كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

لي ذلك ؟ قال : نعم ، قال ثابت : قد فعلت فنزلت : » (2) اهـ (3) .
وقال تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (4)
وذكر ابن جرير رحمه الله أقوالا لأهل العلم في المخاطب بالنهي عن العضل منها : أن المخاطبين بذلك ورثة الأزواج .
ومنها : أن المخاطبين بذلك أولياء المرأة ومنها : أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين طلقوا زوجاتهم ومنعوهن أن يتزوجن بعدهم إلا بإذنهم .
ومنها : أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين كرهوا زوجاتهم وأمسكوهن ضرارا ليفتدين .
ثم قال : وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } (5) قول من قال : نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق ، وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة ؛ لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد رجلين ؛ إما
__________
(1) سنن ابن ماجه الطلاق (2057).
(2) سورة البقرة الآية 229 (1) { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا }
(3) [جامع البيان] ( 4\ 549 ) وما بعدها .
(4) سورة النساء الآية 19
(5) سورة النساء الآية 19

لزوجها بالتضييق عليها وحبسها وهو لها كاره ، مضارة منه لها بذلك ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك ، أو لوليها الذي إليه إنكاحها ، وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحد غيرهما ، وكان الوالي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا ، فيقال : إن عضلها عن النكاح عضلها ليذهب ببعض ما آتاها كان معلوما أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدي منه . . .
إلى أن قال : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (1) يعني بذلك جل ثناؤه : لا يحل لكم أيها المؤمنون أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن وأنتم لصحبتهن كارهون وهن لكم طائعات لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) فيحل لكم حينئذ الضرار بهن ليفتدين منكم .
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة النساء الآية 19

ثم ذكر رحمه الله أقوال أهل التأويل في معنى الفاحشة :
فذكر آثارا بأسانيدها إلى الحسن البصري وعطاء الخراساني والسدي : أن المقصود بالفاحشة : الزنا .
وذكر آثارا أخرى بأسانيدها إلى ابن عباس ومقسم ، والضحاك بن مزاحم ، وقتادة وعطاء بن أبي رباح ، أن المقصود بالفاحشة النشوز ، ثم قال : وأولى ما قيل في تأويل قوله : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (1) أنه معني به : كل فاحشة ، من بذاء باللسان على زوجها ، وأذى له ، وزنا بفرجها ، وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) كل فاحشة متبينة ظاهرة ، فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة النساء الآية 19

الفواحش التي هي زنا أو نشوز فله عضلها على ما بين الله في كتابه ، والتضييق عليها حتى تفتدي منه بأي معاني الفواحش أتت ، بعد أن تكون ظاهرة مبينة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي حدثني يونس بن سليمان البصري قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف » (1) .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : حدثنا يزيد بن الحباب قال : حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال : حدثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أيها الناس ، إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق ، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ، ولا يعصينكم في المعروف ، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف » .
فأخبر صلى الله عليه وسلم : أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحدا ، وأن لا تعصيه في معروف ، وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه إنما هو واجب عليه إذا أدت هي إليه ما يجب عليها من الحق ، بتركها إيطاء فراشه غيره ، وتركها معصيته في معروف .
ومعلوم : أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من حقكم عليهن أن لا يوطئن
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1693),صحيح مسلم الحج (1218),سنن الترمذي الحج (856),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).

فرشكم أحدا » (1) إنما هو أن لا يمكن من أنفسهن أحدا سواكم .
وإذا ما روينا في ذلك صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره وأمكنت من جماعها سواه -أن له من منعها الكسوة والرزق بالمعروف مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف ، وإذا كان ذلك له ، فمعلوم أنه غير مانع لها -بمنعه إياها ما له منعها- حقا لها واجبا عليه ، وإذا كان ذلك كذلك ، فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها ، فأخذ منها زوجها ما أعطته ، أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه ، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح ، وإذا كان ذلك كذلك ، كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2)
وإذا صح ذلك فبين فساد قول من قال : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (3) منسوخ بالحدود ؛ لأن الحد حق الله جل ثناؤه على من أتى بفاحشة التي هي الزنا ، وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه ، فحق لزوجها كما أن عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه ، حق له ، وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر .
قال أبو جعفر : فمعنى الآية : لا يحل لكم ، أيها الذين آمنوا ، أن تعضلوا نساءكم فتضيقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف { لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } (4) من صدقاتكم { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } (5)
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1218),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة النساء الآية 19
(4) سورة النساء الآية 19
(5) سورة النساء الآية 19

من زنا أو بذاء عليكم ، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم -مبينة ظاهرة ، فيحل لكم حينئذ عضلهن والتضييق عليهن ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هن افتدين منكم به اهـ (1) .
وذكر أبو بكر الجصاص (2) وأبو بكر بن العربي (3) ، والقرطبي (4) ، نحوا مما ذكره ابن جرير في الموضوع .
وقال تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } (5)
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ } (6) أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } (7) يقول : وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر { قِنْطَارًا } (8) { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (9) يقول : فلا تضروا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن . . . . . { أَتَأْخُذُونَهُ } (10) أتأخذون ما آتيتموهن من مهورهن { بُهْتَانًا } (11) يقول : ظلما بغير حق { وَإِثْمًا مُبِينًا } (12) يعني : وإثما قد أبان أمر آخذه أنه بأخذه إياه لمن أخذه منه ظالم . . { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } (13) وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن إذا أردتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجا { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } (14)
__________
(1) [تفسير ابن جرير الطبري] ( 8\ 110 ) وما بعدها . ( تحقيق\ محمود وأحمد شاكر ) .
(2) [أحكام القرآن] للجصاص ( 1\ 109- 111 ) .
(3) [أحكام القرآن] لابن العربي ( 1\ 151- 154 ) .
(4) [أحكام القرآن] للقرطبي ( 5\ 99- 101 ) .
(5) سورة النساء الآية 20
(6) سورة النساء الآية 20
(7) سورة النساء الآية 20
(8) سورة النساء الآية 20
(9) سورة النساء الآية 20
(10) سورة النساء الآية 20
(11) سورة النساء الآية 20
(12) سورة النساء الآية 20
(13) سورة النساء الآية 21
(14) سورة النساء الآية 21

فتباشرتم وتلامستم .
وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فإنه في معنى النكير والتغليظ ، كما يقول الرجل لآخر : كيف تفعل كذا وكذا وأنا غير راض به ؟ على معنى التهديد والوعيد .
ثم قال بعد ذلك : واختلف في حكم هذه الآية أمحكم أم منسوخ .
فقال بعضهم : محكم ، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها إذا أراد طلاقها ، إلا أن تكون هي المريدة الطلاق .
وقال آخرون : هي محكمة ، وغير جائز له أخذ شيء مما آتاها منها بحال ، كانت هي المريدة للطلاق أو هو ، وممن حكي عنه هذا القول بكر بن عبد الله المزني .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا عقبة بن أبي الصهباء . قال : سألت بكرا عن المختلعة ، أيأخذ منها شيئا ؟ قال : لا ، { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } (1)
وقال آخرون : بل هي منسوخة ، نسخها قوله تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (2)
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) سورة النساء الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 229

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } (1) إلى قوله تعالى : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } (2) قال : ثم رخص بعد فقال : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (3) قال : فنسخت هذه تلك .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك : قول من قال : إنها محكمة غير منسوخة وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها ، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها ، ولا ريبة أتت بها .
وذلك أن الناسخ من الأحكام ما نفى خلافه من الأحكام على ما قد بينا في سائر كتبنا ، وليس في قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } (4) نفي حكم قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (5) ؛ لأن الذي حرم الله على الرجل بقوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (6) أخذ ما آتاها منها إذا كان هو المريد طلاقها . وأما الذي أباح له أخذه منها بقوله : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (7) فهو إذا كانت هي المريدة طلاقه وهو له كاره ، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع .
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة النساء الآية 21
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة النساء الآية 20
(5) سورة البقرة الآية 229
(6) سورة النساء الآية 20
(7) سورة البقرة الآية 229

وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى ، وإذا كان ذلك كذلك لم يجز أن يحكم لإحداها بأنها ناسخة وللأخرى بأنها منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها ، وأما ما قاله بكر بن عبد الله المزني -من أنه ليس لزوج المختلعة أخذ ما أعطته على فراقه إياها إذا كانت هي الطالبة الفرقة وهو الكاره- فليس بصواب ؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أمر ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما كان ساق إلى زوجته وفراقها إذ طلبت فراقه ، وكان النشوز من قبلها . اهـ (1) .
وذكر أبو بكر الجصاص وأبو بكر بن العربي والقرطبي نحوا مما ذكره ابن جرير في تفسير هذه الآية (2) .
وقال السمرقندي : إن كان النشوز من جهة الزوج فلا يحل له أن يأخذ شيئا منها ، بل له أن يطلقها بلا عوض ؛ لقوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (3) (4) .
__________
(1) [تفسير ابن جرير] الطبري ( 8\123-132 ) تحقيق\ محمود وأحمد شاكر .
(2) [أحكام القرآن] للجصاص ( 2\ 109- 111 ) و[أحكام القرآن] لابن العربي ( 1\ 151- 154 ) و[تفسير القرطبي] ( 5\ 99 ، 100 ) .
(3) سورة النساء الآية 20
(4) [تحفة الفقهاء] ( 2\ 301 ) .

في معرض الكلام عن الخلع :
وقال محمد بن رشد في معرض الكلام على الخلع :

وإن كرهها فارقها ، ولا يحل له إذا كرهها أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه ، وإن أتت بفاحشة من زنا أو نشوز أو بذاء ؛ لقول الله عز وجل : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } (1) { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } (2)
هذا مذهب مالك رحمه الله تعالى وجميع أصحابه ، لا اختلاف بينهم فيه .
ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه ؛ لقول الله عز وجل : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (3) وتأول أن الفاحشة المبينة هو الزنا هاهنا ، وجعل الاستثناء متصلا .
ومنهم من تأول أن الفاحشة المبينة : البغض والنشوز والبذاء باللسان ، فأباح للزوج إذا أبغضته زوجته ونشزت عليه وبذأت بلسانها ، عليه أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه ، ومنهم من حمل الفاحشة على العموم ، فأباح ذلك للزوج ، سواء كانت الفاحشة التي أتت بها زنا أو نشوزا أو بذاء باللسان أو ما كانت .
والصحيح : ما ذهب إليه مالك رحمه الله ؛ لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدي منه ، فقد أخذ مالها بغير طيب نفس منها ، ولم يبح الله ذلك إلا عن
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة النساء الآية 21
(3) سورة النساء الآية 19

طيب نفسها ، فقال تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (1)
والآية التي احتجوا بها لا حجة لهم فيها ؛ لأن الفاحشة المبينة من جهة النطق أن تبذو عليه ، وتشتم عرضه ، وتخالف أمره ؛ لأن كل فاحشة أتت في القرآن منعوتة بمبينة ، فهي من جهة النطق ، وكل فاحشة أتت فيه مطلقة فهي الزنا ، والاستثناء المذكور فيها منفصل ، فمعنى الآية : لكن إن نشزت عليكم وخالفت أمركم حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن ، معناه : إذا كان ذلك عن طيب أنفسهن ، ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن ضرر ولا تضييق ، فعلى هذا التأويل تتفق آي القرآن ولا تتعارض ، وقد قيل في تأويل الآية غير هذا ، وهذا أحسن ، وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الخلع يجوز ، ويسوغ للزوج ما أخذ منها على الطلاق إذا كان النشوز والكراهة منها ، وإذا خافا أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به . وليس قوله مخالفا لما حكيناه عن مالك وأصحابه رحمهم الله تعالى : من أن الخلع لا يجوز للزوج وإن كرهته المرأة ونشزت عليه وأضرت به إذا قارضها على بعض ذلك ؛ لأنه إنما حمل المخافة على بابها ، فأباح الفدية قبل وقوع ما خافاه مخافة أن يقع ما إذا كره كل واحد منهما صاحبه ، وخاف هو إن أمسكها أن لا يقيم حدود الله فيها من أجل كراهته إياها ، وخافت هي أن لا تقوم بما يلزمها من حقه فخالعته مخافة الإثم والحرج فقد أعطته مالها على الطلاق طيبة بها نفسها إذ لم يضطرها إلى ذلك بإضرار كان منه إليها .
__________
(1) سورة النساء الآية 4

وأما ابن بكير فإنما حمل الخوف المذكور في الآية على العلم إلا أنه ذهب إلى أن الخطاب فيها إنما هو للولاة كآية التحكيم سواء ، فقال : تقدير الكلام فإن خفتم يا ولاة أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليكم فيما أخذتم من مالهما وفرقتم بينهما ، فالاختلاف بينه وبين ابن بكير إنما هو في تأويل الآية ، لا في الموضع الذي يجوز فيه الخلع من الذي لا يجوز فيه لا اختلاف في المذهب : أن الزوج يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على طلاقها إذا كان النشوز من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها ، إذ ليس له أن يقارضها على نشوزها عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه ؛ لقول الله عز وجل : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } (1) وإنما له أن يعظها ، فإن اتعظت وإلا هجرها في المضاجع ، فإن اتعظت وإلا ضربها ضربا غير مبرح ، فإن أطاعته فلا يبغي عليها سبيلا ؛ لقول الله عز وجل : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } (2) فإن هي بذلت له على ألف حل له أن يقبله ، إذا لم يتعد أمر الله فيها (3) . اهـ المقصود (4) .
وقال الشيرازي : وإن ظهرت من الرجل أمارات النشوز لمرض بها أو
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة النساء الآية 34
(3) الموجود في المطبوع المنقول عنه ( إذا لم يتعد أمر فيها الله ) وهو ظاهر الخطأ .
(4) [المقدمات] لابن رشد ( 2\ 428- 430 ) الطبعة المصورة بالأوفست عن الطبعة الأولى المطبوعة بمطبعة السعادة بمصر .

كبر سن ورأت أن تصالحه بترك بعض حقوقها من قسم وغيره جاز ؛ لقوله عز وجل : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } (1) قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : أنزل الله عز وجل هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السن فتجعل يومها لامرأة أخرى (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ولا يحل للرجل أن يعضل المرأة ويضيق عليها حتى تعطيه الصداق أو بعضه ، لكن إذا أتت بفاحشة مبينة كان له أن يعضلها حتى تفتدي نفسها منه . اهـ (3) .
أما إذا كان النشوز من الزوجة ، فإن لزوجها حق وعظها ، فإن لم يجد الوعظ كان له حق هجرها ، فإن لم يفد الهجر كان له ضربها ضربا غير مبرح ، فإن لم يجد ذلك كان له عضلها حتى تفتدي نفسها منه ببذلها ما آتاها أو بعضه لقاء تطليقه إياها ؛ لأنها باستمرارها على النشوز أتت فاحشة مبينة تبيح للزوج عضلها ليأخذ منها ما آتاها أو بعضه ، قال تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } (4) وقال تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (5)
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) [المهذب] ( 2\ 70 ) مطبعة الحلبي .
(3) [مختصر الفتاوى المصرية] ص 446 .
(4) سورة النساء الآية 34
(5) سورة النساء الآية 19

قال ابن العربي : من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية : قول سعيد بن جبير قال : يعظها ، فإن هي قبلت وإلا هجرها ، فإن هي قبلت وإلا ضربها ، فإن هي قبلت وإلا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها فينظران ممن الضرر ، وعند ذلك يكون الخلع . اهـ (1) .
وقد سبق بعض الكلام على الحال التي تجيز للزوج أن يعضل امرأته لتفتدي نفسها منه ، وذلك عند الاستدلال بقوله تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) وبقوله : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (3) على تحريم عضل الزوج امرأته لتفتدي منه .
وقد ذكر ابن جرير رحمه الله أقوالا لأهل التأويل في معنى الخوف ألا يقيما حدود الله :
الأول : أن المراد بذلك : أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها ، فإذا ظهر ذلك منها حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها .
وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى ابن عباس وعروة وجابر بن زيد وهشام بن عروة وغيرهم .
الثاني : أن المراد بالخوف من ذلك ألا تبر له قسما ولا تطيع له أمرا وتقول : لا أغتسل لك من جنابة ولا أطيع لك أمرا ، فحينئذ يحل له عندهم
__________
(1) [أحكام القرآن] ( 1\ 175 ، 176 ) الطبعة الأولى .
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة البقرة الآية 229

أخذ ما آتاها على فراقه إياها ، ثم ذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي ومجاهد .
الثالث : أن المراد بالخوف من ذلك : أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة ، ثم ذكر ذلك بإسناده إلى عطاء بن أبي رباح .
والرابع : أن الذي يبيح له أخذ الفدية أن يكون خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صاحبه الآخر .
وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الشعبي وطاووس والحسن ، ثم اختار هذا القول ، وذكر توجيه اختياره إياه (1) .
فصل : وقال الكاساني : ومنها : التأديب للزوج إذا لم تطعه فيما يلزم طاعته بأن كانت ناشزة فله أن يؤدبها لكن على الترتيب ، فيعظها أولا على الرفق واللين بأن يقول لها : كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب ، ولا تكوني من كذا وكذا ، فلعلها تقبل الموعظة فتترك النشوز ، فإن نجحت فيها الموعظة ورجعت إلى الفراش وإلا هجرها ، وقيل : يخوفها بالهجر أولا والاعتزال عنها وترك الجماع والمضاجعة ، فإن تركت وإلا هجرها لعل نفسها لا تحتمل الهجر .
__________
(1) [تفسير ابن جرير الطبري] ( 4\ 549 ) وما بعدها .

ثم اختلف في كيفية الهجر :
قيل : يهجرها بأن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراشه .

وقيل : يهجرها بأن لا يكلمها في حال مضاجعته إياها لا أن يترك جماعها ومضاجعتها ؛ لأن ذلك حق مشترك بينهما فيكون في ذلك عليه من الضرر ما عليها فلا يؤدبها بما يضر نفسه ويبطل حقه .
وقيل : يهجرها بأن يفارقها في المضجع ويضاجع أخرى في حقها وقسمها ؛ لأن حقها عليه في القسم في حال الموافقة وحفظ حدود الله تعالى لا في حال التضييع وخوف النشوز والتنازع .
وقيل : يهجرها بترك مضاجعتها وجماعها لوقت غلبة شهوتها وحاجتها لا في وقت حاجته إليها ؛ لأن هذا للتأديب والزجر ، فينبغي أن يؤدبها لا أن يؤدب نفسه بامتناعه عن المضاجعة في حال حاجته إليها .
فإذا هجرها فإن تركت النشوز وإلا ضربها ضربا غير مبرح ولا شائن ، والأصل فيه قوله عز وجل : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } (1) وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب ، والواو تحتمل ، فإن نفع الضرب وإلا رفع الأمر إلى القاضي ليوجه إليهما حكمين ، حكما من أهله وحكما من أهلها ، كما قال الله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (2) وسبيل هذا سبيل الأمر بالمعروف والنهي
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 35

عن المنكر في حق سائر الناس ، أن الأمر يبدأ بالموعظة على الرفق واللين دون التغليظ في القول ، فإن قبلت وإلا غلظ القول به ، فإن قبلت وإلا بسط يده فيه ، وكذلك إذا ارتكبت محظورا سوى النشوز ليس فيه حد مقدر ، فللزوج أن يؤدبها تعزيرا ؛ لأن للزوج أن يعزر زوجته كما للولي أن يعزر مملوكه (1) .
وقال الشافعي : وأشبه ما سمعت - والله أعلم- في قوله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ } (2) أن لخوف النشوز دلائل ، فإذا كانت { فَعِظُوهُنَّ } (3) لأن العظة مباحة ، فإن لججن فأظهرن نشوزا بقول أو فعل فاهجروهن في المضاجع ، فإن أقمن بذلك على ذلك فاضربوهن ، وذلك بين أنه لا يجوز هجرة في المضجع وهو منهي عنه ولا ضرب إلا بقول أو فعل أو هما . . . قال : ويحتمل في { تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } (4) إذا نشزن فأبن النشوز فكن عاصيات به أن تجمعوا عليهن العظة والهجرة والضرب .
قال : ولا يبلغ في الضرب حدا ولا يكون مبرحا ولا مدميا ويتوقى فيه الوجه . . . قال : ويهجرها في المضجع ، حتى ترجع عن النشوز ولا يجاوز بها في هجرة الكلام ثلاثا ؛ لأن الله عز وجل إنما أباح الهجرة في المضجع ، والهجرة في المضجع تكون بغير هجرة الكلام ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجاوز بالهجرة في الكلام ثلاثا ، قال : ولا يجوز لأحد أن يضرب ولا يهجر مضجعا بغير بيان نشوزها .
__________
(1) [بدائع الصنائع] ( 2\ 334 ) .
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 34
(4) سورة النساء الآية 34

قال : وأصل ما ذهبنا إليه من أن لا قسم للممتنعة من زوجها ولا نفقة ما كانت ممتنعة ؛ لأن الله تبارك وتعالى أباح هجرة مضجعها وضربها في النشوز ، والامتناع نشوز . . . قال : ومتى تركت النشوز لم تحل هجرتها ولا ضربها ، وصارت على حقها كما كانت قبل النشوز . اهـ (1) .
وقال ابن قدامة بعد تعريف النشوز : فمتى ظهرت منها أمارات النشوز مثل أن تتثاقل وتدافع إذا دعاها ، ولا تصير إليه إلا بتكره ودمدمة فإنه يعظها ، فيخوفها الله سبحانه ويذكر ما أوجب الله له عليها من الحق والطاعة ، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة والمعصية وما يسقط بذلك من حقوقها من النفقة والكسوة ، وما يباح له من ضربها وهجرها لقول الله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ } (2) فإن أظهرت النشوز - وهو : أن تعصيه وتمتنع من فراشه أو تخرج من منزله بغير إذنه- فله أن يهجرها في المضجع ؛ لقول الله تعالى : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } (3)
قال ابن عباس : لا تضاجعها في فراشك ، فأما الهجران في الكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام ؛ لما روى أبو هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام » (4) وظاهر كلام الخرقي أنه ليس له ضربها في النشوز في أولى مرة .
وقد روي عن أحمد : إذا عصت المرأة زوجها فله ضربها ضربا غير
__________
(1) [الأم] ( 5\ 194 ) الطبعة الأولى .
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 34
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2565),سنن الترمذي البر والصلة (2023),سنن أبو داود الأدب (4916),مسند أحمد بن حنبل (2/268),موطأ مالك الجامع (1686).

مبرح ، فظاهر هذا إباحة ضربها كما لو أصرت ، ولأن عقوبات المعاصي لا تختلف بالتكرار وعدمه كالحدود ، ووجه قول الخرقي المقصود : زجرها عن المعصية في المستقبل ، وما هذا سبيله يبدأ فيه بالأسهل فالأسهل ، كمن هجم منزله فأراد إخراجه ، وأما قوله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } (1) الآية ، ففيها إضمار تقديره واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع ، فإن أصررن فاضربوهن ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } (2) والذي يدل على هذا أنه رتب هذه العقوبات على خوف النشوز ، ولا خلاف أنه لا يضربها لخوف النشوز قبل إظهاره ، وللشافعي قولان كهذين .
فإن لم ترتدع بالوعظ والهجر ، فله ضربها ؛ لقوله تعالى : { وَاضْرِبُوهُنَّ } (3) وقال صلى الله عليه وسلم : « إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح » (4) رواه مسلم . معنى " غير مبرح " : غير موجع ولا شديد .
وقال الخلال : سألت أحمد بن يحيى عن قوله : « غير مبرح » (5) قال : غير شديد ، وعليه أن يجتنب الوجه والمواضع المخوفة ؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف ، وقد روى أبو داود عن حكيم بن معاوية القشيري عن
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة النساء الآية 34
(4) صحيح البخاري الحج (1693),صحيح مسلم الحج (1218),سنن الترمذي الحج (856),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).
(5) صحيح مسلم كتاب الحج (1218),سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087),سنن أبو داود كتاب المناسك (1905),سنن ابن ماجه كتاب النكاح (1851),مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).

أبيه قال : « قلت : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت » (1) ، وروى عبد الله بن زمعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم » (2) ولا يزيد في ضربها على عشرة أسواط ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله » (3) متفق عليه . اهـ (4) .
مسألة : وقال ابن قدامة أيضا : ( والمرأة إذا كانت مبغضة للرجل وتكره أن تمنعه ما تكون عاصية بمنعه -فلا بأس أن تفتدي نفسها منه ) .
وجملة الأمر : أن المرأة إذا كرهت زوجها لخلقه أو خلقه أو دينه أو كبره أو ضعفه أو نحو ذلك ، وخشيت أن لا تؤدي حق الله في طاعته -جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه ؛ لقول الله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (5)
وروي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شأنك ؟ قالت : لا أنا ولا ثابت لزوجها ، فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكره ، وقالت حبيبة : يا رسول الله ، كل ما أعطاني عندي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس : خذ منها ، فأخذ منها وجلست
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2142),سنن ابن ماجه النكاح (1850).
(2) صحيح البخاري النكاح (4908),صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2855),سنن الترمذي تفسير القرآن (3343),سنن ابن ماجه النكاح (1983),مسند أحمد بن حنبل (4/17),سنن الدارمي النكاح (2220).
(3) صحيح البخاري الحدود (6458),صحيح مسلم الحدود (1708),سنن الترمذي الحدود (1463),سنن أبو داود الحدود (4491),سنن ابن ماجه الحدود (2601),مسند أحمد بن حنبل (4/45),سنن الدارمي الحدود (2314).
(4) [المغني والشرح الكبير] ( 8\ 162 ، 163 ) الطبعة الأولى .
(5) سورة البقرة الآية 229

في أهلها » (1) ، وهذا حديث صحيح ثابت الإسناد ، رواه الأئمة مالك وأحمد وغيرهما ، وفي رواية البخاري قال : « جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتردين عليه حديقته ؟ فقالت : نعم ، فردتها عليه ، وأمره ففارقها » (2) .
وفي رواية فقال : « اقبل الحديقة ، وطلقها تطليقة » (3) وبهذا قال جميع الفقهاء بالحجاز والشام ، قال ابن عبد البر : ولا نعلم أحدا خالفه إلا بكر بن عبد الله المزني فإنه لم يجزه ، وزعم أن آية الخلع منسوخة بقوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } (4) الآية .
وروي عن ابن سيرين وأبي قلابة أنه لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا ؛ لقول الله تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (5)
ولنا الآية التي تلوناها والخبر وأنه قول عمر ، وعثمان ، وعلي ، وغيرهم من الصحابة لم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا ، ودعوى النسخ لا تسمع حتى يثبت تعذر الجمع وأن الآية الناسخة متأخرة ولم يثبت شيء من ذلك ، إذا ثبت هذا فإن هذا يسمى خلعا ؛ لأن المرأة تنخلع من لباس زوجها ، قال الله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } (6)
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3462),سنن أبو داود الطلاق (2227),مسند أحمد بن حنبل (6/434),موطأ مالك الطلاق (1198),سنن الدارمي الطلاق (2271).
(2) صحيح البخاري الطلاق (4973),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(3) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(4) سورة النساء الآية 20
(5) سورة النساء الآية 19
(6) سورة البقرة الآية 187

ويسمى : افتداء ؛ لأنها تفتدي نفسها بمال تبذله ، قال الله تعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) ، اهـ . (2) .
وإذا كان النشوز من المرأة وتعذرت أوبتها منه لبغضها إياه وكراهتها له وعرضت عليه افتداءها منه - فقد أجمع أهل العلم على أنه ينبغي إجابتها ، واختلفوا هل يجبر الزوج على ذلك ؟
قال ابن مفلح : يباح لسوء عشرة بين الزوجين وتستحب الإجابة إليه واختلف كلام شيخنا في وجوبه ، وألزم به بعض حكام الشام المقادسة الفضلاء ، فقال أبو طالب : إذا كرهته حل أن يأخذ منها ما أعطاها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أتردين عليه حديقته ؟ » (3) اهـ (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) [المغني والشرح الكبير] ( 6\ 173- 174 ) الطبعة الأولى .
(3) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(4) [الفروع] ( 5\ 343 ) .

وسئل الشيخ حسين ابن الشيخ محمد : إذا كرهت زوجها هل يجبر على الخلع ؟
فأجاب : إذا كرهت زوجها فالذي نفتي به أنه مستحب ، ولا يجبر الزوج على الخلع (1) . اهـ .
وقال الشوكاني رحمه الله : قوله : « اقبل الحديقة » (2) قال في [الفتح] : هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب ، ولم يذكر ما يدل على صرف الأمر عن حقيقته (3) . اهـ .
__________
(1) [الدرر السنية] ( 6\ 367 ) .
(2) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(3) [نيل الأوطار] ( 6\ 263 ) .

وقال في [حاشية المقنع] على قوله : وإذا كانت المرأة مبغضة للرجل وتخشى ألا يقيم حدود الله - فلا بأس أن تفتدي نفسها منه : أي : فيباح للزوجة والحالة هذه على الصحيح من المذهب ، وأما الزوج فالصحيح من المذهب أنه يستحب له الإجابة إليه ، وعليه الأصحاب ، واختلف كلام الشيخ في وجوب الإجابة إليه ، والأصل فيه قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) ولقول ابن عباس رضي الله عنهما : « جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، ثابت بن قيس لا أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أتردين عليه حديقته ؟ " قالت : نعم ، فأمرها بردها وأمره ففارقها » (2) . رواه البخاري ، وبه قال جميع الفقهاء في الأمصار إلا بكر بن عبد الله المزني لم يجزه (3) . اهـ .
وقال الجصاص : ذكر اختلاف السلف وسائر علماء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع .
روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاووس وسعيد بن جبير ، وروي عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ومجاهد وإبراهيم والحسن رواية أخرى أنه جائز له أن يخلعها على أكثر مما أعطاها ولو بعقاصها .
وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد : إذا كان النشوز من قبلها حل
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(3) [المقنع مع حاشيته] ( 3\ 113 ، 114 ) منشورات المؤسسة السعيدية ، الرياض .

له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد ، وإن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئا ، فإن فعل جاز في القضاء ، وقال ابن شبرمة : تجوز المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه ، وإن كانت على إضرار منه لم تجز ، وقال ابن وهب عن مالك : إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وأنه ظالم لها قضى عليها الطلاق ورد عليها مالها ، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه جائز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها ويحل له ، وإن كان النشوز من قبل الزوج حل له أن يأخذ ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك ولم يكن في ذلك ضرر منه لها وعن الليث نحو ذلك .
وقال الثوري : إذا كان الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها شيئا ، وإذا كان من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا .
وقال الأوزاعي في رجل خالع امرأته وهي مريضة : إن كانت ناشزة كان في ثلثها ، إن لم تكن ناشزة رد عليها وكانت له عليها الرجعة ، وإن خالعها قبل أن يدخل بها على جميع ما أصدقها ولم يتبين منها نشوز إذا اجتمعا على فسخ النكاح قبل أن يدخل بها -فلا أرى بذلك بأسا .
وقال الحسن بن حيي : إذا كانت الإساءة من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخالعها على ما تراضيا عليه ، وكذلك قول عثمان البتي ، وقال الشافعي : إذا كانت المرأة مانعة ما يجب عليها لزوجها حلت الفدية للزوج ، وإذا حل له أن يأكل ما طابت به نفسا على غير فراق حل له أن يأكل ما طابت به نفسا ، وتأخذ الفراق به .
قال أبو بكر : قد أنزل الله تعالى في الخلع آيات ، منها : قوله تعالى :

{ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } (1) فهذا يمنع أخذ شيء منها إذا كان النشوز من قبله ، فلذلك قال أصحابنا : لا يحل له أن يأخذ منها في هذه الحال شيئا ، وقال تعالى في آية أخرى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (2) فأباح في هذه الآية الأخذ عند خوفهما ترك إقامة حدود الله ، وذلك على ما قدمنا من بغض المرأة لزوجها وسوء خلقها أو كان ذلك منهما ، فيباح له أخذ ما أعطاها ولا يزداد ، والظاهر يقتضي جواز أخذ الجميع ، ولكن ما زاد مخصوص بالسنة ، وقال تعالى في آية أخرى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (3)
قيل فيه : إنه خطاب للزوج ، وحظر به أخذ شيء مما أعطاها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة ، قيل فيها : إنها هي الزنا ، وقيل : إنها النشوز من قبلها ، وهذه نظير قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (4) وقال تعالى في آية أخرى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (5) وسنذكر حكمها في
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة النساء الآية 19
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) سورة النساء الآية 35

مواضعها إن شاء الله تعالى ، وذكر تعالى إباحة أخذ المهر في غير هذه الآية إلا أنه لم يذكر حال الخلع في قوله : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (1) وقال تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } (2) وهذه الآيات كلها مستعملة على مقتضى أحكامها .
فقلنا : إذا كان النشوز من قبله لم يحل أخذ شيء منها ؛ لقوله تعالى : { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (3) وقوله تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } (4)
وإذا كان النشوز من قبلها أو خافا لسوء خلقها أو بغض كل واحد منهما لصاحبه أن لا يقيما -جاز له أن يأخذ ما أعطاها لا يزداد ، وكذلك { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (5) وقد قيل فيه : إلا أن تنشز فيجوز له عند ذلك أخذ ما أعطاها .
وأما قوله تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (6) فهذا في غير حال الخلع ، بل في حال الرضا بترك المهر بطيبة من نفسها به ، وقول من قال : إنه لما جاز أخذ مالها بغير خلع فهو جائز في
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 237
(3) سورة النساء الآية 20
(4) سورة النساء الآية 19
(5) سورة النساء الآية 19
(6) سورة النساء الآية 4

الخلع خطأ ؛ لأن الله تعالى قد نص على الموضعين ، في أحدهما بالحظر ، وهو قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } (1) وقوله تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (2) وفي الآخر بالإباحة ، وهو قوله تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (3) فقول القائل : لما جاز أن يأخذ مالها بطيبة من نفسها من غير خلع جاز في الخلع قول مخالف لنص الكتاب ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخلع ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية : « أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هذه ؟ فقالت : أنا حبيبة بنت سهل ، قال : ما شأنك ؟ قالت : لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها ، فلما جاءه ثابت بن قيس قال له : هذه حبيبة بنت سهل ، فذكرت ما شاء الله أن تذكره ، فقالت حبيبة : يا رسول الله ، كل ما أعطاني عندي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت : خذ منها ، فأخذ منها ، وجلست هي في أهلها » (4) .
وروي فيه ألفاظ مختلفة في بعضها : « خل سبيلها » وفي بعضها : « فارقها » ، وإنما قالوا : إنه لا يسعه أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل : قال : حدثنا
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة النساء الآية 4
(4) سنن النسائي الطلاق (3462),سنن أبو داود الطلاق (2227),مسند أحمد بن حنبل (6/434),موطأ مالك الطلاق (1198),سنن الدارمي الطلاق (2271).

محمد بن يحيى بن أبي سمينة : قال : حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس : « أن رجلا خاصم امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تردين إليه ما أخذت منه " ؟ قالت : نعم وزيادة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الزيادة فلا » وقال أصحابنا : لا يأخذ منها الزيادة لهذا الخبر ، وخصوا به ظاهر الآية ، وإنما جاز تخصيص هذا الظاهر بخبر الواحد من قبل أن قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) لفظ محتمل لمعان ، والاجتهاد سائغ فيه ، وقد روي عن السلف فيه وجوه مختلفة ، وكذلك قوله تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) محتمل لمعان على ما وصفنا فجاز تخصيصه بخبر الواحد ، وهو كقوله تعالى : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } (3) وقوله تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } (4) لما كان محتملا للوجوه واختلف السلف في المراد به -جاز قبول خبر الواحد في معناه المراد به ، وإنما قال أصحابنا : إذا خلعها على أكثر مما أعطاها ، أو خلعها على مال والنشوز من قبله أن ذلك جائز في الحكم وإن لم يسعه فيما بينه وبين الله تعالى من قبل أنها أعطته بطيبة من نفسها غير مجبرة عليه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه » (5) .
وأيضا : فإن النهي لم يتعلق بمعنى في نفس العقد ، وإنما تعلق بمعنى
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة النساء الآية 43
(4) سورة البقرة الآية 237
(5) مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).

في غيره ، وهو أنه لم يعطها مثل ما أخذ منها ، ولو كان قد أعطاها مثل ذلك لما كان ذلك مكروها ، فلما تعلق النهي بمعنى في غير العقد لم يمنع ذلك جواز العقد كالبيع عند أذان الجمعة ، وبيع حاضر لباد ، وتلقي الركبان ونحو ذلك ، وأيضا لما جاز العتق على قليل المال وكثيره ، وكذلك الصلح عن دم العمد . كان كذلك الطلاق وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر المثل ، وهو بدل البضع - كذلك جائز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها ؛ لأنه بدل من البضع في الحالين . .
فإن قيل : لما كان الخلع فسخا لعقد النكاح لم يجز بأكثر مما وقع عليه العقد كما لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن .
قيل له : قولك : إن الخلع فسخ للعقد ، خطأ ، وإنما هو طلاق مبتدأ كهو لو لم يشرط فيه بدل ، ومع ذلك فلا خلاف أنه ليس بمنزلة الإقالة ؛ لأنه لو خلعها على أقل مما أعطاها جاز بالاتفاق ، والإقالة غير جائزة بأقل من الثمن ، ولا خلاف أيضا في جواز الخلع بغير شيء ، وقد اختلف السلف في الخلع دون السلطان ، فروي عن الحسن وابن سيرين : أن الخلع لا يجوز إلا عند السلطان ، وقال سعيد بن جبير : لا يكون الخلع حتى يعظها ، فإن اتعظت وإلا هجرها ، فإن اتعظت إلا ضربها ، فإن اتعظت وإلا ارتفعا إلى السلطان فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فيردان ما يسمعان إلى السلطان ، فإن رأى بعد ذلك أن يفرق فرق ، وإن رأى أن يجمع جمع .
وروي عن علي ، وعمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وشريح ، وطاووس ، والزهري في آخرين : أن الخلع جائز دون السلطان ، وروى سعيد عن قتادة

قال : كان زياد أول من رد الخلع دون السلطان ، ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في جوازه دون السلطان .
وكتاب الله يوجب جوازه ، وهو قوله تعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) وقال تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) فأباح الأخذ منها بتراضيهما من غير سلطان ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس : « أتردين عليه حديقته ؟ " قالت : نعم ، فقال للزوج : " خذها وفارقها » (3) يدل على ذلك أيضا ؛ لأنه لو كان الخلع إلى السلطان شاء الزوجان أو أبيا إذا علم أنهما لا يقيمان حدود الله لم يسألهما النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا خاطب الزوج بقوله : اخلعها بل كان يخلعها منه ويرد عليه حديقته وإن أبيا أو واحد منهما ، كما لما كانت فرقة المتلاعنين إلى الحاكم لم يقل للملاعن خل سبيلها ، بل فرق بينهما ، كما روى سهل بن سعد : « أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين » (4) ، كما قال في حديث آخر : « لا سبيل لك عليها » (5) . ولم يرجع ذلك إلى الزوج ، فثبت بذلك جواز الخلع دون السلطان ، ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مال امرئ إلا بطيبة من نفسه » (6) انتهى المقصود (7) .
وقال ابن حجر رحمه الله على قول البخاري في صحيحه : وقول الله عز وجل : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (8)
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة النساء الآية 19
(3) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(4) صحيح البخاري الطلاق (5003),صحيح مسلم اللعان (1492),سنن النسائي الطلاق (3402),سنن أبو داود الطلاق (2251),سنن ابن ماجه الطلاق (2066),مسند أحمد بن حنبل (5/337),موطأ مالك الطلاق (1201),سنن الدارمي النكاح (2229).
(5) صحيح البخاري الطلاق (5006),صحيح مسلم اللعان (1493),سنن الترمذي الطلاق (1203),سنن النسائي الطلاق (3473),سنن أبو داود الطلاق (2257),سنن ابن ماجه الطلاق (2069),مسند أحمد بن حنبل (2/11),موطأ مالك الطلاق (1202),سنن الدارمي النكاح (2231).
(6) مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).
(7) [أحكام القرآن ] ( 1\462- 468 ) من المطبعة البهية ( 1\393-396 ) من مطبعة الأوقاف الإسلامية عام 1335 هـ .
(8) سورة البقرة الآية 229

وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها : العقاص : بكسر المهملة وتخفيف القاف وآخره صاد مهملة : جمع عقصة ، وهو : ما يربط به شعر الرأس بعد جمعه .
وأثر عثمان هذا رويناه موصولا في أمالي أبي القاسم بن بشران من طريق شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت : اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان ، وأخرجه البيهقي من طريق روح بن القاسم عن ابن عقيل مطولا ، وقال في آخره : فدفعت إليه كل شيء حتى أجفت الباب بيني وبينه .
وهذا يدل على أن معنى ( دون ) : سوى ، أي أجاز للرجل أن يأخذ من المرأة في الخلع ما سوى عقاص رأسها ، وقال سعيد بن منصور : حدثنا هشام عن مغيرة عن إبراهيم كان يقال : الخلع ما دون عقاص رأسها .
وعن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد يأخذ من المختلعة حتى عقاصها ، ومن طريق قبيصة بن ذؤيب إذا خلعها جاز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، ثم تلا : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) وسنده صحيح .
ووجدت أثر عثمان بلفظ آخر أخرجه ابن سعد في ترجمة الربيع بنت معوذ من طبقات النساء قال : أنبأنا يحيى بن عباد ، حدثنا فليح بن سليمان ، حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت : كان بيني وبين ابن عمي كلام - وكان زوجها- قالت : فقلت له : لك كل شيء
__________
(1) سورة البقرة الآية 229

وفارقني ، قال : قد فعلت ، فأخذ كل شيء حتى فراشي ، فجئت عثمان وهو محصور فقال : الشرط أملك ، خذ كل شيء حتى عقاص رأسها .
قال ابن بطال : ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها ، وقال مالك : لم أر أحدا ممن يقتدى به يمنع ذلك ، لكنه ليس من مكارم الأخلاق . . . ثم ساق شرح باقي الحديث ، وقال بعد ذلك :
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم (1) : أن الشقاق إذا حصل من قبل المرأة فقط جاز الخلع والفدية ، ولا يتقيد ذلك بوجوده منهما جميعا ، وأن ذلك يشرع إذا كرهت المرأة عشرة الرجل ولو لم يكرهها ولم ير منها ما يقتضي فراقها .
وقال أبو قلابة ومحمد بن سيرين : لا يجوز له أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلا ، أخرجه ابن أبي شيبة ، وكأنهما لم يبلغهما الحديث ، واستدل ابن سيرين بظاهر قوله تعالى : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) وتعقب بأن آية البقرة فسرت المراد بذلك ، مع ما دل عليه الحديث ، ثم ظهر لي لما قاله ابن سيرين توجيه : وهو تخصيصه بما إذا كان ذلك من قبل الرجل بأن يكرهها وهي لا تكرهه فيضاجرها لتفتدي منه ، فوقع النهي عن ذلك إلا أن يراها على فاحشة ولا يجد بينة ولا يحب أن يفضحها ، فيجوز حينئذ أن يفتدي منها ويأخذ منها ما تراضيا عليه ويطلقها
__________
(1) أي : من [ فتح الباري] .
(2) سورة النساء الآية 19

فليس في ذلك مخالفة للحديث ؛ لأن الحديث ورد فيما إذا كانت الكراهة من قبلها .
واختار ابن المنذر : أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق بينهما جميعا ، وإن وقع من أحدهما لا يندفع الإثم ، وهو قوي موافق لظاهر الآيتين ، ولا يخالف ما ورد فيه ، وبه قال طاووس والشعبي وجماعة من التابعين .
وأجاب الطبري وغيره عن ظاهر الآية : بأن المرأة إذا لم تقم بحقوق الزوج التي أمرت بها كان ذلك منفرا للزوج عنها غالبا ، ومقتضيا لبغضه لها فنسبت المخالفة إليها لذلك ، وعن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفسر ثابتا هل أنت كارهها كما كرهتك أم لا . انتهى المقصود (1) .
وقال محمود العيني : أي : هذا باب في بيان الخلع -بضم الخاء المعجمة وسكون اللام- مأخوذ من خلع الثوب والنعل ونحوهما ، وذلك لأن المرأة لباس للرجل كما قال الله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } (2) وإنما جاء مصدره بضم الخاء تفرقة بين الأجرام والمعاني ، يقال : خلع ثوبه ونعله خلعا بفتح الخاء ، وخلع امرأته خلعا وخلعة بالضم .
وأما حقيقته الشرعية فهو : فراق الرجل امرأته على عوض يحصل له ، هكذا قاله شيخنا في شرح الترمذي ، وقال : هو الصواب ، وقال كثير من
__________
(1) [ فتح الباري] ( 9\394, 397, 401 ) المطبعة السلفية .
(2) سورة البقرة الآية 187

الفقهاء : هو مفارقة الرجل امرأته على مال ليس بجيد ، فإنه لا يشترط كون عوض الخلع مالا ، فإنه لو خالعها عليه من دين أو خالعها على قصاص لها عليه فإنه صحيح ، وإن لم يأخذ الزوج منها شيئا ، فلذلك عبرت بالحصول لا بالأخذ .
قلت : قال أصحابنا : الخلع إزالة الزوجية بما يعطيه من المال ، وقال النسفي : الخلع : الفصل من النكاح بأخذ المال بلفظ الخلع وشرطه شرط الطلاق وحكمه وقوع الطلاق البائن ، وهو من جهته يمين ، ومن جهتها معاوضة ، وأجمع العلماء على مشروعية الخلع إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي المشهور ، حكاه ابن عبد البر في [التمهيد] ، وقال عقبة بن أبي الصهباء : سألت بكر بن عبد الله المزني عن الرجل يريد أدنى يخالع امرأته ، فقال : لا يحل له أن يأخذ منها شيئا . قلت : فأين قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) ؟ قال : هي منسوخة . قلت : وما نسخها ؟ قال : ما في سورة النساء ، قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } (2) الآية .
قال ابن عبد البر : قول بكر بن عبد الله هذا خلاف السنة الثابتة في قصة ثابت بن قيس وحبيبة بنت سهل ، وخالف جماعة الفقهاء والعلماء بالحجاز والعراق والشام . انتهى .
وخصص ابن سيرين وأبو قلابة جوازه بوقوع الفاحشة ، فكانا يقولان :
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة النساء الآية 20

لا يحل للزوج الخلع حتى يجد على بطنها رجلا ؛ لأن الله تعالى يقول : { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (1)
قال أبو قلابة : فإذا كان ذلك فقد جاز له أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه ، قال أبو عمر : ليس هذا بشيء ؛ لأن له أن يطلقها ، أو يلاعنها ، وأما أن يضارها ليأخذ مالها فليس له ذلك . اهـ (2) .
قال في حاشية [المقنع] على قوله : ( ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها فإن فعل كره وصح ) : إذا تراضيا على الخلع بشيء صح وإن كان أكثر من الصداق ، وهذا قول أكثر أهل العلم ، روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد وقبيصة والنخعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ، وروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا : لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها وعقاص رأسها كان ذلك جائزا ، وقال عطاء وطاووس والزهري وعمرو بن شعيب : لا يأخذ أكثر مما أعطاها . وروي ذلك عن علي بإسناد منقطع ، واختاره أبو بكر ، فإن فعل رد الزيادة .
واحتجوا بما روي : « أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : والله ما أعتب على ثابت في خلق ولا دين ، ولكني أكره الكفر في الإسلام ، لا أطيقه بغضا ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : أتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم . فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد » (3) ، رواه ابن ماجه .
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) [عمدة القاري] ( 20\260 ) .
(3) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).

ولنا قوله تعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) ولأنه قول من سمينا من الصحابة .
وقالت الربيع بنت معوذ : « اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك علي » (2) ، لكن لا يستحب أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، وهذا المذهب ، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وإسحاق وأبو عبيد ، ولم يكرهه أبو حنيفة ومالك والشافعي (3) . اهـ .
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سنن النسائي الطلاق (3498),سنن ابن ماجه الطلاق (2058).
(3) [المقنع مع حاشيته] ( 3\119 ، 120 ) منشورات السعيدية .

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع
في [صحيح البخاري ] : عن ابن عباس ، « أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكني أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقبل الحديقة وطلقها تطليقة » (1) .
وفي [سنن النسائي ] : عن الربيع بنت معوذ ، « أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها - وهي : جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول - فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه فقال : خذ الذي لها عليك وخل سبيلها . قال : نعم ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها » (2) .
وفي [سنن أبي داود ] : عن ابن عباس : « أن امرأة ثابت بن قيس بن
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(2) سنن النسائي الطلاق (3497).

شماس اختلعت من زوجها ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة » (1) (2) ، وفي [سنن الدارقطني ] في هذه القصة : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أتردين عليه حديقته التي أعطاك ؟ قالت : نعم ، وزيادة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الزيادة فلا ، ولكن حديقته . قالت : نعم ، فأخذ ماله ، وخلى سبيلها ، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال : قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، » (3) قال الدارقطني : إسناده صحيح .
فتضمن هذا الحكم النبوي عدة أحكام ، أحدها : جواز الخلع ، كما دل عليه القرآن ، قال تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (4)
ومنع الخلع طائفة شاذة من الناس ، خالفت النص والإجماع ، وفي الآية دليل على جوازه مطلقا بإذن السلطان وغيره .
ومنعه طائفة بدون إذنه .
والأئمة الأربعة ، والجمهور : على خلافه ، وفي الآية دليل على حصول البينونة ؛ لأنه سبحانه وتعالى سماه ( فدية ) ولو كان رجعيا - كما قال بعض الناس - لم يحصل للمرأة الافتداء من الزوج بما بذلته له ، ودل قوله سبحانه وتعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (5) على جوازه بما قل أو كثر ، وأن له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1185),سنن أبو داود الطلاق (2229).
(2) قال المنذري ( 3 : 144حديث 2137 ) وذكر أنه روي مرسلا, وأخرجه الترمذي مسندا, وقال : حسن غريب .
(3) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) سورة البقرة الآية 229

وقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل : أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته : أنها اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه ، فخوصم في ذلك إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فأجازه ، وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه .
وذكر أيضا عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع ، أن ابن عمر جاءته مولاة لامرأته اختلعت من كل شيء لها ، وكل ثوب لها حتى نقبتها . ورفعت إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه امرأة نشزت عن زوجها فقال : ( اخلعها ولو من قرطها ) ذكره حماد بن سلمة عن أيوب عن كثير بن أبي كثير عنه ، وذكر عبد الرزاق عن معمر عن ليث عن الحكم بن عتبة عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : ( لا يأخذ منها فوق ما أعطاها ) .
وقال طاووس : ( لا يحل أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ) ، وقال عطاء : ( إن أخذ زيادة على صداقها فالزيادة مردودة إليها ) ، وقال الزهري : ( لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ) .
وقال ميمون بن مهران : ( إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يسرح بإحسان ) .
وقال الأوزاعي : ( كانت القضاة لا تجيز أن يأخذ منها شيئا إلا ما ساق إليها ) .
والذين جوزوه : احتجوا بظاهر القرآن وآثار الصحابة .
والذين منعوه : احتجوا بحديث أبي الزبير : أن ثابت بن قيس بن

شماس لما أراد خلع امرأته قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أتردين عليه حديقته " قالت : نعم ، وزيادة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما الزيادة فلا » (1) قال الدارقطني : سمعه أبو الزبير من غير واحد وإسناده صحيح .
قالوا : والآثار من الصحابة مختلفة .
فمنهم من روي عنه تحريم الزيادة .
ومنهم من روي عنه إباحتها .
ومنهم من روي عنه كراهتها .
كما روي عن وكيع عن أبي حنيفة عن عمار بن عمران الهمداني عن أبيه عن علي : ( أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ) والإمام أحمد أخذ بهذا القول ، ونص على الكراهة ، وأبو بكر من أصحابه حرم الزيادة وقال : ترد عليها . . وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قال لي عطاء : « أتت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني أبغض زوجي ، وأحب فراقه قال : " أفتردين عليه حديقته التي أصدقك ؟ " قالت : نعم ، وزيادة من مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما الزيادة من مالك فلا ، ولكن الحديقة " قالت : نعم ، فقضى بذلك على الزوج » (2) وهذا وإن كان مرسلا فحديث أبي الزبير مقو له ، وقد رواه ابن جريج عنهما اهـ . (3) .
أما إذا ادعى كل من الزوجين نشوز صاحبه عليه وخيف الشقاق بينهما ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (4)
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(2) صحيح البخاري الطلاق (4971),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(3) [ زاد المعاد] ( 4\63-67 ) مطبعة السنة المحمدية .
(4) سورة النساء الآية 35

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد من الآية فيمن يبعث الحكمين ، وما صفتهما ، وهل هما حاكمان لهما الفصل في الخصومة بين الزوجين ، أو أنهما ينفذ تصرفهما في حدود وكالتهما ، أم أنهما جهة نظر يرفعان ما يريانه إثر التحقيق مع الزوجين إلى الحاكم ليتولى نفسه الفصل في خصومتهما ؟
وقال ابن جرير رحمه الله في تفسيره هذه الآية :
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } (1) وشاقته بقول عادته . . . ثم ذكر اختلاف أهل التأويل في المراد بالمخاطبين في هذه الآية ببعث الحكمين .
فذكر أثرين بسنديهما إلى سعيد بن جبير والضحاك بأن المأمور بذلك السلطان الذي يرفع ذلك إليه .
وذكر أثرا بسنده إلى السدي : أن المأمور بذلك الرجل والمرأة .
وذكر جملة آثار بأسانيدها إلى علي وابن عباس والحسن وقتادة : أن المأمور بذلك السلطان غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما .
ثم ذكر رحمه الله اختلاف أهل التأويل فيما يبعث له الحكمان ، وما
__________
(1) سورة النساء الآية 35

الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما ، وكيف وجه بعثهما بينهما ؟
فقال بعضهم : يبعثهم الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما وليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا ما وكلاهما به أو وكله كل واحد منهما بما إليه ، فيعملان بما وكلهما به من وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه أو توكيل من وكل منهما في ذلك .
وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإلى السدي تؤيد القول بأن الحكمين وكيلان ليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا في حدود ما وكلا به .
وقال آخرون : إن الذي يبعث الحكمين السلطان غير أنه يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما ، ثم ذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى الحسن وقتادة وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن زيد تدل على ذلك .
وذكر رأيا ثالثا : في أن الذي يبعث الحكمين السلطان على أن حكمهما ماض على الزوجين في الجمع والتفريق .
وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى ابن عباس ومعاوية وابن سيرين وسعيد بن جبير وعامر وإبراهيم وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك .
ثم قال بعد ذلك : وأولى الأقوال بالصواب في قوله تعالى : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) أن الله سبحانه خاطب المسلمين
__________
(1) سورة النساء الآية 35

بذلك وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض .
وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين وغير السلطان الذي هو سائس أمر المسلمين أو من أقامه في ذلك مقام نفسه .

واختلفوا في الزوجين والسلطان ومن المأمور بالبعثة في ذلك : الزوجان أو السلطان ؟
ولا دلالة في الآية تدل على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين ولا أثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمة فيه مختلفة .
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يكون مخصوصا من الآية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها ، وإذ كان ذلك كذلك فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن شمله حكم الآية والأمر بقوله : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) إذ كان مختلفا بينهما ، هل هما معنيان بالأمر بذلك أم لا ؟ - وكان ظاهر الآية قد عمهما- فالواجب من القول إذ كان صحيحا ما وصفنا أن يقال : إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكما من قبله لينظر في أمرهما وكان كل واحد منهما قد بعثه من قبله في ذلك لما له على صاحبه ولصاحبه عليه فتوكيله بذلك من وكل جائز له وعليه وإن وكله ببعض ولم يوكله بالجميع كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيا جائزا على ما وكله وذلك أن يوكله أحدهما بما له دون ما عليه ، وإن لم يوكل كل واحد من الزوجين بما له
__________
(1) سورة النساء الآية 35

وعليه أو بما له أو بما عليه إلا الحكمين كليهما لم يجز إلا ما اجتمعا عليه دون ما انفرد به أحدهما ، وإن لم يوكلهما واحد منهما بشيء وإنما بعثاهما للنظر بينهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما - لم يكن لهما أن يحدثا بينهما شيئا غير ذلك من طلاق أو أخذ مال أو غير ذلك ، ولم يلزم الزوجين ولا واحدا منهما شيء من ذلك . انتهى المقصود . . (1) .
وذكر أبو بكر الجصاص : أن الحكمين وكيلان ليس لهما إلا ما وكلا فيه ، وأن أمر الجمع بين الزوجين أو التفريق خاص بالحاكم ، وأن الخطاب في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ } (2) للحاكم الناظر بين الخصمين ؛ لأن الله قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ، ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن قامت على نشوزها ، ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما ، فقال . . . باب : الحكمين كيف يعملان ، قال الله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (3)
وقد اختلف في المخاطبين بهذه الآية من هم ؟
فروي عن سعيد بن جبير والضحاك : أنه السلطان الذي يترافعان إليه .
وقال السدي : الرجل والمرأة .
__________
(1) [ جامع البيان لأحكام القرآن ] ( 8\318- 330 ) .
(2) سورة النساء الآية 35
(3) سورة النساء الآية 35

قال أبو بكر : قوله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } (1) هو خطاب للأزواج ؛ لما في نسق الآية من الدلالة عليه ، وهو قوله تعالى : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } (2) وقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } (3) الأولى أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم ؛ وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ، ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ، ثم بضربها إن أقامت على نشوزها ، ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما ، وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال : سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فغضب ، وقال : ما ولدت إذ ذاك ، فقلت : إنما أعني حكمي شقاق قال : إذا كان بين الرجل وامرأته درء وتدارؤ (4) بعثوا حكمين فأقبلا على من جاء التدارؤ من قبله فوعظاه فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر ، فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما ، فما حكما من شيء فهو جائز .
وروى عبد الوهاب قال : حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة يعظها ، فإن انتهت وإلا هجرها ، فإن انتهت وإلا ضربها ، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان ؛ فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله فيقول الحكم الذي من أهلها : يفعل كذا ويفعل كذا ، ويقول الحكم الذي من أهله : تفعل به كذا وتفعل به كذا ، فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 35
(4) قوله ( درء . . . إلخ ) الدرء : الاعوجاج والاختلاف ومثله التدارؤ ( المصححة ) .

فوق يده ، وإن كانت ناشزا أمروه أن يخلع .
قال أبو بكر : وهذا نظير العنين والمجبوب والإيلاء ، في باب أن الحاكم هو الذي يتولى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله ، فإذا اختلفا وادعى النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها حينئذ بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما ، وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما ، فإذا كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل واحد منهما عمن هو من قبله .
ويدل أيضا قوله تعالى : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) على أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال : فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من قبلها ، فهذا يدل على بطلان قول من يقول : إن للحكمين أن يجمعا إن شاءا ، وإن شاءا فرقا بغير أمرهما ، وزعم إسماعيل بن إسحاق : أنه حكى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين .
قال أبو بكر : هذا تكذب عليهم وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء ، قال الله تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (2) ومن علم أنه مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعنيه ، وأمر
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة ق الآية 18

الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوص عليه في الكتاب ، فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من العلم والدين والشريعة ؟ ! ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما ، أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج .
وكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال : أتى عليا رجل وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس ، فقال علي : ما شأن هذين ؟ قالوا : بينهما شقاق ، قال : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (1) فقال علي : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت ، فأخبر علي : أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين ، فقال أصحابنا : ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج ، وذلك أن لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين ، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها .
فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضا الزوج وتوكيله ، ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها ؛ فلذلك قال أصحابنا : إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضا الزوجين .
__________
(1) سورة النساء الآية 35

فقال أصحابنا : ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضا الزوجين ؛ لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان ، وإنما الحكمان وكيلان لهما ، أحدهما وكيل المرأة ، والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك .
قال إسماعيل : الوكيل ليس بحكم ، ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره وإن أبى ، وهذا غلط منه ؛ لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة ؛ لأنه لا يكون وكيلا أيضا إلا ويجوز أمره عليه وفيما وكل به ، فجواز أمر الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة ، وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما ، فإذا حكم بشيء لزمهما بمنزلة اصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئا .
وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه ، ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا ، والحكمان في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات .
قال إسماعيل : والوكيل لا يسمى حكما وليس ذلك كما ظن ؛ لأنه إنما سمي هاهنا الوكيل حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه .
وأما قوله : إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا ، فليس كذلك ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا ؛ لأنهما وكيلان ، وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما ، ويعرف أمور المانع من الحق منهما

حتى ينقلا إلى الحاكم ما عرفاه من أمرهما ، فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا ، وينهى الظالم منهما عن ظلمه ، فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما ، وجائز أن يكونا سميا بذلك ؛ لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكلا إلى رأيهما وتحريهما للصلاح -سميا حكمين ؛ لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل ، فلما كان ذلك موكولا إلى رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق - مضى ما أنفذاه ، فسميا حكمين من هذا الوجه .
فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما وكلا به على جهة تحري الخير والصلاح -سميا حكمين ، ويكونان مع ذلك وكيلين لهما ، إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين مع خلع أو طلاق إلا بأمرهما ، وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج ؛ لأنه لم يرض بكتاب الله . قال : ولم يأخذه بالتوكيل ، وإنما أخذه بعدم الرضا بكتاب الله .
وليس هذا على ما ذكر ؛ لأن الرجل لما قال : أما الفرقة فلا ، قال علي : كذبت أما والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت ، فإنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة ، وأمره بأن يوكل بالفرقة ، وما قال الرجل : لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه ، وإنما قال : لا أرضى بالفرقة بعد رضا المرأة بالتحكيم ، وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها ، قال : ولما قال : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (1) علمنا أن الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من
__________
(1) سورة النساء الآية 35

الحكم ، قال : وهذا لا يقال للوكيلين ؛ لأنه لا يجوز لواحد منهما أن يتعدى ما أمر به ، والذي ذكره لا ينفي معنى الوكالة ؛ لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحري الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك .
وأخبر الله تعالى أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت نياتهما ، فلا فرق بين الوكيل والحكم ؛ إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على جهة تحري الخير والصلاح ، فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به .
قال : وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاووس وإبراهيم قالوا : ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز ، وهذا عندنا كذلك أيضا ، ولا دلالة فيه على موافقة قوله ؛ لأنهم لم يقولوا : إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضا الزوجين ، بل جائز أن يكون مذهبهم أن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضا الزوجين بالتوكيل ، ولا يكونان حكمين إلا بذلك ، ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز ، وكيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه ، ويخرجا المال عن ملكها ، وقد قال الله تعالى : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (1) وقال تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (2)
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 229

وهذا الخوف المذكور هاهنا هو المعني بقوله تعالى : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله ، فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل للزوج أخذه ، فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما ، وقد نص الله تعالى على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به ؟ ! فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب ، وقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (2) فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه ، وقال الله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } (3) فأخبر تعالى : أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه » (4) ، وقال صلى الله عليه وسلم : « فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار » (5) .
فثبت بذلك : أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه ، وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة النساء الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 188
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).
(5) صحيح البخاري الحيل (6566),صحيح مسلم الأقضية (1713),سنن النسائي آداب القضاة (5401),سنن أبو داود الأقضية (3583),سنن ابن ماجه الأحكام (2317),مسند أحمد بن حنبل (6/320),موطأ مالك الأقضية (1424).

ونقله عنه إلى غيره من غير رضا من هو له ، فالحكمان إنما يبعثان بينهما وليشهدا على الظالم منهما ، كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ } (1) الآية ، قال : إنما يبعث الحكمان ليصلحا ، فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم بظلمه ، وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك ، وكذلك روي عن عطاء .
قال أبو بكر : في فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا ، وهو قوله تعالى : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (2) ولم يقل : إن يريدا فرقة ، وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما ، وينكرا عليه ظلمه ، وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده ، فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه ، وقالا له : لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك ، وإن كانت هي الظالمة قالا لها : قد حلت لك الفدية ، وكان في أخذها معذورا لما يظهر للحكمين من نشوزها ، فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ماله من التفريق والخلع - كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا ، وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا ، فهما في حال شاهدان ، وفي حال مصلحان ، وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر ، ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق ، وأما قول من قال : إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل الزوجين فهو تعسف خارج عن الكتاب والسنة ، والله تعالى أعلم بالصواب . اهـ . (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة النساء الآية 35
(3) [أحكام القرآن] ( 2\230-235 ) المطبعة البهية عام 1347هـ .

وذكر أبو بكر بن العربي : بأن الحكمين قاضيان لا وكيلان ، وذكر نصا عن الشافعي بأنهما وكيلان ، وناقشه ، ثم ذكر توجيه قول المالكية بأنهما قاضيان فقال : قال الشافعي ما نصه :
الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما ، وذلك أني وجدت الله سبحانه وتعالى أذن في نشوز الزوج بأن يصالحا ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وبين في نشوز المرأة بالضرب ، وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع ، وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة ، وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إن أراد استبدال زوج مكان زوج ، فلما أمر فيما خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج ، فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما للحكمين بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك ، ووجدنا حديثا بإسناد يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين .
قال القاضي أبو بكر : هذا منتهى كلام الشافعي ، وأصحابه يفرحون به ، وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم ، وقد تولى القاضي أبو إسحاق الرد عليه ولم ينصفه في الأكثر .

والذي يقتضي الرد عليه بالإنصاف والتحقيق أن نقول : أما قوله الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين فليس بصحيح ، بل هو نصه ، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء ، فإن الله تعالى قال : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 34

ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها ، فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع ، فإن ارعوت وإلا ضربها ، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما ، وهذا إن لم يكن نصا وإلا فليس في القرآن بيان ، ودعه لا يكون نصا ، يكون ظاهرا .
فأما أن يقول الشافعي : يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي يشبه الظاهر ، وكيف يقول الله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) ؟ فنص عليهما جميعا ويقول هو : يشبه أن يكون فيما عمهما وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع ، وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة ، بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه ، ثم قال : فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج ، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما بغير اختيارهما فيتحقق الغيرية ، وأما قوله : لا يبعث الحكمين إلا مأمونين فصحيح ، وأما قوله : برضا الزوجين بتوكيلهما ، فخطأ صراح ، فإن الله تعالى خاطب غير الزوجين إذا خافا الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين .
وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك بتوكيلهما ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه ، والتوكيل من كل واحد لا يكون إلا فيما يخالف الآخر وذلك لا يمكن هاهنا .
المسألة الأولى : قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ } (2) قال السدي : يخاطب الرجل والمرأة إذا ضربها فشاقته ، تقول المرأة لحكمها : قد وليتك أمري وحالي
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) سورة النساء الآية 35

كذا ، ويبعث الرجل حكما من أهله ، ويقول له : حالي كذا ، قاله ابن عباس ومال إليه الشافعي ، وقال سعيد بن جبير : المخاطب السلطان ، ولم ينته رفع أمرهما إلى السلطان فأرسل الحكمين ، وقال مالك : قد يكون السلطان ، وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين ، فأما من قال : إن المخاطب الزوجان فلا يفهم كتاب الله كما قدمنا ، وأما من قال : إنه السلطان فهو الحق .
وأما قول مالك : إنه قد يكون الوليين فصحيح ويفيده لفظ الجمع فيفعله السلطان تارة ويفعله الوصي أخرى ، وإذا أنفذ الوصيان حكمين فهما نائبان عنهما فما أنفذاه نفذ كما لو أنفذه الوصيان ، وقد روى محمد بن سيرين وأيوب عن عبيدة عن علي قال : جاء إليه رجل وامرأة ومعهما فئام من الناس ، فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : أتدريان ما عليكما ؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، فقالت المرأة : رضيت بما في كتاب الله لي وعلي ، وقال الزوج : أما الفرقة فلا ؛ فقال : لا تنقلب حتى تقر بمثل الذي أقرت .
قال القاضي أبو إسحاق : فبين علي أن الأمر إلى الحكمين اللذين بعثا من غير أن يكون للزوج والزوجة أمر في ذلك ولا نهي ، فقالت المرأة بعدما مضيا من عند علي : رضيت بما في كتاب الله تعالى لي وعلي ، وقال الزوج : لا أرضى ، فرد عليه تركه الرضا بما في كتاب الله تعالى ، وأمره أن يرجع عليه كما يجب على كل مسلم أو ينفذ بما فيه بما يجب من الأدب ، فلو كانا وكيلين لم يقل لهما : أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول : أتدريان بما

وكلتما ، ويسأل الزوجين : ما قالا لهما ؟
المسألة الثانية : قوله تعالى : { حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) هذا نص من الله سبحانه وتعالى في أنهما قاضيان لا وكيلان ، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ، فإذا بين الله سبحانه وتعالى كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ ، فكيف لعالم أن يركب معنى أحدهما على الآخر ، فذلك تلبيس وإفساد للأحكام ، وإنما يسيران بإذن الله ويخلصان النية لوجه الله تعالى وينظران فيما عند الزوجين بالتثبت ، فإن رأيا للجمع وجها جمعا ، وإن وجداهما قد أنابا تركاهما ، كما روي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت : اصبر لي وأنفق عليك ، وكان إذا دخل عليها قالت : يا بني هاشم ، لا يحبكم قلبي أبدا ، أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ترد أنوفهم قبل شفاههم ؟ أين عتبة بن ربيعة ؟ أين شيبة بن ربيعة ؟ فيسكت ، حتى دخل عليها يوما وهو برم ، فقالت له : أين عتبة بن ربيعة ؟ فقال : على يسارك في النار إذا دخلت ، فنشرت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك ، فأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما ، وقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف ، فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما .
وفي رواية : أنهما لما أتيا اشتما رائحة طيبة وهدوءا من الصوت ، فقال له معاوية : ارجع فإني أرجو أن يكونا قد اصطلحا ، وقال ابن عباس : أفلا نمضي فننظر أمرهما ، فقال معاوية : فتفعل ماذا ؟ فقال ابن عباس : أقسم
__________
(1) سورة النساء الآية 35

بالله لئن دخلت عليهما فرأيت الذي أخاف عليهما منه لأحكمن عليهما ثم لأفرقن بينهما .
فإن وجداهما قد اختلفا سعيا في الألفة ، وذكرا بالله تعالى وبالصحبة ، فإن أنابا وخافا أن يتمادى ذلك في المستقبل بما ظهر في الماضي ، فإن يكن ما اطلعا عليه في الماضي يخاف منه التمادي في المستقبل فرقا بينهما ، وقاله جماعة منهم : علي وابن عباس والشعبي ومالك وهي :
المسألة الثالثة : وقال الحسن وابن زيد : هما شاهدان يرفعان الأمر إلى السلطان ، ويشهدان بما ظهر إليهما ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، والذي صح عن ابن عباس ما قدمنا من أنهما حكمان لا شاهدان ، فإذا فرقا بينهما وهي :
المسألة الرابعة : تكون الفرقة ، كما قال علماؤنا لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة ، فإن قيل : إذا ظهر الظلم من الزوج أو الزوجة فظهور الظلم لا ينافي النكاح ، بل يؤخذ من الظالم حق المظلوم ويبقى العقد ، قلنا : هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال .
فأما عقود الأبدان فلا يتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر ، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه ، وكانت المصلحة في الفرقة ، وبأي وجه رأياها من المتاركة أو أخذ شيء من الزوج أو الزوجة وهي :
المسألة الخامسة : جاز ونفذ عند علمائنا ، وقال الطبري والشافعي : لا يؤخذ من مال المحكوم عليه شيء إلا برضاه ، وبه قال كل من جعلهما

شاهدين ، وقد بينا أنهما حكمان لا شاهدان ، وأن فعلهما ينفذ فعل الحاكم في الأقضية كما ينفذ فعل الحكمين في جزاء الصيد وهي أختها . اهـ (1) .
قال ابن رشد : باب في بعث الحكمين :
اتفق العلماء على جواز بحث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما في التشاجر أعني : المحق من المبطل ؛ لقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (2) الآية .
وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين : أحدهما : من قبل الزوج ، والآخر : من قبل المرأة ، إلا أن لا يوجد في أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما .
وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما .
وأجمعوا على أن قولهما في الجمع بينهما نافذ بغير توكيل .
واختلفوا في تفريق الحكمين بينهما إذا اتفقا على ذلك هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك ؟
فقال مالك وأصحابه : يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين والإذن منهما في ذلك .
__________
(1) [ أحكام القرآن] لابن العربي ( 1\176 ) وما بعدها .
(2) سورة النساء الآية 35

وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما : ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق .
وحجة مالك : ما رواه من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الحكمين : إليهما التفرقة بين الزوجين والجمع .
وحجة الشافعي وأبي حنيفة : أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج .
واختلف أصحاب مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا .
فقال ابن القاسم : تكون واحدة ، وقال أشهب والمغيرة : تكون ثلاثا إن طلقاها ثلاثا .
والأصل : أن الطلاق بيد الرجل إلا أن يقوم دليل على غير ذلك .
وقد احتج الشافعي وأبو حنيفة بما روي في حديث علي هذا أنه قال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله وبما فيه لي وعلي ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : لا والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة ، قال : فاعتبر في ذلك إذنه ، ومالك يشبه الحكمين بالسلطان ، والسلطان يطلق بالضرر عند مالك إذا تبين . اهـ (1) .
وذهب الشافعي : إلى أن الحكمين وكيلان وأنه ليس لهما إلا ما
__________
(1) [ بداية المجتهد] ( 2\98, 99 ) الطبعة الثالثة, 1379هـ \1960م .

وكلا فيه .
ففي كتاب [الأم] للشافعي ما نصه : قال الله تبارك وتعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } (1) الآية, قال : الله أعلم بمعنى ما أراد من خوف الشقاق الذي إذا بلغاه أمره أن يبعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، والذي يشبه (2) ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما ، وذلك أني وجدت الله عز وجل أذن في نشوز الزوج أن يصطلحا ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، وأذن في نشوز المرأة بالضرب ، وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع ، ودلت السنة أن ذلك برضا من المرأة وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج ، فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج غيرهما ، وكان يعرفهما بإباية الأزواج أن يشتبه حالاهما في الشقاق فلا يفعل الرجل الصفح ولا الفرقة ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية أو تكون الفدية لا تجوز من قبل مجاوزة الرجل ما له من أدب المرأة وتباين حالهما في الشقاق .
والتباين هو : ما يصيران فيه من القول والفعل إلى ما لا يحل لهما ولا يحسن ، ويمتنعان كل واحد منهما من الرجعة ويتماديان فيما ليس لهما ، ولا يعطيان حقا لا يتطوعان ولا واحد منهما بأمر يصيران به في معنى
__________
(1) سورة النساء الآية 35
(2) في حاشية [الأم] ( 5\115 ) قال مصححه : [قوله : ( والذي يشبه ) إلى قوله : ( والتباين ) كذا في الأصل . . . ] ( الناشر ) .

الأزواج غيرهما ، فإذا كان هكذا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمان إلا مأمونين وبرضا الزوجين ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي رحمه الله تعالى ، قال : أخبرنا الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي في هذه الآية : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) ثم قال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي ، وقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي رضي الله تعالى عنه : ( كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به ) ، قال : فقول علي رضي الله تعالى عنه يدل على ما وصفت من أن ليس للحاكم أن يبعث حكمين دون رضا المرأة والرجل بحكمهما ، وعلى أن الحكمين إنما هما وكيلان للرجل والمرأة بالنظر بينهما في الجمع والفرقة .
فإن قال قائل : ما دل على ذلك ؟
قلنا : لو كان الحكم إلى علي رضي الله تعالى عنه دون الرجل والمرأة بعث هو حكمين ، ولم يقل : ابعثوا حكمين .
فإن قال قائل : فقد يحتمل أن يقول : ابعثوا حكمين فيجوز حكمهما بتسمية الله إياهما حكمين ، كما يجوز حكم الحاكم الذي يصيره الإمام ،
__________
(1) سورة النساء الآية 35

فمن سماه الله تبارك وتعالى حاكما أكثر معنى ، أو يكونا كالشاهدين إذا رفعا شيئا إلى الإمام أنفذه عليهما ، أو يقول : ابعثوا حكمين ، أي : دلوني منكم على حكمين صالحين كما تدلوني على تعديل الشهود .
قلنا : الظاهر ما وصفنا ، والذي يمنعنا من أن نحيله عنه مع ظهوره أن قول علي رضي الله عنه للزوج : ( كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به ) ، يدل على أنه ليس للحكمين أن يحكما إلا بأن يفوض الزوجان ذلك إليهما ، وذلك أن المرأة فوضت ، وامتنع الزوج من تفويض الطلاق فقال علي رضي الله تعالى عنه : ( كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به ) ، يذهب إلى أنه إن لم يقر لم يلزمه الطلاق وإن رأياه ، ولو كان يلزمه طلاق بأمر الحاكم أو تفويض المرأة لقال له : لا أبالي أقررت أم سكت ، وأمر الحكمين أن يحكما بما رأياه ، اهـ . (1) .
وذكر الشيرازي قولين في المذهب :
أحدهما : أنهما وكيلان .
والثاني : أنهما حاكمان ، فقال : فإن ادعى كل واحد منهما النشوز على الآخر أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ليعرف الظالم منهما فيمنع من الظلم ، فإن بلغا إلى الشتم والضرب بعث الحاكم حكمين للإصلاح أو التفريق لقوله عز وجل : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (2)
__________
(1) [ الأم] ( 5\115, 116 ) .
(2) سورة النساء الآية 35

واختلف قوله في الحكمين :
فقال في أحد القولين : هما وكيلان فلا يملكان التفريق إلا بإذنهما ؛ لأن الطلاق إلى الزوج وبذل المال إلى الزوجة فلا يجوز إلا بإذنهما .
وقال في القول الآخر : هما حاكمان فلهما أن يفعلا ما يريان من الجمع والتفريق بعوض وغير عوض ؛ لقوله عز وجل : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) فسماهما حكمين ، ولم يعتبر رضا الزوجين .
وروى أبو عبيدة : أن عليا رضي الله تعالى عنه بعث رجلين فقال لهما : أتدريان ما عليكما ؟ ! عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ) ، فقال الرجل : أما هذا فلا ، فقال : كذبت ، لا والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعلي .
ولأنه وقع الشقاق واشتبه الظالم منهما فجاز التفريق بينهما من غير رضاهما كما لو قذفها وتلاعنا ، والمستحب أن يكون حكما من أهله وحكما من أهلها للآية ، لأنه روي أنه وقع بين عقيل بن أبي طالب وبين زوجته شقاق وكانت من بني أمية ، فبعث عثمان رضي الله تعالى عنه حكما من أهله ، وهو : ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وحكما من أهلها ، وهو : معاوية رضي الله تعالى عنه ، ولأن الحكمين من أهلهما أعرف بالحال ، وإن كان من غير أهلهما جاز ؛ لأنهما في أحد القولين حاكمان ، وفي الآخر
__________
(1) سورة النساء الآية 35

وكيلان ، إلا أنه يحتاج فيه إلى الرأي والنظر في الجمع والتفريق ، لا يكمل لذلك إلا ذكران عدلان ، فإن قلنا : إنهما حاكمان لم يجز أن يكونا إلا فقيهين ، وإن قلنا : إنهما وكيلان جاز أن يكونا من العامة . اهـ (1) .
والمشهور لدى الحنابلة : أنهما وكيلان لا حاكمان .
قال المرداوي : اعلم أن الصحيح من المذهب : أن الحكمين وكيلان عن الزوجين لا يرسلان إلا برضاهما وتوكيلهما ، فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا عليه ، قال الزركشي : هذا هو المشهور عند الأصحاب ، حتى إن القاضي في [ الجامع الصغير ] ، والشريف أبا جعفر وابن البنا لم يذكروا فيه خلافا ، ورضيه أبو الخطاب ، قال في [ تجريد العناية ] : هذا أشهر ، وقطع به في [ الوجيز ] و [ المنور ] و [ منتخب الأزجي ] وغيرهم . . . وقدمه في [ الهداية ] ، و [ المذهب ] ، و [ مسبوك الذهب ] ، و [ المستوعب ] ، و [ الخلاصة ] ، و [ الهادي ] ، و [ المحرر ] ، و [ الرعايتين ] ، و [ الحاوي الصغير ] ، و [ النظم ] ، و [ الفروع ] ، وغيرهم .
وعنه : أن الزوج إن وكل في الطلاق بعوض أو غيره ، أو وكلت المرأة في بذل العوض برضاها ، وإلا جعل الحاكم إليهما ذلك فهذا يدل على أنهما حكمان يفعلان ما يريان من جمع أو تفريق بعوض أو غيره من غير رضا الزوجين .
قال الزركشي : وهو ظاهر الآية الكريمة . انتهى .
__________
(1) [ المهذب ] ، ( 2\70 ) .

واختاره ابن هبيرة والشيخ تقي الدين رحمه الله . . . وهو ظاهر كلام الخرقي ، قاله في [ الفروع ] ، وأطلقهما في [ الكافي ] و [ الشرح ] ، اهـ (1) .
وقال ابن القيم : حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزوجين يقع الشقاق بينهما .
روى أبو داود في [ سننه ] من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها : « أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس ، فضربها فكسر بعضها ، فأما النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصبح ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : خذ بعض مالها وفارقها ، فقال : ويصلح ذلك يا رسول الله ؟ ! قال : نعم ، قال : فإني أصدقتها حديقتين ، وهما بيدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم - : خذهما فارقها ، ففعل » (2) .
وقد حكم الله بين الزوجين يقع الشقاق بينهما بقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } (3)
وقد اختلف السلف والخلف في الحكمين : هل هما حاكمان أو وكيلان ؟ على قولين :
أحدهما : أنهما وكيلان ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في قول ، وأحمد في رواية .
الثاني : أنهما حاكمان ، وهذا قول أهل المدينة ، ومالك ، وأحمد في
__________
(1) [ الإنصاف ] ( 8\380 ، 381 ) الطبعة الأولى .
(2) سنن أبو داود الطلاق (2228).
(3) سورة النساء الآية 35

الرواية الأخرى ، والشافعي في القول الآخر ، وهذا هو الصحيح .
والعجب كل العجب ممن يقول : هما وكيلان ، لا حاكمان ، والله تعالى قد نصبهما حكمين ، وجعل نصبهما إلى غير الزوجين ، ولو كانا وكيلين لقال : فليبعث وكيلا من أهله ولتبعث وكيلا من أهلها .
وأيضا : فلو كانا وكيلين لم يختصا بأن يكونا من الأهل .
وأيضا : فإنه جعل الحكم إليهما ، فقال تعالى : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (1) والوكيلان لا إرادة لهما ، إنما يتصرفان بإرادة موكليهما .
وأيضا : فإن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن ، ولا في لسان الشارع ، ولا في العرف العام ولا الخاص .
وأيضا : فالحكم من له ولاية الحكم والإلزام ، وليس للوكيل شيء من ذلك .
وأيضا : فإن الحكم أبلغ من حاكم ؛ لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت ، ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك .
فإذا كان الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض فكيف بما هو أبلغ منه ؟ !
وأيضا : فإنه سبحانه وتعالى خاطب بذلك غير المتزوجين ، وكيف يصح أن يوكل على الرجل والمرأة غيرهما ؟ وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا : وإن خفتم شقاق بينهما فمروهما أن يوكلا وكيلين : وكيلا من أهله ، ووكيلا من أهلها . ومعلوم بعد لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير ، وأنها لا تدل عليه بوجه ، بل هي دالة على خلافه ، وهذا بحمد الله واضح .
وبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه عبد الله بن عباس ومعاوية حكمين
__________
(1) سورة النساء الآية 35

بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ، فقيل لهما : ( إن رأيتما أن تفرقا فرقتما ) وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال للحكمين بين الزوجين : ( عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما ) فهذا عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية جعلوا الحكم إلى الحكمين ، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف ، وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم . والله أعلم .
وإذا قلنا : إنهما وكيلان فهل يجبر الزوجان على توكيل الزوج في الفرقة بعوض وغيره ، وتوكيل الزوجة في بذل العوض ، أو لا يجبران ؟ على روايتين :
فإن قلنا : يجبران ، فلم يوكلا ، جعل الحاكم ذلك إلى الحكمين بغير رضا الزوجين .
وإن قلنا : إنهما حكمان لم يحتج إلى رضا الزوجين ، وعلى هذا النزاع : ينبغي ما لو غاب الزوجان أو أحدهما .
فإن قيل : إنهما وكيلان لم ينقطع نظر الحكمين .
وإن قيل : حكمان انقطع نظرهما ، لعدم الحكم على الغائب .
وقيل : يبقى نظرهما على قولين ؛ لأنهما يتصرفان بحظهما ، فهما كالناظرين ، وإن جن الزوجان انقطع نظر الحكمين .
وإن قيل : إنهما وكيلان ؛ لأنهما فرع الموكلين ، ولم ينقطع إن قيل : إنهما حكمان ؛ لأن الحاكم يلي على المجنون .

وقيل : ينقطع أيضا لأنهما منصوبان عنهما ، فكأنهما وكيلان ولا ريب أنهما حكمان ، فيهما شائبة الوكالة ، ووكيلان منصوبان للحكم ، فمن العلماء من رجح جانب الوكالة ، ومنهم من اعتبر الأمرين . اهـ (1)
__________
(1) [ زاد المعاد ] ( 4\63 ) وما بعدها .

الخلاصة
معنى كل من النشوز والخلع لغة وشرعا
أولا : ( أ ) النشوز : مصدر نشز ينشز ، بضم الشين وكسرها في المضارع ، معناه : ارتفع ، وهو مأخوذ من النشز بسكون الشين وفتحها ، وهو ما ارتفع من الأرض ، ويطلق أيضا على ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض ، وليس بالغليظ ، وقال أبو عبيد : النشز : الغليظ الشديد ، ويجمع النشز مطلقا عن أنشاز ونشوز ، وقيل : يجمع ساكن الشين على نشوز ومفتوحها عن أنشاز ، ونشاز بكسر النون ، ويتعدى بالهمزة ، فيقال : أنشز عظام الميت إنشازا إذا رفعها إلى مواضعها ، وركب بعضها على بعض ، ومنه قوله تعالى : { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } (1) ويطلق النشوز على النهوض إلى الشيء بقوة ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } (2) ويقال للدابة : نشزة إذا لم يكد يستقر الراكب عليها ولا السرج على ظهرها ، ونشوز الزوجين : كراهية كل منهما الآخر ، وسوء عشرته له ، يقال : نشزت الزوجة بزوجها وعلى زوجها فهي ناشز أبغضته ، وترفعت عليه وخرجت عن طاعته واستعصت عليه ، ونشز الزوج على امرأته جفاها ، وترفع عليها لبغضه إياها ، وقد يفضي هذا إلى طلاقها ، أو منعها حقها في المبيت أو النفقة مثلا .
__________
(1) سورة البقرة الآية 259
(2) سورة المجادلة الآية 11

( ب ) الخلع : مصدر خلع يخلع على وزن منع يمنع ، ويطلق لغة على معان : منها : فصل القبيلة لرجل منها لسوء حاله حتى لا تتحمل جريرته ، وهو خليع ومخلوع ، ويطلق على التواء العرقوب وانتقاله عن محله ، ويطلق على خلع الملابس ، ويطلق بمعنى : النزع ، إلا أنه أقل منه شدة ، ويطلق على فصم عروة النكاح وإنهاء الحياة الزوجية ، وكلها تدور على معنى الفصل ، وخص في الشرع بفصم عقدة النكاح ومفارقة الرجل زوجته بعوض منها أو من غيرها .
ثانيا : إذا لم يعاشر الرجل زوجته بالمعروف بأن جفاها أو ترفع عليها ، أو قصر فيما وجب لها عليه من نفقة أو بيت مثلا ، أو توقع من نفسه حصول ما يسوءها فإن لم يكن ذلك عن إساءة منها إليه ، فعليه أن يمسك عن ذلك ، ويعاشرها بمعروف أو يفارقها بإحسان ، ولا يجوز له أن يعضلها أو يضارها ليأخذ منها شيئا أو لتتنازل له عن بعض حقوقها ؛ لقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1) وقوله : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (2) وللزوجة إذا تحققت من زوجها النشوز أو الإعراض عنها ، أو توقعت ذلك منه ، ورغبت في البقاء معه لمصلحة تراها : أن تصالح زوجها على التنازل عن بعض حقوقها عليه ، أو على مال تدفعه إليه ليبقيها في عصمته ؛ لقوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة النساء الآية 128

ولقوله تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (1) ولأن سودة تنازلت عن ليلتها لعائشة لتبقى زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم فأقر ذلك ، ولا حرج على الزوج فيما تصالحا عليه إلا أن يكون عن مضارة منه لها .
ثالثا : إذا نشزت المرأة فتركت الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها دون أن يكون منه إليها ما يسوءها وعظها ثم هجرها ثم أدبها ، فإن أطاعته عاشرها بالمعروف ، وإلا جاز له أن يضارها حتى تفتدي نفسها منه فيطلقها أو يخالعها على عوض ، سواء كان نشوزها ترفعا عليه أم امتناعها من فراشه أم قولها له : لا أغتسل لك من جنابة ، ولا أطأ لك فراشا ، ولا أبر لك قسما ، أم كان خروجا من بيته بغير إذنه ، أم تمكينا لأحد من فراشه ، أم زناها ، إلى غير هذا مما يدل على سوء العشرة ، وقال أبو قلابة وابن سيرين : لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا .
ومنشأ الخلاف بينهما وبين الجمهور : الخلاف في المراد بالفاحشة في قوله تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2) هل المراد بها خصوص الزنا ، أو كل ما يدل على سوء العشرة وترك الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها . وقال بكر بن عبد الله وعطاء والمالكية : لا يحل له أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه وإن
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة النساء الآية 19

أتت بفاحشة من زنا أو بذاء أو نشوز لعموم قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } (1) الآيتين ، وقوله : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (2) وادعوا أن الإذن في العضل إذا أتت بفاحشة منسوخ بهذه النصوص .
وأجاب الجمهور عن ذلك : بمنع النسخ ، لإمكان الجمع بحمل الإذن في العضل والمضارة على ما إذا أتت بفاحشة ، وحمل النهي عن المضارة وأخذ العوض على ما إذا لم يحصل منها نشوز .
وقيل : لا يجوز أخذ الزوج العوض منها إلا إذا خافا جميعا ألا يقيما حدود الله ، لكراهية كل منهما الآخر ؛ لقوله تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } (3) و [ هو ] اختيار ابن جرير ، واعترض عليه بأنه يلزمه ألا يحل للزوج أخذ الفدية إذا كان سوء العشرة من قبلها فقط .
وأجاب عنه : بأن الأمر ليس كما ظن ، فإن سوء عشرتها يقتضي كراهيته إياها وذلك يقتضي الخوف ألا يقيما حدود الله .
رابعا : اتفق العلماء على بعث حكمين إذا وقع الشقاق بين الزوجين ولم يعلم الناشز منهما ، أو كان كل منهما ناشزا فأبى الزوج أن يمسك بمعروف
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) سورة النساء الآية 4
(3) سورة البقرة الآية 229

أو يسرح بإحسان ، وأبت الزوجة أن تؤدي الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها .
واتفقوا : على أن أحد الحكمين يكون من أهل الزوج والآخر من أهلها إن أمكن ، وإلا فمن غيرهما حسب ما تقضتيه المصلحة .
واتفقوا : على أن الحكمين ينفذ ما رأياه في الصلح بينهما ، وعلى أنهما إذا اختلفا لم ينفذ قولهما .
واختلفوا بعد ذلك في مسائل :
الأولى : اختلافهم في المخاطب ببعث الحكمين في قوله تعالى : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } (1) فقيل : السلطان أو نائبه ؛ لأنه هو الذي إليه الفصل في الخصومات والأخذ على يد الظالم ، وقيل المخاطب بذلك : الزوجان ؛ لأن الشأن شأنهما ، وكل منهما أدرى بمن يحرص على استيفاء حقه والدفاع عنه ، وقيل : أولياء الزوجين .
ويمكن أن يقال : إن الأمر ببعث الحكمين مطلق فإن قام به الزوجان فبها ، وإلا بعث أولياؤهما من يقوم بالواجب ، فإن لم يتم البعث من قبل أوليائهما تعين على السلطان أو نائبه بعثهما .
الثانية : اختلافهم في الحكمين ، هل هما وكيلان أو بمنزلة القضاة ؟
فقيل : هما وكيلان ينفذ قولهما فيما وكلا فيه فقط ؛ لأن الطلاق بيد
__________
(1) سورة النساء الآية 35

الزوج لا يملكه غيره إلا بتوكيل منه ؛ ولأن التعويض عن الطلاق لا يكون إلا برضا الزوجة وطيب نفسها ، ولحديث علي وفيه : فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : ( والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة ) فاعتبر بذلك إذنه كما أذنت .
وقيل : هما حاكمان فينفذ قولهما إذ هما بمنزلة السلطان ، والسلطان يطلق بالضرر إذا تبين كما في مسألة العنين ، ولحديث علي ، فإنه قال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ، إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، ولتسمية الله المبعوثين حكمين ، والحكم كالقاضي ينفذ ما حكم به من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض ، رضي الزوجان بذلك أم كرها .
وقال بعض العلماء : إذا بعث السلطان أو نائبه حكمين فليس لهما إلا النظر لمعرفة المسيء منهما والنصح لهما والإصلاح بينهما ، فإن تم الصلح فبها ، وإلا رفعا الأمر للسلطان أو نائبه ، كانا بمنزلة الشاهدين ، أما الحكم فإلى السلطان أو نائبه دونهما .
الثالثة : هل الخلع طلاق أو فسخ ؟ وهل ينفذ طلاق الحكمين إذا طلقا ثلاثا دون تفويض في ذلك من الزوج ؟ وهل للزوج الرجعة بعد الخلع ما دامت المخالعة في العدة ؟ وهل يجوز الخلع دون السلطان أو لا يكون إلا عن طريقه ؟ وهل الخلع خاص بحال الشقاق بين الزوجين أو عام فيها وفي غيرها ؟ في كل هذه المسائل خلاف .
خامسا : اختلف العلماء في مقدار ما يؤخذ من العوض في الخلع :

فقيل : لا يأخذ الزوج أكثر مما أعطاها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمن أرادت فراق زوجها : « تردين إليه ما أخذت منه . قالت : نعم ، وزيادة ، فقال صلى الله عليه وسلم : أما الزيادة فلا » ، ويمكن أن يخصص عموم نصوص الافتداء بهذا الحديث ؛ لما فيها من الاحتمال . وقيل : يجوز بأكثر مما أعطاها ؛ لعموم قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1) ولما رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري في مخالعة الأنصاري لأخته : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : « تردين عليه حديقته ويطلقك قالت : نعم ، وأزيده . قال : ردي عليه حديقته وزيديه » .
ويمكن أن يقال : إن هذا الحديث مقابل لحديث منع الزيادة على ما أعطاها ، وعلى هذا يتم الاستدلال بعموم الآية على جواز أخذه ما تراضيا عليه أو حكم به حاكم ، ولو كان أزيد مما دفع لها أو يقال : في كل من الحديثين مقال : فيتم الاستدلال بعموم الآية على ما ذكر .
سادسا : لم نقف على تحديد مدة تضرب للناشز ، عقوبة لها وتأديبا أو زجرا لها عن النشوز عسى أن ترجع عن تقصيرها في حقوق زوجها ، وتطيعه في أداء ما وجب عليها له شرعا ، ويظهر أن ضرب مدة للنشوز وتحديدها من باب التعزير ، وهو مما يختلف باختلاف الظروف والأحوال ، وما يترتب عليه من أضرار قد تربو على سوء عشرتها للزوج وقد تنقص عنه ، وما يرجى من جدوى التعزير وصلاح الأحوال به ، وما يخشى من سوء
__________
(1) سورة البقرة الآية 229

عاقبة الزيادة في التعزير من توتر العلاقات بين أسر المجتمع ، وما قد يحدث عن شدته للنواشز من الانحدار إلى ما لا تحمد مغبته .
سابعا : ذهب بعض العلماء إلى أن حكم ولي الأمر أو نائبه بما يراه من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض نافذ ، سواء رضي الزوج بالطلاق أم أبى ، ورضيت الزوجة بدفع العوض أم كرهت رعاية لمصلحة الأسرة خاصة ومصلحة المجتمع الإسلامي عامة ، ورأوا أن هذا نظير التفريق باللعنة والإيلاء والعسر بالنفقة وطول الغيبة ، وغير ذلك مما يلجأ فيه إلى التفريق لدفع المضرة والقضاء على مادة الفساد وذارئعه .
وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز التفريق إلا برضا الزوج ؛ لأن الطلاق جعل بيده شرعا فلا يكون إلا منه أو بتوكيله ، ولا يجوز أخذ عوض من الزوجة عن الفراق إلا برضاها وعن طيب نفس منها ؛ لعموم قوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } (1) ولحديث : « إن أموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا » (2) ولحديث : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه » (3) .
ويمكن أن يقال : إن هذه النصوص عامة دخلها التخصيص والاستثناء منها بالأدلة التفصيلية فليكن التفريق بالطلاق أو الفسخ من غير رضا الزوج ، وكذا أخذ العوض من الزوجة مستثنى من عموم هذه النصوص كذلك بما ذكر من أدلة الرأي الأول ؛ جمعا بين الأدلة بدلا من ضرب
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) صحيح البخاري الحج (1652),سنن الترمذي الفتن (2193),مسند أحمد بن حنبل (1/230).
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).

بعضها ببعض ومن وقوف المسلمين منها موقف الحيرة أو الاختلاف .
هذا ما تيسر إيراده ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 26 ) وتاريخ 21\8\1394 هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا بني بعده ، وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لهيئة كبار العلماء من اختيار موضوع النشوز ليكون من جملة الموضوعات التي تعد فيها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحوثا أعدت في ذلك بحثا ، وعرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الخامسة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين الخامس من شهر شعبان عام 1394 هـ والثاني والعشرين منه .
وبعد اطلاع المجلس على ما أعد من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها ، وبعد تداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي :
أن يبدأ القاضي بنصح الزوجة ، وترغيبها في الانقياد لزوجها ، وطاعته ، وتخويفها من إثم النشوز وعقوبته ، وأنها إن أصرت فلا نفقة لها عليه ، ولا كسوة ، ولا سكنى ، ونحو ذلك من الأمور التي يرى أنها تكون دافعة الزوجة إلى العودة لزوجها ، ورادعة لها من الاستمرار في نشوزها ، فإن استمرت على نفرتها وعدم الاستجابة عرض عليهما الصلح ، فإن لم يقبلا ذلك نصح الزوج بمفارقتها ، وبين له أن عودتها إليه أمر بعيد ، ولعل الخير في غيرها ونحو ذلك مما يدفع الزوج إلى مفارقتها ، فإن أصر على إمساكها وامتنع من مفارقتها ، واستمر الشقاق بينهما بعث القاضي حكمين عدلين ممن يعرف حالة الزوجين من أهلهما حيث أمكن ذلك ، فإن لم يتيسر فمن غير أهلهما ممن يصلح لهذا الشأن ، فإن تيسر الصلح بين الزوجين على

أيديهما فبها ، وإلا أفهم القاضي الزوج أنه يجب عليه مخالعتها ، على أن تسلمه الزوجة ما أصدقها ، فإن أبى أن يطلق حكم القاضي بما رآه الحكمان من التفريق بعوض أو بغير عوض ، فإن لم يتفق الحكمان ، أو لم يوجدا وتعذرت العشرة بالمعروف بين الزوجين نظر القاضي في أمرهما ، وفسخ النكاح حسبما يراه شرعا بعوض أو بغير عوض .
والأصل في ذلك الكتاب والسنة والأثر والمعنى :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } (1) ويدخل في هذا العموم الزوجان في حالة النشوز ، والقاضي إذا تولى النظر في دعواهما .
وقوله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ } (2) الآية ، والوعظ كما يكون من الزوج لزوجته الناشز يكون من القاضي ؛ لما فيه من تحقيق المصلحة .
وقوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (3) فكما أن الإصلاح مشروع إذا كان النشوز من الزوج ، فهو مشروع إذا كان من الزوجة أو منهما .
وقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } (4) الآية ، وهذه
__________
(1) سورة النساء الآية 114
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 128
(4) سورة النساء الآية 35

الآية عامة في مشروعية الأخذ بما يريانه من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض .
وقوله تعالي : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } (1)
وأما السنة : فما روى البخاري في [ الصحيح ] عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما - قال : « جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق ، إلا أني أخاف الكفر في الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم ، فردت عليه ، فأمره ففارقها » (2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » (3) فهذا يدل بعمومه على مشروعية الخلع عند عدم الوئام بين الزوجين وخشية الضرر .
وأما الأثر : فما رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما ، وقال : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا ، ورواه النسائي أيضا .
وما رواه الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة قال : جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس ، فأمرهم ، فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، وقال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، فقالت
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) صحيح البخاري الطلاق (4973),سنن النسائي الطلاق (3463),سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2340),مسند أحمد بن حنبل (5/327).

المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي ، وقال الزوج : أما الفرقة فلا ، فقال علي : ( كذبت والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به ) .
ورواه النسائي في [ السنن الكبرى ] ورواه الشافعي والبيهقي ، وقال ابن حجر : إسناده صحيح .
وما أخرجه الطبري في [ تفسيره ] ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في الحكمين أنه قال : ( فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز ) .
وأما المعنى : فإن بقاءها ناشزا مع طول المدة أمر غير محمود شرعا ؛ لأنه ينافي المودة والإخاء ، وما أمر الله من الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان ، مع ما يترتب على الإمساك من المضار والمفاسد والظلم والإثم ، وما ينشأ عنه من القطيعة بين الأسر ، وتوليد العداوة والبغضاء .
وصلى الله وسلم على محمد ، وآله وصحبه .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الخامسة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد ... عبد الله الخياط ... عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

( 7 )
حكم الشفعة بالمرافق الخاصةهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الشفعة بالمرافق الخاصة (1) .
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، محمد وآله وصحبه ، وبعد :
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة مسألة ( الشفعة بالمرافق الخاصة ) وقد قدمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع للمجلس هذا نصه :
الحمد لله وحده ، وبعد : فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوع الشفعة بالمرافق الخاصة في جدول أعمال الدورة الثامنة المتقرر انعقادها في أول ربيع الثاني عام 1396 هـ .
وحيث إن دراسة أي موضوع يستلزم إعداد بحث فيه ، فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع يشتمل على تعريف الشفعة في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي ، وعلى مستند
__________
(1) نشر هذا البحث في ( مجلة البحوث الإسلامية ) العدد الثالث ، ص 229 - 264 ، لعام 1397 هـ .

مشروعيتها ، وحكمة ذلك ، وعلى مجموعة من مسائل الشفعة مما هي موضع خلاف بين أهل العلم ، وفي مقدمة ذلك الشفعة بالمرافق الخاصة ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

تعريف الشفعة
الشفعة في اللغة
الشفعة : من شفع يشفع شفعا ، كمنع بمعنى : الضم والزيادة ، وتطلق أيضا فيراد بها المال المشفوع فيه ، وتطلق ويراد بها : تملك ذلك المال ، قال في [ المصباح المنير ] : شفعت الشيء شفعا من باب نفع ضممته إلى الفرد ، وشفعت الركعة جعلتها ثنتين ، ومن هنا اشتقت الشفعة ، وهي مثال غرفة ؛ لأن صاحبها يشفع ماله بها ، وهي اسم للملك المشفوع ، مثل اللقمة اسم للشيء الملقوم ، وتستعمل بمعنى التملك لذلك الملك ، ومنه قولهم : من ثبت له شفعة فأخر الطلب بغير عذر بطلت شفعته ، ففي هذا المثال جمع بين المعنيين ، فإن الأولى للمال والثانية للتملك . اهـ .
وفي [ لسان العرب ] : الشفع من الأعداد : ما كان زوجا ، تقول : كان وترا فشفعته بآخر ، وشفعة الضحى : ركعتا الضحى . إلى أن قال : وسئل أبو العباس عن اشتقاقها في اللغة ، قال : الشفعة : الزيادة ، وهو أن يشفعك فيما تطلب حتى تضمه إلى ما عندك فتزيده ، وتشفعه بها : أي أن تزيده بها ، أي إنه كان وترا واحدا فضم إليه ما زاده وشفعه به . اهـ .

الشفعة في الاصطلاح الشرعي
اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في تعريف الشفعة تبعا لاختلافهم في موجباتها ، ولشروطها وفيمن لهم حق الشفعة :
فذهب الحنفية : إلى أن الشفعة حق تملك المرء ما بيع من عقار أو ما هو في حكم العقار مما هو متصل بعقاره من شركة أو جوار بمثل الثمن الذي قام عليه المشتري ؛ وذلك لدفع ضرر الشراكة أو الجوار (1) .
وذهب المالكية : إلى أن الشفعة استحقاق لشريك أخذ مبيع شريكه بثمنه . قوله : ( شريك ) قيد أخرج به الجار والشريك في حق المبيع .
وقوله : ( مبيع ) قيد أخرج الموهوب بلا عوض ، وكذا الموروث (2) .
وذهب الشافعية : إلى أن الشفعة استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقل عنه من يد من انتقلت إليه بمثل العوض المسمى (3)
وذهب الحنابلة : إلى أن الشفعة استحقاق الشريك انتزاع حصة لشريكه من يد من انتقلت إليه إن كان مثله أو دونه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد ، فقوله : ( الشريك ) قيد خرج به الجار والشريك في حق المبيع . وقوله : ( إن كان مثله أو دونه ) قيد خرج به الكافر فلا شفعة له على مسلم ، وقوله : ( بثمنه الذي استقر عليه العقد ) خرج به الموهوب والموروث وما
__________
(1) [ الفتاوى الهندية ] ( 5\160 ) ، و [ حاشية ابن عابدين ] ( 6\216 ) ، و [ شرح العدلية ] ( 4\591 ) ، و [ شرح العناية على الهداية ] ، و [ حاشية السعدي ] ( 7\406 ) .
(2) [ مواهب الجليل شرح مختصر خليل ] ( 3\377 ) .
(3) [ مغني المحتاج ] ( 2\296 ) .

كان صداقا أو عوض خلع أو نحوهما (1) .
مما تقدم : تتضح العلاقة بين المعنيين اللغوي والشرعي ، فإذا كانت الشفعة لغة بمعنى : الضم والزيادة ، فإن الشفيع بانتزاعه حصة شريكه من يد من انتقلت إليه بضم تلك الحصة إلى ما عنده فيزيد بها تملكه ، فالضم والزيادة موجودان في المعنيين اللغوي والشرعي ، غير أن الشفعة في عرف الشرع اعتبر فيها قيود جعلتها أخص من معناها في اللغة .
__________
(1) [ المغني ] ( 5\255 ) ، حاشية المقنع ( 2\256 ) .

مشروعية الشفعة
الشفعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب : فقوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1)
وأما السنة فقد ورد بمشروعيتها جملة أحاديث وآثار نذكر منها ما يلي :
1 - قد ثبت في [ الصحيحين ] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : « أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم » (2) .
2 - روى البخاري في [ صحيحه ] وأبو داود والترمذي في [ سننهما ] بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (3) ولمسلم بسنده إلى جابر قال : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي البيوع (1312),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),موطأ مالك الشفعة (1420),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) صحيح البخاري الشفعة (2138),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628).

ما لم تقسم ربعة أو حائط ، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ، وإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به » (1) وفي رواية أخرى لمسلم قال : « الشفعة في كل شرك من أرض أو ربع أو حائط ، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع ، فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه » (2) وفي رواية للترمذي : « من كان له شريك في حائط فلا يبيع نصيبه من ذلك حتى يعرضه على شريكه » (3) .
3 - ولأبي داود بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قسمت الدار وحددت فلا شفعة فيها » (4) قال الشوكاني في [ النيل ] : ورجال إسناده ثقات ، ورواه ابن ماجه بمعناه .
4 - وللترمذي بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الشريك شفيع ، والشفعة في كل شيء » (5) ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال كما قال الترمذي . وفي رواية للطحاوي بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : « أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شيء » ، قال الشوكاني في [ النيل ] : إسناد حديث جابر لا بأس برواته ، كما قاله الحافظ .
5 - وللبخاري وأبي داود والنسائي ، واللفظ للبخاري بإسناده إلى عمرو بن الشريد قال : وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي ، إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا سعد ، ابتع مني بيتي في دارك ، فقال سعد : والله ما أبتاعهما ، فقال المسور : والله لتبتاعنهما ، فقال سعد : والله لا أزيدك على .
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/316),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي البيوع (1312),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),مسند أحمد بن حنبل (3/357),سنن الدارمي البيوع (2628).
(4) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(5) سنن الترمذي الأحكام (1371).

منجمة أو مقطعة ، فقال أبو رافع : لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الجار أحق بسقبه » (1) ما أعطيتكها بأربعة آلاف ، وأنا أعطي بها خمسمائة دينار فأعطاه إياها .
6 - ولأحمد والأربعة بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها ، وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا » (2) قال في [ البلوغ ] : ورجاله ثقات . قال الصنعاني في [ شرحه ] : أحسن المصنف بتوثيق رجاله وعدم إعلاله ، وإلا فإنهم قد تكلموا في هذه الرواية بأنه انفرد بزيادة قوله : « إذا كان طريقهما واحدا » (3) عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي . قلت : وعبد الملك ثقة مأمون لا يضر انفراده ، كما عرف في الأصول وعلوم الحديث .
7 - وفي [ الموطأ ] أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : ( إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها ، ولا شفعة في بئر ولا في فحل النخل ) . قال مالك : وعلى هذا الأمر عندنا .
8 - ولابن ماجه بسند ضعيف إلى ابن عمر رضي الله عنهما : ( الشفعة كحل العقال ) ورواه ابن حزم وزاد : ( فإن قيدها مكانه ثبت حقه ، وإلا فاللوم عليه ) . وأخرج عبد الرزاق عن شريح : إنما الشفعة لمن واثبها .
وأما الإجماع : فقد أجمع أهل العلم على القول بها ، ولم يعرف فيها مخالف إلا ما نقل عن أبي بكر بن الأصم من إنكارها ، بحجة : أن في إثباتها إضرارا بأرباب الأملاك ، حيث إن المشتري يحجم عن الشراء إذا علم أن ما يشتريه سينتزع منه فيتضرر الملاك بذلك .
__________
(1) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) سنن الترمذي الأحكام (1369),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2494),مسند أحمد بن حنبل (3/303),سنن الدارمي البيوع (2627).

وقد رد ابن قدامة رحمه الله شبهته في معرض بحثه إجماع الأمة على القول بالشفعة ، فقال : وأما الإجماع فقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط ، والمعنى في ذلك : أن أحد الشريكين إذا أراد أن يبيع نصيبه وتمكن من بيعه لشريكه وتخليصه مما كان بصدده من توقع الخلاص والاستخلاص فالذي يقتضيه حسن العشرة أن يبيعه منه ليصل إلى غرضه من بيع نصيبه وتخليص شريكه من الضرر ، فإذا لم يفعل ذلك وباعه لأجنبي سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه ، ولا نعلم أحدا خالف هذا إلا الأصم ، فإنه قال : لا تثبت الشفعة ؛ لأن في ذلك إضرارا بأرباب الأملاك ، فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه لم يبتعه ، ويتقاعد الشريك عن الشراء فيستضر المالك . وهذا ليس بشيء ؛ لمخالفته الآثار الثابتة والإجماع المنعقد قبله . والجواب عما ذكره من وجهين :
أحدهما : أنا نشاهد الشركاء يبيعون ولا يعدم من يشتري منهم غير شركائهم ، ولم يمنعهم استحقاق الشفعة من الشراء .
الثاني : أنه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة أن يقاسم فيسقط استحقاق الشفعة . اهـ (1) .
__________
(1) [ المغني ] ( 5\255 ) .

دفع شبه القول بمنافاتها للقياس
لقد تكلم بعض أهل العلم في الشفعة من حيث زعم بعضهم منافاتها لبعض الأصول والمبادئ الشرعية :
فقال السرخسي : وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله : أن القياس يأبى ثبوت حق الشفعة ؛ لأنه يتملك على المشتري ملكا صحيحا له بغير رضاه ، وذلك لا يجوز ، فإنه من نوع الأكل بالباطل ، وتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه » (1) ولأنه بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه على وجه يلحق الضرر بالمشتري في إبطال ملكه عليه ، وليس لأحد أن يدفع الضرر على نفسه بالإضرار بغيره . (2) .
وأورد ابن القيم رحمه الله شبهة لنفاة الحكم والتعليل والقياس فقال : وحرم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه ثم سلطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة .
وقد رد رحمه الله على هذه الشبهة وعلى دعوى منافاة مشروعية الشفعة لأصول الشريعة ومبادئها ، فقال : من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة ، ولا يليق بها غير ذلك ، فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن ، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله ، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به .
ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2145),مسند أحمد بن حنبل (5/73),سنن الدارمي البيوع (2534).
(2) [ المبسوط ] ( 14\90 ) .

بعضهم على بعض : شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة ، وانفراد كل من الشريكين بنصيبه ، وبالشفعة تارة ، وانفراد أحد الشريكين بالجملة ، إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك ، فإن أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي ، وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان ، فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي ، ويزول عنه ضرر الشركة ولا يتضرر البائع ؛ لأنه يصل إلى حقه من الثمن ، وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد . اهـ (1) .
__________
(1) [ إعلام الموقعين ] ( 2\111 ) .

الحكمة في مشروعية الشفعة
لا شك أن الشريعة الإسلامية تهدف بتشريعاتها إلى تحقيق العدل ، وتعميم الرخاء ، وتحصيل المصالح ، ودرء المفاسد ، فهي عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه .
والشفعة شرع الله ، شرعها تعالى بلسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا شك أن لمشروعيتها حكمة اقتضاها عدله تعالى بين عباده ، ورحمته بين خلقه ، ولا شك أن من الحكمة في مشروعيتها : إزالة الضرر بين الشركاء ، أو الضرر مطلقا ، فإن الشركات في الغالب تعتبر موطنا للخصومات ومحلا للتضرر والتعديات ، قال تعالى : { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } (1)
قال ابن القيم رحمه الله : ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن
__________
(1) سورة ص الآية 24

الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض ، شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة ، وانفراد كل من الشريكين بنصيبه ، وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة . اهـ (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الشفعة : فإنها شرعت لتكميل الملك للشفيع ؛ لما في الشركة من التضرر . اهـ (2) .
ونقل علي حيدر عن [ مجمع الأنهر ] : أن الحكمة في مشروعيتها دفع ما ينشأ من سوء الجوار من الضرر على وجه التأبيد ، كإيقاد النار ، وإعلاء الجدار ، وإثارة الغبار ، ومنع ضوء النهار ، وإقامة الدواب والصغار .اهـ (3) .
وباستعراض ما تقدم من تعاريف الشفعة لدى أهل العلم وحكمة مشروعيتها يتضح ما يلي :
1 - اتفاقهم على القول بالشفعة على وجه الإجمال .
2 - اتفاقهم على ثبوت الشفعة للشريك المسلم بشرطه .
3 - اتفاقهم على عدم اعتبار رضا الشريك والمشفوع عليه في انتزاع الشفيع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه .
4 - اتفاقهم في الجملة على ثبوت الشفعة في العقار .
__________
(1) [ إعلام الموقعين ] ( 2\111 ) .
(2) [ مجموع فتاوى ابن تيمية ] ( 29\178 ) .
(3) [ درر الأحكام شرح مجلة الأحكام ] ( 4\672 ) .

5 - اختلافهم في سبب الشفعة ، حيث اتفق الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، على أن الشفعة خاصة للشريك ، فلا شفعة بجوار ولا بمرفق خاص مشترك كطريق وبئر ومسيل ، وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة ، حيث أثبت الشفعة بالجوار وبالمرافق الخاصة ، ووافقه في ذلك الإمام أحمد في رواية عنه في الشفعة بالمرافق الخاصة .
6 - اختلافهم في الشركة فيما لا يقبل القسمة من العقار ؛ كالحمام الصغير والحانوت .
7 - اختلافهم في الشركة في المنقولات هل فيها شفعة ؟
8 - اختلافهم في الكافر : هل له حق الشفعة على المسلم ؟ حيث اتفق الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي على إثبات الشفعة له على المسلم ، وخالفهم في ذلك الإمام أحمد ، حيث منعها عنه بحجة أنه ليس له مثل حق المسلم .
9 - اختلافهم فيما إذا انتقلت الحصة إلى الغير بعوض غير مسمى .
10 - اختلافهم في الوقف هل تثبت فيه وبه الشفعة ؟
11 - اختلافهم في شفعة غير المكلف ؛ كالصبي والمجنون .
12 - اختلافهم في شفعة الغائب .
13 - اختلافهم في إرث الحق في الشفعة .

وفيما يلي

ذكر بعض من أقوال أهل العلم فيما اختلفوا فيه مما ذكر
1 -
الاشتراك فيما لا يقبل القسمة من العقار
اختلف أهل العلم في ثبوت الشفعة بالشركة فيما لا يقبل القسمة من العقار، كالحمام الصغير والحانوت :
فذهب جمهور الشافعية والحنابلة : إلى أن الشركة في ذلك لا تعتبر سببا للأخذ بالشفعة ؛ لأن الشفعة مشروعة لدفع ضرر مئونة القسمة ، واستحداث المرافق ، وهذا غير موجود فيما لا يقبل القسمة ، فانتفت الشفعة .
قال في [ المنهاج ] : وكل ما لو قسم بطلت منفعته المقصودة كحمام ورحى لا لشفعة فيه على الأصح . اهـ (1) .
وقال في[ المجموع ] : ولا تجب إلا فيما تجب قسمته عند الطلب ، فأما ما لا تجب قسمته ؛ كالرحى ، والبئر الصغيرة ، والدار الصغيرة فلا تثبت فيه الشفعة ، وقال أبو العباس : تثبت فيه الشفعة ؛ لأنه عقار ، فتثبت فيه الشفعة قياسا على ما تجب قسمته ، والمذهب الأول ؛ لما روي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنه قال : لا شفعة في بئر ، والأرف تقطع كل شفعة ، ولأن الشفعة إنما تثبت للضرر الذي يلحقه بالمقاسمة ، وذلك لا يوجد فيما لا يقسم . اهـ (2) .
__________
(1) [ المنهاج ] ومعه شرحه [ المغني ] ( 2\297 ) .
(2) [ المجموع ] ( 14\132 ) والأرف : جمع أرفة ، كغرفة ، وهي الحد بين الشيئين .

وذكر الشربيني وجه الخلاف في المذهب في ذلك فقال : هذا الخلاف مبني على ما مر من أن علة ثبوت الشفعة دفع ضرر مئونة القسمة واستحداث المرافق . . إلخ .
والثاني : مبني على أن العلة دفع ضرر الشركة فيما يدوم ، وكل من المسلمين حاصل قبل البيع ، ومن حق الراغب فيه من الشريكين أن يخلص صاحبه منهما بالبيع له فإذا باع لغيره سلطه الشرع على أخذه منه ؛ لما روى مسلم عن جابر : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة ربعة أو حائط ، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به » (1) اهـ (2) .
وقال ابن قدامة رحمه الله : الشرط الثالث : أن يكون المبيع مما يمكن قسمته ، فأما ما لا يمكن قسمته من العقار ؛ كالحمام الصغير ، والرحى الصغيرة ، والعضادة ، والطريق الضيقة ، والعراص الضيقة ، فعن أحمد روايتان .
إحداهما : لا شفعة فيه ، وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي .
والثانية : فيها الشفعة .
إلى أن قال : والأول ظاهر المذهب ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة » والمنقبة : الطريق الضيقة ، رواه أبو الخطاب في [ رءوس المسائل ] ، وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : ( لا شفعة في بئر ولا فحل ) ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر بالبائع ؛ لأنه لا
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).
(2) [ مغني المحتاج ] ( 2\297 ) .

يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة ، وقد يمنع المشتري لأجل الشفيع فيتضرر البائع ، وقد يمتنع البيع فتسقط الشفعة فيؤدي إثباتها إلى نفيها .
ويمكن أن يقال : إن الشفعة إنما تثبت لدفع الضرر الذي يلحقه بالمقاسمة لما يحتاج إليه من إحداث المرافق الخاصة ، ولا يوجد هذا فيما لا ينقسم .
وقولهم : إن الضرر هاهنا أكثر لتأبده .
قلنا : إلا أن الضرر في محل الوفاق من غير جنس هذا الضرر ، وهو ضرر الحاجة إلى إحداث المرافق الخاصة فلا يمكن التعدية ، وفي الشفعة هاهنا ضرر غير موجود في محل الوفاق ، وهو ما ذكرناه فتعذر الإلحاق . اهـ (1) .
وقد اختلفت الرواية عن الإمام مالك رحمه الله في ذلك :
قال أبو عبد الله المواق : قال ابن رشد : الشفعة إنما تكون فيما ينقسم من الأصول دون ما لا ينقسم ، وهذا أمر اختلف فيه أصحاب مالك في [ المدونة ] :
قال مالك : إذا كانت نخلة بين رجلين فباع أحدهما حصته فلا شفعة لصاحبه فيها ، وفي [ المدونة ] أيضا ، قال مالك : في الحمام الشفعة ، وهو أحق أن تكون فيه الشفعة من الأرض ؛ لما في قسم ذلك من الضرر ، وقاله
__________
(1) [ المغني ] ( 5\259 ، 260 ) .

مالك وأصحابه أجمع . اهـ (1) .
وذهب الحنفية ومن وافقهم من الشافعية والمالكية والحنابلة : إلى ثبوت الشفعة في العقار مطلقا ، سواء أمكن قسمته أم لم تمكن .
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أصحابه ، كما اختاره بعض أصحاب الشافعي ؛ كأبي العباس بن سريج ، وهو رواية [ المهذب ] عن الإمام مالك رحمه الله .
قال السرخسي : واستحقاق الشفعة في الحمام والرحى قولنا ، وذكر توجيه ذلك بأنه لدفع ضرر البادئ بسوء المجاورة على الدوام ، وذلك فيما لا يحتمل القسمة موجود لاتصال أحد المالكين بالآخر على وجه التأبيد والقرار .
وحجتنا في ذلك ما روينا من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الشفعة في كل شيء ، ربع أو حائط » (2) ولأن الحمام لو كان مهدوما فباع أحد الشريكين نصيبه كان للشريك الشفعة ، وما يستحق بالشفعة مهدوما يستحق بالشفعة مثبتا ، كالشقص من الجدار .
ثم أجاب عن القول : بأن علة الشفعة دفع ضرر مئونة القسمة ، وأنه لا قسمة فيما لا يقبلها فقال : وبهذا يتبين أن مئونة المقاسمة إن كانت لا تلحقه في الحال فقد تلحقه في الثاني ، وهو ما بعد الانهدام إذا طلب أحدهما قسمة
__________
(1) [ التاج والإكليل على شرح مختصر خليل ] ( 5\315 ) .
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).

الأرض بينهما . اهـ (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : اتفق الأئمة على ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل القسمة قسمة الإجبار ؛ كالقرية ، والبستان ، ونحو ذلك ، وتنازعوا فيما لا يقبل قسمة الإجبار ، وإنما يقسم بضرر أو رد عوض فيحتاج إلى التراضي ، هل تثبت فيه الشفعة ؟ على قولين :
أحدهما : تثبت ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واختاره بعض أصحاب الشافعي ؛ كابن سريج ، وطائفة من أصحاب أحمد ؛ كأبي الوفاء بن عقيل ، وهي رواية [ المهذب ] عن مالك ، وهذا القول هو الصواب ، كما سنبينه إن شاء الله .
والثاني : لا تثبت فيه الشفعة .
تم قال : والقول الأول : أصح ، فإنه قد ثبت في [ الصحيح ] عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : « من كان له شريك في أرض أو ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به » (2) ، ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض والربعة والحائط أن يكون مما يقبل القسمة ، فلا يجوز تقييد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير دلالة من كلامه ، لا سيما وقد ذكر هذا في باب تأسيس إثبات الشفعة ، وليس عنه لفظ صحيح صريح في الشفعة أثبت من هذا ، ففي [ الصحيحين ] ، « عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا
__________
(1) [ المبسوط ] ( 14\135 ) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),مسند أحمد بن حنبل (3/316),سنن الدارمي البيوع (2628).

شفعة » (1) فلم يمنع الشفعة إلا مع إقامة الحدود وصرف الطرق ، وهذا الحديث في الصحيح عن جابر ، وفي [ السنن ] عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الجار أحق بشفعة جاره ينتظره بها ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (2) فإذا قضى بها للاشتراك في الطريق فلأن يقضي بها للاشتراك في رقبة الملك أولى وأحرى .
إلى أن قال : وأيضا فمن المعلوم أنه إذا أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما يقبل القسمة ، فما لا يقبل القسمة أولى بثبوت الشفعة فيه ، فإن الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة ، وما لا يمكن فيه القسمة يكون ضرر المشاركة فيه أشد ، وظن من ظن أنها تثبت لرفع ضرر المقاسمة لا لضرر المشاركة كلام ظاهر البطلان ، فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أنه إذا طلب أحد الشريكين القسمة فيما يقبلها وجبت إجابته إلى المقاسمة . ولو كان ضرر المشاركة (3) أقوى لم يرفع أدنى الضررين بالتزام أعلاهما ، ولم يوجب الله ورسوله الدخول في الشيء الكثير لرفع الشيء القليل ، فإن شريعة الله منزهة عن مثل هذا .
وأما قولهم : هذا يستلزم ضرر الشريك البائع .
فجوابه : أنه إذا طلب المقاسمة ولم يمكن قسمة العين ، فإن العين تباع ويجبر الممتنع على البيع ويقسم الثمن بينهما ، وهذا مذهب جمهور العلماء ؛ كمالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد . اهـ (4) .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2101),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296),سنن الدارمي البيوع (2628).
(2) سنن أبو داود البيوع (3518),مسند أحمد بن حنبل (3/310).
(3) هكذا في المطبوع ، ولعل الصواب : ضرر المقاسمة .
(4) [ المجموع ] ( 30\381 - 384 ) .

وقال ابن قدامة رحمه الله في معرض توجيه القول بثبوت الشفعة فيما لا تمكن قسمته بعد أن ذكر أنه رواية عن الإمام أحمد رحمه الله : ووجه هذا عموم قوله صلى الله عليه وسلم : « الشفعة فيما لم يقسم » (1) وسائر الألفاظ العامة ، ولأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة ، والضرر في هذا النوع أكثر ؛ لأنه يتأبد ضرره . اهـ (2) .
وسئل الشيخ حمد بن ناصر والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله عن الشفعة في أرض لا تمكن قسمتها إجبارا .
فأجابا : هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها وفيها قولان للعلماء ، هما روايتان عن أحمد .
الأولى : أن الشفعة لا تثبت إلا في المبيع الذي تمكن قسمته ، فأما ما لا تمكن قسمته من العقار ؛ كالحمام الصغير ، والعضادة ، والطريق الضيقة ، فلا شفعة فيه ، وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي .
وهذا هو المذهب عند المتأخرين من الحنابلة .
قال الموفق في [ المغني ] : وهو ظاهر المذهب ؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا شفعة في فناء ، ولا في طريق ، ولا في منقبة » والمنقبة : الطريق الضيق ، رواه أبو الخطاب في [ رءوس المسائل ] .
والرواية الثانية : تثبت الشفعة فيه ، وهو قول : أبي حنيفة ، والثوري ،
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(2) [ المغني ] ( 5\259 ) .

وابن سريج ، ورواية عن مالك ، واختاره ابن عقيل ، وأبو محمد الجوزي ، والشيخ تقي الدين .
قال الحارثي : وهو الحق ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « الشفعة فيما لم يقسم » (1) وسائر الألفاظ ، ولأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر بالمشاركة ، والضرر في هذا النوع أكثر ؛ لأنه يتأبد ضرره ، وهذا هو المفتى به عندنا ، وهو الراجح . اهـ (2) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله إجابة لسؤال وجه إليه عن رأيه في اشتراط أن تكون الشفعة في أرض تجب قسمتها ما نصه :
وأما المسألة الثانية وهي : أنهم رحمهم الله لم يثبتوا الشفعة إلا في العقار الذي يمكن قسمته دون ما لا تمكن قسمته فهذا ضعيف أيضا ؛ لأن حديث جابر المرفوع « قضى صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم » (3) وهو في [ الصحيح ] صريح في عموم الشفعة في كل عقار لم يقسم ، سواء أمكنت قسمته بلا ضرر أم لا .
ومن جهة المعنى الذي أثبت الشارع الشفعة فيه للشريك لإزالة ضرر الشركة ، وهذا المعنى موجود في الأرض التي لا يمكن قسمتها أكثر من غيرها لتمكنه في غيرها بإزالة ضرر الشركة في القسمة فيما يقسم بلا ضرر ، وأما ما لا يمكن قسمته إلا بضرر فهو أعظم ضررا من غيره فكيف لا تثبت به ؟ ! وهذا هو الصحيح ، وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد . اهـ (4) .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(2) [ الدرر السنية ] ( 5\226 ) .
(3) صحيح البخاري الشفعة (2138),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628).
(4) [ الفتاوى السعدية ] ص 437 .

2 -

الاشتراك في المنقولات
لا يخلو أمر المنقول من حالين : إما أن يكون متصلا بالأرض ؛ كالبناء ، والغراس مما يباع مع الأرض فهذا يؤخذ بالشفعة تبعا لأصله .
قال ابن قدامة رحمه الله بعد أن حكاه قولا واحدا في المذهب بغير خلاف : ولا نعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلافا . اهـ (1) .
وإما أن يكون منفصلا عنه : كالزرع والثمرة وغيرهما من المنقولات : فذهب الشافعية والحنابلة : إلى أن الشفعة لا تثبت فيه تبعا ولا منفردا ؛ لأن الشفعة بيع في الحقيقة ، وما كان منفصلا لا يدخل في البيع تبعا .
قال الشربيني في شرحه قول صاحب [ المنهاج ] : ( لا تثبت في منقول ) .
ما نصه : لا تثبت الشفعة في منقول كالحيوان والثياب ، سواء أبيعت وحدها أم مضمومة إلى أرض للحديث المار (2) فإنه يخصها بما تدخله القسمة والحدود والطرق ، وهذا لا يكون في المنقولات ، ولأن المنقول لا يدوم بخلاف العقار فيتأبد فيه ضرر المشاركة ، والشفعة تملك بالقهر فناسب مشروعيتها عند شدة الضرر ، والمراد بالمنقول : ابتداء لتخرج الدار إذا انهدمت بعد ثبوت الشفعة ، فإن نقضها يؤخذ بالشفعة . اهـ .
وقال أيضا في شرحه قول صاحب [ المنهاج ] : وكذا ثمر لم يؤبر في الأصح . ما نصه : ويأخذ الشفيع الشجر بثمرة حدثت بعد البيع ولم تؤبر
__________
(1) [ المعني ] ( 5\258 ) .
(2) أي الحديث الذي مر في [ مغني المحتاج ] . اهـ . الناشر .

عند الأخذ ؛ لأنها قد تعبت الأصل في البيع فتبعته في الأخذ بخلاف ما إذا أبرت عنده فلا يأخذها لانتفاء التبعية .
أما المؤبرة عند البيع إذا دخلت بالشرط فلا تؤخذ ؛ لما سبق من انتفاء التبعية ، فتخرج بحصتها من الثمن . اهـ (1) .
وقال ابن قدامة رحمه الله : القسم الثاني : ما لا تثبت فيه الشفعة تبعا ولا مفردا ، وهو : الزرع ، والثمرة الظاهرة تباع مع الأرض ، فإنه لا يؤخذ بالشفعة مع الأصل ، ثم ذكر توجيه ذلك بقوله : لأنه لا يدخل في البيع تبعا فلا يؤخذ بالشفعة ؛ كقماش الدار ، وعكسه البناء ، والغراس ، وتحقيقه : أن الشفعة بيع في الحقيقة لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضا المشتري فإن بيع الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة كالطلع غير المؤبر دخل في الشفعة ؛ لأنها تتبع في البيع فأشبهت الغراس في الأرض .
وأما ما بيع مفردا من الأرض فلا شفعة فيه ، سواء كان مما ينقل ؛ كالحيوان ، والثياب ، والسفن ، والحجارة ، والزرع ، والثمار ، أو لا ينقل ؛ كالبناء ، والغراس ، إذا بيع مفردا ، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي . اهـ (2) .
وذهب الحنفية : إلى أن الثمرة في الأرض تابعة للأرض في استحقاق الشفعة استحسانا إذا شرطها المبتاع ، وأما القياس فإن الشفيع لا يأخذها ؛
__________
(1) [ مغني المحتاج ] ( 2\296 ، 297 ) .
(2) [ المغني ] ( 5\258 ) .

لأنها في حكم المنفصل أشبه المتاع في الدار .
قال في[ الهداية ] : ومن ابتاع أرضا وعلى نخلها ثمر أخذها الشفيع بثمرها ، ومعناها : إذا ذكر الثمر في البيع ؛ لأنه لا يدخل مع غير ذكر ، وهذا الذي ذكره استحسان .
وفي القياس : لا يأخذه ؛ لأنه ليس يتبع ، ألا يرى أنه لا يدخل في البيع من غير ذكر فأشبه المتاع في الدار ، وجه الاستحسان : أنه باعتبار الاتصال صار تبعا للعقار كالبناء في الدار وما كان مركبا فيه فيأخذه الشفيع . اهـ (1) .
وأما ما كان منفصلا عن الأرض ؛ كأثاث الدار ، والعروض ، والسفن ، والحيوانات ، وغير ذلك من المنقولات فلا شفعة فيها ؛ لأن الشفعة إنما وجبت لدفع ضرر سوء الجوار على الدوام ، والملك في المنقول لا يدوم مثل دوامه في العقار فلا تلحق به . (2)
واختلفت الروايات عن الإمام مالك رحمه الله في الثمرة على الأرض هل تؤخذ بالشفعة أم لا ؟
قال ابن رشد : فتحصيل مذهب مالك : أنها في ثلاثة أنواع :
أحدها : مقصود ، وهو العقار من الدور والحوانيت والبساتين .
__________
(1) [ الهداية ] ( 4\34 ) .
(2) [فتح القدير] لابن الهمام (7 \ 434 ).

والثاني : ما يعلق بالعقار مما هو ثابت لا ينقل ولا يحول كالبئر .
والثالث : ما تعلق بهذه كالثمار ، وفيها عنه خلاف . اهـ (1) .
وقد ذكر ابن رشد في [ مقدماته ] :
أن النخل يوم الابتياع لا تخلو من ثلاثة أوجه :
الأول : ألا يكون فيها ثمرة أصلا ، أو يكون فيها ثمرة إلا أنها لم تؤبر ، وهذه الحال لا خلاف في أن الشفيع يأخذ النخل بثمرته .
الثاني : أن يكون فيها يوم الابتياع ثمرة مؤبرة .
وقد ذكر الخلاف في استحقاق الثمرة تبعا للأصل ، فذكر أن قول المدنيين في [ المدونة ] وهو قول أشهب وأكثر الرواة : أنه لا حق للشفيع في الثمرة إذا لم يدركها حتى أبرت ، وأصل الخلاف في ذلك هل الأخذ بالشفعة كالأخذ بالبيع أو أن الثمرة تصير غلة بالإبار .
الثالث : أن يكون في النخل يوم الابتياع ثمرة قد أزهت ، وهذا الوجه كالوجه الثاني فيه الخلاف بين أصحاب مالك ، وقد قال ابن القاسم في [ المدونة ] : أن الشفيع أحق بها ما لم تجذ ويأخذها الشفيع بحكم الاستحقاق لا بحكم الشفعة (2) .
وأما المنقولات المفصلة ؛ كالسفن ، والحيوانات ، والأثاث وغيرها
__________
(1) [ بداية المجتهد ، ( 2\254 ) .
(2) [ مقدمات ابن رشد ] ( 2\586 - 589 ) .

فلا شفعة فيها .
قال في [ المدونة ] : قلت : ولا شفعة في دين ولا حيوان ولا سفن ولا بر ولا طعام ولا في شيء من العروض ولا سارية ولا حجر ولا في شيء من الأشياء سوى ما ذكرت لي كان مما يقسم أو لا يقسم في قول مالك ؟ قال : نعم ، لا شفعة في ذلك ولا شفعة فيما ذكرت لك . (1) .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الشفعة ثابتة في كل شيء حتى في الثوب ؛ لما روى الترمذي بسند جيد عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس مرفوعا : « الشريك شفيع ، والشفعة في كل شيء » (2) ورواه مرسلا وصحح المرسل . قال الحافظ : ورواه الطحاوي بلفظ : « قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء » ورجاله ثقات (3) . لأن الشفعة شرعت لدفع ضررا لمشاركة . وهذا القول رواية عن الإمام أحمد .
قال ابن قدامة رحمه الله في معرض كلامه على الشفعة في المنقولات ما نصه : واختلف عن مالك وعطاء ، فقالا مرة كذلك ، ومرة قالا : الشفعة في كل شيء حتى في الثوب ، قال ابن أبي موسى : وقد روي عن أبي عبد الله رواية أخرى : أن الشفعة واجبة فيما لا ينقسم كالحجارة والسيف والحيوان وما في معنى ذلك . اهـ (4) .
وقال في [ حاشية الروض المربع ] للشيخ عبد الله العنقري على قول
__________
(1) [ المدونة ] ( 5\402 ) .
(2) سنن الترمذي الأحكام (1371).
(3) [ بلوغ المرام ] ومعه شرحه [ السبل ] ( 3\62 ) .
(4) [ المغني ] (5\258 ) .

الشارح : ( فلا شفعة في منقول كسيف ونحوه ) ما نصه :
قوله : فلا شفعة في منقول ، إلى قوله : ونحوها . قال في [ الإنصاف ] : والرواية الثانية فيه الشفعة ، اختاره ابن عقيل ، وأبو محمد الجوزي ، والشيخ تقي الدين . قال الحارثي : وهو الحق ، وعنه يجب في كل مال ، حاشا منقولا ينقسم . اهـ (1) .
وممن قال بذلك ابن حزم ، ففي [ المحلى ] ما نصه : الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعا غير مقسوم بين اثنين فصاعدا من أي شيء كان مما ينقسم ومما لا ينقسم : من أرض أو شجرة واحدة فأكثر ، أو عبد ، أو ثوب ، أو أمة ، أو من سيف ، أو من طعام ، أو من حيوان ، أو من أي شيء بيع . اهـ (2) .
__________
(1) [ الروض المربع ] ( 2\402 ) .
(2) [ المحلى ] ( 10\3 ) .

3 -

الجوار
لا يخلو أمر الجار من حالين : إما أن يكون شريكا لجاره في مرافق خاصة كشرب ومسيل وطريق غير نافذ ونحو ذلك ، وإما ألا يشاركه في شيء من ذلك .
فإن كان شريكا لجاره في المرافق الخاصة فقد ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة : إلى القول بعدم الشفعة في ذلك ؛ لما في [ صحيح البخاري ] عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : « إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق

فلا شفعة » (1) ولما روى مسلم في [ صحيحه ] عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط » (2) حيث دل الحديثان على حصر الشفعة فيما هو مشترك ولم يقسم ، فإذا قسم فلا شفعة ؛ ولأن الشفعة مشروعة لرفع ضرر الاشتراك والمقاسمة ، ولما في المقاسمة من احتمال نقص قيمة حصة الشريك بعد المقاسمة لما تستلزمه المقاسمة في الغالب من إحداث مرافق خاصة لما يقتسم .
قال في [ المدونة ] : قلت لابن القاسم : أرأيت لو أن قوما اقتسموا دارا بينهم فعرف كل رجل منهم بيوته ومقاصيره إلا أن المساحة بينهم لم يقتسموها أتكون الشفعة بينهم أم لا في قول مالك ؟ قال : قال مالك : لا شفعة بينهم إذا اقتسموا ، قلت : وإن لم يقتسموا المساحة وقد اقتسموا البيوت فلا شفعة بينهم في قول مالك ؟ قال : نعم . قلت : أرأيت السكة غير النافذة تكون فيها دار لقوم فباع بعضهم داره ، أيكون لأصحاب السكة الشفعة أم لا في قول مالك ؟ قال : لا لشفعة لهم عند مالك . قلت : ولا تكون الشفعة في قول مالك بالشركة في الطريق ؟ قال : نعم ، لا شفعة بينهم إذا كانوا شركاء في طريق . ألا ترى أن مالكا قال : لا شفعة بينهم إذا اقتسموا الدار اهـ (3) .
وقال ابن رشد في معرض تعداد ما لا شفعة فيه : وكذلك لا شفعة عنده في الطريق ولا في عرصة الدار . اهـ (4) .
وقال الشربيني على قول صاحب [ المنهاج ] : ( ولا شفعة إلا لشريك ) .
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628).
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/316),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) [ المدونة ] (5\402) .
(4) [ بداية المجتهد ] (2\255) .

ما نصه : ولا شفعة إلا لشريك في رقبة العقار ، فلا تثبت للجار لخبر البخاري المار (1) ، ولا للشريك في غير رقبة العقار كالشريك في المنفعة فقط . ولو باع دارا وله شريك في ممرها فقط التابع لها ، فإن كان دربا غير نافذ فلا شفعة له فيها ؛ لانتماء الشركة فيها . اهـ (2) .
وقال النووي : وأما المقسوم فهل تثبت فيه الشفعة بالجوار ، فيه خلاف : فذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء لا تثبت بالجوار ، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ، ويحيى الأنصاري ، وأبي الزناد ، وربيعة ، ومالك ، والأوزاعي ، والمغيرة بن عبد الرحمن ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، اهـ (3) .
وذكر ابن قدامة رحمه الله : أن الشفعة لا تثبت إلا بشروط أربعة : أحدها : أن يكون الملك مشاعا غير مقسوم ، فأما الجار فلا شفعة له .
ثم ذكر من اختار هذا القول من أهل العلم ومن خالفه ، كأبي حنيفة وغيره ، ثم وجه القول بحصر الشفعة في الملك غير المقسوم ، فقال : ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « الشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (4) وروى ابن جريج عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب أو عن أبي سلمة أو عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا قسمت الأرض وحددت فلا
__________
(1) أي : للحديث المار في كتاب [ مغني المحتاج ] اهـ . الناشر .
(2) [ مغني المحتاج ] ( 2\298 ) .
(3) [ شرح النووي لصحيح مسلم ] ( 11\46 ) .
(4) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).

شفعة » (1) رواه أبو داود .
ولأن الشفعة تثبت في موضع الوفاق على خلاف الأصل لمعنى معدوم في محل النزاع فلا تثبت فيه ، وبيان انتفاء المعنى هو : أن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته أو يطلب الداخل المقاسمة فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق ، وهذا لا يوجد في المقسوم . . . إلى أن قال : إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون الطريق مفردة أو مشتركة . قال أحمد في رواية ابن القاسم في رجل له أرض تشرب هي وأرض غيره من نهر واحد فلا شفعة له من أجل الشرب ، إذا وقعت الحدود فلا شفعة . اهـ (2) .
وقال البهوتي رحمه الله : ومن أرضه بجوار أرض لآخر ويشربان من نهر أو بئر واحدة فلا شفعة بذلك . اهـ (3) .
وذهب الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم : إلى أن الشفعة تثبت للخليط في حق المبيع إذا لم يكن ثم من يحجبه عنه ، كوجود خليط في المبيع نفسه ؛ وذلك لما روى الحسن عن سمرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « جار الدار أحق بالدار » (4) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . وعن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الجار أحق بداره ينتظر به إذا كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (5) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن .
وقال الحافظ في [ البلوغ ] : رواه أحمد والأربعة ورجاله ثقات ، ولأن
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(2) [ المغني ] ( 5\256 ، 257 ) .
(3) [ شرح المنتهى ] ( 2\434 ، 435 ) .
(4) سنن الترمذي الأحكام (1368),سنن أبو داود البيوع (3517),مسند أحمد بن حنبل (5/8).
(5) سنن الترمذي الأحكام (1369),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2494),مسند أحمد بن حنبل (3/303),سنن الدارمي البيوع (2627).

اتصال ملكه به يدوم ويتأبد فهو مظنة التضرر بالاختلاط في حقوق المبيع كالشركة . قال في [ الهداية ] في معرض توجيهه القول بثبوت الشفعة للخليط في حق المبيع تم للجار ما نصه : ولنا ما روينا ، ولأن ملكه متصل بملك الدخيل اتصال تأبيد وقرار فيثبت له حق الشفعة عند وجود المعاوضة بالمال اعتبارا بمورد الشرع ؛ وهذا لأن الاتصال على هذه الصفة إنما انتصب سببا فيه لدفع ضرر الجوار ، إذ هو مادة المضار على ما عرف ، وقطع هذه المادة بتملك الأصل أولى . اهـ (1) .
وقد قال بثبوت الشفعة بالشركة في مصالح العقار بعض الحنابلة ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، وصاحب [ الفائق ] وهو اختيار الحارثي . قال أبو الحسن المرداوي : وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب ، وقد سأله عن الشفعة . فقال : إذا كان طريقهما واحدا لم يقتسموا ، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة ، وهذا هو الذي اختاره الحارثي . وذكر ظاهر كلام الإمام أحمد المتقدم ، ثم قال : وهذا الصحيح الذي يتعين المصير إليه ، ثم ذكر أدلته ، وقال في هذا المذهب جمعا بين الأخبار دون غيره فيكون أولى بالصواب . اهـ (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وقد تنازع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال ، أعدلها هذا القول : أنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا . اهـ (3)
__________
(1) [ الهداية ] ( 4\24 ، 25 ) .
(2) [ الإنصاف ] ( 6\255 ) .
(3) [ مجموع الفتاوى ] ( 30\383 ) .

وقال ابن القيم رحمه الله : والصواب : القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه ، وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث : أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة ، وإن لم يكن بينهما حق مشترك ألبتة ، بل كان كل واحد منهما متميزا ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة ، وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فإنه سأله عن الشفعة لمن هي ؟ فقال : إذا كان طريقهما واحدا ، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وقول القاضيين : سوار بن عبيد الله وعبيد الله بن الحسن العنبري . . . إلى أن قال : والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك ، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه ، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري ، فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه ، فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة ، وأقربها إلى العدل ، وعليه يحمل الاختلاف عن عمر رضي الله عنه حيث قال : لا شفعة فيما إذا وقعت الحدود وصرفت الطريق ، وحيث أثبتها فيما إذا لم تصرف الطرق ، فإنه قد روي عنه هذا وهذا . وكذلك ما روي عن علي رضي الله عنه ، فإنه قال : ( إذا حدت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ) ومن تأمل أحاديث شفعة الجار رآها صريحة في ذلك ، وتبين له بطلان حملها على الشريك ، وعلى حق الجوار غير الشفعة ، وأجاب رحمه الله عن حديث أبي

هريرة : « فإذا وقعت الحدود فلا شفعة » (1) بأن تصريف الطرق داخل في وقوع الحدود ، فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلها واقعة ؛ بل بعضها حاصل ، وبعضها منتف ، فوقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق (2) .
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هل تثبت الشفعة بالشركة في الطريق والبئر والشركة في السيل ؟
فأجاب : تثبت للجار إذا كان شريكا في الطريق والبئر ، ولا تثبت الشفعة بالشركة بالجدار ، ولا بالشركة في السيل .
وأجاب ابنه عبد الله بما نصه : قولك : هل تثبت الشفعة بالشركة في البئر والطريق ومسيل الماء ؟
فالمفتى به عندنا : أنها تثبت بذلك ، كما هو اختيار الشيخ تقي الدين وغيره من العلماء . اهـ .
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ثبوت الشفعة بالشركة بالسيل ؟
فأجاب : المذهب : عدم ثبوت الشفعة بالطريق والسيل مثله ، واختيار الشيخ . التشفيع بمرافق الأملاك من الطريق والبئر والسيل ، وهو الذي عليه الفتوى عند أئمة الدعوة ؛ لحديث : « الجار أحق بشفعة جاره ، ينتظر بها ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (3) ولمفهوم حديث : « فإذا وقعت
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(2) [ إعلام الموقعين ] ( 2\126 - 135 ) .
(3) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).

الحدود ، وصرفت الطرق فلا شفعة » (1) وهو الذي نفتي به . اهـ (2) .
وقال ابن حزم : والشفعة واجبة ، وإن كانت الأجزاء مقسومة ، إذا كان الطريق إليها واحدا متملكا نافذا أو غير نافذ لهم ، فإن قسم الطريق أو كان نافذا غير متملك لهم فلا شفعة حينئذ ، كان ملاصقا أو لم يكن .
برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فإذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق ، فلا شفعة » (3) فلم يقطعها عليه السلام إلا باجتماع الأمرين معا : وقوع الحدود ، وصرف الطرق ، لا بأحدهما دون الآخر . اهـ (4) .
وأما الجار غير الشريك :
فقد ذهب الحنفية إلى القول بحقه في الأخذ بالشفعة على شرط انتفاء من هو أحق منه بها ؛ كالخليط في المبيع أو في حقه ، وذهب إلى القول بذلك : ابن شبرمة ، والثوري ، وابن أبي ليلى .
قال في [ الهداية ] : الشفعة واجبة للخليط في نفس المبيع ، ثم للخليط في حق المبيع ؛ كالشرب ، والطريق ، ثم للجار . أفاد هذا اللفظ ثبوت حق الشفعة لكل واحد من هؤلاء وأفاد الترتيب .
أما الثبوت : فلقوله عليه الصلاة والسلام : « الشفعة لشريك لم يقاسم » ولقوله عليه الصلاة والسلام : « جار الدار أحق بالدار ، ينتظر له ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (5) ولقوله عليه الصلاة والسلام : « الجار أحق
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).
(2) [ الدرر السنية ] ( 5\224 ، 225 ) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).
(4) [ المحلى ] ( 10\33 ) .
(5) سنن الترمذي الأحكام (1368),سنن أبو داود البيوع (3517),مسند أحمد بن حنبل (5/8).

بسقبه قيل : يا رسول الله ، ما سقبه ؟ قال : شفعته » (1) . ويروى « الجار أحق بشفعته » (2) .
إلى أن قال : وأما الترتيب : فلقوله عليه الصلاة والسلام : « الشريك أحق من الخليط ، والخليط أحق من الشفيع » فالشريك في نفس المبيع والخليط في حقوق المبيع والشفيع هو الجار . اهـ (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).
(2) سنن الترمذي الأحكام (1369),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2494),مسند أحمد بن حنبل (3/303),سنن الدارمي البيوع (2627).
(3) [ الهداية ] ( 2\24 ) .

أ -

أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الجار أو الشريك في حق المبيع ومناقشتها
استدل القائلون بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الشريك في حق المبيع أو الجار بما يأتي :
1 - ما في [ صحيح البخاري ] عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : « قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (1) وفي لفظ : « إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم » (2) إلخ .
2 - ما في [ صحيح مسلم ] من حديث أبي الزبير عن جابر قال : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط ، ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه » (3) إلى آخر الحديث .
3 - ما روى الشافعي بإسناده إلى أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2101),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).

« الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة » (1) .
4 - ما في [ سنن أبي داود ] بإسناد صحيح إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها » (2) .
5 - ما في [ الموطأ ] بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم ، فإذا صرفت الطرق ووقعت الحدود فلا شفعة » (3) .
6 - ما ذكره سعيد بن منصور بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - قال : ( إذا صرفت الحدود وعرف الناس حدودهم فلا شفعة بينهم ) .
فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن الشفعة مشروعة فيما هو مشاع غير مقسوم ، ولأن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والأحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقص قيمة الملك بالقسمة . أما إذا قسمت الأرض فوقعت الحدود وصرفت الطرق ، فلا شفعة حينئذ لانتفاء الضرر بذلك .
ووجه القائلون بذلك القول : حصر الشفعة للشريك دون غيره ، وأجابوا عن الأحاديث الوارثة بالشفعة للجار .
فقال ابن القيم رحمه الله :
قالوا : وقد فرق الله بين الشريك والجار شرعا وقدرا ، ففي الشركة
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(2) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(3) صحيح البخاري البيوع (2101),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296),سنن الدارمي البيوع (2628).

حقوق لا توجد في الجوار ، فإن الملك في الشركة مختلط ، وفي الجوار متميز ، ولكل من الشريكين على صاحبه مطالبة شرعية ومنع شرعي ؛ أما المطالبة ففي القسمة ، وأما المنع فمن التصرف ، فلما كانت الشركة محلا للطلب ومحلا للمنع كانت محلا للاستحقاق بخلاف الجوار ؛ فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف ، والمعنى الذي وجبت به الشفعة : رفع مئونة المقاسمة ، وهي مئونة كثيرة ، والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عرضه لمئونة عظيمة فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشقص على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري ، ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل البيع ؛ لأن شريكه مثله ومساو له في الدرجة فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه ، فإذا باع صار المشتري دخيلا والشريك أصيلا ، فرجح جانبه ، وثبت له الاستحقاق ، قالوا :
وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضا يقصد رفع الضرر عن المشتري ، ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري ، فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله ، وإذا سلط الجار على إخراجه وانتزع داره منه أضر به إضرارا بينا . وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا وتطلبه دارا لا جوار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر ، فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق ؛ لئلا يضر الناس بعضهم بعضا ، ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده ، وهذا بخلاف الشريك وأن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به . قالوا : وحينئذ تعين حمل أحاديث

شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة فيكون لفظ الجار فيها مرادا به الشريك .
ووجه هذا الإطلاق : المعنى ، والاستعمال : أما المعنى : فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه ، فهما جاران حقيقة ، وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران ؛ ولذا سميت الزوجة جارة ، كما قال الأعشى :
أجارتنا بيني فإنك طالقة
. . . . . . . . . . . .
فتسمية الشريك جارا أولى وأحرى . وقال حمل بن مالك : كنت بين جارتين لي . . هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة ، فأما إن كان المراد بالحق فيها : حق الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة ، وأيضا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد البيع ، فأين ثبوت حق الانتزاع من المشتري ، ولا يلزم من ثبوت هذا الحق ثبوت حق الانتزاع . اهـ (1) .
وقد ناقش القائلون بثبوت الشفعة للجار هذه الأدلة بما يأتي :
1 - بالنسبة لحديث جابر : فإن قوله : « فإن وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (2) . . فقد ذكر أبو حاتم بأنه مدرج من قول جابر ، قالوا : ويؤيد ذلك أن مسلما لم يخرج هذه الزيادة .
وأجيب عن ذلك : بأن الأصل أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتى يثبت
__________
(1) [ إعلام الموقعين ] ( 2\122 - 124 ) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296),سنن الدارمي البيوع (2628).

الإدراج بدليل ، فضلا عن أن هذه الزيادة قد وردت في حديث آخر ، كحديث أبي هريرة .
2 - وأما القول : بأن العقار إذا كان مقسوما معروف الحدود مصرفة طرقه فلا ضرر على مالكه بتداول الأيدي المجاورة فغير صحيح . ذلك أن في الضرر الذي قصد الشارع رفعه ضرر سوء الجوار ، فإن الجار قد يسيء الجوار غالبا ، فيعلي الجدار ، ويتتبع العثار ، ويمنع الضوء ، ويشرف على العورة ، ويطلع على العثرة ، ويؤذي جاره بأنواع الأذى ، وقد أجمعت الأدلة على ثبوت الشفعة للشريك لدفع الضرر الناشئ عنه اشتراك في الغالب ، فإذا ثبتت الشفعة في الشركة في العقار لإفضائها إلى المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثبوت فيها .
3 - وأما الاحتجاج بما في [ صحيح البخاري ] : « فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (1) فعلى فرض انتفاء الإدراج من جابر فإن الجار المشترك مع غيره في مرفق خاص ما ، مثل : أن يكون طريقهما واحدا ، أو أدنى يشتركا في شرب أو مسيل أو نحو ذلك من المرافق الخاصة لا يعتبر مقاسما مقاسمة كلية ، بل هو شريك لجاره في بعض حقوق ملكه ، إذا كان طريقهما واحدا لم تكن الحدود كلها واقعة ، بل بعضها حاصل ، وبعضها منتف ، إذ وقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق (2) .
4 - وأما القول بأن الشفعة شرعت للشريك لدفع ضرر المقاسمة فغير
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).
(2) انظر [ إعلام الموقعين ] ( 2\116 -126 ) و [ نيل الأوطار ] ( 5\352 ، 353 ) .

مسلم به ، فمشروعيتها لرفع الضرر مطلقا ، سواء كان الضرر ناتجا عن المقاسمة أم عن الاشتراك . وتخصيص الشفعة برفع ضرر معين دون غيره من الأضرار تخصيص يحتاج إلى ما يسنده شرعا ، وأيضا فلو كانت الشفعة مشروعة لدفع ضرر المقاسمة فقط ؛ لثبتت مشروعيتها في المنقولات المشتركة لرفع ضرر المقاسمة فيها .

ب -

أدلة القائلين بثبوت الشفعة بحق المبيع ومناقشتها
استدل القائلون بثبوت الشفعة بالمرافق الخاصة وبالجوار بما يأتي :
1 - ما روى البخاري في [ صحيحه ] عن عمرو بن الشريد ، قال : وقفت على سعد بن أبي وقاص ، فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي ، إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا سعد ، ابتع مني بيتي في دارك ، فقال سعد : والله ما أبتاعهما ، فقال المسور : والله لتبتاعنها فقال سعد : والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة ، فقال أبو رافع : لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الجار أحق بسقبه » (1) ما أعطيتكها بأربعة آلاف ، وأنا أعطى بها خمسمائة دينار ، فأعطاه إياها .
وجه الدلالة من ذلك قوله : « الجار أحق بسقبه » (2) أي : بقربه ، أي : إن الجار أحق بالدار من غيره لقربه ، ويدل على أن المقصود بأحقية الجار شفعته الأحاديث الآتية :
2 - روى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي بإسناده إلى جابر بن
__________
(1) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).
(2) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).

عبد الله - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحد » (1) وقد حسنه الترمذي .
3 - روى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن سمرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « جار الدار أحق بالدار من غيره » (2) .
4 - روى أحمد والنسائي وابن ماجه « عن الشريد بن سويد قال : قلت : يا رسول الله ، أرضي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار فقال : الجار أحق بسقبه ما كان » (3) .
كما استدلوا من جهة المعنى :
بقولهم : واللفظ لابن القيم رحمه الله : إن حق الأصيل - وهو الجار - أسبق من حق الدخيل ، وكل معنى اقتضى ثبوت الشفعة للشريك فمثله في حق الجار ، فإن الناس يتفاوتون في الجوار تفاوتا فاحشا ، ويتأذى بعضهم ببعض ، ويقع بينهم من العداوة ما هو معهود ، والضرر بذلك دائم متأبد ، ولا يندفع ذلك إلا برضا الجار ، إن شاء أقر الدخيل على جواره ، وإن شاء انتزع الملك بثمنه واستراح من مئونة المجاورة ومفسدتها ، وإذا كان الجار يخاف التأذي على وجه اللزوم كان كالشريك يخاف التأذي بشريكه على وجه اللزوم ؛ فوجب بحكم عناية الشارع ورعايته لمصالح العباد إزالة الضررين جميعا على وجه لا يضر البائع . اهـ (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).
(2) سنن الترمذي الأحكام (1368),سنن أبو داود البيوع (3517),مسند أحمد بن حنبل (5/8).
(3) سنن النسائي البيوع (4703),سنن ابن ماجه الأحكام (2496).
(4) [ إعلام الموقعين ] ( 2\120 ، 121 ) .

المناقشة
أجاب القائلون بحصر الشفعة في الشريك دون غيره بما يأتي :
1 - بالنسبة لحديث أبي رافع رضي الله عنه : فقد ذكر الحافظ ابن حجر في معرض شرحه هذا الحديث ، وإيراده وجه استدلال الحنفية به على ثبوت الشفعة للجار ، وإلزام الشافعية بالقول به ؛ لكون الجار حقيقة في المجاورة ، مجازا في الشريك ، قال ما نصه : إن محل ذلك عند التجرد وقد قامت القرينة هنا على المجاز ، فاعتبر للجمع بين حديثي جابر وأبي رافع ، فحديث جابر صريح في اختصاص الشفعة بالشريك ، وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقا ؛ لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك ، والذين قالوا بشفعة الجار قدموا الشريك مطلقا ، ثم المشارك في الطريق ، ثم الجار على من ليس بمجاور ، فعلى هذا يتعين تأويل قوله : ( « أحق » (1) بالحمل على الفضل أو التعهد ونحو ذلك . اهـ (2) .
2 - بالنسبة لحديث جابر « الجار أحق بشفعة جاره » (3) إلخ ، فقال الترمذي : لا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر ، وقد تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث ، ثم قال : سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث ، فقال : لا أعلم أحدا رواه عن عطاء غير عبد الملك تفرد به ، ويروى عن جابر خلاف هذا . اهـ . قال شعبة : سها فيه عبد الملك ، فإن روى حديثا مثله طرحت
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2572),صحيح مسلم النكاح (1418),سنن الترمذي النكاح (1127),سنن النسائي النكاح (3281),سنن أبو داود النكاح (2139),سنن ابن ماجه النكاح (1954),مسند أحمد بن حنبل (4/150),سنن الدارمي النكاح (2203).
(2) [ فتح الباري ] (4\438) .
(3) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).

حديثه ، ثم ترك شعبة التحديث عنه ، وقال أحمد : هذا الحديث منكر . وقال ابن معين : لم يروه غير عبد الملك ، وقد أنكروه عليه . اهـ (1) .
وقد أجاب ابن القيم رحمه الله عن الطعن في حديث جابر فقال : إن عبد الملك هذا حافظ ثقة صدوق ، ولم يتعرض له أحد بجرح ألبتة ، وأثنى عليه أئمة زمانه ومن بعدهم ، وإنما أنكر عليه من أنكر هذا الحديث ظنا منهم أنه مخالف لرواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم : « الشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (2) .
ولا تحتمل مخالفة العرزمي لمثل الزهري ، وقد صح هذا من رواية جابر عن الزهري عن أبي سلمة عنه ، ومن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عنه ، ومن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه ، فخالفه العرزمي ؛ ولهذا شهد الأئمة بإنكار حديثه ، ولم يقدموه على حديث هؤلاء . . إلى أن قال : وحديث جابر الذي أنكره من أنكره على عبد الملك صريح فيه ، فإنه قال : « الجار أحق بسقبه ينتظر به ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (3) فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ، ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله : « فإذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق فلا شفعة » (4) فمفهوم حديث عبد الملك هو بعينه منطوق حديث أبي سلمة ، فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه لا يعارضه ويناقضه ، وجابر روى اللفظين . . . إلى أن قال : وحديث أبي رافع الذي رواه البخاري يدل على مثل ما دل عليه حديث عبد الملك فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق فإن
__________
(1) [ نيل الأوطار ] ( 3\355 ) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(3) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).
(4) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).

البيتين كانا في نفس دار سعد والطريق واحد بلا ريب . اهـ (1) .
3 - وأما حديث الشريد بن سويد ، فقال الخطابي : قد تكلم أهل الحديث في إسناده ، واضطراب الرواة عنه ، فقال بعضه : عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع ، وقال بعضهم : عن أبيه عن أبي رافع ، وأرسله بعضهم . وذكر ابن قدامة رحمه الله عن ابن المنذر قوله : الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جابر الذي رويناه ، وما عداه من الأحاديث فيها مقال (2) .
وأجيب عن ذلك : بما ذكره ابن القيم رحمه الله عن البخاري بخصوص حديث الشريد بن سويد ، أو عمرو بن الشريد قال : قال البخاري : وهو أصح عندي من رواية عمرو عن أبي رافع - يعني : حديث أبي رافع مع سعد ابن أبي وقاص - وقال أيضا : كلا الحديثين عندي صحيح (3) .
وقال ابن حزم في معرض مناقشته الأحاديث والآثار التي استدل بها أهل هذا القول ما نصه : ثم نظرنا في حديث عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن أبيه فوجدناه لا متعلق لهم به ؛ لأنه ليس فيه إلا « الجار أحق بسقبه » (4) وليس فيه للشفعة ذكر ولا أثر ، وقد حدثنا همام ، حدثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي قال : سمعت عمرو بن الشريد يحدث عن الشريد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
__________
(1) [ إعلام الموقعين ] ( 2\119 - 125 ) .
(2) [ المغني ] ( 5\257 ) .
(3) [ إعلام الموقعين ] ( 2\117 ) .
(4) صحيح البخاري الشفعة (2139),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/10).

« المرء أحق وأولى بصقبه » (1) ، قلت لعمرو : ما صقبه ؟ قال : الشفعة ، قلت : زعم الناس أنها الجوار ، قال : الناس يقولون ذلك ، فهذا راوي الحديث عمرو بن الشريد لا يرى الشفعة بالجوار ، ولا يرى لفظ ما روى يقتضي ذلك ، فبطل كل ما موهوا به . ثم لو صحت هذه الأحاديث ببيان واضح أن الشفعة للجار لكان حكمه عليه الصلاة والسلام ، وقوله وقضاؤه : « فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (2) يقضي على ذلك كله ويرفع ، فكيف ولا بيان في شيء منها . اهـ (3) .
4 - وأما حديث سمرة : ففي سماع الحسن من سمرة ، مقال معروف لدى علماء الحديث ، قال يحيى بن معين : لم يسمع الحسن من سمرة ، وإنما هي صحيفة وقعت إليه ، وقال غيره : لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة .
وقد أجاب عن ذلك ابن القيم رحمه الله حيث قال : قد صح سماع الحسن من سمرة ، وغاية هذا أنه كتاب ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديما وحديثا ، وأجمع الصحابة على العمل بالكتب ، وكذلك الخلفاء بعدهم ، وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب ، فإن لم يعمل بما فيها تعطلت الشريعة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي فيعمل بها من تصل إليه ، ولا يقول هذا كتاب ، وكذلك خلفاؤه من بعده والناس إلى اليوم ، فرد السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل ، والحفظ
__________
(1) صحيح البخاري الحيل (6580),سنن النسائي البيوع (4702),سنن أبو داود البيوع (3516),سنن ابن ماجه الأحكام (2495),مسند أحمد بن حنبل (6/390).
(2) صحيح البخاري البيوع (2099),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296).
(3) [ المحلى ] ( 10\42 ) ] .

يخون ، والكتاب لا يخون . اهـ (1) .
ويمكن أن يجاب عن قول ابن القيم رحمه الله : بأن الغالب على طالب العلم أن يسجل كل ما عن له من صحيح وضعيف ، وما له وجه وما لا وجه له ، على أمل أن يتم له النظر لإبعاد ما لا وجه له ولا صحة ، ويحمل أن يعجله الأجل قبل ذلك بخلاف ما يؤلفه طالب العلم وينشره بين الناس فإنه بنشره يعتبر في حكم المقتنع بوجاهته وصحة ما فيه مما يراه ، وكذا ما يكتبه الوالي إلى عماله أو غيرهم ، فإنه يكتب ما يكتب عن اقتناع بوجاهة ما كتبه .
5 - وأما الاحتجاج على مشروعية الشفعة للجار بالمعنى ، فقد أجاب عن ذلك ابن القيم رحمه الله ، وسبق نقل ذلك عنه (2) .
__________
(1) [ إعلام الموقعين ] ( 2\117 )
(2) انظر [ إعلام الموقعين ] (2\122 - 124) .

4 -

الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى
إذا انتقل ما يجب فيه الشفعة إلى الغير بعوض غير مسمى :
فقد ذهب الحنفية إلى نفي الشفعة فيه .
قال في [ الهداية ] : ولا شفعة في الدار التي يتزوج الرجل عليها أو يخالع المرأة بها أو يستأجر بها دارا أو غيرها أو يصالح بها عن دم عمد أو يعتق عليها عبدا ؛ لأن الشفعة عندنا إنما تجب في مجادلة المال بالمال لما بينا ، وهذه الأعواض ليست بأموال ، فإيجاب الشفعة فيها خلاف المشروع ،

وقلب الموضوع . . . إلى أن قال : أو يصالح عنها بإنكار ؛ لأنه يحتمل أنه بذل المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب خصمه كما إذا أنكر صريحا . اهـ (1) .
وذهب المالكية إلى إثباتها :
قال في [ المدونة ] : قلت : أرأيت إن تزوجت على شقص من دار ، أو خالعت امرأتي على شقص من دار ، أيكون في ذلك الشفعة في قول مالك ؟ قال : نعم ، مثل : النكاح والخلع ، وقلت : فبماذا يأخذ الشفيع في الخلع والنكاح والصلح في دم العمد الشقص ؟ قال : أما في النكاح والخلع ، فقال لي مالك : يأخذ الشفيع الشقص بقيمته ، وأرى الدم العمد مثله يأخذه بقيمته اهـ (2) .
وذهب الشافعية إلى ثبوت الشفعة فيما أخذ بعوض غير مالي :
قال الشربيني على قول صاحب [ المنهاج ] : وإنما تثبت في ملك بمعاوضة ملكا لازما متأخرا عن ملك الشفيع ، كمبيع ومهر وعوض خلع وصلح دم ونجوم وأجرة ورأس مال مسلم . قال : بمعاوضة محضة كالبيع ، أو غير محضة كالمهر ، أما البيع فبالنص والباقي بالقياس عليه ، بجامع الاشتراك في المعاوضة مع لحوق الضرر . اهـ (3) .
وأما الحنابلة : فالصحيح من المذهب : أنه لا شفعه فيه ؛ لأنه مملوك بلا مال أشبه الموهوب والموروث ، ولأنه يمتنع أخذه بمهر المثل وبقيمته ؛
__________
(1) [ الهداية ] ( 4\35 ، 36 ) .
(2) [ المدونة ] ( 5\441 ) .
(3) [ مغني المحتاج ] ( 2\298 ) .

لأنها ليست عوض الشقص .
قال المرداوي : قوله : ولا شفعة فيما عوضه غير المال كالصداق وعوض الخلع والصلح عن دم العمد في أحد الوجهين ، وأطلقهما في [ الهداية ] و [ المذهب ] و [ المستوعب ] و [ التلخيص ] و [ المحرر ] و [ الرعاية الكبرى ] و [ الفروع ] و [ الفائق ] وظاهر [ شرح ] : الإطلاق :
أحدهما : لا شفعة في ذلك ، وهو الصحيح من المذهب ، قال في [ الكافي ] : لا شفعة فيه في ظاهر المذهب ، قال الزركشي : هذا أشهر الوجهين عند القاضي وأكثر أصحابه ، قال ابن منجى : هذا أولى ، قال الحارثي : أكثر الأصحاب قال بانتفاء الشفعة ، منهم : أبو بكر ، وابن أبي موسى ، وأبو علي بن شهاب ، والقاضي ، وأبو الخطاب في [ رءوس المسائل ] وابن عقيل والقاضي يعقوب ، والشريفان : أبو جعفر وأبو القاسم الزبدي ، والعكبري ، وابن بكروس ، والمصنف ، وهذا هو المذهب ؛ ولذلك قدمه في المتن . اهـ .
وهو ظاهر كلام الخرقي ، وصححه في [ التصحيح ] و [ النظم ] وجزم به في [ العمدة ] و [ الوجيز ] و [ المنور ] و [ الحاوي الصغير ] وغيرهم ، وقدمه في [ المغني ] و [ الشرح ] وفى شرح الحارثي ، وغيرهم .
والوجه الثاني : فيه الشفعة ، اختاره ابن حامد ، وأبو الخطاب في [ الانتصار ] وابن حمدان في [ الرعاية الصغرى ] وقدمه ابن رزين في [ شرحه ] . فعلى هذا القول يأخذه بقيمته على الصحيح . اهـ (1) .
__________
(1) [ الإنصاف ] ( 6\252 ، 253 ) .

5 -

الشفعة بشركة الوقف
اختلف العلماء رحمهم الله في جواز الشفعة في الوقف :
فذهب الحنفية إلى أن لا شفعة للوقف ولا في الوقف ؛ لأنه لا مالك له معين :
قال في [ الدر المختار ] ما نصه :
ولا شفعة في الوقف ، ولا له نوازل ، ولا بجواره ، قال المصنف : قلت : وحمل شيخنا الرملي الأول على الأخذ به ، والثاني على أخذه بنفسه إذا بيع ، وأما إذا بيع بجواره أو كان بعض المبيع ملكا وبعضه وقفا وبيع الملك فلا شفعة للوقف .
وقال في [ الحاشية ] : قوله : أو كان بعض المبيع ملكا . . . إلخ ، حاصله : أنه لا شفعة له بجوار ولا بشركة ، فهو صريح بالقسمين ، كما أشار الشارح بنقل عبارة النوازل ، ونبهنا عليه ، قوله : فلا شفعة للوقف إذ لا مالك له . اهـ (1) .
وقال الكاساني في معرض تعداده شروط الأخذ بالشفعة ما نصه :
ومنها : ملك الشفيع وقت الشراء في الدار التي يأخذها بالشفعة ؛ لأن سبب الاستحقاق جوار الملك ، والسبب إنما ينعقد سببا عند وجود الشرط ، والانعقاد أمر زائد على الوجود ، فإذا لم يوجد عند البيع كيف
__________
(1) [ حاشية ابن عابدين ] ( 6\223 )

ينعقد سببا ، فلا شفعة له بدار يسكنها بالآجار والإعارة ، ولا بدار باعها قبل الشراء ، ولا بدار جعلها مسجدا ، ولا بدار جعلها وقفا ، وقضى القاضي بجوازه أو لم يقض على قول من يجيز الوقف ؛ لأنه زال ملكه عنها لا إلى أحد . اهـ (1) .
وذهب المالكية إلى أنه لا شفعة بالوقف إلا للواقف نفسه بشرط أن يضيف ما يأخذ بالشفعة إلى ما أوقفه ، أو أن يجعل ذلك للناظر بأن ينص في ولايته على الأخذ بالشفعة ليضاف إلى الوقف ، أو أن يئول الوقف إلى الموقوف عليهم ، فلهم حق الأخذ بالشفعة ولو لم يوقفوا ، أو أن يئول النظر أو الاستحقاق إلى بيت المال فللسلطان الأخذ له بالشفعة .
قال أبو البركات أحمد الدردير في معرض تعداد من يجوز لهم الأخذ بالشفعة ما نصه :
أو كان الشفيع محبسا لحصته قبل بيع شريكه فله الأخذ بالشفعة ليحبس الشقص المأخوذ أيضا ، قال : منها : دار بين رجلين حبس أحدهما نصيبه على رجل وولده ، وولد ولده ، فباع شريكه في الدار نصيبه ، فليس للذي حبس ولا للمحبس عليهم أخذ بالشفعة إلا أن يأخذ المحبس فيجعله في مثل ما جعل نصيبه الأول . انتهى .
وهذا إذا لم يكن مرجعها له ، وإلا فله الأخذ ولو لم يحبس . كأنه يوقف على عشرة مدة حياتهم ، أو يوقف مدة معينة فله الأخذ مطلقا ، كسلطان له
__________
(1) [ بدائع الصنائع ] ( 6\2704 ) .

الأخذ بالشفعة لبيت المال ، قال سحنون في المرتد : يقتل ، وقد وجبت له شفعة : أن للسلطان أن يأخذها إن شاء لبيت المال . اهـ (1) .
وذهب الشافعية إلى أن الوقف إن كان كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين ونحو ذلك فلا شفعة به وإن كان خاصا فلا شفعة لواقفه لزوال ملكه عنه .
وقد اختلف علماء الشافعية في ثبوت للموقوف عليه العين لاختلاف ما نقل عن الشافعي رحمه الله : هل يملك الموقوف عليه رقبة الوقف أم لا ؟
قال في [ المجموع ] : وأما إذا كان حصة الخليط وقفا نظر في الوقف : فإن كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين ، أو كان خاصا لا يملك كالوقف على جامع - فلا يستحق به شفعة في المبيع ، وإن كان خاصا على مالك الوقف على رجل بعينه أو على جماعة بأعيانهم - فلا يملك به الواقف شفعة لزوال ملكه من الوقف .
فأما الموقف عليه فقد اختلف قول الشافعي هل يكون مالكا لرقبة الوقف أم لا ؟
على قولين :
أحدهما : يستحق به الشفعة لثبوت ملكه واستضراره بسوء المشاركة .
والوجه الثاني : لا شفعة له ؛ لأنه ليس بتام الملك ولا مطلق التصرف . اهـ (2) .
__________
(1) [ الشرح الكبير ] ومعه [ حاشية الدسوقي ] ( 3\425 ) .
(2) [ المجموع ] ( 14\141 )

وذهب جمهور الحنابلة إلى القول بنفي الشفعة عن الخلطة بالوقف : لأن من شروط الأخذ بالشفعة : أن يكون الشفيع مالكا لما يشفع به ، والوقف لا يعتبر ملكا تماما لمن هو بيده ، سواء كان ناظرا أو موقوفا عليه ؛ لأنه ليس مطلق التصرف فيه .
قال ابن قدامة رحمه الله : ولا شفعة بشركة الوقف ، ذكره القاضيان : ابن أبي موسى ، وأبو يعلى ، وهو ظاهر مذهب الشافعي ؛ لأنه لا يؤخذ بالشفعة فلا تجب فيه كالمجاور وغير المنقسم ؛ ولأننا إن قلنا : هو غير مملوك ، فالموقوف عليه غير مالك ، وإن قلنا : هو مملوك فملكه غير تام ؛ لأنه لا يفيد إباحة التصرف في الرقبة ، فلا يملك به ملكا تاما . وقال أبو الخطاب : إن قلنا : هو مملوك وجبت به الشفعة ؛ لأنه مملوك بيع في شركة شقص فوجبت الشفعة كالطلق ، ولأن الضرر يندفع عنه بالشفعة كالطلق ، فوجبت فيه كوجوبها في الطلق ، وإنما لم يستحق بالشفعة ؛ لأن الأخذ بها بيع ، وهو مما لا يجوز بيعه . اهـ (1) .
وللشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله رأي في ثبوت الشفعة به فقد قال ما نصه :
فلو باع الشريك الذي ملكه طلق فلشريكه الذي نصيبه وقف الشفعة ؛ لعموم الحديث المذكور ووجود المعنى ، بل صاحب الوقف إذا لم يثبت له شفعة يكون أعظم ضررا من صاحب الطلق ؛ لتمكن المالك من البيع ،
__________
(1) [ المغني ] ( 5\284 ) .

بخلاف مستحق الوقف فإنه يضطر إلى بقاء الشركة ، وأما استدلال الأصحاب بقولهم : إن ملكه ناقص ، فالحديث لم يفرق بين الذي ملكه ناقص أو كامل ، ومنعنا إياه من البيع لتعلق حقوق من بعده به ، فالصواب إثبات الشفعة إذا باع الشريك ، سواء كان شريكه صاحب ملك طلق أو مستحقا للوقف . اهـ (1) .
وقال المنقور نقلا عن [ جمع الجوامع ] : للوقف ثلاث صور :
الأولى : إذا كان البعض وقفا والبعض ملكا ، فبيع الملك هل يأخذ رب الوقف بالشفعة ؟ على وجهين .
والثانية : إذا كان كذلك وبيع الوقف حيث جاز بيعه هل يأخذ الشريك بالملك ؟ على وجهين : المختار : نعم .
الثالثة : إذا كان الكل وقفا وبيع البعض حيث جاز بيعه فهل يجوز لرب الوقف الآخر الأخذ بها ؟ على وجهين : الصحيح : لا يجوز . اهـ (2) .
ولعل مصدر الاختلاف في ذلك الخلاف ، هل لجهات الوقف شخصية اعتبارية تكون أهلا للإلزام والالتزام كالحال في جماعة المسلمين حيث يتكافئون ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، فيكون الوقف ملكا لهم ، فإذا تصرف بعضهم أو النائب عنهم - وهو : الناظر - تصرفا فيه مصلحة للوقف وغبطة لجهاته كان كتصرفهم جميعا ، أم أن الوقف لا مالك له في الحقيقة ، وأن الشخصية الاعتبارية وهم وخيال لا مجال لها في واقع الأمر وحقيقته ؟
__________
(1) [ الفتاوى السعدية ] ص 438 .
(2) [ الفواكه العديدة في المسائل المفيدة ] ( 1\397 ) .

6 -

شفعة غير المسلم
اتفق الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ومالك والشافعي على القول بجواز شفعة غير المسلم على المسلم .
قال السرخسي : والذكر والأنثى ، والحر والمملوك ، والمسلم والكافر في حق الشفعة سواء ؛ لأنه من المعاملات ، وإنما ينبني الاستحقاق على سبب متصور في حق هؤلاء . وثبوت الحكم بثبوت سببه . اهـ (1) .
وفي [ المدونة ] ما نصه : قيل لابن القاسم : هل لأهل الذمة شفعة في قول مالك ؟ فقال : سألت مالكا عن المسلم والنصراني تكون الدار بينهما فيبيع المسلم نصيبه ، هل للنصراني فيه شفعة ؟ قال : نعم ، أرى ذلك له مثل ما لو كان شريكه مسلما . اهـ (2) .
وقال النووي : وأما قوله صلى الله عليه وسلم : « فمن كان له شريك » فهو عام يتناول المسلم والكافر والذمي ، فتثبت للذمي الشفعة على المسلم ، كما تثبت للمسلم على الذمي ، هذا قول الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة ، والجمهور . اهـ (3) .
وانفراد الإمام أحمد رحمه الله عنهم بمنع شفعة الكافر على المسلم؛ لأن تسليط الكافر على المسلم يعتبر سبيلا إليه ، قال تعالى :
__________
(1) [ المبسوط ] ( 14\99 ) .
(2) [ المدونة ] ( 5\399 ) .
(3) [ شرح صحيح مسلم ] ( 11\46 ) .

{ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } (1)
قال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي : ( ولا شفعة لكافر على مسلم ) : وجملة ذلك : أن الذمي إذا باع شريكه شقصا لمسلم فلا شفعة له عليه ، روي ذلك عن الحسن والشعبي ، وروي عن شريح وعمر بن عبد العزيز : أن له الشفعة ، وبه قال النخعي ، وإياس بن معاوية ، وحماد بن أبي سليمان ، والثوري ، ومالك ، والشافعي ، والعنبري ، وأصحاب الرأي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم « لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه ، وإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به » (2) ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب .
ولنا : ما روى الدارقطني في كتاب[ العلل ] بإسناده عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا شفعة لنصراني » وهذا يخص عموم ما احتجوا به ، ولأنه معنى يملك به يترتب على وجود ملك مخصوص ، فلم يجب للذمي على المسلم كالزكاة ، ولأنه معنى يختص العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان ، يحققه أن الشفعة إنما تثبت للمسلم دفعا للضرر عن ملكه ، فقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري، ولا يلزم من تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم تقديم دفع ضرر الذمي ، فإن حق المسلم أرجح ، ورعايته أولى ؛ ولأن ثبوت الشفعة في محل الإجماع على خلاف الأصل رعاية لحق الشريك المسلم ، وليس الذمي في معنى المسلم ، فيبقى فيه على مقتضى
__________
(1) سورة النساء الآية 141
(2) صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),مسند أحمد بن حنبل (3/316),سنن الدارمي البيوع (2628).

الأصل اهـ (1) .
وقد نصر ابن القيم رحمه الله القول بنفي شفعة الكافر على المسلم ، وناقش القائلين بثبوتها ، ورد عليهم قولهم ، فقال ما نصه : ولهذا لم يثبت عن واحد من السلف لهم حق شفعة على مسلم ، وأخذ بذلك الإمام أحمد ، وهي من مفرداته التي برز بها على الثلاثة؛ لأن الشقص يملكه المسلم إذا أوجبنا فيه شفعة لذمي كنا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى كافر بطريق القهر للمسلم ، وهذا خلاف الأصول .
والشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر بمنزلة الحقوق التي تجب للمسلم على المسلم ؛ كإجابة الدعوة ، وعيادة المريض ، وكمنعه أن يبيع على بيع أخيه ، أو يخطب على خطبته ، قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني لهم شفعة ؟ قال : لا . وكذلك نقل أبو طالب وصالح وأبو الحارث والأثرم كلهم عنه : ليس للذمي شفعة ، زاد أبو الحارث : مع المسلم ، قال الأثرم : قيل له : لم ؟ قال : لأنه ليس له مثل حق المسلم واحتج فيه .
قال الأثرم : ثنا الطباع ، ثنا هشيم ، أخبرنا الشيباني عن الشعبي : أنه كان يقول : ليس لذمي شفعة . وقال سفيان عن حميد عن أبيه : إنما الشفعة لمسلم ، ولا شفعة لذمي . وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن حماد بن زيد ، عن ليث ، عن مجاهد أنه قال : ليس ليهودي ولا لنصراني
__________
(1) [ المغني ] ( 5\320، 321 ) .

شفعة . وقال الخلال : أخبرني محمد بن الحسن بن هارون قال : سئل أبو عبد الله وأنا أسمع عن الشفعة للذمي ، قال : ليس لذمي شفعة ، ليس له حق المسلم . أخبرني عصمة بن عصام ، حدثنا حنبل قال : سمعت أبا عبد الله قال : ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة ، إنما ذلك للمسلمين بينهم . وقال في رواية إسحاق بن منصور : ليس لليهودي والنصراني شفعة ، قيل : ولم ؟ قال : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يجتمع دينان في جزيرة العرب » (1) وهذا مذهب شريح والحسن والشعبي .
واحتج الإمام أحمد بثلاث حجج :
إحداها : أن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض ، فلا حق للذمي فيها . ونكتة هذا الاستدلال أن الشفعة من حق المالك لا من حق الملك .
الحجة الثانية : قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه » (2) وتقرير الاستدلال من هذا : أنه لم يجعل لهم حقا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين ، فكيف يجعل لهم حقا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرا ؟! بل هذا تنبيه على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحق الكافر لنفي ضرر الشركة عنه ، وضرر الشركة على الكافر أهون عند الله من تسليطه على إزالة ملك المسلم عنه قهرا .
الدليل الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يجتمع دينان في جزيرة العرب » (3) .
ووجه الاستدلال من هذا : أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإخراجهم من أرضهم
__________
(1) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007),موطأ مالك الجامع (1651).
(2) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700),سنن أبو داود الأدب (5205).
(3) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007),موطأ مالك الجامع (1651).

ونقلها إلى المسلمين ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله ، فكيف نسلطهم على انتزاع أراضي المسلمين منهم قهرا وإخراجهم منها!؟ وأيضا فالشفعة حق يختص العقار فلا يساوي الذمي فيه المسلم كالاستعلاء في البنيان ، يوضحه أن الاستعلاء تصرف في هواء ملكه المختص به ، فإذا منع منه فكيف يسلط على انتزاع ملك المسلم منه قهرا وهو ممنوع من التصرف في هوائه تصرفا يستعلي فيه على المسلم ؟! فأين هذا الاستعلاء من استعلائه عليه بإخراجه من ملكه قهرا ؟! وأيضا فالشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع وإن كان فيها ضرر بالمشتري ، فإذا كان المشتري مسلما فسلط الذمي على انتزاع ملكه منه قهرا كان فيه تقديم حق الذمي على حق المسلم ، وهذا ممتنع ، وأيضا فإنه يتضمن مع إضراره بالمسلم إضرارا بالدين وتملك دار المسلمين منهم قهرا وشغلها بما يسخط الله بدل ما يرضيه ، وهذا خلاف قواعد الشرع ؛ ولذلك حرم عليهم نكاح المسلمات إذ كان فيه نوع استعلاء عليهن ، ولذلك لم يجز القصاص بينهم وبين المسلمين ولا حد القذف ، ولا يمكنون من تملك رقيق مسلم ، وقد قال الله تعالى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } (1) ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرا ، وقد قال تعالى : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } (2) .
إلى أن قال : وأيضا فلو كانوا مالكين حقيقة لما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة النساء الآية 141
(2) سورة الحشر الآية 20

بإخراجهم من جزيرة العرب ، وقال : « لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب » (1) هذا مع بقائهم على عهدهم وعدم نقضهم له ، فلو كانوا مالكين لدورهم حقيقة لما أخرجهم منها ولم ينقضوا عهدا ؛ ولهذا احتج الإمام أحمد بذلك على أنه لا شفعة لهم على مسلم .
إلى أن قال : وليس مع الموجبين للشفعة نص من كتاب الله ، ولا سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا إجماع من الأمة ، وغاية ما معهم إطلاقات وعمومات ، كقوله ( « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم » (2) وقوله : « من كان له شريك في ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه » (3) ونحو ذلك مما لا يعرض فيه للمستحق ، وإنما سيقت لأحكام الأملاك لا لعموم الأملاك (4) من أهل الملة وغيرهم ، وليس معهم قياس استوى فيه الأصل والفرع في المقتضي للحكم ، فإن قياس الكافر على المسلم من أفسد القياس ، وكذلك قياس بعضهم من تجب له الشفعة بمن تجب عليه من أفسد القياس أيضا .
ثم ذكر مجموعة من الأحكام يختلف فيها المسلم عن الكافر .
ثم قال : وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على الرد بالعيب من هذا النمط ، فإن الرد بالعيب من باب استدراك الظلامة ، وأخذ الجزء الفائت الذي يترك على الثمن في مقابلته ، فأين ذلك من تسليطه على انتزاع ملك المسلم منه قهرا واستيلائه عليه ؟ إلى آخر ما ذكره (5) .
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1767),سنن الترمذي السير (1606),سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3030),مسند أحمد بن حنبل (1/29).
(2) صحيح البخاري البيوع (2101),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/296),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3513),مسند أحمد بن حنبل (3/316),سنن الدارمي البيوع (2628).
(4) كذا في المطبوع ، ولعل الصواب : الملاك .
(5) [ أحكام أهل الذمة ] ( 1\291 -299 ) .

7 -

شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون
ذهب جمهور أهل العلم منهم الحسن وعطاء وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وسوار والعنبري إلى القول بثبوت الشفعة للصبي والمجنون يتولاها وليه إن رأى له في ذلك مصلحة وغبطة .
قال السرخسي : والصغير كالكبير في استحقاق الشفعة .
ثم ذكر توجيه ذلك فقال : ولكنا نقول سبب الاستحقاق متحقق في حق الصغير ، وهو الشركة ، أو الجوار من حيث اتصال حق ملكه بالمبيع على وجه التأبيد فيكون مساويا للكبير في الاستحقاق به .
ثم قال : ثبت له حق الشفعة ثم يقوم بالطلب من يقوم مقامه شرعا في استيفاء حقوقه ، فإن لم يكن له أحد من هؤلاء فهو على شفعته إذا أدرك ؛ لأن الحق قد ثبت له ، ولا يتمكن من استيفائه قبل الإدراك . اهـ (1) .
وفي [ المدونة ] : قلت : أرأيت لو أن صبيا وجبت له الشفعة من يأخذ له بشفعته ؟ قال : الوالد ، قيل : فإن لم يكن له والد ؟ قال : فالوصي ، قيل : فإن لم يكن له وصي ؟ قال : فالسلطان ، قلت : فإن كان في موضع لا سلطان فيه ، ولا أب له ولا وصي ؟ قال : فهو على شفعته إذا بلغ ، قال : وهذا كله قول مالك . اهـ (2) .
وقال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي : ( وللصغير إذا كبر المطالبة
__________
(1) [ المبسوط ] ( 14\98، 99 ) .
(2) [ المدونة ] ( 5\403 ) .

بالشفعة ) ما نصه :
وجملة ذلك : أنه إذا بيع في شركة الصغير شقص ثبتت له الشفعة في قول عامة الفقهاء ، منهم : الحسن ، وعطاء ، ومالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وسوار ، والعنبري ، وأصحاب الرأي .
ثم قال بعد مناقشة القائلين بمنع شفعة الصبي : إذا ثبت هذا ، فإن ظاهر قول الخرقي : أن للصغير إذا كبر الأخذ بها ، سواء عفا عنها الولي أو لم يعف ، وسواء كان الحظ في الأخذ بها أو في تركها ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور ، له الشفعة إذا بلغ فاختار ولم يفرق ، وهذا قول الأوزاعي ، وزفر ، ومحمد بن الحسن ، وحكاه بعض أصحاب الشافعي عنه ؛ لأن المستحق للشفعة يملك الأخذ بها ، سواء كان الحظ فيها أو لم يكن فلم يسقط بترك غيره كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها .
إلى أن قال : والحكم في المجنون المطبق كالحكم في الصغير سواء ؛ لأنه محجور عليه لحظه، وكذلك السفيه لذلك .
وأما المغمى عليه فلا ولاية عليه ، وحكمه حكم الغائب والمجنون ، ينتظر إفاقته . اهـ (1) .
وذهب بعض أهل العلم إلى القول بمنع الصغير من الشفعة حيث لا يمكنه أخذها في الحال ولا يمكن الانتظار بها حتى يبلغ لما في ذلك من الإضرار بالمشتري ، وليس لوليه أخذها ؛ لأنه لا يملك العفو عنها فهو لا
__________
(1) [ المغني ] ( 5\280 - 283 ) .

يملك الأخذ بها . ويروى هذا القول عن النخعي ، والحارث العكلي ، وابن أبي ليلى .
وقد رد ابن قدامة رحمه الله على أهل هذا القول ، فقال ما نصه :
قولهم : لا يمكن الأخذ غير صحيح ؛ فإن الولي يأخذ بها كما يرد المعيب ، وقولهم : لا يمكنه العفو يبطل بالوكيل فيها ، وبالرد بالعيب ، فإن ولي الصبي لا يمكنه العفو، ويمكنه الرد ؛ ولأن في الأخذ تحصيلا للملك للصبي ونظرا له ، وفي العفو تضييع وتفريط في حقه ، ولا يلزم من ملك ما فيه الحظ ملك ما فيه التضييع ، ولأن العفو إسقاط لحقه والأخذ استيفاء له . . . إلى أن قال : وما ذكروه من الضرر في الانتظار يبطل بالغائب . اهـ (1) .
__________
(1) [ المغني ] ( 5\281 ) .

8 -

شفعة الغائب
ذهب جمهور أهل العلم إلى : أن الغائب على حقه في الشفعة وإن طالت غيبته ، روى ذلك شريح والحسن وعطاء ، وبه قال الأئمة الأربعة : أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والليث والثوري والأوزاعي والعنبري ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « الشفعة فيما لم يقسم » (1) .
قال ابن رشد : فإن الذي له الشفعة رجلان : حاضر ، أو غائب ، فأما الغائب فأجمع العلماء على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع شريكه .
واختلفوا إذا علم وهو غائب .
فقال قوم : تسقط شفعته .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).

وقال قوم : لا تسقط ، وهو مذهب مالك ، والحجة له ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر : أنه قال : « الجار أحق بصقبه » أو قال : « بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبا » (1) وأيضا فإن الغائب في الأكثر معوق عن الأخذ بالشفعة فوجب عذره .
وعمدة الفريق الثاني : أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها . اهـ (2) .
وفي [ المدونة ] : قلت : أرأيت الغائب إذا علم بالشراء وهو شفيع ولم يقدم يطلب الشفعة حتى متى تكون له الشفعة ؟ قال : قال مالك : لا تقطع عن الغائب الشفعة بغيبته . قلت : علم أو لم يعلم ؟ قال : ليس ذلك عندي إلا فيما علم ، وأما فيما لم يعلم فليس فيه كلام ولو كان حاضرا . اهـ (3) .
وقال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي : ( ومن كان غائبا وعلم بالبيع وقت قدومه فله الشفعة وإن طالت غيبته ) . ما نصه :
وجملة ذلك : أن الغائب له شفعة في قول أكثر أهل العلم . وذكر توجيه القول بذلك فقال : ولنا عموم قوله عليه السلام : « الشفعة فيما لم يقسم » (4) وسائر الأحاديث ، ولأن الشفعة حق مالي وجد سببه بالنسبة إلى الغائب فيثبت له كالإرث ؛ ولأنه شريك لم يعلم بالبيع فتثبت له الشفعة عند علمه كالحاضر إذا كتم عنه البيع والغائب غيبة قريبة . اهـ (5) .
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1369),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2494),مسند أحمد بن حنبل (3/303),سنن الدارمي البيوع (2627).
(2) [ بداية المجتهد ] ( 2\259 ) .
(3) [ المدونة ] ( 5\418 ) .
(4) سنن أبو داود البيوع (3515),سنن ابن ماجه الأحكام (2497).
(5) [ المغني ] ( 5\274 ) .

وذهب بعض أهل العلم : إلى القول بمنع الغائب من الشفعة ؛ لما فيه من الإضرار بالمشتري بامتناعه عن التصرف في ملكه حسب اختياره خشية انتزاعه منه ، وهذا القول مروي عن النخعي والحارث العكلي والبتي .
ورد ابن قدامة القول بتضرر المشتري بأن ضرره يندفع بإيجاب القيمة له ، وقد يرد على ذلك بأن غيبته ما دامت غير محددة بحيث تصل إلى عشر سنين أو أكثر ، فإن تضرر المشتري ببقاء مشتراه معلقا حتى يحضر فيقرر رغبته في الشفعة من عدمها لا يقابل برد القيمة إليه ؛ لما في ذلك من تعطل هذه القيمة عن الإدارة ، فضلا عما في ذلك من تعطيل هذا العقار عن التعمير لتكون منفعته العامة والخاصة أكثر .

9 -

شفعة الوارث
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في جواز شفعة الوارث من عدمه تبعا لاختلافهم في متعلق حق الشفعة : هل هو متعلق بالملك فيورث ، أم بالمالك فيمتنع إرثه لموت صاحبه ، وقد تحصل من اختلافهم في المسألة ثلاثة أقوال :
أحدهما : إذا لم يأخذها الشفيع قبل موته فلا يجوز لوارثه أخذها مطلقا ، سواء طالب بها مورثه أم لم يطالب بها ؛ لأن سبب أخذه الشفعة زال بموته وهو الملك ، وقيام السبب إلى وقت الأخذ شرط لثبوت الحق في ذلك ، وقد قال بهذا القول جمهور أهل الرأي .
قال السرخسي : وإذا مات الشفيع بعد البيع ، وقبل أن يأخذ بالشفعة لم

يكن لوارثه حق الأخذ بالشفعة عندنا ، ثم علل ذلك بقوله : ونحن نقول : مجرد الرأي والمشيئة لا يتصور فيه الإرث ؛ لأنه لا يبقى بعد موته ليخلفه الوارث فيه ، والثابت له بالشفعة مجرد المشيئة بين أن يأخذ أو يترك ، ثم السبب الذي به كان يأخذ بالشفعة يزول بموته وهو ملكه ، وقيام السبب إلى وقت الأخذ شرط لثبوت حق الأخذ له . اهـ (1) .
وقال في [ الدر المختار ] : ويبطلها موت الشفيع قبل الأخذ بعد الطلب أو قبله ، ولا تورث خلافا للشافعي . قال في الحاشية : قوله : ( ويبطلها موت الشفيع . . إلخ ) لأنها مجرد حق التملك ، وهو لا يبقى بعد موت صاحب الحق فكيف يورث ؟! اهـ (2) .
القول الثاني : أن حق الشفعة لا يورث إلا إذا طالب بها الشفيع قبل موته ؛ لأنه متعلق بالمالك ، دون الملك ، فحيث مات قبل طلب حقه في الشفعة فإن موته مسقط لذلك الحق ، وهذا قول جمهور العلماء من الحنابلة وغيرهم .
قال ابن قدامة رحمه الله في كلامه على قول الخرقي : ( والشفعة لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها ) ما نصه :
وجملة ذلك : أن الشفيع إذا مات قبل الأخذ بها لم يخل من حالين : أحدهما : أن يموت قبل الطلب بها فتسقط ولا تنتقل إلى الورثة .
__________
(1) [ المبسوط ] ( 14\116 ) .
(2) [ حاشية ابن عابدين ] ( 6\241 ) .

وقال أحمد : الموت يبطل به ثلاثة أشياء : الشفعة ، والحد إذا مات المقذوف ، والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار ، لم يكن للورثة هذه الثلاثة الأشياء إنما هي بالطلب ، فإذا لم يطلب فليس تجب إلا أن يشهد أني على حقي من كذا وكذا ، وأني قد طلبته ، فإذا مات بعده كان لوارثه الطلب به .
وروي بسقوطه بالموت عن الحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي ، وبه قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي ، ثم ذكر المستند لذلك فقال : ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث ، كالرجوع في الهبة ، ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول .
الحال الثاني : إذا طالب بالشفعة ثم مات فإن حق الشفعة ينتقل إلى الورثة قولا واحدا ، ذكره أبو الخطاب ، وقد ذكرنا نص أحمد عليه ؛ لأن الحق يتقرر بالطلب ، ولذلك لا يسقط بتأخير الأخذ بعده ، وقبله يسقط .
وقال القاضي : يصير الشقص ملكا للشفيع بنفس المطالبة ، وقد ذكرنا أن الصحيح غير هذا ، فإنه لو صار ملكا للشفيع لم يصح العفو عن الشفعة بعد طلبها ، كما لا يصح العفو عنها بعد الأخذ بها . فإذا ثبت هذا فإن الحق ينتقل إلى جميع الورثة على حسب مواريثهم ؛ لأنه حق مالي موروث ، فينتقل إلى جميعهم كسائر الحقوق المالية . اهـ (1) .
القول الثالث : ثبوت الشفعة للورثة إذا مات مورثهم قبل العفو والأخذ
__________
(1) [ المغني ] ( 5\310 ، 311 ) .

لكون الشفعة حقا متعلقا بالملك الموروث فهي حق من حقوقه ، وقد قال بهذا القول : مالك ، والشافعي ، والعنبري ، وغيرهم ، وذكر أبو الخطاب من الحنابلة أن هذا القول يمكن تخريجه ؛ لأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فيورث كخيار الرد بالعيب .
قال الشيرازي : وإذا مات الشفيع قبل الأخذ والعفو انتقل حقه من الشفعة إلى ورثته ؛ لأنه قبض استحقه بعقد البيع ، فانتقل إلى الورثة كقبض المشتري في البيع ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب (1) .
وقال ابن رشد في معرض ذكره جملة من أحكام الشفعة هي موضع خلاف بين أهل العلم ما نصه :
فمن ذلك اختلافهم في ميراث حق الشفعة :
فذهب الكوفيون إلى أنه لا يورث ، كما أنه لا يباع .
وذهب مالك والشافعي وأهل الحجاز إلى أنها موروثة ، قياسا على الأموال (2) .
وقد رد ابن قدامة رحمه الله على أبي الخطاب في قياسه الشفعة على خيار الرد بالعيب فقال : ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث ؛ كالرجوع في الهبة ، ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول ، فأما
__________
(1) [ المجموع ومعه المهذب ] ( 14\176 ) .
(2) [ المدونة ] ( 2\260 ) .

خيار الرد بالعيب فإنه لاستدراك جزء فات من المبيع . اهـ (1) .
هذا ما تيسر ذكره ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) [ المغني ] ( 5\310 ) .

قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 44 ) وتاريخ 13\4\1396 هـ
المتعلق بمسألة الشفعة فيما لا يمكن قسمته من العقار
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد ، وآله وصحبه ، وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لمجلس هيئة كبار العلماء ، المنعقدة في مدينة الطائف في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395هـ من إدراج مسألة الشفعة بالمرافق الخاصة في جدول أعمال الدورة الثامنة فقد جرى دراسة المسألة المذكورة في دورة المجلس الثامنة المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر في مدينة الرياض .
كما جرى دراسة مسألة الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار .
وبعد الاطلاع على البحث المعد في ( مسألة الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار ) من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
وبعد تداول الرأي والمناقشة من الأعضاء ، وتبادل وجهات النظر قرر المجلس بالأكثرية :
أن الشفعة تثبت بالشركة في المرافق الخاصة ؛ كالبئر ، والطريق ، والمسيل ، ونحوها .
كما تثبت الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار ؛ كالبيت ، والحانوت ،

الصغيرين ونحوهما ؛ لعموم الأدلة في ذلك ؛ ولدخول ذلك تحت مناط الأخذ بالشفعة ، وهو دفع الضرر عن الشريك في المبيع ، وفي حق المبيع ، ولأن النصوص الشرعية في مشروعية الشفعة تتناول ذلك ، ومن ذلك ما رواه الترمذي بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الشريك شفيع ، والشفعة في كل شيء » (1) وفي رواية الطحاوي بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم : « قضى بالشفعة في كل شيء » . قال الحافظ : حديث جابر لا بأس برواته ، ولما روى الإمام أحمد والأربعة بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها ، وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحدا » (2) قال في [ البلوغ ] : ورجاله ثقات ، ولما روى البخاري في [ صحيحه ] وأبو داود والترمذي في [ سننهما ] بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : « قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة » (3) .
ووجه الاستدلال بذلك : ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه : [ إعلام الموقعين ] : أن الجار المشترك مع غيره في مرفق خاص ما ، مثل : أن يكون طريقهما واحدا ، أو أن يشتركا في شرب أو مسيل ، أو نحو ذلك من المرافق الخاصة لا يعتبر مقاسما مقاسمة كلية ، بل هو شريك لجاره في بعض حقوق ملكه ، وإذا كان طريقهما واحدا لم تكن الحدود كلها واقعة ، بل بعضها حاصل ، وبعضها منتف ، إذ وقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق . اهـ .
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1371).
(2) صحيح البخاري الشركة (2363),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3518),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/310),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) صحيح البخاري الشفعة (2138),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628).

وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الثامنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان لي وجهة نظر ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
صالح بن غصون ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
محمد بن جبير لي وجهة نظر مرفقة ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

وجهة نظر المخالفين
بالنسبة إلى الشفعة بالشركة في المرافق هو : أن الشفعة لا تثبت إلا في العقار المشترك شركة مشاعة ، ولا تثبت بالاشتراك في المرافق ، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، وبالله التوفيق .
عضو المجلس ... عضو المجلس
محمد بن إبراهيم بن جبير ... محمد بن علي الحركان

(1)
حكم تشريح جثة المسلمهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم تشريح جثة المسلم (1)
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، وبعد ... فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396هـ موضوع (حكم تشريح جثة مسلم من أجل تحقيق مصالح وخدمات طبية ) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
حكم تشريح جثة المسلم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وبعد :
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثامنة المنعقدة بالرياض في شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ من إعداد بحث في (حكم تشريح جثة مسلم من أجل تحقيق مصالح وخدمات طبية) وإدراج ذلك في جدول أعمال الدورة التاسعة - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الرابع، ص35 - 81، سنة 1398هـ.

والإفتاء بحثا في ذلك، وضمنته ما يأتي :
أولا: بيان حرمة المسلم، ووجوب تكريمه حيا وميتا، وعصمة دمه حيا.
ثانيا: بيان أقسام التشريح والحاجة الداعية إلى كل قسم منها، وما يترتب على ذلك من مصالح .
ثالثا: ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم، واقتضت شق جسمه أو جثته أو قطع عضو منه حيا أو ميتا.
رابعا: المقارنة بين ما أباحه علماء الإسلام من ذلك بدافع الضرورة وتحقيق المصلحة وما يجريه الأطباء على جثث الأموات لمصالح طبية أو مصالح عامة، كإثبات الحقوق وحفظ الأمن وتحقيق السلام والاطمئنان، ثم بيان ما يترتب على ذلك من منع التشريح أو إباحته.
والله الموفق.

بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع الأول : بيان حرمة المسلم ووجوب تكريمه حيا أو ميتا وعصمة دمه ووجوب حقنه حيا :
ثبتت عصمة دم المسلم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا يحل لأحد أن يسفك دم مسلم أو يجني على بشرته أو عضو من أعضائه إلا إذا ارتكب من الجرائم ما يبيح ذلك منه أو يوجبه شرعا، كأن يقتل مؤمنا عمدا عدوانا، أو يزني وهو محصن، أو يترك دينه ويفارق الجماعة، أو يحارب الله ورسوله, ويسعى في الأرض فسادا، أو نحو ذلك مما أوجبت الشريعة فيه قصاصا أو حدا أو تعزيرا، قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } (1) إلى قوله تعالى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } (2) وقال تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } (3)
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: « خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: أتدرون أي يوم هذا ؟
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 93
(3) سورة الإسراء الآية 33

قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس يوم النحر ؟ قلنا: بلي. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . قال: أليس ذي الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال : أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا, إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت ؟! قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض » (1) (2) .
وعن ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين، التارك الجماعة » (3) (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1654),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679),سنن ابن ماجه المقدمة (233),مسند أحمد بن حنبل (5/49),سنن الدارمي المناسك (1916).
(2) [صحيح البخاري بشرح فتح الباري] (3\453) طبع \ عبد الرحمن محمد.
(3) صحيح البخاري الديات (6484),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676),سنن الترمذي الديات (1402),سنن النسائي تحريم الدم (4016),سنن أبو داود الحدود (4352),سنن ابن ماجه الحدود (2534),مسند أحمد بن حنبل (1/444),سنن الدارمي الحدود (2298).
(4) [صحيح البخاري] (8\ 38).

كما وردت نصوص كثيرة في تكريمه ورعاية حرمته بعد موته : ففي [سنن أبي داود ] وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كسر عظم الميت ككسره حيا » (1) وثبت « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس على القبور » .
إلى غير ذلك مما تدل على عصمة دم المسلم، ووجوب تكريمه حيا أو ميتا، حتى صار ذلك معلوما من الدين بالضرورة، فأغنى عن الاستدلال عليه .
ويلتحق بالمسلم في عصمة دمه وحرمته في الجملة من كان معاهدا، سواء كان عهده عن صلح أو أمان أو اتفاق على جزية، فلا يحل دمه ولا إيذاؤه ما دام في عهده، ولا تحل إهانته بعد وفاته ؛ لعموم قوله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } (2) { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (3)
وقوله: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } (4) ولما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من قتل معاهدا في غير كنهه حرم الله عليه الجنة » (5) (6) .
وقال: « من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما » (7) (8)
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616),مسند أحمد بن حنبل (6/105).
(2) سورة النحل الآية 91
(3) سورة النحل الآية 92
(4) سورة الإسراء الآية 34
(5) سنن النسائي القسامة (4747),سنن أبو داود الجهاد (2760),مسند أحمد بن حنبل (5/36),سنن الدارمي السير (2504).
(6) [سنن أبي داود] (3\191) رقم الحديث (2760).
(7) صحيح البخاري الديات (6516),سنن النسائي القسامة (4750),سنن ابن ماجه الديات (2686),مسند أحمد بن حنبل (2/186).
(8) [فتح الباري بشرح صحيح البخاري] (12\259) رقم الحديث (6914).

وما ثبت في حديث علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » (1) .
وما رواه أبو داود في [سننه] عن سليم بن عامر -رجل من حمير - أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية، فسأله , فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء » (2) فرجع معاوية (3) .
بل جاء الإسلام بحقن دماء أولاد الكفار المحاربين ونسائهم، وتحريم التمثيل بقتلاهم في الجملة عدلا منه ورحمة، كما هو معروف في حديث بريدة بن الحصيب وغيره في ذلك.
وفي [سنن أبي داود] وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كسر عظم الميت ككسره حيا! » (4) (5) .
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6870),صحيح مسلم الحج (1370),سنن الترمذي الولاء والهبة (2127),سنن النسائي القسامة (4734),سنن أبو داود الديات (4530),سنن ابن ماجه الديات (2658),مسند أحمد بن حنبل (1/119),سنن الدارمي الديات (2356).
(2) سنن الترمذي السير (1580),سنن أبو داود الجهاد (2759),مسند أحمد بن حنبل (4/113).
(3) [ سنن أبي داود] ( 3\190, 191) رقم الحديث ( 2759).
(4) سنن أبو داود الجنائز (3207),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616),مسند أحمد بن حنبل (6/105).
(5) [سنن أبي داود] ( 3\543, 544) رقم الحديث (3207).

الموضوع الثاني: بيان أقسام التشريح والضرورة الداعية إلى كل منها وما يترتب على ذلك من مصالح :
ينقسم التشريح من حيث الغرض منه إلى ثلاثة أقسام:
(أ) التشريح لمعرفة سبب الوفاة عند الاشتباه في جريمة، ويسمى الطب الشرعي.
(ب) التشريح لمعرفة سبب الوفاة عموما، ويسمى التشريح المرضي.
(ج) التشريح لمعرفة تركيب الجسم وأعضائه وغير ذلك من أجل تعلم الطب عموما.
وليس المقصود من البحث الاستقصاء في معرفة تفاصيل ما كتب عن هذه الأقسام، إذ ليس الغرض تعلم أنواع التشريح أو نوع منه، وإنما المقصود معرفة الحاجة إليه ومداها، وما يترتب عليه من مصالح عامة أو خاصة تخول الحكم عليه بالمنع والجواز، فكان من المناسب الوقوف بالبيان عند الحد الذي يمكن معه الحكم.
ففي القسم الأول: يقوم الطبيب الشرعي بتشريح الجثة عند الاشتباه في جريمة؛ ليعرف ما إذا كانت الوفاة نتيجة اعتداء بخنق، أو وخز، أو ضرب بمحدد، أو سقي سم، أو غير ذلك من ألوان الاعتداء، فتثبت الجريمة في نفسها, ثم يبحث في المتهم عن أمارات قد تصله بالجريمة أو تنتهي إلى اعترافه بها، وفي هذا إثبات للحق والحد من الاعتداء، وردع من تسول له نفسه أن يقتل خفية أو بوسائل يرى فيها الخلاص من ضبطه وعقوبته، وبهذا تحقن الدماء وتحفظ النفوس, ويعم الأمن والاطمئنان.

وقد ينتهي التشريح بإثبات الوفاة بسبب عادي لا اعتداء فيه أو باعتداء من الشخص على نفسه، ويتأكد ذلك بمعرفة أحواله والأمور الملابسة له مما قد يحدث له أزمات ومضايقات نفسية، وبهذا تذهب الظنون والأوهام، ويخلى سبيل المتهم. وربما يعثر على بعض الجثة، بالبحث عن باقيها يعثر على أجزاء أخرى قد تكون منها وقد تكون من غيرها، فيعرف الطبيب الشرعي بالتشريح أوصاف كل جزء ومميزاته من حيث السن، والذكورة والأنوثة، وطول العظام وقصرها وخواص الجلد، وما إلى ذلك من الأوصاف المميزة، وقد يتوصل بذلك إلى أن الأجزاء من جثة واحدة أو أكثر، وربما انتهى الأمر بالبحث والاستقصاء إلى نتيجة تعود على أولياء الدم بالخير، وعلى الأمة بالأمن والاطمئنان.
وفي القسم الثاني: من التشريح يعرف الطبيب المرض الذي سبب الوفاة، وقد تكثر الوفاة بسبب هذا المرض, ويخشى على الأمة انتشار الوباء فيها، فيبلغ الطبيب أولياء الأمور ليقوموا بما يلزم للحد من انتشار هذا المرض أو القضاء عليه.
وفي القسم الثالث: يقوم الطلاب بتشريح أجسام الموتى تحت إشراف الأطباء لمعرفة تركيب الجسم وأعضائه الظاهرة ومفاصلها، ومعرفة أجهزته ومكان كل جهاز منها ووظيفته وحجمه، ومقاسه صحيحا أو مريضا، وعلامة مرضه، وكيفية علاجه، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته طلاب كلية الطب في مراحل الدراسة للنهوض بهم علميا وعمليا، وإعدادهم لخدمة الأمة في مختلف الجوانب الصحية - وقاية منها، وتشخيصا وعلاجا لها.

هذه وغيرها هي الدواعي التي دعت المسئولين عامة وعلماء الطب خاصة إلى الإقدام على تشريح جثث الموتى، وترخص للمسلمين منهم في ذلك مع اعتقادهم حرمة المسلم ومن في حكمه ووجوب تكريمه، لكن هل يكفي ذلك مبررا للتشريح ومرخصا فيه أو موجبا له؟ هذا مما يتبين إن شاء الله بعد بحث الموضوعات التالية.

الموضوع الثالث: ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم واقتضت شق جسمه حيا أو جثته أو قطع عضو منه حيا أو ميتا :
تمهيد:
نظرا إلى أن من أقدم على التشريح من علماء الطب والمسئولين في الأمم قد بنوا ذلك على ما شعروا به من الحاجة إليه، وما اعتقدوه من المصالح الخاصة والعامة المترتبة عليه، ونظرا إلى أن علماء الإسلام قد بنوا ما استثنوه من القاعدة العامة في عصمة دم المسلم ومن في حكمه, ووجوب رعاية حرمته على الحاجة والمصلحة - كان لزاما علينا أن نمهد بكلمة في أنواع المصلحة ومراتبها، ثم نتبع ذلك بأقوال علماء الإسلام في المسائل المستثناة؛ ليتبين بذلك ما ينهض من المصالح للاعتبار وبناء الأحكام عليه، وما ينزل منها عن درجة الاعتبار، فلا تبنى عليه الأحكام. فسر العلماء المصلحة: بجلب المنفعة أو دفع المضرة.
وقسموها من حيث شهادة نص معين لها بالاعتبار، أو عليها بالإلغاء،

أو عدم شهادته لها أو عليها ثلاثة أقسام:
الأول: مصلحة شهد لها نص معين بالاعتبار: كالحدود التي شرعت نصا لحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فهذه مصلحة معتبرة شرعا.
والثاني: مصلحة شهد النص المعين بإلغائها: كإيجاب صيام شهرين متتابعين كفارة على من جامع من الملوك ومن في حكمهم عمدا في نهار رمضان وهو صائم، ولم ير العتق مجزئا، لكونه غير رادع لمثله؛ لسهولته بالنسبة له، فهذه مصلحة ملغاة.
والثالث: مصلحة لم يشهد نص معين باعتبارها ولا بإلغائها: ومثلوا لها بإلزام الولاة رعيتهم بدفع ضرائب عند شدة الحاجة إليها، ويسمى هذا القسم بـ: (المصلحة المرسلة)، وفي الاحتجاج بها خلاف مشهور بين أئمة الفقهاء: فمنهم من اعتبرها، ومنهم من ألغاها، ومنهم من اعتبرها إذا كانت واقعة في رتبة الضرورات دون الحاجات والتحسينات.
وذلك أنها تقسم من حيث القوة إلى ثلاث مراتب: واقعة في رتبة الضرورات، وواقعة في رتبة الحاجات، وواقعة في رتبة التحسينات. فأقواها الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة.
وقد ذكر الغزالي تفصيل ذلك، وفيما يلي نصه:
الأصل الرابع من الأصول الموهومة: الاستصلاح:
وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة، ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها، فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام:

(أ) قسم شهد الشرع لاعتبارها.
(ب) وقسم شهد لبطلانها.
(ج) وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها.
القسم الأول: أما ما شهد الشرع لاعتبارها فهي حجة، ويرجع حاصلها إلى القياس، وهو: اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع، وسنقيم الدليل عليه في القطب الرابع (1) ، فإنه نظر في كيفية استثمار الأحكام من الأصول المثمرة، ومثاله: حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر؛ لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف، فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة (2) اهـ.
القسم الثاني: ما شهد الشرع لبطلانها، مثاله: قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان: إن عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال: لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به، فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال، ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي.
__________
(1) انظر[ المستصفى] 02\101).
(2) [ المستصفى] (1\139).

القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر، فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر، وهو أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات، وإلى ما هي في رتبة الحاجات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات, وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات. ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها.
ولنفهم أولا معنى المصلحة، ثم أمثلة مراتبها:
أما المصلحة فهي: عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة, وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس.
وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب ؛ إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب؛ إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا؛ إذ به حفظ النسل والأنساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق؛ إذ به يحصل حفظ الأموال

التي هي معاش الخلق، وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق؛ ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنا، والسرقة، وشرب المسكر، أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة: فكقولنا: المماثلة مرعية في استيفاء القصاص؛ لأنه مشروع للزجر والتشفي ولا يحصل ذلك إلا بالمثل، وكقولنا: القليل من الخمر إنما حرم؛ لأنه يدعو إلى الكثير فيقاس عليه النبيذ، فهذا دون الأول؛ ولذلك اختلفت فيه الشرائع، أما تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة؛ لأن السكر يسد باب التكليف والتعبد.
الرتبة الثانية: ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير، فذلك لا ضرورة إليه، لكنه يحتاج إليه في اقتناء المصالح، وتقييد الاكتفاء خيفة من الفوات واستغناما للصلاح المنتظر في المأكل، وليس هذا كتسليط الولي على تربيته وإرضاعه وشراء الملبوس والمطعوم لأجله، فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها اختلاف الشرائع المطلوب بها مصالح الخلق، أما النكاح في حال الصغر فلا يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل، بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة باشتباك العشائر، والتظاهر بالأصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها.
أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا: لا تزوج الصغيرة إلا من كفء بمهر مثل، فإنه أيضا مناسب، ولكنه دون أصل الحاجة إلى النكاح؛ ولهذا اختلف العلماء فيه.
الرتبة الثالثة: ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، ولكن يقع موقع

التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد, ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات، مثاله: سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته، من حيث إن العبد نازل القدر والرتبة, ضعيف الحال والمنزلة باستسخار المالك إياه، فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة.
أما سلب ولايته فهو من مرتبة الحاجات؛ لأن ذلك مناسب للمصلحة، إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا، والعبد مستغرق بالخدمة، فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل، أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى، ولكن قول القائل: سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقوله: سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه، فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا , وهذا لا ينفك عن الانتظام لو صرح به الشرع.
ولكن تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى، بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه، والمناسب قد يكون منقوصا فيترك، أو يحترز عنه بعذر أو تقييد كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور رأيها في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان واقعا في الرتبة الثانية، ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفء، فهو في الرتبة الثالثة؛ لأن الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد؛ لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال، ولا يليق ذلك بالمروءة، ففوض الشرع ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج.
وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله بالإثبات عند النزاع لكان من قبيل الحاجات، ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالإعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة. وعلى الجملة فيلحق برتبة التحسينات، فإذا عرفت هذه

الأقسام فنقول: الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل، كأن يجري مجرى الضرورات فلا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له الشرع بالرأي فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس.
أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له أصل معين, ومثاله: أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا، وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم، ثم يقتلون الأسارى أيضا، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال.
فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل, وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع، لا بدليل واحد وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق، وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذ بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف كلها ضرورية قطعية كلية، وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، إذ لا يحل رمي الترس، إذ لا ضرورة وفينا غنية عن القلعة فنعدل عنها، إذ لم نقطع بظفرنا بها؛ لأنها ليست قطعية، بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا، وإلا غرقوا

بجملتهم؛ لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين؛ لأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة، ولا أصل لها. وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا، فلا رخصة فيه؛ لأن المصلحة ليست كلية، وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح، فإنه تنقدح الرخصة فيه؛ لأنه إضرار به لمصلحته, وقد شهد الشرع للإضرار بشخص في قصد صلاحه كالفصد والحجامة وغيرهما، وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام فهو كقطع اليد، لكن ربما يكون القطع لسبب ظاهرا في الهلاك، فيمنع منه؛ لأنه ليس فيه يقين الخلاص, فلا تكون المصلحة قطعية.
وبعد أن ذكر حكم الضرب في التهمة وقتل الزنديق ولو تاب، والساعي في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة وإغراء الظلمة بالناس وأموالهم وحرماتهم ودمائهم وإثارة الفتن... قال: (فإن قيل): فإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع بتسلطهم على استئصال الإسلام لو لم يقصد الترس, بل يدرك ذلك بغلبة الظن (قلنا): لا جرم ، ذكر العراقيون في المذهب وجهين في تلك المسألة، وعللوا بأن ذلك مظنون، ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو الظن القريب من القطع (1) ، والظن القريب من القطع إذا صار كليا, وعظم الخطر فيه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه. (فإن قيل): إن في توقفنا عن الساعي في الأرض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك، وغلب ذلك على الظن بما عرف من
__________
(1) والظن: القريب من القطع.

طبيعته وعادته المجربة طول عمره (قلنا): لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا كان كذلك، بل هو أولى من الترس، فإنه لم يذنب ذنبا، وهذا قد ظهرت منه جرائم توجب العقوبة وإن لم توجب القتل، وكأنه التحق بالحيوانات الضارية؛ لما عرف من طبيعته وسجيته (فإن قيل): كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة وفي مسألة الترس, وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان، وهذا يخالف قوله تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } (1) وقوله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } (2) وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر؟
فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها حظر كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها الملوك، فإذا غاية الأمر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الإسلام، فما بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين، ونخالف النص في قتل النفس التي حرم الله تعالى (قلنا): لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد، ولا يبعد المنع من ذلك، ويتأيد بمسألة السفينة, وأنه يلزم منه قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة؛ إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد محصور كعشرة مثلا, وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع، بل حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد، وإنما نشأ
__________
(1) سورة النساء الآية 93
(2) سورة الأنعام الآية 151

هذا من الكثرة، ومن كونه كليا، لكن للكلي الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد، وكذلك لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح، ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل، ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم، وإن كان التحريم عاما، ولكن نخصصه بغير هذه الصورة، فكذلك هاهنا التخصيص ممكن.
وقول القائل: هذا سفك دم محرم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي, فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد، فهذا مقطوع به من مقصود الشرع، والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل. اهـ.
وبعد ما تقدم من التهميد بالحديث عن المصالح، وبيان ما يصلح منها للاعتبار وبناء الأحكام عليه، وما لا يصلح لذلك نذكر مسائل فقهية لا تعدو أن تكون نظرية اجتهادية، وقد بنى الفقهاء حكمهم فيها نفيا وإثباتا على رعاية المصلحة.
ومن هذه المسائل ضرب من تترس به الكفار من أسارى المسلمين مثلا في الحرب، وشق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي بالأمارات، ورمي أحد ركاب سفينة خشي عليهم الغرق، فيرمى أحدهم بقرعة لينجو الباقون، وأكل مضطر من جثة إنسان ميت إنقاذا لنفسه من الهلاك، وتبييت المشركين أو رميهم بالمنجنيق ونحوه مما يعم الإهلاك به وفيهم النساء والصبيان.
وفيما يلي بيان أقوال فقهاء الإسلام في هذه المسائل، وما بنوه عليه من الدليل والمصلحة.

المسألة الأولى: ضرب أو رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين
سبق في التمهيد أن ذكر الغزالي هذه المسألة، وبين أنها مبنية على مصلحة واقعة في رتبة الضرورات، حيث إن رمي الكفار وقتلهم بما يستتبع قتل أسارى المسلمين أو إصابتهم فيه نصر المسلمين وحفظ دينهم وديارهم, ونفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وهذه من الضرورات التي اتفقت الشرائع على حفظها، وفيه أيضا تقديم المصلحة العامة للإسلام وللأمة على المصلحة الخاصة، وهي حفظ دماء المسلمين الذين تترس بهم الكفار، وهذا يتفق مع قاعدة تقديم أقوى المصلحتين عند تعارضهما، وارتكاب أدنى المفسدتين وأخفهما تفاديا لأشدهما، فكان رمي الكفار قصدا بما يستتبع قتل متترسهم من المسلمين متفقا مع مقاصد الشريعة، لكن لما تعارضت مصلحة حفظ دماء أسرى المسلمين أو من بين الكفار من المسلمين حين الحرب, ومصلحة الجهاد وما يترتب عليه من منافع, وما يترتب على تركه من مضار - كانت المسألة مثار خلاف بين الفقهاء, فرأى بعضهم قتال الكفار بما يعم كالرمي بالمنجنيق والإغراق والغازات الخانقة وأمثالها إن لم يتغلب عليهم إلا بذلك ؛ رعاية للمصلحة العامة، ورأى آخرون: أنه لا يجوز رميهم بما يعم.
وفيما يلي نصوص يتبين منها خلاف الفقهاء في ذلك وما استند إليه كل منهم من دليل أو تعليل:
أ - قال السرخسي : ولا بأس بإرساله الماء إلى مدينة أهل الحرب وإحراقهم بالنار ورميهم بالمنجنيق, وإن كان فيهم أطفال أو ناس من المسلمين أسرى أو تجار.
وقال الحسن بن زياد رحمه الله: إذا علم أن

فيهم مسلما, وأنه يتلف بهذا الصنع لم يحل له ذلك؛ لأن الإقدام على قتل المسلم حرام، وترك قتل الكافر جائز، ألا ترى أن للإمام ألا يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين، فكان مراعاة جانب المسلم أولى من هذا الوجه، ولكنا نقول: أمرنا بقتالهم، فلو اعتبرنا هذا المعنى لأدى إلى سد باب القتال معهم, فإن حصونهم ومدائنهم قل ما تخلو من مسلم عادة، ولأنه يجوز لنا أن نفعل ذلك بهم وإن كان فيهم نساؤهم وصبيانهم، وكما لا يحل قتل المسلم لا يحل قتل نسائهم وصبيانهم، ثم لا يمتنع ذلك لمكان نسائهم وصبيانهم فكذلك لمكان المسلم فلا يستقيم منع هذا، وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم : نصب المنجنيق على الطائف وأمر أسامة بن زيد رضي الله عنه بأن يحرق، وحرق حصن عوف بن مالك .
وكذلك إن تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم, وإن كان الرامي يعلم أنه يصيب المسلم، وعلى قول الحسن رضي الله عنه لا يحل له ذلك، وهو قول الشافعي ؛ لما بينا أن التحرز عن قتل المسلم فرض، وترك الرمي إليهم جائز.
ولكنا نقول: القتال معهم فرض، وإذا تركنا ذلك لما فعلوا أدى إلى سد باب القتال معهم، ولأنه يتضرر المسلمون بذلك فإنهم يمتنعون من الرمي لما أنهم تترسوا بأطفال المسلمين فيجترئون بذلك على المسلمين, وربما يصيبون منهم إذا تمكنوا من الدنو من المسلمين والضرر مدفوع، إلا أن على المسلم الرامي أن يقصد به الحربي ؛ لأنه لو قدر على التمييز بين الحربي والمسلم فعلا كان ذلك مستحقا عليه، فإذا عجز عن ذلك كان عليه أن يميز بقصده؛ لأنه وسع مثله اهـ.
ب- وفي كتاب الجهاد من [بداية المجتهد] لابن رشد : اتفق عوام

الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمنجنيق، سواء كان فيها نساء وذرية أم لم يكن؛ لما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين ) فقالت طائفة: يكف عن رميهم بالمنجنيق، وبه قال الأوزاعي، وقال الليث : وذلك جائز، ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى: { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (1) وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة.
ج- وقال في [الأم] قال الشافعي رضي الله عنه: ( إذا كان في حصن المشركين نساء وأطفال وأسرى مسلمون, فلا بأس بأن ينصب المنجنيق على الحصن دون البيوت التي فيها السكان إلا أن يلتحم المسلمون قريبا من الحصن، فلا بأس أن ترمى بيوته وجدرانه، فإذا كان في الحصن مقاتلة محصنون رميت البيوت والحصون، وإذا تترسوا بالصبيان المسلمين أو غير المسلمين والمسلمون ملتحمون - فلا بأس أن يعمدوا المقاتلة دون المسلمين والصبيان، وإن كانوا غير ملتحمين أحببت له الكف عنهم حتى يمكنهم أن يقاتلوهم غير متترسين، وهكذا إن أبرزوهم فقالوا: إن رميتمونا وقاتلتمونا قتلناهم، والنفط والنار مثل المنجنيق، وكذا الماء والدخان ) (2) اهـ.
د- وقال محمد الشربيني الخطيب الشافعي : (فإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر أو نحوه جاز ذلك، أي: الرمي بما ذكر وغيره [على المذهب]؛ لئلا
__________
(1) سورة الفتح الآية 25
(2) [ الأم] (4\287) ط 1 عام 1381 هـ.

يتعطل الجهاد بحبس مسلم عندهم، وقد لا يصيب المسلم وإن أصيب رزق الشهادة).
تنبيه: تعبيره بالجواز لا يقتضي الكراهة، سواء اضطروا إلى ذلك أم لا. وملخص ما في [الروضة] ثلاثة طرق: المذهب: إن لم يكن ضرورة كره تحرزا من إهلاك المسلم، ولا يحرم على الأظهر، وإن كان ضرورة كخوف ضررهم, أو لم يحصل فتح القلعة إلا به - جاز قطعا، وكالمسلم الطائفة من المسلمين، كما قاله الرافعي، وقضيته عدم الجواز إذا كان في المسلمين كثرة وهو كذلك (ولو التحم حرب فتترسوا بنساء) وخناثي (وصبيان) ومجانين منهم (جاز) حينئذ (رميهم) إذا دعت الضرورة إليه، ونتوقى من ذكر؛ لئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى منع الجهاد، وطريقا إلى الظفر بالمسلمين؛ لأنا إن كففنا عنهم لأجل التترس بمن ذكر لا يكفون عنا، فالاحتياط لنا أولى من الاحتياط لمن ذكر (وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم) وجوبا ؛ لئلا يؤدي إلى قتلهم من غير ضرورة، وقد نهينا عن قتلهم، وهذا ما رجحه في [المحرر].
والثاني: وهو المعتمد كما صححه في [زوائد الروضة] جواز رميهم، كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم، ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد, أو حيلة إلى استبقاء القلاع لهم، وفي ذلك فساد عظيم، واحترز المصنف بقوله: دفعوا بهم عن أنفسهم عما إذا فعلوا ذلك مكرا وخديعة لعلمهم بأن شرعنا يمنع من قتل نسائهم وذراريهم، فلا يوجب ذلك ترك حصارهم ولا الامتناع من رميهم، وإن أفضى إلى قتل من ذكر قطعا. قاله الماوردي . قال في [البحر]: وشرط جواز الرمي أن يقصد

بذلك التوصل إلى رجالهم .
(وإن تترسوا بمسلمين) ولو واحدا أو ذميين كذلك (فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم) وجوبا صيانة للمسلمين وأهل الذمة، وفارق النساء والصبيان على المعتمد بأن المسلم والذمي محقونا الدم لحرمة الدين والعهد, فلم يجز رميهم بلا ضرورة, والنساء والصبيان حقنوا لحق الغانمين، فجاز رميهم بلا ضرورة.
(وإلا) بأن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترسوا بهم حال التحام القتال بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم (جاز رميهم) حينئذ (في الأصح) المنصوص، ونقصد بذلك قتال المشركين, ونتوقى المسلمين وأهل الذمة بحسب الإمكان؛ لأن مفسدة الإعراض أعظم من مفسدة الإقدام، ويحتمل هلاك طائفة للدفع عن بيضة الإسلام ومراعاة الأمور الكلية.
والثاني: المنع إذا لم يتأت رمي الكفار إلا برمي مسلم أو ذمي، وكالذمي المستأمن. اهـ (1) .
هـ - وقال أبو محمد بن قدامة رحمه الله: (2) وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم، ويقصد المقاتلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان، ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد؛ لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم فينقطع الجهاد، وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم
__________
(1) [مغني المحتاج] (4\223, 224) ط \ الحلبي.
(2) [المغني] (9\276, 277).

يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب.
فصل: ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها قصدا؛ لما روى سعيد : حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: « لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها، فقال: ها دونكم فارموها فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذلك منها » .
ويجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى رميها؛ لأن ذلك من ضرورة رميها، وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام أو تسقيهم الماء أو تحرضهم على القتال؛ لأنها في حكم المقاتل، وهكذا الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منع قتله منهم.
وإن تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم؛ لكون الحرب غير قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه, أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم، فإن رماهم فأصاب مسلما فعليه ضمانه، وإن دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم؛ لأنها حال ضرورة ويقصد الكفار، وإن لم يخف على المسلمين لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي، فقال الأوزاعي والليث : لا يجوز رميهم؛ لقول الله تعالى: { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ } (1) الآية . قال الليث : ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق، وقال الأوزاعي : كيف يرمون من لا يرونه؟ إنما يرمون أطفال المسلمين، وقال القاضي والشافعي : يجوز رميهم إذا كانت الحرب قائمة؛ لأن تركه
__________
(1) سورة الفتح الآية 25

يفضي إلى تعطيل الجهاد . اهـ .
( و ) وقال المرداوي في [ الإنصاف ] : قوله : ( وإن تترسوا بمسلمين لم يجز رميهم إلا أن يخاف على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار ، وهذا بلا نزاع ، وظاهر كلامه : أنه إذا لم يخف على المسلمين ، ولكن لا يقدر عليهم إلا بالرمي : عدم الجواز . وهذا المذهب نص عليه ، وقدمه في [ الفروع ] وجزم به في [ الوجيز ] ، وقال القاضي : يجوز رميهم حال قيام الحرب ؛ لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد . وجزم به في [ الرعاية الكبرى ] (1) .
__________
(1) [ الإنصاف ] ( 4 \ 129 ) .

المسألة الثانية : شق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي : شق بطن الميتة لإخراج ولدها الحي فيه انتهاك لحرمتها ، ومخالفة للأدلة التي دلت على وجوب تكريمها وحرمة إيذائها ، لكن فيه الإبقاء على حياة الحمل المعصوم ، وترك شق بطنها فيه تكريمها والمحافظة على حرمتها ، لكن يلزمه القضاء على حياته ، ومخالفة للأدلة الدالة على ذلك ، فكان هذا التعارض منشأ اختلاف بين الفقهاء : فمنهم من منع شق بطنها رعاية لمصلحة تكريمها ، ورأى أنها لا تهان لمصلحة غيرها ، ومنهم من أجاز أو أوجب شق بطنها إن لم يمكن إخراج الولد منها حيا إلا بذلك ؛ إيثارا لجانب الحي على جانب الميت ، ويمكن أن يقال : إن رعاية عصمة الدم آكد من رعاية حرمة الميت ، فإن الاعتداء على الميت بقطع رقبته ، أو عضو من أعضائه مثلا لا يوجب قصاصا ولا دية ، وإنما يوجب تعمده

تعزيرا ، بخلاف قتل الحي مسلما أو ذميا فإنه يوجب في الجملة قصاصا أو دية ، والمسألة على كل حال اجتهادية . ويلتحق بذلك شق بطن من مات لإخراج ما قد بلعه من الدنانير أو الدراهم أو نحوهما ، حيث وقع فيه الخلاف أيضا ، فمنهم من منعه رعاية لحرمة الميت ، ومنهم من أجازه رعاية لحق المال .
وفيما يلي أقوال بعض الفقهاء في ذلك :
أ - قال ابن المواق : ( وبقر عن مال كثر ولو بشاهد ويمين ) . سحنون : يبقر عن دنانير في بطن الميت إلا على ما قل ، عبد الحق : في كون ما قل دون ربع دينار أو نصاب الزكاة خلاف . وأجاب أبو عمران عن مقيم شاهد على ميت لم يدفن أنه بلع دنانير يحلف ليبقر بطنه قائلا : اختلف في القصاص بشاهد واحد [ لا عن جنين ] من [ المدونة ] .
قال مالك : لا يبقر بطن الميتة إذا كان جنينها يضطرب في بطنها .
وقال سحنون : إن كملت حياته ورجي خلاصه بقر . وقال ابن عبد الحكم : رأيت رجلا مبقورا على ناقة مبقورة ، قال سند : وإذا بقر فمن خاصرتها اليسرى ، ابن يونس : الصواب عندي البقر ، لأن الميت لا يؤلمه . وقد رأى أهل العلم قطع الصلاة خوف وقوع صبي أو أعمى في بئر ، وقطع الصلاة فيه إثم ، ولكن أبيح لإحياء نفس ، فكذلك يباح بقر الميتة لإحياء ولدها الذي يتحقق موته إن ترك ، والواقع في البئر قد يحيا فكان البقر أولى ، ويحمل قول عائشة : كسر عظام الميت ككسرها حيا : إذا فعل ذلك عبثا ، وأما لأمر هو واجب فلا ، ألا ترى الحي لو أصابه أمر في جوفه يتحقق أن حياته باستخراجه لبقر عليه ، ولم يكن آثما في فعل ذلك

بنفسه أو بولده أو عبده مع أن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت ؟ قال اللخمي : إن كان الجنين في وقت لو أسقطته وهي حية لم يعش لم يبقر ، وإن كان في شهر يعيش فيه الولد إذا وضعته كالتي دخلت في السابع أو التاسع أو العاشر ، وكان متى بقر عليه رجيت حياته ، فقال مالك : لا يبقر عليه ، وقال أشهب وسحنون : يبقر عليه وهو أحسن ، وإحياء نفس أولى من صيانة ميت ( وتؤولت أيضا على البقر إن رجي ) .
أما اللخمي وابن يونس فقد اختارا البقر كما تقدم ، مصرحين بأنه خلاف قول مالك ، وذكر ابن عرفة في المسألة ثلاثة أقوال ( وإن قدر على إخراجه من محله فعل ) قال مالك : إن قدر على أن يستخرج الولد من حيث يخرج في الحياة فعل . اهـ (1) .
ب - قال أحمد الدردير : و ( بقر ) أي : شق بطن ميت ( عن مال ) له أو لغيره ابتلعه حيا ( كثر ) بأن كان نصابا ( ولو ) ثبت ( بشاهد ويمين ) ومحل التقييد بالكثير إذا ابتلعه لخوف عليه أو لمداواة ، أما لقصد حرمان الوارث فيبقر ولو قل ( لا ) يبقر ( عن جنين ) رجي لإخراجه ولا تدفن به إلا بعد تحقق موته ولو تغيرت ( وتؤولت أيضا على البقر ) وهو قول سحنون ، وقد تأولها عليه عبد الوهاب ( إن رجي ) خلاصه حيا وكان في السابع أو التاسع فأكثر ( وإن - قدر على إخراجه من محله ) بحيلة ( فعل ) اللخمي : وهو مما لا يستطاع . اهـ (2) .
__________
(1) [ مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ، لأبي عبد الله محمد المغربي المعروف بالحطاب الرعيني ، وبأسفله [ التاج والإكليل لمختصر خليل ] لأبي عبد الله محمد بن يوسف المواق ( 3 \ 76 ، 77 ) .
(2) [ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ] ( 1 \ 429 ) .

وقال النووي في [ المجمع ] على قول الشيرازي في المذهب : ( وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها ؛ لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت ) .
( الشرح ) هذه المسألة مشهورة في كتب الأصحاب وذكر صاحب الحاوي أنه ليس للشافعي فيها نص ، قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي وابن الصباغ وخلائق من الأصحاب : قال ابن سريج : إذا ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها وأخرج ، فأطلق ابن سريج المسألة ، قال أبو حامد والماوردي والمحاملي وابن الصباغ : قال بعض أصحابنا : ليس هو كما أطلقها ابن سريج ، بل يعرض على القوابل ، فإن قلن : هذا الولد إذا أخرج يرجى حياته ، وهو أن يكون له ستة أشهر فصاعدا شق جوفها وأخرج ، وإن قلن : لا يرجى بأن يكون له دون ستة أشهر لم يشق ؛ لأنه لا معنى لانتهاك حرمتها فيما لا فائدة فيه . قال الماوردي : وقول ابن سريج هو قول أبي حنيفة وأكثر الفقهاء ( قلت ) : وقطع به القاضي أبو الطيب في تعليقه والعبدري في [ الكفاية ] وذكر القاضي حسين والفوراني والمتولي والبغوي وغيرهم في الذي لا يرجى حياته وجهين : ( أحدهما ) يشق ( والثاني ) لا يشق ، قال البغوي : وهو الأصح ، قال جمهور الأصحاب : فإذا قلنا : لا نشق لم تدفن حتى تسكن حركة الجنين ويعلم أنه قد مات ، هكذا صرح به الأصحاب في جميع الطرق . . . ومختصر المسألة : إن رجي حياة الجنين وجب شق جوفها وإخراجه وإلا فثلاثة أوجه ( أصحها ) لا تشق ولا تدفن حتى يموت ( والثاني ) تشق ويخرج ( والثالث ) يثقل بطنها بشيء ليموت وهو غلط ، وإذا

قلنا : يشق جوفها شق في الوقت الذي يقال : إنه أمكن له ، هكذا قال الشيخ أبو حامد (1) . اهـ .
ج - قال النووي في [ الروضة ] : ولو ابتلع في حياته مالا ثم مات وطلب صاحبه الرد شق جوفه ويرد ، قال في [ العدة ] : إلا أن يضمن الورثة مثله أو قيمته فلا ينبش على الأصح ، وقال القاضي أبو الطيب : لا ينبش بكل حال ، ويجب الغرم في تركته ، ولو ابتلع مال نفسه ومات فهل يخرج ؟ وجهان : قال الجرجاني : الأصح يخرج . قلت : وصححه أيضا العبدري ، وصحح الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في [ كتاب المجرد ] ، عدم الإخراج ، وقطع به المحاملي في [ المقنع ] ، وهو مفهوم كلام صاحب [ التنبيه ] ، وهو الأصح . والله أعلم . وحيث قلنا : يشق جوفه ويخرج فلو دفن قبل الشق ينبش كذلك (2) اهـ .
د - وقال أبو محمد بن قدامة : قال : ( والمرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك ، فلا يشق بطنها عليه ، ويسطو عليه القوابل فيخرجنه ) .
معنى ( يسطو القوابل ) : أن يدخلن أيديهن في فرجها ، فيخرجن الولد من مخرجه ، والمذهب : أنه لا يشق بطن الميتة لإخراج ولدها ، مسلمة كانت أو ذمية ، وتخرجه القوابل إن علمت حياته بحركته ، وإن لم يوجد نساء لم يسط الرجال عليه ، وتترك أمه حتى يتيقن موته ثم تدفن ، ومذهب مالك وإسحاق قريب من هذا ، ويحتمل أن يشق بطن الأم ، إن غلب على
__________
(1) [ المجموع ] للنووي ( 1 \ 301 ) .
(2) [ الروضة ] للنووي ( 2 \ 140 ، 141 ) .

الظن أن الجنين يحيا ، وهو مذهب الشافعي ؛ لأنه إتلاف جزء من الميت لإبقاء حي ، فجاز ، كما لو خرج بعضه حيا ، ولم يمكن خروج بقيته إلا بشق ، ولأنه يشق لإخراج المال منه ، فلإبقاء الحي أولى .
ولنا : أن هذا الولد لا يعيش عادة ، ولا يتحقق أنه يحيا ، فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لأمر موهوم ، وقد قال عليه السلام : « كسر عظم الميت ككسر عظم الحي » (1) رواه أبو داود ، وفيه مثلة ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة ، وفارق الأصل ، فإن حياته منتفية ، وبقاءه مظنون ، فعلى هذا إن خرج بعض الولد حيا ولم يمكن إخراجه إلا بشق ، شق المحل ؛ وأخرج لما ذكرنا ، وإن مات على تلك الحال فأمكن إخراجه أخرج وغسل ، وإن تعذر غسله ترك ، وغسلت الأم وما ظهر من الولد ، وما بقي ففي حكم الباطن لا يحتاج إلى التيمم من أجله ؛ لأن الجميع كان في حكم الباطن ، فظهر البعض ، فتعلق به الحكم ، وما بقي فهو على ما كان عليه ، ذكر هذا ابن عقيل ، وقال : هي حادثة سئلت عنها ، فأفتيت فيها .
فصل : وإن بلع الميت مالا ، لم يخل من أن يكون له أو لغيره ، فإن كان له لم يشق بطنه ، لأنه استهلكه في حياته ، ويحتمل أنه إن كان يسيرا ترك ، وإن كثرت قيمته شق بطنه وأخرج ، لأن فيه حفظ المال عن الضياع ، ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله بمرضه ، وإن كان المال لغيره وابتلعه بإذنه فهو كماله ، لأن صاحبه أذن في إتلافه ، وإن بلعه غصبا ففيه وجهان :
أحدهما : لا يشق بطنه ، ويغرم من تركته ؛ لأنه إذا لم يشق من أجل الولد المرجو حياته فمن أجل المال أولى .
والثاني : يشق إن كان كثيرا ؛ لأن فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله
__________
(1) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1617).

إليه ، وعن الميت بإبراء ذمته ، وعن الورثة بحفظ التركة لهم ، ويفارق الجنين من وجهين :
أحدهما : أنه لا يتحقق حياته ، والثاني : أنه ما حصل بجنايته ، فعلى هذا الوجه إذا بلي جسده ، وغلب على الظن ظهور المال ، وتخلصه من أعضاء الميت - جاز نبشه وإخراجه ، وقد روى أبو داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « هذا قبر أبي رغال ، وآية ذلك أن معه غصنا من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه فابتدره الناس ، فاستخرجوا الغصن » (1) ، ولو كان في أذن الميت حلق أو في إصبعه خاتم أخذ ، فإن صعب أخذه ، برد ، وأخذ ؛ لأن تركه تضييع للمال (2) اهـ .
__________
(1) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3088).
(2) [ المغني ] ، لابن قدامة ( 3 \ 497 - 499 ) .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21