشيرازي : ويجب دم التمتع بالإحرام بالحج، وفي وقت جوازه قولان: أحدهما : لا يجوز قبل أن يحرم بالحج، والثاني : يجوز بعد فسخ الإحرام من العمرة، وقال النووي : ووقت وجوبه عندنا الإحرام بالحج بلا خلاف، وأما وقت جوازه فقال أصحابنا: لا يجوز قبل الشروع بالعمرة بلا خلاف، ويجوز بعد الإحرام بالحج بلا خلاف، ولا يتوقت بوقت كسائر دماء الجبران، لكن الأفضل ذبحه يوم النحر.
وهل تجوز إراقته بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج؟ فيه قولان مشهوران، وحكاهما جماعة وجهين والمشهور قولان وذكرهما المصنف- يريد: الشيرازي في كتابه [المهذب]- بدليليهما أصحهما الجواز.
فعلى هذا هل يجوز قبل التحلل من العمرة؟ فيه طريقان:
أحدهما : لا يجوز قطعا، وهو مقتضى كلام المصنف وكثيرين، ونقله صاحب البيان عن أصحابنا العراقيين، ونقل الماوردي اتفاق الأصحاب عليه.
والثاني : فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز، والثاني: يجوز بوجود بعض السبب حكاه أصحابنا الخراسانيون وصاحب البيان.
فالحاصل في وقت جوازه ثلاثة أوجه: أحدها: بعد الإحرام بالعمرة، وأصحها: بعد فراغها، والثالث: بعد الإحرام بالحج.
قال ابن قدامة : أما وقت وجوبه: فعن أحمد أنه يجب إذا أحرم بالحج،

وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة وهو قول مالك واختيار القاضي، وقال أبو طالب : سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي- قال: ينحره بمكة، وإن قدم قبل العشر نحره حتى لا يضيع أو يموت أو يسرق وكذلك قال عطاء : وإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى، ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته وأقام على إحرامه وكان قارنا... انتهى، وقال أيضا: وقد ذكرنا رواية في جواز تقديم الهدي على إحرام الحج. انتهى.
وذكر صاحب [الفروع] رواية عن الإمام أحمد أنه يجب بإحرام العمرة.
وقال صاحب [الفروع] أيضا: أما وقت ذبحه فجزم جماعة منهم [المستوعب] و[الرعاية]: أنه لا يجوز نحره قبل وقت وجوبه، وقاله القاضي وأصحابه: لا يجوز قبل فجر يوم النحو (و، هـ، م) (1) فظاهره يجوز إذا وجب.
أدلة هذا القول :
نظرا إلى اختلاف القائلين بهذا القول في تحديد بدء وقت جواز ذبحه فإننا نذكر أدلة كل قول على حدة مع المناقشة:
أ- أما رواية أبي طالب عن الإمام أحمد : أنه إن قدم به قبل عشر ذي الحجة جاز ذبحه، وإن قدم به بعد دخول العشر فإنه لا يذبحه إلا يوم النحر، فهذه الرواية مبنية على مصلحة مرسلة، وذلك أنه جاء في رواية أبي
__________
(1) تعني هذه الرموز عند صاحب كتاب [الفروع] ما يأتي: فالواو: الأصح في مذاهب الأئمة الثلاث، والهاء: خلاف أبي حنيفة، والميم: خلاف مالك (الناشر).

طالب كما في [المغني]، أنه قال: سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي، قال: ينحره بمكة، وإن قدم قبل العشر ينحره حتى لا يضيع أو يموت أو يسرق. انتهى المقصود.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأمور ثلاثة:
أحدها : أن العمل بالمصلحة المرسلة مشروط بعدم مخالفتها نصا، وقد خالفت النص هنا، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ذبح الهدي إلى يوم النحر قصدا، وقال صلى الله عليه وسلم: « خذوا عني مناسككم » (1) .
الثاني : أنها منتقضة، فإن التعليل بخوف الموت والضياع والسرقة وارد أيضا على الهدي إذا قدم به بعد دخول العشر؛ لأن العشر يحتمل أن يموت فيها الهدي أو يضيع أو يسرق.
الثالث : أن التحديد بالعشر لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع.
ب- وأما من قال بجواز ذبحه بعد الإحرام بالعمرة، وهو قول عند الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، وقول أبي الخطاب من الحنابلة ومن وافقهم من أهل العلم، فاستدل له بالكتاب، وهو قوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (2)
وجه الدلالة : ما ذكره الشيرازي وغيره: أن هدي التمتع والقران له سببان: هما العمرة والحج في تلك السنة، فإن أحرم بالعمرة انعقد السبب الأول في الجملة، فجاز الإتيان بالمسبب كوجوب قضاء الحائض أيام حيضها من رمضان؛ لأن انعقاد السبب الأول الذي هو وجود شهر رمضان
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(2) سورة البقرة الآية 196

كفى في وجوب الصوم وإن لم تتوفر الأسباب الأخرى ولم تنتف الموانع؛ لأن قضاء الصوم فرع من وجوب سابقه في الجملة.
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن هذا مجرد فهم للآية باجتهاد عارضه نص، ومن القواعد المقررة في باب الاجتهاد: أنه لا يجوز الاجتهاد مع النص، والنص هو قوله تعالى: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } (1) { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (2) وقد سبق الاستدلال بهذه الآية مع مناقشتها في القول الأول فلا نطيل الكلام بالإعادة.
ج- وأما من قال بجواز ذبحه بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهو قول للشافعية ومن وافقهم من أهل العلم، فقد استدلوا بالكتاب والسنة والمعنى:
أما الكتاب : فقوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (3) (4) ووجه الاستدلال بها مع المناقشة يقال فيه ما قيل عند الاستدلال بها للقول قبل هذا.
وأما السنة : فما رواه مسلم في [صحيحه] قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: « فأمرنا إذا أحللنا أن
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) سورة الحج الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 196
(4) تقدم الاستدلال بها.

نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية » (1) وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث.
وجه الدلالة: قال النووي : فيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج .
ويمكن أن يجاب عن ذلك بثلاثة أمور :
أحدها : أن يقال: لا منافاة بين هذا الحديث وبين ما سبق من أدلة السنة للقول الأول وما جاء في معناها؟ فإن جميعها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المفرد والقارن اللذين لم يسوقا الهدي بالتحلل، وأمر بالهدي وأمر باشتراك السبعة في البدنة، إلا أنه في هذا الحديث نسق أمرهم بالهدي، وأمرهم بأن يشترك السبعة في البدنة على أمره إياهم بالفسخ بدون فاصل؛ متبعا ذلك قوله: (وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم) وليس في تلك الأحاديث هذه اللفظة ولا ذلك التنسيق؛ فمن هنا نشأ الخطأ في استدلال من استدل بهذا الحديث حيث لم يفرق بين زمن الأمر بالشيء وبين زمن فعل المأمور به فظن أن الإشارة في قوله: (وذلك) إلى زمن الذبح وإنما هي إشارة إلى زمن الأمر، والمراد: أن زمن الأمر بالفسخ وزمن الأمر بالهدي والاشتراك فيها زمن واحد، والحديث صريح في أن ذلك حين إحلالهم من حجهم، وذلك إنما وقع يوم النحر؛ لأنه لا إحلال من حج ألبتة قبل يوم النحر، فيكون الحديث حجة عليهم لا لهم وهذا يسمى عند الأصوليين بالقلب.
الثاني : أنه على تقدير أن قوله: (وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم) هذا الحديث مخالف لما سبق، فيقال فيه: إن هذه الزيادة شاذة، ووجه شذوذها مخالفتها لما سبق من الأدلة الصحيحة الخالية من هذه
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1318).

الزيادة، ومدارها على محمد بن بكر البرساني، وقد رواه عن جابر عدول عن طريق أبي الزبير المكي أئمة: مالك بن أنس والليث بن سعد وأبو خيثمة ومطر الوراق وسفيان بن عيينة، وجميع رواياتهم خالية من هذه الزيادة.
الثالث : أن هذا من الأمور التي تتوافر الهمم والداوعي على نقلها، فلو وقع أمره صلى الله عليه وسلم للصحابة بأن يذبحوا الهدي بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج- لسارعوا إلى الامتثال، كما سارعوا إلى امتثال أوامره من لبس الثياب والتطيب ومجامعة النساء وغير ذلك، ولو وقع ذلك لنقل، فلما لم ينقل دل على عدم وقوعه ولم يأمرهم بالتحلل من العمرة إلا أنهم ليس معهم هدي.
وأما المعنى : فقال الشيرازي : إنه حق مالي يجب بشيئين، فجاز تقديمه على أحدهما كالزكاة بعد ملك النصاب.
ويمكن أن يناقش ذلك: بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص ولا اجتهاد مع النص، وقد مضى ذلك.
د- وأما من قال من الشافعية ومن وافقهم بأنه يجوز بعد الإحرام بالحج فقد استدلوا بالكتاب والسنة والمعنى:
أما الكتاب : فقوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (1)
وجه الدلالة: ما ذكره الشيرازي وغيره من أن الله أوجب الهدي على المتمتع، وبمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعا، فوجب حينئذ؛ لأنه يطلق على المتمتع وقد وجد، ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله، كقوله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } (2) (3) فالصيام ينتهي بأول جزء من
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة البقرة الآية 187
(3) سبق الاستدلال بها.

الليل، فكذلك التمتع يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام.
ويجاب عن الاستدلال بهذه الآية : بما أجيب به عن الاستدلال بها لمن قال بجواز ذبحه إذا أحرم بالعمرة أو بعد تحلله منها وقد سبق.
ويجاب أيضا : بأن المتمتع لا يتحقق بإحرام الحج لاحتمال أن الحج قد يفوته بسبب عائق عن الوقوف بعرفة؛ لأنه لو فاته لا يسمى متمتعا.
أما السنة فقد استدلوا بأدلة :
الأول : ما رواه مسلم في [صحيحه] قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية » (1) وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث.
وجه الدلالة : قد يقال: إن هذا الحديث يدل على جواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، فيدل بطريق الأولى على جوازه بعد الإحرام بالحج.
وقد مضت مناقشة هذا الدليل عند الاستدلال به لمن قال بجواز ذبحه بعد التحلل من العمرة، وبهذا يتبين أنه لا دلالة فيه، ويجاب ثانيا بما أجيب به من الوجه الثاني عن الاستدلال بالآية.
الدليل الثاني : ما أخرجه الحاكم في [المستدرك] قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم، ثنا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب، ثنا يحيى بن أيوب، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، ثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء، عن جابر بن عبد الله قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجاجا حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1318).

أمرنا بالإحلال... الحديث إلى أن قال: قال عطاء : قال ابن عباس رضي الله عنهما: « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما، فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف، فقام تحت يدي ناقته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اصرخ، أيها الناس، هل تدرون أي شهر هذا؟ » الحديث ثم قال الحاكم بعد إخراجه هذا الحديث: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي على تصحيحه.
ومحل الشاهد من هذا الحديث: قوله: (فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ...) إلخ.
وجه الدلالة قد يقال : إن عطف الوقوف بالفاء على ذبح سعد تيسه عن نفسه يدل على جواز ذبح الهدي بعد الإحرام بالحج.
والجواب : أن ذبح سعد للتيس كان يوم النحر، بدليل ما رواه الإمام أحمد في [مسنده] قال: (حدثنا حجاج بن محمد عن
ابن جريج قال: أخبرني عكرمة مولى ابن عباس، زعم أن ابن عباس أخبره: « أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنما يوم النحر في أصحابه، وقال: اذبحوها لعمرتكم، فإنها تجزئ فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس » (1) وقد ذكره الهيثمي في [مجمع الزوائد] وقال: أخرجه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح، فرواية الإمام أحمد مفسرة لرواية الحاكم، حينئذ لا دلالة في الحديث.
وأما المعنى فمن وجوه :
أحدها : ما ذكره الشيرازي بقوله: إن شرائط الدم إنما توجد بوجود ا لإحرام فوجب أن يتعلق الوجوب به، انتهى.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/307).

ويمكن أن يناقش ذلك: بأنه دليل اجتهادي ولا اجتهاد مع النص، وقد سبق ما يدل على خلاف ذلك عند الكلام على أدلة المذهب الأول.
الثاني : ويجاب أيضا: بما أجيب به من الوجه الثاني عن الآية التي استدل بها أهل هذا القول. ما سبق من المناقشة لاستدلال أهل القول الأول بقوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (1) والمحل المقصود من المناقشة جواز ذبح الهدي قبل يوم النحر قياسا على جواز الصيام؛ لأنه بدله، والبدل له حكم المبدل منه.
الثالث : ويجاب عنه هنا بما أجيب به عنه هناك، تركنا إعادته هنا اختصارا. ما ذكره النووي بقوله: (ولا يتوقت بوقت كسائر دماء الجبران).
ويناقش ذلك : بما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه [زاد المعاد]، من أنه دم شكران لا دم جبران (2)
ويمكن أن يناقش ثانيا : بأنه قياس مع النص، فقد وردت أدلة دالة على ذبحه يوم النحر وسبقت من أدلة القول الأول، فيكون هذا القياس فاسد الاعتبار.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) [زاد المعاد] (1\ 217).

ثانيا: نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة:
اختلف أهل العلم في تحديد نهاية أيام النحر: هل هي يوم العيد ويومان بعده، أو يوم العيد وثلاثة أيام بعده، أو يوم العيد فقط؟.. إلخ ما ستأتي الإشارة إليه من الأقوال التي لا تعتمد على دليل شرعي.

وفيما يلي ذكر المذاهب ومن قال بكل مذهب منها ومستنده مع المناقشة في حدود ما يسره الله :
القول الأولى : ينتهي وقت النحر بغروب شمس اليوم الثاني من أيام التشريق ، وممن قال بهذا القول : الحنفية وهو مذهب مالك وأحمد .
قال الجصاص : ذهب أصحابنا والثوري إلى أنه يوم العيد ويومان بعده .
وقال القرطبي : قال مالك : ثلاثة ، يوم النحر ويومان بعده .
وقال ابن قدامة : قال أحمد : أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن القيم : هذا مذهب أحمد .
وقال في [الإنصاف] ، : هذا هو الصحيح من المذهب ، وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم .
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } (1)
وجه الدلالة : ما ذكره القرطبي بقوله : (وهذا جمع قلة لكن المتيقن منه الثلاثة وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به) .
وأما السنة : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث .
وجه الدلالة : ما ذكره الباجي بقوله : ومعلوم أنه أباح الأكل منها في أيام الذبح فلو كان اليوم الرابع منها لكان قد حرم على من ذبح في ذلك اليوم أن
__________
(1) سورة الحج الآية 28

يأكل من أضحيته . انتهى كلام الباجي ، وليس هناك فرق بين الأضحية والهدي بالنسبة لانتهاء وقت الذبح .
وأما الإجماع : فقد قرره الجصاص بقوله- بعد ذكره هذا الرأي عن بعض الصحابة قال : قد ثبت عمن ذكرنا من الصحابة أنها ثلاثة ، واستفاض ذلك عنهم ، وغير جائز لمن بعدهم خلافهم إذ لم يرد عن أحد من نظرائهم خلافه فثبتت حجته .
وأيضا : فإن سبيل تقدير النحر التوقيف أو الاتفاق ، إذ لا سبيل إليها من طريق القياس فلما قال : من ذكرنا قوله من الصحابة الثلاثة صار ذلك توقيفا كما قلنا في مقدار مدة الحيض ، وتقدير المهر ، ومقدار التشهد في إكمال فرض الصلاة وما جرى مجراها من المقادير التي طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق ، وإذا قال به قائل من الصحابة ثبتت حجته ، وكان ذلك توقيفا .
وأما الأثر : فقد نقله الجصاص وغيره عن علي وابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب .
وأما المعنى : فمن وجهين :
أحدها : ما ذكره الجصاص بقوله : قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق ؛ لأنه لو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق ، وكان ذكر أحد العددين ينوب عن الآخر فلما وجدنا الرمي في يوم النحر وأيام التشريق ووجدنا النحر يوم النحر ، وقال قائلون : إلى آخر أيام التشريق ، وقلنا نحن : يومان بعده وجب أن نوجد فرقا بينهما لإثبات فائدة كل واحد من اللفظين وهو أن يكون من أيام التشريق ما ليس من أيام النحر وهو آخر أيامها .
الثاني : ما ذكره الباجي بقوله : هو يوم مشروع النفر قبله فلم يكن من أيام

الذبح كالخامس .
القول الثاني : أن وقت الذبح ينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق .
وبهذا قال الشافعي : واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهم من أهل العلم ، قال الشافعي : والأضحية جائزة يوم النحر وأيام منى كلها . وقال المرداوي في [الإنصاف] : قال في [الإيضاح] : آخره آخر يوم من أيام التشريق ، واختاره ابن عبدوس في [تذكرته] بأن آخره آخر اليوم الثالث من أيام التشريق واختاره الشيخ تقي الدين قاله في [الاختيارات] وجزم به ابن رزين في [نهايته] . والظاهر أنه مراد صاحب [النهاية] فإن كلامه محتمل .
وقال ابن القيم في [زاد المعاد] : وهو مذهب إمام أهل الهجرة الحسن وإمام أهل مكة عطاء بن أبي رباح وإمام أهل الشام الأوزاعي وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي رحمه الله ، واختاره ابن المنذر .
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى .
أما الكتاب : فقوله تعالى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } (1) الآية .
وجه الدلالة : أن المراد بالمعلومات أيام النحر ، يوم العيد وثلاثة أيام بعده ، واستدلوا لهذا التوجيه بقوله تعالى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } (2) الآية .
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) سورة البقرة الآية 203

قال ابن القيم رحمه الله : هذه الأيام الثلاثة تختص بأنها أيام منى وأيام الرمي وأيام التشريق ، ويحرم صيامها فهي إخوة في هذه الأحكام فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع ؟ !
وأما السنة : فقد استدلوا بأدلة :
الأول : « أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه يوم النحر ضحى » .
وجه الدلالة : ما ذكره الشافعي بقوله : فلما لم يحظر على الناس أن ينحروا بعد يوم النحر بيوم أو يومين لم نجد اليوم الثالث مفارقا لليومين قبله ؛ لأنه ينسك فيه ويرمى كما ينسك ويرمى فيهما .
الثاني : ما رواه سليمان بن أبي موسى ، عن ابن أبي حسين عن جبير بن مطعم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كل عرفات موقف ، وارتفعوا عن عرنة ، وكل مزدلفة موقف ، وارتفعوا عن محسر ، وكل فجاج مكة منحر ، وكل أيام التشريق ذبح » (1) .
وهذا نص في الدلالة أن كل أيام النحر بأنها ثلاثة بعد العيد .
وأجيب عن هذا الحديث : بما نقله الرازي عن الإمام أحمد : أنه قال جوابا لمن سأله عن هذا الحديث قال : لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن مطعم ، وأكثر روايته عنه سهو .
قال الرازي : وقد قيل : إن أصله ما رواه مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه قال : سمعت أسامة بن زيد يقول : سمعت عبد الله بن أبي حسين يخبر عن عطاء بن أبي رباح ، وعطاء يسمع قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل عرفة موقف ، وكل منى منحر ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر » (2) فهذا أصل الحديث ولم يذكر فيه : " وكل
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/82).
(2) سنن أبو داود المناسك (1937),سنن ابن ماجه المناسك (3048),سنن الدارمي المناسك (1879).

أيام التشريق ذبح " ، ويشبه أن يكون الحديث الذي ذكر فيه هذا اللفظ إنما هو من كلام جبير بن مطعم أو من دونه ؛ لأنه لم يذكره .
وأجاب ابن القيم عن ذلك بقوله : وروي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كل منى منحر ، وكل أيام التشريق ذبح » (1) ، وروي من حديث جبير بن مطعم ، وفيه انقطاع ، ومن حديث أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر قال يعقوب بن سفيان : أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون . انتهى .
وقد تكلم الزيلعي على هذا الحديث في [نصب الراية] فقال : رواه أحمد في [مسنده] وابن حبان في [صحيحه] في النوع الثالث والأربعين من القسم الثالث من حديث عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كل أيام التشريق ذبح ، وعرفة كلها موقف » (2) إلى آخره ، وقد ذكرناه بتمامه في الحج ، ورواه البزار في [مسنده] وقال : ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم ، ورواه البيهقي في [المعرفة] ، ولم يذكر فيه انقطاعا ، وأخرجه الدارقطني في [سننه] عن أبي معيد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن دينار عن جبير بن مطعم مرفوعا ، وأبو معيد بمثناة فيه لين ، وأخرجه هو والبزار عن سويد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه مرفوعا ، قال البزار : لا نعلم قال فيه عن نافع بن جبير عن أبيه إلا سويد بن عبد العزيز ، وهو ليس بالحافظ ، ولا يحتج به إذا انفرد ، وحديث ابن أبي حسين هو الصواب ، مع أن ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم . انتهى .
وأخرجه أحمد أيضا والبيهقي عن سليمان بن موسى عن جبير بن
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/82).
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/82).

مطعم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال البيهقي : وسليمان بن موسى لم يدرك جبير بن مطعم ، وأخرج ابن عدي في [الكامل] عن معاوية بن يحيى الصدفي عن ابن المسيب عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أيام التشريق كلها ذبح » انتهى .
وضعف معاوية بن يحيى عن النسائي والسعدي وابن معين وعلي بن المديني ووافقهم ، وقال ابن أبي حاتم في [كتاب العلل] قال أبي : هذا حديث موضوع بهذا الإسناد . انتهى . وقيل : معاوية محمد بن شعيب .
وأما الأثر : فقد أخرج البيهقي عدة آثار في ذلك عن ابن عباس والحسن وعطاء وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى ، وذكر ابن قدامة أنه مروي عن علي .
وأما المعنى : فإنها أيام تكبير وإفطار فكانت محلا للنحر كالأولين ، ذكر ذلك ابن قدامة .
وأما ما عدا هذين القولين من الأقوال فقد تركنا ذكرها ؛ لعدم جدوى البحث فيها ، فإنها أقوال مبنية على مدارك اجتهادية ولا محل للاجتهاد مع الأدلة ، قال ابن عبد البر : ولا يصح عندي في هذا إلا قولان . أحدهما : قول مالك والكوفيين ، والثاني : قول الشافعي والشاميين ، وهذان القولان مرويان عن الصحابة ، فلا معنى للاشتغال بما خالفهما ؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة وما خرج عن هذين فمتروك . انتهى المقصود . بواسطة نقل القرطبي عنه في [جامعه] .

ثالثا : ذبح الهدي ليلا مع الأدلة والمناقشة :
اختلف أهل العلم في جواز الذبح ليلا : فمنهم من يرى أنه لا يجوز ،

ومنهم من قال بجوازه .
وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة :
القول الأول : لا يجوز الذبح ليلا .
وممن قال به مالك وأصحابه إلا أشهب ، وهو رواية عن أحمد وهي ظاهر كلام الخرقي ، قال الباجي : ولا يجوز نحر الهدي ليلا ، وعلى هذا قول مالك وأصحابه ، إلا أشهب فقد روى عنه ابن الحارث أنه يجوز نحر الهدي أو ذبحه ليلا ، وقال ابن قدامة : ولا يجزئ- أي : الذبح- في ليلتهما في قول الخرقي ، قال : واختلفت الرواية عن أحمد في الذبح في ليلتي يومي التشريق ففيه لا يجزئ نص عليه أحمد رضي الله عنه في رواية الأثرم .
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } (1)
وجه الدلالة : قد يقال : إن الله ذكره بلفظ الأيام وذكر اليوم يدل على أن الليل ليس كذلك . ومن وجه آخر قال الباجي : إن الشرع ورد بالذبح في زمن مخصوص وطريق تعلق النحر والذبح بالأوقات الشرعية لا طريق له غير ذلك ، فإذا ورد الشرع بتعلقه بوقت مخصوص ؛ كقوله تعالى : { فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } (2) وبنحر النبي صلى الله عليه وسلم وذبحه أضحيته نهارا علمنا جواز ذلك نهارا ، ولم يجز أن نعديه إلى الليل إلا بدليل .
وقد طلبنا في الشرع فلم نجد دليلا ، ولو كان لوجدناه مع البحث
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) سورة الحج الآية 28

والطلب ، فهذا من باب الاستدلال بعدم الدليل فيما تتوقف شرعيته على وجود الدليل .
وأجاب ابن حزم عن هذا الاستدلال بقوله : هذا إيهام منهم يمقت الله عليه ؛ لأن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية ذبحا ولا تضحية ولا نحرا ، لا في نهار ولا في ليل ، إنما أمر الله تعالى بذكره في تلك الأيام المعلومات ، أفترى يحرم ذكره في لياليه إن هذا لعجب! ومعاذ الله من هذا ، وليس هذا النص بمانع من ذكره تعالى وحمده على ما رزقنا من بهيمة الأنعام في ليل ونهار في العام كله ، ولا يختلفون فيمن حلف ألا يكلم زيدا ثلاثة أيام أن الليل يدخل في ذلك مع النهار .
وأما السنة : فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الذبح ليلا .
وهذا نص في الدلالة على عدم جواز الذبح ليلا .
وقد أجاب عنه ابن حزم بقوله : وذكروا حديثا لا يصح رويناه من طريق بقية بن الوليد عن مبشر بن عبيد الحلبي ، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالليل » وبقية ليس بالقوي ، ومبشر بن عبيد مذكور بوضع الحديث عمدا ثم هو مرسل . انتهى كلام ابن حزم . وقال ابن حجر في مبشر بن عبيد : هو متروك .
ويجاب عن ذلك : بأن البيهقي أخرج في [سننه] حديثا فيه النهي عن الذبح ليلا قال : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا الحسن بن علي بن عفار ، ثنا يحيى بن آدم ، ثنا حفص بن عياش عن شيث بن عبد الملك عن الحسن قال : « نهى عن جذاذ الليل وحصاد الليل والأضحى بالليل » .

وأجاب عنه البيهقي بقوله : إنما كان ذلك من شدة حال الناس كان الرجل يفعله ليلا فنهى عنه ثم رخص في ذلك .
وأما المعنى : فمن وجهين ذكرهما عبد الرحمن بن قدامة :
أحدهما : أنه ليل يوم يجوز الذبح فيه فأشبه ليلة يوم النحر .
الثاني : أن الليل يتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب ولا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود . وأجاب ابن حزم عن الدليل الأول فقال : هذا قياس ، والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا من عين الباطل ؛ لأن يوم النحر هو مبدأ دخول وقت التضحية وما قبله ليس وقتا للتضحية ولا يختلفون معنا في أن من طلوع الشمس إلى أن يمضي بعد ابيضاضها وارتفاعها وقت واسع من يوم النحر لا يجوز فيه التضحية ، فيلزمهم أن يقيسوا على ذلك اليوم ما بعده من أيام التضحية فلا يجيزون التضحية فيها إلا بعد مضي مثل ذلك الوقت وإلا فقد تناقضوا وظهر فساد قولهم ، وما نعلم أحدا من السلف قبل مالك منع من التضحية ليلا .
القول الثاني : أنه يجوز الذبح ليلا بمنى :
قال ذلك أبو حنيفة ، وروي عن مالك : إن فعل ذلك أجزأه ، وقال به أشهب من المالكية ، والشافعي ، وهو رواية عن أحمد ، وقول أكثر الصحابة ، وبه قال ابن حزم ، قال الباجي نقلا عن القاضي أبي الحسن : وقد روي عن مالك فيمن فعل ذلك أجزأه ، ونقل الباجي القول عن أشهب فيه : أنه يجوز الذبح ليلا ، وقال الشافعي رحمه الله : ويذبح في الليل والنهار ، وإنما أكره ذبح الليل لئلا يخطئ رجل في الذبح ، أو لا يوجد مساكين حاضرون ، فأما إذا أصاب الذبح ووجد مساكين فسواء .

وقال النووي مذهبنا جواز الذبح ليلا ونهارا في هذه الأيام ، لكن يكره ليلا ، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور والجمهور ، وهو الأصح عن أحمد .
وقال ابن قدامة بعد ذكره لرأى الخرقي : وقال غيره من أصحابنا : يجوز ليلتي يومي التشريق الأوليين ، وهو أكثر الفقهاء ، وقال في الشرح ، وروي عن أحمد : أن الذبح يجوز ليلا اختاره أصحابنا المتأخرون ، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه ، انتهى كلامه .
واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } (1)
وجه الدلالة : يمكن أن يقال : إن الأيام تطلق لغة على ما يشمل الليالي .
ويمكن أن يجاب عن ذلك : بأن حمل الآية على ظاهرها ، وهو أنها تتناول الأيام دون الليالي أحوط من حملها على تناول الليل والنهار .
وأما المعنى : فمن وجهين ذكرهما عبد الرحمن بن قدامة :
أحدهما : أن هاتين الليلتين داخلتان في مدة الذبح ، فجاز الذبح فيهما كالأيام .
الثاني : أن الليل زمن يصح فيه الرمي فأشبه النهار .
__________
(1) سورة الحج الآية 28

رابعا : مكان ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة :
لم نطلع على كلام أحد من أهل العلم ، أن هدي التمتع والقران يجوز ذبحه خارج الحرم ، ولم يرد في القرآن ، ولم نطلع على شيء من السنة يدل

على جواز ذبحه خارج الحرم ، وقد جاءت أدلة من القرآن ، خاصة في غير هدي التمتع والقران وجاءت آية دالة بعمومها على محل هدي التمتع والقران ، وجاءت أدلة من السنة تدل على ذبحه في أي موضع من الحرم .
وفيما يلي بيان هذه الأدلة :
قال تعالى في المحصر : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } (1) وفسر محله بأنه الحرم عند القدرة على إيصاله ، وقوله تعالى في جزاء الصيد : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } (2) ومعلوم أنه لم يرد الكعبة بعينها ، وإنما أراد الحرم ، وقال : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (3)
وهذا عام في الهدايا ، ومنها هدي التمتع والقران .
وأما الأحاديث فقد روى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كل منى منحر ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر » (4) .
ولتمام الفائدة نورد ما ذكره الزيلعي على هذا الحديث قال : روي من حديث جابر ومن حديث أبي هريرة ، فحديث جابر أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد الليثي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل عرفة موقف ، وكل منى منحر ، وكل المزدلفة موقف ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر » (5) انتهى بلفظ أبي داود ، ومثله لفظ ابن ماجه .
إلا أن فيه تقديما وتأخيرا ، ولاختلاف لفظهما فرقهما ابن عساكر في موضعين من ترجمة عطاء عن جابر في أطرافه فجعلها حديثين وليس
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة المائدة الآية 95
(3) سورة الحج الآية 33
(4) سنن أبو داود المناسك (1937),سنن ابن ماجه المناسك (3048),سنن الدارمي المناسك (1879).
(5) سنن أبو داود المناسك (1937),سنن ابن ماجه المناسك (3048),سنن الدارمي المناسك (1879).

بجيد ، والصواب : ما فعله شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه ، فإنه ذكره في ترجمة واحدة ، والشيخ زكي الدين المنذري قلد ابن عساكر فلم يعزه في [مختصر السنن] لابن ماجه ، والله أعلم .
وأسامة بن زيد الليثي قال في [التنقيح] : روى له مسلم متابعة فيما أرى ، ووثقه ابن معين في روايته ، انتهى . فالحديث حسن . واعلم أن بعض الحديث في مسلم أخرجه عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « نحرت هاهنا ، ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم » (1) .
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود في الصوم ، عن محمد بن المنكدر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « وفطركم يوم تفطرون ، وأضحاكم يوم تضحون ، وكل عرفة موقف ، وكل منى منحر ، وكل فجاج مكة منحر ، وكل جمع موقف » (2) انتهى .
قال المنذري في [مختصره] : قال ابن معين : محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال : أبو زرعة لم يلق أبا هريرة ، انتهى .
ورواه البزار في [مسنده] وقال : محمد بن المنكدر لا نعلمه سمع من أبي هريرة . انتهى .
وروى الواقدي في كتاب [المغازي] : حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عمرة القضية- وهديه عند المروة - : « هذا المنحر ، وكل فجاج مكة منحر » (3) فنحر عند المروة ، انتهى كلام الزيلعي .
وقال ابن حجر في إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي مولاهم
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1218),مسند أحمد بن حنبل (3/321).
(2) سنن الترمذي الصوم (697),سنن أبو داود الصوم (2324),سنن ابن ماجه الصيام (1660).
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/98).

أبو إسماعيل المدني : ضعيف من السابعة ، روى له أبو داود والترمذي والنسائي .

خامسا : حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة والمناقشة :
دل الكتاب والسنة والإجماع وسد الذرائع على أنه لا يجوز أن يستعاض عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } (1)
وجه الدلالة : أن الله جل وعلا أوجب على المتمتع الهدي في حال القدرة عليه ، فإذا لم يجد هديا أو ثمنه فإنه ينتقل إلى الصيام ، ولم يجعل الله واسطة بين الهدي والصيام ، ولا بدلا عن الصيام عند العجز عنه وما كان ربك نسيا ، وقد بين الله ما يجب على المريض إذا عجز مطلقا عن الصيام من الإطعام- بقوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } (2)
وإذا كان قادرا على القضاء فقد بين حكمه بقوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (3)
وبين في كفارة اليمين : أنه يجب العتق أو الإطعام أو الكسوة ، وعند العجز يصوم ثلاثة أيام متتاليات ، وبين في كفارة من أصيب بمرض أو أذى في رأسه واحتاج إلى ارتكاب محظور ؛ ليتخلص مما أصيب به- بقوله تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة البقرة الآية 184
(3) سورة البقرة الآية 185
(4) سورة البقرة الآية 196

وقال في كفارة القتل خطأ : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } (1) إلى أن قال : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } (2)
وقال في كفارة الظهار : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (3) { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } (4) الآية .
وأما السنة : فإن أدلتها في هذا الموضوع متفقة مع القرآن .
وأما الإجماع : فإن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين أخذوا بما دل عليه القرآن ودلت عليه السنة من وجوب الهدي على المتمتع والقارن ، فإذا لم يجد هديا أو لم يجد ثمنه فإنه يصوم عشرة أيام : ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، ومن قال بالتصدق فإنه يطالب بدليل يخالف ذلك .
وأما سد الذرائع : فإنه لو أجيز القول بالاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته- لأدى ذلك إلى التوسع في أبواب الشريعة ، فمثلا يقال : تخرج نفقة الحج بدلا من الحج نظرا لصعوبته في هذا العصر .
وهناك شبه قد يتعلق بها من تسول له نفسه القول بالجواز نذكرها فيما يلي ، ثم نتبع كل شبهة بجوابها .
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سورة المجادلة الآية 3
(4) سورة المجادلة الآية 4

الشبهة الأولى : قد يقال بالجواز نظرا لصعوبة تنظيم الذبح في الوقت الحاضر مع بقاء المفسدة على حالها ، بل وربما زادت مع تزايد عدد الحجاج .
ويمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بأمور :
أحدها : أن سوء تطبيق الناس لأمر كلفوا به لا يجوز نقلهم عنه إلى أمر لم يشرع لهم بدعوى أنه يسهل عليهم تطبيقه ، بل يجب السعي في تسهيل الذبح عليهم وحسن تطبيقه .
الثاني : أن هذا حكم مبني على مصلحة ملغاة ، وقد قرر العلماء على أن المصالح ثلاثة أقسام : مصلحة معتبرة فيعمل بها بالإجماع ، ومصلحة ملغاة فلا يعمل بها بالإجماع ، ومصلحة مرسلة ، وفي العمل بها خلاف ، والمصلحة المذكورة هنا مصلحة ملغاة ، فإن الشرع لم يعتبرها بعد ذكره للهدي ، وفي حالة عدم القدرة عليه أو على ثمنه ينتقل إلى الصيام .
الثالث : أن المقصود من هذه العبادة إراقة الدم ، وأما اللحوم فهي مقصودة بالقصد الثاني ، قال تعالى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } (1) وفي الاكتفاء بالتصدق بالثمن دون إراقة الدم إضاعة للقصد الأول .
الشبهة الثانية : ما يجري عليه بعض الحجاج من تسليم ثمن الهدي الواجب عليهم للمطوفين وعمالهم بأنفسهم بصفة التوكيل حيث لا يباشرون بأنفسهم عمليات الشراء والذبح والتصدق باللحوم ؛ لتعذر
__________
(1) سورة الحج الآية 37

ذلك عليهم ، وخوف الهلاك من ممدة الازدحام أو المشقة والحرج .
ويمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بما أجيب به عن الأولى ، ويضاف إلى ذلك أن الحاج إذا وكل شخصا يشتري عنه هديا ويذبحه ويوزعه على المستحقين على الصفة الشرعية- فقد خرج بذلك عن عهدة الهدي ، وصارت العهدة على من صار وكيلا للقيام بالشراء والذبح والتصدق ، فإن هذا مما يجوز التوكيل فيه شرعا .
الشبهة الثالثة : أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وبالتالي فإن هذا درء للمفاسد عن الأمة وجلب لمصالحها .
ويجاب عن هذه الشبهة بما أجيب به عن الشبهة الأولى ، ويضاف إلى ذلك :
أولا : أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، لكن لا يصح أن يقال : أن ذبح الهدايا مفسدة ، وأن درءها بما ذكروه من إلغاء هذه الشعيرة والتصدق بثمنها ؛ لأن من القواعد المقررة في الشريعة : أن المفاسد درجات ، وأن المصالح درجات ، وأنه يجوز تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما ، وارتكاب أخف المفسدتين لاجتناب كبراهما ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح فيما ليس فيه دليل شرعي ، وفيما إذا كانت المفسدة أرجح من المصلحة وما نحن فيه ليس كذلك ، بل قام الدليل على خلافه ، والمصلحة أرجح مما ظن مفسدة بتحريف النصوص عن مواضعها ومقاصدها .
ثانيا : أن هذا يفتح باب تلاعب في الشريعة ، فلا يكون للنصوص قيمة ، وإنما القيمة لما يصدر من سفهاء العقول من تصورات يزعمون أنها مصالح

تستحق أن تقدم على الأدلة .
ثالثا : أن النسك عبادة ، والعبادات مبنية على التوقيف ، فلا يجوز العدول عن المشروع إلا بدليل شرعي موجب للعدول عنه ، وكل تشريع مبني على التوقيف فإنه لا يدخله الاجتهاد ومنه القول بالمصلحة المدعاة هنا .
رابعا : أن من وجب عليه الهدي يجب عليه إيصاله إلى مستحقه ، كما في قوله تعالى : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ } (1) وكذلك سائر ما يجب عليه من الحقوق ؛ كالزكاة والنذر والكفارات وغيرها .
خامسا : أن الشارع لم يمنع الذبح في أي محل من الحرم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « نحرت هاهنا ، ومنى كلها منحر ، وفجاج مكة طريق ومنحر » (2) فالحاج ينحره في أي موضع من فجاج مكة ويوزعه على الفقراء .
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) صحيح مسلم الحج (1218).

سادسا : علاج مشكلة اللحوم في منى :
مشكلة اللحوم يمكن أن تعالج بالأمور الآتية :
الأول : الكشف على ما يباع للتأكد من صلاحيته هديا من حيث السن والسمن والسلامة من الأمراض وموانع الإجزاء ، وتوضع علامة يعرف بها أن هذه الذبيحة تجزئ وما عدا ذلك يمنع .
الثاني : التوسع في توعية الحجاج ببيان المجزئ وما لا يجزئ حتى لا يقدموا إلا على بصيرة .
الثالث : الإكثار من عدد المجازر في أماكن مختلفة من منى ، وفجاج مكة ، وإرشاد الناس إليها .

رابعا : تسهيل طريق الحصول على هذه اللحوم للفقراء ، وذلك بما يأتي :
أ- إيصاله إليهم إن أمكن .
2 - معاونتهم على إيصاله إلى منازلهم .
3 - التوسع في توزيع ما زاد على فقراء الحرم خارج الحرم ، ويكون إعطاء الفقراء الذين هم خارج الحرم بمنزلة دفع الزكاة لفقراء بلد المال إذا أعطى فقراء بلد المال حاجتهم ولم يوجد أحد يستحق ، فكذلك الهدي ينقل إلى فقراء البلدان المجاورة لمكة .
التوسع في التوكيل على ذبح الهدي بطرق منظمة تضمن مصلحة صاحب الهدي ومصلحة الفقير والمصلحة العامة ، ويكون فيه أناس يشرفون من قبل الدولة على تطبيق ذلك .
هذا ما تيسر ذكره .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء
رقم (43) وتاريخ 13 \ 4 \ 1396 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
بناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في النصف الأول من شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوع (هدي التمتع والقران) في جدول أعمال الدورة الثامنة ، وإعداد بحث في ذلك ، فقد اطلعت الهيئة في الدورة الثامنة المنعقدة بمدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396 هـ على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في وقت الذبح ومكانه ، وحكم الاستعاضة عن الهدي بالتصدق بقيمته وعلاج مشكلة اللحوم .
وبعد تداول الرأي تقرر بالإجماع ما يلي :
1 - لا يجوز أن يستعاض عن ذبح هدي التمتع والقران بالتصدق بقيمته لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على منع ذلك مع أن المقصود الأول من ذبح الهدي هو التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدماء ، كما قال تعالى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } (1) ؛ ولأن من القواعد المقررة في الشريعة سد الذرائع ، والقول بإخراج القيمة يفضي إلى التلاعب بالشريعة فيقال- مثلا- : تخرج نفقة الحج بدلا من الحج لصعوبته في هذا العصر ، ولأن المصالح ثلاثة أقسام : مصلحة معتبرة بالإجماع ،
__________
(1) سورة الحج الآية 37

ومصلحة ملغاة بالإجماع ، ومصلحة مرسلة ، والقول بإخراج القيمة مصلحة ملغاة ؛ لمعارضتها للأدلة ، فلا يجوز اعتبارها .
2 - قرر المجلس بالأكثرية أن أيام الذبح أربعة : يوم العيد وثلاثة أيام بعده ، ويجوز الذبح في ليالي أيام التشريق ؛ لقوله تعالى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } (1) { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (2)
فإن قضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر ، ولما رتب هذه الأفعال على ذبح الهدي دل على أنه هدي القران والتمتع ؛ لأن جميع الهدايا لا يترتب عليها هذه الأفعال ، ولأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذبح هديه يوم العيد ، وكذلك ذبح هدي التمتع والقران عن نسائه يوم العيد ، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه ذبح قبل يوم العيد ولا بعد أيام التشريق ، ولما روى سليمان بن موسى ، عن ابن أبي حسين ، عن جبير بن مطعم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كل عرفات موقف » (3) الحديث . . . إلى أن قال : « وكل أيام التشريق ذبح » (4) .
قال ابن القيم رحمه الله روي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر ، انتهى المقصود .
3 - لا يخصص الذبح بمنى ، بل يجوز الذبح في مكة ، وفي أي موضع من الحرم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « كل منى منحر ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر » (5) .
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) سورة الحج الآية 29
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/82).
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/82).
(5) سنن أبو داود المناسك (1937),سنن ابن ماجه المناسك (3048),سنن الدارمي المناسك (1879).

4 - ما ترك من اللحوم في المجازر فإن على الحكومة حفظه على وجه يحفظ نفعه حتى يوزع بين فقراء الحرم .
5 - يجوز للحكومة تنظيم الاستفادة من سواقط الهدي التي تترك في المجازر مثل : الجلد والعظام والصوف ، ونحو ذلك بما ترى فيه المصلحة لفقراء الحرم مما يتركه أهله رغبة عنه .
6 - ينبغي للحكومة- وفقها الله- أن تعنى بتكثير المجازر في منى ومكة وبقية الحرم على وجه يمكن الحجاج من ذبح هداياهم بيسر وسهولة ، وأن يستفيدوا من لحومها ما شاءوا .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الثامنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي لي وجهة نظر
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن لي وجهة نظر لابتداء وانتهاء وقت ذبح هدي التمتع والقران ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع لي وجهة نظر بالنسبة لوقت ذبح هدي التمتع والقران

وجهة نظر
لصاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع
إن وجهة نظري تتلخص في الملاحظات الآتية :
أولا : جاء في الصفحة الثالثة من البحث الاستدلال على تحديد وقت ذبح هدي التمتع والقران بالإطلاق في قوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (1) وبالتقييد في قوله تعالى : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } (2) { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } (3) الآية ، ولا شك أن بعض أهل العلم استدل بهذا ، ولكن الأمانة العلمية تقتضي مناقشة هذا الاستدلال .
إذ يمكن مناقشته بما يلي :
إن كمال الآية المراد بها تقييد عموم قوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (4) وقوله تعالى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } (5) { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } (6) الآية ، وقد ذكر جمع كثير من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء : أن المراد بالأيام المعلومات عشر ذي الحجة ، فقد ذكر الجصاص في كتابه [أحكام القرآن] أنه روى عن ابن عباس بإسناد صحيح : أن المعلومات : العشر ، والمعدودات : أيام التشريق ، وهو قول الجمهور من التابعين منهم :
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة الحج الآية 28
(3) سورة الحج الآية 29
(4) سورة البقرة الآية 196
(5) سورة الحج الآية 28
(6) سورة الحج الآية 29

الحسن ومجاهد وعطاء والضحاك وإبراهيم في آخرين منهم ، وقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد : أن المعلومات : العشر ، والمعدودات : أيام التشريق (1)
وروى البيهقي بإسناده إلى الشافعي أنه قال : الأيام المعلومات : أيام العشر كلها ، والمعدودات : أيام منى فقط . اهـ (2)
وقال النووي في [المجموع] : وأما الأيام المعلومات فمذهبنا : أنها العشر الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر . . . إلى أن قال : وقال الإمام أبو إسحاق الثعلبي في [تفسيره] : قال أكثر المفسرين : الأيام المعلومات : هي عشر ذي الحجة . اهـ (3)
فعلى هذا لا حجة في الآية على قول بتحديد وقت الذبح بيوم النحر وأيام التشريق ، بل قد يكون فيه دليل على القول بذبح هدي التمتع والقران في الأيام المعلومات التي هي العشر الأوائل من ذي الحجة ؛ لأن المقصود بذكر الله على بهيمة الأنعام في هذه الآية التسمية عند ذبحها ، وعلى القول الآخر لأهل العلم بأن المقصود بالمعلومات : يوم النحر وأيام التشريق فليس في الآية أمر صريح بتحديد وقت الذبح ، وإذا كان الدليل يفهم من ترتيب قضاء التفث على ذكر الله على بهيمة الأنعام- فإن هذا يعني بطلان أعمال الحج يوم العيد من رمي وحلق أو تقصير وطواف زيارة إذا فعل ذلك قبل الذبح أو النحر . ولا يخفى ما عليه إجماع أهل العلم قاطبة من أن
__________
(1) [أحكام القرآن] (5 \ 67) .
(2) [أحكام القرآن] للشافعي ، جمع البيهقي (1 \ 134) .
(3) [المجموع] (8 \ 295) .

الترتيب فيها مستحب ، وأنه لا حرج في تقديم واحد منها على الآخر ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن تقديم بعض هذه الأفعال على بعض قال : « افعل ولا حرج » (1) فدل ذلك على أن غاية الأمر أن يكون مفهوم الترتيب الاستحباب ، وبذلك ينتفي الاستدلال بالآية .
ثانيا : جاء في الصفحة الثالثة من البحث مناقشة الجصاص الاعتراض على منع تقديم ذبح هدي التمتع والقران بإجازة الصوم الذي هو بدل عنه قبل يوم النحر ، وقد كانت مناقشة في حاجة إلى مناقشة بما يلي :
أ- جاء في قوله : إنه ثبت في السنة امتناع ذبح الهدي قبل يوم النحر .
ويرد على ذلك : بأنه لو كان الأمر كما ذكر من ثبوت امتناع ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر بالسنة لما حصل الخلاف كما هو الحال في الأضحية ، فقد ثبت بالسنة بدء وقت ذبحها ، فانتفى الخلاف في ذلك .
والثابت بخصوص الهدي إنما هو في الهدي المسوق تطوعا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ، أما هدي المتعة والقران فإن القائلين بجواز ذبحه قبل يوم النحر يطالبون بالنص الصريح الثابت في امتناع ذبحه قبل يوم النحر من كتاب أو سنة ، بل إنهم يستدلون بهما على جواز ذلك .
ب- ما ذكر : بأن الصوم مراعى ومنتظر به شيئان إلى آخر قوله) . هذا القول يمكن أن يقال في هدي المتعة . وأيضا فإذا وجد المعنيان إتمام الحج والعمرة صح الهدي عن المتعة ، وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون هدي متعة وصار هدي تطوع كصيام التطوع .
ج- قوله : بأن الهدي رتب عليه أفعال أخرى من حلق وقضاء تفث وطواف زيارة فلذلك اختص بيوم النحر . مناقشة ذلك ما مر في الملاحظة
__________
(1) صحيح البخاري العلم (124),صحيح مسلم الحج (1306),سنن الترمذي الحج (916),سنن أبو داود المناسك (2014),سنن ابن ماجه المناسك (3051),مسند أحمد بن حنبل (2/202),موطأ مالك الحج (959),سنن الدارمي المناسك (1907).

الأولى .
ثالثا : جاء في الصفحة الثامنة من البحث ما نصه : فهذه الأحاديث منها ما هو نص في أن بدء وقت النحر للمتمتع والقارن يوم الأضحى ، ومنها ما يدل عليه بمفهومه أو مع أمره صلى الله عليه وسلم أن نأخذ عنه المناسك وقد نحر عن نفسه وعن أزواجه يوم الأضحى ، ونحر أصحابه كذلك ، ولم يعرف عن أحد منهم أنه نحر هديه لتمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى فكان ذلك عمدة في التوقيت بما ذكر من جهات عدة .
إن ذلك ممكن أن يناقش بما يلي :
أ- إن المتتبع لجميع ألفاظ الأحاديث الواردة في البحث لا يجد فيها نصا على تحديد بدء وقت نحر هدي التمتع والقران بيوم الأضحى ، وإنما النص في بعضها على أن من ساق الهدي فلا يجوز له الإحلال حتى ينحر هديه ، ولا شك أن الهدي الذي ساقه صلى الله عليه وسلم وساقه بعض أصحابه ودخلوا به مكة في حجهم معه صلى الله عليه وسلم- هدي تطوع ، دخل فيه هدي التمتع أو القران ، فهو متصل به اتصال الجزء بكله بحيث لا يمكن فصله عنه .
ب- إن القول : بأن منها- أعني : الأحاديث الواردة في البحث- ما يدل مع أمره صلى الله عليه وسلم أن نأخذ عنه مناسكنا على بدء التحديد بيوم النحر- يرد عليه بإجماع الأمة على جواز ذبح هدي التمتع أو القران في اليوم الأول أو الثاني من أيام التشريق ، وهو صلى الله عليه وسلم ذبح يوم العيد وقال : « خذوا عني مناسككم » (1) فلو كان عموم قوله صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني مناسككم » (2) واردا على ذلك- لكان الذبح في أيام التشريق غير جائز للمخالفة ، وقد لا يمكن القول بأن العموم مخصص بقوله صلى الله عليه وسلم : « وكل أيام التشريق ذبح » (3) فقد تكلم رجال الحديث في
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/82).

هذه الزيادة بما لا يتسع المقام لذكره ، وبما يبطل الاستدلال به للتخصيص ، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني مناسككم » (1) عام في جميع أفعال النسك من ركن وواجب ومستحب ، وفي قوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (2) تخصيص لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني مناسككم » (3) .
ج- إن ما نحره نفسه هو هديه الذي ساقه صلى الله عليه وسلم تطوعا ودخل به مكة محرما ، . وكان سوقه سبب امتناع عن الإحلال ، وأما نحره صلى الله عليه وسلم عن أزواجه في حجه فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك أضحية منه عنهن .
قال ابن حزم : ووجدنا ما رويناه من طريق مسلم ، نا أبو بكر بن أبي شيبة ، نا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة ، فكنت فيمن أهل بعمرة ، فقدمنا مكة ، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي ، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي وأهلي بالحج " قالت : ففعلت ، فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر ، فأردفني ، وخرج بي إلى التنعيم ، فأهللت بعمرة ، وقضى الله حجنا وعمرتنا ، ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم » (4) . . . إلى أن قال : فإن قيل : قد صح أنه عليه السلام أهدى عن نسائه البقر ، قلنا : نعم ، وقد بين معنى ذلك الإهداء سفيان بن عيينة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة : أنه
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(4) صحيح البخاري الحج (1694),صحيح مسلم الحج (1211).

كان أضاحي ، لا هدي متعة ، ولا هديا عن قران . اهـ (1) .
وعلى فرض أن ما ذبحه صلى الله عليه وسلم عن نسائه هدي تمتع أو قران فقد فعل الأفضل ، ولا شك أن الأفضل ذبح ذلك يوم العيد .
د- وأما القول بأنه لم يعرف أحد من أصحابه نحر هدي تمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى- فإنه يمكن مناقشته : بأن عدم معرفة أحد من الصحابة نحر هديه قبل يوم الأضحى لا يعني منع ذلك ، ولا نفي أن أحدا من الصحابة فعله ، ثم إن الحديث الذي أخرجه الحاكم في [مستدركه] وذكر أنه على شرط مسلم ، وأقره الذهبي - صريح في أن سعد بن أبي وقاص ذبح هديه قبل يوم النحر ، وقد أخرجه الطبراني في [الكبير] وذكر : أن رجاله ثقات ، وسيأتي مزيد من نقاش لهذا الحديث والاعتراض عليه بما في [مجمع الزوائد] عن عكرمة .
رابعا : جاء في الصفحة الثامنة من البحث الاحتجاج لذلك القول بالإجماع بما ذكره ابن عابدين ، ويمكن أن يناقش ذلك بما يلي :
لعل ابن عابدين رحمه الله يقصد بالإجماع : إجماع أهل مذهبه ، مع أن ابن قدامة رحمه الله نسب إلى أبي حنيفة القول بوجوب هدي التمتع بالإحرام بالحج ، وذلك في كتاب [المغني] كما نسب ذلك إليه ابن العربي في كتاب [أحكام القرآن] وابن مفلح في كتابه [الفروع] .
أما أن يقصد ابن عابدين إجماع الأمة على منع ذلك فبعيد جدا ؛ لوجود الخلاف القوي في المسألة بين العلماء من مالكيين ، وشافعيين ، وحنابلة ،
__________
(1) [المحلى] (7 \ 193 ، 194) .

وغيرهم ، ولأن مثل ابن عابدين لا يخفى عليه الخلاف في المسألة ، لا سيما وهو خلاف مشهور ، وعلى فرض أن ابن عابدين يقصد بالإجماع إجماع الأمة فما ذكره غير صحيح ، والخلاف في ذلك مشهور يعرفه الخاص والعام .
خامسا : جاء في الصفحة الثامنة من البحث الاحتجاج بالمعنى بما ذكره ابن قدامة رحمه الله بقوله : لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز ذبح الأضحية فيه . . . إلى آخره .
ويمكن نقاش ذلك بما ذكره ابن قدامة نفسه توجيها للقول بجواز تقديم ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر حيث قال :
ووجه جوازه : أنه دم يتعلق بالإحرام وينوب عنه الصيام ، فجاز قبل يوم النحر كدم الطيب ، واللباس ؛ ولأنه يجوز إبداله قبل يوم النحر فجاز أداؤه قبله كسائر الفديات . اهـ (1)
وبما ذكره في توجيه رواية الوجوب بعد الإحرام بالحج بقوله ؛ لأن الله تعالى قال : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (2) وهذا قد فعل ذلك ؛ ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف ، كقوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } (3) (4) .
وبما ذكره الشافعي رحمه الله بقوله : وإذا ساق المتمتع الهدي معه أو
__________
(1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (3 \ 505) .
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة البقرة الآية 187
(4) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (3 \ 503) .

القارن لمتعته أو قرانه ، فلو تركه حتى ينحره يوم النحر كان أحب إلي ، وإن قدم فنحره في الحرم أجزأ عنه من قبل أن على الناس فرضين : فرضا في الأبدان ، فلا يكون إلا بعد الوقت ، وفرضا في الأموال ، فيكون قبل الوقت إذا كان شيئا مما فيه الفرض ، اهـ (1) .
وبما ذكره ابن رجب في [قواعده] قال : العبادات كلها- سواء كانت بدنية أو مالية أو مركبة منهما- لا يجوز تقديمها على سبب الوجوب ، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب ، أو قبل شرط الوجوب ، ويتفرع على ذلك مسائل كثيرة ، وذكر منها ما ذكرتم قال : ومنها صيام التمتع والقران ، فإن سببه العمرة السابقة للحج في أشهره ، فبالشروع في إحرام العمرة قد وجد السبب فيجوز الصيام بعده ، وإن كان وجوبه متأخرا عن ذلك ، وأما الهدي فقد التزمه أبو الخطاب في انتصاره ، ولنا رواية : أنه يجوز ذبحه لمن دخل قبل العشر لمشقة حفظه عليه إلى يوم النحر . اهـ (2) .
كما أنه يمكن مناقشة ما ذكره ابن قدامة رحمه الله من قياسه الهدي على الأضحية بما ذكره ابن مفلح في [الفروع] حيث قال : وقاسوه على الأضحية والهدي وهي دعوى . اهـ (3)
سادسا : جاء في الصفحة التاسعة من البحث : اعتراض الرهوني على ما ذكره الأبي عن القاضي عياض في شرحه رواية مسلم : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ، ويجتمع النفر منا في الهدية ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من
__________
(1) [الأم] للشافعي (2 \ 217) .
(2) [القواعد] لابن رجب ص 6 ، 7 .
(3) الفروع ، (2 \ 249) .

حجهم . مع أن في الحديث حجة لمن يجيز للمتمتع نحر هديه بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج إلى آخره ، حيث ذكر الرهوني أن لديه نسخة عتيقة مظنونا فيها الصحة ، وليس فيها جواز نحر هدي المتمتع بعد التحلل من العمرة ، وإنما ذكر فيها جواز تقليد الهدي قبل الإحرام بالحج إلى آخر ما ذكره الرهوني .
ويمكن مناقشة ذلك بما يلي :
أ- إن عبارة القاضي عياض في جواز نحر الهدي قبل الإحرام بالحج قد تناقلها شيوخ كبار في مذهب الإمام مالك ، فقد نقلها عنه الأبي والسنوسي والدسوقي والبناني ومحمد عابد - فلم يعترض عليها واحد منهم ، بل احتج بها بعضهم على رد تأويلات بعض شراح مختصر خليل في قوله : وأجزأ- أي : دم التمتع- قبله- أي : قبل يوم النحر- حينما قال بعضهم : إن المقصود بذلك تقليد الهدي وإشعاره لا ذبحه .
ب- إن احتجاج الرهوني لدعواه التصحيف بما لديه من نسخة يدعي قدمها والوثوق بها- فيه نظر ، ولو سلم له احتجاجه لكان ذلك من أقصر الطرق لرد آراء العلماء وأقوالهم بإنكار نسبتها إليهم بالتصحيف فيما كتب عنهم ، ثم هل يمكن أن تكون نسخة الرهوني هي الصحيحة الثابتة دون ما عداها مما لدى شيوخه وشيوخهم ، إن العكس هو القريب الممكن المعقول .
ج- إن اللجنة أيدت دعوى التصحيف بما ذكره بأن اللخمي ذكر الخلاف في التقليد لا في النحر ، وهذه الحجة ليست أكثر عجبا من سابقتها ، فإن عدم ذكر الشخص الشيء لا يعني نفيه من الوجود واللخمي

كغيره من عباد الله ينطبق عليه القول : (علمت شيئا وغابت عنك أشياء) .
على أن المرء يقف حائرا في تكييف وجه الخلاف بين علماء المذهب المالكي في جواز تقليد الهدي وإشعاره بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج إلا أن يكون المراد بذلك مآل التقليد والإشعار ، وهو الذبح حسبما يفهم من التمثيل على جواز ذلك بقياسه على تقديم الكفارة قبل الحنث والزكاة قبل الحول ، وأن ذلك مما تقتضيه السنة توسعة في جميع ذلك ، فإن اقتضاء السنة التوسعة على العباد لا يعني الحرج وإيجاد العسر والمشقة في رعاية الهدي المقلد والمشعر حتى يأتي يوم النحر ، فإن الحاج في شغل عنه بتهيئة أسباب حجه ، من زاد وراحلة وغير ذلك ، وإنما التوسعة عليه في إراحته من ملازمته ورعايته بذبحه بعد وجوبه ، ولا شك أن المتتبع بإنصاف لنصوصهم يقوى لديه الظن بأنهم يقصدون بذلك الذبح ؛ لما في جميع ذلك من التوسعة التي تقتضيها السنة .
د- إن الرهوني تعقب ما نقله الأبي عن المازري من قوله : مذهبنا : أن هدي التمتع إنما يجب بالإحرام بالحج وفي وقت جوازه ثلاثة أوجه : فالصحيح والذي عليه الجمهور أنه يجوز بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج . اهـ (1) .
فقال : ليس فيه أن المراد بالجمهور جمهور أهل المذهب ، وقد تقدم : أن المراد بهذه العبارة حيث أطلقها أهل الخلاف الكبير : جمهور المجتهدين ، وإن كانت تشمل الإمام مالكا ، لكن لا تصريح بنسبة ذلك
__________
(1) [إكمال إكمال المعلم] (3 \ 451) .

إليه . ا هـ (1) .
وهذا ما يفرح به القائلون بتقديم ذبح هدي التمتع قبل يوم النحر ، فلأن يكون هذا القول قول جمهور المجتهدين من علماء الإسلام أمثال الإمام مالك أحب إليهم من أن يكون قول جمهور المالكيين من أمثال الرهوني وأترابه .
هـ- إن المتتبع لحواشي الرهوني يخرج من تتبعها بالحكم عليه بأنه ليس في مستوى قيادي في مذهبه يريد أن يقلل من شأن القول بجواز الذبح قبل يوم النحر بإنكار أن الجمهور القائلين به حسبما ذكره المازري جمهور المالكيين ، وإنما هم جمهور المجتهدين أمثال مالك وغيره ، وهذا تقوية للقول من حيث لا يدري مع أن المتتبع لقول المازري يخرج من تتبعه أنه يتحدث عن مذهبه وعن فقهاء مذهبه وأقوالهم ، مما يدل على أن ما ذكرنا في الرهوني وارد ، وإذا كان الرهوني على مستوى يسمح باعتباره إماما في مذهبه ومحققا ، وإذا كانت نسخته هي المظنون بها الصحة ، فكيف لنا تفسير نقله من نسخته ، هذه التي لم يجد غيرها في ذلك الوقت حسبما ذكر ، نقله آية من كتاب الله تعالى وأوردت خطأ دون أن يشير إلى تصحيحها ، فقد جاء في [حاشيته] ونقلته اللجنة عنه في السطر الثامن من الصفحة التاسعة من البحث ما نصه : ونصه : وقوله للمتمتعين : (فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) نص في كتاب الله تعالى مما يلزم التمتع . إن صحة الآية : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } (2)
__________
(1) [حاشية الرهوني على شرح عبد الباقي مختصر خليل] (2 \ 434) .
(2) سورة البقرة الآية 196

سابعا : جاء في الصفحتين العاشرة والحادية عشرة من البحث نقل طويل لشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - وفيه يشير إلى تغليط من يجيز على المذهب المالكي ذبح الهدي قبل الإحرام بالحج بعد أن أورد مجموعة نصوص لشراح [ مختصر خليل ] يؤولون قوله : وأجزأ بما قبله .
ويمكن مناقشة ما ذكره بعض شراح المختصر من التأويلات بما قاله الدسوقي بعد أن أورد قول بعضهم : إن المراد بذلك : تقليد الهدي وإشعاره لا ذبحه .
قال : فيه نظر ، فقد قال الأبي في [ شرح مسلم ] على أحاديث الاشتراك في الهدي على قول الراوي : وأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ما نصه : ( عياض ) في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد الإحلال بالعمرة وقبل الإحرام بالحج ، وهي إحدى الروايتين عندنا ، والأخرى : أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج ؛ لأنه بذلك يصير متمتعا ، وذكر بعضهم : أنه بعد الإحرام بالعمرة . اهـ .
وبه تعلم أنه يتعين صحة إبقاء كلام المصنف - أي : خليل - على ظاهره ، وسقوط تعقب الشراح عليه ، وتأويلهم له من غير داع لذلك . اهـ (1) .
__________
(1) [ حاشية الدسوقي على شرح الدردير على مختصر خليل ] ( 2\ 27 ) .

وقال الشيخ محمد عابد في شرح قول الماتن : ولا يجوز نحر هدي التمتع . قال : تبع في ذلك الحطاب في [ مناسكه ] والدردير وعبد الباقي على خليل عند قوله : وأجزأ قبله ، حيث قال كل منهم : أي : إشعاره وتقليده لا نحره إذ لم يقل به أحد ، وفي البناني ما يخالف ذلك ، وحاصل ما فيه : أنه أطبق كثير من شراح خليل على تأويل قوله : أجزأ قبله - أي : الإشعار والتقليد - محتجين بأنه لم يصرح أحد من أهل المذهب بأن نحر الهدي قبل الإحرام بالحج مجزئ ، وهو غير ظاهر ؛ لقول الأبي في [ شرح مسلم ] على أحاديث الاشتراك في الهدي على قول الراوي : وأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ، ما نصه : عياض في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج ، ثم ساق بقية كلام القاضي ( عياض ) وكلام المازري عن طريق الأبي (1) .
ثامنا : جاء في الصفحة الرابعة عشرة من البحث مناقشة الرواية عن الإمام أحمد بجواز ذبح هدي من قدم به مكة قبل العشر خشية ضياعه أو سرقته ، ويمكن نقاش ذلك بأن هذه المسألة خارجة عن موضوعنا ؛ لأنها خاصة فيمن قدم مكة ومعه هدي ، وموضوعنا خاص فيمن تمتع بالعمرة إلى الحج فاستوجب الهدي أيذبحه بعد وجوبه أم يؤخر ذبحه حتى يوم النحر ؟
تاسعا : جاء في الصفحة الرابعة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال على جواز الذبح قبل يوم النحر بآية : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (2)
__________
(1) [ هداية المناسك ] .
(2) سورة البقرة الآية 196

بأن هذا مجرد فهم للآية باجتهاد عارضه نص ، هو قوله تعالى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } (1) الآية .
وقد سبق مناقشة الاستدلال بهذه الآية في الملاحظة الأولى مما يغني عن إعادته .
عاشرا : جاء في الصفحة الخامسة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بحديث أبي الزبير عن جابر : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ، ويجتمع النفر منا في الهدي ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم .
في هذا الحديث أمور ثلاثة يمكن أن تناقش بما يلي :
أ - التسليم بنفي التعارض بينه وبين الأحاديث الواردة في البحث ، إذ ليس فيها ما يدل بصريح العبارة على منع تقديم ذبح هدي التمتع أو القران على يوم النحر ، وقد سبقت مناقشة القول بدلالتها على المنع في الملاحظة الثالثة ، وعليه فإن دلالة الحديث على إجازة الذبح بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج - قد فهمها علماء كبار من رجال الحديث وشراحه ، أمثال : النووي والقاضي عياض والمازري والأبي والسنوسي وغيرهم .
ب - إن القول : بأن المقصود بقول جابر : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي . التحلل من الحج يرده مزيد التأمل والتدبر في نهاية الحديث ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم ، فلقد أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين أحرموا بالحج معه أن يحلوا منه إلى عمرة واشتد غضبه صلى الله عليه وسلم على قوم ترددوا في الأخذ
__________
(1) سورة الحج الآية 28

بقوله وأمره . أما التحلل من الحج يوم العيد فإنه لا يكون بأمر ، وإنما يحصل بأفعال يفعلها الحاج يوم العيد من رمي وحلق أو تقصير وطواف زيارة ، وفضلا عن ذلك كله فإن راوي الحديث عن جابر - وهو : أبو الزبير - قد أبان المقصود من ذلك ، فقد ذكر أبو عبد الله الأبي في شرحه [ صحيح مسلم ] عند كلامه على حديث جابر ما نصه : ويعني بقوله حين أمرهم : يعني : إحلال الفسخ الذي أمرهم به في حجة الوداع . اهـ .
إن القول : بأن في الحديث زيادة شاذة لمخالفتها ما سبق من الأدلة الصحيحة الخالية من هذه الزيادة ، وأن مدارها على محمد بن بكر البرساني - يمكن أن يناقش بما يلي :
1 - نفي الشذوذ في هذه الزيادة ، إذ هي لم تخالف غيرها من الروايات ، فليس هناك حديث صحيح ينص على بدء وقت ذبح هدي التمتع والقران بيوم النحر ، وإنما غاية ما في الأمر مفاهيم لا يجوز أن يحكم بها على زيادة من عدل رواها مسلم في [ صحيحه ] إذ الزيادة من العدل مقبولة .
2 - إن القول : بأن مدار هذه الزيادة على محمد بن بكر البرساني غير صحيح ، فقد روى الإمام أحمد في [ مسنده ] هذا الحديث بكامل هذه الزيادة عن محمد بن بكر وروح بن عبادة القيسي فقال : حدثنا محمد بن بكر وروح قالا : حدثنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في البدنة وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجتهم » (1) . اهـ (2) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/378).
(2) [ مسند الإمام أحمد ] ( 3\ 378 ) .

وروح هو : روح بن عبادة القيسي ، قال الحافظ ابن حجر : كان أحد الأئمة ، وثقه علي بن المديني ويحيى بن معين ويعقوب بن شيبة وأبو عاصم وابن سعد والبزار ، وأثنى عليه أحمد وغيره ، وقال يعقوب بن شيبة : قلت لابن معين : زعموا أن ابن القطان كان يتكلم فيه فقال : باطل ما تكلم فيه . . إلى أن قال الحافظ : قلت : احتج به الأئمة كلهم . اهـ . (1) .
وقال الحافظ ابن حجر في محمد بن بكر ما نصه : وثقه أبو داود والعجلي ، وقال عثمان الدارمي عن يحيى بن معين : ثقة ، وقال أبو حاتم : شيخ محله الصدق . إلى آخر ما قال (2) .
وقال في [ تهذيب التهذيب ] : قال حنبل بن إسحاق عن أحمد : صالح الحديث ، وقال الدوري عن ابن معين : ثنا البرساني ، وكان والله ظريفا صاحب أدب ، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين : ثقة ، وقال أبو داود والعجلي : ثقة . قال الحافظ : وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال هو وابن سعد وآخرون : مات سنة ثلاث ومائتين ، زاد ابن سعد : بالبصرة في ذي الحجة وكان ثقة ، وذكر الحافظ أنه أجاب عن قول الذهبي في البرساني ، روى عن عبد الحميد بن جعفر عن هشام بن عروة في حديث بسرة في مس الذكر : أو أنثييه أو فرجه فرفع الزيادة ، وإنما هي من قول عروة قال : قد أوضحت ذلك في المدرج وذكرت فيه من شاركه في رفع هذه الزيادة لكن عن غير شيخه وبينت سبب الإدراج ومستنده (3) .
__________
(1) [ هدي الساري ] ( 2\ 127 ) .
(2) [ هدي الساري ] ( 2\ 159 ) .
(3) [ تهذيب التهذيب ] ( 9\ 78 ) .

3 - إن هذه الزيادة غير شاذة ، ففضلا عن أن محمد بن بكر لم ينفرد بها ، بل اشترك معه في روايتها عند أحمد روح بن عبادة وأنه ليس في الروايات الأخرى نص صريح في مخالفتها فقد تأيدت بما روى الحاكم في [ مستدركه ] والطبراني في [ الكبير ] من « أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحلال من الحج وفسخه إلى عمرة إلا من ساق معه الهدي ، ثم قسم صلى الله عليه وسلم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه » (1) . وسيأتي مزيد نقاش لحديث الحاكم .
ج - إن القول : بأن مسألة ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر من الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها لو كان فيها نص بالجواز ، يمكن نقاشه : بأن الهمم والدواعي تتوافر أيضا على نقل ما فيها من نصوص تقتضي المنع لو كانت هناك نصوص في ذلك ، وحيث لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صريح في منع ذلك ، وتعيين البدء بيوم النحر حتى يمكن أن يكون مخصصا لعموم قوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (2) - تعين الأخذ بعموم الآية ، مع ما هناك من أدلة أخرى تسند الجواز ، فمتى دخل الحاج في معنى التمتع وجب عليه الهدي ، واستقر في ذمته حتى يؤديه ؛ كاستقرار الكفارات في ذمة مستوجبها ، وكوجوب الدماء في ذمة من استوجبها .
الحادية عشرة : جاء في الصفحة الخامسة عشرة من البحث الاستدلال للقائلين بجواز تقديم الذبح قبل يوم النحر بما ذكره الشيرازي . ولو أضيف
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/307).
(2) سورة البقرة الآية 196

إليه ما ذكره الشافعي في [ الأم ] وابن قدامة في [ المغني ] وابن رجب في [ قواعده ] مما تقدم لنا ذكره في الملاحظة الخامسة - لكان ذلك من إيفاء البحث حقه . ومع ذلك فإن مناقشته بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص قد تقدم ردها بالمطالبة بالنص الصريح الثابت من كتاب أو سنة أو قول صحابي في تحديد بدء وقت ذبح هدي التمتع والقران بيوم النحر .
جاء في الصفحة السادسة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بآية { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } (1) في أن التمتع يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام إلى آخره . من أن التمتع قد لا يتحقق بإحرام الحج لاحتمال فوات الوقوف بعرفة .
ويمكن نقاش ذلك : بأن هذا لا يمنع من لم يجد هديا أن يعدل إلى بدله وهو الصوم مع احتمال عدم التمكن من إكمال التمتع ، فإذا جاز ذلك في البدل جاز في المبدل عنه .
الثانية عشرة : جاء في الصفحة السابعة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بحديث الحاكم بما رواه الإمام أحمد في [ مسنده ] عن طريق عكرمة مولى ابن عباس ، وفيه : « أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ غنما يوم النحر في أصحابه وقال : " اذبحوهما لعمرتكم فإنها تجزئ » (2) إلى آخره . من أن رواية الإمام أحمد مفسرة لرواية الحاكم .
ويمكن مناقشة ذلك بما يلي : إن الروايتين لا يصلح أن تكون إحداهما مفسرة للأخرى ؛ لانتفاء الإجمال في رواية الحاكم ، فإنها صريحة في أن
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/307).

النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنم في أصحابه بعد الإحلال من العمرة وقبل الوقوف بعرفة ، كما يتضح ذلك من سياق الحديث الذي لم تذكره اللجنة بتمامه . وتأسيسا عليه في النقاش فإنه يتعين ذكر نصه بتمامه . روى الحاكم في [ مستدركه ] قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم ، ثنا حمد بن النضر بن عبد الوهاب ، ثنا يحيى بن أيوب ، ثنا وهب بن جرير ، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق ، ثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء عن جابر بن عبد الله قال : « كثرت القالة من الناس : فخرجنا حجاجا حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل أمرنا بالإحلال ، فيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقام خطيبا فقال : " أبالله تعلموني أيها الناس ، فأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا ، ولحللت كما أحلوا ، فمن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله ، ومن وجد هديا فلينحر " فكنا ننحر الجزور عن سبعة ، قال عطاء : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما ، فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه ، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " اصرخ أيها الناس ، هل تدرون أي شهر هذا ؟ ! » (1) إلى آخر الحديث ، ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وأقره الذهبي على تصحيحه .
فقوله صلى الله عليه وسلم : " أبالله تعلموني أيها الناس " . . . إلى قوله : " ومن وجد هديا فلينحر " صريح في الأمر بالنحر في ذلك الوقت الذي ألقى فيه كلمته التوجيهية . وقول جابر : فكنا ننحر الجزور عن سبعة ، صريح في الامتثال
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6933),سنن النسائي مناسك الحج (2805),مسند أحمد بن حنبل (3/366).

لأمره صلى الله عليه وسلم يومئذ . وقول ابن عباس : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه » (1) - بين أن ذلك هو زمن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتحلل من الحج وفسخه إلى عمرة ، ويؤيد ذلك روايتا مسلم وأحمد عن أبي الزبير عن جابر : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم .
ورواية عكرمة عن ابن عباس صريحة في أن الغنم التي قسمها صلى الله عليه وسلم في أصحاب سعد كان يوم النحر .
وبذلك يتضح التعارض بين الروايتين ويتعين المصير إلى الترجيح .
وعليه فيمكننا ترجيح رواية الحاكم على رواية الإمام أحمد بالأمور الآتية :
أ - إن رواية الحاكم فيها قصة ، ورجال الحديث وحفاظه متفقون على أن القصة في الحديث من أدلة حفظه . قال ابن القيم - رحمه الله - في معرض توجيهه القول بالأخذ بحديث عائشة في إنكارها على زيد بن أرقم بيعه بالعينة - قال : وأيضا فإن في الحديث قصة . وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ (2) .
ب - إن دلالة رواية الحاكم على أن سعد بن أبي وقاص ذبح تيسه بعد إحلاله من العمرة - مؤيدة برواية مسلم وأحمد عن جابر : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم . قال أبو الزبير راوي الحديث عن جابر : ويعني بقوله : حين
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/307).
(2) [ إعلام الموقعين ] ( 3\ 217 ) .

أمرهم ، يعني : إحلال الفسخ الذي أمرهم به في حجة الوداع . اهـ .
ج - إن رجال رواية الحاكم ثقات ، وعلى شرط مسلم ، كما ذكر ذلك الحاكم ، وأقره الذهبي ، وفيهم عطاء أفقه الناس في المناسك ، ومن أكثرهم علما وورعا وتقى . وقد روى صدرها عن جابر عطاء ومجاهد ، وروى عجزها عن ابن عباس عطاء .
د - إن رواية الحاكم مؤيدة بما روى الطبراني عند الهيثمي في [ مجمع الزوائد ] في باب الخطب في الحج حيث قال : وعن ابن عباس : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما ، فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه ، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف ، فقام تحت يدي ناقته وكان رجلا صيتا ، فقال : " اصرخ : أيها الناس ، أتدرون أي شهر هذا ؟ ! » . . . إلى آخره ، قال الهيثمي : رواه الطبراني في [ الكبير ] ورجاله ثقات (1) ، فقد رتب رواية وقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفة وخطبته في الناس على رواية تقسيمه صلى الله عليه وسلم الغنم في أصحابه وإصابة سعد بن أبي وقاص تيسا منها وذبحه ، كما هو الحال في رواية الحاكم .
هـ - إن رواية الإمام أحمد التي فيها : قسم غنما يوم النحر في أصحابه . من طريق عكرمة مولى ابن عباس ، ولا يخفى ما لعطاء على عكرمة من الفضل والتقديم والثقة . فإن عكرمة وإن اعتبره بعض أهل العلم ، فيكفينا لرد الاحتجاج بروايته إذا عارضت رواية رجال ثقات أمثال عطاء وغيره ممن اعتبرهم أهل العلم ووثقوهم - يكفينا لذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في
__________
(1) [ مجمع الزوائد ] ( 3\271 ) .

كتابه [ ميزان الاعتدال ] حيث قال عن عكرمة ما يلي :
قال محمد بن سيرين : ما يسوءني أن يكون من أهل الجنة ، ولكنه كذاب ، وقال ابن المسيب لمولاه برد : لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس ، وقال وهيب : شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري ذكر عكرمة فقال : كذاب . وروى جرير عن يزيد بن أبي زيادة عن عبد الله بن الحارث قال : دخلت على علي بن عبد الله ، فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت له : ألا تتق الله ، فقال : إن هذا الخبيث يكذب على أبي . وقال ابن أبي ذئب : رأيت عكرمة وكان غير ثقة . وقال مطرف بن عبد الله : سمعت مالكا يكره أن يذكر عكرمة ولا رأى أن يروى عنه .
قال أحمد بن حنبل : ما علمت أن مالكا حدث بشيء لعكرمة إلا في الرجل يطأ امرأته قبل الزيارة ، رواه عن ثور عن عكرمة . وقال محمد بن سعد : كان عكرمة كثير الحديث والعلم بحرا من البحور ، وليس يحتج بحديثه ويتكلم الناس فيه ، وقال خالد بن خداش : شهدت حماد بن زيد في آخر يوم مات فيه فقال : أحدثكم بحديث لم أحدث به قط ؛ لأني أكره أن ألقى الله ولم أحدث به . سمعت أيوب يحدث عن عكرمة أنه قال : إنما أنزل الله متشابه القرآن ليضل به ، قلت - القائل الحافظ الذهبي - : ما أسوأها عبارة وأخبثها ، بل أنزله ليهدي به ويضل الفاسقين ، وقال قطر بن خليفة : قلت لعطاء : إن عكرمة يقول : قال ابن عباس : سبق الكتاب الخفين . فقال : كذب عكرمة ، سمعت ابن عباس يقول : لا بأس بمسح الخفين وإن دخلت الغائط ، قال عطاء : والله إن كان بعضهم ليرى أن المسح على القدمين يجزئ ، وثبت عن أحمد بن حنبل أنه قال في عكرمة : كان يرى رأي الصفرية ، وقال ابن

المديني : كان يرى رأي نجدة الحروري ، وقال عطاء : كان أباضيا . وقال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج . وقال يحيى بن بكير : قدم عكرمة مصر وهو يريد المغرب ، قال : فالخوارج الذين هم بالمغرب عنه أخذوا . إلى آخر ما ذكره (1) .
و - ما في رواية عكرمة من الإشكال في قوله : " اذبحوها لعمرتكم ، فإنها تجزئ " إذ ليس على العمرة دم ، والتمتع والقران لا يسمى أحدهما عمرة فما نوع هذه العمرة المستوجبة للدم ؟ ثم إن التعبير بلفظ : فإنها تجزئ ، تعبير رديء ركيك ساذج ينزه الأسلوب النبوي عن مستواه . إنه يشبه من يقدم لشخص جائع طعاما ثم يقول له : كله فإنه يرفع الجوع ويدفعه . اللهم إلا أن يكون الغرض من ذلك أنه قسم غنما رديئة لا يجزئ مثلها هديا فاعتبر لها حكما خاصا في الإجزاء كعناق خال البراء بن عازب . وهذا مما لا نستطيع اعتباره والقول به ، فمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرفع وأعلى من أن يرتضي لربه نسائك رديئة يتقرب بها إليه . وقد تقرب صلى الله عليه وسلم لربه بهدي جزل بلغ مائة بدنة .
الثالثة عشرة : جاء في الصفحة السابعة عشرة من البحث مناقشة ما ذكره الشيرازي من الأمر المعنوي في جواز الذبح قبل يوم النحر بأمور ثلاثة يمكن نقاش أحدها بنفي وجود النص الصريح المقتضي منع ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر حتى يقال بمصادمته للاجتهاد فضلا عن أن القول بالجواز مؤيد بالكتاب والسنة وعمل الصحابة ، وقد مر بسط ذلك
__________
(1) [ ميزان الاعتدال ] ( 3\ 93 - 96 ) .

مما يغني عن إعادته .
كما يمكن نقاش الأمر الثاني بما ذكره في الملاحظة الثانية .
ويمكن نقاش الأمر الثالث بأن ما يذكره ابن القيم - رحمه الله - أو غيره من أهل العلم لا يكون حجة حتى يستند قوله على ما يؤيده من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح . أما إذا كان قوله مجرد رأي فإنه رجل وغيره رجال .
الرابعة عشرة : جاء في الصفحة الثامنة عشرة من البحث نفي الفرق بين الأضحية والهدي في الوقت .
ويمكن نقاش ذلك : بأنه قياس مع الفارق ، فالأضحية عبادة مستقلة جاء النص الصريح بتحديد بدء وقت جواز ذبحها ، وكاد الإجماع ينعقد على تحديد نهاية الوقت بنهاية اليوم الثاني أو الثالث من أيام التشريق على خلاف بين أهل العلم ، أما الهدي الواجب للتمتع أو القران فليس عبادة مستقلة ، وإنما هو جزء من أعمال الحج لم يرد نص صريح من كتاب أو سنة بتحديد انتهاء وقته ، وقد جاء النص بوجوبه عند حصول التمتع ، قال تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (1) فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فقد وجب عليه الهدي واستقر في ذمته حتى يؤديه ، قال ابن حزم - رحمه الله - بعد أن ذكر أن هدي التمتع يجب بالإحرام بالحج بعد التحلل من العمرة - قال ما نصه :
وأما ذبحه ونحره بعد ذلك فلأن هذا الهدي قد بين الله تعالى أول وقت وجوبه ، ولم يحدد آخر وقت وجوبه بحد ، وما كان هكذا فهو دين باق أبدا حتى يؤدى ، والأمر به ثابت حتى يؤدى ، ومن خصه بوقت محدود فقد قال
__________
(1) سورة البقرة الآية 196

على الله ما لم يقله عز وجل ، وهذا عظيم جدا . اهـ (1) .
وقد رد بعض أهل العلم قياس هدي التمتع والقران على الأضحية أو هدي التطوع ، فقال ابن مفلح : وقاسوه على الأضحية والهدي وهي دعوى (2) . ا هـ .
وقال النووي : ويخالف الأضحية ؛ لأنه منصوص على وقتها . اهـ (3) .
الخامسة عشرة : جاء في الصفحة الثامنة عشرة الاحتجاج على تحديد وقت انتهاء الذبح باليوم الثاني من أيام التشريق بالإجماع بما ذكره الجصاص عن بعض الصحابة ، وأنه لا يجوز لمن بعدهم مخالفتهم .
ويمكن نقاش ذلك بأمرين :
أحدهما : أن المقصود بالذبح ذبح هدي التطوع والأضاحي لا ذبح هدي المتعة والقران ؛ لورود النص فيهما دون هدي المتعة والقران ولاختلافه عنهما .
الثاني : استبعاد أن الجصاص يقصد بقوله : وأنه لا يجوز لمن بعدهم مخالفتهم ؛ انعقاد الإجماع على ذلك ، وعلى فرض أنه يقصد الإجماع فإن النقل عن بعض الصحابة في حكم مسألة لا يعني إجماع كل الصحابة على القول به حتى يرد النص بنفي الخلاف بينهم فيها ما لم تكن مبنية على نص صريح ثابت من كتاب أو سنة .
السادسة عشرة : جاء في الصفحة الثانية من البحث نقول عن الرملي
__________
(1) [ المحلى ] ( 7\ 155 ) .
(2) [ الفروع ] ( 2\ 249 ) .
(3) [ المجموع ] ( 7\ 180 ) .

والفتوحي من الشافعية : بأن وقت ذبح الهدي محدود بوقت ذبح الأضحية على الصحيح ، وصحح ذلك النووي والرافعي .
ويمكن نقاش ذلك : بأن مقصود الرملي والنووي والرافعي بالهدي هو هدي التطوع .
وفيما يلي بعض النصوص في بيان ذلك :
قال النووي : ( فرع ) في وقت ذبح الأضحية والهدي المتطوع بهما والنذور ، فيدخل وقتهما إذا مضى قدر صلاة العيد وخطبتين معتدلتين بعد طلوع الشمس يوم النحر ، سواء صلى الإمام أو لم يصل ، وسواء صلى المضحي أو لم يصل ، ويبقى إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق ، ويجوز في الليل لكنه مكروه . . . إلى أن قال : وأما الدماء الواجبة في الحج بسبب التمتع أو القران أو اللبس أو غير ذلك من فعل محظور أو ترك مأمور ، فوقتها من حين وجوبها بوجود سببها ، ولا تختص بيوم النحر ولا غيره . اهـ (1) .
وقال في موضع آخر : ووقت وجوب دم التمتع إذا أحرم بالحج ، فإذا وجب جازت إراقته ولم يتوقت بوقت كسائر دماء الجبرانات . اهـ . (2) .
وقال الشربيني : وسيأتي في آخر الباب محرمات الإحرام على الصواب ما نصه : ووقته وقت الأضحية على الصحيح هذا بناه المصنف على ما فهمه من أن مراد الرافعي بالهدي هنا المساق تقربا إلى الله تعالى فاعترضه
__________
(1) [ الإيضاح ] ص 375 ، 376 .
(2) [ الإيضاح ] ص 522 .

هنا ، وفي [ الروضة ] و [ المجموع ] واعترض الأسنوي المصنف بأن الهدي يطلق على دم الجبرانات والمحظورات ، وهذا لا يختص بزمان ، وهو المراد هنا ، وفي قوله : أولا ثم يذبح من معه هدي ، وعلى ما يساق تقربا إلى الله ، وهذا هو المختص بوقت الأضحية على الصحيح ، وهو المذكور في آخر باب محرمات الإحرام فلم يتوارد الكلامان على محل واحد حتى يعد ذلك تناقضا . وقد أوضح الرافعي ذلك في باب الهدي من [ الشرح الكبير ] فذكر : أن الهدي يقع على الكل ، وأن الممنوع فعله في غير وقت الأضحية هو ما يسوقه المحرم ، لكنه لم يفصح في [ المحرر ] عن المراد كما أفصح عنه في [ الكبير ] فظن المصنف - هو النووي - أن المسألة واحدة فاستدرك عليه ، وكيف يجيء الاستدراك مع تصريح الرافعي هناك بما يبين المراد ؟ ! . اهـ (1) .
وبهذا يتضح أن النووي والرافعي والرملي يقصدون بتوقيت ذبح الهدي بوقت الأضحية ما يساق هديا تقربا إلى الله تعالى على سبيل التطوع أو النذر ، أما هدي المتعة والقران فنصوصهم صريحة متضافرة على جواز ذبحها بعد وجوبها .
هذا ما تيسر إيراده ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
__________
(1) [ مغني المحتاج ] ( 1\ 504 ) .

مصادر ومراجع هذا البحث ( باب الهدي من كتاب الحج )
1 - المذهب الحنفي : [ أحكام القرآن ] للجصاص ، [ لباب المناسك ] للسندي ، [ تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ] ، [ مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر ] ، [ المبسوط ] للسرخسي ، [ كتاب الآثار ] لأبي يوسف ، [ فتح القدير ] .
2 - المذهب المالكي : [ المدونة ] للإمام مالك ، [ المنتقى ] للباجي ، [ حاشية الرهوني على شرح عبد الباقي الزرقاني لمختصر خليل ] ، [ أحكام القرآن ] للقرطبي ، [ أضواء البيان ] للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، [ شرح الرسالة ] لابن أبي زيد ، [ شرح الأبي على مسلم ] .
3 - المذهب الشافعي : [ الأم ] للشافعي ، [ شرح صحيح مسلم ] للنووي ، [ فتح الباري ] ، [ المجموع شرح المهذب ] ، [ الإيضاح ] للنووي ، [ المنهاج ] وشرحه [ مغني المحتاج ] ، [ الأشباه والنظائر ] للسيوطي ، [ أحكام القرآن ] للشافعي ، [ القرى لقاصد أم القرى ] للطبري .
4 - المذهب الحنبلي : [ تفسير ابن كثير ] ، [ المغني ] لابن قدامة ، [ الشرح الكبير ] لابن قدامة ، [ حاشية المقنع ] ، [ زاد المعاد ] لابن قدامة ، [ الإنصاف ] للمرداوي ، [ مسائل الإمام أحمد ] لابنه عبد الله ، [ القواعد ] لابن رجب ، [ الفروع ] لابن مفلح ، [ المحرر ] لمجد الدين أبي البركات ، [ تحفة الودود في أحكام المولود ] لابن قيم الجوزية ، [ القياس في الشرع الإسلامي ] .

5 - كتب أخرى : [ المحلى ] لابن حزم ، [ السنن الكبرى ] للبيهقي ، [ سنن الدارقطني ] ، [ نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية ] للزيلعي ، [ التلخيص الحبير ] لابن حجر العسقلاني ، [ الدراية ] ، [ شرح معاني الآثار ] للطحاوي ، [ سنن أبي داود ] ، [ معالم السنن ] للخطابي ، [ بلوغ المرام ] لابن حجر العسقلاني .

( 4 )
حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيدورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق
وحكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال
وحكم الرمي ليالي أيام التشريق
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد
ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق
وحكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال
وحكم الرمي ليالي أيام التشريق
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، وبعد (1) :
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية المنعقدة في مدينة الرياض في المدة من 1\ 8\ 1392 هـ إلى 13\ 8\ 1392 هـ .
موضوع ( حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق . وكذا حكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال . وحكم الرمي ليالي أيام التشريق ) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
__________
(1) نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الخامس ، ص 19 - 50 ، عام 1405 هـ .

أما بعد : فهذا بحث في بيان حكم رمي جمرة العقبة ليلة النحر ، ورميها ليلة القر ، وتقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق ، والرمي في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر ، وبيان أدلة الترخيص للرعاة .
وطريقة البحث هي : تحرير محل الخلاف ، وذكر المذاهب ، وبعض القائلين بكل مذهب وبيان مآخذهم ، ومناقشة هذه المآخذ ، والمقارنة بينها على القدر الذي يسره الله جل وعلا وترك الترجيح لأصحاب السماحة والفضيلة أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء .
وقد روعي في إعداد هذا البحث نسبة كل قول إلى من قال به مع ذكر المصدر الذي أخذ منه .
وسيكون في آخر البحث قائمة تشتمل على بيان كاف للمصادر التي أخذ منها حتى يتيسر الأمر لمن أراد الاطلاع عليها .
والله ولي التوفيق .

رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد
ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق
المسألة الأولى : حكم رمي جمرة العقبة ليلة العيد
القول الأول : اختلف العلماء متى يبتدئ وقت رميها :
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يجوز رميها بعد منتصف الليل من ليلة النحر ، وممن قال به الشافعي (1) ، وقال المرداوي (2) : وهو الصحيح من المذهب مطلقا ، وقول أكثر الأصحاب ، وقال ابن قدامة (3) : وبذلك قال عطاء وابن أبي ليلى وعكرمة بن خالد .
أدلة هذا المذهب :
الدليل الأول : عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : « ( أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم ، اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ) تعني : عندها » (4) . رواه أبو داود وسكت عنه . قال أبو حازم (5) : قال أبو داود في رسالته لأهل مكة : وليس في كتاب [ السنن ] الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء ، وقال ابن كثير (6) : انفرد به أبو داود ، وهو إسناد
__________
(1) [ الأم ] ( 2\ 180 ) .
(2) [ الإنصاف ] ( 4\ 37 ) .
(3) [ المغني والشرح ] ( 3\ 49 ) .
(4) سنن أبو داود المناسك (1942).
(5) [ شروط الأئمة الخمسة ] ص 54 .
(6) [ البداية والنهاية ] ( 5\ 182 ) .

جيد ، وقال ابن حجر (1) : إسناده صحيح ، وقال ابن قدامة (2) : واحتج به أحمد .
وجه الدلالة : قال الشافعي (3) : وهذا لا يكون إلا وقد رمت قبل الفجر بساعة .
وقد اعترض على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ودلالته :
أما الاعتراض عليه من جهة سنده : فإنه روي مرسلا وموصولا مسندا ، قال القرطبي (4) : روى معمر قال : أخبرني هشام بن عروة ، عن أبيه قال : « أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة : أن تصبح بمكة يوم النحر وكان يومها » (5) قال أبو عمر : اختلف على هشام في هذا الحديث ؛ فروته طائفة عن هشام عن أبيه مرسلا ، كما رواه معمر ، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمر أم سلمة بذلك ) مسندا ، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة مسندا أيضا ، وكلهم ثقاة . انتهى .
قال العراقي (6) : إذا اختلف الثقات في حديث فرواه بعضهم متصلا وبعضهم مرسلا فاختلف أهل الحديث هل الحكم لمن وصل أو لمن أرسل أو للأكثر أو للأحفظ ؟
على أربعة أقوال : أحدها : الحكم لمن وصل ، وهو الأظهر الصحيح ،
__________
(1) [ الدراية في تخريج أحاديث الهداية ] ( 2\ 24 ) .
(2) [ المغني والشرح ] ( 3\ 49 ) .
(3) [ الأم ] ( 2\ 180 ) .
(4) [ تفسير القرطبي ] ( 3\ 625 ) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (6/291).
(6) [ شرح ألفية العراقي ] ( 1\ 174 ) .

كما صححه الخطيب ، وقال ابن الصلاح : إنه الصحيح في الفقه أصوله ، وقد اعتضد هذا الحديث بما رواه الخلال (1) بسنده عن سليمان بن داود عن هشام بن عروة عن أبيه قال : أخبرتني أم سلمة قالت : « قدمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة ، قالت : فرميت بليل ثم مضيت إلى مكة فصليت بها الصبح ثم رجعت إلى منى » .
قال ابن القيم : قلت : سليمان بن أبي داود هذا هو الدمشقي الخولاني ، ويقال : ابن داود ، قال أبو زرعة عن أحمد : رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء ، وقال عثمان بن سعيد : ضعيف . انتهى .
قال ابن حجر (2) : قال فيه ابن حبان : سليمان بن داود الخولاني ، من أهل دمشق ثقة مأمون ، وقد أثنى على سليمان بن داود أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ ، ثم قال أيضا : قلت : أما سليمان بن داود الخولاني فلا ريب أنه صدوق . انتهى .
قال الخطيب البغدادي (3) : إذا عدل جماعة رجلا وجرحه أقل عدد من المعدلين فإن الذي عليه جمهور العلماء : أن الحكم للجرح والعمل به أولى ، وقالت طائفة : بل الحكم للعدالة ، وهذا خطأ ؛ لأجل ما ذكرناه من أن الجارحين يصدقون المعدلين في العلم بالظاهر ، ويقولون : عندنا زيادة علم لم تعلموه من باطن أمره ، وقد اعتلت هذه الطائفة بأن كثرة المعدلين تقوي حالهم وتوجب العمل بخبرهم ، وقلة الجارحين تضعف خبرهم ،
__________
(1) [ زاد المعاد ] ( 1\ 470 ) .
(2) [ تهذيب التهذيب ] ( 4\ 189 ، 190 ) .
(3) [ الكفاية في علم الرواية ] ص 107 .

وهذا بعد ممن توهمه ؛ لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون ، ولو أخبروا بذلك ، وقالوا : نشهد أن هذا لم يقع منه لخرجوا بذلك من أن يكونوا أهل تعديل أو جرح ؛ لأنها شهادة باطلة على نفي ما يصح ويجوز وقوعه وإن لم يعلموه فثبت ما ذكرناه . وقال أيضا : والذي يقوى عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالما .
وقد أبطل ابن القيم - رحمه الله - حديث أم سلمة بما ثبت في [ الصحيحين ] عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : « استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة : أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس ، وكانت امرأة ثبطة ، قالت : فأذن لها ، فخرجت قبل دفعه وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه ، ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة أحب إلي من مفروح به » (1) (2) .
وجه الدلالة : أن الحديث الصحيح يبين : أن نساءه غير سودة إنما دفعن معه .
وقد رد هذا الاستدلال بما رواه الدارقطني وغيره ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « أمر نساءه أن يخرجن من جمع ليلة جمع ، فيرمين الجمرة ، ثم تصبح في منزلها ، وكانت تصنع ذلك حتى ماتت » (3) .
وقد أجاب ابن القيم - رحمه الله - عن هذا الرد فقال : يرده محمد بن حميد أحد رواته ، كذبه غير واحد ، ويرده أيضا : حديثها الذي في [ الصحيحين ] وقولها : ( وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة ) .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1597),صحيح مسلم الحج (1290),سنن النسائي مناسك الحج (3049),سنن ابن ماجه المناسك (3027),مسند أحمد بن حنبل (6/164),سنن الدارمي المناسك (1886).
(2) [ زاد المعاد ] ( 1\470 ، 471 ) .
(3) سنن النسائي مناسك الحج (3066).

وقد أورد على جواب ابن القيم : بأنه ثبت في [ صحيح مسلم ] عن أم حبيبة : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل » (1) .
فأجاب عنه : بأنها من الضعفة التي قدمها صلى الله عليه وسلم .
ثم أورد ابن القيم اعتراضا فقال : فما تصنعون بما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس : « أن النبي صلى الله عليه وسلم ( بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر ، فرموا الجمرة مع الفجر ) » (2) .
فأجاب عنه بقوله : قيل : نقدم عليه حديثه الآخر الذي رواه أيضا الإمام أحمد والترمذي وصححه : « أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله ، وقال : " لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس » (3) ، ولفظ أحمد فيه : « قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا ، من جمع - قال سفيان : بليل - فجعل يلطخ أفخاذنا ، ويقول : أي بني ، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس » (4) لأنه أصح منه ، وفيه « نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رمي الجمرة قبل طلوع الشمس » وهو محفوظ بذكر القصة فيه ، والحديث الآخر : إنما فيه : أنهم رموها مع الفجر . انتهى كلام ابن القيم .
وأما الاعتراض عليه من جهة متنه :
فقال ابن القيم : وأما حديث عائشة رضي الله عنها - « أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم » (5) تعني : عندها ، رواه أبو داود - فحديث منكر أنكره الإمام أحمد وغيره ، ومما يدل على إنكاره أن فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمرها أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة ) وفي رواية : ( توافيه بمكة ، وكان يومها فأحب أن توافيه ) وهذا من المحال قطعا ، قال
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1292),مسند أحمد بن حنبل (6/427),سنن الدارمي المناسك (1885).
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/320).
(3) سنن الترمذي الحج (893),سنن أبو داود المناسك (1941).
(4) سنن أبو داود المناسك (1940),سنن ابن ماجه المناسك (3025),مسند أحمد بن حنبل (1/311).
(5) سنن أبو داود المناسك (1942).

الأثرم : قال لي أبو عبد الله : حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة « أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة » (1) لم يسنده غيره وهو خطأ ، وقال وكيع عن أبيه مرسلا : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة أو نحو هذا ، وهذا أعجب ، أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقت الصبح ما يصنع بمكة ؟ ينكر ذلك ، قال : فجئت إلى يحيى بن سعيد فسألته ، فقال عن هشام عن أبيه ( أمرها أن توافي ) ليس ( توافيه ) قال : وبين ذين فرق ، قال : وقال لي يحيى : سل عبد الرحمن عنه ، فسألته ، فقال : هكذا سفيان عن هشام عن أبيه ، قال الخلال : سها الأثرم في حكايته عن وكيع ( توافيه ) وإنما قال وكيع : ( توافي منى ) وأصاب في قوله : ( توافي ) كما قال أصحابه وأخطأ في قوله : ( منى ) . انتهى المقصود .
فقد اعتمد ابن القيم - رحمه الله - في إنكار هذا الحديث على إنكار الإمام أحمد ، كما اعتمد عليه ابن التركماني (2) ، والطحاوي (3) .
ولكن يرد استنكار الإمام أحمد - رحمه الله - لهذا الحديث قول ابن قدامة (4) - رحمه الله - بعد ذكره لهذا الحديث : واحتج به أحمد . وقد سبق ذكر طائفة من أهل العلم بالحديث ورجاله أنهم صححوه ، واعتماد ابن القيم - رحمه الله - ، وكذلك الطحاوي وابن التركماني على استنكار الإمام أحمد غير صحيح فقد تبين أنه احتج به فبطل الأصل ، وببطلانه يبطل قول من اعتمد عليه . وصرح ابن حجر (5) في [ التلخيص الحبير ] بسلامته من الزيادة
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/291).
(2) [ الجوهر النقي على سنن البيهقي ] ( 5\ 132 ) .
(3) [ شرح معاني الآثار ] ( 2\ 221 ) .
(4) [ المغني والشرح الكبير ] ( 3\ 449 ) .
(5) [ التلخيص الحبير ] ( 2\ 258 ) .

التي استنكرها الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ، أي : سلامة رواية أبي داود .
وأما الاعتراض على حديث أم سلمة من ناحية الدلالة فمن وجهين :
أحدهما : أنه خاص بها .
قال الخطابي (1) : وقال غيره - أي : الشافعي - إنما هذا رخصة خاصة لها فلا يجوز أن يرمى قبل الفجر .
وقال الزرقاني (2) : ويؤيده كون ذلك اليوم يوم نوبتها منه صلى الله عليه وسلم ، وله أن يخص من شاء بما شاء .
ويجاب عن هذا : بأن القاعدة المقررة في علم الأصول : أن خطاب المواجهة يعم إلا إذا أول الدليل على الخصوص (3) .
ويرد ذلك : بورود الأدلة الدالة على نهي ابن عباس وأمثاله عن الرمي قبل طلوع الشمس ، وكذلك رميه صلى الله عليه وسلم ضحى مع قوله : « خذوا عني مناسككم » (4) .
ويمكن أن يجاب عن هذا : بأن حديث عائشة محمول على الجواز ، وحديث ابن عباس محمول على الأفضل .
أو أن حديث ابن عباس محمول على غير أهل الأعذار ، وحديث عائشة محمول على أهل الأعذار .
الوجه الثاني : أن الرخصة لأم سلمة رضي الله عنها أن ترمي في الليل
__________
(1) [ معالم السنن ] ( 2\ 405 ) .
(2) [ شرح المواهب اللدنية ( 8\ 188 ) .
(3) [ روضة الناظر ] ( 2\ 100 ، 101 ) .
(4) سنن النسائي مناسك الحج (3062).

عام في النساء فقط ، لكنه يجوز لمن بعث معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن (1) .
وقد يفهم تخصيص ذلك بالنساء من تصرف النسائي حيث ترجم هذه الترجمة ( الرخصة في ذلك للنساء ) وساق حديث عائشة ، وذلك بعد روايته لحديث ابن عباس الذي في ( النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس ) .
وقال محمد شمس الحق العظيم أبادي (2) : وهذا الحكم مختص بالنساء ، فلا يصلح للتمسك به على جواز الرمي لغيرهن من هذا الوقت ؛ لورود الأدلة بخلاف ذلك ، لكنه يجوز لمن ذهب معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن ، ويجري في هذا الوجه من المناقشة والمقارنة ما جرى في الوجه الذي قبله .
الدليل الثاني : عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر « أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة ، فقامت تصلي فصلت ، ثم قالت : يا بني ، هل غاب القمر ؟ قلت : لا ، ثم حلت ساعة ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ فقلت : نعم ، قالت : ( فارتحلوا ) فارتحلنا فمضينا حتى رمت الجمرة ، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها ، فقلت : يا هنتاه ، ما أرانا إلا قد غلسنا ، قالت : يا بني ، إن رسول الله قد أذن للظعن » (3) هذا لفظ البخاري ، وعن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه قال : إن مولاة أسماء بنت أبي بكر أخبرته قالت : « جئنا
__________
(1) [ الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير ] للسياغي ( 3\ 53 ) .
(2) [ عون المعبود ] ( 2\ 139 ) .
(3) صحيح البخاري الحج (1595),مسند أحمد بن حنبل (6/347).

مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما منى بغلس ، قالت : فقلت لها : لقد جئنا منى بغلس ، فقالت : ( كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك » (1) أخرجه مالك في [ الموطأ ] والنسائي في [ السنن ] .
وأخرج أبو داود : قال عطاء : أخبرني مخبر « عن أسماء : أنها رمت الجمرة قلت : إنا رمينا الجمرة بليل ، قالت : ( إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم » (2) وقول أسماء رضي الله عنها : ( كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك ) و ( كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) له حكم الرفع ، كما هو مقرر في علم أصول الحديث (3) .
وجه الدلالة (4) : في هذا الحديث دليل على أنه يجوز للنساء الرمي لجمرة العقبة في النصف الأخير من الليل (5) ، وحد القبلية : نصف الليل بشهادة العرف وظاهره ، سواء كان ثمة عذر أم لا ، ولذلك قالت أسماء : كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخطاب المواجهة يعم كما سبق ، وقد سبق في رواية البخاري ( قد أذن للظعن ) .
وقد رد هذا الوجه : بأن أسماء إنما رمت بعد طلوع الفجر فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز رميها قبل طلوع الفجر .
قال ابن القيم (6) : ليس في هذا - يعني : حديث أسماء - دليل على جواز رميها - أي : جمرة العقبة - بعد نصف الليل ، فإن القمر يتأخر في الليلة
__________
(1) موطأ مالك الحج (889).
(2) سنن أبو داود المناسك (1943).
(3) [ شرح ألفية العراقي ] ( 1\ 128 ) .
(4) [ عون المعبود ] ( 2\ 139 ) .
(5) [ الروض النضير ] ( 3\ 53 ) .
(6) [ تهذيب السنن ] ( 2\ 406 ) .

العاشرة إلى قبيل الفجر ، وقد ذهبت أسماء بعد غيابه من مزدلفة إلى منى فلعلها وصلت مع الفجر أو بعده فهي واقعة عليه ، ومع هذا فهي رخصة للظعن ، وإن دلت على تقدم الرمي فإنما تدل على الرمي بعد طلوع الفجر . انتهى .
وقال الطحاوي (1) متعقبا الاستدلال بحديث أسماء على جواز الرمي بعد نصف الليل قال : فقد يحتمل - أي : قول مولى أسماء لها : قد غلسنا - أن يكون أراد التغليس في الدفع من مزدلفة ، ويجوز أن يكون أراد التغليس في الرمي ، فأخبرته أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم في التغليس لما سألها عن التغليس به من ذلك ، وقال بعد ذلك في ( باب رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر ) قد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب حديث - أسماء أنها رمت ثم رجعت إلى منزلها فصلت الفجر ، فقلت لها : قد غلسنا ، فقالت : ( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للظعن ) فأخبرت : أن ما قد كان رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك للظعن هو الإفاضة من المزدلفة في وقت ما يصيرون إلى منى في حال مآلهم أن يصلوا صلاة الصبح . انتهى .
وتعقبه أيضا ابن كثير (2) فقال : إن كانت أسماء بنت الصديق رمت الجمار قبل طلوع الشمس كما ذكر هاهنا عن توقيف فروايتها مقدمة على رواية ابن عباس ؛ لأن إسناد حديثها أصح من إسناد حديثه ، اللهم إلا أن يقال : إن الغلمان أخف حالا من النساء وأنشط ؛ فلهذا أمر الغلمان بألا
__________
(1) [ شرح معاني الآثار ] ( 2\ 216 - 218 ) .
(2) [ البداية والنهاية ] ( 5\ 182 ) .

يرموا قبل طلوع الشمس، وأذن للظعن في الرمي قبل طلوع الشمس؛ لأنهم أثقل حالا وأبلغ في التستر، وإن كانت أسماء لم تفعله عن توقيف فحديث ابن عباس مقدم على فعلها، لكن يقوي الأول قول أبي داود . . . « عن أسماء أنها رمت الجمرة بليل قلت: إنا رمينا الجمرة بليل، قالت: (إنا كنا نصنع هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم » (1) انتهى كلام ابن كثير .
والغلس: - محركة- ظلمة آخر الليل (2) ، والليل والليلات من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق أو الشمس (3) . انتهى. وإذا كان رميها قد وقع قبل الفجر فتجري فيه المناقشة والمقارنة التي مضت في الجواب عن الاعتراض الثاني على حديث أم سلمة من جهة دلالته.
الدليل الثالث: القياس، ونصه: ولأنه وقت للدفع من مزدلفة وكان وقتا للرمي كبعد طلوع الشمس (4) .
ويجاب عن (5) هذا: بأن أوقات المناسك لا تعرف قياسا.
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1943).
(2) [القاموس المحيط] (2\ 232).
(3) [القاموس المحيط] (4\ 48).
(4) [المغني] لابن قدامة (3\ 449).
(5) [بدائع الصنائع] (2\ 138).

القول الثاني: لا يجوز رميها قبل طلوع الفجر، ومن رماها قبل طلوع الفجر أعادها .
وقال القرطبي (1) : قال الإمام مالك : لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد برمي قبل طلوع الفجر، ولا يجوز رميها قبل الفجر، فإن رماها قبل
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\ 5).

الفجر أعادها . انتهى كلام القرطبي .
وكذلك قال بالمنع أبو حنيفة وأصحابه (1) .
واستدل لهذا القول بالأدلة الآتية:
الدليل الأول: عن كريب عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم « كان يأمر نساءه وثقله من صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد، وأن لا يرموا الجمرة إلا مصبحين » أخرجه البيهقي في [السنن الكبرى] والطحاوي في [شرح معاني الآثار].
وعن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في الثقل وقال: « لا ترموا الجمرة حتى تصبحوا » (2) أخرجه الطحاوي في [شرح معاني الآثار].
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن رمي جمرة العقبة إذا قدموا منى حتى يصبحوا (3) ، إذ المعنى: حتى تدخلوا في الصباح وهو يحصل بأول الفجر، ورد (4) هذا الاستدلال بأن اللفظ مطلق يدل على فرد شائع مما يحتمله اللفظ، ومن جملة ما تصح إرادته الوقت الذي بعد طلوع الشمس لدخوله في مطلق الإصباح فيكون مجملا، وقد بين بفعله صلى الله عليه وسلم حيث رماها ضحى، فكان هو المراد، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: « حتى تطلع الشمس » (5) لعدم التفاوت بين طلوعها ووقت الضحى الذي هو انبساطها وإشراق نورها إذ فيه تحقيق للبعدية. انتهى.
__________
(1) [بدائع الصنائع] (2\ 137)، و [المغني والشرح] (3\ 449).
(2) سنن الترمذي الحج (893),سنن أبو داود المناسك (1941).
(3) [الروض النضير] (3\ 53).
(4) [الروض النضير] (3\ 54).
(5) سنن الترمذي الحج (893),سنن أبو داود المناسك (1941).

الدليل الثاني: وأما قول مالك رحمه الله: (لم يبلغنا) يعارض بما سبق في حديث أم سلمة وأسماء .
القياس، وهو (1) : أن النصف الآخر من الليل وقت الوقوف فلم يكن وقتا للرمي كالنصف الأول.
ويجاب عنه: بأن (2) أوقات المناسك لا تعرف قياسا.
__________
(1) [المنتقى] للباجي (2\22)
(2) [بدائع الصنائع] (2\ 138)

القول الثالث: أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس، وهو قول النخعي والثوري (1) ، واختيار ابن القيم (2) .
واستدل لهذا القول بأدلة:
الدليل الأول: عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابرا يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول. « لتأخذوا مناسككم, فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه » (3) رواه مسلم .
وجه الدلالة: قال النووي (4) : وأما قوله صلى الله عليه وسلم: « لتأخذوا مناسككم » (5) فهذه اللام لام الأمر، ومعناه : خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال، والهيئات هي أمور الحج وصفته، وهي. مناسككم، فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس، وهذا الحديث
__________
(1) [المغني والشرح] (3\ 449)
(2) زاد المعاد (1\ 471)
(3) صحيح مسلم الحج (1297),سنن النسائي مناسك الحج (3062),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337).
(4) [شرح النووي على صحيح مسلم] (9\ 43)
(5) صحيح مسلم الحج (1297),سنن النسائي مناسك الحج (3062),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337).

أصل عظيم في مناسك الحج، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: « صلوا كما رأيتموني أصلي » (1) انتهى.
الدليل الثاني: عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفة أهله بغلس، ويأمرهم ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس » (2) . رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي (3) والنووي (4) وابن القيم (5) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، وقد مضى إيراد ابن القيم على هذا الحديث ودفعه ومناقشته لحديث أم سلمة وأسماء .
الدليل الثالث: حديث أسماء المتفق عليه، وقد سبق، قال فيه: قالت: (يا بني هل غاب القمر؟) قلت: نعم، قالت: (فارتحلوا) فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا قالت: « يا بني، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن » (6) اهـ.
وجه الدلالة: هذا الحديث المتفق عليه صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس، بل بغلس وهو بقية الظلام.
وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك للظعن، ومفهومه: أنه لم يأذن للذكور الأقوياء (7) انتهى.
وقد مضت مناقشة هذا الدليل عند الاستدلال به للمذهب الأول.
__________
(1) صحيح البخاري أخبار الآحاد (6819),سنن الدارمي الصلاة (1253).
(2) سنن الترمذي الحج (893),سنن أبو داود المناسك (1941),سنن ابن ماجه المناسك (3025).
(3) [جامع الترمذي مع التحفة] (2\ 103)
(4) [المجموع شرح المهذب] (8\ 180)
(5) [زاد المعاد] (1\ 471)
(6) صحيح البخاري الحج (1595),صحيح مسلم الحج (1291),مسند أحمد بن حنبل (6/347).
(7) [أضواء البيان] (5\ 279)

الدليل الرابع: حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه، وفيه: أنه كان يقدم ضعفة أهله وأن منهم من يقدم لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (رخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وجه الدلالة (1) : حديث ابن عمر هذا المتفق عليه يدل دلالة واضحة على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح قبل طلوع الشمس، كما ترى ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك.
وقد جمع ابن القيم بين أدلة هذا الباب فقال (2) : لا تعارض بين هذه الأحاديث فإنه أمر الصبيان ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، أما من قدمه من النساء فرمين قبل طلوع الشمس للعذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحطمهم، وهذا الذي دلت عليه السنة جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر بمرض أو كبر يشق معه مزاحمة الناس لأجله، وأما القادر الصحيح فلا يجوز له ذلك . انتهى.
وبعد سرده للمذاهب في هذه المسألة قال (3) : والذي دلت عليه السنة إنما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر؛ لا نصف الليل، وليس مع من حده بالنصف دليل.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (4) : الذي يقتضي الدليل رجحانه
__________
(1) [أضواء البيان] (5\ 279).
(2) [زاد المعاد] (1\ 471).
(3) [زاد المعاد] (1\ 472).
(4) [أضواء البيان] (5\ 280).

في هذه المسألة: أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس؛ لحديث أسماء وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك، وأما رميهم - أعني: الضعفة والنساء قبل طلوع الفجر- فهو محل نظر فحديث عائشة عند أبي داود يقتضي جوازه وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن يقتضي منعه. والقاعدة المقررة في علم الأصول هي : أن يجمع بين النصين إن أمكن الجمع وإلا فالترجيح بينهما، وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم فجعلوا لرمي جمرة العقبة وقتين وقت فضيلة ووقت جواز، وحملوا حديث ابن عباس على وقت الفضيلة وحديث عائشة على وقت الجواز، وله وجه من النظر.
أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة قبل طلوع الشمس؛ لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة، وليس شيء منها في الأقوياء الذكور . انتهى المقصود.

المسألة الثانية: حكم رمي جمرة العقبة ليلة النفر
في هذه المسألة مذهبان:
المذهب الأول: إن غربت الشمس يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فإنه يرميها.
قال الطحاوي : وقال أبو حنيفة : إن ترك رجل رمي جمرة العقبة في يوم

النحر ثم رماها في الليلة التي بعدها فلا شيء عليه وإن لم يرمها حتى أصبح من غده رماها وعليه دم لتأخيره إياها إلى خروج وقتها وهو طلوع الفجر من يومئذ (1) .انتهى.
وقال الكاساني : فإن لم يرم حتى غربت الشمس فيرمي قبل طلوع الفجر من اليوم الثاني أجزأ، ولا شيء عليه في قول أصحابنا (2) . انتهى.
هذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
وأما مذهب مالك فقد جاء في [المدونة]، (3) هذا النص: ما قول مالك فيمن ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر حتى الليل؟ قال مالك : من أصابه مثل ما أصاب صفية حين احتبست على ابنة أخيها، فأتت بعد ما غابت الشمس فرمت، ولم يبلغنا أن ابن عمر أمرهما في ذلك بشيء . . . قال مالك : وأما أنا فأرى على من كان في مثل حال صفية ولم يرم حتى غابت الشمس أن عليه الدم . . . قال مالك : من ترك رمي جمرة العقبة حتى تغيب الشمس فعليه دم.
قلت: أرأيت إن ترك بعض رمي جمرة العقبة من يوم النحر ترك حصاة أو حصاتين حتى غابت الشمس؟ قال: قال مالك : يرمي ما ترك من رميه ولا يستأنف جميع الرمي ولكن يرمي ما نسي من عدد الحصا، قلت: فهل عليه دم؟ قال ابن القاسم : قد اختلف قوله في هذا وأحب إلي أن يكون عليه دم .
__________
(1) [شرح معاني الآثار]، (1\ 415).
(2) [بدائع الصنائع] (2\ 137).
(3) [المدونة] (1\ 323).

قلت: فيرمي ليلا في قول مالك هذا الذي ترك من رمي جمرة العقبة شيئا أو ترك الجمرة كلها؟ قال: نعم، يرميها في قول مالك ليلا، قلت فيكون عليه الدم؟ قال: كان مالك مرة يرى ذلك عليه ومرة لا يرى ذلك عليه . انتهى.
وأما المذهب الشافعي: فقد نص الشافعي (1) على أنه يرمي ليلا ولا شيء عليه، وقال النووي (2) : لو ترك رمي جمرة العقبة فالأصح أنه يتداركه في الليل وفي أيام التشريق ويشترط فيه الترتيب فيقدمه على أيام التشريق، ويكون أداء على الأصح، وإذا قلنا بالأصح: إن المتدارك أداء لا قضاء كان تعجيل كل يوم للمقدار المأمور به وقت اختيار وفضيلة كأوقات الاختيار للصلاة . انتهى.
هذا ما تيسر تفصيله للمذاهب الثلاثة، فهم متفقون على رميها، لكن هل هو قضاء أو أداء، وهل فيه دم أو لا شيء فيه؟ بينهم خلاف كما سبق. واستدل لقولهم بجواز رميها بعد غروب الشمس بأدلة:
الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى، فيقول: "لا حرج"، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: "اذبح ولا حرج " فقال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: " لا حرج » (3) رواه البخاري .
وقد بسط الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (4) الكلام على هذا الدليل
__________
(1) [الأم] للشافعي (2\ 181)
(2) [الإيضاح] ص406
(3) صحيح البخاري الحج (1648),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050),مسند أحمد بن حنبل (1/291).
(4) [أضواء البيان] (5\ 281- 285).

فنسوق المقصود من كلامه: فقالوا: قد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى بعدما أمسى لا حرج عليه، واسم المساء يصدق بجزء من الليل.
ورد هذا الاستدلال بأن مراد السائل بقوله: (بعدما أمسيت) يعني به:
بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل.
قالوا: والدليل الواضح على ذلك أن حديث ابن عباس المذكور (كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى ) الحديث.
فتصريحه بقوله (يوم النحر) يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء وقع في النهار؛ لأن الإمساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل.
قال ابن حجر في [فتح الباري] في شرح الحديث المذكور، قال: (رميت بعدما أمسيت) أي: بعد دخول المساء، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام فلم يتعين؛ لكون الرمي المذكور كان بالليل. انتهى.
وقال ابن منظور في [لسان العرب]: المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب، وقال بعضهم: إلى نصف الليل.
قالوا: فالحديث صريح في أن المراد بالمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل، وإذا فلا حجة فيه للرمي ليلا.
وأجاب القائلون بجواز الرمي ليلا عن هذا بأجوبة:
الأول: منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: « "لا حرج » (1) بعد قول السائل: (رميت بعدما أمسيت)، يشمل لفظه نفي الحرج عمن رمى بعدما أمسى، وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به ؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب،
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1634),صحيح مسلم الحج (1307),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050),مسند أحمد بن حنبل (1/291).

ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل، وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار.
الثاني: أنه ثبت في بعض روايات حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور ما هو أعم من يوم النحر وهو صادق قطعا بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق، ومعلوم أن الرمي فيه لا يكون إلا بعد الزوال فقول السائل في بعض أيام التشريق: (رميت بعدما أمسيت) لا ينصرف إلا إلى الليل؛ لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم فلا يسأل عنه صحابي.
قال أبو عبد الرحمن النسائي في [سننه]: أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال: حدثنا يزيد- هو: ابن زريق- قال: حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام منى فيقول: "لا حرج "، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: "لا حرج "، فقال رجل: رميت بعدما أمسيت؟ قال: "لا حرج » (1) وهذا الحديث صحيح الإسناد كما ترى؛ لأن طبقته الأولى محمد بن عبد الله بن بزيع، وهو ثقة معروف، وهو من رجال مسلم في [صحيحه]، وبقية إسناده هي بعينها إسناد البخاري الذي ذكرناه آنفا، وقوله في هذا الحديث الصحيح: (أيام منى ) بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد فهو صادق بحسب وضع اللغة ببعض أيام التشريق، والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل . . . فإن قيل: صيغة الجمع في رواية النسائي تخصص بيوم النحر الوارد في رواية البخاري، فيحمل ذلك الجمع على المفرد نظرا لتخصيصه به، ويؤيد ذلك أن في رواية أبي داود وابن ماجه؛ لحديث ابن عباس المذكور يوم منى بالإفراد .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1648),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050).

فالجواب: أن المقرر في الأصول: أن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه على مذهب الجمهور خلافا لأبي ثور (1) ، سواء كان العام وبعض أفراده المذكور بحكمه في نص واحد أو نصين.
وللمخالفين القائلين: لا يجوز الرمي ليلا أن يردوا هذا الاستدلال فيقولوا: رواية النسائي العامة في أيام منى فيها أنه كان يسأل فيها فيقول: « "لا حرج » (2) وأنه « سأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: "لا حرج » (3) ولم يعين اليوم الذي قال فيه: رميت بعدما أمسيت؟ وعموم أيام منى صادق بيوم النحر، وقد بينت رواية البخاري : أن ذلك السؤال وقع في خصوص يوم النحر أيام منى، ولا ينافي ذلك أنه قال: « "لا حرج » (4) في أشياء أخر في بقية أيام منى، وغاية ذلك أن أيام منى عام، ورواية البخاري عينت اليوم الذي قال فيه: (رميت بعدما أمسيت).
الثالث: هو ما قدمناه في [الموطأ] عن ابن عمر من أنه أمر زوجته صفية بنت أبي عبيد وابنة أخيها برمي الجمرة بعد الغروب ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك، وذلك يدل على أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الرمي ليلا جائز. انتهى.
وقد يقال: إن صفية وابنة أخيها كان لهما عذر؛ لأن ابنة أخيها عذرها النفاس ليلة المزدلفة وهي عذرها معاونة ابنة أخيها (5) . انتهى المقصود.
الدليل الثاني: عن أبي بكر بن نافع عن أبيه أن ابنة أخ لصفية بنت أبي
__________
(1) يريد بذلك. أنه لا يخصصه إذا كان متفقا معه في حكمه.
(2) صحيح البخاري الحج (1634),صحيح مسلم الحج (1307),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050),مسند أحمد بن حنبل (1/291).
(3) صحيح البخاري الحج (1648),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050).
(4) صحيح البخاري الحج (1634),صحيح مسلم الحج (1307),سنن النسائي مناسك الحج (3067),سنن أبو داود المناسك (1983),سنن ابن ماجه المناسك (3050),مسند أحمد بن حنبل (1/291).
(5) [أضواء البيان] (5\ 285- 288).

عبيد نفست بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر فأمرها عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ولم ير عليهما شيئا. رواه مالك في [الموطأ]، وابن أبي شيبة في [المصنف] وقد سبق بيان وجه الاستدلال منه.
الدليل الثالث: عن ابن جريج عن عمرو قال: أخبرني من رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ترمي غربت أو لم تغرب، رواه أبو بكر بن أبي شيبة في [المصنف].
الدليل الرابع: ما رواه الثوري عن رجل عن نافع، قال: قال ابن عمر : (إذا نسيت رمي الجمرة يوم النحر إلى الليل فارمها بالليل، وإذا كان من الغد فنسيت الجمار حتى الليل فلا ترمي حتى يكون من الغد عند زوال الشمس ارم الأول فالأول)، ورواه عبيد الله عن نافع عن عمر مختصرا بلفظ: « من نسي أيام الجمار وقال: رمي الجمار إلى الليل فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد » رواه البيهقي في [السنن الكبرى].
الدليل الخامس: عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الراعي يرمي بالليل ويرمى بالنهار » رواه البيهقي في [السنن] والطحاوي في [شرح معاني الآثار] (1) ، وأورد على هذا الاستدلال بأنه رخص لهم للعذر.
وأجيب (2) : بأنه ما كان لهم عذر؛ لأنه كان يمكن أن يستنيب بعضهم
__________
(1) [المنتقى] (3\ 51).
(2) [بدائع الصنائع] (2\ 137).

بعضا فيأتي بالنهار فيرمي، فثبت أن الإباحة كانت لغير عذر فيدل على الجواز مطلقا.

المذهب الثاني: إذا غربت الشمس من يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فلا يرميها إلا من الغد بعد الزوال، وهذا مذهب أحمد والرواية الثانية عن الشافعي .
واستدل لهذا: بأن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد) وقد سبق أنه رواه البيهقي، وهذا الأثر معارض بما تقدم ذكره عن ابن عمر، ففيه فرق بين رمي جمرة العقبة يوم النحر، ورمي غيرها، وهو الدليل الرابع من أدلة القائلين بجواز رميها في ليلة القدر.

المسألة الثالثة: حكم تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة :
وفيه مذاهب:
المذهب الأولى: لا يجوز تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة، ومن رمى قبل الزوال أعاده، وممن ذهب إلى هذا مالك (1) ، والشافعي (2) ، وهو الصحيح من مذهب أحمد (3) .
ويستدل لهذا المذهب بما يأتي:
الدليل الأول: ما جاء في خطبته صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر من حديث جابر
__________
(1) [المدونة] (2\ 183)
(2) [الأم] (2\ 180)
(3) [المغني والشرح] (3\ 476), و[الإنصاف] (4\ 45)

رضي الله عنه « لتأخذوا عني مناسككم » (1) .
وقد مضى بيان معنى هذه الجملة وهو وجه الاستدلال من الحديث بصفة عامة، وأن هذه اللام لام الأمر، وقد (2) جاء في بعض الروايات التصريح بالأمر، وكونه صلى الله عليه وسلم يؤخر الرمي حتى تزول الشمس في هذه الأيام الثلاثة. هذا بيان لوقت بدء الرمي، وهذا داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم . « لتأخذوا عني مناسككم » (3) وقد تقرر في علم الأصول: أن البيان تابع للمبين في الحكم، والحكم هنا هو الأمر، والأمر في الأصل يقتضي الوجوب إلا بقرينة تصرفه عنه، فيكون الرمي بعد الزوال واجبا، والأمر بالشيء نهي عن ضده، فلا يجوز الرمي قبل الزوال.
ومن الأدلة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرم في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال: ما رواه جابر رضي الله عنه قال: « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد الزوال » (4) رواه مسلم في الصحيح، ورواه الترمذي والنسائي وأبو داود، وقال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن صحيح، وأخرجه البخاري تعليقا بصيغة الجزم.
قال ابن حجر (5) : وقد وصله مسلم وابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير عن جابر . اهـ .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها « ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات » (6) الحديث رواه أحمد في [المسند]، وأبو داود والبيهقي في [السنن الكبرى]
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1297),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337).
(2) [فتح الباري] (3\ 579)
(3) صحيح مسلم الحج (1297),سنن أبو داود المناسك (1970),مسند أحمد بن حنبل (3/337).
(4) صحيح مسلم الحج (1299),سنن الترمذي الحج (894),سنن النسائي مناسك الحج (3063),سنن أبو داود المناسك (1971),سنن ابن ماجه المناسك (3053),سنن الدارمي المناسك (1896).
(5) [فتح الباري] (3\579)
(6) سنن أبو داود المناسك (1973),مسند أحمد بن حنبل (6/90).

والحاكم في [المستدرك]، وابن حبان في [صحيحه].
الدليل الثاني: عن وبرة بن عبد الرحمن السلمي قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما: متى أرمي الجمار؟ قال: (إذا رمى إمامك) فأعدت عليه المسألة قال: (كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا) أخرجه البخاري في [الصحيح].
ورواية مالك في [الموطأ] عن ابن عمر رضي الله عنهما: لا ترمى الجمار حتى تزول الشمس. وجه الاستدلال قال ابن الأثير (1) : (نتحين) تحينت الوقت، أي: طلبت الحين وهو الوقت. وقال ابن حجر (2) : فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) [جامع الأصول] (3\ 278).
(2) [الفتح] (3\ 580)

المذهب الثاني: يجوز رمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة قبل الزوال مطلقا : ونسب ابن حجر (1) والعيني (2) هذا المذهب إلى عطاء وطاوس، ولكن بالنسبة لعطاء قد ورد عنه ما يدل على خلاف هذا المذهب المنسوب إليه، فقد روى الحاكم في [المستدرك] بسنده عن ابن جريج عن عطاء : أنه قال: (لا أرمي حتى تزيغ الشمس: إن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر قبل الزوال، فأما بعد ذلك فعند الزوال » (3) قال الحاكم بعد سياق سنده ومتنه: هذا صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي في تلخيصه.
__________
(1) [الفتح] (3\ 580)
(2) [عمدة القاري] (10\ 86)
(3) صحيح مسلم الحج (1299),سنن الترمذي الحج (894),سنن النسائي مناسك الحج (3063),سنن أبو داود المناسك (1971),سنن ابن ماجه المناسك (3053),سنن الدارمي المناسك (1896).

المذهب الثالث: مذهب أبي حنيفة، وفيه تفصيل، هذا بيانه مع المستند، وجوابه عن أدلة الجمهور.
قال الكاساني (1) : وأما وقت الرمي من اليوم الأول والثاني من أيام التشريق، وهو اليوم الثاني والثالث من أيام الرمي- فبعد الزوال حتى لا يجوز الرمي فيهما قبل الزوال في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة، وروي عن أبي حنيفة : أن الأفضل أن يرمي في اليوم الثاني والثالث بعد الزوال، فإن رمى قبله جاز.
ووجه هذه الرواية: أن قبل الزوال وقت الرمي في يوم النحر، فكذا في اليوم الثاني والثالث " لأن الكل أيام النحر.
وجه الرواية المشهورة: ما روي عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « رمى الجمرة يوم النحر ضحى ورمى في بقية الأيام بعد الزوال، » (2) وهذا باب لا يعرف بالقياس، بل بالتوقيف. وأما وقت الرمي في اليوم الثالث من أيام التشريق- وهو اليوم الرابع من أيام الرمي- فالوقت المستحب له بعد الزوال، ولو رمى قبل الزوال يجوز في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد : لا يجوز، واحتجا بما روي عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم « رمى الجمرة يوم النحر ضحى، ورمى في بقية الأيام بعد الزوال، » (3) وأوقات المناسك لا تعرف قياسا، فدل أن وقته بعد الزوال، ولأن هذا يوم من أيام الرمي فكان وقت الرمي فيه بعد الزوال كاليوم الثاني والثالث من أيام التشريق.
__________
(1) [بدائع الصنائع] (2\ 136, 137)
(2) صحيح مسلم الحج (1299),سنن الترمذي الحج (894),سنن النسائي مناسك الحج (3063),سنن أبو داود المناسك (1971),سنن ابن ماجه المناسك (3053),سنن الدارمي المناسك (1896).
(3) صحيح مسلم الحج (1299),سنن الترمذي الحج (894),سنن النسائي مناسك الحج (3063),سنن أبو داود المناسك (1971),سنن ابن ماجه المناسك (3053),سنن الدارمي المناسك (1896).

ولأبي حنيفة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه قال (إذا انتفخ النهار من آخر أيام التشريق جاز الرمي)، والظاهر أنه قاله سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو باب لا يدرك بالرأي والاجتهاد فصار اليوم الأخير من أيام التشريق مخصوصا من حديث جابر رضي الله عنه بهذا الحديث، أو يحمل فعله في اليوم الأخير على الاستحباب، ولأن له أن ينفر قبل الرمي، ويترك الرمي في هذا اليوم رأسا، فإذا جاز له ترك الرمي أصلا فلأن يجوز له الرمي قبل الزوال أولى . انتهى.
قال الزيلعي (1) : ورواية البيهقي عن ابن عباس (إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر) انتهى في [مسند طلحة بن عمر ] وضعفه البيهقي، قال: والانتفاخ: الارتفاع. انتهى.
وقال ابن منظور (2) : وانتفخ النهار علا قبل الانتصاف بساعة.
وقال البابرتي (3) : قوله في المشهور من الرواية احتراز عما روى الحسن عن أبي حنيفة أنه إن كان من قصده أن يتعجل في النفر الأول- فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال، وإن رمى بعده فهو أفضل، وإن لم يكن ذلك من قصده فلا يجوز أن يرمي إلا بعد الزوال، وذلك لدفع الحرج؛ لأنه إذا نفر بعد الزوال لا يصل إلى مكة إلا بالليل فيحرج في تحصيل موضع المنزل .
__________
(1) [نصب الراية] (3\85)
(2) [لسان العرب] (4\ 31)
(3) [العناية على الهداية] (2\ 185)

وقال ابن الهمام (1) : وقوله في المشهور من الرواية احتراز عما روي عن أبي حنيفة رحمه الله: قال: أحب إلي ألا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس، فإن رمى قبل ذلك أجزأه.
وحمل المروي من قوله عليه السلام على اختيار الأفضل، وجه الظاهر: ما قدمناه من وجوب اتباع المنقول؛ لعدم المعقولية، ولم يظهر أثر تخفيف فيها بتجويز الترك لينفتح باب التخفيف بالتقديم وهذه الزيادة يحتاج إليها أبو حنيفة وحده . انتهى.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطى (2) : بعد سياقه للأدلة الدالة على أنه لا يجوز الرمي إلا بعد الزوال في أيام التشريق، قال: وبهذه النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم أن قول عطاء وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال، وقول إسحاق : إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه - كل ذلك خلاف التحقيق؛ لأنه مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك خالف في الترخيص أبا حنيفة صاحباه محمد وأبو يوسف، ولم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يخالف ذلك، فالقول بالرمي قبل الزوال في أيام التشريق لا مستند له البتة، مع مخالفته للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لأحد أن يفعله .
__________
(1) [فتح القدير] (2\ 185)
(2) [أضواء البيان] (5\ 295)

المسألة الرابعة: حكم رمي الجمار في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر عن اليوم الذي قبلها :
في هذه المسألة مذهبان:
المذهب الأول: الجواز. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية .
أما الحنفية : فقال السندي (1) : ( ولو لم يرم يوم النحر) أي: اليوم الأول أو (الثاني أو الثالث رماه في الليلة المقبلة) أي: الآتية لكل من الأيام الماضية (ولا شيء عليه سوى الإساءة) أي: لتركه السنة (إن لم يكن عذر) أي: ضرورة (ولو رمى ليلة الحادي عشر أو غيرها من غدها) أي: من أيامها المقبلة لم يصح؛ لأن الليالي (في الحج) أي: في حقه (في حكم الأيام الماضية لا المستقبلة) أي: فيجوز رمي اليوم الثاني من أيام النحر ليلة الثالث، ولا يجوز فيها رمي اليوم الثالث، كما أن الوقوف جائز في ليلة العاشر، ولا يجوز فيها من أفعال ذلك اليوم من الوقوف بمزدلفة والرمي ونحوهما (ولو لم يرم في الليل) أي: من ليالي أيامها الماضية أداء (رماه في النهار) أي: في نهار الأيام التالية على التأليف (قضاء) أي: اتفاقا (وعليه الكفارة) الدم عند الإمام ولا شيء عليه عندهما . انتهى.
وأما المالكية : ففي [المدونة] (2) قلت: فإن ترك رمي جمرة من الجمار في اليوم الذي بعد يوم النحر ما عليه في قول مالك؟ قال: قد اختلف قول مالك : مرة يقول: من نسي رمي الجمار حتى تغيب الشمس فليرم ولا شيء
__________
(1) [لباب المناسك وشرحه المسلك في المنسك المتوسط] ص 161.
(2) [المدونة] (1\ 323)

عليه، ومرة قال: ليرم وعليه دم، قال: وأحب إلي أن يكون عليه الدم، قلت: وكذلك اليوم الذي بعده؟ قال: نعم . انتهى.
وفي [الموطأ] (1) : قال يحيى : سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي؟ قال: ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار، كما يصلي الصلاة إذا نسيها ثم ذكرها ليلا أو نهارا . انتهى المقصود.
وفي [مختصر خليل وشرحه] للدردير (2) : (والليل) عقب كل يوم (قضاء) لذلك اليوم الذي يجب فيه الدم .
وقال الباجي (3) بعد سياقه للدليل الدال على مشروعية الرمي بعد الزوال وكلامه عليه- قال: إذا ثبت ذلك فإن أول أداء الرمي لكل يوم من أيام التشريق زوال الشمس منه وآخره غروب الشمس، ووقت القضاء: من غروب الشمس إلى بقية أيام التشريق، الليل والنهار سواء في القضاء، يبين ذلك ما روي عن مالك في رمي رعاء الإبل الجمار أنهم لا يرمون اليوم الذي يلي يوم النحر إلا في اليوم الذي بعده " لأنه لا يقضي شيء حتى يجب، فإذا وجب ومضى كان القضاء بعد ذلك.
وأما الشافعية : فقال النووي (4) : إذا ترك شيئا من الرمي نهارا فالأصح أنه يتدراكه ليلا أو فيما بقي من أيام التشريق سواء تركه عمدا أو سهوا، وإذا تداركه فيها فالأصح أنه أداء لا قضاء . انتهى المقصود .
__________
(1) [الموطأ مع المنتقى] (3\ 53).
(2) [مختصر خليل وشرحه] للدردير (2\ 48).
(3) [المنتقى] (3\ 51).
(4) [الإيضاح] ، ص 406.

وقال الرملي (1) : وإذا ترك رمي يوم أو يومين من أيام التشريق عمدا أو سهوا أو جهلا تداركه في باقي الأيام منها في الأظهر بالنص في الرعاء وأهل السقايا وبالقياس في غيرهم، إذ لو كانت بقية الأيام غير صالحة للرمي لم يفترق الحال فيها بين المعذور وغيره، كما في الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، والمتدارك أداء كما مر، ولو تدارك قبل الزوال أو ليلا أجزأه، كما جزم به في الأول في أصل [الروضة] و [المجموع] و [المناسك] واقتضاه نص الشافعي رحمه الله، وبالثاني لابن الصباغ في [شامله] وابن الصلاح والمصنف في [مناسكهما]، وإن جزم ابن المقري تبعا لجمع بخلافه فيهما إذ جملة أيام الرمي كوقت واحد وكل يوم لرميه وقت اختيار، لكن لا يجوز تقديم رمي كل يوم عن زوال شمسه كما مر . انتهى.
الأدلة: قد بنى الحنفية مذهبهم على الرخصة للرعاة أن يرموا ليلا، وعندهم أنه ليس خاصا بهم، بل هو عام، كما سيأتي في الكلام على أدلة الرخصة للرعاة، وهي المسألة الخامسة.
وبنوه أيضا على أن الليلة في حكم اليوم الذي قبلها في الحج كما سبق عن السندي .
وأما المالكية : فأما مالك فإنه يقوله في الناسي فقط، حسبما اطلعنا عليه.
وقد بناه قياسا على من نسي صلاة أخذا من حديث: « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها » (2) الحديث.
__________
(1) [ نهاية المحتاج ] ( 2\315 )
(2) سنن الترمذي الصلاة (177),سنن النسائي المواقيت (615),سنن ابن ماجه الصلاة (698).

وأما الباجي ومن وافقه: فقد استدل بحديث الرعاء، وسيأتي في كلام الباجي مع بيان وجه الاستدلال به عند الكلام على أدلة الرخصة للرعاة أن يرموا ليلا.
وأما الشافعية : فإنهم يقولون به بالنص للرعاء وأهل السقاية، وبالقياس في غيرهم، وسيأتي الكلام على أحاديث الرخصة للرعاء ومناقشتها.
وأما أهل السقاية: فإن الرخصة التي وردت في حقهم هي الرخصة في المبيت لا الرخصة في الرمي هذا حسبما وقفنا عليه، وفي حالة عدم ثبوت دليل يدل على الرخصة لهم في الرمي فلا يصح القياس عليهم، وقد مضت مناقشة الاستدلال بالقياس في العبادات، ويمكن أن يستدل للقول بجواز الرمي ليلا عن اليوم الذي قبله- برواية النسائي التي سبقت، وقد جاء فيها: كان يسأل أيام منى، فسأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت؟ قال: « ارم ولا حرج » (1) ، وقد مضى الكلام على هذا الدليل.
المذهب الثاني: ومن غربت عليه الشمس في اليوم الحادي عشر والثاني عشر من أيام التشريق وهو لم يرم الجمار لذلك اليوم فإنه يرميها من الغد بعد الزوال.
وهذا مذهب أحمد ومن وافقه، واستدل به (2) ابن قدامة في [المغني] بقول ابن عمر رضي الله عنهما: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد. وقد مضى هذا الأثر.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (83),سنن الترمذي الحج (916),سنن أبو داود المناسك (2014),مسند أحمد بن حنبل (2/217),موطأ مالك الحج (959),سنن الدارمي المناسك (1907).
(2) كذا بالأصل، ولعلها: (واستدل له). الناشر.

قال المرداوي (1) : وقال ابن عقيل: نصه للرعاة خاصة الرمي ليلا، نقله ابن منصور . انتهى.
__________
(1) [الإنصاف] (4\ 37)

المسألة الخامسة: أدلة الترخيص للرعاة في الرمي :
عن عاصم بن عدي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « رخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر » (1) ، هذا لفظ [الموطأ].
قال مالك : (تفسير ذلك فيما نرى- والله أعلم- أنهم يرمون يوم النحر، فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد، وذلك يوم النفر الأول، ويرمون لليوم الذي مضى، ثم يرمون ليومهم ذلك " لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك، فإن بدا لهم في النفر فقد فرغوا، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر ونفروا) وأخرجه في [الموطأ].
قال الباجي (2) : قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى يقتضي أن هناك منعا خاصا هذا منه؛ لأن لفظة: رخصة لا تستعمل إلا فيما يخص من المحظور للعذر، وذلك أن للرعاء عذرا في الكون مع الظهر الذي لا بد من مراعاته والرعي به للحاجة إلى الظهر في الانصراف إلى بعيد البلاد، وقد قال تعالى:
__________
(1) سنن الترمذي الحج (955),سنن النسائي مناسك الحج (3069),سنن أبو داود المناسك (1975),سنن ابن ماجه المناسك (3037),موطأ مالك الحج (935),سنن الدارمي المناسك (1897).
(2) [المنتقى] (3\ 51)

{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ } (1) فأبيح لهم ذلك لهذا المعنى . انتهى.
قال الكاساني (2) : ولا يقال: إنه رخص لهم ذلك لعذر، لأنا نقول ما كان لهم عذر؛ لأنه كان يمكنهم أن يستنيب بعضهم بعضا فيأتي بالنهار فيرمي، فثبت أن الإباحة كانت لغير عذر، فيدل على الجواز مطلقا، فلا يجب الدم . انتهى المقصود.
وقال الباجي (3) : وقوله: يرمون يوم النحر: أخبر أن رميهم يوم النحر لا يتعلق به رخصة ولا يغير عن وقته ولا إضافة إلى غيره، ثم يرمون الغد يريد أنه يرمي لليومين، فقال: يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، فذكر الأيام التي يرمي لها وهي الغد من يوم النحر وبعد الغد، وهما أول أيام التشريق وثانيهما، ولم يذكر وقت الرمي، وإنما يرمي لهما في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال؛ ولذلك جمع بينهما في اللفظ، فقال: ليومين، وقد فسر ذلك مالك على ما تقدم ذكره، وفي رواية الترمذي قال: أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يجمعون رمي يومين بعد يوم النحر فيرمونه في أحدهما.
قال: قال مالك : ظننت أنه قال في الأول منهما ثم يرمون يوم النفر، وفي أخرى له ولأبي داود والنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما » (4) .
__________
(1) سورة النحل الآية 7
(2) [بدائع الصنائع] (2\ 137).
(3) [المنتقى] (3\ 51).
(4) سنن الترمذي الحج (954),سنن أبو داود المناسك (1976),سنن ابن ماجه المناسك (3036),مسند أحمد بن حنبل (5/450).

وفي أخرى للنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « رخص للرعاء في البيتوتة يرمون يوم النحر، واليومين اللذين بعده يجمعونه في أحدهما » (1) .
قال ابن الأثير (2) : إسناد هذا الحديث في [الموطأ] عن أبي البداح عاصم بن عدي عن أبيه، وفي نسخة أخرى عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه.
وفي الترمذي عن أبي البداح بن عدي عن أبيه، وقال: وقد روى مالك بن أنس عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه، قال الترمذي : ورواية مالك أصح.
وأخرجه أبو داود عن أبي البداح بن عاصم عن أبيه، وأخرجه هو أيضا، والترمذي عن أبي البداح بن عدي عن أبيه الرواية الثانية.
وأخرج النسائي مرة عن أبي البداح بن عدي عن أبيه، ومرة عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه.
قال صاحب [التحفة] (3) عند الكلام على رواية الترمذي (رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما) قال: يعني: يجوز لهم أن يرموا اليوم الأول من أيام التشريق، ويذهبوا إلى إبلهم فيبيتوا عندها، ويدعوا يوم النفر الأول، ثم يأتوا في اليوم الثالث فيرموا ما فاتهم في اليوم الثاني مع رميهم لليوم الثالث، وفيه تفسير ثان: وهو أنهم يرمون جمرة العقبة ويدعون رمي ذلك اليوم ويذهبون، ثم يأتون في اليوم الثاني من التشريق فيرمون ما
__________
(1) سنن الترمذي الحج (955),سنن النسائي مناسك الحج (3069),سنن ابن ماجه المناسك (3037).
(2) [جامع الأصول] (3\ 281، 282).
(3) [تحفة الأحوذي شرح الترمذي] (2\ 121).

فاتهم، ثم يرمون عن ذلك اليوم، كما تقدم، وكلاهما جائز. كذا في النيل.
وقال صاحب [عون المعبود] (1) عند الكلام على رواية أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد بيومين ويرمون يوم النفر » (2) قال: فظاهر الحديث أنهم يرمون بعد يوم النحر، وهو اليوم الحادي عشر لذلك اليوم، ولليوم الآتي وهو الثاني عشر ويجمعون بين رمي يومين بتقديم الرمي على يومه، وفي الترمذي والنسائي وغيرهما من هذا الوجه بلفظ: « رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرموه في أحدهما، » (3) وهذا الظاهر خلاف ما فسره مالك لهذا الحديث.
ويدل لفهم الإمام مالك رواية سفيان الآتية بلفظ: « رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما » (4) .
قال الخطابي : أراد يوم النفر هاهنا النفر الكبير. انتهى المقصود.
قال أيضا (5) : وقد اختلف الناس في تعيين اليوم الذي يرمى فيه : فقال مالك : يرمون يوم النحر، فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد، وذلك يوم النفر الأول يرمون لليوم الذي مضى، ويرمون ليومهم ذلك " وذلك لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه.
__________
(1) [عون المعبود] (2\ 148).
(2) سنن أبو داود المناسك (1975),سنن ابن ماجه المناسك (3037),موطأ مالك الحج (935),سنن الدارمي المناسك (1897).
(3) سنن الترمذي الحج (955),سنن النسائي مناسك الحج (3069).
(4) سنن الترمذي الحج (954),سنن أبو داود المناسك (1976),سنن ابن ماجه المناسك (3036),مسند أحمد بن حنبل (5/450).
(5) [عون المعبود] (2\ 148).

وقال الشافعي نحوا من قول مالك، وقال بعضهم: هم بالخيار؛ إن شاءوا قدموا، وإن شاءوا أخروا. انتهى.
وقد وردت أدلة تدل على أن الرعاء يرمون ليلا في ليالي أيام التشريق، فروى مالك في [الموطأ] عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح : أنه سمعه يذكر أنه رخص للرعاء أن يرموا بالليل يقول: في الزمان الأول.
قال الباجي (1) : إنما أبيح لهم؛ ذلك؛ لأنه أرفق بهم، وأحوط فيما يحاولونه من رعي الإبل؛ لأن الليل وقت لا ترعى فيه الإبل ولا تنتشر، فيرمون في ذلك الوقت.
وقال ابن المواز : إن رعوا بالنهار ورموا بالليل فلا بأس به، ويحتمل أيضا: أن يرموا على هذا في كل ليلة لاستغنائهم في ذلك الوقت عن حفظ الإبل على وجه الرعي، ويحتمل إن كان ذلك عليهم مشقة أن يكون رميهم بالليل على حكم رميهم بالنهار من الجمع.
وقال الباجي أيضا (2) : وقوله: في الزمان الأول يقتضي إطلاقه زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أول زمان هذه الشريعة، فعلى هذا هو مرسل.
ويحتمل أن يريد به أول زمن أدركه عطاء، فيكون موقوفا متصلا.
وقال الزرقاني (3) على قوله : (يقول: في الزمان الأول) أي: زمن الصحابة وبهم القدوة، وبهذا قال محمد بن المواز، وهو كما قال بعضهم: وفاقا للمذهب؛ لأنه إذا أرخص لهم في تأخير اليوم الثاني فرميهم
__________
(1) [المنتقى] (3\ 52).
(2) [المنتقى] (3\ 52)
(3) [شرح الزرقاني على الموطأ] (2\ 260).

بالليل أولى.
وقال القرطبي (1) بعد سياقه لرواية مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء المتقدمة وكلام الباجي قال: (قلت: هو مسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه الدارقطني وغيره، وقد ذكرناه في [المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ]) . انتهى المقصود.
والحديث الذي أشار إليه القرطبي رواه الدارقطني (2) بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « رخص للرعاء أن يرموا بالليل وأي ساعة من النهار شاءوا » (3) .
وقد أعل هذا الحديث بما نقله الزيلعي بقوله (4) : قال ابن القطان في كتابه: وإبراهيم بن يزيد هذا إن كان هو الخوزي فهو ضعيف، وإن كان غيره فلا يدرى من هو؟ وبكر بن بكار قال فيه ابن معين : ليس بالقوي، ودون بكر بن بكار جعفر بن محمد الشيرازي، لا خالد، قال: وروى البزار هذا الحديث عن ابن عمر بإسناد أحسن من هذا.
والحديث الذي أشار إليه ابن القطان : أن البزار رواه قد أخرجه الزيلعي (5) فقال: وأما حديث ابن عمر فرواه البزار في [مسنده]. . . (عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « رخص لرعاء الإبل أن يرموا بالليل » (6) .
وقد أعل هذا الحديث بما نقله الزيلعي بقوله (7) : قال ابن القطان : ومسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي ضعفه قوم، ووثقه آخرون. قال
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\ 5) ط\ دار إحياء التراث العربي.
(2) [ سنن الدارقطني ] ( 2\ 276 )
(3) موطأ مالك الحج (936).
(4) [ نصب الراية ](3\86).
(5) [ نصب الراية ](3\86).
(6) موطأ مالك الحج (936).
(7) [نصب الراية] (3\ 86).

البخاري وأبو حاتم : منكر الحديث.
وقال ابن حجر (1) : رواه البزار بإسناد حسن والحاكم والبيهقي . انتهى. وذكر الزيلعي (2) : أن الطبراني رواه، وذكر الحديث بسند الطبراني .
وقال الهيثمي (3) : رواه الطبراني في [الكبير] وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك. انتهى.
وقال الزيلعي (4) : ورواه ابن أبي شيبة في [مسنده] حدثنا محمد بن الصباح عن خالد بن عبد الله عن عبد الرحمن بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم . . . إلى آخره، وفيه أن يرموا الجمار، رواه في [مصنفه]: حدثنا ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا. انتهى.
قال ابن حجر (5) : وروى ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء مرسلا مثله ووصله في [مسنده] بذكر ابن عباس، لكنه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن عطاء، ولم يسمع عبد الرحمن من عطاء، وإنما رواه عن إسحاق بن أبي فروة أحد المتروكين، رواه مسدد والطبراني عن طريقه. انتهى.
وإلى هنا انتهى ما يسره الله جل وعلا من الكلام على هذا البحث.
__________
(1) [تلخيص الحبير] (2\ 263)
(2) [نصب الراية] (3\ 85, 86)
(3) [مجمع الزوائد] (3\ 260)
(4) [نصب الراية] (3\ 86)
(5) [ الدراية في تخريج أحاديث الهداية ] ( 2\28 ، 29 ).

وترى اللجنة أن يضاف إلى هذا البحث ما كتبه سماحة المفتي رحمه الله في رسالته التي سماها [تحذير الناسك مما أحدثه ابن محمود في المناسك] وحيث إن الرخصة للرعاة فرع من فروع قاعدة (المشقة تجلب التيسير) وأنه قد يتمسك بالمشقة في مناسك الحج ويجري فيها التغيير عما تقتضيه الأدلة الشرعية- فقد رأت اللجنة أن تلحق بهذا البحث خاتمة تشتمل على أصل هذه القاعدة، وأسباب تخفيف المشقة، وأقسام المشقة، وضابط المشقة المؤثرة، وموضع اعتبار الحرج والمشقة، وأنواع تخفيفات الشرع، وموارد هذه القاعدة من الشريعة.

المشقة تجلب التيسير أصل هذه القاعدة الكتاب والسنة . أما الكتاب : فقوله تعالى: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } (1) (2) , وقوله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (3) (4)
وأما السنة : فعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا » (5) رواه البخاري ومسلم .
قال ابن حجر : وقال النووي : لو اقتصر على "يسروا" لصدق على من يسر مرة وعسر كثيرا، فقال: "ولا تعسروا" لنفي التعسير في جميع الأحوال.
وأخرجه أحمد في [المسند] من حديث جابر وأبي أمامة رضي الله
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة المائدة، الآية 6 .
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) سورة البقرة، الآية 286 .
(5) صحيح مسلم الجهاد والسير (1732),سنن أبو داود الأدب (4835),مسند أحمد بن حنبل (4/412).

عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « بعثت بالحنيفية السمحة » (1) .
وأخرج أحمد في [مسنده] والطبراني والبزار وغيرهما عن ابن عباس قال: « قيل: يا رسول الله، أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: "الحنيفية السمحة » (2) ، وروى أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: « إن دين الله يسر » (3) ثلاثا، وروى أحمد أيضا من حديث الأعرابي بسند صحيح: « خير دينكم أيسره » (4) .
أسباب التخفيف :
ذكر ابن نجيم (5) أنها سبعة: وهي: السفر، والإكراه، والنسيان، والجهل، والعسر، وعموم البلوى، والنقص، وأمثلتها ظاهرة.
أقسام المشقة : قال القرافي (6) : المشاق قسمان:
أحدهما : لا تنفك عنه العبادة؟ كالوضوء والغسل في البرد، والصوم في النهار الطويل، والمخاطرة بالنفس في الجهاد، ونحو ذلك، فهذا القسم لا يوجب تخفيفا في العبادة؛ لأنه قرر معها.
وثانيهما : المشاق التي تنفك عنها العبادة، وهي ثلاثة أنواع:
في الرتبة العليا؛ كالخوف على النفوس والأعضاء والمنافع فيوجب التخفيف؛ لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة، فلو حصلنا هذه العبادة لثوابها لذهب أمثال هذه العبادة.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/266).
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/236).
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/69).
(4) مسند أحمد بن حنبل (3/479).
(5) [لأشباه والنظائر] ص 75- 82.
(6) [الفروق] (1\ 118، 119).

ونوع في المرتبة الدنيا : كأدنى وجع في إصبع، فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة؛ لشرف العبادة وخفة هذه المشقة.
النوع الثالث : مشقة بين هذين النوعين: فما قرب من العليا أوجب التخفيف، وما قرب من الدنيا لم يوجبه، وما توسط يختلف فيه؟ لتجاذب الطرفين، فعلى تحرير هاتين القاعدتين تتخرج الفتاوى في مشاق العبادات . انتهى.
ثم قال: فائدة (1) : قال بعض العلماء: المشاق تختلف باختلاف رتب العبادات، فما كان في نظر الشرع أهم يشترط في إسقاطه أشد المشاق أو أعمها، فإن العموم بكثرته يقوم مقام العظم، كما يسقط التطهر من الخبث في الصلاة التي هي أهم العبادات بسبب التكرار؛ كثوب المرضع، ودم البراغيث، وكما سقط الوضوء فيها بالتيمم " لكثرة عدم الماء والحاجة إليه، أو العجز عن استعماله، وما لم تعظم مرتبته في نظر الشرع تؤثر فيه المشاق الخفيفة، وتحرير هاتين القاعدتين يطرد في الصلاة وغيرها من العبادات وأبواب الفقه، وكما جدت المشاق في الوضوء ثلاثة أقسام: متفق على عدم اعتباره، ومتفق على اعتباره، ومختلف فيه، فكذلك تجده في الصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوقان الجائع للطعام عند حضور الصلاة، والتأذي بالرياح الباردة في الليلة الظلماء والمشي في الوحل، وغضب الحكام وجورهم المانعين من استيفاء الفكر وغير ذلك، وكذلك الغرر والجهالة في البيع ثلاثة أقسام، واعتبر ذلك في
__________
(1) [الفروق] (1\ 119)

جميع أبواب الفقه . انتهى.
وقد بسط العز بن عبد السلام (1) الكلام على أقسام المشاق الموجبة للتخفيف في الشريعة.
ضابط المشقة المؤثرة : قال القرافي (2) : يجب على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة، فيحققه بنص أو إجماع أو استدلال، ثم ما رود عليه بعد ذلك من المشاق، مثل تلك المشقة أو أعلى منها جعله مسقطا، وإن كان أدنى منها لم يجعله مسقطا، مثاله: التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بالحديث الوارد عن كعب بن عجرة، فأي مرض آذى مثله أو أعلى منه أباح، وإلا فلا، والسفر مبيح للفطر بالنص فيعتبر به غيره من المشاق .
موضوع اعتبار الحرج والمشقة قال ابن نجيم (3) : المشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأما مع النص بخلافه فلا، ولذا قال أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - بحرمة رعي حشيش الحرم وقطعه إلا الإذخر، وجوز أبو حنيفة رعيه للحرج، ورد عليه بما ذكرنا . انتهى.
أنواع تخفيفات الشرع :
ذكر العز بن عبد السلام (4) ستة أنواع:
__________
(1) [قواعد الأحكام في مصالح الأنام] ص 9- 17.
(2) [الفروق] (1\120).
(3) [الأشباه والنظائر] ص 83.
(4) [قواعد الأحكام في مصالح الأنام] (2\8، 9).

1 - تخفيف الإسقاط؛ كإسقاط الجمعات والصوم والحج والعمرة بأعذار معروفة.
2 - تخفيف التنقيص؛ كقصر الصلاة، وتنقيص ما عجز عنه المريض من أفعال الصلوات؛ كتنقيص الركوع والسجود وغيرهما إلى القدر الميسور من ذلك.
3 - تخفيف الأبدال؛ كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، وإبدال القيام في الصلاة بالقعود، والقعود بالاضطجاع، والاضطجاع بالإيماء، وإبدال العتق بالصوم، وكإبدال بعض واجبات الحج والعمرة بالكفارات عند قيام الأعذار.
4 - تخفيف التقديم؛ كتقديم العصر إلى الظهر، والعشاء إلى المغرب في السفر والمطر، وكتقديم الزكاة على حولها، والكفارة على حنثها.
5 - تخفيف التأخير؛ كتأخير الظهر إلى العصر، والمغرب إلى العشاء، ورمضان إلى ما بعده.
6 - تخفيف الترخيص؛ كصلاة التيمم مع الحدث، وصلاة المستجمر مع فضلة النجو، وكأكل النجاسات للمداواة، وشرب الخمر للغصة، والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، ويعبر عن هذا بالإطلاق مع قيام المانع أو بالإجابة مع قيام الحاظر.
مورد هذه القاعدة من الشريعة :
قال الشاطبي (1) : وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات
__________
(1) [الموافقات] (2\ 11).

والجنايات، ففي العبادات؛ كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر، وفي العادات؛ كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا، وما أشبه ذلك، وفي المعاملات، كالقراض والمساقاة والسلم وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات؛ كثمرة الشجرة ومال العبد، وفي الجنايات، كالحكم باللوث والتدمية والقسامة وضرب الدية على العاقلة وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء رقم (3) وتاريغ 13\ 8\ 1393 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه. وبعد:
بناء على خطاب المقام السامي رقم (22310) تاريخ 4\ 11\ 1391 هـ المتضمن الموافقة على اقتراح سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بحث موضوع (حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق، وكذا حكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال، وحكم الرمي ليالي أيام التشريق) من قبل هيئة كبار العلماء- عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها الثانية المنعقدة في شهر شعبان عام 1392 هـ ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع الرمي المشتمل على المسائل الآتية:
أ- حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد.
ب- حكم رمي جمرة العقبة ليلة القر.
ح- حكم رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال.
د- حكم رمي الجمار ليلتي اليوم الثاني والثالث من أيام التشريق.
وبعد دراسة المجلس للمسائل المذكورة واطلاعه على أقوال أهل العلم وتداوله الرأي فيها قرر- ما يلي:
1 - جواز رمي جمرة العقبة بعد نصف ليلة يوم النحر للضعفة من النساء وكبار السن والعاجزين ومن يلازمهم للقيام بشؤونهم؛ لما ورد من

الأحاديث والآثار الدالة على جواز ذلك.
2 - عدم جواز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله: « خذوا عني مناسككم » (1) ، ولقول ابن عمر أيام التشريق: كنا نتحين الرمي فإذا زالت الشمس رمينا.
ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس وأنصح الناس وأرحمهم، فلو كان ذلك جائز قبل الزوال لبينه - صلى الله عليه وسلم -.
3 - أما ما عدا ذلك من المسائل الخلافية من أعمال المناسك المشار إليها أعلاه، فإن الخلاف فيها معروف بين العلماء، ومدون في كتب المناسك وغيرها، وما زال عمل الناس جاريا على ذلك، وينبغي للحاج أن يحرص على التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: « خذوا عني مناسككم » (2) .
ويرى المجلس في هذه المسائل الخلافية أن يستفتي العامي من يثق بدينه وأمانته وعلمه في تلك المسائل، ومذهب العامي مذهب من يفتيه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد الرزاق عفيفي
محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الله بن حميد ... محضار عقيل
عبد العزيز بن باز ... عبد المجيد حسن ... عبد الله خياط
محمد الحركان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... عبد الله بن غديان ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن منيع ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3062).

مصادر البحث وملحقاته
1 - [الجامع لأحكام القرآن] للإمام القرطبي : طبعة دار الكتب المصرية سنة 1936 م.
2 - [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن] للإمام الشنقيطي .
3 - [صحيح البخاري مع فتح الباري] لابن حجر العسقلاني، طبعة المطبعة السلفية ومكتبتها.
4 - [صحيح البخاري مع فتح الباري] عمدة القاري للبدر العيني طبعة منيرية.
5 - [صحيح مسلم ] وعليه [شرح النووي ] الطبعة الأولى بالمطبعة المصرية بالأزهر سنة 1347 هـ.
6 - [موطأ مالك ] وعليه [شرح الزرقاني ] طبع مطبعة الاستقامة بمصر والأزهر، الأولى عام 1332 هـ.
7 - [المنتقى على موطأ مالك ] للإمام الباجي ، طبع مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى عام 1332 هـ.
8 - [تهذيب السنن على المختصر] لابن القيم ، طبعة مطبعة السنة المحمدية، سنة 1367 هـ.
9 - [معالم السنن] للخطابي على [مختصر السنن] طبعة مطبعة أنصار السنة المحمدية سنة 1367 هـ.
10 - [عون المعبود على سنن أبي داود ] لمحمد شمس الحق آبادي نشر صاحب دار الكتاب العامة، ببيروت لبنان (مصور).

11 - [جامع الأصول] لابن الأثير ، نشر وتوزيع مكتبة الحلواني ومطبعة الملاح ومكتبة دار البيان، سنة 1390 هـ.
12 - [جامع الترمذي ] مع [التحفة] لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوي طبعة حيدر آباد، سنة 1346 هـ.
13 - [سنن البيهقي ] وعليها [الجوهر النقي] لابن التركماني، طبعة حيدر آباد .
14 - [سنن الدارقطني ] طبعة دار المحاسن للطباعة بالقاهرة، سنة 1386 هـ.
15 - [شرح معاني الآثار] لأحمد بن محمد الأزدي الطحاوي طبع مطبعة الأنوار المحمدية بالقاهرة .
16 - [شرح المواهب اللدنية] للقسطلاني طبع المطبعة الأزهرية المصرية، عام 1328 هـ.
17 - [نصب الراية لأحاديث الهداية] للزيعلي، الطبعة الأولى المجلس العلمي، سنة 1357 هـ. طبع مطبعة دار المأمون.
18 - [التلخيص الحبير] لابن حجر العسقلاني طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة .
19 - [الدراية في تخريج أحاديث الهداية] طبع مطبعة الفجالة الجديدة، سنة 1384 هـ.
20 - [البداية والنهاية] لابن كثير طبع مطبعة السعادة، الطبعة الأولى، سنة 1351 هـ.
21 - [الكفاية في علم الرواية] للخطيب البغدادي، طبع دائرة

المعارف العثمانية، سنة 1357 هـ.
22 - [شرح ألفية العراقي ] له- طبع بالمطبعة الجديدة بطالعة فاس عدد 64 سنة 1354 هـ.
23 - [شروط الأئمة الخمسة] لأبي حازم، ومعه [شروط الأئمة الستة] نشر مكتبة القدسي بالقاهرة، سنة 1357 هـ. 24- [تهذيب التهذيب] لابن حجر، طبع بمطبعة دائرة المعارف النظامية بالهند، عام 1326 هـ.
25 - [بدائع الصنائع] للكاساني طبع في مطبعة شركة المطبوعات العلمية بمصر، الطبعة الأولى عام 1327 هـ.
26 - [فتح القدير على الهداية] لابن الهمام، الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر، سنة 1315 هـ.
27 - [العناية على الهداية] مع [فتح القدير] للبابرتي .
28 - [المسلك المتقسط في المنسك المتوسط] لباب المناسك، الأصل للسندي، والشرح لملا علي قاري، وعليه حاشية تسمى [إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي قاري ].
29 - [المدونة] للإمام مالك الطبعة الأولى.
30 - [مختصر خليل وشرحه] للدردير، طبعة الحلبي .
31 - [الأم] للإمام الشافعي، الطبعة الأولى طبعة أميرية، سنة 1331 هـ.
32 - [الإيضاح] للنووي، الطبعة الثانية، مطبعة دار التأليف.
33 - [المجموع شرح المهذب] مطبعة التضامن الأخوي بمصر .

34 - [نهاية المحتاج] للرملي، الطبعة الحلبية، سنة 1386 هـ.
35 - [المغني والشرح الكبير] لابن قدامة الطبعة الأولى بمطبعة المنار سنة 1346 هـ.
36 - [الإنصاف] للمرداوي الطبعة الأولى، عام 1375 هـ.
37 - [زاد المعاد] لابن قيم الجوزية مطبعة السنة المحمدية.
38 - [الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير] للسباعي الطبعة الأولى مطبعة السعادة، سنة 1348 هـ.
39 - [روضة الناظر] وعليها [حاشية بدران ].
40 - [الأشباه والنظائر] لابن نجيم، الناشر مؤسسة الحلبي، عام 1387 هـ.
41 - [الفروق] للقرافي، طبعة أولى بمطبعة دار إحياء الكتب العربية عام 1344 هـ.
42 - [الموافقات] للشاطبي، طبع مطبعة الشرق الأدنى.
43 - [قواعد الأحكام في مصالح الأنام] للعز بن عبد السلام، طبعت بمطبعة دار الشرق للطباعة، عام 1388 هـ. 44- [لسان العرب] لابن منظور، الطبعة الأميرية، عام 1300 هـ.
45 - [القاموس المحيط] للفيروز آبادي طبع بالمطبعة الأميرية، عام 1301 هـ.

(5)
الطلاق المعلقهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
الطلاق المعلق (1)
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، وبعد ...
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الرابعة المنعقدة في مدينة الرياض في الفترة من 29 / 10 / 1393 هـ إلى 12 / 11 / 1393 هـ. موضوع (حكم الطلاق المعلق) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الطلاق المعلق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه، وبعد :
فبناء على اقتراح اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن يصدر قرار من مجلس هيئة كبار العلماء في حكم الطلاق المعلق- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الطلاق المعلق، هل يعتبر ويقع عند وقوع المعلق عليه طلاقا أو يمينا تلزم فيها الكفارة، أو يكون لغوا؟
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الخامس، ص 58- 94، سنة 1400 هـ.

وقد تضمن البحث ما تيسر مما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار في ذلك وأقوال فقهاء المذاهب الأربعة، وفيما يلي ذكر ذلك على الترتيب:

أولا: ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار :
أ- قال نافع (1) : طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر : إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس (بشيء) رواه البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر معلقا بصيغة الجزم، استدل بهذا الأثر من قال باعتبار تعليق الرجل طلاق زوجته على شيء وبوقوعه عند حصول المعلق عليه، وحمله ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهما على ما إذا قصد الزوج الطلاق لا الحلف؛ جمعا بين الآثار الواردة في ذلك.
ب- وروى البيهقي من طريق سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق، فتفعله، قال: هي واحدة، وهو أحق بها.
نوقش هذا الأثر : بأنه منقطع؛ لأن إبراهيم الراوي عن ابن مسعود هو ابن يزيد النخعي، وقد ولد بعد وفاة ابن مسعود بسبع عشرة سنة تقريبا، وبأنه على تقدير قبوله وهو مرسل يمكن حمله على قصد الرجل الطلاق بتعليقه دون الحلف.
ج- وقال البيهقي : أخبرنا أبو الحسن الرفا، أخبرنا عثمان بن بشر، أخبرنا إسماعيل القاضي، أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس، أخبرنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الستة من أهل المدينة كانوا يقولون: أيما رجل
__________
(1) باب الطلاق في الإغلاق والكره... إلخ

قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلى الليل فخرجت، أو قال ذلك في غلامه فخرج قبل الليل بغير علمه- طلقت امرأته، وعتق غلامه؛ لأنه ترك أن يستثني، لو شاء قال: إلا بإذني لكنه فرط في الاستثناء فإنما يجعل تفريطه عليه.
ونوقش : بأن في سنده إسماعيل بن أويس، وقد ضعفه غير واحد من أئمة الحديث، بل رماه بعضهم بوضع الحديث، وبأنه اعترف بأنه كان يضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم، وعابوا على الشيخين إخراجهما حديثه في [صحيحيهما]، قال ابن حجر : لعل ذلك كان منه في شبيبته ثم انصلح، قال: وأما الشيخان فما أظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات.. انظر بقية الكلام عليه في [تهذيب التهذيب] وفي مقدمة [فتح الباري] لابن حجر؛ لاستيفاء ما قيل فيه من توثيق وتجريح، وفي سنده أيضا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وقد ضعفه ابن معين وابن المديني وابن مهدي وغيرهم، وقال فيه أحمد : إنه مضطرب الحديث، وتكلم فيه مالك لروايته عن أبيه كتاب السبعة يعني الفقهاء وقال: أين كنا عن هذا.. انظر ترجمته في [تهذيب التهذيب].
د- وقال البيهقي (1) : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الحسن بن علي بن عفان، أخبرنا يحيى بن آدم، أخبرنا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم في رجل قال لامرأته:
__________
(1) السنن الكبرى، للبيهقي (7\ 356) باب الطلاق بالوقت والفصل.

هي طالق إلى سنة، قال: هي امرأته يستمتع منها إلى سنة، ويروى مثل ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وبه قال عطاء وجابر بن زيد . اهـ.
ونوقش بأن الإمام أحمد قال : حماد بن سلمة عنده عن حماد بن أبي سليمان تخليط كثير. وقال شعبة في حماد بن أبي سليمان : كان لا يحفظ. وقال حبيب بن أبي ثابت : كان حماد يقول: قال إبراهيم، فقلت: والله إنك لتكذب على إبراهيم، أو أن إبراهيم ليخطئ، وقال الذهبي فيه: كثير الخطأ والوهم، وقال ابن سعد : كان ضعيفا في الحديث، واختلط في آخر أمره.. انظر بقية ترجمته في [تهذيب التهذيب]، وقد وثقه بعض أئمة الحديث، إلا أن الجرح إذا بين كما هنا مقدم على التعديل، ومع ذلك فهذا مما قصد به الطلاق من غير شك دون الحلف فلو صح لم يكن معارضا لما قيل من أن تعليق الطلاق يعتبر طلاقا عند القصد إلى الطلاق.. أما إن قصد الحث أو المنع فيعتبر يمينا تلزم فيها الكفارة.
وجملة القول : أن هذه الآثار استدل بها من قال باعتبار تعليق الطلاق على شيء وبوقوعه طلاقا عند حصول المعلق عليه، وقد عرف ما تأولها به من فصل بين قصد الطلاق وقصد الحلف وما قيل في أسانيدها، وسيأتي..
هـ وروى عبد الرزاق في [مصنفه] (1) عن ابن التيمي عن أبيه عن بكر بن عبد الله المزني قال: أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية
__________
(1) [المصنف] (8\486).

إن لم تطلق زوجتك أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بفقه ذكرت زينب، قال: فجاءت معي إليها، فقالت: أفي البيت هاروت وماروت؟ فقالت: يا زينب - جعلني الله فداك- إنها قالت: كل مملوك لها حر، وهي يهودية ونصرانية، فقالت: يهودية ونصرانية؟ خلي بين الرجل وامرأته، قال: فكأنها لم تقبل ذلك، قال: فأتيت حفصة، فأرسلت معي إليها، فقالت أم المؤمنين- جعلني الله فداك- إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية، قال: فقالت حفصة : يهودية ونصرانية؟ خلي بين الرجل وامرأته، فكأنها أبت، فأتيت عبد الله بن عمر فانطلق معي إليها، فلما سلم عرفت صوته، فقالت: بأبي أنت وبآبائي أبوك، فقال: أمن حجارة أنت أم من حديد أم من أي شيء أنت؟ أفتتك زينت، وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي منهما، قالت: يا أبا عبد الرحمن، جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية، قال: يهودية ونصرانية؟ كفري عن يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته. اهـ.
وقد ذكر ابن القيم : أن له طرقا أخرى تدل على أن التيمي لم ينفرد برواية هذا الأثر، وسيأتي تمام البحث في هذا الأثر في التعليق على مذهب الحنابلة .
وجه الدلالة : أن هذا الأمر وإن لم يكن فيه ذكر للطلاق إلا أن من تمسك به في اعتبار الطلاق المعلق لغوا أو يمينا مكفرة قاس الطلاق على ما ذكر فيه من المال والعتق في أنه لم يلزمه المعلق عند تحقق ما علق عليه، بل كان لغوا إن اعتبرنا سكوت حفصة وزينب - رضي الله عنهما - عن الإلزام به،

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21