كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

فإنهم قسموه اثني عشر قسما سموها: (الداخل): كل برج اثنتا عشرة درجة، وهذا غاية معرفته، وهي بتحديد كم بينهما من البعد في وقت معين في مكان معين. هذا الذي يضبطه بالحساب.
أما كونه يرى أولا يرى فهذا أمر حسي طبيعي، ليس هو أمرا حسابيا رياضيا، وإنما غايته أن يقول: استقرأنا: أنه إذا كان على كذا وكذا درجة يرى قطعا أو لا يرى قطعا - فهذا جهل وغلط، فإن هذا لا يجري على قانون واحد لا يزيد ولا ينقص في النفي والإثبات، بل إذا كان بعده مثلا عشرين درجة فهذا يرى ما لم يحل حائل، وإذا كان على درجة واحدة فهذا لا يرى، وأما ما حول العشرة فالأمر فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية من وجوه .
ثم ذكر اختلاف الرؤية باختلاف حدة البصر وكلاله، وباختلاف كثرة المترائين وقلتهم، وباختلاف مكان الترائي ارتفاعا وانخفاضا، وباختلاف وقت الترائي، وباختلاف صفاء الجو وكدره، ثم قال: ( فإذا كانت الرؤية حكما تشترك فيه هذه الأسباب التي ليس شيء منها داخلا في حساب الحاسب، فكيف يمكنه مع ذلك أن يخبر خبرا عاما أنه لا يمكن أن يراه أحد حيث رآه على سبع أو ثمان درجات أو تسع، أم كيف يمكنه أن يخبر خبرا جزما أنه يرى إذا كان على تسعة أو عشرة مثلا؟ !) (1) إلى أن قال: ( فتبين بهذا البيان: أن خبرهم بالرؤية من جنس خبرهم بالأحكام وأضعف ).
وبعد أن ذكر اعتراف حذاق المنجمين بأن أحكامهم مبناها على الحدس والوهم قال: ( فتبين لهم أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام من باب
__________
(1) [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\186- 190).

واحد يعلم بأدلة العقول امتناع ضبط ذلك، ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك والاستغناء عما نظن من منفعته بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة؛ ولهذا قال من قال: إن كلام هؤلاء بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وأن بعض الظن إثم ولقد صدق، فإن الإنسان الحاسب إذا قتل نفسه في حساب الدقائق والثواني كان غايته ما لا يفيد، وإنما تعبوا عليه؛ لأجل الأحكام، وهي ظنون كاذبة ) (1) ا هـ.
2 - واستدلوا ثانيا : برجوع الفقهاء إلى أهل الخبرة في كثير من شئونهم، فنراهم يرجعون إلى الأطباء في جواز فطر المريض في رمضان، ويرجعون إلى علماء اللغة في فهم نصوص الكتاب والسنة، ورجعوا في تقدير مدة التأجيل في العنين والمعترض وتقدير سن اليأس- إلى الحساب، إلى غير هذا من أمور، فيجب عليهم أن يرجعوا في بدء الشهور القمرية ونهايتها إلى حساب النجوم ومنازل القمر.
وأجيب : بوجود الفرق بين الرجوع إلى علماء الحساب والرجوع إلى الأطباء وعلماء اللغة فيما يخصهم .
وبيانه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب في مسألتنا الرجوع إلى رؤية الأهلة ومنع الاعتماد على غيرها، فقال: « لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه » (2) ، ولم يمنع من الرجوع إلى الأطباء في تشخيص الأمراض وتقدير خطورتها وعلاجها، ولم يمنع من الرجوع إلى اللغة في فهم النصوص، بل
__________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\200- 201).
(2) صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2122),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684).

أقر ذلك وجرى العمل عليه في عهده وعهد الصحابة، وكيف تفهم نصوص القرآن والسنة بدون اللغة العربية، وهي الوسيلة الوحيدة لذلك، أما ادعاء رجوع الفقهاء في تقدير مدة التأجيل فيما ذكر وفي تقدير سن اليأس إلى الحساب- فممنوع إن أريد به حساب النجوم ومنازل القمر وسيره، ومسلم إن أريد به الرجوع في تقدير ما ذكر إلى عد الشهور القمرية بناء على رؤية أهلتها، ويتبع هذا معرفة السنين، فإن السنة اثنا عشر شهرا بنص القرآن، وأما معرفة الأيام فراجعة إلى أمر حسي هو طلوع الشمس وغروبها.
وبهذا يتبين : أن الشرع لم يدلهم في ضبط شئونهم على أمر خفي، كحساب سير النجوم، بل دلهم على أمر ظاهر عام؛ كالرؤية، وطلوع الشمس وغروبها ودلوكها.
3 - واستدلوا أيضا : بقياس التوقيت في ثبوت شهر الصوم ابتداء وانتهاء على توقيت الصلوات الخمس، فكما جاز الاعتماد في معرفة أوقات الصلوات الخمس على الحساب فليجز الاعتماد عليه في معرفة وقت ابتداء صوم رمضان والفطر منه جملة، بل يجب عليهم أن يرجعوا إلى علماء حساب النجوم ومنازل القمر في بدء الشهور القمرية ونهايتها، كما رجعوا إلى الساعات الفلكية واعتمدوا عليها في معرفة الأوقات في البلاد التي يكون الليل أو النهار فيها أكثر من أربع وعشرين ساعة.
وأجيب : بما حكاه السبكي عن المانعين:
أولا : أن الشارع أناط الحكم في الأوقات بوجودها، قال الله تعالى:

{ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } (1) وفصلت السنة ذلك، وأناطه في الهلال برؤيته، فلم يعتبر وجوده في نفس الأمر.
وثانيا : أن مقدمات الهلال خفية، ويكثر الغلط فيها، بخلاف الأوقات، ولا محذور في أن الهلال يعرف بالحساب وجوده وإمكان رؤيته، ولا يكلفنا الشرع بحكمه، ولو عمل في الأوقات كذلك كان الحكم كذلك، لكنه أناطه بوجودها فاتبعنا في كل باب ما قرره الشرع فيه.
وأما من يستمر الليل أو النهار عندهم أربعا وعشرين ساعة فأكثر فالصوم والصلوات واجبة عليهم، وأوقاتها في هذه البلاد منوطة بأوقات الصوم والصلوات في أقرب البلاد التي تتميز فيها مواقيت العبادات إليهم، وكذا تقدير مدة الإيلاء والعدة والآجال ونحوها.
4 - واستدلوا أيضا : بقوله تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (2) إذ المعنى: فمن علم منكم دخول شهر رمضان بوجود الهلال بالأفق بعد غروب الشمس متأخرا عنها - وجب عليه الصوم، سواء أكان علمه بذلك عن طريق الرؤية أم عن طريق الحساب، مع إمكان الرؤية لولا المانع، وسواء أكان علمه بنفسه أم بإخبار غيره ممن يثق بخبره، وسواء أبلغ ذلك حد اليقين أم كان غلبة ظن.
وأجيب : بأن الشهود بمعنى: الحضور لا العلم، بدليل ذكر مقابله بعده، وهو قوله تعالى: { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (3)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة البقرة الآية 185

وعلى تقدير تفسيره بالعلم - كما قيل- لم يكن في الآية حجة للمستدل؛ لأن المراد بالعلم: ما كان مستفادا من طريق الرؤية لا الحساب؛ لتعليق الرسول صلى الله عليه وسلم الصوم والإفطار بالرؤية خاصة، ولجريان العمل على هذا خاصة، كما تقدم في أدلة من لا يعتبر علم الحساب في العبادات ونحوها.
5 - واستدلوا أيضا : بأن علم الحساب مبني على مقدمات يقينية، فكان الاعتماد عليه في إثبات الأهلة ونحوها عند تيسره أقرب إلى الصواب في التوقيت، وأضمن لتحقيق الوحدة بين المسلمين في نسكهم وأعيادهم، وأبعد عن الخلاف في معاملاتهم.
ويجاب بما تقدم : من أن اليقين في رؤيتهم للكواكب في السماء أو سماعهم بذلك، أما تقدير سيرها فعقلي عسير بعيد المنال وعر المسلك لخفائه؛ لهذا لم يعرفه إلا القليل، ووقع فيه الغلط والاضطراب فليس أقرب إلى الصواب، بل إنه لا يصلح الاعتماد عليه في إثبات الأهلة، وما وقع ويتوقع من الغلط ومن الاختلاف والاضطراب يمنع من تحقيقه للوحدة بين المسلمين في نسكهم وأعيادهم ويبعد رفع الخلاف بينهم في المعاملات.
وأما ما ذهب إليه بعض المعاصرين من وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال من صحو وغيم، إلا لمن استعصى عليه العلم به - فمردود بالإجماع، وبما تقدم من الأدلة.

قال ابن تيمية : ( فأما اتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم ). (1) .
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
من أهم مراجع هذا البحث
1 - [المجموع] للنووي .
2 - [رسالة الهلال] لابن تيمية .
3 - [الموافقات] للشاطبي .
4 - البحث التاسع من [مجموع رسائل الشيخ محمد بخيت المطيعي ].
5 - [رسالة ابن عابدين في الأهلة].
__________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\133).

قرار رقم (2)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فبناء على خطاب المقام السامي رقم (22451) وتاريخ 6\11\1391هـ المتضمن إحالة موضوع الأهلة إلى هيئة كبار العلماء نظرا إلى أن الموضوع عند دراسة مجلس رابطة العالم الإسلامي في جلسته المنعقدة في 15 شعبان عام 1391هـ واطلاعها على قرار اللجنة الفقهية المنبثقة من المجلس، قررت الموافقة على القول: بعدم اعتبار اختلاف المطالع، إلا أن بعض أعضاء المجلس التأسيسي رأى التريث في الأمر، وزيادة البحث والتقصي في هذا الموضوع.
بناء على ذلك عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها الثانية المنعقدة في شهر شعبان عام 1392هـ ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع إثبات الأهلة المشتمل على الفقرتين التاليتين:
أ- حكم اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره .
ب- حكم إثبات الهلال بالحساب .
وكذا قرار رابطة العالم الإسلامي الصادر منها في دورتها الثالثة عشرة المنعقدة في شهر شعبان عام 1391هـ، ومرفقه بحث اللجنة الفقهية المشكلة من بعض أعضاء مجلس الرابطة في الموضوع. وبعد دراسة المجلس للموضوع وتداول الرأي فيه، قرر ما يلي :
أولا : اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسا

وعقلا، ولم يختلف فيها أحد، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع من عدمه .
ثانيا : مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها وفي أمثالها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين، وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ أجرا لاجتهاده.
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره.
واستدل كل فريق بأدلته من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد، كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } (1) وبقوله صلى الله عليه وسلم « صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ... » (2) الحديث وذلك لاختلاف الفهم في النص، وسلوك كل منهما طريقا في الاستدلال به.
وعند بحث هذه المسألة في مجلس الهيئة، ونظرا لاعتبارات قدرتها الهيئة، ولأن هذا الخلاف في مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه ليس له آثار تخشى عواقبها. وقد مضى على ظهور هذا الدين مدة أربعة عشر قرنا لا نعلم منها فترة جرى فيها توحيد الأمة
__________
(1) سورة البقرة الآية 189
(2) صحيح البخاري الصوم (1810),صحيح مسلم الصيام (1081),سنن الترمذي الصوم (684),سنن النسائي الصيام (2117),سنن ابن ماجه الصيام (1655),مسند أحمد بن حنبل (2/497),سنن الدارمي الصوم (1685).

الأمية على رؤية واحدة - فإن أعضاء الهيئة يرون بقاء الأمر على ما كان عليه، وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته .
ثالثا : أما ما يتعلق بإثبات الأهلة بالحساب :
فبعد دراسة ما أعدته اللجنة الدائمة في ذلك، وبعد الرجوع إلى ما ذكره أهل العلم- فقد أجمع أعضاء الهيئة على عدم اعتباره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته » (1) الحديث، ولقوله صلى الله عليه وسلم: « لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه » (2) الحديث.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
. ... رئيس الدورة ... .
محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الرزاق عفيفي ... محضار عقيل
عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... .
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1810),صحيح مسلم الصيام (1081),سنن الترمذي الصوم (684),سنن النسائي الصيام (2117),سنن ابن ماجه الصيام (1655),مسند أحمد بن حنبل (2/497),سنن الدارمي الصوم (1685).
(2) صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2122),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684).

قرار رقم (34) وتاريخ 14\2\1395هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه، وبعد :
فبناء على خطاب معالي رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء رقم (4680) وتاريخ 23\2\1394هـ المتضمن: أمر جلالة الملك بإحالة خطاب أمين عام هيئة الدعوة والإرشاد في ( سورابايا ) بشأن توحيد مواقيت الصلاة والصوم والحج إلى هيئة كبار العلماء، وإشارة لخطاب سعادة وكيل وزارة الخارجية رقم (300\5\6 \855\3) في 15\1\1394هـ ومشفوعاته: ما تبلغته سفارة جلالة الملك في الجزائر من وزارة التعليم الأصلي والشئون الدينية من وثائق حول الاعتماد على الحساب الفلكي لتحديد مواقيت العبادات.
وبناء على المحضر رقم (7) من محاضر الدورة الخامسة لمجلس هيئة كبار العلماء المشتمل على إعداد قرار مدعم بالأدلة يعرض على الهيئة في دورتها السادسة لإقراره.
وبعد دراسة المجلس للقرارات والتوصيات والفتاوى والآراء المتعلقة بهذا الموضوع وإعادة النظر في البحث الذي سبق أن أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع توحيد أوائل الشهور القمرية، والاطلاع على القرار الصادر من الهيئة في دورتها الثانية برقم (2) وتاريخ 13\2\1393هـ ومداولة الرأي في ذلك كله- قرر ما يلي :

أولا : أن المراد بالحساب والتنجيم هنا معرفة البروج والمنازل، وتقدير سير كل من الشمس والقمر وتحديد الأوقات بذلك؛ كوقت طلوع

الشمس ودلوكها وغروبها، واجتماع الشمس والقمر وافتراقهما، وكسوف كل منهما، وهذا هو ما يعرف بـ( حساب التسيير، وليس المراد بالتنجيم هنا الاستدلال بالأحوال الفلكية على وقوع الحوادث الأرضية؛ من ولادة عظيم أو موته، ومن شدة وبلاء، أو سعادة ورخاء، وأمثال ذلك مما فيه ربط الأحداث بأحوال الأفلاك علما بميقاتها، أو تأثيرا في وقوعها من الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله، وبهذا يتحرر موضوع البحث .

ثانيا : أنه لا عبرة شرعا بمجرد ولادة القمر في إثبات الشهر القمري بدءا وانتهاء بإجماع ما لم تثبت رؤيته شرعا، وهذا بالنسبة لتوقيت العبادات، ومن خالف في ذلك من المعاصرين فمسبوق بإجماع من قبله .

ثالثا : أن رؤية الهلال هي المعتبرة وحدها في حالة الصحو ليلة الثلاثين في إثبات بدء الشهور القمرية وانتهائها بالنسبة للعبادات فإن لم ير أكملت العدة ثلاثين بإجماع.
أما إذا كان بالسماء غيم ليلة الثلاثين: فجمهور الفقهاء يرون إكمال العدة ثلاثين؛ عملا بحديث: « فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين » (1) ، وبهذا تفسر الرواية الأخرى الواردة بلفظ: « فاقدروا له » (2) . وذهب الإمام أحمد في رواية أخرى عنه، وبعض أهل العلم إلى اعتبار شعبان في حالة الغيم تسعة وعشرين يوما احتياطا لرمضان، وفسروا رواية: « فاقدروا له » (3) : بضيقوا، أخذا من قوله تعالى: { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } (4) أي: ضيق عليه رزقه.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1808).
(2) صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684).
(3) صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684).
(4) سورة الطلاق الآية 7

وهذا التفسير مردود بما صرحت به رواية الحديث الأخرى الواردة بلفظ: « فاقدروا له ثلاثين » (1) ، وفي رواية أخرى: « فأكملوا عدة شعبان ثلاثين » (2) .
وحكى النووي في شرحه على صحيح مسلم لحديث: « فإن غم عليكم فاقدروا له » (3) عن ابن سريج وجماعة، ومنهم مطرف بن عبد الله - أي: ابن الشخير - وابن قتيبة وآخرون- اعتبار قول علماء النجوم في إثبات الشهر القمري ابتداء وانتهاء، أي: إذا كان في السماء غيم.
وقال ابن عبد البر : روي عن مطرف بن الشخير، وليس بصحيح عنه، ولو صح ما وجب اتباعه؛ لشذوذه فيه، ولمخالفة الحجة له ثم حكى عن ابن قتيبة مثله، وقال: ليس هذا من شأن ابن قتيبة، ولا هو ممن يعرج عليه في مثل هذا الباب. ثم حكى عن ابن خويز منداد أنه حكاه عن الشافعي، ثم قال ابن عبد البر : والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه وجمهور العلماء خلافه. انتهى.
وبهذا يتضح: أن محل الخلاف بين الفقهاء إنما هو في حال الغيم وما في معناه. وهذا كله بالنسبة للعبادات، أما بالنسبة للمعاملات فللناس أن يصطلحوا على ما شاءوا من التوقيت .
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1080),سنن أبو داود الصوم (2320).
(2) صحيح البخاري الصوم (1810).
(3) صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684).

رابعا : أن المعتبر شرعا في إثبات الشهر القمري هو رؤية الهلال فقط دون حساب سير الشمس والقمر لما يأتي:
أ - أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لها في قوله: « صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته » (1) ، وحصر ذلك فيها بقوله: « لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه » (2) ، وأمر المسلمين إذا كان غيم ليلة
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1810),صحيح مسلم الصيام (1081),سنن الترمذي الصوم (684),سنن النسائي الصيام (2117),سنن ابن ماجه الصيام (1655),مسند أحمد بن حنبل (2/497),سنن الدارمي الصوم (1685).
(2) صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2122),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684).

الثلاثين أن يكملوا العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى علماء النجوم، ولو كان قولهم أصلا وحده أو أصلا آخر في إثبات الشهر- لأمر بالرجوع إليهم، فدل ذلك على أنه لا اعتبار شرعا لما سوى الرؤية، أو إكمال العدة ثلاثين في إثبات الشهر، وأن هذا شرع مستمر إلى يوم القيامة، { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } (1) ودعوى أن الرؤية في الحديث يراد بها العلم أو غلبة الظن بوجود الهلال أو إمكان رؤيته لا التعبد بنفس الرؤية - مردودة؛ لأن الرؤية في الحديث متعدية إلى مفعول واحد، فكانت بصرية لا علمية، ولأن الصحابة فهموا أنها رؤية بالعين، وهم أعلم باللغة ومقاصد الشريعة، وجرى العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهدهم على ذلك، ولم يرجعوا إلى علماء النجوم في التوقيت، ولا يصح أيضا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: « فإن غم عليكم فاقدروا له » (2) أراد أمرنا بتقدير منازل القمر لنعلم بالحساب بدء الشهر ونهايته؛ لأن هذه الرواية فسرتها رواية: « فاقدروا له ثلاثين » (3) وما في معناه، ومع ذلك فالذين يدعون إلى توحيد أوائل الشهور يقولون بالاعتماد على حساب المنازل في الصحو والغيم، والحديث قيد القدر له بحالة الغيم.
ب - أن تعليق إثبات الشهر القمري بالرؤية يتفق مع مقاصد الشريعة السمحة؛ لأن رؤية الهلال أمرها عام يتيسر لأكثر الناس، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب فإنه يحصل به الحرج ويتنافى مع مقاصد الشريعة، ودعوى زوال وصف الأمية في علم النجوم عن الأمة لو سلمت لا يغير حكم الشرع في ذلك.
ج - أن علماء الأمة في صدر الإسلام قد أجمعوا على اعتبار الرؤية في إثبات الشهور القمرية دون الحساب، فلم يعرف أن أحدا منهم رجع إليه في
__________
(1) سورة مريم الآية 64
(2) صحيح البخاري الصوم (1801),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2121),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684).
(3) صحيح مسلم الصيام (1080),سنن أبو داود الصوم (2320).

ذلك عند الغيم ونحوه، أما عند الصحو فلم يعرف عن أحد من أهل العلم أنه عول على الحساب في إثبات الأهلة أو علق الحكم العام به .

خامسا : تقدير المدة التي يمكن معها رؤية الهلال بعد غروب الشمس لولا المانع من الأمور الاعتبارية الاجتهادية التي تختلف فيها أنظار أهل الحساب، وكذا تقدير المانع، فالاعتماد على ذلك في توقيت العبادات لا يحقق الوحدة المنشودة؛ ولهذا جاء الشرع باعتبار الرؤية فقط دون الحساب .

سادسا : لا يصح تعيين مطلع دولة أو بلد - كمكة مثلا - لتعتبر رؤية الهلال منه وحده، فإنه يلزم من ذلك أن لا يجب الصوم على من ثبتت رؤية الهلال عندهم من سكان جهة أخرى، إذ لم ير الهلال في المطلع المعين .

سابعا : ضعف أدلة من اعتبر قول علماء النجوم في إثبات الشهر القمري . ويتبين ذلك بذكر أدلتهم ومناقشتها:
أ- قالوا : إن الله أخبر بأنه أجرى الشمس والقمر بحساب لا يضطرب، وجعلهما آيتين وقدرهما منازل؛ لنعتبر، ولنعلم عدد السنين والحساب، فإذا علم جماعة بالحساب وجود الهلال يقينا وإن لم تمكن رؤيته بعد غروب شمس التاسع والعشرين أو وجوده مع إمكان الرؤية لولا المانع، وأخبرنا بذلك عدد منهم يبلغ مبلغ التواتر - وجب قبول خبرهم؛ لبنائه على يقين، واستحالة الكذب على المخبرين؛ لبلوغهم حد التواتر، وعلى تقدير أنهم لم يبلغوا حد التواتر وكانوا عدولا فخبرهم يفيد غلبة الظن، وهي كافية في بناء أحكام العبادات عليها.

والجواب : أن يقال: إن كونها آيات للاعتبار بها والتفكير في أحوالها للاستدلال على خالقها ومجريها بنظام دقيق لا خلل فيه ولا اضطراب، وإثبات ما لله من صفات الجلال والكمال - أمر لا ريب فيه.
أما الاستدلال بحساب سير الشمس والقمر على تقدير أوقات العبادات فغير مسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الخلق بتفسير كتاب الله - لم يعلق دخول الشهر وخروجه بعلم الحساب، وإنما علق ذلك برؤية الهلال أو إكمال العدة في حال الغيم، فوجب الاقتصار على ذلك، وهذا هو الذي يتفق وسماحة الشريعة وسهولتها مع ما فيه من الدقة والضبط، بخلاف تقدير سير الكواكب فإن أمره خفي عقلي لا يدركه إلا النزر اليسير من الناس، ومثل هذا لا تبنى عليه أحكام العبادات.
ب - وقالوا : إن الفقهاء يرجعون في كثير من شئونهم إلى أهل الخبرة فيرجعون إلى الأطباء في فطر المريض في رمضان، وتقدير مدة التأجيل في العنين والمعترض، وإلى أهل اللغة في تفسير نصوص الكتاب والسنة، إلى غير ذلك من الشئون، فليرجعوا في معرفة بدء الشهور القمرية ونهايتها إلى علماء النجوم.
والجواب : أن يقال: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الشرع إنما جاء بالرجوع إلى أهل الخبرة في اختصاصهم في المسائل التي لا نص فيها. أما إثبات الأهلة فقد ورد فيه النص باعتبار الرؤية فقط، أو إكمال العدة دون الرجوع فيه إلى غير ذلك.
ج- وقالوا : إن توقيت بدء الشهر القمري ونهايته لا يختلف عن توقيت الصلوات الخمس وبدء صوم كل يوم ونهايته، وقد اعتبر الناس حساب

المنازل علميا في الصلوات والصيام اليومي فليعتبروه في بدء الشهر ونهايته.
وأجيب : بأن الشرع أناط الحكم في الأوقات بوجودها، قال تعالى: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } (1) وقال: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } (2) وفصلت السنة ذلك، وأناطت وجوب صوم رمضان برؤية الهلال ولم تعلق الحكم في شيء من ذلك على حساب المنازل، وإنما العبرة بدليل الحكم.
د- وقالوا : إن الله تعالى قال: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (3) إذ المعنى: فمن علم منكم الشهر فليصمه، سواء كان علم ذلك عن طريق رؤية الهلال مطلقا أو عن طريق علم حساب المنازل.
والجواب : أن يقال: إن معنى الآية: فمن حضر منكم الشهر فليصمه، بدليل قوله تعالى بعده: { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (4) وعلى تقدير تفسير الشهود بالعلم، فالمراد: العلم عن طريق رؤية الهلال، بدليل حديث: « لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه » (5) .
هـ- وقالوا : إن علم الحساب مبني على مقدمات يقينية، فكان
__________
(1) سورة الإسراء الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 187
(3) سورة البقرة الآية 185
(4) سورة البقرة الآية 185
(5) صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2122),سنن أبو داود الصوم (2320),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1684).

الاعتماد عليه في إثبات الشهور القمرية أقرب إلى الصواب وتحقيق الوحدة بين المسلمين في نسكهم وأعيادهم.
وأجيب : بأن ذلك غير مسلم؛ لأن الحس واليقين في مشاهدة الكواكب لا في حساب سيرها، فإنه أمر عقلي خفي لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس، كما تقدم؛ لحاجته إلى دراسة وعناية، ولوقوع الغلط والاختلاف فيه، كما هو الواقع في اختلاف التقاويم التي تصدر في كثير من البلاد الإسلامية، فلا يعتمد عليه ولا تتحقق به الوحدة بين المسلمين في مواقيت عباداتهم.
و- وقالوا : إن تعليق الحكم بثبوت الشهر على الأهلة معلل بوصف الأمة بأنها أمية، وقد زال عنها هذا الوصف، فقد كثر علماء النجوم، وبذلك يزول تعليق الحكم بالرؤية أو بخصوص الرؤية، ويعتبر الحساب وحده أصلا، أو يعتبر أصلا آخر إلى جانب الرؤية.
والجواب : أن يقال: إن وصف الأمة بأنها أمية لا يزال قائما بالنسبة لعلم سير الشمس والقمر وسائر الكواكب، فالعلماء به نزر يسير، والذي كثر إنما هو آلات الرصد وأجهزته، وهي مما يساعد على رؤية الهلال في وقته، ولا مانع من الاستعانة بها علة الرؤية وإثبات الشهر بها، كما يستعان بالآلات على سماع الأصوات، وعلى رؤية المبصرات، ولو فرض زوال وصف الأمية عن الأمة في علم الحساب - لم يجز الاعتماد عليه في إثبات الأهلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالرؤية، أو إكمال العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى الحساب واستمر عمل المسلمين على ذلك بعده.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

حرر في 14\2\1395هـ.
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة السادسة
عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... عبد الرزاق عفيفي
محمد بن جبير ... عبد المجيد حسن ... عبد الله بن منيع
له وجهة نظر مرفقة ... لي وجهة نظر مكتوبة ... له وجهة نظر مرفقة
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن صالح
محمد الحركان ... عبد الله بن غديان ... سليمان بن عبيد
صالح بن لحيدان ... عبد الله خياط ... راشد بن خنين

وجهة نظر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. وبعد :
فقد استعرضنا البحوث المقدمة للمجلس في موضوع (حكم العمل بالحساب في ثبوت دخول الشهر أو خروجه ) وقرارات المؤتمرات المنعقدة؛ لبحث ذلك الموضوع، وأعدنا النظر في البحث المعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في ذلك، ولم نجد فيما اطلعنا عليه من البحوث المذكورة بحثا في الموضوع من أهل الاختصاص في علم الفلك.
وقد رأينا في تلك البحوث من يدعي: أن نتائج الحساب الفلكي قطعية الدلالة وينكر أن تكون مبنية على ظن أو تخمين، كما وجدنا فيهم من يدعي: أن نتائج الحساب الفلكي مبنية على الحدس والظن والتخمين وينكر قطعية نتائجها. وليس في الفريقين من يعتبر أهلا لقبول قوله في قطعية النتائج أو ظنيتها؛ لكونه ليس من علماء الفلك.
وحيث إن الحكم في رأينا يختلف بالنسبة للأمرين: قطعية النتائج أو ظنيتها، حيث إن القول بقطعية نتائج الحساب الفلكي يقضي برد الشهادة برؤية الهلال دخولا أو خروجا إذا تعارضت معها؛ لأن من شروط اعتبار الشهادة بالإجماع: أن تكون منفكة عما يكذبها حسا وعقلا، فإذا قرر الحساب الفلكي عدم ولادة الهلال، وجاء من يشهد برؤيته - كانت شهادته ملازمة لما يكذبها عقلا، وهو القول باستحالة الرؤية للقطع بعدم

ولادة الهلال، كما أن القول بظنية النتائج يقضي بردها - أي: النتائج - واعتبار الشهادة بالرؤية؛ لإمكانها، وظنية النتائج الفلكية، وذلك في حال تعارض الشهادة بالرؤية مع نتائج الحساب.
ونظرا إلى أن القول بقطعية نتائج الحساب الفلكي أو ظنيتها من قبيل الدعوى من الطرفين، وأن القول في الأمور الشرعية يقتضي التحقق والتثبت والاستقصاء - فقد طلبنا من المجلس استقدام أصحاب اختصاص في علم الفلك؛ لمناقشتهم في ذلك والتحقق منهم فيما يدعيه الطرفان، كما تقضي بذلك المادة ( ) من لائحة أعمال المجلس، فرأى المجلس بالأكثرية عدم الحاجة إلى استقدامهم.
وعليه فإننا نؤكد ضرورة استقدام خبراء في علم الفلك لتحقق دعوى قطعية نتائج الحساب الفلكي أو ظنيتها، وعلى ضوء ذلك نقرر ما نراه.
وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 14\2\1395هـ.
عضو الهيئة ... عضو الهيئة ... عضو الهيئة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... محمد بن جبير ... عبد المجيد حسن

قرار رقم (108) وتاريخ 2\11\1403هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وبعد :
ففي الدورة الثانية والعشرين لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف، ابتداء من العشرين من شهر شوال حتى الثاني من شهر ذي القعدة عام 1403هـ بحث المجلس موضوع إنشاء مراصد فلكية يستعان بها عند تحري رؤية الهلال، بناء على الأمر السامي الموجه إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم (4\ص\19524) وتاريخ 18\8\1403هـ، والمحال من سماحته إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (2652\1\د)، وتاريخ 1\9\1403هـ واطلع على قرار اللجنة المشكلة بناء على الأمر السامي رقم (6\2) وتاريخ 2\1\1403هـ، والمكونة من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي عضو هيئة كبار العلماء وأعضاء الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى، والشيخ محمد بن عبد الرحيم الخالد، ومندوب جامعة الملك سعود الدكتور فضل أحمد نور محمد، والتي درست موضوع الاستعانة بالمراصد على تحري رؤية الهلال، وأصدرت في ذلك قرارها المؤرخ في 16\5\1403هـ المتضمن:
أنه اتفق رأي الجميع على النقاط الست التالية:
1 - إنشاء المراصد كعامل مساعد على تحري رؤية الهلال لا مانع منه شرعا.

2 - إذا رئي الهلال بالعين المجردة، فالعمل بهذه الرؤية، وإن لم ير بالمرصد.
3 - إذا رئي الهلال بالمرصد رؤية حقيقية بواسطة المنظار تعين العمل بهذه الرؤية، ولو لم ير بالعين المجردة؛ وذلك لقول الله تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (1) ولعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما » (2) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: « صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم . . . » (3) الحديث يصدق أنه رئي الهلال، سواء كانت الرؤية بالعين المجردة أم بها عن طريق المنظار، ولأن المثبت مقدم على النافي.
4 - يطلب من المراصد من قبل الجهة المختصة عن إثبات الهلال تحري رؤية الهلال في ليلة مظنته، بغض النظر عن احتمال وجود الهلال بالحساب من عدمه .
5 - يحسن إنشاء مراصد متكاملة الأجهزة للاستفادة منها في جهات المملكة الأربع، تعين مواقعها وتكاليفها بواسطة المختصين في هذا المجال.
6 - تعميم مراصد متنقلة؛ لتحري رؤية الهلال في الأماكن التي تكون مظنة رؤية الهلال، مع الاستعانة بالأشخاص المشهورين بحدة البصر، وخاصة الذين سبق لهم رؤية الهلال . ا هـ.
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) صحيح البخاري الصوم (1808),صحيح مسلم الصيام (1080),سنن النسائي الصيام (2122),سنن ابن ماجه الصيام (1654),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الصيام (634),سنن الدارمي الصوم (1690).
(3) سنن النسائي الصيام (2117).

وبعد أن قام المجلس بدراسة الموضوع ومناقشته ورجع إلى قراره رقم (2) الذي أصدره في دورته الثانية المنعقدة في شهر شعبان من عام 1394هـ في موضوع الأهلة قرر بالإجماع: الموافقة على النقاط الست التي توصلت إليها اللجنة المذكورة أعلاه، بشرط أن تكون الرؤية بالمرصد أو غيره ممن تثبت عدالته شرعا لدى القضاء كالمتبع، وأن لا يعتمد على الحساب في إثبات دخول الشهر أو خروجه.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة
عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن صالح
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد المجيد حسن ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
سليمان بن عبيد ... صالح بن غصون ... راشد بن خنين
عبد الله بن منيع ... صالح اللحيدان ... عبد الله بن غديان
محمد بن جبير ... عبد الله بن قعود ... .
أوافق على النقاط الخمس من قرار ... . ... .
اللجنة أما النقطة الثانية فلا أوافق عليها ... . ... .

(2)
بيان حكم إحياء
ديار ثمود
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
بحث في بيان حكم إحياء ديار ثمود
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
هذا بحث في بيان حكم إحياء ديار ثمود : فمن العلماء من منعه ، ومنهم من أجازه ، ولكل منهما مستند .
وفيما يلي بيان لبعض القائلين بكل قول ، وبيان أدلتهم ، ووجه الدلالة منها ، والمقارنة بين الأدلة ، وذكر بعض النظائر ، ويختم البحث بذكر حكمة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول ديار ثمود ، ثم بعد ذلك قائمة بأسماء المصادر التي أعد هذا البحث منها ، والله ولي التوفيق .
أما القائلون بالمنع : فمنهم أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي ، وأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، ومحمود بن أحمد العيني ، ومحمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية ، والإمام أحمد ، والحارثي وغيرهم ، واستدلوا بما أخرجه البخاري في [ صحيحه ] بسنده ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : « لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر

قال : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه ، وأسرع السير حتى أجاز الوادي » (1) (2) وأخرج أيضا بسنده ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثلما أصابهم » (3) (4) .
وأخرج البخاري أيضا بسنده ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، لا يصيبكم ما أصابهم » (5) (6) .
وأخرج البخاري في [ صحيحه ] بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ، ولا يستقوا منها ، فقالوا : قد عجنا منها ، واستقينا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ، ويهريقوا ذلك الماء » (7) (8) .
وقال البخاري : ويروى عن سبرة بن معبد ، وأبي الشموس ، « أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقاء الطعام » (9) ، وقال أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من اعتجن بمائه » (10) .
ثم ساق البخاري بسنده ، عن عبيد الله ، عن نافع ، أن ابن عمر رضي الله عنهما أخبره : أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر ،
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4157),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980),مسند أحمد بن حنبل (2/96).
(2) [ فتح الباري ] ، الجزء 8 ، كتاب المغازي ، غزوة تبوك 125 ، رقم الحديث ( 4419 ) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (423),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980).
(4) [ فتح الباري ] ، الجزء 8 ، كتاب المغازي ، غزوة تبوك 125 ، رقم الحديث ( 4420 ) .
(5) صحيح البخاري الصلاة (423).
(6) [ فتح الباري ] ( 1 \ 530 ) ، كتاب الصلاة ، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب ، رقم الحديث ( 433 ) .
(7) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3198),مسند أحمد بن حنبل (2/117).
(8) [ فتح الباري ] ( 6 \ 378 ) ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب قول الله تعالى ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) وما بعدها ، حديث رقم ( 3378 ) .
(9) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3198).
(10) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3198).

واستقوا من بئرها ، واعتجنوا به ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئارها ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان تردها الناقة ، تابعه أسامة عن نافع .
ثم ساق البخاري بسنده ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه رضي الله عنه ، « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم ، ثم تقنع بردائه وهو على الرحل » (1) (2) .
ثم ساق البخاري بسنده عن سالم ، أن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم » (3) .
هذه الأدلة التي سبقت ؛ منها ما أخرجه البخاري مسندا ، ومنها ما رواه معلقا بصيغة التمريض ، ومنها ما رواه بصيغة الجزم ، ومنها ما ذكره على سبيل المتابعة .
أما ما ذكره مسندا فقد أشير إليه فيما سبق ، وأما ما رواه معلقا بصيغة التمريض فإنه ذكر حديثين بين ابن حجر رحمه الله اتصال سند كل منهما فقال (4) : أما حديث سبرة بن معبد فوصله أحمد والطبراني من طريق عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد عن أبيه عن جده سبرة - وهو بفتح المهملة وسكون الموحدة - الجهني قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3200),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980),مسند أحمد بن حنبل (2/66).
(2) [ فتح الباري ] ( 6 \ 378 ) ، كتاب الأنبياء ، باب قول الله تعالى ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) حديث رقم ( 3380 ) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3201),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980),مسند أحمد بن حنبل (2/117).
(4) [ فتح الباري ] ( 6 \ 379 ) وما بعدها ، باب قول الله تعالى : ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) وقوله : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ ) .

راح من الحجر : من كان عجن منكم من هذا الماء عجينة ، أو حاس به حيسا فليلقه . »
وأما حديث أبي الشموس - وهو بمعجمة ، ثم مهملة ، وهو بكري لا يعرف اسمه ، فوصل حديثه البخاري في [ الأدب المفرد ] والطبراني وابن منده من طريق سليم بن مطير عن أبيه عنه قال : « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك » - فذكر الحديث - وفيه « فألقى ذو العجين عجينه ، وذو الحيس حيسه » ، ورواه ابن أبي عاصم ، من هذا الوجه ، وزاد « فقلت : يا رسول الله قد حسيت حيسة ، أفألقمها راحتلي ؟ قال : نعم . »
وأما المعلق بصيغة الجزم فهو حديث واحد ، قال ابن حجر ، وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه ، « أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فأتوا على واد ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إنكم بواد ملعون ، فأسرعوا وقال : من اعتجن عجينة أو طبخ قدرا فليكبها » الحديث ، وقال : لا أعلمه إلا بهذا الإسناد .
وأما ما أخرجه البخاري على سبيل المتابعة فقد قال ابن حجر (1) . قوله : ( تابعه أسامة ) يعني : ابن زيد الليثي ، ( عن نافع ) أي : عن ابن عمر روينا هذه الطريق موصولة في حديث حرملة عن ابن وهب قال : أخبرنا أسامة بن زيد - فذكر حديث عبيد الله ، وهو ابن عمر العمري ، وفي آخره : « وأمرهم أن ينزلوا على بئر ناقة صالح ويستقوا منها » .
هذه أدلة القائلين بالمنع ، أما وجه استدلالهم بها فقد قال
__________
(1) [ فتح الباري ] ( 6 \ 380 ) ، كتاب أحاديث الأنبياء

الخطابي (1) : وفيه دلالة على أن مساكن هؤلاء لا تسكن بعدهم ، ولا تتخذ وطنا ؛ لأن المقيم المستوطن لا يمكنه دهره باكيا أبدا ، وقد نهي أن تدخل دورهم إلا بهذه الصفة ، وفيه المنع من المقام بها والاستيطان .
انتهى بواسطة نقل الكرماني عنه .
وقال ابن حجر (2) : وفي الحديث الحث على المراقبة ، والزجر عن السكنى في ديار المعذبين ، والإسراع عند المرور بها .
وذكر العيني (3) وجه الدلالة ، كما ذكره الخطابي ، إلا أنه أبدل لفظة ( مساكن ) التي ذكرها الخطابي - أبدلها بقوله : ( ديار ) ، كما ذكر الجملة الأخيرة من كلام ابن حجر .
وقال ابن القيم (4) : ومنها : أن من مر بديار المغضوب عليهم والمعذبين لم ينبغ له أن يدخلها ، ولا يقيم بها ، بل يسرع السير ، ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها ، ولا يدخل عليهم إلا باكيا معتبرا .
وقال محمد بن مفلح (5) : وسأله مهنا عمن نزل الحجر أيشرب من مائها أو يعجن به ؟ قال : لا ، إلا من ضرورة ، لا يقيم بها . انتهى .
وقال مرعي بن يوسف (6) ، ومصطفى السيوطي : ( قال الحارثي : مساكن ) ديار ( ثمود ) لا تملك ؛ لعدم دوام البكاء مع السكنى ، ( ومع
__________
(1) [ الكرماني على البخاري ] ( 4 \ 95 ) ، كتاب الصلاة ، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب .
(2) [ فتح الباري ] ، ( 1 \ 531 ) ، كتاب الصلاة .
(3) [ عمدة القاري ] ( 4 \ 191 ) كتاب الصلاة
(4) [ زاد المعاد ] ( 3 \ 26 ) غزوة تبوك .
(5) [ الفروع ] ( 6 \ 301 ) كتاب الأطعمة .
(6) [ غاية المنتهى ، وشرحها مطالب أولى النهي ] ( 4 \ 179 ) ، باب إحياء الموات .

الانتفاع ) على رواية الأظهر خلافها . انتهى .
وكما استدل بتلك الأدلة التي سبقت على منع إحياء ديار ثمود أخذا من نهيه صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلا في حالة البكاء دائما ما دام فيها ، وأن هذا متعذر ، ومن كونه صلى الله عليه وسلم قنع رأسه وأسرع السير حتى اجتاز الوادي فقد أخذ منها أيضا منع الأحياء من وجه آخر ، وهو منع الصلاة فيها ، والطهارة من مائها ، والتيمم بترابها ، واستعمال مائها للشرب والطبخ ، وهذه الطائفة من كلام أهل العلم في ذلك :
قال البخاري (1) في [ صحيحه ] ، باب الصلاة في مواضع الخسف ، العذاب ، وذكر على أثر علي الدال على منع الصلاة في مواضع الخسف ، ثم ذكر حديث النهي عن دخول ديار ثمود إلا في حالة البكاء .
فهذا يدل على أن البخاري يرى منع الصلاة فيها .
ونقله العيني (2) عن أبي بكر بن العربي المالكي .
وقال القرطبي (3) : منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع ، وقال : لا تجوز الصلاة فيها ؛ لأنها دار سخط ، وبقعة غضب .
وقد سبق قول الإمام أحمد رحمه الله ( لا يقيم فيها ) ، وهذا يدل على أن يرى منع الصلاة فيها .
هذا بالنسبة لمنع الصلاة فيها .
وأما عدم جواز استعمال مائها للطهارة والشرب والطبخ ، وكذلك
__________
(1) [ فتح الباري ] ( 1 \ 530 ) .
(2) [ عمدة القاري ] ( 4 \ 190 ) ، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب .
(3) [ تفسير القرطبي ] ( 10 \ 47 ) سورة الحجر .

استعمال التراب للتيمم - فقد قال القرطبي (1) : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به ؛ لأنه ماء سخط ، فلم يجز الانتفاع به ؛ فرارا من سخط الله ، وقال : اعلفوه الإبل . قال مالك : إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم ، إذا لا تكليف عليها .
وقال النووي (2) بعد سياق الأدلة : قلت : فاستعمال ماء هذه الآبار المذكورة في طهارة وغيرها مكروه أو حرام إلا لضرورة ؛ لأن هذه سنة صحيحة لا معارض لها ، وقد قال الشافعي : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، فيمنع استعمال آبار ثمود إلا بئر الناقة ، ولا يحكم بنجاستها ؛ لأن الحديث لم يتعرض للنجاسة ، والماء طهور بالأصالة .
وقال موسى بن أحمد بن سالم المقدسي ، ومنصور بن يونس البهوتي (3) : ( ولا يباح ماء آبار ) ديار ( ثمود غير بئر الناقة ) .
( فظاهره ) أي : ظاهرة القول بتحريم ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود ( لا تصح الطهارة ) أي : الوضوء والغسل ( به ) ؛ لتحريم استعماله كماء مغصوب أو ) ماء ( ثمنه المعين حرام ) في البيع فلا يصح الوضوء بذلك ولا الغسل به ؛ لحديث : ( « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » (4) .
( فيتيمم معه ) أي : مع ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود ، ومع المغصوب وما ثمنه المعين الحرام ( لعدم غيره ) من المباح ، ولا يستعمله ؛ لأنه ممنوع
__________
(1) [ تفسير القرطبي ] ( 1 \ 46 ) ، سورة الحجر .
(2) [ المجموع شرح المهذب ] ( 1 \ 137 ) ، كتاب الطهارة .
(3) [ الإقناع وشرحه ] ( 1 \ 21 ، 22 ) كتاب الطهارة .
(4) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/256).

منه شرعا ، فهو كالمعدوم حسا ، انتهى .
وتقدم جواب الإمام أحمد رحمه الله لما سأله مهنا عمن نزل الحجر أيشرب من مائها أو يعجن به ؟ قال : لا إلا من الضرورة ، لا يقيم بها .
وحاصل ما سبق : أن من ذكر من العلماء استدل بالأدلة التي سبقت على عدم جوازها إحياء ديار ثمود ، وأنه لا يجوز استعمال مائها للطهارة أو شرب أو طبخ ، ولا يجوز التيمم بترابها ، وأن الأدلة دلت على ذلك ، وأن توجيه الاستدلال منها كما يأتي :
1 - نهى صلى الله عليه وسلم عن دخول ديار ثمود ، إلا في حال البكاء ، وأنه لا بد من ملازمة البكاء ما دام باقيا فيها ، ولو أنه بقي في أي جزء منها بدون هذه الصفة صدق عليه أنه دخل ذلك الجزء وهو غير باك فيكون منهيا عن الدخول فيه ، فكما أنه منهي عن الدخول ابتداء إلا وهو متصف بالبكاء فنهيه عن الاستمرار بدون البكاء من باب أولى ، فهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم ، والنهي يقتضي التحريم والفساد ، هذه هي القاعدة العامة في ذلك ، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل يدل على ذلك ، وكما صدر القول منه صلى الله عليه وسلم في النهي عن دخول ديارهم إلا في حالة الاتصاف بالبكاء ، فقد قنع رأسه ، وأسرع السير وهو على الرحل حتى اجتاز الوادي ، والإحياء يترتب عليه البقاء فيها وبناء المساكن ، ولا يمكن دوام البقاء مع ملازمة البكاء ، ودوام البقاء مع ملازمة البكاء ممتنع ، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم ، فيمتنع الإحياء لامتناع البقاء مع ملازمة البكاء .
2 - أمره صلى الله عليه وسلم بعدم الشرب من مائها ، وعدم الطبخ ، وأمره صلى الله عليه وسلم بطرح العجين الذي عجنوا به من مائها ، وبإهراق الماء الذي استقوا من الآبار ،

وأمرهم بأن يستقوا من بئر الناقة .
والأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب ، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل ، ولا نعلم دليلا يصرفه عن أصله واستعماله للطهارة أولى من استعماله للشرب والطبخ فيمنع ، وقيس التيمم بترابه على الطهارة من مائه فيمتنع التيمم بترابه .
والإحياء لهذه البقعة بالزرع وبغرس النخل والأشجار يترتب عليه استعمال البقعة ، والبقاء فيها ، واستعمال الماء لما ذكره ، وهو مثل استعمال الماء الذي عجن به العجين ، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بإلقاء العجين ، فدل على أن فعلهم حرام ، فيحرم استعمال الماء للإحياء ، وأما البقاء فيها فقد سبق منعه إلا في حالة الاتصاف بالبكاء ما دام فيها ، وأن استدامة البكاء متعذرة ، وإذا كان الأمر على ما وصف فكيف الإحياء والبقاء ؟ !

المذهب الثاني : جواز الإحياء ، وهذا المذهب مأخوذ من عموم كلام الحنفية والمالكية ، والشافعي ، والثوري ، والرملي ، ونص عليه الماوردي ، وهو أظهر الروايتين في مذهب أحمد .
أما المذهب الحنفي : فقد قال محمد أمين الشهير بابن عابدين قال في [ الملتقي ] : الموات : أرض لا ينتفع بها عادية ، أو مملوكة في الإسلام ليس لها مالك معين مسلم أو ذمي ، وعند محمد : إن ملكت في الإسلام لا تكون مواتا (1) . اهـ .
ومثله في [ الدرر ] ، و [ الإصلاح ] ، و [ القدوري ] ، و [ الجوهرة ] ،
__________
(1) [ حاشية ابن عابدين ] ( 5 \ 481 ) ، باب إحياء الموات .

وقوله : عادية أي تقدم خرابها ، كأنها ضربت في عهد عاد . انتهى المقصود .
وأما المذهب المالكي : فقال خليل : موات الأرض : ما سلم عن الاختصاص بعمارة ولو اندرست إلا الإحياء ، وبحريمها كمحتطب ومرعي . . (1) إلخ .
وقال محمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بالحطاب : والموات : بفتح الميم ، ويقال : موتان بفتح الميم والواو : الأرض التي ليس لها مالك ، ولا بها ماء ولا عمارة ، ولا ينتفع بها إلا أن يجري إليها ماء ، أو تستنبط فيها ، أو يحفر فيها بئر . (2) .
والتعريف المذكور تبع المصنف فيه ابن الحاجب ، وهو تبع ابن شاس ، وهو تبع الغزالي ، وهو قريب مما قال أهل اللغة في معناه ، وقال ابن عرفة إحياء الموات لقب لتعمير داثر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها ، وموات الأرض ، قال ابن رشد في رسم الدور من سماع يحيي بن القاسم ، من كتاب [ السداد والأنهار ] : روى ابن غانم : موات الأرض هي التي لا نبات فيها ؛ لقوله تعالى : { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } (3) فلا يصح الإحياء إلا في البوار ، انتهى المقصود .
ووجه دلالة هذا الكلام ، وكلام الحنفية قبله على جواز إحياء ديار ثمود أنه لم يرد عنهم استثناء ، فدل على أنها باقية على الأصل .
__________
(1) [ مختصر خليل ] ( 2 \ 202 ) .
(2) [ مواهب الجليل على مختصر خليل ] ( 5 \ 2 ) باب إحياء الموات .
(3) سورة الجاثية الآية 5

وأما المذهب الشافعي : فقد قال الشافعي : والموات الثاني : ما لم يملكه أحد في الإسلام بعرف ولا عمارة ، ملك في الجاهلية ، أو لم يملك ، فذلك الموات الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : « من أحيا مواتا فهو له » (1) .
وقال النووي : وإن كانت عمارة جاهلية فقولان : ويقال وجهان : أحدهما : لا تملك بالإحياء ؛ لأنها ليست بموات ، وأظهرهما تملك كالركاز .
وقال ابن سريج وغيره : إن بقي أثر العمارة أو كان معمورا في الجاهلية قريبة لم تملك بالإحياء ، وإن اندرست بالكلية وتقادم عهدها ملكت (2) .
وقال الرملي : وإن كانت العمارة جاهلية جهل دخولها في أيدينا فالأظهر أنه - أي : المعمور - يملك بالإحياء ، إذ لا حرمة لملك الجاهلية ، والثاني : المنع ؛ لأنها ليست بموات (3) .
وقال الماوردي : والضرب الثاني من الموات : ما كان عامرا فخرب فصار مواتا عاطلا ، وذلك ضربان : أحدهما : ما كان جاهليا كأرض عاد وثمود ، فهي كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة ويجوز إقطاعه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عادي الأرض لله ولرسوله ، وثم هي لكم مني » ، يعني : أرض عاد (4) .
__________
(1) [ الأم ] ( 3 \ 264 ) ، باب إحياء الموات .
(2) [ المجموع شرح المهذب ] ( 5 \ 279 ) ، باب إحياء الموات .
(3) [ نهاية المحتاج شرح المنهاج ] ( 5 \ 233 ) ، باب إحياء الموات .
(4) [ الأحكام السلطانية ] ص 190 ، باب إحياء الموات .

وأما المذهب الحنبلي :
فقد قال عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة (1) :
النوع الثاني : ما يوجد فيه آثار ملك قديم جاهلي ؛ كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوهم - فهذا يملك بالإحياء في أظهر الروايتين ؛ لما ذكرنا من الأحاديث . إلخ . إلى أن قال : والرواية الثانية : لا تملك ؛ لأنها إما لمسلم ، أو ذمي أو بيت المال ، أشبه ما لو تبين مالكه . انتهى المقصود .
وقال محمد بن الحسن الفراء الحنبلي (2) : الضرب الثاني من الموات : ما كان عامرا فضرب وصار مواتا عاطلا ، فذلك ضربان : أحدهما : ما كان جاهليا ؛ كأرض عاد وثمود ، فهو كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة ، ويجوز إقطاعه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عادي الأرض لله ولرسوله ، ثم هي لكم مني » ، يعني : أرض عاد . انتهى .
وقال مصطفى السيوطي : (3) بعد ذكره جواز ملك ديار ثمود ، وقول الحارثي : إنها لا تملك ، وشيء من أدلة المذهب ، وقال بعد ذلك : ولم يذكر القاضي في [ الأحكام السلطانية ] ، والموفق في [ المغني ] خلافا في جواز إحيائه ، قال في [ الإنصاف ] : وهو طريقة صاحب المحرر والوجيز وغيرهما ، قال الحارثي : وهو الحق والصحيح من المذهب ، فإن أحمد وأصحابه لا يختلف قولهم في البئر العادية ، وهو نص منه في خصوص النوع ، وصحح الملك فيه بالإحياء صاحب [ التلخيص والفائق والفروع
__________
(1) [ المغني والشرح ] وهذا النص من الشرح ( 6 \ 148 ) ، باب إحياء الموات .
(2) [ الأحكام السلطانية ] ص ( 212 ) ، باب إحياء الموات .
(3) [ الغاية وشرحها المطالب ] ( 4 \ 179 ، 180 ) ، باب إحياء الموات .

والتصحيح ] وغيرهم . انتهى .
واستدل أهل هذا المذهب : بما ثبت في [ صحيح البخاري ] بسنده في المزارعة عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق » (1) .
وهذا الحديث ورد من طرق كثيرة وبألفاظ مختلفة ، ولكن معناها هو المعنى الذي دل عليه هذا الحديث ، وكذلك ورد آثار بهذا المعنى ، ترك ذكر الأحاديث والآثار اكتفاء بما أخرجه البخاري .
وجه الدلالة : أن هذا الحديث دل بعمومه على أن الأصل في الأرض كلها اتصافها بعدم المانع من تملكها ، فمن أعمر أرضا ، أي : أحياها فهو أحق بها من غيره ، ويدخل في هذا العموم أرض الحجر فيجوز إحياؤها .
واعترض على الاستدلال بهذا الحديث : بأن الأحاديث التي دلت على المنع من دخول ديار ثمود إلا في حالة الاتصاف بالبكاء ما دام فيها ، وعلى منع استعمال الماء ، وقد سبق تقرير ذلك - جاءت تلك الأدلة خاصة ، وهذا الدليل عام ، والقاعدة المقررة : أنه إذا تعارض عام وخاص يخالف العام في الحكم فإنه يخرج الخاص من العام كذا هنا .
وأما من أجاز الصلاة فيها ، والتوضؤ من مائها والتيمم بترابها فقد استدل بالعموم ؛ كحديث : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل » (2) ، وكقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } (3) الآية .
__________
(1) صحيح البخاري المزارعة (2210),مسند أحمد بن حنبل (6/120).
(2) صحيح البخاري التيمم (328),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن النسائي المساجد (736),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة (1389).
(3) سورة المائدة الآية 6

قال القرطبي (1) : الصحيح - إن شاء الله - الذي يدل عليه النظر والخبر : أن الصلاة بكل موضع طاهر جائزة صحيحة ، وما روي من قوله صلى الله عليه وسلم : « إن هذا واد به شيطان » (2) ، وقد رواه معمر عن الزهري فقال : واخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة ، وقول علي : « نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة » (3) وقوله عليه الصلاة والسلام حين مر بالحجر من ثمود : « لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين » (4) ، ونهيه عن معاطن الإبل . . إلى غير ذلك مما في هذا الباب ، فإنه مردود إلى الأصول المجتمع عليها ، والدلائل الصحيح مجيئها .
قال الإمام الحافظ أبو عمر ابن عبد البر : المختار عندنا في هذا الباب : أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيه نجاسة متيقنة تمنع من ذلك ، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان ، وموضع ملعون لا يجب أن تقام فيه الصلاة ، وكل ما روي في هذا الباب من النهي عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وأعطان الإبل ، وغير ذلك مما في هذا المعنى - كل ذلك عندنا منسوخ ومرفوع ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا » (5) ، وقوله صلى الله عليه وسلم مخبرا أن ذلك من فضائله ومما خص به ، وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص - قال صلى الله عليه وسلم « أوتيت خمسا » (6) وقد روي : « ستا » وقد روي « ثلاثا » و « أربعا » (7) وهي تنتهي إلى أزيد من تسع . قال فيهن : « لم يؤتهن أحد قبلي : بعثت إلى
__________
(1) [ الجامع لأحكام القرآن ] ( 10 \ 48 ، 49 ) ، تفسير سورة الحجر .
(2) موطأ مالك وقوت الصلاة (26).
(3) سنن أبو داود الصلاة (490).
(4) صحيح البخاري الصلاة (423),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980).
(5) صحيح البخاري التيمم (328),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن النسائي المساجد (736),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة (1389).
(6) مسند أحمد بن حنبل (5/145),سنن الدارمي السير (2467).
(7) صحيح البخاري الإيمان (34),صحيح مسلم الإيمان (58),سنن الترمذي الإيمان (2632),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020),سنن أبو داود السنة (4688),مسند أحمد بن حنبل (2/189).

الأحمر والأسود ، ونصرت بالرعب ، وجعلت أمتي خير الأمم ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » (1) اهـ .
ويورد على دعوى النسخ : أن النسخ لا يثبت إلا بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع .
ونقل القرطبي (2) عن ابن العربي أنه قال : فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله صلى الله عليه وسلم : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » (3) ، فلا يجوز التيمم بترابها ، ولا الوضوء من مائها ، ولا الصلاة فيها . انتهى المقصود .
ذكر القرطبي هذا الكلام عن ابن العربي بعد قوله : منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع ، وقال : لا تجوز الصلاة فيها ؛ لأنها دار سخط وبقعة غضب .
وأما النظائر فمن ذلك :
1 - إسراعه صلى الله عليه وسلم حينما مر بوادي محسر في حجة الوداع بعد دفعه من مزدلفة ، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، « أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر » (4) ، رواه داود والنسائي والترمذي ، قال ابن الأثير : أوضع : إذا أسرع السير .
قال ابن القيم (5) : فلما أتى بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير ، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه .
وكذلك فعل في سلوكه الحجر ( ديار ثمود ) فإنه تقنع بثوبه ، وأسرع
__________
(1) صحيح البخاري التيمم (328),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن النسائي الغسل والتيمم (432),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة (1389).
(2) [ الجامع لأحكام القرآن ] ( 10 \ 47 ، 48 ) ، تفسير سورة الحجر .
(3) صحيح البخاري التيمم (328),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن النسائي المساجد (736),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة (1389).
(4) سنن الترمذي الحج (886),سنن أبو داود المناسك (1944),سنن ابن ماجه المناسك (3023),سنن الدارمي المناسك (1899).
(5) [ زاد المعاد ] ( 1 \ 474 ) .

السير .
2 - قال تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا } (1) إلى قوله تعالى : { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } (2)
قال ابن القيم رحمه الله (3) : ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها ، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار ، وأمر بهدمه ، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه - لما كان بناؤه إضرارا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا ، ومأوى للمنافقين المحاربين لله ورسوله ، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطليه ؛ إما بهدمه وتحريقه ، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له . انتهى .
3 - ثبت في [ صحيح مسلم ] عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : « بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، وامرأة من الأنصار على ناقة ، فضجرت ، فعلنتها ، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : خذوا ما عليها ، ودعوها ، فإنها ملعونة » (4) قال عمران : فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد .
وأما الحكمة ، فقد قال ابن حجر (5) :
قول : ( لا يصيبكم ) بالرفع على أن لا نافية ، والمعنى : لئلا يصبكم ، ويجوز الجزم على أنها ناهية ، وهو أوجه ، وهو نهي بمعنى الخبر ، وللمصنف في أحاديث الأنبياء ( أن يصيبكم ) أي : خشية أن يصيبكم
__________
(1) سورة التوبة الآية 107
(2) سورة التوبة الآية 108
(3) [ زاد المعاد ] ( 3 \ 35 ) ، غزوة تبوك ، فقه الغزوة .
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2595),سنن أبو داود الجهاد (2561),مسند أحمد بن حنبل (4/431),سنن الدارمي الاستئذان (2677).
(5) [ فتح الباري ] ( 1 \ 530 ، 531 ) كتاب الصلاة ، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب .

ووجه هذه الخشية : أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار ، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر ، مع تمكينه لهم في الأرض ، وإمهالهم مدة طويلة ، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه ، وهو سبحانه مقلب القلوب ، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك .
والتفكر أيضا في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له ، فمن مر عليهم ، ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارا بأحوالهم فقد شابههم في الإهمال ، ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه ، فلا يأمن أن يجره ذلك العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم . انتهى .
هذا ما تيسر ذكره ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

مصادر بحث حكم إحياء ديار ثمود :
1 - [ تفسير القرطبي ] - طبع دار الكتب المصرية سنة 1365 هـ .
1 - [ فتح الباري ] - طبع المطبعة السلفية ومكتبتها بمصر .
2 - [ الكرماني على البخاري ] - طبع مؤسسة المطبوعات الإسلامية - مصر .
3 - [ عمدة القاري على البخاري ] - طبع دار الطباعة المنيرية .
4 - [ حاشية ابن عابدين ] .
5 - [ الأم ] .
6 - [ المجموع شرح المهذب ] .
7 - [ نهاية المحتاج ] .
8 - [ الأحكام السلطانية والولات الدينية ] .
9 - [ الإقناع وشرحه ] .
10 - [ المغني والشرح الكبير ] .
11 - [ مطالب أولى النهي ] .
12 - [ زاد المعاد ] .
13 - [ الأحكام السلطانية ] .
14 - [ كتاب الأموال ] .

قرار رقم ( 7 )
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد وآله وصحبه . وبعد :
اطلعت هيئة كبار العلماء على المعاملة المتعلقة بموضوع دراسة حكم إحياء أرض ديار ثمود الواردة إلى فضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رفق خطاب المقام السامي رقم ( 5576 ) وتاريخ 26 \ 3 \ 1392هـ المحالة إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء ، بخصوص رغبة جلالة الملك حفظه الله في أن تقوم هيئة كبار العلماء بدراسة ( حكم إحياء أرض ديار ثمود ) وموافاة جلالته بما يتقرر .
جرى عرض ذلك على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها الثانية المنعقدة في أول شهر شعبان حتى 13 منه عام 1392 هـ .
كما استعرض المجلس ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع ، وبعد دراسة مجلس الهيئة لذلك ، ولما أعد فيه من بحث ، وبعد تداول الرأي قرر ما يلي :
أولا : الاتفاق على أنه لا يجوز إحياء أراضي ديار ثمود ، للأحاديث الصحيحة الدالة على النهي ، ولعدم ورود أدلة تدفعها .
ثانيا : نظرا لعدم وجود تحديد واضح للمحظور إحياؤه من غيره رأى المجلس تأجيل البت في تحديد الممنوع إحياؤه ، حتى يقدم له بحث مستوفى من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد تطبيق ذلك على واقع الأرض ، بواسطة أهل الخبرة في تلك الجهات ،

وبالاشتراك مع بعض الفنيين لرسم ذلك بما يجري بعد ذلك دراسته في دورة قادمة ؛ ليتم البت في تحديد الممنوع إحياؤه من غيره .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
. ... رئيس الدورة ... .
محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الرزاق عفيفي ... محضار عقيل
عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... .

قرار رقم ( 9 )
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
ففي الدورة الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة فيما بين 1 \ 4 \ 1393 هـ و 17 \ 4 \ 93 هـ، وبناء على ما جاء في الفقرة الثانية من القرار رقم ( 7 ) الصادر من هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية لمجلسها المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان عام 1392 هـ من إرجاء تحديد الممنوع إحياؤه من ديار ثمود حتى يقدم للمجلس بحث مستوفى من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد تطبيق ذلك على واقع الأرض بواسطة أهل الخبرة في تلك الجهات ، وبالاشتراك مع بعض الفنيين لرسم ذلك ؛ ليتم البت في تحديد الممنوع إحياؤه من غيره .
وبناء على البحث المقدم من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد شخوصها إلى أرض الحجر ومشاهدتها إياها ، واتصالها بأهل الخبرة في تلك الجهات ، وما اشتمل عليه البحث من وصف كامل لمشاهدتها ومن خارطة تقريبية لها ، ولما فيها من آثار وجبال ووديان ومزارع وغير ذلك في الدورة الثالثة لمجلس الهيئة - جرى استعراض النصوص الواردة في ذلك ؛ والتي يمكن أن يستند عليها في التحديد ، وهي ما يلي :
قال تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 74

وقال تعالى : { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } (1)
وروى البخاري في [ صحيحه ] بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : « لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بأرض الحجر قال : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم ، إلا أن تكونوا باكين . ثم قنع رأسه ، وأسرع السير حتى أجاز الوادي » (2) ، وروى أيضا بسنده عن نافع ، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره : « أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر ، واستقوا من بئرها ، واعتجنوا به ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئارها ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان تردها الناقة . » (3)
وأخرج معلقا بصيغة الجزم ، قال ابن حجر في [ الفتح ] : وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه : « أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فأتوا على واد ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : إنكم بواد ملعون ، فأسرعوا ، وقال : من اعتجن بمائه أو طبخ قدرا فليكبها » الحديث ، وروى مسلم في [ صحيحه ] بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : « مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، إلا أن تكونوا باكين ، حذر أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم زجر فأسرع حتى خلفها . » (4)
__________
(1) سورة الفجر الآية 9
(2) صحيح البخاري المغازي (4157),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980),مسند أحمد بن حنبل (2/117).
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3199),مسند أحمد بن حنبل (2/117).
(4) صحيح البخاري الصلاة (423),صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980).

قال النووي في شرحه ، قوله : ( ثم زجر فأسرع حتى خلفها ) أي : زجر ناقته ، فحذف ذكر الناقة للعلم به ، ومعناه : ساقها سوقا كثيرا حتى خلفها وهو بتشديد اللام ، أي : جاوز المساكن .
وروى الإمام أحمد في [ المسند ] بسنده عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود ، فاستقى الناس من الآبار التي كان يشرب منها ثمود ، فعجنوا منها ، ونصبوا القدور باللحم ، فأمرهم رسول اله صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا قال : إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم . » (1)
قال ابن كثير في [ البداية والنهاية ] بعد سياقه هذا الحديث : وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين من هذا الوجه ولم يخرجاه . اهـ .
وبناء على ذلك ، وحيث إن موارد النهي من هذه الأحاديث تأتي على أمرين :
أحدهما : دخول مساكنهم ، سواء ما كان منها في الجبال أو كان في السهول مما في تلك الأرض .
الثاني : الاستقاء من آبارهم ، وقد وجد بين الآثار في الجبال والسهول آبار قديمة تواترت الأخبار فيما بين أهل المنطقة أنها آبار ثمودية .
كما أن بعض هذه الأحياء يدل على الأمر بالإسراع في الوادي عند المرور به حتى يتم اجتيازه وعلى التقنع فيه .
وحيث إن الهيئة لم تجد نصوصا صريحة تحدد المنقطة تحديدا
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/117).

لا يكون للاجتهاد فيه مجال ، وحيث إن ما ذكره بعض أهل العلم بالتفسير والسير - كابن إسحاق وغيره - من تحديد أرض الحجر بثمانية عشر ميلا أو بخمسة أميال لا يمكن الاعتماد عليه في تحليل أو تحريم ما لم يكن معتمدا على ما ثبت من كتاب أو سنة .
وحيث إن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل ينقل ذلك الأصل عن حكمه .
بناء على ذلك فإن الهيئة تقرر ما يأتي :

أولا : منع الإحياء والسكني فيما يلي :
أ - ما كان فيه آثار من جبال وسهول .
ب - الآبار الثمودية .
ج - مجرى الوادي ومفرشه .
وبناء على ما جاء في وصف اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ضوء مشاهداتها لتلك المنقطة ، ما ذكرته في وصفها من آثار ومسميات وجبال ووديان ومساحات وآبار ، وحيث إن آخر بئر ثمودية ظهرت في الجهة الجنوبية من أرض الحجر هي البئر التي بجوار أحد جبال الصينيات ، وأن آخر بئر ثمودية ظهرت في الجهة الشمالية هي ( بئر مزيلقة ) وأن آخر جبل من الجهة الشرقية فيه آثار قائمة هو ( جبال الأثالث ) وأن آخر أثر سكني ظهر في الجهة الغربية هو في ( جبال الخريمات ) وحيث إن الوادي يأخذ مسماه بعد التقاء روافده السبعة ، فيكون تحديد الممنوع إحياؤه والسكني فيما يلي :
يحد جنوبا بجبل الصينيات ، ويمتد الحد شرقا بانعطاف إلى الشمال

حتى يتصل بجبال الأثالث ، بحيث تكون هي وجبال الصانع وبثينة وأبو لوحة وغيرها مما فيه آثار داخلة في الحد ، ثم يمتد الحد من الشرق إلى الشمال بشكل دائري متمش مع حافة مفرش الوادي حتى يتصل بآخر بئر من آبار مزيلقة ، بحث يكون مفرش الوادي وآبار مزيلقة داخلين في هذا الحد ، ثم يمتد الحد غربا بانعطاف نحو الجنوب حتى يتصل بحافة الوادي الشمالية ، ثم يمتد حتى يتصل بمجمع روافد الوادي السبعة ، ويكون هذا الملتقى حدا غربيا للممنوع ، ثم ينعطف الحد نحو الشرق ، ممتدا مع حافة الوادي الجنوبية ، حتى يتصل بمفيض الوادي إلى أرض العذيب ثم يتجه الحد جنوبا مارا بجبال الخريمات بحيث تكون داخلة في المحدود حتى يتصل بجبال الصينيات .
أما بئر الناقة فقد وردت الأحاديث الصحيحة في جواز الاستقاء منها والنزول حولها للاستقاء ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نزل بأصحابه عندها ، واستقوا من مائها ، وكذلك المرور من أرض الحجر فقد مر بها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه كثير من أصحابه في طريقهم إلى تبوك ، إلا أنه ينبغي الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فقد قنع رأسه ، وزجر راحلته حتى اجتاز الوادي .

ثانيا : ما عد ذلك مما كان خارجا عما هو منوه عنه أعلاه وداخلا في محيط سلسلة الجبال القائمة - فإن الهيئة تقرر بالأكثرية جواز إحيائه والسكنى فيه ؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل الحظر ، وبالله التوفيق .
وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .

هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة الثالثة
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... محمد الأمين الشنقيطي
عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد الرزاق عفيفي لي وجهة نظر
عبد العزيز بن باز ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد الله بن منيع
سليمان العبيد ... محمد الحركان ... محمد بن جبير
صالح بن لحيدان
إنني متوقف فيما زاد عن ما حدد بمنطقة الآثار إلى مجتمع الأودية من الجهة الغربية وموافق على ما فيه الآثار والآبار ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون لي وجهة نظر مرفقة
. ... عبد الله بن غديان مع توقف فيما زاد عن المحدود داخل سلسلة الجبال المحيطة ... .

وجهة نظر
الحمد لله : خلاصة رأيي في موضوع ديار ثمود .
بعد البحث والمراجعة أرى أن ما تناولت الأحاديث النبوية لا يجوز إحياؤه ولا سكناه ، غير أنه لم يظهر لي من الأحاديث ما يقضي بتحديد منقطة معينة ؛ لأن الأحاديث ليست صريحة ، ولأن الأصل الإباحة ، ولأن أهل العلم لم يذكروا حدودا معلومة ، ولأن بئر الناقة من أبرز المعالم الموجودة في المنطقة ، ولم أقف على دليل بتعيينها ، ولأنه لا يجوز الحكم مع وجود شك أو تردد .
لهذا وغيره من الاعتبارات حررت رأيي ، وأسأل الله للجميع التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
عضو هيئة كبار العلماء
صالح بن علي بن غصون

( 3 )
تحديد الممنوع إحياؤه
من ديار ثمود
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
تحديد الممنوع إحياؤه من ديار ثمود
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ، وبعد :
فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية المنعقدة في شهر شعبان سنة 1392 هـ من ضرورة تقديم بحث مستوفي في تحديد الممنوع إحياؤه من أرض ديار ثمود من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد تطبيق ذلك على واقع الأرض بواسطة أهل الخبرة في تلك الجهات ، وبالاشتراك مع بعض الفنيين لرسم ذلك ؛ ليجري دراسة ذلك في الدورة القادمة إن شاء الله .
بناء على ذلك قامت اللجنة بما ذكر ، وأعدت فيه بحثا تشتمل على نصوص من الكتاب والسنة ، وعلى نقول من أقوال العلماء ، وعلى أقوال أهل الخبرة والمعرفة من سكان تلك الجهات ، وعلى مشاهدات اللجنة وما رسم تحت إشرافها بيد فني موظف ببلدية العلا شارك اللجنة في جولاتها في الوادي وأرض الحجر ، مع الأدلاء من أهل الخبرة بالمواقع وأسمائها في ديار ثمود .
وفيما يلي بيان ذلك :

أولا النصوص :
قال الله تعالى { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } (1) وقال : { وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ } (2) وقال { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ } (3) وقال : { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } (4)
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي » (5) (6) .
وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى في دواوين السنة ، وتقدم ذكرها في بحث النهي عن إحياء ديار ثمود ، فاستغنينا بذلك عن إعادتها .
ومن هذه النصوص يتبين أن مساكن ثمود كانت بيوتا منحوتة في الجبال ، وقصورا مبنية في السهول ، وسواء أكانت سكناهم فيهما كل العام أم كانت سكناهم في القصور أيام الصيف ، وفي البيوت المنحوتة أيام الشتاء ، ومن شاهد الجوبة الفسيحة التي بداخل السلسلة الجبلية وجد السهول منتشرة بها ، وبهذا لا يستطيع أن يقطع بأن قصورهم كانت في المنطقة الأثرية الظاهرة اليوم فقط ، بل يمكن أن يكون بعض قصورهم وآبارهم
__________
(1) سورة الأعراف الآية 74
(2) سورة الحجر الآية 82
(3) سورة الشعراء الآية 149
(4) سورة الفجر الآية 9
(5) صحيح البخاري المغازي (4157).
(6) انظر كتاب المغازي ، من [ صحيح البخاري ] ( 5 \ 135 ) .

الأثرية لا تزال مدفونة بالرمال التي سفتها عليها الرياح على مر السنين ، بدليل ما انكشف أخيرا منها بعد هطول الأمطار العام الماضي ، والوادي منفرج بين الجبال أو تلال أو آكام ، كما في [ القاموس المحيط ] .
وذكر القرطبي في تفسير آية : { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } (1) أن كل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكا للسيل ، ومنفذا فهو واد ، اهـ . وعلى هذا يكون كل ما انفرج بين سلسلة جبال الحجر واديا .
__________
(1) سورة الفجر الآية 9

ثانيا : ما ذكره أئمة اللغة التفسير وشراح الحديث وعلماء التاريخ مما يتعلق بتحديد ديار ثمود : 1 - قال ابن منظور في [ لسان العرب ] : والحجر ديار ثمود ناحية الشام عند وادي القرى .
2 - وقال الجوهري في [ الصحاح ] : والحجر منازل ثمود ناحية الشام عند وادي القرى .
3 - وقال ابن جرير : في تفسير سورة الأعراف عند كلامه على قصة ثمود : وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ، وكذا قال ابن كثير في تفسير سورة الأعراف .
4 - وقال القرطبي في [ تفسيره ] ( ج 17 ، ص 238 ) : وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ، وكذا قال كل من الشوكاني وأبي السعود في [ تفسيره ] .
5 - وقال القرطبي أيضا في تفسيره سورة الحجر بعد بيانه لمعاني كلمة الحجر : والحجر : ديار ثمود ، وهو المراد هنا ، أي : المدينة ، وقال الأزهري

6 - وقال ابن الجوزي في [ تفسيره ] ( ج 4 ، ص411 ) : قال ابن عباس : كانت منازلهم بالحجر بين المدينة والشام .
ثم قال ابن الجوزي : وفي الحجر قولان :
أحدهما : أنه اسم الودي الذي كانوا به ، قاله قتادة والزجاج .
والثاني : اسم مدينتهم ، قاله الزهري ومقاتل .
7 - ونقل ابن جرير في تفسيره سورة الأعراف عن ابن إسحاق خبرا طويلا عن ثمود ، وفيه : ( وكانت منازلهم الحجر إلى قرح ، وهو وادي القرى ، وبين ذلك ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجاز والشام ) .
ونقل عنه أيضا في نفس القصة من طريق آخر كلاما كثيرا : وفيه : ( وتخلف رجل من أصحاب صالح يقال له : مبدع بن هرم فنزل قرح - وهو : وادي القرى - وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا ) .
8 - وقال السفاريني : في [ شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد ] ( 1 \ 51 ) : وكانت منازلهم الحجر ، وبين الحجر وبين قرح ثمانية عشر ميلا ، - قرح : هي وادي القرى - .
9 - وقال ياقوت الحموي في [ معجم البلدان ] ، ( ج 6 ، ص 221 ) : الحجر : اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام ، قال : الإصطخري : الحجر قرية صغيرة قليلة السكان ، وهو من وادي القرى على يوم بين جبال ، وبه كانت منازل ثمود قال تعالى : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ } (1) وقال : ورأيتها بيوتا مثل بيوتنا في
__________
(1) سورة الشعراء الآية 149

أضعاف جبال ، وتسمى تلك الجبال : الأثالث ، وهي جبال إذا رآها الرائي من بعد ظنها متصلة ، فإذا توسطها رأي كل قطعة منها منفردة بنفسها يطوف بكل قطعة منها الطائف ، وحواليها الرمل ، لا تكاد ترتقي كل قطعة قائمة بنفسها ، لا يصعدها أحد إلا بمشقة شديدة ، وبها بئر ثمود التي قال الله تعالى فيها وفي الناقة : { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } (1)
قال جميل :
أقول لداعي الحب والحجر بيننا ... ووادي القرى لبيك لما دعانيا
فما أحدث النأي المفرق بيننا ... سلوا ولا طول اجتماع تقاليا
10 - وقال صفي الدين البغدادي في [ مراصد الاطلاع ] ( 1 \ 381 ) :
الحجر : بالكسر ثم السكون وراء : اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام ، كانت مساكن ثمود ، وفي بيوت منحوتة في الجبال مثل المقابر ، تسمى تلك الجبال : الأثالث ،كل جبل منقطع عن الآخر يطاف حوله ، وقد نقر فيه بيوت كثيرة ، وتقل على قدر الجبال التي تنقر فيها ، وهي بيوت في غاية الحسن ، فيها بيوت وطيقان محكمة الصنعة ، وفي وسطها البئر التي تردها الناقة ، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب منها . اهـ .
لعله يريد من آبار ثمود ، وإلا فهو تحريف ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه في الشرب من بئر الناقة وأمر بإهراق ما استقي من غيرها
__________
(1) سورة الشعراء الآية 155

11 - وقال الفيروزآبادي في [ المغانم المطابة ] ، ص 106 : والحجر بالكسر أيضا قرية على يوم من وادي القرى بين جبال ، وبها كانت منازل ثمود ، بيوتها في أضعاف جبال تسمى : الأثالث ، إذا رآها الرائي من بعد ظنها متصلة ، فإذا توسطها رأى كل قطعة منها منفردة بنفسها يطوف بكل قطعة منها الطائف ، وحواليها رمل لا يكاد يرتقى إلا بمشقة شديدة ، وهناك بئر ثمود التي قال الله تعالى فيها وفي الناقة : { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } (1)
12 - وذكر القرطبي في تفسير سورة الفجر : أن ثمود أول من نحت الجبال والصخور والرخام ، فبنوا من المدائن ألفا وسبعمائة مدينة ، كلها من الحجارة ، ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبعمائة ألف كلها من الحجارة ، وكانوا ينقبون بيوتا بالوادي ، أي : بوادي القرى .
13 - ونقل الحافظ ابن حجر في [ الفتح ] ( 6 \ 380 ) عن شيخة البلقيني أنه سئل : من أين علمت تلك البئر - يعني : بئر الناقة ؟
فقال : بالتواتر ، إذ لا يشترط فيه الإسلام .
ثم قال الحافظ ابن حجر : والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها بالوحي ، ويحمل كلام الشيخ على من سيجيء بعد ذلك . اهـ .
14 - وقال ابن القيم في [ زاد المعاد ] ( 3 \ 28 ) : وكانت البئر معلومة باقية إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم استمر علم الناس بها قرنا بعد قرن إلى وقتنا هذا ، فلا يرى الراكب بئرا غيرها ، وهي مطوية محكمة البناء .
__________
(1) سورة الشعراء الآية 155

واسعة الأرجاء ، آثار العتق عليها بادية لا تشتبه بغيرها .
15 - وقال السفاريني في [ شرح ثلاثيات المسند ] (1) : جزم علماؤنا بأنه لا يباح من ماء آبار ثمود غير بئر الناقة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : هي البئر الكبيرة التي يردها الحجاج في هذه الأزمنة .
16 - وقال العباسي في[ عمدة الأخبار ] ، ص 261 : والحجر أيضا قرية على يوم من وادي القرى بين جبال ، وبها كانت منازل ثمود وبيوتها ، وهناك بئر ثمود التي قال الله تعالى فيها وفي الناقة : { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } (2)
17 - وقال ابن بليهد في [ صحيح الأخبار ] (3) والحجر : هو الموضع الذي ذكره القرآن الكريم في شأن قوم صالح عليه السلام ، وبه بئر الناقة ، وهو يعد من وادي القرى معروف بهذا الاسم إلى هذا العهد ، ثم ذكر بيتي جميل المتقدمين ، ثم قال : وموضعه قرب العلا بينه وبين تبوك .
18 - وقال الحاكم في [ مستدركه ] ما نصه (4) : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا العباس بن محمد الدوري ، ثنا يحيي بن معين ، ثنا وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد عن نوف الشامي : أن صالحا النبي صلى الله عليه وسلم من العرب ، لما أهلك الله عادا وانقضى أمرها عمرت ثمود
__________
(1) انظر ( 1 \ 52 ) .
(2) سورة الشعراء الآية 155
(3) انظر ( 2 \ 36 )
(4) انظر ( 3 \ 565 )

بعدها ، فاستخلفوا في الأرض ، فانتشروا ثم عتوا على الله ، فلما ظهر فسادهم وعبدوا غير الله بعث الله إليهم صالحا ، وكانوا قوما عربا ، وهو من أوسطهم نسبا ، وأفضلهم موضعا ، وكانت منازلهم الحجر إلى قرع - وهو : وادي القرى - ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجر إلى الحجاز ، فبعثه الله غلاما شابا . . إلى آخر الآثر .
19 - وقال الهمداني في [ صفة جزيرة العرب ] ص 131 : وأما نجد ما بين مكة والمدينة من ذات عرق فإلى الجبلين ، فالمعدن معدن سليم فراجعا : إلى وادي القرى إلى الحجر موضع ثمود والناقة مرحلة ، وفيه آثار عظيمة ، وما بينهما العيص .
20 - وقال ابن بطوطة في رحلته : وفي الخامس من أيام رحيلهم عن تبوك يصلون إلى بئر الحجر حجر ثمود ، وهي كثيرة الماء ، ولكن لا يردها أحد من الناس مع شدة عطشهم ؛ اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بها في غزة تبوك فأسرع براحلته ، وأمر ألا يستقي منها أحد ، ومن عجن به أطعمة الجمال ، وهنالك ديار ثمود في جبال من الصخر الأحمر منحوتة لها عتب منقوشة ، يظن رائيها أنها حديثة الصنعة ، وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت ، إن في ذلك لعبرة ، ومبرك ناقة صالح عليه السلام بين جبلين هنالك ، وبينها أثر مسجد يصلي الناس فيه ، وبين الحجر والعلا نصف يوم أو دونه . اهـ .
21 - وقال الحطاب في كتابه [ مواهب الجليل ] في معرض كلامه على مياه آبار ثمود (1) : قال الشيخ زروق : وأمرهم بالتيمم وترك استعمالها لم
__________
(1) ( 1 \ 48 )

أقف عليه في الحديث ، وهو ما نقله ابن فرحون في [ الألغاز ] عن ابن العربي في باب التيمم ، ونصه : فإن قلت : أرض طاهرة مباحة مسيرة خمسة أميال لا يجوز التيمم منها ، قلت : هي أرض ديار ثمود ، نص ابن العربي في أحكامه على أنه لا يجوز التيمم منها .
22 - وقال السمهودي في كتابه [ وفاء الوفاء ] (1) : سبق أن حجر ثمود على يوم من وادي القرى ، وأن العلا بناحية وادي القرى : وقال (2) : والحجر بالكسر أيضا : قرية على يوم من وادي القرى ، بين جبال كانت بها منازل ثمود ، وبيوتها في أضعاف جبال تسمى : الأثالث ، وهناك بئر ثمود ، وقال (3) : قال أبو زياد : تبوك بين الحجر وأول الشام على أربع مراحل من الحجر ، نحو نصف طريق الشام .
23 - وقال أبو إسحاق الفارسي المعروف بالكرخي في كتابه [ المسالك والممالك ] ص 24 ما نصه : والحجر : قرية صغيرة قليلة السكان ، وهي من وادي القرى على يوم بين جبال ، وبها كانت ديار ثمود الذين قال الله فيهم : { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } (4) ورأيت تلك الجبال ونحتهم الذين قال الله عنهم : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ } (5) - ورأيتها بيوتا مثل بيوتنا في أضعاف جبال ، وتسمى
__________
(1) ( 2 \ 1328 )
(2) انظر ( 2 \ 1184 )
(3) ( 2 \ 1159 )
(4) سورة الفجر الآية 9
(5) سورة الشعراء الآية 149

تلك الجبال : الأثالث - إلى أن قال : - وتبوك بين الحجر وبين أول الشام على أربع مراحل نحو نصف طريق الشام .
24 - وقال المقدسي في كتابه [ أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ] ص 84 : الحجر قرية صغيرة حصينة ، كثيرة الآبار والمزارع ، ومسجد صالح بالغرب على نشزة مثل الصفة ، قد نقر في صخرة ، وثم عجائب ثمود وبيوتهم .
25 - وذكر الأستاذ صلاح البكري : في مقال نشر في مجلة ( قافلة الزيت ) تحت عنوان ( الآثار في الشمال الغربي من المملكة العربية السعودية ) عن حاجي خليفة من كتابه [ جهان نما ] - أنه على مسيرة نصف يوم تقريبا من العلا يوجد مسجد النبي صالح ، وهو منقور في الصخر ، وعن محمد أديب في كتابه [ المنازل ] - أن الحجر تعرف بـ : ( مدائن صالح ) أو ( قرى صالح ) أو ( عدال ) ، والمساكن في مدائن صالح منحوتة في الصخر : ولا يسكنها أحد ، ويقول : إن هناك جبلا يعرف باسم ( أنان ) في مرتفع منه يوجد مسجد صالح عليه الصلاة والسلام ، وهو منقور في الصخر .
صورة فتوى الشيخ عبد الله بن بليهد بصدد أرض الحجر .
يحظى ويتشرف بمطالعة عالي الجناب الشيخ المكرم عبد الله بن سليمان بن بليهد أدام الله تعالى بقاءه .
أما بعد : هذا سلام عليك ورحمة الله وبركاته على الدوام ، أدام الباري علينا وعليكم نعمته وإحسانه .
بعده ، نرفع لجنابك العزيز بأن إحنا هاجرنا في وادي العذيب المعروف

بـ : ( وادي الحشيش ) ، اعترض علينا بعض الناس حيث قالوا : أنتم في وادي العذاب التابع لمدائن صالح ، فإنا نسترحمكم أن تأمرونا في سكناه ، أو تنهانا نرحل نرحل عنه ، جزيتم خيرا .
وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
11 جمادى الثانية \ 1345 هـ .
مقدمه
متعب بن صالح الفقير
سلمك الله : أذنا له ينزل بالهجرة إذا كان ما فيه من طرف الشرع شيء ، المقصود سلمك الله عرفوه بالحدود المحرمة .
عبد العزيز بن مساعد
الختم

بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب : إن الذي تحصل لنا من كلام المؤرخين : أن وادي الحجر الذي فيه ديار ثمود مقدار ثمانية عشر ميلا هي عبارة عن مسافة تسعة ساعات بدبيب الأقدام وسير الأثقال ، فإذا اعتبر المواضع المذكور من شمالي الحجر إلى الموضع وكان خارجا عن هذه المسافة - فلا بأس بسكناه والاستسقاء من مياهه . يكون معلوما .
رئيس القضاء
عبد الله بن بليهد
الختم
صورة طبق الأصل
مما تقدم يتبين ما يلي :
أولا - أن اسم الحجر يطلق على جميع الذي كانت ثمود تسكن به ، ويطلق على نفس مدنهم التي كانت بالحجر ، وهو بالمعنى الأول أعم منه بالمعنى الثاني .
ثانيا - أن وادي القرى طويل ممتد يمر ببلاد أماكن كثيرة ، وتسمى بأسمائها ، فيسمى بـ : ( وادي الحجر ) عند مروره به ، وبـ : ( وادي القرح ) وبـ : ( وادي العلا ) عند مروره بهما .
ثالثا - اختلف التعبير في بيان موقع ديار ثمود من وادي القرى : فمرة يعبر بأنها عند وادي القرى ، ومرة يعبر بأنها إلى وادي القرى ومرة بأنها بوادي القرى ، والذي يظهر : أنه لا تنافي بينهما ؛ لإمكان الجمع بأنه إن أريد بالوادي مجرى سيله فديار ثمود عنده وإلى جانبه ، وإن أريد

بالوادي المنفرج الذي بين الجبال فديار ثمود به .
رابعا - قدر الوادي بثمانية عشر ميلا ، وبخمسة أميال وبمرحلة أو مسير يوم ، وهذه التقادير مبنية على أن المراد بالحجر المنفرج بين الجبال ، أي : الوادي الذي كانت ثمود تسكن به ، ولا تنافي بين هذه التقادير ؛ لإمكان الجمع بحمل أحد التقادير على العرض والآخرين على الطول .
خامسا - قال ابن إسحاق : كانت منازلهم الحجر إلى قرح ، وهو وادي القرى وبين ذلك 18 ميلا ، وقال الحاكم في [ المستدرك ] : كانت منازلهم الحجر إلى قرح - وهو : وادي القرى - 18 ميلا ، ويمكن أن يقال : إن الظاهر هو ما ذكره الحاكم من أن طول الحجر 18 ميلا ، وما نقل عن ابن إسحاق ؛ إما محرف ، وإما مئول بأن بين قرح ومبدأ الحجر شمالا 18 ميلا . والله أعلم .

ثالثا : أقوال أهل الخبرة ومشاهدات اللجنة :
قامت اللجنة بجولات فيما يسمى بـ ( أرض الحجر ) وما يسمى بـ : ( أرض العذيب ) ومعها خبراء بالمواقع وبأسمائها : وبالحدود المشهورة عند أهل هذه الجهات حاليا ، ومع اللجنة مندوب فني أيضا من بلدية العلا ، وأشرفت على هذه الأراضي وما فيها من جبال ووديان ومزارع وآثار وما يحيط بذلك من سلسلة الجبال ، وأخذت مقادير المسافات التي قد يحتاج إليها في التحديد عند مقارنتها بما ذكر من التقدير في النقول عن العلماء .

وفيما يلي بيان لما شاهدته اللجنة في جولاتها :
1 - يحيط بأرض المنقطة سلسلة جبال متصل بعضها ببعض إلا في منافذ محدودة يأتي بيانها ، وتبدأ هذه السلسلة من الجنوب من عند مفيض وادي المعتدل في نخيل العلا متجهة نحو الجنوب الشرقي ، ثم إلى الشرق ثم إلى الشمال الشرقي ، ثم إلى الشمال ، ثم إلى الشمال الغربي ، وإلى هنا تعرف بـ ( جبال الركب ) ، ثم تتجه غربا ، ثم إلى الجنوب الغربي ، ثم إلى الجنوب إلى ما يسمى من هذه السلسلة بـ : ( بأبي القناطير ) ، وهو يوازي كثيب الرمل المسمى بـ : ( النثلة ) عند مفيض وادي المعتدل ، ويسمى هذا الجزء من السلسلة بـ : ( حرة عويرض ) .
2 - يوجد فيما يسمى بـ ( جبال الركب ) المنافذ الآتية على الترتيب :
مصيعب ، فالشجرة ، فأم عاذر ، فمهج ظفير ، فمهج ظفير ، فأبو حماطة ، فالرماحية ، فأبو الحمام ، فأم جرفان ، فالمقتل ، فالفج ، فمزيلقة ، فمزيلقة الثانية ، فالشليل ، فالمزحم ، فخور الحمار ، ومنه تخرج سكة حديد من الحجر إلى الشام ، ثم وادي الصريط ، فالبويب ، وبه ينتهي ما يسمى من السلسلة بـ : ( الركب ) ويبدأ ما يسمى من السلسلة بـ : ( حرة عويرض ) ، وبها وادي الصدير فوادي حوضاء ، فوادي ثربة ، فوادي المنقى الأول ، فوادي المنقى الثاني ، فوادي شلال ، وينزل من تلاع هذه السلسلة في الجنوب الغربي منها وادي عشار .
وبهذا يتبين أن المنقطة كلها تحد من جميع جهاتها بسلسلة جبال .

3 - يفيض في أرض هذه المنطقة ثمانية وديان : وادي الصريط ، ويأتي من خارج سلسلة جبال الركب من الجهة الشمالية منها ، ووادي الصدير ، فوادي حوضاء ، فوادي ثربة ، فوادي المنقى الأول ، فوادي المنقى الثاني ، فوادي شلال ، وهذه الوديان الستة تفيض على أرض الحجر ، من تلاع داخل حرة عويرض من الجهة الشمالية الغربية والجهة الغربية منها لأرض الحجر ، وتجتمع هذه الوديان السبعة في مفرش واسع في الشمال الغربي من أرض الحجر ، ثم يتفرع من هذا المفرش ثلاثة وديان : اثنان منها غرب سكة الحديد ، وما يسمى بـ : ( بئر الناقة ) وواحد منها يتجه إلى الجهة الشرقية من أرض الحجر ، ثم ينعطف جنوبا ، ثم إلى الجنوب الغربي إلى أن يجتمع بالواديين في مفرش غرب سكة الحديد ، فيما بين الخريمات غربا وجبل بثنية وجبال الأثالث شرقا ، ويتكون منها واد واحد جنوب هذا المفرش يتجه جنوبا مع تعرجات فيه ، حتى يلتقي بمفيض وادي المعتدل ، ويفيض وادي عشار من الجهة الغربية من حرة عويرض ، ويلتقي بمضيق وادي الحجر قبل أن يفيض على العلا ، ويبدأ وادي المعتدل من الجهة الشرقية تقريبا متجها إلى الغرب حتى يلتقي بوادي الحجر ، ويكون معه واديا واحدا يتجه إلى العلا جنوبا .
4 - يقع في الأرض المحاطة بسلسلة الجبال المتقدمة كثير من الجبال المتفرقة المنتشرة من أشهرها : جبال الأثالث ، وجبل بثينة ، وجبل بيت الصانع ، وجبل أبي لوحة ، وجبال الخريمات ، وبكل من هذه الجبال المشهورة بيوت منحوتة ، ومن أشهرها جبل عكما ،

وجبل دنان ، وبكل منها كتابة أثرية ، ومن أشهرها أيضا : جبل الحوارة ، وجبل الحوير ، وجبل الجميل ، وجبال الصقليات ، وجبال الصينيات ، ومما بداخل السلسلة أيضا من الآثار : بئر الناقة ، وخريبة الحجر التي أظهرها السيل العام الماضي ، على ما قاله مأمور مركز الحجر وغيره ، وتقع هذه الخريبة قريبا من جبال الأثالث ، وبثنية كما هو موضح بالرسم ، كما أن بأرض الحجر مزارع وأشجار وآبارا حديثة وقديمة أثرية ، ويوجد قريبا من جنوب مفيض وادي المعتدل مكان أثري يعرف بـ : ( خريبة العلا ) ، وبخشم الجبل المشرف عليها وعلى مفيض المعتدل نحوت وكتابة أثرية .
5 - إن أريد بأرض الحجر جميع الأرض التي أحاطت بها سلسلة جبال الركب وحرة عويرض - فحده من الجهات الأربع طبيعي - وقد تبين مما تقدم - وعلى هذا أخذت اللجنة المساحة من الشمال إلى الجنوب بكيلو السيارة فوجدتها ( 34 .5 ) أربعة وثلاثين كيلو مترا ونصف كيلو مع وجود تعرجات اقتضاها خط سير السيارة ، وهذا التقدير بعد طرح التعرجات يقرب من تقدير أهل العلم لها قديما بثمانية عشر ميلا ، وهو الذي بنى عليه الشيخ عبد الله بن بليهد فتواه في تحديد الحجر .
أما إن أريد بأرض الحجر خصوص ما به بناء أثري وآبار أثرية وجبال أثرية - فالتحديد يحتاج إلى القيام بحفريات في جميع الأراضي التي تحيط بها سلسلة الجبال التي تقدم ذكرها للوقوف على ما اندفن من البيوت والآثار والأسوار ، وعند ذلك يمكن التحديد بغير سلسلة الجبال ، وإن أريد بالحجر مجرى الوادي فحده طبيعي واضح .

6 - تقسيم المنطقة التي بداخل سلسلة الجبال المتقدمة إلى ما يسمى بـ : ( أرض الحجر ) ، وما يسمى : بـ ( أرض العذيب ) تقسيم حديث ، كما سيجيء بيانه في إجابة عرفاء البلاد في جهة المنطقة .
رابعا - رأت اللجنة بعد أن جالت في المنطقة وعرفت جماعة من أهل الخبرة بالمواقع وأسمائها من سكان هذه الجهات - أن تدعوهم إلى الاجتماع لسؤالهم عن المواقع وأسمائها ، وعن المتعارف عليه عندهم في حدود الحجر ؛ زيادة في الإيضاح ، وتأكيدا لما عرفته في جولاتهم مع الأدلاء في الحجر ، ورأت أن يكون المجتمعون من العلا ، ومما يسمى بـ : ( العذيب ) ، وما يسمى بـ : ( الحجر ) ، فاجتمع كل جماعة من جهة في جهتهم ، وسألت اللجنة كلا منهم على انفراد .
وفيما يلي بيان أسمائهم وما سئلوا عنه وأجوبتهم :
الأسماء :
1 - صحن بن شلاش الفقير - وعمره ثمانون سنة تقريبا .
2 - دبشي بن سلطان الفقير - وعمره ستون سنة تقريبا .
3 - عبد المهدي بن محمد بن جبل الفقير - وعمره 48 سنة تقريبا .
4 - حاكم بن شهاب الفقير - وعمره 65 سنة تقريبا .
5 - صياح بن بندر الفقير - وعمره 65 سنة تقريبا .
6 - فلاح بن مفلح الفقير - وعمره 65 سنة تقريبا .
7 - مطلق بن منور الخالد التيمائي - وعمره 45 سنة تقريبا ، ( أمير مركز العذيب ) من ثلاث سنوات ، وعمل في خدمة إمارة العلا من عام

1361 هـ .
8 - عبد الرشيد بن عبد الرحمن الإمام - وعمره 60 سنة تقريبا .
9 - سعد بن أحمد بن يوسف - وعمره 66 سنة تقريبا .
10 - محمد بن إبراهيم طعيمة - وعمره 80 سنة تقريبا .
11 - محمد أحمد عتيق - وعمره 84 سنة تقريبا .
12 - موسى بن محمد بن عيسى العمر - وعمره 51 سنة تقريبا .
13 - فيحان المطيري ( أمير مركز الحجر ) - وعمره 55 سنة تقريبا .
14 - محمد بن دليحان من أهل ضرماء ( أمير مركز الحجر ) سابقا - وعمره 70 سنة تقريبا .
الأسئلة التي وجهت إلى كل منهم :
1 - ما المتعارف عليه المشهور بينكم في تحديد الحجر من الجهات الأربع ؟
2 - ما المتعارف عليه المشهور بينكم في تحديد ما يسمى بـ : ( العذيب ) من الجهات الأربع ؟
3 - هل عرف بينكم حد الحجر من الجنوب بالصينيات ، ومتى بدأ ذلك ، وعلى أي أساس بنيت هذه المعرفة ؟
4 - هل ما يسمى بـ : ( شلال ) وما يسمى : ثربة تابعان لمسمى الحجر فيما عرف عندكم ؟
5 - أين بئر الناقة ، وأين المزحم فيما تعرف ؟
6 - ما أبعد بئر عادية في الشمال والجنوب والشرق والغرب فيما يسمى بـ : ( الحجر ) حسبما اشتهر عندكم ؟

7 - ما أبعد أثر من آثار ثمود في الحجر من الشمال والجنوب والشرق والغرب فيما يسمى بـ : ( الحجر ) حسبما اشتهر عندكم ؟
8 - هل يوجد فيما يسمى بـ : ( العذيب ) آبار ثمودية ، سواء أكانت محياة أم لا ؟
الأجوبة :
اتفقت إجابتهم في أن شلال وثربة ليستا من الحجر ، وإن كان سيلهما يفيض في الحجر ، وفي أن بئر الناقة يقع عند المحطة الكبرى لسكة الحديد تحت القلعة ، أنهم لا يعرفون بئرا أخرى سواها تعرف بـ : ( بئر الناقة ) وفي أن الحجر في المتعارف عليه عندهم يحد من الجنوب الشرقي : بأم الشجرة ، ثم مهج الظفير ، ثم مهج الظفير ، ومن الشرق والشمال : بالجبال المتصلة المسماة بـ ( الراكبة ) أو ( الركب ) ، ومن الغرب والجنوب الغربي : بالجبال المتصلة ، والمسماة بـ ( حرة عويرض ) ، ومن الجنوب يحد قديما بكثيب من الرمال يسمى : ( النثلة ) وهو يقع عند مفيض المعتدل في طرف نخيل العلا شمالا عند خروج الوادي من الحجر : أما حد الحجر من الجنوب : بما يسمى بـ : ( جبال الصينيات ) فهو حد حديث لم يعرف إلا بعد استفتاء سلطان الفقير عن أرض العذيب وإجابة الشيخ ابن بليهد له ، ومنح أرض العذيب لدبشي بن سلطان الفقير ، فعند ذلك قامت لجنة حكومية وحددت العذيب شمالا : بما يسمى بـ : ( جبال الصينيات ) ، وجنوبا : بـ :( النثلة ) عند مفيض المعتدل ونهاية نخيل العلا شمالا ، كما اتفقوا على أنه لا توجد آبار ثمودية فيما يسمى بـ : ( العذيب ) - حسبما يعرفون - وإنما توجد عيون قديمة ومجاري عيون ، وما فيه من الآبار كلها محدثة ، واتفقوا

أيضا على أنه لا يوجد في الشمال الشرقي من أرض الحجر آبار قديمة مندفنة ، عند مزيلقة ، وكذا عند جبال الصقليات يغلب على الظن وجود آبار قديمة مندفنة ، ولكن لم يظهر شيء منها إلى الآن ، كما اتفقوا على أنه يوجد آبار كثيرة قديمة وحديثة عند جبال الأثالث وبثينة ، ولا يوجد شمال الحجر بعد الوادي شيء من الآبار فيما نعرف ، وأما الجهة الجنوبية الشرقية والتي جعل بعضها مطارا فليس فيه آبار حسب علمنا : وأما الآثار فهي في مدخل الحجر شمال العلا في منطقة تسمى : ( الخريبة ) ، وفي جبال الأثالث ، وبثينة ، وأبي لوحة ، والخريمات ، وخريبة الحجر .
8 - مع البحث خريطة تقريبية لأرض المنطقة ، ولسلسلة الجبال المحيطة بها ، وما بهذه السلسلة من منافذ ، وما بداخلها من الجبال والآثار والوديان والآبار .
ونسأل الله التوفيق والسداد ، وصلى الله وسلم على نبيا محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العملية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع مع الاحتفاظ بحقي في تقديم وصف للمنطقة بصورة أشمل ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

وصف ديار ثمود
من إعداد فضيلة الشيخ : عبد الله بن سليمان بن منيع
الحمد لله وحده ، وبعد :
فبناء على ما ذكره أهل العلم من أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وبناء على ما قررته هيئة كبار العلماء في أن تقوم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالشخوص إلى الحجر وتطبيق النقول على طبيعة الأرض ، ونظرا إلى أن النقول عن أهل العلم في تحديد هذه المنطقة غير واضحة لإمكان تطبيقها ، وإنما يتطرقها الاحتمال ـ فقد ظهر لي أن مهمة اللجنة في الدرجة الأولى تكاد تنحصر في وصف مشاهدتها المنطقة ، وصفا يتمكن فيه من تكييف أي احتمال يكون في تحديد ما لا يجوز إحياؤه شرعا منها ، ونظرا إلى أن الوصف المقدم في البحث لم يكن في رأيي مستغرقا ما في نفسي مما شاهدته فيها مع الزملاء ولم يكن لدى الزملاء استعداد في بسط الوصف بالطريقة التي أراها؛ ولذلك فقد رأيت التقدم للهيئة بالوصف التالي للمنطقة :
1 - أن المنطقة محاطة بسلسلة جبال سود تتخللها منافذ تخرج منها . هذه المنافذ تسمى : مصيعيب ، فخرم الشجرة ، فأم عاذر ، ثم مهج ظفير ، ثم مهج ظفير ثم أبو حماطة ، فالرماحية ، فأبو الحمام ، فأم الجرفان ، فالمقتل ، فالفج ، فمزيلقة ، ثم مزيلقة الثانية ، فالشليل ، فالمزحم ، فخور الحمار ، ومنه مخرج سكة الحديد ، ثم الصريط ، ثم بويب ، وتبدأ هذه

الجبال من الجهة الجنوبية بالنسبة للواقف في وسط المنطقة ، ثم تمتد نحو الجنوب الشرقي ، ثم إلى الشرق ، ثم إلى الشمال الشرقي ، ثم إلى الشمال ، ثم إلى الشمال الغربي ، وتسمى هذه الجبال بـ ( الركب ) . ثم يفصلها واد صغير يعتبر أحد روافد وادي الحجر ، ويسمى بـ : ( الصريط ) ، ثم تقوم الجبال السود ، وتستمر في الامتداد نحو الغرب ، ثم الجنوب الغربي ، ثم الجنوب ، إلى أن تقابل نقطة الابتداء في مكان يسمى : ( أبا القناطير ) وتسمى هذه السلسلة الثانية من الجبال بـ : ( حرة عويرض ) ، وبين ابتداء محيط هذه السلسلة وانتهائه الطرف الشمالي لمدينة العلا .
2 - أقسام المنطقة : تنقسم هذه المنطقة حاليا إلى قسمين :
القسم الأول : ويسمى بـ : ( العذيب ) وهو الجزء الجنوبي منها ، وفيه مركز إمارة تابع لإمارة العلا ، ويعتبر ثلث المنطقة تقريبا ، وهو محدود من الجهة الجنوبية : بالعلا ، ومن الجنوب الشرقي والجنوب الغربي : بسلسلة الجبال القائمة ، ومن الشمال : بجبال تسمى : ( جبال الصينيات ) ، وفيه مجموعة من المزارع التي تسقى على آبار محدثة ، كما أن فيه آثار مجاري عيون أثرية معطلة ، وفي جزئه الجنوبي فيما يسمى بـ : ( عكمة ) و( جبل دنان ) كتابات أثرية ، وقد استصدر دبشي بن سلطان الفقير أمرا ساميا بإقطاعه إياه ، وأخذ بذلك الإقطاع صكا شرعيا من محكمة العلا .
وقد بحثت في بعض معاجم البلدان فلم أجد له تسمية فيها . مما يؤكد الظن أن تسميته بـ : ( العذيب ) كان في وقت متأخر .
ويجري في العذيب ثلاثة وديان : أحدها : يسمى المعتدل ، ويأتي من الجهة الشرقية مما يلي الجنوب الشرقي لسلسلة الجبال المحيطة بالمنطقة ،

ويمتد غربا ، ويتصل بأدنى نخل من نخيل العلا من الجهة الشمالية ، يسمى : الزهراء ، ثم يستمر في الامتداد حتى يتصل بمضيق وادي الحجر .
الثاني : يضيق وادي الحجر ويأتي من الجهة الشمالية من مفرش وادي الحجر ، ويمتد جنوبا حتى يتصل به وادي المعتدل ، ليشكلا وادي العلا .
الثالث : وادي عشار ، وهو يأتي من الجهة الغربية ، ويمتد شرقا حتى يتصل بمفيض وادي الحجر قبل اتصال المفيض بوادي المعتدل .
وفي العذيب مجموعة جبال متقطعة متناثرة بيض اللون ، أشهرها : عكمة ودنان ، وفيهما آثار كتابات قديمة ، وفي جنوبيه مما يتصل بشمال العلا قطعة أرض تسمى : ( الخريبة ) فيها آثار قديمة ، منها ما يسمى بـ : ( محلب الناقة ) ، وفي الجبال الواقعة في الجنوب الشرقي منها نحوت وتماثيل وكتابات ، وينقسم العذيب حاليا إلى قسمين : الوسيطى ، وقرقرى ، وهي تسميات محدثة حسبما أخبرنا بذلك بعض أهلها .
القسم الثاني : الحجر : وهو محدود من الجهات الشرقية والشرقية الشمالية والشمال والشمال الغربي والغرب بسلسلة الجبال القائمة ، ومن الجنوب بجبال الصينيات وما حاذاها غربا وشرقا ، وفيه مركز إمارة تابع إمارة العلا .
وهو يمثل ثلثي ما أحاطت به سلسلة الجبال القائمة وهو يحتوي على ما يلي :
أ- الوديان : هذه الوديان عبارة عن واد واسع ، له روافد سبعة : الصريط ، ويأتي من خارج السلسلة الجبلية من الجهة الشمالية للحجر ، ثم وادي صدير ، ثم وادي حوضا ، ثم وادي ثربة ، ثم وادي المنقى الأول ، ثم

المنقى الثاني ، ثم وادي شلال ، وهذه الستة تفيض على أرض الحجر من تلاع داخل هذه السلسلة الجبلية من الجهة الشمالية الغربية ، ومن الجهة الغربية لأرض الحجر ، تجتمع هذه الروافد السبعة ليتشكل منها واد واسع المجرى ، يقدر عرضه قبل انفراشه بثلاثة كيلو مترات ، ينحدر هذا الوادي من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي ، وقد قسنا عرضه قبل اتصال وادي ثربة والمنقى الأول والمنقى الثاني وشلال به- فبلغ كيلوين وربع كيلو ، ثم ينفرش في أرض واسعة ، تقدر مساحتها بستة كيلو مترات تقريبا في مثلها ، ثم يخرج من هذا المفرش واد يتجه نحو الجنوب الغربي يتراوح عرضه بين الثمانين مترا والمائة متر ، وهو ما سبقت الإشارة إليه بتسميته بـ : ( مفيض وادي الحجر ) وغالب مجراه واقع فيما يسمى بـ : ( العذيب ) . وتجدر الإشارة إلى أن نهاية تلعتي ثربة وشلال وراء سلسلة الجبال القائمة قريتين : إحداهما : ثربة ، والأخرى : شلال ، في كل واحدة منهما مزارع ونخيل .
ب- الجبال : هذه الجبال عبارة عن مجموعة جبال متناثرة متقاطعة بيض اللون ، ومن أشهرها : جبال بثينة ، والأثالث ، وأبو لوحة ، والخريمات ، وجبال الصقليات ، وجبل الحوارة ، وجبل الحوير ، وجبال الصينيات ، تتخلل هذه الجبال كثبان من الرمال .
ج- الآثار : توجد الآثار ظاهرة للعيان الآن في منطقة تقدر مساحتها بستة كيلو مترات في أربعة ، وهي عبارة عن أمور ثلاثة :
أحدها : نحو بيوت في جبال الأثالث ، وبثينة ، وأبو لوحة ، والخريمات ، وما بينها من جبال قد تدخل في مسمى : جبال الأثالث .

الثاني : آبار بعضها عثرت عليه البادية هناك ، وأقاموا عليها مزارعهم ، بعض هذه الآبار منحوت حتى الماء ، وبعضها مطوي ، وغالبها في مفرش الوادي وبعضها خارج عنه من الجنوب ، كبئر بجوار جبل الصينية ، ومن الشمال كآبار مزيلقة ، وقد حفر بعضها ثم دفن بأمر من الحكومة -أعزها الله- حتى يبت في موضوع الحجر .
الثالث : آثار قصور في مفرش الوادي في جهته الجنوبية ، وقد كشف سيل العام الماضي عنها ، وهي محاطة بآثار سور ، يظهر أنه سور مدينة ، يقدر طول هذا السور بكيلو متر وعرضه نصف كيلو تقريبا ، تحيط به الجبال التي فيها نحوت من جهاته الغربية والجنوبية والشرقية .
كما أن في مفرش الوادي في الجهة الشمالية منه بئرا عند محطة سكة الحديد ، وعندها مبنى يقال بأنه كان معدا لاستراحة الحجاج قبل بناء محطة سكة الحديد ، وحوله بركة محفورة يقدر طولها باثني عشر مترا في مثلها في عمق مترين ونصف تقريبا ، يقال : بأن هذه البئر هي بئر الناقة ، وأهل المنطقة لا يختلف بعضهم على بعض في أنها هي بئر الناقة ، وليس في واقعها المشاهد آثار قديمة ، ولعل آثار حفرها وطيها مطمور ، وهي الآن عبارة عن بئر ضيقة داخل المبنى تتصل بها بئر خارجة عن المبنى تبعد عنها قرابة عشرين مترا وبجوار هذه البئر حفر مطمور يقال : بأنه البئر الثالثة ، كما يقال : بأن هذه الآبار الثلاث عبارة عن بئر واحد واسعة الأرجاء ، تصرفت فيها الحكومة التركية حتى صارت إلى ما هي عليه الآن .
د- المزارع والسكان : يوجد في هذا الجزء من أرض الحجر مجموعة كبيرة من المزارع والبساتين ، تزيد على مائة مزرعة ، غالبها تسقى من آبار

ثمودية ، كما يوجد بها مجموعة من السكان ، غالبهم بادية ، وهم يشتغلون في مزارعهم ورعي مواشيهم ، وفي الأوراق المتعلقة بالمسألة بيان تعدادي للمزارع قامت بإعداده اللجنة السابقة المكونة من الشيخ عبد الرحمن الخيال والشيخ محمد بن قعود .
3 - المساحات : قامت اللجنة بأخذ مساحات تقريبية بكيلو السيارة ، أهمها ما يلي :
من الصينية إلى المزحم - المزحم : منفذ يخرج من محيط الحجر شمالا ، يقال : بأن الناقة كانت تزحمها جباله إذا صدرت منه - واحد وعشرون كيلو متر تقريبا .
عرض مجرى الوادي قبل اجتماع أربعة من روافده كيلوان وربع ، ويقدر عرضه بعد اجتماع روافده وقبل انتشاره بثلاثة كيلو متر تقريبا ، ويقدر مفرش الوادي في سهول الحجر بستة كيلو مترات تقريبا في مثلها ، من حافة الوادي الشمالية إلى السلسلة الجبلية شمالا يتراوح بين المتر وأربعة كيلو مترات ، بمعنى : أن هذه المساحة تشكل شبه مثلث طرفا ضلعيه في الغرب .
من مدخل الحجر في شمال العلا إلى مفرش الوادي ستة عشر كيلو متر تقريبا .
طول الوادي من مفيض الصدير إلى منعرج الوادي لجهة العذيب ثلاثة وعشرون كيلو متر تقريبا .
من مدخل الحجر شمال العلا إلى المزحم - وهو أحد مخارج جبال الركب شمال الحجر - أربعة وثلاثون كيلو متر ونصف .

من مفيض ثربة غرب الحجر حتى مهج ظفير شرق الحجر سبعة وثلاثون كيلو متر تقريبا .
ويلاحظ أن المسافات الطويلة التي أخذت بكيلو السيارة فيها تعاريج اقتضاها خط سير السيارة تتراوح بين خمسة عشر وعشرين في المائة . مما سجله عداد السيارة .
4 - الجهة الشرقية : هذه الأرض تحيط بها سلسلة الجبال القائمة ، وتبلغ مساحتها عشرين كيلو متر طولا من الشمال إلى الجنوب في عشرة كيلو متر من الشرق إلى الغرب تقريبا ، وهذه الأرض ليس فيها آثار ظاهرة ولا مزارع ولا سكان ، والجبال فيها قليلة جدا ، وقد اقتطع جزء منها ليكون مطارا للمنطقة ، وليس فيها وديان غير مجرى وادي المعتدل في نهاية جنوبها ، وقد سبقت الإشارة إليه في وصف الوديان الواقعة فيما يسمى بـ : ( العذيب ) من المنطقة .
هذا ما تيسر ذكره . وأسأل الله تعالى التوفيق للجميع ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
تحريرا في 6 \ 3 \ 1393هـ
عضو اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن سليمان بن منيع

قرار رقم (30) وتاريخ 21 \ 8 \ 1394 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فبناء على برقية سمو نائب وزير الداخلية رقم (13879) وتاريخ 11 \ 4 \ 1394 هـ الصادرة بعد صدور قرار هيئة كبار العلماء بتحريم إحياء ديار ثمود الصادر في دورتها الثالثة برقم (9) في شهر ربيع الآخر عام 1393 هـ ، الموجهة لرئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بشأن الاستفسار عما يجب اتخاذه في ثمار ديار ثمود ومنتجاتها التي تم نضجها وحصادها قبل إبلاغهم بالمنع ، وهل تلحق المواشي والدواجن بالثمار؟
وبناء على إدراج هذا الموضوع ضمن جدول أعمال الدورة الخامسة لهيئة كبار العلماء -عرض الموضوع في هذه الدورة المنعقدة في مدينة الطائف فيما بين 5 \ 8 \ 1394 هـ و22 \ 8 \ 1394 هـ .
وبعد دراسة الموضوع وتداول الرأي قرر المجلس بالأكثرية ما يلي :
أولا : لا يشمل الحكم بتحريم إحياء ديار ثمود وسكناها وتحريم مياهها- ما نشأ فيها أو جلب إليها من المواشي والدواجن ، وإن تغذى بما فيها من مزارع ونبات وشرب من مياهها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعلفوا ركائبهم العجين الذي عجنوه بماء آبار ثمود ، ولو كان ذلك يوجب تحريم ركائبهم عليهم ما أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يعلفوها ذلك العجين .

ثانيا : لا يلزم من تحريم مياهها وإحياء أرضها تحريم ثمارها؛ لأن أعيان المياه والتربة قد استحالت لأعيان أخرى هي الثمار والزروع ، والاستحالة تقتضي تغيير الخواص والأحكام ونظير ذلك طهارة ما سمد من الأشجار والزروع بالنجاسات ، وحل ثمارها بسبب الاستحالة ، ونظيره أيضا طهارة ما تخلل بنفسه من الخمر وحل الائتدام به وبيعه وشرائه ، وغيرها من أنواع الانتفاع بعد أن كان خمرا محرما شربها وبيعها وشراؤها ، وذلك بسبب الاستحالة .
وأيضا للزراع فيها كسب وتسبب يوجب ملك الثمار والزروع ، ومال المسلم معصوم كدمه وعرضه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه » (1) .
وبالله التوفيق . وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
. .
رئيس الدورة الخامسة
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد الرزاق عفيفي
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن صالح
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... سليمان بن عبيد
صالح اللحيدان ... عبد الله بن منيع
مخالف وله وجهة نظر مرفقة ... راشد بن خنين
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564),سنن الترمذي البر والصلة (1927),سنن أبو داود الأدب (4882).

وجهة نظر في حكم ثمار ديار ثمود
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
ففي [صحيح البخاري ] سنده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ، ولا يستقوا منها ، فقالوا : قد عجنا منها ، واستقينا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ، ويهريقوا ذلك الماء ، وفيه بسنده إلى ابن عمر ، أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر ، واستقوا من بئرها ، واعتجنوا به ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئارها ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة .
إن المتأمل في علة المنع من الاستقاء من هذه الآبار سيخرج بأحد أمرين : إما لنجاسة الماء ، أو لوصف لازم له يوجب تحريمه ، وجمهور أهل العلم متفقون على القول بطهارة مياه تلك الآبار؛ لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ -وهي بئر يلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب- فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الماء طهور لا ينجسه شيء » (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه .
قال الإمام أحمد رحمه الله : حديث بئر بضاعة صحيح . فتعين القول بأن علة المنع من ذلك وصف قائم فيه لازم له يوجب تحريمه .
وإلى نحو ذلك أشار القرطبي رحمه الله في تفسير سورة الحجر فقال : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به؛ لأنه ماء
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (66),سنن النسائي المياه (326),سنن أبو داود الطهارة (66),مسند أحمد بن حنبل (3/86).

سخط فلم يجز الانتفاع به؛ فرارا من سخط الله ، وقال : "أعلفوه الإبل" قال مالك : إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم ، إذ لا تكليف عليها . اهـ .
وفي [الإقناع وشرحه] ما نصه : ولا يباح ماء آبار ديار ثمود غير بئر الناقة . . . إلى أن قال : فظاهره ، أي : ظاهر القول بتحريم ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود لا تصح الطهارة ، أي : الوضوء والغسل به؛ لتحريم استعماله؛ كماء مغصوب ، أو ماء ثمنه المعين حرام في البيع ، فلا يصح الوضوء بذلك ، ولا الغسل به؛ لحديث : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » (1) . . . إلى أن قال : ولا يستعمله؛ لأنه ممنوع منه شرعا فهو كالمعدوم حسا . اهـ .
وحيث اتجه القول إلى أن علة المنع : اشتماله على وصف لازم له ، وهو كونه ماء سخط ، فإن الثمار الناتجة من مزارع وبساتين تلك الديار المسقاة بتلك الآبار شبيهة بالطحين المعجون بماء هذه الآبار ، إن لم تكن أولى منها . ذلك أن العجين بمائها مركب من أمرين : مباح ، هو : الطحين ، ومحرم ، هو : الماء ، أما الثمار فمحتواها لا يخرج عن تربة تلك الديار ، ومياه آبارها ، والقول باستحالة حرمة هذه المياه حينما تحولت إلى ثمار قياسا على النجاسة غير صحيح -فيما أرى- قياس مع الفارق ، فإن الشيء المتنجس يزول بغسله ، أو باستحالته ، أما التحريم فلا يزول إلا بزوال الوصف الموجب له ، كاستحالة الخمر إلى خل ، فإن الوصف الموجب لتحريمها الإسكار ، وباستحالتها إلى خل زال ذلك الوصف ، فصارت حلالا . وتحريم مياه هذه الآبار -لكونها مياه سخط أو لأي وصف آخر-
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/256).

موجب للتحريم ، والوصف الموجب لتحريم مياه آبار ديار ثمود وصف ملازم لها ، سواء اختلطت بغيرها -كالعجين- أو شكلت مع غيرها أجساما أخرى كالثمار .
يدل على أن الحرمة لا تزول عن الشيء المحرم -وإن انتقل من حال إلى حال إلا بزوال الوصف الموجب لها- ما روى الجماعة عن جابر بن عبد الله ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنه يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس؟ فقال : لا ، هو حرام ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لما حرم شحومها جملوه ، ثم باعوه فأكلوا ثمنه » (1) ، وما روى ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال « لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها ، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه » (2) رواه أحمد وأبو داود .
فإن حرمة الشحوم على اليهود انسحبت على أثمان أدهانها ، ولم تنفعهم حيلتهم لاستباحتها ، بل بقي التحريم قائما ، فاستحقوا بذلك لعنة الله لاستباحته .
كما يدل على ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطمعه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له . فذكر أن من أسباب رد الدعاء وعدم الاستجابة- أكل الحرام ، وشربه ، والتغذية به ، مع أن أعيان هذه الأشياء المحرمة تستحيل إلى مواد أخرى بعد أكلها أو شربها ، ومع ذلك لم تكن استحالتها مانعة من ملازمة الحرمة لها ، ومن كون ملازمة
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2121),صحيح مسلم المساقاة (1581),سنن الترمذي البيوع (1297),سنن النسائي الفرع والعتيرة (4256),سنن أبو داود البيوع (3486),سنن ابن ماجه التجارات (2167),مسند أحمد بن حنبل (3/326).
(2) سنن أبو داود البيوع (3488),مسند أحمد بن حنبل (1/247).

الحرمة لها سببا في رد الدعاء ومنع الاستجابة؛ لأن الوصف الموجب لحرمتها ملازم لها .
لذلك كله فإني أرى أن لثمار مزارع وبساتين ديار ثمود حكم الطحين المعجون بمائها ، وهو إطعامه الدواب .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
الطائف في 20 \ 8 \ 1394 هـ
عضو هيئة كبار العلماء
عبد الله بن سليمان بن منيع

(4)
تدوين الراجح من أقوال الفقهاء
في المعاملات وإلزام القضاة
بالحكم به
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
تدوين الراجح من أقوال الفقهاء
في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فبناء على ما نقله سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عن جلالة الملك فيصل -رحمه الله- بموجب خطاب سماحته رقم 11471 \ 1 \ ط وتاريخ 29 \ 6 \ 1392 هـ الموجه إلى فضيلة الأمين العام لهيئة كبار العلماء ، وبناء على القرار رقم (5) وتاريخ 13 \ 8 \ 1392 هـ الصادر عن الهيئة -أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به ، وضمنته الكلام على ما يأتي على الترتيب :
الأول : تمهيد .
أ- الفرق بين المجتهد المطلق ، ومجتهد المذهب ، ومجتهد الفتوى ، والمقلد المحض .
ب- حكم تولية كل منهم القضاء .

ج- أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا .
الثاني : الدواعي التي دعت إلى تأليف كتاب بعبارة سهلة يقتصر فيه على القول الراجح من أقوال الفقهاء على هيئة مواد ، وإلزام القضاة العمل بما فيه .
الثالث : بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا .
الرابع : أقوال فقهاء الإسلام قديما وحديثا في إلزام ولاة الأمور القضاة أن يحكموا بمذهب معين أو رأي معين فيما يرفع إليهم من الخصومات مع الأدلة .
الخامس : الآثار التي تترتب على البقاء مع الأصل ، والتي تترتب على العدول عنه للدواعي الطارئة؛ لما يظن أنه المصلحة .
السادس : هل يمكن إيجاد حل لهذه المشكلة القائمة سوى إلزام القضاة أن يحكموا بما يراد تدوينه من الأقوال الراجحة ، أو يتعين إلزامهم بذلك طريقا لعلاج الموقف وحل المشكلة .
السابع : مدى تصرف إمام المسلمين في الإلزام ، مع أمثلة في مجال إلزامه توضح ذلك .
والله الموفق ، وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .

الأول : التمهيد : وفيه ثلاثة أمور :
أ- الفرق بين المجتهد المطلق ، ومجتهد المذهب ، ومجتهد الفتوى ، والمقلد المحض .
ب- حكم تولية كل منهم القضاء .

ج- أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا .
أ- الفرق بين المجتهد المطلق ، ومجتهد المذهب ، ومجتهد الفتوى ، والمقلد المحض :
1 - قال (1) ابن عابدين نقلا عن ابن كمال باشا : الفقهاء على سبع طبقات :
الأولى : طبقة المجتهدين في الشرع؛ كالأئمة الأربعة ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة ، من غير تقليد لأحد ، لا في الفروع ولا في الأصول .
الثانية : طبقات المجتهدين في المذهب؛ كأبي يوسف ، ومحمد ، وسائر أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على حسب القواعد التي قررها أستاذهم ، فإنهم وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول .
الثالثة : طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب؛ كالخصاف ، وأبي جعفر الطحاوي -إلى أن قال- : فإنهم لا يقدرون على مخالفة الإمام ، لا في الأصول ولا في الفرع ، لكنهم يستنبطون الأحكام من المسائل التي لا نص فيها عنه على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها .
الرابعة : طبقة أصحاب التخريج من المقلدين؛ كالرازي وأضرابه ،
__________
(1) [مجموعة رسائل ابن عابدين] ، رسالة رسم المغني (11 \ 12) .

فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلا ، لكنهم لإحاطتهم بالأصول وضبطهم المأخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين ، وحكم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب ، وعن أحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول والمقاييس على أمثاله ونظائره من الفروع وما وقع في بعض المواضع من الهداية من قوله كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي من هذا القبيل .
الخامسة : طبقة أصحاب التخريج من المقلدين؛ كأبي الحسن القدوري ، وصاحب الهداية وأمثالهما ، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر بقولهم : هذا أولى ، وهذا أصح رواية ، وهذا أوضح ، وهذا أوفق للقياس ، وهذا أرفق للناس .
السادسة : طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوال والقوي والضعيف وظاهر الرواية وظاهر المذهب والرواية النادرة ، كأصحاب المتون المعتبرة؛ كصاحب [الكنز] ، وصاحب [المختار] ، وصاحب [الوقاية] ، وصاحب [المجمع] ، وشأنهم ألا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة .
السابعة : طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر ، ولا يفرقون بين الغث والسمين ، ولا يميزون الشمال من اليمين ، بل يجمعون ما يجدون ، كحاطب ليل ، فالويل لمن قلدهم كل الويل .
2 - قال (1) الآمدي : أما الاجتهاد فهو في اللغة : عبارة عن استفراغ
__________
(1) [الأحكام] للآمدي (4 \ 162) .

الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة . . ثم قال : وأما في اصطلاح الأصوليين : فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسن من النفس العجز عن المزيد عليه -وبعد أن شرح التعريف قال- : وأما المجتهد : فهو من اتصف بصفة الاجتهاد -وبعد أن ذكر الشرط الأول من شرطي المجتهد المطلق قال- الشرط الثاني : أن يكون عالما عارفا بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها ، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها ، واختلاف مراتبها المعتبرة فيها على ما بيناه ، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها وكيفية استثمار الأحكام منها قادرا على تحريرها وتقريرها ، والانفصال من الاعتراضات الواردة عليها . . . إلى أن قال : هذا كله يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه ، وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة وما لا بد منه فيها ، ولا يضره جهله في ذلك بما لا تعلق له به مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية . كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المستكثرة بالغا رتبة الاجتهاد فيها ، وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها ، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر .
3 - قال (1) محمد الأمين الجنكي الشنقيطي ما حاصله: المجتهد المطلق الناظر في الأدلة الشرعية من غير التزام مذهب إمام معين؛ كالأئمة
__________
(1) [مراقي السعود وشرحها] ، طبعة المدني .

الأربعة ، وأما مجتهد المذهب فهو مجتهد أصوله أصول إمام مذهبه ، سواء كانت منصوصة للإمام المقلد أم مستنبطة من كلامه ، فكثيرا ما يستخرج أهل المذهب الأصول- أي : القواعد وفاقية أو خلافية -من كلام إمامهم وشرطه المحقق له : أن يكون له قدرة على استنباط الأحكام من نصوص ذلك الإمام الملتزم هو له ، كأن يقيس ما سكت عنه على ما نص عليه؛ لوجود معنى ما نص عليه فيه ، سواء نص إمامه على ذلك المعنى أو استنبطه هو من كلامه ، أو كأن يستخرج حكم المسكوت عنه من عموم ذلك أو قاعدة ذكرها ، وأما مجتهد الفتيا فهو المتبحر في مذهب إمامه المتمكن من أن يرجح قولا على قول آخر لم ينص ذلك الإمام على ترجيح واحد منهما ، والمجتهد في المذهب أعلى رتبة من مجتهد الفتوى ، والمقلد هو القائم بحفظ المذهب وفهمه في الواضح والمشكل العارف بعامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، المستوفي لحفظ ما فيه من الروايات والأقوال ، وعلم خاصها وعامها ، ومطلقها ومقيدها . قال : نحو هذا نقله الخطاب ، وقال : العلم بذلك متعذر ، والظاهر أنه يكفي في ذلك غلبة الظن بأن وجد المسألة في التوضيح ، وفي ابن عبد السلام . انتهى كلامه ، وهذا له أن يفتي في حدود ما نقل مستوفى ، وفيما لا يجده منقولا إن وجد في المنقول معناه ، بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق وكذا ما يعلم اندراجه تحت قاعدة من مذهبه ، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى به ، ولا بد أيضا من شدة الفهم وكونه ذا حظ كبير من الفقه .

4 - قال (1) شيخ الإسلام نقلا عن ابن الصلاح ، وذلك بعد أن ذكر كلاما في المجتهد المطلق يتفق مع ما ذكره الآمدي قال :
وللمفتي المنتسب أحوال أربع :
أحدهما : ألا يكون مقلدا لإمامه ، لا في المذهب ولا في دليله ، وإنما انتسب إليه؛ لسلوك طريقه في الاجتهاد . . إلخ ، وفتوى المنتسبين في هذه الحال في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل ويعتبر بها في الإجماع والخلاف .
الحال الثانية : أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب إمامه ، يستقل بتقرير مذهبه بالدليل ، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده ، ولا بد أن يكون عالما بأصول الفقه ، لكنه قد أخل ببعض الأدوات؛ كالحديث واللغة ، فإذا استدل بدليل إمامه لا يبحث عن معارض له ، ولا يستوفي النظر في شروطه ، وقد اتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها ، كما يفعل المجتهد المستقل بنصوص الشارع والعامل بفتيا هذا مقلد لإمامه . قال : والذي رأيت من كلام الأئمة يشعر بأن فرض الكفاية لا يتأدى بمثل هذا ، قال : وأقول : يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى ، ولا يتأدى به إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى؛ لأنه قائم مقام المطلق والتفريغ على جواز تقليد الميت وهو الصحيح ، وقد يوجد منه الاستقلال في مسألة خاصة ، أو باب خاص ، ويجوز له أن يفتي فيما لم يجده من أحكام الوقائع منصوصا لإمامه بما يخرجه على مذهبه ، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل ، وإليه مفزع
__________
(1) [المسودة] ص (546) ، ويرجع أيضا إلى [المجموع شرح المهذب] (1 \ 70) وما بعدها .

المفتين من مدد مديدة ، وهو في مذهب إمامه بمنزلة المجتهد في الشريعة ، وهو أقدر والمستفتي فيما يفتيه من تخريجه مقلد لإمامه لا له ، قطع به أبو المعالي ، قال : وأنا أقول : ينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه أبو إسحاق الشيرازي (في أن ما يخرجه أصحاب الشافعي على مذهبيه هل يجوز أن ينسب إليه أم لا ؟) .
والذي اختاره أبو إسحاق : أنه لا ينسب إليه؛ قال : وتخريجه تارة من نص معين ، وتارة تخريجه على وفق أصوله بأن يجد دليلا من جنس ما يحتج به إمامه ، والأولى إذا وجد نص بخلافه يسمى ما خرجه : قولا مخرجا ، وإن وقع الثاني في مسألة قد قال فيها بعض الأصحاب غير ذلك ينسى وجها ، وشرط التخريج أن لا يجد بين المسألتين فارقا ، وإن لم يعلم العلة الجامعة ، كالأمة مع العبد في السراية ، ومهما أمكن الفرق بين المسألتين لم يجز له على الأصح التخريج ، ولزمه تقرير النصين على ظاهرهما ، وكثيرا ما يختلفون في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق .
الحال الثالثة : أن يكون حافظا للمذهب ، عارفا بأدلته ، لكنه قصر عن درجة المجتهدين في المذهب؛ لقصور في حفظه أو تصرفه أو معرفته بأصول الفقه ، وهي مرتبة المصنفين إلى أواخر المائة الخامسة ، قصروا عن الأولين في تمهيد المذهب ، وأما في الفتوى فبسطوا بسط أولئك ، وقاسوا على المنقول والمسطور غير مقتصرين على القياس الجلي وإلغاء الفارق .
الحال الرابعة : أن يحفظ المذهب ويفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها غير أنه مقتصر في تقرير أدلته ، فهذا يعتمد نقله وفتواه في

نصوص الإمام وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه ، وما لم يجده منقولا؛ فإن وجد في المنقول ما يعلم أنه مثله من غير فصل يمكن ، كالأمة بالنسبة للعبد في سراية العتق ، أو علم اندراجه تحت ضابط منقول ممهد في المذهب- جاز له إلحاقه والفتوى به ، وإلا فلا ، قال : ويندر عدم ذلك ، كما قال أبو المعالي ، بعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب ، ولا هو في معنى شيء من المنصوص عليه فيه من غير فرق ، ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابطه ، ولا بد في هذا أن يكون فقيه النفس يصور المسائل على وجهها ، وينقل أحكامها بعد استتمام تصويرها ، جليها وخفيها ، قال : ولا تجوز الفتوى لغير هؤلاء الأصناف في الفقه : أنه يجب عليه الاستفتاء . انتهى .
5 - قال (1) علي بن سليمان المرداوي ما ملخصه : المجتهد ينقسم إلى أربعة أقسام :
مجتهد مطلق ، ومجتهد في مذهب إمامه أو في مذهب إمام غيره ، ومجتهد في نوع من العلم ، ومجتهد في مسألة أو مسائل .
القسم الأول : المجتهد المطلق ، وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها المصنف في آخر كتاب القضاء على ما تقدم هناك ، إذا استقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة وأحكام الحوادث منها ، ولا يتقيد بمذهب أحد ، وقيل يشترط أن يعرف أكثر الفقه ،
__________
(1) [الإنصاف] (12 \ 258) وما بعدها .

وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار وأصول الفقه والعربية وغير ذلك . وقيل : المفتي : من تمكن من معرفة أحكام الوقائع على يسر من غير تعلم آخر .
القسم الثاني : مجتهد في مذهب إمامه أو إمام غيره :
وأحواله أربعة :
الحالة الأولى : أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل ، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ، ودعا إلى مذهبه ، وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا وأولى من غيره ، وأشد موافقة فيه وفي طريقه . . . وفتوى المجتهد المذكور كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها ، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف .
الحالة الثاني : أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه ، مستقلا بتقريره بالدليل ، ومضى في الكلام . . . إلى أن قال : والحاصل : أن المجتهد في مذهب إمامه هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله ، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على كل ما انعقد عليه الإجماع ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط . فهذه صفة المجتهدين أرباب الأوجه والتخاريج والطرق .
الحالة الثالثة : ألا يبلغ به رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق ، غير أنه فقيه النفس ، حافظ لمذهب إمامه ، عارف بأدلته ، قائم بتقريره ونصرته ، يصور ويحرر ، ويمهد ويقوي ، ويزيف ويرجح ، لكنه قصر عن درجة أولئك؛ إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم ، وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه ، على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدلته عن طرف من قواعد أصول الفقه ونحوه ، وإما

لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق .
وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب وحرروها ، وصنفوا فيها تصانيف ، بها يشتغل الناس اليوم غالبا ، ولم يلحقوا من يخرج الوجوه ويمهد الطرق في المذاهب .
وأما فتاويهم فقد كانوا يستنبطون فيها استنباط أولئك أو نحوه ويقيسون غير المنقول على المنقول والمسطور . . ولا تبلغ فتاويهم فتاوى أصحاب الوجوه . وربما تطرق بعضهم إلى تخريج قول ، واستنباط وجه ، أو احتمال ، وفتاويهم مقبولة .
الحالة الرابعة : أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه ، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه ، من منصوصات إمامه ، وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم . . . ثم إن هذا الفقيه لا يكون إلا فقيه النفس . . . ويكفي استحضاره أكثر المذاهب ، مع قدرته على مطالعة بقيته .
القسم الثالث : المجتهد في نوع من العلم ، فمن عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل منه قياسية لا تتعلق بالحديث ، ومن عرف الفرائض فله أن يفتي فيها وإن جهل أحاديث النكاح وغيره ، وعليه الأصحاب .
القسم الرابع : المجتهد في مسائل أو مسألة وليس له الفتوى في غيرها .
6 - قال ابن القيم (1) : المفتون الذين نصبوا أنفسهم للفتوى -أربعة
__________
(1) [إعلام الموقعين] (4 \ 184) .

أقسام .
أحدهم : العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأقوال الصحابة فهو المجتهد في أحكام النوازل يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت . . . إلخ .
النوع الثاني : مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومآخذه وأصوله عارف بها متمكن من التخريج عليها وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه من غير أن يكون مقلدا لإمامه في الحكم ولا في الدليل لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا ودعا إلى مذهبه ورتبه وقرره فهو موافق له في مقصده وطريقه معا . . . إلخ .
النوع الثالث : من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه مقرر له بالدليل ، متقن لفتاويه ، عالم بها ، لكنه لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها ، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة . . . إلخ .
النوع الرابع : طائفة تفقهت في مذاهب من انتسبت إليه وحفظت فتاويه وفروعه ، فأقرت على نفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه . . . إلخ .
ففتاوى القسم الأول : من جنس توقيعات الملوك وعلمائهم ، وفتاوى النوع الثاني : من جنس توقيعات نوابهم وخلفائهم ، وفتاوى النوع الثالث ، والرابع : من جنس توقيعات خلفاء نوابهم ، ومن عداهم فمتشبع بما لم يعطه متشبه بالعلماء ، محاك للفضلاء .

ب- حكم تولية كل منهم القضاء
أما حكم تولية كل منهم القضاء فمختلف تبعا لاختلاف أحوالهم :

أ- المذهب الحنفي :
1 - قال (1) علي بن خليل الطرابلسي في الكلام على الركن الأول في شروط القضاء- قال : وإذا أراد الإمام تولية أحد اجتهد لنفسه وللمسلمين . . . ومضى إلى أن قال : وأهل القضاء : من كان عالما بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ حين بعثه قاضيا إلى اليمن : « بم تقضي يا معاذ ؟ . . . » (2) الحديث ، ولأن القاضي مأمور بالقضاء بالحق ، إذا كان عالما بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي؛ لأن الحوادث ممدودة ، والنصوص معدودة فلا يجد القاضي في كل حادثة نصا يفصل به الخصومة ، فيحتاج إلى استنباط المعنى من المنصوص عليه ، وإنما يمكنه ذلك إذ كان عالما بالاجتهاد . . . ومضى إلى أن قال : ولا ينبغي أن يكون صاحب حديث لا فقه عنده ، أو صاحب فقه لا حديث عنده ، عالما بالفقه والآثار ، وبوجه الفقه الذي يؤخذ منه الحكم .
قال عمر بن عبد العزيز : من راقب الله تعالى فكانت عقوبته أخوف في نفسه من الناس وهبه الله السلامة .
2 - قال (3) الكاساني في الكلام على من يصلح للقضاء بعد أن ذكر جملة من الشروط : وأما العلم بالحلال والحرام وسائر الأحكام فهل هو شرط جواز التقليد؟ عندنا ليس بشرط الجواز ، بل شرط الندب والاستحباب ، وعند أصحاب الحديث كونه عالما بالحلال والحرام وسائر الأحكام ، مع بلوغ درجة الاجتهاد في ذلك- شرط جواز التقليد ، كما قالوا
__________
(1) [معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] ص (13) .
(2) سنن الترمذي الأحكام (1327),سنن أبو داود الأقضية (3592),مسند أحمد بن حنبل (5/236),سنن الدارمي المقدمة (168).
(3) [بدائع الصنائع] (7 \ 3) .

في الإمام الأعظم ، وعندنا هذا ليس بشرط الجواز في الإمام الأعظم؛ لأنه يمكنه أن يقضي بعلم غيره بالرجوع إلى فتوى غيره من العلماء ، فكذا القاضي ، لكن مع هذا لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام؛ لأن الجاهل بنفسه ما يفسد أكثر مما يصلح ، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به -وبعد سياقه الحديث : "القضاة ثلاثة" قال : إلا أنه لو قلد جاز عندنا؛ لأنه يقدر على القضاء بالحق بعلم غيره بالاستفتاء من الفقهاء ، فكان تقليده جائزا في نفسه ، فاسد المعنى في غيره ، والفاسد لمعنى في غيره يصلح للحكم عندنا مثل الجائز حتى ينفذ قضاياه التي لم يجاوز فيها حد الشرع ، وهو كالبيع الفاسد ، إنه مثل الجائز عندنا في حق الحكم كذا هذا . انتهى .
3 - قال (1) عثمان بن علي الزيلعي على قول صاحب [الكنز] : (والاجتهاد شرط الأولوية- قال : - لأنه أقدر على الحكم بالحق ، واختلفوا في حد الاجتهاد . قيل : أن يعلم الكتاب بمعانيه ، والسنة بطرقها ، والمراد يعلمها على ما يتعلق به الأحكام منه ، ومعرفة الإجماع والقياس؛ ليمكنه استخراج الأحكام الشرعية واستنباطها من أدلتها بطريقها .
ولا يشترط معرفة الفروع التي استخرجها المجتهدون بآرائهم ، وقال بعضهم : يشترط مع هذا : أن يكون عارفا بالفروع المبنية على اجتهاد السلف؛ كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما من المجتهدين ، وقال بعضهم : من حفظ المبسوط ومذهب المتقدمين فهو من أهل الاجتهاد ، والأشبه أن يقال : أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه يعرف معاني الآثار ،
__________
(1) [تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق] (4 \ 176) .

وصاحب فقه له معرفة بالحديث؛ كيلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه ، وقيل : لا بد مع هذا من أن يكون صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس؛ لأن كثيرا من الأحكام مبني عليها . انتهى .
ب- المذهب المالكي :
1 - يشترط (1) في القاضي أن يكون مجتهدا ، فلا تنعقد إلا له إن وجد ، وإلا فمقلد ، ويجب عليه العمل بالمشهور في مذهب إمامه ، واعلم أنه أراد بالمجتهد المطلق ، وأما غير المطلق فهو داخل في المقلد ، وهو قسمان : مجتهد مذهب ، وهو الذي يقدر على إقامة الأدلة ، ومجتهد الفتوى ، وهو الذي يقدر على الترجيح ، وما ذكره من أن تولية المقلد مع وجود المجتهد باطل قول ، والقول الآخر : أنها صحيحة ، وعليه طائفة أيضا ، كالمازري وغيره ، وعليه العمل في زمن مالك وغيره ممن قبله وممن بعده من المجتهدين ، فكان ينبغي الاقتصار عليه .
2 - يشترط (2) في صحة تعيين القاضي : أن يكون مجتهدا مطلقا إن وجد ، وإلا فمجتهد مذهب أو فتوى ، وهو الذي يضبط المسائل المنقولة ويقوى على استخراج ما ليس فيه نص بقياس على المنقول في مذهب إمامه وباعتبار قاعدة كلية ، وقيل : الاجتهاد المطلق شرط كمال التولية وتقديم الأمثل ، وهو مجتهد المذهب على المقلد المحض ليس بشرط صحة في
__________
(1) [حاشية علي الصعيدي في باب الأقضية على أبي الحسن على الرسالة] لابن أبي زيد (2 \ 278) وما بعدها .
(2) [الشرح الكبير والدسوقي على خليل] (4 \ 129) ، ويرجع أيضا إلى (1 \ 17 ، 18) من [تبصرة الحكام] لابن فرحون .

التولية على الأصح ، بل قال بعضهم : يصح تولية غير العالم حيث شاور العلماء .
ج- المذهب الشافعي :
1 - قال الماوردي : ولا يجوز أن يقلد القضاء من تكاملت فيه شروطه التي يصح معها تقليده ، وينفذ بها حكمه وهي سبعة . . . إلى أن قال : والشرط السابع : أن يكون عالما بالأحكام الشرعية ، وعلمه يشتمل على أصولها ، والارتياض بفروعها . ثم فصل الكلام بما ينطبق على المجتهد المطلق . ثم قال بعد ذلك : فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة في أحكام الشريعة صار بها من أهل الاجتهاد في الدين ، وجاز له أن يفتي ويقضي ، وجاز له أن يستفتى ويستقضى ، وإن أخل بها أو بشيء منها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد فلم يجز أن يفتي ولا أن يقضي ، فإن قلد القضاء فحكم بالصواب أو الخطأ كان تقليده باطلا ، وحكمه -وإن وافق الصواب- مردود ، وتوجه الحرج فيما قضى به عليه وعلى من قلده الحكم والقضاء ، وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد؛ ليستفتى في أحكامه وقضاياه ، والذي عليه جمهور الفقهاء : أن ولايته باطلة ، وأحكامه مردودة ، ولأن التقليد في فروع الشريعة ضرورة فلم يتحقق إلا في ملتزم الحق دون ملزمه . ثم قال : ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة؛ لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ، ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه . فإذا كان شافعيا لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها ، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي

حنيفة عمل عليه وأخذ به ، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة ، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضاء والأحكام ، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة ، وأرضى للخصوم ، وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه؛ لأن التقليد فيها محظور ، والاجتهاد فيها مستحق . وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد الاجتهاد فيه ، وقضى بما أداه اجتهاده إليه ، وإن خالف ما تقدم من حكمه ، فإن عمر رضي الله تعالى عنه قضى في المشتركة بالتشريك في عام ، وترك التشريك في غيره ، فقيل له : ما هكذا حكمت في العام الماضي؟ فقال : تلك على ما قضينا ، وهذه على ما نقضي .
2 - وبعد (1) أن ذكر الرملي : أن الاجتهاد شرط في تولية القضاء ، قال بعد ذلك : فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية ، ولا مقلد وهو : من حفظ مذهب إمامه لكنه غير عارف بغوامضه وقاصر عن تقرير أدلته؛ لأنه لا يصلح للفتوى ، فالقضاء أولى . . . ومضى إلى أن قال : واجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه ، إما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه ، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع ، فإنه مع المجتهد ، كالمجتهد في نصوص الشرع ، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه ، كما لا يجوز له
__________
(1) [نهاية المحتاج] (8 \ 240) .

الاجتهاد مع النص (فإن تعذر جمع هذه الشروط) أو لم يتعذر ، كما هو ظاهر مما يأتي فذكر التعذر تصوير لا غير (فولى السلطان أو من له شوكة) . . . (فاسقا أو مقلدا) (ولو جاهلا) نفذ قضاؤه الموافق لمذهبه المعتد به ، وإن زاد فسقه (للضرورة) لئلا تتعطل مصالح الناس . . . ويجب عليه رعاية الأمثل فالأمثل؛ رعاية لمصلحة المسلمين ، وما ذكر في المقلد محله إن كان ثم مجتهد ، وإلا نفذت تولية المقلد ، ولو من غير ذي الشوكة . . . ومعلوم أنه يشترط في غير الأهل معرفة طرف من الأحكام . . . ويلزم قاضي الضرورة بيان مستنده في سائر أحكامه ، كما أفتى بذلك الوالد رحمه الله ، ولا يقبل قوله : حكمت بكذا من غير بيان مستنده فيه ، وكأنه لضعف ولايته . انتهى المقصود .
د- المذهب الحنبلي :
1 - قال (1) في [المنتهى وشرحه] : فيجب على الإمام أن ينصب بكل إقليم قاضيا . . . إلى أن قال : وعلى الإمام أن يختار لذلك أفضل من يجده علما وورعا؛ لأن الإمام ينظر للمسلمين فوجب عليه تحري الأصلح لهم .
2 - وقال (2) أيضا : وله أن يولي قاضيا من غير مذهبه .
3 - وقال (3) أيضا بعد ذكره لشروط الاجتهاد : فمن عرف أكثر ذلك فقد صلح للفتيا والقضاء؛ لتمكنه من الاستنباط والترجيح بين الأقوال ، قال في
__________
(1) [المنتهى وشرحه] (3 \ 459) ، ويرجع أيضا إلى [الإنصاف] (12 \ 155) .
(2) [المنتهى وشرحه] (3 \ 463) .
(3) [المنتهى وشرحه] (3 \ 467) .

(آداب المفتي) : ولا يضر جهله بذلك؛ لشبهة أو إشكال ، لكن يكفيه معرفة وجوه دلالة الأدلة ، وكيفية أخذ الأحكام من لفظها ومعناها ، وزاد ابن عقيل في [التذكرة] ، ويعرف وجوه الاستدلال ، واستصحاب الحال ، والقدرة على إبطال شبه المخالف ، وإقامة الدليل على مذهبه .
4 - وقال (1) أبو يعلى : فأما ولاية القضاء فلا يجوز تقليد القضاء إلا لمن كملت فيه سبع شرائط . . . ومضى إلى أن قال : فإذا عرف ذلك صار من أهل الاجتهاد ، ويجوز له أن يفتي ويقضي ، ومن لم يعرف ذلك لم يكن من أهل الاجتهاد ، ولم يجز له أن يفتي ولا أن يقضي ، فإن قلد القضاء كان حكمه باطلا ، وإن وافق الصواب؛ لعدم الشرط .
5 -قال (2) الخرقي رحمه الله : ولا يولى قاض حتى يكون بالغا عاقلا مسلما حرا عادلا عالما فقيها ورعا .
6 - قال (3) ابن قدامة رحمه الله : الشرط الثالث : أن يكون من أهل الاجتهاد ، وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية ، وقال بعضهم : يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض منه فصل الخصائم ، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز ، كما يحكم بقول المقومين .
ولنا قول الله تعالى : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } (4) ولم يقل
__________
(1) [الأحكام السلطانية] (45 ، 46) .
(2) [المغني والشرح] (11 \ 380) .
(3) [المغني والشرح] (11 \ 382) وما بعدها .
(4) سورة المائدة الآية 49

بالتقليد ، وقال : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } (1) وقال : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } (2) وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « القضاة ثلاثة : اثنان في النار ، وواحد في الجنة : رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ، ورجل جار في الحكم فهو في النار » (3) رواه ابن ماجه . والعامي يقضي على جهل .
ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأنه فتيا وإلزام ، ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم أولى . . . ويخالف قول المقومين ؛ لأن ذلك لا يمكن الحاكم معرفته بنفسه بخلاف الحكم .
وبعد أن شرح الاجتهاد قال : وقد نص أحمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه . فإن قيل : هذه شروط لا تجتمع فكيف يجوز اشتراطها؟ قلنا : ليس من شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها ، وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب ، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا ، فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه وخير الناس بعده في حال إمامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة يسألان الناس فيخبران ، فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة؟ فقال : ما لك في كتاب الله شيء ، ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ولكن ارجعي حتى أسأل
__________
(1) سورة النساء الآية 105
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سنن أبو داود الأقضية (3573),سنن ابن ماجه الأحكام (2315).

الناس ، ثم قام فقال : أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس . وسأل عمر عن إملاص المرأة؟ فأخبره المغيرة بن شعبة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة ، ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم ، فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة الاجتهاد ، فلا تكون شرطا له ، وهو سابق عليها .
وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل . . . ثم قال : وإنما المعتبر أصول هذه الأمور ، وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله ، فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهدا ، له الفتيا وولاية الحكم إذا وليه . انتهى .
7 - يشترط (1) فيمن يولى القضاء : أن يكون مجتهدا مطلقا إن تيسر وإلا جاز تولية مجتهد مذهب للحاجة ، فإن لم يتيسر جاز تولية المقلد للحاجة ، وإلا تعطلت أحكام الناس . اهـ .
8 - جاء في [الكشاف] (2) في أثناء الكلام على شروط القاضي (مجتهدا) إجماعا ذكره ابن حزم؛ ولأنهم أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله؛ لأن فاقد الاجتهاد إنما يحكم بالتقليد ، والقاضي مأمور بالحكم بما أنزل الله ، ولا المفتي (3) لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا ، فالحاكم أولى (ولو) كان اجتهاده (في مذهب
__________
(1) [الإنصاف] (11 \ 177 ، 178) .
(2) [كشاف القناع عن متن الإقناع] (6 \ 237) .
(3) قوله : (ولا المفتي) ، وفي [المغني] : (ثم المفتي) .

إمامه) (إذا لم يوجد غيره) (لضرورة) لكن في [الإفصاح] : أن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة ، وأن الحق لا يخرج عنهم ، ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة : أن قول من قال : إنه لا يجوز تولية غير مجتهد فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما استقرت عليه هذه المذاهب .
وقال الموفق في خطبة [المغني] : النسبة إلى إمام في الفروع ، كالأئمة الأربعة ليست بمذمومة ، فإن اختلافهم رحمة ، واتفاقهم حجة قاطعة (واختار في [الإفصاح والرعاية] : أو مقلدا) .
قال في [الإنصاف] : ( وعليه عمل الناس من مدة طويلة ، وإلا تعطلت أحكام الناس ، وكذا المفتي ) .
قال ابن يسار : ما أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها ، وظاهر نقل عبد الله مفت غير مجتهد ، ذكره القاضي ، وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة (فيراعي كل منهما ألفاظ إمامه) و (يراعي من أقواله) متأخرا ، ويقلد كبار مذهب في ذلك ، ويحكم به ولو اعتقد خلافه؛ لأنه مقلد ، ولا يخرج عن الظاهر عنه .
9 - وقال (1) شيخ الإسلام ابن تيمية : وسئل بعض العلماء إذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل دين ، فأيهما يقدم؟
فقال : إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين ، وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم .
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (28 \ 259) .

وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين ، فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا ، أهلا للشهادة ، واختلفوا في اشتراط العلم : هل يجب أن يكون مجتهدا أو يجوز أن يكون مقلدا ، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما يتيسر؟ على ثلاثة أقوال . . . إلخ .
10 - وقال (1) أيضا : وكذلك ما يشترط في القضاة والولاة من الشروط يجب فعله بحسب الإمكان . . . كل ذلك واجب مع القدرة ، فأما مع العجز فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها . وجاء (2) معنى ذلك عن ابن القيم رحمه الله .
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (28 \ 388) ، ويرجع أيضا إلى [السياسة الشرعية]ص (66) .
(2) [إعلام الموقعين] (1 \ 114) ، وما بعدها ، طبعة المدني .

ج-

أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا
.
أ- المذهب الحنفي :
1 - قال (1) ابن عابدين : لو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه فيه ناسيا نفذ عنده ، وفي العامد روايتان ، وعندهما لا ينفذ في الوجهين ، واختلف الترجيح . قال في [الفتح] : والوجه الآن : أن يفتي بقولهما؛ لأن التارك لمذهبه عمدا لا يفعله إلا لهوى باطل ، وأما الناسي فلأن المقلد ما قلده إلا ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره ، هذا كله في القاضي المجتهد ، أما القاضي المقلد ، فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة فلا يملك المخالفة ، فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم .
__________
(1) [حاشية ابن عابدين] (4 \ 498) .

2 - وقال أيضا تحت مطلب قضاء القاضي بغير مذهبه ما نصه : وحاصل هذه المسألة : أنه يشترط لصحة القضاء : أن يكون موافقا لرأيه -أي : لمذهبه- مجتهدا كان أو مقلدا ، فلو قضى بخلافه لا ينفذ ، لكن في [البدائع] : إذا كان مجتهدا ينبغي أن يصح ، ويحمل على أنه اجتهد فأداه اجتهاده إلى مذهب الغير . انتهى .
3 - وقال (1) أيضا تحت مطلب الحكم بما خالف الكتاب والسنة والإجماع : قلت : لكن قد علمت : أن عدم النفاذ في متروك التسمية بني على أنه لم يختلف فيه السلف ، وأنه لا اعتبار بوجود الخلاف بعدهم ، وحينئذ فلا يفيد احتمال الآية أوجها من الإعراب . نعم على ما يأتي من تصحيح اعتبار اختلاف من بعدهم يقوي ما في هذا البحث ويؤيده ما في الخلاصة من أن القضاء بحل متروك التسمية عمدا جائز عندهما ، لا عند أبي يوسف ، وكذا ما في [الفتح] عند [المنتقى] من أن العبرة في كون المحل مجتهدا فيه اشتباه الدليل لا حقيقة الخلاف .
4 - (ويأخذ) (2) القاضي ، كالمفتي (بقول أبي حنيفة على الإطلاق ، ثم بقول أبي يوسف ، ثم بقول محمد ، ثم بقول زفر والحسن بن زياد (وهو الأصح) منية وسراجية وعبارة النهر ، ثم بقول الحسن فتنبه ، وصحح في [الحاوي] اعتبار قوة المدرك ، والأول أضبط . نهر (ولا يخير إلا إذا كان مجتهدا ، بل المقلد متى خالف معتمد مذهبه لا ينفذ حكمه ، وينقض ، هو المختار للفتوى ، كما بسطه المصنف في فتاويه وغيره . . .
__________
(1) [حاشية ابن عابدين] (5 \ 400) .
(2) [تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار ، عليه حاشية ابن عابدين] (5 \ 360 ، 361) .

وفي القهستاني وغيره .
اعلم أن كل موضع قالوا : الرأي فيه للقاضي ، فالمراد : قاضي له ملكة الاجتهاد . انتهى ، وفي الخلاصة : وإنما ينفذ القضاء في المجتهد فيه إذا علم أنه مجتهد فيه وإلا فلا .
5 - قال ابن عابدين على قول صاحب الدر : (والأول أضبط) قال : لأن ما في [الحاوي] خاص فيمن له اطلاع على الكتاب والسنة ، وصار له ملكة النظر في الأدلة ، واستنباط الأحكام منها ، وذلك هو المجتهد المطلق ، أو المقيد ، بخلاف الأول ، فإنه يمكن لمن هو دون ذلك .
وقال أيضا على قول صاحب [تنوير الأبصار] : (ولا يخير إلا إذا كان مجتهدا) أي : لا يجوز له مخالفة الترتيب المذكور ، إلا إذا كان له ملكة يقتدر بها على الاطلاع على قوة المدرك ، وبهذا رجع القول الأول إلى ما في [الحاوي] من العبرة في المفتي المجتهد؛ لقوة المدرك ، نعم فيه زيادة تفصيل سكت عنها [الحاوي] ، فقد اتفق القولان على أن الأصح : هو أن المجتهد في المذهب من المشايخ الذين هم أصحاب الترجيح لا يلزمه الأخذ بقول الإمام على الإطلاق ، بل عليه النظر في الدليل وترجيح ما رجح عنده دليله ، ونحن نتبع ما رجحوه واعتمدوه ، كما لو أفتوا في حياتهم . . إنه إن لم يكن مجتهدا فعليه تقليدهم واتباع رأيهم ، فإذا قضى بخلافه لا ينفذ حكمه .
6 - قال (1) الكاساني : فأما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد ، فإن عرف
__________
(1) [بدائع الصنائع] (7 \ 5) .

أقاويل أصحابنا وحفظها على الاختلاف والاتفاق- عمل بقول من يعتقد قوله حقا على التقليد ، وإن لم يحفظ أقاويلهم عمل بفتوى أهل الفقه في بلده من أصحابنا ، وإن لم يكن في البلد إلا فقيه واحد : فمن أصحابنا من قال : له أن يأخذ بقوله ، ونرجو ألا يكون عليه شيء؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاجتهاد بنفسه وليس هناك سواه من أهل الفقه مست الضرورة إلى الأخذ بقوله ، قال الله تبارك وتعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (1) ولو قضى بمذهب خصمه وهو يعلم ذلك لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه قضى بما هو باطل عنده في اعتقاده فلا ينفذ ، كما لو كان مجتهدا فترك رأي نفسه وقضى برأي مجتهد يرى رأيه باطلا - فإنه لا ينفذ قضاؤه ؛ لأنه قضى بما هو باطل في اجتهاده ، كذا هنا ، ولو نسي القاضي مذهبه فقضى بشيء على ظن أنه مذهب نفسه ثم تبين أنه مذهب خصمه ذكر في [شرح الطحاوي ] : أن له أن يبطله ، ولم يذكر الخلاف؛ لأنه إذا لم يكن مجتهدا تبين أنه قضى بما لا يعتقده حقا فتبين أنه وقع باطلا ، كما لو قضى وهو يعلم أن ذلك مذهب خصمه .
7 - قال (2) علي بن خليل الطرابلسي في معرض بحثه الركن الثاني من أركان القضاء ، والمقضي به ، واجتهد القاضي في القضاء- قال ما نصه : ثم لا بد من معرفة فصلين : أحدهما : إذا اتفق أصحابنا في شيء قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله : لا ينبغي للقاضي أن يخالفهم
__________
(1) سورة النحل الآية 43
(2) [معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] ص (26) ، طبعة بولاق .

برأيه؛ لأن الحق لا يعدوهم (1) ، فإن أبا يوسف كان صاحب حديث حتى روي أنه قال : أحفظ عشرين ألف حديث من المنسوخ ، فإذا كان يحفظ من المنسوخ هذا القدر ، فما ظنك بالناسخ ، وكان صاحب فقه ومعنى أيضا ، ومحمد صاحب قريحة يعرف أحوال الناس وعاداتهم ، وصاحب فقه ومعنى؛ ولهذا قل رجوعه في المسائل ، وكان مقدما في معرفة اللغة ، وله معرفة في الأحاديث أيضا .
وأبو حنيفة رحمه الله كان مقدما في ذلك كله ، إلا أنه قلت روايته لمذهب خاص له في باب الحديث ، وهو أنه إنما تحل رواية الحديث عنده إذا كان يحفظ الحديث من حين سمع إلى أن يروى . ثم ذكر بعد ذلك طريقة الأخذ فيما إذا اختلف بعضهم عن بعض .
8 - وقال (2) أيضا في معرض بحثه نقض القاضي أحكام نفسه- قال ما نصه :
وذكر القاضي أبو بكر الرازي الخلاف فيما إذا قضى بخلاف مذهبه وقد نسيه ، فأما متى حكم بخلاف مذهبه حال ذكر مذهبه لا يجوز حكمه بالإجماع . . أما إذا لم يكن للقاضي رأي وقت القضاء فقضى برأي غيره ، ثم ظهر للقاضي رأي بخلاف ما قضى هل ينقض قضاؤه؟ قال محمد : ينقض قضاؤه؛ لأن رأيه في حق وجوب القضاء عليه بمنزلة النص؛ لأنه
__________
(1) أي : في نظر الطرابلسي وحده ، أما عند أبي حنيفة وغيره فقد اعترفوا بأنهم يخطئون ويفوتهم أدلة وبراهين توجد عند غيرهم من علماء الأمة ، ولو اطلعوا عليها لتقبلوها ، ولكن مقلديهم لا يقبلون إلا قولهم ولو خالف الصواب .
(2) [معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] ص (28) ، طبعة بولاق .

يوجب القضاء عليه ، كالنص ، ولو قضى برأيه ثم تبين نص بخلافه ينقض قضاؤه ، فكذا هذا ، وقال أبو يوسف : لا ينقض .
ب- المذهب المالكي :
1 - ويجب (1) على كل من الخليفة والقاضي إذا لم يكن مجتهدا مطلقا أن يحكم بالراجح من مذهب إمامه أو أصحاب إمامه لا بمذهب غيره ولا بالضعيف من مذهبه ، وكذا المفتي ، فإن حكم بالضعيف نقض حكمه إلا إذا لم يشتهر ضعفه وكان الحاكم به من أهل الترجيح وترجح عنده ذلك الحكم - فلا ينقض ، وإن حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه ، لكن القول بأنه يلزمه الحكم بمذهب إمامه ليس متفقا عليه ، حتى قيل : ليس مقلده رسولا أرسل إليه ، بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه ألا يحكم إلا بمذهب إمامه ، فقيل : لا يلزمه الشرط ، وقيل : بل ذلك يفسد التولية ، وقيل : يمضي الشرط للمصلحة .
2 - وسئل (2) القرافي : هل يجب على الحاكم ألا يحكم إلا بالراجح عنده ، كما يجب على المجتهد ألا يفتي إلا بالراجح عنده ، أو له أن يحكم بأحد القولين وإن لم يكن راجحا عنده؟
فأجاب قائلا : إن الحاكم إن كان مجتهدا فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده ، وإن كان مقلدا جاز له أن يفتي بالمشهور من مذهبه ، وأن يحكم به وإن لم يكن راجحا عنده ، مقلدا في رجحان القول المحكوم به
__________
(1) [الشرح الكبير والدسوقي على مختصر خليل] (4 \ 130) .
(2) [الأحكام] ص (79) ، و (1 \ 52 ، 56) [تبصرة الحكام] ، و(1 \ 58 ، 59) من [فتح العلي المالك على مذهب الإمام مالك] .

إمامه الذي يقلده ، كما يقلده في الفتيا ، وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا ، فحرام إجماعا . . . إلخ .
3 - جاء في [الشرح الكبير والدسوقي ] ما ملخصه : ونقض القاضي ما تبين له خطؤه من أحكامه أو أحكام غيره وبين السبب ، فهذا إما مطلقا أو مجتهد مذهب ، وذلك فيما إذا خالف نصا قاطعا أو جليا من كتاب أو سنة أو خالف إجماعا ، وله أمثلة كثيرة ، منها : ما لو خرج عن رأيه إذا كان مجتهدا وادعى أنه أخطأ؛ فينقضه فقط . وأما لو ثبت ببينة أنه أخطأ أو بقرينة؛ فإنه ينقضه هو وغيره ، أو خرج المقلد عن رأي إمامه خطأ وادعى أنه أخطأ وصار ما حكم به قول عالم وقد كان قاصدا الحكم بقول غيره وكان مفوضا في الحكم بأي قول قوي من أقوال علماء مذهبه- فينقضه فقط .
وأما إن صادف حكمه قول غير عالم لم يقصد الحكم بقول عالم معين ، أو قصد الحكم بقول عالم فحكم بغيره- فينقض حكمه هو وغيره ، وإن تجدد المماثل فالاجتهاد فيها مطلوب إن كان الحاكم مجتهدا ، وإن كان مقلدا فلا يتعدى حكمه الأول أيضا إلى المماثل ، بل يحكم بمثل ما حكم به أولا؛ لحكمه بقول إمامه دائما ، إلا أن يكون من أهل الترجيح في المذهب فله مخالفة الأول ، إن ترجح عنده مقابله .
ج- المذهب الشافعي :
1 - قال (1) النووي وجلال الدين المحلي : (ويحكم باجتهاده إن كان
__________
(1) [المحلى على المنهاج] (4 \ 297) .

مجتهدا أو اجتهاد مقلده) بفتح اللام (إن كان مقلدا) بكسرها حيث ينفذ قضاء المقلد .
2 - وقال (1) قليوبي على قول النووي : (أو اجتهاد مقلده) أي : المعتمد عند مقلده إن لم يكن هو متبحرا ، وإلا فباعتماده ، ولا يجوز له الحكم بغير مذهبه .
3 - وقال (2) الرملي على قول النووي : (مجتهد) قال : فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية ولا مقلد . . . ومضى إلى أن قال بعد بيان صفة المجتهد المطلق : اجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه ، أما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه ، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع ، فإنه مع المجتهد ، كالمجتهد في نصوص الشرع ، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه ، كما لا يجوز له الاجتهاد مع النص .
4 - قال (3) الإمام فخر الدين في كتابه [ملخص البحر] : لا يجوز لمفت على مذهب إمام أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته في ذلك المذهب ، وأما المقلد فلا يجوز له الحكم بغير مذهب مقلده ، إذا ألزمناه اتباعه ، ذكره الغزالي ، واقتصر عليه في الروضة وغيرها ، وقال ابن الصلاح : لا يجوز لأحد في هذا الزمان أن يحكم بغير مذهبه ، فإن فعل نقض لفقد الاجتهاد ، وكذا في أدب القضاء للغزي كلام ابن الصلاح ، ومرادهم بالمقلد : من
__________
(1) [قليوبي على المنهاج] (4 \ 298) .
(2) [نهاية المحتاج على المنهاج] (8 \ 240) ، ويرجع أيضا إلى ص (242) .
(3) [مجموع المنقور] (2 \ 152) .

حفظ مذهب إمام ونصوصه ، لكن عاجز عن تقويم -وفي نسخة تقديم- أدلته غير عارف بغوامضه . اهـ بواسطة المنقور .
د- المذهب الحنبلي :
سبقت نقول عن ابن قدامة رحمه الله وغيره من الحنابلة على هذه المسألة في أثناء الكلام على حكم التولية للمجتهد ومن ذكر معه .
وفيما يلي نقول أخرى :
1 - وعلى المقلد (1) أن يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها ، ويقلد كبار مذهبه في ذلك ، ويحكم به ولو اعتقد خلافه؛ لأنه مقلد ، ومخالفة المقلد في فتواه نص إمامه ، كمخالفة المفتي نص الشارع .
وقال الشيخ تقي الدين : يحرم الحكم والفتيا بالهوى إجماعا ، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعا ، ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له أو عليه إجماعا .
2 - فوائد (2) ملخصها : لو أداه اجتهاده إلى حكم لم يجز له تقليد غيره إجماعا ، وإن لم يجتهد لم يجز أن يقلد غيره أيضا مطلقا ، على الصحيح من المذهب .
قال ابن مفلح في أصوله : قاله أحمد وأكثر أصحابه . وعنه يجوز مع ضيق الوقت ، وقيل : يجوز تقليد من هو أعلم منه ، وفي هذه المسألة للعلماء عدة أقوال غير ذلك ، وليس لمن انتسب إلى مذهب إمام في مسألة ذات قولين أو وجهين أن يتخير فيعمل أو يفتي بأيهما شاء ، بل إن علم
__________
(1) [الإنصاف] (11 \ 179) .
(2) [الإنصاف] (11 \ 184) وما بعدها .

بتاريخ القولين عمل بالمتأخر منهما . إذا وجد من ليس أهلا للتخريج والترجيح بالدليل اختلافا بين أئمة المذهب في الأصح من القولين أو الوجهين- فينبغي أن يرجع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة؛ لزيادة الثقة بآرائهم . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : الناظر المجرد يكون حاكيا لا مفتيا .
وقال في [آداب عيون المسائل] : إن كان الفقيه مجتهدا يعرف صحة الدليل كتب الجواب عن نفسه ، وإن كان ممن لا يعرف الدليل ، وقال : مذهب الإمام أحمد كذا . مذهب الشافعي كذا ، فيكون مخبرا لا مفتيا .
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله في الأخذ برخص المذهب وعزائمه : طاعة غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه ، وهو خلاف الإجماع ، وقال أيضا : إن خالفه لقوة الدليل وزيادة علم أو تقوى فقد أحسن ولا يقدح في عدالته بلا نزاع ، وقال أيضا : بل يجب في هذه الحال ، وأنه نص الإمام أحمد رحمه الله ، وهو ظاهر كلام ابن هبيرة .
3 - ومن حاشية (1) ابن قندس قوله : ( فعلى هذا يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها ، ويقلد كبار مذهبه في ذلك ، ظاهره وجوب مراعاة ألفاظ إمامه ووجوب الحكم بمذهب إمامه ، وعدم الخروج عن الظاهر عنه وهذا كله يدل على أنه لا يصح حكمه بغير ذلك؛ لمخالفته الواجب عليه . . . إلى أن قال : وظاهر ما ذكره المصنف هنا وجوب العمل بقول إمامه ، والمنع من تقليد غيره ، وظاهره ترجيح القول من منع تقليد غيره وهذا هو اللائق لقضاة
__________
(1) [مجموع المنقور] (2 \ 188) .

الزمان؛ ضبطا للأحكام ، ومنعا من الحكم بالتشهي ، فإن كثيرا من القضاة لا يخرجون من مذهب إمام بدليل شرعي ، بل لرغبة في الدنيا وكثرة الطمع ، فإذا ألزم بمذهب إمامه كان أضبط وأسلم ، وإنما يحصل ذلك إذا نقض حكمه بغير مذهب إمامه ، وإلا فمتى أبقيناه حصل مراد قضاة السوء ، ولم تنحسم مادة السوء ، ويرشح ذلك بأن يقال : هذه مسألة خلافية ، فبعضهم ألزم بذلك ، وبعضهم لم يلزمه ، والإمام إذا ولاه الحكم على مذهب إمامه دون غيره فهو حكم من الإمام بإلزامه بذلك ، فيرتفع الخلاف . . . إلى أن قال : وظاهره : أن المقلد يجب عليه العمل بقول من يقلده وهو إمامه ، وأن لا يخرج عن قوله . . . إلى أن قال : قال بعض أصحابنا : مخالفة المفتي إمامه الذي قلده كمخالفة المفتي نص الشارع . . . إلى أن قال : قال النووي في [الروضة] : فرع : إذا استقضى مقلدا للضرورة فحكم بغير مذهب مقلده ، قال الغزالي : إن قلنا : لا يجوز للمقلد تقليد من شاء ، بل عليه اتباع مقلده نقض حكمه ، وإن قلنا : له تقليد من شاء لا ينقض ، ثم قال : الذي تقرر : أن مذهبنا إن الحاكم لا يجوز له الحكم بغير مذهبه ، بخلاف الشافعية فيجوز أن يحكم بغير مذهب إمامه ، قاله شيخنا ) .
4 - قال (1) شيخ الإسلام : وأولو الأمر صنفان : الأمراء ، والعلماء ، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس ، فعلى كل منهم أن يتحرى بما يقوله
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (28 \ 388) ، ويرجع أيضا إلى (544 ، 545) ، ويرجع أيضا إلى [مختصر الفتاوى المصرية[ ص (554) وما بعدها .

ويفعله طاعة الله ورسوله ، واتباع كتاب الله ، ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة- كان هو الواجب ، وإن لم يمكن لضيق الوقت وعجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك- فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه ، هذا أقوى الأقوال ، وقد قيل : ليس له التقليد بكل حال ، وقيل : له التقليد بكل حال ، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد .

الخلاصة
يتلخص من النقول المتقدمة ما يأتي :
أولا : إن المجتهد المطلق هو : من لديه قدرة على استنباط الأحكام من أدلتها ، بناء على أصول ارتضاها لنفسه ، وليس تابعا فيها لغيره ، فكان بذلك أهلا للإفتاء والقضاء ، وكان رأيه معتدا به في الوفاق والخلاف ، وإذا ولاه إمام المسلمين أو نائبه القضاء وجب عليه أن يحكم بما وصل إليه باجتهاده فيما رفع إليه من القضايا ، ونفذ فيه حكمه ، وارتفع به الخلاف في القضايا الاجتهادية التي حكم فيها .
ثانيا : المجتهد المنتسب : هو من انتمى إلى مجتهد مستقل لسلوكه طريقه في الاجتهاد ، من غير أن يكون مقلدا له في قوله أو في دليله ، وحكمه حكم المجتهد المطلق في أهليته للقضاء والحكم في القضايا باجتهاده . . . إلى آخر ما تقدم في المجتهد المطلق .
ثالثا : المقلد المتعلم هو : المتبحر في مذهب إمامه ، المتمكن من تقرير أدلته على ما عرف عن إمامه أو عن أصحابه ، العارف بمطلق الآراء في المذهب ومقيدها ، عامها وخاصها ، وغامضها وواضحها ، لكنه لم يبلغ

درجة التخريج أو الترجيح, وهذا يجوز أن يولى القضاء للضرورة, وعليه أن يحكم بالراجح في مذهب إمامه الذي انتسب إليه وعرف تفاصيل مذهبه, فإن فعل ذلك نفذ حكمه, وإن حكم بالضعيف في مذهب إمامه أو حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه؛ لبطلانه, فإنه يعتقد صحة مذهب إمامه, وتقديم الراجح في مذهبه, فإذا حكم بخلاف ذلك كان حاكما بغير ما يعتقد, فكان حكمه باطلا, وعليه أن يبين مستنده في جميع أحكامه, وقيل : لا يجوز توليته القضاء, فإن قلده الإمام القضاء كانت توليته القضاء باطلة, وكان حكمه باطلا, وإن وافق الراجح في مذهب إمامه, وكانت التبعة في ذلك عليه؛ لقبوله ما ليس أهلا له وعلى من ولاه لتوليته إياه, وذهب الماوردي وجماعته إلى جواز حكم المقلد بغير مذهب إمامه, وجمع بينهما الأذرعي بحمل كل من القولين على حال من أحوال المقلد .
رابعا : مجتهد المذهب وهو : من له قدرة على استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية بناء على أصول الإمام الذي انتسب إليه, أو استنباطها من قواعد إمامه منصوصة أو مستنبطة من كلامه, أو استنباطها بالقياس على منصوصه لشبه معتبر بينهما, أو لعدم وجود فارق مؤثر, وله قدرة أيضا على الترجيح بين الروايات والأقوال والوجوه .
وهذا بأنواعه له شبه بالمجتهد المطلق من ناحية قدرته على استنباط الأحكام في الجملة, وله شبه بالمقلد من ناحية وقوفه عند أصول إمامه, والتزامه لطريقته في التخريج والترجيح؛ ولذا اختلف في حكم توليته القضاء : فمن غلب جهة شبهه بالمجتهد المطلق أجاز توليته القضاء, ولو مع وجود المجتهد

المطلق, فتصح ولايته, ويقضي ما ترجح لديه من الآراء, وحكمه نافذ ورافع للخلاف فيما حكم فيه من القضايا, ومن غلب فيه جهة شبهه بالمقلد, وسماه : مقلدا, وإن كان تقليده غير محض, لم يصحح ولايته إلا عند عدم وجود مجتهد مطلق, والمعتمد الأول عند كثير من الفقهاء,ولكن ينبغي تولية الأمثل فالأمثل . خامسا : مجتهد الفتوى وهو : من لديه قدرة على الترجيح بين الأقوال أو الروايات والوجوه المروية عن الإمام أو أصحابه, ولا قوة له على التخريج على أقوالهم أو من القواعد والأصول المعتبرة في المذهب إلا ما كان قياسا مع عدم الفارق المؤثر, وما وضح اندراجه في قواعد المذهب وأصوله, وما كان تفصيلا لقول مجمل ذي وجهين وحكم محتمل لأمرين منقول عن إمام المذهب أو أحد أصحابه المجتهدين فإنه يقوى على مثل ذلك .
وهذا القسم وإن كان في المرتبة دون من قبله من مجتهدي المذهب, إلا أنه ملحق به في حكم توليته القضاء, وما يحكم به ونفاذ حكمه ورفعه للخلاف في القضية التي حكم فيها .

الثاني : الدواعي إلى تدوين الراجح من أقوال الفقهاء وإلزام القضاة الحكم به :
لما كان علماء الصحابة والتابعين من ذوي البصيرة وكمال الفقه في الشريعة والأمانة في الدين, وكانوا أبعد الناس عن اتباع الهوى ومواطن الريبة, ولم تكن شقة الخلاف بينهم واسعة, ولا التباين في الآراء كثيرا فاشيا- وثق الناس بفتواهم, واطمأنت نفوسهم إلى قضائهم, ورضوا بحكمهم فيما بينهم من نزاع في المعاملات, وبذلك انحلت

مشاكلهم, ولم تداخلهم الريب والظنون, ولم يفكر أحد من العلماء أو الحكام في تدوين أحكام تختار, ليلزم القضاة بالحكم بها في قضايا النزاع, والفصل على ضوئها في الخصومات .
ولما ضعفت القريحة, وقصر النظر, وبعدت شقة الخلاف بين العلماء, وكثرت آراؤهم, وتباينت فتاواهم وأحكامهم في القضايا وجدت الريبة في الأحكام, والشك في العلماء طريقا إلى القلوب وتسلطت الظنون على النفوس؛ ولهذا وغيره فكر بعض من يعنيهم الأمر في تدوين أحكام مختارة من آراء الفقهاء في المعاملات, يرجع إليها القضاة في أحكامهم, ويلزمون الحكم بمقتضاها؛ منعا للاضطراب في الأحكام, وإزالة للأوهام والشكوك من نفوس المتحاكمين إلى المحاكم الشرعية, وقضاء على الظنون الكاذبة في الشريعة الإسلامية وفي علمائها, وتبرئة لها مما وصمت به زورا وبهتانا من أنها غير صالحة للفصل بها في الخصومات وحل مشاكل الناس, وحماية للأمة وحكومتها من العدول عن التحاكم إلى المحاكم الشرعية إلى التحاكم للقوانين الوضعية .
وفيما يلي نقل في بيان الدواعي إلى تدوين أحكام فقهية وإلزام القضاة أن يحكموا بها .
قال محمد سلام مدكور في بيان منشأ الضرورة إلى ذلك ودواعيه (1) : الذي نراه أن منشأ ذلك إنما كان راجعا في عصورهم لشيء من الاضطراب في التطبيق القضائي لعدم معرفة الحكم الواجب التطبيق مع تعداد الأحكام
__________
(1) انظر [المدخل للفقه الإسلامي] ص (380) وما بعده .

في المسألة الواحدة نتيجة اختلاف آراء المجتهدين, وذلك جدير أن يبلبل أفكار الناس, وألا يسير بهم في جادة مستقيمة ومشرع واضح للجميع, ولقد كان من آثار ذلك الاضطراب في الماضي واختلاف القضاة المجتهدين في أحكام المسألة الواحدة في البلد الواحد- أن يضل الناس في شئون حياتهم رغم تحريهم الهداية والرشاد, ولكن عدم معرفة الحكم الواجب التطبيق بينهم على سبيل التعيين في المسألة الاجتهادية جعلهم قاطبة عرضه للخطأ في نظر القضاء .
ولعل هذا هو السر في أن كثيرا من الأصوليين والعلماء أقفلوا باب الاجتهاد؛ سدا لذريعة الفوضى والاضطراب والحكم بالهوى المقنع بالاجتهاد ووجهة النظر, وكانوا محقين إذ ذاك حتى يغلق باب الشرور ويكون القاضي في أحكامه ملزما بأحكام مذهبه فلا يحيد عنه وملزما للناس بها حتى يعرفوها . ويقدر كل إنسان في تصرفاته حكم تصرفه أمام القضاء بحيث يستطيع أن يفهم إن كان في تصرفه حكم القضاء أم لا, وقد ترتب على هذا بحث الفقهاء في تقييد القاضي بمذهب معين , بل بالرأي الراجح من المذهب, كما بحثوا أمر تقييد السلطان لقضائه بالمذهب الذي ينبغي أن يستمد منه القاضي أحكامه, وقد كان هذا الاتجاه نواة وأساسا للتفكير في وضع الأحكام الشرعية في مواد قانونية محدودة واضحة ما أمكن, لا يلتبس الناس غالبا في شيء من أمرها . . .
إلى أن قال : أما القضاة فوظيفتهم هي تطبيق الأحكام الشرعية وتنفيذها بسلطان القضاء, ولا شك في أن الأحكام الواجبة التطبيق إذا كانت محدودة مبينة معروفة للقاضي وللمتقاضي- كان ذلك أدعى إلى تحقيق العدالة والتيسير على الناس,

وأكفل لتحقيق المساواة بينهم, وطمأنة نفوسهم بالنسبة للقضاء, فلم يكن بد من وضع الأحكام الشرعية القضائية في صيغ قانونية تتولاها طائفة من فقهاء الأمة من أهل الرأي والاجتهاد, وقد بينا عند الكلام عن الاجتهاد : أن العصر لا يخلو منهم ثم تصبح قانونا واجب الاتباع والتنفيذ, ولا ضير في ذلك ما دامت هذه الأحكام مستمدة من الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وآرائه, ومسايرة لمصالح الناس, ولا ضير في أن تعتبر هذه القوانين, كالنصوص القطعية, من ناحية عدم مخالفة القاضي لها وإلزامه باتباعها, فليس هناك مجال إذا لاجتهاد القاضي معها إلا في حدود ضيقة, وهي :
عند وجود إبهام في انطباقها على بعض النوازل والأحداث, ومع هذا فإن العدل إذا كان مصدره هو النصوص التشريعية وما أجمع عليه من أحكام- القاضي عند التطبيق فيما يحتاج إلى اجتهاد يعتبر أيضا مصدرا من مصادر العدالة . اهـ .
مما تقدم يتبين أن الدواعي إلى تدوين القول الراجح وإلزام القضاة به هي :
1 - وقوع أحكام اجتهادية متناقضة في قضايا متماثلة, أدت إلى اتهام القضاة باتباع الهوى فيما يقضون, أو برميهم بالقصور في علمهم أو تطبيقهم لما عرفوا من الأحكام الشرعية على ما رفع إليهم من القضايا الجزئية المتنازع فيها .
2 - عدم وجود كتاب سهل العبارة في المعاملات يتعرف منه الناس أحكام المعاملات؛ ليراعوا تطبيقاتها, ويوافقوا بينها وبين أعمالهم عند الإقدام حتى لا يقعوا فيما يعرضهم للحكم عليهم وإدانتهم إذا حصل النزاع

ورفعت القضية للقضاء, وإضافة إلى ذلك يكون هذا الكتاب عونا للقضاة على أداء مهمتهم, وأدعى إلى وحدة الأحكام وتناسقها بدلا من تضاربها .
3 - تهرب بعض الناس من رفع قضاياه للمحاكم الشرعية بالمملكة إلى رفعها لمحاكم في دول أجنبية؛ نتيجة لما تقدم ذكره, والخوف من أن يتزايد ذلك حتى ينتهي- عياذا بالله- إلى استبدال قوانين وضعية بالأحكام الشرعية .
لذا فكر بعض المسلمين في إلزام القضاة أن يحكموا بأقوال في المعاملات تختار لهم, وتدون في كتاب مع أدلتها, أو إلزامهم أن يحكموا بالراجح والمعتمد من مذهب معين؛ إعانة للقضاة على التمكن من معرفة ما يحكمون به في القضايا, وتقريبا بين معارفهم في الأحكام, ومنعا للتناقض فيها ولتبلبل أفكار الأمة, وإبعادا للتهمة عنهم, وقضاء على ما يزعم بعض الناس من اتباع بعض القضاة للهوى, وتمكينا للجمهور من أن يوافقوا بين أعمالهم وبين ما دون؛ ليكون مرجعا للقضاة في الأحكام, فيكونوا بذلك على بصيرة فيما يقدمون عليه من أعمل قد يكون فيها خصومة .
وستأتي مناقشة الدواعي عند مناقشة الأدلة .

الثالث : بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا :
أ- محاولة (1) ابن المقفع في القرن الهجري الثاني في بدء العهد
__________
(1) [رسالة الصحابة من المجموعة الكاملة] (206- 208) .

العباسي : كتب ابن المقفع إلى أبي جعفر المنصور رسالة جاء فيها : ومما ينظر فيه أمير المؤمنين من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي- اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال . . . ومضى إلى أن قال : فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب, ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة وقياس, ثم نظر في ذلك أمير المؤمنين وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم عليه عزما وينهى عن القضاء بخلافه, وكتب ذلك كتابا جامعا- لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا, لرجونا أن يكون اجتماع السير قرينة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه, ثم يكون ذلك من إمام آخر الدهر إن شاء الله . انتهى .
قال (1) محمد سلام مدكور تعليقا على ذلك : غير أن هذا الاقتراح لم يجد له رواجا في ذلك الحين؛ لإباء الفقهاء أن يتحملوا تبعة إجبار الناس على تقليدهم, وهم الذين يحذرون تلاميذهم من التعصب لآرائهم, كما أنهم تورعوا وخافوا أن يكون في اجتهادهم خطأ, ليس هذا تقنينا وضعيا, وإنما هم بصدد شريعة سماوية .
ب- محاولة الخليفتين : أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد مع الإمام مالك بن أنس .
1 - لما حج أبو جعفر المنصور سنة 148هـ اجتمع بالإمام مالك ودار
__________
(1) [المدخل للفقه الإسلامي] (107) .

بينهما بحث هذا الموضوع, ونحن نسوق ذلك :
قال (1) عيسى بن مسعود الزواوي في أثناء الكلام الذي دار بين الإمام مالك وبين أبي جعفر المنصور , قال مالك : ثم قال لي : قد أردت أن أجعل هذا العلم علما واحدا ، أكتب به إلى أمراء الأجناد وإلى القضاة فيعلمون به, فمن خالف ضربت عنقه, فقلت : يا أمير المؤمنين, أو غير ذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذه الأمة فكان يبعث السرايا, وكان يخرج فلم يفتح من البلاد كثيرا حتى قبضه الله عز وجل ثم قام أبو بكر رضي الله عنه فلم يفتح من البلاد كثيرا حتى قبضه الله عز وجل , ثم قام عمر رضي الله عنه ففتحت البلاد على يديه, فلم يجد بدا أن يبعث أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معلمين, فلم يزل يؤخذ عنهم كابرا عن كابر إلى يومنا هذا, فإن ذهبت تولهم عما يعرفون إلى ما لا يعرفون رأوا ذلك كفرا, فأقر أهل كل بلد على ما فيها من العلم, وخذ هذا العلم لنفسك, فقال لي : ما أبعدت هذا القول, اكتب هذا العلم لمحمد .
وقال الزواوي أيضا نقلا عن الشافعي (2) : بعث أبو جعفر المنصور إلى مالك لما قدم المدينة, فقال له : إن الناس قد اختلفوا في العراق فضع للناس كتابا تجمعهم عليه, فوضع [الموطأ], وقال الزواوي أيضا : (وقال غيره) أي : الشافعي : إن أبا جعفر لما قال لمالك : ضع كتابا في العلم نجمع الناس عليه, قال له مع ذلك : اجتنب فيه شواذ ابن عباس وشذوذ ابن عمر ورخص ابن مسعود , فقال له مالك : ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين أن
__________
(1) [مناقب الإمام مالك] وهو [فقه المدونة] (1 \ 25 , 26) .
(2) [تزيين الممالك بمناقب مالك مع المدونة] (1\ 46) .

تحمل الناس على قول رجل واحد يخطئ ويصيب, وإنما الحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تفرقت أصحابه في البلدان, وقلد أهل كل بلد من صار إليهم, فأقر أهل كل بلد على ما عندهم . وقال الزواوي تعليقا على ذلك : فانظر إنصاف مالك رضي الله عنه, وصحة دينه, وحسن نظره للمسلمين, ونصيحته لأمير المؤمنين, ولو كان غيره من الأغبياء المقلدين , والعتاة المتعصبين, والحسدة المتدينين- لظن أن الحق فيما هو عليه, ومقصور على من ينسب إليه, وأجاب أمير المؤمنين إلى ما أراد, وأثار بذلك الفتنة وأدخل الفساد .
2 - وفي سنة 163هـ وقد ذهب أبو جعفر المنصور للحج مرة أخرى فأعاد عرض فكرته الأولى على الإمام مالك فاقتنع مالك رحمه الله, ووافقه أبو جعفر رحمه الله, يبين ذلك ما نقله جلال الدين السيوطي قال : وقال ابن سعد في [الطبقات] : أخبرنا الواقدي قال : سمعت مالك بن أنس يقول : لما حج أبو جعفر المنصور دعاني, فدخلت عليه فحادثته, فسألني فأجبته, فقال : إني عزمت أن آمر بكتابك هذا الذي وضعته- يعني : [الموطأ]- فينسخ منه نسخ, ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة, وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدونه إلى غيره, ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث, فإني رأيت أهل العلم رواة أهل المدينة علمهم . فقلت : يا أمير المؤمنين, لا تفعل هذا, فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل, وسمعوا أحاديث, ورددوا روايات, وأخذ كل قوم مما سبق إليهم, وعملوا به, ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم, وأن ردهم عما اعتقدوا شديد فندع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد منهم

لأنفسهم, فقال : لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به .
3 - وأخرج أبو نعيم في [الحيلة] عن عبد الله بن عبد الحكم قال : سمعت مالك بن أنس يقول : شاورني هارون الرشيد في أن يعلق [الموطأ] في الكعبة , ويحمل الناس على ما فيه . . . إلخ, فقلت : يا أمير المؤمنين, أما تعليق [الموطأ] في الكعبة فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع فافترقوا في البلدان, وكل عند نفسه مصيب . . إلخ فقال : وفقك الله يا أبا عبد الله .
وأخرج الخطيب في رواة مالك عن إسماعيل بن أبي المجالد قال : قال هارون الرشيد لمالك : يا أبا عبد الله, نكتب هذه الكتب ونفرقها في آفاق الإسلام فنحمل هذه الأمة على ما فيها, فقال : يا أمير المؤمنين رضي الله عنك, إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة, كل يتبع ما صح عنده, وكل على هدى, وكل يريد الله والدار الآخرة .
ج- محاولة (1) محمد عالمكير : قال محمد سلام مدكور : وفي القرن الحادي عشر الهجري ألف السلطان محمد عالمكير أحد ملوك الهند لجنة من مشاهير علماء الهند برياسة الشيخ نظام ؛ لتضع كتابا جامعا لظاهر الروايات التي اتفق عليها في المذهب الحنفي, فجمعوا ذلك في كتاب معروف بـ [الفتاوى الهندية], ومع هذا فلم يكن هذا الجمع شبه الرسمي ملزما للمفتين والقضاة, كما أن الجمع والتدوين والتبويب لم يكن على نمط التقنين, وإنما هي فروع فقهية واقعية ومفترضة, تذكر فيها الآراء, ثم
__________
(1) [المدخل للفقه الإسلامي] ص (108) .

يتبع ذلك بالقول الذي تختاره اللجنة للفتوى .
د- بدء تنفيذ الفكرة : ظهور (مجلة الأحكام العدلية) وقانون المعاملات وغير ذلك .
1 - قال (1) . الأستاذ مصطفى الزرقاء : ولما بدئ بتأسيس المحاكم النظامية في الدولة العثمانية ، وأصبح يعود إليها اختصاص النظر في أنواع من الدعاوى كانت قبل ذلك ترجع إلى المحاكم الشرعية ، ودعت الحاجة إلى تيسير مراجعة الأحكام الفقهية على الحكام غير الشرعيين ، وتعريفهم بالأقوال القوية المعمول بها من الضعيفة المتروكة دون أن يغوصوا على ذلك في كتب الفقه الواسعة النطاق _ صدرت إدارة سنية سلطانية بتأليف لجنة لوضع مجموعة من الأحكام الشرعية التي هي أكبر من غيرها دورانا في الحوادث .
فوضعت اللجنة في سنة (1286 للهجرة) هذه المجموعة منتقاة من قسم المعاملات من فقه المذهب الحنفي الذي عليه عمل الدولة . . . وقد أخذت بعض الأقوال المرجوحة في المذهب للمصلحة الزمنية التي اقتضتها . . . وقد صدرت الإدارة السنية السلطانية في شعبان (1293هـ) بلزوم العمل بها وتطبيق أحكامها في محاكم الدولة .
2 - وقال (2) . أيضا تحت فقرة (82) بدء تنفيذ الفكرة في تقنين الأحوال الشخصية قال : ثم بدئ رسميا بتنفيذ هذه الفكرة- فكرة الاستفادة من مختلف المذاهب الفقهية عن طريق التقنين في أحكام الأحوال الشخصية
__________
(1) (المدخل الفقهي العام) (1 \ 197) وما بعدها .
(2) (المدخل الفقهي العام ) (1\ 207) وما بعدها .

أواخر العهد العثماني ، إذ وضعت الحكومة العثمانية قانون حقوق العائلة في سنة (1333 رومية ) ، وأخذت فيه من المذهب المالكي حكم التفريق الإجباري القضائي بين الزوجين عن طريق التحكيم المنصوص عليه في القرآن عند اختلافهما ، وتوسعت فيه .
3 - وقال (1) . أيضا : في سنة (1929م) خطت الحكومة المصرية خطوة واسعة في الأخذ من مختلف الاجتهادات مما وراء المذاهب الأربعة فأصدرت قانونا تحت رقم (25) ألغت فيه تعليق الطلاق بالشرط في معظم حالاته ، كما اعتبرت تطليق الثلاث أو الثنتين بلفظ واحد طلقة واحدة؛ عملا برأي ابن تيمية ، ومستنده الشرعي ، وذلك بإقرار مشيخة الأزهر . انتهى المقصود .
4 - وقال (2) . محمد سلام مدكور تحت عنوان ( مصر وتقنين الفقه الإسلامي والنهوض بدراسته) قال : لم تختلف مصر عن غيرها في النهضة الفقهية ومحاولة تقنين الأحكام الفقهية التي تهم الناس في معاملاتهم وأحوالهم الشخصية وإخراجها في مواد حتى يسهل الرجوع إليها ، وحتى تنصرف الأذهان عن التطلع إلى الغرب ، ورفض الخديوي إسماعيل الأخذ بقانون (مجلة الأحكام العدلية)؛ حبا في الاستقلال ، وتخلصا من التبعية للدولة العثمانية ، واتجه إلى قانون نابليون ، بحجة أن كتب الفقه الإسلامي بوضعها لا يمكن التقنين منها ، فأحدث ذلك ضجة في الرأي العام ، وظهر رأي بإمكان التقنين من الفقه الإسلامي ، وقام الفقيه القدير قدري باشا
__________
(1) (المدخل الفقهي العام) (1\ 208) .
(2) (المدخل للفقه الإسلامي ) ص (110) .

بعمل مجموعة من القوانين أخذها من المذهب الحنفي مسترشدا في عمله ب (مجلة الأحكام العدلية) .
5 - وقال (1) . أيضا تحت عنوان (القوانين المصرية المختارة من الفقه الإسلامي) : عملت الحكومة على تأليف لجنة من كبار الفقهاء والمشرعين لوضع قوانين تؤخذ من الفقه الإسلامي من غير تقيد بمعنى معين ، مع مراعاة روح العصر . فألفت لجنة من أكبر علماء المذاهب الأربعة برئاسة وزير الحقانية في ذلك العهد لوضع قانون الأحوال الشخصية ، فوضعت اللجنة مشروع قانون للزواج والطلاق وما يتعلق بهما طبع سنة (1916م) ، ثم أعيد طبعه بعد تنقيح فيه سنة (1917) ، ومع هذا فقد كانت المعارضة في إخراجه قوية من بعض رجل الدين ومن تأثروا بهم؛ لذا لم يخرج هذا المشروع إلى التنفيذ ولم يصدر به القانون ، وإنما اكتفي ولاة الأمر بمعالجة بعض الأمور التي وضح عدم مطابقة المذهب الحنفي فيها لمصالح الناس ، فصدر القانون رقم (25) سنة (1920) ، والقانون رقم (56) سنة (1923م)بوضع حد أدنى لسن الزواج ، والقانون (25) سنة (1929م) ، وكل هذه القوانين نظمت بعض مسائل الأحوال الشخصية المتعلقة بالزواج وبالنفقة والعدة والطلاق والنسب والمهر والحضانة والمفقود وما إلى ذلك ، وإن كان القانون الأول (25) سنة (1920م) أخذ من المذاهب الأربعة ، فإن القانونين الآخرين الصادرين في سنة (1923م) وسنة (1929م) لم يتقيدا بالمذاهب الأربعة ، فقد أخذ القانون (56) لسنة
__________
(1) (المدخل للفقه الإسلامي ) ص (111) وما بعدها

(1923م) برأي آخر للإمام أبي حنيفة ، وبفتوى عبد الله بن شبرمة ، وعثمان البتي ، وأبي بكر الأصم ، وأما القانون (25) سنة (1929م) فقد جاء في مذكرته التفسيرية بأنه موافق لآراء بعض المسلمين ، ولو من غير أهل المذاهب الأربعة ، وأنه ليس هناك مانع شرعي من الأخذ بقول غيرهم خصوصا إذا ترتب عليه نفع عام ، وفي سنة (1931م) صدر القانون (78) بتنظيم المحاكم الشرعية ، وقد احتوى على بعض القوانين غير مقيد فيها بمذهب معين ، ثم خطت مصر خطوة جديدة نحو التخلص من التقيد المذهبي ، ففي 9 ديسمبر سنة (1936م) وافق مجلس الوزراء على مذكرة لوزارة العدل اقترحت فيها تشكيل لجنة بها ، تقوم بوضع مشروع قانون لمسائل الأحوال الشخصية ، وما يتفرع عنها ، والأوقاف ، والمواريث والوصية ، وغيرهما ، ولا تتقيد بمذهب دون آخر ، بل تأخذ من آراء الفقهاء ما هو أكثر ملاءمة لمصالح الناس وللتطور الاجتماعي, ولها أن تبدأ بما ترى أن الشكوى منه أعم, والحاجة إليه أمس, وقد بدأت بالنظر في مشروع قانون المواريث؛ لأن التغيير فيه ضئيل, فخرج في سنة (1913م) برقم (77) شاملا لجميع أحكام الإرث حتى ما كان مأخوذا من أحكام قطعية, كالخاصة بأصحاب الفروض والعصبات, وهذه لم يكن للجنة فيها إلا الصياغة فقط, أما الحكم نفسه فلم تتعرض له, ولم تكن تملك أن تتعرض له, ومن أهم القواعد التي جاء بها القانون مغايرا ما كان عليه العمل توريث الإخوة والأخوات مع الجد الصحيح, بعد أن كان حاجبا لهم, وكذلك الرد على أحد الزوجين بما بقي بعد فرضه إذا لم يوجد للمتوفى أي قريب يرثه, فهو أولى بما بقي من العاصب السببي .

كما اعتبر القانون التسبب في القتل مانعا من الإرث دون القتل الخطأ وما جرى مجراه, بعكس ما كان عليه العمل, إلى غير ذلك مما يدرس تفصيلا في موضعه .
ثم في سنة (1946م) صدر القانون رقم (48) معدلا لبعض أحكام الوقف, وقد أخذ هذا القانون في الغالب أحكامه من مختلف أقوال الفقهاء في سائر المذاهب, متوخيا ما يحقق مصلحة الناس, ولا يعرقل نظمهم الاقتصادية, ومن أهم قواعد هذا القانون أنه قرب أحكام الوقف من أحكام الميراث, وعلى كل فقد ألغي الوقف الأهلي كله بالقانون (180) لسنة (1952م) .
ثم صدر القانون (71) في سنة (1946م) أيضا بأحكام الوصية دون تقيد بمذهب معين, ولا حتى بالمذاهب الأربعة, ومن أهم قواعده القول بالوصية الجبرية, وهي : أن يكون للأحفاد الذين حجبوا عن الميراث من جدهم أو جدتهم حق واجب في التركة, هو نصيب أصلهم لو كان حيا, بحيث لا يزيد على ثلث التركة, وألا يكون أوصى لهم جدهم أو جدتهم بشيء, وقد أخذ هذا الحكم من فقهاء التابعين ومن فقه الإباضية, كما أجاز القانون الوصية للوارث في حدود ثلث التركة دون توقف على إجازة باقي الورثة . . انتهى المقصود .
6 - قال صبحي محمصاني بعد أن بسط الكلام على مراحل التدوين ملخصا ذلك, قال (1) : إن التدوين مر بمراحل خمس :
أولا : مرحلة التبني للمذهب الرسمي, وكانت مرحلة صعبة لم ينجح
__________
(1) [مقدمة في إحياء علوم الشريعة] المحاضرة السادسة مراحل التدوين الفقهي ص (140)

فيها ابن المقفع ولا أبو جعفر المنصور , ولكن نجحت فيها الدولة العثمانية وغيرها من الدول العربية على غرارها .
المرحلة الثانية : كانت مرحلة جمعت المؤلفات, لا على شكل قانون رسمي, بل في شكل كتاب شبه رسمي يسهل المطالعة وفهم الأمور على الطالبين من قضاة وعلماء وتلامذة, وهذا قد ذكرت له أمثلة, وهي : ملتقى الأبحر, والفتاوى الهندية, وسيدي خليل , ومدونات قدري باشا .
ثم المرحلة الثالثة : دون المذهب الرسمي في مدونات رسمية إلزامية, كـ [مجلة الأحكام العدلية العثمانية] التي أخذت عن المذهب الحنفي وحده .
ثم مرحلة رابعة اتبعت طريقة أخرى, وهي : أن يؤخذ مذهب واحد كأصل الاقتباس من المذاهب الأخرى في بعض المسائل : مثاله ما جرى في قانون حقوق العائلة العثمانية, ومجلة الجنايات والأحكام العرفية التونسية القديمة, ومجلة الالتزامات والعقود التونسية, وما جرى في مدونات الأحوال الشخصية في البلاد العربية التي أشرنا إليها, وقد ذكرنا أن بعضها أيضا قد ابتعد عما جرى في الشريعة, كما فعلت العراق في مسائل المواريث التي نوهنا بها- أي : في هذا المحاضرة .
وأخيرا في المرحلة الخامسة اقتبست بعض القوانين عن المدونات الغربية, فكان هذا الاقتباس أحيانا موفقا بحيث لم يخالف روح التشريع الإسلامي, وأحيانا كان مخالفا لما جاء في هذا التشريع . انتهى .
وسيأتي ما في هذه النقول من المناقشة عند المناقشة لأدلة الأقوال في إلزام القضاة الحكم بالراجح .

الرابع - أقوال فقهاء الإسلام قديما وحديثا في إلزام ولاة الأمور القضاء أن يحكموا بمذهب معين أو رأي معين .
تمهيد :
تقدم ذكر الدواعي إلى تدوين أحكام يلزم القضاة أن يحكموا بها فيما يرفع إليهم من القضايا, وأن التفكير في ذلك بدأ في القرن الثاني من الهجرة في خلافة أبي جعفر المنصور حين عرض عليه عبد الله بن المقفع ذلك, وتكلم أبو جعفر مع الإمام مالك فيها, وقد وضع كل منهما الأمر في نصابه, حيث رفعه الأول إلى المسئولين عن الأمة من ولاة الأمور وأهل السلطة فيها, ورده الخليفة إلى أهل العلم والفقه في الدين, ولم يكن تأثير الدواعي على النفوس قاصرا في ذلك العهد على ابن المقفع , بل تجاوز إلى غيره, فقد نقل فقهاء المالكية أن سحنون بن سعيد التنوخي ولى رجلا سمع بعض كلام أهل العراق , وأمره ألا يتعدى الحكم بمذهب أهل المدينة , فهذا قد تمكنت منه الفكرة أكثر ممن سبقه, واستمر تأثيرها في العلماء وغيرهم جيلا بعد جيل, حتى وقتنا الحاضر, مع تفاوت في مدى تأثره بها, فمنهم من لم يستجب لها, ومنهم من استسلم لها فقال بها, ودافع عنها, وعمل بمقتضاها عندما أتيحت له الفرصة, ولكل وجهته .
وفيما يأتي ذكر أقوال الفقهاء, وما استندوا إليه من المناقشة, وبالله التوفيق .
أ-

المذهب الحنفي
ب- قال (1) ابن عابدين : ولو قيد السلطان القاضي بصحيح مذهبه , كما
__________
(1) [حاشية ابن عابدين] (4\ 369)

في زماننا تقيد بلا خلاف, ولو قيده بضعف المذهب فلا خلاف بعدم صحة حكمه .
2 - وقال (1) أيضا نقلا عن معروضات أبي السعود : إن العبد الآبق إذا كان من عبيد العسكرية فقد صدر الأمر السلطاني بمنع القضاة من بيعه؛ كيلا يتخذ العبيد الإباق وسيلة للتخلص من خدمة الجيش , ثم قال : وحينئذ لا يصح بيع هؤلاء العبيد, بل يؤخذون من مشتريهم ويرجع المشتري بالثمن, وكذلك بيع العبيد الآبقين من الرعايا إذا بيعوا بغبن فاحش, وبذلك ورد الأمر السلطاني, فليحفظ فإنه مهم .
3 - وقال (2) أيضا على قول صاحب [الدر] : ( ولو قضى بجواز بيعها لم ينفذ, بل يتوقف على قضاء قاض آخر إمضاء وإبطالا ) .
قال : أي : قضى به حنفي مثلا على إحدى الروايتين عن الإمام من أن القاضي لو قضى بخلاف رأيه ينفذ قضاؤه ما لم يقيده السلطان بمذهب خاص .
4 - وقال (3) أيضا على قول صاحب [تنوير الأبصار] في صلاة العيدين : ( ويصلي بهم الإمام ركعتين مثنيا قبل الزوائد, وهي ثلاث تكبيرات في كل ركعة ) قال : هذا مذهب ابن مسعود وكثير من الصحابة ورواية عن ابن عباس , وبه أخذ أئمتنا الثلاثة, وروي عن ابن عباس أنه يكبر في الأولى سبعا, وفي الثانية ستا, وفي رواية خمسا, منها ثلاثة
__________
(1) [حاشية ابن عابدين] (3\ 325)
(2) [حاشية ابن عابدين] (3\51)
(3) [حاشية ابن عابدين](1\ 779, 780) .

أصلية, وهي : تكبيرة الافتتاح, وتكبيرتا الركوع, والباقي زوائد : في الأولى خمس, وفي الثانية خمس أو أربع, ويبدأ بالتكبير في كل ركعة.
قال في [الهداية] : وعليه عمل العامة اليوم؛ لأمر الخلفاء من بني العباس به, والمذهب الأول . قال في [الظهيرية] : وهو تأويل ما روي عن أبي يوسف ومحمد أنهما فعلا ذلك؛ لأن هارون أمرهما أن يكبرا بتكبير جده, ففعلا ذلك؛ امتثالا له لا مذهبا واعتقادا . قال في [المعراج] : لأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية واجبة .

ب-

المذهب المالكي
قال (1) محمد بن عبد الرحمن الحطاب : قال ابن الحاجب : وللإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه في الاجتهاد أو التقليد, ولو شرط الحكم بما يراه, كان الشرط باطلا والتولية صحيحة , قال الباجي : كان في سجلات قرطبة , ولا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده قال في [التوضيح] : للإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه, كالمالكي يولي شافعيا أو حنفيا ولو شرط الإمام على القاضي الحكم بما يراه الإمام من مذهب معين أو اجتهاد له كان الشرط باطلا وصح العقد, وهكذا في [الجواهر] عن الطرطوشي , قال غيره : العقد غير جائز وينبغي فسخه ورده, وهذا إنما هو إذا كان القاضي مجتهدا, وهكذا المازري فيه قال : وإن كان الإمام مقلدا وكان متبعا لمذهب مالك أو اضطر إلى ولاية قاض مقلد- لم يحرم على الإمام أن يأمره أن يقضي بين الناس بمذهب مالك , ويأمره ألا يتعدى في قضائه مذهب
__________
(1) [مواهب الجليل شرح مختصر خليل](6\98) وما بعدها .

مالك؛ لما يراه من المصلحة في أن يقضي بين الناس بما عليه أهل الإقليم والبلد الذي هذا القاضي منه ولي عليهم, وقد ولى سحنون رجلا سمع بعض كلام أهل العراق , وأمره ألا يتعدى الحكم بمذهب أهل المدينة . انتهى المقصود .
2 - قال (1) ابن فرحون : قال الشيخ أبو بكر الطرطوشي : أخبرنا القاضي أبو الوليد الباجي : أن الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلا القضاء شرطوا عليه في سجله ألا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده . قال الشيخ أبو بكر : وهذا جهل عظيم منهم, يريد أن الحق ليس في شيء معين, وإنما قال الشيخ أبو بكر هذا لوجود المجتهدين وأهل النظر في قضاة ذلك الزمان فتكلم على أهل زمانه وكان معاصرا للإمام أبي عمر بن عبد البر , والقاضي أبي الوليد الباجي , والقاضي أبي الوليد بن رشد , والقاضي أبي بكر بن العربي , والقاضي أبي الفضل عياض , والقاضي أبي محمد بن عطية صاحب التفسير, وغير هؤلاء من نظرائهم, وقد عدم هذا النمط في زماننا من المشرق والمغرب . . وهذا الذي ذكره الباجي عن ولاة قرطبة ورد نحوه عن سحنون, وذلك أنه ولى رجلا القضاء وكان الرجل ممن سمع بعض كلام أهل العراق فشرط عليه سحنون ألا يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك . . قال (2) ابن رشد : وهذا يؤيد ما ذكره الباجي , ويؤيد ما قاله الشيخ أبو بكر فكيف يقول ذلك والمالكية إذا تحاكموا إليه فإنما يأتونه؛
__________
(1) [تبصرة الحكام] (1\84) وما بعدها .
(2) [الدسوقي على مختصر خليل] (4\130)

ليحكم بينهم بمذهب مالك ؟ ! انتهى المقصود .
3 - قال الدسوقي : بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه ألا يحكم إلا بمذهب إمامه فيقبل لا يلزمه الشرط, وقيل : بل ذلك يفسد التولية, وقيل : يمضي الشرط لمصلحة . انظر (ح\3) (1) .
4 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية (2) : لما انتشر مذهب مالك بالأندلس وكان يحيى بن يحيى بالأندلس والولاة يستشيرونه فكانوا يأمرون القضاة ألا يقضوا إلا بروايته عن مالك , ثم رواية غيره, فانتشرت رواية ابن القاسم عن مالك؛ لأجل من عمل بها, وقد تكون مرجوحة في المذهب, وعمل أهل المدينة والسنة, حتى صاروا يتركون رواية [الموطأ] الذي هو متواتر عن مالك , وما زال يحدث به إلى أن مات؛ لرواية ابن القاسم , وإن كان طائفة من المالكية أنكروا ذلك, فمثل هذا إن كان فيه عيب فإنما هو على من نقل ذلك, لا على مالك . انتهى المقصود منه .
5 - قال محمد عليش (3) وفي آخر أحكام ابن سهل وأول [المدارك] للقاضي عياض , واللفظ للمدارك, وفي كتاب الحاكم المستنصر إلى الفقيه أبي إبراهيم , وكان الحاكم ممن طالع الكتاب ونقر عن أخبار الرجال تنقيرا لم يبلغ فيه شيئا كثيرا من أهل العلم, فقال في كتابه : ( وكل من زاغ عن مذهب مالك فإنه من رين على قلبه وزين له سوء عمله وقد نظرت طويلا في أخبار الفقهاء, وقرأت ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا فلم أر
__________
(1) قوله : انظر هذه الإشارة لـ [مواهب الجليل شرح مختصر خليل]للحطاب
(2) [تفضيل مذهب أهل المدينة],38 ج .
(3) [فتح العلي المالك](65) .

مذهبا من المذاهب غيره أسلم منه, وإن فيهم الجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة والشيعة وإلا مذهب مالك ما سمعت أن أحدا ممن يتقلد مذهبه قال بشيء من هذه البدع, فالاستمساك به نجاة إن شاء الله, ولغيره عن الخليفة الحاكم المستنصر بالله تعالى : من خالف مذهب مالك بالفتوى, وبلغنا خبره- أنزلنا به من النكال ما يستحقه, وجعلناه عبرة لغيره, فقد اختبرت فوجدت مذهب مالك وأصحابه أفضل المذاهب, ولم أر في أصحابه ولا فيمن تقلد بمذهبه غير معتقد للسنة والجماعة, فليستمسك الناس بهذا, ولينهوا أشد النهي عن تمسكهم في العمل بمذهب جميع المخالفين له ) (1) .
__________
(1) لكن مالكا رحمه الله لم يرض أن يحمل الناس على مذهبه أو كتابه, كما تقدم

ج-

المذهب الشافعي
1 - قال الماوردي (1) : فلو شرط المولي وهو حنفي المذهب على من ولاه القضاء - ألا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا على ضربين :
أحدهما : أن يشترط ذلك عموما في جميع الأحكام فهذا شرط باطل, سواء كان موافقا لمذهب المولي أو مخالفا له, وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطا فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي ، وقال : قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي- كانت الولاية صحيحة والشرط
__________
(1) [الأحكام السلطانية] ص (68) .

فاسدا , سواء تضمن أمرا أو نهيا, ويجوز أن يحكم بما أداه اجتهاده إليه, سواء وافق شرطه أو خالفه, ويكون اشتراط المولي لذلك قدحا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز, ولا يكون قدحا إن جهل, لكن لا يصح مع الجهل به أن يكون موليا ولا واليا, فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال : قد قلدتك القضاء على ألا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة - كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد, وقال أهل العراق : تصح الولاية ويبطل الشرط .
والضرب الثاني : أن يكون الشطر خاصا في حكم بعينه, فلا يخلو الشرط من أن يكون أمرا أو نهيا , فإن كان أمرا فقال له : أقد من العبد (1) بالحر . . . كان أمره بهذا الشرط فاسدا, ثم إن جعله شرطا في عقد الولاية فسدت, وإن لم يجعله شرطا فيها صحت, وحكم في ذلك بما يؤديه اجتهاده إليه .
وإن كان نهيا فهو على ضربين :
أحدهما : أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر, والحر بالعبد, ولا يقضي فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه- فهذا جائز؛ لأنه اقتصر بولايته على ما عداه فصار ذلك خارجا عن نظره .
والضرب الثاني : ألا ينهاه عن الحكم وينهاه عن القضاء في القصاص . فقد اختلف أصحابنا في هذا النهي هل يوجب صرفه عن النظر فيه ؟ على وجهين :
__________
(1) قوله (أقد من العبد بالحر) كذا من أصل المنقول منه ولعل الصواب كذا (أقد من الحر بالعبد) .

أحدهما : أن يكون صرفا عن الحكم فيه وخارجا عن ولايته فلا يحكم فيه بإثبات قود ولا بإسقاطه .
والثاني : أنه لا يقتضي الصرف عنه, ويجري عليه حكم الأمر به, ويثبت صحة النظر إن لم يجعله شرطا في التقليد, ويحكم فيه بما يؤديه اجتهاده إليه .
2 - قال (1) . جلال الدين المحلي على قول النووي في [المنهاج] : ( ولا يجوز أن يشترط عليه خلافه ) - قال : أي خلاف الحكم باجتهاد أو اجتهاد مقلده, وقضية ذلك : أنه لو شرطه لم يصح الاستخلاف, كذا لو شرطه الإمام في تولية القاضي لم تصح توليته .
3 - قال (2) قليوبي على قوله : (أن يشترط) : خرج بالشرط الأمر والنهي, نحو احكم بمذهب كذا, أو لا تحكم, فيلغو ولا تبطل التولية, ويعتبران في التفويض .
4 - وقال (3) إبراهيم بن على الشيرازي : ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه؛ لقوله عز وجل : { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } (4) والحق ما دل عليه الدليل, وذلك لا يتعين في مذهب بعينه, فإن قلد على هذا الشرط بطلت التولية؛ لأنه علقها على شرط, وقد بطل الشرط, فبطلت التولية .
__________
(1) [ شرح المحلي على المنهاج ] (4\ 297, 298)
(2) [ قليوبي على المنهاج ] (4\ 298) .
(3) [المهذب] (2\291) طبعة حلبية .
(4) سورة ص الآية 26

د-

المذهب الحنبلي
1 - قال (1) ابن قدامة : ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه , وهذا مذهب الشافعي , ولم أعلم فيه خلافا؛ لأن الله تعالى قال : { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } (2) والحق لا يتعين في مذهب, وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب . فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط, وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع .
2 - قال (3) أبو يعلى : ( فإن كان المولي على مذهب فشرط على من ولاه القضاء ألا يحكم إلا بمذهبه- فهذا شرط باطل, وهل تبطل الولاية ؟ نظرت :
فإن لم يجعله شرطا فيه, لكن أخرجه مخرج الأمر والنهي, بأن قال له : قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب أحمد على وجه الأمر, ولا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي فالولاية صحيحة والشرط فاسد . وإن أخرجه مخرج الشرط في عقد الولاية, فقال : قد قلدتك القضاء على ألا تحكم فيه إلا بمذهب أحمد . فهذا عقد شرط فيه شرطا فاسدا فهل يبطل العقد ؟ على روايتين : بناء على البيع إذا قارنه شرط فاسد, فإن كان الشرط خاصا في حكم بعينه نظرت أيضا, فإن لم يخرجه مخرج الشرط لكن أخرجه مخرج الأمر, فقال : أقد من العبد بالحر (4) , ومن المسلم بالكافر-
__________
(1) [المغني ومعه الشرح الكبير](11\ 482), و[الإقناع وشرحه] (6\ 235) .
(2) سورة ص الآية 26
(3) [الأحكام السلطانية] ص (47, 48) .
(4) قوله : (أقد من العبد بالحر) كذا من الأصل المنقول منه, ولعل الصواب كذا ( أقد من الحر بالعبد) .

فالشر باطل والعقد صحيح, وإن جعله شرطا فهل يبطل العقد ؟ على الروايتين : وإن كان نهيا, فإن نهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر, والحر بالعبد, وألا يقضي فيه بوجوب القود, ولا بإسقاطه- جاز؛ لأنه اقتصر بولايته على ما عداه, وإن لم ينهه عن الحكم فيه ونهاه عن القضاء بالقصاص احتمل أن يكون صرفا عن الحكم, فلا يحكم فيه بإثبات قود ولا بإسقاطه . ويحتمل ألا يقتضي الصرف, ويجري عليه حكم الأمر به . فيبطل حكم الأمر, ويثبت صحة النظر إذا لم يجعله شرطا في التقليد, ويحكم بما يؤديه اجتهاده إليه .
3 - قال شيخ الإسلام (1) : ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين- بطل الشرط, وفي فساد العقد وجهان, ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط فعلوا . فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلا وظلما أعظم مما في التقدير- كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما .
4 - وقال (2) أيضا جوابا عن سؤال وجه إليه عمن ولي أمرا من أمور المسلمين, ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس ؟ فأجاب : ليس له منع الناس من مثل ذلك, ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد, وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو
__________
(1) [مجموع الفتاوى](31\ 73) وما بعدها .
(2) [مجموع الفتاوى] (30\ 79- 81) .

في معنى ذلك, لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك, وهو ما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار, وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل, ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل ، ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذا المسائل منعه من ذلك وقال : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار, وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم, وصنف رجل كتابا في الاختلاف فقال أحمد : لا تسمه (كتاب الاختلاف) ولكن سمه (كتاب السعة)؛ ولهذا كان بعض العلماء يقول : إجماعهم حجة قاطعة, واختلافهم رحمة واسعة, وكان عمر بن عبد العزيز يقول : ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا, وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة, وكذلك قال غير مالك من الأئمة : ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه؛ ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره : إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد, وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها, ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية, فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه, ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه .
ونظائر هذه المسائل كثيرة . . . وبعد أن ذكر أمثلة كثيرة لهذا من المعاملات قال : ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها؛ ولهذا كان أبو حنيفة يفتي بأن المزارعة لا تجوز, ثم يفرع على القول بجوازها, ويقول : إن الناس لا

يأخذون بقولي في المنع؛ ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها, كما اختار ذلك من اختاره من أصحاب الشافعي وغيره .
5 - وقال عنه البعلي أيضا (1) : ومن أوجب تقليد إمام بعينه استتيب, فإن تاب وإلا قتل, وإن قال : ينبغي, كان جاهلا ضالا, ومن كان متبعا الإمام فخالفه في بعض المسائل؛ لقوة الدليل, أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى- فقد أحسن, (وقال أبو العباس ) في موضوع آخر : بل يجب عليه, وإن أحمد نص عليه, ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع .
6 - وقال أيضا في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان سنة ست وسبعمائة في الفصل الذي عقده لإحالة الحكم في قضيته إلى الحاكم , قال (2) : أنا لم يدع علي دعوى يختص بها الحاكم من الحدود والحقوق, مثل : قتل أو قذف أو مال أو نحوه, بل في مسائل العلم الكلية مثل : التفسير, والحديث, والفقه وغير ذلك, وهذا فيه ما اتفقت عليه الأمة, وفيه ما تنازعت فيه, والأمة إذا تنازعت في معنى آية أو حديث أو حكم خبري أو طلبي- لم يكن صحة أحد القولين وفساد الآخر ثابتا بمجرد حكم حاكم, فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة, ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (3) هو : الحيض, أو الأطهار, ويكون هذا حكما يلزم جميع الناس قوله, أو يحكم بأن اللمس في قوله تعالى : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } (4)
__________
(1) [الفتاوى المصرية] .
(2) [مجموع الفتاوى] (3\238) .
(3) سورة البقرة الآية 228
(4) سورة النساء الآية 43

هو الوطء, أو المباشرة فيما دونه, أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو : الزوج, أو الأب والسيد, وهذا لا يقوله أحد . . . , ومضى إلى أن قال : وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع قول بلا حجة يجب الرجوع إليها, فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواء, وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم . نعم, الولاية قد تمكنه من قول حق ونشر علم قد كان يعجز عنه بدونها, وباب القدرة والعجز غير باب الاستحقاق وعدمه . نعم, للحاكم إثبات ما قال زيد أو عمرو, ثم بعد ذلك إن كان القول مختصا به كان مما يحكم به الحاكم, وإن كان من الأقوال العامة كان من باب مذاهب الناس, فأما كون هذا القول ثابتا عند زيد ببينة أو إقرار أو خط فهذا يتعلق بالحكام .
7 - وقال (1) أيضا : الأحكام كلها تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام, وإنما الإمام منفذ لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) [المنتقى] للذهبي [مختصر منهاج السنة] لشيخ الإسلام ص (540) .

هـ ـ

نقول عن بعض الفقهاء المعاصرين الذين يدعون إلى هذه الفكرة
1 - قال (1) محمد رشيد رضا : وأما الاجتهاد في المعاملات والقضاء فهو الاجتهاد الحقيقي الذي يعجز عنه أكثر الناس, ولا يقوم به إلا طائفة تتفرغ للاستعداد للقضاء والفتوى والتعليم, ويلزم الإمام أو السلطان سائر الناس بالعمل باجتهادهم على ما بينته تبيينا, فإن أصاب هؤلاء الحق والعدل فلهم
__________
(1) مجلة المنار (4\ 368) .

أجران, وإن أخطئوا بعد التحري وبذل الجهد في المعرفة فلهم أجر واحد, ويعذرون هم ومقلدوهم العاملون بمقتضى اجتهادهم .
2 - قال (1) أيضا : فما أجمعوا عليه من أمر الدين فهو الذي لا يسع مسلما تركه, وما اختلفوا فيه يرد إلى الكتاب والسنة, كما أمر الله تعالى بقوله : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (2) أي : مآلا وعاقبة, والرد في الأمور العامة منوط بأولي الأمر, وفي الوقائع الخاصة يعمل كل فرد بما ظهر له الدليل على صحته . . إلخ .
3 - وسئل (3) : ما قولكم دام فضلكم في أحكام السياسة والقوانين التي أنشأها سلطان البلد أو نائبه , وأمر وألزم حكام بلده وقضائه بإجرائها وتنفيذها, هل يجوز لهم إطاعته وامتثاله لإطلاق قوله تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } (4) الآية , أم كيف الحكم ؟ أفتونا مأجورين؛ لأن هذا شيء قد عم البلدان والأقطار ؟
فأجاب : إذا كانت تلك الأحكام والقوانين عادلة غير مخالفة لكتاب الله وما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم - وجب علينا أن نعمل بها إذا وضعها أولو الأمر منا, وهم أهل الحل والعقد, مع مراعاة قواعد المعادلة والترجيح والضرورات , وإن كانت جائزة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي لا
__________
(1) [فتاوى المنار] رقم (522) ص (1466) .
(2) سورة النساء الآية 59
(3) [فتاوى المنار] رقم (406) .
(4) سورة المائدة الآية 92

خلاف فيها- لم تجب الطاعة فيها؛ للإجماع على أنه « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » (1) وهذا نص حديث رواه بهذا اللفظ أحمد والحاكم , عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري , وصححوه بلفظ : « لا طاعة لأحد في معصية الله, إنما الطاعة في المعروف » (2) , ولا يشترط أن تكون هذه القوانين موافقة لاجتهاد الفقهاء فيما أصلوه أو فرعوه برأيهم؛ لأنهم صرحوا بأن الاجتهاد من الظن, ولا يقوم دليل من الكتاب والسنة ولا من العقل والحكمة على أنه يجب على الناس أن يتبعوا ظن عالم غير معصوم, فلا يخرجوا عنه ولو لمصلحة تطلب, أو مفسدة تجتنب, ولا بغير هذا القيد .
وكذلك يطاع السلطان فيما يضعه- هو أو من يعهد إليه ممن يثق بهم - من القوانين التي ليس فيها معصية للخالق, وإن لم يكونوا من أولي الأمر الذين هم أهل الحل والعقد لأجل المصلحة, لا عملا بالآية, ولكن إذا اجتمع أهل الحل والعقد ووضعوا غير ما وضعه السلطان وجب على السلطان أن ينفذ ما وضعوه دون ما وضعه هو؛ لأنهم هم نواب الأمة, وهم الذين لهم حق انتخاب الخليفة ولا يكون إماما للمسلمين إلا بمبايعتهم, فإن خالفهم وجب على الأمة تأييدهم عليه لا تأييده عليهم .
وبناء على هذه القاعدة التي لا خلاف فيها عند سلف الأمة؛ لأنها مأخوذة من نصوص القرآن الحكيم . قال الخليفة الأول في خطبته الأولى : (وليت عليكم ولست بخيركم, فإذا استقمت فأعينوني, وإذا زغت فقوموني), وقال الخليفة الثاني على المنبر أيضا : ( من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه), وله كلام آخر في تأييد هذه القاعدة, وقال الخليفة الثالث على المنبر أيضا : (أمري لأمركم تبع), وقال الخليفة الرابع في أول
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1840),سنن النسائي البيعة (4205),سنن أبو داود الجهاد (2625),مسند أحمد بن حنبل (1/131).
(2) صحيح مسلم الإمارة (1840),سنن النسائي البيعة (4205),سنن أبو داود الجهاد (2625),مسند أحمد بن حنبل (1/94).

خطبة له وكانت بعدما علمنا من الأحداث والفتن : ( ولئن رد إليكم أمركم إنكم لسعداء, وأخشى أن تكونوا في فترة) , وهذا مأخوذ من قوله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (1)
قال (2) . الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا : والاجتهاد الإسلامي قد أقر لولي الأمر العام من خليفة أو سواه أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها, أو يأمر بالعمل بقول ضعيف مرجوح إذا اقتضت المصلحة الزمنية ذلك, فيصبح هو الراجح الذي يجب العمل به, وبذلك صرح فقهاؤنا, وفقا لقاعدة (المصالح المرسلة), وقاعدة ( تبدل الأحكام بتبدل الزمان ) . ونصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أن السلطان إذا أمر بأمر في موضوع اجتهادي- أي : قابل للاجتهاد, غير مصادم للنصوص القطعية في الشريعة- كان أمره واجب الاحترام والتنفيذ شرعا, فلو منع بعض العقود لمصلحة طارئة واجبة الرعاية, وقد كانت تلك العقود جائزة نافذة شرعا- فإنها تصبح بمقتضى منعه باطلة, وموقوفة على حسب الأمر .
5 - وقال (3) أيضا تعليقا على ذلك : جاء في كتاب الوقف من [ الدر المختار] وحاشيته [رد المحتار] نقلا عن معروضات المولى أبي السعود - وهو مفتي المملكة العثمانية, ثم قاضي القسطنطينية في عهد السلطانين : سليمان وسليم , ومن كبار رجال المذهب الحنفي المتأخرين, المعول على فتاويهم وترجيحاتهم- أنه : صدر الأمر السلطاني بعدم نفاذ وقف
__________
(1) سورة الشورى الآية 38
(2) [المدخل الفقهي العام] (1\191), ونسبه إلى [رد المحتار](1\55)
(3) [المدخل الفقهي العام] (1\191) وما بعدها .

المدين في القدر الذي يتوقف تسديد الدين من أمواله, قطعا لما يلجأ إليه بعض الناس من وقف أموالهم؛ لتهريبها من وجه الدائنين .
وبناء على الأمر صرح الفقهاء من بعده بعدم نفاذ مثل هذا الوقف المدين, ولو كان دينا محيطا بجميع أمواله؛ لأن الدين إنما يتعلق بذمته لا بعينه . . . ومضى إلى أن قال : والمهم جدا في هذه النصوص ليس هو الموضوعات التي وردت فيها, بل المبدأ الفقهي الذي تتضمنه؛ لما له من تأثير ذي بال في شتى الأحكام . . .
ومضى إلى أن قال تحت عنوان ( مشكلة إعطاء هذه الصلاحية لولاة الأمور والحل الصحيح لها) قال : بقي أن يقال : إن إعطاء هذه الصلاحية لولي الأمر العام يؤدي إلى إمكان أن يتصرف هذا الحاكم بحسب هواه في تغيير الأحكام الاجتهادية وتقييدها بأوامر أو قوانين زمنية يصدرها . .
إلى أن قال : والجواب : أن هذا النصوص الفقهية مفروضة في إحدى حالتين : إما أن يكون الحاكم نفسه من أهل العلم والتقوى والاجتهاد في الشريعة, كما كان في الصدر الأول من العهد العباسي . . وإما ألا يكون عالما مجتهدا, وعندئذ لا يكون لأوامره هذه الحرمة الشرعية, إلا إذا صدرت بعد مشورة أهل العلم في الشريعة وموافقتهم .
6 - قال (1) محمد سلام مدكور تحت عنوان : (تقييد القاضي على أن يحكم بمذهب أو رأي معين) قال : إذا قيد الحاكم القاضي أن يقضي بخلاف مذهبه وبالضعيف من مذهبه - فهذا التقييد باطل, ولم نقف على
__________
(1) [المدخل للفقه الإسلامي] ص (378) وما بعدها .

خلاف في هذا بين المتقدمين من فقهاء المذاهب, والدليل على ذلك : أن القاضي مأمور أن يحكم بالحق, والحق ما يعتقده صحيحا, سواء كان الاعتقاد عن طريق بذل الجهد والنظر, أم عن طريق الاقتناع برأي إمامه والعلم بمذهبه . وهذا يتفق مع قولهم : إن من شرط صحة القضاء أن يحكم القاضي برأيه من غير تفرقة بين ما إذا قيده السلطان أو لم يقيده, ولا بين ما إذا كان القاضي مجتهدا أو مقلدا؛ لأن المقلد رأيه هو رأي إمامه الذي هو مذهبه .
وفي (1) [رسائل ابن عابدين ] عن أنفع الوسائل : أن القاضي المقلد لا يجوز له أن يحكم إلا بما هو ظاهر في المذهب, إلا أن ينص الفقهاء على أن الفتوى على غير ذلك , وفي (2) [حاشية ابن عابدين على الدر] : ( ولو قيد السلطان القاضي بصحيح مذهبه , كما في زماننا تقيد بلا خلاف , ولو قيده بضعيف المذهب فلا خلاف بعدم صحة حكمه ) , وهذان النقلان يشعران بأنه إذا قيده بغير مذهبه لا يتقيد بعد بطريق الأولى, كما يشعران بأن هذا التقييد لا يتجه إلى المجتهد أيضا بطريق الأولى . كما (3) أن ابن قدامة الحنبلي يقول : إنه لا يجوز أن يقلد القضاء الواحد على أن يحكم بمذهب بعينه عند أحمد والشافعي ولا أعلم فيه خلافا؛ لأن الحق لا يتعين في مذهب, وهذا يشعر أيضا بالإطلاق بالنسبة للقاضي مجتهدا أو مقلدا هذا الإطلاق المستفاد من كلمة (أن يقلد القضاء الواحد), وقد
__________
(1) [رسائل ابن عابدين] (2\ 75) .
(2) [حاشية ابن عابدين] (4\ 369) .
(3) [المغني] (9\ 106) .

فصل (1) الماوردي الكلام في هذا التقييد وقال : إنه إما أن يكون بالنسبة لجميع الأحكام أو لبعضها ، وقد نقل (2) مثله ابن فرحون عن بعض فقهاء المالكية ، وهذا التفصيل لا نرى فيه فرقا أكثر من أن ذلك الشرط إذا كان يقصد به عدم سماع القاضي بعض الدعاوى- فإنه يتقيد به ، وهذا غير ما نتكلم عنه من تقييد ولي الأمر للقاضي أن يقضي بمذهب أو رأي ، ومما يؤيد وجهتنا في عدم أثر هذه التفرقة ما علق به (3) ابن فرحون على ما نقله إذ يقول : ( إن جميع تلك التقييدات لا يجوز للإمام اشتراطها؛ لأنه اشتراط ما لا يجوز ، ومن كان لا يقتضي إلا بما أمره به من ولاه فليس بقاض على الحقيقة ) ، ولما قيد القانون في مصر من زمن بعيد القضاء في المحاكم الشرعية بالمذهب الحنفي فيما لم يرد به قانون خاص فقد استلزم ذلك أن يكون القضاء فيها مقصورا على من كان حنفي المذهب ، حتى لا يحكم القاضي بخلاف مذهبه بأمر من سلطان ، وبعد أن اتفق الفقهاء (4) على بطلان تقييد السلطان للقاضي على أن يقضي بمذهب معين فقد تناولوا عقد التولية نفسه على هذا القيد بما خلاصته : أنه إذا كان تم العقد على اشتراطه ، سواء أكان في صيغة العقد أو متقدما عليه- فإن عقد التولية باطل عند غير الأحناف ، صحيح عندهم ، وإذا كان غير مشروط في صيغة العقد فعقد التولية صحيح إجماعا .
__________
(1) [الأحكام السلطانية] ، ص (64) .
(2) [تبصرة الحكام] (1\16 ، 17) .
(3) [تبصرة الحكام] (1\16) .
(4) انظر [المغني] (9\109) .

مما تقدم يتبين :
أولا : الفرق بين الولاة والعلماء والرعية في القرون الأولى ، والولاة والعلماء والرعية في القرون الأخيرة لهذه الأمة الإسلامية ؟ لاختلاف أحوالهم علما وأمانة وعدلا ، وفي قوة الثقة وضعفها ، وكثرة المشاكل وقلتها ، يترتب على هذا الأمر الثاني .
ثانيا : الفرق بين القاضي المجتهد والمقلد . فالقاضي المجتهد يجب عليه أن يحكم فيما يرفع إليه من القضايا بما وصل إليه باجتهاده ، ولا يجوز للحاكم العام إلزامه حين التولية أو بعدها أن يحكم بمذهب معين أو قول معين ، فإن ألزمه بطل الشرط وصحت التولية ، وقيل : يبطل الشرط والتولية جميعا ، وإن كان الإلزام بعد التولية بطل الإلزام ، وقضى بموجب اجتهاده . . أما القاضي المقلد فقيل فيه بما ذكر من الخلاف في حكم المجتهد ، ويلزمه العمل بما قيد به ولو خالف اعتقاده .
ثالثا : الفرق بين المسائل العلمية الكلية ، والقضايا الجزئية ، فحكم القاضي أو ولي الأمر لا يرفع الخلاف في الأولى ، فيبقى لغيره حق النظر والحكم فيها بما يراه عن اجتهاد ، ويرفع الخلاف في الثانية ، فليس لأحد أن ينقض حكم ولي الأمر أو القاضي فيها بعينها ، إلا إذا خالف نص الكتاب أو السنة الصحيحة أو الإجماع .
رابعا : عموم التشريع وشموله ، فلا يحتاج إلى أحد سوى الله ورسوله في التشريع ، وإلى ولاة الأمور من العلماء والأمراء وأئمة المسلمين الفهم والتنفيذ لا غير ، وإذا عرفت الأقوال فنشرع في الأدلة ومناقشتها :

أولا : أدلة من قال بالمنع :
استدل من قال بمنع الإلزام بأدلة الكتاب والسنة والإجماع :
أ- أما الكتاب : فقد قال الله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } (1) فأوجب سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيما شجر بين الناس بما أعلمه الله في كتابه ، وما فهمه من الوحي المنزل عليه . ومن المعلوم أنه يجب على ولاة الأمر بعده أن يحكموا بما حكم به ، وإلزام القاضي ونحوه أن يحكم بما دون من القول الراجح ، أو بمذهب معين ، وإن كان على خلاف ما اقتنع به يتنافى مع ذلك فوجب رده ؟ عملا بمقتضى الآية ، وقال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } (2) والأقوال الراجحة في مسائل الخلاف إنما هي راجحة في نظر مرجحيها دون مخالفيهم ، فلا يتعين أن تكون هي الحق الذي أنزله الله ، وأمر بالحكم به بين الناس فلا يلزم القاضي ونحوه الحكم بها إذا كانت أو كان بعضها على خلاف ما يعتقده حقا في نظره بناء على اجتهاده ، أو ثقته بمن قلده ، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك حين التولية ، أو يلزم به بعدها . وقال تعالى : { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } (3) فأمر تعالى من تولى الفصل في الخصومات أن يحكم فيها بين الناس بالحق ، والحق لا يتعين في مذهب أو رأي بعينه ، ولا في قول رجحه بعض الفقهاء ، فلا يلزم القاضي
__________
(1) سورة النساء الآية 105
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة ص الآية 26

ونحوه الحكم أو الفتوى به ، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك في التولية أو بعدها لجواز أن يفهم غير هذا الراجح ويقتنع به ، أو يقتنع به ثقة بمن رجحه من المجتهدين ، فيكون حكمه بما ألزم به حكما بغير ما اعتقده حقا ، وهو حرام { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } (1) فأوجب سبحانه الرجوع إلى حكمه الذي أوحاه إلى رسوله في الكتاب أو السنة الثابتة دون الرجوع إلى الراجح عند بعض المجتهدين في مسائل الخلاف .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (2) فأوجب سبحانه طاعته وطاعة رسوله في كل الأمور ، وأوجب طاعة أولي الأمر من الحكام والعلماء فيما وضح أمره وظهر حكمه دون اشتباه والتباس ، بدليل المقابلة بقوله : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } (3) 30 الآية ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : « إنما الطاعة في المعروف » (4) رواه البخاري ومسلم ، فعند الاختلاف في حكم من الأحكام العلمية الكلية في أصول الدين أو فروعه يجب الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله فقط؛ ليتبين الحق في محل الخلاف ، وأكد سبحانه ذلك بقوله : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (5) ولم يشرع لنا سبحانه الرجوع فيما اختلفنا فيه إلى القول الراجح في نظر بعض
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 59
(4) صحيح البخاري أخبار الآحاد (6830),صحيح مسلم الإمارة (1840),سنن النسائي البيعة (4205),سنن أبو داود الجهاد (2625).
(5) سورة النساء الآية 59

العلماء المجتهدين دون بعض؛ لأنه لم يتعين أن يكون هو الحق حتى يتفق عليه من يعتد بهم في الإجماع فيمكن أن يرجع إليه ، لكونه إجماعا في نظر بعض الأصوليين ، هذا وآيات القرآن في هذا المعنى كثيرة ، اجتزأنا عنها بما ذكر .
ب- وأما السنة : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار » (1) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه ، ومن عرف الحق حسب اجتهاده واقتنع به ، أو اقتنع به واعتقده؛ ثقة لمقلده ، وتحسينا للظن به ، ثم حكم بغير ما ظهر له أنه الحق- فقد جار وأثم ، وكان من أهل النار ، فلا يصح أن يشترط عليه في التولية ، أو يؤمر بعدها أن يحكم بغير ما ظهر له أنه الحق ، وفي معنى هذا كثير من الأحاديث الصحيحة .
ج- وأما الإجماع : فقد جرى العمل على ما تقدم في تولية رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاة وإمضائه ما اختلف فيه من الأعمال ، بناء على اختلاف فهم المجتهدين في المسائل النظرية التي يعذر في مثلها من أخطأ ، ثم جرى العمل على هذا في عهد الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من ولاة وعلماء القرون المشهود لها بالخير إلى ما شاء الله ، فكان هذا إجماعا عمليا يلزم الوقوف معه والعمل بمقتضاه ، فلا يصح أن يلزم من تولى الفصل في الخصومات أن يحكم فيها بغير ما رجح عنده عن اجتهاد أو عن ثقة بمن قلده من المجتهدين ، وإن كان ما ألزم به راجحا عند غيره .
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1322),سنن أبو داود الأقضية (3573),سنن ابن ماجه الأحكام (2315).

المناقشة :
نوقش أولا : بأنا نسلم ما تقتضيه الأدلة من وجوب الحكم بما أنزل الله ، وما جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم من الحق ، ولكن لا نسلم أن ما ألزم الحكم به ليس شرعا يجوز العمل به ، إذ هو إلزام بما يسمى شرعا مؤولا ، فهمه الفقهاء مما يسمى شرعا منزلا ، وكلاهما يصح العمل بموجبه والحكم بمقتضاه ، وقد يجاب : بأن مناط الاستدلال إلزام من تولى القضاء أو الإفتاء أن يحكم أو يفتي بخلاف ما يعتقده حقا لا مطلق جواز العمل أو الحكم بما يسمى : شرعا مؤولا ، ولا يلزم من جواز الثاني جواز الأول .
ونوقش ثانيا : بأنا نسلم ما تقتضيه الأدلة في القاضي أو المفتي المجتهد ، أما المقلد فلا رأي له ، بل هو مخير فيمن يتبعه من أئمة الاجتهاد ، فلولي الأمر أن يلزمه بقول من أقوال من في اتباعهم خير؛ رعاية للمصلحة ، وقد يجاب : بأنه وإن كان مخيرا فيمن يتبعه من الفقهاء إلا أنه قد يثق بمجتهد بناء على معرفته بسيرته وأحواله ويعتقد رجحان رأيه ، فلا يجوز إلزامه القضاء أو الإفتاء بغير ما يعتقده .
ونوقش ثالثا : بأن مضرة عدم إلزام القاضي أو المفتي أن يقضي أو يفتي بقول معين قد تكون أشد من مضرة إلزامه بذلك ، فلولي الأمر أن يلزمه بقول معين ، ولو خالف عقيدته في المسائل الاجتهادية؛ رعاية للمصلحة بارتكاب أخف المفسدتين؛ تفاديا لأشدهما ، وقد يقال : إن معرفة ذلك تتوقف على معرفة الآثار المترتبة على كل منهما ، وسيأتي بحث ذلك .
ثانيا : أدلة من قال بجواز الإلزام أو وجوبه :
استدل من قال بجواز إلزام القاضي أو المفتي بمذهب أو قول معين-

بالدواعي والأسباب الطارئة التي اقتضت ضرورة تدوين أحكام المعاملات وإلزام القضاة والمفتين أن يعملوا بموجبها . . كما استدلوا بآثار عن السلف ووقائع قضوا فيها ، ومن لم يثبت عنه قول في ذلك ولا عمل به سكت ولم ينكر ، فكان سكوته تقريرا ، وصار ذلك إجماعا على مشروعية الإلزام .

وفيما يلي تفصيل ذلك مع المناقشة .
أولا : الدواعي والأسباب التي تبرر التدوين والإلزام :
أ- وقوع أحكام اجتهادية متناقضة في قضايا متماثلة أدت إلى اتهام القضاة باتباع الهوى فيما يقضون . . إلخ ، ويمكن أن يناقش ذلك بأن أحكام القضاة التي قيل فيها : إنها متناقضة قد يكون اختلاف الحكم فيها ناشئا عن اختلاف الظروف والأحوال في القضيتين ، وتابعا للملابسات والدلائل والأمارات المختلفة فيهما ، فيظن من نظر إلى أصل القضيتين دون ما أحاط بهما تماثل القضيتين ، ويحكم بتناقض الحكم فيهما حسب نظره ، والواقع أنه لا تناقض ، بل هذا من اختلاف الحكم لاختلاف الملابسات ، وقد يكون تقابل الحكمين واختلافهما ناشئا عن اختلاف اجتهاد القاضيين ، أو عن تغير اجتهاد القاضي ، وهذا سائغ شرعا ، بل الواجب على القاضي أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده حين الفصل في القضية الحاضرة ، ولو خالف اجتهاده فيها اجتهاده في قضية سابقة مماثلة ، وإن قدر أنه لم يفعل ذلك كان آثما ، ولهذا نظير في أحكام الخلفاء الراشدين ، بل اختلف الحكم في قضاء الصحابي الواحد ، مثاله : ما حكم به عمر بن الخطاب في قضية ميراث ، ومثيلتها من حرمان الإخوة الأشقاء أولا من الميراث في قضية وتشريكهم مع الإخوة للأم في الثلث بعد ذلك في مثيلة

الأولى ، ولم يبعث ذلك ريبة في القاضي للثقة بعلمه وعدله وأمانته ، ولم يحملهم ذلك على التفكير في اختيار رأي واحد يلتزمون القضاء به ، وقد يكون الاختلاف ناشئا من قصور القاضي في علمه أو في تطبيقه أو غير ذلك ، فيكون طريق الخلاص من ذلك النهوض بالقضاة علميا ، وتدريبهم على التطبيق ، إلى غير هذا مما سيأتي بيانه .
ب- عدم وجود كتاب في المعاملات سهل العبارة يتعرف منه الناس أحكام المعاملات التي يفصل بها في الخصومات ؟ ليراعوها ، ويوفقوا بينها وبين أعمالهم . . إلخ ما تقدم في الدواعي .
ونوقش ذلك بما يأتي :
1 - الخلاف بين الفقهاء في الأحكام الفقهية قديم ، وكان القاضي يعين منهم ، وليس له فقه مدون فيقضي باجتهاده ، وأحيانا يعين حنفيا أو مالكيا أو شافعيا أو حنبليا فيقضي بالفقه المدون ، في مذهب الإمام الذي انتسب إليه ، وقد يؤديه اجتهاده إلى القضاء بقول في غير مذهب إمامه ، ولم يتوقف وجوب رجوع المتخاصمين في الحقوق إلى التقاضي أمام المحاكم الشرعية على معرفة الرعية بشيء من الأحكام قبل بدئهم في العمل أو قبل التقاضي أكثر من أن القاضي سيحكم بينهم بما أداه إليه اجتهاده أو اجتهاد إمامه في الكتاب والسنة وما تفرع عنهما ، فكان ذلك منهم إلغاء لاعتبار هذا السبب في تدوين الراجح عند بعض الفقهاء وإلزام القضاة العمل به .
2 - إن هذا الداعي أو السبب مجرد فرض ومحض تقدير .
وبيانه : أن القوانين الوضعية مدونة ، ولها لوائح تفسيرية ، ومع ذلك يجهلها السواد الأعظم من الأمة قبل العمل وقبل التقاضي عند الخلاف ،

وإنما يعرفها القليل من المتعلمين؛ ولهذا يوكلهم السواد الأعظم في التقاضي ، لجهلهم بمراجع القضاء في الحكم وقصورهم عن الدفاع ، فكان ما ذكر مجرد تقدير لا يتفق مع واقع الأمم .
3 - إنه على تقدير معرفة الناس بأحكام كلية حددت لهم فهي مما تختلف فيه الأفهام في التطبيق على جزئيات القضايا والوقائع ، وخاصة إذا اختلفت الظروف والملابسات التي تحيط بالقضايا ، فلا يزول ما تصور من الإشكال بالتدوين الخاص والإلزام بما فيه .
4 - إذا رضي السواد الأعظم في كل أمة تتحاكم إلى القوانين الوضعية بالتقاضي إلى محاكمهم مع جهلهم بهذه القوانين- وجب أن يرضوا بالتحاكم إلى المحاكم الشرعية مع جهلهم بتفاصيل مراجعهم في المعاملات ، بل الرضا بهذه المحاكم أولى؛ لأن مراجعها أعدل وأحكم ، إذ هي مستقاة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وقضاة المحاكم الشرعية أقرب إلى الخير والعدالة ، وأحرص على الحق ، وأكثر تحريا له ، وأبعد عن الهوى وبواعث الجور .
ج- تهرب بعض الناس من رفع قضاياه للمحاكم الشرعية بالمملكة إلى رفعها لمحاكم في دول أجنبية . . إلى آخر ما تقدم في الدواعي . . ويمكن أن يناقش بأن التهرب من المحاكم الشرعية ليس ناشئا من عدم تدوين الأحكام ، فإنها مدونة ميسور الاطلاع عليها وفهمها وتحقيق الحق منها لمن راض نفسه على البحث فيها ، وليس من ترك الاقتصار على الراجح وإلزام القضاة به خاصة . فإن القوانين الوضعية قد دونت وجعلت أحكاما موحدة منظمة معها أرقامها ، وألزم قضاتها بالعمل بها ، فمع ذلك اختلفوا

في فهمها أحيانا وفي تطبيقها أكثر ، ووقع في الحكم بها اختلاف وأخطاء ونقض بعضها في محاكم الاستئناف ، فلم يكن الاقتصار على أحكام موحدة في دولة ما ، ولا الإلزام بها مانعا من الاختلاف ولا من الخطأ في فهمها أو تطبيقها ، ولا من الخطأ عن إهمال أو هوى ، وإذن فما وقع من الخطأ في الأحكام القضائية ليس مرده عدم الإلزام بقول واحد ، وإنما مرده إلى عدم النهوض بالقضاة علميا ، وقلة تدريبهم على تطبيق الأحكام على الوقائع . . إلى غير هذا من عدم توفر الوسائل والنظم التي لا بد منها؛ لتفادي الأخطاء أو تقليلها ، فبذلك ضعفت الثقة عند بعض الناس ، وتمكنت الريبة فيهم ، فكان ما قيل من التهرب من التقاضي أمام المحاكم الشرعية واللجوء إلى غيرها .
أما الأجانب فيلزمون بما ذكر في عقودهم من الشروط الخاصة بعقدهم ، وهم أدرى بمقتضاه فنيا ، ويطبق عليهم ذلك كما يطبق عليهم ما ذكر في العقد الموحد من الخضوع للأحكام المعمول بها في المملكة ، وقد دخلوا على ذلك عند التعاقد باختيارهم مع عقل ورشد ، فيلزم كل بما التزم به ، وليس لدولته التدخل في ذلك مع معرفته إجمالا بما دخل عليه ، فيجب حل الإشكال بما أشير إليه من قبل إجمالا ، وسيأتي شرحه دون اللجوء إلى التدوين والإلزام بما دون من القول الراجح .
وقد يقال : إن اختلاف الأحكام القضائية في صدر الإسلام لم يبعث على تدوين أحكام موحدة ولا على الإلزام برأي معين؛ لقوة العلماء في ذلك العهد وكفايتهم وقلة الاختلاف في الأحكام ، وندرة المشاكل ، فتوفرت الثقة في نفوس الأمة وأمنت الفتنة؛ فلهذا وأمثاله لم تلجئهم حاجة

إلى ما ذكر من التدوين ولا إلى إلزام القضاة بقول معين ، أما اليوم وقد صار أمر الناس إلى خلاف ذلك ، فالحاجة ملحة ، والضرورة إلى التدوين على الطريقة المقترحة والإلزام بالحكم بمقتضى ما دون- أمر لا بد منه؛ رعاية للمصلحة ، وحفظا لحقوق الأمة ، وإبقاء على العمل بأحكام الشريعة في المحاكم الشرعية .
ويقال أيضا : إن الخطأ في الفصل في الخصومات وإن كان لا يزال متوقعا بعد الاقتصار على القول الراجح إلا أنه أقل وأخف خطرا؛ لأنه بالتزام العمل بالقول الراجح تنحصر الأخطاء في تطبيقه على الوقائع بعد تحقيقها وتشخيصها ، ومن المعلوم شرعا : أن المفاسد إذا لم يمكن القضاء عليها وجب بذل الجهد لتقليلها .
ثانيا : استدل من قال بجواز الإلزام بأدلة من الكتاب والسنة والآثار :
أ- أما الكتاب : فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (1) فأمر سبحانه بطاعة أولي الأمر ، وهم : الأمراء والعلماء ، وقرن حق طاعتهم بحق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أن حق طاعة الله وطاعة رسوله عام في كل شيء وفي كل حال ، وحق طاعة أولي الأمر خاص بالمعروف ، فتجب طاعتهم فيما وافق الكتاب والسنة ، وفيما لم يكن فيهما لكنه لم يتعارض معهما إذا أمروا به؛ رعاية للمصلحة .
ونوقش ذلك : بما تقدم بيانه من أن طاعتهم فيما وضح حكمه ، واتفقت عليه الأمة ، أما ما اشتبه أمره واختلف فيه العلماء فالمرجع في فصل النزاع
__________
(1) سورة النساء الآية 59

فيه الكتاب والسنة بدليل قوله تعالى في نفس الآية : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } (1) الآية ، ولذا استدل علماء الأصول بهذه الآية على حجية الإجماع ، وبذلك تكون الآية دليلا على المنع لا على الجواز ، واستدلوا أيضا بقوله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } (2) وقوله : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (3) فأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستشير أصحابه في الأمر ينزل به أو بالمسلمين ، وأثنى على خيار المؤمنين بأن من شأنهم أن يتشاوروا بينهم ، وقرن ذلك بثنائه عليهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وبالتناصر عند البغي عليهم؛ ردا للعدوان ، ونصرة للحق ، وغير هذا من الأفعال الواجبة ، والصفات الحميدة ، ولا شك أن القضاء والفصل في الخصومات من أهم شئون المسلمين فينبغي تعاون القضاة مع كبار العلماء في حل مشاكل القضاء والعمل بمشورتهم ، ليكون القاضي على بصيرة فيما يحكم به بدلا من أن يستقل في ذلك بنفسه ، فيكون عرضة لكثرة الخطأ والتناقض في أحكامه ، ويكفيه أن يتحمل مشقة البحث في تشخيص القضايا وعناء تطبيق ما اختاره كبار العلماء من الأقوال على الوقائع والقضايا الجزئية بعد تحقيقها .
ب- وأما السنة : فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في شئونه وشئون الأمة ، من ذلك أنه استشار الصحابة في أمر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، كما هو معروف في قصة الإفك ، ومنها استشارته إياهم في غزواته :
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة الشورى الآية 38

في غزوة بدر ، وأحد ، والأحزاب ، وغيرها مما لا يكاد ينكره أحد ، وعمل بمشورة أم سلمة حينما دخل عليها في صلح الحديبية مغضبا ، وقد أمر أصحابه أن ينحروا هديهم ، ويتحللوا من إحرامهم فلم يفعلوا ، فأشارت عليه أن يبدأ في ذلك بنفسه فقبل مشورتها ، وكان في قبولها الخير ، إلى غير هذا من الاستشارات والمشورات الكثيرة التي تواتر معناها ، ومنها فيما ذكروا ما جاء في الأثر : ( « إن الأمر ينزل بنا يا رسول الله وليس فيه نص من كتاب ولا سنة ، فقال : اجمعوا له العالمين ، ولا تقضوا فيه برأي واحد » . فثبت بهذا أن الشورى أصل شرعي فيجب على العلماء وضع كتاب فقهي مشتمل على الأقوال الراجحة؛ ليسهل على الجميع معرفة الأحكام منه ، وبالتالي يلزم القضاة الحكم بمقتضاه؛ تفاديا لمفاسد الاختلاف ، وقضاء على التناقض في الأحكام ، وإلا تعطلت الشورى ، واستشرى الفساد ، وتفاقم التناقض .
ونوقش : بأن الشورى مشروعة باتفاق ، وعليها قامت الأدلة من الكتاب والسنة ، وعمل خير القرون من هذه الأمة ، لكنها غير ملزمة لمن استشار إلا إذا وافق اجتهاده اجتهاد من أشار عليه واقتنع به ، ولا يصح أن يلزم بما أشير به عليه من آراء خالفت اجتهاده ، وإن كان فردا ، والمشيرون عليه كثرة؛ لأن الحق ليس وقفا على الكثرة ، وليست الكثرة ميزانا يفرق به بين الحق والباطل . وأيضا الصحابة كانوا أحرص الناس على الشورى وأكثرهم عملا بها ، ولم يلزموا المستشير أن يعمل بما أشير به عليه ، ولم تتعطل الشورى ، من ذلك أن عمر أشار على أبي بكر رضي الله عنهما : أن يفاوت بين الناس في العطاء من بيت المال ، فيعطي كلا منهم حسب درجته ونصرته للإسلام

وسبقه إليه ، فأبى أبو بكر إلا أن يسوي بينهم في العطاء ، لاختلاف نظرهما في مقتضى العطاء . ومن ذلك ما أشار به الصحابة- وهم كثرة- على أبي بكر بترك قتال المرتدين ومانعي الزكاة ، فأبى إلا أن يقاتلهم ، ومضى فيما عزم عليه ، وكان خيرا للمسلمين من رأي مخالفيه .
ومن ذلك : أن عمر استشار الصحابة في دخول أرض علموا أن بها طاعونا وعدوله عن الدخول فيها ، ثم خالف مشورتهم وعدل عن الدخول فيها ، وهم كثرة ، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وأخبره بما حفظه في ذلك من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان فيه تأييد لرأي عمر رضي الله عنه .
وبالجملة : فالأمر كما تقدم من أن الشورى ليست ملزمة ، ولا حرج على الواحد في مخالفة الكثرة والعمل بمقتضى اجتهاده ، بل هذا هو الواجب ، وأصول الشريعة تشهد لصحته .
ولقائل يقول : إن ما ذكر في المناقشة إنما ينطبق على المجتهد؛ لأن له قولا أداه إليه اجتهاده واعتقد صحته ، أما المقلد المحض فلا رأي له وهو لعجزه عن استنباط الأحكام مخير في اتباع إمام من الأئمة المجتهدين ، فمثل هذا قد يقال : بأن إمام المسلمين له أن يلزمه إذا تولى القضاء أن يحكم بمذهب أو قول معين؛ رعاية لما تقدم بيانه من المصلحة ، ولا ضرر في ذلك ؟ لأنه تابع على كل حال ، فليكن تابعا لما أمره به ولي الأمر في الشئون العامة والحقوق المشتركة بين الأمة ، وقد استدل بعض المعاصرين بأن الصحابة قالوا : ( « إن الأمر ينزل بنا يا رسول الله وليس فيه كتاب ولا سنة ، فقال : اجمعوا له العالمين ، ولا تقضوا فيه برأي واحد » على الإلزام ، ولكن الاستدلال به يتوقف على إثبات كونه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، غير أنه لم يصح ، فقد

ذكره الخطيب البغدادي في باب القول في الاحتجاج بصحيح القياس ولزوم العمل به من كتاب الفقيه والمتفقه ، قال : أنا أبو القاسم علي بن محمد بن موسى البزار ، وأبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله المعدل قالا : أنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد المصري ، أنا محمد بن الربيع بن بلال العامري ، أنا إبراهيم بن أبي الفياض ، أنا سليمان بن بزيع عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، « عن علي بن أبي طالب قال : قلت : يا رسول الله ، الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ، ولم يسمع منك فيه شيء ، قال : اجمعوا له العابدين من أمتي ، واجعلوه شورى بينكم ، ولا تقضوا فيه برأي واحد » .
وساق ابن حجر في [لسان الميزان] هذا الحديث في ترجمة سليمان بن بزيع ، ثم قال : قال أبو عمر بن عبد البر : هذا حديث لا يعرف من حديث مالك إلا بهذا الإسناد ، ولا أصل له في حديث مالك عندهم ، ولا في حديث غيره ، وإبراهيم وسليمان ليسا بالقويين ، ولا يحتج بهما .
قلت : وقال الدارقطني في [غرائب مالك ] : لا يصح ، تفرد به إبراهيم بن أبي الفياض ، عن سليمان ، ومن دون مالك ضعيف ، وساقه الخطيب في [كتاب الرواة] عن مالك من طريق إبراهيم ، عن سليمان ، وقال : لا يثبت عن مالك . . والله أعلم . انتهى .
ثم هو مخالف لما جرى عليه العمل قرونا كثيرة حيث كان كل من المجتهدين يعمل بمقتضى اجتهاده ويحكم به ، وكان الصحابة ، بل الرسول صلى الله عليه وسلم يقبلون مشورة الواحد ويعملون بها ، ولم يكن من شأنهم أن يجمعوا العالمين في كل ما نزل بهم ، ثم لو ثبت لم يزد على أن يكون نصا

من نصوص المشورة ، وتقدم أنها غير ملزمة إلا إذا وافقت اجتهاد المستشير ، وإلا عمل باجتهاد نفسه ، كما تقدم بيانه في النقل عن الصحابة رضي الله عنهم .
ج- وأما الآثار فكثيرة :
1 - منها : إجماع الصحابة على جمع القرآن وتدوينه في نسخة واحدة؛ حفظا للقرآن من أن يذهب بذهاب القراء ، وهذا وإن كان في بادئ الأمر أمرا جديدا وعملا محدثا ، حيث إنه لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه واجب؛ لاتفاقه مع روح الشريعة ومقاصدها ، فكذا إلزام القضاة أن يحكموا بالقول الراجح من أقوال الفقهاء ، فإنه وإن كان يبدو أمرا محدثا إلا أنه لا يخالف كتابا ولا سنة ، بل هو مقتضى المصلحة؛ لما فيه من دفع الريبة والقضاء على الاضطراب والتناقض في الأحكام ، فكان واجبا .
ونوقش : بأن القرآن كان مكتوبا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، والأمة مأمورة بحفظ الدين وإبلاغه بالنصوص المتواترة ، ولم يزد الصحابة على أن جمعوا ما كان مفرقا؛ عملا بمقصد ضروري من مقاصد الشريعة ، وهو وجوب حفظ الدين وإبلاغه ، بخلاف إلزام القضاة بالحكم بالراجح من أقوال الفقهاء ، فإنه مخالف لمقتضى النصوص ، ولما جرى عليه العمل في القرون التي شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخير .
2 - ومنها : جمع عثمان رضي الله عنه الأمة على حرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن ، وقصر الناس على القراءة بهذا الحرف وتحريقه المصاحف الأخرى التي تخالف مصحف الإمام ، وقد كتب من هذا المصحف نسخا وأرسل بها إلى أمهات البلاد الإسلامية ،

واستمرت القراءة لهذا اليوم . فكذا إلزام القضاة بالقول الراجح من أقوال الفقهاء ، بل هو أولى بأن أقوال الفقهاء شرع مؤول يحتمل كل منها الخطأ أو الصواب ، والقراءات شرع منزل كلها حق لا يحتمل الخطأ ، فكان الإلزام واجبا ؛ رعاية للمصلحة.
ونوقش هذا بأمور :
الأول : أن عثمان ومن وافقه من الصحابة استندوا إلى مصلحة شهدت لها أصول الشريعة ، فإن في قصره على حرف واحد ، حفظا للدين بحفظ أصله- وهو القرآن- من الاختلاف فيه ، وحفظا للنفوس ، وبيانه : أن حذيفة أخبره بأن الصحابة اختلفوا في القراءة اختلافا تخشى منه الفتنة ووقوع القتال بينهم ، وفي اختلافهم واقتتالهم ضياع للدين ، وقضاء على وحدة المسلمين وقوتهم ، بل قضاء على نفوسهم ، وحفظ الدين والنفوس من الضروريات الخمس ، فوجب إيثار ذلك على بقاء القراءات ؛ لأن بقاءها كمالي للاستغناء عنها بقراءة منها ؛ لتضمنها ما في القراءات الأخرى من المعاني والأحكام ، بخلاف إلزام القضاة أن يحكموا بقول راجح اختير من قولين أو أقوال للفقهاء ، فإن ما ظن فيه من المصلحة غير معتبر ؛ لشهادة الأدلة السابقة بعدم اعتباره ، ولأن القراءات كلها معصومة متحدة الأحكام والمقاصد ، فصح الاكتفاء بواحدة منها ، بخلاف أقوال الفقهاء ، فإنها مختلفة في مقاصدها وأحكامها ، ولا ينحصر الحق في واحد منها - فلم يجز الاقتصار على ما يرى جماعة من العلماء أنه الراجح منها وإلزام الناس به ، فقد يكون الحق فيما ترك.
الثاني : أنه منع من القراءة بما يخالف مصحفه ، أما الاحتجاج

بالقراءات الأخرى فلم يمنع منه ؛ ولذا لا يزال الاحتجاج بما صح منها قائما باقيا عند جماعة من الأئمة المجتهدين ؛ إما على أنها أخبار آحاد ، أو قول صحابي عند من يعتبره حجة .
الثالث : إن القراءة بالأحرف السبعة كانت على التخيير لا الإلزام ؛ تيسيرا للقراءة على الناس لاختلاف ألسنتهم ، فلما لانت بها ألسنتهم لكثرة اجتماعهم والاختلاط بينهم ، وكان ما كان من الاختلاف فيها- كان بقاؤها كماليا عارضه مصلحة ضرورية ، فقدمت على مصلحة بقاء القراءات ، ولم يفت المسلمين شيء من أحكام القرآن بذلك لاجتماعها في المصحف الإمام ، بخلاف الاقتصار على قول من أقوال الفقهاء ، فإنه لا يدري عما اختير ، هل هو متضمن للحق والصواب أو الحق فيما ترك من الأقوال.
3 - ومنها : ما رواه سعيد بن منصور في سننه، ، وابن أبي شيبة في [المصنف] : أن معاوية كتب إلى زياد أن يأمر شريحا بتوريث المسلم من الكافر دون العكس ، فلما أمره زياد قضى بقوله ، فكان إذا قضى بذلك يقول : هذا قضاء أمير المؤمنين ، فهذا من معاوية وشريح دليل على جواز إلزام القضاة أن يحكموا بقول معين ، وعلى التزام القاضي بذلك ، ولو كان مجتهدا.
ونوقش أولا : بأن في سند هذا الأثر مجالد بن سعيد ، وهو ضعيف.
وثانيا : بأن قضاء شريح بقول معاوية يحتمل أن يكون من باب الخبر ، بدليل : أنه كان يقول بعد قضائه : هذا قضاء أمير المؤمنين.
4 - ومنها : كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في شئون القضاء ، وفيه (اعرف الأشباه والنظائر ، وقس الأمور برأيك) فأمره

عمر أن يحكم بالقياس ، وأن يجتهد في ذلك ، وكلاهما مجتهد ، وقد يكون رأي أبي موسى في أصل العمل بالقياس مخالفا لرأي عمر رضي الله عنهما ، ففي الأثر تقييد الإمام لقاضيه المجتهد برأيه ، حيث أمره أن يقيس الأمر بما يشبهه ، ويحكم بمقتضاه ، فدل على جواز إلزام القضاة - ولو كانوا مجتهدين - برأي معين .
وقد يناقش بما ذكره ابن حزم في الجزء السابع من [كتاب الأحكام] من أن هذا الحديث روي من طريقتين :
الأولى : فيها عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه ، قال ابن حزم : عبد الملك متروك الحديث ، ساقط بلا خلاف ، وأبوه مجهول.
وذكر أن في الطريق الثانية أربعة مجهولين ، وأنها منقطعة ، وقد ناقشه ابن القيم في ذلك في كتاب [إعلام الموقعين] ، وقد يناقش أيضا : بأن هذا من باب إجابة الإمام لمن استرشده من أمرائه وعماله والنصيحة والتوجيه له في القيام بعمله ، ثم هو مجتهد فيما يحكم به ، قاض بمقتضى نظره ، وليس من باب تقييد القاضي وإلزامه أن يحكم بقول معين وإن كان مجتهدا ؛ لقيام الدليل على أن كل مجتهد يجب عليه العمل باجتهاده.
5 - وفي معنى ما تقدم من الآثار تدوين السنة ، وسائر العلوم العربية والدينية وإنشاء المعاهد والمدارس والجامعات العلمية والمصانع والمصحات ودور العجزة والأيتام ، وتدوين الدواوين ونحوها مما يدخل في عموم تصرفات ولاة الأمور ؛ رعاية لمصلحة الأمة في دينها ودنياها ، وحفظا لحقوقها العامة والخاصة ، وسيأتي إن شاء الله بيان مدى تصرف إمام المسلمين ، وبيان ما إذا كان يدخل فيه إلزام القضاة أن يحكموا بقول أو

مذهب معين أو لا يدخل في ذلك .

الخامس : الآثار التي تترتب على البقاء مع الأصل ، والتي تترتب على العدول عنه إعمالا للدواعي الطارئة :
لما كان الترجيح بين الأقوال المختلفة لا يتوقف على أدلة كل منها فقط ، بل يتوقف أيضا على ذكر لوازم الأقوال وما يترتب على العمل بكل منها من الآثار- وجب ذكر الآثار للنظر فيها إلى جانب الأدلة المتقدمة ، وبعد المقارنة من هيئة كبار العلماء بين الأدلة والآثار يمكنها الترجيح ، ويحسن قبل ذكر الآثار ذكر تمهيد لها في الفرق بين الشرع المنزل والمؤول ، والمبدل .
تمهيد : في الفرق بين الشرع المنزل ، والمؤول ، والمبدل :
من المعلوم أن ما يسمى شرعا يكون منزلا ، ومؤولا ، ومبدلا ، فالمنزل : ما أراده الله من الكتاب ، وما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم من السنة ، والمؤول : ما فهمه العلماء من الشرع المنزل ؛ ولذا انقسموا إلى قسمين : مصيبون ، ومخطئون ، فالمصيبون : هم الذين أصابوا مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع المنزل ، والمخطئون بخلافهم ، وأما المبدل : فهو ما لم يرجع في وضعه إلى الكتاب والسنة من القوانين الوضعية ونحوها مما خالف الحكم فيه الكتاب والسنة الصحيحة ، أو إجماع الأمة ، وهذا القسم ليس بمقصود في بحثنا للإجماع على تحريمه .
وفيما يلي بيان الآثار المترتبة على كل منهما :

أ-

الآثار المترتبة على البقاء مع الأصل
ا- في البقاء مع الأصل حفاظ تام على الشرع المنزل ، وإعمال الأفكار

في فهم أحكامه من عبادات ومعاملات ، وأخلاق ، وتدبر آياته ومواعظه إلى غير ذلك مما جاء به من هداية البشر وصلاح الناس أجمعين .
2 - في البقاء مع الأصل ربط القلوب به ، وزيادة الثقة فيه ، وإذكاء روح الغيرة عليه في النفوس ، وتربية المهابة والإجلال في القلوب.
3 - في البقاء مع الأصل السلامة من الزيادة والنقص في التشريع والأمن من التغيير والتبديل ، ومن المعلوم أن سد الذرائع واجب شرعا .
4 - العناية بالفقه المؤول الذي دونه أسلافنا ، وكان من خير ما ورثنا عنهم ، ومن المعلوم أن مصادر التشريع لم تكن جميعها معلومة لكل واحد منهم ، وأن الفقه لم يكن وقفا على جماعة من العلماء دون غيرهم ، ولا كان الحق من آراء الفقهاء متعينا في قول جماعة منهم دون سائرهم ، فكان البقاء مع الأصل ، وترك الباب مفتوحا لدراسة الفقه المؤول ومقارنته بمصادر الشريعة ، وتطبيقه على جزئياته نظريا وعمليا في الحياة الخاصة والعامة- أوفق ليسر الشريعة وكمالها وإحاطتها بجميع الأحكام.
5 - من المعلوم أن المسائل العلمية منها ما هو موضع إجماع ، وهذا لا إشكال فيه ، ومنها : ما هو موضع خلاف ، وهذه للخلاف فيها أسباب متعددة :
منها : ما يرجع إلى بقاء الدليل من عدمه .
ومنها : ما يرجع إلى طريق الأدلة .
ومنها : ما يرجع إلى متن الدليل .
ومنها : ما يرجع إلى دلالته ، ومنها : ما يرجع إلى ما يحيط به من اختلاف في التقعيد ، فنراهم في بعض المذاهب يحبذون فهم الأدلة الشرعية وحكم المسائل الجزئية على التقعيد المذهبي ، هذا من جهة،

ومن جهة أخرى هم مختلفون في مسالك الترجيح بناء على اختلافهم في التقعيد ، فتجد مرجوحا عند الشافعية راجحا عند الحنفية وهكذا ، ومن جهة ثالثة وصف القول بأنه راجح من حيث التقعيد الشرعي ، لا من حيث التقعيد المذهبي ، وصفه بذلك ليس من الأوصاف اللازمة ، فقد يكون راجحا في وقت بالنظر لما يحيط به من ظروف وملابسات من اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والأشخاص ، ويكون مقابله على هذا الأساس مرجوحا ، فتتغير الأمور ويكون المرجوح راجحا ، والراجح مرجوحا ، وهذا كما يجري في الظاهر ومقابله ، يجري أيضا في المسائل ذات الأقوال المتساوية في ظن المجتهد ، فإن هذا قد يكون بالنسبة لوقت ، ويأتي وقت آخر يوجد فيه من القرائن ما يجعل واحدا منها راجحا ، فراجحية القول في المسائل الخلافية إنما تظهر بعد دراسة واقع المسألة وتطبيقها على موضعها من الشرع ، ومن ثم تبرز راجحية القول ، هذا من جهة فقه القضاء ، وهذا أمر يورثه الله فيمن يشاء من عباده ولا يدخل تحت حصر البشر.
6 - ما تقدم ذكره من الدواعي التي دعت إلى تدوين القول الراجح وإلزام القضاة الحكم به.

ب-

الآثار التي تترتب على العدول عن الأصل
ا- إلزام القضاة أن يحكموا بالقول الراجح من أقوال الفقهاء ينتهي على مر الأيام إلى فصل أهل العلم عن فقه الكتاب والسنة فصلا يتدرج بهم إلى هجرهما ، وعدم الرجوع إليهما في هذا المجال ؛ اكتفاء بهذه المواد التي يقال : إنها هي القول الراجح.
2 - القضاء على التراث الإسلامي قضاء نهائيا في مجال البيان لأحكام

المعاملات ؛ اكتفاء بهذه المواد المدونة ، ومعلوم أن الفقه الإسلامي المدون هو أعظم ثروة ، فتجب المحافظة عليها ، والعناية بالبحث فيها ، والرجوع إليها.
3 - التضييق على الناس بحملهم على قول واحد بصفة مستديمة وإهدار الأقوال الأخرى.
4 - كونه مدخلا لتغيير الشريعة بزيادة أو نقص ، وتبديل ، وتعديل.
5 - إماتة الفكر الفقهي ، والحجر عليه ، بحيث لا يكون قابلا للقوة والنماء والتوسع والعمق في التفكير ؛ لأنه جعل في دائرة من العلم محدودة.
6 - حمل القضاة على الحكم بخلاف ما يعتقدون في بعض المسائل وهذا غير جائز شرعا.
7 - وبالتالي فهو نقطة تحول عما كانت عليه الأمة الإسلامية ، وعدول عن أمر جرت عليه أربعة عشر قرنا ، منها القرون المفضلة ، وفي هذا مخالفة للإجماع العملي.
منا قشة الآثار المترتبة على إلزام القضاة الحكم بقول معين :
يناقش الأول والثاني : بأن سبب انصراف الكثير من المتعلمين عن فقه الكتاب والسنة ، والمراجع الكبيرة في الفقه الإسلامي هو : ضعف الهمة ، والملكات العلمية ، والوازع الديني ، والتعصب المذهبي في السواد الأعظم ممن يشتغل بالعلوم الدينية ، بدليل انصرافهم عن فقه الكتاب والسنة مع دراسة التفسير والحديث ، وعنايتهم بدراسة المختصرات الفقهية لمعرفة الأقوال دون تجشم لمتاعب الاستدلال حتى في الدول التي لم تلزم قضاتها الحكم بقول معين.

ويناقش الثالث بأن الأقوال الأخرى لا تهدر نهائيا ، بل لا تزال دراستها موضع عناية في دور التعليم ، وإنما قسر القضاة على الحكم بالراجح لمصلحة دفع مضرة التناقض في الأحكام الراجحة على ما يدعى من التيسير في بقاء الأمر على ما كان .
ويناقش الرابع : بأن المدخل في التبديل.. . إلخ يرجع إلى ضعف الوازع الديني ، لا إلى قسر القضاة على الحكم بما اختير لهم من القول الراجح ، وربما قيل : إن تناقض الأحكام الناشئ من اختلاف أقوال الفقهاء في مراجع القضاة مدعاة إلى النفرة من الثروة الفقهية جملة ، وإلى التبديل الشامل ، كما تقدم بيانه في الدواعي.
ويناقش الخامس : بما تقدم في الأول والثاني والثالث.
ويناقش السادس : بأنه قد يسلم هذا بالنسبة للمجتهد المطلق أو مجتهد المذهب دون المقلد المحض فإنه تابع لغيره مخير فيمن يتبعه ، والمتعلمون اليوم يغلب فيهم طابع التقليد المحض ، فللإمام العام أن يلزم من تولى القضاء منهم بقول من الأقوال المخير بينها ، تحقيقا للمصلحة على أن الحكم بأن هذا غير جائز هو محل النزاع.
ويناقش السابع : بأنه من استصحاب الإجماع في محل النزاع ، وهو مختلف في الاحتجاج به ، وبيانه : أن ما ذكر من الإجماع العملي كان في قرون قويت فيها الملكات العلمية ، وكثر فيها المجتهدون في الشريعة ، أما بعد أن ضعفت الملكات العلمية ، وطغى التقليد المحض على المتعلمين- فلا إجماع ، بل النزاع قائم على أشده ، كما تقدم في سرد الأقوال في الإلزام ، فتعين أن ذلك قول باستصحاب إجماع في قرون نيط فيها بأحوال

إلى محل نزاع في قرون تلاشى فيها مناطه لاختلاف الظروف والأحوال .

السادس - هل إلزام القضاة الحكم بمذهب معين أو قول معين ضروري لحل مشاكل القضاء أو يمكن تفاديه بحل آخر ؟ من المسلم به وجود مشاكل حول القضاء ، والفصل بين الناس في الخصومات ، ومن المسلم به أيضا أنه يجب بذل الجهود من الجهات المعنية ، والتعاون بينها لإيجاد حل ناجح لهذه المشاكل حتى يسهل على القضاة القيام بمهمتهم على خير حال ، ولا يتهرب من العمل في حقل القضاء أحد من المؤهلين عند تعيينه من قبل أولي الأمر للعمل فيه ، وحتى يطمئن من بينهم خصومات إلى التقاضي أمام المحاكم الشرعية ، وتذهب عنهم الريب والظنون ، وإذن لا بد من تحديد هذه المشاكل وبيان منشئها ، ثم بيان وسائل حلها ورسم طريق الخلاص منها على ضوء معرفتها ومعرفة أسبابها .
أ- أما المشاكل فقد يقال فيها : إنها ما تقدم بيانه في دواعي إلزام القضاة أن يحكموا بقول معين من التناقض في الأحكام سببه : قصور القضاة ، واختلاف الأقوال في المصادر الفقهية التي يرجعون إليها في أحكامهم ، فنشأ من هذا : الاضطراب في الأحكام والريبة والاتهام باتباع الهوى والانصراف عن المحاكم الشرعية ، وعلى هذا قيل : إن طريق الخلاص من هذه المشاكل إلزام القضاة الحكم بأقوال معينة راجحة تختارها جماعة كبار العلماء ، وتقدمها منظمة بعبارة سهلة ، معها أدلتها ولائحة تفسيرها ، وأمثلة فرضية أو مأخوذة من الواقع يسهل تطبيقها ، ولا يلزم مما ذكر التقنين الوضعي ، ولا إغلاق باب الاجتهاد في وجوه الأقوياء من القضاة ، بل إذا

رأوا رجحان قول يخالف ما قد اختير لهم عرض على هيئة كبار العلماء ، فإن أيدوه جعلوه بدلا مما اختير من قبل ، وإلا مضوا على ما كان.
وقد تقدم مناقشة هذه الفكرة وبيان الآثار المرتبة عليها ، ويزاد هنا أن الإلزام ينافي تخويل الاجتهاد للقاضي المتأهل للترجيح وحسن الاختيار على تقدير أن الهيئة لم تقنع برأيه ، وأبقت على ما رآه ضعيفا وعرضه عليها ، أما على تقدير اقتناعها برأيه والتعديل على مقتضى ما رجح عنده- فيلزم اختلاف الحكم وتناقضه في قضيتين متماثلتين حكم في إحداهما قبل التعديل وفي الأخرى بعده ، وقد يتكرر مثل هذا الاجتهاد ، ويوافق عليه ، وتعدل! المادة ، فيزداد ما سمي من قبل تناقضا ، وتعود المشكلة جذعة ، ويتكرر ما سمي مأساة ومدعاة للتهرب من القضاء أمام المحاكم الشرعية ، وسببا لإباء الأجانب من التحاكم إليها ، ولم يطمئن بذلك من وفق أعماله قبل الإقدام عليها مع الأقوال الراجحة ؛ لتوقعه التعديل والتغيير. . إلخ ، وربما كان استمرار التعديل ذريعة إلى تعديل بعض الأقوال الفقهية بقوانين وضعية- لا سمح الله- كما حصل في بعض الدول الأخرى على ما سبق ذكره في النبذة التاريخية لمراحل التدوين ، والأدلة الشرعية دالة دلالة قاطعة على وجوب سد الذرائع ، والقضاء على وسائل الشر ومسالكه.
ب- وقد يقال : إن المشكلة نشأت من أسباب كثيرة ، من قصور بعض القضاة ، ومن التوسع في تعيينهم حتى في قرى ربما يكفيها متعلم يقوم بالوعظ والإرشاد ، وإمامة المسجد ، وخطبة الجمعة ، وعقود الأنكحة ونحو ذلك ، ومن قضايا جديدة في نوعها ربما يقال : إنها لم يسبق لها نظير ولم يتبين لها حلول ، إلى غير ذلك مما يشابهه.

وعلى هذا يمكن أن يقال : إن الطريق للإصلاح هو :
أولا : إعداد القضاة, والعناية بتأهيلهم علميا , وتدريبهم عمليا على أعمال القضاء, ولو بدورات دراسية وتدريبية لمن يحتاج لذلك ممن على رأس العمل إن لم يمكن تفريغه لإعداده والنهوض به.
ثانيا : تقليل المحاكم وتركيزها في المدن وعواصم المناطق مثلا, ويكتفى بتعيين متعلمين في القرى ؛ ليقوموا بشئون المساجد, وعقود الأنكحة, والوعظ الإرشاد, وكتابة الوثائق ونحو ذلك, ويساعد على هذا سهولة المواصلات اليوم, ووجود مرافق في المدن يرتفق بها الغريب, ويستريح فيها, ولو أقام أياما, وهذا مما يسهل على القضاة في المدن الاجتماع للاشتراك في دراسة القضايا وهضمها, ويمنع من رفع قضايا تافهة لأقل الأسباب, ويدعو إلى الصلح في كثير من القضايا, وهو خير من التقاضي, واستمرار النزاع حتى يفصل في الخصومة.
ثالثا : حسن اختيار القضاة بمراعاة ما تحلوا به من قوة في العلم, ورجاجة عقل وحلم وأناة, وبعد نظر, وصدق وأمانة, وبعد عن مظان الريبة . . إلى غير ذلك من الصفات الكريمة التي ينبغي أن تتوفر فيمن يولى هذا المنصب, ومما يساعد على سهولة حسن الاختيار ما تقدم من تركيز المحاكم.
رابعا : مراعاة أحوال القضاة في توزيع القضايا عليهم, أو تخصيص كل منهم بنوع منها, والاشتراك في القضايا المهمة, والتشاور فيما فيه التباس, وهذا يتيسر إذا تم تركيز المحاكم في المدن, وعواصم المناطق.
خامسا : تأليف لجنة من العلماء, لبحث المسائل القضائية المعضلة,

وإيضاح غامضها ، وحل مشكلها من جهة تحقيق الحكم فيها ، ومن جهة توضيح تطبيقها بأمثلة ، وخاصة القضايا التي جدت في عصرنا ، وليس هذا لإلزام القضاة بما انتهى إليه البحث ، بل ليكون عونا لهم في القيام بمهمتهم إن اقتنعوا به ، وليكون نموذجا لهم في دراسة القضايا وحل مشكلها ، والدقة في تطبيقها ، وبهذا تضيق شقة الخلاف ، وتتحقق الدقة في الأحكام إن شاء الله ، أما ارتفاع أصل الخلاف فلا سبيل إليه ، ولو توحد المرجع العلمي للقضاة باختيار الأقوال الراجحة ؛ لما تقدم بيانه من اختلاف الناس في المدارك والأفهام ، واختلاف أحوال القضايا وما يحيط بها من قرائن وأمارات ، فبذلك تختلف أفهامهم للمادة العلمية ، ويختلف تطبيقهم لما فهموه على ما رفع إليهم من الخصومات.
من هذا يتبين أنه قد لا يكون هناك حل آخر لهذه المشكلة سوى الإلزام .
7 - مدى تصرف المسلمين في مجال الإلزام مع أمثلة توضح ذلك :
تمهيد :
لما كان لولي المسلمين العام حق التصرف في أمور كثيرة من شئون الأمة بمقتضى الإمامة الكبرى ، والخلافة العامة ؛ رعاية لمصلحة الأمة ، وحفظا لكيان الدولة ، وجب بيانها ليتبين ما إذا كان منها إلزام القضاة والمفتين أن يحكموا ، أو أن يفتوا بمذهب معين أو قول معين ، من أقوال فقهاء الإسلام أولا.
وحيث إن فقهاء الإسلام قد بحثوا هذه الحقوق وبينوا ما يختص منها بولي الأمر العام ، وما لا يختص به- كان من الضروري ذكر ما قالوه في هذا الأمر ؛ ليعرف مصدره من الشريعة ، والسر في تخصيص ولاة الأمور

ومنحهم إياه ، ولنسترشد به فيما نحن بصدده.
وفيما يلي ذكر كلام الفقهاء فيما لهم وما عليهم ، وما على الأمة لهم من الحقوق ، مع الإيجاز والاجتزاء ببعض النقول عن بعض ؛ خشية الطول ، وبعدا عن التكرار ؛ ولذا أشير إلى المراجع ؛ ليرجع إليها في شرح الغامض ومعرفة ما تفرع عنه النقل وما تفرع عليه.
1 - قال القرافي (1) : تصرفه صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى أربعة أقسام : قسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالإمامة ؛ كالإقطاع ، وإقامة الحدود ، وإرسال الجيوش ونحوها .
وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء ؛ كإلزام أداء الديون ، وتسليم السلع ، ونقد الأثمان ، وفسخ الأنكحة ونحو ذلك .
وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالفتيا ؛ كإبلاغ الصلوات وإقامتها ، وإقامة النسك ، ونحوها .
وقسم وقع منه صلى الله عليه وسلم مترددا بين هذه الأقسام ، اختلف العلماء فيه على أيها يحمل ؛ وفيه مسائل .. . إلخ .
2 - وقال (2) أيضا : وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء ؛ لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق ، وضبط معاقد المصالح ، ودرء المفاسد ، وقمع الجناة ، وقتل الطغاة ، وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس .
3 - وقال (3) أيضا : فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة ، كقسمة الغنائم ، وتفريق أموال بيت المال على المصالح ، وإقامة الحدود ، وترتيب
__________
(1) [الأحكام]ص (96 ، 97)
(2) [الأحكام]ص (93)
(3) [الأحكام]ص (95)

الجيوش ، وقتال البغاة ، وتوزيع الإقطاعات في القرى ونحو ذلك- فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة ، وما استبيح إلا بإذنه ، فكان ذلك شرعا مقررا ؛ لقوله تعالى : { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (1) انتهى ما قاله القرافي . لكن مع ثبوت اختصاص الإمام بالتصرف في هذه الأمور وأمثالها لا يجوز له أن يتصرف فيها بمحض عقله أو هواه ، بل يطبق فيها حكم الشريعة ، وبذلك لم ينشئ حكما كليا.
4 - وقال (2) أيضا : بل الحاكم من حيث هو حاكم ليس له إلا الإنشاء ، وأما قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكما ، فقد يفوض إليه التنفيذ ، وقد لا يندرج في ولايته ، فصارت السلطة العامة التي هي حقيقة الإمامة مباينة للحكم من حيث هو حكم . انتهى كلام القرافي .
يريد بذلك : أن القاضي له إصدار الحكم في القضايا الجزئية التي رفعت إليه حسب ما فهمه من الشريعة ، ولا يملك التنفيذ إلا إذا أعطاه إياه من له السلطة : من ولي الأمر العام ومن في حكمه.
5 - قال (3) الماوردي : والذي يلزمه من الأمور عشرة أشياء :
أحدها : حفظ الدين على أصوله المستقرة ، وما أجمع عليه سلف الأمة..إلخ.
الثاني : تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين،
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) [الأحكام] ص (93) .
(3) [الأحكام السلطانية] للماوردي ص (15 ، 16) .

حتى تعم النصفة ، فلا يتعدى ظالم ، ولا يضعف مظلوم.
الثالث : حماية البيضة والذب عن الحريم. . إلخ.
الرابع : إقامة الحدود. . إلخ.
الخامس : تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة. . إلخ.
السادس : جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة..إلخ.
السابع : جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير خوف ولا عسف.
الثامن : تقدير العطايا ، وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع : استكفاء الأمناء ، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال ؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة ، والأموال بالأمناء محفوظة.
العاشر : أن يباشر بنفسه مشارفة الأموال وتصفح الأحوال . . إلخ.

وقال (1) أيضا : وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم ، ووجب له عليهم حقان : الطاعة ، والنصرة ، ما لم يتغير حاله.
6 - وقال (2) القرافي : تصرفات الحكام والأئمة بغير الحكم أنواع كثيرة
__________
(1) [الأحكام السلطانية] ص (17)
(2) [الأحكام] ص (177) وما بعدها .

أنا ذاكر منها إن شاء الله عشرين نوعا ، وهي عامة تصرفاتهم فيسلم من الغلط فيها :
أ- العقود ، كالبيع والشراء في أموال الأيتام. . إلخ.
2 - إثبات الصفات نحو ثبوت العدالة عند حاكم. . إلخ.
3 - ثبوت أسباب المطالبات ، نحو ثبوت مقدار قيمة المتلف في المتلفات. . إلخ.
4 - إثبات الحجاج الموجبة لثبوت الأسباب الموجبة للاستحقاق ، نحو كون الحاكم ثبت عنده التحليف ممن تعين عليه الحلف. . إلخ.
5 - إثبات أسباب الأحكام الشرعية نحو الزوال. . إلخ.
6 - الفتاوى في الأحكام في العبادات وغيرها. . إلخ.
7 - تنفيذات الأحكام الصادرة عن الحكام فيما تقدم الحكم فيه من غير المنفذ ، بأن يقول : ثبت عندي أنه ثبت عند فلان من الحكام كذا وكذا. . إلخ.
8 - تصرفات الحكام بتعاطي أسباب الاستخلاص ووصول الحقوق إلى مستحقيها من الحبس والإطلاق. . إلخ.
9 - التصرف في أنواع الحجاج بأن يقول : لا أسمع البينة ؛ لأنك حلفت قبلها مع قدرتك على إحضارها. . إلخ.
10 - تولية النواب عنهم في الأحكام. . إلخ.
11 - إثبات الصفات الموجبة للمكنة من التصرف في الأموال ؛ كالترشيد في الصبيان والبنات.
12 - الإطلاقات من بيت المال وتقدير مقاديرها في كل عطاء . . إلخ.

13 - اتخاذ الأحمية من الأراضي المشتركة بين عامة المسلمين ترعى فيها إبل الصدقة وغيرها . . إلخ .
14 - تأمير الأمراء على الجيوش والسرايا . . إلخ.
15 - تعيين أحد الخصال في الحرابة لعقوبة المحاربين . . إلخ.
16 - تعيين مقدار من التعزير إذا رفع لغيره قبل تنفيذه فرأى خلاف ذلك فله تعيينه وإبطال الأول. . إلخ.
17 - الأمر بقتل الجناة وردع الطغاة إذا لم ينفذ. . إلخ.
18 - عقد الصلح بين المسلمين وبين الكفار ليس من المختلف فيه ، بل جوازه عند سببه مجمع عليه. . إلخ.
19 - عقد الجزية للكفار لا يجوز نقضه ولا تغييره. . إلخ.
20 - تقرير الخراج على الأرضين وما يؤخذ من تجار الحربيين . . إلخ .
7 - وقال (1) أيضا : الضابط الذي يرجع إليه في ترتيب الأحكام على أسبابها من غير حكم حاكم ، وما يفتقر لحكم الحاكم : أن الموجب للافتقار لحكم الحاكم ثلاثة أسباب :
السبب الأول : كون ذلك الحكم يحتاج إلى نظر وتحرير وبذل جهد من عالم بصير حكم عدل في تحقيق سببه ومقدار مسببه وله مثل :
أ- الطلاق بالإعسار.
2 - التعزيرات.
3 - التطليق على المولى.
__________
(1) [الأحكام] ص (146) وما بعدها .

4 - إذا حلف ليضربن عبده ضربا مبرحا فالقضاء بالعتق عليه يفتقر للحاكم.
السبب الثاني : الموجب لافتقار ترتيب الحكم على سببه إلى حكم الحاكم ومباشرة ولاة الأمور : كون تفويضه لجميع الناس يفضي إلى الفتن والشحناء والقتل والقتال وفساد النفس والمال وله مثل :
ا- الحدود.
2 - قسمة الغنائم.
3 - جباية الجزية وأخذ الخراج من أرض العنوة وغيرها من مال المسلمين.
السبب الثالث : قوة الخلاف مع تعارض حقوق الله تعالى وحقوق الخلق ، وله مثل :
1 - من أعتق نصف عبده لا يكمل عليه بقيته إلا بالحكم.
2 - العتق بالمثلة.
3 - بيع من أعتقه المديان.
فهذه الأسباب الثلاثة هي الموجبة للافتقار للحاكم وولاة الأمور ، فإذا لم يوجد شيء منها تبع الحكم سببه الشرعي حكم به حاكم أم لا . ولأجل هذه القاعدة انقسمت الأحكام ثلاثة أقسام :
1 - منها : ما يتبع سببه بالإجماع ، ولا يفتقر لحكم ؛ لقوة بعده عن اشتماله على أحد تلك الأسباب الثلاثة الموجبة للافتقار.
2 - ومنها : ما يفتقر للحاكم إجماعا ؛ للجزم باشتماله على أحد الأسباب الثلاثة أو اثنين منها .

3 - ومنها : ما اختلف فيه هل هو من القسم الأول أو من القسم الثاني ؛ لما فيه من وجوه الإحالة باشتماله على أحد الأسباب أو عدم اشتماله ، فلحصول التردد في الاشتمال حصل التردد في الافتقار.
ثم ذكر أمثلتها .
8 - وقال (1) أيضا في أثناء الكلام على أي شيء ما يفيد الإنسان أهلية أن ينشئ حكما في مواطن الخلاف فيجب تنفيذه ، ولا يجوز نقضه فهل ذلك لكل أحد ، أو إنما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص ، وما هو ذلك السبب ، وهل هو واحد أو أنواع كثيرة ؟ قال : إنه لا خلاف بين العلماء أن ذلك ليس لكل أحد ، بل إنما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص ، وهو ولاية خاصة ليس كل الولاية تفيد ذلك .
فمن الولايات ما لا يفيد أهلية شيء من الأحكام . ومنها : ما يفيد أهلية الأحكام كلها. . إلخ . وبعد أن ذكر : أن الولاية لها طرفان ووسط ، وأن لها خمس عشرة مرتبة ، قال : الرتبة الأولى : الإمامة الكبرى ، فأهلية جميع أنواع القضاء في الأموال والدماء وغيرها جزؤها ، وهي صريحة في ذلك ، فتتناول بصراحتها أهلية القضاء ، وأهلية السياسة العامة.
9 - وقال (2) أيضا : كيف يمكن أن يقال : إن الله جعل لأحد أن ينشئ حكما على العباد ؛ وهل ينشئ الأحكام إلا الله تعالى ؛ فهل لذلك نظير وقع
__________
(1) [الأحكام] ص (156) وما بعدها .
(2) [الأحكام] ص (26- 28) .

في الشريعة ، وما يؤنس هذا المكان ويوضحه؟ فأجاب عن هذا السؤال : لا غرو في ذلك ولا نكير ، بل الله تعالى قرر الواجبات ، والمندوبات والمحرمات ، والمكروهات ، والمباحات ، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه الكريم : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (1)
ومع ذلك قرر في أصل شريعته : أن للمكلف أن ينشئ الوجوب فيما ليس بواجب في أصل الشرع ، فينقل أي مندوب شاء ، فيجعله واجبا عليه ، وخصص ذلك بالمندوبات ، وخصص الطريق الناقل للمندوبات إلى الواجبات بطريق واحد وهو النذر ، فالنذر إنشاء للوجوب في المندوب . وقرر الله تعالى أيضا الإنشاء للمكلف في صورة أخرى . . له أن ينشئ السببية في المندوبات ، والواجبات ، والمحرمات ، والمكروهات ، والمباحات ، وما ليس فيه حكم شرعي البتة ، كفعل النائم. . إلخ.
ومع ذلك فلكل مكلف أن يجعل أي ذلك شاء سببا لطلاق امرأته ، أو عتق عبده. . إلخ ، فعمم صاحب الشرع في هذا الباب جميع الأشياء في المجعول سببا ، وخصص في الطريق المجعول به ، فعينه في التعليق ، وفي الباب الأول خصص فيهما ، فعين المجعول فيه في المندوب ، وخصص الطريق بالنذر ، فهذا الباب خاص ، والأول خاص وعام .
وإذا تقرر أن الله تعالى جعل لكل مكلف ، وإن كان عاميا جاهلا الإنشاء في الشريعة لغير ضرورة- فأولى أن يجعل الإنشاء للحكام مع علمهم
__________
(1) سورة المائدة الآية 3

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21