كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

أو بكفارة دليلا على الإلغاء، أو تلزم فيه الكفارة إن نظرنا إلى ما أفتى به ابن عمر - رضي الله عنهما -.
وفيما يأتي من أقوال الفقهاء استدلال بآيات وأحاديث وآثار أخرى مع مناقشتها إن شاء الله... والله الموفق .

ثانيا: أقوال فقهاء المذاهب الأربعة :
أ-

مذهب الحنفية
1 - قال البرهان علي بن أبي بكر المرغيناني في [الهداية]: وإذا أضافه- أي: الطلاق- إلى شرط وقع عقيب الشرط مثل أن يقول لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، قال الشارح (1) : وهذا بالاتفاق؛ لأن الملك قائم في الحال، والظاهر بقاؤه إلى وقت وجود الشرط، فيصبح يمينا أو إيقاعا .
قال ابن الهمام في [فتح القدير]: فيصبح يمينا أو إيقاعا، أي: فيصح التعليق المذكور يمينا عندنا؛ لأنه لا يعمل عندنا في الحال، أو إيقاعا عند الشافعي؛ لأنه عنده سبب في الحال ). اهـ.
2 - وفي [مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر] ما نصه : ( إنما يصح التعليق حال كونه في الملك- أي: القدرة على التصرف في الزوجية بوصف الاختصاص وذلك عند وجود النكاح أو العدة مع حل العقد، فإنه لو وجد أحدهما والمرأة مدخولة محرمة بالمصاهرة- لم يصح التعليق فيه، فمن بعض الظن تأويل الملك بوجود النكاح والمتبادر أن الملك لم يشترط لصحة التنجيز وليس كذلك، وبقاء الملك في عدة الرجعي مما لا خلاف
__________
(1) [الهداية] (3\128).

فيه، وأما في عدة البائن ففيه خلاف، كما في القهستاني - كقوله لمنكوحته أو لمعتدته: إن زرت فأنت طالق- فيقع بعد وجود الشرط وهو الزيارة ولو كان المعلق عاقلا عند التعليق ثم جن عند الشرط؛ لأنه إيقاع حكما، ألا يرى أنه لو كان عنينا أو مجنونا يفرق بينهما، ويجعل طلاقا (أو مضافا إلى الملك) بأن يعلق على نفس الملك، نحو: إن ملكت طلاقك فأنت طالق، أو على سبب، كقوله لأجنبية: إن نكحتك- أي: تزوجتك- فأنت طالق، فإن النكاح سبب للملك؛ فاستعير السبب للمسبب- أي: ملكتك بالنكاح- فيقع إن نكحها، لوجود الشرط، وفي الزاهدي : قد ظفرت بروايتين عن محمد أنه لو أضاف إلى سبب الملك لم يصح التعليق، كما قال بشر المريسي؛ لأن الملك يثبت عقيب سببه، والجزاء يقع عقيب شرطه، فلو صح تعليقه به لكان الطلاق مقارنا لثبوت الملك، والطلاق المقارن لثبوت الملك أو زواله لم يقع، كما لو قال: أنت طالق مع نكاحك أو في نكاحك أو مع موتي أو مع موتك، (وتمامه في التبيين فليطالع)، ولا فرق بين ما إذا خصص أو عمم كقوله كل امرأة خلافا لمالك فإنه قال إذا لم يسم امرأة بعينها أو قبيلة أو أرضا أو نحو هذا فلا يلزمه ذلك.
وقال الشافعي : (لا يصح التعليق المضاف إلى الملك).
مما تقدم يتبين :
1 - أن تعليق الطلاق صحيح عند وجود النكاح أو العدة مع حل العقد، وأنه يقع المعلق عند وجود المعلق عليه باتفاق عند الحنفية، وأنه يصح تعليق الطلاق على ملك الطلاق، مثل: إن ملكت طلاقك فأنت طالق، وتعليقه على سبب الملك، كقوله: إن تزوجتك فأنت طالق، ويقع الطلاق

إن نكحها أو ملك طلاقها، وخالف محمد بن الحسن في اعتبار التعليق على ملك الطلاق أو النكاح- فلم يوقع الطلاق عند حصول المعلق عليه، لما ذكر من التعليل بمقارنة الطلاق، لوجود الملك والطلاق المقارن غير معتبر.
2 - أنه لا فرق في التعليق على الملك بين ما إذا عمم في النساء أو خصص خلافا للمالكية في التعميم، أما إذا خصص امرأة أو قبيلة مثلا فمعتبر ويقع الطلاق عند وقوع المعلق عليه عندهم كالحنفية ..

ب-

مذهب المالكية
قال ابن رشد (1) : فصل: فأما ما يلزمه باتفاق فاليمين بالطلاق لا اختلاف بين أحد من العلماء: أن الرجل حلف بطلاق امرأته على نفسه أو على غيره أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله: أن اليمين لازمة له، وأن الطلاق واقع عليه في زوجته إذا حنث في يمينه؛ لأن الحالف بالطلاق أن لا يفعل فعلا أو أن يفعله إنما هو مطلق على صفة ما، فإذا وجدت الصفة التي علق بها طلاق امرأته لزمه ذلك، إلا ما روي عن أشهب في الحالف على امرأته بطلاقها أن لا تفعل فعلا فتفعله قاصدة لتحنيثه أن لا شيء عليه، وهو شذوذ، وإنما الاختلاف المعلوم فيمن قال لعبده: (أنت حر إن فعلت كذا وكذا) ففعله، وبالله سبحانه التوفيق .
ثم قال ابن رشد (2) في الفصل الذي عقده لما لا يلزمه باتفاق: وأما ما لا يلزمه باتفاق فما يوجب على نفسه بشرط أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله مما
__________
(1) [المقدمات] (2\ 119، 120).
(2) [المقدمات] (2\ 122، 123).

ليس لله بطاعة ولا يتقرب به إليه كان مباحا أو معصية كقوله في المعصية: علي ضرب فلان أو إني أفعل كذا وكذا، أو في المباح: علي المشي إلى السوق إن لم أفعل كذا وكذا، أو ما أشبه ذلك ما عدا الطلاق، فإن اليمين به تلزمه، وإن كان من المباح الذي ليس لله فيه طاعة ولا معصية للمعنى الذي قدمت ذكره، وهو: أن الحالف به مطلق على صفة ما .
ثم عقد ابن رشد فصلا خاصا فيما ينقسم إليه الطلاق من الوجوه (1) ، وقسم فيه الطلاق إلى مطلق وإلى مقيد بالصفة قال فيه: وأما الطلاق المقيد بصفة فإنه ينقسم إلى وجهين:
أحدهما : أن يقيد ذلك فيها بلفظ الشرط.
والثاني : أن يقيده فيها بلفظ الوجوب.
فأما إذا قيده بلفظ الشرط مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا أو أن لا أفعله، فإن الفقهاء يسمون ذلك يمينا بالطلاق على المجاز؛ لما فيه من معنى اليمين بالله تعالى، وهو: أن الطلاق يجب عليه بالشرط كما تجب الكفارة على الحالف بالله تعالى بالحنث، فاستويا جميعا في القصد إلى الامتناع مما يجب به الطلاق أو الكفارة دون القصد إلى الطلاق أو الكفارة، ومن ذلك أيضا: أنه ينعقد في المستقبل من الأزمان كما تنعقد الأيمان بالله تعالى، ويكون في الماضي إما واقع كذا وإما ساقط، كاليمين بالله الذي يكون في الماضي إما لغو، أو حالف على صدق لا تجب فيه كفارة، وإما غموس أعظم من أن يكون فيه كفارة، يأثم إذا حلف على الغيب، أو على الكذب،
__________
(1) [المقدمات] (2\ 122، 123).

أو على الشك، كما يأثم في اليمين بالله إذا حلف على شيء من ذلك وليس بحقيقة، وإنما بحقيقة اليمين بالطلاق قول الرجل: وحق الطلاق لأفعلن كذا وكذا، وبالله سبحانه التوفيق.
ثم قال ابن رشد (1) : فصل فيما تقسم إليه اليمين بالطلاق من الوجوه، وهو - أعني اليمين بالطلاق - على ما ذكرته من المجاز تنقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها : أن يحلف بالطلاق على نفسه.
والثاني : أن يحلف على غيره.
والثالث : أن يحلف على مغيب من الأمور.
فالأول : وهو حلفه بالطلاق على نفسه، فهو ينقسم على قسمين:
أحدهما : أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا، فيقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا.
والثاني : أن يحلف به أن يفعل فعلا، فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا.
فأما الوجه الأول : وهو أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا، فلا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها : أن يكون الفعل مما يمكنه فعله وتركه.
والثاني : أن يكون مما لا يمكنه تركه.
والثالث : أن يكون مما لا يمكنه فعله.
__________
(1) من كتاب [المقدمات] (2\ 122، 123).

فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه فلا خلاف في أنه لا طلاق عليه إلا أن يفعل ذلك الفعل، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن ضربت عبدي، أو دخلت الدار، أو ركبت الدابة، أو ما أشبه ذلك، إلا في مسألة واحدة، وهي أن يقول: امرأتي طالق إن وطئتك فإن لها تفصيلا، وفيها اختلاف، وهو مذكور في الأمهات، وسيأتي تحصيل القول عليه في كتاب الإيلاء (1)
وأما إذا كان مما لا يمكنه تركه فقيل: إنه يجعل عليه الطلاق، وهو قول سحنون، وقيل: إنه لا طلاق عليه حتى يفعل ذلك الفعل كالوجه الأول، وهو ظاهر قول ابن القاسم في [المدونة] مثال ذلك: أن يقول: امرأتي طالق إن أكلت أو شربت أو صمت أو صليت وما أشبه ذلك.
وأما إذا كان مما لا يمكنه فعله فقيل: إنه لا شيء عليه، وهو قول ابن القاسم في [المدونة]، وقيل: إن الطلاق يعجل عليه؛ لأنه يعد نادما وهو قول سحنون، وروي مثله عن ابن القاسم، مثال ذلك: أن يقول: امرأتي طالق إن مسست السماء أو ولجت في سم الخياط وما أشبه ذلك.
وأما الوجه الثاني : وهو أن يحلف بالطلاق أن يفعل فعلا، فلا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها : أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله وتركه.
والثاني : أن يكون مما لا يمكنه فعله في الحال.
والثالث : أن يكون مما لا يمكنه فعله على حال ... وقال أيضا:
فصل : فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه، مثل قوله: أنت طالق إن لم
__________
(1) من كتاب [المقدمات]. (الناشر).

أدخل الدار وإن لم أضرب عبدي وما أشبه ذلك فإنه يمنع من الوطء؛ لأنه على حنث ولا يبر إلا بفعل ذلك الشيء، فإن رفعت امرأته أمرها ضرب له أجل المولي وطلق عليه عند انقضائه إلا أن يبر بفعل ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه أو تحب البقاء معه بغير وطء، فإن اجترأ ووطئ سقط أجل الإيلاء واستؤنف لها ضربه إن رفعت ذلك، ولا يقع عليه طلاق بترك ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه ؛ لأنه طلاق لا يكشفه إلا الموت، وإن أراد أن يحنث نفسه بالطلاق دون أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء كان ذلك له إلا أن يضرب أجلا فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا إلى وقت كذا وكذا، ولا يكون له أن يحنث نفسه بالطلاق ويطأ إلى الأجل على اختلاف من قول ابن القاسم، ويضرب له أجل الإيلاء على القول الذي يقول: لا يطأ إذا كان الأجل أكثر من أربعة أشهر، فهذا حكم هذا القسم إلا في مسألتين:
إحداهما : أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطلقها.
والثانية : يقول: امرأتي طالق إن لم أحبلها.
فأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أطلقها ففي ذلك ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الطلاق يعجل عليه ساعة حلف.
ووجه ذلك : أنه حمله على التعجيل والفور، فكأنه قال: أنت طالق إن لم أطلقك الساعة.
والثاني : أن الطلاق يعجل عليه إلا أن ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه على الوجه.
والثالث : أنه لا يطلق عليه إن رفعته امرأته ويضرب له أجل الإيلاء، فإن طلقها وإلا طلق عليه بالإيلاء عند انقضاء أجله ولم يمكن من الوطء؛ لأنه

لا يجوز له من أجل أنه على حنث وإن اجترأ فوطيء سقط عنه الإيلاء واستؤنف ضربه له ثانية إن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان، وفائدة ضرب أجل الإيلاء على هذا القول- وإن لم يمكن من الفيء بالوطء- رجاء أن ترضى في خلال الأجل بالبقاء معه على العصمة دون وطء.
وأما إذا قال : امرأتي طالق إن لم أحبلها، فإنه يطأ أبدا حتى يحبلها؛ لأن بره في إحبالها، وكذلك إن قال لامرأته: أنت طالق إن لم أطأك، له أن يطأها؛ لأن بره في وطئها، فإن وقف عن وطئها كان موليا عند مالك والليث فيما روي عنهما، وقال ابن القاسم : لا إيلاء عليه، وهو الصواب، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل : وأما إذا كان ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله في الحال، مثل: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحج وهو في أول العام، ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يمنع من الوطء الآن، وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الإيلاء من [المدونة] ورواية عيسى عنه في الأيمان بالطلاق من [العتبية].
والثاني : أنه لا يمنع من الوطء حتى يمكنه فعل ذلك الفعل.
والثالث : أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى فوات ذلك الفعل.
والرابع : أنه لا يمنع منه حتى يفوت فعل ذلك الفعل.
وقال أيضا : فصل : فإذا قلنا: إنه يطأ حتى يمكنه فعل ذلك الفعل فأمسك عن الوطء بإمكان الفعل له ثم فات الوقت- ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها : أنه لا يرجع إلى الوطء أبدا.
والثاني : أنها تطلق عليه.
والثالث : أنه يرجع إلى الوطء حتى يمكنه الفعل مرة أخرى وقد زدنا

هذه الأوجه بيانا في كتاب الإيلاء (1)
وأما إذا كان الفعل مما لا يمكنه فعله على حال لعدم القدرة عليه مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أمس السماء وإن لم ألج في سم الخياط وما أشبه ذلك أو لمنع الشرع منه، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أقتل فلانا أو إن لم أشرب الخمر وما أشبه ذلك فإنه يعجل عليه الطلاق إلا أن يجترئ على الفعل الذي يمنعه منه الشرع فيفعله قبل أن يعجل عليه الطلاق فإنه يبر في يمينه ويأثم في فعله، ولا اختلاف في هذا الوجه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل : وأما القسم الثاني: وهو أن يحلف بالطلاق على غيره فإنه ينقسم أيضا على وجهين:
أحدهما : أن يحلف عليه أن لا يفعل فعلا.
والثاني : أن يحلف عليه ليفعلنه، فأما إذا حلف عليه أن لا يفعل فعلا، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعل فلان كذا وكذا، فهو كالحالف على فعل نفسه، سواء في جميع الوجوه، وقد تقدم تفسير ذلك، وأما إذا حلف أن يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم يفعل فلان كذا وكذا، ففي ذلك لابن القاسم ثلاثة أقوال:
أحدها : أنه كالحالف على فعل نفسه أن يفعل فعلا يمنع من الوطء، ويدخل عليه الإيلاء جملة من غير تفصيل.
والثاني : أنه يتلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه، واختلف: هل يطأ
__________
(1) من كتاب [المقدمات] (الناشر).

في هذا التلوم أم لا؟ على قولين جاريين على الاختلاف إذا ضرب له أجل؛ لأن التلوم كضرب الأجل، فإن بلغ التلوم على مذهب من يمنعه من الوطء أكثر من أربعة أشهر دخل عليه الإيلاء.
والثالث : الفرق بين أن يحلف على حاضر أو غائب، وهو الذي يأتي على ما في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل : وأما القسم الثالث: وهو أن يحلف بالطلاق على مغيب من الأمور فإن كان مما له طريق إلى معرفته لم يعجل عليه بالطلاق حتى يعلم صدقه من كذبه كالقائل امرأتي طالق إن لم يجئ فلان غدا، فإن مضى الأجل ولم يعلم صدقه من كذبه حمل من ذلك ما تحمل، وإن كان مما لا طريق له إلى معرفته عجل عليه الطلاق ولم يستأذن به، واختلف إن غفل عن الطلاق عليه حتى جاء الأمر على ما حلف عليه، فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها : أن يطلق عليه.
والثاني : أنه لا يطلق عليه.
والثالث : أنه إن كان حلف على غالب ظنه لأمر توسمه مما يجوز له في الشرع لم تطلق عليه، وإن كان حلف على ما ظهر عليه بكهانة أو تنجيم أو على الشك أو على تعمد الكذب طلق عليه.
وأما الوجه الثاني : وهو أن يقيد طلاقه بالصفة بلفظ الوجوب، وهو أن يقول: امرأتي طالق إن كان كذا وكذا، فإنه ينقسم على أربعة أقسام:
أحدها : أن تكون الصفة آتية على كل حال.

والثاني : أن تكون الصفة غير آتية على كل حال.
والثالث : أن تكون مترددة بين أن تأتي وأن لا تأتي من غير أن يغلب أحد الوجهين على الآخر أو يكون الأغلب منهما أنها لا تأتي.
والرابع : أن تكون مترددة بين أن تأتي أو لا تأتي، والأغلب منهما أنها تأتي.
فالأول : يعجل عليه فيها الطلاق باتفاق.
والثاني : يتخرج على قولين.
والثالث : لا يعجل عليه الطلاق باتفاق.
والرابع : يختلف فيه على قولين منصوصين، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق . اهـ نص [مقدمات ابن رشد ].
مما تقدم : يتبين أنه لا خلاف بين المالكية في اعتبار تعليق الزوج الطلاق على أمر ما فعل أو ترك، مباح أو معصية، ماض أو مستقبل، ولا خلاف بينهم أيضا في وقوع الطلاق عند حصول ما علق عليه، سواء أكان المعلق عليه من فعله أو فعل غيره إلا فيما نقل عن أشهب بن عبد العزيز في الحالف على امرأته بالطلاق ألا تفعل فعلا ففعلته قاصدة لتحنيثه أنه لا شيء عليه، بناء منه على قاعدة المعاملة بنقيض القصد، وقد اعتبر المالكية ذلك منه شذوذا، وما ذكر من الخلاف في فروع هذه المسألة وتفاصيل وجوهها فإنما هو في تعجيل حنثه أو كونه على بر حتى يحنث وفي اعتباره موليا أو غير مول من زوجته، ونحو ذلك مما لا تعلق له بأصل البحث الذي نحن بصدد إعداده، وكذا يعتبر تعليق الرجل طلاق امرأة أجنبية منه على زواجه بها، كما لو قال: إن تزوجت فلانة أو من قبيلة كذا أو من بلد كذا فهي

طالق، فيقع الطلاق عند عقد النكاح عليها، ولو عمم في التعليق لم يعتد به، لا لأن التعليق من حيث هو غير معتبر؛ بل لأن الأمر كلما ضاق اتسع، فإلغاء التعليق خاص بصورة التعميم لما ذكر.

ج-

مذهب الشافعية
1 - قال النووي (1) بعد ذكره لأدوات التعليق : ولا يقتضين فورا إن علق بإثبات في غير خلع، إلا (أنت طالق إن شئت)، ولا تكرارا، ولو قال: إذا طلقتك فأنت طالق ثم طلق أو علق بصفة فوجدت فطلقتان، أو كلما وقع طلاقي فطلق فثلاث في ممسوسة، وفي غيرها طلقة... ولو علق بنفي فعل فالمذهب: أنه إن علق ب (إن) كإن لم تدخلي، وقع عند اليأس من الدخول، أو بغيرها فعند مضي زمن يمكن فيه ذلك الفعل ولو قال: أنت طالق إن دخلت أو أن لم تدخل بفتح (أن) وقع في الحال. قلت: إلا في غير نحوي فتعليقة في الأصح .
2 - وقال (2) أيضا : خطاب الأجنبية بطلاق وتعليقه بنكاح وغيره لغو، والأصح صحة تعليق العبد ثالثة، كقوله إن عتقت، أو إن دخلت فأنت طالق ثلاثا فيقع إذا عتق أو دخلت بعد عتقه، ويلحق رجعية لا مختلعة. انتهى المقصود .
3 - قال الشيرازاي (3) : إذا علق الطلاق بشرط لا يستحيل كدخول الدار ومجيء الشهر تعلق به فإذا وجد الشرط وقع، وإذا لم يوجد لم يقع: لما
__________
(1) [المنهاج] ص (422، 423).
(2) [المنهاج] ص 413.
(3) [المهذب] وعليه [شرح المجموع] (16\ 152).

روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « المؤمنون عند شروطهم » ولأن الطلاق كالعتق؛ لأن لكل واحد منهما قوة وسراية، ثم العتق إذا علق بشرط وقع بوجوده ولم يقع وجوده فكذلك الطلاق .
4 - قال تقي الدين السبكي (1) : مسألة: إذا علق الرجل طلاق زوجته على شرط قاصدا اليمين، إما لحث أو منع، أو تصديق، ثم وجد ذلك الشرط- وقع الطلاق وبيان ذلك: أن مقتضى القضية الشرطية الحكم بالمشروط على تقدير الشرط خبرية كانت أو إنشائية، والمعلق فيها هو نسبة أحد الجزءين إلى الآخر لا الحكم بتلك النسبة الذي هو منقسم إلى الخبر والإنشاء؛ لأن كلا منهما يستحيل تعليقه، فالمعلق في مسألتنا هو الطلاق، وأما التطليق فهو فعل الزوج، يوقعه منجزا أو معلقا، ويوصف التعليق بكونه تطليقا عند وجود الشرط حقيقة، فإن لم يجز التعليق يخرج الذي حصل مقتضاه عن الشرط، ويشهد لذلك أحكام الشريعة كلها المعلقة بالشروط.
ومن منع تعليق الطلاق بالصفات مطلقا فقد التبس عليه التعليق بتعليق الإنشاء فظن أن تعليق الطلاق من الثاني وإنما هو من الأول.. وقد علق الله إحلال المرأة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على هبتها نفسها له وإرادته استنكاحها، وإن خرج مخرج اليمين فالأمر كذلك لوجوه:
أحدها : أنه تعليق خاص فيجب ثبوت حكم التعليق العام له.
الثاني : قوله تعالى: { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } (2)
__________
(1) انظر [المحقق في الطلاق المعلق] ص 56 ضمن مجموعة [رسائل السبكي].
(2) سورة النور الآية 7

ووجه الاستدلال : أن الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق فهو خارج مخرج اليمين، ومع ذلك فهو موجب اللعنة والغضب على تقدير الكذب بدليل قوله: أنها موجبة، وبأنه لو كان المترتب على ذلك الكفارة لكان الإتيان بالقسم أولى.
الثالث : أن في القرآن والسنة وأشعار العرب الفصحاء من التعليقات التي فيها الحث أو المنع أو التصديق ما لا يحصى مع القطع بحصول الشروط فيها.
الرابع : أن تسمية التعليق يمينا لا يعرفه العرب، ولم يتفق عليه الفقهاء، ولم يرد به الشرع، وإنما سمي بذلك على وجه المجاز، فلا يدخل تحت النصوص الواردة في الأيمان، وأنها قابلة للتكفير.
الخامس : أن هذا التعليق وإن قصد به المنع فالطلاق مقصود به على ذلك التقدير، ولذلك نصبه الزوج مانعا له من ذلك الفعل، ولولا ذلك لما امتنع، ولا استحالة في كون الطلاق غير مقصود للزوج في نفس الأمر، ومقصودا له على تقدير، وإذا كان مقصودا ووجد الشرط وقع الطلاق على مقتضى تعليقه وقصده.
السادس : أنه عند الشرط يصح اسم التطليق؛ لما تقدم، فيندرج تحت قوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 230

السابع : أن التطليق مفوض إلى العبد بقوله تعالى: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) وهو أعم من المنجز والمعلق فيندرج المعلق تحت الآية .
5 - وقال (2) أيضا : وقد نقل إجماع الأمة على ذلك، أي: إيقاع الطلاق المعلق، سواء كان على وجه اليمين أو لا- أئمة لا يرتاب في قولهم، ولا يتوقف في صحة نقلهم، فمن ذلك الإمام الشافعي - رضي الله عنه -، وناهيك به قال: وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد، وهو من أئمة الاجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهما، وكذلك نقله أبو ثور وهو من الأئمة أيضا، وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الإجماع أبو بكر بن المنذر، ونقله أيضا الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد بن نصر المروزي، ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه [التمهيد] و[الاستذكار] وبسط القول فيه على وجه لم يبق لقائل مقالا، ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب [المقدمات] له، ونقله الإمام الباجي في [المنتقى] وغير هؤلاء من الأئمة.
وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة، بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق، وهذا مستقر بين الأمة، والإمام أحمد أكثرهم نصا عليها، فإنه نص على وقوع الطلاق، ونص على أن يمين الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر ولا تدخلها الكفارة، وذكر
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) [الدرة المضيئة] ص13، طبع مطبعة الترقي بدمشق\ 12.

العتق وذكر الأثر الذي استدل به ابن تيمية فيه ، وهو خبر ليلى بنت العجماء الذي يبني ابن تيمية حجته عليه ، ورده بأثر آخر صح عنده ، وهو أثر عثمان بن حاضر ، وفيه فتوى ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وجابر رضي الله عنهم : بإيقاع العتق على الحانث في يمينه ، ولم يعمل بأثر ليلى بنت العجماء ولم يبق في المسألة إلباسا ، رضي الله عنه .
6 - وقال السبكي أيضا (1) : فإن قلت : يرد عليك أمران :
أحدهما : طلب الفرق بين هذا وبين نذر اللجاج عند من جعله يتخلص منه بكفارة يمين .
والثاني : في دعوى الإجماع ، وقد نقل بعض الناس قولين آخرين : أنه لا يلزمه به شيء ، والثاني : أنه يلزمه به كفارة .
قلت : أما الأول : فالجواب عنه : أن الطلاق إسقاط حق لا يشترط فيه قصد القربة وفي اللجاج لم يوجد هذا الشرط ، ولم يأذن الشرع فيه ، وليس للعبد إيجاب ولا تحريم إلا بإذن الله ، وأيضا فإن الدليل قد قام على ما قلناه وهو على وفق الأصل ، فإن دل دليل على خروج اللجاج عنه بقي ما عداه على الأصل ، وأما أن يجعل اللجاج المختلف فيه الخارج عن الأصل أصلا ، ويلحق به الجاري على وفق الأصل فغير سديد .
وأما الثاني : فإن القول بعدم الوقوع ما قاله أحد من الصحابة ولا من التابعين ، إلا أن طاوسا نقل عنه لفظ محتمل ؛ لذلك أولناه ، ولا ممن بعدهم إلا الشيعة ومن وافقهم ممن لا يعتد بخلافه ، وأما القول بالكفارة في
__________
(1) انظر [الملحق في الطلاق المعلق ] ص 57 ، 58

ذلك فلم يثبت عن أحد من المسلمين قبل ابن تيمية ، وإن كان مقتضى كلام ابن حزم في مراتب الإجماع نقل ذلك ، إلا أن ذلك مع إبهامه وعدم تعيين قائله ليس فيه أنه في مسألة التعليق ، فيجوز أن يحمل على غيرها من صور الحلف . . . انتهى .
وقول السبكي بشأن رأي طاوس (أولناه) يريد : تأويله في [الدرة المضيئة] بالإكراه (1) ، يقول : ذكره عبد الرزاق في طلاق المكره ، وذكر أنه قد أجاب عنه أجوبة كثيرة غير هذا في بعض مصنفاته ، كما ذكر أن طاوسا قد صح النقل عنه بخلاف ذلك ، قال : قد أفتى بوقوع الطلاق في هذه المسألة ، ونقل ذلك عنه بالسند الصحيح في عدة مصنفات جليلة منها [كتاب السنن] لسعيد بن منصور ، ومنها [مصنف عبد الرزاق ] .
وقال (2) أيضا : بعد ذكر الوارد عن الصحابة في الوقوع قال : ( فهذا عصر الصحابة لم ينقل فيه إلا الوقوع ، وأما التابعون رضي الله عنهم فأئمة العلم منهم معدودون معروفون ، وهم الذين تنقل مذاهبهم وفتاويهم ) قال : ( وقد نقلنا من الكتب المعروفة الصحيحة كـ [ جامع عبد الرزاق ] و [مصنف ابن أبي شيبة ] و [سنن سعيد بن منصور ] و [السنن الكبرى] للبيهقي ، وغيرها- فتاوى التابعين أئمة الاجتهاد ، وكلهم بالأسانيد الصحيحة أنهم أوقعوا الطلاق بالحنث في اليمين ، ولم يقضوا بالكفارة وهم : سعيد بن المسيب أفضل التابعين ، والحسن البصري ، وعطاء ، والشعبي ، وشريح ، وسعيد
__________
(1) [الدرة المضيئة] ص15
(2) المرجع السابق ص18

ابن جبير ، وطاوس ، ومجاهد ، وقتادة ، والزهري ، وأبو مخلد , والفقهاء السبعة- فقهاء المدينة - وهم . عروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وخارجة بن زيد ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وسليمان بن يسار ، وهؤلاء إذا أجمعوا على مسألة كان قولهم مقدما على غيرهم ، وأصحاب ابن مسعود السادات ، وهم : علقمة ، والأسود ، ومسروق ، وعبيدة السلماني ، وأبو وائل شقيق بن سلمة ، وطارق بن شهاب ، وزر بن حبيش وغير هؤلاء من التابعين ، مثل : ابن شبرمة ، وأبي عمرو الشيباني ، وأبي الأحوص ، وزيد بن وهب ، والحكم ، وعمر بن عبد العزيز ، وخلاس بن عمرو ، وكل هؤلاء نقلت فتاويهم بإيقاع الطلاق لم يختلفوا في ذلك ، ومنهم علماء التابعين غير هؤلاء ، فهذا عصر الصحابة وعصر التابعين كلهم قائلون بالإيقاع ، ولم يقل أحد : أن هذا مما يجري به الكفارة ، وأما من بعد هذين العصرين فمذاهبهم معروفة مشهورة ، كلها تشهد بصحة هذا القول ؛ كأبي حنيفة ، وسفيان الثوري ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، وابن المنذر ، وابن جرير الطبري ، وهذه مذاهبهم منقولة بين يدينا ولم يختلفوا في هذه المسألة .
يتبين مما تقدم أمران :
الأول : أن الرجل إذا علق طلاق زوجته على شيء فتعليقه معتبر ويقع طلاقه عند وجود ما علق به ، سواء قصد بذلك إيقاع الطلاق أم قصد اليمين حثا أو منعا أو تصديقا لخبر أو تكذيبا له .

واستدلوا على ذلك بأدلة :
منها : حديث : « المؤمنون عند شروطهم » .
ومنها : قياس الطلاق على العتق بجامع ما لكل منهما من قوة وسراية .
ومنها : اعتبار الكتاب والسنة للتعليقات مطلقا من القطع بحصول المشروع فيها عند وجود شرطه .
ومنها : ما نقله الأئمة من إجماع الأمة على إيقاع الطلاق المعلق عند وجود المعلق محليه سواء كان التعليق على وجه اليمين أم لا . . . إلى آخر الوجوه التي ذكرها تقي الدين السبكي في الاستدلال على ما تقدم ، ويناقش ذلك بما يأتي نقله عن ابن تيمية وابن القيم .
الأمر الثاني : أن الرجل إذا علق طلاق أجنبية منه على نكاحها فتعليقه لغو ، ولا يقع طلاقه عند زواجه بها بناء على أنها أجنبية منه وقت التعليق ، وأن التعليق إيقاع لا يمين ، كما تقدم بيانه نقلا عن ابن الهمام عند ذكر مذهب الحنفية . وما وراء هذا من اقتضاء صيغ التعليق للفور أو التكرار وعدم اقتضائها لذلك ، ومن وقوع المعلق على نفي الفعل عند اليأس منه أو عند مضي زمن يمكن فيه الفعل فلا تعلق له بأصل البحث المطلوب إعداده .

د-

المذهب الحنبلي
1 - قال شيخ الإسلام (1) : قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه : (إن كلمتك فامرأتي طالق ، وعبدي حر) قال : لا يقوم هذا مقام اليمين ، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا .
__________
(1) [القواعد النورانية] ص 258 ، تحقيق\ محمد حامد الفقي- ط \ مكتبة المعارف .

2 - وقال (1) أيضا : وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد ، فقال المروزي : قال أبو عبد الله : إذا قال : كل مملوك له حر ، فيعتق عليه إذا حنث ؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة ، وقال : ليس يقول : كل مملوك لها حر- في حديث ليلى بنت العجماء - حديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب ، وذكرت العتق ، فأمروها بالكفارة إلا التيمي ، وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق ، قال : سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع - قصة حلف مولاته ليفارقن امرأته ، وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين - قلت : فيها شيء ؟ قال : نعم ، أذهب إلى أن فيه كفارة يمين ، قال أبو عبد الله : ليس يقول فيه (كل مملوك) إلا التيمي ، قلت : فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث ؟ قال : يعتق ، كذا يروى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا : (الجارية تعتق) ثم قال : ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر . قلت : فإيش إسناده ؟ قال : معمر عن إسماعيل عن عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس ، وقال إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى : وهما مكيان ، وقد فرقا بين الحلف بالطلاق والعتق ، والحلف بالنذر ؟ لأنهما لا يكفران ، واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وحفصة وزينب مع انفراد التيمي بهذه الزيادة ، وقال صالح بن أحمد : قال أبي : وإذا قال : جاريتي حرة إن كان كذا وكذا ، قال : قال ابن عمر وابن عباس : تعتق ، وإذا قال : كل مالي في المساكين لم يدخل فيه جاريته ، فإن هذا لا يشبه هذا ، ألا ترى أن ابن عمر فرق بينهما : العتق والطلاق لا يكفران .
__________
(1) المرجع السابق ص 259 ، 260 .

3 - وقال (1) أيضا : وأما قول القائل : إن العتق انفرد به التيمي فعنده جوابان :
أحدهما : أنه لم ينفرد به ، بل تابعه عليه أشعث ، وجسر بن الحسن ، وأحمد ذكر أنه لم يبلغه العتق إلا من طريق التيمي وقد بلغ غيره من طريق أخرى ثانية ، ومن طريق ثالثة أيضا شاهدة وعاضدة .
الثاني : أن التيمي أجل من روى هذا الأثر عن بكر وأفقههم فانفراده به لا يقدح فيه ، ألا ترى أن منهم من ذكر فيه ما لم يذكره الآخرون ، ومنهم من بسطه ، ومنهم من استوفاه ، وقد روى عن التيمي مثل يحيى بن سعيد القطان ، ومثل ابنه المعتمر وغيرهما ، واتفقوا عنه على لفظ واحد ، فدل على ضبطه وإتقانه .
4 - وقال (2) أيضا : وأما أحمد فبلغه أثر في الحلف بالعتق في حديث ليلى بنت العجماء ، لكن لم يبلغه إلا من وجه واحد ، فظن أن التيمي انفرد به ، فكان ذلك علة فيه عنده ، وعارضه بأثر آخر روي عن ابن عمر وابن عباس .
وقد ذكرت في غير هذا الموضع حديث ليلى بنت العجماء ، وأنه روي من ثلاثة أوجه ، وأنه على شرط [ الصحيحين] ، وممن رواه أبو بكر الأثرم في [مسائله] عن أحمد . . . إلخ .
5 - وقال (3) أيضا : وأما معارضة ذلك بما روي عن ابن عمر وابن
__________
(1) [نظرية العقد] ص 136 ، 137 .
(2) المرجع السابق ص 118 .
(3) نفس المرجع ص 137- 139 .

عباس فعنه أجوبة- هذا ملخصها :
أحدها : أن ذلك المنقول ليس فيه حجة ، فإن فيه : أنها حلفت بالعتق وأيمان أخرى فأفتيت في الجميع باللزوم ليس فيه أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بالفرق بين العتق وبين غيره من الأيمان ، بل فيه أنهم سووا بين ذلك ، وفي بعض طرقه : أنه كان معهم ابن الزبير . . . إلخ .
الثاني : أن هذا الحديث هو الذي ذكره الهندواني من الحنفية . أن لزوم نذر اللجاج والغضب هو قول العبادلة . ابن عمر وابن عباس وابن الزبير ، وأنكر الناس ذلك عليه ، وطعنوا في ذلك ، فإن كان هذا الحديث صحيحا ثبت ما نقله الهندواني ، وإن لم يكن صحيحا لم يكن لأحد أن يحتج به .
الثالث : أنه- بتقدير ثبوته- يكون الصحابة متنازعين في جنس هذه التعليقات التي هي من جنس نذر اللجاج والغضب . . . إلخ .
الرابع : أن هؤلاء الذين نقل عنهم في هذا الجواب : أنهم ألزموا الحالف ما حلف به . قد ثبت عنهم نقيض ذلك ، فثبت عن ابن عباس من غير وجه . أنه أفتى بكفارة يمين في هذه الأيمان ، وكذلك ابن عمر فغاية الأمر أن يكون عنهما روايتان ، وأما عائشة وحفصة وزينب وعمر بن الخطاب فلم ينقل عنهم إلا أنها أيمان مكفرة ، فمن اختلف عنه سقط قوله ، ويبقى الذين لم يختلف عنهم .
الخامس : أن هذا الحديث لا تقوم به حجة ؛ لأن راويه لم يعلم أنه حافظ وإنما كان قاصا ، وإذا لم يثبت حفظ الناقل لم يؤمن غلطه ، فلا يقبل ما ينفرد به ، لا سيما إذا خالف الثقات .
السادس : أنه قد ثبت عن هؤلاء الصحابة بنقل الثقات من الطرق

المتعددة : ما يخالف نقل عثمان بن حاضر ، فدل ذلك على أنه غلط فيما رواه .
السابع : أن غاية هذا : أنه نقل عن بعض الصحابة الفرق بين العتق وغيره ، وقد نقل عن هذا وعن غيره التسوية بينهما ، فلو كان النقلان ثابتين لكان مسألة نزاع بين الصحابة ، فكيف إذا كان هذا النقل ؟ ! أثبت والصحابة الذين فيه أكثر وأفضل ؟ ! والذين في ذلك هم هذا وزيادة .
الثامن : أن فيه من الخطأ ما يدل على أنه لم يحفظ ، فلفظ حديث عبد الرزاق . . . وساقه إلى آخره .
وقال بعد ذلك : وهذا اللفظ فيه : (أنهما أفتيا بلزوم ما حلفت به) فأوقعا العتق ، وقالا في المال بإجزاء زكاته لا بكفارة يمين .
وهذا القول لا يعرف عن أحد قبل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، بل أهل العلم بأقوال العلماء كالمتفقين على أنه لم يقله أحد قبل ربيعة .
وقد ثبت بالنقول الصحيحة عن ابن عباس : أنه كان يأمر في ذلك بكفارة يمين ، وكذلك عن ابن عمر .
6 - قال ابن قدامة (1) : اختلف أصحابنا في الحلف بالطلاق : فقال القاضي في [الجامع] وأبو الخطاب هو تعليقه على شرط ، أي شرط كان ، إلا قوله : إذا شئت فأنت طالق ونحوه فإنه تمليك ، وإذا حضت فأنت طالق فإنه طلاق بدعة ، وإذا طهرت فأنت طالق فإنه طلاق سنة ، وهذا قول أبي حنيفة ؟ لأن ذلك يسمى حلفا عرفا فيتعلق به الحكم ، كما لو قال : إن دخلت
__________
(1) [المغني ومعه الشرح] (8\ 334) .

الدار فأنت طالق ، ولأن في الشرط معنى القسم من حيث كونه جملة غير مستقلة دون الجواب فأشبه قوله : والله وبالله وتالله ، وقال القاضي في [المجرد] : هو تعليقه على شرط يقصد به الحث على الفعل أو المنع منه كقوله : إن دخلت الدار فأنت طالق ، أو إن لم تدخلي فأنت طالق ، أو على تصديق خبره مثل قوله : أنت طالق قدم زيد أو لم يقدم ، فأما التعليق على غير ذلك ، كقوله : أنت طالق إن طلعت الشمس أو قدم الحاج أو إن لم يقدم السلطان- فهو شرط محض ليس بحلف ؛ لأن حقيقة الحلف القسم ، وإنما سمي تعليق الطلاق على شرط حلفا تجوزا لمشاركته الحلف في المعنى المشهور ، وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر ، نحو قوله : والله لأفعلن أو لا أفعل أو قد فعلت أو لم أفعل ، وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصح تسميته حلفا وهذا مذهب الشافعي ، فإذا قال لزوجته : إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ، ثم قال : إذا طلعت الشمس فأنت طالق لم تطلق في الحال على القول الثاني ؛ لأنه ليس بحلف ، وتطلق على الأولى ؛ لأنه حلف ، وإن قال : كلما كلمت أباك فأنت طالق طلقت على القولين جميعا ؛ لأنه علق طلاقها على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا ، كما لو قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ، وإن قال : إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد ذلك طلقت واحدة كلما أعاد مرة طلقت حتى تكمل الثلاث ؛ لأن كل مرة يوجد بها شرط الطلاق وينعقد شرط طلقة أخرى ، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي .
وقال أبو ثور : ليس ذلك بحلف ، ولا يقع الطلاق بتكرار ؛ لأنه تكرار للكلام فيكون تأكيدا حلفا . . . ولنا : أنه تعليق للطلاق على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا ، كما لو قال : إن دخلت الدار فأنت طالق . وقوله :

إنه تكرار للكلام حجة عليه ، فإن تكرار الشيء عبارة عن وجوده مرة أخرى ، فإذا كان في الأولى حلفا فوجد مرة أخرى فقد وجد الحلف مرة أخرى ، وأما التأكيد فإنما يحمل عليه الكلام المكرر إذا قصده ، وهاهنا إن قصد إفهامها لم يقع بالثاني شيء ، كما لو قال . أنت طالق أنت طالق ، يعني بالثانية إفهامها ، فأما إن كرر ذلك لغير مدخول بها بانت بطلقة ، ولم يقع أكثر منها ، فإذا قال لها ثلاثا بانت بالمرة الثانية ولم تطلق بالثالثة ، فإن جدد نكاحها ثم أعاد ذلك لها ، أو قال لها : إن تكلمت فأنت طالق أو نحو ذلك -لم تطلق بذلك ؛ لأن شرط طلاقها إنما كان بعد بينونتها .
7 - وقال أيضا : باب تعليق الطلاق بالشروط . يصح ذلك من الزوج ، ولا يصح من الأجنبي فلو قال : إن تزوجت فلانة ، أو إن تزوجت امرأة فهي طالق- لم تطلق إذا تزوجها ، وعنه تطلق ، وإن قال لأجنبية : إن قمت فأنت طالق فتزوجها ثم قامت لم تطلق ، رواية واحدة .
8 - ومن [حاشية المقنع] ما نصه (1) : قوله : ولا يصح من الأجنبي ، فلو قال . . . إلخ ، اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله تعالى في هذه المسألة ، فالمشهور عنه أنه لا يقع ، وهو المذهب ، وهو قول أكثر أهل العلم ، روي ذلك عن سعيد بن المسيب ، وبه قال عطاء والحسن ، وعروة ، وجابر بن زيد ، وسوار القاضي ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، ورواه الترمذي عن علي رضي الله عنه ، وجابر بن عبد الله ، وسعيد بن جبير ، وعلي بن الحسين وشريح ، وروي عن أحمد ما يدل على وقوع الطلاق ، قال في
__________
(1) [المقتع وحاشيته] بخط الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (3\ 177)

الفروع ، : وعنه صحة قوله لزوجته : من تزوجت عليك فهي طالق أو قوله لعتيقته : إن تزوجتك فأنت طالق ، أو قال لرجعيته : إن راجعتك فأنت طالق ثلاثا أراد التغليظ عليها ، وهذا قول الثوري وأصحاب الرأي ؛ لأنه يصح تعليقه على الإخطار ، فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية ، والأول أصح ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : « لا طلاق ولا عتاق لابن آدم فيما لا يملك » (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب ، قال الترمذي : حديث حسن ، وهو أحسن شيء في الباب ، ورواه الدارقطني وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها وزاد : « وإن عينها » ، وعن المسور مرفوعا قال : « لا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك » (2) رواه ابن ماجه بإسناد حسن ، قال أحمد رحمه الله تعالى : هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أصحابه .
9 - وقال علي بن سليمان المرداوي على قول الموفق : (ولا يصح من الأجنبي إلخ) (3) قال : هذا المذهب ، وعليه الأصحاب ، ونص عليه ثم ساق ما يدل على الوقوع .
10 - وقال عبد الله بن محمد بن مفلح (4) : (يصح مع تقدم الشرط) و(كعتق على وجه النذر) (5) أولا ، وكذا إن تأخر ، وعنه يتنجز . ونقله ابن هانئ في العتق ، قال شيخنا : وتأخر القسم ، كأنت طالق لأفعلن كالشرط ، وأولى بأن لا يلحق ، وذكر ابن عقيل في أنت طالق وكرره أربعا ثم قال عقب الرابعة : إن قمت طلقت ثلاثا ؛ لأنه لا يجوز تعليق ما لم يملك
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1181),سنن أبو داود الطلاق (2190),سنن ابن ماجه الطلاق (2047),مسند أحمد بن حنبل (2/190).
(2) سنن ابن ماجه الطلاق (2048).
(3) [الإنصاف] (9\ 59) .
(4) [الفروع] (5\ 424) وما بعدها .
(5) أشار بها صاحب كتاب [الفروع] إلى أنها علامة ما أجمع عليه .

بشرط ، ويصح بصريحه وبكنايته ، مع قصده من زوج ، وتعليقه من أجنبي كتعليقه عتقا بملك والمذهب لا يصح مطلقا ، قاله القاضي وغيره ، وعنه صحة قوله لزوجته : من تزوجت عليك فهي طالق ، أو لعتيقته : إن تزوجتك فأنت طالق ، أو لرجعيته : إن راجعتك فأنت طالق ثلاثا وأراد التغليظ عليها ، وجزم به في [الرعاية] وغيرها في الأوليين ، قال أحمد في العتيقة قد وطئها والمطلق قبل الملك لم يطأ ، وظاهر أكثر كلام أصحابه التسوية ، ويقع بوجود شرطه نص عليه ، وقال : الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان ، واحتج بابن عمر وابن عباس ، وأن حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع لم يقل فيه : وكل مملوك لها حر ، وأنهم أمروها بكفارة يمين ، إلا سليمان التيمي انفرد به ، واحتج في رواية أبي طالب بهذا الأثر على أن من حلف بالمشي إلى بيت الله ، وهو محرم بحجة وهو يهدي وماله في المساكين صدقة يكفر واحدة ، وأن فيه اعتقي جاريتك ، ولا أعلم أحدا قال فيه : يجزئ عنه في العتق والطلاق كفارة يمين ، ورواه أيضا الأثرم من حديث أشعث الحمراني بإسناد صحيح ، وذكر ابن عبد البر أنهما تفردا به ، وذكر ابن حزم وغيره : أنه صحيح فيه ، وذكر البيهقي وغيره : أنه روى عنهما فيه : أما الجارية فتعتق . فكأن الراوي اختصر . واختار شيخنا إن أراد الجزاء بتعليقه كره الشرط أولا ، وكذا عنده الحلف به ، وبعتق ، وظهار ، وتحريم ، وأن عليه دل كلام أحمد ، وقال : نقل حرب أنه توقف عن وقوع العتق ، وما توقف فيه يخرجه أصحابه على وجهين ، قال : ومنهم من يجعله رواية ، قال شيخنا : كما سلم الجمهور أن الحالف بالنذر ليس ناذرا ، ولأنه لو علق إسلامه أو كفره لم يلزمه ، وإن قصد الكفر تنجز وما لزم

منجزا مع تعليقه أبلغ ، فإذا كان هذا إذا قصد اليمين به معلقا لا يلزم فذاك أولى ، فعلى هذا إذا حنث فإنه في العتق إن لم يختره لزمه كفارة يمين ، وفي غيره مبني على نذره فيكفر وإلا التزم ذلك بما يحدثه من قول أو فعل يكون موفيا لموجب عقده ، ولا يجيء التخيير بينه وبين الكفارة عند من يوجب الكفارة عينا في الحلف بنذر الطاعة ، وأما إنه لا شيء عليه ولا تطلق قبله (1) ذهب أحمد إلى قول أبي ذر : أنت حر إلى الحول ، وعنه : بلى مع تيقن وجوده ، وخصها شيخنا بالثلاث ؛ لأنه الذي يصير كمتعة ، ونقل مهنا في هذه الصورة تطلق إذن ، قيل له فتتزوج في : قبل موتي بشهر ؟ قال : لا ، ولكن يمسك عن الوطء حتى يموت وذكر في [الرعاية] تحريمه وجها . انتهى المقصود .
__________
(1) في الهامش بعد قوله : (قبله) في مخطوط الدار : (وإن قال) .

11 - قال شيخ الإسلام (1) : وأما صيغة القسم ، فهو أن يقول : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا ، أو لا أفعل كذا ، فيحلف به على حض لنفسه أو لغيره ، أو منع لنفسه أو لغيره ، أو على تصديق خبر أو تكذيبه فهذا يدخل في مسائل الطلاق والأيمان ، فإن هذا يمين باتفاق أهل اللغة فإنها صيغة قسم ، وهو يمين أيضا في عرف الفقهاء ، لم يتنازعوا في أنها تسمى يمينا ولكن تنازعوا في حكمها ، فمن الفقهاء من غلب عليها جانب الطلاق فأوقع به الطلاق إذا حنث ، ومنهم من غلب عليها جانب اليمين فلم يوقع به الطلاق ، بل قال : عليه كفارة يمين ، أو قال : لا شيء عليه بحال .
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (33\ 45) .

12 - وقال (1) أيضا : والثالث صيغة تعليق ، كقوله : إن دخلت الدار فأنت طالق ويسمى هذا طلاقا بصفة ، فإما أن يكون قصد صاحبه الحلف وهو يكره وقوع الطلاق إذا وجدت الصفة ، وأما أن يكون قصده إيقاع الطلاق عند تحقق الصفة .
فالأول : حكمه حكم الحلف بالطلاق باتفاق الفقهاء ، ولو قال : إن حلفت يمينا فعلي عتق رقبة ، وحلف بالطلاق- حنث ، بلا نزاع نعلمه بين العلماء المشهورين ، وكذلك ما يعلق بالشرط لقصد اليمين ، كقوله : إن فعلت كذا فعلي عتق رقبة ، أو فعبيدي أحرار ، أو فعلي الحج ، أو علي صوم شهر ، أو فمالي صدقة ، أو هدي ونحو ذلك- فإن هذا بمنزلة أن يقول : العتق يلزمني لأفعل كذا ، أو علي الحج لا أفعل كذا ، أو نحو ذلك ، لكن المؤخر في صيغة الشرط مقدم في صيغة القسم ، والمنفي في هذه الصيغة مثبت في هذه الصيغة .
وقال أيضا : والثاني : وهو أن يكون قصد إيقاع الطلاق عند الصفة فهذا يقع به الطلاق إذا وجدت الصفة ، كما يقع المنجز عند عامة السلف والخلف ، وكذلك إذا وقت الطلاق بوقت كقوله : أنت طالق عند رأس الشهر ، وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعلق ، ولم يعلم فيه خلاف قديم ، لكن ابن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق ، وهو قول الإمامية ، مع أن ابن حزم ذكر في [كتاب الإجماع] إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق ، وذكر أن الخلاف إنما هو فيما إذا أخرجه مخرج اليمين ،
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (33\45)

هل يقع الطلاق أو لا يقع أو لا شيء عليه ؟ أو يكون يمينا مكفرة على ثلاثة أقوال ، كما أن نظائر ذلك من الأيمان فيها هذه الأقوال الثلاثة ، وهذا الضرب وهو الطلاق المعلق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها وليس فيها معنى الحض أو المنع كقوله : إن طلعت الشمس فأنت طالق هل هو يمين ؟ فيه قولان : أحدهما : هو يمين ، كقول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد ، والثاني : أنه ليس بيمين ، كقول الشافعي ، والقول الآخر في مذهب أحمد ، وهذا القول أصح شرعا ولغة ، وأما العرف فيختلف .
ثم ذكر (1) أنواع الأيمان جملة ، وتكلم على كل نوع منها تفصيلا قال : والثاني : أن يكون مقصوده الحض أو المنع ، أو التصديق أو التكذيب فهذا هو الحلف بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام كقوله : إن فعلت كذا فعلي الحج ، وصوم سنة ، ومالي صدقة ، وعبيدي أحرار ، ونسائي طوالق - فهذا الصنف يدخل في مسائل (الأيمان) ويدخل في مسائل (الطلاق والعتاق والنذر والظهار) وللعلماء فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يلزمه ما حلف به إذا حنث ؛ لأنه التزم الجزاء عند وجود الشرط ، وقد وجد الشرط ، فيلزمه كنذر التبرر المعلق بالشرط .
والقول الثاني : هذه يمين غير منعقدة ، فلا شيء فيها إذا حنث لا كفارة ولا وقوع ؛ لأن هذا حلف بغير الله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت » (2) وفي رواية في الصحيح : « لا تحلفوا إلا بالله » (3) .
والقول الثالث : إن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (33\ 49) وما بعدها .
(2) صحيح البخاري الشهادات (2533),صحيح مسلم الأيمان (1646),سنن الترمذي النذور والأيمان (1534),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249),مسند أحمد بن حنبل (2/11),موطأ مالك النذور والأيمان (1037),سنن الدارمي النذور والأيمان (2341).
(3) سنن النسائي الأيمان والنذور (3769),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248).

ومن العلماء من فرق بين ما عقده لله من الوجوب وهو الحلف بالنذر ، وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق ، فقالوا في الأول : عليه كفارة يمين إذا حنث ، وقالوا في الثاني : يلزمه ما علقه ، وهو الذي حلف به إذا حنث ؛ لأن الملتزم في الأول فعل واجب فلا يبرأ إلا بفعله فيمكنه التكفير قبل ذلك والملتزم في الثاني وقوع حرمة ، وهذا يحصل بالشرط فلا يرتفع بالكفارة .
والقول الثالث : هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار ، وعليه تدل أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة ، كما بسط ذلك في موضعه ، وذلك أن الله تعالى قال في كتابه : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } (1) إلى قوله { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } (2) وقال تعالى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } (3)
وثبت في [الصحيحين ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه » (4) .
وهذا يتناول جميع أيمان المسلمين لفظا ومعنى : أما اللفظ : فلقوله : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } (5) وقوله : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } (6)
وهذا خطاب للمؤمنين ، فكل ما كان من أيمانهم فهو داخل في هذا ، والحلف بالمخلوقات شرك ليس من أيمانهم ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من حلف بغير الله فقد أشرك » (7) رواه أهل [السنن] أبو داود وغيره ، فلا تدخل هذه في أيمان
__________
(1) سورة المائدة الآية 89
(2) سورة المائدة الآية 89
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) صحيح مسلم الأيمان (1650),سنن الترمذي النذور والأيمان (1530),موطأ مالك النذور والأيمان (1034).
(5) سورة التحريم الآية 2
(6) سورة المائدة الآية 89
(7) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251),مسند أحمد بن حنبل (2/69).

المسلمين ، وأما ما عقده بالله والله فهو من أيمان المسلمين فيدخل في ذلك ؛ ولهذا لو قال : أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني ونوى دخول الطلاق والعتاق - دخل في ذلك ، كما ذكر ذلك الفقهاء ، ولا أعلم فيها نزاعا ، ولا يدخل في ذلك الحلف بالكعبة وغيرها من المخلوقات ، وإذا كانت من أيمان المسلمين تناولها الخطاب .
أما من جهة المعنى : فهو أن الله فرض الكفارة في أيمان المسلمين لئلا تكون اليمين موجبة عليهم أو محرمة عليهم ، لا مخرج لهم كما كانوا عليه في أو ل الإسلام قبل أن تشرع الكفارة ، لم يكن للحالف مخرج إلا الوفاء باليمين فلو كان من الأيمان ما لا كفارة فيه كانت المفسدة موجودة .
وأيضا : فقد قال تعالى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } (1) نهاهم الله أن يجعلوا الحلف بالله مانعا لهم من فعل ما أمر به لئلا يمتنعوا عن طاعته باليمين التي حلفوها ، فلو كان في الأيمان ما ينعقد ولا كفارة فيه لكان ذلك مانعا لهم من طاعة الله إذا حلفوا به .
وأيضا : فقد قال تعالى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (2) { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (3) (والإيلاء) هو الحلف والقسم ، والمراد بالإيلاء هنا : أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته ، وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا ، وإن حلف بما عقده
__________
(1) سورة البقرة الآية 224
(2) سورة البقرة الآية 226
(3) سورة البقرة الآية 227

لله ؛ كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق- كان موليا عند جماهير العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي - في قوله الجديد- وأحمد .
ومن العلماء من لم يذكر في هذه المسألة نزاعا ، كابن المنذر وغيره ، وذكر عن ابن عباس أنه قال : كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء ، والله سبحانه وتعالى قد جعل المولي بين خيرتين : إما أن يفيء ، وإما أن يطلق ، والفيئة : هي الوطء ، خير بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان ، فإن فاء فوطئها حصل مقصودها ، وقد أمسك بمعروف ، وقد قال تعالى : { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) ومغفرته ورحمته للمولي توجب رفع الإثم عنه وبقا امرأته ، ولا تسقط الكفارة ، كما في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (2) { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (3)
فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان ، حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التي عقدوها فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التي جعلها تحل عقدة اليمين وإن كان المولي لا يفيء ، بل قد عزم على الطلاق فإن الله سميع عليم ، فحكم المولي في كتاب الله : أنه إما أن يفيء ، وإما أن يعزم الطلاق ، فإن فاء فإن الله غفور رحيم لا يقع به طلاق ، وهذا متفق عليه في اليمين بالله تعالى .
وأما اليمين بالطلاق فمن قال : إنه يقع به الطلاق فلا يكفر ، فإنه يقول :
__________
(1) سورة البقرة الآية 226
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التحريم الآية 2

إن فاء المولي بالطلاق وقع به الطلاق ، وإن عزم الطلاق فأوقعه وقع به الطلاق ، فالطلاق على قوله لازم ، سواء أمسك بمعروف أو سرح بإحسان ، والقرآن يدل على أن المولي مخير : إما أن يفيء ، وإما أن يطلق ، فإذا فاء لم يلزمه الطلاق ، بل عليه كفارة الحنث إذا قيل : بأن الحلف بالطلاق فيه الكفارة ، فإن المولي بالحلف بالله إذا فاء لزمته كفارة الحنث عند جمهور العلماء ، وفيه قول شاذ : أنه لا شيء عليه بحال ، وقول الجمهور أصح ، فإن الله بين في كتابه كفارة اليمين في سورة المائدة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه » (1) .
فإن قيل : المولي بالطلاق إذا فاء غفر الله له ما تقدم من تأخير الوطء للزوجة ، وإن وقع به الطلاق ، ورحمه بذلك .
قيل : هذا لا يصح ، فإن أحد قولي العلماء القائلين بهذا الأصل : أن الحالف بالطلاق ثلاثا أن لا يطأ امرأته لا يجوز له وطؤها بحال ، فإنه إذا أولج حنث ، وكان النزاع في أجنبية ، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد وأحد القولين في مذهب مالك .
والثاني : يجوز له وطأة واحدة ينزع عقبها ، وتحرم بها عليه امرأته ، ومعلوم : أن الإيلاء إنما كان لحق المرأة في الوطء ، والمرأة لا تختار وطأة يقع بها الطلاق الثلاث عقبها إلا إذا كانت كارهة له فلا يحصل مقصودها بهذا الفيئة .
وأيضا فإنه على هذا التقدير لا فائدة في التأجيل ، بل تعجيل الطلاق أحب إليها لتقضي العدة لتباح لغيره ، فإن كان لا بد لها من الطلاق على
__________
(1) صحيح مسلم الأيمان (1650),سنن الترمذي النذور والأيمان (1530),موطأ مالك النذور والأيمان (1034).

التقديرين كان التأجيل ضررا محضا لها ، وهذا خلاف مقصود الإيلاء الذي شرع لنفع المرأة لا لضرها .
وما ذكرته من النصوص قد استدل به الصحابة وغيرهم من العلماء في هذا الجنس ، فأفتوا من حلف فقال : إن فعلت كذا فمالي هدي ، وعبيدي أحرار ، ونحو ذلك- بأن يكفر عن يمينه ، فجعلوا هذا يمينا مكفرة ، وكذلك غير واحد من علماء السلف والخلف جعلوا هذا متناولا للحلف بالطلاق والعتاق وغير ذلك من الأيمان ، وجعلوا كل يمين يحلف بها الحالف ففيها كفارة يمين وإن عظمت ، وقد ظن طائفة من العلماء : أن هذا الضرب فيه شبه من النذر والطلاق والعتاق وشبه من الأيمان ، وليس كذلك ، بل هذه أيمان محضة .
وأئمة الفقهاء الذين اتبعوا الصحابة بينوا أن هذه أيمان محضة كما قرر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما في الحلف بالنذر ، ولكن هي أيمان علق الحنث فيها على شيئين :
أحدهما : فعل المحلوف عليه .
الثاني : عدم إيقاع المحلوف به .
فقول القائل : إن فعلت كذا فعلي الحج هذا العام بمنزلة قوله : والله إن فعلت كذا لأحجن هذا العام ، وهو لو قال ذلك لم يلزمه كفارة إلا إذا فعل ولم يحج ذلك العام ، كذلك إذا قال : إن فعلت كذا فعلي أن أحج هذا العام إنما تلزمه الكفارة إذا فعله ولم يحج ذلك العام ، وكذلك إذا قال : إن فعلت كذا فعلي أن أعتق عبدي أو أطلق امرأتي- فإنه لا تلزمه الكفارة إلا فعله ولم يطلق ولم يعتق ، ولو قال : والله إن فعلت كذا فوالله لأطلقن امرأتي

ولأعتقن عبدي ، وكذلك إذا قال : إن فعلت كذا فامرأتي طالق وعبدي حر- هو بمنزلة قوله : والله إن فعلت كذا ليقعن بي الطلاق والعتاق ، ولأوقعن الطلاق والعتاق ، وهو إذا فعله لم تلزمه الكفارة وإلا إذا لم يقع به الطلاق والعتاق ، وإذا لم يوقعه لم يقع لأنه لم يوجد شرط الحنث ؛ لأن الحنث معلق بشرطين والمعلق بالشرط قد يكون وجوبا ، وقد يكون وقوعا ، فإذا قال : إن فعلت كذا فعلي صوم شهر فالمعلق وجوب الصوم ، وإذا قال : فعبدي حر وامرأتي طالق ، فالمعلق وقوع العتاق والطلاق ، وقد تقدم أن الرجل المعلق إن كان قصده وقوع الجزاء عند الشرط وقع ، كما إذا كان قصده أن يطلقها إذا أبرأته من الصداق فقال : إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق فهنا إذا وجدت الصفة وقع الطلاق .
وأما إذا كان قصده الحلف وهو يكره وقوع الجزاء عند الشرط فهذا حالف ، كما لو قال : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا .
وأما قول القائل : إنه التزم الطلاق عند الشرط فيلزمه فهذا باطل من أوجه :
أحدها : أن الحالف بالكفر والإسلام- كقوله : إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني ، وقول الذمي : إن فعلت كذا فأنا مسلم- هو التزام للكفر والإسلام عند الشرط ، ولا يلزمه ذلك بالاتفاق ؛ لأنه لم يقصد وقوعه عند الشرط ، بل قصد الحلف به ، وهذا المعنى موجود في سائر أنواع الحلف بصيغة التعليق .
الثاني : أنه إذا قال : إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي لم يلزمه أن يطلقها بالاتفاق إذا فعله .
الثالث : أن الملتزم لأمر عند الشرط إنما يلزمه بشرطين :

أحدهما : أن يكون الملتزم قربة .
الثاني . أن يكون قصده التقرب إلى الله به لا الحلف به فلو التزم ما ليس بقربة كالتطليق والبيع والإجارة والأكل والشرب لم يلزمه ، ولو التزم قربة كالصلاة والصيام والحج على وجه الحلف بها لم يلزمه ، بل تجزيه كفارة يمين عند الصحابة وجمهور السلف وهو مذهب الشافعي وأحمد ، وآخر الروايتين عن أبي حنيفة ، وقول المحققين من أصحاب مالك .
وهنا الحالف بالطلاق هو التزم وقوعه على وجه اليمين ، وهو يكره وقوعه إذا وجد الشرط ، كما يكره وقوع الكفر إذا حلف به ، وكما يكره وجوب تلك العبادات إذا حلف بها .
وأما قول القائل : إن هذا حالف بغير الله فلا يلزمه كفارة .
فيقال . النص ورد فيمن حلف بالمخلوقات ، ولهذا جعله شركا ؛ لأنه عقد اليمين بغير الله فمن عقد اليمين لله فهو أبلغ ممن عقدها بالله ؛ ولهذا كان النذر أبلغ من اليمين ، فوجوب الكفارة فيما عقد لله أولى من وجوبها فيما عقد بالله .
13 - وقال أيضا (1) : فصل : في التفريق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والتعليق الذي يقصد به اليمين .
فالأول : أن يكون مريدا للجزاء عند الشرط ، وإن كان الشرط مكروها له ، لكنه إذا وجد الشرط فإنه يريد الطلاق ؛ لكون الشرط أكره إليه من الطلاق ، فإنه وإن كان يكره طلاقها ويكره الشرط ، لكن إذا وجد الشرط
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (33\64)

فإنه يختار طلاقها : مثل : أن يكون كارها للتزوج بامرأة بغي أو فاجرة أو خائنة أو هو لا يختار طلاقها ، لكن إذا فعلت هذه الأمور اختار طلاقها ، فيقول : إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق ، ومراده إذا فعلت ذلك أن يطلقها : إما عقوبة لها ، وإما كراهة لمقامه معها على هذا الحال ، فهذا موقع للطلاق عند الصفة لا حالف ، ووقوع الطلاق في مثل هذا هو المأثور عن الصحابة كابن مسعود وابن عمر ، وعن التابعين وسائر العلماء وما علمت أحدا من السلف قال في مثل هذا : أنه لا يقع به الطلاق ، ولكن نازع في ذلك طائفة من الشيعة ، وطائفة من الظاهرية ، وهذا ليس بحالف ، ولا يدخل في لفظ اليمين المكفرة الواردة في الكتاب والسنة ، ولكن من الناس من سمى هذا حالفا ، كما أن منهم من يسمي كل معلق حالفا ، ومن الناس من يسمي كل منجز للطلاق حالفا ، وهذه الاصطلاحات الثلاثة ليس لها أصل في اللغة ولا في كلام الشارع ، ولا كلام الصحابة وإنما سمي ذلك يمينا لما بينه وبين اليمين من القدر المشترك عند المسمي وهو ظنه وقوع الطلاق عند الصفة .
وأما التعليق الذي يقصد به اليمين فيمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم بخلاف النوع الأول ، فإنه لا يمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم ، وهذا القسم إذا ذكره بصيغة الجزاء فإنما يكون إذا كان كارها للجزاء ، وهو أكره إليه من الشرط فيكون كارها للشرط ، وهو للجزاء أكره ، ويلتزم أعظم المكروهين عنده ليمتنع به من أدنى المكروهين ، فيقول : إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو عبيدي أحرار أو علي الحج ، ونحو ذلك ، أو يقول لامرأته : إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق ، يقصد : زجرها أو تخويفها باليمين ، لا إيقاع الطلاق إذا فعلت ؛ لأنه يكون مريدا لها ، وإن يقصد ذلك لكون

طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال ، فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع ، لا لقصد الإيقاع ، فهذا حالف ليس بموقع ، وهذا الحالف في الكتاب والسنة ، وهو الذي تجزئه الكفارة ، والناس يحلفون بصيغة القسم ، وقد يحلفون بصيغة الشرط التي في معناها فإن علم هذا وهذا سواء باتفاق العلماء .
14 - وقال أيضا (1) : إذا حلف الرجل بالحرام فقال : الحرام يلزمني لا أفعل كذا ، أو الحل علي حرام لا أفعل كذا ، أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت كذا ، أو ما يحل للمسلمين يحرم علي إن فعلت كذا أو نحو ذلك وله زوجة- ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف ، ولكن القول الراجح : أن هذه يمين من الأيمان لا يلزمه بها طلاق ، ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق ، وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عنه ، حتى لو قال : أنت علي حرام ونوى به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده ، ولو قال : أنت علي كظهر أمي وقصد به الطلاق فإن هذا لا يقع به الطلاق عند عامة العلماء ، وفي ذلك أنزل الله القرآن فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقا ، والإيلاء طلاقا ، فرفع الله ذلك كله وجعل في الظهار الكفارة الكبرى ، وجعل الإيلاء يمينا يتربص فيها الرجل أربعة أشهر- فإما أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان ، كذلك قال كثير من السلف والخلف- إنه إذا كان متزوجا فحرم امرأته أو حرم الحلال مطلقا كان مظاهرا ، وهذا مذهب أحمد ، وإذا حلف بالظهار والحرام لا يفعل شيئا وحنث في يمينه أجزأته
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (33\ 74)

الكفارة في مذهبه ، لكن قيل : إن الواجب كفارة ظهار ، سواء حلف أو أوقع ، وهو المنقول عن أحمد ، وقيل بل إن حلف به أجزأه كفارة يمين وإن أوقعه لزمه كفارة ظهار وهذا أقوى وأقيس على أصول أحمد وغيره ، فالحلف بالحرام يجزيه كفارة يمين ، كما يجزئ الحالف بالنذر إذا قال : إن فعلت كذا فعلي الحج ، أو مالي صدقة ، كذلك إذا حلف بالعتق يجزئه كفارة عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين ، وكذلك الحلف بالطلاق يجزئ فيه أيضا كفارة يمين كما أفتى به جماعة من السلف والخلف ، والثابت عن الصحابة لا يخالف ذلك ، بل معناه يوافقه ، فكل يمين يحلف بها المسلمون في أيمانهم ففيها كفارة يمين ، كما دل عليه الكتاب والسنة ، وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو أن يعتق أو أن يظاهر ، فهذا يلزمه ما أوقعه سواء كان منجزا أو معلقا ولا يجزئه كفارة يمين .

15 - وقال ابن القيم (1) : ومن هذا الباب اليمين بالطلاق والعتاق فإن إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة ، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا ، وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط والجزاء الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في [صحيح البخاري ] عن نافع قال : طلق رجل امرأته البتة إن خرجت ، فقال ابن عمر : إن خرجت فقد بانت منه ، وإن لم تخرج فليس بشيء ، فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقا ، وأما من يفصل بين القسم المحض ،
__________
(1) [إعلام الموقعين] لابن قيم الجوزية - تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل (3\ 69- 80) .

والتعلق الذي يقصد به الوقوع ، فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب ، فإنهم صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور ، وقد صح عنهم عدم الوقوع في صور ، والصواب : ما أفتوا به في النوعين ، ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ، ويترك بعضها . فأما الوقوع : فالمحفوظ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر ، وما رواه الثوري عن الزبير بن عربي عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته : إن فعلت كذا وكذا فهي طالق ففعلته ، قال : هي واحدة ، وهو أحق بها على أنه منقطع (1) .
وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته : هي طالق إلى سنة ، قال : يستمتع بها إلى سنة ، ومن هذا قول أبي ذر لامرأته ، وقد ألحت عليه في سؤاله عن ليلة القدر ، فقال : إن عدت سألتيني فأنت طالق .
فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلق .
وأما الآثار عنهم في خلافه : فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها ، ولا تفرق بينهما .
قال الأثرم في [سننه] ، : ثنا عارم بن الفضل ، ثنا معمر بن سليمان ، قال أبي : ثنا بكر بن عبد الله ، قال : أخبرني أبو رافع ، قال : قالت مولاتي ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية ،
__________
(1) في سنده الجراح بن المنهال ، ضعفه غير واحد ، وقال ابن حبان : كان يكذب في الحديث ، ويشرب الخمر .

وهي نصرانية ، إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين امرأتك ، قال . فأتيت زينب بنت أم سلمة ، وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب ، قال : فأتيتها ، فجاءت معي إليها ، فقالت : في البيت هاروت وماروت ؟ فقالت : يا زينب - جعلني الله فداك- إنها قالت : إن كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية ونصرانية ، فقالت : (يهودية ونصرانية ! خلي بين الرجل وامرأته) فأتيت حفصة أم المؤمنين ، فأرسلت إليها ، فأتتها ، فقالت : يا أم المؤمنين ، جعلني الله فداك ، إنها قالت : كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية ! ؟ ، فقالت : (يهودية ونصرانية ! ؟ خلي بين الرجل وامرأته) ، قالت : فأتيت عبد الله بن عمر ، فجاء معي إليها ، فقام معي على الباب ، فسلم فقالت . بأبي أنت وبأبي أبوك ، فقال : (أمن حجارة أنت ، أم من حديد أنت ، أم أي شيء أنت ؟ أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين ، فلم تقبلي فتياهما) فقالت : يا أبا عبد الرحمن - جعلني الله فداك- إنها قالت : كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية وهي نصرانية ، فقال . (يهودية ونصرانية ! ؟ كفري عن يمينك ، وخلي بين الرجل وامرأته) .
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في المترجم له : ثنا صفوان بن صالح ، ثنا عمر بن عبد الواحد ، عن الأوزاعي ، قال : حدتني حسن بن الحسن قال : حدثني بكر بن عبد الله المزني ، قال : حدثني رفيع ، قال : كنت أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الأنصار ، فحلفت بالهدي والعتاقة : أن تفرق بيننا ، فأتيت امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت لها ذلك ، فأرسلت إليها أن كفري عن يمينك ، فأبت ، ثم أتيت زينب وأم سلمة ، فذكرت ذلك

لهما ، فأرسلتا إليها . أن كفري عن يمينك ، فأبت ، فأتيت ابن عمر ، فذكرت ذلك له ، فأرسل إليها ابن عمر : أن كفري عن يمينك ، فأبت ، فقام ابن عمر فأتاها ، فقال : أرسلت إليك فلانة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وزينب أن تكفري عن يمينك ، فأبيت ، قالت : يا أبا عبد الرحمن ، إني حلفت بالهدي والعتاقة . قال : وإن كنت قد حلفت بهما .
وقال الدارقطني . ثنا أبو بكر النيسابوري ، ثنا محمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري ، ثنا أشعث ، ثنا بكر بن عبد الله المزني ، عن أبي رافع : أن مولاة له أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته ، فقالت : هي يوما يهودية ، ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها حر ، إن لم تفرق بينهما ، فسألت عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهم ، فكلهم قالوا لها : أتريدين أن تكفري مثل هاروت وماروت ؟ فأمروها أن تكفر عن يمينها ، وتخلي بينهما .
وقد رواه البيهقي من طريق الأنصاري : ثنا أشعث ، ثنا بكر ، عن أبي رافع : أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته ، فقالت : هي يوما يهودية ، ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها حر ، وكل مال لها في سبيل الله ، وعليها المشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما ، فسألت عائشة وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة ، فكلهم قالوا لها : أتريدين أن تكفري مثل هاروت وماروت ؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما . رواه روح والأنصاري واللفظ له ، وحديث روح مختصر .
وقال النضر بن شميل : ثنا أشعث ، عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع ، عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة في هذه القصة قالوا : تكفر يمينها .

وقال يحيى بن سعيد القطان عن سليمان التيمي : ثنا بكر بن عبد الله عن أبي رافع : أن ليلى بنت العجماء مولاته ، قالت : هي يهودية وهي نصرانية ، وكل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي إن لم يطلق امرأته إن لم تفرق بينهما فذكر القصة ، وقال : فأتيت ابن عمر ، فجاء معي ، فقام بالباب ، فلما سلم قالت : بأبي أنت وأبوك ، قال : أمن حجارة أنت أم من حديد ؟ أتتك زينب ، وأرسلت إليك حفصة ، قالت : قد حلفت بكذا وكذا . قال : كفري عن يمينك ، وخلي بين الرجل وامرأته .
فقد تبين بسياق هذه الطرق انتفاء العلة التي أعل بها حديث ليلى هذا ، وهي تفرد التيمي فيه بذكر العتق ، كذا قال الإمام أحمد : لم يقل : (وكل مملوك لها حر) إلا التيمي ، وبرئ التيمي من عهدة التفرد .
وقاعدة الإمام أحمد : أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه ، فعلى أصله الذي بنى مذهبه عليه يلزمه القول بهذا الأثر ؛ لصحته وانتفاء علته .
فإن قيل : للحديث علة أخرى ، وهي التي منعت الإمام أحمد من القول به ، وقد أشار إليها في رواية الأثرم ، فقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا ، وكل مملوك لها حر ، فأفتيت بكفارة يمين ، فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جاريته ، وأيمان ، فقال : أما الجارية فتعتق .
قلت : يريد بهما : ما رواه معمر عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن أبي حاضر قال : حلفت امرأة من آل ذي أصبح فقالت : مالها في سبيل الله ، وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا لشيء يكرهه زوجها ، فحلف زوجها

أن لا تفعله ، فسأل عن ذلك ابن عباس وابن عمر ، فقالا : أما الجارية فتعتق ، وأما قولها : مالي في سبيل الله فتتصدق بزكاة مالها ، فقيل : لا ريب أنه قد روي عن ابن عمر وابن عباس ذلك ، ولكنه أثر معلول تفرد به عثمان .
هذا وحديث ليلى بنت العجماء أشهر إسنادا وأصح من حديث عثمان ، فإن رواته حفاظ أئمة ، وقد خالفوا عثمان ، وأما ابن عباس فقد روي عنه خلاف ما رواه عثمان فيمن حلف بصدقة ماله ، قال : يكفر يمينه ، وغاية هذا الأثر إن صح أن يكون عن ابن عمر روايتان ، ولم يختلف على عائشة وزينب وحفصة وأم سلمة .
قال أبو محمد بن حزم : وصح عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة أمي المؤمنين ، وعن ابن عمر : أنهم جعلوا في قول ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر ، وكل مال لها هدي ، وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك- كفارة يمين واحدة . فإذا صح هذا عن الصحابة ، ولم يعلم لهم مخالف سوى هذا الأثر المعلول أثر عثمان بن حاضر في قول الحالف : عبده حر إن فعل ، أنه يجزيه كفارة يمين ، وإن لم يلزموه بالعتق المحبوب إلى الله تعالى ، فإن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى الله أولى وأحرى ، وكيف وقد أفتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الحالف بالطلاق : أنه لا شيء عليه ، ولم يعرف له في الصحابة مخالف .
قال عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التيمي المعروف بابن بزيزه في شرحه لأحكام عبد الحق : (الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه) وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك : هل يلزم أم لا ؟ فقال أمير المؤمنين علي كرم

الله وجهه وشريح وطاوس : لا يلزمه من ذلك شيء ولا يقضى بالطلاق على من حلف به بحنث ، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة ، هذا لفظه بعينه ، فهذه فتوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلف بالعتق والطلاق .
وقد قدمنا فتاويهم في وقوع الطلاق المعلق بالشرط ، ولا تعارض بين ذلك ، فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق ، وإنما قصد منع نفسه بالحلف بما لا يريد وقوعه ، فهو كما لو خص منع نفسه بالتزام التطليق والإعتاق والحج والصوم وصدقة المال ، وكما لو قصد منع نفسه بالتزام ما يكرهه من الكفر ، فإن كراهته لذلك كله ، وإخراجه مخرج اليمين بما لا يريد وقوعه منع من ثبوت حكمه ، وهذه علة صحيحة ، فيجب طردها في الحلف بالعتق والطلاق إذ لا فرق البتة ، والعلة متى تخصصت بدون فوات شرط أو وجود مانع دل ذلك على فسادها ، كيف والمعنى الذي منع لزوم الحج والصدقة والصوم ، بل لزوم الإعتاق ، والتطليق ، بل لزوم اليهودية والنصرانية هو في الحلف بالطلاق أولى ، أما العبادات المالية والبدنية فإذا منع لزومها قصد اليمين ، وعدم قصد وقوعها فالطلاق أولى ، وكل ما يقال في الطلاق فهو بعينه في صور الإلزام سواء بسواء ، وأما الحلف بالتزام التطليق والإعتاق ، فإذا كان قصد اليمين قد منع ثلاثة أشياء : وهي : وجوب التطليق ، وفعله ، وحصول أثره ، وهو الطلاق ، فلأن يقوى على منع واحد من الثلاثة وهو وقوع الطلاق وحده أولى وأحرى .
أما الحلف بالتزام الكفر الذي يحصل بالنية تارة وبالفعل تارة ، وبالقول تارة ، وبالشك تارة ، ومع هذا فقصد اليمين منع من وقوعه ، فلأن يمنع من

وقوع الطلاق أولى وأحرى ، وإذا كان العتق الذي هو أحب الأشياء إلى الله ، ويسري في ملك الغير ، وله من القوة وسرعة النفوذ ما ليس لغيره ، ويحصل بالملك والفعل قد منع قصد اليمين من وقوعه ، كما أفتى به الصحابة ، فالطلاق أولى وأحرى بعدم الوقوع ، وإذا كانت اليمين بالطلاق قد دخلت في قول المكلف : (أيمان المسلمين تلزمني) عند من ألزمها بالطلاق فدخولها في قول رب العالمين { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } (1) أولى وأحرى .
وإذا دخلت في قول الحالف : إن حلفت يمينا فعبدي حر ، فدخولها في قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فليكفر عن يمينه ، وليأت الذي هو خير » (2) أولى وأحرى .
وإذا دخلت في قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من حلف فقال : إن شاء الله ، فإن شاء فعل ، وإن شاء ترك » (3) فدخولها في قوله : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه » (4) أولى وأحرى ، فإن الحديث أصح وأصرح .
وإذا دخلت في قوله : « من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان » (5) فدخولها في قوله تعالى { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } (6) أولى وأحرى بالدخول أو مثله .
__________
(1) سورة التحريم الآية 2
(2) صحيح مسلم الأيمان (1651),سنن النسائي الأيمان والنذور (3786),سنن ابن ماجه الكفارات (2108),مسند أحمد بن حنبل (4/378),سنن الدارمي النذور والأيمان (2345).
(3) سنن الترمذي النذور والأيمان (1532),سنن ابن ماجه الكفارات (2104).
(4) صحيح مسلم الأيمان (1650),سنن الترمذي النذور والأيمان (1530),موطأ مالك النذور والأيمان (1034).
(5) صحيح البخاري المساقاة (2229),صحيح مسلم الإيمان (138),سنن الترمذي تفسير القرآن (2996),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3243),سنن ابن ماجه الأحكام (2323),مسند أحمد بن حنبل (1/379).
(6) سورة المائدة الآية 89

وإذا دخلت في قوله تعالى: { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } (1)
فلو حلف بالطلاق كان موليا، فدخولها في نصوص الأيمان أولى وأحرى؛ لأن الإيلاء نوع من اليمين، فإذا دخل في الحلف في الطلاق في النوع فدخوله في الجنس سابق عليه، فإن النوع مستلزم الجنس، ولا ينعكس.
وإذا دخلت في قوله: « يمينك على ما يصدقك به صاحبك » (2) فكيف لا يدخل في بقية نصوص الأيمان، وما الذي أوجب هذا التخصيص من غير مخصص؟! وإذا دخلت في قوله: « إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق ثم يمحق » (3) فهلا دخلت في غيره من نصوص اليمين؟ وما الفرق المؤثر شرعا أو عقلا أو لغة؟ وإذا دخلت في قوله { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } (4) فهلا دخلت في قوله: { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } (5)
وإذا دخلت في قول الحالف: (أيمان البيعة تلزمني) وهي الأيمان التي رتبها الحجاج، فلم لا تكون أولى بالدخول في لفظ الأيمان في كلام الله تعالى ورسوله؟! فإذا كانت يمين الطلاق يمينا شرعية بمعنى: أن الشرع اعتبرها وجب أن تعطى حكم الأيمان، وإن لم تكن يمينا شرعية كانت باطلة في الشرع، فلا يلزم الحالف بها شيئا، كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عنه: (ليس الحلف بالطلاق شيئا)
__________
(1) سورة البقرة الآية 226
(2) صحيح مسلم الأيمان (1653),سنن الترمذي الأحكام (1354),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3255),سنن ابن ماجه الكفارات (2121),مسند أحمد بن حنبل (2/228),سنن الدارمي النذور والأيمان (2349).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1607),سنن النسائي البيوع (4460),سنن ابن ماجه التجارات (2209),مسند أحمد بن حنبل (5/297).
(4) سورة المائدة الآية 89
(5) سورة المائدة الآية 89

وصح عن عكرمة من رواية سنيد بن داود بن علي في تفسيره عنه: أنها من خطوات الشيطان، لا يلزم بها شيء، وصح عن شريح قاضي أمير المؤمنين علي وابن مسعود : أنها لا يلزم بها طلاق، وهو مذهب داود بن علي وجميع أصحابه، وهو قول بعض أصحاب مالك في بعض الصور فيما إذا حلف عليها بالطلاق على شيء لا تفعله هي كقوله: إن كلمت فلانا فأنت طالق، فقال: لا تطلق إن كلمته؛ لأن الطلاق لا يكون بيدها إن شاءت طلقت، وإن شاءت أمسكت، وهو قول بعض الشافعية في بعض الصور، كقوله: الطلاق يلزمني أو لازم لي أفعل كذا وكذا، فإن لهم فيه ثلاثة أوجه:
أحدها : أنه إن نوى وقوع الطلاق بذلك لزمه، وإلا فلا يلزمه، وجعله هؤلاء كناية، والطلاق يقع بالكناية مع النية.
الوجه الثاني : أنه صريح فلا يحتاج إلى نيته، وهذا اختيار الروياني، ووجهه: أن هذا اللفظ قد غلب في إرادة الطلاق فلا يحتاج إلى نية.
الوجه الثالث : أنه ليس بصريح ولا كناية، ولا يقع به طلاق وإن نواه، وهذا اختيار القفال في [فتاويه].
ووجهه : أن الطلاق لا بد فيه من إضافته إلى المرأة، كقوله: أنت طالق، أو طلقتك، أو قد طلقتك، أو يقول: امرأتي طالق أو فلانة طالق، ونحو هذا، ولم توجد هذه الإضافة في قوله: الطلاق يلزمني؛ ولهذا قال ابن عباس فيمن قال لامرأته: طلقي نفسك، فقالت: أنت طالق، فإنه لا يقع بذلك طلاقا، وقال عطاء: الله بوأها، وتبعه على ذلك الأئمة، فإذا قال: الطلاق يلزمني لم يكن لازما له إلا أن يضيفه إلى محله، وإن لم يضفه فلا

يقع، والموقعون يقولون: إذا التزمه فقد لزمه، ومن ضرورة لزومه إضافته إلى المحل فجاءت الإضافة من ضرورة اللزوم، ولمن نصر قول القفال : أن يقول: إما أن يكون قائل هذا اللفظ قد التزم التطليق أو وقع الطلاق الذي هو أثره، فإن كان الأول لم يلزمه؛ لأنه نذر أن يطلق، ولا تطلق المرأة بذلك، وإن كان قد التزم الوقوع فالتزامه بدون سبب الوقوع ممتنع.
وقوله : الطلاق يلزمني التزام لحكمه عند وقوع سببه، وهذا حق فأين في هذا اللفظ وجود سبب الطلاق، وقوله: (الطلاق يلزمني) لا يصلح أن يكون سببا (إذ) لم يضف فيه الطلاق إلى محله (فهو كما لو قال: (العتق يلزمني) ولم يضف فيه العتق إلى محله) (1) بوجه، ونظير هذا أن يقول له: بعني أو أجرني، فيقول: البيع يلزمني، أو الإجارة تلزمني، فإنه لا يكون بذلك موجبا لعقد البيع أو الإجارة حتى يضيفهما إلى محلهما، وكذلك لو قال: الظهار يلزمني لم يكن ذلك مظاهرا حتى يضيفه إلى محله، كما لو قال: العتق يلزمني، ولم يضف فيه العتق إلى محله، وهذا بخلاف ما لو قال: الصوم يلزمني أو الحج، أو الصدقة، فإن محله الذمة، وقد أضافه إليها.
فإن قيل : وهاهنا محل الطلاق والعتاق الذمة؟
قيل : هذا غلط، بل محل الطلاق والعتاق نفس الزوجة والعبد، وإنما الذمة محل وجوب ذلك، وهو التطليق والإعتاق، وحينئذ فيعود الالتزام إلى التطليق والإعتاق وذلك لا يوجب الوقوع، والذي يوضح هذا: أنه لو
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من نسخة دار الفكر 1397 هـ (الناشر).

قال: أنا منك طالق، لم تطلق بذلك؛ لإضافة الطلاق إلى غير محله.
وقيل : تطلق إذا نوى طلاقها هي بذلك؛ تنزيلا لهذا اللفظ منزلة الكنايات، فهذا كشف سر هذه المسألة.
وممن ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو القاسم بن يونس في [شرح التنبيه]. انتهى المقصود .
وقال ابن القيم (1) أيضا : قد عرف أن الحلف بالطلاق له صيغتان :
إحداهما : إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق.
والثانية : الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، وإن الخلاف في الصيغتين قديما وحديثا .
__________
(1) [إعلام الموقعين] (3\83).

16 - قال السبكي : ردا على استدلال شيخ الإسلام ابن تيمية قال: الفصل الثالث في الجواب عن استدلاله بالآيتين المذكورتين على وجه التفصيل:
أما الآية الأولى: فهي قوله تعالى: { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } (1) وساق الآية إلى قوله: { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (2) ثم قال: وإنما الاستدلال بها إذا تبين دخول يمين الطلاق في عموم قوله: { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } (3) ولم يكن لذلك معارض يمنع دخولها فيه، والكلام على هذه الآية يلتفت على الكلام على الآية الأخرى في سورة البقرة، قال الله تعالى: { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ } (4) وساق الآية إلى قوله تعالى: عليم . . . ثم قال: وللمفسرين في معنى قوله تعالى:
__________
(1) سورة المائدة الآية 89
(2) سورة المائدة الآية 89
(3) سورة المائدة الآية 89
(4) سورة البقرة الآية 224

{ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا } (1) قولان:
أحدهما : أن المراد: لا تجعلوا اليمين بالله تعالى عرضة بينكم وبين أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فتحلفوا، لا تفعلوا فتبقى اليمين متعرضة بين الحالف وبين البر والتقوى، فنهاهم الله عن اليمين على ذلك، ثم شرع لهم الكفارة للتخلص من هذا المنع ليكون طريقا للحالف إلى الرجوع إلى البر والتقوى والإصلاح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير » (2) .
والقول الثاني : أن المراد: لا تجعلوا اسم الله عرضة لأيمانكم فتبتذلوه بالحلف به في كل شيء، وقوله: { أَنْ تَبَرُّوا } (3) معناها: إرادة أن تبروا، يعني: إذا لم تبتذلوا اسم الله في كل يمين قدرتم على البر، ثم شرع لهم الكفارة لتكون جابرة لما يحصل من انتهاك حرمة الاسم المعظم، ولا شك أن اليمين بالله تعالى مرادة في الآيتين، وهي اليمين الشرعية، وهي التي شرعت الكفارة فيها أصلا فالحالف يعقد اليمين بالله على أن يفعل كذا أو أن لا يفعل كذا، فإذا قال: (والله لا أفعل) أو (والله لأفعلن) فقد أكد عقده بهذا الاسم المعظم؛ ولهذا نهي عن الحلف بغير الله عز وجل، ونقل ابن عبد البر إجماع العلماء: أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها.
ومن هنا قال أهل الظاهر : لا كفارة إلا في اليمين بأسماء الله عز وجل وصفاته ولا تجب الكفارة في يمين غير ذلك، وممن قال بهذا القول: الشعبي والحكم والحارث العكلي وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن، نقله ابن عبد البر وقال: هو الصواب عندنا والحمد لله .
__________
(1) سورة البقرة الآية 224
(2) صحيح البخاري كفارات الأيمان (6342),سنن النسائي الأيمان والنذور (3780).
(3) سورة البقرة الآية 224

وقال جمهور العلماء بوجوب الكفارة في أيمان غيرها لكن على سبيل الإلحاق بها لوجود علة وجوب الكفارة عندهم (1) ، هذه أقوال المعتبرين من العلماء . . . هذا مع اتفاق العلماء كلهم على أمرين:
أحدهما : أن يمين الطلاق لا كفارة فيها، ولو قلنا: هي يمين (2) .
والثاني : أن عموم الآية مخصوص، فلا تجب الكفارة في كل ما يطلق عليه اسم اليمين لغة، وإذا كانت الكفارة لا تجب في كل ما يسمى يمينا في اللغة لم تبق الآية الكريمة مجراة على عمومها، وحينئذ فالآية إما محمولة على اليمين الشرعية، أو على اليمين اللغوية، والحمل على الموضوع الشرعي أولى عند المحققين من العلماء، فإذا كان للفظ معنى في اللغة ومعنى في الشرع إما يقاربه وإما يباينه، ووجدنا ذلك اللفظ في خطاب الشارع حملناه على معناه في الشرع، فإن تعذر حملناه على معناه في اللغة والعرف، وهاهنا في الآية زيادة وهي: أن الحمل فيها على الموضوع اللغوي يوجب تخصيص عمومها والحمل على المعنى الشرعي قد لا يوجب ذلك، وما سلم من التخصيص أو كان أقل تخصيصا كان أولى فيتعين حمل الأيمان في الآية الكريمة على المعنى الشرعي، واليمين الشرعية هي ما شرع الحلف به، أو لم يكره ولم يحرم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: « من
__________
(1) وعلى هذا الأصل جعل ابن تيمية الطلاق المعلق على شرط يمينًا تلزم فيها الكفارة إذا قصد بالتعليق الحث على الفعل أو المنع منه . . . إلخ.
(2) قد يقال: إن ما حكي من الإجماع على اعتبار الطلاق المعلق طلاقًا إنما هو فيما إذا قصد بالتعليق إيقاع الطلاق، وفيما إذا علق على شيء لا بد من حصوله، كقول الرجل لزوجته: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، أما ما لم يقصد به إيقاع الطلاق ولم يكن مما يمكن حصوله وعدم حصوله - فمختلف فيه على ثلاثة أقوال كما تقدم بيانه.

كان حالفا فلا يحلف إلا بالله » (1) وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: « لا تحلفوا بآبائكم » (2) وفي [سنن النسائي ] من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون » (3) فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يمين بغير الله عز وجل وما نهى عنه لم يكن شرعيا، ولا فرق بين اليمين باسم الله عز وجل أو غيره من الأسماء الحسنى والصفات العليا، والكل شرعي ينعقد، فقد « كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف فيقول: "لا، ومقلب القلوب » (4) . « وفي حديث صفة الجنة: أن جبريل قال: (وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها » (5) « ولما حلف الصحابة بالكعبة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: ورب الكعبة » (6) فكل أيمان شرعية؛ لأن المعنى في النهي عن الحلف بغير الله : أن الحلف تعظيم للمحلوف به على وجه لا يليق بغير الله عز وجل، فبأي اسم من أسماء الله عز وجل أو صفة من صفاته حلف لم يكن معظما لغير الله تعالى، فإذا كانت اليمين الشرعية : هي اليمين بالله عز وجل أو صفاته كانت الآية محمولة على ذلك، فدلت الآية على أن كل يمين بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته يوجب الكفارة عند الحنث؛ لأن اللفظ شرعي، فيحمل على المعنى الشرعي، وتكون الآية على عمومها في كل الأيمان الشرعية، فلا تكون الآية دالة على إيجاب الكفارة في شيء من الأيمان سوى الأيمان الشرعية، وهي: الأيمان بالله وبأسمائه وصفاته، ولا تدخل اليمين بالطلاق ولا غيرها في ذلك (7) .
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3624),صحيح مسلم الأيمان (1646),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249),مسند أحمد بن حنبل (2/76),سنن الدارمي النذور والأيمان (2341).
(2) صحيح البخاري المناقب (3624),صحيح مسلم الأيمان (1646),سنن الترمذي النذور والأيمان (1534),سنن النسائي الأيمان والنذور (3766),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249),سنن ابن ماجه الكفارات (2094),مسند أحمد بن حنبل (2/76),موطأ مالك النذور والأيمان (1037),سنن الدارمي النذور والأيمان (2341).
(3) سنن النسائي الأيمان والنذور (3769),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248).
(4) صحيح البخاري القدر (6243),سنن الترمذي النذور والأيمان (1540),سنن النسائي الأيمان والنذور (3761),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3263),سنن ابن ماجه الكفارات (2092),مسند أحمد بن حنبل (2/68),سنن الدارمي النذور والأيمان (2350).
(5) سنن النسائي الأيمان والنذور (3763),سنن أبو داود السنة (4744),مسند أحمد بن حنبل (2/333).
(6) سنن النسائي الأيمان والنذور (3773).
(7) يقال بتسليم: أنه ليس كل ما يسمى يمينًا لغة تجب فيه الكفارة، وتسليم أن المراد باليمين في الآيتين اليمين الشرعية. وقد بين ابن تيمية فيما تقدم أن تعليق الطلاق على شرط لقصد الحث على الفعل أو المنع منه . . إلخ، يسمى يمينًا شرعًا من جهة اللفظ والمعنى، وعلى ذلك دخلت في عموم الأيمان في الآيتين الموجبة للكفارة عند الحنث. كما بين أن هذا النوع من التعليق ليس من جنس ما نهى عنه من الحلف بغير الله حتى يكون لغوا، وقد تبعه في ذلك تلميذه ابن القيم.

ثم إن العلماء رأوا أن بعض الأيمان ملحق باليمين بالله تعالى في إيجاب الكفارة فألحقوه بذلك؛ لوجود المعنى الذي شرعت الكفارة لأجله، وعند هذا اختلف نظرهم: فمنهم من يلحق أنواعا كثيرة، ومنهم من يلحق أقل من ذلك على اختلاف نظرهم واجتهادهم ويوجد هذا الاختلاف بالصحابة والتابعين ومن بعدهم (1) ...... ومضى إلى أن قال: قد أجمعت الأمة على أن يمين الطلاق ليست داخلة في أيمان الكفارة، فلا معدل عن الإجماع، إذ لا يعارض الإجماع بدليل غيره، هذا أيضا لم يقله أحد من المسلمين (2) ، ثم إن هذه الأيمان التي ذكرناها تسمى أيمانا، قال ابن عبد البر : وأما الحلف بالطلاق والعتق فليس بيمين عند أهل التحصيل والنظر، وإنما هو طلاق بصفة أو عتق بصفة إذا أوقعه موقعا وقع على حسب ما يجب في ذلك عند العلماء كل على أصله، وقول المتقدمين: الأيمان بالطلاق والعتق إنما هو كلام خرج على الامتناع والمجاز والتقريب، وأما الحقيقة فإنما هو طلاق على وصف وعتق على وصف ما، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله عز وجل، فقد تبين خروج يمين الطلاق من الآية الكريمة.
__________
(1) تقدم أن ابن تيمية ألحق الطلاق المعلق لقصد الحث أو المنع . . . إلخ باليمين بالله في الكفارة، بل أدخله في عموم الأيمان فأخذ حكمها من حيث الكفارة.
(2) تقدم أنه لا إجماع بين الفقهاء في صورة تعليق الطلاق لقصد الحث أو المنع . . . إلخ، بل منهم من قال بأنها يمين تلزم الكفارة، وأن ما حكي من الإجماع إنما هو صورة أخرى من التعليق، وكلام ابن عبد البر الآتي يشعر بوجود الخلاف، وغاية ما فيه أن تعليق الطلاق في نظره ليس بيمين عد أهل التحصيل والنظر.

وأما الآية الثانية: وهي: قوله تعالى: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } (1) فإن المستدل تعلق بها بناء على أن الكفارة وجبت في التحريم، خاصة وأن الله سبحانه جعله يمينا وأجراه مجرى اليمين في الكفارة، ونبه على دخوله في الآية المذكورة قبلها، وهذا ليس كذلك، فإن هذه الواقعة قد قيل: إنها في قصة مارية، وقيل: في قصة العسل، ومن العلماء من لم يذكر فيها يمينا بالله تعالى، وجعل الكفارة للتحريم، وعلى هذا القول يخرج الجواب مما تقدم، والنبي صلى الله عليه وسلم توقف عن الكفارة حتى قال له الله سبحانه ما قال، فلو كان الحرام يسمى حقيقة لعلم دخوله في الآية الأولى فلما احتاج إلى إعلام الله إياه دل على أنه لم يدخل في اليمين إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي، وفي مسألة التحريم أقوال كثيرة للعلماء، وأكثرهم على أنه ليس بيمين على الإطلاق، فلا يدخل في الآية الكريمة إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي، هذا على قول من يوجب الكفارة لكونه تحريما (2) .
وأما من لم يقل بذلك فيقول: الكفارة ليمين بالله اقترنت بالتحريم، وقد قال بعض من استدل بالآية على أن التحريم يمين: (من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم حلف مع الكفارة فقد قال ما لم يقله أحد) وقد روى البيهقي بإسناده إلى
__________
(1) سورة التحريم الآية 2
(2) القول بتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفارة حتى جاءه البيان، وبتأخر نزول آية '' قد فرض الله تحلة أيمانكم '' عن آية '' يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك '' دعوى تحتاج إلى إثبات حتى يتأتى الاستدلال بذلك على أن التحريم لم يدخل في مسمى الأيمان إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي. وبتقديم ثبوت ما ذكر، فالعبرة بما انتهى إليه الأمر من بيان الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن التحريم يمين بقوله: '' قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم '' بعد إنكاره عليه تحريم نسائه أو العسل في قوله: '' لم تحرم ما أحل الله لك ''.

عائشة رضي الله عنها قالت: « آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم، فجعل الحلال حراما وجعل في اليمين الكفارة » (1) (2) . وروى أبو داود مرسلا عن قتادة قال: « كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فدخلت فرأت معه جاريته فقالت: في بيتي وفي يومي، فقال: أسكتي، فوالله لا أقربها وهي علي حرام » وروى البيهقي مرسلا أيضا عن مسروق أنه قال: « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف لحفصة أن لا يقرب أمته، وقال: "هي علي حرام " فنزلت الكفارة ليمينه، وأمر أن لا يحرم ما أحل الله » (3) .
وأما قصة العسل وهي أشهر في سبب نزول الآية، فروى البيهقي : « أن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة تخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1201),سنن ابن ماجه الطلاق (2072).
(2) الاستدلال بهذا الحديث على اقتران التحريم في هذه القصة بيمين - مردود لأمور: أ- أن الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة إما العسل وإما مارية القبطية، والذي في هذا الحديث أنه حرم نساءه، ومارية ليست من زوجاته ولا هي جماعة. ب- أن الواقعة التي آلى فيها من نسائه شهرا قد أعتزل فيها نساءه شهرًا وأمضى ما حلف عليه وعلى هذا لم يكن فرضًا عليه أن يتحلل من يمينه بكفارة. ج- أن هذا الحديث من رواية مسلمة بن علقمة المازني عن داود بن علي عن عامر الشعبي عن مسروق عن عائشة مرفوعًا، وقد خالفه في ذلك علي بن مسهر وغيره عن داود عن الشعبي مرسلا، وعلي بن مسهر ومن شاركه في رواية هذا الحديث عن داود أوثق، فكان وصل مسلمة له شاذا، قال أبو عيسى الترمذي: حديث مسلمة بن علقمة عن داود رواه علي بن مسهر وغيره عن داود عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وليس فيه: وهذا أصح عن مسروق عن عائشة من حديث مسلمة بن علقمة. د- مسلمة بن علقمة المازني ضعفه غير واحد، ذكره العقيلي في [الضعفاء] وقال: له عن داود مناكير، وما لا يتابع عليه من حديثه كثير. وذكر له ابن عدي أحاديث، وقال: وله غير ما ذكرت مما لا يتابع عليه، وبذلك يكون وصله لهذا الحديث منكرًا؛ لمخالفته من أرسله من الثقات.
(3) ما ذكره من مرسل قتادة ومسروق لا حجة فيهما لمطلوبه؛ لما فيهما من الإرسال.

زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت ذلك له، فقال: "بل شربت عسلا عند زينب، ولن أعود له " فنزلت: إلى لعائشة وحفصة لقوله: " بل شربت عسلا » (4) قال البيهقي : رواه البخاري في [الصحيح] عن الحسن بن محمد ورواه مسلم عن محمد بن حاتم كلاهما عن حجاج قال البخاري وقال إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء في هذا الحديث « ولن أعود له، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا » (5) قال ابن عبد البر : وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } (6) « والله لا أشرب العسل بعدها، » فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بالله فالكفارة لليمين بالله، وهذا معنى قول عائشة، « فجعل الحلال حراما وجعل في اليمين الكفارة، » (7) فلم تكن الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى، ولا يحتاج إلى الجواب عن الآية، انتهى المقصود .
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (4966),صحيح مسلم الطلاق (1474),سنن النسائي الأيمان والنذور (3795),سنن أبو داود الأشربة (3714),مسند أحمد بن حنبل (6/221).
(2) سورة التحريم الآية 1 (1) { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }
(3) سورة التحريم الآية 4 (2) { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ }
(4) سورة التحريم الآية 3 (3) { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا }
(5) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6313).
(6) سورة التحريم الآية 1
(7) سنن الترمذي الطلاق (1201),سنن ابن ماجه الطلاق (2072).

يتلخص المقصود مما تقدم في أمور :
الأول : الاختلاف في ضابط ما يسمى حلفا بالطلاق، فقيل: هو كل طلاق علق على شرط أيا كان هذا الشرط، وقيل: كل طلاق علق على شرط، وقصد به الحث على الفعل أو المنع منه، أو قصد به تصديق خبر أو تكذيبه، مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإلا كان شرطا محضا، مثل: إن طلعت الشمس فأنت طالق، والحلف بالطلاق على الأول أعم منه على الثاني، وذكر ابن تيمية أن الضابط الثاني أصح لغة وشرعا، وأما العرف

فيختلف.
الثاني : أن الرجل إذا علق طلاق زوجته على شيء اعتبر تعليقه، ووقع الطلاق عند وجود المعلق عليه، ولو كان قاصدا الحث على فعل أو المنع منه أو تصديق خبر أو تكذيبه، ولا كفارة عليه في ذلك، واستدل الإمام أحمد لذلك: بما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم من اعتبار التعليق ووقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، ورد ما زاده سليمان بن طرخان التيمي في روايته لقصة ليلى بنت العجماء من قوله فيها: (كل مملوك لها حر) لتفرده بهذه الزيادة، وعارضه بما رواه عبد الرزاق من طريق عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وعلى ذلك لا يتم لمن جعل الطلاق المعلق يمينا تلزم فيها الكفارة قياسه على ما جاء من الفتوى في قصة ليلى بنت العجماء في لزومه الكفارة دون وقوع الطلاق.
ونوقش : بأن سليمان لم ينفرد بالزيادة، وبأنه على تقدير تفرده فهو ثقة، وزيادة الثقة مقبولة ما لم تعارض رواية من هو أوثق منه معارضة لا يمكن معها الجمع، ونوقشت المعارضة بإمكان الجمع، وعلى تقدير عدم إمكانه فرواية سليمان أرجح من رواية عثمان بن حاضر؛ لما سبق من النقل عن ابن تيمية وابن القيم من مبررات الترجيح.
الثالث : أن الرجل إذا علق طلاق أجنبية منه على زواجه بها كان تعليقه لغوا، ولا تطلق بذلك إذا تزوجها ؛ إما لأنها أجنبية منه وقت التعليق كما علل به الشافعية، وإما لمقارنة وقوع الطلاق عقد الزواج، كما علل به محمد بن الحسن من الحنفية .
وروي عن الإمام أحمد : أنه يصح تعليق طلاق الأجنبية على الزواج

بها؛ لأنه يصح تعليقه على الإخطار فيصح تعليقه على الملك كالوصية، وهذه الرواية موافقة لمذهب المالكية والحنفية سوى محمد بن الحسن .
هذا وجملة القول : أنه لم يثبت نص صريح لا في الكتاب ولا في السنة باعتبار الطلاق المعلق طلاقا عند الحنث وعدم اعتباره، فكانت المسألة نظرية، للاجتهاد فيها مجال، من أجل هذا اختلفت الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم في حكمها، فمن قائل: إن تعليق الطلاق على شرط لغو؛ لأنه حلف خالف ما جاءت به الأحاديث من النهي عن الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته، ومن قائل: إنه معتبر، ويقع به الطلاق عند حصول المعلق عليه ؛ لقوله تعالى: { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (1) ولحديث « المسلمون عند شروطهم » وللآثار الواردة في اعتباره طلاقا، بل ادعى أنه مجمع عليه، وقد سبقت مناقشته، ومن قائل: إنه داخل في جنس الأيمان إن قصد به الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه دون إيقاع الطلاق، فتلزم فيه الكفارة عند الحنث، كما تلزم في سائر الأيمان، واستندوا إلى القياس على ما ورد في قصة ليلى بنت العجماء، ورأوا أن الإلزام بالكفارة فيه جمع بين ما ورد عن السلف من الآثار المختلفة، فكان أولى من إلغائه أو اعتباره طلاقا، إلى آخر ما تقدم من الاستدلال ومناقشة كل فريق لمخالفه. هذا ما تيسر جمعه.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) سورة المائدة الآية 1

قرار هيئة كبار العلماء
رقم (16) وتاريخ 12\11\1393 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد :
فبناء على قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم (14) الصادر عنها في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1\4\1393 هـ و 17\4\1393 هـ القاضي بتأجيل دراسة موضوع الطلاق المعلق إلى الدورة الرابعة لمجلس الهيئة- فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة الرابعة المنعقد فيما بين 29\10\1393 هـ و12\11\1393 هـ، وفي هذه الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد دراسة الموضوع وتداول الرأي، واستعراض كلام أهل العلم في ذلك، ومناقشة ما على كل قول من إيراد، مع الأخذ في الاعتبار أنه لم يثبت نص صريح لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله باعتبار الطلاق المعلق طلاقا عند الحنث وعدم اعتباره، وأن المسألة نظرية للاجتهاد فيها مجال- بعد ذلك توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، سواء قصد من علق طلاقه على شرط الطلاق المحض، أو كان قصده الحث أو المنع، أو تصديق خبر أو تكذيبه؛ وذلك لأمور أهمها ما يلي:

1 - ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار في ذلك، ومنه ما أخرجه البخاري في [صحيحه] معلقا بصيغة الجزم من أن رجلا طلق امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر : إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء. وما روى البيهقي بإسناده عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق. فتفعله، قال: هي واحدة وهو أحق بها، وما رواه أيضا بإسناده إلى أبي الزناد عن أبيه: أن الفقهاء السبعة من أهل المدينة كانوا يقولون: أيما رجل قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلى الليل فخرجت طلقت امرأته، إلى غير ذلك من الآثار، مما يقوي بعضها بعضا.
2 - لما أجمع عليه أهل العلم إلا من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل مع القطع بأنه لم يقصد الطلاق، وذلك استنادا إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول من أن « ثلاثا جدهن جد، وهزلهن جد : الطلاق، والنكاح، والعتاق » (1) . فإن كلا من الهازل والحالف بالطلاق قد عمد قلبه إلى ذكر الطلاق وإن لم يقصده، فلا وجه للتفريق بينهما بإيقاعه على الهازل به وعدم إيقاعه على الحالف به.
3 - لقوله تعالى: { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } (2) ووجه الاستدلال بها: أن الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق، ومع ذلك فهو موجب اللعنة والغضب على تقديم الكذب.
4 - إن هذا التعليق وإن قصد به المنع فالطلاق مقصود به على تقدير الوقوع، ولذلك أقامه الزوج مانعا له من وقوع الفعل، ولولا ذلك لما امتنع.
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1184),سنن ابن ماجه الطلاق (2039).
(2) سورة النور الآية 7

5 - إن القول بوقوع الطلاق عند حصول الشرط المعلق عليه قول جماهير أهل العلم وأئمتهم، فهو قول الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو المشهور في مذاهبهم، قال تقي الدين السبكي في رسالته [الدرة المضيئة]: وقد نقل إجماع الأمة على ذلك أئمة لا يرتاب في قولهم، ولا يتوقف في صحة نقلهم، فمن ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه وناهيك به. وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد، وهو من أئمة الاجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهم، وكذلك نقله أبو ثور، وهو من الأئمة أيضا، وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الإجماع أبو بكر بن المنذر، ونقله أيضا الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد بن نصر المروزي، ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه: [التمهيد] و [الاستذكار] وبسط القول فيه على وجه لم يبق لقائل مقالا، ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب [المقدمات] له، ونقله الإمام الباجي في [المنتقى]. . . إلى أن قال: وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة، بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق وهذا مستقر بين الأئمة، والإمام أحمد أكثرهم نصا عليها، فإنه نص على وقوع الطلاق، ونص على أن يمين الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر ولا تدخلها الكفارة . ا هـ .
وقد أجاب من يرى خلاف ذلك عما ذكره السبكي رحمه الله من الإجماع بأنه خاص فيما إذا قصد وقوع الطلاق بوقوع الشرط.
وفي [القواعد النورانية] لشيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه:

قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد بن حنبل الرجل يقول لابنه: إن كلمتك فامرأتي طالق وعبدي حر قال: لا يقوم هذا مقام اليمين، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا . ا هـ.
وقال أيضا: وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد . فقال المروزي : قال أبو عبد الله : إذا قال: كل مملوك له حر فيعتق عليه إذا حنث ؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة . ا هـ.
أما المشايخ: عبد الله بن حميد، وعبد العزيز بن باز، وعبد الله خياط، وعبد الرزاق عفيفي، وإبراهيم بن محمد آل الشيخ، ومحمد بن جبير، وصالح بن لحيدان - فقد اختاروا القول باعتبار الطلاق المعلق على شرط يقصد به الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه، ولم يقصد إيقاع الطلاق يمينا مكفرة، ولهم في ذلك وجهة نظر مرفقة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة
. ... . ... عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط ... محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان العبيد ... محمد الحركان
عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

وجهة نظر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه، وبعد :
فبناء على دراسة موضوع تعليق الطلاق من قبل مجلس هيئة كبار العلماء، واختيار أكثرية الأعضاء وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، سواء قصد الزوج الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه أو قصد إيقاع الطلاق.
وقد وجه مختارو هذا القول اختيارهم، وذكروا مستندهم من كلام أهل العلم إذ لا نعلم وجود نص من كتاب ولا سنة في الموضوع؛ ولذلك حصل الاختلاف في وقوع الطلاق من عدمه.
ورأينا نحن الموقعين أدناه: أن الطلاق المعلق إن قصد الزوج بتعليقه على شيء وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه - اعتبر طلاقا، كقوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق. وإن قصد بتعليق الطلاق الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه - لم يقع الطلاق عند حصول المعلق عليه، وإنما يكون يمينا تجب فيها الكفارة للأمور الآتية:
الأول : أنه لم يقصد الطلاق، وإنما قصد الحث أو المنع مثلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى » (1) .
الثاني : الطلاق المعلق لقصد المنع أو الحث يسمى يمينا في اللغة وفي عرف الفقهاء؛ ولذا دخل في أيمان البيعة، وفي عموم اليمين في حديث
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1),صحيح مسلم الإمارة (1907),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647),سنن النسائي الطهارة (75),سنن أبو داود الطلاق (2201),سنن ابن ماجه الزهد (4227),مسند أحمد بن حنبل (1/43).

الاستثناء في اليمين، وفي عموم اليمين في حديث التحذير من اقتطاع مال امرئ مسلم بيمين فاجرة، وفي عموم الإيلاء، وفي عموم حديث: « يمينك على ما يصدقك به صاحبك » (1) وفي عموم حديث: « إياكم والحلف في البيع » (2) كما ذكر ذلك: العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهما من المحققين، وإذا كان يمينا دخل في عموم قوله تعالى: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } (3) وقوله تعالى: { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } (4) الآية فتجب فيها الكفارة.
الثالث : قياس الطلاق المعلق لقصد الحث أو المنع على ما ورد في قصة ليلى بنت العجماء، وهي ما رواه عبد الرزاق في [مصنفه] عن سليمان التيمي عن بكر بن عبد الله المزني قال: أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق زوجتك أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة . إلخ- ثم ذكر أنه أتى حفصة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وكلهم أفتاها بأن تكفر عن يمينها، وتخلي بين الرجل وامرأته، مع أن الهدي والصدقة والعتق أمور محبوبة لله تعالى يثيب فاعليها، ولم يأمرها أولئك بإنفاذ مقتضى حلفها، بل اكتفوا منها بالكفارة، فكيف يقال: إن الطلاق الذي هو مكروه عند الله تعالى، ولا يحبه من عباده- يقع عند التعليق للحث والمنع . . . إلخ.
ولا يقع العتق والصدقة والهدي المحبوبة لله تعالى يكون ذلك يمينا.
__________
(1) صحيح مسلم الأيمان (1653),سنن الترمذي الأحكام (1354),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3255),سنن ابن ماجه الكفارات (2121),مسند أحمد بن حنبل (2/228),سنن الدارمي النذور والأيمان (2349).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1607),سنن النسائي البيوع (4460),سنن ابن ماجه التجارات (2209),مسند أحمد بن حنبل (5/297).
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) سورة المائدة الآية 89

مكفرة، وقد اختار عدم وقوع الطلاق المعلق إذا أريد به الحث أو المنع مثلا جماعات من المحققين من السلف والخلف، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وهما هما في العلم والمعرفة والبصيرة.
الرابع : ما قيل عن تفرد سليمان التيمي بزيادة العتق في يمين ليلى بنت العجماء مردود برواية هذه الزيادة من طريقين غير طريق سليمان التيمي، ولو فرضنا تفرد سليمان التيمي بهذه الزيادة لم يضره ذلك ؛ لأن زيادة الثقة مقبولة كما هو معلوم في مصطلح أهل الأثر، كيف وهو لم ينفرد بها؟! ومع ذلك فهو أجل من روى أثر ليلى بنت العجماء عن بكر بن عبد الله وأفقههم.
وما قيل من التعارض بين رواية عثمان بن حاضر للقصة دون هذه الزيادة وبين رواية سليمان التيمي التي فيها الزيادة- فمردود بأن هذا لا يسمى تعارضا؛ لأن الزيادة التي ثبتت في رواية سليمان التيمي لا تتنافى مع أصل الأثر، ولو فرض وجود التعارض، فإن رواية سليمان أرجح من رواية عثمان .
وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم البحث في هذا المقام بحيث لم يبق معه لباحث مجال، وقد ذكر بعضه في إعداد البحث.
الخامس : ما ورد من الآثار عن الصحابة من الفتوى بوقوع الطلاق المعلق عند حصول المعلق عليه، فإنه إما غير صحيح نقلا، وإما صحيح معارض بمثله، وإما صحيح لكنه فيما قصد به إيقاع الطلاق لا الحث على الفعل أو المنع منه، فهو في غير محل النزاع، فلا يكون فيه حجة على ما نحن بصدده، والصواب التفصيل كما ذكرنا.

وعلى هذا لا تصح دعوى الإجماع على وقوع الطلاق المعلق .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
1 - عبد الله خياط
عضو هيئة كبار العلماء
2 - عبد الرزاق عفيفي
عضو هيئة كبار العلماء
3 - عبد العزيز بن باز
عضو هيئة كبار العلماء
4 - عبد الله بن حميد
عضو هيئة كبار العلماء
5 - صالح بن لحيدان
عضو هيئة كبار العلماء
6 - محمد بن جبير
عضو هيئة كبار العلماء
7 - إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عضو هيئة كبار العلماء

(6)
تحديد المهورهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
تحديد المهور
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد (1) :
فبناء على ما ورد من المقام السامي برقم (4\هـ24185) وتاريخ شوال 1396 هـ الموجه إلى سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من عرض موضوع تحديد المهور على هيئة كبار العلماء في الدورة القادمة- فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مختصرا في ذلك، مشتملا على العناصر الآتية:
أولا : مهر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته.
ثانيا : ما عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم.
ثالثا : هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور؟
رابعا : قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تحديد المهور.
خامسا : ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور.
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الخامس، ص 95- 108، سنة 1400 هـ

سادسا : مبررات التحديد ومضار عدمه.
سابعا : هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح وإن لم يكن فما العلاج؟

تحديد المهور
أولا: مهر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم :
روى مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن « قال: سألت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم : كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم » (1) .
وقال عمر رضي الله عنه: « ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية، » (2) قال الترمذي : حديث صحيح. انتهى.
وروى أبو داود والنسائي، عن أم حبيبة رضي الله عنها: « أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة، » (3) وفي رواية: « أن النجاشي زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على صداق أربعة آلاف درهم، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل، » (4) وعند النسائي : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بأرض الحبشة، زوجها النجاشي، وأمهرها أربعة آلاف وجهزها من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، ولم يبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، وكان مهور
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1426),سنن النسائي النكاح (3347),سنن أبو داود النكاح (2105),سنن ابن ماجه النكاح (1886),مسند أحمد بن حنبل (6/94),سنن الدارمي النكاح (2199).
(2) سنن الترمذي النكاح (1114),سنن أبو داود النكاح (2106),سنن ابن ماجه النكاح (1887),سنن الدارمي النكاح (2200).
(3) سنن النسائي النكاح (3350),سنن أبو داود النكاح (2107),مسند أحمد بن حنبل (6/427).
(4) سنن النسائي النكاح (3350),سنن أبو داود النكاح (2108),مسند أحمد بن حنبل (6/427).

نسائه أربعمائة درهم. » (1)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية بنت حيي، وجعل عتقها صداقها » (2) . أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي، وهو طرف من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم .
__________
(1) سنن النسائي النكاح (3350),سنن أبو داود النكاح (2086),مسند أحمد بن حنبل (6/427).
(2) صحيح البخاري النكاح (4798),صحيح مسلم النكاح (1365),سنن الترمذي النكاح (1115),سنن أبو داود النكاح (2054),سنن ابن ماجه النكاح (1957),مسند أحمد بن حنبل (3/181),سنن الدارمي النكاح (2243).

ثانيا: من عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم :
روى البخاري في [صحيحه] بسنده عن سهل بن سعد الساعدي قال: « جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي. قال: فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست، فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال: "وهل عندك من شيء؟ " قال: لا، والله يا رسول الله. فقال: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ " فذهب ثم رجع. فقال: لا والله ما وجدت شيئا. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : "انظر ولو خاتما من حديد"، فذهب ثم رجع. فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري. قال سهل : ماله رداء، فلها نصفه. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء" فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي، فلما جاء. قال: "ماذا معك من القرآن؟ " قال: معي سورة كذا وسورة كذا عددها، فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم، قال: "اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن » (1) .
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (4799),صحيح مسلم النكاح (1425),سنن الترمذي النكاح (1114),سنن النسائي النكاح (3280),سنن أبو داود النكاح (2111),سنن ابن ماجه النكاح (1889),مسند أحمد بن حنبل (5/336),موطأ مالك النكاح (1118),سنن الدارمي النكاح (2201).

هذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في [الصحيح] ومالك في [الموطأ] وأبو داود والترمذي في [السنن] وهذا لفظ البخاري . وفي رواية لأبي داود أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نحو هذه القصة، ولم يذكر الإزار والخاتم، إلى أن قال: « وما تحفظ من القرآن؟ " قال سورة البقرة والتي تليها قال: " قم، فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك » (1) وفي سنده: أبو قرة البصري وهو ضعيف، ولكن للحديث شواهد بمعناه، فهو حسن.
وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل » (2) وفي رواية: قال: « كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نستمتع بالقبضة من الطعام على معنى المتعة » (3) (4) . ، وفي سنده موسى بن مسلم وهو ضعيف، قال الحافظ ابن حجر في [التلخيص]: وروي موقوفا وهو أقوى، وقال المنذر في [مختصر سنن أبي داود ]: في إسناده موسى بن مسلم، وهو ضعيف، وذكر أبو داود أن بعضهم رواه موقوفا وقال: رواه أبو عاصم عن صالح بن رومان عن أبي الزبير عن جابر، ثم ذكر الرواية الأخرى، قال أبو داود : رواه ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر على معنى أبي عاصم، وهذا الذي رواه أبو داود معلقا قد أخرجه مسلم في [صحيحه] من حديث ابن جريج عن أبي الزبير قال: « سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم » (5) ، وقال أبو بكر البيهقي : وهذا وإن كان في نكاح المتعة، ونكاح المتعة قد صار منسوخا،
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2111).
(2) سنن أبو داود النكاح (2110),مسند أحمد بن حنبل (3/355).
(3) صحيح مسلم النكاح (1405).
(4) [سنن أبي داود] (2\585).
(5) صحيح مسلم النكاح (1405).

فإنما نسخ منه شرط الأجل، فأما ما يجعلونه صداقا فإنه لم يرد فيه النسخ.
وروى الترمذي عن عبد الله بن عامر عن أبيه: « أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ " قالت: نعم، فأجازه » (1) . أخرجه الترمذي، وفي سنده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو ضعيف، وقال الترمذي : حديث عامر بن ربيعة حديث حسن صحيح، قال الحافظ في [بلوغ المرام] بعد أن حكى تصحيح الترمذي هذا: إنه خولف في ذلك.
وروى النسائي في [سننه] قال: أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا محمد بن موسى عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: تزوج أبو طلحة أم سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم، قبل أبي طلحة فخطبها، فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت نكحتك، فأسلم، فكان صداق ما بينهما، وفي رواية: أخبرنا محمد بن النضر بن مساور، قال: أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره فأسلم، وكان ذلك مهرها، قال ثابت : فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم، الإسلام، فدخل بها فولدت له .
وروى أبو داود بسنده، عن أنس رضي الله عنه: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران. فقال صلى الله عليه وسلم : "مهيم؟ "، فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة، قال "ما أصدقتها؟ " قال: وزن نواة من
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1113),سنن ابن ماجه النكاح (1888).

ذهب، قال: " أولم ولو بشاة » (1) وقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (2) .
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فأعني على مهرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا"، قال: قد نظرت إليها، قال: "على كم تزوجتها؟ " قال: على أربع أواق، قال: "وعلى أربع أواق؟ كأنكم تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه ". قال: فبعث بعثا إلى بني عبس فبعثه معهم » (3) .
وروى أبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: « أترضى أن أزوجك من فلانة؟ " قال: نعم، وقال للمرأة: " أترضين أن أزوجك فلانا؟ " قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا. ولم يعطها شيئا، » (4) وكان ممن شهد الحديبية، وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة- يعني: امرأته- ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، وأني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذته فباعته بعد موته بمائة ألف، قال أبو داود : وزاد عمر بن الخطاب (وحديثه أتم) في أول الحديث، « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير النكاح أيسره » (5) وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل، ثم ساق معناه.
قال أبو داود : يخاف أن يكون هذا الحديث ملزقا؛ لأن الأمر على غير هذا.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (1944),صحيح مسلم النكاح (1427),سنن الترمذي البر والصلة (1933),سنن النسائي النكاح (3373),سنن أبو داود النكاح (2109),سنن ابن ماجه النكاح (1907),مسند أحمد بن حنبل (3/205),موطأ مالك النكاح (1157),سنن الدارمي النكاح (2204).
(2) (الردع). هو أثر الطيب. (مهيم): أي: ما شأنك أو ما هذأ؟ أو هي كلمة استفهام مبنية على السكون.
(3) صحيح مسلم النكاح (1424).
(4) سنن أبو داود النكاح (2117).
(5) سنن أبو داود النكاح (2117).

ثالثا: هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور :
لا نعلم دليلا لا من القرآن ولا من السنة يدل على تحديد المهور، فالأدلة التي جاءت في القرآن: منها: ما فيه التنبيه على جواز دفع المهر الكثير، ومنها: ما هو عام يشمل القليل والكثير، والأدلة التي جاءت من السنة دالة على تفسير هذا العموم بجوازه بالقليل والكثير.
ونحن نذكر فيما يلي نقولا عن أهل العلم بعدم التحديد ثم نتبعها بالأدلة من القرآن ثم الأدلة من السنة:
أما النقول عن أهل العلم فمن ذلك :
1 - قال القرطبي : وقد أجمع العلماء على أن لا تحديد في أكثرالصداق (1) .
2 - قال ابن قدامة : وأما أكثر الصداق فلا توقيت فيه بإجماع أهل العلم، قاله ابن عبد البر (2) انتهى.
وأما الدليل من القرآن المنبه على جواز كثرة المهر : فهو قوله تعالى: { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (3) الآية .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية : فهو دليل على جواز المغالاة في
__________
(1) [الجامع لأحكام القرآن] (5\101).
(2) [المغني] (7\138).
(3) سورة النساء الآية 20

المهور؛ لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح (1) انتهى.
وقال ابن كثير : في الآية دليل على جواز الإصداق بالمال الكثير (2) انتهى.
وأما ما جاء من القرآن عاما يشمل القليل والكثير، فمن ذلك قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } (3)
وقوله تعالى: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } (4)
فإن لفظ الأموال ولفظ الأجور عام يشمل القليل والكثير.
وأما الأدلة التي جاءت من السنة دالة على وقائع مختلفة حصل فيها تفاوت كبير في المهور، كمهر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته رضي الله عنهن، وما عرف من مهور زوجات أصحابه رضي الله عنهم، كالتزويج على ما مع المتزوج من القرآن، والتزويج على النعلين، وعلى وزن نواة من ذهب، وعلى أربع أواق، فقد سبق ذكر ذلك في الأمرين الأول والثاني.
__________
(1) [تفسير القرطبي] (5\99).
(2) [تفسير ابن كثير] (2\466).
(3) سورة النساء الآية 24
(4) سورة المائدة الآية 5

رابعا : قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تقليل المهور :
روى أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي العجفاء السلمي قال : خطبنا عمر يوما فقال : ( ألا لا تغالوا في صدقات النساء ، فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا ، أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية ) هذه رواية أبي داود .
وفي رواية الترمذي بعد قوله : ( كان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ما علمت رسول الله نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ) .
وأخرج النسائي الأولى ، وزاد عليها : ( وإن الرجل ليغلي بصدقة المرأة حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول : كلفت لكم علق القربة - وكنت غلاما عربيا مولدا فلم أدر ما علق القربة ) انتهى المقصود .
وقال القرطبي في [تفسيره] : وخطب عمر فقال : ألا لا تغالوا في صدقات النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية ، فقامت إليه امرأة ، فقالت : يا عمر ، يعطينا الله وتحرمنا ؛ أليس الله سبحانه وتعالى يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (1) قال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر ، وفي رواية : فأطرق عمر . ثم قال : كل الناس أفقه منك يا عمر ، وفي أخرى : امرأة أصابت ورجل أخطأ والله المستعان .
__________
(1) سورة النساء الآية 20

وترك الإنكار ، أخرجه أبو حاتم البستي في [صحيح مسنده] عن أبي العجفاء السلمي ، قال : خطب عمر الناس فذكره إلى قوله : اثنتي عشرة أوقية ، ولم يذكر : فقامت امرأة إلى آخره ، وأخرجه ابن ماجه في [سننه] عن أبي العجفاء ، وزاد بعد قوله : أوقية : وإن الرجل ليغلي صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ، ويقول : وقد كلفت إليك علق القربة أو عرق القربة وكنت رجلا عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة (1) .
وقال ابن كثير في [تفسيره] : وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت عن أبي العجفاء السلمي ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تغالوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ، وحتى يقول : كلفت إليك علق القربة ، ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي العجفاء ، واسمه هرم بن سيب البصري ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
طريق أخرى عن عمر ، قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثني محمد بن عبد الرحمن ، عن خالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : ركب
__________
(1) [تفسير القرطبي] ( 5\99 ) .

عمر بن الخطاب منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : أيها الناس ، ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها ، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم ، قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين ، نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم ، قال : نعم ، فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ، قال : وأي ذلك . قالت : أما سمعت الله يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } (1) الآية فقال : اللهم غفرا ، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس ، إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب ، قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل . إسناده جيد قوي ، طريق أخرى قال ابن المنذر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق ، عن قيس بن ربيع ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال عمر بن الخطاب : لا تغالوا في مهور النساء ، فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر ، إن الله يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } (2) - من ذهب - قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود ، فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا ، فقال عمر : « إن امرأة خاصمت عمر فخصمته » .
( طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع ) قال الزبير بن بكار : حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال : قال عمر بن الخطاب : لا تزيدوا في مهور النساء ، وإن كانت بنت ذي القصة . يعني : يزيد بن الحصين الحارثي
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة النساء الآية 20

فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة من صفة النساء طويلة في أنفها فطس : ما ذاك لك ، قال : ولم ؟ قالت : إن الله قال : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } (1) الآية ، فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) [تفسير ابن كثير] ( 1\ 466 ) وما بعدها .

خامسا : ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور :
تحديد الأسعار بالنسبة للأعيان والمنافع محل خلاف بين أهل العلم :
وقد سبق أن أعد في ذلك بحث ، ووزع على أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجلس في الدورة الثامنة ، وبإمكانهم الرجوع إليه .
ولكن الفرق بين تحديد الأسعار في الأعيان والمنافع عند من يقول به ، وتحديد المهور يمكن أن يقال : بأن تحديد أسعار الأعيان والمنافع يمكن ضبطه ، أما تحديد المهور فلا يمكن ضبطه ؛ لأن العادات في إظهار الاهتمام مختلفة ، والرغبات لها مراتب متفاوتة ، وظروف الناس وإمكاناتهم وقدراتهم تختلف ، فيعطي كل بحسب حاله ، ومع ذلك فقد ورد التنبيه في السنة إلى اليسر في ذلك ، وعدم التغالي فيه ، ومنه حديث : « إن من خير النساء أيسرهن صداقا » رواه ابن حبان في [صحيحه] من حديث ابن عباس ، وحديث : « إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير إصداقها » رواه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث عائشة .
ويمكن أن يقال : إن الفرق بينهما : أن المعاوضة في السلع والمنافع يغلب عليها المغالبة ، أما بذل المال في النكاح فيغلب عليه قصد التكرم

دون المغالبة .
ويمكن أن يقال : أيضا أن هناك فرق آخر ، وهو : أن المقصود في المعاملات المالية - سواء أكانت أعيانا أو منافع - هو المال ، أما في النكاح فالمقصود ذات المرأة والاستمتاع بها ، وذات الزوج لا المال .

سادسا : مبررات التحديد ومضار عدمه :
أ- مبررات التحديد : قد يقال : إن للتحديد مبررات كثيرة منها :
1 - تيسير الزواج .
2 - بقاء النسل وتكثيره بطريق شرعي .
3 - خلو المجتمع من العناصر الفاسدة ومن الفساد .
4 - عمار الأرض بآلات صالحة .
5 - حفظ كيان الأسرة والعمران بنسل شرعي .
6 - تحصين الفروج وغض البصر .
7 - استفراغ الشهوة ، واستنزاف المواد المضرة ، وإصلاح الجسد بالطريق الشرعي .
ب- مضار عدمه : قد يقال : إن لعدم التحديد مضارا كثيرة : منها :
1 - قلة الزواج ؛ لأن الغلو في المهور يكلف الرجال ما لا طاقة لهم به .
2 - قلة الزواج تؤدي إلى انتشار الفساد بين الرجال والنساء ، وبين الرجال أنفسهم ، وبين النساء أنفسهن ، فتكثر الفواحش بسبب ذلك .
3 - وجود شيء من هذه المفاسد في شخص ما تجعله عضوا أشل ، لا ينتفع به في مجال البناء السليم ، دينيا ، واجتماعيا ، وثقافيا ، وسياسيا ، واقتصاديا ، وعسكريا ، وصناعيا ، وغير ذلك من الأمور التي تنفع دنيا وأخرى .

4 - المجتمع الذي تنتشر به هذه المفاسد مجتمع غير مترابط .
5 - يضاف إلى ما سبق : أن الشخص إذا تعذر عليه الزواج من بلده نتيجة غلاء المهور اضطر إلى أن يتزوج من الخارج ، والزواج بالأجنبية في هذا الوقت له آثاره السيئة على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة .
6 - قد يؤدي عدم التحديد إلى أن المرأة هي التي تخطب الرجل مستقبلا ، وتدفع له المهر ، كما هي عادة غير المسلمين .
7 - من النتائج السيئة لعدم التحديد أن الآباء قد يمنعون الأكفاء ؛ لأنهم لا يستطيعون دفع مهر كثير ويزوجون غير الأكفاء ، لأنهم يدفعون ما يرضي الآباء من المهر .
إذا علم ما سبق من المصالح المترتبة على التحديد والمفاسد الناشئة عن عدم التحديد ، فإن من القواعد المقررة في الشريعة أن المصالح إذا تعارضت قدم أرجحها ، وأن المفاسد إذا لم يمكن تركها كلها وجب ترك أعظمها ضررا ، ولو بارتكاب أقلها ضررا . وإذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم الراجح منها ، وإذا تساوت في نظر المجتهد فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .

سابعا : هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح وإن لم يكن فما العلاج :
قد يقال : إن تحديد المهور ليس بعلاج عملي ناجح في دفع مغالاة الناس فيها ؛ لأمور :
أحدها : أن الناس جبلوا على التقليد ، فينظر الضعيف منهم للقوي

والفقير للغني ، فإذا وجدوا الوجهاء والأغنياء غلوا في مهور بناتهم أو من يتزوجونهن مجاملة أو إكراما أو فخرا قلدوهم في ذلك .
الثاني : أن النقود اليوم قد هبطت قيمتها نتيجة لعدة عوامل فالشيء الذي يساوي مائة ريال سابقا - مثلا - يساوي اليوم عشرين ألفا تقريبا ، فإذا قيست على المهور سابقا فقد لا تعتبر مغالى فيها ، وربما تعلل أولياء البنات بهذا وادعوا أن ما تعطاه البنت من المهر لا يقوم بما تحتاجه لتستعد بما يلزم لزواجها من الأثاث والملابس وغيرها .
الثالث : الإبقاء على النكاح والتخلص منه بيد الزوج ، فإذا حددت المهور بمبلغ قليل فربما يسهل على الزوج أمر الطلاق ويكثر منه ، وهذا مما لا يتفق مع مقاصد الشريعة في النكاح من الاستقرار وطمأنينة النفس وبناء الأسرة .
وقد يقال : إن العلاج ممكن بدون تحديد ، وذلك بما يأتي :
أ- توعية الناس بطرق الإعلام والخطابة في الجوامع والمجامع المناسبة ، ويركز على تحذير الأولياء من العضل ويرغب الناس في الاصطلاح بينهم على مهر معين ، وذلك بأن يتفق أهل كل بلد أو كل قبيلة على مقدار معين .
ب- منع الناس من الإسراف في مراسم الزواج .
ج- التطبيق العملي من الطبقة الواعية من الناس بأن يزوجوا مولياتهم من الأكفاء ويقتنعوا بما تيسر ، هذا ما تيسر ذكره .

وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 52 ) وتاريخ 4\4\1397هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فإن مجلس هيئة كبار العلماء قد اطلع في دورته العاشرة المعقودة في مدينة الرياض فيما بين يوم 21\3\1397 هـ و4\4\ 1397 هـ على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء في موضوع ( تحديد مهور النساء ) بناء على ما قضى به أمر سمو نائب رئيس مجلس الوزراء من عرض هذا الموضوع على هيئة كبار العلماء لإفادة سموه بما يتقرر .
وجرى استعراض بعض ما رفع للجهات المسئولة عن تمادي الناس في المغالاة في المهور والتسابق في إظهار البذخ والإسراف في حفلات الزواج وبتجاوز الحد في الولائم ، وما يصحبها من إضاءات عظيمة خارجة عن حد الاعتدال ولهو وغناء بآلات طرب محرمة بأصوات عالية قد تستمر طول الليل ، حتى تعلو في بعض الأحيان على أصوات المؤذنين في صلاة الصبح وما يسبق ذلك من ولائم الخطوبة وولائم عقد القران .
كما استعرض بعض ما ورد في الحث على تخفيف المهور والاعتدال في النفقات ، والبعد عن الإسراف والتبذير .
فمن ذلك : قول الله تعالى : { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } (1) { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } (2)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 26
(2) سورة الإسراء الآية 27

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : « سألت عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا ، قالت : أتدري ما النش ؟ قلت : لا ، قالت : نصف أوقية ، فذلك خمسمائة درهم » (1) . وقال عمر رضي الله عنه : « ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية » (2) ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
وقد ثبت في [الصحيحين] وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه : « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج امرأة رجلا بما معه من القرآن » (3) .
وروى الترمذي وصححه : أن عمر - رضي الله عنه - قال : لا تغلوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون عداوة في نفسه ، وحتى يقول : كلفت لك علق القربة . والأحاديث والآثار في الحض على الاعتدال في النفقات والنهي عن تجاوز الحاجة كثيرة معلومة .
وبناء على ذلك ولما يسببه هذا التمادي في المغالاة في المهور والمسابقة في التوسع في الولائم بتجاوز الحدود المعقولة وتعدادها قبل الزواج وبعده ، وما صاحب ذلك من أمور محرمة تدعو إلى تفسخ الأخلاق ،
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1426),سنن النسائي النكاح (3347),سنن أبو داود النكاح (2105),سنن ابن ماجه النكاح (1886),مسند أحمد بن حنبل (6/94),سنن الدارمي النكاح (2199).
(2) سنن الترمذي النكاح (1114),سنن أبو داود النكاح (2106),سنن ابن ماجه النكاح (1887),سنن الدارمي النكاح (2200).
(3) صحيح البخاري النكاح (4799),صحيح مسلم النكاح (1425),سنن الترمذي النكاح (1114),سنن النسائي النكاح (3280),سنن أبو داود النكاح (2111),سنن ابن ماجه النكاح (1889),مسند أحمد بن حنبل (5/336),موطأ مالك النكاح (1118),سنن الدارمي النكاح (2201).

من غناء واختلاط الرجال بالنساء في بعض الأحيان ، ومباشرة الرجال لخدمة النساء في الفنادق إذا أقيمت الحفلات فيها ، مما يعد من أفحش المنكرات ، ولما يسببه الانزلاق في هذا الميدان من عجز الكثير من الناس عن نفقات الزواج فيجرهم ذلك إلى الزواج من مجتمع لا يتفق في أخلاقه وتقاليده مع مجتمعنا ، فيكثر الانحراف في العقيدة والأخلاق ، بل قد يجر هذا التوسع الفاحش إلى انحراف الشباب من بنين وبنات .
ولذلك كله فإن مجلس هيئة كبار العلماء يرى : ضرورة معالجة هذا الوضع معالجة جادة وحازمة بما يلي :
1 - يرى المجلس : منع الغناء الذي أحدث في حفلات الزواج بما يصحبه من آلات اللهو وما يستأجر له من مغنيين ومغنيات وبآلات تكبير الصوت ؛ لأن ذلك منكر محرم يجب منعه ، ومعاقبة فاعله .
2 - منع اختلاط الرجال بالنساء في حفلات الزواج وغيرها ، ومنع دخول الزوج على زوجته بين النساء السافرات ، ومعاقبة من يحصل عندهم ذلك من زوج وأولياء الزوجة معاقبة تزجر عن مثل هذا من منكر .
3 - منع الإسراف ، وتجاوز الحد في ولائم الزواج ، وتحذير الناس من ذلك بواسطة مأذوني عقود الأنكحة وفي وسائل الإعلام ، وأن يرغب الناس في تخفيف المهور ، ويذم لهم الإسراف في ذلك على منابر المساجد ، وفي مجالس العلم ، وفي برامج التوعية التي تبث في أجهزة الإعلام .
4 - يرى المجلس بالأكثرية : معاقبة من أسرف في ولائم الأعراس إسرافا بينا ، وأن يحال بواسطة أهل الحسبة إلى المحاكم لتعزر من يثبت مجاوزته الحد بما يراه الحاكم الشرعي من عقوبة رادعة زاجرة تكبح جماح

الناس عن هذا الميدان المخيف ؛ لأن من الناس من لا يمتنع إلا بعقوبة ، وولي الأمر وفقه الله عليه أن يعالج مشاكل الأمة بما يصلحها ويقضي على أسباب انحرافها ، وأن يوقع على كل مخالف من العقوبة ما يكفي لكفه .
5 - يرى المجلس : الحث على تقليل المهور ، والترغيب في ذلك على منابر المساجد وفي وسائل الإعلام ، وذكر الأمثلة التي تكون قدوة في تسهيل الزواج إذا وجد من الناس من يرد بعض ما يدفع إليه من مهر أو اقتصر على حفلة متواضعة ؛ لما في القدوة من التأثير .
6 - يرى المجلس : أن من أنجح الوسائل في القضاء على السرف والإسراف أن يبدأ بذلك قادة الناس من الأمراء والعلماء وغيرهم من وجهاء الناس وأعيانهم ، وما لم يمتنع هؤلاء من الإسراف وإظهار البذخ والتبذير ، فإن عامة الناس لا يمتنعون من ذلك ؛ لأنهم تبع لرؤسائهم وأعيان مجتمعهم .
فعلى ولاة الأمر أن يبدءوا في ذلك بأنفسهم ويأمروا به ذوي خاصتهم قبل غيرهم ، ويؤكدوا على ذلك ؟ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم ، واحتياطا لمجتمعهم ؛ لئلا تتفشى فيه العزوبة التي ينتج عنها انحراف الأخلاق وشيوع الفساد .
وولاة الأمر مسئولون أمام الله عن هذه الأمة ، وواجب عليهم كفهم عن السوء ومنع أسبابه عنهم ، وعليهم تقصي الأسباب التي تثبط الشباب عن الزواج ؛ ليعالجوها بما يقضي على هذه الظاهرة ، والحكومة أعانها الله ووفقها قادرة بما أعطاها الله من إمكانات متوفرة ورغبة أكيدة في الإصلاح أن تقضي على كل ما يضر بهذا المجتمع ، أو يوجد فيه أي انحراف .
وفقها الله لنصرة دينه ، وإعلاء كلمته ، وإصلاح عباده ، وأثابها أجزل

الثواب في الدنيا والآخرة .
وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
... ... رئيس الدورة العاشرة
... ... عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن محمد بن حميد لنا وجهة نظر مرفقة بهذا فيما يتعلق بالمادة الرابعة ... عبد الله خياط
محمد الحركان أوافق على وجهة نظر فضيلة الشيخ عبد الله بن حميد ... عبد المجيد حسن أوافق على وجهة نظر فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن صالح موافق على القرار باستثناء المادة الرابعة فمتوقف
صالح بن غصون أوافق على وجهة نظر الشيخ عبد الله بن حميد ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
عبد الله بن قعود ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

وجهة نظر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده :
بالنسبة لما جاء في المادة الرابعة من هذا القرار من إيقاع العقوبات على المسرفين في ولائم العرس التي قال بها الأكثرية عندي فيها نظر لما يلي :
أولا : أن حد الإسراف في تلك الولائم غير منضبط لاختلافه باختلاف الناس والبلدان ، فقد يكون سبع الذبائح مثلا أو الثمان أو التسع وما يلحق بها من الكلف -إسراف في حق بعض الناس ، لأنها أكثر من مستواهم . وهي في حق آخرين ليست بإسراف ؛ لكثرة أسرهم وأصدقائهم وجيرانهم .
وقد يكون مثل هذا المقدار إسرافا في بلدة ، وليس بإسراف في أخرى ، فحيث كان الإسراف غير منضبط لا أرى داعيا لإيقاع العقوبات في هذا وأمثاله .
ثانيا : أن العقوبات تختلف وليس لها حد تنتهي إليه فإطلاقها للأمراء وأمثالهم غير مناسب ؛ لعدم معرفتهم من يستحق العقوبة ، ومن لا يستحق فربما يعاقبون من لا يسرف في ولائم العرس ، بناء على ما يقتضيه نظرهم أنه إسراف ، ولا يعاقبون آخرين بناء على ما في نظرهم أنهم غير مسرفين ، وإن تماثلوا في الولائم .
ثالثا : أرى أنه يكتفى بمن عرف منه الإسراف في الولائم بنصيحته من قبل الأمير والقاضي والأعيان ، والتغليظ عليه بالكلام بدون إيصال إلى

سجن أو جلد أو تغريم .
هذا ما نراه ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
محمد بن جبير ... عبد المجيد حسن أوافق على ما قرره سماحته بالنسبة للعقوبة ... محمد بن علي الحركان أوافق على ما قيده فصيلته
... عبد الله بن محمد بن حميد

( 7 )
تحديد النسلهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
تحديد النسل (1)
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في النصف الأول من شهر شعبان سنة 1395هـ من إدراج موضوع ( تحديد النسل ) في جدول أعمال الدورة الثامنة للهيئة المزمع عقدها في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ -أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يلي :
1 - ترغيب الشريعة الإسلامية في التناسل .
2 - الفرق بين منع الحمل وتحديد النسل وتنظيمه .
3 - البواعث التي تدعو إلى الأخذ بها مع مناقشتها .
4 - الوسائل التي تتخذ لمنع الحمل أو تحديد النسل أو تنظيمه مع بيان آثارها .
__________
(1) نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الخامس ، ص 109-128 ، سنة 1400 هـ .

5 - بيان الحكمة مع الأدلة .
والله الموفق .

1 -

الترغيب في النكاح وبيان مقاصده
شرع الله - جلت حكمته - الزواج لحكم كثيرة :
منها : أنه أحصن للفرج وأغض للبصر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » (1) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن .
ومنها : الإبقاء على الجنس البشري في الأرض لعمارتها وإصلاحها ؛ تحقيقا لما أراده الله تعالى ، قال سبحانه : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (2) { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (3) { قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (4) { قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } (5)
ومنها : كثرة الأولاد الذين يتم بهم بناء الأسرة ، وتقوى بهم الأمة ، ويتحقق التعاون بينهم لعمارة الأرض .
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (4779),صحيح مسلم النكاح (1400),سنن الترمذي النكاح (1081),سنن النسائي النكاح (3211),سنن أبو داود النكاح (2046),سنن ابن ماجه النكاح (1845),مسند أحمد بن حنبل (1/378),سنن الدارمي النكاح (2166).
(2) سورة البقرة الآية 30
(3) سورة البقرة الآية 31
(4) سورة البقرة الآية 32
(5) سورة البقرة الآية 33

ولذا عد الله سبحانه الذرية نعمة منه على الناس تستوجب منهم أن يشكروه ولا يكفروه ، وأن يتقوه رجاء رحمته وخوف عذابه ، وأن يصلوا أرحامهم ؛ أداء لحق القرابة ، وتقوية لأواصرها ، حتى يكونوا عباد الله إخوانا متحابين .
قال الله تعالى في بيان كمال قدرته ، وعظيم منته على عباده : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } (1)
ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التبتل ، وأمر بالزواج ، وحبب إلى الرجال التزوج بالودود الولود خاصة ؛ تحقيقا لرغبته في المباهاة بأمته يوم القيامة . فعن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالباءة ، وينهى عن التبتل نهيا شديدا ، ويقول : « تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة » (2) رواه الإمام أحمد ، وأخرجه ابن حبان وصححه . وعن عبد الله بن عمرو : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « انكحوا أمهات الأولاد ، فإني أباهي بهم يوم القيامة » (3) رواه الإمام أحمد ، وأشار إليه الترمذي في [جامعه] ، وقال في [مجمع الزوائد] : فيه جرير بن عبد الله العامري ، وقد وثق وهو ضعيف . وعن معقل بن يسار قال : « جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال ، وإنها لا تلد ، فأتزوجها ؟ قال : " لا " ثم أتاه الثانية فنهاه ، ثم أتاه الثالثة فقال : تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم » (4) رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم . وفي الباب أحاديث كثيرة ، وفي بعضها ضعف ، لكن مجموعها
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سنن النسائي النكاح (3227),سنن أبو داود النكاح (2050).
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/172).
(4) سنن النسائي النكاح (3227),سنن أبو داود النكاح (2050).

يدل على المقصود من الترغيب في النكاح . وخاصة نكاح الولود .
وقد بين الغزالي مقاصد النكاح وفوائده : فقال : إن النكاح معين على الدين ، ومهين للشياطين ، وحصن دون عدو الله حصين ، وسبب للتكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيين ، فما أحراه بأن تتحرى أسبابه ، وتشرح مقاصده وآدابه (1) .
ثم قال : في الزواج فوائد خمسة : الولد ، وكسر الشهوة ، وتدبير المنزل ، وكثرة العشيرة ، ومجاهدة النفس بالقيام بهن .
ثم ذكر أنه إذا قصد بالزواج - التناسل كان قربة يؤجر عليها من حسنت نيته . وبين ذلك بوجوه :
أولا : موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان .
ثانيا : طلب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تكثير من به مباهاة .
ثالثا : طلب البركة ، وكثرة الأجر ، ومغفرة الذنب بدعاء الولد الصالح له بعده .
وأكد الغزالي : أن الوجه الأول أقواها وأظهرها لذوي الألباب ، وضرب لذلك مثلا خلاصته : سيد أعطى عبده بذورا وآلات حراثة وأرضا صالحة للزراعة ، ووكل به رقيبا يستحثه ، فإن تراخى العبد في الحراثة والزرع ونحى ذلك الوكيل الذي يستحثه فقد استوجب غضب سيده وطرده ، والله تعالى خالق الزوجين الذكر والأنثى ، وزود كلا منهما بخواصه . وجعل الشهوة فيهما قوة دافعة إلى إظهار حكمته تعالى في
__________
(1) [إحياء علوم الدين] للإمام الغزالي - ط\ دار الباز ، مكة المكرمة ( 2\ 21 ) .

التناسل والإنجاب ، فمن انحرف عن ذلك أو عارضه فهو متحد لسنن الله في الكون مستوجب لغضبه وسخطه (1) .
ومن المعلوم : أن الأولاد منذ القديم كانوا أمنية الناس حتى الأنبياء المرسلين وسائر عباد الله الصالحين ، وسيظلون كذلك ما سلمت فطرة الإنسان ، قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } (2)
ولما دعا إبراهيم قومه إلى توحيد الله وعبادته دون سواه ، وصبر على أذاهم وثابر على دعوتهم - ألقوه في النار ، وأنجاه الله منها ، واعتزلهم وما يعبدون من دون الله - وهب له إسماعيل ثم إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب استجابة لقوله : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } (3) بشره بإسماعيل أولا ، ولما بلغ معه السعي ابتلاه فيه ، وأمره بذبحه ، وآثر امتثال أمر ربه على حبه لولده ، وصدق في تنفيذ أمره ، فبشره ثانيا بإسحاق نبيا من الصالحين ، وجعل النبوة في ذرية خليله من بعده ؛ جزاء كريما لصبره على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله ، ونجاحه أتم نجاح فيما ابتلاه الله به من كلمات .
فالأولاد نعمة تتعلق بها قلوب البشر وترجوها ، لتأنس بها من الوحشة ، وتقوى بها عند الوحدة ، وتكون قرة عين لها في الدنيا والآخرة ؛ ولذا طلبها إبراهيم الخليل عليه السلام فقال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } (4)
__________
(1) [إحياء علوم الدين] ( 2\ 24- 26 ) .
(2) سورة الأعراف الآية 189
(3) سورة الصافات الآية 100
(4) سورة الصافات الآية 100

وطلب زكريا عليه السلام من ربه ذرية طيبة ، قال تعالى : { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } (1) وقال : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } (2) { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } (3) { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا } (4) { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا } (5) { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا } (6) { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } (7)
وأثنى سبحانه على عباده الصالحين بمحامد كثيرة : منها : قوله : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } (8)
وأخبر تعالى : أن شعيبا عليه السلام أمر قومه أن يذكروا نعمة الله عليهم إذ جعلهم كثرة بعد قلة ،
قال
: { وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ } (9) وذلك لتشكروه ولا تكفروه ، وليعرفوا لله حقه وللعباد حقوقهم ، فاعتبر تكثيرهم بعد القلة نعمة عظمى توجب عليهم طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 89
(2) سورة مريم الآية 2
(3) سورة مريم الآية 3
(4) سورة مريم الآية 4
(5) سورة مريم الآية 5
(6) سورة مريم الآية 6
(7) سورة مريم الآية 7
(8) سورة الفرقان الآية 74
(9) سورة الأعراف الآية 86

2 -

الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل
أ- منع الحمل : هو استعمال الوسائل التي يظن أنها تحول بين المرأة وبين الحمل ؛ كالعزل ، وتناول العقاقير ، ووضع اللبوس ونحوه في الفرج ، وترك الوطء في وقت الإخصاب ، ونحو ذلك .
ب- تحديد النسل : هو الوقوف بالإنسال عند الوصول إلى عدد معين من الذرية باستعمال وسائل يظن أنها تمنع من الحمل .
ج- تنظيم الحمل : هو استعمال وسائل معروفة لا يراد من استعمالها إحداث العقم أو القضاء على وظيفة جهاز التناسل ، بل يراد بذلك الوقوف عن الحمل فترة من الزمن لمصلحة ما يراها الزوجان أو من يثقان به من أهل الخبرة .
فالقصد من الأول : عدم التناسل أصلا ، سواء أصيب جهاز التناسل بعقم أم لا .
والقصد الثاني : تقليل عدد النسل بالوقوف به عند غاية ، سواء أصيب جهاز التناسل بعد هذه الغاية بعقم أم لا .
والقصد من الثالث : مراعاة حال الأسرة وشئونها من صحة أو قدرة على الخدمة مع مراعاة الإبقاء على استعداد جهاز التناسل للقيام بوظيفته .

3 -

بواعث منع الحمل وتحديد النسل مع المناقشة
إن الدعاة إلى تحديد النسل ومنع الحمل قد اعتمدوا على عدة دوافع وأسباب في دعايتهم لرأيهم وترويجهم له - نذكرها فيما يلي مع مناقشتها :
الأول : أن مساحة الأرض محدودة والصالح منها لسكنى الناس وللزراعة وإنتاج ما يحتاجه الناس محدود ، وأن وسائل المعاش الأخرى من الصناعة والصيد ، وتربية المواشي ، والتجارة ، ونحوها محدودة أيضا .
أما تناسل الناس : فهو في نمو مستمر وزيادة غير محدودة ، فإذا استمر الحال على ذلك ضاقت الأرض بسكانها ، ولم تسعهم وسائل المعاش ، ولم تكف لقوتهم وكسوتهم ، وهبط مستواهم في جميع النواحي صحة وعلما وثقافة ، وانتهى بهم الأمر إلى أن يعيشوا عيشة بؤس وشقاء أو أن يهلكوا نتيجة للعري والجوع والنزاع والتناحر على لقمة العيش ، وما يدفع عنهم غائلة الحر والبرد ، فوجب أن يتخذ ما يلزم من الوسائل لتحديد النسل والوقوف به عند غايته ، إنقاذا للناس من خطر داهم قد ظهرت بوادره وأنذرتهم سوء المصير (1) .
المناقشة :
أ- الحكم في أن زيادة التناسل وتضاعف عدد الناس في المستقبل يفضي إلى ضيق الأرض عن سكناهم وضيق وسائل المعاش العديدة عن أن تسعهم وتكفي لسد حاجتهم - حكم مبناه الخرص والتخمين والنظر
__________
(1) هذه الفكرة قد نادى بها في إنجلترا العالم الاقتصادي ( مالثوس ) في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ودعا إليها بعده في فرنسا ( فرانسيس بلاس ) وقام بالدعوة إليها في أمريكا الطبيب الشهير ( تشارلس نوروتون ) .

الاقتصادي الخاطئ الذي كذبه الواقع أن الأرض لم تضق بسكانها مع كثرة نموهم وتزايدهم ، ولم تزل وسائل المعاش تتسع لهم منذ خلقوا إلى يومنا الحاضر ، وقد قرر ذلك كثير من علماء الاقتصاد وخطئوا النظرية الاقتصادية التي يبني عليها دعاة تحديد النسل رأيهم .
ب- إن دعوى أن مساحة الأرض التي تصلح للسكنى والزراعة والإنتاج محدودة - دعوى غير صحيحة ؛ فإن ما سكن من الأرض وما استثمر منها في الزراعة والإنتاج وإخراج دفائنه وخاماته قدر ضئيل بالنسبة لما لم يسكن وما لم يستغل غير أنه يحتاج إلى تهيئة للسكنى والاستثمار وسعة للعلم بالكونيات ، وما أودعه الله في الأرض ، ومعرفة بطرق استخراجها وتخليصها وخبرة بخواصها وكيفية استغلالها والانتفاع بها ، فعلى تقدير وجود مشكلة فهي لم تنشأ عن كثرة تناسل وتكاثف السكان ، وإنما نشأت من الجهل بما أودعه الله في الأرض من خيرات ، وقلة العلم بطرق الاستغلال وإهمال الناس أو إعراضهم عن العمل والسعي لكسب ما فيه سعة ورخاء ونهوض بهم وارتقاء .
ج- إن ضرورة الناس وشدة حاجاتهم ألجأتهم إلى تهيئة ما يستطيعون من الأرض وإصلاحه للسكنى والزراعة ، واضطرتهم أن يتعلموا من العلوم الكونية ما يساعدهم على التوسع في ذلك ، ويفتح لهم أبوابا كثيرة لمعرفة الوسائل العديدة التي تقوم عليها حياة الناس ، وتجعلهم مترفين منعمين ، ولا يزالون يجدون في العمل ويدأبون فيه بدافع فطرتهم وغرائزهم حتى تكشفت لهم وسائل عمرانية لم يعهدوها من قبل ، وعرفوا كثيرا من طرق الكسب والمعاش والنهوض والرخاء لم تكن تخطر لهم ببال ، وليس ببعيد

لو عرضت عليهم من قبل أن يقول قائلهم : إنها سحر أو ضرب من ضروب الخيال ، وما ندري ما يسفر عنه المستقبل من شئون الحياة التي قدرها الله لعباده ، وأودع لهم أصولها في أبواب السماء وخزائن الأرض ، وجعل لهم من الأفكار والعلوم ما به يتمكنون من تسخيرها لمصالحهم وسعادتهم .
قال الله تعالى : { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ } (1) { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } (2) { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } (3)
ومن نظر في زيادة المساحة المعمورة من الأرض وتحويلها إلى قصور شاهقة وزروع مثمرة وجنات فيحاء ممتعة ، ونظر إلى زيادة وسائل العيش وكثرتها وتنوعها - وجدها تتضاعف مضاعفة مطردة مع نمو السكان وزيادة عددهم ، ولا عجب في ذلك ، فإنهم الأيدي العاملة التي خلقها الله لعمارة الأرض وإنها لسنة الله سبحانه في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولولا ذلك لكانت الأرض خرابا يبابا ، أو وقف بها العمران عند غاية تتفق مع عدد السكان وقدراتهم ومحارفهم حسبما تقضي به سنة الله سبحانه في الأسباب العادية ونتائجها ، وإن الواقع لأقوى وأعدل شاهد لما تقدم ، وإنه لدليل واضح على خطأ النظرية الاقتصادية التي بنى عليها دعاة تحديد النسل مقالتهم ، وقد اضطر هذا الواقع كثيرا من علماء الاقتصاد أن يردوا على إخوانهم دعاة تحديد النسل مذهبهم ، وأن يبينوا لهم مخالفته لواقع الحال وحقيقة الأمر ؛ ولذلك أيضا رجع عن هذا الرأي كثير ممن كانوا يدعون إليه حينما أحسوا بعواقبه السيئة من ضعف في قوى حماية البلاد
__________
(1) سورة الذاريات الآية 20
(2) سورة الذاريات الآية 21
(3) سورة الذاريات الآية 22

والدفاع عنها ، وفي قوى الإنتاج لقلة الأيدي العاملة . إلخ ، ودعوا إلى التناسل ، ورغبوا في كثرته بإعطاء المكافآت ؛ إنقاذا لأنفسهم من الخطر الذي أصابهم من جراء الدعوة المشئومة إلى تحديد النسل ، وبهذا يعرف فساد ما زعمه بعضهم من أن عدم تحديد النسل يخرج للأمة أولادا لا حاجة إليهم ، ولا يفيدونها في ميدان الحياة ، وربما ولدوا مرضى فيكونون كلا على أولياء أمورهم أو على حكومتهم ، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند الكلام على مضار وسائل تحديد النسل أو منعه أو تنظيمه .
د- إن الدعاة إلى تحديد النسل خشية أن تضيق الأرض بالسكان ، وخشية أن تضيق بهم وسائل العيش من كثرتهم مع خطئهم في تقديرهم وقصور عقولهم يظنون بالله الظنون ، ويتدخلون في تقديره لشئون عباده ، وهذا هو الضلال البعيد ، فإن الله هو الذي خلق عباده ، وهو الذي يدبر معايشهم ، وهو الرزاق ذو القوة المتين ، وقد قدر أرزاقهم وما يجري عليهم في جميع أحوالهم قبل أن يكونوا ، قال تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (1) وقال : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } (2) وقال : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } (3)
وقد أنكر على المشركين قتلهم أولادهم خشية الفقر ؛ لاحتماله على جرائم : جريمة قتل النفس ، وجريمة ظن السوء بالله ، ودخول الإنسان فيما
__________
(1) سورة القمر الآية 49
(2) سورة الرعد الآية 8
(3) سورة هود الآية 6

لا يعنيه مما هو شأن من شئون الله ، وكل من قتل النفس ، وظن السوء بالله ، والدخول فيما هو من شئون الله وحده جريمة ، قال الله تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } (1) وقال : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } (2) وقال تعالى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } (3)
فمن حدد النسل بإجهاض قد يكون مرتكبا لهذه الجرائم الثلاث أو لبعضها ، ومن حدده بمنع الحمل بوسيلة غير الإجهاض فهو مرتكب لجريمة ظن السوء بالله ، وجريمة الدخول فيما هو من شئونه وحده ، وكفى بذلك عدوانا وضلالا مبينا .
الثاني : ذكر دعاة تحديد النسل : أن الفطرة وضعت حدا مناسبا لتنظيم النسل والمنع من تضخمه في جميع أنواع الأحياء حتى الإنسان ، وذلك بالقضاء على كثير من أسباب التوالد والتناسل ابتداء ، وبالموت والفناء بعد الوجود في أطوار وأزمان مختلفة ، فليس بعجيب أن يقال بتحديد النسل أو تنظيمه بالوسائل الحديثة المتبعة اليوم ، بل في ذلك مجاراة للفطرة ، وسير معها إلى الهدف المنشود من التوازن بين عدد السكان ووسائل العيش والنهوض بالإنسان إلى مستوى يكفل له الراحة وطمأنينة النفس والشعور بمتعة الحياة ولذاتها .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) سورة الإسراء الآية 31
(3) سورة الإسراء الآية 36

المناقشة :
أ- إن كان المراد بالفطرة في نظر دعاة تحديد النسل : طبيعة الأحياء وخواصهم وغرائزهم التي أودعت فيهم لتقوم الحياة ويعمر الكون - فما ذكروه مبررا لتحديد النسل أو تنظيمه مناقض للفطرة ، وحرب على ما أودعه الله في الإنسان من طبائع وخواص ، فإن الإنسان مجبول على الرغبة الملحة في التزاوج ، مجبول على حب التناسل ، تواقة نفسه إلى الذرية مسلما كان أو كافرا ، حتى إن من حرم الذرية أو أصيب فيما رزق منها بآفات قضت عليها ليكاد يتقطع أسى وحسرة على ما فاته من نعمة الذرية ، واعتبر ذلك بلاء نزل به ، وقضى على سعادته ، إلا من عصمه الله بالإيمان ورضي بقضاء الله وقدره فيه ، ومن آتاه الله الذرية عد نفسه سعيدا ، وتجلت فيه عاطفة الأبوة أو الأمومة وحنانها ، وبذل جهده فيما يلزم لسعادة أولاده مع ارتياح ورحابة صدر ، وسهر الليالي لسهرهم ؛ عملا على راحتهم ، وتحقيقا لمصلحتهم .
وبهذا اتضح أي الأمرين جرى على سنن الفطرة ، ومقتضى الطبيعة البرية ، الإبقاء على النسل وعدم الوقوف في طريق ازدياده ، أم العمل على منعه والقضاء عليه بعد الحمل بإجهاض ونحوه . أضف إلى ذلك ما في كلامهم من الزيغ ، حيثما نسبوا إلى فطرة الأحياء وطبائعهم تحديد النسل أو تنظيمه بالعقم أو بالموت والقضاء على كثير من أسباب التناسل ، وذلك لا يصدر إلا عن جاهل فاسد العقيدة ، قال تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } (1) { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } (2)
__________
(1) سورة الشورى الآية 49
(2) سورة الشورى الآية 50

وقال : { هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (1)
ب- وإن زعموا أن المراد بالفطرة : ما يسمى في شريعة الإسلام بالله رب العالمين : ففيه أولا : سوء أدب في التعبير ، وثانيا : التدخل في شأن من شئون الله وحده ، وليس مما يعود إليهم تدبيره ، وثالثا : قياس في تقديرهم لتحديد النسل على الله في تدبيره وتعريفه لشئون عباده ، وشتان ما بين عبد مملوك خطاء قاصر الفكر والتقدير والتدبير . إلخ ، ورب حكيم ، له كمال القدرة وإحكام التدبير ، وله الخلق والأمر ، وكمال الاختيار ، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد . إلخ .
لقد فشلت نظرية تحديد النسل أول الأمر اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ؛ لمناقضتها مقتضى الفطرة وطبيعة البشر ، وبنائها على الخرص والتخمين الذي كذبه الواقع ، ولإفضائها إلى نتائج خبيثة ، وعواقب وخيمة ، ومضار فادحة ، كما سيجيء بيانه في مضار الوسائل التي تتخذ لذلك ، ولم يكتب لها الانتشار إلا بكثرة الدعاية والتلبيس على الناس ومصادفة هوى عند عباد الشهوات ومن يفرون من تحمل المسئوليات ، ويحرصون على نزواتهم دون المصالح العامة مع عوامل أخرى ؛ كالتقدم الصناعي ، وإقبال الناس على الصناعة ، وانتقالهم إلى المدن لذلك ، وزهدهم في الزراعة وانغماس الناس في الترف والنعيم ، وكثرة الكماليات ، والأثرة المادية ، فارتفعت الأسعار ، وكثرت التكاليف ، وعمل كل لنفسه بدافع غريزة حب التملك ، وخرجت المرأة إلى ميدان العمل ، وكرهوا تحمل أعباء نفقة الأولاد ورعايتهم ، ولم يلبث الأمر أن انكشف الستار وظهرت الحقيقة للمفكرين
__________
(1) سورة يونس الآية 56

منهم فرجعوا عن ذلك، وردوا على هذه النظرية ردودا حاسمة.
الثالث: أن طبقات الناس متفاوتة غنى وفقرا، والطبقة الفقيرة منهم لا تتسع ثروتها لتربية الأولاد تربية تكفل لهم السعادة والهناء، وليس في أموالهم ما ينهض بتعليمهم تعليما عاليا يسمون به وتسمو به أمتهم، فإذا تركوا وشأنهم في التناسل زاد عدد الأولاد وتكاثر، واشتدت الكارثة، وعجز أولياء أمورهم عن القيام بشئونهم تغذية وكسوة وتعليما على ما يرام، وعندئذ يعيشون عيشة لا يغبطون عليها، أما الطبقة الغنية والمتوسطة فإن أولادهم إذا زاد عددهم تفتت ثروتهم، وهبط مستواهم، وضعفت إمكانياتهم، وبذلك تسوء حالهم وحال الأمة، ويضعف شأنها، وتتأخر علما وإنتاجا، وتعيش عيشة بؤس وشقاء؛ فلهذا وجب الحد من التناسل ؛ صيانة للأسرة مما يتهددها من خطر كثرة الأولاد، وإنقاذا للأمة مما يتوقع لها من البلاء وشدة الأزمات (1)
المناقشة :
هذه الشبهة وليدة للشبهة الأولى وصنو لها، فيجاب عنها بما تقدم من المناقشة فيها، ثم هي لا تزيد على أن تكون دعاية لتحديد النسل بتزيين الباطل، والتلبيس على الناس؛ ليخدعوهم عن مقتضى فطرتهم السليمة التي فطرهم الله عليها، ويصدوهم عما هو مصدر سعادتهم، وما تتحقق به مصالحهم. ويحصل لهم به عوامل القوة والنماء والرخاء ؛ فإن الأولاد هم الأيدي العاملة وهم مصدر الثروة والنماء وزيادة الرخاء، فبكثرتهم تكثر الخيرات، ويزداد العمران في الأرض، وتنهض الأمم في جيشها وقوتها،
__________
(1) انظر ما نقله الأستاذ أبو الأعلى المودودي عن الأطباء وعلماء النفس في كتابه [حركة تحديد النسل].

وفي علمها واختراعها، وفي إنتاجها ورعايتها لجميع مرافق حياتها، وكثيرا ما وجدنا بيوتا قد فتحت على أيدي الأولاد، وعمها الخير والرخاء، وكثيرا ما شاهدنا العلماء من أبناء الفقراء والطبقات المتوسطة، وأنهم نهضوا بأممهم، وقاموا بمصالحهم، وكانوا ملاك سعادتها، وزهرة حياتها، وعنوان مجدها، فإن تخلف شيء من ذلك فهو من الفوضى والإهمال والتفريط لا من زيادة التناسل، ومن المعروف أن النهوض وليد الطموح ويقظة النفس وشعورها بالحاجة، وأن الفساد والهبوط وليد الدعة، وتبلد النفس، وعدم الإحساس بالحاجة، وقد يكون ذلك مع الغني كما يكون مع الفقير، وإذا فليست المشكلة من كثرة التناسل وزيادة الأولاد حتى يسعى في حلها بتحديد النسل أو منع الحمل.
الرابع : زعموا: أن تحديد النسل أو منع الحمل يحفظ للمرأة صحتها وجمالها، وأن تتابع الحمل والولادة وما يتبع ذلك من رعايتها لأولادها وقيامها بشئونهم ورعايتها لهم وسهرها على مصالحهم يهدم كيانها ويذهب قواها وجمالها، ويهدد حياتها الزوجية، فقد يزهد فيها زوجها، فيطلقها أو ينصرف عنها إلى غيرها؛ لسوء حالها واشتغالها عنه بأولادها.
المناقشة :
أ- إن هذه الشبهة إنما يتشدق بها ويروج لها من طغت عليه شهوته الحيوانية، وانحرفت فطرته الإنسانية فلا هم له إلا الاستمتاع بزوجته، وقضاء وطره منها، ويفر من تكاليف الذرية وتحمل أعبائها، استجابة لدواعي الشهوة البهيمية، وإيثارا لجانب اللذائذ الحيوانية التي لا تعدل في نفس من سلمت فطرته من الناس، أو تقارب إرواء عاطفة الأبوة والأمومة

الكامنة في أعماق النفوس وحياة القلوب.
ب- إن عزل المرأة عن وظيفة الحمل والولادة التي هي من أجل ما خلقها الله لها يحدث فيها كبتا، ويولد فيها عقدا نفسية، ويورثها بؤسا وكآبة تذهب بجمالها وحسن رونقها، وإذا استعملت لمنع الحمل أو إسقاطه العقاقير وأمثالها زادها ذلك هما، وضاعف آفاتها ومضارها.
ولا شك أن هذا الخطر يزيد على ما يذكره دعاة تحديد النسل في شبهتهم من المضار الناشئة عن كثرة الحمل والولادة، مع ما في زيادة التناسل من النماء في الإنتاج وزيادة وسائل المعيشة والنفع الخاص بالأسرة والعام للأمة، فأي الأمرين أحق بالحرص عليه والدعوة إليه؟!
قال الدكتور ( الكسيس كارل ) في كتابه [الإنسان ذلك المجهول]:
إنه حتى هذه الأيام لم ينضج فكر الإنسان ولم يشعر على الوجه التام بما لوظيفة التوليد من الأهمية في حياة المرأة، إن قيام المرأة بهذه الوظيفة مما لا مندوحة عنه لكمالها القياسي، فما تحريف النساء عن التوليد ورعاية الطفل إلا حماقة شنيعة لا يقدم عليها عاقل. وقال الدكتور ( أزوالد شوارز ) أحد علماء النفس في كتابه [نفسية الجنس]: أي شيء يا ترى يدل عليه وجود الغريزة الجنسية في الإنسان؟ ولأي غرض قد وضعت فيه؟ ومن الحقيقة التي لا غبار عليها: أن هذه الغريزة إنما هي لإنجاب الذرية وتخليد النسل؛ إذ من القوانين الثابتة في علم الأحياء أن كل عضو في جسد الإنسان يجب أن يؤدي وظيفته الخاصة المستقلة حتى يحقق بذلك المهمة التي قد أسندت إليه، وعلى هذا إذا منع هذا العضو من أداء وظيفته الخاصة فلا بد أن تتعرض حياة الإنسان لمشاكل مرهقة متعدة، ومما يتعلق بهذا البحث أن

جسد المرأة لم يخلق في معظمه إلا لوظيفة الحمل والتوليد، فهي إذا منعت أن تعمل لتحقيق هذه الوظيفة الأساسية لنظامها الجسدي والعقلي فلا بد أن تذهب ضحية الاضمحلال والتذمر والعقد النفسية المتعددة، وعلى خلاف هذا فإنها عندما تصبح أما تجد جمالا جديدا وبهاء روحيا يتغلب على ما قد يعتريها من الضعف والاضمحلال بسبب وضع الطفل وإرضاعه.
وقال أيضا: إن كل عضو في جسدنا يجب أن يقوم بوظيفته، وعلى هذا فإنه إذا حيل بينه وبين أن يقوم بوظيفته فلا بد أن يختل به التوازن في نظامنا الجسدي، إن المرأة ليست بحاجة إلى إنجاب ذرية لمجرد أن ذلك تقتضيه عاطفة الأمومة التي قد فطرت عليها، أو لمجرد أنها ترى القيام بهذه الخدمة واجبا عليها، بناء على ضابط خلقي مفروض عليها، وإنما هي بحاجة إليها؛ لأن نظامها الجسدي ما بني كله إلا للقيام بها، فهي إذا منعت أن تقوم بها فلا بد أن تتأثر شخصيتها كلها بالانقباض والحرمان والهزيمة واليأس المميت. أهـ.
إن الذين بدؤوا بالدعوة إلى منع الحمل أو تحديد النسل، وروجوا دعوتهم بما تقدم من الشبه وأمثالها- جماعة لا يؤمنون بأن للعالم ربا عليما خبيرا بشئون عباده، حكيما في تدبير أمورهم وتصريف أحوالهم ولا يرضون بشريعة الإسلام دينا ولا بمحمد رسولا، فلا عجب أن يظنوا بالله الظنون الكاذبة، وأن يدخلوا تفكيرهم القاصر المحدود فيما هو من شأنه وحده، وأن يناقضوا شريعة الإسلام ويكونوا حربا على مقاصدها، ولا عجب أيضا أن يسير في ركابهم، ويدعو بدعوتهم بعض جهلة المسلمين وأرباب الهوى منهم، فإن الجهل قتال يقذف بصاحبه في لجج الضلال

والهلاك وأن الهوى يعمي ويصم، وإنما العجب أن يناقضوا ما يدعون أنهم قتلوه بحثا، وأحاطوا به علما من نظريات الاقتصاد وأصول علم النفس وعلم الأحياء وتاريخ الأمم وما جرى عليها من أحداث.
ونختم الكلام على ما ذكروا من البواعث والدواعي لمنع الحمل أو تحديد النسل بذكر بعض دواع أخرى تقع قليلا أو نادرا فيحكم فيها بما يناسبها من الأحكام، فإنها تختلف عما تقدم في أهدافها ومقاصدها وربما كان لمن ألمت به العذر في منع الحمل أو تنظيمه.
ا- قد يكون بالمرأة ما تتعذر معه الولادة العادية، فيخرج الولد بإجراء عملية جراحية، وربما كان في ذلك خطورة، كما أن تكرر ذلك خطر على المرأة، وقضاء على حياتها، ففي هذا يمكن أن يقال بوجوب منع الحمل أو المنع من تكراره، محافظة على حياة المرأة، وذلك راجع إلى مقصد من المقاصد الضرورية الخمسة، وهو المحافظة على النفس، ولكن من الواضح أن هذا وأمثاله ليس من تحديد النسل ولا من تنظيمه ولا يتفق معه في الدواعي أو الغرض الذي ألجأ إليه، فلا يصح أن يخلط بينهما تلبيسا على الناس، ولا أن يحتج بمثل هذا على تحديد النسل أو منعه للدواعي الأخرى.
2 - وقد يضر المرأة تتابع الحمل لضعف بها أو مرض، ويقرر أهل الخبرة: إن كان عليها من تتابعه خطورة، فلها أن تتخذ وسائل غير ضارة لتنظيم الحمل وتأخيره فترة من الزمن تستجم فيها، وتسترد نشاطها وقوتها، ويرجع فيما تستخدمه من الوسائل لأهل الخبرة، مخافة أن تصاب بعقم أو مرض آخر من جراء استخدام الوسائل لتنظيم الحمل، وليس هذا

من باب تحديد النسل، ولا في معنى ما تقدم من منع الحمل للبواعث الأخرى التي اعتمد عليها دعاة تحديد النسل فلا مستند فيه لهم.
3 - وقد يظن الرجل أن وطأه امرأته أو أمته وهي ترضع يضر بالولد، فيمتنع من ذلك محافظة على صحة الرضيع وحرصا على سلامته، سواء قلنا: تغير لبن المرأة وتضرر الرضيع بنفس الجماع أو بالحمل المتوقع منه، فعلى تقدير أن ذلك يعتبر عذرا للرجل في ترك الجماع أو للزوجة في الامتناع منه- فإنه ليس من باب تحديد النسل أصلا ولا من جنس منع الحمل للدواعي المنكرة التي اعتمد عليها دعاة تحديد النسل أو منعه، على أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن ينهى عن الغيلة محافظة على الرضيع، ثم رجع عن ذلك وبين السبب، روى أحمد ومسلم عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول. « لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت إلى الروم فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئا... » (1) الحديث.
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1442),سنن الترمذي الطب (2077),سنن النسائي النكاح (3326),سنن أبو داود الطب (3882),سنن ابن ماجه النكاح (2011),مسند أحمد بن حنبل (6/434),موطأ مالك الرضاع (1292),سنن الدارمي النكاح (2217).

4 - ربما يحتاج الرجل إلى العزل عن أمته أو زوجته حرة أو أمة .
وقد اختلف العلماء في حكم ذلك اختلافا كثيرا :
فمنهم من حرم ذلك مطلقا عن أمته وزوجته حرة أو أمة.
ومنهم من أجازه مطلقا ، وفرق جماعة بين الأمة والحرة.
وفرق آخرون بين حالة الإذن وعدمه، فأباحه في الأولى دون الثانية. وتفصيل الخلاف في ذلك معروف في كتب الفقه، ومنشؤه: اختلاف العلماء في فهم ما ورد في ذلك من الأحاديث واختلافهم فيمن له الحق في الوطء والولد ومن لا حق له في ذلك.

ولما كان كلام ابن القيم مستوفيا لتفصيل القول في حكم العزل مع الأدلة والمناقشة اكتفينا بذكره هنا ، قال رحمه الله (1) : فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في العزل .
ثبت في [الصحيحين] ، عن أبي سعيد قال: « أصبنا سبيا، فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "وإنكم لتفعلون؟ " قالها ثلاثا "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة » (2) ، وفي [السنن] عنه: أن رجلا قال: « يا رسول الله، إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى، قال: "كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه » (3) .
وفي [الصحيحين]: عن جابر : كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل. وفي [صحيح مسلم] عنه: « كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا » (4) .
وفي [صحيح مسلم] أيضا عنه قال: « سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن ذلك لا يمنع شيئا أراده الله » (5) ، قال: فجاء الرجل فقال: « يا رسول الله، إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا عبد الله ورسوله » (6) .
وفي [صحيح مسلم] أيضا عن أسامة بن زيد : أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لم تفعل ذلك؟ " فقال الرجل: أشفق على ولدها، أو قال: على أولادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كان ضارا ضر فارس والروم » (7) وفي [مسند أحمد] و[سنن ابن ماجه] من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه « نهى رسول
__________
(1) [زاد المعاد] (4\ 30) طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية.
(2) صحيح البخاري النكاح (4912),صحيح مسلم النكاح (1438),سنن ابن ماجه النكاح (1926),موطأ مالك الطلاق (1262).
(3) سنن أبو داود النكاح (2171).
(4) صحيح البخاري النكاح (4911),صحيح مسلم النكاح (1440),سنن ابن ماجه النكاح (1927),مسند أحمد بن حنبل (3/309).
(5) صحيح مسلم النكاح (1439).
(6) صحيح مسلم النكاح (1439).
(7) صحيح مسلم النكاح (1443),مسند أحمد بن حنبل (5/203).

الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها » (1) وقال أبو داود : سمعت أبا عبد الله ذكر حديث ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن الزهري عن المحرر بن أبي هريرة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها » (2) فقال: ما أنكره.
فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل. وقد رويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة . علي وسعد بن أبي وقاص وأبي أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علي وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري وابن مسعود رضي الله عنهم.
قال ابن حزم : وجاءت الإباحة للعزل صحيحة. عن جابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن مسعود رضي الله عنهم، وهذا هو الصحيح.
وحرمه جماعة ، منهم: أبو محمد بن حزم وغيره، وفرقت طائفة بين أن تأذن له الحرة فيباح، أو لا تأذن فيحرم. وإن كانت زوجته أمة أبيح بإذن سيدها ولم يبح بدون إذنه. وهذا منصوص أحمد . ومن أصحابه من قال: لا يباح بحال، ومنهم من قال: يباح بكل حال، ومنهم من قال: يباح بإذن الزوجة حرة كانت أو أمة ولا يباح بدون إذنها حرة كانت أو أمة.
فمن أباحه مطلقا احتج بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حق المرأة في ذوق العسيلة لا في الإنزال.
ومن حرمه مطلقا: احتج بما رواه مسلم في [صحيحه] من حديث عائشة عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة (3) قالت: « حضرت رسول الله
__________
(1) سنن ابن ماجه النكاح (1928).
(2) سنن ابن ماجه النكاح (1928).
(3) قال النووي (10\ 16): المختار أنها جدامة- بضم الجيم، وفتح الدال المهملة- بنت وهب- الأسدية أخت عكاشة بن محصن المشهور الأسدي، وتكون أخته من أمه.

صلى الله عليه وسلم في أناس فسألوه عن العزل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذلك الوأد الخفي » (1) ، وهي قوله تعالى: { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } (2) قالوا: وهذا ناسخ لأخبار الإباحة، فإنه ناقل عن الأصل، وأحاديث الإباحة على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية ، قالوا: وقول جابر : « كنا نعزل والقرآن ينزل، » (3) فلو كان شيئا ينهى عنه لنهى القرآن عنه. فيقال: قد نهى عنه من أنزل عليه القرآن بقوله: « إنه الموءودة الصغرى » (4) والوأد كله حرام. قالوا: وقد فهم الحسن البصري النهي من حديث أبي سعيد الخدري لما ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا عليكم ألا تفعلوا. ذاكم إنما هو القدر » (5) ، قال ابن عون : فحدثت به الحسن، فقال: والله لكأن هذا زجر. قالوا: ولأن فيه قطع النسل المطلوب من النكاح وسوء العشرة وقطع اللذة عند استدعاء الطبيعة لها، قالوا: ولهذا كان ابن عمر لا يعزل، وقال: الو علمت أن أحدا من ولدي يعزل لنكلته) وكان علي يكره العزل. ذكره شعبة عن عاصم عن زر بن حبيش عنه، وصح عن ابن مسعود أنه قال في العزل: « هو الموءودة الصغرى » (6) . وصح عن أبي أمامة أنه سئل عنه ، فقال: ما كنت أرى مسلما يفعله.
وقال نافع عن ابن عمر : (إن عمر ضرب على العزل بعض بنيه) قال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب : (كان عمر وعثمان ينهيان عن العزل) وليس في هذا ما يعارض أحاديث الإباحة مع صراحتها وصحتها.
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1442),سنن ابن ماجه النكاح (2011).
(2) سورة التكوير الآية 8
(3) صحيح البخاري النكاح (4911),صحيح مسلم النكاح (1440),سنن الترمذي النكاح (1137),سنن ابن ماجه النكاح (1927).
(4) سنن الترمذي النكاح (1136).
(5) صحيح البخاري المغازي (3907),صحيح مسلم النكاح (1438),سنن النسائي النكاح (3327),مسند أحمد بن حنبل (3/68),موطأ مالك الطلاق (1262),سنن الدارمي النكاح (2224).
(6) سنن الترمذي النكاح (1136).

أما حديث جدامة بنت وهب فإنه وإن كان رواه مسلم فإن الأحاديث الكثيرة على خلافه، وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى : أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه: أن رفاعه حدثه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجلا قال: « يا رسول الله، إن لي جارية، وأنا أعزل عنها. وأنا أكره أن تحمل. وأنا أريد ما يريد الرجال، وأن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى. قال: "كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه » (1) وحسبك بهذا الإسناد صحة، فكلهم ثقات حفاظ، وقد أعله بعضهم بأنه مضطرب، فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير، فقيل عنه: عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله، ومن هذه الطريق أخرجه الترمذي والنسائي، وقيل فيه: عن أبي مطيع بن رفاعة، وقيل: عن أبي رفاعة . وقيل: عن أبي سلمة عن أبي هريرة . وهذا لا يقدح في الحديث. فإنه قد يكون عند يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر . وعنده عن ابن ثوبان عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وعنده عن ابن ثوبان عن رفاعة عن أبي سعيد . ويبقى الاختلاف في اسم أبي رفاعة : هل هو أبو رافع، أو ابن رفاعة، أو أبو مطيع ؟ وهذا لا يضر مع العلم بحال رفاعة .
ولا ريب أن أحاديث جابر صريحة صحيحة في جواز العزل، وقد قال الشافعي : ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رخصوا في ذلك، ولم يروا به بأسا.
قال البيهقي : وقد روينا الرخصة فيه عن سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وابن عباس وغيرهم. وهو مذهب مالك
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2171).

والشافعي وأهل الكوفة، وجمهور أهل العلم.
وقد أجيب عن حديث جدامة : بأنه على طريق التنزيه، وضعفته طائفة، وقالوا: كيف يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كذب اليهود في ذلك، ثم يخبر به كخبرهم؟ هذا من المحال البين. وردت عليهم طائفة أخرى، وقالوا: حديث تكذيبهم فيه اضطراب. وحديث جدامة في الصحيح.
وجمعت طائفة أخرى بين الحديثين، وقالت: إن اليهود كانت تقول: إن العزل لا يكون معه حمل أصلا. فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : « لو أراد الله أن يخلقه لما استطعت أن تصرفه » (1) وقوله: « إنه الوأد الخفي » (2) ، فإنه وإن لم يمنع الحمل بالكلية، كترك الوطء، فهو مؤثر في تقليله. قالت طائفة أخرى: الحديثان صحيحان. ولكن حديث التحريم ناسخ. وهذه طريقة أبي محمد بن حزم . قالوا: لأنه ناقل عن الأصل. والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة ودعوى هؤلاء تحتاج إلى تاريخ محقق، يبين تأخير أحد الحديثين عن الآخر، وأنى لهم به؟
وقد اتفق عمر وعلي رضي الله عنهما: أنها لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع. فروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسناده عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال: (جلس إلى عمر : علي والزبير وسعد رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتذاكروا العزل ، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى. فقال علي : لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع، حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون لحما، ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر : صدقت. أطال الله بقاءك) وبهذا
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2171).
(2) صحيح مسلم النكاح (1442),سنن ابن ماجه النكاح (2011),مسند أحمد بن حنبل (6/434).

احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء.
وأما من جوزه بإذن حرة، فقال: للمرأة حق في الولد كما للرجل حق فيه؛ ولهذا كانت أحق بحضانته ، قالوا: ولم يعتبروا إذن السرية فيه؛ لأنها لا حق لها في القسم؛ ولهذا لا تطالبه بالفيئة. ولو كان لها حق في الوطء لطولب المولي منها بالفيئة. قالوا: وأما زوجته الرقيقة فله أن يعزل عنها بغير إذنها؛ صيانة لولده عن الرق. ولكن يعتبر إذن سيدها؛ لأن له حقا في الولد. فاعتبر إذنه في العزل كإذن الحرة، ولأن بدل البضع يحصل للسيد كما يحصل للحرة. فكان إذنه في العزل كإذن الحرة. قال أحمد في رواية أبي طالب، في الأمة إذا نكحها: يستأذن أهلها، يعني: في العزل؛ لأنهم يريدون الولد، والمرأة لها حق تريد الولد، وملك يمينه لا يستأذنها، وقال في رواية صالح وابن منصور وحنبل وأبي الحرث والفضل بن زياد والمروذي: يعزل عن الحرة بإذنها، والأمة بغير إذنها، يعني: أمته، وقال في رواية ابن هانئ: إذا عزل عنها لزمه الولد، قد يكون الولد مع العزل، وقد قال بعض من قال: ما لي ولد إلا من العزل، وقال في رواية المروذي في العزل عن أم الولد: إن شاء. فإن قالت: لا يحل لك، ليس لها ذلك. اهـ.
ومهما يكن من الاختلاف في حكم عزل الرجل عن زوجته حرة أو أمة أو عزله عن سريته من الإباحة مطلقا أو المنع مطلقا أو إباحته مع الإذن ومنعه بدونه فليس من باب تحديد النسل، فإنه إن كان بالنسبة للأمة إنما كان خشية أن تحمل منه وهو يكره أن يكون له منها ولد، أو خشية أن تصير أم ولد وهو في حاجة إلى خدمتها أو ثمنها، كما هو واضح من الأحاديث المتقدمة، وأما بالنسبة للزوجة فقد يكون للمحافظة على رضيعها، وقد

يكون خشية أن تحمل وهي مريضة أو ضعيفة فيضرها الحمل أو يضرها تتابعه، وقد يكون لأسباب أخرى دعتهم إلى ذلك، غير أنها ليس منها تحديد النسل؛ لسلامة فطرهم، وقوة توكلهم على الله، وثقتهم به، ومزيد حبهم للنسل ورغبتهم فيه، فلا يفعلون ما يناقض فطرهم وما تهواه قلوبهم من الذرية، ولا يخوضون في شئون المستقبل وما يكون فيه من غبن وفقر، ولا يتشاءمون منه، ولا يظنون بالله الظنون.
وبالجملة: ما عهد فيهم من الاعتصام بالدين، وحسن الظن بالله ليبعدهم كل البعد عن القصد إلى العزل من أجل تحديد النسل.
وعلى هذا لا حجة فيما ذكر من الأحاديث لمن تعلق بها ممن يرون تحديد النسل.

4 -

وسائل تحديد النسل وبيان مضارها
لتحديد النسل ومنع الحمل وسائل عديدة: منها: الرهبنة، وترك الزواج، وكبت النفس وحبسها عن الجماع، والإجهاض (إسقاط الحمل) أو وضع اللبوس في الفرج. وتعاطي العقاقير، ونحوها مما يمنع الحمل أو يقضي عليه بعد وجوده.
ولكل من هذه الوسائل آثار سيئة وعواقب وخيمة، وفيما يلي بيان شيء من ذلك :
أ- انتشار جريمة الزنا وانتهاك الحرمات، فإن الذي يردع الإنسان ويقف به عند حده خوفه من الله أولا.
وقد ذهب ذلك بالإلحاد أو ضعف الوازع الديني، وخوفه من العار ثانيا.
وقد ذهب ذلك بانتشار وسائل منع الحمل وتحديد النسل، حيث أمنت

المرأة من الحمل وعرفت طريق التخلص منه باستعمال هذه الوسائل فاجترأت هي ومن يهواها على قضاء الوطر وإشباع الغريزة الجنسية دون خوف أو حياء.
ب- انتشار الزنا سبب لانتشار الأمراض الخبيثة؛ كمرض الزهري والسيلان، وهما من أفتك الأمراض وأشدها خطرا على حياة الناس.
ج- انتزاع جلباب الحياء، وفساد الأخلاق، وضياع الأنساب، وضعف الروابط بين الأسر، وبذلك تعم الفوضى ويكثر الهرج والمرج ويشتد البلاء.
د- نقص الأيدي العاملة وكثرة العجزة والعجائز لقلة التناسل والوقوف به عند غاية، وبذلك يقل الإنتاج، وتنقص وسائل المعيشة، وتشتد الأزمات، وتضعف سيطرة الأمة وقوة الدفاع عنها.
هـ- ضعف العلاقة الزوجية بين الزوجين؛ لعدم الأولاد أو قلتهم باستعمال وسائل تورث العقم ابتداء أو تقف بالتناسل عند حد، فإن الأولاد تقوى بهم أواصر المحبة والوئام بين الزوجين وتضطر كلا منهما على الصبر على متاعب الحياة الزوجية وتحمل ما قد يصدر من أحدهما للآخر من الأذى وتعكير الصفو، فإذا لم تكن بينهما هذه الروابط ضعفت عرى الزوجية أو انحلت، وكثرت وقائع الطلاق، ودب دبيب الشر والفساد بين الأسر، وفي ذلك ضعف المجتمع وفساده.
و- في الرهبانية كبت للنفس وخروج بها عن فطرتها ومقتضى ما أودع فيها من الغرائز، وهذا مما يورثها ضيقا وقلقا وأمراضا عصبية وتبرما بالحياة، ولهذا وغيره نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل.

ز- سقوط الرحم وحدوث أمراض أخرى تكاد تفتك بالمرأة من جراء إسقاطها الحمل تخلصا من النسل أو من كثرته.
وقد ذكر كثير من الأطباء وعلماء النفس مضار وسائل منع الحمل وتحديد النسل إجمالا وتفصيلا.
من ذلك ما جاء عن الدكتور: كلير فولسوم، قال: ليست عندنا حتى اليوم أية وسيلة سهلة أو رخيصة غير ضارة يمكن استخدامها لتحديد النسل (1)
ولما تقدم وغيره من المضار قام كثير من الأطباء وعلماء النفس في دولهم بدعوة مضادة، وحذروا الناس من استعمال وسائل منع الحمل وتحديد النسل، وشرحوا لهم مضار ذلك علما وتجربة واستجابت لهم حكوماتهم، فحظرت الاتجار في هذه الوسائل، وأعطت المكافأة على كثرة النسل، ورفعت الضرائب عمن كثرت أولادهم، وفرضت العقوبات على من ثبت عليه استعمال هذه الوسائل أو الاتجار فيها أو الترويج لها والدعاية لاستعمالها.
__________
(1) يرجع إلى ما نقله الأستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه [حركة تحديد النسل] تحت عنوان. المضار عن الأطباء وعلماء النفس في مضار وسائل منع الحمل وتحديد النسل مر ص (76 إلى ص 98). .

5 -

الحكم مع الدليل
تبين مما تقدم أن ما ذكره الدعاة إلى تحديد النسل أو منع الحمل من البواعث التي اعتمدوا عليها في ترويج ذلك والدعاية له لا تصلح مبررا له، بل هي غير صحيحة لمناقضتها الواقع، ومنافاتها مقتضى الفطرة والإسلام، وتبين أيضا أن لتحديد النسل أو منع الحمل بأي وسيلة من الوسائل مضارا كثيرة دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية وجسمية.
وعلى هذا يكون تحديد النسل محرما مطلقا، ويكون منع الحمل محرما إلا في حالات فردية نادرة لا عموم لها، كما في الحالة التي تدعو الحامل إلى ولادة غير عادية ويضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، وفي حالة ما إذا كان على المرأة خطر من الحمل لمرض ونحوه، فيستثنى مثل هذا منعا للضرر، وإبقاء على النفس.
فإن الشريعة الإسلامية جاءت بجلب المصالح، ودرء المفاسد، وتقديم أقوى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين عند التعارض.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.

قرار هيئة كبار العلماء
رقم (42) وتاريخ 13\ 4\ 1396 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد :
ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ - بحث المجلس موضوع ( منع الحمل وتحديد النسل وتنظيمه )؛ بناء على ما تقرر في الدورة السابعة لمجلس المنعقد في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوعها في جدول أعمال الدورة الثامنة.
وقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد تداول الرأي والمناقشة بين الأعضاء، والاستماع إلى وجهات النظر قرر المجلس ما يلي:
نظرا إلى أن الشريعة الإسلامية ترغب في انتشار النسل وتكثيره، وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة من الله بها على عباده- فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثها المعد للهيئة والمقدم لها.
ونظرا إلى أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها

الرب تعالى لعباده.
ونظرا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد وأهلها.
وحيث إن في الأخذ بذلك ضربا من أعمال الجاهلية، وسوء ظن بالله تعالى، إضعافا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها.
لذلك كله فإن المجلس يقرر: بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها.
أما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة؛ ككون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان- فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل، أو تأخيره؛ عملا بما جاء في الأحاديث الصحيحة، وما روي عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل، وتمشيا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة.
وقد توقف فضيلة الشيخ عبد الله بن غديان في حكم الاستثناء.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة الثامنة
. ... . ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد ... عبد الله الخياط ... عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان
متوقف عن الاستثناء ... راشد بن خنين
. ... صالح بن لحيدان المصلحة التي يراها الزوجان غير مقيدة ولا أراها ... عبد الله بن منيع

(8)
حكم التسعيرهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم التسعير (1)
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
بناء على ما تقرر في الدورة الثامنة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض في النصف الثاني من ربيع الأول عام 1396 هـ. من إعداد بحث في التسعير- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يشتمل على: .
تعريف التسعير، وهل يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه؟ ومن أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كما يبيع الناس؟
وبيان من يختص به التسعير من البائعين، وما يدخله التسعير من المبيعات.
وهل يجوز إلزام الناس بسعر محدد في تأجير عقاراتهم؟
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد السادس، ص 51- 95، سنة 1400 هـ.

معنى التسعير :
نذكر فيما يلي معنى التسعير، ثم نذكر المسائل الخمس، ثم الكلام المذكور:
معنى التسعير لغة واصطلاحا
أما معناه لغة : فقد قال فيه ابن منظور : التسعير الذي يقوم عليه الثمن، وجمعه أسعار، وقد أسعروا، وسعروا بمعنى واحد اتفقوا على سعر... والتسعير التقديم (1) .
وأما معناه اصطلاحا : فقد قال فيه الشوكاني : هو أن يأمر السلطان ونوابه- أو كل من ولي من أمور المسلمين أمرا- أهل السوق أدت أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا فيمنعوا من الزيادة عليه أو النقصان لمصلحة (2) .
__________
(1) [لسان العرب] (6\ 30).
(2) [نيل الأوطار] (3\ 233).

المسألة الأولى: أن يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه :
اختلف أهل العلم في ذلك:
فمنعه قوم، وجوزه آخرون. وفيه من قال بجوازه إذا تعدى أرباب الطعام، ومن أهل العلم من قال بجوازه عام الغلاء.
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذا الموضوع كلام عرض فيه حكم التسعير، إذا كان يتضمن العدل، وحكمه إذا كان يتضمن جورا، وذكر نظائر لهذه المسألة، ثم تكلم على مسألتين:

الأولى: إذا كان للناس سعر غالب فأراد بعضهم أن يبيع على من ذلك.
الثانية: هل يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب؟ وكذلك لابن القيم كلام في ذلك يتفق من حيث الجملة مع كلام شيخ الإسلام، ثم لسماحة مفتي الديار السعودية رحمه الله كتابة في الموضوع رأت اللجنة ذكر جميع ذلك، وبالله التوفيق.
أما المانعون : فبعض الحنفية، وقال به مالك ومن وافقه من أصحابه، وهو أحد الأقوال في مذهب الشافعية، وهو المقدم عند الحنابلة .
جاء في [بداية المبتدي]: ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس (1) .
وقال محمد بن الحسن الشيباني بعد سياقه لأثر عمر مع حاطب بن أبي بلتعة قال: وبهذا نأخذ، لا ينبغي أن يسعر على المسلمين، فيقال لهم: بيعوا كذا وكذا بكذا، أو يجبرون على ذلك، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا (2) .
وجاء في [المنتقى شرح الموطأ] بعد ذكره لصورة المسألة قال: فهذا منع منه مالك، وبه قال ابن عمر، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد (3) .
وجاء في [المهذب]: لا يحل للسلطان التسعير (4) .
__________
(1) [البداية] ومعها [الهداية] (4\ 93).
(2) [الموطأ] رواية محمد بن الحسن، ص 341\ طبعة هندية.
(3) [المنتقى شرح الموطأ] (5\ 18).
(4) [المهذب وشرحه] (13\ 29).

وقال عبد الرحمن بن قدامة : وهذا مذهب الشافعي (1) .
وقال الرملي : ويحرم على الإمام أو نائبه ولو قاضيا التسعير في قوت أو غيره. انتهى (2) .
وقال النووي : ومنها- أي: المناهي- التسعير، وهو حرام في كل وقت على الصحيح (3) .
وقال عبد الرحمن بن قدامة : وليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم بما يختارون (4) .
وقال في [لإنصاف]: يحرم التسعير، ويكره الشراء به على الصحيح من المذهب (5) .
وقال محمد بن الحسن الفراء : ولا يجوز أن يسعر على الناس بالأقوات ولا غيرها في رخص ولا غلاء. اهـ. (6) .
واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى:
أما السنة: فما رواه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى في [مسانيدهم] وأبو داود والترمذي وصححه، وابن ماجه في [سننهم] عن أنس رضي الله عنه قال: قال الناس: يا رسول الله، غلا السعر فسعر لنا، فقال: « إن الله هو
__________
(1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (4\ 51).
(2) [نهاية المحتاج] (3\ 273).
(3) [روضة الطالبين]ص 411، 412.
(4) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (4\ 51).
(5) [لإنصاف] (4\ 338).
(6) [نيل الأوطار] (5\ 232، 233) ويرجع أيضا إلي [الدارية في تخريج أحاديث الهداية](2\224 ، 225).

المسعر، القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحدكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال » (1) .
قال ابن حجر : وإسناده على شرط مسلم، وصححه أيضا ابن حبان، وفي الباب عن أبي هريرة عن أحمد وأبي دواد قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: « بل ادعو الله » ، ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: « بل الله يخفض ويرفع » (2) ، وقال الحافظ : وإسناده حسن، وعن أبي سعيد عن ابن ماجه والبزار والطبراني نحو حديث أنس، ورجاله رجال الصحيح وحسنه الحافظ، وعن علي رضي الله عنه عند البزار نحوه، وعن ابن عباس عند الطبراني في [الصغير]، وعن أبي جحيفة عنده في [الكبير]. انتهى.
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يسعر، وقد سألوه ذلك، ولو جاز لأجابهم إليه، وأنه علل ذلك بكونه مظلمة والظلم حرام، ذكره عبد الرحمن بن قدامة (3) ، وبسط الشوكاني هذا الوجه الثاني، فقال: الناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف ؛ لقوله تعالى: { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ } (4)
وقال الشوكاني أيضا: وظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين حالة الغلاء
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545).
(2) سنن أبو داود البيوع (3450),مسند أحمد بن حنبل (2/337).
(3) [الشرح الكبير] (4\ 51).
(4) سورة النساء الآية 29

وحالة الرخص، ولا فرق بين المجلوب وغيره، وإلى ذلك مال الجمهور... وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين ما كان قوتا للآدمي ولغيره من الحيوانات، وبين ما كان من غير ذلك من الإدامات وسائر الأمتعة (1) .
ويمكن أن يجيب المجيزون عن الاستدلال بهذه الأحاديث بوجهين:
الأول: يحتمل أن يكون هذا من تصرفاته صلى الله عليه وسلم بمقتضى الأمانة وأنه عليه الصلاة والسلام راعى المصلحة التي كانت تدعو إليها تلك الظروف، ويمكن أن يدفع ذلك بأن القاعدة العامة في الشريعة: أن النصوص عامة في التشريع من حيث الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وأنها وحي من الله عز وجل، وحملها على صورة معينة يكون بها الدليل خاصا بزمان ومكان وشخص وحال- خلاف الأصل، فيحتاج إلى دليل، وكذلك حمل الأحاديث على أنها من تصرفاته الاجتهادية عليه الصلاة والسلام.
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم : « إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال » (2) ، دليل صريح على أن علة ما قرره في أمر التسعير هو: مراعاة أن لا يظلم أحدا من الناس، سواء كان بائعا أو مشتريا، وهو يكون بالمحافظة على ميزان العدالة بينهم، وذلك كما يكون بحماية البائع من إلزام المشتري إياه بسعر دون الذي يريد، كذلك يكون بحماية المشتري من إلزام البائع إياه بالغبن الفاحش واستغلال ضرورته لإيقاع المظلمة به، ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم لو رأى من الباعة ميلا إلى هذا الظلم لأخذ على أيديهم وألزمهم بحد لا يتجاوزونه، وذلك بمقتضى قوله: « إني لأرجو أن ألقى الله
__________
(1) [نيل الأوطار] (5\ 233)، ويرجع إلى [فتح العلام] (2\ 20).
(2) سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545).

وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال » (1) وبمقتضي حديث. « لا ضرر ولا ضرار » (2) .
وأما المعنى: فإنه مال فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى عليه المتبايعان، كما لو اتفق الجماعة عليه، والظاهر أنه سبب الغلاء؛ لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعتهم على بلد يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون، ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها ويكتمها، ويطلبها المحتاج ولا يجدها إلا قليلا فيرفع عنها ليحصلها فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين ؛ جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه، فيكون حراما. انتهى. ذكر ذلك ابن قدامة (3) .
القول الثاني: أنه يجوز التسعير، وهذا القول رواه أشهب عن مالك . قال الباجي : وروى أشهب عن مالك في [العتبية] في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن ثلث رطل، ولحم الإبل نصف رطل وإلا أخرجوا من السوق، قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق (4)
ووجه هذا القول: ما يجب النظر في مصالح العامة والمنع من إغلاء السعر عليهم والإفساد عليهم، وليس يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545).
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2340),مسند أحمد بن حنبل (5/327).
(3) [الشرح الكبير] (4\ 51).
(4) [المنتقى شرح الموطأ] (5\18).

للباع والمبتاع، ولا يمنع البائع ربحا، ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس . انتهى (1) .
القول الثالث: أنه يجوز إذا تعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا، وبهذا قال بعض الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم، جاء في [كنز الدقائق] وشرحه [تبيين الحقائق]: ولا يسعر السلطان إلا أن يتعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديا فاحشا. انتهى (2) .
وفي [إتحاف ذوي الأبصار والبصائر بتبويب كتاب الأشباه والنظائر]: وقال في [التنبيه]: يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وعليه فروع: منها التسعير عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش (3) ، وجاء في توجيه ذلك، أن الثمن حق البائع فكان إليه تقديره فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يتحكمون على المسلمين ويتعدون تعديا فاحشا، وعجز السلطان عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فلا بأس به بمشورة أهل الرأي والنظر (4) . انتهى.
ويمكن أن يستدل لذلك أيضا: بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الاحتكار، وعلة النهي ظلم الناس بمنعهم عن الوصول إلى ما يحتاجونه من أقوات وشبهها، وهي علة منصوصة في هذا الباب، فيقاس التسعير على الاحتكار بجامع هذه العلة وهي رفع الأسعار دون موجب.
__________
(1) [المنتقى شرح الموطأ] (5\ 18).
(2) [كنز الدقائق وشرحه] (1\ 28) ويرجع إلى [ الدر المنتقى] (2\ 48).
(3) [الإتحاف] ص 466
(4) [كنز الدقائق] وشرحه [تبيين الحقائق] (6\ 28)

القول الرابع: أنه يجوز في وقت الغلاء دون الرخص، وهذا قول في مذهب مالك والشافعي، جاء في [الدر المنتقى شرح الملتقى]: وقال مالك : على الوالي التسعير عام الغلاء (1) .
وقال النووي : والثاني يجوز في وقت الغلاء دون الرخص (2) .
__________
(1) [الدر المنتقى] (2\ 548).
(2) [الدر المنتقى] (2\ 548).

المسألة الثانية : من أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كالناس؟
في المسألة خلاف: فقوم قالوا: إنه يلزم بأن يبيع كالناس، وآخرون قالوا: إنه لا يلزم، وممن قال بأنه يلزم مالك، ووجه في مذهب أحمد، قال الباجي تحت ترجمة: الباب الأول في تبيين السعر الذي يؤمر من حط عنه أن يلحق به، قال: أي: يختص به في ذلك من السعر هو الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد عنهم الواحد أو العدد بحط السعر أو من حطه باللحاق بسعر الناس أو ترك البيع.
مسألة: فإن زاد في السعر أو عدد يسير لم يؤمر الجمهور باللحاق بسعره أو الامتناع من البيع؛ لأن من باع به من الزيادة ليس بالسعر المتفق عليه ولا بما تقام به المبيعات، وإنما يراعى في ذلك حال الجمهور ومعظم الناس، وفي [المدونة] من رواية ابن القاسم عن مالك : لا يقام لخمسة، قال القاضي أبو الوليد : وعندي أنه يجب النظر في ذلك إلى قدر الأسواق (1) .
__________
(1) [المنتقى] (5\ 17).

وقال ابن العربي : وإذا كان السعر فأراد أحد أن يزيد فإن كان جالبا فله أن يبيع كيف شاء، وإن كان بلديا قيل له : بع بسعر الناس أو تخرج من السوق، وكان الخليفة ببغداد إذا غلا السعر أمر بفتح مخازنه، وأن يباع بأقل مما يبيع الناس حتى يرجع الناس إلى ما رسم من الثمن، ثم يأمر أيضا أن يباع بأقل من ذلك حتى يرجع السعر إلى أوله أو إلى القدر الذي يصلح بالناس ويغلب الجالبين والمحتكرين بهذا الفعل، وكان ذلك من حسن نظره (1) .
وقال عبد الرحمن بن قدامة : وكان مالك يقول لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس: بع كالناس وإلا فاخرج عنا (2) ، وقال في [الإنصاف]: وفي وجه لا يحرم (3) ، وقال أيضا: وأوجب الشيخ تقي الدين إلزامهم المعاوضة بمثل الثمن، وقال: لا نزاع فيه؛ لأنها مصلحة عامة لحق الله تعالى (4) .
واستدل لهذا القول: بما روى الشافعي وسعيد بن منصور عن داود بن صالح الثمار عن القاسم بن محمد عن عمر رضي الله عنه: أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له مدين بكل درهم، فقال له عمر : قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك كيف شئت.
__________
(1) [الأبي على مسلم] (4\ 304).
(2) [المغني] ومعه [ الشرح الكبير] (4\ 51).
(3) [الإنصاف] (4\ 338).
(4) [الإنصاف] (4\ 338).

ويجاب عن هذا بثلاثة أجوبة :
الأول : أن هذا اجتهاد من عمر رضي الله عنه في مقابل نص ، وهو ما يدل على امتناعه صلى الله عليه وسلم عن التسعير ولا اجتهاد مع النص .
الثاني : أن عمر رضي الله عنه رجع عن قوله هذا .
قال ابن قدامة : فأما حديث عمر فقد روى فيه سعيد والشافعي : أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال : إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء ، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد ، فحيث شئت فبع كيف شئت ، وهذا رجوع إلى ما قلنا (1) ، أي : القول بعدم التسعير .
الثالث : أن هذا السند عن عمر ضعيف ؛ لانقطاعه ، فإن القاسم لم يدرك عمر رضي الله عنه .
واستدل لذلك من جهة المعنى : بأن في ذلك إضرارا إذا زاد وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع .
وأجاب ابن قدامة عن ذلك فقال : وما ذكره من الضرر موجود فيما إذا باع في بيته ولا يمنع منه (2) .
القول الثاني : أنه لا يلزم بأن يبيع كالناس ، وهذا هو المقدم عند الحنابلة ، قال في [ الإنصاف ] : ويحرم قوله : بع كالناس على الصحيح من المذاهب (3) ، وقال أيضا : وكره الإمام أحمد البيع والشراء من مكان ألزم
__________
(1) [ المغني والشرح الكبير ] ، ( 4 \ 45 ) .
(2) [ المغني والشرح الكبير ] ، ( 4 \ 45 ) .
(3) [ الإنصاف ] ، ( 4 \ 338 ) .

الناس بهما فيه ، لا الشراء ممن اشترى منه (1) .
ويستدل لذلك بالأدلة الدالة على منع التسعير ، وقد سبقت مع مناقشتها .
__________
(1) [ الإنصاف ] ، ( 4 \ 338 ) .

المسألة الثالثة : في بيان من يختص به ذلك من البائعين القائلين بالتسعير :
سبق الخلاف في التسعير ، وهذه المسألة مبنية على قول القائلين بالتسعير ، وقد بسط الكلام عليها الباجي رحمه الله ، فقال : لا خلاف في أن ذلك حكم أهل السوق والباعة ، وأما الجالب ففي كتاب محمد : لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع الناس ، وقال ابن حبيب : لا يبيعون ما عدا القمح والشعير إلا بمثل سعر الناس ، وإلا رفعوا كأهل الأسواق ، وجه ما في كتاب محمد : أن الجالب يسامح ويستدام أمره ليكثر ما يجلبه ، مع أن ما يجلب ليس من أقوات البلد ، وهو يدخل الرفق عليهم بما يجلب ، فربما أدى التحجير عليه إلى قطع الميرة ، والبائع بالبلد إنما يبيع أقواتهم المختصة بهم ولا يقدر على العدول بها عنهم في الأغلب ؛ ولهذا فرقنا بينهما في الحكرة وقت الضرورة ، ووجه ما قاله ابن حبيب : أن هذا بائع في السوق فلم يكن له أن يحط عن سعره ؛ لأن ذلك مفسد لسعر الناس كأهل البلد ، قال : فأما جالب القمح والشعير ، فقال ابن حبيب : يبيع كيف شاء إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق ، وإن أرخص بعضهم تركوا إن قل من حط السعر ، وإن كثر المرخصون قيل لمن بقي : إما أن تبيع كبيعهم

وإما أن ترفع .
مسألة : إذا ثبت ذلك فإن كان البائع للطعام من أهل السوق هل يمنع من بيعه في داره بسعر السوق ؟
وقال ابن حبيب : وينبغي في الطعام أن يخرج إلى السوق ، كما جاء الحديث .
ووجه ذلك : أن بيعه في الدور إعزاز له وسبب إلى غلائه ، وتطرق لبيع البائع كيف شاء بدون سعر أهل السوق إذا لم يعرف له ذلك في السوق ، فإن كان جالبا فليبعه في السوق أو في الدار إن شاء على يده (1) .
__________
(1) [ الدر المنتقى ] ، ( 5 \ 18 ) .

المسألة الرابعة : بيان ما يدخله التسعير من المبيعات وهل يجوز تحديد أجور العقارات ؟
اختلف في تحديد ذلك :
فالحنفية : يقولون بالتعميم في كل ما أضر بالعامة .
والمالكية : يخصونه بالمكيل والموزون .
ويرى الشافعية : أنه في الأقوات خاصة ، سواء كانت للآدميين أو للبهائم .
القول الأول : أن التسعير يجري في كل ما أضر بالعامة :
جاء في [ الدر المنتقى شرح الملتقى ] بعد كلام سبق : إلا إذا تعدى أرباب الطعام وغيره في القيمة للقوتين ، ومضى إلى أن قال : وأفاد أن التسعير في القوتين فقط لا غير ، وبه صرح العتابي والحسامي وغيرهما ،

لكنه إذا تعدى أرباب غير القوتين وظلموا على العادة فيسعر عليهم الحاكم ، بناء على ما قال أبو يوسف : ينبغي أن يجوز ، ذكره القسهتاني ، قلت : وقد قدمنا أن أبا يوسف يعتبر حقيقة الضرر فتدبر (1) ، وجاء أيضا في [ رد المختار ] على قوله : ( في القوتين ) أي : قوت البشر وقوت البهائم ؛ لأنه ذكر التسعير في بحث الاحتكار تأمل ، وقال أيضا بناء على قوله : بناء على ما قال أبو يوسف ( أي : من أن كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار ولو ذهبا أو فضة أو ثوبا ) قال : ( ط ) وفيه : أن هذا في الاحتكار لا في التسعير . اهـ . قلت : نعم ، ولكنه يؤخذ منه قياسا واستنباطا بطريق المفهوم ؛ ولذا قال بناء على ما قال أبو يوسف ، ولم يجعله قوله . تأمله على أن ما تقدم : أن الإمام يرى الحجر إذا عم الضرر ، كما في المغني الماجن ، والمكاري المفلس ، والطبيب الجاهل ، وهذه قضية عامة فتدخل مسألتنا فيها ؛ لأن التسعير حجر معنى ؛ لأنه منع عن البيع بزيادة فاحشة ، وعليه فلا يكون مبنيا على قول أبي يوسف فقط ، كذا ظهر لي فتأمل (2) .
القول الثاني : أنه خاص بالمكيل والموزون :
وبه قال المالكية :
قال الباجي : قال ابن حبيب : إن ذلك في المكيل والموزون مأكولا كان أو غير مأكول ، دون غيره من المبيعات التي لا تكال ولا توزن .
ووجه ذلك : أن المكيل والموزون مما يرجع فيه إلى المثل ؛ فلذلك
__________
(1) الدر المنتقى ، ( 2 \ 548 ) .
(2) [ رد المختار ] ( 5 \ 265 ) .

وجب أن يحمل الناس فيه على سعر واحد ، وغير المكيل والموزون لا يرجع فيه إلى المثل ، وإنما يرجع فيه إلى القيمة ويكثر اختلاف الأغراض في أعيانه ، فلما لم يكن متماثلا لم يصح أن يحمل الناس فيه على سعر واحد ، وهذا إذا كان المكيل والموزون متساويين في الجودة ، فإذا اختلف صنفه لم يؤمر من باع الجيد أن يبيع بمثل سعر ما هو أدون ؛ لأن الجودة لها حصة من الثمن كالمقدار .
القول الثالث : أنه خاص بالأقوات :
قال النووي : وحيث جوز التسعير فذلك في الأطعمة ، ويلحق بها علف الدواب . ذكر ذلك في [ الروضة ] ، (1) .
تحديد أجور العقارات
يتضح من كلام الحنفية جوازه عند الحاجة إليه إذا رأى ولي الأمر ذلك ؛ لأنهم عمموا التسعير بالأطعمة وغيرها مما يدفع الضرر عن المسلمين . وأما عند من يخص التسعير بالأقوات أو بالمكيل والموزون فإنه يلزم على قوله : تحريم تسعير أجور العقارات ، من البيوت وغيرها ، وسيأتي التصريح بحكم ذلك فيما كتبه سماحة الشيخ \ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله .
وفيما يلي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، ثم كلام ابن القيم ، ثم كتابة سماحة المفتي رحمه الله .
__________
(1) [ روضة الطالبين ] ( 3 \ 411 ) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
ومثل ذلك : الاحتكار لما يحتاج الناس إليه ، روى مسلم في [ صحيحه ] ، عن معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحتكر إلا خاطئ » (1) فإن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه ويريد إغلاءه عليهم ، وهو ظالم للخلق المشترين ؛ ولهذا كان لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه ، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة ، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل ، ولهذا قال الفقهاء : من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله ، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره .
ومن هنا يتبين : أن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز ، ومنه ما هو عدل جائز ، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه ، أو منعهم مما أباحه الله لهم - فهو حرام ، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل : إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز ، بل واجب .
فأما الأول : فمثل ما روى أنس قال : « غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، لو سعرت ؟ فقال : إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر ، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال » (2) رواه أبو داود والترمذي وصححه .
فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر ؛ إما لقلة الشيء ، وإما لكثرة الخلق ، فهذا إلى الله ، فإلزام
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1605),سنن الترمذي البيوع (1267),سنن أبو داود البيوع (3447),سنن ابن ماجه التجارات (2154),مسند أحمد بن حنبل (6/400),سنن الدارمي البيوع (2543).
(2) سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545).

الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق .
وأما الثاني : فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة ، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل ، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به ، وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون ، لا تباع تلك السلع إلا لهم ، ثم يبيعونها هم ، فلو باع غيرهم ذلك منع ، إما ظلما لوظيفة تؤخذ من البائع ، أو غير ظلم ؛ لما في ذلك من الفساد ، فهاهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل ، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء ؛ لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه ، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا - كان ذلك ظلما للخلق من وجهين : ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال ، وظلما للمشترين منهم ، والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه ، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع ، وحقيقته : إلزامهم أن يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل .
وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة ، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق : يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع ، مثل : بيع المال لقضاء الدين الواجب ، والنفقة الواجبة ، والإكراه على أن لا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق ، ويجوز في مواضع مثل : المضطر إلى طعام الغير ، ومثل : الغراس ، والبناء الذي في ملك الغير ، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر ، ونظائره كثيرة .

وكذلك السراية في العتق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ، لا وكس ولا شطط ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق منه ما عتق » (1) .
وكذلك من وجب عليه شراء شيء للعبادات ؛ كآلة الحج ، ورقبة العتق وماء الطهارة ، فعليه أن يشتريه بقيمة المثل ، ليس له أن يمتنع عن الشراء إلا بما يختار ، وكذلك فيما يجب عليه من طعام أو كسوة لمن عليه نفقته إذا وجد الطعام أو اللباس الذي يصلح له في العرف بثمن المثل ، لم يكن له أن ينتقل إلى ما هو دونه حتى يبذل له ذلك بثمن يختاره ، ونظائره كثيرة ؛ ولهذا منع غير واحد من العلماء - كأبي حنيفة وأصحابه - القسام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر ، فمنع البائعين الذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى ، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن لا يشتركوا ، فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضا ، فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل المعروف ، ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف ، وينمو ما يشترونه - كان هذا أعظم عدوانا من تلقي السلع ، ومن بيع الحاضر للبادي ، ومن النجش ، ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل ، والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه ، وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس - فإنه يجب أن لا يباع إلا بثمن المثل ، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة ، ومن ذلك
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2386),صحيح مسلم العتق (1501),سنن الترمذي الأحكام (1346),سنن ابن ماجه الأحكام (2528),مسند أحمد بن حنبل (1/57),موطأ مالك العتق والولاء (1504).

أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس ، مثل : حاجة الناس الفلاحة والنساجة والبناية - فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه وثياب يلبسونها ومساكن يسكنونها ، فإذا لم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم ، كما كان يجلب إلى الحجاز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت الثياب تجلب إليهم من اليمن ومصر والشام وأهلها كفار ، وكانوا يلبسون ما نسجه الكفار ولا يغسلونه ، فإذا لم يجلب إلى ناس البلد ما يكفيهم احتاجوا إلى من ينسج لهم الثياب ، ولا بد لهم من طعام ؛ إما مجلوب من غير بلدهم ، وإما من زرع بلدهم ، وهذا هو الغالب ، وكذلك لا بد لهم من مساكن يسكنونها ، فيحتاجون إلى البناء ؛ فلهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم ؛ كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم : إن هذه الصناعات فرض على الكفاية ، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها كما أن الجهاد فرض على الكفاية ، إلا أن يتعين فيكون فرضا على الأعيان ، مثل : أن يقصد العدو بلدا ، أو مثل : أن يستنفر الإمام أحدا ، وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين ، مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه عنه ، فإن هذا فرض على الأعيان كما أخرجاه في [ الصحيحين ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين » (1) وكل من أراد الله به خيرا لا بد أن يفقهه في الدين ، فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرا ، والدين ما بعث الله به رسوله ، وهو ما يجب على المرء التصديق به والعمل به ، وعلى كل أحد أن يصدق محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به ، ويطيعه فيما أمر تصديقا عاما ، وطاعة عامة ، ثم إذا ثبت عنه خبر ، كان عليه أن يصدق به مفصلا ، وإذا كان مأمورا من جهة بأمر معين
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71),صحيح مسلم الإمارة (1037),سنن ابن ماجه المقدمة (221),مسند أحمد بن حنبل (4/93),موطأ مالك الجامع (1667),سنن الدارمي المقدمة (226).

كان عليه أن يطيعه مفصلة ، وكذلك غسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم ، فرض على الكفاية ، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية ، والولايات كلها : الدينية ، مثل : إمرة المؤمنين وما دونها من ملك ، ووزارة ، وديوانية ، سواء كانت كتابة خطاب ، أو كتابة حساب لمستخرج أو مصروف في أرزاق المقاتلة أو غيرهم ، ومثل إمارة حرب ، وقضاء وحسبة ، وفروع هذه الولايات ، إنما شرعت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته النبوية ، يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور ، ويولي في الأماكن البعيدة عنه ، كما ولى على مكة عتاب بن أسيد ، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص ، وعلى قرى عرينة خالد بن سعيد بن العاص ، وبعث عليا ومعاذا وأبا موسى إلى اليمن ، وكذلك كان يؤمر على السرايا ، ويبعث على الأموال الزكوية السعاة ، فيأخذونها ممن هي عليه ، ويدفعونها إلى مستحقيها الذين سماهم الله في القرآن ، فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا السوط ، لا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا وجد لها موضعا يضعها فيه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال ، يحاسبهم على المستخرج والمصروف ، كما في [ الصحيحين ] ، عن أبي حميد الساعي : أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد يقال له : ابن اللتبية على الصدقات ، فلما حاسبه ، فقال : هذا لكم ، وهذا أهدي إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي ؟! أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ، والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته . إن كان بعيرا له

رغاء ، وإن كانت بقرة لها خوار ، وإن كانت شاة تيعر ، ثم رفع يديه إلى السماء وقال : اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ » (1) قالها مرتين أو ثلاثا .
والمقصود هنا : أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه ، لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها ، فإن كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل ، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل ، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم ، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم ، فإن الجند يلزمون بأن لا يظلموا الفلاح ، كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند ، والمزارعة جائزة في أصح قولي العلماء ، وهي عمل المسلمين على عهد نبيهم وعهد خلفائه الراشدين ، وعليها عمل آل أبي بكر وآل عمر وآل عثمان وآل علي وغيرهم من بيوت المهاجرين ، وهي قول أكابر الصحابة ، كابن مسعود ، وهي مذهب فقهاء الحديث ؛ كأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن خزيمة ، وأبي بكر بن المنذر وغيرهم ، ومذهب الليث بن سعد ، وابن أبي ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن وغيرهم من فقهاء المسلمين ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات ، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر من خيبر ، وكان قد شارطهم أن يعمروها من أموالهم ، وكان البذر منهم لا من النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن البذر يجوز أن يكون من العامل ، بل طائفة من الصحابة قالوا لا يكون البذر إلا من العامل .
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6260),صحيح مسلم الإمارة (1832),سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2946),مسند أحمد بن حنبل (5/424),سنن الدارمي الزكاة (1669).

والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المخابرة وكراء الأرض قد جاء مفسرا بأنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة ، ومثل هذا الشرط باطل بالنص وإجماع العلماء ، وهو كما لو شرط في المضاربة لرب المال دراهم معينة ، فإن هذا لا يجوز بالاتفاق ؛ لأن المعاملة مبناها على العدل ، وهذه المعاملات من جنس المشاركات ، والمشاركة إنما تكون إذا كان لكل من الشريكين جزء شائع كالثلث والنصف ، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر لم يكن ذلك عدلا ، بل كان ظلما ، وقد ظن طائفة من العلماء أن هذه المشاركات من باب الإجارات بعوض مجهول ، فقالوا : القياس يقتضي تحريمها ، ثم منهم من حرم المساقاة والمزارعة وأباح المضاربة استحبابا للحاجة ؛ لأن الدراهم لا يمكن إجارتها ، كما يقول أبو حنيفة ، ومنهم من أباح المساقاة ، إما مطلقا كقول مالك والقديم للشافعي ، أو على النخل والعنب كالجديد للشافعي ، لأن الشجر لا يمكن إجارتها بخلاف الأرض ، وأباحوا إليه من المزارعة تبعا للمساقاة ، فأباحوا المزارعة تبعا للمساقاة ، كقول الشافعي : إذا كانت الأرض أغلب ، أو قدروا ذلك بالثلث كقول مالك ، وأما جمهور السلف وفقهاء الأمصار فقالوا : هذا من باب المشاركة لا من باب الإجارة التي يقصد فيها العمل ، فإن مقصود كل منهما ما يحصل من الثمر والزرع ، وهما متشاركان هذا ببدنه ، وهذا بماله ، كالمضاربة ؛ ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء : أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب نصيب المثل لا أجرة المثل ، فيجب من الربح أو النماء إما ثلثه وإما نصفه ، كما جرت العادة في مثل ذلك ، ولا يجب أجرة مقدرة ، فإن ذلك قد يستغرق المال وأضعافه ، وإنما يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب

في الصحيح ، والواجب في الصحيح ليس هو أجرة مسماة ، بل جزء شائع من الربح مسمى فيجب في الفاسد نظير ذلك ، والمزارعة أصل من المؤاجرة ، وأقرب إلى العدل والأصول ، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم ، بخلاف المؤاجرة ، فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة والمستأجر قد يحصل له زرع وقد لا يحصل ، والعلماء مختلفون في جواز هذا وجواز هذا : والصحيح : جوازهما ، وسواء كانت الأرض مقطعة أو لم تكن مقطعة ، وما علمت أحدا من علماء المسلمين - لا أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم - قال : إن إجارة الإقطاع لا تجوز ، وما زال المسلمون يؤجرون الأرض المقطعة من زمن الصحابة إلى زمننا هذا ، ولكن بعض أهل زماننا ابتدعوا هذا القول ، قالوا : لأن المقطع لا يملك المنفعة ، فيصير كالمستعير إذا أكرى الأرض المستعارة ، وهذا القياس خطأ لوجهين :
أحدهما : أن المستعير لم تكن المنفعة حقا له ، وإنما تبرع له المعير بها ، وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين ، وولي الأمر قاسم يقسم بينهم حقوقهم ليس متبرعا لهم كالمعير ، والمقطع يستوفي المنفعة بحكم الاستحقاق ، كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف وأولى ، وإذا جاز للموقوف عليه أن يؤجر الوقف وإن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على أصح قولي العلماء ، فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أو غير ذلك بطريق الأولى والأحرى .
الثاني : أن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة ، مثل الإجارة في الإقطاع ، وولي الأمر يأذن للمقطعين في الإجارة ، وإنما أقطعهم لينتفعوا بها ؛ إما بالمزارعة ، وإما بالإجارة ، ومن حرم الانتفاع بها بالمؤاجرة

والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم ، فإن المساكن كالحوانيت والدور ونحو ذلك لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة ، وأما المزارع والبساتين فينتفع بها بالإجارة وبالمزارعة والمساقاة في الأمر العام ، والمرابعة نوع من المزارعة ، ولا تخرج عن ذلك إلا إذا استكرى بإجارة مقدرة من يعمل له فيها ، وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس ، لأنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء ، بخلاف المشاركة فإنهما يشتركان في المنفعة والمغرم ، فهو أقرب إلى العدل ؛ فلهذا تختاره الفطر السليمة ، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر .
والمقصود هنا : أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما تحتاج إليه الناس من صناعاتهم - كالفلاحة والحياكة والبناية - فإنه يقدر أجرة المثل ، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك ، ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل ، وهذا من التسعير الواجب ، وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك - فيستعمل بأجرة المثل ، لا يمكن المستعملون من ظلمهم ، ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم مع الحاجة إليهم ، فهذا تسعير في الأعمال ، وأما في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل ، ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون ، والإمام لو عين أهل الجهاد للجهاد تعين عليهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « وإذا استنفرتم فانفروا » (1) أخرجاه في [ الصحيحين ] ، وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال : « على المرء المسلم السمع والطاعة ، في عسره ويسره ،
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1737),صحيح مسلم الحج (1353),سنن الترمذي السير (1590),سنن أبو داود الجهاد (2480),سنن ابن ماجه الجهاد (2773),مسند أحمد بن حنبل (1/316).

ومنشطه ومكرهه ، وأثرة عليه » (1) .
فإذا وجب عليه أن يجاهد بنفسه وماله ، فكيف لا يجب عليه أن يبيع ما يحتاج إليه في الجهاد بعوض المثل ؟! والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن ، وقد قال الله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » (3) أخرجاه في [ الصحيحين ] ، فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال ، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن ، ومن أوجب على المعضوب أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه ، وأوجب الحج على المستطيع بماله فقوله ظاهر التناقض ، ومن ذلك : إذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت ، كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ، ولا من يبيع طحينا ولا خبزا ، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم ، فلم يكونوا يحتاجون إلى التسعير ، وكان من قدم بالحب باعه فيشتريه الناس من الجالبين ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الجالب مرزوق ، والمحتكر ملعون » (4) ، وقال : « لا يحتكر إلا خاطئ » (5) رواه مسلم في [ صحيحه ] ، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أنه نهى عن قفيز الطحان » فحديث ضعيف ، بل باطل ، فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز ؛ لعدم حاجتهم إلى ذلك ،
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (6647),سنن النسائي البيعة (4154),سنن ابن ماجه الجهاد (2866),مسند أحمد بن حنبل (5/325),موطأ مالك الجهاد (977).
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6858),صحيح مسلم الحج (1337),سنن النسائي مناسك الحج (2619),سنن ابن ماجه المقدمة (2),مسند أحمد بن حنبل (2/508).
(4) سنن ابن ماجه التجارات (2153),سنن الدارمي البيوع (2544).
(5) صحيح مسلم المساقاة (1605),سنن الترمذي البيوع (1267),سنن أبو داود البيوع (3447),سنن ابن ماجه التجارات (2154),مسند أحمد بن حنبل (6/400),سنن الدارمي البيوع (2543).

كما أن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفارا ؛ لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد .
ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحة ؛ لعجز الصحابة عن فلاحتها ؛ لأن ذلك يحتاج إلى سكناها ، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة ، وكانوا نحو ألف وأربعمائة ، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر ، فهؤلاء هم الذين قسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم أرض خيبر ، فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم ، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : « نقركم فيها ما شئنا » (1) - وفي رواية - « ما أقركم الله » (2) وأمر بإجلائهم منها عند موته صلى الله عليه وسلم فقال : « أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب » (3) .
ولهذا ذهب طائفة من العلماء - كمحمد بن جرير الطبري - إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم ، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر ، وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه .
والمقصود هنا : أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين فهذا على وجهين :
أحدهما : أن يحتاجوا إلى صناعتهم ، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت ، فهؤلاء يستحقون الأجرة ، وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصناع .
__________
(1) صحيح البخاري المزارعة (2213).
(2) صحيح البخاري الشروط (2580).
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/195),سنن الدارمي السير (2498).

والثاني : أن يحتاجوا إلى الصنعة والبيع ، فيحتاجوا إلى من يشتري الحنطة ويطحنها ، وإلى من يخبزها ويبيعها خبزا ؛ لحاجة الناس إلى شراء الخبز من الأسواق ، فهؤلاء لو مكنوا أن يشتروا حنطة النار المجلوبة ويبيعوا الدقيق والخبز بما شاءوا مع حاجة الناس إلى تلك الحنطة لكان ذلك ضررا عظيما ، فإن هؤلاء تجار تجب عليهم زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين ، كما يجب على كل من اشترى شيئا يقصد أن يبيعه بربح ، سواء عمل فيه عملا أو لم يعمل ، وسواء اشترى طعاما أو ثيابا أو حيوانا ، وسواء كان مسافرا ينقل ذلك من بلد إلى بلد ، أو كان متربعا به يحبسه إلى وقت النفاق ، أو كان مديرا يبيع دائما ويشتري كأهل الحوانيت ، فهؤلاء كلهم تجب عليهم زكاة التجار ، وإذا وجب عليهم أن يصنعوا الدقيق والخبز لحاجة الناس إلى ذلك ألزموا كما تقدم ، أو دخلوا طوعا فيما يحتاج إليه الناس من غير إلزام لواحد منهم بعينه ، فعلى التقديرين يسعر عليهم الدقيق والحنطة فلا يبيعوا الحنطة والدقيق إلا بثمن المثل بحيث يربحون الربح المعروف من غير إضرار بهم ولا بالناس .

وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين :
المسألة الأولى : إذا كان للناس سعر غال فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك - فإنه يمنع منه في السوق في مذهب مالك ، وهل يمنع النقصان ؟ على قولين لهم .
وأما الشافعي وأصحاب أحمد ؛ كأبي حفص العكبري ، والقاضي أبي يعلى ، والشريف أبي جعفر ، وأبي الخطاب ، وابن عقيل وغيرهم فمنعوا من ذلك ، واحتج مالك بما رواه في [ موطئه ] ، عن يونس بن يوسف عن

سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له بالسوق ، فقال له عمر : ( إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع من سوقنا ) وأجاب الشافعي وموافقوه بما رواه فقال : حدثنا الدراوردي ، عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد ، عن عمر : أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب ، فسأل عن سعرهما ؟ فسعر له مدين لكل درهم ، فقال له عمر : قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك . فإما أن ترفع السعر ، وأما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت ، فلما رجع عمر حاسب نفسه . ثم أتى حاطبا في داره فقال : إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء ، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد ، فحيث شئت فبع ، وكيف شئت فبع .
قال الشافعي : هذا الحديث مقتضاه ليس بخلاف ما رواه مالك ، ولكنه روى بعض الحديث أو رواه عنه من رواه ، وهذا أتى بأول الحديث وآخره ، وبه أقول ، لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم ، إلا في المواضع التي تلزمهم ، وهذا ليس منها ، قلت : وعلى قول مالك قال أبو الوليد الباجي : الذي يؤمر من حط عنه أن يلحق به هو السعر الذي عليه جمهور الناس ، فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر أمروا باللحاق بسعر الجمهور ؛ لأن المراعى حال الجمهور ، وبه تقوم المبيعات .
وروى ابن القاسم عن مالك لا يقام الناس لخمسة . قال : وعندي أنه يجب أن ينظر في ذلك إلى قدر الأسواق ، وهل يقام من زاد في السوق - أي : في قدر المبيع - بالدرهم مثلا كما يقام من نقص منه ؟ قال أبو

الحسن بن القصار المالكي : اختلف أصحابنا في قول مالك لكن من حط سعرا فقال البغداديون : أراد من باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية ، وقال قوم من المصريين : أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة . قال : وعندي أن الأمرين جميعا ممنوعان ؛ لأن من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة أفسد على أهل السوق بيعهم ، فربما أدى إلى الشغب والخصومة ففي منع الجميع مصلحة ، قال أبو الوليد : ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق .
وأما الجالب ففي كتاب محمد : لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون الناس ، وقال ابن حبيب : ما عدا القمح والشعير إلا بسعر الناس وإلا رفعوا ، قال : وأما جالب القمح والشعير فيبيع كيف شاء إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق ، إن أرخص بعضهم تركوا ، وإن كثر المرخص قيل لمن بقي : إما أن تبيعوا كبيعهم ، وإما أن ترفعوا ، قال ابن حبيب : وهذا في المكيل والموزون مأكولا أو غير مأكول ، دون ما لا يكال ولا يوزن ، لأن غيره لا يمكن تسعيره ؛ لعدم التماثل فيه . قال أبو الوليد : يريد إذا كان المكيل والموزون متساويا ، فإذا اختلف لم يؤمر بائع الجيد أن يبيعه بسعر الدون .
قلت : والمسألة الثانية التي تنازع فيها العلماء في التسعير : أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيام الناس بالواجب فهذا منع منه جمهور العلماء . حتى مالك نفسه في المشهور عنه ، ونقل المنع أيضا عن ابن عمر ولسالم والقاسم بن محمد ، وذكر أبو الوليد عن سعيد بن المسيب وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وعن يحيى بن سعيد أنهم أرخصوا فيه ، ولم

يذكر ألفاظهم ، وروى أشهب عن مالك ، وصاحب السوق يسعر على الجزارين ، لحم الضأن ثلث رطل ، ولحم الإبل نصف رطل ، وإلا خرجوا من السوق . قال : إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به ، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق .
واحتج أصحاب هذا القول : بأن هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم ولا فساد عليهم قالوا : ولا يجبر الناس على البيع ، وإنما يمنعوا من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري ، ولا يمنع البائع ربحا ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس .
وأما الجمهور : فاحتجوا بما تقدم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه أيضا أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أنه قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله ، سعر لنا ، فقال : بل أدعو الله ، ثم جاء رجل فقال : يا رسول الله ، سعر لنا ، فقال : بل الله يرفع ويخفض ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة » (1) .
قالوا : ولأن إجبار الناس على بيع لا يجب أو منعهم مما يباح شرعا : ظلم لهم ، والظلم حرام .
وأما صفة ذلك عند من جوزه : فقال ابن حبيب : ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم ، فيسألهم : كيف يشترون ؛ وكيف يبيعون ؛ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا ، ولا يجبرون على التسعير ، ولكن عن رضا . قال : وعلى هذا أجازه من أجازه .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3450),مسند أحمد بن حنبل (2/337).

قال أبو الوليد : ووجه ذلك أنه بهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين ، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ، ولا يكون فيه إجحاف بالناس وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس .
قلت : فهذا الذي تنازع فيه العلماء ، وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب ، ويعاقبون على تركه ، وكذلك من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع أن يبيع إلا بأكثر منه ، فهنا يؤمر بما يجب عليه ، ويعاقب على تركه بلا ريب .
ومن منع التسعير مطلقا محتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله هو المسعر القابض الباسط ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال » (1) فقد غلط ، فإن هذه قضية معينة ليست لفظا عاما ، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه ، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل ، ومعلوم أن الشيء إذا رغب الناس في المزايدة فيه ، فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة ، ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم ، والمدينة كما ذكرنا إنما كان الطعام الذي يباع فيها غالبا من الجلب ، وقد يباع فيها شيء يزرع فيها ، وإنما كان يزرع فيها الشعير ، فلم يكن البائعون ولا المشترون ناسا معينين ، ولم يكن هناك أحد يحتاج الناس إلى عينه أو إلى ماله ليجبر على عمل أو على بيع ، بل المسلمون كلهم من جنس واحد ، كلهم يجاهد في سبيل الله ، ولم يكن من المسلمين البالغين القادرين على الجهاد إلا من يخرج في الغزو ، وكل منهم يغزو بنفسه وماله ، أو بما يعطاه من الصدقات أو الفيء ، أو ما يجهزه به غيره ، وكان
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/286),سنن الدارمي البيوع (2545).

إكراه البائعين على أن لا يبيعوا سلعهم إلا بثمن معين إكراها بغير حق ، وإذا لم يكن يجوز إكراههم على أصل البيع فإكراههم على تقدير الثمن كذلك لا يجوز .
وأما من تعين عليه أن يبيع فكالذي كان النبي صلى الله عليه وسلم قدر له الثمن الذي يبيع به وشعر عليه ، كما في [ الصحيحين ] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط ، فأعطى شركاءه - حصصهم وعتق عليه العبد » (1) . فهذا لما وجب عليه أن يملك شريكه عتق نصيبه الذي لم يعتقه ليكمل الحرية في العبد قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل ، لا وكس ولا شطط ، ويعطى قسطه من القسمة ، فإن حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف عند جماهير العلماء ، كمالك وأبي حنيفة وأحمد ، ولهذا قال هؤلاء : كل ما لا يمكن قسمته فإنه يباع ويقسم ثمنه إذا طلب أحد الشركاء ذلك ويجبر الممتنع على البيع ، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعا ؛ لأن حق الشريك في نصف القيمة كما دل عليه هذا الحديث الصحيح ، ولا يمكن إعطاؤه ذلك إلا ببيع الجميع ، فإذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل لحاجة الشريك إلى إعتاق ذلك ، وليس لمالك المطالبة بالزيادة على نصف القيمة ، فكيف بمن كانت حاجته أعظم من الحاجة إلى إعتاق ذلك النصيب ؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام واللباس وغير ذلك .
وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع بقيمة المثل هو حقيقة التسعير ، فكذلك يجوز للشريك أن ينزع النصف المشفوع من يد المشتري
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2386),سنن الترمذي الأحكام (1346),سنن ابن ماجه الأحكام (2528),مسند أحمد بن حنبل (1/57),موطأ مالك العتق والولاء (1504).

بمثل الثمن الذي اشتراه به ، لا بزيادة للتخلص من ضرر المشاركة والمقاسمة ، وهذا ثابت بالسنة المستفيضة وإجماع العلماء ، وهذا إلزام له بأن يعطيه ذلك الثمن لا بزيادة ، لأجل تحصيل مصلحة التكميل لواحد ، فكيف بما هو أعظم من ذلك ولم يكن له أن يبيعه للشريك بما شاء ، بل ليس له أن يطلب من الشريك زيادة على الثمن الذي حصل له به ، وهذا في الحقيقة من نوع التولية ، والتولية أن يعطي المشترك السلعة لغيره بمثل الثمن الذي اشتراها به ، وهذا أبلغ من البيع بثمن المثل ، ومع هذا فلا يجبر المشتري من أن يبيعه لأجنبي غير الشريك إلا بما شاء إذ لا حاجة بذلك إلى شرائه كحاجة الشريك .
فأما إذا قدر أن قوما اضطروا إلى سكنى في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكانا يأوون إليه إلا ذلك البيت - فعليه أن يسكنهم ، وكذلك لو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثيابا يستدفئون بها من البرد ، أو إلى آلات يطبخون بها ، أو يبنون أو يسقون - يبذل هذا مجانا ، وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلوا يستقون به ، أو قدرا يطبخون فيها ، أو فأسا يحفرون به ، فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة ؟
فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره :
والصحيح : وجوب بذل ذلك مجانا إذا كان صاحبها مستغنيا عن تلك المنفعة وعوضها ، كما دل عليه الكتاب والسنة ، قال الله تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } (1) { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } (2) { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } (3) { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } (4) وفي [ السنن ] ، عن ابن مسعود قال : كنا نعد
__________
(1) سورة الماعون الآية 4
(2) سورة الماعون الآية 5
(3) سورة الماعون الآية 6
(4) سورة الماعون الآية 7

( الماعون ) عارية الدلو والقدر والفأس ، وفي [ الصحيحين ] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر الخيل قال : « هي لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي هي له أجر : فرجل ربطها في سبيل الله . . . ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر » (1) وفي [ الصحيحين ] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من حق الإبل إعارة دلوها ، وإضراب فحلها » (2) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم « أنه نهى عن عسب الفحل » (3) ، وفي [ الصحيحين ] عنه أنه قال : « لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره » (4) وإيجاب بذل المنفعة مذهب أحمد وغيره ، ولو احتاج إلى إجراء ماء في أرض غيره من غير ضرر بصاحب الأرض ، فهل يجبر ؟ على قوليين للعلماء ، هما روايتان عن أحمد والأخبار بذلك مأثورة عن عمر بن الخطاب قال للممتنع : والله لتجرينها ولو على بطنك ، ومذهب غير واحد من الصحابة والتابعين : أن زكاة الحلي عاريته ، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره .
والمنافع التي يجب بذلها نوعان : منها ما هو حق المال ، كما ذكره في الخيل والإبل وعارية الحلي ، ومنها ما يجب لحاجة الناس ، وأيضا فإن بذل منافع البدن يجب عند الحاجة كما يجب تعليم العلم ، وإفتاء الناس ، وأداء الشهادة ، والحكم بينهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد ، وغير ذلك من منافع الأبدان ، فلا يمنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج ، وقد قال تعالى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } (5) وقال : { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } (6)
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4678),صحيح مسلم الزكاة (987),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1636),سنن النسائي الخيل (3563),سنن ابن ماجه الجهاد (2788),مسند أحمد بن حنبل (2/384).
(2) صحيح مسلم الزكاة (988),سنن النسائي الزكاة (2454),مسند أحمد بن حنبل (3/321),سنن الدارمي الزكاة (1616).
(3) صحيح البخاري الإجارة (2164),سنن الترمذي البيوع (1273),سنن النسائي البيوع (4671),سنن أبو داود البيوع (3429),مسند أحمد بن حنبل (2/14).
(4) صحيح البخاري المظالم والغصب (2331),صحيح مسلم المساقاة (1609),سنن الترمذي الأحكام (1353),سنن أبو داود الأقضية (3634),سنن ابن ماجه الأحكام (2335),مسند أحمد بن حنبل (2/327),موطأ مالك الأقضية (1462).
(5) سورة البقرة الآية 282
(6) سورة البقرة الآية 282

وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال ، هي أربعة أوجه في مذهب أحمد وغيره :
أحدها : أنه لا يجوز مطلقا .
والثاني : لا يجوز إلا عند الحاجة .
الثالث : يجوز إلا أن يتعين عليه .
والرابع : يجوز ، فإن أخذ أجرا عند العمل لم يأخذ عند الأداء ، وهذه المسائل لبسطها مواضع أخر .
والمقصود هنا : أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر ، إما بثمن المثل ، وإما بالثمن الذي اشتراه به ، لم يحرم مطلقا تقدير الثمن ، ثم إن ما قدر به النبي صلى الله عليه وسلم في شراء نصيب شريك المعتق هو لأجل تكميل الحرية ، وذلك حق الله ، وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله ؛ ولهذا يجعل العلماء هذه حقوقا لله تعالى ، وحدودا لله ، بخلاف حقوق الآدميين وحدودهم ، وذلك مثل : حقوق المساجد ومال الفيء والصدقات والوقف على أهل الحاجات والمنافع العامة ونحو ذلك ، ومثل : حد المحاربة والسرقة والزنى وشرب الخمر ، فإن الذي يقتل شخصا لأجل المال يقتل حتما باتفاق العلماء ، وليس لورثة المقتول العفو عنه ، بخلاف من يقتل شخصا لغرض خاص ، مثل خصومة بينهما ، فإن هذا حق لأولياء المقتول ، إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا عفوا باتفاق المسلمين ، وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة ، ليس الحق فيها لواحد بعينه ، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية ، لكن تكميل

الحرية وجب على الشريك المعتق ، فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر ما شاء ، وهنا عموم الناس عليهم شراء الطعام والثياب لأنفسهم ، فلو مكن من يحتاج إلى سلعته أن لا يبيع إلا بما شاء لكان ضرر الناس أعظم .
ولهذا قال الفقهاء : إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير كان عليه بذله له بثمن المثل ، فيجب الفرق بين من عليه أن يبيع وبين من ليس عليه أن يبيع ، وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي ، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل ، وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة ، ولهم فيه وجهان ، وقال أصحاب أبي حنيفة : لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة ، فإذا رفع إلى القاضي أمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك فنهاه عن الاحتكار ، فإن رفع التاجر فيه إليه ثانيا حبسه وعزره على مقتضى رأيه ، زجرا له أو دفعا للضرر عن الناس ، فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير - سعر حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة ، وإذا تعدى أحد بعد ما فعل ذلك أجبره القاضي ، وهذا على قول أبي حنيفة ظاهر ، حيث لا يرى الحجر على الحر ، وكذا عندهما - أي : عند أبي يوسف ومحمد - إلا أن يكون الحجر على قوم معينين ، ومن باع منهم بما قدره الإمام صح ، لأنه غير مكره عليه .
وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه ؟
قيل : هو على الاختلاف المعروف في مال المديون ، وقيل : يبيع ههنا

بالاتفاق ؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام ، والسعر لما غلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه التسعير فامتنع لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه ، بل عامة من كانوا يبيعون الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق ، لكن نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد : نهاه أن يكون له سمسارا وقال : « دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض » (1) وهذا ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة ؛ لأنه إذا توكل له مع خبرته بحاجة الناس إليه أغلى الثمن على المشتري ، فنهاه عن التوكل له - مع أن جنس الوكالة مباح - لما في ذلك من زيادة السعر على الناس ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب ، وهذا أيضا ثابت في الصحيح من غير وجه ، وجعل للبائع إذا هبط إلى السوق الخيار ، ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع بدون ثمن المثل وغبنه ، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار لهذا البائع ، وهل هذا الخيار فيه ثابت مطلقا أو إذا غبن ؟ قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد ، أظهرهما أنه إنما يثبت له الخيار إذا غبن ، والثاني يثبت له الخيار مطلقا ، وهو ظاهر مذهب الشافعي ، وقالت طائفة : بل نهى عن ذلك ؟ لما فيه من ضرر المشتري إذا تلقاه المتلقي فاشتراه ثم باعه .
وفي الجملة : فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء الذي جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر ، وهو ثمن المثل ، ويعلم المشتري بالسلعة ، وصاحب القياس الفاسد يقول : للمشتري أن يشتري حيث شاء ، وقد اشترى من البائع كما يقول ، وللبادي أن يوكل الحاضر ، لكن الشارع رأى المصلحة العامة ، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل فيكون
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1223),سنن النسائي البيوع (4495),سنن أبو داود البيوع (3442),سنن ابن ماجه التجارات (2176).

المشتري غارا له ؛ ولهذا ألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل ، والمسترسل : الذي لا يماكس الجاهل بقيمة المبيع ، فإنه بمنزلة الجالبين الجاهلين بالسعر فتبين أنه يجب على الإنسان أن لا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف ، وهو ثمن المثل ، وإن لم يكن هؤلاء محتاجين إلى الابتياع من ذلك البائع ، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو مسلمين إلى البائع غير مماكسين له ، والبيع يعتبر فيه الرضا ، والرضا يتبع العلم ، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى وقد لا يرضى ، فإذا علم أنه غبن ورضي فلا بأس بذلك ، وإذا لم يرض بثمن المثل لم يلتفت إلى سخطه .
لهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس ، فإن الأصل في البيع الصحة وأن يكون الباطن كالظاهر ، فإذا اشترى على ذلك فما عرف رضاه إلا بذلك ، فإذا تبين أن في السلعة غشا أو عيبا فهو كما وصفها بصفة وتبينت بخلافها ، فقد يرضى وقد لا يرضى ، فإن رضي وإلا فسخ البيع ، وفي [ الصحيحين ] عن حكيم بن حزام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما » (1) وفي [ السنن ] : أن رجلا كان له شجرة في أرض غيره ، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقبل منه بدلها أو يتبرع له بها فلم يفعل ، فأذن لصاحب الأرض في قلعها ، وقال لصاحب الشجرة : « إنما أنت مضار » (2) فهنا أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها ، فدل على وجوب البيع عند حاجة المشتري ، وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام ؟ ونظير هؤلاء الذين يتجرون في الطعام بالطحن والخبز ، ونظير هؤلاء
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (1973),صحيح مسلم البيوع (1532),سنن الترمذي البيوع (1246),سنن النسائي البيوع (4464),سنن أبو داود البيوع (3459),مسند أحمد بن حنبل (3/402),سنن الدارمي البيوع (2547).
(2) سنن أبو داود الأقضية (3636).

صاحب الخان والقيسارية والحمام إذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك ، وهو إنما ضمنها ليتجر فيها ، فلو امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء وهم يحتاجون لم يمكن من ذلك وألزم ببذل ذلك بأجرة المثل ، كما يلزم الذي يشتري الحنطة ويطحنها ليتجر فيها ، والذي يشتري الدقيق ويخبزه ليتجر فيه مع حاجة الناس إلى ما عنده ، بل إلزامه ببيع ذلك بثمن المثل أولى وأحرى ، بل إذا امتنع من صنعة الخبز والطحن حتى يتضرر الناس بذلك ألزم بصنعتها كما تقدم ، وإذا كانت حاجة الناس تندفع إذا عملوا ما يكفي الناس بحيث يشتري إذ ذاك بالثمن المعروف - لم يحتج إلى تسعير ، وأما إذا كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير العادل - سعر عليهم تسعير عدل ، لا وكس ، ولا شطط (1) انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :
وأما التسعير : فمنه ما هو ظلم محرم ، ومنه ما هو عدل جائز .
فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه ، أو منعهم مما أباح الله لهم - فهو حرام ، وإذا تضمن العدل بين الناس ، مثل : إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز ، بل واجب .
فأما القسم الأول :
فمثل : ما روى أنس قال : « غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا :
__________
(1) [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ] ، ( 28 \ 75 ) وما بعدها .
(2) الطرق الحكمية ، ص 244 من الهامش .

يا رسول الله ، لو سعرت لنا ، فقال : إن الله هو القابض الرازق ، الباسط المسعر ، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطالبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال » (1) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم ، وقد ارتفع السعر - إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق - فهذا إلى الله . فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها : إكراه بغير حق .
وأما القسم الثاني : فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها ، مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل ، والتسعير ههنا إلزام - بالعدل الذي ألزمهم الله به .
فصل : ومن أقبح الظلم : إيجار الحانوت على الطريق ، أو في القرية ، بأجرة معينة على أن لا يبيع أحد غيره ، فبهذا ظلم حرام على المؤجر والمستأجر ، وهو نوع من أخذ أموال الناس قهرا ، وأكلها بالباطل ، وفاعله قد تحجر واسعا ، فيخاف عليه أن يحجر الله عنه رحمته كما حجر على الناس فضله ورزقه .
فصل : ومن ذلك أن يلزم الناس أن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون ، فلا تباع تلك السلع إلا لهم ، ثم يبيعونها هم بما يريدون ، فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب ، فهذا من البغي في الأرض والفساد والظلم الذي يحبس به قطر السماء ، وهؤلاء يجب التسعير عليهم ، وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل ، ولا يشتروا إلا بقيمة المثل ، بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء ؛ لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314),سنن أبو داود البيوع (3451),سنن ابن ماجه التجارات (2200),مسند أحمد بن حنبل (3/156),سنن الدارمي البيوع (2545).

يشتريه ، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاءوا أو يشتروا بما شاءوا : كان ذلك ظلما للناس : ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع ، وظلما للمشترين منهم .
فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع . وحقيقته إلزامهم بالعدل ، ومنعهم من الظلم . وهذا كما أنه لا يجوز الإكراه على البيع بغير حق ، فيجوز أو يجب الإكراه عليه بحق ، مثل : بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة ، ومثل البيع للمضطر إلى طعام أو لباس ، ومثل : الغراس والبناء الذي في ملك الغير ، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل ، ومثل : الأخذ بالشفعة ، فإن للشفيع أن يتملك الشقص بثمنه قهرا ، وكذلك السراية في العتق . فإنها تخرج الشقص من ملك الشريك قهرا . وتوجب على المعتق المعاوضة عليها قهرا . وكل من وجب عليه شيء من الطعام واللباس والرقيق والمركوب - بحج أو كفارة أو نفقة - فمتى وجده بثمن المثل وجب عليه شراؤه وأجبر على ذلك . ولم يكن له أن يمتنع حتى يبذل له مجانا أو بدون ثمن المثل .
فصل : ومن ههنا : منع غير واحد من العلماء - كأبي حنيفة وأصحابه - القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة : أن يشتركوا ، فإنهم إذا اشتركوا - والناس يحتاجون إليهم - أغلوا عليهم الأجرة .
قلت : كذلك ينبغي لوالي الحسبة : أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين لهم من الاشتراك ، لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم ، وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم ، كالشهود والدلالين وغيرهم ، على أن في شركة الشهود مبطلا آخر ، فإن عمل كل واحد منهم متميز عن عمل

الآخر ، لا يمكن الاشتراك فيه . فإن الكتابة متميزة ، والتحمل متميز ، لا يقع في ذلك اشتراك ولا تعاون فبأي وجه يستحق أحدهما أجرة عمل صاحبه ؟ وهذا بخلاف الاشتراك في سائر الصناع ، فإنه يمكن أحد الشريكين أن يعمل بعض العمل والآخر بعضه ؛ ولهذا إذا اختلفت الصنائع : لم تصح الشركة على أحد الوجهين لتعذر اشتراكها في العمل ، ومن صححها نظر إلى أنهما يشتركان فيما تتم به صناعة كل واحد منهما من الحفظ والنظر إذا خرج لحاجة ، فيقع الاشتراك فيما يتم به عمل كل واحد منهما ، وإن لم يقع في عين العمل . وأما شركة الدلالين : ففيها أمر آخر ، وهو : أن الدلال وكيل صاحب السلعة في بيعها ، فإذا شارك غيره في بيعها كان توكيلا له فيما وكل فيه ، فإن قلنا : ليس للوكيل أن يوكل لم تصح الشركة ، وإن قلنا : له أن يوكل صحت ، فعلى والي الحسبة أن يعرف هذه الأمور ويراعيها ، ويراعي مصالح الناس ، وهيهات هيهات ذهب ما هنالك .
والمقصود : أنه إذا منع القسامون ونحوهم من الشركة ، لما فيه من التواطؤ على إغلاء الأجرة ، فمنع البائعين الذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن مقدر أولى وأحرى ، وكذلك يمنع والي الحسبة المشترين من الاشتراك في شيء لا يشتريه غيرهم ؛ لما في ذلك من ظلم البائع ، وأيضا : فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها : قد تواطئوا على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل ، ويبيعون ما يبيعونه بأكثر من ثمن المثل ، ويقتسمون ما يشتركون فيه من الزيادة كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظلم والعدوان ، وقد قال الله تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2

ولا ريب أن هذا أعظم إثما وعدوانا من تلقي السلع، وبيع الحاضر للبادي، ومن النجش.
فصل: ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة- كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك- فلولي الأمر: أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك، ولهذا قالت طائفة من أصحاب أحمد والشافعي : إن تعلم هذه الصناعات فرض على الكفاية، لحاجة الناس إليها، وكذلك تجهيز الموتى ودفنهم، وكذلك أنواع الولايات العامة والخاصة التي لا تقوم مصلحة الإمامة إلا بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى أمر ما يليه بنفسه ، ويولي فيما بعد عنه ، كما ولى على مكة : عتاب بن أسيد، وعلى الطائف : عثمان بن أبي العاص الثقفي، وعلى قرى عرينة : خالد بن سعيد بن العاص، وبعث عليا ومعاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، وكذلك كان يؤمر على السرايا، ويبعث السعاة على الأموال الزكوية، فيأخذونها ممن هي عليه ويدفعونها إلى مستحقيها، فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا سوطه، ولا يأتي بشيء من الأموال إذا وجد لها موضعا يضعها فيه.
فصل: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على عماله، يحاسبهم على المستخرج والمصروف، كما في [الصحيحين] عن أبي حميد الساعدي : « أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد، يقال له: ابن اللتبية، على الصدقات فلما رجع حاسبه، فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :

ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله، فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي ؟ أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فنظر: أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، وإن كانت بقرة لها خوار، وإن كانت شاة تيعر ثم رفع يديه إلى السماء، وقال اللهم هل بلغت قالها مرتين أو ثلاثا » (1) .
والمقصود: أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد صارت فرض عين عليه، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم، صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم، يجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل. ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم وألزم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها ألزم الجند بأن لا يظلموا الفلاح، كما يلزم الفلاح بأن يفلح، ولو اعتمد الجند والأمراء مع الفلاحين : ما شرعه الله ورسوله، وجاءت به السنة وفعله الخلفاء الراشدون ، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، وكان الذي يحصل لهم من المغل أضعاف ما يحصلونه بالظلم والعدوان، ولكن يأبى لهم جهلهم وظلمهم إلا أن يركبوا الظلم والإثم، فيمنعوا البركة وسعة الرزق، فيجمع لهم عقوبة الآخرة، ونزع البركة في الدنيا.
فإن قيل: وما الذي شرعه الله ورسوله، وفعله الصحابة، حتى يفعله من وفقه الله ؟ قيل: المزارعة العادلة ، التي يكون المقطع والفلاح فيها على حد
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2457),صحيح مسلم الإمارة (1832),سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2946),مسند أحمد بن حنبل (5/424),سنن الدارمي الزكاة (1669).

سواء من العدل، لا يختص أحدهما عن الآخر بشيء من هذه الرسوم التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهي التي خربت البلاد وأفسدت العباد ومنعت الغيث، وأزالت البركات، وعرضت أكثر الجند والأمراء لأكل الحرام، وإذا نبت الجسد على الحرام فالنار أولى به.
وهذه المزارعة العادلة: هي عمل المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين، وهي عمل آل أبي بكر، وآل عمر، وآل عثمان، وآل علي، وغيرهم من بيوت المهاجرين، وهي قول أكابر الصحابة، كابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت وغيرهم، وهي مذهب فقهاء الحديث؛ كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وداود بن علي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر، ومحمد بن نصر المروزي، وهي مذهب عامة أئمة المسلمين؛ كالليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن وغيرهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر عن خيبر، وكان قد شاطرهم أن يعمروها من أموالهم، وكان البذر منهم، لا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء: أن البذر يجوز أن يكون من العامل؛ كما مضت به السنة، بل قد قالت طائفة من الصحابة: لا يكون البذر إلا من العامل؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنهم أجروا البذر مجرى النفع والماء، والصحيح: أنه يجوز أن يكون من رب الأرض، وأن يكون من العامل، وأن يكون منهما، وقد ذكر البخاري في [صحيحه]: (أن عمر بن الخطاب

رضي الله عنه عامل الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده: فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا) والذين منعوا المزارعة: منهم من احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى عن المخابرة » (1) ولكن الذي نهى عنه: هو الظلم: فإنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها. ويشترطون ما على الماذيانات وإقبال الجداول، وشيئا من التبن يختص به صاحب الأرض، ويقتسمان الباقي، وهذا الشرط باطل بالنص والإجماع، فإن المعاملة مبناها على العدل من الجانبين وهذه المعاملات من جنس المشاركات، لا من باب المعاوضات، والمشاركة العادلة: هي أن يكون لكل واحد من الشريكين جزء شائع، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر كان ظلما .
فهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الليث بن سعد : الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك: أمر إذا نظر ذو البصيرة بالحلال والحرام فيه علم أنه لا يجوز، وأما ما فعله هو وفعله خلفاؤه الراشدون والصحابة فهو العدل المحض الذي لا ريب في جوازه.
__________
(1) صحيح البخاري المساقاة (2252),صحيح مسلم البيوع (1536),سنن النسائي البيوع (4523),سنن أبو داود البيوع (3404),مسند أحمد بن حنبل (3/392).

فصل: وقد ظن طائفة من الناس: أن هذه المشاركات من باب الإجارة بعوض مجهول، فقالوا: القياس يقتضي تحريمها، ثم منهم من حرم المساقاة والمزارعة، وأباح المضاربة استحسانا للحاجة ؛ لأن الدراهم لا تؤجر كما يقول أبو حنيفة، ومنهم من أباح المساقاة ؛ إما مطلقا، كقول مالك والشافعي في القديم، أو على النخل والعنب خاصة، كالجديد له؛ لأن الشجر لا يمكن إجارته، بخلاف الأرض، وأباح ما يحتاج إليه من المزارعة تبعا للمساقاة ، ثم منهم من قدر ذلك بالثلث، كقول مالك، ومنهم من اعتبر كون الأرض أغلب كقول الشافعي، وأما جمهور السلف

والفقهاء، فقالوا: ليس ذلك من باب الإجارة في شيء، بل هو من باب المشاركات التي مقصود كل منهما مثل مقصود صاحبه، بخلاف الإجارة، فإن هذا مقصوده العمل، وهذا مقصوده الأجرة؛ ولهذا كان الصحيح أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب فيها نصيب المثل، لا أجرة المثل، فيجب من الربح والنماء في فاسدها نظير ما يجب في صحيحها، لا أجرة مقدرة، فإن لم يكن ربح ولا نماء لم يجب شيء، فإن أجرة المثل قد تستغرق رأس المال وأضعافه وهذا ممتنع، فإن قاعدة الشرع: أنه يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح منها، كما يجب في النكاح الفاسد مهر المثل، وهو نظير ما يجب في الصحيح، وفي البيع الفاسد إذا فات ثمن المثل، وفي الإجارة الفاسدة أجرة المثل، فكذلك يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل وفي المساقاة والمزارعة الفاسدة نصيب المثل، فإن الواجب في صحيحها ليس هو أجرة مسماة، فيجب في فاسدها أجرة المثل، بل هو جزء شائع من الربح، فيجب في الفاسدة نظيره.
قال شيخ الإسلام وغيره من الفقهاء: والمزارعة أحل من المؤاجرة، وأقرب إلى العدل، فإنهما يشتركان في المغرم والمغنم، بخلاف المؤاجرة فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة، والمستأجر قد يحصل له زرع، وقد لا يحصل، والعلماء مختلفون في جواز هذا وهذا، والصحيح جوازهما، سواء كانت الأرض إقطاعا أو غيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وما علمت أحدا من علماء الإسلام- من الأئمة الأربعة ولا غيرهم- قال: إجارة الإقطاع لا تجوز، ومازال المسلمون يؤجرون إقطاعاتهم قرنا بعد قرن، من زمن الصحابة إلى زمننا هذا، حتى حدث بعض أهل زمننا فابتدع القول

ببطلان إجارة الإقطاع، وشبهته: أن المقطع لا يملك المنفعة، فيصير كالمستعير لا يجوز أن يكري الأرض المعارة.
وهذا القياس خطأ من وجهين:
أحدهما: أن المستعير لم تكن المنفعة حقا له، إنما تبرع المستعير بها، وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين، وولي الأمر قاسم بينهم حقوقهم، ليس متبرعا لهم كالمعير، والمقطع مستوفي المنفعة بحكم الاستحقاق، كما يستوفي الموقف عليه منافع الوقف وأولى، إذا جاز للموقف عليه أن يؤجر الوقف وإن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على الصحيح - فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أولى .
الثاني: أن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة، وولي الأمر يأذن للمقطع في الإجارة ، فإنه إنما أقطعهم لينتفعوا بها إما بالمزارعة، وإما بالإجارة، ومن منع الانتفاع بها بالإجارة والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم، وألزم الجند والأمراء أن يكونوا هم الفلاحين، وفي ذلك من الفساد ما فيه، وأيضا: فإن الإقطاع قد يكون دورا وحوانيت، لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة، فإذا لم تصح إجارة الإقطاع تعطلت منافع ذلك بالكلية، وكون الإقطاع معرضا لرجوع الإمام فيه مثل كون الموهوب للولد معرضا لرجوع الوالد فيه، وكون الصداق قبل الدخول معرضا لرجوع نصفه أو كله إلى الزوج، وذلك لا يمنع صحة الإجارة بالاتفاق، فليس مع المبطل نص ولا قياس، ولا مصلحة، ولا نظير، وإذا أبطلوا المزارعة والإجارة ولم يبق مع الجند إلا أن يستأجروا من أموالهم من يزرع

الأرض ويقوم عليها، وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس؛ لأنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء، بخلاف المشاركة فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، فهي أقرب إلى العدل، وهذه المسألة ذكرت استطرادا، وإلا فالمقصود: أن الناس إذا احتاجوا إلى أرباب الصناعات- كالفلاحين وغيرهم- أجبروا على ذلك بأجرة المثل، وهذا من التسعير الواجب، فهذا تسعير في الأعمال.
وأما التسعير في الأموال : فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلات، فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن. والله تعالى قد أوجب الجهاد بالنفس والمال فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذله بقيمته؟! ومن أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير: فقوله ظاهر التناقض، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو الصواب.
فصل: وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة؛ لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء، ولا من يبيع طحينا وخبزا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم. وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجلابين. ولهذا جاء في الحديث: « الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون » (1) .
وكذلك لم يكن في المدينة حائك، بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما، فيشترونها ويلبسونها.
فصل: وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين:
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2153),سنن الدارمي البيوع (2544).

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21