كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

ناظر الوقف ادخار ما زاد من الغلة ليعمر بها، وله شراء شيء بما زاد مما فيه زيادة غلته، وله الاتجار فيه لمصلحة المسجد، ولو زاد ريع ما وقف لعمارته لم يشتر منه شيء، وقدمت عمارة عقاره على عمارته وعلى المستحقين، وإن لم يشترط ذلك الواقف.
7 - إذا انهدم مسجد أو تداعى وأمكن إعادته أو إصلاحه بنقضه في الحال وجب ذلك، وإلا وجب حفظ نقضه إن رجي عوده بعد، فإن تعذر عوده بني أو رمم به مسجد آخر، والأولى أن يكون قريبا منه قدر الإمكان، وإن تعذر ذلك جعل في مرفق آخر كمدرسة أو مساكن لطلبة العلم. وكذا الحكم في حصره وقناديله وغلته التي ليست لأرباب الوظائف فيه.
أما ما كان من الغلة لأرباب وظائفه فهو لهم، كمدرس لم تحضر طلبته، ونقلوا في مسجد آخر مثلا في مثل وظائفهم، ولا يستحق الإمام ما جعل له من الغلة إلا إذا صلى في بقعة المسجد ولو منفردا إن أمكن، وإلا نقل أيضا في مثل عمله إلى مسجد آخر. والله الموفق.

د-

مذهب الحنابلة
1 - قال ابن قدامة (1) : إذا ثبت هذا- أي: صحة المنقطع الانتهاء- فإنه ينصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف، وبه قال الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى: أنه ينصرف إلى المساكين، واختاره القاضي، والشريف أبو جعفر؛ لأنه مصرف الصدقات وحقوق الله تعالى من الكفارات ونحوها، فإذا وجدت صدقة غير معينة المصرف انصرفت
__________
(1) [ المغني] وعليه [ الشرح الكبير] (6\215).

إليهم، كما لو نذر صدقة مطلقة، وعن أحمد رواية ثالثة: أنه يجعل في بيت مال المسلمين؛ لأنه مال لا مستحق له، فأشبه مال من لا وارث له.
وقال أبو يوسف : يرجع إلى الواقف وإلى ورثته، إلا أن يقول: صدقة موقوفة، ينفق منها على فلان وعلى فلان، فإذا انقرض المسمى كانت للفقراء والمساكين؛ لأنه جعلها صدقة على مسمى، فلا تكون على غيره، ويفارق ما إذا قال: ينفق منها على فلان وفلان، فإنه جعل الصدقة مطلقة. ولنا: أنه أزال ملكه لله تعالى، فلم يجز أن يرجع إليه كما لو أعتق عبدا.
والدليل على صرفه إلى أقارب الواقف: أنهم أولى الناس بصدقته، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : « صدقتك على غير رحمك صدقة، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة » ، وقال: « إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس » (1) , ولأن فيه إغناءهم وصلة أرحامهم؛ لأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات، كذلك صدقته المنقولة. إذا ثبت هذا فإنه في ظاهر كلام الخرقي، وظاهر كلام أحمد : يكون للفقراء منهم والأغنياء؛ لأن الوقف لا يختص الفقراء، ولو وقف على أولاده تناول الفقراء والأغنياء، كذا هاهنا.
وفيه وجه آخر: أنه يختص الفقراء منهم؛ لأنهم أهل الصدقات دون الأغنياء، ولأننا خصصناهم بالوقف لكونهم أولى الناس بالصدقة، وأولى الناس بالصدقة الفقراء دون الأغنياء.
واختلفت الرواية في من يستحق الوقف من أقرباء الواقف، ففي إحدى الروايتين: يرجع إلى الورثة منهم؛ لأنهم الذين صرف الله تعالى إليهم ماله بعد موته واستغنائه عنه، فكذلك يصرف إليهم من صدقته ما لم يذكر له
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3721),صحيح مسلم الوصية (1628),سنن الترمذي الوصايا (2116),سنن النسائي الوصايا (3628),سنن أبو داود الوصايا (2864),سنن ابن ماجه الوصايا (2708),موطأ مالك الأقضية (1495),سنن الدارمي الوصايا (3196).

مصرفا.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنك أن تترك ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس » (1) . فعلى هذا يكون بينهم على حسب ميراثهم، ويكون وقفا عليهم، نص عليه أحمد، وذكره القاضي؛ لأن الوقف يقتضي التأبيد وإنما صرفناه إلى هؤلاء؛ لأنهم أحق الناس بصدقته، فصرف إليهم مع بقائه صدقة.
ويحتمل كلام الخرقي أنه يصرف إليهم على سبيل الإرث، ويبطل الوقف فيه. فعلى هذا يكون كقول أبي يوسف . والرواية الثانية: يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف، دون بقية الورثة من أصحاب الفروض، ودون البعيد من العصبات، فيقدم الأقرب فالأقرب على حسب استحقاقهم لولاء الموالي، لأنهم خصوا بالعقل عنه، وبميراث مواليه، فخصوا بهذا أيضا، وهذا لا يقوى عندي، فإن استحقاقهم لهذا دون غيرهم من الناس لا يكون إلا بدليل من نص أو إجماع أو قياس، ولا نعلم فيه نصا، ولا إجماعا، ولا يصح قياسه على ميراث ولاء الموالي؛ لأن غلته لا تتحقق هاهنا.
وأقرب الأقوال فيه: صرفه إلى المساكين؛ لأنهم مصارف مال الله تعالى وحقوقه، فإن كان في أقارب الواقف مساكين كانوا أولى به، لا على سبيل الوجوب، كما أنهم أولى بزكاته وصلاته مع جواز الصرف إلى غيرهم، ولأننا إذا صرفناه إلى أقاربه على سبيل التعيين، فهي أيضا جهة منقطعة، فلا يتحقق اتصاله إلا بصرفه إلى المساكين. وقال الشافعي : يكون وقفا على أقرب الناس إلى الواقف، الذكر والأنثى فيه سواء.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3721),صحيح مسلم الوصية (1628),سنن الترمذي الوصايا (2116),سنن النسائي الوصايا (3626),سنن أبو داود الوصايا (2864),سنن ابن ماجه الوصايا (2708),مسند أحمد بن حنبل (1/179),موطأ مالك الأقضية (1495),سنن الدارمي الوصايا (3196).

2 - وقال ابن قدامة أيضا (1) : فصل: فإن لم يكن للواقف أقارب، أو كان له أقارب فانقرضوا صرف إلى الفقراء والمساكين وقفا عليهم؛ لأن القصد به الثواب الجاري عليه على وجه الدوام، وإنما قدمنا الأقارب على المساكين لكونهم أولى، فإذا لم يكونوا فالمساكين أهل لذلك، فصرف إليهم إلا على قول من قال: إنه يصرف إلى ورثة الواقف ملكا لهم فإنه يصرف عند عدمهم إلى بيت المال؛ لأنه بطل الوقف فيه بانقطاعه، وصار ميراثا لا وارث له، فكان بيت المال به أولى.
3 - وقال أيضا (2) : فصل: فإن قال: وقفت هذا، وسكت، أو قال: صدقة موقوفة، ولم يذكر سبيله، فلا نص فيه. وقال ابن حامد : يصح الوقف. قال القاضي: هو قياس قول أحمد، فإنه قال في النذر المطلق: ينعقد موجبا لكفارة يمين.
وهذا قول مالك، والشافعي في أحد قوليه؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فوجب أن يصح مطلقه؛ كالأضحية والوصية، ولو قال: وصيت بثلث مالي صح، وإذا صح صرف إلى مصارف الوقف المنقطع بعد انقراض الموقوف عليه.
4 - وقال أيضا (3) : وإن وقف على من يجوز الوقف عليه، ثم على من لا يجوز الوقف عليه، مثل: أن يقف على أولاده ثم على البيع، صح الوقف أيضا، ويرجع بعد انقراض من جاز الوقف عليه إلى من يصرف إليه
__________
(1) [ المغني ] وعليه [ الشرح الكبير] (6\217).
(2) [ المغني ] وعليه [ الشرح الكبير] (6\217).
(3) [ المغني ] وعليه [ الشرح الكبير] (6\218).

الوقف المنقطع؛ لأن ذكره لمن لا يجوز الوقف عليه وعدمه واحد، ويحتمل أن لا يصح الوقف؛ لأنه جمع بين ما يجوز وما لا يجوز فأشبه تفريق الصفقة.
5 - وقال أيضا (1) : فصل: وإن كان الوقف منقطع الابتداء، مثل أن يقفه على من لا يجوز الوقف عليه كنفسه، أو أم ولده، أو عبده، أو كنيسة، أو مجهول، فإن لم يذكر له مآلا يجوز الوقف عليه فالوقف باطل، وكذلك إن جعل مآله مما لا يجوز الوقف عليه؛ لأنه أخل بأحد شرطي الوقف فبطل، كما لو وقف ما لا يجوز وقفه، وإن جعل له مآلا يجوز الوقف عليه، مثل: أن يقفه على عبده، ثم على المساكين ففي صحته وجهان، بناء على تفريق الصفقة، وللشافعي فيه قولان، كالوجهين، فإذا قلنا: يصح، وهو قول القاضي، وكان من لا يجوز الوقف عليه ممن لا يمكن اعتبار انقراضه؛ كالميت والمجهول والكنائس- صرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه؛ لأننا لما صححنا الوقف مع ذكر ما لا يجوز الوقف عليه فقد ألغيناه؛ فإنه يتعذر التصحيح مع اعتباره.
وإن كان من لا يجوز الوقف عليه يمكن اعتبار انقراضه، كأم ولده، وعبد معين، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه ينصرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه، كالتي قبلها، ذكره أبو الخطاب .
والثاني: أنه ينصرف في الحال إلى مصرف الوقف المنقطع، إلى أن
__________
(1) [ المغني ] وعليه [ الشرح الكبير] (6\218).

ينقرض من لا يجوز الوقف عليه، فإذا انقرض صرف إلى من يجوز.
وهذا الوجه الذي ذكره القاضي، وابن عقيل؛ لأن الواقف إنما جعله وقفا على من يجوز بشرط انقراض هذا، فلا يثبت بدونه، وفارق ما لا يمكن اعتبار انقراضه، فإنه تعذر اعتباره، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين. اهـ.
6 - وقال (1) أيضا: فصل: وإن كان الوقف صحيح الطرفين، منقطع الوسط، مثل: أن يقف على ولده ثم على عبيده ثم على المساكين خرج في صحة الوقف وجهان، كمنقطع الانتهاء، ثم ينظر فيما لا يجوز الوقف عليه، فإن لم يمكن اعتبار انقراضه ألغيناه إذا قلنا بالصحة، وإن أمكن اعتبار انقراضه فهل يعتبر أو يلغى؟ على وجهين، كما تقدم، وإن كان منقطع الطرفين صحيح الوسط، كرجل وقف على عبيده، ثم على أولاده، ثم على الكنيسة خرج في صحته أيضا وجهان، ومصرفه بعد من يجوز إلى مصرف الوقف المنقطع . اهـ.
7 - وذكر الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله عن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (2) قوله: وأما الوقف الذي لم يذكر له مصرف إذا انقرض الموقوف عليهم فمشهور المذهب أنه يكون لورثة الواقف وقفا عليهم نسبا بقدر إرثهم، ويقع الحجب بينهم، فللبنت مع الابن الثلث والباقي له، وإن كان الوارث أخا شقيقا وأخا لأب انفرد به الشقيق.
__________
(1) [ المغني ] وعليه [ الشرح الكبير] (6\219).
(2) [الدرر السنية], المجلد الثاني، الجزء الخامس (246).

وقال ابن أبي موسى : يكون ملكا للورثة، قال الشيخ تقي الدين : وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد، وقال الشافعي : يكون وقفا على أقرب الناس للواقف، الذكر والأنثى فيه سواء، واختار الموفق: أنه يصرف إلى المساكين، وهو رواية عن أحمد، فإن كان في أقارب الواقف فقراء فهم أحق به من غيرهم لا على سبيل الوجوب. اهـ.
8 - قال ابن قدامة (1) : فصل: ولا يشترط القبول إلا أن يكون على آدمي معين، ففيه وجهان:
أحدهما: يشترط ذلك، فإن لم يقبله أو رده بطل في حقه دون من بعده، وكان كما لو وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز، يصرف في الحال إلى من بعده، وفيه وجه آخر: أنه إن كان من لا يجوز يعرف انقراضه، كرجل معين، صرف إلى مصرف الوقف المنقطع إلى أن ينقرض، ثم يصرف إلى من بعده، وإن وقف على جهة تنقطع، ولم يذكر له مآلا، وكذا على من يجوز ثم على من لا يجوز، أو قال: وقفت، وسكت، انصرف بعد انقراض من يجوز الوقف عليه إلى ورثة الواقف وقفا عليهم في إحدى الروايتين، والأخرى إلى أقرب عصبته، وهل يختص به فقراؤهم؟ على وجهين:
وقال القاضي في موضع: يكون وقفا على المساكين. وإن قال: وقفته سنة لم يصح. ويحتمل أن يصح، ويصرف بعدها مصرف المنقطع.
9 - وفي حاشية المقنع (2) قوله: ( وكان كما لو وقف على من لا
__________
(1) [المقنع] (2\314) وما بعدها.
(2) [حاشية المقنع] (2\314).

يجوز. . .) إلخ هذا الوقف المنقطع الابتداء، وهو صحيح على الصحيح من المذهب؛ لأن الواقف قصد صيرورة الوقف إليه في الجملة، ولا حالة يمكن انتظارها، فوجب الصرف إليه لئلا يفوت غرض الواقف، ولئلا تبطل فائدة الصحة.
10 - وفيها أيضا (1) قوله : (وإن وقف على جهة تنقطع) وجملة ذلك... وإن كان غير معلوم الانتهاء، وهي مسألة الكتاب، مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره للمساكين ولا لجهة غير منقطعة، فالمذهب: الصحة، وبه قال مالك، وأبو يوسف، والشافعي في أحد قولين؛ لأنه معلوم المصرف فصح، كما لو صرح بمصرفه؛ إذ المطلق يحمل على العرف، كنقد البلد، وحينئذ يصرف إلى ورثة الواقف وقفا عليهم، وهذا المذهب؛ لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى الناس به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: « صدقتك على غير ذي رحمك صدقة، وصدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة » ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: « إنك أن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس » (2) ، ولأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل، فعليها يقسم على قدر إرثهم، جزم به في [الفروع] وغيره، قال القاضي: فللبنت مع الابن الثلث، وله الباقي، وللأخ من الأم مع الأخ للأب السدس، وله ما بقي، وإن كان أخ وجد قاسمه، وإن كان أخ وعم انفرد به الأخ، وإن كان عم وابن عم انفرد به العم.
__________
(1) [حاشية المقنع] (2\315) وما بعدها.
(2) صحيح البخاري المناقب (3721),صحيح مسلم الوصية (1628),سنن الترمذي الوصايا (2116),سنن النسائي الوصايا (3628),سنن أبو داود الوصايا (2864),سنن ابن ماجه الوصايا (2708),موطأ مالك الأقضية (1495),سنن الدارمي الوصايا (3196).

وقال الحارثي : وهذا تخصيص بمن يرث من الأقارب في حال دون حال، وتفضيل لبعض على بعض، ولو وقف على أقاربه لما قالوا فيه بهذا. التخصيص والتفضيل، وكذا لو وقف على أولاده أو أولاد زيد لا يفضل فيه الذكر على الأنثى، وقد قالوا هنا: إنما ينتقل إلى الأقارب وقفا. انتهى.
فظاهر كلامه أنه مال إلى عدم المفاضلة وما هو ببعيد، قاله صاحب [الإنصاف]، قال في [الفائق]: وعنه في أقاربه ذكرهم وأنثاهم بالسوية، ويختص به الوارث. انتهى.
11 - ومنها أيضا (1) قوله : (وكذا إذا وقف على من يجوز) الوقف عليه كأولاده (ثم على من لا يجوز، أو وقفه وسكت) فإنه يصرف إلى ورثة الواقف نسبا حين الانقراض.
12 - وفيها أيضا (2) فائدتان : إذا انقطعت الجهة الموقوف عليها في حياة الواقف، بأن وقف على أولاده، أو أولاد زيد فقط فانقرضوا في حياته رجع الوقف إلى الواقف وقفا عليه، ولو وقف على أولاده وأنسالهم، على أنه من توفي منهم من غير ولد رجع نصيبه إلى أقرب الناس إليه، فتوفي أحد أولاد الواقف من غير ولد، والأب الواقف حي فهل يعود نصيبه إليه؛ لكونه أقرب الناس إليه أم لا؟ تخرج على ما قبلها. والتي قبلها هي ما ذكرها بقوله: قوله: (وكذا إذا وقف على من يجوز الوقف عليه كأولاده، ثم على من لا يجوز، أو وقفه وسكت؛ فإنه يصرف إلى ورثة الواقف نسبا حين
__________
(1) [حاشية المقنع] (2\316).
(2) [حاشية المقنع] (2\316).

الانقراض).
13 - ومنها أيضا (1) : الثانية : للوقف صفات :
إحداهما : متصل الابتداء والوسط والانتهاء.
الثانية : منقطع الابتداء متصل الانتهاء.
الثالثة : متصل الابتداء منقطع الانتهاء، عكس الذي قبله.
الرابعة : متصل الابتداء والانتهاء منقطع الوسط.
الخامسة : عكس الذي قبله: منقطع الطرفين صحيح الوسط، وأمثلتها واضحة، وكلها صحيحة على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب.
السادسة : منقطع الأول والوسط والآخر، مثل: أن يقف على من لا يصح الوقف عليه ويسكت، أو يذكر ما لا يصح الوقف عليه أيضا، فهذا باطل بلا نزاع بين الأصحاب، فالصفة الأولى : هي الأصل في كلام المصنف وغيره، والصفة الثانية : تؤخذ من كلام المصنف حيث قال: وكان كما لو وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز. والصفة الثالثة : تؤخذ من كلامه أيضا حيث قال : وإن وقف على جهة تنقطع ولم يذكر له مآلا، أو على من يجوز ثم على من لا يجوز، والرابعة والخامسة لم يذكرهما المصنف، لكن الحكم واحد.
14 - ومنها أيضا (2) : قوله: (والأخرى إلى أقرب عصبته) أي: لأنهم أقاربه وأولى الناس ببره؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: « ابدأ بمن تعول،
__________
(1) [المقنع] وعليه الحاشية (2\316).
(2) [حاشية المقنع] (2\316).

أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك » (1) رواه النسائي ، فعلى الروايتين يكون وقفا على الصحيح من المذهب؛ لأن الملك زال بالوقف فلا يعود ملكا، نص عليه، وعنه يكون ملكا، قال في [ الفائق]: وقيل: يكون ملكا، اختاره الخرقي، قال في [ المغني ]: ويحتمله كلام الخرقي، قال في [الفائق]: وقال ابن أبي موسى : إن رجع إلى الورثة كان ملكا بخلاف العصبة، قال الشيخ تقي الدين : وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد، قال في الشرح: وقال شيخنا: ولا يقوى عندي رجوعه إليهم, فإن استحقاقهم لهذا دون غيرهم من الناس لا يكون إلا بدليل من نص أو إجماع، ولا نعلم فيه نصا ولا إجماعا. ولا يصح قياسه على ميراث، ولا الوالي؛ لأن علته لا تحقق هاهنا، وأقرب الأقوال فيه صرفه إلى المساكين، وهو رواية ثالثة عن أحمد، واختارها جماعة من الأصحاب؛ لأنهم مصارف مال الله تعالى وحقوقه، فإن كان في أقارب الواقف مساكين كانوا أولى به لا على سبيل الوجوب، كما أنهم أولى بزكاته وصلاته مع جواز الصرف إلى غيرهم، فإن لم يكن للواقف أقارب، أو كان له أقارب فانقرضوا صرف إلى الفقراء والمساكين وقفا عليهم؛ لأن القصد به الثواب الجاري عليه على وجه الدوام، وهذا الصحيح من المذهب . اهـ.
15 - وقال في المقنع (2) : وإذا وقف على ثلاثة ثم على المساكين فمن مات منهم رجع نصيبه إلى الآخرين .
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2532).
(2) [المقنع] (2\319) وما بعدها.

قال في الحاشية (1) قوله: (وإن وقف على ثلاثة . . ) إلخ أي: كزيد وعمرو وبكر، وهذا المذهب وعليه الأصحاب، لأنه الموقوف عليه أولا، وعوده إلى المساكين مشروط بانقراضهم، إذ استحقاق المساكين مرتب بثم، ولو وقف على ثلاثة ولم يذكر له مآلا، فمن مات منهم فحكم نصيبه حكم المنقطع، كما لو ماتوا جميعا. قاله الحارثي، قال: وعلى ما في الكتاب -أي: المقنع- يصرف إلى من بقي، وقطع به في القواعد، قال في [المبدع]: وهو أظهر، قال في [التنقيح]: وهو أقوى، وجزم به في [المنتهى]، وإن قال: وقفته على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على الفقراء، فالصحيح من المذهب: أن هذا ترتيب جملة على مثلها لا يستحق البطن الثاني شيئا قبل انقراض الأول، وقيل: ترتيب أفراد، فيستحق الولد نصيب أبيه بعد موته، فهو من ترتيب الأفراد بين كل شخص وأبيه، اختاره الشيخ تقي الدين، وصاحب [الفائق].
قال الشيخ تقي الدين : فعلى هذا الأظهر استحقاق الولد، وإن لم يستحق أبوه شيئا، وقال أيضا - في من وقف على ولديه نصفين ثم أولادهما وأولاد أولادهما، وعقبهما بعدهما بطنا بعد بطن -: أنه ينتقل نصيب كل واحد إلى ولده، ثم ولد ولده، وقال: من ظن أن الوقف كالإرث، فإن لم يكن أبوه أخذ شيئا لم يأخذ هو، فلم يقله أحد من الأئمة، ولم يدر ما يقول؛ ولهذا لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضهم لم تحرم الثانية مع وجود الشروط فيهم إجماعا ولا فرق . اهـ.
__________
(1) [حاشية المقنع] (2\320).

16 - قال ابن قدامة (1) : فصل: وما فضل من حصر المسجد وزيته ولم يحتج إليه جاز أن يجعل في مسجد آخر، أو يتصدق من ذلك على فقراء جيرانه وغيرهم، وكذلك إن فضل من قصبه أو شيء من نقضه. قال أحمد في مسجد بني فبقي من خشبه أو قصبه أو شيء من نقضه - قال: يعان به في مسجد آخر، أو كما قال.
وقال المروذي : سألت أبا عبد الله عن بواري المسجد (2) إذا فضل منه الشيء أو الخشبة، قال: يتصدق به، وأرى أنه قد احتج بكسوة البيت إذا تخرقت تصدق بها، وقال في موضع آخر: قد كان شيبة يتصدق بخلقان الكعبة . وروى الخلال بإسناده عن علقمة، عن أمه، أن شيبة بن عثمان الحجبي جاء إلى عائشة رضي الله عنها فقال: (يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تكثر عليها فننزعها، فنحفر لها آبارا فندفنها فيها حتى لا تلبسها الحائض والجنب) قالت عائشة : (بئس ما صنعت، ولم تصب، إن ثياب الكعبة إذا نزعت لم يضرها من لبسها من حائض أو جنب، ولكن لو بعتها وجعلت ثمنها في سبيل الله والمساكين) فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع فيضع ثمنها حيث أمرته عائشة، وهذه قصة مثلها ينتشر، ولم ينكر فكان إجماعا؛ ولأنه مال الله تعالى لم يبق له مصرف، فصرف إلى المساكين، كالوقف المنقطع .
17 - وقال ابن قدامة أيضا (3) : وما فضل من حصره وزيته جاز صرفه
__________
(1) [المغني] وعليه [الشرح الكبير] (6\229، 230).
(2) بواري المسجد: حصره.
(3) المقنع، (2\331)

إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين . قال في الحاشية (1) : قوله: (وما فضل من حصره. .إلخ) وعبارة الوجيز (وما فضل عن حاجته) وهي أولى، جاز صرفه إلى مسجد آخر، وقال أحمد رحمه الله: لأنه انتفاع في جنس ما وقف له والصدقة به على فقراء المسلمين، ونص عليه، وهذا المذهب، وعنه: يجوز صرفه في مثله دون الصدقة به، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى، وقال: يجوز أيضا صرفه في سائر المصالح .
18 - وقال ابن قدامة (2) : وإن عين رجلا أن يحج فأبى أن يحج بطل التعيين، ويحج عنه بأقل ما يمكن إنسان ثقة سواه ويصرف الباقي إلى الورثة .
19 - قال في [الإقناع] وشرحه (3) : ( وما فضل عن حاجة المسجد من حصره وزيته ومغله وأنقاضه وآلته وثمنها) إذا بيعت (جاز صرفه إلى مسجد آخر محتاج) إليه؛ لأنه صرف في نوع المعين (و) جازت (الصدقة بها) أي: بالمذكورات (على فقراء المسلمين)؛ لأنه في معنى المنقطع، قال الحارثي : وإنما لم يرصد؛ لما فيه من التعطل فيخالف المقصود، ولو توقعت الحاجة في زمن آخر ولا ريع يسد مسدها لم يصرف في غيرها؛ لأن الأصل الصرف في الجهة المعينة، وإنما سومح بغيرها حيث لا حاجة، حذرا من التعطل، وخص أبو الخطاب والمجد الفقراء بفقراء جيرانه لاختصاصهم بمزيد ملازمته، والعناية بمصلحته. قال الحارثي : والأول
__________
(1) [حاشية المقنع] (2\331).
(2) [المغني] (6\131).
(3) [الإقناع] وشرحه (4\249)، [الفروع] (4\630).

أشبه (قال الشيخ) يجوز صرف الفاضل في مثله (وفي سائر المصالح و) في (بناء مساكن لمستحق ريعه القائم بمصلحته وفضل غلة موقوف على معين استحقاقه مقدر) من الوقف (يتعين إرصاده. ذكره) القاضي محمد (أبو الحسين واقتصر عليه الحارثي ) قال: وأما فضل غلة الموقوف على معين أو معينين، أو طائفة معينة فتعين إرصاده. ذكره القاضي أبو الحسين في فضل غلة الموقوف على نفقة إنسان، وإنما يتأتى إذا كان الصرف مقدرا، أما عند عدم التقدير فلا فضل إذ الغلة مستغرقة . اهـ.
وقال في [المنتهى] وشرحه (1) : ( وفضل غلة موقوف على معين) كزيد أو ولده (استحقاقه مقدر) بأن قال: يعطى من ريعه كل شهر عشرة دراهم مثلا وريعه أكثر (يتعين إرصاده) أي: الفضل؛ لأنه ربما احتيج إليه بعد . اهـ.
20 - وسئل شيخ الإسلام رحمه الله السؤال (2) : رجل وقف وقفا على مسجد، وأكفان الموتى، وشرط فيه الأرشد فالأرشد من ورثته، ثم للحاكم، وشرط لإمام المسجد ستة دراهم، والمؤذن والقيم بالتربة ستة دراهم، وشرط لهما دارين لسكناهما، ثم إن ريع الوقف زاد خمسة أمثاله، بحيث لا يحتاج الأكفان إلى زيادة، فجعل لهما الحاكم كل شهر ثلاثين درهما، ثم اطلع بعد ذلك على شرط الواقف فتوقف أن يصرف عليهم ما زاد على شرط الواقف، فهل يجوز له ذلك؟ وهل يجوز لهما تناوله؟
__________
(1) [المنتهى] وشرحه (2\516).
(2) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] (31\17، 19).

فأجاب : نعم، يجوز أن يعطى الإمام والمؤذن من مثل هذا الوقف الفائض رزق مثلهما، وإن كان زائدا على ثلثين، بل إذا كانا فقيرين، وليس لما زاد مصرف معروف جاز أن يصرف إليهما منه تمام كفايتهما. وذلك لوجهين:
أحدهما : أن تقدير الواقف دراهم مقدرة في وقف مقدار ريع قد يراد به النسبة، مثل أن يشرط له عشرة، والمغل مائة، ويراد به العشر، فإن كان هناك قرينة تدل على إرادة هذا عمل به. ومن المعلوم في العرف أن الوقف إذا كان مغله مائة درهم، وشرط له ستة، ثم صار خمسمائة، فإن العادة في مثل هذا أن يشرط له أضعاف ذلك، مثل خمسة أمثاله، ولم تجر عادة من شرط ستة من مائة أن يشترط ستة من خمسمائة، فجعل كلام الناس على ما جرت به عادتهم في خطابهم.
الثاني : أن الواقف لو لم يشترط هذا فزائد الوقف يصرف في المصالح التي هي نظير مصالحه، وما يشبهها، مثل صرفه في مساجد أخر، وفي فقراء الجيران، ونحو ذلك؛ لأن الأمر دائر بين أن يصرف في مثل ذلك، أو يرصد لما يحدث من عمارة، ونحوه، ورصده دائما مع زيادة الريع لا فائدة فيه، بل فيه مضرة، وهو حبسه لمن يتولى عليهم من الظالمين المباشرين والمتولين الذين يأخذونه بغير حق.
وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له، ففضلت فضلة؛ فأمر بصرفها في المكاتبين والسبب فيه: أنه إذا تعذر المعين، صار الصرف إلى نوعه؛ ولهذا كان الصحيح في الوقف هو هذا القول، وأن يتصدق بما فضل من كسوته، كما كان عمر بن الخطاب

يتصدق كل عام بكسوة الكعبة يقسمها بين الحجاج.
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن صرف الفاضل إلى إمامه ومؤذنه مع الاستحقاق أولى من الصرف إلى غيرهما، وتقدير الواقف لا يمنع استحقاق الزيادة بسبب آخر كما لا يمنع استحقاق غير مسجده.
وإذا كان كذلك وقدر الأكفان التي هي المصروفة ببعض الريع صرف ما يفضل إلى الإمام والمؤذن ما ذكر . اهـ.
21 - وقال أيضا (1) : وما فضل من ريع وقف عن مصلحته صرف في نظيره أو مصلحة المسلمين من أهل ناحيته، ولم يحبس المال بلا فائدة.
وقد كان عمر بن الخطاب كل عام يقسم كسوة الكعبة بين الحجيج، ونظير كسوة الكعبة المسجد المستغنى عنه من الحصر ونحوها، وأمر بتحويل مسجد الكوفة من مكان إلى مكان حتى صار موضع الأول سوقا .
22 - وسئل عن الوقف إذا فضل من ريعه واستغني عنه (2) .
فأجاب : يصرف في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فضل عن مصالحه صرف في مسجد آخر؛ لأن الواقف غرضه في الجنس، والجنس واحد، فلو قدر أن المسجد الأول خرب ولم ينتفع به أحد صرف ريعه في مسجد آخر، فكذلك إذا فضل عن مصلحته شيء فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه، ولا إلى تعطيله، فصرفه في جنس المقصود أولى، وهو أقرب الطرق إلى مقصود الواقف، وقد روى أحمد عن علي رضي الله عنه أنه
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (31\93).
(2) مجموع الفتاوى (31\206، 207).

حض الناس على إعطاء مكاتب ففضل شيء عن حاجته فصرفه في المكاتبين .
23 - وقال أيضا (1) جوابا عن وقف على تكفين الموتى يفيض كل سنة على الشرط، هل يتصدق به؟ وهل يعطى منه أقارب الواقف الفقراء؟
قال: إذا فاض الوقف عن الأكفان صرف الفاضل في مصالح المسلمين، وإذا كان أقاربه محاويج فهم أحق من غيرهم .
24 - وقال أيضا (2) : وأما ما فضل من الريع عن المصارف المشروطة ومصارف المساجد فيصرف في جنس ذلك، مثل عمارة مسجد آخر، ومصالحها، أو إلى جنس المصالح، ولا يحبس المال أبدا لغير علة محدودة، لا سيما في مساجد قد علم أن ريعها يفضل عن كفايتها دائما، فإن حبس مثل هذا المال من الفساد { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } (3) ).
25 - وقال أيضا (4) : وأما الفاضل عن مصلحة المسجد فيجوز صرفه في مسجد آخر، وفي المستحقين للصدقة من أقارب الواقف وجيران المسجد .
26 - قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (5) : وأجاب الشيخ عبد الله أبابطين الذي وقف على عمارة مواعين سبل، وذكر أن المواعين ما تحتمل غلة ذلك الوقف، فالذي أرى أن يصرف فيما يناسب ذلك، مثل: أن
__________
(1) مجموع الفتاوى (31\203).
(2) مجموع الفتاوى (31\210).
(3) سورة البقرة الآية 205
(4) مجموع الفتاوى (31\258).
(5) مجموع ابن قاسم [ الدرر السنية] المجلد الثاني، الجزء الخامس (248).

يشترى به قدر ونحوه من نظيره من الوجه المذكور، فإن كان ذلك وصية لا وقفا فيعمر منها الماعون وما فضل للورثة . اهـ.
مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي :
1 - اختلف في الوقف المنقطع ابتداؤه أو وسطه أو نهايته . فقيل: لا يصح، لأن القصد بالوقف التأبيد ودوام الإحسان والثواب، وعليه يرجع إلى الواقف أو ورثته ملكا، وقيل: يصح المنقطع بأنواعه الثلاثة، وعليه فمنقطع الانتهاء يصرف بعد انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف وقفا عليهم أو ملكا لهم؛ لأنهم أولى الناس بإحسانه وصلته للآثار الواردة في ذلك، وهل يرجع إلى أقرب عصبته، لأنهم خصوا بالعقل عنه وبميراث مواليه أو إلى ورثته، لأنهم أحق بماله بعد وفاته فكانوا أحق بصلاته في حياته، خلاف، وهل يختص به فقراؤهم؛ لأنهم مصارف الإحسان والتبرعات، أو يشترك معهم أغنياؤهم لصلاحية الوقف عليهم كالفقراء، خلاف، وهل يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم أو تقسم غلته بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، خلاف. وفي رواية ثانية عن الإمام أحمد أنه يرجع بعد انقراض الموقوف عليهم للمساكين؛ لأنهم مصرف الصدقات، وحقوق الله تعالى التي لم يعين لها مصرف . وفي رواية ثالثة عنه: أنه يوضع في بيت المال؛ لأنه لا مستحق له، فأشبه مال من لا وارث له، واختار ابن قدامة صرفه للمساكين، فإن كان في أقارب الواقف فقراء فهم أولى به لا على سبيل الوجوب، ولا يرجع هذا الوقف بحال إلى الواقف، لأنه أزاله عن ملكه لله تعالى كالإعتاق.
وأما منقطع الابتداء فإن لم يذكر له مآلا، أو ذكر مآلا لا يجوز الوقف

عليه كان باطلا، وإن ذكر مآلا لا يجوز الوقف عليه ففي صحته وجهان، بناء على تفريق الصفقة، وعلى تقدير صحته يصرف إلى من بعد الانقطاع إن كان الموقوف عليه مما لا يمكن اعتبار انقراضه، كالميت والمجهول والكنائس؛ لأن الموقوف عليه لغو؛ لتعذر التصحيح مع اعتباره، وإن كان الموقوف عليه يمكن اعتبار انقراضه كعبده ففي مصرفه وجهان:
الأول : يصرف إلى من بعده في الحال.
الثاني : يصرف في الحال إلى مصرف الوقف المنقطع الآخر إلى أن ينقرض من وقف عليه وقفا غير جائز ثم ينتقل لمن بعده؛ لأن شرط الانتقال -وهو الانقراض- لم يوجد.
وإن كان منقطع الوسط ففي صحة الوقف وجهان، كمنقطع الانتهاء، وعلى تقدير الصحة فإن لم يمكن اعتبار انقراض الوسط الموقوف عليه كالمجهول ألغي وانتقل إلى ما بعده، وإن أمكن اعتبار إلغائه، كالوقف على معين ثم أم ولده ثم المساكين ففيه الوجهان السابقان في منقطع الابتداء.
2 - إذا قال: وقفت، وسكت فلم يبين مصرفا فلا نص فيه، وقياس قول أحمد : أنه يصح قياسا على الصدقة والهدي والضحية والوصية، والنذر، ولأنه أزاله الواقف عن ملكه لله تعالى على وجه القربة فوجب أن يصح، وعليه فمصرفه مصرف الوقف المنقطع الآخر بعد انقراض الموقوف عليهم، ومشهور المذهب: أنه يكون لورثة الواقف وقفا عليهم تصرف غلته إليهم نسبا بقدر إرثهم، ويقع فيها الحجب كالإرث. ومال الحارثي إلى عدم المفاضلة، وقيل: يرجع إلى الورثة ملكا، قال الشيخ تقي الدين : وهذا أصح وأشبه بقول أحمد، واختار الموفق صرفه إلى

المساكين، وهو رواية عن أحمد، فإن كان في أقارب الواقف فقراء فهم أحق به لا على سبيل الوجوب.
3 - لا يشترط لصحة الوقف قبول الموقوف عليه إلا إن كان آدميا معينا ففيه وجهان: أحدهما: لا يشترط فيصرف إليه، والثاني: يشترط فإن قبل صرف إليه، وإن لم يقبل أو رد بطل في حقه دون من بعده وصرف إلى من بعده في الحال، أو يصرف مصرف الوقف المنقطع الابتداء أو الوسط.
4 - إذا قال: وقفت داري سنة مثلا لم يصح؛ لأن مقتضى الوقف التأبيد، ويحتمل أن يصح ويصرف بعدها مصرف المنقطع.
5 - إن وقف على زيد وعمرو وبكر مثلا، ثم على المساكين، فمات أحدهم عاد نصيبه إلى الآخرين؛ لأن مصرفه إليهم أولا، وصرفه للمساكين مرتب بثم، فلا ينقل إليهم منه شيء إلا بعد انقراضهم، ولو عين الموقوف عليهم ولم يذكر مآلا فمصرفه مصرف المنقطع الآخر، وقيل: يرجع لمن بقي منهم، قال في المبدع: وهو أظهر، قال في التنقيح: وهو أقوى.
6 - لو قال: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على الفقراء . فهل هو ترتيب جملة أو ترتيب إفراد؟ الصحيح من المذهب، الأول، واختار الثاني ابن تيمية، وصاحب الفائق، وعلى الأول: لا يستحق البطن الثاني شيئا إلا بعد انقراض البطن الأول كله، وعلى الثاني: يستحق الولد نصيب أبيه بعد موته، بل يستحق ذلك ولو حرم منه أبوه، وكذلك الحكم لو وقف على أولاده بطنا بعد بطن.
7 - ما فضل عن حاجة المسجد من حصره ونقضه وآلته وزيته وخشبه

وعن ثمنها إن بيعت جاز صرفه إلى مسجد آخر دون التصدق به على الفقراء أو إنفاقه في المصالح العامة، واختاره الشيخ تقي الدين؛ لأنه انتفاع به في جنس ما وقف عليه، وقيل: يجوز ذلك، ويجوز التصدق به، وصرفه في المصالح العامة، وهل يؤثر بذلك جيرانه الفقراء لمزيد اختصاصهم به أو يعم؟ خلاف.
واستدل لذلك: بأن عمر كان يقسم كسوة الكعبة كل عام بين الحجاج، وبأن عليا حض الناس على جمع مال إعانة لمكاتب ففضلت فضلة فأمر بصرفها في المكاتبين، وكل هذا ما لم تتوقع حاجة المسجد إلى الفاضل من وقفه، وإلا رصد له؛ لأن الأصل الصرف في الجهة المعينة. وأما فضل غلة موقوف على معين، أو معينين مع تقدير استحقاق المعين، مثل أن يقال: يعطى من ريعه كل شهر عشرة دراهم مثلا، فيتعين إرصاد الفضل؛ لأنه ربما احتيج إليه بعد، وإن كان الاستحقاق غير معين فلا فضل؛ لأن الغلة مستغرقة.
8 - إذا عين الواقف لكل من إمام المسجد ومؤذنه والقيم عليه مقدارا من غلة الوقف فزادت الغلة أضعافا مضاعفة جاز أن يعطى كل من أولئك زيادة على ما عين بقدر نسبة الزيادة في الريع؛ لجواز أن يكون الواقف أراد بما عينه لكل منهم نسبة من الريع وقت الوقف، وجاز أن يعطى كل منهم قدر كفايته من فائض الريع الذي لا تتوقع الحاجة إليه بعد لإفراد الزيادة؛ لأن فائض الوقف يصرف في جنس ما وقف عليه، أو يتصدق به على الفقراء، وصرفه في ذلك خير من حبسه وتعطيله.
وجملة القول : أن ما حكم فيه من الأوقاف بالبطلان لفقد شرط من

شروطها عاد للواقف إن كان حيا، ولورثته إن كان ميتا، وما خرج منها مخرج العمرى من أجل صيغته، كما في بعض النقول عن المالكية فيما سبق فمرجعه بعد انتهاء أمد العمرى إلى المعمر، أو ورثته إن كان ميتا عند مالك رضي الله عنه، وما حكم بصحته من الأوقاف فمرجع غلته زمن الانقطاع، أو بعد الانقراض، ومرجع فاضل غلته من المسائل الاجتهادية التي للنظر فيها مجال؛ لعدم ورود نص صريح فيها عن المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ فلذا اختلف الفقهاء في مرجع ذلك، ولكل وجهته.
والله الموفق. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

(3)
الرهنهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
الرهن
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة السابقة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في شعبان عام 1395 هـ بالمحضر رقم9 وتاريخ 11\8\1395هـ من إدراج اشتراط قبض الرهن في لزومه وعدم اشتراطه - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مشتملا على العناصر الآتية :
1 - تعريف الرهن لغة واصطلاحا والمناسبة بين المعنيين.
2 - حكم الرهن مع الأدلة والمناقشة.
3 - حكمته.
4 - الخلاف في اشتراط استدامة قبض الرهن في لزومه وعدم اشتراطه مع الأدلة والمناقشة.
5 - الخلاف في اشتراط استدامة القبض وعدم اشتراطها مع الأدلة والمناقشة.
6 - ما يعتبر قبضا للرهن مع الأدلة والمناقشة.

7 - حكم الرهن بعد القبض مع الأدلة والمناقشة.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه .

أولا: تعريف الرهن لغة وشرعا والمناسبة بين المعنيين :
أ-

تعريفه لغة
1 - قال أحمد بن فارس بن زكريا في مادة (الرهن): ( الراء والهاء والنون أصل يدل على ثبات شيء يمسك بحق أو غيره من ذلك الرهن: الشيء يرهن، تقول: رهنت الشيء رهنا ولا يقال: أرهنت، والشيء الراهن الثابت الدائم ورهن لك الشيء أقام، وأرهنته لك أقمته، وقال أبو زيد : أرهنت في السلعة إرهانا: غاليت فيها وهو من الغلاء خاصة قال:
(
عبدية أرهنت فيها الدنانير
):
وعبارة أبي عبيد في هذا شاذة، لكن ابن السكيت وغيره قالوا: أرهنت أسلفت وهذا هو الصحيح. قالوا كلهم: أرهنت ولدي إرهانا أخطرتهم، فأما تسميتهم المهزول من الناس والإبل راهنا فهو من الباب؛ لأنهم جعلوه كأنه من هزاله يثبت مكانه لا يتحرك، قال:
أما تري جسمي خلا قد رهن ... هزلا وما مجد الرجال في السمن
يقال: منه رهن رهونا (1) 2 - قال محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في مادة (رهن): الرهن: ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك، والجمع: رهان ورهون ورهن ورهين. رهنه الشيء ورهن عنده وأرهنه جعله رهنا، وارتهن منه: أخذه
__________
(1) [معجم مقاييس اللغة]، (2\452 ، 453).

رهنا. ورهنته لساني، ولا تقل أرهنته، وكل ما احتبس به شيء فرهينه ومرتهنه.
والرهان والمراهنة: المخاطرة والمسابقة على الخيل.
وقرئ { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (1) (ورهن)
وقيل في قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } (2) أنها بمعنى الفاعل، أي: ثابتة مقيمة، وقيل: بمعنى المفعول، أي: كل نفس مقامة في جزاء ما قدم من عمله، ولما كان الرهن يتصور منه حبسه استعير ذلك للمحتبس أي شيء كان، قال تعالى: { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } (3) .
3 - وقال محمد بن مكرم المعروف بابن منظور بعد كلام يتفق مع ما سبق قال: وفي الحديث « كل غلام رهينة بعقيقته » (4) (5) الرهينة: الرهن والهاء للمبالغة كالشتيمة والشتم ثم استعملا في معنى المرهون قيل: هو رهن بكذا ورهينة بكذا، ومعنى قوله: « رهينة بعقيقته » (6) : أن العقيقة لازمة له لا بد منها، فشبهه في لزومها له وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن . انتهى المقصود.
وقال أيضا: قال ابن عرفة : الرهن في كلام العرب هو الشيء الملزم يقال: هذا راهن لك، أي: دائم محبوس عليك .
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة المدثر الآية 38
(3) سورة الطور الآية 21
(4) سنن الترمذي الأضاحي (1522),سنن النسائي العقيقة (4220),سنن أبو داود الضحايا (2837),سنن ابن ماجه الذبائح (3165),مسند أحمد بن حنبل (5/8),سنن الدارمي الأضاحي (1969).
(5) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي: في كتاب العقيقة.
(6) سنن الترمذي الأضاحي (1522),سنن النسائي العقيقة (4220),سنن أبو داود الضحايا (2837),سنن ابن ماجه الذبائح (3165),مسند أحمد بن حنبل (5/8),سنن الدارمي الأضاحي (1969).

ب-

تعريفه شرعا
1 - تعريفه عند الحنفية : هو جعل الشيء محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من

الرهن كالديون.
ونوقش : بأنه تعريف للرهن التام واللازم وإلا فعلى انعقاد الرهن لا يلزم الحبس، بل ذلك بالقبض، ورد : بأنه يتحقق بانعقاد الرهن معنى جعل الشيء محبوسا بحق إلا أن للعاقد الرجوع عنه ما لم يقبض المرتهن الرهن فقبل القبض يوجد معنى الحبس لا بلزومه فيصدق هذا التعريف على الرهن قبل تمامه ولزومه.
ونوقش أيضا : بأن قوله: (كالدين) إشارة إلى أن الرهن لا يجوز إلا بالدين؛ لأنه هو الحق الممكن استيفاؤه من الرهن لعدم تعينه.
ورد : بأن الظاهر المتبادر من الكاف في قوله: (كالدين) أنه يجوز الرهن بغير الدين أيضا، وأن الكاف ليست للاستقصاء. فإن لم يكن في قوله كالدين إشارة إلى جواز الرهن بغير الدين أيضا فلا أقل من أن لا يكون فيه إشارة إلى انحصار ما يجوز الرهن به في الدين (1) .
2 - تعريفه عند المالكية : الرهن إعطاء امرئ وثيقة بحق. واعترض عليه بأنه غير مانع لدخول اليمين ليقضيه إلى أجل كذا ودفع الوثيقة المشهودة بالدين ونحو ذلك.
وأجيب عن ذلك : بمنع قبول دخول شيء منها تحته؛ لأن لفظة إعطاء تقتضي حقيقة دفع شيء، ولفظ وثيقة يقتضي صحة رجوع ذلك
__________
(1) [الهداية شرح البداية]، و[العناية على الهداية]، ويرجع إلى [فتح القدير]، مع تكملته [نتائج الأفكار]، (8\189)، وإلى [كنز الدقائق]، وشرحه [تبيين الحقائق]، (6\62)، وإلى [تنوير الأبصار]، وشرحه [الدر المختار] و[حاشية ابن عابدين] (5\317)، وإلى [ملتقى الأبحر]، وشرحه [مجمع الأنهر]، (2\584)، و[تحفة الفقهاء]، للسمرقندي (3\49).

الشيء لدافعه إذا استوفى ذلك ، وذلك لا يصح في الحميل واليمين والأخذ والرد حقيقة ، وأما الوثيقة بذكر الحق فهو وإن صح دفعها فلا يلزم ردها بعد استيفاء الحق .
وأجيب عن ذلك : بأن لفظة إعطاء يقتضي دفع الشيء إلى آخذه ، وإن أراد دفعه حسب المحسوس منع ؛ لأنه يصح أن يقول : أعطاه عهد الله . والأصل الحقيقة ، وإن أراد الأعم منه ، ومن المعنى دخل ما وقع النقص به ، وإن سلم كونه حسيا بطل بإخراج رهن الدين ، وقوله : لفظة ( وثيقة ) تقتضي صحة رجوع ذلك الشيء إلى آخذه ، المراد به : أنه لا يلزم من نفي لزوم ردها نفي صحته ، واللازم عنده إنما هو الصحة .
واعترض عليه أيضا : بأنه لا يتناول الرهن بحال ؛ لأنه اسم والإعطاء مصدر وهما متباينان ، أي : أن الرهن وإن كان في الأصل مصدرا ، ولكن الأغلب في عرف الفقهاء إطلاقه على الشيء المرهون ، فكان الأولى أن يقول : معطى أو ما أشبهه .
وأجيب عن ذلك : بأن الرهن كما يطلق في عرف الفقهاء على الشيء المرهون ، فكذلك أيضا يطلق على الرهن الذي هو المصدر ، كما إذا قالوا : يصح الرهن ويبطل الرهن ، ويصح رهن كذا ولا يصح رهن كذا ، فاستعمال الرهن بمعنى : المصدر شائع في عرف الفقهاء ؛ فلذلك عرف بالتعريف السابق (1) .
__________
(1) [ الرسالة ] لابن أبي زيد القيرواني ، وشرحها لأحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى الرئيس المعروف بزروق ، وشرحها لقاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي القروي ( 2\ 206 ) ، و [ مختصر خليل ] وشرحه للمدوي ، و [ الشرح الكبير ] عليه ( 3\ 231 ) ، و [ مواهب الجليل شرح مختصر خليل ] ( 5\2 ) .

3 - تعريفه عند الشافعية : جعل عين مال متمولة وثيقة بدين ليستوفى منها عند تعذر وفائه (1) .
4 - تعريفه عند الحنابلة : المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه (2) .
__________
(1) [ نهاية المحتاج شرح المنهاج ] ( 4\ 234 ) ، ويرجع إلى [ حاشية قليوبي ] ( 2\ 261 ) ، و [ المجموع شرح المهذب ] ( 13\ 177 ) .
(2) [ المغني والشرح ] ( 4\417 ) ، و [ مطالب أولي النهى ] ( 3\ 248 ) ، و [ الإنصاف ] ( 5\ 137 ) .

ج -

المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي
وأما المناسبة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الاصطلاحي فهي أن المعنى اللغوي في الثبات والدوام واللزوم والحبس ، وهذا موجود في المعنى الاصطلاحي ، وذلك أن المرهون محبوس عن التصرف فيه حتى يستوفي المرتهن حقه ، والحبس في الثبات واللزوم ، ولكن المعنى الشرعي قيد بقيود تجعله أخص من المعنى اللغوي ، كما سبق في التعريف الشرعي .

ثانيا : حكمه :
اتفق أهل العلم على مشروعيته في السفر ، واختلفوا في مشروعيته في الحضر ، فنذكر الخلاف في ذلك مع الأدلة والمناقشة :
القول الأول : أنه مشروع في الحضر كالسفر ، وهو مذهب : الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة .
واستدلوا بالكتاب والسنة والمعنى :

أما الكتاب : فقوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } (1)
وجه الدلالة : أن الله تعالى لما ذكر الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال - عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن ، ونص على السفر الذي هو غالب الأعذار ، لا سيما في ذلك الوقت ؛ لكثرة الغزو ، ويدخل في ذلك المعنى : كل عذر ، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر ؛ كأوقات أشغال الناس وبالليل ، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن .
وأما السنة : فما ثبت في [ الصحيحين ] وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها « أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد » (2) ، وعن أنس قال : « رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله » (3) رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه .
وجه الدلالة : أنه صلى الله عليه وسلم رهن في الحضر ولم يكتب .
وأما المعنى : فإنه عقد وثيقة لجانب الاستيفاء ، فيعتبر بالوثيقة في طرف الوجوب وهي الكفالة .
القول الثاني : أنه لا يصح في الحضر ، قال القرطبي : ولم يرد عن أحد منعه في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود ، وقال ابن حزم : لا يجوز اشتراط الرهن إلا في البيع إلى أجل مسمى في السفر خاصة وفي السلم إلى أجل مسمى في السفر خاصة أو في القرض إلى أجل مسمى في السفر
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) صحيح البخاري البيوع (1962),صحيح مسلم المساقاة (1603),سنن النسائي البيوع (4650),سنن ابن ماجه الأحكام (2436),مسند أحمد بن حنبل (6/42).
(3) صحيح البخاري البيوع (1963),سنن الترمذي البيوع (1215),سنن النسائي البيوع (4610),سنن ابن ماجه الأحكام (2437).

خاصة مع عدم الكاتب في كلا الوجهين .
واستدلوا بالكتاب والسنة والاستصحاب :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } (1) إلى قوله { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (2)
وجه الدلالة : ذكر اشتراط السفر في الرهن في حال عدم وجود كاتب ، فدل ذلك بمفهومه أنه لا يشرع في الحضر .
ونوقش : بأنه لا مفهوم مخالفة للشرط ؛ لأنه منزل على غالب الأحوال ، والدليل عليه : أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى في الحضر ورهن ولم يكتب ؛ وذلك لأن الكاتب إنما يعدم في السفر غالبا فأما في الحضر فلا يكون ذلك بحال ، ومن القواعد المقررة للأخذ بدليل الخطاب أن من شروطه أن لا يجري على الغالب ، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } (3) الآية .
وأما السنة : فما ثبت عن عائشة رضي الله عنها : « أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه » (4) .
وجه الدلالة : أن الحديث ليس فيه اشتراط الرهن ، وهم لا يمنعون من الرهن بغير أن يشترط في العقد ؛ لأنه تطوع من الراهن حينئذ بما لم ينه عنه حينئذ .
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سورة النساء الآية 23
(4) صحيح البخاري الرهن (2374),صحيح مسلم المساقاة (1603),سنن النسائي البيوع (4609),سنن ابن ماجه الأحكام (2436),مسند أحمد بن حنبل (6/42).

ونوقش : بأنه جاء في حديث أبي رافع في بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إياه إلى اليهودي يسلفه طعاما لضيف نزل به ، فأبى إلا برهن ، فرهانه درعه .
وأجيب عنه : بأنه خبر انفرد به موسى بن عبيدة الربذي ، وهو ضعيف ، ضعفه ابن القطان وابن معين والبخاري وابن المديني ، وقال أحمد بن حنبل : لا تحل الرواية عنه .
وأما الاستصحاب : فهو أن الأصل عدم مشروعيته في الحضر ، ولم يرد ما يخرج عن هذا الأصل ، فيبقى عدم المشروعية على ما هو عليه .
ويمكن أن يناقش : بأن الاستصحاب إنما يعمل به مع عدم الدليل المعارض له ، وقد ورد ما يدل على رفعه ، وهو ما سبق من الدليل الدال على أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعه في الحضر من يهودي في طعام أخذه لأهله ، وما روى البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة » (1) .
إذا علم ما سبق من مشروعية الرهن في السفر ، فهل ذلك على سبيل الوجوب في السفر والحضر معا أو أنه ليس بواجب فيهما ، أو أنه واجب في السفر دون الحضر ؟
وفيما يلي ما تيسر من أقوال أهل العلم في ذلك مع الأدلة والمناقشة :
القول الأول : أنه ليس بواجب لا في السفر ولا في الحضر ، وممن قال بذلك : الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ، قال ابن قدامة : والرهن غير واجب لا نعلم فيه مخالفا .
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } (2)
__________
(1) صحيح البخاري الرهن (2377),سنن الترمذي البيوع (1254),سنن أبو داود البيوع (3526),سنن ابن ماجه الأحكام (2440),مسند أحمد بن حنبل (2/472).
(2) سورة البقرة الآية 282

إلى قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (1)
وجه الدلالة : قال الشافعي - رحمه الله - : فكان بينا في الآية الأمر بالكتاب في الحضر والسفر ، وذكر الله تعالى الرهن إذا كانوا مسافرين ولم يجدوا كاتبا فكان معقولا - والله أعلم - فيها أنهم أمروا بالكتاب والرهن احتياطا لمالك الحق بالوثيقة والمملوك عليه بأن لا ينسى ويذكر ؛ لأنه فرض عليهم أن يكتبوا ولا أن يأخذوا رهنا لقول الله عز وجل : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } (2)
فكان معقولا أن الوثيقة في الحق في السفر والإعواز غير محرمة - والله أعلم - في الحضر وغير الإعواز ، ولا بأس بالرهن في الحق الحال والدين في الحضر والسفر ، وما قلت من هذا مما لا أعلم فيه خلافا .
ونوقش : بأن الجملة خبرية ولكنها جارية مجرى الأمر فإن قوله تعالى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (3) أي : فارهنوا واقبضوا ؛ لأنه مصدر ، أي : مفرده جعل جزاء للشرط بالفاء ، فجرى مجرى الأمر ، كقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } (4) { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } (5)
وأجيب عن ذلك : بأن الأمر في الآية يراد به الإرشاد لا الإيجاب ، يدل على ذلك قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } (6)
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سورة البقرة الآية 283
(4) سورة النساء الآية 92
(5) سورة محمد الآية 4
(6) سورة البقرة الآية 283

وأما السنة : فما سبق من الأدلة الدالة على مشروعية الرهن في الحضر وليس فيها الأمر به فدل على أنه ليس بواجب .
وأما المعنى : فإن الرهن وثيقة بالدين فلم يجب كالضمان والكتابة ، ولأنه أمر به عند إعواز الكتابة ، والكتابة غير واجبة فكذلك بدلها .
القول الثاني : وجوب الرهن في السفر ، وبه قال ابن حزم ومن وافقه واستدل لذلك بالكتاب والسنة .
أما الكتاب : فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } (1) إلى قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (2)
ويمكن أن يقال : إن وجه الاستدلال من الآية أن جملة { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (3) خبر معناه : الأمر ، كما سبق في مناقشة الاستدلال بالآية للقول الأول ، ويناقش الاستدلال بها على الوجوب بما سبق .
وأما السنة : فقوله صلى الله عليه وسلم : « كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط » (4) .
وجه الدلالة : أن اشتراط الرهن في السفر ورد في كتاب الله مأمورا به فوجب الأخذ به ولم يرد اشتراطه في الحضر فكان مردودا (5) .
وأجيب بما تقدم من جعل الأمر بالرهن في السفر على الإرشاد وأن
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سورة البقرة الآية 283
(4) صحيح البخاري العتق (2424),صحيح مسلم العتق (1504),سنن النسائي الطلاق (3451),سنن أبو داود العتق (3929),سنن ابن ماجه الأحكام (2521),مسند أحمد بن حنبل (6/213),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(5) [ تحفة الفقهاء ] للسمرقندي ( 3\ 50 ) ، و [ الهداية شرح البداية ] ( 4\ 126 ) ، و [ أحكام القرآن ] لابن العربي ( 1\ 260 ) ، و [ الجامع لأحكام القرآن ] ، للقرطبي ( 3\ 407 ) ، و [ بداية المجتهد ] ( 2\ 228 ) ، و [ الأم ] للشافعي ( 3\ 122 ) ، و [ المهذب ] ( 1\ 305 ) ، وشرحه [ المجموع ] ( 13\ 177 ) ، و [ نهاية المحتاج ] ( 4\ 234 ) ، و [ المغني ] ومعه [ الشرح الكبير ] ( 4\ 417 ، 418 ) ، و [ المحلى ] ( 8\ 87 ، 88 ) .

الأصل في عقود المعاملات الإباحة حتى يرد المنع منها ولم يرد .

ثالثا : حكمته : من قواعد شريعة الإسلام اليسر والسهولة ورفع المشقة ودفعها وهذا باب واسع في الشريعة ، فإن من تدبرها بتوسع ودقة وإنصاف يجد ذلك واضحا في العبادات والمعاملات وبيانه فيما نحن فيه : - أن الشخص تختلف أحواله غنى وفقرا والمال حبيب إلى النفوس ، فقد يأتي على الإنسان وقت يكون في أمس الحاجة إلى النقود ليقضي بها حوائجه الضرورية ولا يجد من يتصدق عليه ولا من يقرضه ولا يجد ضمينا ولا كفيلا ، فيأتي إلى شخص يطلب منه مالا بثمن في الذمة يتفقان عليه ، أو يطلب منه قرضا على أن يجعل عنده مقابل ذلك رهنا يحفظه عنده حتى يرد عليه حقه - فشرع الله الرهن لمصالح الراهن والمرتهن والمجتمع . أما الراهن فيقضي حاجته ، وفي ذلك تنفيس لكربته ، وإزالة ما في نفسه من الغم ، وقد يبيع فيه ويشتري ويكون سببا لغناه .
وأما المرتهن فيطمئن على حقه ويحصل له ربح مشروع ، وإذا حسنت نيته حصل له الأجر عند الله .
وأما المصالح العائدة إلى المجتمع فتوسيع التعامل التجاري وتبادل المحبة والمودة بين الناس ، فهو تعاون على البر والتقوى ، وفيه تنفيس للكروب ، وتقليل للخصومات ، وراحة لولاة الأمور من القضاة والأمراء (1) .
__________
(1) [ رد المختار ] ، ( 5\ 317 ) ، و [ مواهب البديع في حكمة التشريع ] ص 28 ، و [ حكمة التشريع وفلسفته ] ( 2\ 221 ) .

رابعا : الخلاف في أن قبض الرهن شرط في لزومه أو ليس بشرط , بل يلزم بمجرد العقد مع الأدلة والمناقشة :
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
فمنهم من قال : إن قبض الرهن شرط في لزومه .
ومنهم من قال : إنه ليس بشرط ، بل يلزم بمجرد العقد .
وفيما يلي ذكر القولين وما بني عليه كل قول وما أورد على مدارك كل منهما في المناقشة :
القول الأول : أن قبض الرهن شرط في لزومه وممن قال بهذا القول : أبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي وأصحابه وهو المقدم عند الحنابلة ومذهب الظاهرية ، قال المرغيناتي : والقبض شرط اللزوم . وقال الكرخي : قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والحسن : لا يجوز إلا مقبوضا . وقال المزني نقلا عن الشافعي : ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضا من جائز الأمر حين رهن وحين أقبض . . . ولو مات المرتهن قبل القبض فللراهن تسليم الرهن إلى وارثه ومنعه . وقال ابن قدامة : ولا يلزم الرهن إلا بالقبض .
واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى .
أما الكتاب : فقوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (1)
وتقرير الاستدلال بالآية من وجهين :
الوجه الأول : ما ذكره الشافعي - رحمه الله - بعد الاستدلال بهذه الآية قال : فلما كان معقولا أن الرهن غير مملوك الرقبة للمرتهن ملك البيع ، ولا
__________
(1) سورة البقرة الآية 283

مملوك المنفعة ملك الإجارة ، لم يجز أن يكون رهنا إلا بما أجازه الله عز وجل به من أن يكون مقبوضا ، ولما لم يجز فللراهن ما لم يقبضه المرتهن منعه منه ، وكذلك لو أذن في قبضه فلم يقبض المرتهن حتى رجع الراهن في الرهن كان له ذلك لما وصفت من أنه لا يكون رهنا إلا بأن يكون مقبوضا .
وكذلك كل ما لم يقع إلا بأمرين ، فليس يتم بأحدهما دون الآخر ، مثل : الهبات التي لا تجوز إلا مقبوضة وما في معناها .
الوجه الثاني : ما ذكره الجصاص بقوله : قوله : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (1) عطف على ما تقدم من قوله : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } (2)
فلما كان استيفاء العدد المذكور والصفة المشروطة للشهود واجبا وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط من الصفة ، فلا يصح إلا عليها ، كما لا تصح شهادة الشهود إلا على الأوصاف المذكورة ، إذا كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضي للإيجاب .
ويمكن أن يناقش ما ذكره الإمام الشافعي في بيان الاستدلال بالآية :
بأنا وإن سلمنا أنه لا يكون رهنا بالفعل إلا بما ذكر الله من القبض ، لكن ليس هذا موضوع النزاع بيننا وبين المستدل ، إنما موضوعه : أنه يلزم المدين بمقتضى العقد أن يسلم ما اتفق عليه أن يكون رهنا إلى الدائن ليكون وثيقة بالدين ، وهذا هو المفهوم من كون الآية خبرا بمعنى الأمر ، إذ
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة البقرة الآية 282

التقدير : إذا اتفق المستدين مع الدائن على رهن في الدين لزمه أن يقبضه إياه . وقولكم : كل ما لا يقع إلا بأمرين لا يتم بأحدهما صحيح ، ولكن عقد البيع لأجل مثلا بشرط الرهن يتضمن أمرين :
الأول : إلزام المدين بدفع الرهن ، وهذا مبني على الشرط .
والثاني : صحة الرهن وهي متوقفة على قبض الدائن ، فتبين بهذا أن ليس معنا أمر واحد متوقف وقوعه على أمرين ، بل أمران :
الأول : ويتعلق بالمدين ، وهو إلزامه بالدفع بناء على الشرط .
الثاني : الصحة ، وهي متوقفة على أمر يتعلق بالدائن وهو القبض .
وأما القياس على الهبة ونحوها : فغير صحيح ؛ لأن الهبة محض تبرع ؛ والرهن حق لازم لا تبرع ؛ لكونه تابعا لعقد مفاوضة مشروطا فيه فكان قياسا مع الفارق .
ويمكن أن يناقش ما ذكره الجصاص : بتسليم عطف الآية على الأمر باستشهاد شاهدين ، ووجوب تنفيذ الرهن على الصفة المذكورة في الآية وهي القبض ، لكن هذا يقتضي إلزام المدين بإقباضه للدائن وفاء بالشرط وهذا محل النزاع ، ولا يلزم الدائن قبضه بدليل قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } (1) ولأنه حق له شرع للإرفاق به فمن حقه أن يتنازل عنه ، بل من حقه أن يتنازل عن أصل الدين ، لكن إن قبضه صح واستوفى منه وإن لم يقبضه بعد عرضه عليه أو تمكينه منه لم يصح واعتبر متنازلا عن حقه في الإرفاق .
وأما المعنى فمن وجهين : الأول : أن الرهن عقد تبرع فيتم بالتبرع ؛ كالهبة والصدقة والقبض شرط اللزوم ، الثاني : أنه رهن لم يقبض فلا يلزم
__________
(1) سورة البقرة الآية 283

إقباضه كما لو مات الراهن .
ويجاب عن الاستدلال بالمعنى :
أولا : بمنع كون الرهن تبرعا أو كالتبرع فلا يصح قياسه على عقود التبرع من الهبة ونحوها .
وثانيا : بأنه إن كان عدم القبض بالفعل لتفريط من الدائن أو تنازل عن الرهن - بطل ، ولم يلزم الراهن بإقباضه سواء كان الدائن حيا أو ميتا ، وإن كان بغير تفريط من الدائن وإنما كان لمماطلة المدين مثلا - ألزمه بإقباضه إن كان حيا ، وألزم ورثته إن كان ميتا . ثم إن الدليل فيه مصادرة لما فيه من الاستدلال بالدعوى على نفسها .
القول الثاني : أن الرهن يلزم بمجرد العقد ولو لم يقبض المرهون وهو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - في الرهن إذا كان متعينا .
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (1)
وجه الدلالة : ما ذكره الباجي بقوله : فلنا من الآية دليلان :
أحدهما : أنه قال عز من قائل : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (2)
فأثبتها رهنا قبل القبض .
والآخر : قوله : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (3) أمر ؛ لأنه لو كان خبرا لم يصح أن يوجد رهن غير مقبوض . ومن قولهم : إن الراهن لو جن أو أغمي عليه ثم أفاق فسلم فيصح فيثبت أنه أمر .
ويمكن أن يجاب عن الوجه الأول : بأن إثباتها رهانا قبل القبض لا يلزم منه أن يكون الرهن لازما بالعقد إذ يمكن أن يضاف إليها هذا الوصف مع
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سورة البقرة الآية 283

القول بالصحة .
وعن الوجه الثاني : بالتسليم : أن الخبر بمعنى : الأمر ، لكن لم يعمل بموجب الأمر الذي هو الوجوب واللزوم في حق نفس الرهن حيث لم يجب الرهن على المديون بالإجماع - فوجب أن يعمل به في شرطه وهو : القبض ونظير ذلك قوله عليه السلام : « الحنطة بالحنطة مثلا بمثل » (1) (2) . بالنصب . أي : بيعوا ، فلم يعمل الأمر في نفس البيع ؛ لأن البيع مباح غير واجب فصرف إلى شرطه وهو المماثلة فيما يجري فيه الربا .
ونوقش هذا الجواب بأوجه :
أحدها : يجوز أن يكون الأمر للإباحة بقرينة الإجماع فينصرف إلى الرهن لا إلى القبض .
وأجيب عنه : أن الأمر في الوجوب حقيقة ، كما هو معروف والإجماع لا يصلح قرينة للمجاز ؛ لأن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، والإجماع لم يكن حال استعمل هذا اللفظ وإعمال الحقيقة في الرهن غير ممكن فصرف إلى القبض .
الثاني : أن القبض إن كان شرطا للجواز واللزوم وسلم ذلك فقد ارتفع النزاع ولا حاجة إلى الدليل .
وأجيب عنه : بأن الدليل لإلزام مالك - رحمه الله - ، حيث لا يجعله شرط اللزوم ولا الجواز ، وذلك أن الله تعالى وصف الرهن بالقبض كما وصف التجارة بالتراضي ، والتراضي وصف لازم في التجارة فكذا القبض في
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1588),سنن النسائي البيوع (4559),سنن ابن ماجه التجارات (2255),مسند أحمد بن حنبل (2/232).
(2) رواه مسلم في المساقاة ، والترمذي والنسائي في البيوع وغيرهم .

الرهن ولا يقال : هذا استدلال بمفهوم الصفة ، وهو ليس بصحيح عند من يقول به ؛ إما لأنه مذهب الجمهور من الحنفية ومن وافقهم ، وإما لأن عدم الصحة إنما يكون إذا لم تكن الصفة مقصودة ، وقد سبق أن الوجوب منصرف إليها .
الثالث : أن الآية متروكة الظاهر ؛ لأن ظاهرها يدل على أن الرهن إنما يكون في السفر ، كما قال به مجاهد والضحاك وداود وقد ترك ، ومتروك الظاهر لا يصلح حجة .
وأجيب عنه : بعدم التسليم أن متروك الظاهر بدليل ليس بحجة ؛ لأن النصوص المؤولة متروكة الظاهر ، وهي عامة الدلائل .
الدليل الثاني : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (1)
وجه الدلالة : أن هذا عقد مأمور بالوفاء به ، والأمر يقتضي الوجوب .
الدليل الثالث : قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } (2)
وجه الدلالة : أن هذا عهد أمر بالوفاء به والأمر يقتضي الوجوب .
ويمكن أن يجاب عن الاستدلال بالآيتين : بأنهما من الأدلة العامة في وجوب الوفاء بالعقود والعهود وأدلة اشتراط القبض في اللزوم خاص والأصل يقتضي حمل العام على الخاص واستثنائه منه .
ويرد الجواب : بأن أدلة اشتراط القبض في اللزوم لا تصلح لتخصيص
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة الإسراء الآية 34

هذه الأدلة ، كما تقدم من المناقشة التي لا ينهض معها الاحتجاج .
وأما السنة : فقوله صلى الله عليه وسلم : « المؤمنون عند شروطهم » (1) .
وجه الدلالة : أن هذا شرط فيجب الوفاء به .
ويمكن أن يجاب عن ذلك : بما تقدم من الإجابة عن الاستدلال بالآيتين .
وأما المعنى : فإنه عقد يلزم بالقبض فلزم قبله كالبيع .
ونوقش : بأنه قياس مع الفارق ذلك أن عقد البيع للتجارة وعقد الرهن للإرفاق (2) .
__________
(1) رواه البخاري وأبو داود .
(2) [ تحفة الفقهاء ] ( 3\ 50 ) ، و [ البداية ] وشرحها [ الهداية ] ، ( 4\ 126 ) ، و [ نتائج الأفكار ] وتكملته [ فتح القدير ] ( 190 - 193 ) ، و [ مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر ] ( 2\ 584 ، 585 ) ، من كتب المالكية . ويرجع إلى [ قوانين الأحكام الشرعية ] 352 ، و [ المنتقى شرح الموطأ ] ( 5\248 ) ، و [ أحكام القرآن ] لابن العربي ( 1\ 260 ) ، و [ بداية المجتهد ] ( 2\ 227 ) ، و [ الجامع لأحكام القرآن ] للقرطبي ( 3\ 410 ) ، ومن كتب الشافعية : يرجع إلى [ الأم ] ( 3\ 123 ) ، و [ مختصر المزني ] ، ( 2\ 210 ) ، و [ المنهاج ] وشرحه [ نهاية المحتاج ] 254 ، ومن كتب الحنابلة : [ المغني ] ، وعليه [ الشرح الكبير ] ( 4\ 419 ، 420 ) ، و [ المقنع ] مع حاشيته ( 2\ 103 ) ، و [ المذهب الأحمد في مذهب الإمام أحمد ] لابن الجوزي 61 ، و [ المحلى ] ( 8\ 88 ) .

خامسا : الخلاف في اشتراط استدامة القبض ، مع الأدلة والمناقشة :
اختلف أهل العلم في اشتراط استدامة القبض :
فمنهم من قال : إن استدامة القبض شرط ، ومنهم من قال : إنها ليست بشرط .
وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة .
القول الأول : أن استدامة القبض شرط .

وممن قال بهذا : أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد وابن حزم ومن وافقهم من أهل العلم ، قال السمرقندي : ومنها - أي : شروط جواز الرهن - دوام القبض بما به يكون محوزا في يده . ونقل القرطبي عن أبي حنيفة : أنه إذا رجع بعارية أو وديعة لم يبطل . وقال ابن حزم : يشترط دوام القبض . وقال القرطبي بعد سياقه لرأي ابن حزم أنه شرط قال : هذا هو المعتمد عندنا .
وقال ابن رشد : وعند مالك : أن من شرط صحة الرهن استدامة القبض ، وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن بعارية أو وديعة أو غير ذلك فقد خرج من اللزوم .
وقال ابن قدامة : استدامة القبض شرط للزوم الرهن ، فإذا أخرجه المرتهن عن يده باختياره زال لزوم الرهن وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أو غير ذلك ، فإذا عاد فرده إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق .
قال أحمد في رواية ابن منصور : إذا ارتهن دارا ثم أكراها صاحبها خرجت من الرهن ، فإذا رجعت إليه صارت رهنا . انتهى المقصود .
وقال المرداوي على قول ابن قدامة ، واستدامته شرط في اللزوم ، قال : هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب . يعني : حيثما قلنا : لا يلزم إلا بالقبض ، وممن قال به من أئمة الدعوة - رحمهم الله - : الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والشيخ عبد الرحمن بن حسن .
واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (1)
وتقرير الاستدلال بالآية من وجهين :
__________
(1) سورة البقرة الآية 283

الأول : أنه إذا خرج عن يد القابض لم يصدق عليه ذلك اللفظ لغة فلا يصدق عليه حكما .
الثاني : أنها إحدى حالتي الرهن فكان القبض فيها شرطا كالابتداء .
وأما المعنى : فإن مقصود الرهن هو الاستحقاق وذلك لا يحصل إلا بهذا .
القول الثاني : أن استدامة القبض ليست بشرط ، وممن قال بهذا : الإمام الشافعي ومن وافقه من أصحابه وغيرهم ، وهو رواية عن أحمد في المتعين . قال الربيع بن سليمان نقلا عن الشافعي : إذا قبض الرهن مرة واحدة فقد تم وصار المرتهن أولى به من غرماء الراهن ، ولم يكن للراهن إخراجه من الرهن حتى يبرأ مما في الرهن من الحق . . . ومضى إلى أن قال : وسواء إذا قبض المرتهن الرهن مرة ورده ، وعنه : أن استدامته في المتعين ليست بشرط ، واختاره في [ الفائق ] .
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى .
أما الكتاب فقوله تعالى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (1)
وجه الدلالة : أن الرهن إذا وجد مرة فقد صح ولزم فلا يحل ذلك إعارته وغير ذلك من التصرف فيه .
وأما السنة : فقوله صلى الله عليه وسلم : « لبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا ، والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة » (2) أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم .
وجه الدلالة : أن الراهن لا يركبها إلا وهي خارجة عن قبض المرتهن .
ونوقش : بأن قوله صلى الله عليه وسلم : « وعلى الذي يحلب ويركب النفقة » (3) كلام مبهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) صحيح البخاري الرهن (2377),سنن الترمذي البيوع (1254),سنن أبو داود البيوع (3526),سنن ابن ماجه الأحكام (2440),مسند أحمد بن حنبل (2/472).
(3) صحيح البخاري الرهن (2377),سنن الترمذي البيوع (1254),سنن أبو داود البيوع (3526),سنن ابن ماجه الأحكام (2440),مسند أحمد بن حنبل (2/472).

ليس في نفس اللفظ منه بيان من يركب ويحلب من الراهن والمرتهن والعدل الموضوع على يده الرهن ، فصرفه إلى الراهن يحتاج إلى دليل .
وأجيب عن ذلك : بأنه ورد ما يدل على أن المقصود به : الراهن ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه » (1) رواه الإمام الشافعي في [ الأم ] مرسلا ثم وصله عن الثقة عن يحيى بن أبي أنيسة عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة ، وقال الحافظ ابن حجر في [ البلوغ ] : رواه الدارقطني والحاكم ورجاله ثقات ، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله .
وأما المعنى : فقياسه على البيع والهبة ، فكما يكون البيع مضمونا من البائع ، فإذا قبضه المشتري مرة صار في ضمانه ، فإن رده إلى البائع بإجارة أو وديعة فهو من مال المبتاع ولا ينفسخ ضمانه بما ذكر ، فكذلك الرهن ، وكما تكون الهبات وما في معناها غير تامة فإذا قبضها الموهوب له مرة ثم أعارها إلى الواهب أو أكراها منه أو من غيره لم يخرجها عن الهبة .
وقد يناقش قياسه على البيع : بأنه قياس مع الفارق فإن عقد البيع المستوفي للأمور المشروعة لتحقيقه وانتفاء موانعه ينفك الملك من البائع إلى المشتري نقلا مطلقا ، فتكون ذمة البائع مفرغة من تملك هذا البيع وتكون ذمة المشتري مشغولة بتملكه ، فإذا أعاده إلى البائع أو غيره بعارية أو إجارة ونحو ذلك فهذه الإعارة عقد جديد لا صلة له بالعقد الأول ، وهذا بخلاف الرهن ، فإن ملكية الراهن لم تزل عنه ، وإنما انتقل إلى المرتهن على جهة الرقابة ؛ لأجل حفظ حقه ، فإذا رجع إليه اختيارا من المرتهن فقد رجع إلى من يملكه .
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).

وأما قياسه على الهبة : فهو قياس مع الفارق ، وبيانه أن القبض في ابتدائها بتثبيت الملك فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانيا ، والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه واستيفاء دينه من ثمنه ، فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه ولم تحصل وثيقة (1) .
__________
(1) [ تحفة الفقهاء ] ( 1\ 3 ، 5 ) ، و [ قوانين الأحكام الشرعية ] ص 352 ، و [ أحكام القرآن ] لابن العربي ( 3\410 ) ، و [ الجامع لأحكام القرآن ] للقرطبي على تفسير قوله تعالى : ( فرهان مقبوضة ) ، و [ بداية المجتهد ] ( 2\ 228 ) ، و [ الأم ] ( 3\ 124 ) ، و [ مختصر المزني ] بهامش [ الأم ] ( 2\ 210 ) ، و [ الوجيز ] ( 1\ 990 ) ، و [ الروضة ] ( 4\ 85 ، 86 ) ، و [ المنهاج ] وشرحه [ نهاية المحتاج ] ( 4\ 270 ) ، وما بعدها ، و [ المغني ] و [ الشرح الكبير ] ( 4\ 422 ) ، و [ الإنصاف ] ( 5\ 152 ) ، و [ مختصر وشرح وتهذيب سنن أي داود ] ( 5\ 180 ) ، و [ الدرر السنية ] ( 5\ 122 ) .

سادسا : ما يعتبر قبضا للرهن مع الأدلة والمناقشة :
المرهون إما أن يكون مما لا يمكن نقله أو لا ، فالأول : كالدور والأرضين اتفق الفقهاء على أن قبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه لا حائل دونه . وإن كان مما يمكن نقله فإما أن يكون مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مزروعا أو لا . فالأول : قد اتفق الفقهاء على أن قبضه بكيله في المكيل إذا رهن كيلا ، ووزنه إذا رهن وزنا ، وعده إذا رهن عدا ، وذرعه إذا رهن ذرعا ، والثاني : كصبرة من طعام بيعت جزافا ونحوها من المنقولات ، فهل قبضه لا يتم إلا بثقله أو أن التخلية تكون قبضا ؟ قولان :
القول الأول : أنه لا يتم قبض إلا بالفعل ، وممن قال بهذا أبو يوسف من الحنفية ، وهو المذهب عند الحنابلة ، وبه قال ابن حزم ، قال الزيلعي عن أبي يوسف : إن القبض في المنقول لا يثبت إلا بالنقل ، وقال الخرقي : فإن كان مما ينقل فقبض المرتهن له أخذه له إياه من راهنه منقولا ، وقال ابن

حزم : وصفة القبض في الرهن وغيره هو : أن يطلق يده عليه فإن كان مما ينقل نقله إلى نفسه . . . إلخ .
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (1)
وجه الدلالة : ما ذكره صاحب [ مجمع الأنهر ] : أنه أمر بالرهن ؛ لأن المصدر متى قرن بإلغاء محل الجزاء يراد به الأمر كما وقع في كثير من القرآن . والأصل أن المنصوص يراعى وجوده على أكمل الجهات . وناقش ذلك : بأن المنصوص إنما يراعى وجوده على أكمل الجهات إذا نص عليه بالاستقلال ، وأما ما ذكر تبعا للمنصوص فلا يجب أن يراعى وجوده كما ذكر ، فإن التراضي في البيع منصوص عليه بقوله تعالى : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ } (2)
فلو صح ما قال المعترض لبطل بيع المكره ولم يفسد وليس كذلك .
وأجاب عن ذلك : بعدم تسليم هذه الملازمة ، بل الملازم من صحة ما قال المعترض هو ثبوت صحة البيع بالرضا في الجملة على قياس التخلية في الرهن ؛ فإنها قبض في الجملة كما في البيع .
وأما السنة : فمن ذلك ما ثبت في [ الصحيحين ] عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : « كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه » (3) .
وأما المعنى : فما ذكره أبو يوسف من الحنفية من أن قبض الرهن
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة النساء الآية 29
(3) صحيح البخاري البيوع (2017),صحيح مسلم البيوع (1526),سنن النسائي البيوع (4606),سنن ابن ماجه التجارات (2229),مسند أحمد بن حنبل (2/142).

موجب للضمان ابتداء إذ لم يكن الرهن مضمونا على أحد قبل ذلك فلا يثبت إلا بالقبض حقيقة كالغصب .
وناقشه الزيلعي من الحنفية بأن هذا القياس باطل ؛ لأن قبض الرهن مشروع فأشبه البيع ، والغصب ليس بمشروع فلا حاجة لثبوته بدون قبض حقيقة وهو النقل .
القول الثاني : أن تخلية الراهن بين الرهن وبين المرتهن برفع الموانع والتمكين من القبض - قبض حكمي ، وبهذا قال جمهور الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم .
واستدل لهذا القول بالمعنى :
أولا : قال الزيلعي : إن التخلية عبارة عن رفع الموانع من القبض وهو فعل المسلم دون المتسلم والقبض فعل المتسلم وإنما يكتفى فيه بالتخلية ؛ لأنه في غاية ما يقدر عليه ، والقبض فعل غيره فلا يكلف به .
ثانيا : قال صاحب [ مجمع الأنهر ] : إن التخلية في البيع قبض فكذلك في الرهن . وأجاب ابن الهمام عن ذلك بما نقله عن بعض الحنفية بأنه منقوض بصورة الصرف ، فإنه لا بد فيها من القبض بالبراجم ولا يكتفى بالتخلية مع جريان الدليل .
ورد على ذلك : بأن لزوم النقض بالصرف إنما يثبت بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم : يدا بيد كما هو مقرر في موضعه ، والقياس يترك بالنص على ما عرف بخلاف ما نحن فيه ، فإنه لم يرد فيه نص يقتضي حقيقة القبض وعدم كفاية التخلية ، فعملنا بموجب القياس (1) .
__________
(1) [ مجمع الأنهر وملتقى الأبحر ] ( 2\ 585 ، 586 ) ، و [ البداية والهداية والعناية وفتح القدير ] (4\ 126 ) ، و [ رد المختار على الدرانمي ] (5\ 318 ) ، و [ تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ] ( 6\ 3 ) ، و [ أحكام القرآن ] ( 1\ 271 ) ، و [ الجامع لأحكام القرآن ] للقرطبي ( 3\ 410 ) ، و [ المنتقى ] للباجي ( 5\ 248 ) ، و [ الأم ] للشافعي ( 3\ 125 ) ، و [ مختصر المزني ] ( 2\ 210 ) ، و [ روضة الطالبين ] ( 3\ 514 - 522 ) ، و [ نهاية المحتاج شرح المنهاج ] ، ( 4\ 193 ، 194 ) ، و [ الوجيز ] ( 1\ 88 ) ، و [ المغني ] ومعه [ الشرح الكبير ] ( 4\ 403 ) ، و [ الإنصاف ] ( 5\ 150 ، 151 ) ، و [ المحلى ] ( 8\ 89 ) .

سابعا : حكم الرهن بعد القبض :
للمرهون أحكام بعد قبضه تتعلق بمؤنته والانتفاع به ونمائه والتصرف فيه واستيفاء الحق منه وضمانه إذا هلك بنفسه .
وفيما يلي ذكر ما تيسر من الكلام على ذلك :
أ -

مؤنة الرهن
: اختلف أهل العلم فيمن تكون عليه مؤنة الرهن هل تكون على الراهن أو على المرتهن ؟ !
وفيما يلي ذكر الخلاف مع الأدلة والمناقشة :
المذهب الأول : أن مؤنة الرهن من طعام وكسوة ومسكن وحافظ وحرز ومخزن وغير ذلك على الراهن ، وبهذا قال مالك والشافعي والإمام أحمد والعنبري وإسحاق ومن وافقهم من أهل العلم .
واستدلوا بالسنة والمعنى :
أما السنة : فقوله صلى الله عليه وسلم : « الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه » (1) .
وجه الدلالة : ما ذكره عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي بعد كلامه على أن النفقة على الراهن ، وذكره لهذا الحديث قال : وهذا - أي : الإنفاق - من غرمه ؛ لأنه ملكه فكانت عليه نفقته كالذي في يده ، ويلزمه كفنه إن مات ، كما يلزمه في الذي في يده .
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).

وأما المعنى : فما ذكره الشيرازي بقوله : إن الرقبة والمنفعة على ملكه فكانت النفقة عليه .
المذهب الثاني : أن أجرة بيت حفظه وحافظه على المرتهن ، وأجرة راعيه ونفقة الرهن والخراج على الراهن ، وهذا هو المقدم عند الحنفية .
قال الزيلعي : والأصل فيه أن ما يحتاج إليه لمصلحة الرهن بنفسه وتبقيته فهو على الراهن سواء كان في الرهن فضل أو لم يكن ؛ لأن العين باقية على ملكه وكذا منافعه مملوكة فيكون إصلاحه ومؤنته عليه ، كما أن عليه مؤنة ملكه كما في الوديعة ، وذلك مثل النفقة من مأكله ومشربه وأجرة الراعي مثله ؛ لأنه علف البهائم ، ومن هذا الجنس ، كسوة الرقيق ، وأجرة ظئر ولد الراهن ، وكري النهر ، وسقي البستان ، وتلقيح نخيله وجذاذه ، والقيام بمصالحه ، وكل ما كان لحفظه أو لرده إلى يد المرتهن أو لرد جزء منه كمداواة الجرح فهو على المرتهن مثل أجرة الحافظ ؛ لأن الإمساك حق له والحفظ واجب عليه ، فتكون مؤنته عليه ، وكذلك أجرة البيت الذي يحفظ فيه الرهن . انتهى .

ب -

الانتفاع بالمرهون
: هل ينتفع الراهن بالمرهون أو لا ، وكذلك المرتهن ؟
وفيما يلي كلام أهل العلم في انتفاع الراهن أو لا ، ثم كلامهم في انتفاع المرتهن مع الأدلة والمناقشة :
أولا : انتفاع الراهن بالمرهون :
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين :
القول الأول : أنه ينتفع به ، وممن قال بذلك : الشافعي وابن حزم ومن

وافقهما من أهل العلم .
واستدلوا بالسنة والمعنى :
أما السنة : فقوله صلى الله عليه وسلم : « الرهن مركوب ومحلوب » ، قال الشافعي : ومعنى هذا القول : أن من رهن ذات در وظهر لم يمنع من درها وظهرها ، وأصل المعرفة في هذا الباب : أن للمرتهن حقا في رقبة الرهن دون غيره ، ومما يحدث مما يتميز منه غيره ، وكذلك سكنى الدار وزرع الأرضين وغيرها فللراهن أن يستخدم في الرهن عبده ، ويركب دوابه ، ويؤجرها ويحلب درها ويجز صوفها وتأوي بالليل إلى مرتهنها أو إلى يد الموضوعة على يده . انتهى .
وقد قيد الغزالي والشيرازي والنووي كلام الشافعي - رحمه الله - : بأن انتفاع الراهن بالرهن مشروط بأن لا يضر على المرتهن في رهنه . انتهى .
أما المعنى : فما ذكره الشيرازي بقوله : إنه لم يدخل في العقد ولا يضر بالمعقود له فبقي على ملكه وتصرفه كخدمة الأمة المتزوجة ووطء الأمة المستأجرة . انتهى .
القول الثاني : أن الراهن لا ينتفع بالمرهون ، وبهذا قال أبو حنيفة والثوري ومن وافقهما من أهل العلم ، قال ابن رشد : وعمدة هذا المذهب إذا انتفع بالرهن كما إذا أجره بإذن المرتهن كان إخراجا من الرهن ؛ لأن الرهن يقتضي حبسه عند المرتهن أو نائبه على الدوام ، فمتى وجد عقد يستحق به زوال الحبس زال الرهن .
ويمكن أن يناقش ذلك أولا : بأنا لا نسلم أن مقتضى الرهن الحبس ، وإنما مقتضاه تعلق الحق به على وجه تحصل به الوثيقة وذلك غير مناف

للانتفاع به .
وثانيا : سلمنا أن مقتضاه الحبس ؛ لكن ذلك لا يمنع من أن يكون المستأجر نائبا عنه في إمساكه وحبسه ومستوفيا لمنفعته لنفسه .
ثانيا : انتفاع المرتهن بالرهن : الرهن : إما أن يكون مما لا يحتاج إلى مؤنته كالدور ، أو يكون مما يحتاج إلى مؤنته ، وإذا كان مما لا يحتاج إلى مؤنته فقد يكون دين الرهن قرضا وقد يكون غير قرض ، وإذا كان دين الرهن غير قرض فقد يأذن الراهن للمرتهن وقد لا يأذن وفي كل ذلك قد يكون بعوض ، وقد يكون بغير عوض ، وإذا كان بعوض فقد يكون فيه محاباة ، وقد لا يكون فيه محاباة ، وإذا استأجر المرتهن الرهن - مثلا - فهل يؤثر على عقد الرهن أو لا ؟ وإذا اشترط الانتفاع عند عقد الرهن فما حكم الشرط ؟ وإن كان المرهون مما يحتاج إلى مؤنة فقد ينتفع به بعوض أو بغير عوض بإذن الراهن أو بغير إذنه ، وإذا أذن له فقد يكون الرهن مركوبا ومحلوبا أو غيرهما ، وإذا كان غير محلوب ولا مركوب فقد يكون حيوانا أو غير حيوان وإذا كان حيوانا فأنفق عليه بغير نية الرجوع أو بنية الرجوع . وأذن المالك أو لم يأذن أمكنه أن يستأذنه أولا ، وإذا انتفع المرتهن فهل يحسب من دينه .
هذه المسائل التي سبقت تكلم عليها ابن قدامة - رحمه الله - كلاما مفصلا أحببنا ذكر كلامه بدون تصرف .
قال - رحمه الله - على قول الخرقي : ( ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء إلا ما كان مركوبا أو محلوبا فيركب ويحلب بقدر العلف ) . قال : الكلام في هذه المسألة في حالين :

أحدهما : ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال ، لا نعلم في هذا خلافا ؛ لأن الرهن ملك الراهن فكذلك منافعه فليس لغيره أخذها بغير إذنه .
فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن من قرض لم يجز ؛ لأنه يحصل قرضا يجر منفعة وذلك حرام ، قال أحمد : أكره قرض الدور وهو الربا المحض ، يعني : إذا كانت الدار رهنا في قرض ينتفع بها المرتهن . وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك ، روي ذلك عن الحسن وابن سيرين ، وبه قال إسحاق .
فأما إن كان الانتفاع بعوض مثل أن يستأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره ؛ لكونه ما انتفع بالقرض ، بل بالإجارة .
وإن حاباه في ذلك فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض لا يجوز في القرض ويجوز في غيره ومتى استأجرها المرتهن أو استعارها فظاهر كلام أحمد أنها تخرج عن كونها رهنا فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد الرهن بحاله ، قال أحمد في رواية الحسن بن ثواب عن أحمد : إذا كان الرهن دارا فقال المرتهن : اسكنها بكرائها وهي وثيقة بحقي ينتقل فيصير دينا ويتحول عن الرهن ، وكذلك إن أكراها للراهن قال أحمد في رواية ابن منصور : إذا ارتهن دارا ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت إليه صارت رهنا ، والأولى : أنها لا تخرج عن الرهن إذا استأجرها المرتهن أو استعارها ؛ لأن القبض مستدام ولا تنافي بين العقدين . وكلام أحمد في

رواية الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها ، كما في رواية ابن منصور ؛ لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد بخلاف ما إذا سكنها المرتهن ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونا عليه ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا ضمان عليه ، ومبنى ذلك على العارية فإنها عندنا مضمونة وعنده غير مضمونة .
فصل : فإن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن فالشرط فاسد ؛ لأنه ينافي مقتضى الرهن ، وعن أحمد : أنه يجوز في المبيع ، قال القاضي : معناه : أن يقول : بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهرا ، فيكون بيعا وإجارة فهو صحيح ، وإن أطلق فالشرط باطل ؛ لجهالة ثمنه ، وقال مالك : لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين وكرهه في الحيوان والثياب وكرهه في القرض ، ولنا : أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح كما لو شرط في القرض .
فصل : الحال الثاني : ما يحتاج فيه إلى مؤنة فحكم المرتهن في الانتفاع به بعوض أو بغير عوض بإذن الراهن كالقسم الذي قبله ، وإن أذن له في الإنفاق والانتفاع بقدره جاز ؛ لأنه نوع معاوضة وأما مع عدم الإذن فإن الرهن ينقسم قسمين : محلوبا ومركوبا وغيرهما ، فأما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته ، متحريا للعدل في ذلك ، نص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم وأحمد بن القاسم ، واختاره الخرقي وهو قول إسحاق وسواء أنفق مع تعذر النفقة من الراهن ؛ لغيبته أو امتناعه من الإنفاق أو مع القدرة على أخذ النفقة من الراهن واستئذانه ، وعن أحمد رواية أخرى : لا يحتسب له بما أنفق وهو

متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشيء ، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه » (1) ، ولأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به ولا الإنفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن .
ولنا : ما روى البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة » (2) فجعل منفعته بنفقته ، وهذا محل النزاع ، فإن قيل : المراد به : أن الراهن ينفق وينتفع قلنا : لا يصح ؛ لوجهين : أحدهما : أنه قد روي في بعض الألفاظ « إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب ويركب النفقة » (3) فجعل المنفق المرتهن فيكون هو المنتفع . والثاني : أن قوله ( بنفقته ) يشير إلى أن الانتفاع عوض النفقة ، وإنما ذلك حق المرتهن ، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة لأحدهما بالآخر ، ولأن نفقة الحيوان واجبة وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن والنيابة عن المالك فيما وجب عليه ، واستيفاء ذلك من منافعه ، فجاز ذلك كما يجوز للمرأة أخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه والنيابة عنه في الإنفاق عليها والحديث نقول به ، والنماء للراهن ، ولكن للمرتهن ولاية صرفها إلى نفقته ؛ لثبوت يده عليه وولايته ، وهذا فيمن أنفق محتسبا بالرجوع ، فأما إن أنفق متبرعا بغير نية الرجوع لم ينتفع به رواية واحدة .
فصل : وأما غير المحلوب والمركوب فيتنوع إلى نوعين : حيوان
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).
(2) صحيح البخاري الرهن (2377),سنن الترمذي البيوع (1254),سنن أبو داود البيوع (3526),سنن ابن ماجه الأحكام (2440),مسند أحمد بن حنبل (2/472).
(3) صحيح البخاري الرهن (2377),سنن الترمذي البيوع (1254),سنن أبو داود البيوع (3526),سنن ابن ماجه الأحكام (2440),مسند أحمد بن حنبل (2/228).

وغيره .
أما الحيوان كالعبد والأمة ونحوهما فهل للمرتهن أن ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته ؟
ظاهر المذهب : أنه لا يجوز ، ذكره الخرقي ونص عليه أحمد في رواية الأثرم ، قال : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يرهن العبد فيستخدمه ، فقال : الرهن لا ينتفع منه بشيء إلا حديث أبي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف .
قلت له : فإن كان اللبن والركوب أكثر قال : لا ، إلا بقدر ، ونقل حنبل عن أحمد : أن له استخدام العبد أيضا ، وبه قال أبو ثور إذا امتنع المالك من الإنفاق عليه ، قال أبو بكر : خالف حنبل الجماعة ، والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء إلا ما خصه الشرع به ، فإن القياس يقتضي أن لا ينتفع بشيء منه تركناه في المركوب والمحلوب ؛ للأثر ، ففيما عداه يبقى على مقتضى القياس .
النوع الثاني : غير الحيوان كدار استهدمت فعمرها المرتهن لم يرجع بشيء رواية واحدة وليس له الانتفاع بها بقدر نفقته ، فإن عمارتها غير واجبة على الراهن فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه ، فإن فعل كان متبرعا بخلاف الحيوان فإنه يجب على مالكه الإنفاق عليه ؛ لحرمته في نفسه .
فصل : فأما الحيوان إذا أنفق عليه متبرعا لم يرجع بشيء ؛ لأنه تصدق به فلم يرجع بعوضه كما لو تصدق على مسكين . وإن نوى الرجوع على مالكه وكان ذلك بإذن المالك رجع عليه ؛ لأنه ناب عنه في الإنفاق بإذنه فكانت النفقة على المالك ، كما لو وكله في ذلك .

وإن كان بغير إذنه فهل يرجع عليه ؟ يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه ؛ لأنه ناب عنه فيما يلزمه .
وقال أبو الخطاب : إن قدر على استئذانه فلم يستأذنه فهو متبرع لا يرجع بشيء ، وإن عجز عن استئذانه فعلى روايتين ، وكذلك الحكم فيما إذا مات العبد المرهون فكفنه . والأول أقيس في المذهب إذ لا يعتبر في قضاء الدين العجز عن استئذان الغريم .
فصل : وإذا انتفع المرتهن بالرهن باستخدام أو ركوب أو لبس أو استرضاع أو استغلال أو سكنى أو غيره - حسب من دينه بقدر ذلك .
قال أحمد : يوضع عن الراهن بقدر ذلك ؛ لأن المنافع ملك الراهن ، فإذا استوفاها فعليه قيمتها في ذمته للراهن فيتقاص القيمة وقدرها من الدين ويتساقطان .

ج - نماء الرهن :
نماء الرهن بعد ما كان رهنا إما أن يكون متصلا أو منفصلا : فإن كان متصلا كالسمن فإنه يدخل في الرهن بلا خلاف بين العلماء ، وإن كان منفصلا فمن أهل العلم من قال : إنه يكون تابعا للرهن ، ومنهم من قال : إنه لا يتبعه ، ومنهم من فصل .
وفيما يلي ذكر المذاهب مع الأدلة والمناقشة :
المذهب الأول : أن نماء الرهن المنفصل الحادث بعد ما كان الرهن بيد المرتهن يكون تابعا للرهن ، وممن قال بهذا : أبو حنيفة والإمام أحمد ومن وافقهما من أهل العلم ، وعمدتهم : أن الفروع تابعة للأصول ، فوجب لها حكم الأصل ، ولذلك حكم الولد تابع لحكم أمه في التدبير والكتابة .
المذهب الثاني : أنه ليس بتابع للرهن ، بل هو للراهن ، وبهذا قال الإمام

الشافعي وابن حزم ومن وافقهما من أهل العلم ، إلا أن ابن حزم لم يوافق الشافعي على التعميم في المركوب والمحلوب فهو يرى : أن الركوب والحلب لمن ينفق .
واستدلوا بالكتاب والسنة والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } (1)
وجاء في معنى هذه الآية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام » (2) (3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه » (4) (5) .
وجه الدلالة : أن ملك الشيء المرتهن باق لراهنه بيقين وحق الرهن الذي حدث فيه للمرتهن لم ينقل ملك الراهن عن الشيء المرهون فلا يوجب حدوث حكم في منعه ما للمرء أن ينتفع به من ماله بغير نص بذلك .
وأما السنة : فقد استدلوا بأدلة :
الأول : قوله صلى الله عليه وسلم : « الرهن مركوب ومحلوب » رواه الدارقطني والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة .
وجه الدلالة : ما ذكره الشيرازي بقوله : ومعلوم أنه لم يرد أنه محلوب ومركوب للمرتهن ، فدل على أنه أراد به محلوب ومركوب للراهن .
ونوقش هذا الدليل من جهتين : من جهة سنده ومن جهة دلالته . أما سنده : فإنه موقوف والموقوف لا تقوم به حجة ، وأما دلالته : فليس في
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) صحيح البخاري الحج (1654),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679),سنن ابن ماجه المقدمة (233),مسند أحمد بن حنبل (5/37),سنن الدارمي المناسك (1916).
(3) رواه البخاري ومسلم .
(4) سنن أبو داود النكاح (2145),مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).
(5) ذكره صاحب [ المغني ] لابن قدامة ( 5\ 278 ) .

الحديث ما يدل على الذي يحلب ويركب فهو دائر بين الراهن والمرتهن والعدل الذي يكون بيده الرهن وحمله على واحد منها بدون دليل تحكم .
وأجيب عن الأول : بما قاله ابن أبي حاتم قال : قال أبي : ( رفعه مرة ثم ترك الرفع ) انتهى كلامه .
ومن المقرر في علم المصطلح : أن الحديث إذا دار بين الرفع والوقف فالرفع فيه زيادة علم إذا كان الرافع ثقة فيكون الحديث حجة .
ورد ذلك : بأن الدارقطني والبيهقي رجحا رواية من وقفه على من رفعه ، وهي رواية الشافعي عن سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة .
وأما الجواب عن الحديث من جهة دلالته : فيقال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم علق إباحة الركوب وشرب اللبن على الإنفاق فمن تولى الإنفاق فله الركوب وشرب اللبن ، يدل على ذلك ما أخرجه البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة » (1) .
ورد على ذلك : بأن إباحته للمرتهن على خلاف القياس .
وأجاب عن ذلك شيخ الإسلام بقوله : ليس كذلك ، فإن الرهن إذا كان حيوانا فهو محترم في نفسه ولمالكه فيه حق وللمرتهن فيه حق ، وإذا كان بيد المرتهن فلم يركب ولم يحلب ذهبت منفعته باطلة ، وقد قدمنا : أن اللبن يجري مجرى المنفعة ، فإذا استوفى المرتهن منفعته وعوض عنها نفقته كان في هذا جمع بين المصلحتين وبين الحقين ، فإن نفقته واجبة على صاحبه ، والمرتهن إذا أنفق عليه أدى عنه واجبا وله فيه حق ، فله أن
__________
(1) صحيح البخاري الرهن (2377),سنن الترمذي البيوع (1254),سنن أبو داود البيوع (3526),سنن ابن ماجه الأحكام (2440),مسند أحمد بن حنبل (2/472).

يرجع ببدله ، والمنفعة تصلح أن تكون بدلا فأخذها خير من أن تذهب على صاحبها وتذهب باطلا .
وقد تنازع الفقهاء فيمن أدى عن غيره واجبا بغير إذنه كالدين :
فمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه : له أن يرجع به عليه ، ومذهب أبي حنيفة والشافعي : ليس له ذلك .
وإذا أنفق نفقة تجب عليه مثل أن ينفق على ولده الصغير أو عبده : فبعض أصحاب أحمد قال : لا يرجع ، وفرقوا بين النفقة والدين والمحققون من أصحابه سووا بينهما ، وقالوا : الجميع واجب ، ولو افتداه من الأسر كان له مطالبته بالفداء وليست دينا ، والقرآن يدل على هذا القول ، فإن الله تعالى قال : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } (1)
فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع ولم يشترط عقدا ولا إذن الأب وكذلك قال : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (2)
فأوجب ذلك عليه ولم يشترط عقدا ولا إذنا ، ونفقة الحيوان واجبة على ربه ، والمرتهن والمستأجر له فيه حق ، فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على ربه كان أحق بالرجوع من الإنفاق على ولده فإذا قدر أن الراهن قال : لم آذن لك في النفقة ، قال : هي واجبة عليك وأنا أستحق أن أطالبك بها ؛ لحفظ المرهون والمستأجر ، وإذا كان المنفق قد رضي بأن يعتاض بمنفعة الرهن
__________
(1) سورة الطلاق الآية 6
(2) سورة البقرة الآية 233

التي لا يطالبه بنظير النفقة (1) كان قد أحسن إلى صاحبه فهذا خير محض مع الراهن ، وكذلك لو قدر أن المؤتمن على حيوان الغير كالمودع والشريك والوكيل أنفق من مال نفسه واعتاض بمنفعة المال ؛ لأن هذا إحسان إلى صاحبه إذا لم ينفق عليه صاحبه .
الدليل الثاني : حديث : « لا يغلق الرهن من راهنه ، له غنمه وعليه غرمه » (2) أخرجه ابن حبان في [ صحيحه ] والدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا : « لا يغلق الرهن ، له غنمه وعليه غرمه » (3) ، وأخرجه ابن ماجه من طريق إسحاق ابن راشد عن الزهري ، وأخرجه الحاكم من طرق عن الزهري عن سعيد مرسلا ، ورواه الشافعي عن ابن أبي فديك ، وابن أبي شيبة عن وكيع وعبد الرزاق عن الثوري - كلهم عن ابن أبي ذئب كذلك ولفظه : « لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه » (4) . قال الشافعي : " غنمه " : زيادته ، و " غرمه " : هلاكه . وصحح أبو داود والبزار والدارقطني وابن القطان إرساله ، وله طرق في الدارقطني والبيهقي كلها ضعيفة ، وصحح ابن عبد البر وعبد الحق وصله .
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث : بأن قوله : « له غنمه وعليه غرمه » (5) مدرجة من كلام سعيد بن المسيب .
قال ابن عبد البر : هذه اللفظة اختلف الرواة في رفعها ووقفها فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف على ابن
__________
(1) في [ إعلام الموقعين ] ( 1\ 370 ) بمنفعة الرهن وكان نظير النفقة .
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).
(4) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).
(5) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).

أبي ذئب ، ووقفها غيرهم ، وروى ابن وهب هذا الحديث فجوده ، وقال : إن هذه اللفظة من كلام سعيد بن المسيب نقله عنه الزهري ، وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يغلق الرهن ممن رهنه » (1) قلت للزهري : أرأيت قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يغلق الرهن » (2) أهو الرجل يقول إن لم آتك بمالك فالرهن لك ؟ قال : نعم ، قال : معمر ثم بلغني عنه أنه قال : إن هلك لم يذهب حق هذا ، إنما هلك من رب الرهن ، له غنمه وعليه غرمه .
وأجيب عن ذلك : بأنه رواه ابن حزم من طريق قاسم بن أصبغ ، حدثني محمد بن إبراهيم حدثني يحيى بن أبي طالب الأنطاكي وغيره من أهل الثقة حدثني نصر بن عاصم الأنطاكي ، نا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يغلق الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه » (3) ، قال ابن حزم : هذا سند حسن .
وأجيب عن ذلك : بأنه أخرجه الدارقطني من طريق عبد الله بن نصر الأصم الأنطاكي عن شبابة به وصححها عبد الحق ، وعبد الله بن نصر له أحاديث منكرة ذكرها ابن عدي ، وظهر أن قوله في رواية ابن حزم : نصر بن عاصم . تصحيف وإنما هو عبد الله بن نصر الأصم وسقط عبد الله وحرف الأصم بعاصم .
وأما المعنى : فإن النماء زائد على ما رضيه رهنا ، فوجب أن لا يكون للمرتهن إلا بشرط زائد .
المذهب الثالث : ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).

فإنه داخل في الرهن كولد الجارية مع الجارية ، وأما ما لم يكن على خلقته وصورته فإنه لا يدخل في الرهن ما كان متولدا عنه كثمر النخل ، أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام ، وبهذا القول قال مالك ومن وافقه من أهل العلم .
وعمدة هذا المذهب : أن الولد حكمه حكم أمه في البيع ، أي : هو تابع له ، وفرق بين الثمر والولد في ذلك بالسنة المفرقة في ذلك ، وذلك أن الثمر لا يتبع بيع الأصل إلا بشرط وولد الجارية يتبع بغير شرط .

د -

التصرف في الرهن قبل حلول أجل الدين
التصرف إما أن يكون من الراهن أو من المرتهن بإذن كل منهما لصاحبه أولا :
فإذا تصرف كل منهم بإذن الآخر صح التصرف ؛ لأنه أسقط حقه ، وهذا لا خلاف فيه ، أما تصرف الراهن ، فقد قال فيه ابن قدامة : إذا تصرف الراهن في الرهن بغير رضا المرتهن بغير العتق ؛ كالبيع والهبة والوقف والرهن ونحوه - فتصرفه باطل ؛ لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبني على التغليب والسراية ، فلم يصح بغير إذن المرتهن ؛ كفسخ الرهن ، وفي الوقف وجه آخر أنه يصح ؛ لأنه يلزم لحق الله أشبه العتق ، والصحيح الأول ؛ لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير فلم يصح كالهبة ، فإن أذن فيه صح وبطل الرهن إلا أن يأذن في البيع ففيه تفصيل ، انتهى المقصود .
وقال الغزالي : هو ممنوع من كل تصرف قولي يزيل الملك ، كالبيع والهبة ، أو يزاحم حقه كالرهن من غيره ، أو ينقص كالتزويج أو يقلل الرغبة كالإجارة التي لا تنقضي مدتها قبل حلول الدين ، وبهذا قال الشيرازي

والنووي ، وأما تصرف المرتهن بالرهن بغير إذن الراهن فهو غير صحيح ، وهذا لا خلاف فيه ؛ لأنه تصرف في ملك غيره .

هـ -

استيفاء المرتهن حقه من الرهن
الرهن وثيقة لحق المرتهن بمقتضاه يطمئن المرتهن على رجوع حقه إليه ، وقد سبق الكلام على اشتراط استدامة القبض هل هو شرط في لزومه أو ليس بشرط ؟ ولكن خلافهم هناك لا أثر له بالنسبة لكون المرتهن يبيع الرهن بعد تمام الأجل ويستوفي حقه .
وفيما يلي تفصيل كلام أهل العلم في ذلك مع بيان أدلتهم :
قال السمرقندي : فعندنا ملك العين في حق الحبس حتى يكون المرتهن أحق بإمساكه إلى وقت إيفاء الدين ، وإذا مات الراهن فهو أحق به من سائر الغرماء ، فيستوفي منه دينه ، فما فضل يكون لسائر الغرماء والورثة .
وقال ابن رشد : أما حق المرتهن في الرهن فهو أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما عليه ، فإن لم يأت به عند الأجل كان له أن يرفعه إلى السلطان فيبيع عليه الرهن وينصفه منه إن لم يجبه الراهن إلى البيع ، وكذلك إن كان غائبا .
وقال الشافعي : المرتهن أحق ببيع المرهون وأخذ حقه من ثمنه ، والحبس ليس بلازم . وقال النووي : المرتهن مستحق لليد بعد لزوم الرهن ولا تزال يده إلا للانتفاع . وقال أيضا : المرتهن يستحق بيع المرهون عند الحاجة ويتقدم بثمنه على سائر الغرماء . وذكر أيضا أن الراهن إذا أصر على عدم البيع باعه الحاكم . وقال الخرقي : والمرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الغرماء حتى يستوفي حقه حيا كان الراهن أو ميتا .

ويدل لذلك الكتاب والسنة والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (1)
استدل بهذا الحنفية والمالكية والحنابلة ، وتقرير الاستدلال من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الله تعالى أخبر بكون الرهن مقبوضا ، وإخباره سبحانه وتعالى لا يحتمل الخلل فاقتضى أن يكون المرهون مقبوضا مادام مرهونا .
الثاني : أن الرهن في اللغة عبارة عن الحبس ، قال الله عز وجل : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } (2) أي : حبيس ، فيقتضي أن يكون المرهون محبوسا مادام مرهونا ، ولو لم يثبت ملك الحبس لم يكن محبوسا على الدوام فلم يكن مرهونا .
الثالث : أن الله تعالى لما سمى العين التي ورد العقد عليها رهنا وأنه نهى عن الحبس لغة - كان ما دل عليه اللفظ لغة حكما لا شرعا ؛ لأن للأسماء الشرعية دلالات على أحكامها ؛ كلفظ الطلاق والعتاق والحوالة والكفالة ونحوها .
وأما السنة : فقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يغلق الرهن من صاحبه » (3) الحديث .
وجه الدلالة : أن قوله : " لا يغلق " معناه : لا يملك بالدين ، كذا قال أهل اللغة : غلق الرهن ، أي : ملك بالدين ، وهذا كان حكما جاهليا فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما المعنى : فإن الرهن شرع وثيقة بالدين ، فيلزم أن يكون حكمه ما
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة الطور الآية 21
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).

يقع به التوثيق للدين كالكفالة ، وإنما يحصل التوثيق إذا كان يملك حبسه على الدوام ؛ لأنه يمنعه عن الانتفاع فيحمله ذلك على قضاء الدين في أسرع الأوقات .

و -

ضمان الرهن إذا هلك بنفسه
إذا هلك الرهن بنفسه بيد المرتهن فعليه الضمان عند قوم وعدمه عند آخرين ، والتفرقة بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه .
وفيما يلي تفصيل الكلام على ذلك مع الأدلة والمناقشة :
المذهب الأول : أن الرهن إذا هلك بنفسه فلا يضمنه المرتهن .
وبهذا قال الشافعي والإمام أحمد ومن وافقهما من أهل العلم .
واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى :
أما السنة : فحديث سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه » (1) .
وجه الدلالة : أن المراد بقوله : « له غنمه » أي : له غلته وخراجه " وعليه غرمه " أي : فكاكه ومصيبته منه ، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم غرم الرهن على الراهن ، وإنما يكون غرمه عليه إذا هلك أمانة ؛ لأن عليه قضاء دين المرتهن ، فإذا هلك مضمونا كان غرمه على المرتهن وسقط حقه لا على الراهن ، وهذا خلاف النص .
نوقش الاستدلال بهذا الحديث بأمور :
الأول : أنه أخرجه أبو داود في [ المراسيل ] ، وقال : قوله : « له غنمه وعليه غرمه » من كلام سعيد نقله عنه الزهري ، وقد سبق الكلام في ذلك .
الثاني : يحتمل أن يكون معنى قوله عليه السلام : « لا يغلق الرهن » (2) أي :
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).

لا يهلك ، إذ الغلق يستعمل في الهلاك ، كذا قال بعض أهل اللغة وعلى هذا كان الحديث حجة على أهل هذا القول ؛ لأنه يذهب بالدين ، فلا يكون هالكا معنى .
الثالث : وقيل : معناه : أي : لا يستحقه المرتهن ولا يملكه عند امتناع الراهن عن قضاء الدين ، وهذا كان حكما جاهليا جاء الإسلام فأبطله .
وأما المعنى : فإن عقد الرهن شرع وثيقة بالدين ، ولو سقط الدين بهلاك المرهون لكان توهينا لا توثيقا ؛ لأنه يقع تعريض الحق للتلف على تقدير هلاك الرهن فكان توهينا للحق لا توثيقا له .
ونوقش : بالتسليم بأن عقد الرهن شرع وثيقة بالدين ، لكن معنى التوثيق في الرهن هو التوصل إليه في أقرب الأوقات ؛ لأنه كان للمرتهن ولاية مطالبة الراهن بقضاء الدين من مطلق ماله وبعد الرهن حدثت له ولاية المطالبة بالقضاء ومن ماله المعين وهو الرهن بواسطة البيع فازداد طريق الوصول إلى حقه فحصل معنى التوثيق .

المذهب الثاني : أن الرهن إذا هلك بنفسه فهو من ضمان المرتهن .
والذين قالوا بهذا القول انقسموا إلى قسمين :
القسم الأول : ومنهم أبو حنيفة : أنه مضمون بالأقل من قيمته وقيمة الدين .
والقسم الثاني : أنه مضمون بقيمته قلت أو كثرت ، وممن قال به : علي ابن أبي طالب وعطاء وإسحاق .
أما القسم الأول : فمعناه : أن الرهن لو هلك وقيمته مثل دينه صار مستوفيا دينه ، وإن كانت أكثر من دينه فالفضل أمانة ، وإن كانت أقل صار

مستوفيا بقدره ورجع المرتهن بالفضل .
واستدل الأحناف لمذهبهم بالسنة والإجماع والأثر والمعنى :
أما السنة : فإنهم استدلوا بدليلين :
الأول : « قوله عليه الصلاة والسلام للمرتهن بعدما نفق الفرس الرهن عنده : " ذهب حقك » ، وهذا نص في الدلالة على المطلوب .
ونوقش : بأنه أخرجه أبو داود في [ المراسيل ] من طريق عطاء : « أن رجلا رهن رجلا فرسا فنفق في يده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمرتهن : " ذهب حقك » وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا مرسلا ، وفي الاحتجاج بالمرسل خلاف .
ونوقش أيضا : بأن المراد به ذهاب الحق في الحبس .
وأجيب عنه : بمنع ذلك ؛ لأنه لا يتصور حبسه فلا يحتاج فيه إلى البيان ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بعث لبيان الأحكام لا لبيان الحقائق ، ولأن الرهن ذكر معرفا بالإضافة فيعود إلى المذكور .
الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا عمي الرهن فهو بما فيه » .
وهذا نص أيضا في محل الخلاف .
ونوقش : بأن الدارقطني رواه عن أنس ، وقال : لا يثبت ومن بينه وبين شيخنا ضعفاء . وأخرجه من وجه آخر وقال : إنه باطل .
وأجيب عنه : بأنه أخرجه أبو داود في [ المراسيل ] عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ورجاله ثقات ، قاله ابن حجر ، وأخرجه أيضا عن طاوس مرفوعا نحوه .
ونوقش أيضا : بما أخرجه أبو داود في [ المراسيل ] عن أبي الزناد وقال :

إن ناسا يوهمون في قول النبي صلى الله عليه وسلم : « الرهن بما فيه » إذا كان هلك ، وإنما قال ذلك فيما أخبرنا الثقة من الفقهاء : إذا هلك وعميت قيمته . وأخرجه الطحاوي عن أبي الزناد نحوه ، وأسند ذلك إلى الفقهاء السبعة وغيرهم أنهم قالوا : الرهن بما فيه ، ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الرهن بما فيه » .
وأما الإجماع : فهو أن الصحابة والتابعين أجمعوا على أن الرهن مضمون مع اختلافهم في كيفية الضمان على ثلاثة أقوال : فإحداث قول رابع خروج عن الإجماع فلا يجوز .
ويمكن أن يناقش : بالمطالبة بثبوت الإجماع . قال ابن حجر : لم أجد ذلك .
وأما الأثر : فما أخرجه البيهقي عن عمر في الرجل يرتهن الرهن فيضيع قال : ( إن كان أقل مما فيه رد عليه تمام حقه ، وإن كان أكثر فهو أمين ) وأخرجه ابن أبي شيبة والطحاوي نحوه .
وأما المعنى فمن وجوه :
أحدها : أن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء وهو ملك اليد والحبس ؛ لأن لفظه ينبئ عن الحبس ، والأحكام الشرعية تثبت على وفق معانيها اللغوية .
الثاني : أن الرهن وثيقة لجانب الاستيفاء وهو أن يكون موصلا إليه ، ويثبت ذلك بملك اليد والحبس ؛ ليقع الأمن من الجحود مخافة جحود المرتهن الرهن ، وليكون عاجزا عن الانتفاع فيتسارع إلى قضاء الدين أو الضجرة ، فإذا ثبت هذا المعنى ثبت الاستيفاء من وجه وقد تقرر بالهلاك

فلو استوفى الدين بعده يؤدي إلى الربا ؛ لأنه يكون استيفاء ثانيا ولا يلزم ذلك حال قيام الرهن ؛ لأن الاستيفاء الأول ينقضي بالرد على الراهن فلا يتكرر .
ونوقش هذان الدليلان : بأن المرتهن إنما صار مستوفيا بملك اليد لا بملك الرقبة ، وقد بقي حقه في ملك الرقبة فكان له أن يستوفيه ليأخذ حقه كاملا وصار مستوفيا بالمالية دون العين فيكون له الاستيفاء ثانيا ليأخذ حقه في العين كاملا .
وأجيب عن ذلك : بأنه لا وجه إلى استيفاء الباقي ، وهو ملك الرقبة بدون ملك اليد أو ملك العين بدون ملك المالية ، إذ لا يتصور ذلك فيسقط للضرورة كما إذا استوفى زيوفا مكان الجياد ، فإن حقه في الجودة يبطل ؛ لعدم استيفاء الجودة وحدها بدون العين ، فإذا لم يملك العين بقي ملك الراهن أمانة في يده فتكون نفقته حيا وكفنه ميتا عليه ؛ لأنهما مؤونة الملك ، ولو اشتراه المرتهن لا ينوب قبض الرهن عن قبض الشراء ؛ لأن عينه أمانة ، فلا ينوب قبضه عن قبض المضمون .
وأما القسم الثاني ، فمعناه : أن الرهن إن كانت قيمته أقل من الدين رجع المرتهن إلى الراهن فيأخذ منه ما بقي من دينه ، وإن كانت قيمة الرهن تساوي الدين لم يرجع المرتهن على الراهن بشيء ، وإن كانت قيمة الرهن أكثر من قيمة الدين فإن الزائد يسلمه المرتهن إلى الراهن .
واستدل لهذا بالسنة والأثر والمعنى :
أما السنة : فقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه » (1) . وجه الدلالة أن معنى قوله : « له غنمه » أي : ما زاد من قيمة الرهن على قيمة
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441),موطأ مالك الأقضية (1437).

الدين ، « وعليه غرمه » أي : ما نقص من قيمة الدين عن قيمة الرهن .
وأجيب عنها بجوابين :
الأول : وقد سبق : أنها مدرجة من كلام سعيد بن المسيب .
الثاني : أن المقصود بالغنم : الغلة والخراج ، والمراد بالغرم : الفكاك والمصيبة .
وأما الأثر : فما روي عن علي رضي الله عنه : أنهما يترادان الفضل ، أخرجه عبد الرزاق في [ المصنف ] ، وابن أبي شيبة في [ المصنف ] من طريق الحكم ، وفسر التراد هنا بأنه يكون من الجانبين ، فيرجع واحد منهما على صاحبه بالفضل عند الهلاك .
ونوقش بأمرين :
الأول : أن المقصود بالتراد حالة البيع فإنه روي عنه أنه قال : المرتهن أمين في الفضل .
الثاني : ما أخرجه البيهقي من رواية خلاس عن علي : ( إذا كان في الرهن فضل فإن أصابته جائحة فالرهن بما فيه ، وإن لم تصبه جائحة فإنه يرد الفضل ) .
ونوقش هذان الأمران : بأننا لا نسلم أنه في حالة البيع ولا أنه في حالة السلامة ؛ لما أخرجه البيهقي من رواية الحارث عن علي رضي الله عنه إذا كان الرهن أفضل من القرض ، والقرض أفضل من الرهن - فإنهما يترادان الفضل .
وأما المعنى : فإن الزيادة على الدين مرهونة بكونها محبوسة به ، فتكون مضمونة كما في قدر الدين .

ونوقش : بأن يد المرتهن يد استيفاء فلا توجب الضمان إلا بقدر المستوفى ، كما في حقيقة الاستيفاء بأن أوفاه دراهم في كيس أكثر من حقه يكون مضمونا عليه بقدر الدين ، والفضل أمانة ، والزيادة مرهونة ضرورة امتناع حبس الأصل بدونها ، ولا ضرورة في حق الضمان .

المذهب الثالث : التفرقة بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه : فإن كان مما يغاب عليه من العروض فهو ضامن ، وإن كان مما لا يغاب عليه كالحيوان والعقار فليس بضامن ، وممن قال بهذا مالك والأوزاعي وعثمان البتي ، بل يضمن على كل حال قامت البينة أو لم تقم ، وبقول مالك قال ابن القاسم ، وبقول عثمان والأوزاعي قال أشهب ، ومستند هذا المذهب الاستحسان ، ومعناه : أن التهمة تلحق فيما يغاب عليه ، ولا تلحق فيما لا يغاب عليه .
ونوقش : بأن الاستحسان الذي يذهب إليه مالك استحسان بغير دليل فلا حجة فيه .
وأجيب عنه : بأن معنى الاستحسان عند مالك : هو جمع بين الأدلة المتعارضة ، وإذا كان ذلك كذلك فليس هو قول بلا دليل .
هذا ما تيسر ، وبالله التوفيق . وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

المراجع في المذهب الحنفي :
المصادر :
[ تحفة الفقهاء ] 3\ 56 ، و [ بدائع الصنائع ] 6\ 145 - 370 ، و [ كنز الدقائق ] وشرحه [ تبيين الحقائق ] 6\ 63 - 68 ، [ وفتح القدير ] 8\ 194 - 202 ، و [ حاشية ابن عابدين ] 5\ 318 - 325 ، و [ ملتقى الأبحر ] وشرحه [ مجمع الأنهر ] 2\ 586 - 591 ، و [ الدراية ] 2\ 257 ، 258 ، و [ نصب الراية ] 4\ 319 ، و [ شرح معاني الآثار ] 4\ 98 .
وفي المذهب المالكي :
[ المنتقى ] 5\ 253 - 255 ، و [ بداية المجتهد ] 2\ 228 - 230 ، و [ شرح الرسالة ] 2\ 205 - 210 .
وفي المذهب الشافعي :
[ مختصر المزني على هامش الأم ] 3\ 126 - 128 ، و [ المهذب ] 1\310 - 316 , و [ الوجيز ] 1\ 18 - 101 ، و [ روضة الطالبين ] 4\ 74 - 111 .
وفي المذهب الحنبلي :
[ الشرح الكبير ] 4\ 409 وما بعدها ، و [ المغني ] ، 4\ 490 ، 494 ، 499 ، 503 ، 513 ، و [ المقنع ] وحاشيته 2\ 104 - 106 ، و [ عمدة الفقه ] وشرحها 247 - 250 ، و [ المجد ] 1\ 336 ، و [ التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح ] و [ القياس في الشرع الإسلامي ] 33 ، وكتاب الرهن من [ المحلى ] 8\ 87 وما بعدها .

(4)
إيجاد مواقف للسيارات
تحت المساجد
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
إيجاد مواقف للسيارات
تحت المساجد
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده ، محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة بالطائف في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوع إيجاد مواقف للسيارات تحت المساجد والجوامع عند إنشائها داخل مدينة الرياض في جدول أعمال الهيئة للدورة المتقرر انعقادها في النصف الأول من شهر ربيع الثاني لعام 1396 هـ وإعداد بحث في حكم ذلك - فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا يشتمل على بعض أقوال أهل العلم في سطوح المواضع المنهي عن الصلاة فيها ، وعن حكم جعل أسفل المسجد سقاية أو حوانيت أو بيوت أو نحو ذلك ، مع إثارة بعض الاعتراضات التي يمكن أن يعترض بها على ذلك ومناقشتها .
والله الموفق .

بناء المساجد على قوائم يكون ما بينها مرفق يرتفق به - كمواقف للسيارات مثلا - قد يفضي ذلك إلى محاذير شرعية ، فقد يكون لهذا المرفق حكم الطريق باعتبار أن السيارات تستطرقه داخلة وخارجة ، وكذا المارة من أصحابها وغيرهم ، فإنهم سيرتفقون به في الاستطراق وغيره من أنواع الارتفاق .
وقد وردت أحاديث تدل على النهي عن الصلاة في مجموعة أماكن منها الطريق ، فعن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن ابن عمر : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن : في المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، وفي الحمام ، وفي أعطان الإبل ، وفوق ظهر بيت الله » (1) رواه عبد بن حميد في [ مسنده ] ، وابن ماجه والترمذي ، وقال : إن إسناده ليس بذاك القوي ، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه ، وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال : وحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد ، والعمري ضعفه بعض أهل الحديث من قبل حفظه (2) .
ونظرا إلى أن الأحكام الخاصة بالمسجد قد تشمل هواءه وقراره فقد تكلم بعض أهل العلم في حكم الصلاة في سطوح الأماكن المنهي عن الصلاة فيها ومن ذلك الطريق ، وفيما يلي بعض من أقوالهم :
قال أبو الفرج بن قدامة - رحمه الله - بعد كلامه على حكم الصلاة في
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (346),سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (746).
(2) [ منتقى الأخبار مع شرحه النيل ] ( 2\ 142 ، 143 ) .

الأماكن المنهي عن الصلاة فيها، ومنها: قارعة الطريق- قال : فأما أسطحة هذه المواضع فقال القاضي وابن عقيل : حكمها حكم السفل؛ لأن الهواء تابع للقرار، ولذلك لو حلف لا يدخل دارا فدخل سطحها حنث. والصحيح إن شاء الله: قصر النهي على ما تناوله النص، وأن الحكم لا يعدى إلى غيره. ا هـ (1) .
وقال أبو محمد بن قدامة رحمه الله: وإن صلى على سطح الحش أو الحمام أو عطن الإبل أو غيرها، فذكر القاضي أن حكمه حكم المصلى فيها؛ لأن الهواء تابع للقرار فثبت فيه حكمه؛ ولذلك لو حلف لا يدخل دارا فدخل سطحها حنث، ولو خرج المعتكف إلى سطح المسجد كان له ذلك؛ لأن حكمه حكم المسجد، والصحيح إن شاء الله: قصر النهي على ما تناوله النص، وأن لا يعدى إلى غيره؛ لأن الحكم إن كان تعبديا فالقياس فيه ممتنع، وإن علل فإنما يعلل؛ لكونه للنجاسة ولا تخيل هذا في سطحها، فأما إن بنى على الطريق ساباطا أو أخرج عليه خروجا فعلى قول القاضي حكمه حكم الطريق لما ذكره فيما تقدم. وعلى قولنا: إن كان الساباط مباحا له، مثل: أن يكون في درب غير نافذ بإذن أهله أو مستحقا له أو حدث الطريق بعده فلا بأس بالصلاة عليه... إلى أن قال: فإن كان المسجد سابقا وجعل تحته طريق أو عطن أو غيرهما من مواضع النهي أو كان في غير مقبرة فحدثت المقبرة حوله لم تمتنع الصلاة فيه بغير خلاف؛ لأنه لم يتبع ما حدث بعده، والله أعلم. ا هـ (2) .
__________
(1) [الشرح الكبير]، (1\ 485).
(2) [المغني]، (1\ 724، 725) ، ومعه الشرح .

وقال الرحيباني بعد ذكره النهي عن الصلاة في مجموعة مواضع منها قارعة الطريق: وأسطحة ما مر من هذه المواضع التي لا تصح الصلاة فيها كهي ؛ لأن الهواء تابع للقرار لمنع الجنب من اللبث بسطح المسجد، وحنث من حلف لا يدخل دارا بدخول سطحها، فلا تصح الصلاة بساباط حدث على طريق لتبعية الهواء للقرار بخلاف طريق أو غيره من مواضع النهي حدث تحت مسجد بعد بنائه، فتصح الصلاة في ذلك المسجد؛ لأنه لم يتبع ما حدث بعده. ا هـ (1) .
وقال المرداوي على قول الخرقي : وقال بعض أصحابنا: حكم المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق وأسطحتها كذلك. ما نصه: يعني: كالمقبرة ونحوها، وهذا هو المذهب، قال الشارح: أكثر أصحابنا على هذا. قال في [الفروع]: اختاره الأكثر. قال الزركشي: وألحق عامة الأصحاب بهذه المواضع المجزرة ومحجة الطريق، وجزم به في [الوجيز والإفادات والمنور والمنتخب]، وقدمه في [الفروع والنظم والفائق]، وهو من المفردات. وعنه تصح الصلاة في هذه الأمكنة، وإن لم يصححها في غيرها ويحتمله كلام الخرقي واختاره المصنف، وعنه تصح في أسطحتها وإن لم يصححها في داخلها، واختاره المصنف والشارح- إلى أن قال-: وعنه: لا تصح الصلاة على أسطحتها، وكرهها في رواية عبد الله وجعفر ، على نهر وساباط، وقال القاضي فيما تجري فيه سفينة كالطريق، وعلله بأن الهواء تابع للقرار، واختار أبو المعالي وغيره الصحة كالسفينة. ا هـ (2) .
__________
(1) [مطالب أولي النهى]، (1\ 368).
(2) [الإنصاف] (1\ 492).

وقد يمنع من أجازه جعل ما تحت المسجد مرفقا يرتفق به كون المسجد وقفا مؤبدا.

ولأهل العلم في حكم ذلك كلام يحسن إيراد ما يتيسر منه:
1 - قال ابن الهمام: قوله: ومن جعل مسجدا تحته سرداب وهو بيت يتخذ تحت الأرض لتبريد الماء وغيره أو فوقه بيت ليس للمسجد واحد منهما، فليس بمسجد، وله بيعه، ويورث عنه إذا مات، ولو عزل بابه إلى الطريق لبقاء حق العبد متعلقا به، والمسجد خالص لله سبحانه ليس لأحد فيه حق، قال الله تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } (1) إلى أن قال: بخلاف مما إذا كان السرداب أو العلو موقوفا لصاحب المسجد فإنه يجوز، إذ لا ملك فيه لأحد، بل هو من تتميم مصالح المسجد فهو كسرداب مسجد بيت القدس هذا هو ظاهر المذهب. وروي عن أبي حنيفة أنه إذا جعل السفل مسجدا دون العلو جاز؛ لأنه يتأبد بخلاف العلو، وهذا تعليل للحكم بوجود الشرط فإن التأبيد شرط وهو مع المقتضى. وعن محمد عكسه، وعن أبي يوسف أنه جوز ذلك في الأولين لما دخل بغداد ورأى ضيق الأماكن وكذا عن محمد لما دخل الرين، وهذا تعليل صحيح؛ لأنه تعليل بالضرورة.- إلى أن قال-: وفي كتاب الكراهية من [الخلاصة] عن الفقيه أبي جعفر عن هشام عن محمد، أنه يجوز أن يجعل شيء من الطريق مسجدا أو يجعل شيء من المسجد طريقا للعامة. ا هـ. يعني: إذا احتاجوا إلى ذلك، ولأهل المسجد أن يجعلوا الرحبة مسجدا وكذا على القلب -إلى أن قال-: إلا أن قوله: وعلى القلب يقتضي جعل المسجد رحبة وفيه نظر. وقد ذكر المصنف في علامة النون من كتاب [التنجيس]: قيم المسجد إذا أراد أن
__________
(1) سورة الجن الآية 18

يبني حوانيت في المسجد أو في فنائه لا يجوز له أن يفعل؛ لأنه إذا جعل المسجد سكنا تسقط حرمة المسجد، وأما الفناء فلأنه تبع للمسجد. ا هـ (1)
2 - وقال في [المدونة]: قال: وسألنا مالكا عن المسجد يبنيه الرجل ويبني فوقه بيتا يرتفق به قال: ما يعجبني ذلك. قال: وقد كان عمر بن عبد العزيز إمام هدى وقد كان يبيت فوق ظهر المسجد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلا تقربه فيه امرأة، وهذا إذا بنى فوقه صار مسكنا يجامع فيه ويأكل فيه -إلى أن قال-: قلت لابن القاسم : أرأيت ما كان من المساجد بناها رجل للناس على ظهر بيته أو بناها وبنى تحتها بنيانا هل يورث ذلك؟ قال: أما البنيان على ظهر المسجد فقد أخبرتك أن مالكا كره ذلك، وأما ما كان تحت المسجد من البنيان فإنه لا يكرهه، والمسجد عند مالك لا يورث إذا كان قد أباحه صاحبه للناس، ويورث البنيان الذي بني تحت المسجد. ا هـ (2)
3 - وقال الزركشي الشافعي : كره مالك أن يبني مسجدا ويتخذ فوقه مسكنا يسكن فيه بأهله. قلت: وفي فتاوى البغوي ما يقتضي منع الجنب فيه؛ لأنه جعل ذلك هواء المسجد، وهواء المسجد حكمه المسجد. اهـ (3)
4 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه على حكم إبدال المسجد بغيره للمصلحة ما نصه: وقال القاضي أبو يعلى : وقال في
__________
(1) [فتح القدير]، (5\ 63، 64)
(2) [المدونة الكبرى]، (1\ 104)
(3) [ إعلام الساجد بأحكام المساجد]، ص (407)

رواية صالح : يحول المسجد خوفا من لصوص، وإذا كان موضعه قذرا، وبالثاني قال القاضي أبو يعلى، وقال في رواية أبي داود في مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض ويجعل تحته سقاية وحوانيت، وامتنع بعضهم من ذلك؟ ينظر إلى قول أكثرهم ولا بأس به. قال: فظاهر هذا أنه أجاز أن يجعل سفل المسجد حوانيت وسقاية. قال: ويجب أن يحمل هذا على أن الحاجة دعت إلى ذلك لمصلحة تعود بالمسجد. قال: وكان شيخنا أبو عبد الله -هو: ابن حامد - يمنع من ذلك ويتأول المسألة على أنهم اختلفوا في ذلك عند ابتداء بناء المسجد قبل وقفه... إلى أن قال: وهذا تكلف ظاهر لمخالفة نصه، فإن نصه صريح في أن المسجد إذا أرادوا رفعه من الأرض، وأن يجعل تحته سقاية وحوانيت، وأن بعضهم امتنع من ذلك، وقد أجاب: بأنه ينظر إلى قول أكثرهم. ولو كان هذا عند ابتدائه لم يكن لأحد أن ينازع في بنيه إذا كان جائزا، ولم ينظر في ذلك إلى قول أكثرهم... إلى أن قال: ولأن قوله: أرادوا رفعه من الأرض، وأن يجعل تحته سقاية: بين في أنه ملصق بالأرض، فأرادوا رفعه وجعل سقاية تحته، وأحمد اعتبر اختيار الأكثر من المصلين في المسجد, لأن الواجب ترجيح أصلح الأمرين، وما اختاره أكثرهم كان أنفع للأكثرين ؛ فيكون أرجح. وأيضا فلفظ المسألة على ما ذكره أبو بكر عبد العزيز قال: قال في رواية سليمان بن الأشعث : إذا بنى رجل مسجدا فأراد غيره أن يهدمه ويبنيه بناء أجود من الأول فأبى عليه الباني الأول، فإنه يصير إلى قول الجيران ورضاهم: إذا أحبوا هدمه وبناءه، وإذا أرادوا أن يرفعوا المسجد من الأرض ويعمل في أسفله سقاية فمنعهم من ذلك مشائخ ضعفاء وقالوا: لا

نقدر أن نصعد؛ فإنه يرفع ويجعل سقاية، ولا أعلم بذلك بأسا، وينظر إلى قول أكثرهم، فقد نص على هذا، وتبديل بنائه بأجود، وان كره الواقف الأولى، وعلى جواز رفعه وعمل سقاية تحته، وإن منعه مشائخ ضعفاء، إذا اختار ذلك الجيران، واعتبر أكثرهم. اهـ [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية]، (31\ 217- 220). (1) .
وقد يمنع من جواز إقامة مواقف للسيارات تحت المساجد ما يترتب على ذلك من رفع المسجد بضع درجات توجب المشقة على المسنين0 والضعفاء، وقد تصل المشقة إلى اضطرار ترك الصلاة في المسجد للعجز عن الصعود إليه . وفيما مر ذكره من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية إجابة على ذلك حيث إن المعتبر في ذلك رجحان المصلحة فإذا كانت المصلحة في رفع المسجد بحيث يكون أسفله مرفقا يرتفق به المسلمون أرجح من المصلحة في منع ذلك؛ ليتمكن كبار السن والضعفاء من الصلاة في المسجد صار الأمر حيث تكون المصلحة راجحة. كما أنه يمكن أن يقال: بأن بضع درجات لا توجب مشقة في الغالب إلا لمن هو في نفس الأمر مريض أو عاجز، ومتى كان كذلك فإن خروجه من بيته إلى المسجد قد يوجد له نفس المشقة فيعذر بها، وعلى فرض أن مشقة الطلوع إلى المسجد تزيد على مشقة الخروج إليه من بيته فإن المصلحة العامة التي ستحصل من ذلك راجحة على المصلحة الفردية التي ينالها العاجز عن الصعود بضع درجات في حال تركها. ذلك أن إيجاد مرفق عام يرتفق به المسلمون يعتبر
__________
(1) [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ] ( 31\ 217 - 220 ) .

مصلحة كبرى تهدف الشريعة الإسلامية إلى تحصيلها وتكميلها، فضلا عما في ارتفاع مبنى المسجد عن الشوارع من أسباب نظافته وبعده عن الغبار والأتربة وما يتطاير في الشوارع من النفايات.
ويمكن أن يقال: بأن جعل المسجد فوق موقف للسيارات ينشأ عنه مزيد ضجة وضوضاء وإزعاج للمصلين بأبواق السيارات مع تعريض المسجد لأخطار صدم قوائمه مما يكون سببا في انهيار المسجد أو تصدعه فضلا عما في ذلك من انتهاك لحرمة المسجد حينما يكون قراره محلا للابتذال والمهانة وفحش القول بحكم اعتباره موقفا للسيارات الغالب على أهلها الابتذال في الأقوال والأعمال.
وقد يجاب عن ذلك: بأن الصخب والضوضاء والانزعاج بأبواق السيارات حاصل ولو لم يكن أسفل المسجد موقفا للسيارات؛ لأن المسجد الصالح لإقامته فوق موقف للسيارات يفترض فيه أن يكون على شوارع عامة، وما كان على شارع عام فله نصيبه الوافر من الضوضاء والصخب والانزعاج. والقول باحتمال تصدع قوائمه من صدم السيارات لها يواجه بضرورة تحصين هذه القوائم، وضمان صد هذا الاحتمال بإحكام البناء وإيجاد عوامل الصد والوقاية.
وأما القول: بأن قراره سيكون محلا للابتذال والمهانة وفحش القول والعمل كالطرق العامة والميادين. فحصول شيء من ذلك لا يعتبر مانعا على القول: بأن ما تحت المسجد مما ليس مسجدا كسقاية وحوانيت ونحوها كمواقف السيارات- ليس له حكم المسجد.

هذا ما تيسر ذكره. وصلى الله على نبيا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم . حرر في 8\3\1396هـ.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

(5)
بحث في المعاملات المصرفية والتحويلات المصرفيةهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
المعاملات المصرفية
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه، وبعد:
فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته المنعقدة في النصف الأول من شهر صفر لعام 1395 هـ من بحث المعاملات المصرفية في الدورة القادمة للمجلس في شهر شعبان أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك، ونظرا إلى أن مواضيع المعاملات المصرفية كثيرة ومتشعبة - رأت اللجنة الاكتفاء ببحث المواضع الآتية، وإرجاء الباقي إلى دورة أخرى:
1 - عمليات الإيداع وتشمل ما يلي:
أولا: الودائع النقدية.
ثانيا: ودائع الوثائق والمستندات.
ثالثا: استئجار الخزائن الحديدية للإيداع فيها.

2 - عمليات الائتمان وبحث منها ما يلي:
أولا: الإقراض.
ثانيا: الاعتماد البسيط.
ثالثا: الضمان ويشمل خطابات الضمان، الكفالة، الاعتماد بالقبول.
رابعا: الاعتماد المستندي.
وقد ختمت اللجنة كلا من عمليات الإيداع وعمليات الائتمان بخلاصة للإعداد في ذلك، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم .

1 -

عمليات الإيداع
الإيداع: تعريفه، الغرض منه، أهم أنواعه :
يقصد بالإيداع: إيداع المرء غيره ما يود حفظه من نقد أو عين أو وثائق. وإذا كان المودع في الغالب يقصد من الإيداع حفظ ما يودعه فقد يكون له أهداف أخرى للإيداع غير الحفظ؛ كإيداعه البنك نقوده أو بعضها للاستثمار أو وثائقه لإدارتها وتحصيل أرباحها، وقد يكون لديه من التكتم والحفاظ على سرية أعماله التجارية أو المدنية ما يدعوه إلى استئجار خزائن حديدية في البنك، تكون تحت تصرفه وحده، يودع فيها وثائقه ومستنداته ومجوهراته، ونحو ذلك مما يود حفظه والتكتم على سرية تملكه.
وعمليات الإيداع لا تنحصر في عمليات محدودة إلا أن أهمها إيداع النقود وإيداع الوثائق والمستندات واستئجار الخزائن الحديدية للإيداع فيها. وفيما يلي بحوث في عمليات الإيداع الثلاثة:

أولا: الودائع النقدية :
لا شك أن النقود هي أهم الودائع التي تتلقاها البنوك، إذ هي القوة التي يستطيع بها البنك أن يقوم بجميع عملياته المصرفية، كما أنها الوسيلة الطبيعية لائتمان التاجر البنك، حينما يأتمنه في إيداع نقوده لديه لأجل قصير أو تحت الطلب، ريثما يجد الفرصة سانحة لعقد صفقة تجارية ما، لما في ذلك من سهولة استعماله لهذه النقود المودعة في البنك دون الاضطرار إلى حملها أو عدها أو التأمين عليها، وقد يقصد المودع في البنك تخصيص وديعته النقدية لعملية تجارية يرى أن البنك خير وسيلة لإتمامها .
تعريف الوديعة النقديةيذهب الأستاذ الدكتور أدوار عيد في تعريفه الوديعة النقدية: إلى القول بأن الوديعة النقدية: عقد بمقتضاه يسلم شخص مبلغا من النقود إلى المصرف الذي يتعهد بأن يرد إليه قيمة مماثلة دفعة واحدة أو عدة دفعات لدى أول طلب منه أو ضمن المهل والشروط المتفق عليها في العقد (م 307 فقرة تجارة)، وما دامت الوديعة تتناول مبلغا من النقود فيتلقى الوديع - أي: المصرف- حق استعمال هذه النقود، ويصبح مالكا لها على أن يلتزم برد مبلغ مماثل إلى المودع (1)
__________
(1) انظر ص (510) من كتابه [ العقود التجارية وعمليات المصارف]، طبعة النجوي.

مزايا الإيداع النقدي
يذكو الأستاذ الدكتور أدوار عيد : أن لعملية إيداع النقود مزايا عديدة

تجاه الطرفين سيما إذا اقترنت بأجل ما، فإنها بالنسبة للمودع تشكل نوعا من الادخار، وتدر عليه في ذات الوقت فائدة يختلف معدلها باختلاف المدة التي تبقى فيها الأموال بيد المصرف؛ وبالنسبة للمصرف فإنها تؤمن من المبالغ اللازمة للقيام بعمليات الخصم والائتمان التي تضمن له عائدات هامة من فوائد أو عمولات (1) ، وفضلا عما ذكره الدكتور أدوار فإن الودائع النقدية تعتبر للبنك مصدر ثقة في نفوس المودعين تعطيهم الاطمئنان على سلامة ودائعهم وقدرتهم على سحبها أو سحب ما يريدون منها متى شاءوا، كما أنها القوة التي يستطيع بها البنك ممارسة نشاطه المصرفي .
__________
(1) انظر ص (511) من كتابه [ العقود التجارية وعمليات المصارف]، طبعة النجوي .

أنواع الودائع النقدية
تتخذ الودائع النقدية عدة أشكال تبعا لطبيعة إيداعها، ويذكر الأستاذ أدوار عيد أن أهم الودائع النقدية ما يلي:
ا- الودائع لدى الاطلاع أو لدى الطلب، وهي تشكل أهم صور الودائع النقدية ويكون لمودعها حق استردادها أو جزء منها متى شاء مباشرة أو بطريق إصدار شيكات أو التحويل؛ ونظرا لما يقتضيه هذا النوع من الودائع من ضرورة احتفاظ المصرف في خزانته بأموال كافية لدفع قيمتها، فإن المصرف لا يدفع عنها سوى فائدة قليلة جدا، وقد لا يدفع عنها شيئا.
2 - الودائع لأجل أو لاستحقاق معين، وهذا النوع من الودائع لا يسترد قبل أجل معين يجري الاتفاق على تحديده، وهو أقل شيوعا من

الودائع تحت الطلب، ولكنه أكثر فائدة للمصارف؛ لأنها تستطيع استعمال هذه المبالغ المؤجل دفعها طيلة مدة التأجيل، وتكون الفائدة عليها مرتفعة نسبيا, تبعا للمدة التي يتفق على بقائها لدى المصرف.
3 - الودائع بشرط الإخطار: وهي ودائع يكون لصاحبها حق استردادها دون انتظار أجل معين، لكن بشرط إشعار المصرف بذلك قبل استردادها بمدة ما، ويعطى هذا النوع من الفوائد مثلما تعطى الودائع تحت الطلب؛ لأن البنوك لا تستطيع الاعتماد عليها في تمويل نشاطها المصرفي.
4 - الودائع المخصصة لغرض معين؛ لمصلحة المودع كالمبالغ المودعة لدى المصرف لشراء أسهم، أو للاكتتاب بأسهم في شركة تحت التأسيس، أو لدفع ديون معينة، وقد يكون الإيداع لمصلحة المصرف، كأن تكون الوديعة ضمانا لمصلحة حساب آخر أو لمصلحة شخص ثالث، كما هو الحال في تجميد مؤونة شيك مؤشر عليه لمصلحة الحامل بصورة مؤقتة، وهاتان الحالتان لا يجوز فيهما للمودع استرداد وديعته حتى انقضاء المودع لأجلها، ا هـ باختصار (1)
وقد اختلف علماء الاقتصاد في التكييف القانوني للوديعة النقدية: فذهب بعضهم: إلى أنها وديعة بالمعنى الحقيقي للوديعة بالمقاصة بها، كما يبرأ البنك منها لو هلكت بقوة قاهرة، ويتعين عليه أن يرد المبلغ المودع بذاته، ويقوم بحفظه حتى طلبه.
__________
(1) انظر ص (511- 513) من كتابه [العقود التجارية وعمليات المصارف]، مطبعة النجوي

وينتقد الأستاذ الدكتور محمد عوض هذا الرأي فيقول: ولكن هذه المبادئ الخاصة بعقد الوديعة لا تنطبق على الوديعة المصرفية؛ لأنه فيما عدا الحالة الاستثنائية لإيداع نقود بذاتها، فإن البنك لا يقصد أبدا المحافظة على النقود التي تلقاها بذاتها، بل يقصد استخدامها على أن يرد مثلها، كما أن القضاء يجيز له أن يرد طلب الاسترداد بالمقاصة، ويقضي بمسئوليته عن رد الوديعة ولو هلكت بقوة قاهرة فيلزمه أن يرد مثلها.
هذه الأحكام تباعد بين الوديعة العادية والوديعة المصرفية، ففي كلتيهما يلتزم الوديع بالرد لكن هناك في الأولى التزام بالحفظ، بينما في الثانية لا يلتزم البنك بالمحافظة على ذات الوديعة، وكل ما هناك أنه يحفظ للمودع حقه في استرداد مثل ما أودعه (1) ا هـ.
وذهب آخرون: إلى أنها وديعة شاذة أو ناقصة، ويذكر الأستاذ محمد عوض : أن الوديعة الناقصة أو الشاذة وديعة يتملكها المودع عنده، ويلتزم برد مثلها بخلاف الوديعة الكاملة التي لا يجوز للوديع أن يتملكها مطلقا، ويناقش هذا الرأي بقوله: والواقع أن طبيعة الوديعة الشاذة محل خلاف في فرنسا، حتى لقد أنكر البعض تسميتها بالوديعة على أساس أنه ما دام الوديع مأذونا في استعمال الوديعة فقد سقط عنه التزام الحفظ؛ لأن الوديعة تهلك بالاستعمال؛ ولذلك وجب حتما استبعاد فكرة الوديعة والقول بفكرة القرض، ولم يدع القانون المصري مجالا لفكرة الوديعة الشاذة، بل
__________
(1) انظر ص (21، 22) من كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية]، طباعة دار النهضة العربية، ويرجع إلى ص (286-291) من [العقود وعمليات البنوك التجارية]، للدكتور علي البارودي، الطبعة الثانية

قضى في المادة (726) منه أنه: إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله اعتبر العقد قرضا . ا هـ (1)
وذهب فريق ثالث إلى: أن الوديعة النقدية تعتبر قرضا يلتزم المقترض برد شيء مماثل للوديعة عند الطلب، فيجوز له دفع طلب استردادها بالمقاصة ولا يتعين عليه حفظها، بل يعتبر مالكا لها ضامنا لهلاكها ملزما برد مثلها عند طلبها.
ويذكر الدكتور محمد عوض : بأنه مراعاة للوضع الغالب في العمل فإن مجموعة من الشراح وعلماء الاقتصاد يميلون إلى هذا الرأي، فالوديع وهو البنك مثلا يعتبر تاجرا يعطي ائتمانا للغير وهو بذلك يضطر للحصول على ما يقرضه للغير من طريق الاقتراض والاستيداع، وليس من طريق الاستعانة برأس ماله، وكذلك المودع فإن له مصلحة في الإيداع تتجسم في الفائدة التي يستحصلها من البنك، فإذا لم تقرر له فائدة فحسبه حفظ ماله (2)
ويرى الدكتور محمد عوض : أن تكييف عقد الوديعة النقدية من الناحية القانونية يكمن في إرادة الطرفين، ويستقل بالكشف عنها قاضي الاختصاص، فإذا كان البنك مأذونا له في استعمال المال المودع، كانت الوديعة النقدية قرضا تسري عليها أحكام القرض، وهذا هو الغالب على
__________
(1) انظر ص (21،22) من كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية]، طباعة النهضة العربية
(2) انظر ص (22) من كتابه [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] طبعة النهضة العربية.

معظم الودائع النقدية المصرفية . . أما إذا كان البنك غير مأذون له في الاستعمال، فإن المال المودع يعتبر وديعة بما تعنيه الوديعة من معنى وتسري عليه أحكام الوديعة، ويمثل لذلك بالوديعة المصرفية المصحوبة بتخصصها لغرض معين أو لمجرد حفظها بذاتها لدى البنك (1)
والغالب على عمليات الإيداع النقدي أن تكون الوديعة تحت الطلب بحيث يسهل على المودع سحبها متى شاء أو تجزئة السحب منها، ومن هنا ترتبط فكرة الإيداع بفكرة فتح الحساب.
وفي هذا يقول الأستاذ علي البارودي : ويكون العقد الذي يتم بين البنك والعميل ليس مجرد عقد وديعة نقود، وإنما عقد فتح حساب ودائع يلقي فيها العميل بالمبلغ الأول الذي يحتمل الزيادة بواسطة العمليات التي قد يكلف البنك بها، وتؤدي إلى دخل نقدي للعميل، ويحتمل النقصان بعمليات السحب أو غيرها من العمليات التي تقتضي الإنفاق من النقود المودعة على ألا تتجاوز هذه العمليات قيمة النقود المودعة فعلا. ا هـ (2)
ونظرا إلى أن الغالب على عمليات الإيداع النقدي أن تكون الوديعة تحت الطلب بمعنى: أن يدخل العميل مع البنك في فتح حساب ودائع, فمن المتعين أن يتناول مبحث الودائع النقدية أنواع الحسابات المصرفية والتفرقة بينها ومعرفة طبيعة كل نوع من هذه الحسابات.
لا شك أن لدى المصارف أنواعا من الحسابات لكل حساب منها أصوله
__________
(1) انظر ص (24 ،25 ) من [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] للدكتور محمد جمال عوض
(2) انظر ص (274) من كتابه [ العقود وعمليات البنوك التجارية] الطبعة الثانية.

وقواعده، هذه الحسابات يختلف بعضها عن بعض تبعا لاختلاف الأغراض التي فتحت لأجلها، فإن كان الغرض من فتح الحساب مجرد إثبات عمليات الأخذ والعطاء مع احتفاظ كل عملية بذاتها وطابعها، فهذا ما يسمى بالحساب البسيط أو العادي أو حساب الودائع، أما إن كان القصد من فتحه أن تفقد عمليات التبادل ذاتيتها وتتحول إلى مفردات حسابية لا تسوى إلا عند قفل الحساب- فهذا ما يسمى بالحساب الجاري، ويتضح نوع الحساب المفتوح بمعرفة مقصد أطرافه.
وفي ذلك يقول الدكتور محمد عوض : إن فيصل التفرقة بين الحساب العادي والحساب الجاري هو قصد الطرفين وهدفهما من قيد حاصل العملية في حساب، فإن قصدا تسويتها فورا واتخذا الحساب كمجرد إثبات لهذه التسوية أو لإثبات وقوع العملية فهو حساب عادي، أما إذا كان القصد هو تحويل العملية إلى مفرد في الحساب وإرجاء تسوية هذا المفرد إلى وقت نهاية الحساب فهو حساب جار . ا هـ (1)
__________
(1) انظر كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ص (130).

الحساب العادي أو البسيط أو حساب الودائع
عقد فتح الحساب:
الواقع أنه لا توجد هناك نصوص خاصة تحكم عقود فتح الحسابات وإنما يرجع في إبرامها إلى القواعد العامة وما كان جرى عليه العمل وتعارفه الناس وما تمليه إرادة الطرفين؛ ولذلك فإن عقد فتح الحساب بين العميل والبنك يتم على وضع خاضع للاعتبارات السابقة.

ونظرا إلى أن العقد يعني إيجاد نوع من المعاملة المتبادلة بين البنك وعميله، فإن البنك لا يدخل مع عميله في مثل هذه المعاملة حتى يطمئن إلى عميله بما يجريه نحوه من التحريات عن شخصه ومدى أهليته لتلك العلاقة؛ سواء كان شخصا طبيعيا أو شخصا معنويا؛ ذلك لأن الإيداع يتبعه حق السحب إما مباشرة أو عن طريق إصدار شيكات أو سندات تجارية، فلا بد من توفر الأهلية الموجبة لصحة تلك التصرفات من ذلك العميل، وقد يكتفي البنك من تحرياته في الأحوال العادية بما يقدمه العميل من بطاقة شخصية أو أي ورقة رسمية تثبت هويته، وبما يقدمه من نماذج لتواقيعه لتجري مقابلتها على تواقيع سحبه.
وقد يتفق اثنان فأكثر على فتح حساب واحد على وجه التضامن فيسمى بالحساب المشترك، ويكون لكل منهم حق إيداع مبلغ ما، كما يكون له حق السحب. وأكثر ما يكون بين الشركاء والإخوة والأزواج، وبعض البلاد تشترط لفتح الحساب المشترك واستمراره كون الشركاء على قيد الحياة، فإذا توفي أحدهم أوقف الحساب خشية تلاعب بقية الشركاء بحقوق ورثة شريكهم المتوفى.
والغالب على الإيداع المفتوح به حساب أن تكون الوديعة فيه تحت الطلب، فإذا كانت الوديعة تحت الطلب فقد جرى بعض البنوك على عدم إعطاء فوائد على بقائها عندها؛ لأن البنك يفترض من العميل طلبها أو السحب عليها أو على بعضها فلا يعتمد عليها في تمويل عملياته المصرفية، وبالتالي فهو لا يستفيد من بقائها لديه إلا أن تجارب البنوك لعمليات الإيداع تحت الطلب قد أعطتهم نتائج تقضي بأن نسبة كبيرة من

الودائع تحت الطلب تبقى في البنك دون طلبها مما ييسر لهم أمر الانتفاع بهذه النسبة المتجمدة لديهم، ولهذا عمدت بعض البنوك إلى إعطاء فوائد قليلة على الودائع تحت الطلب. أما إن كانت الودائع لأجل معين فإن البنك يعطي عميله فائدة على بقائها عنده يتم الاتفاق بينهما على تحديد مقدارها ووقت سريانها وإضافتها لأصل الوديعة، ليكون لها حقها في الفائدة.
وإذا تم فتح الحساب بين طرفيه تخللته عمليات مختلفة بين أخذ وعطاء، سواء كان ذلك مباشرة أو نقلا مصرفيا أو مبالغ يقبضها البنك لحساب عميله كقيمة أسناد أو تحصيل شيكات أو عائدات أسهم مالية يفوض العميل البنك في استحصالها، وهذه العمليات المختلفة والمتبادلة بين طرفي الحساب تسمى في اصطلاح المصارف بتشغيل الحساب.
وفي ذلك يقول الدكتور علي البارودي : تتخلل عمليات الحساب منذ فتحه إلى قفله عمليات مختلفة بين العميل والبنك تحتفظ كل عملية منها باستقلالها ولا يطرأ عليها أي تحول (على خلاف ما سنرى فيما يتعلق بالعمليات التي تدخل الحساب الجاري)، كل ما هنالك أنها تترجم في حساب الودائع إلى قيود تذكر في الجانب الدائن للعميل أو في الجانب المدين حتى يأتي اليوم الذي يصفى فيه الحساب فيظهر الرصيد النهائي . ا هـ (1)
ويعتبر النقل أو التحويل المصرفي رافدا من روافد الإيداع، وله قواعد وأصول سارت البنوك في معاملاتها على رعايتها والتقيد بمقتضاها، وعليه
__________
(1) انظر ص (277 ، 278) من كتابه [العقود وعمليات البنوك التجارية]، الطبعة الثانية

فإن من إيفاء البحث حقه التعرض له بذكر بعض مما أورده بعضهم بخصوصه.
يقول الدكتور علي البارودي : عملية التحويل المصرفي تتم بواسطة قيود يجريها البنك، مضمونها أنه يجعل حساب عميل معين مدينا بمبلغ معين لكي يجعل حساب عميل آخر دائنا بذات المبلغ، أو هي نقل مبلغ من حساب لحساب آخر بمجرد قيود في الحسابين وتبدأ هذه العملية عندما تنشأ علاقة مديونية بين شخصين لكل منها حساب في البنك، فبدلا من أن يقوم المدين منها بسحب مبلغ من حسابه فيوفي به للآخر الذي يلجأ إلى البنك مرة أخرى ليودعه، يصدر العميل المدين أمرا إلى البنك بأن ينقل من حسابه إلى حساب دائنه مبلغا يعادل قيمة الدين فيجري البنك القيود اللازمة، ثم يخطر العميل الدائن بأنه أضاف إلى حسابه هذا المبلغ نقلا عن حساب مدينه، فيوافق الدائن أو على الأقل لا يعترض، وتمام العملية على هذا الوجه يغني عن استعمال النقود؛ لذلك سميت بأنها نقود قيدية . ا هـ.
ويقول: والغالب أن يتم النقل أو التحويل المصرفي من حساب عميل معين إلى حساب عميل آخر، ولكن لا يوجد ما يمنع من أن يصدر العميل إلى البنك أمرا بإجراء عملية التحويل المصرفي بين حسابين له في ذات البنك إذا كان يخصص كلا منهما لغرض معين، كما إذا كان له حساب لعملياته الشخصية وحساب آخر للعمليات التي يقوم بها في ممارسة حرفة معينة، وكما إذا كان شخصا معنويا- شركة أو جمعية مثلا- وله حساب خاص لكل فرع من فروعه المختلفة تسهيلا لعمليات السحب والإيداع، وقد يتم التحويل المصرفي بين عميلين لكل منهما حساب في ذات البنك،

ولكنه قد يتم أيضا بين عميلين في بنكين مختلفين، فيصدر الأمر من العميل المدين إلى البنك الذي يتعامل معه بأن يضع تحت تصرف بنك العميل الدائن مبلغا يقيده هذا البنك الآخر في حساب العميل الدائن، فكأن البنك الثاني يتولى عن البنك الأول القيام بعملية النقل بين العميلين دون استعمال النقود، ولا يقتضي الأمر عادة أن يعطي البنك الأول إلى البنك الثاني مبلغ ما قيده البنك الثاني لحساب عميله الثاني الدائن، إذ أنه غالبا ما يكون بين البنكين حسابات متصلة تتم تصفيتها عن طريق المقاصة . ا هـ (1)
ويشترط لصحة النقل المصرفي أن يكون الأمر بالنقل مؤرخا ليكون ذلك مانعا العميل الآمر من الرجوع عن أمره بالتحويل المصرفي، وليعطي تاريخ الأمر العلم بوقته في حال إفلاس أحد الطرفين البنك أو العميل، ليجري ترتيب المجريات القضائية على حكم التصرف في ذلك التاريخ.
ويذهب الدكتور علي البارودي إلى القول: بأن النقل أو التحويل المصرفي عملية مجردة تشبه عملية تسليم النقود، وفي هذا يقول: والنقل أو التحويل المصرفي عملية مجردة، فهو أشبه بعملية تسليم النقود ماديا من العميل الآمر إلى دائنه العميل المستفيد عن طريق مناولة يدوية من جانب البنك المتوسط، وعلى ذلك: فإن حق المستفيد في مواجهة البنك بعد القيد بات مستقلا تماما عن العلاقة بين البنك وبين العميل الآمر (2)
ويقول في موضع آخر في معرض الحديث عن التكييف القانوني للنقل
__________
(1) انظر ص (278-280) من كتابه [ العقود وعمليات البنوك التجارية]، الطبعة الثانية.
(2) انظر ص (281) من كتابه [ العقود وعمليات البنوك التجارية]، الطبعة الثانية

المصرفي ما نصه: لذلك اتجه أغلب الفقه والقضاء إلى تكييف النقل المصرفي بأنه عملية مادية شكلية، تساوي في نظر القانون عملية تسليم مادية من النقود، بل لقد أطلقوا عليها- والتعبير موفق إلى أبعد حد- أنها نقود قيدية، فالعميل المستفيد قد تسلم نقودا بالفعل من العميل الآمر، وكل ما هناك أن طريقة التسليم طريقة مصرفية حديثة (1)
هذا العقد يثبت عادة بتسليم المدخر دفتر التوفير الموقع عليه بإمضائين من إمضاءات البنك المعتمدة والمقيد به المبلغ الذي فتح بمقتضاه حساب التوفير، وتنظم البنوك عادة بنود هذا العقد على النحو الذي يضمن جدية العقد من ناحية وتشجيع المدخرين من ناحية أخرى؛ فعقد حساب التوفير له طابع شخصي بحت والدفتر اسمي غير قابل للتحويل ولا للتداول، ولا يمكن لغير صاحب الدفتر أو ورثته أو وكلائه- متى أثبتوا صفتهم- السحب من المبالغ المودعة، وبديهي أنه لا يجوز السحب عن طريق إصدار الشيكات، وفيما يتعلق بالمبالغ المودعة في حساب التوفير يضع البنك عادة حدا أدنى للمبلغ الذي يجوز فتح حساب التوفير بمقتضاه (5 جنيهات مثلا)، ويضع كذلك حدا أقصى (5000 جنيه)، كما أنه يضع حدا أدنى للمبالغ التي تودع أو تسحب بعد ذلك من الدفتر (مبلغ جنيه واحد)، كذلك يضع البنك حدا أدنى للمبلغ الذي يمكن أن يرتب فوائد لصالح المدخر (10 جنيه) بحيث إذا نقص المبلغ المودع في الدفتر عنه فإنه لا تحسب له فوائد أصلا، وبديهي أن هذه الحدود الدنيا الضئيلة تمثل أقل ما يمكن أن
__________
(1) انظر ص (284) من كتابه [ العقود وعمليات البنوك التجارية]، الطبعة الثانية.

يتطلبه البنك لجدية العقد، أما الحد الأقصى فالغرض منه استبعاد كبار المودعين الذين يريدون الاستفادة من فوائد حساب التوفير مع الاحتفاظ بودائعهم الكبيرة تحت الطلب. ا هـ (1)
قفل الحساب:
قفل الحساب، يعني: إيقاف عمليات تبادل المدفوعات وتصفيتها وإخراج الرصيد النهائي لها دينا محررا واجب الأداء، والغالب أن يكون ذلك في صالح العميل.
ولقفل الحساب أسباب وآثار:
أ- أسباب قفل الحساب :
لقفل الحساب أسباب كثيرة: أهمها أن يكون بين البنك وعميله اتفاق على فتحه لمدة معينة، أو أن فتحه كان لعملية مصرفية معينة، فبمجرد انقضاء المدة أو الانتهاء من العملية المصرفية يصبح الحساب مقفولا ما لم يحددا اتفاقا على تمديد فتحه، أما إذا لم يكن هناك اتفاق على تحديد مدة فتحه فيقفل الحساب بناء على طلب أحد طرفيه في وقت لاحق.
ويقول الأستاذ الدكتور علي البارودي : بأن للحساب طابعا شخصيا، لذلك يجب قفله إذا طرأ على أهلية أحد الطرفين طارئ، كما إذا توفي العميل أو حجر عليه أو أفلس أو إذا كان العميل شخصا معنويا فانقضى، كذلك يجب قفل الحساب بمجرد إفلاس البنك أو تصفيته . ا هـ (2) .
__________
(1) انظر كتابه [ العقود وعمليات البنوك] ص (293).
(2) انظر ص (285) من كتابه [العقود وعمليات البنوك]، الطبعة الثانية

ب- آثار قفل الحساب :
يقول الدكتور علي البارودي ما نصه: عند قفل الحساب يجب تصفيته وبيان الرصيد النهائي وهو عادة لصالح العميل في حساب الودائع، وتصبح نتيجة الحساب نهائية بالاتفاق عليها أو بالحكم القضائي فلا يجوز إعادة النظر فيها بعد ذلك إلا لإصلاح خطأ مادي أو خطأ في عملية الحساب أو ترك أو تكرار لأحد القيود، ولا تقبل دعوى تصحيح الحساب حينئذ إلا إذا حدد المدعي المفردات التي وقع فيها الخطأ وعزز ادعاءه بالأدلة (1) .
__________
(1) انظر ص (286) من كتابه [ العقود وعمليات البنوك] الطبعة الثانية

حساب الادخار والتوفير :
يعتبر

حساب الادخار والتوفير
ضربا من ضروب حساب الودائع إلا أن له بعض سمات تجعل له لونا خاصا في التعامل، وإلى ذلك يشير الدكتور علي البارودي بقوله: عقد حساب التوفير كسائر عقود البنك عقد رضائي يتم باتفاق العميل المدخر مع البنك .

الحساب الجاري
تعريفه ومزاياه
:
للحساب الجاري أصول وقواعد وأحكام يختلف بها عن بقية الحسابات الآخرى، إذ أن كل دفعة من الدفعات تفقد ذاتيتها، وتشكل جزءا من كل لا يتجزأ في الحساب الجاري، وكثيرا ما يركن إليه إذا ما تعددت العمليات التبادلية وتكررت وأريد تصفيتها وإنهاؤها.
ولقد درج بعضهم إلى تعريفه بما نصت عليه بعض المواد القانونية

التجارية، ومن ذلك المادة (106) من قانون التجارة الأردني، والمادة (393) من قانون التجارة السوري، والمادة (298) من قانون التجارة اللبناني من أنه يراد بعقد الحساب الجاري : الاتفاق الحاصل بين شخصين على أن ما يسلمه كل منهما للأخر بدفعات مختلفة من نقود وأموال وأسناد تجارية قابلة للتمليك يسجل في حساب واحد لمصلحة الدافع ودينا على القابض دون أن يكون لأي منهما حق مطالبة الآخر بما سلمه له بكل دفعة على حدة، بحيث يصبح الرصيد النهائي وحده عند إقفال هذا الحساب دينا مستحقا ومهيأ للأداء . ا هـ.
ويذكر الدكتور أدوار عيد : بأن الحساب الجاري لا يعتبر مجرد قائمة بالعمليات المتبادلة بين الطرفين بقصد ضبط هذه العمليات وإقصاء عامل النسيان عنها وقت التصفية، وإنما هو صيغة حسابية خاصة تترتب عليها آثار هامة بين الطرفين، أهم خصائصها أن تندمج العمليات الجارية بين الطرفين اندماجا تاما داخل الحساب، بحيث تفقد كل منها كيانها الذاتي واستقلالها بمجرد قيدها فيه، فلا يعتبر أحد الطرفين دائنا أو مدينا للآخر، طالما أن الحساب مفتوح بينهما حتى إقفال الحساب وتسويته، حيث يظهر عندئذ رصيد دائن لأحد الطرفين على الطرف الآخر يكون مستحقا وقابلا للأداء في الحال. . . . إلى أن قال: وللحساب الجاري مزايا عديدة؛ فإنه يسهل تصفية العمليات بين طرفيه، ويفادي استعمال النقود بصدد كل منهما مكتفيا بمجرد قيدها في الحساب وما ينتج عنه من مقاصة فيما بينهما، بحيث إن الرصيد النهائي فقط يستلزم دفع النقود وبحكم هذه المقاصة بين الطرفين فإنه يلاقي كل منهما خطر إعسار الآخر، وتنجلي هذه الفائدة على

الأخص في حالة إفلاس أحد الطرفين، حيث إن الديون المستحقة والمقيدة في الحساب تكون قد سقطت فيما بينهما بالمقاصة، كما أن الديون لأجل المقيدة في الحساب على الطرف الذي أعلن إفلاسه تدخل تحت حكم المقاصة أيضا؛ لمجرد قيدها فيه قبل إعلان الإفلاس وسقوط أجلها بمجرد هذا الإفلاس . ا هـ (1) .
__________
(1) انظر كتابه:[ العقود التجارية وعمليات المصارف]، ص (607 ، 608)، مطبعة النجوي.

أركان الحساب الجاري
للحساب الجاري ثلاثة أركان:
أحدها : الركن الإداري، وهو اتفاق الطرفين على فتحه، سواء كان الاتفاق منهما صراحة أو ضمنا مع اشتراط أن يكون كل منهما أهلا لصحة التصرفات الصادرة منه، ويعتبر الاتفاق ضمنيا في حال ما إذا جرى بين الطرفين مجموعة من المدفوعات المتبادلة، يقيدها كل منهما في حساب فتحه لديه دينا للدافع على القابض دون المطالبة بتسديد كل عملية على انفراد مع نية تسديد الرصيد عند إنهاء علاقتهما المتبادلة، وقد يعتبر حسابا جاريا في حال ما إذا أشعر البنك عميله بفتح اعتماد له في حساب جار ثم قام العميل بعد ذلك بسحب شيء من ذلك الاعتماد دون الاعتراض على فتح حساب جار بينهما، ويعود تقدير وجود حساب جار بينهما من عدمه في حال الخصومة في ذلك إلى محكمة الاختصاص.
الركن الثاني : المدفوعات بين الطرفين، وهي الركن المادي ويشترط لقيد أي مدفوع في الحساب الجاري أن يكون مثليا؛ لتمكن المقاصة بينهما

سواء كان ذلك نقدا أو عينا، كالأرز والسكر ونحوهما، وأن يكون المدفوع حقا واجب الأداء، أما إن كان منازعا فيه أو معلقا على شرط محتمل الوقوع، فلا يصح قيده في الحساب الجاري، ولا يعني هذا استبعاد الديون المؤجلة عن قيدها في الحسابات الجارية، وإنما المقصود من ذلك استبعاد الديون المشكوك في وجوبها.
وفي هذا يقول الدكتور أدوار عيد: وإذا كان الدين لأجل فيمكن قيده في الحساب الجاري إذ يعتبر نهائيا رغم تأجيل استحقاقه، وقد رأينا أن من مزايا الحساب الجاري أنه يتيح قيد الديون المؤجلة فيه حتى إذا أفلس العميل استحقت هذه الديون فور إعلان إفلاسه، وجرت المقاصة بينهما وبين الديون القابلة لها في الحساب (1) كما يشترط في المدفوع أن يكون معين المقدار، وأن يكون الدافع قد سلمها للقابض على سبيل التمليك.
الركن الثالث : أن تكون المدفوعات المدرجة في الحساب الجاري متبادلة ومتشابكة، متبادلة بمعنى أن يقوم كل من الطرفين بدور القابض حينا ودور الدافع حينا آخر، فإن كان أحد الطرفين دافعا طيلة مدة الحساب دون أن يتلقى مدفوعات من الطرف الآخر لم يكن الحساب بينهما جاريا. ومتشابكة، بمعنى: أن يتخلل بعضها بعضا، فإن قام أحد الطرفين بمدفوعاته في الحساب ثم تلاه الآخر بمدفوعاته الأخرى لم يكن الحساب جاريا لفقد شرط التشابك في المدفوع (2) . .
__________
(1) انظر ص (619) من كتابه [العقود التجارية وعمليات المصارف] . .
(2) انظر (أركان الحساب الجاري) ص (612-626) من كتاب الدكتور أدوار عيد، [ العقود التجارية وعمليات البنوك]، مطبعة النجوي

الفرق بينه وبين الحسابات الأخرى:
فرق شراح القانون وعلماء الاقتصاد بين الحساب الجاري وحسابات الودائع والادخار ونحوها من حيث إن المدفوعات المتبادلة في الحساب الجاري تندمج بعضها في بعض، بحيث تشكل كلا لا يتجزأ حيث لا يمكن فصل بند من بنوده بمطالبة أو دعوى أو طلب مقاصة، بخلاف الحسابات الأخرى، فإن كل بند من بنودها يحتفظ باستقلاله وذاتيته وصلاحه للمطالبة والدعوى وضماناته الخاصة.
وفي ذلك يقول الدكتور علي البارودي : لذلك لا بد- والأمر غاية في الأهمية- من تحديد نوع الحساب ومعرفة العلامات التي نعرف بها كلا منهما ونميزه بها على الآخر، والتفرقة من الناحية القانونية تظهر من الاتفاق، إذ من الطبيعي أن يبين طرفا الحساب ما إذا كانا يريدان الدخول في حساب جار أو مجرد حساب ودائع, ولا بد أن تتضح نية الطرفين بوجه خاص عند الاتفاق على الدخول في حساب جار- إلى أن قال-: ومن الناحية العملية يغلب أن يكون الحساب الجاري بين تجار أو بين البنك وتاجر أو صانع أو صاحب حرفة، لمقتضيات الائتمان الخاصة بحرفته.
أما حساب الودائع فيغلب أن يكون بين البنك وبين المدخرين من الأفراد الذين يحفظون أموالهم في البنك، ويتعاملون بالشيكات التي يسحبونها عليه - إلى أن قال-: على أنه يجب أن لا ننسى أن هذه العلامات المميزة ليست هي الفيصل القاطع بين الحسابين، ونكرر مرة أخرى أن

المرجع في معرفة نوع الحساب هو إرادة طرفيه، ثم الشروط الخاصة التي يجب أن تتوافر في الحساب حتى يمكن اعتباره حسابا جاريا . ا هـ (1)
__________
(1) انظر (304، 305) من كتابه [ العقود وعمليات البنوك] الطبعة الثانية

الفوائد المتعلقة بالحساب الجاري
يقول الأستاذ الدكتور محمد عوض : إن العادة قد استقرت بين البنوك وغيرها من البيوت التجارية أن كل مدفوع في الحساب الجاري يرتب فائدة بقوة القانون دون حاجة إلى الاتفاق على ذلك أو إنذار أو مطالبة قضائية بخلاف الحسابات الأخرى، فيجب فيها الاتفاق على ترتيب هذه الفوائد .
ويعلل الأستاذ محمد عوض ترتب الفائدة على المدفوعات المتبادلة بأن ذلك تفسير لإرادة الطرفين حينما يتنازل كل منهما عن استحقاقه الفوري لما دفعه، فلا أقل من أن يتقاضى فائدة على بقائه.
ويقول: وعلى كل حال فقد استقر هذا العرف ولم يعد محلا لمنازعته- ويضيف إلى ذلك قوله- وقد جرى العرف المصرفي على أن الأصل هو سريان فوائد المفردات من وقت دخولها الحساب، إلا أنه يغلب أن يحدد الطرفان موعدا آخر لبدء سريان الفائدة، ويكون تاليا لتاريخ دخول المفرد في الحساب، ويسمى هذا الموعد- اصطلاحا- القيمة، فيقال: إن المبلغ دخل الحساب في أول يناير والقيمة في (15) منه، أي: أن فائدته لا تسري إلا من (15) يناير (1)
__________
(1) انظر ص (258-260) من كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] طبع دار النهضة

العمولة على فتح الحساب الجاري :
كما أن البنك يجري فائدة على المدفوعات المتبادلة بينه وبين عملائه في الحسابات الجارية فإنه في الغالب لا يكتفي بما يأخذه فائدة لمدفوعاته ؛ لكونها في رأيه غير كافية لتغطية نفقاته لفتح الحساب وتشغيله وتعريضه للمخاطر؛ ولهذا فقد استقر العرف المصرفي على أن للبنك الحق في أن يتقاضى أجرا عن هذه الخدمات يسمى عمولة.
ويقول الأستاذ محمد عوض : بأن البنك لا يقتضي هذه العمولة إلا إذا كانت بينه وبين عميله سلسلة عمليات تؤدي إلى عدة قيود في الحساب، كما لو فتح الحساب بقصد منح العميل قروضا وبقصد وفاء ما يسحبه من أوراق تجارية، وتنفيذ أوامر النقل المصرفي التي يصدرها، أما إذا كان المقصود من فتح الحساب هو تسوية عمليات سبق أن تقاضى البنك عن كل منها عمولة خاصة وقت إبرامها- فإن البنك لا يطلب عمولة عن الحساب المفتوح لقيد مثل هذه العمليات، كذلك لا محل لاقتضاء مثل هذه العمولة إذا كان الحساب عاديا لا جاريا (1)
__________
(1) انظر ص (268 ، 269) من كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] طبع دار النهضة

وقف الحساب الجاري
:
قد يعرض لأحد طرفي الحساب الجاري ما يتوقف به الحساب فترة من الزمن كإيقاف حركته فترة ما لعمل ميزان مؤقت يكشف عن مركز طرفيه من حيث الدائنية والمديونية، وقد يحلو لبعضهم التعبير عن ذلك الوقف بقطع الحساب.

ويرتب وقف الحساب أو قطعه آثارا أشار إليها الأستاذ الدكتور محمد عوض بقوله: ويرتب هذا القطع آثارا متعددة، فهو شرط لإمكان ترحيل الفوائد إلى الأصل وتجميدها ويتقاضى البنك عمولة، كما أن القضاء أعطاه دورا هاما في حالات عدة عندما سمح للعميل أن يستخدم صفته كدائن أثناء سير الحساب، معتمدا على ناتج هذا القطع (1)
__________
(1) انظر ص (271) من كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] طباعة دار النهضة العربية.

تعليل قاعدة عدم التجزئة
إذا انعقد الحساب الجاري بين طرفيه فإن كل دفعة فيه بأي طريق من طرق الإيداع تتحول إلى بند من بنوده فتفقد كيانها الذاتي واستقلالها، وفي ذلك تقول المادة (303) من القانون التجاري اللبناني، والمادة (398) من القانون التجاري السوري، والمادة (111) من القانون التجاري الأردني ما مضمونه: إن الديون المترتبة لأحد الطرفين إذا أدخلت في الحساب الجاري فقدت صفاتها الخاصة وكيانها الذاتي، فلا تكون بعد ذلك قابلة على حدة للإيفاء ولا للمقاصة ولا للمداعاة ولا لإحدى طرق التنفيذ ولا للسقوط منفردة بمرور الزمن، وتزول التأمينات الشخصية أو العينية المتصلة بالديون التي أدخلت في الحساب الجاري ما لم يكن اتفاق مخالف بين الفريقين.
وقد ذهب بعض فقهاء القانون وشراحه في تعليل تحول الإيداع الجديد في الحساب الجاري إلى بند من بنوده إلى أن في ذلك تجديدا للحساب بتغيير سببه، إذ أن المدين الذي كان ملتزما بدفع الدين الأصلي لا يكون

ملتزما بعد قيده في الحساب الجاري إلا بدفع رصيد هذا الحساب بعد قفله.
وقد انتقد الأستاذ الدكتور أدوار عيد هذا التعليل بقوله: ولكن هذه النظرية كانت محل نقد شديد من جانب بعض الفقهاء، ذلك أن التجديد يؤدي إلى انقضاء الدين الأصلي وحلول دين جديد مكانه، الأمر الذي لا يتحقق في الدين الذي يدخل في الحساب الجاري؛ لأن هذا الدين لا يتحول بدخوله في الحساب إلى دين جديد مستقل، بل إلى مجرد بند في الحساب، أي: إلى جزء منه لا كيان له ولا استقلال.
ولذا فقد ذهب الفقهاء الذين يؤيدون نظرية التجديد إلى القول: بأنه ليس ثمة تجديد بالمعنى الصحيح، بل شبه تجديد أو تجديد من نوع خاص، وهذا تعبير غير واضح من الناحية القانونية (1)
وذهب بعضهم إلى تعليل ذلك بنظرية المقاصة، إذ كل دين يدخل في أحد جانبي الحساب الجاري ينقضي بالمقاصة مع ديون أخرى في الجانب الآخر من الحساب، بحيث يصبح الحساب الجاري عمليات مقاصة متتابعة.
وقد انتقد الأستاذ أدوار عيد هذه النظرية بقوله: ولكن هذه النظرية قابلة للنقد أيضا، ذلك أن المقاصة تفترض وجود دينين متقابلين ينقضيان بمقدار الدين الأقل منهما، بينما قد يحصل أن يدخل دين أحد الطرفين في الحساب دون أن يكون هناك دين مقابل له للطرف الآخر . . . إلى أن قال: كما أن تطبيق نظرية المقاصة يؤدي في حال وجود اختلاف بين قيمة الدينين
__________
(1) انظر ص (633) من كتابه [ العقود التجارية وعمليات المصارف ] مطبعة النجوي

المتقابلين، أي: بين رصيد الحساب والدين المعاكس له الذي يفترض أعلى قيمة منه إلى استمرار تأمينات هذا الدين الأخير بالنسبة للفرق بين الدينين، في حين أن أحكام الحساب الجاري تقتضي زوال هذه التأمينات (1) واختار لذلك القول: بأن قاعدة تحول الدين إلى بند في الحساب الجاري تنطوي على ميزات وآثار خاصة بها، لا يمكن ردها إلى القواعد العامة المقررة في القانون المدني، وهذه الميزات والآثار تجعل من الحساب الجاري نظاما خاصا مستقلا بنفسه، تحكمه القواعد المقررة بشأنه في قانون التجارة وفي العرف والاجتهاد القضائي.
وعلى أي حال فسواء وجد تعليل وجيه لقاعدة تحول الدين الجديد في الحساب الجاري إلى بند من بنوده أو لم يوجد فإن التقنين التجاري والعرف المصرفي قد أقرا هذه القاعدة، وأوجبا العمل بمقتضاها فصارت سمة لازمة للحساب الجاري.
__________
(1) انظر ص (634) من كتابه [ العقود التجارية وعمليات المصارف ] مطبعة النجوي

آثار قاعدة عدم التجزئة
تترتب على قاعدة عدم التجزئة في الحساب الجاري آثار أهمها ما يلي:
ا- لا يجوز رفع الدعوى بالمطالبة بدين أدخل في الحساب الجاري، لأنه بدخوله فيه أصبح غير مستحق حتى يظهر الرصيد النهائي.
2 - إذا دفع أحد طرفي الحساب الجاري مبلغا ما لإدخاله فيه فإن هذا المبلغ لا يعتبر وفاء لمديونيته فيه؛ لأن كل طرف فيه لا يعتبر دائنا أو

مديونا قبل قفل الحساب وظهور الرصيد النهائي فيه.
3 - إن أي دفعة فيه لا يجوز إجراء مقاصة عليها، لأن المقاصة تعتمد على اعتبار الدفعة الجديدة فيه دينا مستقلا، والقاعدة تقضي: بأن أي دين جديد في الحساب الجاري يعتبر بندا من بنوده ويفقد ذاته واستقلاله.
4 - إن الدين الذي يدخل في الحساب الجاري لا يخضع للتقادم المسقط؛ لأنه باعتباره بندا من بنوده الجاري عليها لحساب يعتبر متحركا حتى قفل الحساب وظهور رصيده النهائي (1) .
__________
(1) انظر ص (635-637) من كتاب [ العقود التجارية وعمليات المصارف] للدكتور أدوار عيد، مطبعة النجوي .

قفل الحساب الجاري:
إن

قفل الحساب الجاري
يعني: إيقاف التعامل به نهائيا، والاتفاق على إنهاء جانبيه بعدم السماح بدخول مدفوعات جديدة، ومن ثم تصفيته واستخلاص الرصيد النهائي من مجموع مفرداته؛ ليمكن تحديد مركز طرفيه من ذلك الرصيد من دائن ومدين.
ولقفل الحساب أسباب إرادية وأسباب خارجة عن الإرادة، ويمكن تلخيص الأسباب الإرادية فيما يلي:
ا- اتفاق الطرفين صراحة على إنهاء الحساب ولو كان ذلك قبل مضي مدة اتفقا على تحديدها مدة لجريان حسابهما.
2 - اتفاق الطرفين ضمنا على إنهاء الحساب الجاري بينهما، كأن تتوقف عمليات المدفوعات المتبادلة بين طرفيه ويتوقف تبعا لتوقفها

إرسال ميزان الحساب مرة أخرى، أو أن يفقد الحساب قدرته على تلقي المدفوعات بين الطرفين.
3 - رغبة أحد الطرفين في قفله إذا لم يكن بينهما اتفاق على مدة معينة لجريانه إلا أنه يشترط لهذه الرغبة أن تكون في وقت مناسب ومتفق مع العادة المتبعة في المصارف.
أما الأسباب الخارجة عن الإرادة فأهمها ما يلي:
ا- الإفلاس: ذلك أن إفلاس أحد طرفي الحساب يؤدي إلى عجزه عن تتابع المدفوعات بين طرفيه للحجز على يد المفلس في إدارة أمواله.
2 - الوفاة: وقد خالف بعضهم في اعتبار الوفاة سببا موجبا لقفل الحساب إذا أبدى الورثة رغبتهم في استمرار الحساب مع أن مجموعة من القوانين التجارية في البلاد العربية قد نصت على أن الوفاة سبب لقفل الحساب، فقد ذكرت المادة (306) من قانون التجارة اللبناني، والمادة (401) من قانون التجارة السوري، والمادة (114) من قانون التجارة الأردني على أن عقد الحساب الجاري ينتهي بوفاة أحد طرفيه أو فقدانه الأهلية، أو بإفلاسه.
وقد علل شراح القوانين اعتبار الوفاة سببا موجبا لقفل الحساب بأن الحساب الجاري يشبه بعض العقود الجائزة كالوكالة أو الشراكة.
وقد انتقد الأستاذ الدكتور محمد عوض هذا الرأي وقال: وأولى أن يشبه عقد الحساب الجاري بالعقود المستمرة، فهو عقد مستمر وككل العقود المستمرة هو يقوم على الثقة؛ لأن استطالة مدة التنفيذ تتطلب من كل من طرفي العقد أن يركن إلى أمانة الطرف الآخر، ومن الثابت: أن موت أحد

طرفي العقود المستمرة لا يؤدي إلى إنهائها فورا، وبقوة القانون، فضلا على أن عقد الحساب الجاري هو عقد تابع مقصود به تسوية العمليات المترتبة على عقود أخرى بين طرفيه، فإذا كانت هذه العقود لم تنته بالوفاة فما معنى انتهاء عقد الحساب الجاري، وهو تابع خادم للعقود الأصلية؟!
ولعل بعض القضاة قد راعى هذه الملاحظات فحكم أن في وسع ورثة المتوفى إطالة أجل الحساب الجاري الذي كان مورثهم طرفا فيه، وتستخلص رغبتهم في ذلك من عدم قيامهم بإخطار البنك بوفاة العميل ورغبتهم في قفل الحساب وتسويته، كما حكم أن الحساب الذي يفتحه البنك لورثة عميله وهم في حالة شيوع مع استمرارهم في ذات الاستغلال الذي كان مورثهم يباشره لا يعد حسابا مستقلا قانونا عن الحساب الأول. ا هـ (1)
وإذا تم قفل الحساب ترتبت عليه الآثار الآتية:
أ- وقوع المقاصة بين مفردات الحساب.
ب- استخراج الرصيد وتسويته.
ج- الوفاء بالرصيد. بمعنى: أنه بمجرد تسويته واستخراجه يكون مستحق الأداء فورا ما لم يتفق الطرفان على تأجيل الوفاء أو إدراجه في حساب جديد.
د- جواز الحجز عليه تحت يد المدين به باعتباره دينا واجبا مستحق الأداء.
__________
(1) انظر كتابه ص (278) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية].

عدم جواز إحياء الحساب بعد قفله، لكون رصيده أصبح دينا مستحقا واجب الأداء، فإذا أراد طرفاه استئناف التعامل بينهما بطريق الحساب الجاري فتحا حسابا جديدا (1) .
__________
(1) انظر ص (238-240) من [العقود وعمليات البنوك التجارية] للدكتور علي البارودي، الطبعة الثانية.

ومما مضى نستطيع استعراض

أهم خصائص الودائع والحساب الجاري
فيما يلي:
ا- إن الودائع بمختلف أنواعها يدخل صاحبها مع المصرف الوديع في حساب يسمى حساب الودائع، والغالب أن المصرف يعطي على بقائها فوائد ربوية، يختلف حجم بعضها عن بعض تبعا لطول بقاء هذه الودائع لديه وقصره. ولا شك أن البنك لا يقوم بحفظ ذات الودائع لديه، وإنما يأخذها على سبيل تملكها وضمان مثلها ولزوم دفعها حال الطلب، وإن وجد الخلاف في تكييفها من الناحية القانونية، هل هي قرض أو وديعة بالمعنى الصحيح أو وديعة شاذة أو ناقصة؟
تكييف الودائع المصرفية من الناحية الشرعية :
إن الفقه الإسلامي قد يعتبرها في حكم القرض؛ لاتفاقها معه من حيث النتيجة في تملك عينها وتعلقها بذمة آخذها ورده مثلها في حالة مطالبة صاحبها بها.
قال في [ الروض المربع]: القرض : دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله. . . ويصح بلفظه ولفظ السلف وكل ما أدى معناهما. . . . . . ويملك

القرض بقبضه كالهبة، ويتم القبول. . . . . فلا يلزم رد عينه للزومه بالقبض، بل يثبت بدله في ذمة المقترض حالا ولو أجله (1)
وقال في [كشاف القناع عن متن الإقناع]: فإن استعارها، أي: الدراهم والدنانير لينفقها أو أطلق أو استعار مكيلا أو موزونا ليأكله أو أطلق، فقرض تغليبا للمعنى فملكه بالقبض (2)
وقد يعتبرها ربا؛ لما فيها من المعاوضة بين نقدين، والحديث ( « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل » (3) . . . ) إلخ، وأما الفوائد على بقاء الودائع لدى المودع فأمرها جلي واضح في أنها تجمع بين نوعي الربا: ربا الفضل وربا النسيئة، حيث يأخذ المودع زيادة على ما دفع مع التأخير، وبالرغم من تحقق معنى الربا فيما يعطيه المصرف للمودعين ووضوحه ووضوح تحريمه من نصوص الشريعة الإسلامية وقواعدها عرض لجماعة من المعاصرين شبهة في ذلك جعلتهم يعتقدون الجواز فيما يدفعه المصرف للمودعين زيادة على رءوس أموالهم، بناء على أن المصرف استقبل ما يدفع إليه من الأموال وأخذها للتنمية والإنتاج، لا لدفع كربة أو تفريج شدة من تسديد ديون أو استهلاك في كسوة أو قوت أو نحو ذلك من ضرورات الحياة حتى تكون محرمة، وبناء على زعمهم أن مقاصد الشريعة تقضي بتحريم الربا فيما أخذ للاستهلاك فقط، وأن هذا هو ربا الجاهلية الذي وردت النصوص بتحريمه دون ربا التنمية والإنتاج.
__________
(1) انظر الجزء الثاني ص (151-153) مطبعة السعادة بمصر
(2) انظر ص (51) الجزء الرابع، مطبعة أنصار السنة المحمدية.
(3) صحيح البخاري البيوع (2067,2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4565,4581),مسند أحمد بن حنبل (3/51).

وقد ذكر الأستاذ الدكتور محمد عبد الله العربي تلك الشبهة وأجاب عنها بما نصه:
قال بعض المعاصرين- هنا وفي بلاد إسلامية أخرى-: إن الربا الذي حرمه الإسلام هو ما اتصل بقروض استهلاكية، يقترضها ذوو الحاجة الملحة ويؤدون عنها رأس مالها ثم الربا المضاف إليها، أما القروض الإنتاجية التي يقترضها الموسرون ويوظفونها في مشروعات إنتاجية تدر عليهم ربحا وفيرا، فإن الفائدة التي يؤدونها عن رأس المال الذي اقترضوه ليست بالربا المحرم.
ونرد عليهم: بأن تسمية الربا بالفائدة لا يغير طبيعته، فالفائدة ليست إلا زيادة في رأس المال المقرض، وكل زيادة عنه هي ربا لغة وشرعا.
وأكبر حجة ساقوها على هذا الرأي هو أن الربا الذي حرمه القرآن هو ما كان سائدا في الجاهلية قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن العصر الجاهلي لم يكن أهله على علم بالقروض الإنتاجية وأثرها في النشاط الاقتصادي الحديث. ونسوا أن القرآن خاتم الهدايات الإلهية لم يكن ليشرع لعصر معين، بل تشريعه يمتد إلى أبد الدهر، ولم يكن ليغيب عن علم الله سبحانه وتعالى ما سوف يتمخض عنه اقتصاد هذا العصر- أو أي عصر- من اعتماد على القروض الإنتاجية، والزعم بضرورة ترتيب فائدة عليها حتى لا تنقطع، ونسوا قوله تعالى: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (1) بغير تمييز بين ما إذا كانت رءوس الأموال هذه التي استخدمها مقترضوها قد استخدموها في أغراض إنتاجية أو استهلاكية،
__________
(1) سورة البقرة الآية 279

ونسوا كذلك الحديث الذي يقرر أن: « كل قرض جر نفعا فهو ربا » (1)
فلم يميز الرسول بين ما إذا كان القرض الذي عاد بزيادة على المقرض قد فرج كربة المقترض أو وظفه في تمويل مشروع إنتاجي، ولو شاء سبحانه هذا التمييز أو علم أن فيه خيرا للناس لما ترك النص عليه.
وسنبين لهم- من واقع تجارب هذا العصر وشهادة كثير من علماء الاقتصاد في هذا العصر بالذات- أن الربا في هذه القروض الإنتاجية قد تسبب في أضرار فادحة في الاقتصاد العالمي المعاصر، ولكنا نريد في البداية أن نمحص الحجة التي يتوكئون عليها وهي أن العصر الجاهلي لم يكن يعرف ما نشأ في العصور الحديثة من القروض الإنتاجية.
حسب الباحث أن يتأمل في الظروف المادية التي أحاطت بالاقتصاد الجاهلي وبالبيئة الجاهلية- بيئة مكة وما حولها من قرى الحجاز - ليوقن أن القروض الإنتاجية كانت ضرورة حيوية من ضرورات اقتصادهم، فمكة - مهد الإسلام- وما حولها من القرى التي كانت ترتبط معا بروابط اقتصادية وتجارية تجعل القرض الإنتاجي لازما من لوازم حياتهم.
وينبئنا التاريخ بأن الطائف - مقر قبيلة ثقيف - وهي قرية تبعد إلى الجنوب الشرقي من مكة بنحو خمسة وسبعين ميلا، وكانت تمتاز بأرض خصبة في الوديان المحيطة بها، وكانت لذلك تصدر إلى مكة وقرى الحجاز الأخرى حاصلاتها من الزبيب والقمح والأخشاب وغيرها،
__________
(1) روي مرفوعا ولم يصح، وروي موقوفا على علي وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام.

وكانت تستورد من مكة السلع التي تأتي بها قريش في كل من الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن وجنوب الجزيرة، وهذا التبادل التجاري كان يتم أكثره عن طريق القروض الربوية، لاسيما أن جالية كبيرة يهودية كانت تقيم بالطائف، هاجرت إليها بعد طردها من اليمن، ولم تكن لها صناعة إلا الإقراض بالربا لهذا النشاط التجاري لأهل الطائف وما حولها.
أما مكة فكانت في أرض جدباء، لا زراعة فيها ولا غابات ولا معادن، ولذلك كانت لا تعتمد في رزقها إلا على التجارة، حتى أصبحت أعظم مركز تجاري في الجزيرة العربية. يقول المؤرخون: إنها كانت (المحطة) الوسطى بين مأرب وغزة في طريق القوافل الرئيسي بين متاجر الشرق ومتاجر الغرب، وقالوا: إن مكة صارت على هذا النحو أشبه بجمهورية تجارية تعيش اقتصاديا على الرحلتين، وكان يزيد في مكانتها التجارية أن قريشا كانوا سدنة الكعبة والبيت الحرام، وكانوا لذلك موضع الرعاية والتكريم في حلهم وترحالهم.
وكان للتجارة بصفة عامة احترام كبير في نفوس قريش، ويتجلى ذلك على الأخص في أن المهاجرين من قريش إلى يثرب - بالرغم من كل ما قدم لهم الأنصار من مشاركة في أرزاقهم تغنيهم عن الكد والسعي- آثر أكثرهم أن يبدأوا في الحال ممارسة التجارة.
قال أبو هريرة : ( إن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق ) أي: الخروج إلى التجارة.
وهكذا يروي التاريخ كيف كانت مكة مركز نشاط تجاري عظيم، ومحط القوافل في غدوها ورواحها، يترقبها أهل مكة رجالا ونساء،

وأكثر قد وظف بعض ماله في السلع، التي تحملها هذه القوافل، كما يروي التاريخ أن قافلة أبي سفيان التي أدى خوف الاستيلاء عليها إلى غزوة بدر، كانت قريش كلها مساهمة في تمويلها، والتمويل يحتاج إلى رأس مال، فإذا لم يكن رأس المال متوافرا لدى بعضهم لجأ هذا البعض إلى الاقتراض بربا يتعهد بأدائه إلى المقرض اعتمادا على أن الربح الذي سوف يجنيه من توظيف المال المقترض في التجارة سوف يدر عليه أكثر من الربا المفروض عليه، أي: أن هؤلاء كانوا يقومون بالدور الذي يسمى الآن دور (الشريك القائم) يعطي ما اقترضه من المال إلى القائمين فعلا بالاتجار، شراء السلع في إحدى الرحلتين ثم بيعها في الرحلة الأخرى، ثم يدفع في النهاية من النصيب الذي خصه رأس المال الذي اقترضه بالإضافة إلى مبلغ الربا المتفق عليه.
لذلك عجبت قريش عندما جاء الإسلام يحرم الربا، وقالوا: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } (1) هو تأجير لرأس المال، والربا الذي يستحقه المقرض هو أجرة رأس المال، فكان الربا على هذا النحو جزءا لا يتجزأ من حياتهم الاقتصادية، وكان أصحاب المال في مكة لا يقتصرون على إقراض مواطنيهم في مكة، بل يمتد إقراضهم إلى أهل القرى الأخرى في الحجاز، فكانوا يساهمون بصفة أصلية في تمويل القوافل، وفي الوقت ذاته يقرضون غيرهم ليشاركهم في تمويلها. فقد ثبت أن عباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وخالد بن الوليد وغيرهما كان إقراضهم يتجاوز حدود مكة إلى أهل الطائف، وثبت أن عثمان بن عفان كان من أغنياء التجار الذين يمولون التجارة على نطاق واسع.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275

وهكذا يتبين بما لا شك فيه: أن عرب الجاهلية كانوا يتعاملون بالربا في حالتين :
الحالة الأولى: عند تقديم قرض لأجل معين بربا يزيد على رأس مال القرض، وكانت هذه الزيادة تحدد بما يتفق عليه الطرفان، فطورا كان المقترض يدفع هذه الزيادة على أقساط شهرية، وطورا كان يدفعها جملة واحدة عند حلول أجل القرض، فإذا عجز المقترض عن السداد أعطى أجلا آخر بعد مضاعفة قيمة القرض، وفي حالة تقسيم الزيادة على أقساط شهرية كانت تضاعف هذه الأقساط مقابل تأجيل سدادها.
الحالة الثانية: حالة البيع: أي يبيع البائع السلعة بثمن مؤجل فإذا حل الأجل أو عجز المشتري عن أداء الثمن زيد الثمن وامتد الأجل، كما ثبت أن البيع مع تأجيل الثمن لم يكن فقط لعجز المشتري عن تعجيل الثمن، بل كان لإمهاله حتى يبيع السلع التي اشتراها، وكانت الشركة المسماة ( شركة الوجوه ) شائعة في الجاهلية، وهي أن شخصين أو ثلاثة يعقدون عقد شركة فيما بينهم بغير تقديم أي مال من أحدهم، وكانوا اعتمادا على الثقة فيهم يشترون مع تأجيل الثمن، فإذا باعوا سلعهم المشتراة اقتسموا الربح بعد تسديد الثمن، وفي بيئة كالبيئة الجاهلية كان شراؤهم بغير تعجيل الثمن يقترن دائما بفائدة ربوية للبائعين مقابل الأجل.
فلما جاء الإسلام أحدث ثورة في أساس حياتهم الاقتصادية:
كان أساس القرض الإنتاجي في العصر الجاهلي أن لا يقترن الإقراض بأي مخاطرة من جانب رب المال، فهو يقدم مال القرض ويفرض عليه الفائدة الربوية ثم يسترد رأس المال ورباه، سواء ربح المشروع أو خسر،

ثم جاء الإسلام فحرم الربا مهما كان هدف القرض، ووجه بذلك ضربة قاضية إلى النظام الاقتصادي القائم. إن أهمية { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) لم تقتصر على إحلال البيع وتحريم الربا، بل قلبت التفكير الاقتصادي عن دور رأس المال ودور التجارة رأسا على عقب، جاء الإسلام فشجع التجارة وبالتالي شجع عملية الإقراض ولكن بغير زيادة على رأس المال.
عن ابن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن السلف- أي: القرض- يجري مجرى شطر الصدقة » (2) (3) وجاء في [ السنن] لابن ماجه أنه قال: « ما من مسلم يقرض قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة » (4) ، وعن ابن مسعود أنه قال: ( كل قرض صدقة ) (5)
وهكذا استمرت بعد الإسلام القروض بنوعيها:- استهلاكية وإنتاجية- يقدمها أرباب المال بغير ربا، بدافع الإخاء الإسلامي والتعاون الإسلامي، وما يرتجيه رب المال من ثواب على هذا الصنيع، بل ثبت أن بيت المال كان يخرج بغير ربا قروضا لمشروعات إنتاجية.
وروى الطبري : ( أن هندا ابنة عتبة قامت إلى عمر بن الخطاب فاستقرضته من بيت المال أربعة آلاف درهم تتجر فيها وتضمنها فأقرضها، فخرجت بها إلى بلاد كلب فاشترت وباعت، فلما أتت المدينة شكت الوضيعة- أي: الخسارة- فقال لها عمر : لو كان مالي لتركته، ولكنه مال
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/412).
(3) رواه الإمام أحمد في [ المسند].
(4) سنن ابن ماجه الأحكام (2430).
(5) رواه الطبراني في [الأوسط] وأبو نعيم في [الحلية].

المسلمين ) اهـ .
إلى أن قال . . . ونحسب أنه بعد هذا البيان لم يبق محل للجدل في أن الربا الذي حرمه الإسلام يشمل القروض الإنتاجية والقروض الاستهلاكية على السواء، وأن القروض الإنتاجية كانت شائعة في العصر الجاهلي، فجاء الإسلام يحرم الربا عليها كما حرمه على القروض الاستهلاكية.
وقبل أن نختم هذه الكلمة الموجزة عن الربا يجب أن نكشف عن العلة في تحريمه كشفا نهتدي فيه بعقلنا البشري، أما التحريم في ذاته فهو قائم، لأنه أمر الله، الله الذي لا يريد لعباده إلا الخير، وقد تقصر عقولنا البشرية عن إدراك مدى حكمته.
أما الربا على القرض الاستهلاكي فحكمة تحريمه ظاهرة لا تحتاج إلى بيان فهو يتنافى مع الأخلاق الإسلامية، وهو يهدم جميع الخصائص التي جعلها الله من مقومات المجتمع الإسلامي . . أما الربا على القرض الإنتاجي فلعل حكمة تحريمه لم تظهر على أوضح وجه كما ظهرت منذ أجازت التشريعات الأوروبية قرض (الفائدة) على القروض.
ونكتفي هنا بما أثبتته المشاهدات الواقعية لآثار هذا الربا في عصرنا مرجئين التدليل عليها إلى سياق البحث.
فمن جهة المرابي: ترتب على تحليل الربا على القرض الإنتاجي في القرون الثلاثة الأخيرة- كما سنوضح تفصيلا فيما بعد- أن نشأت البنوك الحديثة، فتركز في أيدي أصحابها الجانب الأكبر من المال المتداول في المجتمع، حتى صارت لهم السيطرة الكبرى على اقتصاديات المجتمع ثم امتدت هذه السيطرة إلى سياسة المجتمع الداخلية والخارجية، وإلى

تشريعات المجتمع، بل وإلى أخلاقياته وأسلوب تفكيره، بما أحرزوه من سيطرة على وسائل الإعلام، ودأبوا على توجيه كل هذه القوى في الاتجاه الذي يكفل لهم المزيد من القوة المالية، ويدعم المكانة الرفيعة التي اغتصبوها، وإن ضحوا في سبيل ذلك بالمصالح الحقيقية للشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها.
ثم يجب أن لا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن المال الذي آتى أصحاب البنوك هذه القوة وهذه السيطرة لم يكن في البداية مالهم الخاص، بل أكثره مال المودعين الذي أودعوه في خزائنهم لآجال معينة يحصلون في مقابلها على فائدة صغيرة، ثم يقرض أصحاب البنوك أصحاب المشروعات الإنتاجية بفائدة أكبر، ويستحلون هذا الفرق الكبير بين الفائدتين، وشيئا فشيئا تركز أكثر المال السائل في المجتمع في حوزتهم، وهكذا دانت لهم السيطرة المالية بغير أي كد أو جهد بذلوه، بل كانت عملية امتصاص دماء المجتمع وهم رابضون في بنوكهم.
أما من جهة المنتج الذي يقترض بالربا فهذه بعض النتائج التي تترتب على رباه:
أولا: غلاء أسعار السلع التي ينتجها المقترض، إذ المنتج يضيف فائدة القرض إلى تكاليف إنتاج السلع التي يشتريها المستهلكون، فكأن المجتمع - لا المنتج المقترض- هو الذي يدفع الفائدة الربوية.
ثانيا: المجتمع يدفع الفائدة الربوية إذا ظلت دورة الرخاء التي اعتمد عليها المنتج قائمة، وإذا ظل مستوى الطلب على السلعة متفقا مع تقديره، أما إذا تقلصت دورة الرخاء أو إذا نقص الطلب على السلعة بسبب ارتفاع ثمنها

نتيجة لإضافة الفائدة الربوية، فإن الوضع يختلف، إذ يؤدي ارتفاع الثمن إلى انحسار الاستهلاك تدريجيا، فيبقى فائض من المنتجات بغير تصريف هذا الفائض له عواقبه.
ثالثا: المنتج إذا أراد تخفيض تكاليف الإنتاج التي ارتفعت بسبب إضافة الفائدة إليها لا يجد أمامه إلا أجور العمال، فيسعى إلى تخفيضها أو إلى الاستغناء عن بعضهم، أما الاستغناء فيؤدي إلى خلق البطالة، وأما تخفيض أجور العمال فيؤدي إلى نقص القوة الشرائية في المجتمع، وفي الحالتين يزداد الاستهلاك انحسارا ويزداد فائض المنتجات، فتنشأ الأزمات الدورية التي صارت لازمة من لوازم الاقتصاد الغربي.
رابعا: والسعي إلى تصريف فائض الإنتاج يؤدي إلى البحث عن أسواق خارجية، وطبعا لن يكون أكثرها إلا في البلاد المتخلفة غير الصناعية، ولا سبيل إلى استدامة هذه الأسواق إلا ببسط نفوذ الدول الصناعية عن طريق الاستعمار، وهكذا تنتقل بلية الربا من مجتمع إلى مجتمعات الإنسانية كلها، كما ثبت أن هذا التنافس الاستعماري كان من الأسباب التي أشعلت حربين عالميتين، وقد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.
خامسا: إذا أخفق المنتجون المقترضون بالربا في تخفيض أجور العمال لجأوا إلى وسيلة أخرى هي تخفيض أثمان المواد الأولية التي تعتمد عليها صناعاتهم والتي يستوردون أكثرها من البلاد المتخلفة غير الصناعية، وهنا تتآمر الدول الصناعية بتكتلاتها الاحتكارية على تخفيض أثمان المواد الأولية، غير مكترثة بالأضرار الفادحة التي تصيب بها الجانب الأكبر من سكان الأرض، وغير حافلة بالجهود التي تبذلها منظمات هيئة الأمم

المتحدة في محاولة قمع هذا الاتجاه.
وبعد: فهذه بعض الأضرار التي أصابت البشرية كلها من إجازة الفائدة الربوية على القروض الإنتاجية، حتى رأينا بعض علماء الاقتصاد -وفي الدول الرأسمالية بالذات- يندد بالفائدة في الاقتصاد الرأسمالي.
وهذا تصديق قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (2) ا هـ .
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279

2 - التفريق بين حساب الودائع والحساب الجاري من حيث احتفاظ كل دفعة من أي طرف في الحساب العادي أو البسيط أو حساب الودائع بكيانها واستقلالها، وبالتالي خضوعها للآثار الحقوقية من حيث المطالبة بها والمقاصة عليها، بخلاف ذلك في الحساب الجاري فإن كل دفعة من أي طرفيه تفقد كيانها واستقلالها وتخضع للانصهار في كليته؛ لتكون بندا من بنوده لا تجوز المطالبة بها ولا المقاصة عليها ولا اعتبارها حقا قائما بذاته، وإنما هي جزء من كل لا يتجزأ هو جانبا الحساب الجاري الدائنية والمديونية.
وقد مر بنا محاولة تعليل هذا التقعيد للحساب الجاري فمن قائل بأن انصهار المدفوعات في الحساب الجاري وعدم اعتبار أي دفعة منها دينا قائما بذاته يعني بذلك التجديد، ومن قائل بأن المقاصة بين المديونية والدائنية هي التي قضت على كل دفعة فيه، واتجه النقد إلى كلا التعليلين

ثم قيل : بأن العرف المصرفي وقواعد الحساب الجاري قضيا بذلك ، سواء وجد تعليل يسنده المنطق أم لم يوجد .
هذه المسألة تحتاج إلى كثير من النظر والتأمل ، وعلى افتراض وجاهة التقعيد لها في الحساب الجاري فيمكن أن يقال بأن المصلحة تعتبر سندا لتلك القاعدة باعتبار : أن تجزئة الحساب وبقاء كل دفعة فيه متعلقة بما عليها وما لها من حقوق يعرقل سير الحساب ويحول دون أدائه وظائفه التي من أهمها تسوية المدفوعات المتشابكة والمتبادلة بين الطرفين .

3 - العمولة في نظر القانون :
العمولة سبق ذكر أن العادة المصرفية قد جرت بين البنوك في أخذ عمولة على الحساب الجاري باعتبار أن أخذ البنك الفائدة على مدفوعاته لا يكفي لتغطية نفقاته وقيمة مسئولياته تجاهه ، وقد أخذ باعتبار ذلك ومشروعيته بعض القوانين العربية وغيرها ، وحكمت بوجاهته واعتباره بعض محاكم الاختصاص في فرنسا ومصر وغيرهما ، ولكن بشيء من التحفظ والقيود ، وفي ذلك تقول المادة ( 227 ) من القانون المدني المصري الجديد ما نصه : كل عمولة أو منفعة أيا كان نوعها اشترطها الدائن إذا زادت هي والفائدة المتفق عليها على الحد الأقصى المتقدم ذكره وهو ( 7% ) تعتبر فائدة مستمرة وتكون قابلة للتخفيض إذا ما ثبت أن هذه العمولة أو المنفعة لا تقابلها خدمة حقيقية يكون الدائن قد أداها ولا منفعة مشروعة (1)
__________
(1) انظر [ الوسيط ] ، للسنهوري ، جـ 2 رقم 512 ص 908 .

العمولة في حكم الشريعة الإسلامية :
إن العمولة التي يأخذها البنك يمكن أن يقال عنها بأنها من قبيل الأجرة على تحمل متاعب تشغيل الحساب الجاري ، كما يتعلل بذلك أصحاب المصارف ، كما يمكن أن يقال بأنها جزء من الفائدة الربوية تشكل قدرا إضافيا إليها صار من البنوك الاحتيال عليها بتسميتها عمولة ، وإذا ادعى أنها من قبيل الأجرة على قيد وتشغيل الحساب كنفقات قرطاسية ، فإن النفقات القرطاسية في الغالب لا تخضع للزيادة والنقصان تبعا لزيادة حجم المدفوعات ونقصها ؛ إذ إن نفقات قيد القليل والكثير واحدة .
ولذلك يمكن أن يقال : بأن الأخذ بمبدأ النسبة المئوية في العمولة تبعا لحجم المدفوعات والحال أن قيود القليل والكثير واحدة في غير محله ، وقد يعطي البرهان على إرادة الفائدة الإضافية ، ويمكن أن يقال أيضا بأن لتحمل المسئولية مجالا في الاعتبار ، فإن الاحتياطات التي تبذل في سبيل قيود المدفوعات الكثيرة ليست كالاحتياطات التي تبذل بخصوص المدفوعات القليلة ، وعليه فيمكن التسليم بوجاهة توظيف الأجرة بطريق النسب المئوية على المدفوعات في الحسابات الجارية ، وربما يرد على القول بأن لتحمل المسئولية مجالا في الاعتبار ، بأن تحمل المسئولية ليس متقوما حتى يجعل له اعتبار في استحقاق العوض .

ثانيا : إيداع الوثائق والمستندات :
تعتبر وديعة الوثائق والمستندات لدى المصارف وديعة بالمعنى الحقيقي تترتب عليها أحكام الوديعة من قيام الوديع بحفظ الوديعة في حرز مثلها وبرد عينها وبانتفاء الضمان في هلاكها بما لا قدرة له على دفعه من

الأسباب القاهرة .
ويرى الأستاذ علي البارودي : بأنها تشبه الوديعة المدنية العادية ، ثم ذكر أنها تختلف عنها من حيث إنها تتضمن معاوضة إذ يتقاضى البنك عنها دائما أجرا يتفق عليه ، بينما الأصل في الوديعة المدنية أنها تبرعية ما لم يتفق صراحة على أجر ، كذلك يتميز عقد وديعة الصكوك في البنك بأنه قد يستتبع عمليات ثانوية متعددة يقوم بها البنك وكيلا عن عملية المودع (1)
والغالب : أن الاتفاق بين البنك وعميله على إيداع المستندات يكون بأجرة رمزية ؛ لأن البنك يهدف من تلقي ودائع الوثائق والمستندات إلى تأكيد صلته بعملائه ، ليعهدوا إليه بعمليات قد تستلزمها تلك الوثائق كتحصيل أرباحها أو التوسط في بيع محتوياتها لأخذ عمولات على ذلك ، كما أن احتفاظ البنك بمحفظة مالية لأحد عملائه يعني علمه بحالته المالية ، فيفيده إذا أقدم على ائتمانه في عمليات أخرى ، والغالب أن الإيداع من العميل يكون اختياريا ، وقد يجد العميل نفسه مضطرا للإيداع كأن يكون عضوا في مجلس إدارة مؤسسة مالية يفرض عليه النظام العام أو نظام المؤسسة نفسها إيداع أسهم الضمان في بنك معتمد من جهة الاختصاص .
ونظرا إلى أن وديعة المستندات تتم بين العميل والمصرف بأجرة يجري الاتفاق على تحديدها وإلى أنه قد يعطى البنك توكيلا في البيع أو التحصيل أو نحو ذلك مما تستلزمه تلك المستندات ، يشترط للدخول في عقدها الأهلية للالتزام بذلك ، وقد استقر العرف القانوني على تسمية الاتفاق على
__________
(1) انظر ص ( 255 ) من كتابه [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] الطبعة الثانية .

الإيداع عقدا بين المودع والوديع يتم به تسليم المستندات إلى البنك بعد تحرير بيانها بقائمة تجري مراجعتها من قبل الوديع ، ومن ثم إعطاء المودع إيصالا بها تكون له قيمته في الإثبات وفي حق حضور اجتماع الجمعيات العمومية للشركات التي أصدرتها أو أصدرت بعضها ، وتلزم بالاتفاق على الوديعة والدخول في إنفاذها أجرة يجري تعيين مقدارها بين الطرفين ، ونظرا إلى أن العقد من حيث هو عقد يقضي بالتزامات كل طرف تجاه الآخر فإن لعقد ودائع الوثائق والمستندات التزامات من الطرفين المودع والوديع للآخر . أشار إليها الدكتور محمد عوض : فبين أن العقد يرتب على العميل التزامات أهمها ما يلي :
أ - دفع الأجرة التي جرى عليها الاتفاق بينه وبين البنك ، وإذا لم يكن بينهما اتفاق على تحديدها فيرجع إلى العرف في ذلك ، والغالب أن يستقل البنك بتحديد هذه الأجرة ، وإذا كانت السندات المودعة عنده لحامله فيبالغ في تحديد الأجرة ؛ لأن مخاطر حفظها أكثر من مخاطر حفظ السندات الاسمية .
ب - دفع عمولة على مجرد فتح ملف خاص بالوديعة ولو استردها المودع فورا .
ج - دفع العمولات المستحقة عن العمليات التي يجريها البنك ، بناء على طلب المودع ، مما له تعلق بالوثائق والمستندات .
وللبنك أن يحبس الأوراق المودعة حتى يستوفي حقه عليها من أجر وعمولة مما له تعلق بعملياتها التبعية .

وكما أن على العميل المودع التزامات للبنك تجاه وديعته فإن على البنك الوديع التزامات أصلية والتزامات تبعية .
أما الالتزامات الأصلية فأهمها ما يلي :
أ - على البنك أن يبذل طاقته وجهده للمحافظة على الأوراق الوثيقية المسلمة إليه من الناحية المادية مع مراعاة حكم العادات المصرفية ، والأصل أن يحفظ الوديعة في مكان الإيداع فإن نقلها عن محل الإيداع بلا إذن الوديع اعتبر مفرطا ، وسئل عما يترتب على النقل من مخاطره .
ب - لا يجوز للبنك الوديع أن يستعمل وديعة الوثائق والمستندات لأغراض خاصة به ، فلا يجوز للبنك أن يرهن السندات لدين عليه ، كما لا يجوز له أن يمكن غيره من استعمالها .
ج - يتعين على البنك أن يرد الوديعة في الموعد المتفق عليه إن كان ثم بينهما اتفاق على موعد معين وإلا ردها إليه متى طلبها ، ذلك أن من مقتضيات الالتزام بالحفظ رد الوديعة في الموعد المتفق عليه إلا في حالات أشار إليها الأستاذ الدكتور محمد جمال الدين عوض بما ملخصه : أنه قد يكون العقد بين البنك والعميل وديعة ومع ذلك لا يكون البنك ملزما بتنفيذ الالتزام بالرد في حالات أهمها ما يلي :
أ - إذا كان من حق البنك أن يحبس المستندات حتى يستوفي حقوقه ضد المودع .
ب - متى كان له أن يتمسك بامتياز حفظ المنقول عليها .
ج - إذا باشر عليها إجراءات الحجز تحت يد نفسه طبقا للمادة ( 573 )

مرافعات (1)
د - إذا حجر عليها تحت يده أو عارض شخص في تسليمها إلى المودع مستندا إلى حق له عليها .
هـ - إذا تغير العقد الأصلي وحل محله عقد جديد ، فقد يزول الالتزام بالرد ليحل محله الالتزامات الناشئة من هذا العقد الجديد كأن يتلقى البنك أمرا من المودع ببيع المستندات المودعة ، فيصبح البنك من هذه اللحظة وكيلا بالبيع وينتهي التزامه برد المستندات ، كما إذا أقرض البنك العميل أو فتح له اعتمادا برهن المستندات تغيرت صفة حيازة البنك فأصبح حائزا بصفته مرتهنا بعد أن كان حائزا بصفته وديعا .
وأما التزامات البنك التبعية فيقول عنها الدكتور محمد عوض ما نصه :
لا يقتصر التزام البنك على مجرد حفظ المستندات ماديا ، بل إن عليه فوق ذلك القيام بعمليات قانونية ومادية معينة تهدف إلى تحقيق هذا الغرض وهو الحفظ وإلا لم تتحقق الفائدة من العقد ، بل إنه يكون مصدر متاعب للمودع ، إذ يضطر أن يسترد السندات في أوقات معينة ، ليقوم هو بهذه العمليات ثم يردها إلى البنك وهكذا ، ويكون عندئذ من الأوفر له أن يستأجر لها خزانة بأجر زهيد ، ولذلك فالمقرر أن عقد إيداع السندات يلقي بذاته على البنك واجب القيام ببعض العمليات اللازمة لخدمتها دون حاجة إلى اتفاق خاص ، ويظل العقد مع ذلك خاضعا لأحكام الوديعة وإن كان
__________
(1) من قانون المرافعات المصري .

البنك في خصوص العمليات التي يقوم بها لحساب العميل في مركز الوكيل ، ثم ذكر أن مستلزمات البنك التبعية تستمد من العقد المبرم بينه وبين عميله ومن قصدهما في إبرامه ، ويستنتج القصد من قيمة الأجرة ، ومن النشرات التي يصدرها البنك لعملائه ، إلى غير ذلك مما يلابس عملية الإيداع من القرائن والأحوال .
ثم بدأ في استعراض تلك الالتزامات التبعية فذكرها بما ملخصه :
يلزم البنك استحصال الكوبونات والسندات المستهلكة باعتبار أن ذلك نتيجة من نتائج الإيداع والالتزام بالحفظ (1)
ويضيف الدكتور علي البارودي إلى ذلك قوله : ففيما يتعلق بالأسهم مثلا : يقوم البنك بتحصيل الكوبونات ويتحقق من صحة القرعة عند الاستهلاك ، ويقوم بتنبيه المودع إلى حقوقه في القيام بالعمليات التي تخولها له ملكية الأسهم ، وعلى الأخص حقه في الاكتتاب عند زيادة رأس مال الشركة ، ويخطره بمواعيد اجتماع الجمعية العمومية للشركات المختلفة التي أصدرت الصكوك المودعة .
وينفذ فوق هذا أو ذاك التعليمات والأوامر التي يصدرها إليه عميله من بيع أو شراء أو تحويل أو تجميع لهذه الصكوك (2)
__________
(1) انظر الصفحات ( 614 - 618 - 632 - 634 ) من كتاب [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] للدكتور محمد جمال الدين عوض ، طباعة دار النهضة العربية .
(2) انظر ص ( 261 ) من كتابه [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] الطبعة الثانية .

ثالثا : إيجار الخزائن الحديدية : تعريفه - فوائده - طابعه - آثاره .
يقول الدكتور علي البارودي : بأن ماهية إيجار الخزائن الحديدية عبارة

عن عقد يلتزم البنك بمقتضاه أن يضع في العقار الذي يشغله خزانة حديدية تحت تصرف العميل وحده مقابل أجر يختلف باختلاف حجم الخزانة ومدة انتفاع العميل بها (1)
ويتميز عقد إيجار الخزائن الحديدية عن غيره من عقود المعاملات المصرفية بأنه عقد مستقل بالعميل نفسه . لا يعود للبنك منه أي فائدة تبعية سوى أنه عامل من عوامل اجتذاب العملاء ، وإذا كان البنك يأخذ أجرة على تأجيره الخزائن فإن هذه الأجرة في الغالب لا تتناسب مع تكاليف إنشاء هذه الخزائن ولا مع المسئولية في الحفاظ عليها بعد استئجارها .
أما العميل فله فوائد أهمها ضمان سلامة وحفظ الأشياء التي أودعها في الخزانة الحديدية ، وضمان سريتها والقدرة على الاستمرار في السرية ، بحكم أن مفتاحها بيده وحده ، وأن البنك لا يمكن غيره من فتحها ، بخلاف ما لو كان ذلك في بيته أو متجره ، فإن المحافظة على سريتها والاستمرار على ذلك مما لا يستطيعه في الغالب .
ولعقود إيجار الخزائن الحديدية طابع شخصي يبدو في حرص البنك على اختيار عملائه المستأجرين في أن يكونوا من ذوي المؤهلات الخلقية ممن يعرفون باستقامتهم وحسن معاملاتهم ونزاهة تصرفاتهم في مختلف شئون الحياة من تجارية ومدنية وسياسية ، كل ذلك لتفادي البنك الأضرار التي تنجم ممن هم ليسوا في مستوى أخلاقي صالح للتعامل المدني أو التجاري عند دخولهم قاعة الخزائن (2)
__________
(1) [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] ص ( 265 ) .
(2) انظر ص ( 265 ، 266 ) من [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] ، للدكتور علي البارودي ، الطبعة الثانية .

آثار العقد :
لعقد إجارة الخزائن الحديدية آثار تتضح في الالتزامات المتبادلة بين طرفيه ذلك أن عقد إجارة الخزانة الحديدية يلزم البنك لعميله أمورا أهمها ما يلي :
أ - محافظة البنك على الخزانة وحراستها عن الأسباب التي قد تؤدي إلى هلاك ما بها أو تلفه كالحريق والسرقة ونحو ذلك مما في مقدوره دفعه .
ب - تمكين المستأجر من الانتفاع بالخزانة وبذل الجهد في سبيل تأمين رغبة المستأجر في أن يكون انتفاعه بها سريا ، تحقيقا لغرضه من الاستئجار ومن ذلك إيجاد فواصل خاصة بين الخزائن حتى يضمن العميل سرية الاطلاع المنفرد على ما بداخل خزانته .
ج - التحقق من شخصية عميله المستأجر قبل السماح له بدخول صالة الخزائن .
د - احتفاظ البنك بمفتاح آخر يستعمله في حال الاضطرار إلى إنقاذ محتويات الخزانة من حريق أو فيضان أو نحو ذلك .
كما أن العقد يلزم العميل للبنك أمورا أهمها ما يلي :
أ - دفعه الأجرة المتفق عليها في عقد الإجارة واحتفاظه بمفتاح الخزانة ورده عند انقضاء العقد .
ب - في حال فقده مفتاح الخزانة عليه إبلاغ البنك بذلك ؛ ليمنع البنك أي محاولة ممن يجد المفتاح من الدخول إلى صالة الخزائن وفتحه

الخزانة .
ج - احترامه للائحة صالة الخزائن وتقيده بمواعيد الزيارة ، وألا يضع في الخزانة ما يهدد سلامة الخزانة أو البنك نفسه (1)
__________
(1) انظر [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] للدكتور علي البارودي صفحة ( 267 ، 268 ) الطبعة الثانية .

التكييف القانوني لعقد إيجار الخزانة
اختلف فقهاء القانون وشراحه في تخريج عقد إيجار الخزائن الحديدية هل يخرج على أنه وديعة أم على أنه عقد إجارة ؟
فمن نظر إلى أن الخزانة وما تحتويه من ممتلكات العميل تعتبر في عهدة البنك وحراسته اعتبر العقد وديعة وأجرى عليه أحكام الوديعة .
ومن نظر إلى أن العميل قد استأجر بالفعل هذه الخزينة من البنك ومكنه من استخدامها استخداما يتمكن به من الحفاظ على سرية ما يضعه فيها وسلامته بأجرة معينة لمدة محدودة اعتبرها من عقود الإجارة .
وفي ذلك يقول الدكتور علي البارودي : إن معرفة ما إذا كان إيجار الخزانة أقرب إلى الوديعة أو هو أقرب إلى الإيجار ، ذلك أيضا موضوع خلاف بين الفقهاء وبين أحكام القضاء ، ويذهب البعض إلى القول بأنه عقد ذو طبيعة خاصة يسميه عقد الحراسة ، ولكن مثل هذا الرأي لا يحل الإشكال القائم ، إذ يبقى بيان الآثار الخاصة التي يمكن أن تترتب على هذا العقد الجديد ، والواقع أن في هذا العقد نوعا من الحيازة المشتركة لا تتوافر في عقد الوديعة ، حيث تكون الحيازة للمودع لديه وحده ولا في عقد

الإيجار حيث تكون الحيازة للمستأجر وحده ففي عقد إيجار الخزانة يحوز البنك الخزانة ويحوز العميل ما بداخلها ، فلو أن الخزانة ذاتها ملك للعميل لما كان هناك شك في أن العقد يكون وديعة تماما كمن يودع حقيبة مغلقة لدى شخص آخر لا يعلم ما بداخل الحقيبة ، فملكية البنك للخزانة هي التي تمنع القول بأن العقد عقد وديعة (1)
__________
(1) انظر كتاب [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] صفحة ( 269 ، 270 ) الطبعة الثانية .

التكييف الشرعي لعملية استئجار الخزانة
يظهر والله أعلم أن للعقد جانبين ، جانب استئجار يبدو في تأجير البنك عميله الخزانة الحديدية بأجرة معينة لمدة محدودة يتمكن فيها من استخدام الخزانة في غرضه الذي استأجرها لأجله ، هذا الجانب يمكن اعتباره عقدا مستقلا تثبت له أحكام الإجارة ، وجانب إيداع يبدو في التزام البنك بالحفاظ على الخزانة وبذل الأسباب العادية في حمايتها وسلامتها من أي ضرر يلحق بها مما يستطيع دفعه ، ونظرا إلى أن البنك مسئول مسئولية ضمان عن هذه الخزينة المستأجرة وحماية محتوياتها من الأسباب الموجبة لهلاكها أو تلفها فيمكن أن تعتبر بيده وديعة مضمونة ، ولا يؤثر على اعتبارها وديعة أن البنك يملكها ، فإن العميل قد استأجرها منه ، فانتفى حقه في الانتفاع بها مدة الإجارة ، وأصبح الانتفاع بها من حق العميل وحده فكأنها ملكه ، وعليه فيمكن أن يقال بجواز ذلك شرعا .

خلاصة عمليات الإيداع
الإيداع : أن يدفع شخص لغيره ما يريد حفظه من نقد أو عين أو وثائق ،

أو ما يريد حفظ سريته ، أو ينال ربحا من ورائه ، أو ما يريد إدارته من الوثائق .
ولعمليات الإيداع أنواع كثيرة ، أهمها : إيداع النقود ، وإيداع الوثائق والمستندات ، والإيداع في خزائن حديدية يستأجرها العميل من المصرف .
وفيما يلي بيان ذلك :
أولا : الودائع النقدية :
وهي ما يسلمه شخص من النقود لمصرف بناء على عقد بينهما يملك به المصرف ما تسلمه ، ويتعهد للمودع أن يرد إليه مثله عند طلبه أو عند أجل محدد في العقد دفعة أو دفعات مع فائدة ثابتة أو دون فائدة ، وتتخذ أشكالا عدة تبعا لطبيعة إيداعها ، فقد تكون تحت الطلب ، فللمودع أن يستردها متى شاء ، وقد يتفق المصرف معه على فائدة ثابتة إذا كان ذلك في مصلحة المصرف ، وقد تكون وديعة لأجل ، فليس للمودع أن يستردها قبله ، والغالب أن المصرف يعطي فائدة عليها ، لأنه يستطيع أن يعتمد عليها في نشاطه ، وقد تكون وديعة بشرط الإخطار ، فللمودع أن يستردها متى شاء لكن بشرط إشعار المصرف قبل استردادها بمدة ما ، ويعطي صاحبها فائدة مثل ما يعطي على الودائع التي تحت الطلب ، وقد تكون ودائع مخصصة لغرض تعود مصلحته على المودع كرصد مبلغ لصفقة ، أو تعود مصلحته للمصرف ، كأن تكون ضمانا لحساب آخر ، أو لمصلحة شخص ثالث ، ولا يجوز استرداد الوديعة في هاتين الحالتين حتى ينتهي الغرض الذي أودعت من أجله .

وللودائع النقدية مزايا ، فإنها تساعد المودع على الادخار ، وتحفظ له ماله ، ويكسب منها فائدة ، وتؤمن للمصرف المبالغ التي تساعده على عمليات الخصم والائتمان اللذين يعودان عليه بالعمولة والفوائد وتكسبه ثقة في نفوس المودعين .
تكييف عقد الإيداع :
اختلف علماء الاقتصاد في تكييف الودائع النقدية ، فقيل : تعتبر ودائع عادية ( حقيقة ) ، ونقد بأن خواص الودائع الحقيقية لا توجد فيها ، فإن المصرف يملكها وتثبت في ذمته ويتصرف فيها ويضمنها للمودع ولو هلكت بأمر لا طاقة له برده ، وقيل : تعتبر وديعة شاذة ناقصة ، ونقد بما تقدم ، بأنها محل خلاف فقد أنكرها بعض علماء الاقتصاد . وقيل : إنها قرض ، وقيل : إنها من الناحية القانونية عقد يكمن في إرادة الطرفين ، ويستقل قاضي الاختصاص بالكشف عنه ، فإن كان المصرف مأذونا له في استعمالها فهي قرض تسري فيه أحكام القروض ، وإن كان غير مأذون له في استعمالها فهي وديعة حقيقية تسري عليها أحكام الودائع ، والذي يعنينا تشخيص عقدها عند علماء الفقه الإسلامي وسيأتي إن شاء الله .
ويستتبع عقد إيداع النقود عقد فتح حساب بين المودع والمصرف من أجل ما يطرأ على الودائع من زيادة ونقص بدفع المودع مبالغ أخرى أو سحبه من ودائعه ، وبقيد مبالغ في حسابه من حساب مدينه أو العكس . وبإضافة مبالغ لحسابه قد قبضها المصرف بتفويضه كقيمة أسناد أو تحصيل شيكات أو عائدات أسهم مالية ، وتسمى هذه العمليات المتبادلة بين الطرفين : تشغيل الحساب ، وتختلف الحسابات المفتوحة باختلاف

غرض الطرفين ، فإن كان قصدها من قيد حاصل العملية في حساب تسويتها فورا ، واتخاذ الحساب لمجرد إثبات لهذه التسوية أو لإثبات وقوع العملية فهو حساب عادي ، وإن كان القصد تحويل العملية إلى مفرد في الحساب وإرجاء تسوية هذا المفرد إلى نهاية الحساب فهو حساب جار . وفيما يلي الكلام على كل منهما :
أ - الحساب العادي أو البسيط أو حساب الودائع :
تعتبر كل عملية من عملياته أو دفعة من دفعاته مستقلة عن الأخرى تمكن الدعوى والمطالبة بها وسحبها والحوالة عليها اعتبار كل من الطرفين دائنا أو مدينا قبل نهاية الحساب ، ويغلب أن يكون هذا الحساب بين المصارف والمدخرين الذين يحفظون أموالهم في البنك ، ويتعاملون بالشيكات التي يسحبونها عليه .
ينهى هذا الحساب بإيقاف عمليات تبادل المدفوعات وتصفيتها ، وإخراج الرصيد النهائي لها دينا محددا أو واجب الوفاء ، ولإنهائه أسباب ، أهمها : انقضاء المدة المتفق عليها ، وانتهاء العملية المصرفية التي فتح الحساب من أجلها ، وطروء ما يسلب أهلية أحد الطرفين كوفاة العميل أو إفلاسه أو جنونه ، أو إفلاس المصرف أو تصفيته ، وينهى أيضا بطلب أحد الطرفين في وقت مناسب إذا لم يكن بينهما أجل محدد ، وتصبح نتيجة الحساب نهائية بالاتفاق عليها أو بالحكم القضائي ، فلا يجوز إعادة النظر فيها إلا لإصلاح خطأ مادي أو خطأ في عملية الحساب ، ولا تقبل دعوى ذلك إلا بتحديد المدعي موقع الخطأ وتعزيز دعواه بالأدلة .
ومن أنواع حساب الودائع : حساب الادخار والتوفير : وهو عقد رضائي

يتم باتفاق العميل المدخر مع المصرف ، ويثبت بتسليم المدخر دفتر التوفير موقعا عليه بإمضاءين من إمضاءات البنك المعتمدة ، ومشتملا على ما يضمن جدية العقد ، ويرغب المدخرين ، إلا أنه يفترق عن حساب الودائع بأمور ، منها : أنه شخصي بحت والدفتر اسمي غير قابل للتحويل ، ولا يجوز سحب شيء من المدخر عن طريق الشيك ، ولا يجوز لغير صاحب الدفتر أو ورثته أو وكيله السحب ولو أثبت صفته . . إلخ .
ب - الحساب الجاري ومزاياه :
هو عقد بين شخصين على أن ما يسلمه كل منهما للآخر بدفعات مختلفة من نقود وأموال وأسناد تجارية يسجل في حساب واحد لمصلحة الدافع ، بحيث تفقد كل دفعة استقلالها بمجرد قيدها فيه ، فلا يعتبر أحد الطرفين مدينا ولا دائنا حتى يسوى الحساب ويقفل ، فعندئذ إذا ظهر رصيد مدين بشيء وجب الأداء في الحال للطرف الدائن .
وللحساب الجاري مزايا ، منها : تسهيل تصفية العمليات بين الطرفين ، وتفادي استعمال النقود اكتفاء بمجرد قيدها والمقاصة بينها .
أركانه مع شروطها :
أركانه ثلاثة : الأول : إرادي : وهو اتفاق الطرفين على فتحه صراحة أو ضمنا ، ويشترط في كل منهما أن يكون أهلا لصحة التصرفات الصادرة منه ، ويرجع عند الخصومة في وجود حساب جار إلى محكمة الاختصاص .
والثاني : مادي : وهو المدفوعات بين الطرفين ، ويشترط لقيد أي مدفوع في الحساب الجاري : أن يكون مثليا لتمكن المقاصة ، وأن يكون

حقا ثابتا مؤجلا ، لا متنازعا فيه ولا معلقا على أمر محتمل الوقوع ، وأن يكون معلوم المقدار ، وأن يسلمه الدافع للقابض على سبيل التمليك .
والثالث : أن تكون المدفوعات متبادلة متشابكة ، متبادلة بمعنى : أن يقوم كل من الطرفين بدور الدافع حينا ودور القابض حينا ، ومتشابكة بمعنى أن يتخلل بعضها بعضا .
الفوائد والعمولة في الحساب الجاري :
استقر العرف المصرفي على أن كل مدفوع في الحساب الجاري يوجب فائدة دون اتفاق على ذلك أو إنذار أو مطالبة قضائية بخلاف حساب الودائع ، فلا تثبت إلا بالاتفاق عليها ، كما جرى العرف المصرفي بأن الأصل سريانها على كل دفعة من وقت قيدها في الحساب ، إلا أن الغالب أن يحدد الطرفان موعدا لبدء سريانها بعد تاريخ قيد الدفعة في الحساب ، ويسمى هذا الموعد : القيمة .
ولا يكتفي البنك غالبا بما يأخذ من فائدة لمدفوعاته ؛ لكونها في نظره غير كافية لتغطية نفقاته لفتح الحساب وتشغيله وتعريضه للمخاطر ؛ ولذا استقر العرف المصرفي على أن للبنك الحق أن يتقاضى أجرا عن خدماته يسمى : عمولة ، وذلك فيما إذا كان بينه وبين عميله سلسلة عمليات تؤدي إلى عدة قيود في الحساب .
تعليل قاعدة عدم التجزئة في الحساب الجاري وبيان آثارها :
تقدم أن دفعات الحساب الجاري يندمج بعضها في بعض بحيث تفقد كل واحدة منها استقلالها . وقد علل علماء الاقتصاد ذلك بعلل ، لم تسلم منها واحدة مع ما يشوبها من خفاء وغموض ، إلا أن التقنين التجاري

والعرف المصرفي قد أقرا هذه القاعدة وأوجبا العمل بمقتضاها ، فصارت سمة لازمة للحساب الجاري ، والذي يعنينا بيان الحكم الشرعي فيها وفيما يتبعها من عمولة وفوائد .
أما آثارها : فأهمها ما يلي :
1 - لا يجوز رفع دعوى بالمطالبة بدين أدخل في الحساب الجاري حتى يظهر الرصيد النهائي .
2 - لا يعتبر ما أدخله أحد الطرفين في الحساب وفاء بدين عليه للطرف الآخر حتى يظهر الرصيد النهائي .
3 - لا يجوز إجراء مقاصة بين دفعاته حتى تتم التصفية ويظهر الرصيد النهائي .
4 - لا يخضع الدين الذي أدخل في الحساب الجاري لنظام التقادم فلا يسقط به .
قفل الحساب الجاري وأسبابه وآثاره :
قد يرى أحد طرفي الحساب الجاري وقفه فترة من الزمن ، لينكشف بذلك الدائن والمدين من طرفيه ، وقد يسمى هذا قطع الحساب ، ويترتب عليه إمكان ترحيل الفوائد إلى الأصل وتجميدها وتقاضي البنك عمولة ، واستخدام صفته كدائن أثناء سير الحساب اعتمادا على نتيجة هذا القطع . وقد يكون وقفه نهائيا بمنع دخول دفعات جديدة ، ثم تصفيته واستخلاص الرصيد النهائي من مجموع دفعاته ؛ ليتبين الدائن والمدين من طرفيه .
أما أسباب قفله : فإرادية وغير إرادية :
فمن الإرادية :

1 - اتفاق الطرفين صراحة على إنهائه ولو قبل المدة المحددة بينهما لجريان حسابهما .
2 - اتفاقهما ضمنا على إنهائه ، كتوقف عمليات المدفوعات المتبادلة بينهما ، أو فقد الحساب قدرته على تلقي المدفوعات بين الطرفين .
3 - رغبة أحد الطرفين في قفله عند عدم تحديدهما مدة لجريانه ، ولكن يشترط أن يكون ذلك في وقت مناسب وأن يكون متفقا مع العادة المتبعة في المصارف .
وغير الإرادية : إفلاس أحد طرفيه ، أو فقده الأهلية ، أو وفاته على خلاف فيها إذا استعد الورثة للاستمرار .
وأما آثاره : فوقوع المقاصة بين مفردات الحساب وتصفيته الرصيد ، ووجوب الوفاء على المدين من طرفيه فورا ما لم يتفقا على التأجيل أو إدراج الدين في حساب جديد ، وجواز الحجر عليه تحت يد المدين به ، وعدم إحياء الحساب بعد قفله ، لكن لهما أن يفتحا حسابا جديدا .

تكييف عمليات حساب الودائع في الفقه الإسلامي وبيان حكمها .
مما تقدم يتبين : أن ما يسمى بالودائع في حساب الودائع يملكه المصرف ، ويضمن مثله لعميله ، ويدفع عليه في الغالب فائدة ، ويأخذ عمولة في بعض الأحوال .
كما يتبين أن علماء القانون والاقتصاد اختلفوا في تكييف عقد هذه العمليات : فقيل : عقد ودائع حقيقية ، وقيل : عقد ودائع شاذة .
وقيل : عقد قرض .
والذي يعنينا هنا تكييفه في الفقه الإسلامي ، هل هو نوع من العقود التي

سماه بها علماء الاقتصاد أو عقد بيع ؟
فقد يقال : لا يجوز أن يكون وديعة حقيقية ولا شاذة ؛ لأن ما دفعه العميل يملكه المصرف ويتصرف فيه ويضمن مثله ويدفع عليه فائدة ، وهذه الخواص ليست من سمات الودائع ، بل هي على العكس من ذلك .
وقد يقال أيضا : لا يجوز أن يكون عقد قرض ؛ لأن أخص خواص القرض قصد الإرفاق المحض والمعروف الخالص ابتغاء الثواب ؛ ولذا استثني من عموم النهي عن بيع الربوي بمثله نسيئة ، وهذا المعنى ليس متحققا في حساب الودائع .
ويمكن أن يقال : إنه عقد بيع ؛ لتضمنه معاوضة نقد أو ما في حكمه بنقد أو ما في حكمه مع قصد الكسب المادي من فائدة ربوية يأخذها العميل بالإيداع ، ويتمكن فيها المصرف من الإقراض أو غيره ، ومن أجل ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم بيعا في قوله : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، يدا بيد . . . . » (1) إلى أن قال : « فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يدا بيد » (2) .
وعلى هذا تكون من العقود المحرمة بالكتاب والسنة والإجماع ؛ لما فيها من التفاضل بين ربويين ، قال الله تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (3) الآيات إلى قوله : { لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (4)
وفسر ذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي نهى فيها عن الربا ، وعلى ذلك
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2067,2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4565,4581),مسند أحمد بن حنبل (3/51).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن النسائي البيوع (4563),مسند أحمد بن حنبل (5/320).
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 279

أجمعت الأمة .
ولكن هل يفسد العقد لعدم اشتراط الربا فيه ، فيرد للعميل رأس ماله فقط وتلغى الفائدة والعمولة ، أو يصح العقد ويبطل الشرط فللعميل رأس ماله فقط ؟ ثم هل يجوز الإيداع في المصرف بلا فائدة للحاجة إلى الحفظ ، وتيسير المعاملات أو يمتنع - نظرا لما فيه من إعانة المصارف على استعمالها في الربا - أو التمكين من استعمال غيرها بسبب وجودها في المصرف ؟
أما عمولة المصرف على القيد في السجلات والإجراءات ونحوها فهي جائزة إن لم تتخذ ستارا يؤكل الربا باسمها .
ومن زعم أن الربا المحرم هو ربا القروض الاستهلاكية ؛ لأنه ربا الجاهلية الذي حرمته النصوص ، ولأنه هو الذي يتجلى فيه الظلم ، لا ربا القروض التي يستعان بها في الإنتاج ؛ لما فيها من تيسير الإنتاج وتبادل المصالح وإنماء الثروة والنهوض بالأمة في شتى المرافق - من زعم ذلك فهو واهم ، أو ملبس متكلف للباطل ؛ وذلك لأمور :
الأول : أن ربا الإنتاج كان موجودا أيضا زمن نزول آيات تحريم الربا كما يدل على ذلك تاريخ واقع الجزيرة أيام الوحي ، فإن المسلمين في مكة كانوا تجارا ، والمهاجرين بالمدينة كانوا تجارا ، واليهود حول المدينة كانوا تجارا ، والأنصار بالمدينة كانوا زراعا ، وكل من التجارة والزراعة طريق من طرق التنمية والإنتاج ، والشأن في ذلك الحاجة إلى الإقراض والاقتراض ، وقد نزلت آيات الربا عامة ، وفصلتها الأحاديث وأكدت عمومها ، فشمل التحريم ربا الإنتاج

والاستهلاك .
الثاني : أنه على تقدير أن قروض الإنتاج لم تكن في عهد النبوة فالشريعة المحمدية عامة لمن كان في عهد النبوة ومن سيجيء إلى يوم القيامة ، مبينة لأحكام العبادات والمعاملات في كل عصر من العصور ، والله عليم بما كان وما سيكون ، فمن حكمته أن بين لهم أحكام ما كان من الأحداث والمعاملات ، وما سيكون رحمة بالأمة وإسقاطا للأعذار .
الثالث : أنه ليس كل ما فيه منفعة يكون مباحا أو مشروعا ، بل لا بد من ذلك أن ترجح مصلحته على مضرته ويغلب خيره شره حتى يكون مشروعا أو مباحا ، فإن الخمر والميسر فيهما منافع للناس وقد حرمهما الله سبحانه ، قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } (1) ولذا حرمهما سبحانه وتعالى ، وقد رحم عباده بسعة ما أباحه لهم من المعاملات ، فجعل الأصل فيها الإباحة حتى يثبت دليل المنع ، وحرم علينا الربا في المعاملات ، فكان فيما أحله غنى لنا عما حرمه مما تربو مضرته على منفعته .
الرابع : أن المصارف الربوية من أقوى العوامل في تكدس الثروات في أيد قليلة ليسوا ملاكها ، بل هي ودائع بمصارفهم تمكنهم من السيادة الاقتصادية ، ثم الكفاح بذلك وبالمكر السيئ إلى الأخذ بمقاليد
__________
(1) سورة البقرة الآية 219

السلطة السياسية وتوجيهها إلى ما يراد من استيلاء وقهر واستعمار وتحكم في العباد ودعاية إلى الشر والفساد والتمكين للقلق والاضطراب في الدول والإمارات .
ويوضح هذا ما نقله الدكتور محمد عبد الله العربي عن كتاب [ فرنسا اليهودية أمام الرأي العام ] :
قال : إن الذي يلفت النظر في عصرنا ليس هو فقط تكدس الثروات في أيد قليلة ، وأحيانا بأساليب فاجرة ، بل هو على الأخص تكدس قوة هائلة تتمثل في سيطرة اقتصادية لا ضابط لها ولا قيد ، وسيطرة تصول بها فئة قليلة ليسوا هم في الغالب ملاك المال ، بل هم مجرد مستودعين له ، ولكنهم يديرون ويتصرفون كما لو كانوا ملاكه بالفعل ، إنها لقوة هائلة تلك التي يصول بها هؤلاء في سيطرتهم المطلقة على المال وعلى الائتمان ، أي : الإقراض الذي يوزعونه بمحض مشيئتهم المطلقة ، فكأنهم بذلك إنما يوزعون الدم اللازم لحيوية الجهاز الاقتصادي بكل أوضاعه ، فإذا شاءوا حرموه دم الحياة فلا يستطيع أن يتنفس ، وإذا شاءوا قدروا مدى انسيابه في جسم هذا الجهاز التقدير الذي يتفق مع مصالحهم الذاتية .
ثم إن تجمع هذه القوة وهذه الموارد المالية في أيديهم يؤدي إلى الاستيلاء على السلطة السياسية في النهاية ، وذلك يتحقق في خطوات ثلاث متدرجة مساندة :
الأولى : الكفاح في سبيل إحراز السيادة الاقتصادية ، ثم الكفاح في جمع مقاليد السيادة السياسية في أيديهم ، ومتى تحققت لهم بادروا إلى استغلال طاقاتها وسلطاتها في تدعيم سيادتهم الاقتصادية ، وفي النهاية

ينقلون المعركة إلى المجال الدولي العالمي . اهـ .
ويتبع ذلك مضار تعود على المستهلكين وغيرهم ، مثل غلاء الأسعار نتيجة لإضافة المنتج فائدة القرض إلى تكاليف إنتاج السلع ، وإذن فالذي يدفع الفائدة إنما هو الشعب المستهلك ، ومثل تخفيض أجور العمال أو الاستغناء عن بعضهم إذا اضطر لتخفيض الأسعار ، ومن ذلك تنشأ أزمات مختلفة .
ثانيا : إيداع الوثائق والمستندات : هو عقد يتم بتسليم المودع الوثائق إلى المصرف لحفظها بأعيانها بعد تحرير بيانها بقائمة يراجعها المصرف ويعطيه بذلك إيصالا يثبت حقه ، ثم يردها إليه عند طلبها أو الأجل المحدد بينهما ، وذلك مقابل أجرة يتفقان عليها ، وقد يكون الإيداع اختياريا ، وقد يكون اضطراريا بفرض النظام ، وقد يستتبع عمليات أخرى يقوم بها المصرف وكيلا عن مودع في تحصيل أرباحها أو بيع محتوياتها مقابل عمولة .
ولعقد ودائع الوثائق التزامات يجب على كل من الطرفين الوفاء بها للآخر .
فيجب على المودع دفع الأجرة المتفق عليها ، فإن لم يكن اتفاق فالغالب أن المصرف هو الذي يحددها ، ويجب عليه أيضا دفع عمولة على مجرد فتح ملف لوديعته ولو استردها فورا ، ودفع عمولات على ما طلبه من إجراءات تتعلق بوثائقه إذا قام بها المصرف .
ويجب على المصرف حفظ ما أودع من وثائق ، ولا يجوز له أن يستعملها في أغراض خاصة به ، ويلزمه ردها للمودع عند طلبها أو الأجل

المحدد منهما إلا في حالات خاصة كأن يتعلق بها حق له ، أو يحجز عليها تحت يده . . . إلخ .
تكييفها في الفقه الإسلامي وحكمه :
لا يختلف تكييف عقد إيداع الوثائق والمستندات في الفقه الإسلامي عنه في نظر علماء الاقتصاد فهو عقد إجارة على حفظ ودائع حقيقية بأجرة معلومة للطرفين ، فإذا فوض المودع المصرف في تحصيل أرباح الوثائق أو بيع محتوياتها كان هذا التفويض عقد وكالة يستحق المصرف على القيام بالواجب نحو ذلك عمولة أجرة لعمله ، وكلاهما عقد صحيح في نفسه بقطع النظر عما كتب في المحتويات ، وعن كيفية ما فوض البنك من البيع والتحصيل .
ثالثا : الإيداع في خزائن حديدية بأجرة : هو عقد يلتزم البنك بمقتضاه أن يضع في العقار الذي يشغله خزانة حديدية تحت تصرف العميل وحده ، لينتفع بها مقابل أجرة ، ويترتب على عقد إيجار خزائن الودائع واجبات يلزم الوفاء بها .
فيجب على البنك المحافظة على الخزائن مما يؤدي إلى تلفها أو ضياع ما فيها ، وأن يمكن المودع من الانتفاع بالخزانة مع تحقيق غرضه في السرية ، وأن يتحقق من شخصية عميله قبل الإذن له بدخول صالة الخزائن ، وأن يحتفظ بمفتاح آخر ليستعمله عند الضرورة لإنقاذ محتويات الخزانة من حريق وفيضان ونحو ذلك .
ويجب على العميل دفع أجرة الخزانة والاحتفاظ بمفتاحها ورده عند انقضاء العقد ، وإبلاغ البنك عن ضياعه إذا فقده ، ليحتاط لحفظ الخزانة

أكثر ، وأن يحترم لائحة صالة الخزائن ويتقيد بمواعيد الزيارة ولا يضع في الخزانة ما يهدد سلامتها .
تكييف عقد إيجار الخزائن في نظر القانون :
قيل : إنه عقد وديعة حقيقية بناء على أن ما تحتويه الخزانة من ممتلكات العميل في عهدة البنك وحراسته ، فتجري عليه أحكام الودائع ، وقيل : إنه عقد إجارة ، نظرا إلى استئجار العميل الخزانة من البنك لاستخدامها في المحافظة على ممتلكاته وعلى سريتها .
ونوقش كل من القولين : بأنه لا تتوفر فيه خواص الوديعة وحدها ولا خواص الإجارة وحدها من أجل الاشتراك في الحيازة وجولان اليد في الجملة .
تكييفه في الفقه الإسلامي :
يمكن أن يعتبر عقد إجارة بالنسبة لاستئجار العميل الخزانة من البنك لحفظ ما يضعه فيها ، ويعتبر عقد وديعة بالنسبة لوضع الخزانة التي ملك منافعها ووضع ما فيها من ممتلكاته تحت يد البنك لحفظها ، فهما عقدان : عقد إجارة ، وعقد وديعة .
ويمكن أن يقال : إن كلا منهما عقد إجارة ، فالأول : إجارة للخزانة ، والثاني : إجارة على الحراسة وحفظ ما تحتويه الخزانة .
حكمه في الفقه الإسلامي :
يعتبر الاتفاق على الإيداع في خزائن خاصة عقد إجارة بالنسبة لاستئجارها ، وعقد وديعة حقيقية أو عقد إجارة على الحراسة والحفظ ، وعلى كل حال هي عقود صحيحة في نفسها بقطع النظر عن أحوال ما

احتوت عليه الخزانة المستأجرة .

2 -

عمليات الائتمان
لعمليات الائتمان أنواع كثيرة نتكلم في هذا البحث على الاعتمادات المصرفية منها :
الاعتمادات المصرفيةالاعتمادات التي تقدمها البنوك لعملائها كثيرة ولكن الغاية منها واحدة وهي إنشاء وتقديم الائتمان من البنوك للعملاء من أجل أن يتحصلوا بذلك على ثقة من يتعاملون معه ، فالبنك يقدم للعميل أو للشخص الذي يحدده العميل فورا أو عند أجل معين أدوات للوفاء إما نقدا كما في القرض البات وإما تعهدا بالوفاء كما في اعتماد خطاب الضمان ، والبنك يأخذ مقابل ذلك فوائد وعمولة يتفقان عليهما ، والعميل يتعهد للبنك برد ما أخذه ورد فائدته والعمولة في الوقت الذي يحصل الاتفاق بينهما على تحديده .
ويشمل الكلام عليها : الإقراض - فتح الاعتماد البسيط - الضمان - الكفالة ، وخطاب الضمان ، والقبول - الاعتماد المستندي - الخصم .
وفيما يلي الكلام على كل منها :
الأول : الإقراض :
الإقراض النقدي أبسط صور الاعتمادات المصرفية ذلك أن البنك يقدم لعميله قرضا نقديا أو يقدم ذلك لشخص يعينه العميل ، ويقصد بتقديم المبلغ أن البنك يضعه تحت أمر العميل الذي يملك التصرف فيه ، وفيما يلي بيان واقعه ثم حكم الشرع فيه : أما الأول : فيشمل تعريفه وطبيعته وأنواعه ، وضرورة الاتفاق على القرض وتجاريته وإبرام العقد وإثباته

وفائدته .
وفيما يأتي تفصيل ذلك :
أ - تعريفه : قال الدكتور علي البارودي : هو تسليم النقود مباشرة إلى العميل وتحديد أجل للرد ، واتفاق على سعر الفائدة ، وبيان الضمانات إن اشترطت ، لذلك فهو يخضع فيما يتعلق بالآثار القانونية للقواعد العامة . (1)
__________
(1) كتاب [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] ( 361 ) ، ويرجع إلى كتاب [ البنوك والائتمان ] ( 183 ) ، وكتاب ، [ العقود التجارية وعمليات المصارف ] ( 556 ) ، وكتاب [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ( 344 - 1 ) .

ب - طبيعته : قال الدكتور محمد سلطان أبو علي : تعتبر عمليات الإقراض والاقتراض وجهين لذات الموضوع ، فالاقتراض أو الدين إن هو إلا التزام بالدفع في تاريخ معين مستقبل ، ولما كانت النقود هي معيار المدفوعات الآجلة فعادة ما تكون هذه الديون التزاما بدفع مبلغ معين من النقود ، ويعتبر هذا المبلغ ائتمانا من وجهة نظر الشخص الذي سيدفع إليه ، ومن الواضح أن إجمالي الديون القائمة في تاريخ معين يعادل إجمالي الائتمان الممنوح وينشأ القرض أو الائتمان عادة نتيجة للمبادلات الاقتصادية والمالية والتي يتنازل بموجبها الدائن عن قدر من ( الأشياء ) في نظير وعد من المدين بالدفع في تاريخ مستقبل ، وقد تكون هذه الأشياء التي يتنازل عنها الدائن نقودا أو سلعا ، أو خدمات ، أو أصولا مالية كالأسهم والسندات ، ولكن يقوم المدين عادة بالسداد عن طريق النقود ، ويقال عموما عند منح الائتمان أو

الاقتراض : إن هناك تبادلا للسلع الحاضرة أو للقوة الشرائية الممثلة في النقود في مقابل سلع مستقبلة أو قوة شرائية مستقبلة ، ويتحمل المقترض عادة فوائد في نظير الحصول على قرضه (1)
__________
(1) [ محاضرات في اقتصاديات النقود والبنوك ] ( 30 ) ، ويرجع أيضا إلى كتاب [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] ( 363 - 1 ) .

ج - أنواعه : للقرض أنواع متعددة فقد يكون أساس التعدد طبيعة المقترض أو طبيعة القرض الذي من أجله اندفع المقترض أو مدة القرض .
وقد بسط ذلك الدكتور محمد سلطان أبو علي فقال : أول هذه المعايير طبيعة المقترض فمن الممكن بناء على هذا المعيار التفرقة بين القروض لأفراد أو لشركات أو للحكومة ، أما إذا كان معيار التفرقة هو طبيعة المقرض فإننا نجد أن مانحي القروض قد يتنوعون من أفراد إلى بنوك تجارية ، والمؤسسات المالية الأخرى والشركات غير المالية أو الحكومة .
والمعيار الثالث للتفرقة هو القرض الذي من أجله أنشئ الدين وفي هذه الحالة تنقسم الديون إلى ديون لأغراض الاستهلاك أو أغراض الإنتاج . . أما بالنسبة للقروض لأغراض الاستهلاك فيحصل الشخص على نقود أو سلع أو خدمات لهذا القرض ، أما القروض لأغراض الإنتاج فتستخدم عادة في العملية الإنتاجية لدفع الأجور أو شراء مخزون ، أو شراء الأراضي أو المعدات المستخدمة في الإنتاج .
وأخيرا تنقسم الديون بحسب فترة الإقراض إلى قروض طويلة الأجل ،

ومتوسطة الأجل ، وقصيرة الأجل ، ومستحقة عند الطلب ، ولا شك أن طول الفترة الزمنية يعتمد على طبيعة المجال موضع الدراسة ، والمقصود بالفترة الطويلة في مجال القروض مدة تزيد على خمس سنوات ، والقروض متوسطة الأجل يتراوح أجلها بين سنة وخمس سنوات ، أما القروض قصيرة الأجل فهي لفترة تقل عن سنة ، ونستطيع التمييز بين أنواع أخرى من القروض على أساس التصنيف التبادلي للمعايير السابقة كأن يكون القرض إنتاجيا وقصير الأجل أو قرضا حكوميا قصير الأجل لأغراض الاستهلاك وهكذا (1)
__________
(1) [ محاضرات في اقتصاديات النقود والبنوك ] ( 31 ) .

د - ضرورة الاتفاق على القرض ، تجاريته ، إبرام العقد :
الاتفاق على القرض بين البنك وعميله أمر ضروري ، والقرض قد يكون تجاريا وقد يكون مدنيا ، فإذا صار البنك فيه طرفا فهو تجاري بصرف النظر عن الطرف الآخر ، وعقد القرض من جملة العقود يحتاج إلى قواعد يبرم على أساسها .
وفيما يلي بيان ذلك :
قال الدكتور محمد جمال الدين عوض : الأصل في القرض أن يكون متفقا عليه ، وقد لا يكون هناك اتفاق على القرض ويكون الحساب مفتوحا ، بين الطرفين ويكون مركز العميل فيه مدينا للبنك ، ويسكت البنك على هذا المركز . . . . . ويعتبر سكوت البنك تسامحا ، غير ملزم له قانونا ، وله أن يطلب إلى عميله أن يدفع في الحساب ما يغطي مركزه ، ولا

يسأل البنك إذا قفل الحساب رجوعا منه في هذه الرخصة إلا إذا كان سلوكه منطويا على قصد الإضرار أو سوء استعمال لحقه بأن كان فجائيا وبلا إخطار أو كان مخالفا للعادة التي جرى عليها مع العميل ، وقد يكون هناك اتفاق ضمني على ترك الحساب مكشوفا وتمكين العميل من الإفادة من هذا الوضع فيعتبر ذلك اتفاقا على القرض . . . .
وفي تجارية القرض الذي يعقده البنك مع عميله خلاف ، ومع ذلك فالراجح في القضاء الفرنسي أن القرض الصادر من البنك يعتبر تجاريا دائما وبالنسبة للطرفين أيا كانت صفة المقترض وغرضه من القرض ؛ لأن ذلك يدخل في عمل البنوك المعتبرة تجارية بحكم القانون م 631 ، 632 تجاري فرنسي ، ويفترض هذا الرأي أن البنك إنما يباشر عملا داخلا حدود حرفته .
ولذلك فإن القرض الذي يعقده البنك ويكون خارجا - بشروطه وظروفه - عن نشاطه المعتاد يخرج عن حدود هذا المعيار ويعتبر كأنه صادر من شخص غير بنك فلا يعتبر تجاريا إلا إذا كان معقودا لاستغلال تجاري .
ويبرم العقد ويثبت طبقا للقواعد العامة مع ملاحظة أحكام الإثبات الخاصة بالأعمال التجارية ، والغالب أن ينظم العقد كيفية تسليم المبلغ للعميل ورده إلى البنك . . . . (1)
وكذلك سعر الفائدة ، ولما كان المعتاد أن يلجأ إلى هذا الاقتراض غير
__________
(1) [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ( 344 ) وما بعدها .

التجاري ، فالغالب أن يصحبه تأمين لصاحب البنك .

هـ - فائدته : البنك يأخذ فائدة على ما يقرضه يتفقان عليها وتختلف باختلاف مقدار المدة ، فقد يكون أجل القرض قصيرا أو متوسطا أو طويلا ، وقد يكون المقترض له أهمية كبرى من جهة مركزه المالي ، وكذلك ضخامة القرض وصغر حجمه ، وهذه الفوائد لها حد أعلى ، وقد يكون لهذه الفوائد إذا كانت متجمدة فوائد ، وفيما يلي تفصيل ذلك :
قال الدكتور محمد سلطان أبو علي : يدفع المقترضون عادة أصل القرض علاوة على مبلغ إضافي ، وهذا المبلغ الإضافي يعرف على أنه فائدة على القرض ، وعادة ما تحدد الفائدة المستحقة على قرض بناء على سعر فائدة معينة ويحسب سعر الفائدة على أساس سنوي . . . . (1)
وقال الدكتور محمد جمال الدين عوض : ويغلب عملا أن يكون ثمة محل لتطبيق العادة التي تشير إليها المادة ( 232 ) من القانون المدني التي تقول : ( لا يجوز تقاضي فوائد على متجمد الفوائد ولا يجوز في أية حال أن يكون مجموع الفوائد التي يتقاضاها الدائن أكثر من رأس المال ، وذلك كله دون إخلال بالقواعد والعادات التجارية ، وهي تشترط للإفادة من الاستثناء الوارد بها والسماح بتجميد الفوائد أن تكون القواعد والعادات التجارية قد جرت بذلك في خصوص المعاملة ولا يكفي مجرد أن يكون القرض تجاريا ) (2)
__________
(1) [ محاضرات في اقتصاديات النقود والبنوك ] ( 25 ، 26 - 1 ) .
(2) [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ( 348 - 1 ) .

تكييف الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي
إقراض المصرف لشخص مبلغا من المال حسب طلبه لمدة على أن يرد مثله إليه مع فائدة يتفقان عليها إما أن يكون قرضا كما تسميه المصارف وإما أن يكون بيعا ولا يجوز أن يكون قرضا في نظر فقهاء الشريعة الإسلامية ؟ لأن القرض عندهم أن يدفع شخص مبلغا من المال لآخر على وجه الإرفاق المحض والمعونة على أن يرد مثله إليه دون شرط زيادة أو جريان عرف بها وما يدفعه المصرف لا يقصد به الإرفاق المحض ، بل يقصد به استثمار ماله أولا ، وإن وجد إرفاق فهو تابع .
وقد يكون ما يدفعه المصرف على ما تقدم بيعا ؛ لأنه يتضمن معاوضة مالية بين نقدين - مثلا - أحدهما عاجل ، والآخر آجل على وجه المغالبة وقصد التنمية والاستثمار ، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا بيعا ، فيما رواه البخاري في [ صحيحه ] عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء ، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء ، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم » (1) ، وفي رواية لمسلم عن عثمان عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : « لا تبيعوا الدينار بالدينارين ، ولا الدرهم بالدرهمين » (2) ، وفي رواية لأحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : « ولا تبيعوا منها غائبا بناجز » (3) .
فسمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مبادلة الذهب بالذهب والفضة بالفضة والفضة بالذهب والذهب بالفضة : بيعا .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2066),صحيح مسلم المساقاة (1590),سنن النسائي البيوع (4579),مسند أحمد بن حنبل (5/38).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1585).
(3) صحيح البخاري البيوع (2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),مسند أحمد بن حنبل (3/53),موطأ مالك البيوع (1324).

حكم الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي
إذا ثبت أنه بيع فهو من البيوع المحرمة مادام في معاوضات ربوية ؛ وذلك لتضمنه ربا الفضل وربا النسيئة .
أما ربا الفضل : فالزيادة التي يدفعها المقترض بالإضافة إلى ما اقترضه بناء على الشرط المتفق عليه مع المصرف .
وأما النساء : فلتأجيل ما يدفعه المقترض للمصرف وفاء للدين ، وقد يعجز المقترض عن الوفاء في الميعاد فيمتد الأجل ويلزمه دفع فائدة عن الدين الأصلي وما أضيف إليه من الفوائد قبل امتداد الأجل - فيكون ربا مركبا .
ومن الأدلة الدالة على تحريم ذلك ما رواه مسلم في [ صحيحه ] والإمام أحمد في [ المسند ] والنسائي في [ السنن ] عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : « الذهب بالذهب ، وزنا بوزن ، مثلا بمثل ، والفضة بالفضة ، وزنا بوزن ، مثلا بمثل ، فمن زاد أو استزاد فهو ربا » (1) ، وما رواه مسلم وأحمد والنسائي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : « الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، والآخذ والمعطي سواء » (2) ، وما رواه مسلم والإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : « الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1588),سنن النسائي البيوع (4559),سنن ابن ماجه التجارات (2255).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4563),سنن أبو داود البيوع (3349),سنن ابن ماجه التجارات (2254),مسند أحمد بن حنبل (5/320),سنن الدارمي البيوع (2579).

بيد ، فإذا اختلفت ، هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يدا بيد » (1) .
فقد نهى صلى الله تعالى عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا حالا أو مؤجلا ، ونهى عن بيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب مؤجلا والنهي يقتضي التحريم .
والقرض المصرفي قد يكون مبادلة ذهب بذهب أو فضة بفضة مع التأجيل والزيادة ، فيحقق فيه ربا الفضل والنساء ، وقد يكون مبادلة ذهب بفضة أو فضة بذهب مع التأجيل فيتحقق فيه ربا النساء ، وعلى هذا فيكون داخلا في عموم ما دلت عليه الأدلة السابقة من النهي .
وعلى تقدير أنه قرض فهو محرم أيضا ؛ لأنه جر نفعا مشروطا ، وقد ذكر الفقهاء أن كل قرض جر نفعا مشروطا فهو ربا .
وفيما يلي ذكر طائفة من أقوالهم وما استندوا إليه من أدلة الكتاب والسنة والأثر والمعنى :
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561).

أولا : ذكر طائفة من أقوال الفقهاء في حكم القرض الذي جر نفعا :
قال الكاساني : وأما الذي يرجع إلى نفس القرض فهو ألا يكون فيه جر منفعة فإن كان لم يجر ، نحو ما إذا أقرض غلة على أن يرد عليه صحاحا أو أقرضه وشرط شرطا له فيه منفعة (1)
وقال الدردير : أو جر منفعة . . كشرط قضاء عفن بسالم أو شرط دفع دقيق أو كعكعة ببلد غير بلد القرض ، ولو لحاج ؛ لما فيه من تخفيف مئونة حمله ومفهومه الجواز مع عدم الشرط وهو كذلك ، ثم شبه في المنع قوله :
__________
(1) [ بدائع الصنائع ] ( 7 \ 395 ، 396 ) ، ويرجع أيضا إلى [ الفتاوى الهندية ] ( 3 \ 202 ، 203 - 1 ) .

كسفتجة - الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله ببلد ليدفع للمقترض نظير ما أخذه منه ببلده - ويحتمل أنه مثال لما جر منفعة ، إلا أن يعم الخوف ، أي : يغلب سائر الطرق فلا حرمة ، بل يندب للأمن على النفس أو المال ، بل قد يجب (1)
وقال الشيرازي : ولا يجوز قرض جر منفعة ، مثل : أن يقرضه على أن يبيعه داره وعلى أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه أو على أن يكتب له سفتجة يربح بها خطر الطريق (2) .
وقال ابن قدامة : كل قرض شرط فيه أن يزيد فهو حرام بلا خلاف (3) .
__________
(1) [ الشرح الكبير ] ومعه [ حاشية الدسوقي ] ( 3 \ 225 ) وما بعدها .
(2) [ المهذب ] ( 1 \ 304 - 1 ) .
(3) [ المغني ] ( 4 \ 360 - 1 ) .

ثانيا : الأدلة :
أما الأدلة من الكتاب والسنة :
فما جاء في القرآن والسنة من النصوص الدالة على النهي عن الربا وهي كثيرة معلومة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : نص النهي عن الربا في القرآن يتناول كل ما نهى عنه من ربا النساء والفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك فالنص متناول له كله (1) .
ومن الأدلة الخاصة في ذلك : ما رواه ابن ماجه بسنده عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال : سألت أنس بن مالك : الرجل منا يقرض أخاه المال
__________
(1) [ الفتاوى المصرية الكبرى ] ( 1 \ 412 ) .

فيهدى له ؟ قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : « إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه أو حمله على دابة فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك » (1) ، حسنه السيوطي وأقره المناوي على ذلك .
وممن استدل بهذا الحديث من العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية في إقامة الدليل على بطلان التحليل وتلميذه ابن القيم في [ إعلام الموقعين ] و [ تهذيب سنن أبي داود ] و [ إغاثة اللهفان ] . . ومنها حديث « أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ( نهى عن قرض جر منفعة ) » وفي رواية : « كل قرض جر منفعة فهو ربا » .
قال ابن حجر في هذا الحديث : قال عمر بن بدر في [ المغني ] : لم يصح فيه شيء ، وأما إمام الحرمين فقال : إنه صح ، وتبعه الغزالي ، وقد رواه الحارث بن أبي أسامة في [ مسنده ] من حديث علي باللفظ الأول وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك ، ورواه البيهقي في [ المعرفة ] عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ : « كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا » ، ورواه في [ السنن الكبرى ] عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم (2) .
وأما الأثر : فمنه ما رواه مالك في [ الموطأ ] أنه بلغه : أن رجلا أتى عبد الله بن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني أسلفت رجلا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته ؟ فقال عبد الله بن عمر : فذلك الربا . قال : فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن ؟ فقال عبد الله : السلف على ثلاثة وجوه : سلف تسلفه
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2432).
(2) [ تلخيص الحبير ] ( 3 \ 34 ) .

تريد به وجه الله فلك وجه الله ، وسلف تريد به وجه صاحبك فلك وجه صاحبك ، وسلف تسلفه لتأخذ خبيثا بطيب فذلك هو الربا . قال : فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : أرى أن تشق الصحيفة ، فإن أعطاك مثل الذي أسلفته قبلته ، وإن أعطاك دون الذي أسلفته فأخذته أجرت ، وإن أعطاك أفضل مما أسلفته طيبة به نفسه فذلك شكر شكره لك ، ولك أجر ما أنظرته .
وفي الباب جملة آثار عن عمر بن الخطاب رواها عنه مالك في [ المدونة ] .
وعن عبد الله بن مسعود في [ الموطأ ] وعبد الله بن سلام رواها عنه عبد الرزاق في [ المصنف ] ، وعبد الله بن عباس في [ مصنف ] عبد الرزاق وغيرهم .
وأما المعنى : فإن القرض عقد إرفاق فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه .

الثاني : فتح الاعتماد البسيط :
عندما يريد شخص القيام بمشروع من المشاريع بطريق المقاولة - مثلا - يحتاج إلى تمويل المشروع حتى يبرز إلى حيز الوجود على الصفة المرضية المتفق عليها بين المعنيين بها ، ويحتاج إلى ثقة يعتمد عليها من أجل أن تكون مقنعة للطرف الآخر ليكل إليه تنفيذ العملية فيذهب إلى أحد المصارف ليتفق معه على أن يعتمد له مبلغا من المال يجعله تحت تصرفه خلال مدة معينة يتفقان عليها .
وفيما يلي الكلام على واقعه وتكييفه وحكمه في الفقه الإسلامي :

أما الأول : فيشمل بيان تعريفه ، وصوره ، وخصائصه ، وتكوين العقد وإثباته وطبيعته ، وآثاره ، وانتهاء العقد ، وانتقال الاعتماد :
أ - تعريفه وصوره :
قال الدكتور محمد جمال الدين عوض : هو عقد يتعهد به البنك أن يضع تحت تصرف العميل - بطريق مباشر أو غير مباشر - أداة من أدوات الائتمان في حدود مبلغ نقدي معين لمدة محدودة أو غير محدودة ، وقد يكون هناك اعتماد مفتوح من قبل ويتفق فقط على إطالة مدته فيعتبر هذا الاتفاق فتحا لاعتماد جديد ، وكذلك لو كان دين العميل قد حل أجله فمنحه البنك أجلا جديدا ، إذ يعتبر ذلك فتحا لاعتماد جديد تماما ، كما لو قدم البنك لعميله المبلغ نقدا أو بالقيد في الحساب .
وقال أيضا : وقد يكون الاعتماد بمجرد خصم الأوراق التي يقدمها العميل للبنك ، وقد لا يرغب البنك في التجرد من مبلغ نقدي لحساب العميل ، بل يقتصر على تقديم ائتمانه : أي : توقيعه ، فيكون للعميل أن يقدم إليه أوراقا للقبول ، ثم يخصمها العميل لدى بنك آخر (1) .
__________
(1) [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ( 312 ) وما بعدها .

ب - خصائصه :
عقد فتح الاعتماد البسيط له خصائص : فهو عقد رضائي ويخضع للقواعد العامة ، وقد يكون تجاريا وقد يكون مدنيا ، ويشترط فيه تقديم الضمانات وبيان ما يفعله البنك إذا حصل نقص هام في الضمانات العينية أو الشخصية المقدمة من العميل المعتمد له .

وقد شرح الدكتور أدوار عيد هذه الخصائص فقال :
عقد فتح الاعتماد : هو عقد رضائي ، يتم بمجرد اتفاق الطرفين ، وقد يكون خطيا أو شفويا ، وفي هذه الحالة الأخيرة يعمد المصرف غالبا إلى إرسال كتاب للعميل بتأكيد فتح الاعتماد ، ويحدد العقد المبلغ الذي يضعه المصرف تحت تصرف العميل ، والذي لا يمكنه تجاوزه ويسمى بحد الائتمان ، كما يحدد المدة التي يحق للعميل استعمال المبلغ خلالها ، وطريقة أو طرق هذا الاستعمال ومعدل الفائدة وقيمة العمولة التي تعود للمصرف عن هذه العملية .
ويخضع العقد للقواعد العامة من حيث شروط الصحة والأهلية ، وهو يعد من عقود الاعتبار الشخصي فلا يلتزم فيه المصرف إلا تجاه شخص العميل ذاته ، فإذا توفي هذا الأخير اعتبر العقد فاسخا ولا يلتزم المصرف بإبقاء الاعتماد ساريا لمصلحة ورثته ، كما أنه لا يلتزم بتوفير الاعتماد لوكيل التفليسة عند الإفلاس ، ولا للعميل نفسه في حالة فقد أهليته ، كما أنه لا يحق لدائني العميل استعمال الاعتماد بالاستناد إلى أحكام المادة ( 276 ) من قانون الموجبات والعقود .
ويعتبر العقد تجاريا بالنسبة للمصرف ، ويكون أيضا تجاريا بالنسبة للعميل إذا كان تاجرا وتم فتح الاعتماد لحاجات تجارية ، وإلا اعتبر مدنيا بالنسبة له ، وإذا كان العقد تجاريا جاز إثباته بجميع الطرق ، وإن مجرد قيد المبلغ المعتمد في الحساب الجاري يعد دليلا كافيا على وجود هذا العقد . . ويشترط المصرف على العميل - في الغالب - تقديم ضمانات معينة مقابل فتح الاعتماد له ، وقد تكون هذه الضمانات شخصية أو عينية ،

وقد تكون من المستندات الممثلة للبضاعة المنقولة ، كما هي الحال في فتح الاعتماد المستندي ، ولا تتعلق الضمانات المقدمة إلا بالاعتماد المفتوح وفي حدود المبلغ والمدة المتفق عليها .
فإذا حصل تجاوز على هذه الحدود وجب تقديم ضمانات جديدة بشأن الالتزامات الزائدة ما لم يتفق على خلاف ذلك ، ويعود أثر الضمان المقدم إلى تاريخ الاتفاق على فتح الاعتماد . أما إذا جرى فتح الاعتماد في حساب جار فيتناول الضمان رصيد الحساب بتاريخ قفله ، غير أنه يخشى في حال إدخال قيود جديدة في الحساب تتعلق بعمليات خارجة عن نطاق فتح الاعتماد أن يؤدي ذلك بحكم فقدان الدين لكيانه الذاتي وتحوله إلى مجرد بند في الحساب إلى زوال الضمانات المتعلقة بفتح الاعتماد ( م : 303 \ فقرة : 2 تجارة ) ، ولكن الاجتهاد الفرنسي يقرر في هذه الحال أن ضمانات فتح الاعتماد تظل قائمة ، وتنتقل إلى رصيد الحساب الجاري ، مستندا في ذلك إلى اتفاق ضمني بين الطرفين في هذا الصدد .
وإذا وقع نقص هام في الضمانات العينية أو الشخصية المقدمة من العميل المعتمد له جاز للمصرف فاتح الاعتماد ، وفقا لمقتضيات الحال ، إما أن يطلب من العميل تقديم ضمانات إضافية ، وإما أن يخفض مبلغ الاعتماد إلى الحد الذي يتناسب مع الضمانات الباقية ، وإما أيضا أن يقفل الاعتماد ( م : 311 فقرة : 2 تجارة ) ، كما يحق للمصرف فاتح الاعتماد أن ينقض العقد أيضا إذا أصبح العميل المعتمد له معسرا أو كان في حالة الإعسار وقت التعاقد بدون علم من المصرف ( م : 311 فقرة : 1 تجارة ) ، ويجوز أن ينتهي العقد أيضا كما قدمنا بوفاة العميل أو بفقده الأهلية أو

بإفلاسه ، وإذا كان شركة فبإبطالها أو حلها ، كما ينتهي كذلك بانتهاء مدة العقد غير أنه يجوز الاتفاق على تجديد هذه المدة ، وفي حال عدم تجديد مدة العقد ، يجوز للمصرف فاتح الاعتماد أن ينقض هذا العقد متى يشاء شرط إخطار العميل مسبقا في المهلة المتفق عليها أو المقررة عرفا ، كما يجوز للعميل نقض العقد أيضا (1) .
__________
(1) [ العقود التجارية وعمليات المصارف ] ( 564 - 569 ) ، ويرجع أيضا إلى كتاب [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ( 315 - 321 ) ، وكتاب [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] ( 347 ) .

ج - تكوين عقد الاعتماد البسيط وإثباته :
يتكون العقد من رضا الطرفين وأهليتهما وسلطة التصرف وكون سبب العقد مشروعا ، وأنه يثبت طبقا للقواعد العامة ، وفيما يلي تفصيل ذلك :
قال الدكتور محمد جمال الدين عوض :
الرضا والأهلية والسلطة : فتح الاعتماد عقد يلزم لصحته أن يصدر الرضا به من طرفيه صحيحا ، وفي هذا تنطبق القواعد العامة ، ولكن قيامه على الاعتبار الشخصي يجعل العقد قابلا للإبطال إذا وقع البنك في غلط في شخص المتعاقد أو صفة جوهرية فيه ، مثلا : إذا كان يجهل سبق شهر إفلاسه أو أنه أصدر شيكات مزورة أو بلا رصيد ، ولا يقبل القضاء إبطال العقد لهذا السبب إلا إذا كان وقوع البنك في الغلط له ما يبرره وليس نتيجة إهمال أو خطأ مهني من البنك مع مراعاة ظروف كل حالة ، وما إذا كان البنك لم يقم بالتحريات اللازمة ، وإنما فتح الاعتماد بتسرع ورعونة ، أو أنه بالعكس اتخذ كل احتياط ، ولكنه رضي به بناء على خداع من العميل . .

وإذا كان فتح الاعتماد ملزما لجانبين وجب أن يكون طرفاه كاملي الأهلية للالتزام ، وهذه حالة العقد الذي يلزم العميل بدفع عمولة لفتح الاعتماد ، وحالة ما إذا تعهد باستخدام الاعتماد . . أما إذا كان ملزما لجانب واحد هو البنك كانت الأهلية الكاملة واجبة في الملتزم دون الطرف الآخر ، فيكفي أن يكون مميزا ولا تلزم له الأهلية الكاملة إلا عندما يبرم العقود المنفذة للاعتماد ؛ وذلك لما تقدم من أن فتح الاعتماد مستقل تماما في شروطه وآثاره عن العقود التي يمهد لإبرامها .
ونشير إلى أن العقود التي يمهد عقد الاعتماد لإبرامها تنعقد بمجرد أن يظهر العميل رغبته في الإفادة عن الاعتماد ، وذلك إذا كانت عناصر هذه العقود محددة في عقد الاعتماد بشكل مفصل ، أما إذا كانت بشكل عام لم تنعقد إلا برضا جديد من البنك ، كما كان من حقه أن يناقش الأوراق المطلوب خصمها ، وكذلك حكم الاعتماد الذي يطلب تدخلا منه كالقبول .
أما من حيث السلطة المطلوبة في الطرفين فهي سلطة التصرف :
ولذا فإن المفلس - بحكم رفع يده عن إدارة أمواله - لا يستطيع الالتزام بشكل صحيح ونافذ على جماعة الدائنين في عقد فتح الاعتماد لا كدائن ولا كمدين ، ولكن لوكيل التفليسة إذا أذن بالاستمرار في تجارة المفلس أن يفتح اعتمادا لحساب المفلس ، ويعتبر ذلك تعاقدا نيابة عن التفليسة ذاتها . وإذا وضعت أموال شخص تحت الحراسة ( الإدارية ) فإن ذلك لا يمس أهليته التي تظل كاملة له ، وإنما تتأثر بذلك سلطاته ويغلب أن يحل محله الحارس في إدارة أمواله ؛ ولذا يكون من الخطورة على مصالح البنك أن

يفتح لهذا الشخص - دون تدخل الحارس - اعتمادا ، ولكن ما الحكم إذا كان هذا الشخص مستفيدا من اعتماد مفتوح قبل فرض الحراسة ، هل للحارس أن يتمسك باستمرار هذا الاعتماد ؟ نرى أن للبنك حق إنهاء الاعتماد تأسيسا على تأثر الاعتبار الشخصي ، وإن على من ينفذ الاعتماد مع البنك ليس هو الشخص الذي رضي به البنك ابتداء ؛ لأن فرض الحراسة يؤثر في اعتبار المفروض عليه الحراسة ، ولأن الحارس وإن كان وكيلا عنه إلا أنه وكيل مفروض .
المحل : محل العقد : هو إنشاء التزام على البنك بتقديم الائتمان أو الاعتماد المبين به ، ويغلب أن يحدد العقد الوسائل التي يضعها البنك في خدمة العميل ، فإذا لم يرد به هذا التحديد كان المرجع إلى العرف ونية الطرفين في تحديدها . وينشئ العقد التزاما على العميل بدفع العمولة ، والغالب أن يبين الشروط والقيود التي يتحملها إذا أراد الانتفاع بالاعتماد المفتوح ، والمدة التي يبقى خلالها التزام البنك قائما .
وتوجب المادة ( 101 ) مدني لصحة الوعد بالتعاقد - وفتح الاعتماد صورة منه - أن يتفق فيه على المسائل الجوهرية للعقود المراد إبرامها ، وعلى المدة التي تبرم فيها هذه العقود وإن جاز تحديدها ضمنا من الظروف .
السبب : سبب التزام كل من الطرفين هو تنفيذ الطرف الآخر التزامه ولا جديد في ذلك ، وأما سبب العقد فهو الغاية التي يستهدفها الطرفان من إبرامه وتنفيذه ، والسبب يجب أن يكون مشروعا ، ولذلك يبطل الاعتماد المفتوح لشخص بقصد تمكينه من إدارة محل للقمار ، طبقا للقواعد العامة

في الالتزامات .
إثبات العقد : يثبت العقد طبقا للقواعد العامة ، فإذا كان مدنيا بالنسبة لطرفيه وجب اتباع القواعد المدنية ، أما إذا كان مدنيا بالنسبة لطرف وتجاريا بالنسبة للطرف الآخر جاز إثباته ضد الأخير بكافة الطرق أيا كانت قيمته ، مثلا : يقيده في الحساب الجاري بين الطرفين أو يتقاضى البنك العمولة التي يتقاضاها لفتح الاعتمادات أو حتى بمجرد الشهود أو عبارات واردة في عقد رهن أبرم ضمانا للاعتماد ، وإثبات فتح الاعتماد مستقل عن إثبات عمليات تنفيذ الاعتماد ذاته (1) .
__________
(1) [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ( 321 - 325 ) .

د - طبيعته : ثار الخلاف في تحديد طبيعة عقد فتح الاعتماد البسيط هل يقال : إنه قرض ، أو أنه قرض معلق على شرط واقف أو أنه عقد غير مسمى أو أنه وعد بالقرض أو أنه عقد مركب من القرض والوديعة ؟ وفيما يلي ذكر هذه الآراء ومناقشتها وبيان الراجح منها في نظرهم :
قال الدكتور أدوار عيد : يلاحظ أولا أن ثمة فرقا بين فتح الاعتماد والقرض البات إذ أن العميل المعتمد له لا يتسلم المبلغ فور التعاقد كما هي الحال في القرض ، وقد لا يتسلم أي مبلغ إذا لم يجد حاجة له ، ويظل مع ذلك عقد فتح الاعتماد قائما منتجا لجميع آثاره في حين أن استلام المبلغ في عقد القرض هو أمر أساسي يتوقف عليه نشوء آثار هذا العقد .
ولا يمكن القول أيضا : إن فتح الاعتماد : هو قرض معلق على شرط واقف ، وهو استفادة العميل فعليا من الاعتماد ، ما دام أن عدم تحقق هذا

الشرط لا يؤثر في صحة العقد ولا في إنتاج آثاره . . ويذهب فريق إلى أن فتح الاعتماد هو عقد غير مسمى ، وهو يشتمل على اتفاق من جانب واحد ، إذ أن المصرف يلتزم بمنح الاعتماد بينما العميل لا يجبر على الاستفادة منه .
أما غالبية الفقهاء فتعتبر أن العقد يشكل وعدا بالقرض ، ويتحول إلى قرض بات عندما يطلب العميل تسلم الأموال تنفيذا لوعد المصرف .
وأن هذا الرأي الأخير هو الراجح من الناحية القانونية ، غير أنه يلاحظ مبع ذلك أن هذا العقد لا يترتب عليه التزام أساسي إلا على عاتق طرف واحد هو المصرف الذي يتعهد بفتح الاعتماد ، أما الطرف الآخر - أي : العميل - فلا يجبر على سحب المبلغ الموضوع بتصرفه ، إنما يحق له أن يسحب منه بمقدار حاجته فقط ، وقد لا يسحب شيئا عند انعدام الحاجة ، كما يتغلب في هذا العقد الطابع الشخصي بحيث إن المصرف لا يلتزم إلا تجاه العميل شخصيا ، ويعتبر العقد منتهيا عند وفاة هذا الأخير أو إفلاسه وفقد أهليته (1) .
وقال الدكتور علي البارودي بعد كلام سابق يتفق مع ما قاله الدكتور أدوار عيد ، قال : والواقع أن فكرة فتح الاعتماد تتميز بوجه عام عن فكرة القرض بأنها أشمل وأوسع حتى إذا تغاضينا عن الصعوبة الناشئة عن عدم استفادة العميل من فتح الاعتماد عقب العقد مباشرة ، ذلك أن القرض الذي تعرفه العامة يواجه - في قصد المقترض حاجة عاجلة إلى مبلغ معين من
__________
(1) [ العقود التجارية وعمليات المصارف ] ( 569 ، 570 ) .

المال والوعد بالقرض يواجه هو الآخر - في قصد المستفيد من الوعد حاجة آجلة محتملة إلى مبلغ معين من المال ، وفي الحالتين ينحصر العقد في حدود ضيقة معينة يبينها الطرفان ويرتكز عليها العقد . . أما في فتح الاعتماد فطالبه لا يعرف مدى حاجته ولا مواعيد هذه الحاجة ، بل وقد لا يعرف أن ثمة حاجة مقبلة تلجئه إلى استعمال الاعتماد المفتوح ، وإنما هو يقصد من عقد الاعتماد إلى الحصول على مجرد الاطمئنان إلى قوة مركزه الائتماني إزاء ديون تحل في المستقبل أو عمليات تجارية ينوي إبرامها .
هذا المركز الائتماني الوحيد هو الهدف الأساسي للعقد وليس كما في القرض أو الوعد بالقرض مجرد الحصول على مبلغ معين من المال ، لذلك قد تكون الاستفادة من الاعتماد المفتوح عن طريق سحب شيكات أو تحرير أوراق تجارية أو تكليف البنك بالقيام بعمليات معينة لصالح العميل ، وإذا اقترن فتح الاعتماد بفتح الحساب الجاري - كما هو الغالب في العمل - فإن كل هذه العمليات بما فيها عملية فتح الاعتماد تصبح مدفوعات متبادلة متشابكة لا يمكن أن نصف أحدها بأنه قرض أو بأنه وفاء لهذا القرض .
لذلك لا بد من الاعتداد بهذا الشمول والاتساع في فكرة فتح الاعتماد عند تكييف طبيعته القانونية ، فلا نتبع الغرض الاقتصادي لعقد فتح الاعتماد باعتباره عملية مركبة تتميز عن العقود البسيطة التي يعرفها القانون المدني . وإذا أردنا أن نتتبع هذه العملية المركبة ونحلل أهداف العميل فيها ، فإننا نراه يهدف إلى تحقيق غرضين متتاليين :
أولا : أن يطمئن إلى الحصول على هذا المبلغ النقدي .

ثانيا : أن يطمئن إلى أن هذا المبلغ موجود في مكان أمين حتى يستفيد منه عندما يحتاج إليه في عملياته التجارية المختلفة .
فلو أن العميل أراد أن يصل إلى هذين عن طريق العقود المدنية فإنه لا بد أن يلجأ إلى عقدين لا إلى عقد واحد . يلجأ أولا إلى اقتراض المبلغ الذي يكفيه ، ثم يلجأ إلى إيداع هذا المبلغ عند أمين . إذا لا بد له من عقد قرض يتبعه عقد وديعة . ولما كان العميل يقترض من البنك ثم يقوم بالإيداع في ذات البنك فلا مناص من اندماج هذين العقدين في عملية واحدة هي بلا شك عملية فتح الاعتماد .
ومن ذلك يتضح لماذا لا يتبع فتح تسليم المبلغ كما هو الأمر في القرض ؟
ذلك أن اندماج القرض مع عقد الإيداع عند ذات المقرض يؤدي إلى امتناع التسليم والتسلم ، بينما عقد القرض يقتضي تسليم المبلغ من البنك للعميل ، فإن عقد الإيداع الذي يتبعه يقتضي تسليم ذات المبلغ من العميل إلى البنك ، فإذا اندمج هذان العقدان لم يعد هناك موجب لأن يتبادل الطرفان تسليم وتسلم المبلغ المتفق عليه (1) .
__________
(1) [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] ( 329 ) وما بعدها .

هـ -

آثار عقد فتح الاعتماد
لعقد فتح الاعتماد آثار هي ما يقتضيه من التزامات كل من العميل والبنك ، وفيما يلي ما يلزم به كل منهما :
1 - التزامات العميل :

قال الدكتور علي البارودي : يلتزم العميل برد المبالغ التي استعملها في الميعاد المتفق عليه مع الفوائد المتفق عليها ، وبأن يدفع العمولة إذا نص عليها العقد .
ولكنه لا يلتزم بأن يستعمل النقود التي يضعها البنك تحت تصرفه بمقتضى العقد حتى ولو كان البنك قد قام بما يكفل وجود هذه النقود مائة في المائة في خزانته ، أو امتنع عن التصرف فيها لغيره من العملاء ، ففتح الاعتماد يمنح العميل حق الخيار في الاستفادة أو عدم الاستفادة منه ما لم يتفق على تقييد هذا الحق صراحة ، كأن يشترط البنك مثلا فسخ الاعتماد بغير إخطار إذا لم يستعمله العميل خلال أجل معين .
على أن البنوك لا تلجأ عادة إلى وضع هذا القيد ، ولكنها قد تشترط على العميل مثلا أن يقصر بعض عملياته التجارية عليها ، وعلى الأخص خصم الأوراق التجارية (1) .
وقال الدكتور محمد جمال الدين عوض : استخدام الاعتماد شخصي للمستفيد منه : رأينا أن الاعتماد يفتح للعميل لاعتبارات شخصية فيه ، ولذلك لا يجوز لهذا الأخير أن يحيل حقه إلى شخص آخر بدون رضا البنك ، وإن كان يمكنه توكيل غيره في استخدامه ، ويظل هو مرتبطا في مواجهة البنك . وكذلك لا يجوز للبنك أن يحول حقوقه والتزاماته إلى غيره ، بل يظل مرتبطا أمام العميل ، كما لا ينتقل حق العميل إلى الورثة .
__________
(1) [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] ( 367 ، 368 ) ، و [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ( 329 ، 330 ) .

كما أن المطالبة ذاتها بتنفيذ الاعتماد شخصية ترجع إلى تقدير شخص المستفيد فلا يجوز لدائنيه أن يحلوا محله في طلبها ولا أن يحجزوا على هذا الحق تحت يد البنك (1) .
وقال الدكتور محمد جمال الدين عوض موضحا العمولة التي يأخذها البنك : ويلتزم العميل أن يدفع للبنك عمولة معينة تستحق - غالبا - بمجرد إبرام عقد فتح الاعتماد ، سواء استخدمه أو لم يستخدمه ، وتبرر العمولة بأنها مقابل ما يتحمله البنك ؛ ليكون مستعدا لمواجهة احتياجات العميل ، والغالب أن ينص على عمولة أخرى تستحق إذا طلب العميل الإفادة من الاعتماد ، وإذا فتح للاعتماد حساب لدى البنك استحقت عمولة أخرى نظير فتح هذا الحساب وتشغيله (2) .
__________
(1) [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ( 329 ، 330 ) .
(2) [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ( 330 ، 331 ) .

2 - التزامات البنك :
يقول الدكتور علي البارودي : أهم هذه الالتزامات أن يضع النقود التي وعد بها تحت تصرف العميل طوال الأجل المعين ، ويتأكد هذا الالتزام إذا كان العميل يقوم بدفع عمولة مقابل هذا الوعد . إلا أن البنوك لا تأخذ عادة عمولة على مجرد فتح الاعتماد اكتفاء بالفوائد وبالعمولات الأخرى المختلفة عن العمليات التي يكلف بها العميل .
ومع ذلك فعدم الاتفاق على عمولة لا يعطي البنك حق فسخ العقد حتى ولو لم يستعمل العميل المبالغ الموضوعة تحت تصرفه .

ولا يجوز للبنك الرجوع في الوعد قبل الأجل المحدد ، ولا يكون صحيحا الشرط الذي يعطي البنك حق الرجوع فيه متى شاء ؛ لأنه يعتبر شرطا إراديا محضا ، ولكن فتح الاعتماد يستند إلى ثقة البنك في العميل ، وله لذلك طابع شخصي واضح ، لذلك فالرأي مستقر على أنه يفسخ العقد أو ينهيه ، ليس فقط عند وفاة العميل أو إفلاسه أو نقص أهليته ( كما هو الأمر في سائر العقود التي تقوم على الاعتبار الشخصي ) وإنما يكون له ذلك أيضا إذا حدث تغيرات هامة في سمعة العميل أو في إمكانيته ، كما إذا أدين في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة ، أو ثبت دخوله في عمليات خطرة لها طابع المقامرة .
ولكي يتجنب البنك ما قد يثيره العميل من منازعات قضائية في هذه الظروف ، فإنه يعمد عادة إلى وضع شرط صريح في العقد ، يسمح لنفسه فيه بأن يطلب - في أي وقت يشاء - إنهاء العقد فورا ، واسترداد ما يكون العميل قد أخذه من المبلغ المفتوح به الاعتماد دون تقيد بمدة محدودة ، وبديهي أن البنك لا يقدم على استعمال هذا الشرط إلا في الحالات التي تختل فيها ثقته في العميل ، إذ إنه يفضل في الظروف العادية أن يحصل على الفوائد المتفق عليها خلال مدة فتح الاعتماد .
وفي رأينا أن هذا الشرط - في جميع الأحوال - يخضع لرقابة القضاء ، ولا يمكن أن يكون مطلقا حتى إذا كانت صياغته تحمل معنى الإطلاق . ويقع على البنك عبء إثبات الأسباب الجدية التي تبرر سحب ثقته في العميل ، وللقضاء في ذلك سلطة تقديرية واسعة (1) .
__________
(1) [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] ( 368 ، 369 ) ، ويرجع إلى كتاب [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ( 325 - 328 ) .

و-

انتهاء العقد
لانتهاء العقد أسباب متعددة : كوفاء البنك بالتزامه، وحلول الأجل، ومما يرجع إلى الاعتبار الشخصي، والوفاة، والإفلاس، وفسخ العقد، وفيما يلي شرح هذه الأسباب:
قال الدكتور محمد جمال الدين عوض : الأصل أن ينتهي بحلول الأجل المحدد له بانتهاء العمل الذي فتح من أجله، ولكن هناك أسبابا أخرى كثيرة ينتهي بها، أهمها يرجع إلى تأثير الاعتبار الشخصي لأحد الطرفين؛ لأن فتح الاعتماد يقوم على هذا الاعتبار، ولكن يلاحظ أن انتهاء العقد لا تبدو أهميته إلا من ناحية التزام البنك، ولذلك نخصه بالدراسة:
1 - وفاء البنك بالتزامه : أي: وفاؤه بما تعهد به، أيا كانت وسيلة تنفيذ الاعتماد، فذلك ينهي التزامات البنك، وإذا كان تعهده بتقديم نقود في حساب جار لم ينته التزام البنك بمجرد سحب العميل المبلغ؛ لأن ذلك لا يعتبر وفاء من البنك، ولا ينتهي التزامه إلا بقفل الحساب، وإذا كان الاعتماد مفتوحا لتحويل عملية معينة واجهها العقد امتنع إنهاؤه قبل انتهاء هذه العملية.
2 - حلول الأجل : أي: انتهاء المدة المصرح للعميل بالإفادة خلالها من الاعتماد الذي وعده البنك إذا كان محددا في العقد مدة، ولا يكون للبنك في هذه الحالة أن ينهي العقد بإرادته إلا إذا وجد مبرر مما سنعرض له.

وبالرغم من كون الاعتماد قد فتح محددا بمدة معينة، فإن هذه المدة تعتبر أجلا لصالح البنك: له أن يتمسك بحلوله، وله أن ينزل عن ذلك ويطيل فيه.... أما إذا لم تحدد المدة فيجوز لكل من طرفي العقد إنهاؤه، وإن كان العميل لا يلجأ إلى ذلك؛ لأنه غير مجبر على استخدام الاعتماد كما تقدم. وأما البنك فليس له إنهاء العقد إلا بقيود تهدف إلى عدم الإضرار بالعميل ضررا لا تبرره حماية مصالح البنك، فيجب أن يكون إنهاء العقد بحسن النية وفي وقت مناسب، وأن يوجه البنك إخطارا إلى العميل قبل وقف الاعتماد بوقت كاف؛ ليمكنه من مواجهة المركز الجديد الناشئ عن وقف الاعتماد.
3 - أسباب ترجع إلى الاعتبار الشخصي : يقوم فتح الاعتمادات على اعتبارات معينة يراعيها البنك في شخص العميل، منها يساره وأمانته، وحسن تصرفه واستقامته، فإذا اهتز اعتبار منها كان للبنك أن يفسخ العقد أو ينهيه، ويحكم هذه المسألة اعتباران يراعيهما القضاء هما: ضرورة احترام القوة الملزمة للعقد من ناحية، وقيام العقد على الاعتبار الشخصي من ناحية أخرى.
4 - الوفاة والإفلاس : الراجح أن وفاة أحد الطرفين ينهي عقد الاعتماد فورا، ونرى أنه إذا توفي أحد الطرفين فمن الأنسب ألا نقضي على العقد، بل نترك ذلك للطرف الآخر إذا أراد؛ لأنه هو الذي يقدر ما إذا كانت مصالحه تتأثر بهذا الحادث، فضلا على أنه إذا توفي العميل فليس للبنك أن ينهي الاعتماد إذا كان مضمونا بتأمين عيني.
أما إذا كان فاتح الاعتماد فردا وتوفي، انقضى التزامه إلا إذا استمر

وارثه في استغلال المؤسسة ومباشرة ذات المهنة، فيتحمل التزامات مورثه ويشبه بالموت -في هذا الأثر- انحلال الشركة أو تغيير شخصيتها. كذلك ينهي إفلاس أحد الطرفين العقد لانهيار الثقة ورفع يد المفلس عن إدارة أمواله.
5 - فسخ العقد : لكل من طرفي عقد الاعتماد أن يطلب فسخه إذا أخل الطرف الآخر بالتزامه، وفي ذلك تنطبق القواعد العامة (م 157 مدني وما بعدها) ولا يرتب الفسخ أثره إلا بالنسبة للمستقبل؛ لأن التزامات البنك مستمرة، ولذلك فهو في حقيقته إنهاء لها.
فسخ الاعتماد لا يؤثر على ما نفذ منه: وإذا فسخ العقد فإن هذا الفسخ بالإنهاء إنما يرد على عقد الاعتماد ذاته المبرم بين البنك وعميله، أما العمليات والعقود التي تمت تنفيذا لعقد الاعتماد فهذه لا تتأثر بفسخ الاعتماد أو انتهائه، بل تظل مستقلة عنه من حيث شروطها وآثارها ومصيرها كما قدمنا، فإذا تحمل البنك -نتيجة الاعتماد أو عملية من هذه العمليات المشار إليها- التزاما أمام شخص من الغير ظل ملتزما ولو تحلل من التزامه الناشئ من الاعتماد المفتوح لصالح العميل، فإذا كان الاعتماد بالقبول مثلا وقدمت للبنك كمبيالة قبلها ثم فسخ الاعتماد ظل قبوله صحيحا والتزم به أمام الغير، وإذا كان الاعتماد بالضمان وأصدر خطاب الضمان بالفعل ثم فسخ عقد الاعتماد الذي صدر الخطاب تنفيذا له ظل مع ذلك ملزما بعبارات الخطاب أمام المستفيد منه وهكذا (1) .
__________
(1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (331- 337- 1).

ز-

انتقال الاعتماد
بيان المراد منه، المشكلة الناشئة عن ذلك، واختلاف النظر في الإجابة عنها :
قال الدكتور محمد جمال الدين عوض : المقصود بانتقال الاعتماد -في هذا الخصوص- هو انتقال الحقوق أو الالتزامات الناشئة من العقد أثناء تنفيذه إلى شخص آخر غير طرفيه، وتثور المشكلة من الناحية العملية في كيفية الإبقاء على الاعتماد مع تأميناته رغم انتقاله إلى شخص آخر.
ويمكن النظر إلى المسألة من ناحيتين: ناحية المستفيد، وناحية البنك فاتح الاعتماد.
أما من ناحية المستفيد فلا يعتبر نقلا للاعتماد أن يوكل المستفيد غيره في استخدام الاعتماد لحسابه؛ لأنه يظل هو الموكل الأصيل، وكذلك لا يعتبر نقلا له أن ينقل المستفيد حقه المالي الناشئ من استخدامه الاعتماد بمعرفته؛ إذ المقصود دائما هو معرفة ما إذا كان يمكنه نقل الرخصة أو الحق في المطالبة بتنفيذ الاعتماد، أي: بإلزام البنك أن ينفذ تعهده الناشئ من العقد.
إن الإجابة على هذا السؤال تحكمها قاعدتان:
الأولى : أنه إذا جاز نقل الحقوق فلا يجوز نقل الديون دون رضا الدائن .
الثانية : أن الاعتبار الشخصي يمنع -بحسب الأصل- أن ينقل الدائن حقه القائم على هذا الاعتبار إلى شخص آخر.
ومقتضى ذلك أنه يلزم لينقل المستفيد حق الإفادة من الاعتماد إلى غيره

أن يكون ذلك باتفاق مع البنك على إحلال هذا الغير محله في الحقوق وفي الديون التي تنشأ من العقد، فمتى تم ذلك كانت العملية تجديدا، أي: إنشاء لعلاقة جديدة لا تحظى بالضرورة بالضمانات التي كانت مقررة للعلاقة الأولى ما لم تتخذ لذلك الإجراءات اللازمة.
وهذا الرأي وسط بين رأيين متطرفين، يقول أحدهما: إن الحقوق الناشئة من الاعتماد لا تقبل الانتقال إطلاقا بسبب الاعتبار الشخصي لدى الطرفين أو أحدهما، وعيبه أنه يرقى بهذا الاعتبار إلى جوهر العقد في حين أننا قد رأينا أنه وإن كان من طبيعة فتح الاعتماد إلا أنه ليس من جوهره، وللطرفين أن يستبعداه باتفاقهما، والرأي الثاني: يجيز دائما نقل الاعتماد ولو بغير رضا البنك مستثنيا من ذلك حالة الاعتماد التي يكون فيها التزام البنك أو تدخله شخصيا بالدرجة الأولى كضمانه احتياطيا كمبيالات يسحبها العميل، وهو رأي يعيبه أنه يتجاهل الطبيعة الشخصية للاعتماد، ويقيم تفرقة تحكمية بين صوره.
وإذا تمت حوالة الاعتماد من جانب المستفيد بشكل صحيح ونافذ كان من حق المحال إليه الإفادة من العقد في حدود الحوالة.
ومتى تضمنت العملية إبراء البنك للمستفيد القديم كانت إنابة كاملة, يترتب عليها تجديد الدين بحيث تسقط الضمانات التي كانت مقررة لدين المستفيد القديم. هذا من جهة المستفيد، أما من جهة فاتح الاعتماد فالأصل أنه ليس له أن يحيل التزامه أمام المستفيد، وذلك لقيام هذا التعهد على الاعتبار الشخصي ما لم يكن متفقا على ذلك أو كان مفهوما ضمنا بين

الطرفين (1) .
__________
(1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (337- 389).

تكييف عقد فتح الاعتماد البسيط المصرفي في الفقه الإسلامي وبيان حكمه
مما تقدم يتبين: أنه عقد يتعهد البنك بمقتضاه: أن يضع تحت تصرف العميل بطريق مباشر أو غير مباشر أداة من أدوات الائتمان في حدود مبلغ نقدي معين ولمدة محدودة أو غير محدودة، وإن العميل بمقتضى هذا العقد يسحب من البنك بالتدريج كلما احتاج إلى مبلغ منها، وأنه يدفع للبنك ما أخذه في الوقت المحدد، ويدفع ما اتفقا عليه من عمولة وفائدة. فإما أن يقال: إنه عقد إقراض، وإما أن يقال: إنه عقد بيع.
وقد يقال : لا يجوز أن يكون قرضا في نظر فقهاء الشريعة الإسلامية؛ لأن القرض عندهم دفع مال إرفاقا محضا لمن ينتفع به ويرد بدله بدون زيادة مشروطة أو جريان عرف بها، وما يدفعه المصرف للعميل بمقتضى عقد فتح الاعتماد البسيط لا يقصد منه إلا الاستثمار وإن حصل إرفاق للعميل فعلى وجه المتبع.
وقد يقال: إنه من باب البيع؛ لأنه يتضمن معاوضة مالية، فالمصرف يدفع للعميل مبلغا من المال حالا، ويرد العميل هذا المبلغ مع العمولة والفائدة بعد أجل، وقد سمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل هذا بيعا، فيما رواه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: « لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق

بالورق، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، يدا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدا بيد كيف شئتم » (1) .
فسمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مبادلة الذهب بالذهب, والورق بالورق, والورق بالذهب, والذهب بالورق, وما ذكر معها سماه بيعا.
حكمه في الفقه الإسلامي :
إذا ثبت أنه بيع فهو من البيوع المنهي عنها ما دام في معاملات ربوية؛ لأنه يتضمن ربا الفضل وربا النسيئة، فالعميل يدفع للمصرف ما أخذه منه وزيادة مشروطة متفقا عليها بينهما، ويتحقق ربا النساء من جهة أن العميل يدفع ما يستحقه عليه المصرف بعد مدة من استلامه المبلغ من المصرف، وهذه المدة يتفق عليها بينهما.
وقد ينتهي الأجل المحدد لتسليم العميل المبلغ المستحق لديه مع العمولة والفائدة، ولكنه لا يتمكن من الوفاء فيمد الأجل في مقابل فائدة على أصل المبلغ وعلى العمولة والفائدة حسبما يقتضيه العقد الأول، فيكون هذا من الربا المركب.
وهو في جميع هذه الحالات داخل في عموم أدلة الربا، وقد سبق ذكر طائفة منها في بيان حكم الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي، فيستغنى بما ذكر هناك من الأدلة لتكون أدلة لبيان حكم فتح الاعتماد البسيط.
ما سبق هو في حالة ما إذا تسلم العميل من المصرف المبلغ المتفق عليه كله أو بعضه.. أما إذا لم يستلم شيئا ودفع للبنك في مقابل رصده المبلغ
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4565),مسند أحمد بن حنبل (3/10).

مدة من الزمن ما يسمونه عمولة ويدخلون فيها الفائدة، فهذا مع أنه عقد ربوي فهو أيضا من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن البنك لم يدفع شيئا مطلقا، وقد قال تعالى: { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } (1) الآية . وعلى فرض أن يكون عقد فتح الاعتماد البسيط عقد قرض على اختلاف تعبيراتهم عنه، فهو عقد محرم؛ لأنه قرض جر نفعا، وكل قرض جر نفعا مشروطا فهو محرم، وسيبقى في الكلام على القرض البات ذكر طائفة من كلام أهل العلم في بيان حكم القرض الذي جر نفعا، وما استدلوا به من الكتاب والسنة والأثر، وأرى ترك ذكرها هنا اكتفاء بذكرها هناك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 188

الثالث: الضمان : قد لا يحتاج العميل إلى أن يكون الاعتماد المصرفي على صورة القرض كما سبق بيانه في القسم الأول، ولكنه يكتفي بما يصدره البنك من تعهد له، إذ أنه يحصل به على الثقة من الشخص الذي يريد أن يتعامل معه أو يمنحه الأجل الذي يريده.
وأهم صور ضمان البنك للعميل أمام الغير ثلاث صور: فالبنك قد يقوم بدور الكفيل لعميله أمام دائن هذا العميل طبقا لما يتفقان عليه من الشروط،، وقد يكون ضمان البنك بصفة خطاب الضمان، وقد يكون على صورة ورقة تجارية -كمبيالة- من جانب العميل.
ويتعهد البنك بقبول هذه الكمبيالة تيسيرا لتداولها، فيمكن العميل عندئذ من خصمها بسهولة والحصول على ما يريده من نقود من البنك الذي يقوم بخصمها، فهذه ثلاث صور: الكفالة، وخطابات الضمان،

والاعتماد بالقبول.
وفيما يلي الكلام على كل واحدة منها، وبيان واقعها، ثم بيان حكمها في الفقه الإسلامي :
الصورة الأولى: الكفالة
كثيرا ما تقوم البنوك بدور الكفلاء لعملائها أمام دائنيهم، وذلك على حسب ما تقتضيه طبيعة الكفالة وما يتفق عليه من شروط.
وفيما يلي الكلام عليها من حيث واقعها وحكمها في الفقه الإسلامي:
أما الأول فيشمل الكلام على: تعريفها، والفرق بينها وبين تأمين الضمان، وبيان الضمانات التي يطلبها البنك.
أ- تعريفها :
عرفها الدكتور محمد جمال الدين عوض بقوله : الكفالة عقد بمقتضاه يكفل شخص لتنفيذ التزام بأن يتعهد للدائن أن يفي بهذا الالتزام إذا لم يف به المدين نفسه (م 772)، وتجوز الكفالة في الدين المستقبل إذا حدد مقدما المبلغ المكفول، كما تجوز الكفالة في الدين الشرطي، على أنه إذا كان الكفيل في الدين المستقبل لم يعين مدة الكفالة كان له في أي وقت أن يرجع فيها ما دام الدين المكفول لم ينشأ (م 778). (1) .
ب- الفرق بين الكفالة وتأمين الضمان : عند المقارنة بين شيئين قد يكون الاتفاق بينهما تاما، وقد يتشابهان من بعض الوجوه ويختلفان من وجوه أخرى، وقد لا يكون بينهما تشابه مطلقا، وبالمقارنة بين الكفالة
__________
(1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (351- 1).

بالمعنى المتقدم وبين تأمين الضمان نجد أنهما يتشابهان من جهة أن عدم وفاء المدين الدين يحرك التزام كل من الكفيل والمؤمن، وهدف كل منهما هو تأمين أو ضمان وفاء الدين، لكن الكفيل يساعد المدين والمؤمن يساعد الدائن، ويفترقان من وجوه أخرى.
وفيما يلي تفصيل ذلك:
قال الدكتور محمد جمال الدين عوض : قد تشتبه الكفالة بالمعنى المتقدم مع عملية أخرى قريبة منها يقوم بها البنك أو شركات التأمين، وهي المسماة بتأمين الضمان.
ووجه الشبه بينهما: أن عدم وفاء المدين الدين يحرك التزام كل من الكفيل والمؤمن، ولكن بين العمليتين فروقا كثيرة، فالهدف من كل منهما هو تأمين أو ضمان وفاء الدين، أو بعبارة أخرى تفادي نتائج التخلف عن وفائه، ولكن الكفيل إذ يتدخل فهو يساعد المدين ويقوي ائتمانه، ويمكنه من الحصول على ما يريد من نقود أو أجل وهو دور البنك، أما في تأمين الضمان فالمؤمن لا يهدف إلى مساعدة المدين، بل الدائن؛ لأنه هو الذي يبرم التأمين ويؤمن نفسه ضد مخاطر تخلف المدين.
أما الفروق بين العمليتين فكثيرة أهمها: أنه في الكفالة يتعهد الكفيل -بعلم المدين أو بغير علمه- أن يدفع الدين إذا لم يدفعه المدين. وهذا التعهد قد يكون بطلب من المدين دون اقتراح الدائن أو بناء على اشتراطه تقديم كفيل، ويكون تعهد الكفيل بالوفاء الدائن أيا كان سبب عدم وفاء المدين، أي: ولو لم يكن معسرا، وأمام الدائن طريقان: إما أن يطلب إلى المدين أن يقدم له كفيلا، وإما أن يلجأ هو إلى التأمين لصالح نفسه من خطر تخلف

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21