كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

وجلالتهم ؛ لضرورة درء العناد ، ودفع الفساد ، وإخماد النائرة ، وإبطال الخصومة . انتهى كلام القرافي .
ليس فيما ذكر من الصورتين إنشاء العبد لحكم شرعي ، وضعي أو تكليفي ، فإن الذي وقع من العبد في الصورة الأولى مجرد النذر لمندوب ، وهو محل للحكم ، وليس حكما ، والله هو الذي جعل النذر سببا لما بناه عليه سبحانه من الحكم بوجوب الوفاء ، وهو الذي جعل القابلية لذلك في المندوب وليس إلى غير الله إنشاء في هذه الثلاثة .
وأما الصورة الثانية فالذي من العبد التعليق للعتق أو الطلاق مثلا على شيء مما ذكر في هذه الصورة ، والتعليق الذي هو فعل العبد محل للحكم وليس حكما ، ولا إنشاء للحكم ، والله سبحانه الذي عم في المعلق عليه ، فجعله أيا كان قابلا لأن يكون سببا لترتيب الحكم على تحققه ، وعلى ذلك يتبين بطلان ما ذكره من أن الله تعالى جعل لكل مكلف ، ولو عاميا جاهلا إنشاء الأحكام في الشريعة لغير ضرورة ، وبطلان ما رتبه عليه من أن للحكام من باب أولى إنشاء أحكام كلية في الشريعة ، وإنما الذي إليهم فهم الشريعة وتطبيقها على الوقائع والقضايا الجزئية ، كما دلت على ذلك أدلة اختصاص الله بالتشريع.
10 - قال (1) القرافي في الفرق بين المفتي والحاكم ، وبين الإمام الأعظم في تصرفاته - قال : إن الإمام نسبته إليهما كنسبة الكل لجزئه ، والمركب لبعضه ، فإن للإمام أن يقضي ، وأن يفتي كما تقدم ، وله أن يفعل
__________
(1) [الأحكام] ص (32) .

ما ليس بفتيا ولا قضاء ؛ كجمع الجيوش ، وإنشاء الحروب ، وحوز الأموال ، وصرفها في مصارفها ، وتولية الولاة ، وقتل الطغاة ، وهي أمور كثيرة يختص بها لا يشاركه فيها القاضي ولا المفتي ، فكل إمام قاض ومفت ، والقاضي والمفتي لا يصدق عليهما وصف الإمامة الكبرى .
11 - وقال (1) أيضا : وظهر حينئذ أن القضاء يعتمد الحجاج ، والفتيا تعتمد الأدلة ، وأن تصرف الإمامة الزائد على هذين يعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة .
12 - قال (2) ابن القيم في مبحث غزوة حنين بعد كلام في حديث : « من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه » (3) قال : ومأخذ النزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام والحاكم والمفتي ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد يقول الحكم بمنصب الرسالة فيكون شرعا عاما إلى يوم القيامة ، كقوله : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » (4) ، وقوله : « من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته » (5) ، وكحكمه بالشاهد واليمين ، وبالشفعة فيما لم يقسم .
وقد يقول بمنصب الفتوى ، كقوله لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان وقد شكت إليه شح زوجها ، وأنه لا يعطيها ما يكفيها : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » (6) فهذه فتيا لا حكم ، إذ لم يدع بأبي سفيان ، ولم يسأله عن جواب الدعوى ، ولا سألها البينة .
__________
(1) [الأحكام] ص (41) .
(2) [زاد المعاد] (3 \ 489- 491) .
(3) صحيح البخاري فرض الخمس (2973),صحيح مسلم الجهاد والسير (1751),سنن الترمذي السير (1562),سنن أبو داود الجهاد (2717),موطأ مالك الجهاد (990).
(4) صحيح البخاري الصلح (2550),صحيح مسلم الأقضية (1718),سنن أبو داود السنة (4606),سنن ابن ماجه المقدمة (14),مسند أحمد بن حنبل (6/270).
(5) سنن الترمذي الأحكام (1366),سنن أبو داود البيوع (3403),سنن ابن ماجه الأحكام (2466),مسند أحمد بن حنبل (3/465).
(6) صحيح البخاري النفقات (5049),صحيح مسلم الأقضية (1714),سنن النسائي آداب القضاة (5420),سنن أبو داود البيوع (3533),سنن ابن ماجه التجارات (2293),مسند أحمد بن حنبل (6/206),سنن الدارمي النكاح (2259).

وقد يقوله بمنصب الإمامة فتكون مصلحة الأمة في ذلك الوقت ، وذلك المكان ، وعلى تلك الحال ، فيلزم من بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي صلى الله عليه وسلم زمانا ومكانا وحالا.
ومن هاهنا تختلف الأئمة في كثير من المواضع التي فيها أثر عنه صلى الله عليه وسلم ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « من قتل قتيلا فله سلبه » (1) هل قاله بمنصب الإمامة ، فيكون حكمه متعلقا بالأئمة ، أو بمنصب الرسالة والنبوة فيكون شرعا عاما ؛ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » (2) هل هو شرع عام لكل أحد أذن فيه الإمام ، أو لم يأذن ، أو هو راجع إلى الأئمة فلا يملك بالإحياء إلا بإذن الإمام؟ على قولين : فالأول : للشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهما .
والثاني : لأبي حنيفة ، وفرق مالك بين الفلوات الواسعة وما لا يتشاح فيه الناس ، وبين ما يقع فيه التشاح ، فاعتبر إذن الإمام في الثاني دون الأول . . انتهى.
__________
(1) صحيح البخاري فرض الخمس (2973),صحيح مسلم الجهاد والسير (1751),سنن الترمذي السير (1562),مسند أحمد بن حنبل (5/306),موطأ مالك الجهاد (990).
(2) سنن الترمذي الأحكام (1379),مسند أحمد بن حنبل (3/356),سنن الدارمي البيوع (2607).

مما تقدم يتبين ما يأتي :
ا- تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم أنواع :
أ- تصرفه باعتباره رسولا ، وهو قسمان :
القسم الأول : أن يحكم حكما شرعيا بوحي من الله تعالى ، والأصل في هذا أن يكون حكما كليا وتشريعا عاما في الأعيان والأزمان إلا ما خصه الدليل ، وهذا القسم خاص به فلا يشاركه في التشريع أحد من الأمة لا الراعي ولا الرعية ، وهو فيه معصوم .
القسم الثاني : إبلاغ هذا التشريع وإرشاد الناس به وحثهم عليه ، وهذا

واجب عليه ، هو معصوم فيه ، وليس مختصا به ، بل يرثه عنه العلماء فيجب عليهم البلاغ والإرشاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . إلا أنهم غير معصومين في بلاغهم وفهمهم له .
ب- تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره قاضيا ، فبهذا الاعتبار يفصل في الخصومات ويحكم فيها بمقتضى طرق الإثبات من البينات ودلائل الأحوال والأمارات. . إلخ . وهذا المنصب ورثه عنه ولي الأمر العام ، ويكون لغيره بإذنه وتنصيبه إياه ، فيحكمون بين الناس على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا بالهوى ومحض الرأي .
ج- تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره إماما أعظم للمسلمين ، فإليه بهذا الاعتبار إبرام العهود الدولية ، وقسمة الغنائم ، وإقامة الحدود. . إلى آخر ما ذكر في النقول من هذا الجنس ، وهذا المنصب يرثه عنه ولي أمر المسلمين العام ، فله ما للرسول صلى الله عليه وسلم من التصرف بحكم الإمامة .
2 - معنى كون هذه التصرفات للإمام بحكم الإمامة الكبرى : أنها مختصة به لا يقوم بها غيره إلا بإذنه ممن يرى فيه الأهلية لها ، وليس معنى كونها له أنه يشرع فيها شرعا جديدا ، بل يجب عليه أن يقوم بها باعتباره مسئولا عن الأمة ، وعليه أن يتبع فيها حكم الشرع ويطبقه فيها تطبيقا يكفل لهم المصلحة الخالصة ، أو الراجحة ، ويدفع المضرة أو يخففها عنهم . فإنه صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله كان يقوم بها على مقتضى ما أمره الله وفق المقاصد الشرعية ، وقد قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } (1) الآية ، وقال : { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (2)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة الأعراف الآية 158

3 - للإمام العام سلطة البلاغ والإرشاد ، وسلطة الحكم والقضاء ، وسلطة التنفيذ ، بخلاف غيره ، فإنه لا يملك سلطة القضاء أو التنفيذ إلا بإذنه وتنصيبه في ذلك ، ومن ذلك يعرف : أن من تصرفات الإمام ما يكون بطريق القضاء ، وقد ذكر القرافي ثلاثة ضوابط لما يكون فيه ذلك ، وأوضحها بالأمثلة ، ومنها : ما يكون بغير طريق الحكم والقضاء ، وقد ذكر القرافي منها عشرين نوعا مع الإيضاح بالأمثلة .
4 - قد يكون للناس الخيار بين أمرين أو أمور فيما يأتون وما يذرون من شئون معاشهم ونظام حياتهم ، وقد تنشأ مضرة عن تخلية سبيلهم ؛ ليختار كل لنفسه ما شاء مما هو مباح له ، أو فوضى عامة شاملة ، فيجب على ولي الأمر ومن أنابه عنه أن يحملهم على أحد الأمرين أو الأمور ، ويلزمهم بالوقوف عنده ؛ رعاية للمصلحة العامة ، ودفعا للمضرة ، ومن خالف ذلك فله تعزيره بما يتناسب مع خطر اعتدائه ، ويراه كافيا في تأديبه وردع أمثاله ، مثال ذلك : أن للتاجر زيادة السعر ونقصانه وعرض السلع بالأسواق واحتكارها ، فلإمام المسلمين إذا رأى من التاجر التواطؤ على الاحتكار ورفع الأسعار وانتهاز الفرص ورأى ما يلحق المستهلكين من المضرة بسبب صنيع هؤلاء - أن يحدد الأسعار ويمنع الاحتكار على وجه يكفل العدالة والرحمة ، ويقضي على الأثرة والأزمة والغلاء المصطنع ، ومن ذلك التعليم ، ودوام

الموظفين بالنسبة للأوقات ، وطرق المواصلات بالنسبة للسيارات والقطارات ، فلولي الأمر العام أن يضع نظاما يحدد أوقات العمل ، وينظم سير المواصلات .
وأخيرا فهذا ما ذكره العلماء فيما لولي الأمر العام أن يتصرف فيه من شئون الأمة بالإمامة والفتيا والقضاء ، وليس فيه ذكر لإلزام القضاة أن يحكموا بمذهب أو قول معين ، لكن يمكن أن يقال : إن هذه التصرفات لم تذكر على وجه الحصر بدليل ما تقدم في البحث من قول بعض العلماء بإلزام القضاة بذلك ، وقد سبقت أدلته مع المناقشة.
ويمكن أن يقال أيضا : إنه وإن لم يذكر صريحا لكنه شبيه بما ذكر في البناء على رعاية مصلحة الأمة والمحافظة على الشريعة واستمرار الحكم بها ، أو يقال : إنه مندرج تحت تصرف الإمام بالإلزام بأمر من أمرين أو أمور للأمة فيها الخيار ؛ رعاية للمصلحة ، ومنعا للفوضى ، فإن التقليد في المسائل الفقهية غالب على أهل زماننا ، والمقلد مخير في من يتبعه من الأئمة المجتهدين ، وعليه لا يأتي الإلزام لمن كان مجتهدا ولو في المذهب.
هذا ما تيسر جمعه وإعداده مع الاجتزاء ببعض النقول عن بعض لكونه في معناه ، والى أصحاب الفضيلة أعضاء هيئة كبار العلماء النظر وترجيح ما يرونه .
والله الموفق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

"

مصادر البحث
"
(أ) كتب المذهب الحنفي :
1 - [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع] للكاساني ، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية عام 1327 هـ.
2 - [تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق] لعثمان بن علي الزيلعي ، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية عام 1314 هـ.
3 - [تنوير الأبصار] ، و[الدر المختار] ، و [رد المحتار] الشهير بـ [حاشية ابن عابدين ] ، الطبعة الأولى بالمطبعة الميمنية بمصر عام 1318 هـ ، وكذلك اعتمد على نسخة أخرى .
4 - [معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] للطرابلسي ، طبعة أولى بالمطبعة الأميرية سنة 1300 هـ.
5 - [رسالة رسم المفتي] ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين ، طبع بالآستانة بالمطبعة العثمانية عام 1321 هـ.
(ب) كتب المذهب المالكي :
1 - [مختصر خليل ] وعليه [مواهب الجليل] للحطاب ، الطبعة الأولى ، بالمطبعة الأميرية.
2 - [مختصر خليل ] وعليه [الشرح الكبير] للدردير ، و[حاشية الدسوقي ] طبعة حلبية.
3 - [فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ] للشيخ عليش .

4 - [حاشية علي الصعيدي على شرح أبي الحسن على رسالة ابن أبي زيد ] ، طبع مطبعة محمد عاطف .
5 - [تزيين الممالك بمناقب مالك ] للسيوطي .
6 - [مناقب الإمام مالك ] لعيسى بن مسعود الزواوي . كلاهما في أول [المدونة] طبعة أولى بالمطبعة الخيرية عام 1335 هـ.
7 - [تبصرة الحكام] لابن فرحون ، طبع بالمطبعة البهية بمصر عام 1302 هـ.
8 - [الإحكام في أصول الأحكام] للآمدي ، طبع بمطبعة مؤسسة النور.
9 - [الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام] للقرافي ، الناشر مكتبة المطبوعات الإسلامية ، طبع سنة 1387 هـ .
10 - [مراقي السعود وشرحها] لمحمد الأمين الجكني الشنقيطي ، طبع بمطبعة المدني.
(ج) كتب المذهب الشافعي :
1 - [المجموع شرح المهذب] للنووي ، طبع مطبعة العاصمة بالقاهرة .
2 - [نهاية المحتاج ، شرح المنهاج] للرملي ، طبعة حلبية.
3 - [المحلى على المنهاج] ، طبعة حلبية.
4 - [ قليوبي على شرح المنهاج] ، طبعة حلبية.
5 - [المهذب] للشيرازي ، طبعة حلبية.
6 - [الفقيه والمتفقه] ، طبع مطابع القصيم .
7 - [الأحكام السلطانية والولايات الدينية] للماوردي ، الطبعة الأولى بالمطبعة الحلبية عام 1380 هـ.

(د) كتب المذهب الحنبلي :
1 - [المغني والشرح الكبير].
2 - [الإقناع] وشرحه [الكشاف].
3 - [المنتهى وشرحه].
4 - [الإنصاف]
5 - [الفتاوى المصرية].
6 - [مجموع فتاوى شيخ الإسلام].
7 - [تفضيل مذهب أهل المدينة ] ، طبع مطبعة الإمام.
8 - [المنتقى] للذهبي [مختصر منهاج السنة] طبع المطبعة السلفية ومكتبتها عام 1374 هـ.
9 - [مسودة آل تيمية].
10 - [إعلام الموقعين].
11 - [الأحكام السلطانية] لأبي يعلى .
12 - [السياسة الشرعية].
13 - [زاد المعاد].
(هـ) كتب أخرى :
1 - مجلة المنار.
2 - [فتاوى المنار].
3 - [المدخل الفقهي العام] للزرقاء .
4 - [المدخل للفقه الإسلامي] لمدكور .

5 - [مقدمة في إحياء علوم الدين] للمحمصاني .
6 - [رسالة الصحابة] ضمن [المجموعة الكاملة] لابن المقفع .

قرار هيئة كبار العلماء رقم (8) تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان السالكين لمنهجهم القويم .
وبعد : فبناء على أمر جلالة الملك - وفقه الله - بالنظر من قبل هيئة كبار العلماء في أمر جواز تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به .
وقبل الدخول في صلب البحث وتقرير ما هو الحق الذي تشهد به قواعد الشريعة وعليه عمل السلف رحمهم الله نقول :
أولا : إنه مما لا شك فيه لدى كل عارف أن إمام المسلمين وفقه الله وثبته على الحق ونصره به - لم يكن له من هدف في هذا الأمر سوى الخير والحرص على جلب المصالح وتكثيرها ، ودرء المفاسد وتقليلها ، ولما بلغه - حفظه الله - أن فيما يصدر من بعض القضاة ما يلفت النظر ، ويدعو إلى البحث من صدور أحكام قد يظن بعض الناس أنها متناقضة ، مع أن قضاياها متماثلة ، وهي في الحقيقة ليست كذلك ، كما قد يدعو إلى اتهام القضاة باتباع الهوى ، أو رميهم بالقصور في تطبيق أحكام الشريعة على ما

يرفع لهم من القضايا ، وأن ذلك ربما كان من أجل عدم وجود كتاب على قول واحد يحكم به القضاة ويتعرف الناس منه أحكام المعاملات ؛ ليوفقوا بينها وبين أعمالهم عند الإقدام على عمل ما حتى لا يقعوا فيما يعرضهم للحكم عليهم عند حدوث ترافع قضائي ، وأنه قد يدعو إلى تهرب بعض الناس من رفع قضاياهم للمحاكم الشرعية في المملكة والذهاب بها لمحاكم في دول أجنبية.
من أجل هذا ، وحرصا من جلالة الملك - وفقه الله - على صيانة الشريعة وبقاء الحكم بها بين الناس أمر - حفظه الله - بعرض موضوع التدوين المشار إليه لإلزام القضاة والحكم به على هيئة كبار العلماء ؛ ليبينوا حكم الشريعة في جواز ذلك أو عدمه.
ثانيا : يحسن أن نذكر شيئا مما من الله به على هذه البلاد من باب التحدث بنعمة الله التي غمرنا بها - فنقول : إنه غير خاف على أحد من أهل المعرفة ما كانت عليه بلادنا قبل تأسيس هذه الدولة المباركة من الفوضى والاضطراب ، واللصوصية المغرقة ، والخوف المتفاقم والفرقة المتمكنة ، حتى هيأ الله سليل بيت المجد والسؤدد : الملك عبد العزيز - رحمه الله - فقام بلم شعثها ، وجمع شملها المتفرق ، وبناء كيانها على أساس من منهج السلف الصالح الذي ورثه عن آبائه الكرام حماة الدعوة السلفية ، وبناة حصونها في هذه البلاد ، وهذه الدعوة وهي الدعوة التي دعا إليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - فضرب الأمن في ربوع الجزيرة أطنابه بعد أن كان مفقودا ، وانتشر العدل بين الناس ، وأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، واتصلوا بالعالم الخارجي اتصالا واسعا ، وعرفت حال البلاد عند سائر الدول،

وتعامل أهلها مع أولئك منذ مدة طويلة والبلاد في تقدم مستمر ولله الحمد ، لم يضرها بقاؤها في منهاج القضاء على ما كان عليه السلف الصالح - رحمهم الله وفهم نظامها القضائي لدى سائر أمم الأرض المتحضرة ، واشتهر الأمن فيها حتى صار مضرب المثل ومثار العجب عند كل مصنف ، رغم اتساع رقعة البلاد وعدم تعلم غالبية أهلها ، وما ذاك إلا بفضل الله سبحانه ، ثم بفضل تمسك هذه الدولة بشريعة الإسلام وسيرها على محجة سلف الأمة الذين نشروا الإسلام وساسوا العباد بالعدل وحكموا فيهم الشرع ، وفوضوا إلى قضاتهم الحكم بما فهموه من كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما استنبطه العلماء منها فصلحت بذلك أحوالهم ، واستقامت أمورهم ، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها . وقد اشتهرت نزاهة القضاء في بلادنا ولله الحمد ، وعدالته وبساطته ، ومسايرته للفطرة ، وتمشيه مع مقتضى المصلحة الحقة ، حتى صار معلوما عند الموافق والمخالف ، ولا يسعنا إزاء هذه النعمة العظيمة التي من الله علينا بالتمسك بها حين تخلى عنها الأكثرون إلا أن نشكره جل وعلا ، ونسأله أن يثبتنا على ما نحن عليه من الحق ، ويرزقنا الإعانة والتوفيق.
ثالثا : نظرت الهيئة في الموضوع ، فرأت أن دواعي الإصلاح قائمة ، وأنه لا بد من إيجاد حل للمشكلة ، وإصلاح لما تخشى عواقبه ، غير أن الهيئة بأكثريتها ترى : أنه لا يجوز تدوين الأحكام على الوجه المقترح لإلزام القضاة الحكم به ؛ لأنه ليس طريقا للإصلاح ، ولا يحل المشكلة ، ولا يقضي على الخلاف في الأحكام ، أو على ظنون بعض الناس في القضاة ما دام هناك محكوم عليه ، لأن اتهام القاضي في حكمه لم يسلم منه

أحد حتى خير الخلق صلى الله عليه وسلم ، فقد قال له بعض الناس : اعدل ، فإنك لم تعدل ، وفي رواية : إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله . ومع ذلك فإن التدوين المراد يفضي إلى ما لا تحمد عاقبته ؛ وذلك لأمور :
1 - إن إلزام القضاة أن يحكموا بما اختير لهم مما يسمى بالقول الراجح عند من اختاره يقتضي أن يحكم القاضي بخلاف ما يعتقد ، ولو في بعض المسائل ، وهذا غير جائز ، ومخالف لما جرى عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه الراشدين ، ومن بعدهم السلف الصالح ، ويسبب التحول عن سبيلهم ، ولقد سبق أن وجدت هذه الفكرة في خلافة بني العباس ، وعرضها أبو جعفر المنصور على الإمام مالك رضي الله عنه فردها وبين فسادها ، فهي فكرة مرفوضة لدى السلف ، ولا خير في شئ اعتبر في عهد السلف من المحدثات.
2 - إن إلزام القضاة أن يحكموا بما يدعى أنه القول الراجح فيه حجر عليهم ، وفصل لهم في قضائهم عن الكتاب والسنة وعن التراث الفقهي الإسلامي ، وتعطيل لهذه الثروة التي هي خير تراث ورثناه عن السلف الصالح ، وفي ذلك أيضا مخالفة صريحة لما دل عليه كتاب الله تعالى من وجوب الرجوع فيما اختلف فيه من الأحكام إلى الكتاب والسنة ، وإن عدم الرد إليهما عند الاختلاف ينافي الإيمان بالله تعالى ، قال سبحانه : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 59

3 - إن الإلزام بما يدون يفضي إلى نفس النتيجة التي وصل إليها من سبقنا إلى هذه التجربة من الدول الإسلامية المتأخرة ، فقد جربوا هذا التقنين ، وألزموا القضاة العمل به ، فلم يأتهم بخير ، ولم يرفع اختلاف القضاة في الأحكام ، وإنما أدى بهم إلى الحكم بالقوانين الوضعية فيما عدا الأحوال الشخصية ، وبعض العقوبات ؛ فسدا لذريعة الفساد ، ومحافظة على البقاء في التحاكم إلى شريعة الله ، وإبقاء على إظهار شعار أمتنا الإسلامية - يجب علينا أن نفكر في طريق آخر للإصلاح سليم من العواقب الوخيمة.
4 - إن إيجاد كتاب يشتمل على قول واحد هو الراجح في نظر من اختاره يكون موحد الأرقام مسلسل المواد - لا يمكن أن يقضي على الخلاف ، ويوجد الاتفاق في الأحكام في كل القضايا ؛ لاختلاف القضاة في مداركهم وفي فهم المواد العلمية ، ومدى انطباقها على القضايا التي ترفع لهم ، ولاختلاف ظروف القضايا وما يحيط بها من أمارات ، ويحف بها من أحوال - فقد اختلف الناس في مدلول بعض النصوص الشرعية من الكتاب والسنة مع وضوحها وجلائها ، وعلم مصدرها الذي ليس علمه كعلم من يختار القول الراجح المراد.
5 - المحاكم المدنية في الدول التي تحكم بالقوانين الوضعية دونت قوانينها على هيئة مواد موحدة ، مسلسلة الأرقام ، ومع ذلك اختلفت أحكام قضاتها ، ووقع في بعضها التناقض والخطأ ، واستؤنفت بعض الأحكام ، فنقض في محاكم الاستئناف ، فلم يكن ذلك التنظيم والإلزام به مانعا من الخطأ والتناقض ، واتهام القضاة ، ونقض الأحكام

ما دام القضاة متفاوتين في الأفكار والأفهام ، وبعد النظر والقدرة على تطبيق الأحكام على القضايا والوقائع.
6 - لا يصلح للتخلص من الآثار السيئة التي ترتبت على إلزام القضاة بما يدون لهم - إعطاؤهم حق الرفع فيما يخالف فيه اعتقادهم ما دون إلى مرجعهم ، فإن ذلك يعود إلى التواكل ، وتدافع القضايا والتهرب من المسئولية ، وتعويق المعاملات ، وتكديسها ، وفتح باب الاحتيال للتخلص من بعض القضايا ؛ لأمر ما ، ولا يعدم من أراد ذلك أن يجد في وجهة نظر المخالفين لما دون ما يسند رأيه ؛ لأن الرجحان أمر نسبي مختلف فيه ، ولكل قول وجهته.
7 - الواقع يشهد بأن معرفة الخصوم لما يرجع إليه القاضي تفصيلا ليس بضروري ، ولا شرط لقبول حكم القاضي ، ولا نفاذه لا من جهة الشرع ولا من جهة القانون ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يحكمون بين الناس في الخصومات ، ولم يكن الفقه مدونا وكثير من المتخاصمين لا يحفظ القرآن كله ، ولا كثيرا من السنة ، وإنما يعرفون إجمالا : أن القاضي سيحكم فيما يرفع إليه من القضايا مما فهمه من الكتاب والسنة ، كما أن الدول التي تحكم بقوانين وضعية لا يعرف السواد الأعظم فيها ما يرجع إليه القضاة من القوانين ؛ ولذلك يقيمون المحامين ليرافعوا عنهم في قضاياهم ، فلم يكن تدوين الأحكام على النهج المقترح ليوافق المتحاكمون أعمالهم معها ضروريا ، ومع ذلك فالأحكام الشرعية مدونة ، ومن أرادها أمكنه الوصول إليها ومعرفتها ، ومع معرفته لها فإنه لا يأمن أن يخالفه القاضي في فهمها وتطبيقها على

قضيته ، سواء في ذلك من يرجع في تحاكمه إلى الشرع ومن يرجع إلى القانون الوضعي ؛ لأن الأحكام لو دونت لا يكون فيها ذكر جميع الجزئيات من القضايا ، وإنما يجتهد كل قاض في تطبيق النص على القضية التي ترفع إليه.
فيما سبق ذكره وغيره مما لم يذكر من الآثار السيئة التي تنشأ عن إلزام القضاة الحكم بما يختار لهم - يجب التماس طريق آخر لعلاج الوضع.
وحل المشكلة وهو ما يلي :
1 - إعداد القضاة ، والعناية بهم ، وتأهيلهم علميا ، وتدريبهم عمليا على أعمال القضاء ، ولو بدورات دراسية وتدريبية لمن يحتاج لذلك ممن على رأس العمل.
2 - تقليل المحاكم وتركيزها في المدن وعواصم المناطق ، ويكتفى بتعيين متعلمين في القرى ؛ ليقوموا بشئون المساجد ، وعقود الأنكحة ، والوعظ والإرشاد ، وكتابة الوثائق ، وتلقي استخلافات القضاة ونحو ذلك ، ويساعد على هذا سهولة المواصلات اليوم ووجود مرافق في المدن يستريح فيها الغريب ، ويرتفق بها ، ولو أقام أياما ، ويسهل ذلك على القضاة في المدن الاجتماع لدراسة القضايا وهضمها ، ويمنع من الترافع في الأمور التافهة البسيطة ، ويدعوا إلى الصلح بين الناس ، وهو أنفع من التمادي في الخصومات حتى البت في القضايا.
3 - حسن اختيار القضاة بمراعاة ما تحلوا به من قوة في العلم ، ورجاحة في العقل ، مع حلم وأناة ، وبعد نظر ، وصدق وأمانة ، وابتعاد عن مظان الريبة . . إلى غير ذلك من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في القاضي،

وسيساعد على سهولة الاختيار الاقتصار على تركيز المحاكم في المدن ، كما أشرنا إليه سابقا.
4 - تأليف لجنة من العلماء ؛ لبحث المسائل القضائية الهامة التي ربما يشتبه الحكم فيها على بعض القضاة ، فتبين بالأدلة وجه الحكم فيها ، وتوضح تطبيقها بأمثلة ، خاصة القضايا التي حدثت في عصرنا ، وليس هذا لإلزام القضاة بما انتهى إليه البحث ، بل ليكون عونا لهم في القيام بمهمتهم ، ونموذجا لهم في دراسة القضايا وحل مشكلها ، والدقة في تطبيق الأحكام فيها ، فبذلك تضيق شقة الخلاف ، وتتحقق المصلحة المرجوة.
أما ارتفاع أصل الخلاف فلا سبيل إليه ، ولو توحد المرجع العلمي للقضاة باختيار قول واحد وألزم القضاة الحكم به ؛ لما تقدم بيانه.
ومع ذلك فإن الحكومة - وفقها الله - قد بذلت مجهودا تشكر عليه ، فجعلت محاكم تمييز تدرس الأحكام الصادرة من المحاكم ، وتوجه القضاة فيما تراهم قد قصروا فيه ، وجعلت وراء ذلك هيئة قضائية عليا تدقق الأحكام التي يحصل حولها اختلاف بين القضاة وهيئات التمييز - كل ذلك حرصا من ولي الأمر - وفقه الله - على براءة الذمة ، وإراحة الناس ، وإيصال الحقوق إلى أصحابها.
5 - إن الاختلاف في الأحكام قد وجد في عهد الخلفاء الراشدين والسلف الصالح ، حتى من القاضي الواحد في قضيتين متماثلتين ظهر له في الثانية ما لم يظهر له في الأولى ، فحكم به ، ولم ينقض حكمه السابق ، ولم يكن ذلك داعيا إلى التفكير في مثل التدوين المقترح ، ولا إلزام

القضاة لحكم بقول واحد ، وهم كانوا أحرص منا على حفظ الدين ، وعلى سمعته وسمعة المسلمين ما وسعهم ، ولا يجوز أن يكون هذا الاختلاف مثار ريبة وتهمة للقاضي ، فالأصل فيمن يختار للقضاء : أن يكون عالما أمينا على مستوى المسئولية.
6 - مما تقدم يعلم أن العلاج للمشكلة في غير التدوين المذكور الذي لا تؤمن عاقبته ، ونتيجته غير مضمونة ، ويفضي إلى فصل الناس عن مصادر شريعتهم وثروة أسلافهم الفقهية ، كما سبق بيانه ، فتعين سلوك الطريق السليم العاقبة ، المأمون النتيجة ، الذي استقامت عليه حياة الأمة الإسلامية وأحوالها في قرونها السالفة.
ونسأل الله أن يحفظ لأمتنا دينها ، ويتم عليها نعمة الأمن والاستقرار ، ويثبت إمام المسلمين ، ويسدده ويعينه بالبطانة الصالحة ، ويمد في أجله على عمل صالح ، إنه سميع مجيب ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة الثالثة
. ... . ... محمد الأمين الشنقيطي
عبد الله بن حميد ... صالح بن محمد اللحيدان ... عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان العبيد ... محمد الحركان
عبد الله بن غديان ... عبد الله خياط مخالف وله وجهة نظر ... عبد الله بن منيع له وجهة نظر
محمد بن جبير مخالف ، وله وجهة نظر ... راشد بن خنين لي وجهة نظر وليس فيها إلزام القاضي بالحكم بخلاف ما يعتقد ... صالح بن غصون

وجهة نظر
أحمد الله ، وأصلي وأسلم على رسوله ، وأسأل الله أن يهدينا جميعا سواء السبيل . . وبعد :
فمما لا شك فيه أن هذا الأمر الذي نبحثه أمر خطير ، وله شأن كبير ، وآمل أن تنظره هذه الهيئة نظرة فاحصة مبنية على ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما ، وتحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، وقد ظهر لي من إثارة هذا البحث ومما سمعته من كلام بعض من حضره - أن هناك اتجاها لتدوين الأحكام الشرعية على شكل مواد ، وأخشى أنه إذا رفضت هذه الهيئة الإشراف على هذا الأمر ، أو وضع بديل عنه - أن يسند إلى غيرها فتحصل مفسدة أكثر ، وفي نظري أنه لو تولى هذا الأمر أهل العلم بالشريعة ، وأخذوا بزمامه ، واشترطوا إشرافهم عليه ، وقيدوه بالقيود الشرعية ، أو اقترحوا له بديلا - لكان ذلك أصلح ، وأكثر محافظة على تحكيم الشريعة في كل شيء.
وبناء على ما تقدم ، وعلى ما هو معلوم لدى الجميع من ضعف المستوى العلمي لدى كثير من القضاة ، بحيث لا يمكن اعتبارهم من أهل الاجتهاد والترجيح مع وجود قضايا كثيرة جدت في هذا الزمن ، وهي غير منصوص عليها في كتب المذهب ، بالإضافة إلى وجود اختلاف الأحكام في كثير من المسائل المتساوية ، من أجل ترجيح قول على قول ، أو رواية في المذهب على أخرى ، لا من أجل اختلاف وقائع القضية أو ملابساتها - فإنني أرى أن تبحث من قبل هذه الهيئة في دوراتها القادمة المسائل التي فيها

الخلاف المشهور ، مع المسائل المستجدة ، وتقرر فيها ما تراه راجحا بالدليل ، ويعمم على المحاكم للعمل به ، ويترك ما عدا ذلك على ما هو عليه من الحكم بالراجح في مذهب الإمام أحمد رحمه الله ، ويؤكد على المحاكم بالتزام ذلك ، وأن من ظهر له الحكم في مسألة ما بخلاف ذلك فعليه رفع وجهة نظره ، مع بيان مستنده لمجلس القضاء ، فإن ظهر للمجلس صحة وجهة نظره وافقه على ذلك ، وعممه على المحاكم ، وإن لم تظهر له صحة وجهة نظره نبهه على ذلك ، فإن اقتنع اعتبر الموضوع منتهيا ، وإن لم يقتنع أحيلت المسألة إلى غيره ، فإن لم تر هذه الهيئة دراسة المسائل الخلافية والمستجدة ووضع حد لاختلاف الأحكام ، والحالة ما ذكر - فإنني أرى أنه لا مانع من تدوين الأحكام الشرعية على القول الراجح بدليله ، ويعمم على المحاكم للعمل به ، وإذا ظهر لأحد منهم الحكم في مسألة ما بخلاف ما هو مدون فيرفع عن ذلك لمجلس القضاء على ما هو موضح في الرأي الأول.
وأسأل الله أن يوفق الجميع لمعرفة الحق واتباعه ، وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم.
حرر في 5\ 4\ 1393 هـ
مقدمه عضو الهيئة
راشد بن صالح بن خنين

خلاصة رأيي
الحمد لله وحده . . .
أرى أن يستغنى عن تدوين الأحكام بإلزام القضاة بأن يكون الحكم بالراجح في مذهب الإمام أحمد رحمه الله ، حسبما هو مدون في [الإقناع] و [المنتهى] مع وضع حد لمسائل الخلاف في المذهب ، وتوحيد الحكم فيها ، وهذا في نظري أفضل إجراء يقلل من اختلاف القضاة في أحكامهم ، أما إذا بقي وضع القضاة كما هو الآن - فإنني لا أرى مانعا من تدوين الأحكام الشرعية مستمدة من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة ؛ وذلك تفاديا لما يعرفه الجميع من وقوع تفاوت في الأحكام في قضايا متماثلة ، بالإضافة إلى ضعف المستوى العلمي لدى الكثيرين من القضاة ، وما لذلك من آثار على القضاء والمشرفين عليه والبلاد عامة.
وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم.
وحرر في 6\ 4\ 1393 هـ.
صالح بن علي بن غصون
عضو هيئة كبار العلماء

وجهة نظر
الحمد لله ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد : فلقد كانت مسألة تدوين الأحكام الشرعية الراجحة في كتاب يعمم على المحاكم وإلزام القضاة التمشي بموجبه - موضع دراسة من قبل هيئة كبار العلماء في دورتها الثالثة ؛ بناء على رغبة المقام السامي .
وبعد الاطلاع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبح
وث حول تلك المسألة وتبادل الرأي بشأنها - أسفرت الدراسة عن انقسام الرأي في المسألة بين مانع ومجيز.
وحيث أننا نحن الموقعين أدناه نرى جواز ذلك ؛ تحقيقا للمصلحة العامة - وقد أدلى كل منا في المسألة برأيه مقتضبا حينما جرى استطلاع الآراء - دون ذكر للاستنادات والمبررات والاعتبارات التي بنينا فيها آرائنا - فإننا نوضح ذلك فيما يلي :
أولا : هناك مجموعة اعتبارات يحسن بنا قبل البدء في توجيه ما نراه إيرادها.
أ- ما أجمع عليه المعنيون بالدراسات الاجتماعية
من أن القضاء يعتبر عنوانا لما عليه البلاد من حال ، فإن كان قويا مهيبا دقيقا في تحقيق العدل والإنصاف - كان ذلك دليلا على قوة البلاد وحسن إدارتها ، وإن كان غير ذلك دل على ضعفها واضطرابها ، وفوضويتها ، كما أجمعوا على أن أول ما تفقده البلاد عند اضطرابها وتزعزعها النزاهة في المرافق القضائية.

ب- ما عليه بلادنا من اتصالات مختلفة بالبلدان الأجنبية الأخرى ، سواء ما كانت بلادنا متصلة بها أو كانت هي متصلة ببلادنا ، مما كان لذلك أثره في قيام علاقات مختلفة معها ، وما تبع هذا من قيام اتفاقيات وتبادل معلومات وخدمات.
ج- إدراك الظروف والعوامل التي برزت للجهات المسئولة عندنا إيجاد وحدات قضائية لها استقلالها الكامل من الناحية الإدارية عن الجهة الإدارية للقضاء ؛ كمحاكم العمل والعمال ، ومكافحة الرشوة ، وفض المنازعات التجارية ، ومحاكم التأديب وغيرها . مما كان لذلك أثره في تفتت الوحدة الإدارية للقضاء في بلادنا ، وبالتالي تقلص الاختصاص القضائي من المحاكم الشرعية.
د- الوضع القائم الآن ، ومنذ استتباب الأمن لحكومتنا الرشيدة مبني على الالتزام بالحكم الراجح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله ، وكان ذلك امتدادا لما كانت عليه الحكومة التركية من التزام محاكمها بالحكم الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة ، هذا بالنسبة إلى الحجاز وغيره من المناطق التي كانت خاضعة للحكم التركي سابقا . أما بالنسبة لنجد وتوابعها فقد كان الحكم في محاكمها طبقا للراجح من مذهب الإمام أحمد ، وذلك قبل قيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حتى وقتنا هذا.
هـ- ما عليه قضاة زماننا بالنسبة للمراتب العلمية التي ذكرها أهل العلم مما جاء في بحث اللجنة الدائمة من أن من يمكن إسناد القضاء إليه لا يخلو من أربع حالات : إما أن يكون مجتهدا مطلقا ، كالأئمة

الأربعة ، أو مجتهدا منتسبا ، كشيخ الإسلام ابن تيمية ، أو مجتهدا في المذهب ممن له قدرة على التخريج والترجيح واستنباط الأحكام من الأدلة الشرعية بناء على أصول الإمام الذي أنتسب إليه ، كمتقدمي أصحاب الأئمة ، أو مقلدا متعلما ، كأصحاب الأئمة المتأخرين ممن تبحروا في مذاهب أئمتهم وتمكنوا من تقرير أدلتهم ، إلا أنهم لم يبلغوا درجة الترجيح والتخريج.
و- انتشار الوعي الحقوقي في البلاد وتطلع تلك الفئات الواعية إلى التعرف على المسالك القضائية وعجزها عن حصر تلك المسالك في إطار واضح المعالم وما نتج عن ذلك من تساؤلات وتعريضات بنزاهة القضاء وخضوعه لتأثيرات خارجية واعتبارات شخصية.
ثانيا : أن أمر إثبات الراجح من أقوال أهل العلم وتدوين ذلك في كتاب وتعميمه على لمحاكم الشرعية للعمل بمقتضاه - ليس أمرا محدثا ، وإنما كانت الفكرة موضع إثارة وبحث الجهات المعنية بالمرافق القضائية ، وذلك منذ أكثر من عشرة قرون.
وقد أوردت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في بحثها الموضوع فصلا تاريخيا للفكرة ، وكيف أنها برزت من حيز التفكير إلى نطاق العمل ، بعد أن تكاثرت الأسباب الملحة في الأخذ بها فنجتزئ بذلك ونكتفي بإيراد حلقة تاريخية للفكرة لم تشر إليها اللجنة في بحثها . ذلك أن جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وغفر له ، أراد أن يحمل القضاة على الأخذ بأحكام مختارة يجري تدوينها ثم تعميمها على المحاكم ، فقد جاء في افتتاحية (أم القرى) في عددها الصادر بتاريخ 28\ 2\ 46 هـ ما نصه :

إن جلالة الملك حفظه الله يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية ، يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصيين استنباطها من كتب المذاهب الربعة المعتبرة . وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي كانت الحكومة العثمانية وضعتها عام 1293 هـ ، ولكنها تختلف عنها بأمور : أهمها عدم التقيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر، بل تأخذ ما تراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلا من الكتاب والسنة . وجاء فيها ما نصه :
فأصدر أمره إلى هيئة المراقبة القضائية بالشروع في عملها على الطريقة التالية :
إذا اتفقت المذاهب الأربعة على حكم من الأحكام فيكون هذا الحكم معتبرا وملزما لجميع المحاكم والقضاة . والمذاهب الأربعة هي متفقة في الأحكام الأساسية وفي كثير من الأحكام الفرعية . أما المسائل الخلافية فيشرع في تدوينها منذ اليوم ، وفي وكل أسبوع تجتمع هيئة مراقبة القضاء مع جملة من فطاحل العلماء ، وينظرون فيما يكون اجتمع لدى الهيئة من المسائل الخلافية وأوجه حكم كل مذهب من المذاهب فيها ، وينظر في أقوى المذاهب حجة ودليلا من كتاب الله وسنة رسوله - فيصدر قرار الهيئة على إقراره والسير على مقتضاه ، وبهذه الوسيلة تجتمع لدى الهيئة معظم المسائل الخلافية التي هي منشأ الصعوبة في التأليف بين أحكام المذاهب ، ويصدر القرار بشأنها ، ويكون هذا القرار ملزما لسائر المحاكم الشرعية والقضاة ، وأساسا قويا لتوحيد الأحكام وتأليفها . اهـ . المقصود ، ثم تحولت الفكرة إلى أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على

المفتى به من مذهب الإمام أحمد ، فقد صدر قرار الهيئة القضائية رقم (3) في 17\1\1347هـ المقترن بالتصديق العالي بتاريخ 24\3\1347هـ بما يأتي :
أ- أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد ابن حنبل ؛ نظرا لسهولة مراجعة كتبه ، والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله.
ب- إذا صار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور ، ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفة لمصلحة العموم- يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة ، ويقرر السير فيها على ذلك المذهب ؛ مراعاة لما ذكر.
ج- يكون اعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد على الكتب الآتية :
1 - [شرح المنتهى].
2 - [شرح الإقناع].
فما اتفقا عليه أو انفرد به أحدهما فهو المتبع ، وما اختلف فيه فالعمل على ما في [المنتهى] ، وإذا لم يوجد بالمحكمة الشرحان المذكوران يكون الحكم بما في شرحي [الزاد] ، أو [الدليل] إلى أن يحصل بها الشرحان ، وإذا لم يجد القاضي نص القضية في الشروح المذكورة طلب نصها في كتب المذهب المذكور التي هي أبسط منها ، وقضى بالراجح . اهـ.
ولم يكن الإلزام بالعمل الراجح من المذهب ابتداء من ولي الأمر،

وإنما كان بمشورة هيئة علمية هي الهيئة القضائية, فالتزم القضاة التابعون لرئاسة القضاة بذلك, واستمر الالتزام به حتى وقتنا هذا, ويندر من أحدهم الخروج عن المذهب, فإن خرج نقض حكمه , كما كان الحال بالنسبة للحكم الصادر من رئيس وقضاة محكمة الرياض بعدد (57\1) وتاريخ 2\8\1386هـ في قضية قسامة, فقد جرى نقضه من هيئة التمييز بالرياض بعدد( 6\3)وتاريخ 6\ 10 \ 1387هـ ؛ لعدة أسباب منها : الخروج بذلك عن المذهب, وتأيد النقض من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله موجب خطابه رقم (3798\2\1) في 17\11\87هـ, وكذا بالنسبة للحكم الصادر من محكمة الرياض بعدد( 86\1) وتاريخ 9\6\1388هـ في قضية قسامة, فقد جرى نقضه من هيئة التمييز بعدد (7\3) وتاريخ 26\3\1390هـ كما صدر من سماحة رئيس القضاة ومفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله خطابه رقم ( 1492) وتاريخ 21\9\1380هـ , ويتضمن الاعتراض على الفتوى باعتبار الثلاث في الطلاق واحدة . وقد جاء فيه ما نصه :
نفيدكم : أن الذي عليه الفتوى وقوع مثل هذا الطلاق ثلاثا, هو الذي عليه الجماهير من أهل الفتوى.. . إلى أن قال : فلا ينبغي لأحد أن يفتي بخلاف ما عليه الفتوى في عموم المحاكم في سائر أنحاء المملكة ؛ لما في ذلك من الاختلاف الذي هو شر . إلى آخره.
وأخيرا : فإن هيئة التمييز بالمنطقة الوسطى قد أصدرت قرارا برقم (88\2) باريخ 20\3\1391هـ بصدد قضية رجل قتل غيلة, وحكم

على قاتله بالقتل دون التفات إلى عفو الورثة, جاء فيه نصه :
أولا : أن هذا الحكم مخالف للمفتى به في مذهب أحمد , أو مخالف لمذهبه بالكلية, وقد صرح العلماء : أن المقلد إذا خالف مذهب إمامه ينقض حكمه. . إلى أن قالت :
ثانيا : أن إمام المسلمين أصدر التعليمات المقيدة لأحكام القضاة بأن تكون على المفتى به من مذهب أحمد , وفي بعض الأوامر قيد الحكم في ذلك في كتب معينة, ولا يخفى أن هذا تعيين مشترط, والمسلمون عند شروطهم, والقاضي إذا أقدم على الحكم بشيء لم يعينه إمامه فيه, ولم يسمح له يكون قد حكم بغير ما ولي فيه, ومعروف حكم ذلك, وقد وقع القرار المشار إليه رئيس الهيئة الشيخ عبد العزيز بن رشيد , وأعضاؤها المشايخ : محمد البواردي ومحمد بن سليم ومحمد بن عودة وصالح بن غصون , : كما أن هيئة التمييز بالمنطقة الغربية قد أصدرت قرارها رقم (505) وتاريخ 15\4\90هـ حول قضية وقف انتهت فيه إلى أن المادة (121) والمادة ( 122) من مجموعة النظم قد جاء فيه : أنه إذا لم يكن للوقف أو الوصية شرط ثابت أو عمل يستأنس به يجري النظر في دعوى المستحقين على بعض على المفتى به من مذهب الواقف أو الموصي إن علم , وإلا فيجري النظر على المذهب الذي كان الحكم بمقتضاه في زمن الواقف . وقالت الهيئة : إن القاضي يتخصص فيما يخوله ولي الأمر له .
ومن هذا الاستعراض التاريخي القريب لهذه الفكرة, وما ذكر من الوقائع ـ يتضح بأنها من حيث العموم موضع التنفيذ, وأن العمل جار على اعتبارها في مجالات القضاء والإفتاء والتدريس . وأن ما يرغب ولي الأمر

حفظه الله إعطاء الرأي نحوه لا يخرج عن كونه تنظيما لهذا الوضع القائم, مع الخروج عن التقيد المذهبي, وذلك بتعيين الأقوال الراجحة من قبل هيئة علمية على مستوى يسمح لها بذلك, وتدوينها في كتاب يجري تعميمه على المحاكم للعمل به, بدلا من أن يكون الراجح من المذهب موضع ادعاء يجد كل مدع في كتب المذهب ما يؤيده ويسند دعواه, مما كان لذلك أثره الواضح في اختلاف الأحكام في القضايا المتشابهة , مما في أحكامها الخلاف القوي ؛ كمسائل الشفعة والرهن والقسامة وإجبار الأب ابنته البكر البالغ على الزواج, والإقطاع من حيث اعتباره اختصاصا أو تمليكا ومسألة الجد مع الإخوة واشتراط مطالبة المسروق منه في القطع وتكرار الإقرار فيه مرتين : إلى غير ذلك من مسائل الخلاف, بل قد يقع اختلاف الأحكام من القاضي نفسه, كما كان الحال من أحدهم حيث حكم في قضيتي رهن لم يقبض بلزومه في إحداهما وعدم لزومه في الأخرى, وقد لا يتجه الإيراد على ذلك بما قاله عمر رضي الله عنه : ( ذلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي ), إذ أن قضاة زماننا لا يمكن لأحد منهم مهما كانت حصيلته العلمية أن يكون في درجة عمر رضي الله عنه وأضرابه رضي الله عنهم, ممن هم في مستوى يمكنهم من الاجتهاد المطلق, بل قد يكون التردد في إلحاق أغلبهم بمرتبة علمية يجوز لأصحابها تقلد القضاء والفتوى, وقد كان للضرورة حكمها في قبول ذلك.
ثالثا : مما سبق يتضح أن المسألة ليست وليدة التفكير , وأن إلزام القضاة بالحكم بمذهب إمام بعينه كان موضع التنفيذ في أماكن من البلاد الإسلامية مختلفة , وفي أعصار متفاوتة, ولا يزال العمل بذلك حتى وقتنا هذا, بل

وفي بلادنا بالذات .

وأقوال أهل العلم في اعتبار ذلك وإجازته كثيرة ، نذكر منها ما يلي :
المذهب الحنفي :
قال (1) ابن عابدين : لو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه فيه ناسيا - نفذ عنده ، وفي العامد ، روايتان ، وعندهما لا ينفذ في الوجهين ، واختلف الترجيح ، وقال في [الفتح] : والوجه الآن أن يفتي بقولهما ؛ لأن التارك لمذهبه عمدا لا يفعله إلا لهوى باطل ، وأما الناسي فلأن المقلد ما قلده إلا ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره ، هذا كله في القاضي المجتهد ، وأما القاضي المقلد فإنما ولاه ؛ ليحكم بمذهب أبي حنيفة ، فلا يملك المخالفة ، فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم .
وقال أيضا تحت مطلب قضاء القاضي بغير مذهب ما نصه :
وحاصل هذه المسألة : أنه يشترط لصحة القضاء أن يكون موافقا لرأيه ـ أي : لمذهبه ـ مجتهدا كان أو مقلدا ، فلو قضي بخلافه لا ينفذ ، لكن في [البدائع] : إذا كان مجتهدا ينبغي أن يصح ، ويحمل على أنه اجتهد فأداه اجتهاده إلى مذهب الغير .
ويأخذ (2) القاضي كالمفتي بقول أبي حنيفة على الإطلاق ثم بقول أبي يوسف ثم بقول محمد ثم بقول زفر والحسن بن زياد ، وهو الأصح وصحح في [ الحاوي] اعتبار قوة المدرك ، والأول أضبط [نهر] ولا يخير إلا إذا كان مجتهدا ، بل المقلد متى خالف معتمد مذهبه لا ينفذ حكمه ،
__________
(1) [ حاشية ابن عابدين ] ( 4\498) .
(2) [حاشية ابن عابدين] (5\400) .

وينقض ، هو المختار للفتوى ، كما بسطه المصنف في فتاويه وغيره . . وفي القسهتاني وغيره .
وقال (1) ابن عابدين : ولو قيد السلطان القاضي بصحيح مذهبه كما في زمننا ـ تقيد بلا خلاف ، ولو قيده بضعيف المذهب فلا خلاف بعدم صحة حكمه .
وقال (2) أيضا نقلا عن معروضات أبي السعود : إن العبد الآبق إذا كان من عبيد العسكرية فقد صدر الأمر السلطاني بمنع القضاة من بيعه كيلا يتخذ العبيد الإباق وسيلة للتخلف من خدمة الجيش ، ثم قال : وحينئذ لا يصح بيع هؤلاء العبيد ، بل يؤخذون من مشتريهم ، ويرجع المشتري بالثمن ، وكذلك بيع العبيد الآبقين من الرعايا إذا بيعوا بغبن فاحش ، وبذلك ورد الأمر السلطاني فليحفظ فإنه مهم .
وقال في [حاشية ابن عابدين ] صفحة (408) ج (5) : فأما المقلد فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة فلا يملك المخالفة ، فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم . انتهى . . قال في ( الشر نبلاليه) : عن [البرهان] : وهذا صريح الحق الذي يعض عليه بالنواجذ . أهـ .
وقال في [النهر] : وادعى في البحر أن المقلد إذا قضى بمذهب غيره أو برواية ضعيفة أو بقول ضعيف ـ نفذ . وأقوى ما تمسك به ما في البزازية إذا لم يكن القاضي مجتهدا أو قضى بالفتوى على خلاف مذهبه نفذ وليس لغيره نقضه ، وله نقضه كذا عن محمد ، وقال الثاني : ليس له نقضه . . انتهى .
__________
(1) [حاشية ابن عابدين] ( 4\369) .
(2) [حاشية ابن عابدين] ( 3\325)

وما في [الفتح] يجب أن يعول عليه في المذهب ، وما في البزازية محمول على روايتين عنهما إذ قصارى الأمر أن هذا منزل منزلة الناسي لمذهبه وقد مر عنهما في المجتهد أنه لا ينفذ ، فالمقلد أولى .
المذهب المالكي :
ويجب (1) على كل من الخليفة والقاضي إذا لم يكن مجتهدا مطلقا أن يحكم بالراجح من مذهب إمامه أو أصحاب إمامه ، لا بمذهب غيره ولا بالضعيف من مذهبه ، وكذا المفتي فإن حكم بالضعيف نقض حكمه إلا إذا لم يشتهر ضعفه وكان الحاكم به من أهل الترجيح وترجح عنده ذلك الحكم فلا ينقض ، وإن حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه ، لكن القول بأنه يلزمه الحكم بمذهب إمامه ليس متفقا عليه حتى قيل : ليس مقلده رسولا أرسل إليه ، بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه ألا يحكم إلا بمذهب إمامه ، فقيل : لا يلزمه الشرط ، وقيل : بل ذلك يفسد التولية ، وقيل : يمضي الشرط للمصلحة [الشرح الكبير والدسوقي على مختصر خليل] .
وسئل (2) القرافي : هل يجب على الحاكم أن لا يحكم إلا بالراجح عنده كما يجب على المجتهد ألا يفتي إلا بالراجح عنده أو له أن يحكم بأحد القولين وإن لم يكن راجحا عنده ؟ .
فأجاب قائلا : إن الحاكم إن كان مجتهدا فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده ، وإن كان مقلدا جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه ، وأن يحكم به وإن لم يكن راجحا عنده مقلدا في رجحان القول المحكوم به
__________
(1) [الشرح الكبير والدسوقي] (4\130) .
(2) [ الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام] (79)

إمامه الذي يقلده ، كما يقلده في الفتيا ، وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا فحرام إجماعا . . إلخ .
قال (1) محمد بن عبد الرحمن الحطاب : قال ابن الحاجب : وللإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه في الاجتهاد أو التقليد ، ولو شرط الحكم بما يراه كان الشرط باطلا والتولية صحيحة ، قال الباجي : كان في سجلات قرطبة ، ولا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده ، قال في [التوضيح] : للإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه ، كالمالكي يولي شافعيا أو حنيفا ولو شرط ـ أي : الإمام ـ على القاضي الحكم بما يراه الإمام من مذهب معين أو اجتهاد له ـ كان الشرط باطلا وصح العقد ، وهكذا في [ الجواهر ] عن الطرطوشي ، وقال غيره : العقد غير جائز ، وينبغي فسخه ورده ، وهذا إنما هو إذا كان القاضي مجتهدا ، وهكذا المازري فيه قال : وإن كان الإمام مقلدا وكان متبعا لمذهب مالك أو اضطر إلى ولاية قاض مقلد ـ لم يحرم على الإمام أن يأمره أن يقضي بين الناس بمذهب مالك ، ويأمره أن لا يتعدى في قضائه مذهب مالك ؛ لما يراه من المصلحة في أن يقضي بين الناس بما عليه أهل الإقليم والبلد الذي فيه هذا القاضي ، وقد ولى سحنون رجلا سمع بعض كلام أهل العراق ، وأمره أن لا يتعدى الحكم بمذهب أهل المدينة . . انتهى المقصود .
قال (2) ابن فرحون : قال الشيخ أبو بكر الطرطوشي : أخبرنا القاضي أبو الوليد الباجي : أن الولاة بقرطبة إذا ولوا رجلا القضاء شرطوا عليه في
__________
(1) [ مواهب الجليل] (6\98) .
(2) [ تبصرة الحكام] ( 1\48) .

سجله أن لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده ، قال الشيخ أبو بكر : وهذا جهل عظيم منهم ، يريد أن الحق ليس في شيء معين ، وإنما قال الشيخ أبو بكر هذا لوجود المجتهدين وأهل النظر في قضاة ذلك الزمان ، فتكلم على أهل زمانه وكان معاصرا للإمام أبي عمر بن عبد البر ، والقاضي أبي الوليد الباجي ، والقاضي أبي الوليد بن رشد ، والقاضي أبي بكر بن العربي ، والقاضي أبي الفضل ، والقاضي أبي محمد بن عطية صاحب التفسير ، وغير هؤلاء من نظرائهم ، وقد عدم هذا النمط في زماننا من المشرق والمغرب .
وهذا الذي ذكره الباجي عن ولاة قرطبة ورد نحوه عن سحنون ، وذلك أنه ولى رجلا القضاء ، وكان الرجل ممن سمع بعض كلام أهل العراق ، فشرط عليه سحنون أن لا يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك . . . قال (1) ابن رشد : وهذا يؤيد الباجي ، ويؤيد ما قاله الشيخ أبو بكر ، فكيف يقول ذلك ، والمالكية إذا تحاكموا إليه فإنما يأتونه ؛ ليحكم بينهم بمذهب مالك ؟! انتهى المقصود .
قال (2) الدسوقي : بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه أن لا يحكم إلا بمذهب إمامه : فقيل : لا يلزمه الشرط ، وقيل : بل ذلك يفسد التولية ، وقيل : يمضي الشرط للمصلحة .
المذهب الشافعي :
قال : (3) النووي وجلال الدين المحلي : ( ويحكم باجتهاده إن كان
__________
(1) [الدسوقي على مختصر خليل] (4\130) .
(2) [ مواهب الجليل] .
(3) [المحلي على المنهاج] (4\29) .

مجتهدا ، أو اجتهاد مقلده ـ بفتح اللام ـ أن كان مقلدا ـ بكسرها ـ حيث ينفذ قضاء المقلد ) .
وقال (1) قليوبي على قول النووي : ( واجتهاد مقلده ) أي : المعتمد عند مقلده إن لم يكن هو متبحرا ، وإلا فباعتماده لا يجوز له الحكم بغير مذهبه .
وقال (2) الرملي على قول النووي : ( مجتهد) قال : فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية ولا مقلد . . . ومضى إلى أن قال بعد بيان صفة المجتهد المطلق : واجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه . أما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه ، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع ، فإنه مع المجتهد كالمجتهد في نصوص الشرع ، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه ، كما لا يجوز له الاجتهاد مع النص .
قال (3) الإمام فخر الدين في كتابه : [ملخص البحر] : لا يجوز لمفت على مذهب إمام أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته في ذلك المذهب ، وأما المقلد فلا يجوز له الحكم بغير مذهب مقلده ، إذا ألزمناه اتباعه ، ذكره الغزالي واقتصر عليه في [الروضة] وغيرها ، وقال ابن الصلاح : لا يجوز لأحد في هذا الزمان أن يحكم بغير مذهبه ، فإن فعل نقض ؛ لفقد الاجتهاد ، وكذا في [أدب القضاء] للغزي ـ كلام ابن الصلاح ، ومرادهم بالمقلد : من حفظ مذهب إمام ونصوصه لكن عاجز عن تقويم ـ وفي
__________
(1) [قليوبي على المنهاج] (4\298) .
(2) [ نهاية المحتاج ] (8\240) .
(3) [مجموع المنقور] (2\152) .

نسخة : تقديم ـ أدلته غير عارف بغوامضه أهـ . بواسطة ـ المنقور .
المذهب الحنبلي :
وعلى المقلد (1) أن يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها ، ويقلد كبار مذهبه في ذلك ، ويحكم به ولو اعتقد خلافه ؛ لأنه مقلد ، ومخالفة المقلد في فتواه نص إمامه كمخالفة المفتي نص الشارع [الإنصاف] ، ومن حاشية ابن قندس قوله : ( فعلى هذا يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها) ويقلد كبار مذهبه في ذلك ، ظاهره وجوب مراعاة ألفاظ إمامه ، ووجوب الحكم بمذهب إمامه ، وعدم الخروج عن الظاهر عنه ، وهذا كله يدل على أنه لا يصح حكمه بغير ذلك ؛ لمخالفته الواجب عليه . . إلى أن قال : وظاهر ما ذكره المصنف هنا وجوب العمل بقول إمامه ، والمنع من تقليده غيره ، وظاهره ترجيح القول من منع تقليده غيره ، وهذا هو اللائق لقضاة الزمان ؛ ضبطا للأحكام ، ومنعا من الحكم بالتشهي . فإن كثيرا من القضاة لا يخرجون من مذهب إمام بدليل شرعي ، بل لرغبة في الدنيا ، وكثرة الطمع ، فإذا ألزم بمذهب إمامه كان أضبط وأسلم ، وإنما يحصل ذلك إذا نقض حكم بغير مذهب إمامه ، وإلا فمتى أبقيناه حصل مراد قضاة السوء ، ولم تنحسم مادة السوء ، ويرشح ذلك بأن يقال : هذه مسألة خلافية فبعضهم ألزم بذلك ، وبعضهم لم يلزمه ، والإمام إذا ولاه الحكم على مذهب إمامه دون غيره فهو حكم من الإمام بإلزامه بذلك فيرتفع الخلاف . . . إلى أن قال : قال بعض أصحابنا : مخالفة المفتي إمامه الذي قلده كمخالفة المفتي نص
__________
(1) [الإنصاف ] (11\179) .

الشارع . . . إلى أن قال : قال النووي في [الروضة] : (فرع) : إذا استقضى مقلدا للضرورة فحكم بغير مذهب مقلده ، قال الغزالي : إن قلنا : لا يجوز للمقلد تقليد من شاء ، بل عليه اتباع مقلده نقض حكمه ، وإن قلنا : له تقليد من شاء لا ينقض . . ثم قال : الذي تقرر : أن مذهبنا : أن الحاكم لا يجوز له الحكم بغير مذهبه ، بخلاف الشافعية فيجوز أن يحكم بغير مذهب إمامه ، قال شيخنا . .
قال (1) شيخ الإسلام ابن تيمية : وأولو الأمر صنفان : الأمراء ، والعلماء ، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس ، فعلى كل منهم أن يتحرى بما يقوله ويفعله ؛ طاعة الله ورسوله ، واتباع كتاب الله ، ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان الواجب ، وإن لم يمكن لضيق الوقت ، أو عجز الطالب ، أو تكافؤ الأدلة عنده ، أو غير ذلك - فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه ، هذا أقوى الأقوال . وقد قيل : ليس له التقليد بكل حال ، وقيل : له التقليد بكل حال ، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد .
وقال : ثم قد يكون الحاكم وقت الوقف له مذهب ، وبعد ذلك يكون للحاكم مذهب آخر . . كما يكون في العراق وغيرها من بلاد الإسلام فإنهم كانوا يولون القضاء تارة لحنفي ، وتارة لمالكي ، وتارة لشافعي ، وتارة لحنبلي . وهذا القاضي يولي في الأطراف من يوافقه على مذهبه تارة ، أو يخالفه أخرى ، ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين بطل الشرط ، وفي فساد العقد وجهان .
__________
(1) [فتاوى شيخ الإسلام] (21\73 ، 74) .

ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط (فعلوا) ، فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلا وظلما أعظم مما في التقدير - كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ، ولكن هذا لا يسوغ لواقف أن يجعل النظر في الوقف إلا لذي مذهب معين دائما ، مع إمكان إلا أن يتولى في ذلك المذهب ، فكيف إذا لم يشرط ذلك ؛ ولهذا كان في بعض بلاد الإسلام يشرط على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب معين ، كما صار أيضا في بعضها بولاية قضاة مستقلين ، ثم عموم النظر في عموم العمل ، وإن كان في كل من هذا نزاع معروف ، وفيمن يعين إذا تنازع الخصمان : هل يعين الأقرب أو بالقرعة؟ فيه نزاع معروف ، وهذه الأمور التي فيها اجتهاد إذا فعلها ولي الأمر نفذت .

أما العلماء المعاصرون الذين يرون التدوين والإلزام فإننا نورد أقوالهم كما يلي :
قال (1) الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء : والاجتهاد الإسلامي قد أقر لولي الأمر العام من خليفة أو سواه أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها ، ويأمر بالعدل بقول ضعيف مرجوح إذا اقتضت المصلحة الزمنية ذلك ، فيصبح هو الراجح الذي يجب العمل به ، وبذلك صرح فقهاؤنا وفقا لقاعدة : (المصالح المرسلة) ، وقاعدة : (تبدل الأحكام بتبدل الزمان) ، ونصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أن السلطان إذا أمر بأمر في موضوع اجتهادي - أي : قابل للاجتهاد ، غير مصادم للنصوص القطعية في
__________
(1) [المدخل الفقهي العام] (1\391) ، ونسبه إلى [رد المحتار] (1\55) .

الشريعة - كان أمره واجب الاحترام والتنفيذ شرعا .
وقال (1) أيضا تعليقا على ذلك : جاء في كتاب الوقف من [الدر المختار] ، وحاشيته [رد المحتار] نقلا عن معروضات المولى أبي السعود - وهو مفتي المملكة العثمانية ، ثم قاضي القسطنطينية في عهد السلطانين : سليمان ، وسليم ، ومن كبار رجال المذهب الحنفي المتأخرين ، المعول على فتاويهم وترجيحاتهم - أنه إذا صدر الأمر السلطاني بعدم نفاذ وقف المدين في القدر الذي يتوقف تسديد الدين من أمواله عليه قطعا ؛ لما يلجأ إليه بعض الناس من وقف أموالهم ؛ لتهريبها من وجه الدائنين .
وبناء على الأمر صرح الفقهاء من بعده بعدم نفاذ مثل هذا الموقف شرعا ، وقد كانت النصوص في أصل المذهب صريحة في نفاذ وقف المدين ، ولو كان دينا محيطا بجميع أمواله ؛ لأن الدين إنما يتعلق بذمته لا بعينه . . . ومضى إلى أن قال : والمهم جدا في هذه النصوص ليس هو الموضوعات التي وردت فيها ، بل المبدأ الفقهي الذي تتضمنه ؛ لما له من تأثير ذي بال في شتى الأحكام .
وقال الدكتور أحمد موافي في كتابه [الفقه الجنائي المقارن] : ومن القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية : أن لولي الأمر ولاية حمل الناس على ما يختاره لهم من الأحكام ، وصياغتها في نصوص مكتوبة يلتزم بها القضاة . وينهي الدكتور أحمد موافي بحثه بقوله : وهكذا نخلص مما تقدم إلى : 1 - أن تدوين الأحكام في الشرع عمل سائغ .
__________
(1) [المدخل الفقهي العام] (1\392) وما بعدها .

2 - أن الأحكام موجودة من قبل التدوين على عكس القوانين الوضعية ، فإنها لا تعتبر قائمة إلا من بعد تدوينها .
3 - وأن غير المدون في القوانين لا يعتبر حكما ، ولكنه في الشرع يستدل عليه بالاجتهاد ، ويستنبط بالطرق المرسومة لذلك في علم الأصول .
4 - وأنه يمكن مسايرة التطور بالبحث عن حكم الله وصياغته في مواد كلما دعت حاجة المجتمع ومصلحته إلى ذلك ؛ لأنه حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله .
5 - وأن لولي الأمر ولاية حمل الناس على إلزامهم باتباع حكم بذاته غير مقيد في ذلك المجتمع ومصلحته ، مادام يرى المصلحة في ذلك .
هذا وقد أسلفنا أن الشرع الإسلامي من وضع الله سبحانه وتعالى فكل حكم في الشريعة الإسلامية منه جلت قدرته ، قال تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } (1) فقد أنزل الله الشريعة على رسوله بالقرآن الكريم ، وبما أوحاه إليه من أحكام ، وبما أقره عليه من اجتهاد ، وفي ذلك يقول سبحانه : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } (2)
وقال الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر المتوفى عام 1365 هـ ، وكان رئيسا لمحكمة مصر الشرعية العليا : القاضي لا ينفذ قضاؤه ، بخلاف مذهب متبوعه عامدا أو ناسيا ؛ لأنه إنما ولي ليحكم بمذهب متبوعه - كأبي حنيفة مثلا - فهو معزول عن الحكم بغير هذا
__________
(1) سورة الأنعام الآية 57
(2) سورة الجاثية الآية 18

المذهب ، وللسلطان أن يحكم ويقضي بين الخصوم على المفتى به ، ومتى صادف مجتهدا فيه نفذ أمره ، ولا شبهة في أن علة عدم نفاذ حكم القاضي بخلاف مذهبه ، سواء كان مجتهدا أم مقلدا - انحصرت في أمرين :
الأول : اتباع الهوى .
الثاني : عزله عن خلاف مذهبه .
ونحن لا نخالف في هذا ، ونصرح بأن الحكم بالهوى باطل . ونصرح بأن الحكم بخلاف ما أذن به القاضي من الحاكم الذي ولاه باطل ، ولكن الذي نتحدث عنه شيء وراء هذا كله ، ذلك أننا نتحدث عن شيء سيضعه الحاكم ويلزم فيه القضاة باتباع مذاهب معينة غير مذاهبهم لمصلحة رآها ، ورآها المسلمون ، ونحن نصرح بأن هذا جائز شرعا ، وأن القاضي يجب عليه شرعا أن يقضي في مثل هذا بما يقيده به الحاكم ، ولا يجوز له أن يقضي بغير ما قيده به الحاكم ، وإلا كان قضاؤه باطلا ؛ وذلك لأن القاضي نائب عن الحاكم في الحكم ، وقد كان يجوز للحاكم أن يقضي بالأقوال التي يريد تقييد قضائه بها ، فيجب عليهم اتباع شروط التوكيل عنه . . . إلى أن قال : والمجتهد يحرم عليه شرعا أن يعمل بغير رأيه ، سواء كان مجتهدا مطلقا ، أو مجتهدا في مسألة ، أو مسائل خاصة ، والمقلد الذي يستطيع النظر في الأدلة وترجيح بعضها على بعض - يجب عليه أن يعمل بما يترجح عنده بالدليل ، ولا يجوز له أن يتخير ، ومن يستطيع الترجيح يتخير أو يعمل بما يطمئن إليه قلبه .
والقاضي والمفتي لا يحيدان عن هذا ، غير أن القاضي يمتاز عمن يريد العمل لنفسه ذلك أنه عندما يقلد القضاء من الحاكم يجب عليه اتباع شروط

الحاكم الذي ولاه ، فإن ولاه على أن يحكم بمذهب إمام معين - كأبي حنيفة مثلا - وجب عليه امتثاله ، وإن حتم عليه العمل بالراجح وجب عليه امتثاله ، وإن نص في منشوره على العمل بأقوال قيل إنها مرجوحة في مسائل معينة - وجب عليه امتثاله ، وإن نص في منشوره على العمل بغير مذهب أبي حنيفة في مسائل معينة وجب عليه امتثاله ، ومتى حكم القاضي بما يقيده له الحاكم الذي ولاه لا يمكن أن يقال : إن حكمه للهوى والغرض ، ولا أنه حكم بأخذ المال .
أما الشيخ أبو الأعلى المودودي فقد دعا في كتابه [القانون الإسلامي] إلى تدوين الأحكام الفقهية على شكل مواد وفق الأسلوب الحديث ؛ لتنفذها المحاكم ، وتدرسها كليات الحقوق .
ومن هذه الأقوال التي نقلناها عن عدد من علماء المذاهب الأربعة وما اطلعنا عليه ضمن بحث اللجنة الدائمة نستطيع أن نقول : إن الإجماع يكاد يكون منعقدا على أن من توفرت فيه من القضاة شروط الاجتهاد التي ذكرها العلماء في كتبهم فإنه لا يجوز إلزامهم بالحكم بمذهب معين ، أما إذا كان القاضي مقلدا ولا يتصف بأي شروط من شروط الاجتهاد - كما هو حال قضاتنا - فإن الأقوال طافحة وصريحة بأن إلزام أمثال هؤلاء بالحكم بمذهب معين - أمر سائغ . والذين لا يجيزون الإلزام بالحكم بمذهب معين فإنهم لا يقولون بأن غير المجتهد من القضاة لا يصح إلزامه ؛ لأنهم يرون أن تولية القضاء غير المجتهد غير صحيحة ، وهو رأي فيه من الحرج والضيق الشيء الكثير ، وما أحسن قول شهاب الدين بن عطوة في هذا المقام حيث يقول : فإن ولاية الحكام في وقتنا ولايات صحيحة ؛ لأنهم سدوا من ثغور

الإسلام ثغرا سده فرض كفاية ، ولو أهملنا هذا القول ومشينا على طريقة التفاؤل التي يمشي عليها من مشى من الفقهاء الذين يذكر كل منهم في كتابه شروطا في القاضي إذا قلنا به - لم يصح أن يكون أحد قاضيا حتى يكون من أهل الاجتهاد ، ثم يذكر في شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام - فهذه إحالة ، أو كالتناقض وكانت تعطيلا للأحكام وسدا للباب وألا ينفذ حق ولا يكاتب فيه ، ولا تقام بينة إلى غير ذلك من القواعد الشرعية - فكان هذا غير صحيح . ا هـ .
رابعا : لئن كان للإلزام بالحكم بقول معين بعض المآخذ التي قد يكون من أهمها : تبلد الفكر ، والجمود بالبحث ، فإن في ذلك من المصالح العامة التي تعود على الضروريات الخمس بالعناية والرعاية والحفاظ ما يدعو إلى التغاضي عن هذه المآخذ ؛ تطبيقا لقاعدة ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما ، فالدواعي إلى الأخذ بذلك كثيرة ، نذكر منها ما يلي :
أ - ما عليه غالب القضاة من مستوى علمي ضعيف لا يستطيعون به الاجتهاد لأنفسهم ، ولا إدراك الراجح من مذهب من هم منتسبون إليه من بين الأقوال المبثوثة في كتب المذهب ، لا سيما وفي الكتب المؤلفة في المذهب أقوال مختلفة يذكر كل مؤلف في الغالب : أن ما ذكره في هذه المسألة مثلا هو المذهب ، كما هو الأمر بالنسبة لـ[المنتهى] و[الإنصاف] وغيرهما من كتب الحنابلة .
ب - ما نتج عن إطلاق الأمر للقاضي في تعيينه الراجح من المذهب أو إطلاق الأمر إليه في الاجتهاد في الحكم بما يراه من الاختلاف في

الأحكام الصادرة من المحاكم ، ومن الاختلاف في اتجاهاتها - فهذه تحكم بصرف النظر عن دعوى القسامة مثلا ؛ لعجز المدعي عن إحضار خمسين رجلا يحلفون خمسين يمينا على قتل المدعى عليه صاحبهم ، والأخرى تحكم بقتل المدعى عليه ؛ لحلف ورثة القتيل خمسين يمينا ، فيترك الأول ويقتل الثاني ، كما أن إحدى المحاكم تحكم بقطع يد السارق بغض النظر عن مطالبة المسروق منه ذلك ، بينما تشترط المحكمة الأخرى للحكم بقطع يده مطالبة المسروق منه بذلك ، فتقطع يد الأول وتترك يد الثاني ، وهذه تحكم بالشفعة ، وهذه تمنعها ، وهذه تحكم بملكية المقطع ، والأخرى تحكم بالاختصاص دون التملك ؛ مما كان لذلك أثره السيئ في نفوس كثير من الناس قد يكون منه اتهام القضاة في أحكامهم بالهوى والتشفي والاستهانة بالحقوق ومجريا .
ج - كثرة الشكاوى من فئات مختلفة داخل البلاد وخارجها من أن القضاء في البلاد غير واضح المعالم حتى لطلبة العلم أنفسهم ، إذ أن أحدهم يمكن أن يكون طرفا في خصومة عند أحد القضاة ، وقد يكون مستواه العلمي أعلى من مستوى القاضي نفسه ، ومع ذلك لا يدري بما يحكم القاضي به ، وقد كان لذلك أثره السيئ في تبرم البعض من حال القضاء لدينا ، وفي الطعن فيه من بعضهم بأنه - بحكم أنه غير واضح المعالم في تحقيق العدل وفض النزاع - ليس موضع ثقة .
د - القضاء على التعللات التي كانت تبريرا لإيجاد محاكم مستقلة عن الجهة الإدارية للقضاء لدينا ؛ كمحاكم الرشوة والتزوير ، ومكافحة

المخدرات ، وفض المنازعات التجارية وغيرها مما هو موجود أو في طريقه إلى الوجود ، مما كان له أثره في تفتت الوحدة القضائية ، وتقلص اختصاص المحاكم الشرعية .
هـ - منع الجائز لدى بعض أهل العلم قد يترتب عليه حصول مفسدة ويخشى أن في الإبقاء على الوضع القائم ما يدعو إلى ما لا تحمد عقباه . وفي التاريخ من ذلك عبر .
و - استحالة تنفيذ الرأي الذي أشار إليه بعض الزملاء في إعطاء بعض القضاة الحرية فيما يحكمون به ؛ للثقة بقدراتهم العلمية ، وتقييد الآخرين بالراجح من مذهب الإمام أحمد ؛ لاستحالة تصنيف القضاة إلى هذين القسمين .
ز - اختلاف وجهات النظر حتى لدى محكمتي التمييز في الرياض ومكة ، ونذكر لذلك مثالا ، فقد سبق أن قامت محكمة التمييز بالرياض بنقض حكم بالقسامة صادر من محكمة الرياض ، لأنه كان مبنيا على قول مرجوح في المذهب بينما كانت محكمة التمييز في مكة المكرمة تشير إلى المحكمة الكبرى بمكة في قضية قتل بأن تحكم فيها بالقسامة بالقول المرجوح الذي قامت محكمة التمييز في الرياض بنقض الحكم المبني عليه .
ح - أن اختلاف الأحكام القضائية في صدر الإسلام لم يبعث على تدوين أحكام موحدة ، وعلى الإلزام برأي معين ؛ لقوة العلماء في ذلك العهد ، وكفايتهم ، فتوفرت الثقة في نفوس الأمة ، وأمنت الفتنة ، فلم يكن ثم حاجة إلى التدوين والإلزام به . أما في زمننا هذا وما قبله من

أزمان بعد أن طرأ الضعف على الكيان الإسلامي - فالحاجة ملحة إلى التدوين بالطريقة المقترحة ، والإلزام بالحكم بمقتضى ما دون - أمر لابد منه ؛ رعاية للمصلحة ، وحفظا للحقوق ، وإبقاء على العمل بأحكام الشريعة في المحاكم الشرعية .
ط - حدوث مسائل جديدة ليس في الكتب الفقهية المعتمدة لدى القضاة لها ذكر ، كالمعاملات المصرفية ، ومسائل المقاولات والمناقصات ، وشروط الجزاء ، ومشاكل الاستيراد والتصدير والتأمين بمختلف جوانبه ، ونحو ذلك مما لا قدرة لغالب القضاة على معرفة الحكم الذي يحكمون به في الخلاف حولها ، مما كان سببا في إيجاد محاكم أخرى لها جهة إدارية مستقلة عن الجهة الإدارية للمحاكم الشرعية ، وفي اشتمال هذه المحاكم على قضاة قانونيين يشتركون مع القضاة الشرعيين ، وذلك ؛ كمحاكم الرشوة ، وفض المنازعات التجارية وغيرها .
ي - هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية ممن أبعدها الاستعمار عن روح الشريعة ، فبعد أن استقلت وتنفست الصعداء من ثقل وطأة المستعمر عليها - راحت تخطط لعودتها إلى الحكم بالشريعة الإسلامية إلا أنها تقرر العجز في اختيار ما تراه ، وليس أمامها شيء ميسور يمكن أن تسير عليه ، ونمثل لذلك بباكستان . وأن الغيورين على الشريعة الإسلامية أخذوا في الآونة الأخيرة يطالبون بوضع قانون إسلامي مستمد من الشريعة الإسلامية ، وعقدت لأجل ذلك المؤتمرات ؛ ولذلك فإن على بلادنا أن تأخذ بزمام المبادرة ، وتقدم

للعالم الإسلامي أحكاما إسلامية مدونة ، وبلادنا أقدر البلاد الإسلامية على مثل تلك المبادرة ؛ لعدم وجود أي سيادة أو فكر للقانون الوضعي . والحمد لله .
خامسا : أن الإلزام بقول معين كان موضع الاعتبار والتنفيذ من الصدر الأول في الإسلام . ففي عهد عثمان رضي الله عنه جمع القرآن على حرف واحد ، ومنع القراءة بالحروف الأخرى ، وأحرق المصاحف المخالفة ؛ وذلك تحقيقا لمصلحة المسلمين ، وحفاظا على وحدة القرآن أن يكون موضع اختلاف ، وكان الخير فيما فعل ، ولا يرد ما قيل بأن الرسم العثماني كان مشتملا على جميع القراءات السبع حسب العرضة الأخيرة ، فإن العرضة الأخيرة لم يشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زيد بن ثابت ، وليس في أمر عثمان للأربعة الأفاضل الذين عهد إليهم بالمهمة أن يكون الجمع طبقا للعرضة الأخيرة . ثم إن تنقيط المصحف كان في القرن الأول من قرون الإسلام قام به الحجاج بن يوسف ، وقد تلقاه الناس بالقبول والارتياح ، واعتبرت هذه مزية كريمة للحجاج ، مع أن التنقيط يستلزم إلغاء القراءات الأخرى في الرسم العثماني ، على افتراض أن يشملها بدون تنقيط . وفي عهد معاوية ألزم بتوريث المسلم من الكافر دون العكس ، فكان شريح يقضي بذلك ويقول : هذا قضاء أمير المؤمنين ، وفي زمننا صدرت عن الجهة المسئولة في القضاء لدينا مجموعة تعاميم لاعتبارها في المحاكم والتمشي بموجبها ، ومن ذلك الاستشمام ومقادير الديات ونظام المساييل وغيرها .
سادسا : ما يقال بأن التدوين خطوة إلى إلغاء الشريعة الإسلامية ،

والاستدلال على ذلك بأن حكومة ما دونت الراجح من مذهب من هي منتسبة إليه في مواد ، وألزمت العمل بذلك في محاكمها ثم ألغت الشريعة مطلقا - فهذا مردود ؛ لأن تلك الحكومة لم يقتصر تنكرها للدين على المسلك القضائي في المحاكم ، وإنما نفضت يدها من الدين مطلقا ، وانتقلت إلى دولة علمانية ، ثم إن هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية ليست دولة أو دولتين لم يكن لها مواد مدونة من الشريعة الإسلامية ، وإنما كانت محاكمها تحكم بالراجح من مذهب إمام ما من أئمة المسلمين فكان منها - والعياذ بالله - أن ألغت العمل بالشريعة الإسلامية ، وأخذت بقوانين أوروبا وغيرها ، وتركت التعاليم الإسلامية عن القضاء خاصة بالأحوال الشخصية . نقصد بذلك أن التدوين ليس وسيلة إلى تحقق ما بدت المخاوف منه .
وأما القول بأن في التدوين تبليدا للفكر ، وجمودا به عن البحث والاستقصاء - فيجاب عن ذلك بأمرين :
الأمر الأول : أن الإلزام بمذهب معين كان موضع التنفيذ لدى كثير من ولاة أمر المسلمين على مختلف الأمصار والأعصار ، ولم يكن هذا مانعا من الاتساع الفقهي ، بل إن مطولات الكتب في الفقه لم توجد إلا في هذه الفترات .
الأمر الثاني : أن الإلزام ليس شاملا للجهات العلمية المختلفة ، وإنما هو خاص بالقضاة فيما يحكمون به ، مع أن القاضي إذا كان لديه الأهلية في البحث والاستقصاء والاجتهاد فإن الجهة المختصة به إداريا ستعير اجتهاده ما يستحقه ، كما أن تدوين الأحكام لا يمكن أن يكون شاملا لجميع القضايا

فإن الأمر كما قيل : (القضايا ممدودة ، والأحكام محدودة) فللقضاة مجال البحث والتحقيق في قياس ما لم ينص عليه على ما نص عليه ، وذلك بالرجوع إلى المصادر الشرعية المستقى منها هذا التدوين . ثم إن طبيعة العمل القضائي لا سيما في العصور المتأخرة تقتضي تبلد الفكر ، وركود الحصيلة ، والقضاة يقررون ذلك ، ويكثرون من الشكوى منه ، وقد روي عن الإمام أبي حنيفة أنه لا يرى أن يتولى القاضي القضاء أكثر من سنتين خشية ضياع علمه .
سابعا : أن النهوض بالمرفق القضائي يتطلب مجموعة عوامل يعتبر التدوين في نظرنا أحدها ، لا أنه العامل الوحيد للنهوض بمستواه . بمعنى : أن الاقتصار عليه لا يعطي نتيجة مرضية في ذلك .
لذلك كله وبحكم ممارسة أكثرنا للأعمال القضائية مدة طويلة - حكما وتدقيقا - وما نتج عن ذلك من إدراك لأحوال القضاة ، واطلاع على جوانب النقص في أحكام غالبيتهم ، وتحسبا لما نخشى وقوعه في حال رفض هذه الفكرة - فإننا نرى جواز تدوين الأحكام الشرعية المختارة من أرجح أقوال العلماء دليلا في كتاب يجري تعميمه على المحاكم وإلزام القضاة الحكم بموجبه ، وإلى أن يتم التدوين نرى أن يؤكد ما سبق صدوره في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - من أن الحكم يكون بالراجح من مذهب الإمام أحمد ، ما عدا المسائل التي يصدر فيها قرار من هيئة كبار العلماء ، أو مجلس القضاء الأعلى بأن الراجح فيها من حيث الدليل خلاف الراجح في المذهب . وإذا ظهر لأحد القضاة وجه للحكم في قضية بخلاف ذلك فعليه الرفع عن وجهة نظره مع ذكر مستنده إلى مرجعه ؛ لدراسة ذلك في مجلس

القضاء الأعلى .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
عضو هيئة كبار العلماء
صالح بن غصون
احتفاظي بالتفصيل الذي
جاء في رأيي المدون بالمحضر
والتقيد بما ورد فيه
...
عضو هيئة كبار العلماء
عبد المجيد حسن
عضو هيئة كبار العلماء
محمد بن جبير
عضو هيئة كبار العلماء
عبد الله بن منيع
...
عضو هيئة كبار العلماء
عبد الله خياط
عضو هيئة كبار العلماء
راشد بن خنين
مع احتفاظي بالتفصيل الذي جاء
في رأيي المدون بالمحضر والمرفقة صورته

(5)
إقامة طابق على شارع الجمراتهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
إقامة طابق على شارع الجمرات
إعداد
اللجنة الدائمة للبعوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فبناء على كتاب صاحب الفضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رقم (127\1) وتاريخ 12\1\1393 هـ ، المحال إلى الأمين العام لهيئة كبار العلماء نحو عرض الاستفتاء المرفق على مجلس الهيئة ؛ لأن هذا الموضوع من المواضيع الهامة ، فأحاله فضيلة الأمين إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، وبرفقه خطاب صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة رقم (59\5\7\ أ م) وتاريخ 4\1\1393 هـ الموجه إلى معالي وزير العدل ، والذي يطلب فيه ما ذكره بقوله : نظرا لتزايد أعداد الحجاج في كل عام ، وخاصة في القفزة الكبيرة التي قفزها العدد في موسم حج هذا العام 1392 هـ وما يصادفه الحجاج من ازدحام شديد عند الرجم ، وبدراسة الوضع من قبل لجنة الحج العليا - اقترح إحداث طابق ثان على شارع الجمرات ، ورفع الشاخص وحوض كل جمرة إلى منسوب يمكن الرجم من الطابق الثاني ؛ وذلك لإتاحة المجال للرجم من أسفل ومن أعلى ؛ تخفيفا للضغط ، وحفاظا

على الأرواح التي قد تزهق نتيجة لهذا الضغط ، وأن يتم التنفيذ إذا كان ذلك يتفق والوجهة الشرعية ، وقد أوصت اللجنة بالكتابة لمعاليكم لإبداء الوجهة الشرعية في ذلك ، وطلب الجواب على ذلك ، بناء على ذلك ، وعلى البرقية عدد (أ م \141) وتاريخ 7\1\1393 هـ ، والتي فيها اقتراح اللجنة العليا للحج بناء حوض خارجي عن الحوض الحالي للجمار مع بقاء الحوض الأول ؛ ليجتمع فيه للحصى الذي لا يستوعبه الحوض الأول . . أعدت اللجنة ما يأتي :
أن هذه الاقتراحات تشتمل على أربعة أمور : على بناء طابق على شارع الجمرات ، وعلى رفع شاخص الجمرات وجدار الحوض ، وعلى رمي الجمرات من أعلى الطابق ، وتوسعة حوض المرمى بوضع حوض خارجي مع بقاء الأول .
1 - أما رمي الجمرات من فوق الطابق ، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رمى جمرة العقبة من فوقها خشية الزحام ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم .
وأما ما روى عبد الرحمن بن يزيد من أنه مشى مع عبد الله بن عمر وهو يرمي الجمرة ، فلما كان في بطن الوادي أعرضها فرماها ، فقيل له : إن ناسا يرمونها من فوقها ، فقال : ( « من ها هنا والذي لا إله إلا هو رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة رماها » (1) متفق عليه - فإنه حث على الفضيلة في الرمي من جهة بطن الوادي عند السعة ، فإذا رماها الحاج في الحوض من فوق طابق أقيم على بطن الوادي - ولو في السعة - فقد أتى بالفضيلة ، فإنه رمى من الجهة التي رمى منها النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1296),سنن الترمذي الحج (901),سنن النسائي مناسك الحج (3073),سنن أبو داود المناسك (1974),سنن ابن ماجه المناسك (3030).

راحلته ، والذي استنكر إنما هو رمي جمرة العقبة في الحوض من الخلف والناس في سعة ، وأما عند الضيق وشدة الزحام فللحاج أن يرمي في الحوض ولو من غير جهة بطن الوادي ، سواء كان في مكان مساو لبطن الوادي أو أعلى منه ، ثم إن القاعدة المقررة عند الفقهاء : أن من ملك أرضا ملك تخومها وما فوقها من الفضاء ، فما فوق بطن الوادي تبع له ، فمن رمى من أعلى الطابق الذي بني على الوادي فهو في حكم من رمى من بطن الوادي ، وبهذا يكون قد أتى بفضيلة الرمي من الجهة التي رمى منها صلى الله عليه وسلم .
2 ، 3 - وأما بناء طابق على شارع الجمرات ورفع الشاخص وجدار الجمرة . . فيمكن أن يقال : ليس فيه مخالفة للشريعة ، بل سماحة الشريعة توجبه وتقتضيه في هذه السنوات التي تزايد فيها عدد الحجاج إلى حد يوقع في الحرج ، بل تزهق فيه الأرواح ، ففي إقامة مثل هذا الطابق دفع للحرج ، وحفظ للنفوس ، وتيسير لأداء النسك على حجاج بيت الله الحرام .
وليس هذا البناء من جنس البناء بمنى للتملك أو الارتفاق الخاص ، بل هو من المرافق العامة التي تسهل أداء نسك الرمي مع الراحة وسلامة النفوس ، وفي رفع الشاخص وجدار حوض الجمرة إلى حد يمكن معه الرمي من أعلى الطابق ومن أسفله إعانة لمن فوق الطابق على معرفة مكان رمي الحصيات ، وسهولة رميها من غير أن يخل ذلك بسهولة الرمي على من كان أسفل الطابق .
4 - وأما توسعة دائرة المرمى بحيث تتسع لوقوف أكثر عدد ممكن من

الحجاج ، وأن تبقى دائرة المرمى الحالية كما هي عليه من السابق ، أي : أن المقصود هو عمل حوض خارجي أوسع من الحالي تتجمع فيه الجمرات التي لا يستوعبها الحوض الحالي - فإن حكم ذلك يتبين من الكلام على سبب مشروعية الرمي وبيان موضع الرمي ، والأصل في مشاعر الحج ، وبيان المستند لبقاء الوضع الحالي للجمار باعتبار مساحة الأرض - لهو الأساس لامتناع بناء حوض خارجي أوسع من الحالي تتجمع فيه الجمرات التي لا يستوعبها الحوض الحالي .
وفيما يلي بيان ذلك :

1 -

سبب المشروع
من المعلوم أن الله جل وعلا ما شرع شيئا إلا لحكمة ، وليس هذا هو الغرض الذي يراد بيانه ، وإنما الذي يراد بيانه ما رواه الإمام أحمد في [المسند ] قائلا : حدثنا سريج ويونس قالا : حدثنا حماد - يعني : ابن سلمة - عن أبي عاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل قال : قلت لابن عباس - وساق الحديث إلى أن قال - : « ويزعم قومك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة ، وأن ذلك سنة ، قال : صدقوا ، إن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما أمر بالمناسك عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابقه ، فسبقه إبراهيم ، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة ، فعرض له شيطان - قال يونس : الشيطان - فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات - ثم ساق بقية الحديث إلى أن قال : قال : ثم ذهب به جبريل إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان ، فرماه

بسبع حصيات حتى ذهب » (1) - الحديث (2) .
درجة هذا الحديث وبيان طبقات رجاله ، وذكر من أخرجه غير الإمام أحمد :
قال أحمد شاكر في بيان درجته : إسناده صحيح ، أبو عاصم الغنوي ثقة ، وثقه ابن معين ، وترجمه البخاري في [الكنى] كعادته رقم (527) ، وأشار إلى هذا الحديث كعادته في إشاراته الدقيقة ، قال : ( أبو عاصم ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس ، قال : الذبيح ، قال حجاج بن منهال ، عن حماد بن سلمة ) ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي على تصحيحه ، وصححه الهيتمي (3) .
بيان طبقات سنده :
الأولى : سريج بن النعمان بن مروان الجوهري اللؤلؤي ، قال (4) ابن حجر : قال المفضل الغلابي عن ابن معين : ثقة ، وسريج بن يونس أفضل منه ، وقال العجلي : ثقة ، وقال أبو داود : ثقة حدثنا عنه أحمد بن حنبل ، غلط في أحاديث ، وقال النسائي : ليس به بأس ، وقال ابن مسعد : كان ثقة . . . قال ابن حجر : قلت : وقال الحاكم عن الدارقطني : ثقة مأمون ، وقال ابن حبان في [الثقات] : يكنى أبا الحارث ، ورمز له ابن حجر بأنه روى له البخاري والأربعة .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/298).
(2) [المسند] (4\247-249) ، طبعة شاكر .
(3) [المسند] ، (4\247-248) ، طبعة شاكر .
(4) [تهذيب التهذيب] (3\457) .

الثانية : حماد بن سلمة ، قال (1) ابن حجر : حماد بن سلمة بن دينار البصري ، أبو سلمة ، ثقة عابد ، أثبت الناس في ثابت ، وتغير حفظه بآخره من كبار الثامنة .
الثالثة : أبو عاصم الغنوي ، قال (2) ابن حجر : أبو عاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس في الرمل وغيره ، وعنه حماد بن سلمة ، قال أبو حاتم : لا أعرف اسمه ولا أعرفه ، ولا حدث عنه سوى حماد ، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين : ثقة (د) .
وقال (3) ابن حجر أيضا : أبو عاصم الغنوي : بالمعجمة والنون مقبول من الخامسة ، وقال (4) الخزرجي : أبو عاصم الغنوي : بفتح المعجمة والنون عن أبي الطفيل ، وعنه حماد بن سلمة فقط ، وثقه ابن معين (د) .
الرابعة : أبو الطفيل ، وهو أحد الصحابة كما ذكره ابن حجر (5) ، واسمه عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي ، أبو الطفيل ، ذكر من أخرجه غير الإمام أحمد : أخرجه (6) الحاكم بسنده مختصرا عن ابن عباس رفعه ، وقال بعد إخراجه : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ورمز له الذهبي في [تلخيصه لمستدرك الحاكم] بأنه على شرط
__________
(1) [تقريب التهذيب] صـ (135) .
(2) [تهذيب التهذيب] (12\143) .
(3) [التقريب] صـ (596) .
(4) [خلاصة تهذيب تهذيب الكمال] صـ (453) .
(5) [التقريب] صـ (239) .
(6) [المستدرك] (1\466) .

مسلم ، وأخرجه (1) البيهقي من طرق بعضها موقوف وبعضها مرفوع ، وذكره الهيتمي في [مجمع الزوائد] في موضعين : الأول : في (3\259) ، وقال بعده : رواه أحمد والطبراني في [الكبير] ورجاله ثقات ، والثاني : في (8\200 ، 201) ، وقال بعده : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي عاصم الغنوي وهو ثقة ، وساقه ابن كثير (2) في تفسيره عن الإمام أحمد من طريقين عن ابن عباس ، ولم يتعرض للإسنادين بشيء .
ونسبه (3) السيوطي إلى ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في [شعب الإيمان] ، عن ابن عباس ، وذكر الساعاتي (4) : أنه أخرجه الإمام أحمد في [المسند] أيضا عن ابن عباس ، وفيه عطاء بن السائب ، وقد اختلط .
__________
(1) [سنن البيهقي] (5\153) .
(2) [تفسير ابن كثير] (4\15) .
(3) الدر المنثور ، (5\280) .
(4) [ترتيب المسند] (12\168) .

2 -

موضع الرمي
: وبتأمل ما سبق ذكره على هذا الحديث يظهر أنه يدل على أنه حجة ، وهو حجة أيضا على بدء مشروعية الرمي ، وعلى بيان مواضع الرمي ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى الجمار في هذه المواضع في حجة الوداع ، وهو صلى الله عليه وسلم قال : « خذوا عني مناسككم » (1) ، فصار رميه الجمار في هذه المواضع شرعا دائما إلى يوم القيامة ، وقد تلقاه الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا .
وفيما يلي بيان كلام ابن منظور في موضع الجمار ، ونبذة من كلام بعض
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062).

فقهاء المذاهب الأربعة مرتبة حسب الترتيب الزمني لنشأة المذاهب .
قال (1) ابن منظور : والجمرة : اجتماع القبيلة الواحدة على من ناوأها من سائر القبائل ، ومن هذا قيل لمواضع الجمار التي ترمى بمنى : جمرات ؛ لأن كل مجمع حصى منها جمرة ، وهي ثلاث جمرات .
قال (2) القاري : ولو وقف الحصى على الشاخص أي : أطراف الميل الذي هو علامة للجمرة - أجزأه ، ولو وقف على قبة الشاخص ولم ينزل عنه ؛ فالظاهر أنه لا يجزيه للبعد ، كما في [النخبة] بناء على ما ذكره من أن محل الرمي الموضع الذي عليه الشاخص وما حوله ، لا الشاخص .
وقال (3) الحطاب : قال الباجي : الجمرة : اسم لموضع الرمي ، قال ابن فرحون في [شرحه على ابن الحاجب ] : وليس المراد بالجمرة البناء القائم ، وذلك البناء قائم وسط الجمرة علامة على موضعها ، والجمرة اسم للجميع .
وقال (4) النووي : قال الشافعي رحمه الله تعالى : الجمرة : مجتمع الحصى ، لا ما سال من الحصى ، فمن أصاب مجتمع الحصى بالرمي أجزأه ، ومن أصاب مسايل الحصى الذي ليس هو بمجتمعه لم يجزه ، والمراد : مجتمع الحصى في موضعه المعروف ، وهو الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو حول ورمى الناس في غيره واجتمع فيه الحصى لم يجزه .
__________
(1) [لسان العرب] (5\226) .
(2) [إرشاد الساري إلى مناسك ملا علي قاري] صـ (164) .
(3) [مواهب الجليل شرح مختصر خليل 3\134] .
(4) [الإيضاح وشرحه] ، صـ (410) ، ويرجع أيضا إلى [نهاية المحتاج شرح المنهاج] (3\313) .

قال الهيتمي على قول النووي : الجمرة : مجتمع الحصى ، حده الجمال الطبري بأنه ما كان بينه وبين أصل الجمرة ثلاثة أذرع فقط ، وهذا التحديد من تفهمه ، وكأنه قرر به مجتمع الحصى غير السائل ، والمشاهدة تؤيده ، فإنه مجتمعه غالبا ، لا ينقص عن ذلك .
وقال أيضا على قول النووي : والمراد : مجتمع الحصى . . . إلخ يدل على أن مجتمع الحصى المعهود الآن بسائر جوانب الجمرتين الأوليين ، وتحت شاخص جمرة العقبة - هو الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم ، وليس ببعيد ، إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يعرف خلافه . . . . . إلخ .
وقال (1) البهوتي : قد علمت مما سبق أن المرمى : مجتمع الحصى - كما قال الشافعي - لا نفس الشاخص ولا مسيله .
وقال (2) صاحب [شفاء الغرام] نقلا عن الأزرقي بشأن جمرة العقبة تحت هذه الترجمة (ذكر ما غير من فرش أرض الكعبة) : وكانت الجمرة زائلة عن موضعها أزالها جهال الناس برميهم الحصى ، وغفل عنها حتى أزيحت من موضعها شيئا يسيرا منها ، ومن فوقها ، فردها إلى موضعها الذي لم يزل عليه ، وبنى من ورائها جدارا أعلاه عليها ومسجدا متصلا بذلك الجدار ؛ لئلا يصل إليها من يريد الرمي من أعلاها . . . ومضى إلى أن قال : والذي أشار إليه الأزرقي بقوله : (فردها) وبقوله : (وبنى) هو : إسحاق بن سلمة الصائغ الذي أنفذه المتوكل العباسي لعمل أمور تتعلق
__________
(1) [الكشاف] ، (2\450) .
(2) [شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام] ، (1\294) .

بالكعبة وغير ذلك .

3 -

الأصل في تحديد المشاعر التوقيف
: فلا دخل للعقل فيها بزيادة أو نقص أو تغيير عن مواضعها ، إذ أن تعيين هذه المواضع وتحديدها من قبل الشرع ، ومواضع رمي الجمار من ذلك ، فلا يزاد فيها عما كان عليه الأمر منذ أن جعلها الله مواضع لأداء العبادات التي شرع أداؤها فيها ، وهذا كتحديد أوقات الصلوات الخمس ، وتعيين ما لكل صلاة من الوقت ، وكذلك أعداد الصلوات وكلمات الأذان .

4 -

المستند لبقاء الوضع الحالي للجمار
باعتبار مساحة الأرض هو استصحاب العكس أو الاستصحاب المقلوب (1) .
وحقيقته : ثبوت أمر في الزمن الماضي بناء على ثبوته في الزمن الحاضر ، وهو حجة ، وهذه المسألة مدار البحث من المسائل المندرجة تحت هذا النوع ، إذ إن هذه المواضع المشاهدة هي متحددة الآن ، والأصل أنها لم يطرأ عليها تغيير ، فثبت لها ذلك في الزمن الماضي ، بناء على ثبوته في الوقت الحاضر .
__________
(1) [مراقي السعود وشرحها] ، صـ (210) ، و[فصول البدائع في أصول الشرائع] (2\388) .

5 - قد يقال : لا يجوز بناء حوض خارجي أوسع من الحالي : ومستند المنع هو : قاعدة سد الذرائع ، إذ أن بناء هذا الحوض يؤدي إلى التباس المرمى على الناس ، فيرمون فيه ، والرمي فيه ممتنع ؛ لأن هذه القطعة ليست من المرمى ، وقاعدة سد الذرائع معلومة من القرآن والسنة ، وقد عمل بها أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن احتذى

حذوهم ، ويذكرها الأصوليون في باب الاستدلال ، وقد (1) قررها ابن القيم في [إعلام الموقعين] وبين منها ما يمتنع وما لا يمتنع ، وساق لتأييد ما ذكره تسعة وتسعين وجها .
ومما يشهد لتوقع التباس المرمى الصحيح على الناس بالحوض الذي سيزاد - ما حصل من الالتباس على الناس حينما أزيل الجبل الواقع شرق العقبة ، والذي كان متصلا بها ، حيث صار بعض الناس يرمون هذه الجمرة من الجهة الشرقية في غير المرمى .
ويمكن أن يستخلص مما تقدم ما يلي :
1 - يجوز بناء طابق على شارع الجمرات ورفع الشاخص وجدار الجمرة بناء على قاعدة : (المشقة تجلب التيسير) .
2 - يجوز رمي الجمرة من فوق الطابق ؛ لفعل عمر رضي الله عنه ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، وقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه محمول على الأفضلية ، ولأن من ملك أرضا ملك تخومها وهواءها ، هذا هو المقرر شرعا .
3 - بدء مشروعية الرمي ، وبه تحدد موضع الرمي ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار الثلاث في حجة الوداع والصحابة معه ، وقال صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني مناسككم » (2) ، وتلقى الصحابة رضوان الله عليهم ذلك عنه صلى الله عليه وسلم ، وتلقى ذلك عن الصحابة التابعون ومن بعدهم إلى يومنا هذا .
4 - ما سبق من النقول يدل على أن المرمى هو مجتمع الحصى .
__________
(1) [إعلام الموقعين] (3\119) .
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3062).

5 - ما قرره الطبري من تحديد مجتمع الحصى بأنه ما كان بينه وبين أصل الجمرة ثلاثة أذرع .
6 - أن الأصل في تحديد المشاعر التوقيف : ومن نظائر ذلك أوقات الصلوات الخمس .
7 - مما يدل على بقاء الوضع الحالي للجمار باعتبار المساحة استصحاب العكس .
8 - لا يجوز بناء حوض خارجي أوسع من الحالي بناء على قاعدة سد الذرائع .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار رقم (11)
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله ، وبعد :
فبناء على خطاب صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة ، ورئيس لجنة الحج العليا رقم (59\5\7\ أ م) ، وتاريخ 4\1\1393 هـ ، الوارد إلى رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عن طريق وزارة العدل ، والذي يطلب فيه إبداء الوجهة الشرعية ، وبيان الحكم فيما اقترحته لجنة الحج العليا من بناء طابق على شارع الجمرات ، ورفع شاخص الجمرات ، ورفع جدار حوض كل جمرة إلى منسوب يمكن معه رمي حصى الجمار من أعلى الطابق ومن أسفله بسهولة .
بناء على ذلك درست هيئة كبار العلماء هذا الموضوع ، وما أعدته اللجنة الدائمة من البحث عليه ، ورأت بالاتفاق أن يؤجل النظر فيه والبت في حكمه إلى دورة أخرى حتى يصل الرسم الهندسي لهذا العمل ، والذي سبق أن طلبته الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء ؛ لتعرف الهيئة منه تفاصيل الأمر المطلوب وهل يحقق هذا الاقتراح مصلحة من غير استلزام مفسدة

أم لا ؟ .
وصلى الله وسلم على محمد ، وآله وصحبه .
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة الثالثة
. ... . ... محمد الأمين الشنقيطي
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان العبيد ... محمد الحركان
عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

(6)
حكم تمثيل الصحابة
رضي الله عنهم
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم تمثيل الصحابة
رضي الله عنهم
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فقد أحيل إلى هيئة كبار العلماء في رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية - في دورتها الثالثة المنعقدة في شهر ربيع الآخر عام 1393هـ موضوع تصوير حياة ( بلال ) مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيلم سينمائي .
وفي تلك الدورة قدمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع هذا نصه :
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، محمد وآله وصحبه ، وبعد :
فهذا بحث يتعلق بمسألة حكم تمثيل الصحابة في شكل رواية مسرحية أو فيلم سينمائي قامت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداده تمهيدا لعرض المسألة على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها القادمة إنفاذا لأمر المقام السامي رقم 24\93 وتاريخ 1\1\1393هـ . والله الموفق .

حكم تمثيل الصحابة
في مسرحية أو فيلم سينمائي
يحسن بنا قبل تقديم ما تيسر الحصول عليه من أقوال أهل العلم في حكم تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم - أن نشير إلى اعتبارات تحسن ملاحظتها أثناء بحث المسألة :
الأول : ما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المكانة العليا في الإسلام :
بحكم معاصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم بواجب نصرته وموالاته ، والتفاني في سبيل الله ببذلهم أموالهم وأولادهم ونفوسهم ، فقد اتفق أهل العلم على أنهم صفوة هذه الأمة وخيارها ، وأن الله شرفهم وخصهم بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأثنى عليهم في كتابه الكريم بقوله : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } (1) الآية ، وجاءت الأحاديث الصحيحة بتسجيل فضلهم ، وأن لهم قدم صدق عند الله ، ففي [ صحيح البخاري ] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : حدثنا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يأتي على الناس زمان ، فيغزو فئام من الناس فيقولون : فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون لهم : نعم ، فيفتح لهم ، ثم يأتي على الناس زمان ، فيغزو فئام من
__________
(1) سورة الفتح الآية 29

الناس ، فيقال : هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم ، فيفتح لهم ، ثم يأتي على الناس زمان ، فيغزو فئام من الناس فيقال : هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : نعم ، فيفتح لهم » (1) .
وفي [ صحيح البخاري ] عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خير أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ، "ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السمن » (2) .
وفي [الصحيحين ] عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شأن بعض أصحابه رضوان الله عليهم : « لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » (3) .
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3449),صحيح مسلم فضائل الصحابة (2532),مسند أحمد بن حنبل (3/7).
(2) صحيح البخاري المناقب (3450),صحيح مسلم فضائل الصحابة (2535),سنن الترمذي الفتن (2222),سنن النسائي الأيمان والنذور (3809),سنن أبو داود السنة (4657),مسند أحمد بن حنبل (4/427).
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2540),سنن ابن ماجه المقدمة (161).

الثاني : النظرة العامة إلى مشاهدة التمثيل
من أنه حال من أحوال اللهو والتسلية وشغل فراغ الوقت ، فمشاهده في الغالب لا يريد من المشاهدة ما فيه مجال للعظة والتأمل ، وإنما يقصد من ذلك إشباع غرائزه بما يشرح النفس ، وينسي الهموم ، وينقل المرء من حال الجد إلى حال العبث والهزل .

الثالث : حال محترفي التمثيل من المناحي المسلكية :
إن المتتبع لحياة الممثلين يخرج بنتيجة هي : أن غالبهم سقط من الناس ليس للصلاح والتقوى مكان في حياتهم العامة ، ولا للأخلاق الإسلامية والعربية محل في دائرة أخلاقهم ، ولا للقيم الإنسانية اعتبار عندهم ، فإذا

تقمص أحدهم شخصية صالح أو نبيل أو شهم أو عفيف أو جواد - فذلك لأجل ما سيتقاضاه ثمنا لذلك ، ثم يعود إلى سيرته الأولى ضاحكا لاهيا ساخرا معرضا عن الجوانب المشرقة في حياتهم .

الرابع : أغراض التمثيل :
قد لا يختلف اثنان في أن الهدف الأول لأرباب المسارح في إقامة التمثيل فيها المكاسب المادية ، ومكاسبهم المادية لا تحصل إلا بمداعبة غرائز المشاهدين وشهواتهم ، فإذا عرفنا أن غالب المشاهدين لا يقصدون من مشاهدتهم التمثيل إلا قضاء فراغ أوقاتهم بما فيه العبث واللهو والتسلية ، وفهمنا أن الهدف الأول والأخير من التمثيل الكسب المادي - أدركنا أن القائمين على التمثيل سيحرصون على إنماء رصيد مشاهدي مسرحياتهم بتحقيق رغبة المشاهد في إشباع غرائزه العاطفية ، وعرض ذلك على شاشات التمثيل وخشبات المسارح .

الخامس : اعتياد كثير من المؤرخين في مؤلفاتهم التاريخية على التساهل في تحقيق الوقائع التاريخية :
يضاف إلى أن مجموعة من ذوي الميول المنحرفة والأهواء المغرضة قد نفثوا سمومهم في التاريخ الإسلامي ما بين وقائع تاريخية كاذبة ، وتعليلات للجوانب التاريخية في الإسلام ترمي إلى التقليل من القيمة العليا لتضحية المسلمين في سبيل الله ، فإذا كانت مادة التمثيل من التاريخ وليس هناك مرجع غيره أمكن تصور وجود الكذب والافتراء على السلف الصالح ، لا سيما صفوة هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قرار رابطة العالم الإسلامي
وقد صدر قرار من رابطة العالم الإسلامي بخصوص تمثيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيلم - استعرض حكم تمثيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نصه :
وكما يحرم ذلك كله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم يحرم تمثيل الصحابة الأكرمين رضي الله عنهم أجمعين باتفاق أهل العلم ؛ لشرفهم بالصحبة العظيمة ، واختصاصهم بها دون من عداهم من الناس ، ولكرامتهم عند الله تعالى وثنائه عليهم في القرآن الكريم ، قال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } (1) الآية ، فهم أحقاء إجماعا بالتكريم والتعظيم والتوقير ؛ ولذلك أجمع أهل العلم على حرمة تصويرهم في الأفلام أو على المسارح ؛ لما فيه من المنافاة الصارخة لكل ذلك . اهـ .
كما صدر قرار من المنظمات الإسلامية العالمية المنعقدة في دورتها في مكة المكرمة في ذي الحجة سنة 1390هـ ، جاء فيه ما نصه : قرر المؤتمر استنكاره الشديد لمحاولة إخراج فيلم سينمائي يمثل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأية صورة من الصور أو كيفية من الكيفيات ، كما يستنكر تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم ، ويناشد المؤتمر كل الحكومات الإسلامية أن تقضي على هذه المحاولة في مهدها .
__________
(1) سورة الفتح الآية 29

فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا
كما صدر ثلاث فتاوى للشيخ محمد رشيد رضا في حكم التمثيل الأخلاقي .
الأولى : في حكم التمثيل الأخلاقي وهذا نصها مع سؤالها (1) من صاحب الإمضاء الحرفي في ( دمشق الشام ) ع . . .
س : سيدي الأستاذ صاحب المنار الأغر : ما رأي الأستاذ حفظه الله في تمثيل الروايات الأخلاقية التي لا يشوبها ضروب الخلاعة ، أو من ظهور النساء حاسرات على المسارح ، والتي تحبب الحضور بالفضيلة ، وتنفرهم من الرذيلة ؟ يجوز لنا أن نعتبر التمثيل غيبة فنحرمه بدعوى أن الغيبة محرمة ؟ وهل ورد في النصوص الشرعية تصريحا أو تلميحا ما يدل على حرمة التمثيل الأخلاقي ، أو يشير إلى اجتنابه ، وعهدنا بهذا النوع من التمثيل أنه خير ما يغرس في النفوس حب الفضائل وكره الرذائل ؟
أرجو إجابتي على هذه الأسئلة حتى لا يبقى مجال لتغرير المسلمين باسم الشريعة ، ورميها بسهام غير سديدة ، هدانا الله بمناركم الوضاح إلى أقوم طريق .
الجواب : جاءنا مثل هذا السؤال أيضا من دمشقي آخر أشار إلى اسمه بحرفي (م . ن) ، وجاء في سؤاله : أن للسؤال واقعة حال في دمشق ،
__________
(1) انظر [فتاوى رشيد رضا] (3\1090) ، و[المنار] (14)(1911) \827 - 830 .

وهي : أن تلاميذ المدرسة العثمانية بدمشق مثلوا قصة زهير الأندلسي التي تشرح كيفية انقراض المسلمين من الأندلس ، فقام بعض الحشوية من طلاب الشهرة ، وأصحاب الدعوى يشنعون على المدرسة ، ويكفرون تلاميذها ومعلميها ، ويزعمون أنهم حاولوا هدم الإسلام بتذكير المسلمين بأسباب انقراض المسلمين من مملكة إسلامية كانت زينة ممالك الأرض بالعلوم والفنون والآداب ، وخطبوا بذلك على المنابر في رمضان ، وصدق فيهم قول من قال : إن لمتعصبي دمشق في كل رمضان ثورة .
أشار السائل الذي نشرنا نص سؤاله إلى ما صرح به السائل الآخر من احتجاج محرمي التمثيل على تحريمه بأنه يتضمن الغيبة ، وقال هذا المصرح : إن بعضهم حرم قراءة الجرائد والمجلات بمثل هذا الدليل .
نقول : إن صح قولهم : أن تلك القصة أو الواقعة التي مثلت في دمشق ، كانت متضمنة لشيء من الغيبة - وهو ما يستبعد جدا - فالمحرم فيها هو الغيبة لا جميع القصة ، ولا القصص التي تمثل ولا التمثيل نفسه . وكان الأظهر أن يقولوا : أنها تتضمن الكذب في بعض جزئياتها ، وكأنهم فطنوا إلى كون الكذب غير مقصود فيها ، ولا يتحقق إلا بالنسبة إلى مجموع القصة إذا كان ما تقرره وتودعه في الأذهان من مغزاها المراد غير صحيح ، كأن تصور قصة زهير لقرائها ، وحاضري تمثيلها : أن الإسبانيين اضطهدوا المسلمين ، وفتنوهم عن دينهم ، وخيروهم بين الكفر والخروج من الوطن ، ويكون هذا الذي تصوره لم يقع أو وقع ضده .
هذه القصص التمثيلية من قبيل ما كتبه علماؤنا المتقدمون من المقامات التي تقرأ في المدارس الدينية وغير الدينية ؛ كمقامات البديع ، ومقامات

الحريري ، وقد كان الحريري رحمه الله تعالى توقع أن يوجد في عصره أمثال أولئك المتنطعين الذين حرموا قصة زهير الأندلسي ، فرد عليهم بقولهم في فاتحة مقاماته :
على أني وإن أغمض لي الفطن المتغابي ، ونضح عني المحب المحابي ، لا أكاد أخلص من غمر جاهل ، أو ذي غمر (حقد) متجاهل ، يضع مني لهذا الوضع ، ويندد بأنه من مناهي الشرع ، ومن نقد الأشياء بعين المعقول ، وأنعم النظر في مباني الأصول ، نظم هذه المقامات ، في سلك الإفادات ، وسلكها مسلك الموضوعات ، عن العجماوات والجمادات ، ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات ، وأثم رواتها في وقت من الأوقات ، ثم إذا كانت الأعمال بالنيات ، وبها انعقاد العقود الدينيات ، فأي حرج على من أنشأ ملحا (1) للتنبيه ، لا للتموين ، ونحا بها منحى التهذيب ، لا الأكاذيب ، وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من انتدب لتعليم ، وهدي إلى صراط مستقيم (2) .
فهو يقول : إنه لم يعرف عن أحد من علماء الأمة إلى زمنه أنه حرم أمثال تلك القصص التي وضعت عن الحيوانات ككتاب [كليلة ودمنة] وغيره ؛ لأن المراد بها الوعظ والفائدة ، وصورة الخير في جزئياتها غير مرادة ، وما سمعنا بعده أيضا أن أحدا من العلماء حرم قراءة مقاماته ، ولكن اجتهاد بعض المغرورين بالحظوة عند العوام ، يتجرءون على تحريم ما لم يحرمه
__________
(1) وردت في المنار (مقامات) .
(2) [مقامات الحريري] تحقيق سلفستر دي ساسي . باريس - دار الطباعة الملكية 1822 صـ (11، 12) .

الله ورسوله ، ولا حرم مثله أحد من علماء الملة ، وهم مع هذا يتبرءون بألسنتهم من دعوى الاجتهاد واسم الاجتهاد ، ويشنعون على من يقول : إنه يمكننا أن نعرف الأحكام بأدلتها الشرعية ، فهم يعترفون بأنهم ليسوا أهلا للاستدلال ، ولا لمعرفة حكم بدليله ، ويدعون أنهم مقلدون لبعض الأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم ، فليأتونا بنص من أولئك الأئمة على تحريم ما حرموه إن كانوا صادقين .
ثم نقول من باب الدليل : قد فسر الحرام في بعض كتب الأصول بأنه : خطاب الله المقتضي للترك اقتضاء جازما ، فليأتونا بخطاب الله المقتضي بتحريم تمثيل الوقائع الوعظية والتهذيبية ، أما أصول المحرمات في الكتاب ، فقد بينها الله تعالى بالإجمال في قوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (1) أفلا يخشى أولئك المتجرئون أن يكونوا من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون ، الذين قال فيهم أيضا : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ } (2) وقال صلى الله عليه وسلم : « إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبينهما مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس » (3) الحديث ، وهو في [الصحيحين] والسنن كلها من حديث خيار الآل والصحب علي وولده الحسين والعبادلة الثلاثة وعمار والنعمان بن بشير رضي الله عنهم . فإذا كان الحرام بينا ، فكيف يخفى منه مثل هذا الحكم
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة النحل الآية 116
(3) صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/270),سنن الدارمي البيوع (2531).

على جميع المسلمين في هذه القرون الطويلة، ولا يهتدي إليه إلا أولئك المضيقون في هذا العام؟ ‍!
إننا لا نرى وجها ما لهذا التحريم، ولو سلمنا أن في القصة الممثلة كلاما يصح أن يعد غيبة أو كذبا، فإنا نعلم أن في كثير من كتب الحديث والفقه والوعظ أحاديث موضوعة، ولم يقل أحد أن ذلك يقتضي تحريم تأليف تلك الكتب وقراءتها وطبعها، وفي كتب الحديث طعن في الرجال فهل نحرم علم أصول الحديث؟ ألا إنه ليحزننا أن يكون لأمثال هؤلاء المفتاتين المتنطعين كلمة تسمع في مدينة دمشق الفيحاء التي هي أجدر البلاد بأن تكون ينبوعا لحياة الدين والعلم والارتقاء في سورية وجزيرة العرب كلها، وما آفتها إلا نفر من المتنطعين قد جعلوا الدين عقبة في طريق الارتقاء العلمي والعملي، فنسأل الله تعالى أن يلهمهم الرشد، ويهديهم طريق القصد، وأن يبصر العامة كالخاصة في تلك المدينة الزاهرة بحقيقة أمرهم حتى لا تتبع كل ناعق منهم .
والثانية: في حكم تمثيل حياة بعض الصحابة، وهذا نصها مع سؤالها:
السؤال: هل يجوز تمثيل حياة بعض الصحابة على شكل رواية أدبية خلقية تظهر محاسن ذلك الصحابي الممثل؛ لأجل الاتعاظ بسيرته ومبادئه العالية مع التحفظ والتحري لضبط سيرته دون إخلال بها من أي وجهة كانت أم لا؟
الجواب: لا يوجد دليل شرعي يمنع تمثيل الصحابة أو أعمالهم الشريفة بالصفة المذكورة في السؤال (1) .
__________
(1) انظر [ فتاوى رشيد رضا ] (6\2348).

والثالثة: في حكم التمثيل العربي وتمثيل قصص الأنبياء، وهذا نصها (1) :
التمثيل العربي: اشتغال المرأة المسلمة به وتمثيل قصص الأنبياء [المنار] (20 (1917) \ 310- 316). من صاحب الإمضاء بمصر محمد محمد سعفان طالب بمدرسة القضاء الشرعي.
بسم الله الرحمن الرحيم: إلى فضيلة مولانا وراشدنا السيد رشيد رضا . جمعتني النوادي بطائفة من المتعلمين الذين قلما يخلو مجلسهم من البحث، وبأية مناسبة - دار بيننا ذكر التمثيل العربي، وبسطنا على بساط بحثنا (2) المرأة المسلمة والتمثيل ؛ تمثيل روايات الأنبياء عليهم السلام عموما، وخاتمهم خصوصا، فقر رأى فريق منا على جواز ذلك كله؛ إذ لا تتم أدوار التمثيل وفصوله إلا بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مسارح التمثيل، وأي مانع يمنع تمثيل روايات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، عموما وخاتمهم خصوصا، وهو لم يخرج عن كونه درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ، وقل ممن يصادفه أو يجد له أثرا، ومنع فريق آخر ذلك وعده نوعا من التقليد الإفرنجي الذي يستحوذ على بعض البسطاء فيعدونه مفتاح تمدن الأمة، في حين أنه شر عليها وعلى أخلاقها الذاتية.
فهذا ما كان من الفريقين ، أما أنا كاتب هذه السطور فقد أعلنت الحيدة حتى أسترشد برشدكم أو أستنير بفتيا
__________
(1) انظر [ فتاوى رشيد رضا ] (4\1418) .
(2) [المنار] (20(1917) \310 - 316)

مناركم، والسلام.
الجواب: قلت: هدانا الله وإياك بحجة الصواب في الحكم، وعصمنا أن نقفو ما ليس لنا به علم:
إن بعض الأندية جمعك بطائفة من المتعلمين البحاثين، وأنهم ذكروا (التمثيل العربي) فاختلفوا في جواز اشتغال المرأة المسلمة به، وفي جواز تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عامة وخاتمهم خاصة، فقالت طائفة منهم: بجواز الأمرين، وعللوا الأول: بأن أدوار التمثيل وفصوله لا تتم إلا بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مسارح التمثيل، وعللوا الثاني: بأنه درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ، وقل من يصادفه أو يجد له أثرا، وقالت طائفة أخرى بمنع الأمرين، وعدوه من التقليد الإفرنجي الضار، الذي يغتر به الأغرار، وقلت: إنك وقفت حتى تستفتي المنار، فهاك ما أفهمه في المسألتين بالاختصار.
لم يأت فريق المجيزين بشيء من العلم، يدل على ما جزموا به من الحكم، فإن سلمنا لهم أن التمثيل لا يتم إلا بالمرأة لا نسلم لهم أن جوازه يستلزم جواز اشتغال المرأة المسلمة به، بل نسألهم ماذا يعنون بهذا التمام؟ وهل يعتد به شرعا؟ ولماذا لا يستغنى فيه بالمرأة غير المسلمة التي تستبيح من أعماله ما لا يباح للمسلمة؟ وبأي حجة جعلوا القول بجواز التمثيل الذي ينقصه وجود المرأة المسلمة أصلا بنوا عليه القول بجواز اشتغالها بالتمثيل، وهل يعدو التمثيل المطلق أن يكون مباحا أو مستحبا بشرط خلوه من فعل الحرام وذرائع الفساد، واشتماله على الوعظ النافع والإرشاد؟ أو ليس الصواب أن يقال - والأمر كذلك-: إن التمثيل الذي يتوقف على قيام

المرأة المسلمة ببعض أعماله على الوجه المعروف في دور التمثيل بمصر غير جائز؛ لأن ما توقف على غير الجائز فهو غير جائز، أو لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؟

اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل
إن اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل المعروف يشتمل على منكرات محرمة، منها:
ظهورها على أعين الرجال متبرجة كاشفة ما لا يحل كشفه لهم من أعضائها؛ كالرأس والنحر وأعالي الصدر والذراعين والعضدين، وتحريم هذا مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فلا حاجة إلى ذكر النصوص فيه.
ومنها: الاشتراك مع الرجال الممثلين في أعمال تكثر في التمثيل، وإن لم تكن من لوازمه في كل قصة؛ كالمعانقة، والمخاصرة، والملامسة، بغير حائل.
ومنها: غير ذلك من المنكرات التي تشتمل عليها بعض القصص دون بعض؛ كالتشبه بالرجال، وتمثيل وقائع العشق والغرام المحرم، بما فيه من الأعمال المحرمة لذاتها، أو لكونها ذريعة إلى المحرم لذاته.
ولا أنكر أنه يمكن للكاتب العالم بأحكام الشرع وآدابه أن يكتب قصة تمثيلية يودع بعض فصولها أعمالا شريفة، وأقوالا نافعة، إذا مثلتها امرأة مسلمة تبرز في دار التمثيل غير متبرجة بزينة، ولا مبدية لشيء مما حرم الله إبداءه من بدنها، ولا آتية بشيء من أعمال الفساد ولا من ذرائعه - فإن

تمثيلها يكون بهذه الشروط مباحا أو مستحبا.
مثال ذلك: أن تؤلف قصة في الترغيب في الحروب للدفاع عن الحقيقة وحماية البلاد عند وجوبها باعتداء الأعداء عليها، ويذكر فيها ما روي عن الخنساء رضي الله عنها في حث أبنائها على القتال بالنظم والنثر، فمن ذا الذي يتجرأ على القول بتحريم ظهور امرأة تمثل الخنساء في مثل تلك الحال، التي هي مثال الفضيلة والكمال؟! ولكن إمكان وضع مثل هذه القصة وهو من الممكنات التي لم تقع لا يبنى عليه القول بإطلاق جواز ما هو واقع من التمثيل المشتمل على ما ذكرنا وما لم نذكر من المنكرات المحرمة والمكروهة شرعا.
وأما تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد عللوه بأنه درس وعظ مؤثر، يعنون أن كل ما كان كذلك فهو جائز، وهذه الكلية المطوية ممنوعة، وتلك المقدمة الصريحة غير متعينة، فإن هذه القصص قد توضع وضعا منفرا، فلا تكون وعظا مؤثرا، وإن من الوعظ المؤثر في النفوس ما يكون كله أو بعضه باطلا، وكذبا وبدعا، أو مشتملا على مفسدة أو ذريعة إليها، ويشترط في جواز الوعظ أن يكون حقا لا مفسدة فيه، ولا ذريعة إلى مفسدة.
وبناء على هذا الأصل ننظر في هذه المسألة من وجوه :
أحدها: أن العرف الإسلامي العام يعد تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إهانة لهم أو مزريا بقدرهم، ومما أعهد من الوقائع في ذلك أن بعض النصارى كانوا أرادوا أن يمثلوا قصة يوسف عليه السلام في بعض المدن السورية فهاج المسلمون لذلك، وحاولوا منعهم بالقوة، ورفع الأمر

إلى الآستانة، فصدرت إرادة السلطان عبد الحميد بمنع تمثيل القصة وأمثالها.
فإن قيل: إن بعض مسلمي مصر كأولئك المتعلمين القائلين بالجواز لا يعدون ذلك إهانة ولا إزراء، إذ لا يخفى على مسلم أن إهانة الأنبياء أو الإزراء بهم أقل ما يقال فيه: إنه من كبائر المعاصي، وقد يكون كفرا صريحا وردة عن الإسلام.
نقول: إنما العبرة في العرف بالجمهور الذي تربى على آداب الإسلام وأحكامه، لا بالأفراد القلائل، ومن غلبت عليهم التقاليد الإفرنجية، حتى صاروا يفضلونها على الآداب الإسلامية، كذلك القاضي الأهلي الذي حكم ببراءة أستاذ مدرسة أميرية غازل امرأة محصنة وتصباها، وكاشفها بافتتانه بجمالها، حتى هجره الرقاد، وواصله السهاد، فشكت المحصنة هذه الوقاحة إلى زوجها فرفع الزوج الأمر إلى قاضي العقوبات طالبا تعزير ذلك العادي المفتات، فكان رأي القاضي أن مغازلة المحصنات الحسان وتصبيهن، يحتمل ذلك الكلام الذي يفسدهن على أزواجهن، لا يقتضي سجنا ولا غرامة، ولا تأنيبا، ولا ملامة؛ لأنه إظهار لحب الحسن والجمال، وهو من ترقي الذوق وآيات الكمال، ولكن ما رآه هذا القاضي المتفرنج حسنا وكمالا، رآه السواد الأعظم من المسلمين نقصا قبيحا، وأنكره عليه في الجرائد، حتى منعتها مراقبة المطبوعات من التمادي في الإنكار، واستأنف الزوج الحكم فنقضه الاستئناف، وحكم بأن كلام ذلك الأستاذ جريمة منافية للآداب. ولو حاول بعض أجواق التمثيل تمثيل قصة أحد الرسل الكرام- عليهم الصلاة والسلام- لرأوا من إنكار العلماء

والجرائد ما لا يخطر ببال أولئك الأفراد الذين يرون جوازه، ولو وقع مثل ذلك في بلد لم تذلل أهله سيطرة الحكام لما كان إلا مثارا للفتنة، ولتصدي الناس لصد الممثلين بالقوة، بل يغلب على ظني أن أكثر الناس يعدون تمثيل الأمراء والسلاطين، وكبار رجال العلم والدين، مما يزري بمقامهم، ويضع من قدرهم، وأن أحدا من هؤلاء الكبراء لا يرضى لنفسه ذلك.
الوجه الثاني: أن أكثر الممثلين لهذه القصص من سواد العامة، وأرقاهم في الصناعة- لا يرتقي إلى مقام الخاصة، فإن فرضنا أن جمهور أهل العرف لا يرون تمثيل الأنبياء إزراء بهم على إطلاقه، أفلا يعدون من الإزراء والإخلال بما يجب لهم من التعظيم: أن يسمى: (السي فلان) أو (الخواجة فلان) إبراهيم خليل الله، أو موسى كليم الله، أو عيسى روح الله، أو محمدا خاتم رسل الله؟ فيقال له في دار التمثيل: يا رسول الله، ما قولك في كذا . . . فيقول كذا . . . ولا يبعد بعد ذلك أن يخاطبه بعض الخلعاء بهذا اللقب في غير وقت التمثيل على سبيل الحكاية، أو من باب التهكم والزراية، كأن يراه بعضهم يرتكب إثما، فيقول له: مدد يا رسول الله! ألا إن إباحة تمثيل هؤلاء الناس للأنبياء قد تؤدي إلى مثل هذا، وكفى به مانعا لو لم يكن ثم غيره.
الوجه الثالث: تمثيل الرسول في حالة أو هيئة تزري بمقامه ولو في أنفس العوام، وذلك محظور، وإن كان تمثيلا لشيء وقع.
مثل ذلك: أن يمثل بعض هؤلاء الممثلين المعروفين يوسف الصديق عليه السلام بهيئة بدوي مملوك تراوده سيدته عن نفسه وتقد قميصه من

دبره، ثم يمثله مسجونا مع المجرمين، ويتجلى النظر في هذا الوجه ببيان مسألة من أعظم المسائل يغفل عنها أمثال أولئك الباحثين الذين ذكرهم المستفتي، وهي: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام بشر، ميزهم الله تعالى بما خصهم به من الوحي، وهداية الخلق إلى الحق، وقد كانت بشريتهم حجابا على أعين الكافرين حال دون إدراك خصوصيتهم، فأنكروا أن يكون الرسول بشرا مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
وروي عن المسيح عليه السلام: أن النبي لا يهان إلا في وطنه وقومه، وقال بعض العلماء في المعنى: أزهد الناس في الولي أهله وجيرانه، أي: لأنهم قلما يرون منه إلا ما هو مشارك لهم فيه من الصفات والعادات، وأما ما يمتاز به من دقائق الورع والتقوى والمعرفة بالله تعالى فمنه ما هو سلبي لا يفطنون له، ومنه ما هو خفي لا يدركونه؛ ولذلك احتيج في إيمان أكثر الناس بالرسل قبل الارتقاء العقلي إلى الآيات الكونية، وبعده إلى الآيات العلمية، (كالقرآن الحكيم من الأمي)، والذين يؤمنون بالرسل من بعدهم يسمعون من أخبار آياتهم وخصائصهم وفضائلهم أكثر مما يسمعون من أخبار عاداتهم وصفاتهم البشرية، وبذلك يكون تعظيمهم وإجلالهم لهم غير مشوب بما يضعف الإيمان بهم من تصور شئونهم البشرية، على أن الواجب أن يعرفوا منها ما يحول دون الغلو في التعظيم والإطراء الذي يدفع به الغلاة الأنبياء إلى مقام الربوبية والإلهية، والتفريط في ذلك كالإفراط.
فتمثيل أحوال الأنبياء وشئونهم البشرية بصفة تعد زراية عليهم، وازدراء بهم، أو مفضية إلى ضعف الإيمان والإخلال بالتعظيم المشروع - مفسدة من المفاسد التي يحظرها الشرع، فكسف إذا أضيف إليها كون التمثيل في

حد ذاته يعد في العرف العام تنقيصا أو إخلالا ما بما يجب من التكريم - وكون الممثلين من عوام الناس، وقد علمت ما في هذا وذاك.
الوجه الرابع: أن من خصائص القصص التمثيلية: الكذب، وأن الكذب على الأنبياء ليس كالكذب على غيرهم، فإذا جاز أن يسند إلى أسماء لا مسميات لها كلام تقصد به العظة والفائدة، كما يحكون مثل ذلك عن ألسنة الطير والوحش، وهو ما احتج به الحريري في فاتحة مقاماته على جواز وضعه لها، وإذا صح أن يقاس على ذلك إسناد مثل ذلك الكلام إلى أناس معروفين من الملوك وغيرهم فيما لا ضرر فيه، ولا إفساد في التاريخ ولا غيره من الحقائق - إذا جاز ما ذكر وصح القياس فلا يظهر جواز مثله في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، على أن في المسألة نصا خاصا لا محل للقياس مع مورده، فقد قال صلى الله عليه وسلم: « إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار » (1) رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما من حديث سعيد بن زيد، وروي عجزه - وهو: "من كذب علي" إلخ متواترا ، وروى أحمد من حديث عمر مرفوعا : « من كذب علي فهو في النار » (2) وهو مطلق لم يقيد بالتعمد، وإسناده صحيح، وقياس الكذب على غيره من إخوانه الرسل عليه الصلاة والسلام - جلي، فهو أقرب من قياس الكذب على الرسل على الكذب على العجماوات الذي احتج به الحريري، وأشار إلى اتفاق العلماء على جوازه، والكذب عليهم يشمل ما يحكى عنهم من أقوال لم يقولوها، وما يسند إليهم من أعمال لم يعملوها.
فإن قيل: إنه يمكن وضع قصة لبعض الرسل يلتزم فيها الصدق في كل
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1229),صحيح مسلم مقدمة (4),مسند أحمد بن حنبل (4/252).
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/47).

ما يحكى عنه أو يسند إليه.
قلنا: إن النقل الذي يعتد به عند المسلمين هو نقل الكتاب والسنة، ولا يوجد قصة من قصص الأنبياء في القرآن يمكن فيها ذلك إلا قصة يوسف، وكذا قصة موسى، وقصة سليمان مع ملكة سبأ، إذا جعل التطويل فيهن في غير الحكاية عنهم، والأولى هي التي يرغب فيها الممثلون، ويرجى أن يقبل على حضور تمثيلها الكثيرون، وفيها من النظر الخاص ما بيناه في الوجه الثالث، وأما السنة فليس في أخبارها المرفوعة ولا الموقوفة ما يبلغ أن يكون قصة تصلح للتمثيل إلا وقائع السيرة المحمدية الشريفة، والعلماء بها لا يكاد أحد منهم يقدم على جمع طائفة منها وجعلها قصة تمثيلية، وإذا فتح هذا الباب ووجد منهم من يدخله على سبيل الندرة، لا يلبث أن يسبقه إليه كثير من الجاهلين بالسنة، المتقنين لوضع هذه القصص بالأسلوب الذي يرغب فيه الجمهور، فيضعون من قصص الأنبياء المشتملة على الكذب ما يكون أروج عند طلاب الكسب بالتمثيل، فيكون وضع الصحيح ذريعة إلى هذه المفسدة.
فعلم من هذه الوجوه: أن جواز تمثيل قصة رسول من رسل الله عليهم السلام - يتوقف على اجتناب جميع ما ذكر من المفاسد وذرائعها؛ بحيث يرى من يعتد بمعرفتهم وعرفهم من المسلمين أنه لا يعد إزراء بهم، ولا منافيا لما يجب من تعظيم قدرهم، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى من اهتدى بهم .

قرار لجنة الفتوى بالأزهر
كما صدرت فتوى مستفيضة من اللجنة المختصة بالفتوى في (مجلة الأزهر) في عددها الصادر في رجب عام 1374هـ في حكم تمثيل الأنبياء قد يكون في مبررات القول بمنع تمثيلهم ما يصلح مبررا للقول بمنع تمثيل الصحابة، وهذا نص المقصود منه:
التمثيل في المسرح :
تشخيص الأفراد الذين تتألف منهم القصة أو الرواية التي يراد عرضها على النظارة - تشخيصا يحكيها طبق أصلها الواقع أو المتخيل، أو هو بعبارة موجزة: ترجمة حية للقصة وأصحابها.
وقد تلتقط صورة للممثلين في المسرح على شريط خاص يسمونه (الفلم) ليعرض على النظارة في شاشة السينماء.
هل يمكن تمثيل الأنبياء؟
لندع القصص المكذوبة على أنبياء الله جانبا، ولنفترض أن التمثيل لا يتناول إلا القصص الحق الذي قدمنا شذرات منه عاجلة، ثم نتساءل:
1 - كيف يمثل آدم أبو البشر وزوجه وهما يأكلان من الشجرة؟ وما هي هذه الشجرة؟ أهي شجرة الحنطة؟ أم هي شجرة التين؟ أم هي النخلة؟ . . .
وعلى أي حال نمثلهما وقد طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة؟ وهل نمثل الله تعالى وقد ناداهما: { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } (1) ؟ ! أو نترك تمثيله تعالى وهو
__________
(1) سورة الأعراف الآية 22

ركن في الرواية ركين ؟ ! سبحانك سبحانك، نعوذ بك من سخطك ونقمتك ومن هذا الكفر المبين ؟ ؟ ! !
2 - وكيف يمثل موسى وهو يناجي ربه ؟ وكيف يمثل وقد وكز المصري فقتله؟ بل كيف يمثل وقد أحاط به فرعون والسحرة، ورماه فرعون بأنه مهين، ولا يكاد يبين؟ وكيف تمثل العقدة التي طلب من الله أن يحلها من لسانه ؟ وما مبلغ كفر النظارة والممثلين إذا أفلتت - ولا بد أن تفلت - منهم فلتة مضحكة أو هازئة حينما يتمثلون الرسولين وقد أخذ أحدهما برأس الآخر وجره إليه ؟ وما مبلغ التبديل والتغيير لخلق الله الفطري ليطابق هذا الخلق الصناعي وقد عملت فيه أدوات الأصباغ والعلاج عملها؟
3 - وكيف يمثل يوسف الصديق وقد همت به امرأة العزيز وهم بها لولا أن رأى برهان ربه؟ وما تفسير الهم في لغة الفن؟
4 - وكيف يمثل أنبياء الله وأقوامهم يرمونهم بالسحر تارة، وبالكهانة والجنون تارة أخرى؟ بل كيف يمثلون حينما كانوا يرعون الغنم " وما من نبي إلا رعاها " ؟ بل كيف يمثلون وقد آذاهم المشركون ولم يستح بعضهم أن يرمي القذر والنجس على خاتم النبيين وهو في الصلاة والكفار يتضاحكون؟ سيقول السفهاء من النظارة - وما أكثرهم - مقالة المستهزئين الكافرين من قبل: { أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا } (1) ؟ وسيغضب فريق لأنبياء الله ورسله فيقاتلون السفهاء، وينتقمون منهم، وتقوم المعارك الدينية لا محالة { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } (2) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 41
(2) سورة الشعراء الآية 227

تمثيل الأنبياء تنقيص لهم
لسنا بحاجة بعد هذا إلى بيان أن من قصص الأنبياء ما لا يستطاع تشخيصه، وأن ما يستطاع تشخيصه من قصصهم فهو تنقيص لهم، وزراية بهم، وحط من مقامهم، وانتهاك لحرماتهم وحرمات الله الذي اختارهم لرسالته واصطفاهم لدعوته . . . لا ريب في ذلك كله ولا جدال. .
وهذا كله في القصص الحق الذي قصه الله علينا ورسوله، وأما القصص الباطل - وما أكثره - فهو زور على زور، وكفر على كفر، وهو البلاء والطامة . . وما نظن أن أحدا يستطيع أن يجادل في هذه الحقائق الناصعة . . . وأكبر علمنا أن أول من يخضع لها ويؤمن بها هم أهل الفن أنفسهم، فإنهم أرهف حسا، وأشد إدراكا لمقتضيات التمثيل وملابساته.
على أنا لو افترضنا محالا، أو سلمنا جدلا بأن تمثيل الأنبياء لا نقيصة فيه ولا مهانة، فلن نستطيع بحال أن نتجاهل أنه ذريعة إلى اقتحام حمى الأنبياء وابتذالهم، وتعريضهم للسخرية والمهانة، فالنتيجة التي لا مناص منها ولا مفر: أن تشخيص الأنبياء تنقيص لهم، أو ذريعة إلى هذا التنقيص لا محالة .
سد الذرائع
وسد الذرائع ركن من أركان الدين والسياسة، فقد أجمع العلماء أخذا من كتاب الله وبيان رسوله، على أن من أعمال الناس وأقوالهم ما حرمه الله تعالى؛ لأنه يشتمل على المفسدة من غير وساطة؛ كالغصب والقذف والقتل بغير حق، وأن من الأعمال والأقوال ما حرمه الله سبحانه؛ لأنه

ذريعة إلى المفسدة، ووسيلة إليها، وإن لم يكن هو في نفسه مشتملا على المفسدة، ومن ذلك مناولة السكين لمن يسفك بها دما معصوما، فالمناولة في نفسها عارية عن المفسدة، ولكنها وسيلة إليها، ومن ذلك سب معبودات المشركين وهم يسمعون، فهو في نفسه جائز، ولكنه منع لجره إلى مفسدة، وهي إطلاق ألسنة المشركين بسب الله تعالى؛ ولهذا نهانا الله سبحانه عن هذا السب فقال: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1)
ومن هذا القبيل تفضيل بعض الأنبياء على بعض، هو نفسه جائز، فقد فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات، ولكنه يمنع حينما يجر إلى الفتنة والعصبية، وقد تخاصم مسلم ويهودي في العهد النبوي، ولطم المسلم وجه اليهودي؛ لأنه أقسم بالذي اصطفى موسى على العالمين، وأقسم المسلم بالذي اصطفى محمدا على العالمين، فلما بلغت الخصومة خاتم النبيين صلى الله وسلم عليهم أجمعين - غضب حتى عرف الغضب في وجهه، وقال: « لا تخيروني على موسى » (2) ، ثم أثنى عليه بما هو أهله، ونهاهم أن يفضلوا بين أنبياء الله تعالى؛ سدا لذريعة الفتن، وحرصا على وقارهم صلوات الله وسلامه عليهم، وإذا كانت الدول تشدد في سد الذرائع وترى ذلك ركنا من أركان السياسة والأمن والنظام والمعاملات الدنيوية، فإنه في العقائد أخلق، وفي مقام النبوة أوجب وأحق .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) صحيح البخاري الرقاق (6152),صحيح مسلم الفضائل (2373),سنن أبو داود السنة (4671),مسند أحمد بن حنبل (2/264).

مفاسد تمثيل الأنبياء
ومفاسد تمثيل الأنبياء كثيرة نكتفي منها بهذه الأمثلة:
1 - تشكيك المؤمنين في عقائدهم، وتبديد ما وقر في نفوسهم من تمجيد هذه المثل العليا، إذ أنهم قبل رؤية هذه المشاهد يؤمنون حقا بعظمة الأنبياء ورسالتهم، ويتمثلونهم حقا في أكمل مراتب الإنسانية وأرفع ذراها - إذا هم بعد العرض قد هانت في نفوسهم تلك الشخصيات الكريمة، وهبطت من أعلى درجاتها إلى منازل العامة والأخلاط، وقد تقمصهم الممثلون في صور وأشكال مصطنعة مما يتقلص معه ظل الدين والأخلاق.
2 - إثارة الجدل والمناقشة والنقد والتعليق حول هذه الشخصيات الكريمة وممثليها من أهل الفن والمسرح تارة، ومن النظارة تارة أخرى، وها نحن أولا نرى صفحات للفن والمسرح ومجادلات في التعليق والنقد، وأنبياء الله ورسله مثل كلام الله عز وجل، فوق النقد والتعليق.
3 - التهاب المشاعر، وتحزب الطوائف، ونشوب الخصام والقتال بين أهل الأديان كما وقع بين المسلم واليهودي في العصر النبوي، وما أحوجنا إلى الأمن والاستقرار وإطفاء الفتن وتسكينها لا إثارتها وإشعالها.
4 - الكذب على الله ورسله؛ لأن التمثيل أو التخييل ليسا إلا ترجمة للأحوال والأقوال والحركات والسكنات، ومهما يكن فيهما من دقة وإتقان فلا مناص من زيادة أو نقصان، وذلك يجر طوعا أو كرها إلى الكذب والضلال، والكذب على الأنبياء كذب على الله تعالى، وهو

كفر وبهتان مبين، والعياذ بالله.
هذه أمثلة من مفاسد تمثيل الأنبياء . . فماذا تفيد الإنسانية من هذا التمثيل إلا الضلال والنكال، وإذا كان الله جلت قدرته قد أعجز الشياطين عن أن يتشبهوا بالأنبياء توقيرا وإعظاما لهم عليهم الصلاة والسلام، كما يدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي » (1) ، وسبق أن قلنا: إن الأنبياء إخوة يمس كل واحد منهم ما يمس أخاه، نقول: إذا كان الله سبحانه قد حال بين الشياطين وبين التمثيل بالأنبياء مع أنه أعطاهم القدرة على التشكل كما يهوون، فكيف يستبيح الإنسان لنفسه أن يكون أخبث من الشيطان بتمثيل الأنبياء؟ ! ثم ماذا يكون الشأن إذا اجترأ إنسان على التمثل بالنبي محمد أو غيره واهتاج الناس وأثار شعورهم استياء من الجرأة على قداسة النبوة وخاصة في نفوس النظارة المتدينين ؟ !
إن حقا محتوما علينا أن نجل الأنبياء، وأن نجل آل الأنبياء وأصحاب الأنبياء عن التمثيل والتشخيص، واحتراما وإجلالا للأنبياء أنفسهم؛ لأن حرمتهم مستمدة من حرمة الأنبياء، كما أن حرمة الأنبياء مستمدة من حرمة الله عز وجل، وهذا بعض حقهم على الإنسانية جزاء ما صنعوا لها من جميل، وأدوا إليها من إحسان.
وجملة القول: أن أنبياء الله تعالى ورسله معصومون بعصمة الله لهم من النقائص الخلقية والخلقية، وأن تمثيلهم تنقيص لهم، أو ذريعة إلى التنقيص لا محالة، وكلاهما مفسدة أو مؤد إلى المفسدة التي من شعبها إثارة العصبيات والفتن التي لا يعلم مداها إلا الله تعالى.
__________
(1) سنن الترمذي الرؤيا (2276),سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3900),مسند أحمد بن حنبل (1/400),سنن الدارمي الرؤيا (2139).

وإن في الأدب والتاريخ وتصوير الفضائل ومكارم الأخلاق لميدانا فسيحا للفن والتمثيل، فليتجه إليها الفن ما شاء له الاتجاه، وليبتكر ما شاء له الابتكار، وليدع أنبياء الله ورسله محفوفين - كما حفهم الله تعالى - بالجلال والوقار، وليعمل على أن يكون مفتاحا للخير مغلاقا للشر، فطوبى لمن كان كذلك، والويل ثم الويل لمن يثير غضب الله وسخطه وانتقامه وغيرته لأنبيائه.
في قصص الأنبياء كفاية
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (1) وأن العبرة لا تزال ماثلة في مواطنها، واضحة في معالمها، ينتفع بها في القرآن الكريم، وصادق الأخبار، ولو شئنا لأطلنا، ولكن في هذا بلاغا.
النتيجة
من أجل ما قدمنا تقرر في إثبات واطمئنان أنه لا ينبغي ولا يحل بحال أن يشخص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في المسرح، ولا على شاشة السينما.
والله نسأل أن يجمع قلوبنا على محبته، وتوقير أنبيائه ورسله، وأن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. والسلام عليكم ورحمة الله
__________
(1) سورة يوسف الآية 111

وبركاته.
10 من جمادى الآخرة سنة 1374 هـ الموافق 3 من فبراير سنة 1955م .
. ... . ... عبد اللطيف السبكي مدير التفتيش وعضو جماعة كبار العلماء
طه محمد الساكت ... حافظ محمد الليثي من مفتشي العلوم الدينية والعربية ... عبد الكريم جاويش

كما صدرت فتوى من لجنة الفتوى بالأزهر نشر في (مجلة الأزهر) في عددها الصادر بتاريخ محرم سنة 1379هـ عن حكم تمثيل الشخصيات الإسلامية، هذا نصه:
حكم تمثيل الشخصيات الإسلامية، ومن لم يثبت إسلامهم ولهم عون أكيد للنبي الكريم في دعوته.
السؤال: ما حكم الشريعة الإسلامية فيمن يمثل الشخصيات الآتية على شاشة التليفزيون ؟ :
1 - الصحابة، وهل منهم من يجوز ظهور من يمثله، علما بأن بلالا قد ظهر من يمثله في فيلم (ظهور الإسلام) وخالد بن الوليد في فيلم ( خالد بن الوليد ).
2 - بنات النبي صلى الله عليه وسلم.
3 - أبا طالب ممن لم يثبت إسلامهم، وكان لهم عون أكيد للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وكذلك التابعين وتابع التابعين.
4 - مسلمين ومسلمات لم تثبت صحبتهم للرسول وعلى الأخص طالب بن أبي طالب؟
الجواب: إن التمثيل في ذاته وسيلة ثقافية سواء كان على المسارح أو الشاشة أو التليفزيون، فإن كثيرا من وقائع التاريخ، وأحداث السياسة، ومواقف الأبطال في ساحات الجهاد، والدفاع عن الأوطان ينبغي أن يتجدد ذكرها وينادى بها؛ لتكون فيها القدوة الحسنة للأجيال الحديثة، وخير وسيلة لإحياء تلك الذكريات: أن يكون القصص عنها بتمثيلها

تمثيلا واقعيا، غير أن التمثيل قد يتجاوز الأهداف الجدية، ويتخذ وسيلة للترفيه الممنوع، وبث الدعاية نحو أغراض غير كريمة، وخاصة فيما يتعلق بالتاريخ حول شخصيات من السابقين، والتاريخ يكون مشوبا بما يحتاج إلى تمحيص من العصبيات.
وبما أن السابقين من الصحابة رضي الله عنهم لهم مقام كريم، وشأن خاص بين جماعة المسلمين، وبما أن تمثيلهم على المسارح أو الشاشة قد ينحرف بهم إلى ما يمس بشخصياتهم أو عن تاريخهم الحق؛ لما يتعرضون له أحيانا من أكاذيب القصاصين، أو أهواء المتعصبين لبعض ضد البعض الآخر من جراء الفتن والخلافات التي قامت حولهم في أزمانهم، وانقسام الناس في تبعيتهم إلى طوائف وأشياع، بسبب الدسائس بينهم - فإن اللجنة إزاء هذه الاعتبارات تفتي بما يأتي:
أولا: عدم جواز من يمثل كبار الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين ومعاوية وأبنائهم رضي الله عنهم جميعا؛ لقداستهم، ولما لهم من المواقف التي نشأت حولها الخلافات وانقسام الناس إلى طوائف مؤيدين ومعارضين . . أما من لم ينقسم الناس في شأنهم؛ كبلال وأنس وأمثالهما - فيجوز ظهور من يمثل شخصياتهم بشرط أن يكون الممثل غير متلبس بما يمس شخصية من يمثله.
ثانيا: عدم جواز ظهور من يمثل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبناته؛ لأن حرمتهم من حرمته عليه الصلاة والسلام، وقد قال الله تعالى في شأن نسائه:

{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } (1) وبناته بذلك أولى.
ثالثا: من لم تثبت صحبته من الرجال المسلمين، وكذلك التابعين وأتباعهم - لا مانع من ظهور من يمثل شخصياتهم متى روعي في التمثيل ما من شأنه ألا يخل بكرامة المسلم.
وأما النساء المسلمات فيجب الاحتياط في تمثيلهن أكثر مما يحتاط في تمثيل الرجال المسلمين الذين لم نثبت صحبتهم، وعلى المرأة التي تقوم بالتمثيل ألا يوجد مع تمثيلها اختلاط بأجنبي عنها من الرجال، ولا يصحبه كشف ما يحرم كشفه من جسمها، ولا يكون معه تكسر في صوتها، ولا حركات مثيرة للغرائز، ولو مع ستر الجسم، إذا كان الأمر كذلك فلا حرمة في التمثيل، خصوصا إذا كان التمثيل لغرض علمي يعود على الأفراد والأمة بالفائدة.
وأما إن صحبه اختلاط بالرجال الأجانب، أو كشف ما لا يحل كشفه من جسمها، أو وجد معه تكسر في صوتها أو حركات مثيرة للغرائز بجسمها ولو مع ستره، أو كان لباسها يحدد مفاتن جسمها - فإن التمثيل حينئذ يكون محرما على من تقوم بهذا التمثيل.
رابعا: من لم يثبت إسلامه كأبي طالب وغيره ممن له عون أكيد في دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام ونصرته - لا مانع من ظهور من يمثله إذا روعيت صلة عودته للنبي عليه الصلاة والسلام، بحيث لا يكون في تمثيله ما يخدش مقامه؛ تقديرا لما كان منه نحو الرسول عليه السلام من مناصرة وعون أكيد . ا هـ .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32

قصص الأنبياء في السينما
صدر بحث للأستاذ محمد علي ناصف نشر في (مجلة الأزهر) في عددها الصادر بتاريخ المحرم عام 1382هـ بعنوان ( قصص الأنبياء في السينما ) هذا نصه:
اعترضت مشيخة الأزهر على فكرة إنتاج فيلم سينمائي يتناول حياة يوسف عليه السلام، وحاول الأستاذ محمد التابعي في مقالين بجريدة الأخبار أن يثبت:
أولا: أن رأي رجال الدين في هذا الموضوع لم يتطور، ولم يختلف عن آراء لهم قديمة.
ثانيا: أنهم ناقضوا أنفسهم فلم يحتجوا على حديث نشرته صحيفة (الأهرام) في عام 1955م جاء فيه: أن سيسل دي ميل، يبحث عن ممثل يسند إليه القيام بتسجيل (صوت الله) باللغة العربية في الطبعة التي ستوزع على البلاد الإسلامية من فيلم (الوصايا العشر) الذي يخرجه.
ويبدو لي أن الأستاذ التابعي على قدر اتصاله بالمشتغلين بصناعة السينما ليس لديه الوقت لمشاهدة إنتاجهم؟ وإلا كان حكمه - وهو الناقد الأريب - أن صناعة السينما عندنا لم تتطور هي الأخرى حتى تتطور الآراء بالنسبة إليها، وحتى يطمئن ويثق رجال الدين والدنيا في مهارة القائمين بها وفي ائتمانهم على إخراج موضوع جدي عن حياة أحد الأنبياء، لقد عاصر الأستاذ التابعي صناعة السينما في مصر

خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ولعله لا يعترض كثيرا حين أذكر أن تسعين في المائة من الإنتاج الحالي يهبط في مستواه الفني عن أول فيلم أخرجه (ستديو مصر) مثلا، وإذا كانت هذه حال السينما عندنا فيجب أن نتردد ونتريث طويلا عن طلب إقحام قصص الأنبياء والرسل في سوق يضرب فيه الفوضى والجهل والارتجال بأوفر سهم.
إن الأفلام الدينية لا يجب الترخيص بموضوعاتها بمثل البساطة التي ترخص بها لموضوعات الأفلام الأخرى لأسباب كثيرة:
أولها: مكانة مصر في العالم الإسلامي، واعتبار ما يصدر عنها مثلا يحتذى، ولقد سمعت من أحد الدبلوماسيين: أن بعض الأفلام المصرية التي عرضت في أندونيسيا كان لتفاهتها أسوأ الأثر في نفوس الذين شاهدوها؛ لدرجة اضطرت معها سفارتنا هناك إلى التدخل والنصح باتباع سياسة معينة في هذا الشأن، فما بالك إذا كانت هذه الأفلام تعالج موضوعات لها قداستها وجلالها.
أفلام دينية يروج لها أعداء الإسلام
إن بعض الأفلام الدينية التي رخصنا بصنعها ولا تزال تعرض حتى الآن - لا يرغب أعداء المسلمين في أكثر من الحصول على حق توزيعها، وليت أشك في إخلاص معظم منتجي هذه الأفلام، ولكن الإخلاص وحسن النية لا يعالج بهما القصور الفني، ولقد حشدنا كل الإخلاص والنيات الحسنة في فيلم ( خالد بن الوليد ) مثلا: ولكني أعتقد أننا نلنا من شخصية

خالد في هذا الفيلم ما عجز عن نيله الروم والفرس، وقد يقال: إن قصة الفيلم مكتوبة في أسلوب وهيكل رائعين، ولكن الكتابة الممتازة لا تكفي وحدها، فمسرحيات ( شكسبير ) هي هي بنصها على مسرح (الأولدفيك )، وعلى مسرح (الانشراح) في بغداد، ولكن الفارق بين الأدائين هو نفس الفارق بين ترجمة حياة ينتجها للسينما كل من ستوديو (متروجو لدوين ) وستوديو ( شبرا )، والتمثيل الممتاز لا يكفي كذلك وحده ولا يكفي الإخراج، أو التصوير . . إلخ . . فإن العمل السينمائي يتألف من عشرات الحلقات المتصلة التي يجب أن تكون جميعها قوية متماسكة، وفي مستوى متقارب . . ونحن للأسف لم نصل بعد إلى الدرجة التي ننتج فيها فيلما خطيرا تصل نسبة الكمال فيه إلى درجة عالية؛ ولذلك يجب أن تقتصر تجاربنا على الموضوعات العادية، ولا نقحم الدين في هذه التجارب.
إن أفلام (الوصايا العشر) و(الرداء) و(كوفاديس) التي ضرب الأستاذ التابعي المثل بها قد تكلف الواحد منها بين ستة ملايين و13 مليونا من الدولارات، وعبئت من أجلها أقوى الطاقات الفنية، ولا يزال أناس يتصدون بالقول، إنما نصنع أفلاما ممتازة على مستوى الأفلام العالمية.
والدليل على ذلك: أن أصحاب هذه الأفلام لا يجدون متفرجين لها حتى في بلادنا، ويطالبون الحكومة بأن توفر لهم جمهورا بقوة القانون ، والدليل الآخر: أن فيلما واحدا من هذه الأفلام لم ينل جائزة من الدرجة الثالثة في أي مهرجان دولي أو شبه دولي.
ويقول فريق أكثر اعتدالا: إن علينا أن نستعين بالخبراء الأجانب في إخراج أفلام عن ظهور الإسلام وفتوحاته وحضارته وأبطاله.

وهذا رأي غير مدروس، فقد ثبت بالتجربة أن العمل الفني عن دين ما يجب أن يضطلع به رجل يعتنق هذا الدين ويؤمن به في قرارته، ولقد كنت في الولايات المتحدة عند عرض فيلم (الوصايا العشر) والذي لا يعرفه أكثر الناس أن النقاد اليهود قابلوا الفيلم بجفوة، ووصفوه بأنه جنسيا أكثر منه دينيا، ونقموا على مخرج الفيلم اختياره لتمثيل دور فرعون نجما محبوبا ( يول برينز ) أكثر من الذي قام بدور موسى ( شارلتون هستون )، ولو أن ( سيسل ديميل ) كان يهوديا لتلافى هذا النقد، أو لما كان عمله موضع شبهة. وشبيه بذلك ما قرأته أخيرا عن رفض مدينة (سلبي ) بمقاطعة (يوركشير ) الإنجليزية تمثالا ضخما للسيد المسيح من صنع المثال اليهودي ( أبشتاين ) بحجة أن ملامح التمثال تدل على القسوة والفظاظة، إنني أول من يمني النفس بكتابة قصة عمر رضي الله عنه للسينما، ولكن في الوقت ذاته أعتقد أن قصورنا الفني لن يحقق في الوقت الحالي مثل هذه الأمنية، حينما نستطيع أن نخرج أفلاما عن أمجادنا الدينية في نفس المستوى الذي يخرج فيه الغرب أمثال هذه الأفلام عن أمجاده، فإن التردد والاعتراض يكونان وقتئذ خطأ كبيرا.
من أجل ذلك أعتقد أن مشيخة الأزهر كانت موفقة في رأيها الخاص في قصة (يوسف الصديق)، كما كانت كذلك غير متناقضة مع نفسها حينما لم تبادر فتعترض على حديث نشر في (الأهرام) عام 1955م جاء فيه: أن ( سيسل ديميل ) يبحث عن ممثل يسند إليه القيام بتسجيل (صوت الله) باللغة العربية في الطبعة التي ستوزع من فيلم (الوصايا العشر) في البلاد الإسلامية؛ لأنه ونحن الآن في عام 1959م لم يعرض الفيلم المذكور بعد

في أي بلد إسلامي، وأعتقد أنه لن يعرض أبدا في جمهوريتنا لأسباب أخرى غير الدين، وأغلب الظن أن (حديث الأهرام) المشار إليه لم يكن صحيحا؟ لأنني- للمصادفة- لازمت ( مستر ديميل ) خلال السنوات الثلاث التي أنتج فيها هذا الفيلم ووقفت على خطته ورأيه في هذا الشأن. . اهـ
وقصارى القول: أن من جرم تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ نظرا إلى ما لهم من مكانة عالية عند الله بوأهم إياها في محكم كتابه، وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته، مع ما هو الشأن في التمثيل من اللهو والمجون، وما عليه أكثر الممثلين من الاستهتار والولع بالخيال الكاذب، وعدم تحري الحقائق التاريخية، وما عرف عنهم من مجاراة رواد المسارح وعشاق التمثيل؛ تحقيقا لرغباتهم، وإرضاء لأهوائهم، وإشباعا لميولهم وغرائزهم المنحرفة، أملا في زيادة الكسب بكثرة الوافدين إليهم- ففي تمثيلهم الصحابة مدعاة إلى انتقاصهم، والحط من قدرهم، وذريعة إلى السخرية منهم، والاستهزاء بهم، وفي هذا منافاة للكرامة التي أكرمهم الله بها، ومناقضة للثناء الذي أثنى به عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا مانعا من الدخول لهم هذا المدخل الكريه.
ومن أجاز من العلماء تمثيل الصحابة فإنما بنى فتواه على ما جاء في السؤال من أن القصد إظهار مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب مع التحري للحقيقة، وضبط السيرة، وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه رغبة في العبرة والاتعاظ. ومن عرف حال الممثلين وما لهم من أغراض، وحال الوافدين إلى المسارح، وما يهدفون إليه- عرف أن هذا النوع من

التصوير للتمثيل مجرد فرض وتقدير يأباه واقع الممثلين وروادهم، وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم.
هذا ما تيسر جمعه وإعداده، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم.
اللجة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء رقم (13) وتاريخ 16\ 4 \ 1393 هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن هيئة كبار العلماء في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1\ 4 \ 1393هـ ، و 10\4\1393 هـ قد اطلعت على خطاب المقام السامي رقم (44\ 93\ 1) وتاريخ 1\ 1\ 1393 هـ ، الموجه إلى رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والذي جاء فيه ما نصه: نبعث إليكم مع هذا الرسالة الواردة إلينا من طلال ابن الشيخ محمود البسني المكي مدير عام شركة لونا فيلم من بيروت بشأن اعتزام الشركة عمل فيلم سينمائي يصور حياة (بلال ) مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونرغب إليكم بعد الاطلاع عليها عرض الموضوع على كبار العلماء لإبداء رأيهم فيه وإخبارنا بالنتيجة:
وبعد اطلاع الهيئة على خطاب المقام السامي وما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ذلك وتداول الرأي فيه- قررت الهيئة بالإجماع ما يلي:
1 - أن الله سبحانه وتعالى أثنى على الصحابة، وبين منزلتهم العالية، ومكانتهم الرفيعة. وفي إخراج حياة أي واحد منهم على شكل مسرحية أو فيلم سينمائي منافاة لهذا الثناء الذي أثنى الله تعالى عليهم

به، وتنزيل لهم من المكانة العالية التي جعلها الله لهم وأكرمهم بها.
2 - أن تمثيل أي واحد منهم سيكون موضعا للسخرية والاستهزاء به، ويتولاه أناس غالبا ليس للصلاح والتقوى مكان في حياتهم العامة، والأخلاق الإسلامية، مع ما يقصده أرباب المسارح من جعل ذلك وسيلة إلى الكسب المادي، وأنه مهما حصل من التحفظ فيشتمل على الكذب والغيبة، كما يضع تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم في أنفس الناس وضعا مزريا، فتتزعزع الثقة بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتخف الهيبة التي في نفوس المسلمين من المشاهدين، وينفتح باب التشكيك على المسلمين في دينهم، والجدل والمناقشة في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ويتضمن ضرورة أن يقف أحد الممثلين موقف أبي جهل وأمثاله، ويجري على لسانه سب بلال وسب الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الإسلام، ولا شك أن هذا منكر، وكما يتخذ هدفا لبلبلة أفكار المسلمين نحو عقيدتهم، وكتاب ربهم، وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
3 - ما يقال من وجود مصلحة، وهي: إظهار مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، مع التحري للحقيقة، وضبط السيرة، وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه؛ رغبة في العبرة والاتعاظ- فهذا مجرد فرض وتقدير، فإن من عرف حال الممثلين وما يهدفون إليه عرف أن هذا النوع من التمثيل يأباه واقع الممثلين، ورواد التمثيل، وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم.
4 - من القواعد المقررة في الشريعة: أن ما كان مفسدة محضة أو راجحة فإنه محرم، وتمثيل الصحابة على تقدير وجود مصلحة فيه، فمفسدته

راجحة؛ فرعاية للمصلحة، وسدا للذريعة، وحفاظا على كرامة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يجب منع ذلك.
وقد لفت نظر الهيئة ما قاله طلال من أن محمدا صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين هم أرفع من أن يظهروا صورة أو صوتا في هذا الفيلم- لفت نظرهم إلى أن جرأة أرباب المسارح على تصوير ( بلال ) وأمثاله من الصحابة إنما كان لضعف مكانتهم، ونزول درجتهم في الأفضلية عن الخلفاء الأربعة، فليس لهم من الحصانة والوجاهة ما يمنع من تمثيلهم وتعريضهم للسخرية والاستهزاء في نظرهم، فهذا غير صحيح؛ لأن لكل صحابي فضلا يخصه وهم مشتركون جميعا في فضل الصحبة وإن كانوا متفاوتين في منازلهم عند الله جل وعلا، وهذا القدر المشترك بينهم وهو فضل الصحبة يمنع من الاستهانة بهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه .
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة الثالثة
. ... . ... محمد الأمين الشنقيطي
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي
عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح ... عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان العبيد ... محمد الحركان
عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

قرار رقم (107) وتاريخ 3 \ 11\ 1403هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
ففي الدورة العشرين لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف من 25\ 10\ 1402هـ حتى 6\ 11\ 1402هـ اطلع المجلس على الأمر السامي رقم (1244) وتاريخ 26\ 7\ 1402 هـ المتضمن الرغبة الكريمة في قيام مجلس هيئة كبار العلماء بالنظر في موضوع تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتمثيل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وحكم تمثيل الأنبياء وأتباعهم من جانب، والكفار من جانب آخر .
بعد صدور الفتوى رقم (4723) وتاريخ 11\ 7\ 1402هـ من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بتحريم ذلك؛ لأن الموضوع من الأمور المهمة والحساسة، ولا يقتصر أثره على هذه الدولة، بل يتعداها إلى سواها من الدول الإسلامية الأخرى، ولأنه سبق أن أجيز مثل هذا العمل من عدد من مشايخ الدول الإسلامية، وبما أنه سوف يترتب على البت فيه كثير من الأمور التي لها مساس بوسائل الإعلام المختلفة، وما يترتب على ذلك إنتاج وبث كثير من البرامج أو منعها نهائيا، ولأن بعض الدول الإسلامية قد تأخذ المملكة قدوة في ذلك إذا درس من قبل مجلس هيئة كبار العلماء.
ولما استمع المجلس إلى فتوى اللجنة الدائمة رأى أن الموضوع يحتاج إلى مزيد من النظر والتأمل فأجل البت فيه إلى دورة أخرى.
وفي الدورة الثانية والعشرين المنعقدة بمدينة الطائف من العشرين من

شهر شوال حتى الثاني من شهر ذي القعدة عام 1403 هـ أعاد المجلس النظر في الموضوع ورجع إلى قراره السابق رقم (13) وتاريخ 16\ 4\1393هـ، وإلى الكتاب المرفوع من المجلس بتوقيع رئيس الدورة الخامسة إلى جلالة الملك فيصل رحمه الله برقم (1875 / 1 ) وتاريخ 27\ 8\ 1394 هـ المتضمن تأييد مجلس هيئة كبار العلماء لما قرره مؤتمر المنظمات الإسلامية من تحريم إظهار فيلم محمد رسول لله، وإخراجه، ونشره، سواء فيما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم ، أو بأصحابه الكرام رضي الله عنهم؛ لما في ذلك من تعريض مقام النبوة، وجلال الرسالة، وحرمة الإسلام، وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم للازدراء والاستهانة والسخرية، وبعد المناقشة وتداول الرأي قرر المجلس تأييد رأيه السابق الذي تضمنه القرار والكتاب المشار إليهما آنفا.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه.
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة
. ... . ... عبد العزيز بن صالح
عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن ... راشد بن خنين
عبد الله بن منيع ... صالح اللحيدان ... عبد الله بن غديان
. ... . ... عبد الله بن قعود

(7)
إقامة أكشاك في منىهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
إقامة أكشاك في منى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه، وبعد:
فبناء على المعاملة الواردة من وزارة الداخلية برقم (17\ 23301) وتاريخ 29\ 6\ 1393 هـ بخصوص طلب بعض المطوفين إقامة أكشاك في منى من دورين لاستيعاب قدر أكبر من الحجاج، وتوجيه جلالة الملك حفظه الله في خطابه رقم (13212) وتاريخ 4\6\ 1393 هـ بأن يؤخذ رأي المشايخ في هذا الخصوص.
وبناء على ما تقرر من عرض الموضوع على هيئة كبار العلماء في دورتها الرابعة، وبناء على المادة (7) من لائحة سير العمل لدى الهيئة. أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا فيما يتعلق بذلك.
ونظرا لعدم ورود نص صريح في الكتاب والسنة يتبين منه حكم ذلك- رأت اللجنة أن تشير إلى ما كان عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وما جرت عليه الأمة بعده من ضرب خيام بمنى في موسم الحج، وأن تذكر ما ورد في السنة من النهي عن البناء في منى، وأن منى مناخ من سبق، وتذكر طرفا من كلام الفقهاء؟ عسى أن يكون في المقارنة بين إقامة الأكشاك،

وبين ما ذكر تقريب للحكم في هذه المسألة، وفيما يلي بيان ذلك:
من المعلوم أنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة نص صريح يدل على حكم إقامة أكشاك من خشب ونحوه بمنى في موسم الحج؛ رغبة في التوسعة على الحجاج، وحلا لمشكلة الزحام التي تزداد باطراد في منى كل عام أيام رمي الجمرات، لكن ثبت أن الخيام كانت تضرب بمنى أيام النزول؛ لأداء النسك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر العمل على ذلك إلى يومنا، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء في منى، وأنه قال: « منى مناخ من سبق » (1) ، وكره أهل العلم قديما وحديثا البناء بها، ونصوا على المنع من ذلك.
وعلى هذا فيمكن لقائل أن يقول: إن إقامة أكشاك بمنى إن كان على وجه يصعب معه حلها بعد تركيبها، أو لا يتأتى معه حلها بعد تركيبها إلا بعناء- فإقامتها أشبه بالبناء منها بالخيام، وهي إليه أقرب؛ لغلبة القصد إلى الدوام في مثل ذلك، فتعطى حكم البناء، وإن كانت إقامتها على حال يسهل معها الحل بعد التركيب- فهي إلى ضرب الخيام أقرب، وبه أشبه، فتعطى حكم الخيام، فإن كلا منهما يغلب فيه عدم القصد إلى الدوام والاستقرار، ويبعد أن ينتهي إلى دعوى التملك والاختصاص، إنما أقيم مؤقتا؛ لينزل به الحجاج أياما معدودة.
ولقائل آخر أن يقول: إن إقامة الأكشاك بمنى ملحق بالبناء على كل حال، أما إلحاقها به في الحال الأولى فلما ذكر من قوة شبهها به في القصد إلى الدوام، والإشعار بالتملك أو الاختصاص، إذ لا فرق فيما أقيم على هذا الوجه بين أن يكون من حجارة أو أخشاب أو نحوهما.
وأما الحالة
__________
(1) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/207),سنن الدارمي المناسك (1937).

الثانية فإنها وإن كانت شبيهة بضرب الخيام من جهة سهولة فكها بعد تركيبها، وإزالتها بعد إقامتها- غير أنها قد تفضي على مر الأيام وطول العهد إلى الإبقاء عليها في مكانها، وتنتهي إلى الطمع في سكناها، ودعوى تملكها أو الاختصاص بها، ومن القواعد العامة في الشريعة: سد ذرائع المحظورات، والقصد إلى حماية الناس من المحرمات، والتحذير من الحوم حول حماها خشية الوقوع فيها، كما دل عليه حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه.. » (1) إلى آخر الحديث. فينبغي منع ذلك.
وجملة القول: أن المسألة نظرية للاجتهاد فيها مجال؛ لترددها بين مباح ومحظور، وأخذها بطرف من الشبه بكل منهما، شأنها في ذلك شأن كثير من مسائل الفقه التي تندرج تحت قياس الشبه، أو يرجع في بيان حكمها إلى القاعدة القائلة: (الأمور بمقاصدها)، ومنها: سد ذرائع المحظورات.
وفيما يلي ذكر ما ورد من السنة في حكم البناء بمنى، وطرف من كلام الفقهاء في ذلك:
في [ مسند الإمام أحمد ] : حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا إسرائيل وزيد بن الحباب، قال: أخبرني إسرائيل - المعني- عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة : ألا نبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن النسائي البيوع (4453),سنن أبو داود البيوع (3329),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/270),سنن الدارمي البيوع (2531).

فقال: « لا، إنما هو مناخ لمن سبق إليه » (1) (2) .
قال الشيخ أحمد البنا : جاء في رواية ابن ماجه : (بيتا)، وفي رواية الترمذي : (بناء)، وفي رواية أبي داود : (بيتا أو بناء)، كما هنا. أي: لا تبنوا لي بناء بمنى، لأنه ليس مختصا بأحد دون آخر من الناس، إنما هو موضع العبادة من الرمي والذبح والحلق ونحوها يشترك فيه الناس، فلو بني فيها لأدى إلى كثرة الأبنية؛ تأسيا به صلى الله عليه وسلم، فتضيق على الناس، وكذلك حكم الشوارع ومواضع الأسواق.
وعند الإمام أبي حنيفة : أرض الحرم موقوفة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة قهرا، وجعل أرض الحرم موقوفة، فلا يجوز أن يتملكها أحد. كذا في [المرقاة]. اهـ.
وروى أبو داود بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نبني لك بمنى بيتا، أو بناء يظلك من الشمس؟ « فقال: "لا، إنما هو مناخ من سبق إليه ". » (3)
وقال أبو الطيب شمس الحق في شرحه لهذا الحديث: (ألا نبني) من البناء، أي: نحن معاشر الصحابة، "مناخ" بضم الميم، موضع الإناخة، « "من سبق إليه » (4) ، والمعنى: أن الاختصاص فيه بالسبق لا بالبناء.
وقال الطيبي : معناه: أتأذن أن نبني لك بيتا في منى؛ لتسكن فيه؟ فمنع وعلل: بأن منى موضع لأداء النسك من النحر ورمي الجمار والحلق، يشترك فيه الناس، فلو بني فيها لأدى إلى كثرة الأبنية ؛ تأسيا به، فتضيق
__________
(1) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/187),سنن الدارمي المناسك (1937).
(2) [الفتح الرباني] (13\ 220- 223) الطبعة الأولى
(3) سنن أبو داود المناسك (2019),مسند أحمد بن حنبل (6/187).
(4) سنن أبو داود المناسك (2019),مسند أحمد بن حنبل (6/187).

على الناس، وكذلك حكم الشوارع ومقاعد الأسواق.
قال المنذري. وأخرجه الترمذي وابن ماجه عن أمه مسيكة، وذكر غيرهما أنها مكية. اهـ (1) .
وقال ابن القيم: قال ابن القطان : وعندي أنه ضعيف، لأنه من رواية يوسف بن ماهك عن أمه مسيكة، وهي مجهولة، لا نعرف روى عنها غير ابنها. والصواب: تحسين الحديث، فإن يوسف بن ماهك من التابعين، وقد سمع أم هانئ، وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وقد روى عن أمه، ولم يعلم فيها جرح، ومثل هذا الحديث حسن عند أهل العلم بالحديث، وأمه تابعية قد سمعت عائشة (2) ا هـ.
وقال ابن ماجه : باب النزول بمنى، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نبني لك بمنى بيتا؟ « قال: " لا، منى مناخ من سبق » (3) . حدثنا علي بن محمد وعمرو بن عبد الله قالا: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه مسيكة، عن عائشة قالت: قلنا: يا رسول الله، ألا نبني لك بمنى بيتا يظلك؟ قال: « لا، منى مناخ من سبق » (4) (5) .
وقال الترمذي : باب ما جاء أن منى مناخ من سبق، حدثنا يوسف بن عيسى ومحمد بن أبان قالا: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن
__________
(1) [عون المعبود، شرح سنن أبي داود] (2\161) الطبعة الهندية.
(2) [تهذيب سنن أبي داود] (2\438) مطبعة السنة المحمدية.
(3) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/207),سنن الدارمي المناسك (1937).
(4) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/207),سنن الدارمي المناسك (1937).
(5) [سنن ابن ماجه] ص (222).

مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه مسيكة، عن عائشة قالت: قلنا يا رسول الله، ألا نبني لك بيتا يظلك بمنى ؟ قال: « لا، منى مناخ من سبق » (1) . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
وقال ابن العربي : باب منى مناخ من سبق- مسألة: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلنا: يا رسول الله، ألا أنشئ لك بيتا يظلك من منى ؟ قال: « لا، منى مناخ من سبق » (2) . قال ابن العربي : قال أبو عيسى . هذا حديث حسن. وهو يقتضي بظاهره أن لا استحقاق لأحد بمنى إلا بحكم الإناخة بها؛ لقضاء النسك في أيامها، ثم يبنى بعد ذلك بها ولكن في غير موضع النسك، ثم خربت فصارت قفراء، وكنت أرى بمدينة السلام يوم الجمعة كل أحد يأتي بحصيره وخمرته فيفرشها في جامع الخليفة، فإذا دخل الناس إلى الصلاة تحاموها حتى يأتي صاحبها فيصلي عليها، فأنكرت ذلك، وقلت لشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي : أيوطن أحد في المسجد وطنا أو يتخذ منه مسكنا ؟ قال: لا. ولكن إذا وضع مصلاه كان أحق بذلك الموضع من غيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « منى مناخ من سبق » (3) . فإذا نزل رجل بمنى برحله ثم خرج لقضاء حوائجه لم يجز لأحد أن ينزع رحله لمغيبه منه.
قال ابن العربي : وهذا أصل في جواز كل مباح للانتفاع به، خاصة الاستحقاق والتملك (4) . ا هـ.
وقال عبد الرحمن المباركفوري : قوله: (عن يوسف بن ماهك ) بفتح هاء وبكاف ترك صرفه، وعند الأصيلي مصروف- كذا في [المغني] ثقة من
__________
(1) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/207),سنن الدارمي المناسك (1937).
(2) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/207),سنن الدارمي المناسك (1937).
(3) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/207),سنن الدارمي المناسك (1937).
(4) [صحيح الترمذي] (4\111، 112). ومعه العارضة

الثالثة (عن أمه مسيكة ) بالتصغير: المكية لا يعرف حالها من الثالثة، كذا في [التقريب]، وذكرها الذهبي في [الميزان] في المجهولات. قوله: (ألا نبني لك بناء)، وفي رواية لابن ماجه : (بيتا )، (قال: لا) أي لا تبنوا بناء بمنى؛ لأنه ليس مختصا بأحد، إنما هو موضع العبادة من الرمي وذبح الهدي والحلق ونحوها، فلو أجيز البناء فيه لكثرت الأبنية وتضيق المكان، وهذا مثل الشوارع ومقاعد الأسواق، وعند أبي حنيفة: أرض الحرم موقوفة، فلا يجوز أن يملكها أحد، ( منى ) مبتدأ « مناخ من سبق » (1) خبر مبتدأ، والمناخ: بضم الميم، موضع إناخة الإبل. قوله: هذا حديث حسن وأخرجه ابن ماجه والحاكم أيضا، ومدار هذا الحديث على مسيكة، وهي مجهولة كما عرفت (2) .
__________
(1) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/187),سنن الدارمي المناسك (1937).
(2) [ تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي ] (2\99) الطبعة الهندية. ا هـ

وقال الطحاوي : فرأينا المسجد الحرام الذي كل الناس فيه سواء، لا يجوز لأحد أن يبني فيه بناء، ولا يحتجز منه موضعا. وكذلك حكم جميع المواضع التي لا يقع لأحد فيها ملك، وجميع الناس فيها سواء.
ألا ترى أن عرفة لو أراد رجل أن يبني في المكان الذي يقف فيه الناس فيها بناء لم يكن ذلك له. وكذلك منى لو أراد أن يبني فيها دارا كان من ذلك ممنوعا، وكذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدثنا أبو بكرة قال: حدثنا الحكم بن مروان الضرير الكوفي، قال: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نتخذ لك بمنى شيئا تستظل به؟ « فقال: "يا عائشة، إنها مناخ

لمن سبق » (1) . أفلا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم أن يجعلوا له فيها شيئا يستظل به؛ لأنها مناخ من سبق، ولأن الناس كلهم فيها سواء. حدثنا حسين بن نصر قال: حدثنا الفريابي . ح. وحدثنا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، وكانت تخدم عائشة أم المؤمنين، فحدثته عن عائشة مثله. قال: وسألت أمي مكان عائشة رضي الله عنها بعد ما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أن تعطيها إياه. فقالت لها عائشة : لا أحل لك، ولا لأحد من أهل بيتي أن يستحل هذا المكان، تعني: منى . قال أبو جعفر : فهذا حكم المواضع التي الناس فيها سواء، ولا ملك لأحد عليها. ا هـ المقصود [ (2) .
وقال النووي في إجابته عن أدلة من منع بيع أرض مكة، وما في حكمها وكراء دورها: وأما حديث: « منى مناخ من سبق » (3) فمحمول على مواتها ومواضع نزول الحجيج منها. ا هـ (4) .
وقال عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي بعد أن ذكر الخلاف في منع بيع دور مكة وكرائها بناء على أنها فتحت عنوة وجواز ذلك بناء على أنها فتحت صلحا: قال ابن عقيل : وهذا الخلاف في غير مواضع المناسك، أما بقاع المناسك- كموضع المسعى والرمي - فحكمه حكم المساجد بغير خلاف. ا هـ (5) .
__________
(1) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/187),سنن الدارمي المناسك (1937).
(2) شرح معاني الآثار] (2\224).
(3) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/207),سنن الدارمي المناسك (1937).
(4) [المجموع] (9\251) الطبعة الأولى.
(5) [الشرح الكبير] (4\21).

وقال المرداوي : وعلى الرواية الثانية في أصل المسألة يجوز البيع والإجارة بلا نزاع. لكن يستثنى من ذلك بقاع المناسك؟ كالمسعى، والرمي، ونحوها- بلا نزاع. والطريقة الثانية: إنما يحرم بيع رباعها وإجارتها؛ لأن الحرم حريم البيت والمسجد الحرام، وقد جعله الله { لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } (1) فلا يجوز لأحد التخصص بملكه وتحجيره، لكن إن احتاج إلى ما في يده منه سكنه، وإن استغنى عنه وجب بذل فاضله للمحتاج إليه، وهو مسلك ابن عقيل في نظرياته، وسلكه القاضي في خلافه، واختاره الشيخ تقي الدين، وتردد كلامه في جواز البيع فأجازه مرة ومنعه أخرى. ا هـ (2) .
وقال القاضي أبو يعلى : فأما ما طاف بمكة من نصب حرمها فحكمه في تحريم البيع والإجارة حكمها، قال في رواية مثنى الأنباري وقد سأله: هل يشترى من المضارب- يعني: التي بمنى ؟ - قال: لا يعجبني أن يشترى ولا يباع، وكذلك الحرم كله. فقد بين أن جميع الحرم حكمه حكم مكة . وقال في رواية أبي طالب: لم يكن لهم أن يتخذوا بمنى شيئا. فإذا اتخذوا فلا يدخله أحد إلا بإذنه، قد كان سفيان اتخذ بها حائطا وبنى فيه بيتين. وربما قال لأصحاب الحديث: بقوها فلا يدخل رجل مضرب رجل إلا بإذنه. وظاهر هذا أنه قد أجاز البناء بمنى على وجه ينفرد به.
وقال في رواية ابن منصور : (أما البناء بمنى فإني أكرهه). فظاهر هذا: المنع.
__________
(1) سورة الحج الآية 25
(2) [الإنصاف، (4\ 289، 290] الطبعة الأولى

فهذا كله إذا قلنا: إنها فتحت عنوة.
فأما إذا قلنا: إنها فتحت صلحا فإنه يجوز بيعها وإجارتها. وقد قال أحمد في رواية أبي طالب فيما تقدم: إذا كانت أرضا حرة مثل مكة وخراسان - فعليهم الصدقة، لأنهم يملكون رقبتها. فقد نص على ملك رقبة مكة، وشبهها بخراسان، ومعلوم أن أرض خراسان يجوز بيعها. اهـ (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وقد حدثنا بعض الوفد أنهم كانوا يجمعون ببعض أرضكم، ثم إن بعض أهل العراق أفتاهم بترك الجمعة، فسألناه عن صفة المكان، فقال: هنالك مسجد مبني بمدر، وحوله أقوام كثيرون، مقيمون مستوطنون، لا يظعنون عن المكان شتاء ولا صيفا، إلا أن يخرجهم أحد بقهر، بل هم وآباؤهم وأجدادهم مستوطنون بهذا المكان، كاستيطان سائر أهل القرى، لكن بيوتهم ليست مبنية بمدر، إنما هي مبنية بجريد النخل ونحوه، فاعلموا- رحمكم الله- أن مثل هذه الصورة تقام فيها الجمعة، فإن كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب، لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا- تقام فيه الجمعة إن كان مبنيا بما جرت به عادتهم من مدر وخشب أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك، فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك، إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر ويتنقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا، وهذا مذهب جمهور العلماء.
__________
(1) [الأحكام السلطانية] ص (175).

وبقصة أرضكم احتج الجمهور على أبي حنيفة حيث قال: لا تقام الجمعة في القرى - بالحديث المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة بالبحرين بقرية يقال لها جواثى من قرى البحرين، وبأن أبا هريرة رضي الله عنه، وكان عامل عمر رضي الله عنه على البحرين فكتب إلى أمير المؤمنين عمر يستأذنه في إقامة الجمعة بقرى البحرين فكتب إليه عمر : أقيموا الجمعة حيث كنتم. ولعل الذين قالوا لكم: إن الجمعة لا تقام، قد تقلدوا قول من يرى الجمعة لا تقام في القرى، أو اعتقدوا أن معنى قول الفقهاء في الكتب المختصرة: إنما تقام بقرية مبنية بناء متصلا أو متقاربا بحيث يشمله اسم واحد. فاعتقدوا أن البناء لا يكون إلا بالمدر من طين أو كلس أو حجارة أو لبن، وهذا غلط منهم، بل قد نص العلماء على أن البناء إنما يعتبر بما جرت به عادة أولئك المستوطنين من أي شيء كان، قصب أو خشب ونحوه.
ولهذا فالعلماء الأئمة إنما فرقوا بين الأعراب أهل العمد، وبين المقيمين، بأن أولئك يتنقلون ولا يستوطنون بقعة، بخلاف المستوطنين، وقد كان قوم من السلف يبنون لهم بيوتا من قصب، والنبي صلى الله عليه وسلم سقف مسجده بجريد النخل، حتى كان يكف المسجد إذا نزل المطر. قالوا: يا رسول الله، لو بنينا لك- يعنون: بناء مشيدا- فقال: بل عريش كعريش موسى. وقد نص على مسألتكم بعينها- وهي: البيوت المصنوعة من جريد أو سعف- غير واحد من العلماء منهم أصحاب الإمام أحمد؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الحسن الآمدي، وابن عقيل، وغيرهم- فإنهم ذكروا أن كل بيوت مبنية من آجر أو طين أو حجارة أو خشب أو قصب أو

جريد أو سعف فإنه تقام عندهم الجمعة، وكذلك ذكرها غير واحد من أصحاب الشافعي- رضي الله عنهم- من الخراسانيين، كصاحب [الوسيط] فيما أظن، ومن العراقيين أيضا أن بيوت السعف تقام فيها الجمعة. وخالف هؤلاء الماوردي في [الحاوي]، فذكر أن بيوت القصب والجريد لا تقام فيها الجمعة، بل تقام في بيوت الخشب الوثيقة.
وهذا الفرق ضعيف مخالف لما عليه الجمهور والقياس، ولما دلت عليه الآثار وكلام الأئمة، فإن أبا هريرة كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يسأله عن الجمعة وهو بالبحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب : أن جمعوا حيثما كنتم، وذهب الإمام أحمد إلى حديث عمر هذا.
وعن نافع : أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يمر بالمياه التي بين مكة والمدينة وهم يجمعون في تلك المنازل- فلا ينكر عليهم. فهذا عمر يأمر أهل البحرين بالتجميع حيث استوطنوا، مع العلم بأن بعض البيوت تكون من جريد. ولم يشترط بناء مخصوصا، وكذلك ابن عمر أقر أهل المنازل التي بين مكة والمدينة على التجميع، ومعلوم أنها لم تكن من مدر، وإنما هي إما من جريد أو سعف.
وقال الإمام أحمد : ليس على البادية جمعة؛ لأفهم ينتقلون، فعلل سقوطها بالانتقال، فكل من كان مستوطنا لا ينتقل باختياره فهو من أهل القرى.
والفرق بين هؤلاء وبين أهل الخيام من وجهين:
أحدهما: أن أولئك في العادة الغالبة لا يستوطنون مكانا بعينه، وإن استوطن فريق منهم مكانا فهم في مظنة الانتقال عنه، بخلاف هؤلاء

المستوطنين الذين يحترثون ويزدرعون، ولا ينتقلون إلا كما ينتقل أهل أبنية المدر. إما لحاجة تعرض، أو ليد غالبة تنقلهم كما تفعله الملوك مع الفلاحين.
الثاني: أن بيوت أهل الخيام ينقلونها معهم إذا انتقلوا، فصارت من المنقول لا من العقار، بخلاف الخشب والقصب والجريد، فإن أصحابها لا ينقلونها؛ ليبنوا بها في المكان الذي ينتقلون إليه، وإنما يبنون في كل مكان بما هو قريب منه. مع أن هذا ليس موضع استقصاء الأدلة في المسألة، وهذه المسألة- إقامة الجمعة بالقرى - أول ما ابتدأت من ناحيتكم، فلا تقطعوا هذه الشريعة من أرضكم فإن الله يجمع لكم جوامع الخير. ا هـ المقصود (1) .
والمشاهد من نقل كلام شيخ الإسلام: أن لا اعتبار لنوع ما أقيم به المسكن، فإن الحكم لا يختلف باختلاف نوعه، وإنما الاعتبار بنية من أقامه أو النازل من حيث القصد إلى الاستقرار أو عدمه، وغلبة أحد الأمرين عليه، سواء كان من مدر أم خشب أم قصب أو خيام أو نحو ذلك، وعلى هذا فلا أثر لكون ما أقيم من المنازل في منى من خيام أو خشب أو قصب أو نحوها، وإنما الأثر لما يغلب على الظن من اتخاذ ذلك من الدوام والاستقرار أو الظعن والارتحال عن المكان.
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (24\166- 170).

وقال ابن القيم : وأما مكة فإن فيها شيئا آخر يمنع من قسمها، ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى، وهي أنها لا تملك، فإنها دار النسك

ومتعبد الخلق، وحرم الرب سبحانه وتعالى الذي جعله { لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } (1) فهي وقف من الله على العالمين، وهم فيه سواء، « ومنى مناخ من سبق، » (2) قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } (3) والمسجد الحرام هنا المراد به: الحرم كله؛ لقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (4) فهذا المراد به: الحرم كله، وقوله سبحانه وتعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } (5) وفي الصحيح: أنه أسري به من بيت أم هانئ، وقال تعالى: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (6) وليس المراد به حضور نفس موضع الصلاة، وإنما هو حضور الحرم، والقرب منه، وسياق آية الحج تدل على ذلك فإنه قال: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } (7) وهذا لا يختص بمقام الصلاة قطعا، بل المراد به الحرم كله، فالذي { جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } (8) هو الذي توعد من صد عنه ومن أراد الإلحاد بالظلم فيه. فالحرم ومشاعره، كالصفا والمروة والمسعى ومنى وعرفة ومزدلفة - لا يختص بها أحد دون أحد، بل هي مشتركة بين الناس، إذ هي محل نسكهم ومتعبدهم، فهي مسجد من
__________
(1) سورة الحج الآية 25
(2) سنن الترمذي الحج (881),سنن ابن ماجه المناسك (3007),سنن الدارمي المناسك (1937).
(3) سورة الحج الآية 25
(4) سورة التوبة الآية 28
(5) سورة الإسراء الآية 1
(6) سورة البقرة الآية 196
(7) سورة الحج الآية 25
(8) سورة الحج الآية 25

الله وقفه ووضعه لخلقه؛ ولهذا امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى له بيت بمنى يظله من الحر، وقال: « منى مناخ من سبق » (1) . ا هـ (2) .
وقال الحافظ محمد بن أحمد الفاسي : ذكر حكم البناء بمنى : أخبرني إبراهيم بن محمد الدمشقي سماعا بالمسجد الحرام : أن أحمد بن أبي طالب أخبره قال: أخبرنا ابن الليثي قال: أخبرنا أبو الوقت قال: أخبرنا الداوودي قال: أخبرنا ابن حمويه قال: أخبرنا عيسى بن عمر قال: أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: أخبرنا إسحاق قال: أخبرنا وكيع قال: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه مسيكة - وأثنى عليها خيرا- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نبني لك بيتا يظلك؟ « فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو مناخ من سبق » (3) أخرجه أحمد بن حنبل في [مسنده] بهذا الإسناد، ولفظه: قال: قلت: يا رسول الله، ألا نبني لك بيتا أو بناء يظلك؟ « فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو مناخ من سبق » (4) أخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل والترمذي، قال أبو اليمن بن عساكر بعد إخراجه لهذا الحديث: ومفهوم هذا الخطاب يدل على أنه لا يجوز إحياء شيء من مواتها، ولا تملك جهة من جهاتها، فلا ينبغي لأحد أن يختص بمكان من أماكنها دون غيره، فيحظر عليه حظارا، أو يتخذه دارا، وأهل مكة وسواهم في ذلك سواء، قال الله سبحانه: { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } (5) والضمير في قوله: فيه مختلف بين أهل العلم: فمن قال: أراد به جميع الحرم - وهو الأكثر- منع
__________
(1) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/207),سنن الدارمي المناسك (1937).
(2) [زاد المعاد] (2\413، 414) مطبعة السنة المحمدية.
(3) سنن أبو داود المناسك (2019),مسند أحمد بن حنبل (6/187).
(4) سنن أبو داود المناسك (2019),مسند أحمد بن حنبل (6/187).
(5) سورة الحج الآية 25

من جواز إحياء مواتها وتملكها، ومن ملك منها شيئا قبل ذلك كان هو وسواه في منافعه سواء، فلا يجوز له بيعه ولا كراؤه، ثم قال: ومن تأول الآية على المسجد أجاز بيع دورها وكراءها، وبه قال أبو يوسف والشافعي، وكره مالك على جميعهم البيع والكراء، وفي جواز إحياء موات عرفة ومزدلفة اختلاف بين أهل العلم، وما ذكرنا في منى أولى بالمنع؛ « لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما هو مناخ لمن سبق » (1) ، و( إنما ) في كلام العرب لإثبات المذكور، ولنفي ما سواه، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى باختصار من كلامه عن بعض ما استدل به على عدم الاختصاص في ذلك.
وقال المحب الطبري في القرى لما تكلم على هذا الحديث: وقد احتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها، ثم قال: قلت: فيحتمل أن يكون ذلك مخصوصا بمنى؛ لمكان اشتراك الناس في النسك المتعلق بها، فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد اقتطاع موضع فيها لبناء ولا غيره، بل الناس فيها سواء، وللسابق حق السبق، وكذلك الحكم في عرفة ومزدلفة إلحاقا بها. انتهى.
وجزم النووي في [ المنهاج ] من زوائده بأن منى ومزدلفة لا يجوز إحياء مواتهما، كعرفة، والله أعلم. انتهى.
ونقل عن الشافعي : أنه بنى بمنى مضربا ينزل فيه أصحابه إذا حجوا. روى ذلك عنه أبو ثور، وهو أحد رواة القديم، وتمسك به بعضهم على جواز البناء بمنى، وفي العمل به على تقدير صحته عن الشافعي نظر لأمرين:
أحدهما: أن الشافعي قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. والحديث
__________
(1) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/187),سنن الدارمي المناسك (1937).

الوارد في النهي عن البناء بمنى تقوم به الحجة، لأن الترمذي حسنه، وأبا داود سكت عنه، فهو في معنى الصحيح؛ لقيام الحجة به على ما هو مقرر في علم الحديث، فالشافعي حينئذ يقول به ويصير ذلك مذهبه وصحبه، ومثل هذا لا ينكر؛ لأنه وقع للنووي مثله في غير مسألة، ولعل هذا فيما ذكره من عدم جواز إحياء موات منى ومزدلفة مع قياسهما على عرفة، لمشاركتهما لعرفة في علة الحكم، والله أعلم.
والأمر الثاني: أنه لا ريب في أن الشافعي على تقدير ثبوت بنائه بمنى لم يكن يحجر بناءه بمنى عن أحد، ولا يأخذ على النزول فيه أجرا، وأن بناءه بمنى لأجل الارتفاق به من جهة الظل، وصيانة الأمتعة، وشبه ذلك، فلا يقاس عليه من لم يقصد ببنائه إلا الاختصاص بنزوله وأخذ الأجرة على نزوله، كما هو الغالب من أحوال أهل العصر، وإلحاق من هو بهذه الصفة لمن حسنت نيته عند الشافعي لا يحسن. والله أعلم.
وسمعت قاضي الحرم - جمال الدين أبا حامد بن ظهيرة أبقاه الله- يقول: إن جدي لأمي قاضي مكة، أبا الفضل النويري كان ينكر على البناء بمنى، ويشدد فيه، وينهى أشد النهي. انتهى بالمعنى.
وأما ما أفتى به الشيخ نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف الأصفوني الشافعي مؤلف [مختصر الروضة] من أن منى كغيرها في جواز بيع دورها وإجارتها - فإن ذلك غير سديد نقلا ونظرا:
أما النقل؛ فلمخالفته مقتضى الحديث، وكلام النووي، وابن عساكر، والمحب الطبري وغيرهم، وأما النظر؛ فلأن أعظم ما يمكن أن يتمسك به في ذلك كون موات الحرم يجوز إحياؤه، ومنى من الحرم فيملك ما أحيي فيها، ويجري فيها أحكام الملك، وهذا

لا يستقيم؛ لأن في منى أمرا زائدا يقتضي عدم إلحاقها بموات الحرم، وهو كونها متعبدا ونسكا لعامة المسلمين- فصارت كالمساجد وغيرها من المسبلات، وما هذا شأنه لا اختصاص فيه لأحد إلا بالسبق في النزول لا بالبناء. إذ هو ممتنع فيه.
فالبناء بمنى ممتنع حينئذ، ولا يملك، ولا يكون كغيره مما يصح تملكه، ويجرى حكم البناء بمنى على حكم البناء بعرفة؛ لمساواتها لعرفة في السبب الذي لأجله امتنع البناء بعرفة على الأصح، فمنى كذلك . والله أعلم. ا هـ (1)
هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 22\ 9\ 1393 هـ
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) [شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام] (1\ 321، 322) مطبعة الحلبي.

قرار رقم (20) وتاريخ 12\ 11\ 1393هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فبناء على المعاملة المتعلقة بطلب المطوف سراج عمر أكبر السماح له بإقامة أكشاك خشبية في منى من دورين لاستيعاب حجاجه، المشتملة على الأمر الملكي الكريم رقم (13212) وتاريخ 4\ 6\ 1393 هـ القاضي بأخذ رأي المشايخ في هذا الخصوص والإفادة.
فقد جرى إدراج هذا الموضوع في جدول أعمال هيئة كبار العلماء في دورتها الرابعة، وفي هذه الدورة جرى الاطلاع على أوراق المعاملة بما في ذلك صورة المخطط المعد للأكشاك، كما جرى الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد الدراسة والمناقشة وتداول الرأي رأى المجلس بأغلبية الأصوات أنه لا يجوز إقامة أكشاك بمنى على الصفة الموضحة بالمخطط المرفق بالمعاملة، فإنها متى أقيمت على هذه الصفة، وكان تأسيسها مبينا على تصميمات فنية، وأسس قوية يرتاح إلى متانتها وتحملها، كما جاء في قرار لجنة الحج العليا رقم (6) وتاريخ 23\ 2\ 1393 هـ فهي إذن في حكم البناء، إذ لا فرق فيما أقيم على وجه من شأنه الثبات والدوام بين أن يكون من حجارة أو لبن أو أخشاب أو غير ذلك، ومع هذا فإنها قد تفضي على مر الأيام وطول العهد إلى الإبقاء عليها في مكانها، وتنتهي إلى الطمع في تملكها أو الاختصاص بها على الأقل، ودعوى أنها لا تكون ثابتة، وأنها

يسهل فكها بعد تركيبها - لا تتفق مع إقامتها على الصفة الموضحة في المخطط، ولا مع الشرط الذي ذكرته لجنة الحج العليا في قرارها، بل إقامتها كذلك من شأنه ثباتها وبقاؤها؛ تفاديا من متاعب إقامتها كل عام، وحرصا على عدم النفقات المتكررة، وحفظا للمال من الخسائر التي تنشأ عن تلف بعض ما أقيم على هذه الصفة عند فكها، وطمعا في الانتفاع بها، ثم الوصول إلى دعوى الاختصاص بها على الأقل.
أما الشيخان عبد المجيد حسن وعبد الله بن منيع فإنهما لا يريان في ذلك مانعا شرعيا، ولهما وجهة نظر مرفقة.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الرابعة
عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط ... محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... محمد الحركان
عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

وجهة نظر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإذا كان الأمر كما جاء في قرار لجنة الحج العليا من أن هذه الأكشاك بديل عن الخيام فقط، وأنها تزال بعد انتهاء موسم الحج من كل عام، فإذا لم يكن فيها تعريض لحجاج بيت الله الحرام للأذى والمضرة، سواء الساكن فيها وغيره من الحجاج - إذا كان الأمر كذلك ولم يكن في هذا الإجراء مضرة ولا أذى، فلا يظهر لنا مانع شرعي يحول دون جواز ذلك؛ لأن للحاج الارتفاق بالأرض التي يحلها في منى أيام الحج بأي وجه يراه، مما لا يتعارض مع المقاصد الشرعية، فإذا انقضت أيام الحج انتهى حقه في الارتفاق بتلك الأرض ذلك العام، ولا يظهر لنا وجه القول بأن هذا وسيلة إلى التملك أو الاختصاص لثلاثة أمور:
أحدها: أن إزالة هذه الأكشاك كل عام بعد انتهاء الحج كما تزال الخيام يمنع الاحتجاج بالاختصاص على فرض وروده شرعا، مع أن احتمال دعوى الاختصاص غير واردة؛ لمعرفة الخاص والعام: أن منى مناخ من سبق. وألا اختصاص لأحد فيها بغير السبق.
الثاني: ما عليه جمهور أهل العلم من منع التملك في منى مما هو مشهور ومعلوم لدى العموم، حيث لا يمكن تصور قيام أحد بدعوى التملك فيها شرعا، ولا يرد على ذلك واقع ما في منى من أبنية يتمسك أهلها بدعوى تملك ما هي عليه، فإن دعوى تملكها دعوى باطلة. وقد بنت الحكومة أيدها الله بنصره - على بطلان دعوى التملك في تعويضها- ما

قامت بهدمه من هذه المباني، حيث قصرت التعويض على الأنقاض فقط.
الثالث: أن مجموعة من الحجاج والمطوفين قد اعتادوا أن ينزلوا في منى في أماكن معينة منذ سنين طويلة، ولم يكن هذا الاعتبار شافعا لأحدهم بدعوى الاختصاص فيما لو سبقه غيره في ذلك المنزل وفوق ذلك كله فإن للحكومة - أعزها الله وأدام تمكينها - من الهيبة والقوة والحرص على رعاية مصالح حجاج بيت الله الحرام، والعناية وتمام الاهتمام بالمشاعر المقدسة بحال تقطع على أهل النوايا السيئة كل هدف وتفكير.
والله من وراء القصد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء
عبد المجيد حسن ... عبد الله بن سليمان بن منيع

(8)
مقام إبراهيم
عليه السلام
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
مقام إبراهيم عليه السلام
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
فتوى سماحة مفتى الديار السعودية
في جواز نقل مقام إبراهيم عليه السلام حيث وجد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل في كتابه الكريم: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (1) والصلاة والسلام على خاتم رسله الذي أتى بالحنيفية السمحة، وعلى آله وصحبه، ومن لسبيلهم نهج.
وبعد: فإنه لما كثر الوافدون إلى بيت الله الحرام في عصرنا هذا الذي توفر فيه من وسائل نقلهم ما لم يتوفر قبل، وازدادوا زيادة لم تعهد فيما مضى- أدى ذلك إلى وقوع الطائفين في حرج شديد فيما بين المقام وبين البيت ؛ ولذلك قدمت الرابطة الإسلامية رغبتها إلينا في أن نكتب رسالة في حكم تأخير المقام عن ذلك الموضع إلى موضع في المسجد الحرام قريب منه محاذ له؛ رفعا للحرج، فاستخرت الله تعالى، وكتبت إجابة لها هذه الرسالة، ورتبتها على ما يلي:
__________
(1) سورة الحج الآية 78

1 - بيان موضع المقام في عهد النبوة، وأن أول من أخره عنه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
2 - إيراد أدلة القائلين بأن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد النبوة، والجواب عنها.
3 - سرد العلل التي علل بها تأخير عمر المقام، وترجيح التعليل برفع الحرج عن الطائفين.
4 - بيان حكم تأخير المقام اليوم عن موضعه إلى موضع في المسجد الحرام قريب منه محاذ له.
والله أسأل أن يكون هذا الجواب خالصا لوجهه الكريم، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب:
بيان موضع المقام في عهد النبوة وأن أول من أخره عمر بن الخطاب :
ثبت عن السلف الصالح: أن مقام إبراهيم - عليه السلام - كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر - رضي الله عنه - في سقع البيت، وأن أول من أخره عن ذلك الموضع عمر بن الخطاب، وممن ثبت ذلك عنه من أعيانهم المذكورون في ما يلي:
1 - أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها - عند البيهقي، قال في [سننه]: أخبرنا أبو الحسن بن الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبو أحمد بن كامل (1) ، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل
__________
(1) أحمد بن كامل إمام قال فيه الخطيب في [تاريخ بغداد]: (سمعت أبا الحسن بن زرقويه ذكر أحمد بن كامل فقال: (لم تر عيناي مثله)، وأثنى عليه الخطيب بأنه من العلماء بالأحكام وعلوم القرآن والنحو والشعر وأيام الناس وتواريخ أصحاب الحديث؛ ولهذا لم يعتبر قول الدارقطني فيه: أنه كان يعتمد على حفظه فيهم، وفي ذلك يقول الذهبي في [الميزان]: [لينه الدارقطني، وقال: كان متساهلا ومشاه غيره)، وعلى مراعاة الدارقطني في أحمد بن كامل فتصحيح الحافظين: ابن كثير، وابن حجر روايته هذه دليل على أنها ليست مما وهم فيه.

السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي (1) ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - (2) : « أن المقام كان زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر - رضي الله عنه - ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه » -. اهـ صحح الحافظ ابن كثير إسناده في [تفسيره] في الكلام على آية المقام، وقواه الحافظ في [فتح الباري]، في كتاب التفسير في الكلام على تلك الآية، قال ج (8) ص (137): أخرج البيهقي عن عائشة مثله، أي: مثل ما روى عن عطاء وغيره من التصاق المقام بالبيت إلى أن أخره عمر بسند قوي، ولفظه: أن المقام كان في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي زمن أبي بكر ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر ا. هـ كلام [الفتح]، ولا يرد على جزم رواية أبي ثابت المذكورة.
__________
(1) هو عبد العزيز بن محمد بن أبي عبيد المدني، من مشاهير المحدثين تكلم في حفظه بعض أهل الحديث بما لا يؤثر فيه؛ لما رواه ابن أبي حاتم في مقدمة [الجرح والتعديل] ص (22)، عن أي بكر بن أبي خيثم في ما كتب إليه قال: سمعت مصعبا الزبيري يقول: كان مالك يوثق الدراوردي. ا هـ. ولما ذكره الحافظ في مقدمة [فتح الباري] من أنه وثقه يحيى بن معين وعلي بن المديني واحتج به مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وروى له البخاري حديثين قرنه فيهما بعبد العزيز بن أبي حازم وغيره، وأورد له أحاديث يسيرة في المتابعات بصيغة التعليق؛ ولهذا كتب الحافظ الذهبي في [الميزان] أول اسمه (صح) إشارة إلى أن العمل على توثيقه جريا على اصطلاح الذهبي الذي ذكره الحافظ ابن حجر في ذلك في [لسان الميزان].
(2) هكذا روى هذا الحديث أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي عن أبي ثابت، عن الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، ورواه أبو زرعة عن أبي ثابت عن الدراوردي عن هشام بن عروة، عن أبيه موقوفا على عروة، ويجمع بين ذلك بأن كلا منهما حدث بما سمع، وفي رواية السلمي زيادة الثقة، وهي واجبة القبول.

شك رواية يعقوب بن حميد بن كاسب عند الفاكهي قال يعقوب : حدثنا عبد العزيز بن محمد بن هشام بن عروة عن أبيه قال عبد العزيز : أراه عن عائشة : أن المقام كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سقع البيت، فإن يعقوب بن حميد بن كاسب ليس بشيء.
قال ابن أبي حاتم في [الجرح والتعديل]: قرئ على العباس بن محمد الدوري أنه سأل يحيى بن معين عن يعقوب بن كاسب فقال: (ليس بشيء)، وقال أيضا: سمعت أبي يقول: (هو ضعيف الحديث)، وقال النسائي : في [الضعفاء والمتروكين]: يعقوب بن حميد بن كاسب ليس بشيء، مكي، وقال العقيلي في [الضعفاء]: حدثنا زكريا الحلواني قال: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات على ظهور كتبه، وسألته عنه فقال: رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها فطالبناه بالأصول فدفعنا ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها. اهـ.
2 - عروة بن الزبير، قال عبد الرزاق في [مصنفه]: عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه: « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبا بكر وعمر بعض خلافته كانوا يصلون صقع البيت حتى صلى عمر خلف المقام » . وأصرح من هذه الرواية ما روى عبد الرحمن بن أبي حاتم في [العلل] عن أبي زرعة، عن أبي ثابت، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه: « أن المقام كان في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه » -، وتقدم أن هذا الحديث رواه أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي عن أبي ثابت عن الدراوردي عن

هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، والروايتان ثابتتان، فدل ذلك على أن عروة روى هذا الحديث عن خالته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، فكان يحدث به عنها تارة، ويتكلم به تارة أخرى من غير أن يسنده إليها فروي عنه بالوجهين.
3 - عطاء وغيره من أصحاب ابن جريج عند عبد الرزاق، قال في [مصنفه]: عن ابن جريج، قال: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أول من رفع المقام، فوضعه موضعه الآن، وإنما كان في قبل الكعبة، صحح الحافظ ابن حجر العسقلاني إسناده في [فتح الباري] ج (8)، ص (137)، قال في كلامه على المقام في كتاب التفسير: ( كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر إلى المكان الذي هو فيه الآن، أخرجه عبد الرزاق في [مصنفه] بسند صحيح عن عطاء وغيره. اهـ. ومعنى قول ابن جريج : (يزعمون): (يقولون) من باب استعمال الزعم في القول المحقق، نظير ما رواه البخاري في صحيحه في باب إذا حرم طعاما، وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } (1) قال البخاري : (حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الحجاج بن محمد، عن ابن جريج قال: زعم عطاء : أنه سمع عبيد بن عمير يقول: سمعت عائشة تزعم: « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا » (2) . . . .) الحديث، وذكر الحافظ في شرح قول الراوي: (زعم عطاء أن أهل الحجاز يطلقون الزعم بمعنى: القول، وقرر الحافظ هو والنووي
__________
(1) سورة التحريم الآية 1
(2) صحيح البخاري الطلاق (4966),سنن النسائي الطلاق (3421),سنن أبو داود الأشربة (3714),مسند أحمد بن حنبل (6/221).

أن ذلك الاستعمال كثير، قال النووي في شرح قول ضمام بن ثعلبة : (يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك) قال: قوله: (زعم) و (تزعم) مع تصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه دليل على أن (زعم) ليس مخصوصا بالكذب والقول المشكوك فيه، بل يكون أيضا في القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه، وقد جاء من هذا كثير في الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "زعم جبريل كذا"، وقد أكثر سيبويه وهو إمام العربية في كتابه الذي هو إمام كتب العربية من قوله: (زعم الخليل) (زعم أبو الخطاب) يريد بذلك: القول المحقق، وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم، ونقله أبو عمرو الزاهد في [شرح الفصيح] عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين. اهـ.
وقال الحافظ في [الفتح] في كتاب العلم في شرح قول ضمام بن ثعلبة المتقدم: إن الزعم يطلق على القول المحقق أيضا، كما نقله أبو عمرو الزاهد في شرح فصيح ثعلب، وأكثر سيبويه من قوله: (زعم الخليل) في مقام الاحتجاج.
ومما استدل به الحافظ في [فتح الباري] لاستعمال الزعم بمعنى القول المحقق قول عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في حديثه في (المواقيت): ويزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « ويهل أهل اليمن من يلملم » (1) يعني: ابن عمر بقوله: (يزعمون): الصحابة. قلت: ويشهد لكون (يزعمون) في رواية عبد الرزاق المتقدمة عن ابن جريج، عن عطاء وغيره من أصحاب ابن جريج بمعنى: القول المحقق- رواية عبد الرزاق الأخرى التي ذكرها
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1453),سنن النسائي مناسك الحج (2652),سنن أبو داود المناسك (1737),سنن ابن ماجه المناسك (2914),مسند أحمد بن حنبل (2/47),موطأ مالك الحج (734),سنن الدارمي المناسك (1790).

الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1) فإنه (قال عبد الرزاق : حدثني ابن جريج عن عطاء وغيره من أصحابنا قالوا: أول من نقله- أي: المقام - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) فقول ابن جريج في هذه الرواية: (قالوا) يفسر في الرواية الأولى (يزعمون) (2) .
4 - مجاهد عند عبد الرزاق قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (3) (قال عبد الرزاق : عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) صححه الحافظ في [فتح الباري] في (كتاب التفسير) ج (8)، ص (137)، وذكر ابن كثير في تفسيره: أنه أصح مما في رواية ابن مردويه عن مجاهد، من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوله (4) . وعبارة
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) لا يرد على ما ذكرناه من إطلاق الزعم على القول المحقق ما روى أبو داود عن أبي قلابة قال أبو مسعود لأبي عبد الله، أو أبو عبد الله لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في (زعموا)؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول: ''بئس مطية الرجل '' فإن هذا الحديث منقطع السند؛ لأن أبا قلابة لم يسمع من حذيفة المكنى فيه بأبي عبد الله، ولا من أبي مسعود - رضي الله عنهما -، كما نقله المنذري في [مختصر سنن أبي داود] عن كتاب [الأطراف] لأبي القاسم الدمشقي، وفي [فتح الباري] للحافظ ابن حجر: أن البخاري أشار إلى تضعيف هذا الحديث بإيراد قول أم هانئ في شأن ابن هبيرة (قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي أنه قاتل رجلا قد أجرته) في باب ما جاء في زعموا، وأيد الحافظ ما أشار إليه البخاري بقول ضمام بن ثعلبة في حديثه (يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك)
(3) سورة البقرة الآية 125
(4) ذكرها ابن كثير في تفسيره قال: قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: (أخبرنا ابن عمر وهو أحمد بن محمد بن حكيم، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام، أخبرنا آدم، وهو: ابن أبي إياس في تفسيره، أخبرنا شريك عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام فأنزل الله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فكان المقام عند البيت، فحوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى موضعه هذا، قال مجاهد: وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن) وسيأتي الكلام على هذه الرواية مبسوطا.

ابن كثير بعد ذكر أثر مجاهد هذا (هذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاده بما تقدم). اهـ. يعني ابن كثير بما تقدم: الآثار التي أوردها قبل ذلك بأسانيد قوية عن عائشة وعطاء وغيره من أصحاب ابن جريج وسفيان ابن عيينة .

5 - بعض مشايخ مالك، ففي [المدونة] في ج (2) في رسم في قطع شجر الحرم من كتاب الحج ما نصه ( قال مالك : بلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، وكان ملصقا بالبيت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وقبل ذلك، وكان قدموه في الجاهلية مخافة أن يذهب به السيل، فلما ولي عمر أخرج أخيوطة كانت في خزانة الكعبة قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت، إذ قدموه مخافة السيل، فقاسه عمر فأخرجه إلى موضعه اليوم، فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. اهـ.
6 - سفيان بن عيينة عند ابن أبي حاتم في [تفسيره]، قال في تفسير قوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1) حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العدني (2) قال: قال
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) ابن أبي عمر العدني: هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني من أئمة العلم، قال الترمذي: (في جامعه) في (باب لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب بعدما روى حديثا عنه: (سمعت ابن أبي عمر يقول: اختلفت إلى ابن عيينة ثمان عشرة سنة، وكان الحميدي أكبر مني بسنة، وسمعت ابن أبي عمر يقول: حججت سبعين حجة ماشيا)، وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في [الجرح والتعديل] عن أحمد بن سهل الإسفرائيني قال: سمعت أحمد بن حنبل وسئل عمن يكتب؟ فقال: أما بمكة فابن أبي عمر) ولهذا لم يمنع المحدثين من الرواية عنه قول أبي حاتم فيه (كان رجلا صالحا به غفلة، ورأيت عنده حديثا موضوعا حدث به عن ابن عيينة وكان صدوقا، بل اعتنى المحدثون بالرواية عنه، حتى قال صاحب الزهرة كما في [تهذيب التهذيب]: (روى عنه مسلم مائتي حديث وستة عشر حديثا)، وروى عنه الترمذي وابن ماجه، وروى النسائي عنه بوسائط، وذكر له البخاري في [صحيحه] في كتاب الصلاة في الجمعة متابعة عقب حديث شعيب عن الزهري عن عروة عن أبي حميد (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عشية بعد الصلاة فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد) قال البخاري عقب هذا: تابعه العدني عن سفيان في (أما بعد) يقصد البخاري بالعدني: محمد بن يحيى، هذا بدليل رواية مسلم ذلك الحديث في [صحيحه] عن محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، هذا عن سفيان بن عيينة عن هشام كذلك، وممن روى عن العدني أبو حاتم الذي صدرت منه تلك الكلمة، روى عنه الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه، ورواه عن أبي حاتم ابنه عبد الرحمن في التفسير الذي التزم فيه إيراد الأصح، وبذلك تبين أيضا: أن هذا الحديث ليس بذلك الموضوع الذي شاهده أبو حاتم عند العدني، إذ لو كان كذلك لم يروه ابنه في تفسير التزم فيه الأصح.

سفيان (1) : كان المقام في سقع البيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد قوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (2)
__________
(1) هو ابن عيينة أحد أئمة الإسلام أجمعت الأمة على الاحتجاج به، وأما ما رواه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي عن يحيى بن سعيد القطان قال: أشهد أن سفيان بن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة فمن سمع منه فيها فسماعه لا شيء) فهذا الخبر استبعده الذهبي في [الميزان] قال: (أنا أستبعده وأعده غلطا من ابن عمار، فإن القطان مات في صفر سنة ثمان وتسعين وقت قدوم الحجاج ووقت تحدثهم عن أخبار الحجاز، فمتى تمكن يحيى بن سعيد من أن يسمع اختلاط سفيان ثم يشهد عليه بذلك والموت قد نزل به؟! ثم قال: فلعله بلغه ذلك في أثناء سنة سبع مع أن يحيى معنت جدا في الرجال وسفيان ثقة مطلقا، قال: (ويغلب على ظني أن سائر شيوخ الأئمة الستة سمعوا منه قبل سنة سبع، أي: التي اختلط فيها، وأما سنة ثمان وتسعين ففيها مات، ولم يلقه أحد، فإنه توفي قبل قدوم الحاج بأربعة أشهر. اهـ. ما ذكره الذهبي وأقره عليه الحافظ العراقي في كتبه الثلاثة: [شرح ألفية المصطلح]، و[التقييد والإيضاح]، ومقدمة [طرح التثريب] فاستفدنا من ذلك استبعاد الذهبي والعراقي رواية ابن عمار اختلاط ابن عيينة واعتبارهما إياها على فرض ثبوتها من قبيل تعنت يحيى في الرجال، وقد ناقش الحافظ ابن حجر الذهبي حول استبعاد اختلاط ابن عيينة في التاريخ الذي ذكره ابن عمار بما لا يؤثر في الرواية التي نحن بصدد تقويتها، ما دام الحافظ قد صرح بصحتها في [فتح الباري]، ج (8)، ص (137) في باب قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى من (كتاب التفسير).
(2) سورة البقرة الآية 125

قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه. وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله، قال سفيان : لا أدري أكان لاصقا بها أم لا. صحح الحافظ في [فتح الباري]، إسناده في (كتاب التفسير)، ج (8)، ص (137) في شرح باب قول الله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1) وصحح هذا الحديث قبل صاحب [فتح الباري] الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم إيراده في تفسيره الذي ذكر في أوله: أن جماعة من إخوانه طلبوا منه تفسيرا مختصرا بأصح الأسانيد وحذف الطرق، ثم قال: ( فأجبتهم إلى مسألتهم، وبالله التوفيق، وإياه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فتحريت إخراج ذلك بأصح الأخبار إسنادا، وأشبهها متنا، فإذا وجدت التفسير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أذكر معه أحدا من الصحابة، ممن أتى بمثل ذلك، وإذا وجدته عن الصحابة، فإن كانوا متفقين ذكرته عن أعلاهم درجة بأصح الإسناد، وسميت موافقيهم بحذف الإسناد، فإن لم أجد عن الصحابة ووجدته عن التابعين عملت فيما أجد عنهم ما ذكرته من المثال في الصحابة، وكذلك أجعل المثال في أتباع التابعين وأتباعهم ). اهـ. ما ذكره ابن أبي حاتم في مقدمة تفسيره، وهو دليل على صحة هذا الحديث.
7 - الواقدي (2) عند ابن جرير الطبري بتاريخه، قال في حوادث سنة ثمان عشرة: ( وزعم- أي: الواقدي - أن عمر - رضي الله عنه - حول المقام في هذه السنة في ذي القعدة إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت قبل ذلك .
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) الواقدي قال الحافظ ابن كثير في [البداية والنهاية] ج (3)، ص (234): (عنده زيادات حسنة وتاريخ محرر غالبا، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثار). اهـ.

اهـ. وذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه [البداية والنهاية]: أن الواقدي لم ينفرد بهذا وعبارته ج (7) ص (93): (قال (1) الواقدي وغيره: في هذه السنة - أي: سنة ثمان عشرة في ذي الحجة منها - حول عمر المقام، وكان ملصقا بجدار الكعبة وأخره إلى حيث هو الآن؛ لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين ثم قال ابن كثير : (قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر، ولله الحمد والمنة).
8 - مشايخ ابن سعد، قال في [الطبقات الكبرى] في ترجمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ( قالوا: وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت ). اهـ.
هذه جملة من أعيان السلف الذين صرحوا بأن المقام كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في صقع البيت، وأن أول من أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقد جزم بما صرحوا به غير واحد من أئمة المتأخرين، منهم: الحافظ ابن حجر في [فتح الباري]، والحافظ ابن كثير في [التفسير] و[البداية والنهاية]، والشوكاني في [فتح القدير]، قال الحافظ في [الفتح] ج (8)، ص (137) في باب { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (2) من (كتاب التفسير): ( كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر - رضي الله عنه - إلى المكان الذي هو فيه الآن ) أخرجه عبد الرزاق في [مصنفه] بسند صحيح عن عطاء وغيره، وعن مجاهد أيضا، وأخرج البيهقي عن عائشة مثله بسند قوي، ولفظه: « أن المقام كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي زمن أبي
__________
(1) قول ابن كثير في هذه العبارة: (قال الواقدي) يفيد أن قول ابن جرير في عبارته: (زعم الواقدي) من استعمال الزعم في القول المحقق.
(2) سورة البقرة الآية 125

بكر ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر » ، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوله، والأول أصح، وقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عيينة قال: « كان المقام في سقع البيت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحوله عمر، فجاء سيل فذهب به فرده عمر إليه. قال سفيان : لا أدري أكان لاصقا بالبيت أم لا » . اهـ.
وبهذا ظهر رجوع الحافظ عما كتبه في باب { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1) من كتاب الصلاة، فإنه كتب ما نصه: ( قد روى الأزرقي في [أخبار مكة] بأسانيد صحيحة: أن المقام كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن، حتى جاء سيل في خلافة عمر فاحتمله حتى وجد بأسفل مكة فأتي به ربط إلى أستار الكعبة، حتى قدم عمر فاستثبت في أمره حتى تحقق موضعه الأول، فأعاده إليه، وبنى حوله، فاستقر، ثم إلى الآن (2) اهـ. وهذا الذي كتبه الحافظ في (كتاب الصلاة) سبق قلم نبه على رجوعه عنه بالصواب الذي ذكره في (كتاب التفسير)، وكان يصنع ذلك تارة فيما سبق به القلم ويصرح تارة بالرجوع عما كتبه أولا، ومما صرح فيه بالرجوع ما يلي:
1 - قوله في ج (8) ص (16) في الباب الذي بعده (باب منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - ) يوم الفتح بالكلام على حديث أبي شريح العدوي في تعظيم مكة قال: (قوله العدوي ): كنت جوزت في الكلام على حديث الباب في الحج أنه
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) وبهذا الذي ذكره الحافظ في (كتاب الصلاة) عن الأزرقي عارض قول الكرماني: بأن المقام كان عند باب الكعبة في عهد النبوة، وكان هذا قبل ظهور الصواب للحافظ الذي بينه في (كتاب التفسير).

من حلفاء بني كعب؛ وذلك لأني رأيته في طريق أخرى الكعبي نسبة إلى كعب بن ربيعة بن عمرو بن لحي، ثم ظهر لي أنه نسب إلى بني عدي بن عمرو بن لحي، وهم إخوة كعب، ويقع هذا في الأنساب كثيرا.
2 - قوله في شرح حديث عباد بن تميم عن عمه قال: « رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد مستلقيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى » (1) في باب الاستلقاء، في ج (11)، ص (68): ( تقدم بيان الحكم في أبواب المساجد من كتاب الصلاة، وذكرت هناك قول من زعم أن النهي عن ذلك منسوخ، وأن الجمع أولى، وأن محل النهي حيث تبدو العورة، والجواز حيث لا تبدو، وهو جواب الخطابي ومن تبعه، ونقلت قول من ضعف الحديث الوارد في ذلك وزعم أنه لم يخرج في الصحيح، وأوردت عليه بأنه غفل عما في (كتاب اللباس) من الصحيح، والمراد بذلك [صحيح مسلم ]، وسبق القلم هناك، فكتبت [صحيح البخاري ]، وقد أصلحته في أصلي ).
3 - قوله في باب الدعاء على المشركين، ج (11)، ص (162) في الكلام على قول البخاري : (حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا الأنصاري، حدثنا هشام بن حسان، حدثنا محمد بن سيرين، حدثنا عبيدة، حدثنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: « ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا » (2) الحديث. قال الحافظ: (قوله: حدثنا هشام بن حسان ) يرجح قول من قال في الرواية التي مضت في الجهاد من طريق عيسى بن يونس، حدثنا هشام ) أنه ابن حسان، وكنت ظننت أنه الدستوائي ورددت على الأصيلي حيث جزم بأنه ابن حسان، ثم نقل تضعيف هشام بن
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (5929),صحيح مسلم اللباس والزينة (2100),سنن الترمذي الأدب (2765),سنن النسائي المساجد (721),سنن أبو داود الأدب (4866),مسند أحمد بن حنبل (4/39),موطأ مالك النداء للصلاة (418),سنن الدارمي الاستئذان (2656).
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2773),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (627),سنن الترمذي تفسير القرآن (2984),سنن أبو داود الصلاة (409),سنن ابن ماجه الصلاة (684),مسند أحمد بن حنبل (1/113),سنن الدارمي الصلاة (1232).

حسان يروم رد الحديث فتعقبته هناك، ثم وقفت على هذه الرواية فرجعت عما ظننت إلخ.
ويدل على رجوع الحافظ عما كتبه في (كتاب الصلاة) إلى ما بينه في (كتاب التفسير) تعذر الجمع بين تصحيح الحافظ أسانيد تلك الروايات الأزرقية التي تذكر: أن المقام كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن، وهو الذي رده إليه عمر بعدما ذهب به السيل وبين تصحيحه في (كتاب التفسير) أسانيد روايات كون المقام لزق البيت إلى أن أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأن الروايات الأزرقية التي أشار إليها ليس فيها شيء صحيح صريح، كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى عند الكلام على تلك الروايات، مع ذكر كلام الحافظ فيمن تكلم فيه من رواتها؛ ليتبين أن ما ذكره في (كتاب الصلاة) في الروايات الأزرقية كما لا يتفق ما في (كتاب التفسير) لا يتفق مع كلامه في رواية تلك الروايات الأزرقية في كتبه في [الجرح والتعديل] وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه [البداية والنهاية] ج (1) ص (162) تحت عنوان: (ذكر بناية البيت العتيق ) في الكلام على مقام إبراهيم - عليه السلام -: ( قد كان هذا الحجر ملصقا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأخره عن البيت قليلا؛ لئلا يشغل المصلون عنده الطائفين بالبيت )، وقال في الجزء السابع من التاريخ المذكور [البداية والنهاية] ص (13) في الكلام على حوادث سنة ثمان عشرة: ( قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حول عمر المقام، وكان ملصقا بجدار

الكعبة، أخره (1) إلى حيث هو الآن؛ لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين وقال في [التفسير] في الكلام على قوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (2) ( قلت: قد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر، يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل - عليه السلام - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، وأنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛ ولهذا والله أعلم، أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضى الله عنه -: أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر » (3) وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين-) ، وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ } (4) ( قد كان- أي: المقام - ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في إمارته إلى ناحية الشرق، بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف؛ لأن الله تعالى
__________
(1) اعتمد ابن كثير في الجزم بأن أول من أخر المقام عن البيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على روايات ذكرها في تفسيره عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وعن مشايخ ابن جريج وعن مجاهد وسفيان بن عيينة، وهذه الروايات مذكورة فيما تقدم.
(2) سورة البقرة الآية 125
(3) سنن الترمذي المناقب (3662),سنن ابن ماجه المقدمة (97),مسند أحمد بن حنبل (5/382).
(4) سورة آل عمران الآية 97

قد أمرنا بالصلاة عنده، حيث قال: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1) اهـ ما جمعناه من تاريخ ابن كثير وتفسيره.
وقال العلامة الشوكاني في [فتح القدير] في تفسير آية: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (2) وهو: أي المقام الذي كان ملصقا بجدار الكعبة، وأول من نقله عمر بن الخطاب، كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي بأسانيد صحيحة، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة . اهـ.
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) سورة البقرة الآية 125

أدلة القائلين بأن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد النبوة والجواب عنها:
استدل القائلون: بأن موضع مقام إبراهيم - عليه السلام - هذا الذي هو فيه اليوم هو موضعه في عهد النبوة: بأمور نذكرها مع الإجابة عنها فيما يلي:
الأول: ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه قال: أخبرنا ابن عمر، وهو: أحمد بن محمد بن حكيم، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام، أخبرنا آدم، وهو: ابن أبي إياس في تفسيره، أخبرنا شريك، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب : « يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله: فكان المقام عند البيت، فحوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى موضعه هذا، » (2) قال مجاهد : وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن).
والجواب عن هذا: ما ذكره الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر العسقلاني في [فتح الباري].
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (394),سنن الترمذي تفسير القرآن (2959),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1009),سنن الدارمي المناسك (1849).
(2) سورة البقرة الآية 125 (1) { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره الآية الكريمة: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1) بعد ذكر هذا الأثر الذي رواه ابن مردويه : (هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد : أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضادها بما تقدم (2) اهـ.
وقال الحافظ في [الفتح] ج (8) ص (137) في باب { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (3) من (كتاب التفسير): أخرج ابن مردويه بسند ضعيف، عن مجاهد : أن « النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوله، » والأول أصح). اهـ.
ووجه ضعف سنده: أن فيه شريكا النخعي، وإبراهيم بن المهاجر، وهما ضعيفان؛ أما شريك، فقد روى علي بن المديني عن يحيى بن سعيد تضعيفه جدا، وقال ابن المثنى : ما رأيت يحيى ولا عبد الرحمن حدثا عن شريك شيئا، وروى محمد بن يحيى القطان عن أبيه قال: رأيت تخليطا في أصول شريك، وقال ابن المبارك : ليس حديثه بشيء، وقال الجوزجاني : سيئ الحفظ، مضطرب الحديث، ومائل، وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : أخطأ شريك في أربعمائة حديث، وقال الدارقطني : ليس شريك بالقوي فيما ينفرد به، وقال عبد الجبار بن محمد : قلت ليحيى بن سعيد : زعموا أن شريكا إنما خلط بآخره قال: ما زال مخلطا. نقل هذا عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) أي الآثار التي ذكرها ابن كثير في تفسيره قبل ذلك عن عائشة وعطاء وغيره من أصحاب ابن جريج ومجاهد وسفيان بن عيينة، وكلها متضمنة أن أول من أخر المقام عن سقع البيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
(3) سورة البقرة الآية 125

هؤلاء الأئمة الحافظ الذهبي في [ميزان الاعتدال]. وأما إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي - فقد قال العقيلي في [الضعفاء]: حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا صالح بن أحمد، قال: حدثنا علي، قال: قلت ليحيى : إن إسرائيل روى عن إبراهيم بن المهاجر ثلاثمائة حديثا، قال إبراهيم بن المهاجر : لم يكن بالقوي، حدثنا محمد، حدثنا صالح، عن علي قال: سئل يحيى بن سعيد عن إبراهيم بن المهاجر وأبي يحيى القتات فضعفهما. حدثنا عبد الله قال: سألت أبي عن إبراهيم بن المهاجر فقال: كان كذا وكذا (1) ، (وقال النسائي في [الضعفاء والمتروكين]: إبراهيم بن المهاجر الكوفي ليس بالقوي )، ونقل الحافظ في [تهذيب التهذيب] عن النسائي أنه صرح أيضا في [الكنى] بأنه ليس بالقوي في الحديث، قال الحافظ: (وقال ابن حبان في [الضعفاء]: هو كثير الخطأ، وقال الحاكم: قلت للدارقطني : فإبراهيم بن المهاجر ! قال: ضعفوه، تكلم فيه يحيى بن سعيد وغيره، قلت: بحجة، قال: بلى، حدث بأحاديث لا يتابع عليها، وقد غمزه شعبة أيضا) قال الحافظ: وقال أبو حاتم : ليس بالقوي، هو وحصين وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض، ومحلهم عندنا محل الصدق، يكتب حديثهم ولا يحتج به، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : قلت لأبي: ما معنى لا يحتج بحديثهم؟) قال: كانوا قوما لا يحفظون، فيحدثون بما لا يحفظون، فيغلطون، ترى في أحاديثهم اضطرابا ما
__________
(1) عبارة كان كذا وكذا يستعملها عبد الله ابن الإمام أحمد كثيرا في ما يجيبه به والده، وهي بالاستقراء كناية عمن فيه لين، كما قرره الحافظ الذهبي في [الميزان] في ترجمة يونس بن أبي إسحاق الهمداني السبيعي.

شئت). اهـ. ما في [تهذيب التهذيب].
الثاني: مما استدل به القائلون بأن موضع مقام إبراهيم - عليه السلام - اليوم: هو موضعه في عهد النبوة: ما في مغازي موسى بن عقبة في سياق خبر فتح مكة بلفظ: ( وأخر- أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - المقام إلى مقامه اليوم، وكان ملتصقا بالبيت ).
والجواب عن هذا: أن هذا المنقول من مغازي موسى بن عقبة يخالف ما تقدم عن عائشة وعروة شيخ موسى بن عقبة ومشايخ ابن جريج هو: أن أول من حول المقام إلى مقامه اليوم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ ولذلك لم يلتفت الحافظ ابن كثير الذي نقل هذا عن مغازي موسى بن عقبة إليه، بل جزم بخلافه.
الثالث: مما استدلوا به: ما رواه الأزرقي في [تاريخ مكة ] قال: حدثني جدي، قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد، قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام هذا الذي هو فيه اليوم: هو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر، فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فرده بمحضر الناس ).
والجواب عنه بأمرين:
أحدهما: أن راوي هذا عن ابن أبي مليكة عبد الجبار بن الورد، وهو وإن كان ثقة يخالف في بعض حديثه، قال البخاري في [تاريخه الكبير]: ( يخالف في بعض حديثه )، واعتمد العقيلي على كلام البخاري هذا، فذكره في [الضعفاء] ثم قال: ( حدثني آدم بن موسى، قال: سمعت البخاري قال: ( عبد الجبار بن الورد المكي يخالف في بعض حديثه ). اهـ

كلام العقيلي . وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في [تقريب التهذيب] في عبد الجبار بن الورد : صدوق يهم ).
الثاني: أن ما قاله ابن أبي مليكة على فرض ثبوته عنه لم يأخذه عن الصحابة فيما يرى المحب الطبري صاحب [القرى]، بل إنما فهمه من سياق رواية كثير بن المطلب عن أبيه قصة احتمال سيل أم نهشل المقام )، ولا يسعنا ما دام الأمر كذلك أن نقدم ذلك الفهم على تصريح أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - « بأن المقام كان ملصقا بالبيت في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر، ثم أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه » - (1) ، وكلمة: (أين موضعه)؟ التي فهم منها ابن أبي مليكة ذلك- يفسرها ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسند صحيح، عن ابن عيينة أنه قال: (كان المقام في سقع البيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعد قوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (2) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه)، الحديث المتقدم، فإن هذا يدل على أن الموضع الذي سأل عنه عمر، ليرد المقام إليه: الموضع الذي وضعه فيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أول مرة، لا موضعه في عهد النبوة.
الرابع: مما استدل به القائلون بأن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد النبوة- ما رواه الأزرقي في [تاريخ مكة ] قال: حدثني جدي قال: حدثنا سليم بن مسلم (3) عن ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن السائب - وكان يصلي بأهل مكة - فقال: أنا أول من صلى خلف
__________
(1) روى حديث عائشة المشار إليه هنا البيهقي بسند صحيح، كما تقدم
(2) سورة البقرة الآية 125
(3) ضبط الحافظ الذهبي سليم بن مسلم في [المشتبه] بفتح السين، وقال: (واه).

المقام حين رد في موضعه هذا، ثم دخل عمر وأنا في الصلاة فصلى خلفي صلاة المغرب ). وجه الاستدلال به: أن قول عبد الله بن السائب : (حين رد في موضعه هذا) يفهم منه: أن له موضعا قبل التحويل، فيلزم عنه أنه موضعه في عهد النبوة.
والجواب عن هذا: أن سياق عبد الرزاق أحسن من سياق سليم بن مسلم، فقد قال عبد الرزاق في [مصنفه]: عن ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر وعمر بن عبد الرحمن بن صفوان وغيرهما، أن عمر قدم فنزل في دار ابن سباع، فقال: يا أبا عبد الرحمن، صل بالناس المغرب، فصليت وراءه، وكنت أول من صلى وراءه حين وضع، ثم قال: فأحسست عمر وقد صليت ركعة، فصلى ورائي ما بقي. اهـ. فكلمة (حين وضع) في رواية عبد الرزاق هذه هي التي غيرها سليم بن مسلم بقوله: (حين رد في موضعه هذا): وسليم بن مسلم غير مأمون، لا على عقيدته ولا على الحديث، كما بينه الأئمة، قال العقيلي في [الضعفاء]: حدثنا محمد قال: حدثنا عباس، قال: سمعت يحيى ذكر سليم بن مسلم المكي فقال: كان ينزل مكة، وكان جهميا خبيثا. اهـ. وقال النسائي في [الضعفاء والمتروكين]: ( سليم بن مسلم الخشاب متروك الحديث ). اهـ. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في [لسان الميزان]: ( سليم بن مسلم المكي الخشاب الكاتب عن ابن جريج - قال ابن معين : جهمي خبيث، وقال النسائي : متروك الحديث، وقال أحمد : لا يساوي حديثه شيئا ). قال الحافظ: ( وقال أبو حاتم في ترجمة سليم : منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال الدوري عن ابن معين : ليس بقوي، وقال مرة : متروك ).

اهـ. المراد من كلام الحافظ في [لسان الميزان].

الخامس: مما استدلوا به: ما ذكره الأزرقي في [تاريخ مكة ] بعدما ساق حديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح في وجه الكعبة حذو الطرقة البيضاء: روى عن جده أنه قال: قال داود : وكان ابن جريج يشير لنا إلى هذا الموضع، ويقول: هذا الموضع الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الموضع الذي جعل فيه المقام حين ذهب به سيل أم نهشل إلى أن قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فرده إلى موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - رضي الله عنه - وبعض خلافة عمر - رضي الله عنه - إلى أن ذهب به السيل.
والجواب عن هذا: أن ما ذكره الأزرقي عن ابن جريج يخالف ما صح عن مشايخ ابن جريج عطاء وغيره من رواية ابن جريج عنهم، فقد تقدم أن عبد الرزاق روى في [مصنفه] بسند صحيح: أنهم قالوا: إن عمر أول من رفع المقام فوضعه موضعه الآن (1)
السادس: مما استدلوا به: ما رواه الأزرقي في [تاريخ مكة ] قال: حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي، عن أبيه (2) ، عن جده، قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر بن
__________
(1) (لفظ المصنف) (عبد الرزاق عن ابن جريج قال: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون: أن عمر أول من رفع المقام فوضعه موضعه الآن، وإنما كان في قبل الكعبة). اهـ.
(2) كثير بن المطلب: قال الحافظ ابن حجر في [تقريب التهذيب]: مقبول، وحديث ذوي هذه المرتبة يكتب للاعتبار لا للاحتجاج، كما في [تدريب الراوي] للسيوطي.

الخطاب الردم الأعلى، وكان يقال لهذا الباب: باب السيل، قال: فكانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه، وربما نحته إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، يقال له: سيل أم نهشل، إنما سمي بأم نهشل؛ لأنه ذهب بأم نهشل ابنة عبيدة بن أبي أحيحة سعيد بن العاص، فماتت فيه، فاحتمل المقام من موضعه هذا، فذهب به حتى وجد بأسفل مكة، فأتى به فربطه إلى أستار الكعبة في وجهها، وكتب في ذلك إلى عمر - رضي الله عنه -، فأقبل عمر فزعا فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غبي موضعه وعفاه السيل، فدعا عمر بالناس فقال: أنشد الله عبدا عنده علم في هذا المقام، فقال المطلب (1) بن أبي وداعة السهمي : أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه، فأخذت قدره من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط، وعندي في البيت، فقال له عمر : فاجلس عندي وأرسل إليها، وأتى بها فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا، فسأل الناس فشاورهم، فقالوا: نعم، هذا موضعه، فلما استثبت ذلك عمر - رضي الله عنه - وحق عنده أمر ربه فأعلم ببناء ربطه تحت المقام، ثم حوله، فهو في مكانه هذا إلى اليوم. ا هـ.
__________
(1) هكذا في رواية كثير عند الأزرقي أن أباه هو الذي قاس ذلك، وفي رواية مجاهد عند ابن سعد: أن الذي قاسه أبو وداعة السهمي والد المطلب، وعند ابن الجوزي في [تاريخ عمر بن الخطاب] أن الذي قاسه رجل من آل عائد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهذا اضطراب يوجب ترك الروايات المتعلقة بالقياس والاقتصار فيما جرى في شأن المقام على أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو الذي أخره أول مرة؛ مراعاة لمصلحة الطائفين، ثم ذهب به السيل فأعاده إلى ذلك الموضع الذي أخره إليه أول مرة، فإن هذا هو الذي تأكدنا ثبوته.

والجواب عنه: أن المراد بالموضع المذكور في هذا الخبر الموضع الذي وضعه فيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أول مرة، وهو الذي سأل عنه؛ ليضعه في المرة الثانية، بدليل رواية ابن أبي حاتم المتقدمة، عن أبيه، عن ابن أبي عمر العدني، عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان المقام في سقع البيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد قوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1) الآية، قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه.. الخبر المتقدم.
السابع: مما استدلوا به: ما رواه الأزرقي في [أخبار مكة ] قال: حدثني ابن أبي عمر قال: حدثنا ابن عيينة، عن حبيب ابن أبي الأشرس قال: كان سيل أم نهشل قبل أن يعمل عمر الردم بأعلى مكة احتمل المقام من مكانه، فلم يدر أين موضعه، فلما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل من يعلم موضعه؟ فقال المطلب بن أبي وداعة : أنا يا أمير المؤمنين، قد كنت قدرته، وذرعته بمقاط، وتخوفت عليه، هذا من الحجر إليه، ومن الركن إليه، ومن وجه الكعبة إليه، فقال: إيت به فجيء به فوضعه في موضعه هذا، وعمل عمر الردم عند ذلك، قال سفيان : فذلك الذي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه: أن المقام كان عند سقع البيت، فأما موضعه الذي هو موضعه فموضعه الآن، وأما ما يقول الناس: أنه كان هناك موضعه فلا. قال سفيان : وقد ذكر عمرو بن دينار نحوا من حديث ابن أبي الأشرس هذا، لا أميز أحدهما عن صاحبه.
والجواب عن هذا: أن ما ذكره ابن أبي الأشرس، وذكر عمرو بن دينار نحوه من سؤال عمر عن موضع المقام - لا يدل على أن مراد عمر موضع
__________
(1) سورة البقرة الآية 125

المقام في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بل الذي دلت عليه رواية ابن أبي حاتم المتقدمة عن سفيان بن عيينة : أن سؤال عمر - رضي الله عنه - إنما هو عن الموضع الذي وضعه فيه أول مرة؛ ليضعه فيه المرة الثانية مع أن أمر حبيب ابن أبي الأشرس هين؛ لأنه لا يحتج به، قال البخاري في [التاريخ الصغير]: ( قال أحمد : متروك، وقال في [الضعفاء الصغير]: (منكر الحديث، وقال النسائي في [الضعفاء والمتروكين]: حبيب بن حسان، وهو حبيب بن أبي الأشرس كوفي متروك الحديث)، وقال العقيلي في [الضعفاء]: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن حدثا عن سفيان عن حبيب بن حسان بن أبي الأشرس شيئا. حدثنا محمد بن عيسى قال: حدثنا عباس بن محمد قال: سمعت يحيى بن معين قال: حبيب بن أبي الأشرس كوفي ليس حديثه بشيء، وقال في موضع آخر: حبيب بن حسان ليس بثقة، وكانت له جاريتان نصرانيتان فكان يذهب معهما إلى البيعة.
وقال في موضع آخر: حبيب بن حسان بن الأشرس هو حبيب بن هلال ليس بشيء، حدثنا الخضر بن داود قال: حدثني أحمد بن محمد بن هانئ قال: سألت أبا عبد الله، وذكر حبيب بن حسان، فقال: متروك الحديث، حدثني آدم بن موسى قال: سمعت البخاري قال: حبيب بن حسان الكوفي هو حبيب بن أبي الأشرس منكر الحديث). اهـ. وقال ابن أبي حاتم في [الجرح والتعديل] قرئ على العباس بن محمد الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: حبيب بن حسان بن أبي الأشرس، وهو حبيب بن هلال، روى عنه مروان الفزاري، وليس بثقة، وقال: سمعت أبي يقول: حبيب

بن حسان موجه صالح البغدادي، وليس بقوي، منكر الحديث أحيانا. اهـ.
وقال ابن حبان في [كتاب المجروحين] في حبيب بن أبي الأشرس : ( منكر الحديث جدا، وكان قد عشق امرأة نصرانية، وقد قيل: إنه تنصر وتزوج بها، وأما اختلافه إلى البيعة من أجلها فصحيح. أنبأ مكحول : سمعت جعفر بن أبان يقول: سئل يحيى بن معين - وأنا شاهد- عن حبيب بن حسان، فقال: ليس بثقة، كان يذهب مع جاريتين له إلى البيعة. اهـ. وفي [لسان الميزان] للحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمة حبيب بن أبي الأشرس : ( قال أبو داود : ليس حديثه بشيء، روى عنه سفيان ولا يصرح به، وقال أبو بكر بن عياش : لو عرف الناس حبيب بن حسان لضربوا على بابه الختم. وقال النسائي : ليس بثقة، وقال أبو أحمد الحاكم : ذاهب الحديث. ا هـ.
وأما رواية الأزرقي عن عروة أنه قال: (فأما موضعه الذي هو موضعه فموضعه الآن) إلخ.. فيعارضها ما روى عبد الرزاق في [مصنفه] عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر بعض خلافته كانوا يصلون صقع البيت، حتى صلى عمر بن الخطاب خلف المقام)، وما روى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة عن أبي ثابت، عن عبد العزيز الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن المقام كان في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ولا شك في أنه إذا وقع التعارض بين رواية أبي الوليد الأزرقي مؤرخ مكة وبين روايتي: عبد الرزاق، وابن أبي حاتم - نقدم رواية عبد الرزاق وابن أبي حاتم على رواية أبي الوليد الأزرقي مؤرخ مكة؛

لأنهما يحملان شهادات أئمة الحديث في زمانهما بالإمامة في الحديث، وأما أبو الوليد الأزرقي مؤرخ مكة فلم نر شهادة أي معاصر له، ولم يرها قبلنا الفاسي على سعة اطلاعه؛ ولذلك يقول في [العقد الثمين]،: (لم أر من ترجمه، وإني لأعجب من ذلك)، وأما الذين لم يعاصروه فأقدم من رأيناه تعرض له منهم ابن النديم صاحب[ الفهرست]، قال فيه بعد ذكر نسبه: ( أحد الأخباريين وأصحاب السير، وله من الكتب [كتاب مكة وأخبارها وجبالها وأوديتها، كتاب كبير ). ا.هـ. وهذا لا يغني شيئا؛ لأمرين:
أحدهما: أن الغالب على الأخباريين والسيريين عدم الاعتناء بالروايات، وفي ذلك يقول الحافظ العراقي في [ ألفية السيرة] .
وليعلم الطالب أن السيرا ... تجمع ما صح وما قد أنكرا
الثاني: أن ابن النديم قال الحافظ ابن حجر في [لسان الميزان]،: ( هو غير موثوق به ومصنفه المذكور- يعني [ الفهرست]- ينادي على مصنفه بالاعتزال والزيغ، نسأل الله السلامة) ثم قال الحافظ: (لما طالعت كتابه ظهر لي أنه رافضي معتزلي، فإنه يسمي أهل السنة: الحشوية، ويسمي الأشاعرة : المجبرة، ويسمي كل من لم يكن شيعيا: عاميا، وذكر في ترجمة الشافعي شيئا مختلقا ظاهر الافتراء ) ا.هـ.
ومراد الحافظ بذلك الشيء المختلق الظاهر الافتراء: قول ابن النديم في [ الفهرست]، ص (294، 295): ( بخطه- يعني: أبا القاسم الحجازي - أيضا قرأت: قال: ظهر رجل من بني أبي لهب بناحية المغرب، فحمل إلى هارون الرشيد ومعه الشافعي، فقال الرشيد للهبي: سمت بك نفسك إلى هذا، قال: وأي الرجلين كان أعلى ذكرا وأعظم قدرا جدي أم جدك أنت؟

ليس تعرف قصة جدك وما كان من أمره، وأسمعه كل ما كره؛ لأنه استقبل، قال: فأمر بحبسه، ثم قال للشافعي : ما حملك على الخروج معه؟ قال أنا رجل أملقت، وخرجت أضرب في البلاد طلبا للفضل، فصحبته لذلك، فاستوهبه الفضل بن الربيع فوهبه، فأقام بمدينة السلام مدة فحدثنا محمد بن شجاع الثلجي قال: كان يمر بنا في زي المغنين على حمار وعليه رداء محشا وشعره مجعد ) ثم وصف ابن النديم الشافعي وذكر حكاية عن أخريين من نوع الافتراء الذي ذكر أولا. ثم بعد ابن النديم الحافظ عبد الكريم بن محمد السمعاني صاحب كتاب [الأنساب]، قال في [الأنساب]،: ( الأزرقي هو: أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي صاحب كتاب [أخبار مكة ]، وأحسن في تصنيف ذلك الكتاب غاية الإحسان، روى عن جده، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، وغيرهما، روى عنه أبو محمد إسحاق بن أحمد بن نافع الخزاعي . ا.هـ. وليس في هذا كبير فائدة من ناحية ترجمة أبي الوليد الأزرقي؛ لأن في إمكان كل من نظر في كتابه [أخبار مكة ] أن يتحصل على مشايخه وعلى من روى ذلك الكتاب عنه؛ لأن جميع ذلك موجود في [أخبار مكة ]، ومجرد كلمة روى فلان عن فلان، وروى عنه فلان، وأخرج له فلان- لا يروي الغلة، ولا يشفي العلة، كما بينه الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة كتابه [تهذيب التهذيب]، وأما ثناء السمعاني على كتاب [أخبار مكة ]، فلا يوصله إلى درجة تقديم ما فيه على ما في مصنفات الإمامين الشهيرين: عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، ثم بعد ابن السمعاني الإمام النووي قال في الكلام على حجر إسماعيل عليه السلام :

(قد وصفه الإمام أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة، فأحسن وأجاد)، وقد بحثنا عن قول النووي هذا فوجدناه يعتقد في مؤرخ مكة : أنه هو جده الإمام أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي، بدليل قوله في [المجموع] ج (7) ص (464) بعد ذكر حدود الحرم، ( هكذا ذكر هذه الحدود أبو الوليد الأزرقي في [كتاب مكة ] وأبو الوليد هذا أحد أصحاب الشافعي الآخذين عنه، الذين رووا عنه الحديث والفقه )، وقد نبه العلامة الفاسي في [العقد الثمين]، على وهم الإمام النووي في هذا قال: ( وهم النووي في قوله في [شرح المهذب] بعد أن ذكر في حدود الحرم نقلا عن أبي الوليد الأزرقي هذا: أنه أخذ عن الشافعي وصحبه، وروى عنه، وإنما كان ذلك وهما لأمرين:
أحدهما: أن الذين صنفوا في طبقات الفقهاء الشافعية لم يذكروا في أصحاب الشافعي إلا أحمد (1) بن محمد بن الوليد، جد أبي الوليد هذا.
والأمر الثاني: لو أن أبا الوليد هذا روى عن الإمام الشافعي لأخرج عنه في تاريخه؛ لما له من الجلالة والعظمة، كما أخرج عن جده، وابن عمر العدني وإبراهيم بن محمد الشافعي ابن عم الإمام الشافعي، ثم قال الفاسي : (والسبب الذي أوقع النووي في هذا الوهم: أن أحمد الأزرقي جد أبي الوليد هذا يكنى بأبي الوليد، فظنه النووي هو والله أعلم. وإنما
__________
(1) وعلى أساس اعتماد النووي في مؤرخ مكة أنه أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي الإمام اعتبر في [تهذيب الأسماء واللغات] ما ذكره الأزرقي من أن موضع المقام الذي هو فيه الآن هو موضعه في الجاهلية وفي زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وبعض خلافة عمر، ورده إليه عمر حين ما ذهب به السيل في خلافته

نبهت على ذلك لئلا يغتر بكلام النووي، فإنه ممن يعتمد عليه، وهذا مما لا ريب فيه ). اهـ المراد من كلام الفاسي ؟
وأما تاريخ وفاة مؤرخ مكة الأزرقي فقد بيض السمعاني في الأنساب لما بعد المائتين منها، وتعرض لتاريخ وفاته بعده محمد بن عمر بن عزم التونسي، وصاحب [كشف الظنون ]، وصاحب [هداية العارفين]، لكن أخطأوا فيها، وبيان ذلك فيما يلي. أما محمد بن عمر بن عزم فيقول في [دستور الإعلام بمعارف الأعلام]،: ( الأزرقي إلى جده الأزرق صاحب [تاريخ مكة ] محمد بن عبد الله بن أحمد سنة مائتين وأربع، وجده أحمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمر بن الحارث بن أبي شمر الغساني المكي، روى عن سفيان بن عيينة، وداود بن عبد الرحمن العطار، روى عنه حفيده سنة مائتين واثني عشر. ا.هـ. وهذا غير صحيح لا من ناحية الجد ولا من ناحية الحفيد، أما الجد؛ فلأنه حدث بواقعة بعد تاريخ مائتين واثني عشر، ففي الجزء الأول من [تاريخ الحفيد]، ص (194) ما نصه: ( قال أبو الوليد : قال جدي: أول من أثقب النفاطات بين الصفا والمروة في ليالي الحج وبين المأزمين- مأزمي عرفة - أمير المؤمنين إسحاق المعتصم بالله طاهر بن عبد الله بن طاهر، سنة تسع عشرة ومائتين، فجرى ذلك إلى اليوم (1) . ا.هـ.
وأما الحفيد مؤرخ مكة فقد وجدناه حدث بحادث سنة ثلاث وأربعين ومائتين، ففي الجزء الأول من تاريخه ص (171) ما نصه: قال أبو الوليد :
__________
(1) حرر الحافظ الذهبي أن وفاة جد أبي الوليد كانت سنة اثنتين وعشرين ومائتين، كما في [طبقات الشافعية] لابن السبكي.

( أمر أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله بإذالة (1) القميص القباطي حتى بلغ الشاذروان الذي تحت الكعبة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين ). ا.هـ. وأما صاحب [كشف الظنون] فقد قال في الكلام على تواريخ مكة، منها: تاريخ الإمام أبي الوليد محمد بن عبد الكريم المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومائتين ). ا.هـ. وهذا غلط في اسم والد مؤرخ مكة، فإن اسمه عبد الله لا عبد الكريم، وغلط في تاريخ وفاته، لما تقدم في الرد على التونسي، وقد تبع صاحب [كشف الظنون] في الغلط التاريخي إسماعيل باشا في [هداية العارفين]، وتنبه الكتاني لغلط صاحب [كشف الظنون] في تاريخ وفاة أبي الوليد الأزرقي، ذكر عنه في [الرسالة المستطرفة]، أنه أرخ وفاته بسنة ثلاث وعشرين ومائتين، ثم قال: (لكن جده - أي: جد أبي الوليد - أحمد المذكور ذكر في [ التقريب]،: أنه توفي سنة سبع عشرة، وقيل: اثنتين وعشرين ومائتين، فيبعد عليه أن يكون حفيده مؤرخ مكة توفي في السنة المذكورة أولا يصح ذلك بالكلية)، ولم يذكر الكتاني من ناحية الأزرقي شيئا يجدي.
__________
(1) الإذالة: بالذال المعجمة: الإسبال.

لماذا أخر عمر بن الخطاب المقام ؟
علل تأخير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المقام بأربعة أشياء، نذكرها مع الكلام عليها:
1 - خشية عمر لما كثر الناس أن يطأوه بأقدامهم؛ لما رواه الفاكهي كما في [شفاء الغرام] ج (1) ص (307) قال: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال:

حدثنا يحيى بن محمد بن ثوبان، عن سليم، عن ابن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير أنه قال: كان المقام في وجه الكعبة، وإنما قام إبراهيم عليه حين ارتفع البيت، فأراد أن يشرف على البناء، قال: فلما كثر الناس خشي عمر بن الخطاب أن يطأوه بأقدامهم، فأخره إلى موضعه الذي هو به اليوم حذاء موضعه الذي كان قدام الكعبة . ا.هـ.
وهذا في سنده سليم بن مسلم الراوي عن ابن جريج، وقد تقدم أنه جهمي خبيث متروك الحديث.
2 - مما علل به تأخير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مقام إبراهيم - عليه السلام - عن موضعه الأول: رده إلى الموضع الذي كان فيه في عهد النبوة، وقد بينا فيما تقدم: أن صريح ما يستند إليه هذا التعليل غير صحيح، وغير الصريح يفسره ما تقدم عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان المقام في سقع البيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد قوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه) فإن هذا يدل على أن عمر إنما رده إلى الموضع الذي وضعه فيه أول مرة.
3 - مما علل به تأخير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المقام : رده إلى موضعه في عهد إبراهيم الخليل - عليه السلام؛ لما في رواية [المدونة]، المتقدمة بلفظ: ( فلما ولي عمر أخرج أخيوطة كانت في خزانة الكعبة قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت إذ قدموه مخافة السيل، فقاسه عمر، فأخرجه إلى موضعه اليوم، فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. ا.هـ. وهذا تعارضه رواية الفاكهي عن عثمان بن أبي
__________
(1) سورة البقرة الآية 125

سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في سياق قصة بناء البيت بلفظ: (فلما بلغ- أي: إبراهيم عليه السلام- الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه، وأخذ المقام فجعله لاصقا بالبيت ) (1) ، كما يعارضه ما ذكره الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] ج (8) ص (137) في باب { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (2) من (كتاب التفسير) قال: ( كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت، إلى أن أخره عمر - رضي الله عنه - إلى المكان الذي هو فيه الآن. أخرجه عبد الرزاق في [مصنفه]، بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضا،. ا.هـ.
فهاتان الروايتان هما المانعتان من قبول ما في رواية [المدونة] (3) ، ولا يقال: إن رواية [المدونة] تتأيد برواية ابن الجوزي في [تاريخ عمر بن الخطاب ]، في باب ذكر ما خص به في ولايته مما لم يسبق إليه: عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: كان مقام إبراهيم لاصقا بالكعبة، حتى كان زمن عمر بن الخطاب، فقال عمر : إني لأعلم ما كان موضعه هنا، ولكن قريش خافت عليه من السيل فوضعته هذا الموضع، فلو أني أعلم موضعه الأول لأعدته فيه، فقال رجل من آل عايذ بن عبد الله بن عمر
__________
(1) ذكر هذه الرواية الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] ج (6) ص (314) ضمن زيادات رواية عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير على الرواية التي ذكرها البخاري في [صحيحه] ولم يتعقبها الحافظ، وشرطه فيما يورده في [فتح الباري] من الزيادات على متن الصحيح التي من هذا النوع: أن يكون صحيحا أو حسنا، كما بينه في مقدمة [فتح الباري] ج (1) ص (3)
(2) سورة البقرة الآية 125
(3) لا اعتراض علينا في قبول ما وافق الروايات المثبتة أن أول من أخر المقام عن موضعه الأول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من رواية [المدونة]، وعدم قبولنا ما فيها من أن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد إبراهيم الخليل - عليه السلام-، فإن ذلك طريقة معروفة عند أئمة العلم

بن مخزوم : أنا والله يا أمير المؤمنين أعلم موضعه الأول، كنت لما حولته قريش أخذت قدر موضعه الأول بحبل، وضعت طرفه عند ركن البيت الأول أو الركن أو الباب، ثم عقدت في وسطه عند موضع المقام فعندي ذلك الحبل، فدعا عمر بالحبل فقدروا به، فلما عرفوا موضعه الأول أعاده عمر فيه، قال عمر : إن الله عز وجل يقول: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1)
فإن هذه الرواية يمنع من اعتبارها: أن ابن الجوزي لم يذكر سندها إلى عبد الرحمن بن أبي الزناد - وما في عبد الرحمن بن أبي الزناد من المقال- ففي [الجرح والتعديل] حدثنا عبد الرحمن حدثنا محمد بن إبراهيم قال: سمعت عمرو بن علي قال: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن عبد الرحمن بن أبي الزناد . حدثنا عبد الرحمن، حدثنا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل قال: قلت لأبي: عبد الرحمن بن أبي الزناد ؟ قال: مضطرب الحديث. حدثنا عبد الرحمن، قرئ على العباس بن محمد الدوري، عن يحيي بن معين أنه قال: عبد الرحمن بن أبي الزناد دون الدراوردي، لا يحتج بحديثه، حدثنا عبد الرحمن، سئل أبي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ؟ فقال: يكتب حديثه، ولا يحتج به، وهو أحب إلي من عبد الرحمن بن أبي الرجال، ومن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم . حدثنا عبد الرحمن قال: سألت أبا زرعة عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، وورقاء، والمغيرة بن عبد الرحمن، وشعيب بن أبي حمزة، من أحب إليك ممن يروي عن أبي الزناد ؟ قال: كلهم أحب إلي من عبد الرحمن بن أبي الزناد ). ا.هـ. ما في [الجرح والتعديل] . وقال النسائي في [ الضعفاء
__________
(1) سورة البقرة الآية 125

والمتروكين]،: عبد الرحمن بن أبي الزناد ضعيف. ا.هـ. وفي كتاب [المجروحين]، لابن حبان في ترجمة عبد الرحمن بن أبي الزناد : أنه كان ممن ينفرد بالمقلوبات عن الأثبات، قال: وكان ذلك من سوء حفظه، وكثرة خطئه، فلا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد )، وفي [الميزان]: أن من مناكيره حديث: « من كان له شعر فليكرمه » (1) ، وحديث: « الهرة من متاع البيت » (2) ، ومما يمنع اعتبار رواية ابن أبي الزناد المذكورة ما روى عبد الرزاق، عن معمر عن حميد، عن مجاهد قال: كان المقام إلى جنب البيت، وكانوا يخافون عليه عافية السيول، وكانوا يطوفون خلفه، فقال عمر للمطلب بن أبي وداعة السهمي : هل تدري أين موضعه الأول؟ قال: نعم، قدرت ما بينه وبين الحجر الأسود، وما بينه وبين الباب، وما بينه وبين زمزم، وما بينه وبين الركن عند الحجر، قال: تأتي بمقدار، فجاء بمقداره، فوضعه موضعه الأول ). ا.هـ. فإن في هذه الرواية: أن الذي دل عمر بن الخطاب على موضعه الأول: سهمي، لا مخزومي، وهذا أشهر من رواية ابن الجوزي عن ابن أبي الزناد .
4 - مما علل به تأخير عمر المقام مخافة التشويش على الطائفين، قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة- أي: سنة ثماني عشرة- في ذي الحجة منها حول عمر منها المقام، وكان ملصقا بجدار الكعبة، فأخره إلى حيث هو الآن؛ لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين، نقله عن الواقدي وغيره الحافظ ابن كثير في الجزء السابع من تاريخه [البداية والنهاية] ص (93) ثم قال الحافظ ابن كثير : ( قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر، ولله الحمد والمنة ). ا.هـ. إلى هذه العلة مال الحافظان ابن
__________
(1) سنن أبو داود الترجل (4163).
(2) سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (369).

كثير في [التاريخ]، وابن حجر في [فتح الباري] في (كتاب التفسير). قال ابن كثير في التاريخ المذكور ج (1) ص (164): ( قد كان هذا الحجر- أي: مقام إبراهيم عليه السلام- ملصقا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأخره عن البيت قليلا؛ لئلا يشغل المصلون عنده الطائفين بالبيت ).
وقال الحافظ ابن حجر في [فتح الباري]، ج (8) ص (137): كان عمر رأى أن إبقاءه- أي: مقام إبراهيم عليه السلام - يلزم منه التضييق على الطائفين، أو على المصلين فوضع في مكان يرتفع به الحرج. ا.هـ.

حكم تأخير المقام اليوم نظرا للحرج
أثبتنا فيما تقدم أن مقام إبراهيم - عليه السلام - كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر الصديق وبعض خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في سقع البيت، ثم أخره عمر أول مرة مخافة التشويش على الطائفين، ورده المرة الثانية حين حمله السيل إلى ذلك الموضع الذي وضعه فيه أول مرة، ومادام الأمر كذلك فلا مانع من تأخير المقام اليوم عن ذلك الموضع إلى موضع آخر في المسجد الحرام يحاذيه ويقرب منه، نظرا إلى ما ترتب اليوم على استمراره في ذلك الموضع من حرج أشد على الطائفين من مجرد التشويش عليهم الذي حمل ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أن يؤخره عن الموضع الذي كان فيه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر بتأخيره؛ نظرا لما ذكرنا نكون مقتدين بعمر بن الخطاب المأمور بالاقتداء به، ونرفع الحرج من ناحية أخرى عن الأمة المحمدية التي دلت النصوص القطعية على رفع الحرج عنها، قال الشاطبي

في [الموافقات]: إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع، كقوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (1) وسائر ما يدل على هذا المعنى، كقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (2) وقوله: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } (3) وقوله تعالى: { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } (4) وقوله: { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (5) ' قال الشاطبي : ( وقد سمي هذا الدين: الحنيفية السمحة؛ لما فيه من التسهيل والتيسير )، وأطال الشاطبي في ذلك، وذكر أن قصد الشارع من مشروعية الرخص رفع الحرج عن الأمة، وقال السيوطي في [الإكليل]،: ( قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (6) هو أصل القاعدة: (المشقة تجلب التيسير) ، وقال أبو بكر بن العربي في [أحكام القرآن]، في تفسير الآية الكريمة: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (7) قال: ( كانت الشدائد والعزائم في الأمم، فأعطى الله هذه الأمة من المسامحة واللين ما لم يعط أحدا قبلها )، وقال عبد الرزاق في تفسيره: ( أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (8) قال: من ضيق، وقال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي : اذهب فليس عليك حرج، وقد قال الله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (9)
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة النساء الآية 28
(4) سورة الأحزاب الآية 38
(5) سورة الأعراف الآية 157
(6) سورة الحج الآية 78
(7) سورة الحج الآية 78
(8) سورة الحج الآية 78
(9) سورة الحج الآية 78

يقال للنبي: أنت شهيد على قومك، وقال الله تعالى: { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } (1) ويقال للنبي: سل تعط، وقال الله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (2) ا.هـ. وفي كلام الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] ما يدل على أن تأخير عمر بن الخطاب المقام عن موضعه الأول إلى موضعه اليوم من قبيل رفع الحرج عن الأمة، ونصه ج (8) ص (137): ( كان عمر رأى أن إبقاءه- أي: مقام إبراهيم عليه السلام - في الموضع الأول، يلزم منه التضييق على الطائفين، أو على المصلين فوضع في مكان يرتفع به الحرج ). ا.هـ. ومثل نظر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في شأن المقام إلى رفع الحرج نظره إليه أيضا في شأن المطاف حينما كثر الناس فوسعه، وتبعه في ذلك عثمان، ففي [الأحكام السلطانية]، للماوردي ما نصه: ( كان- أي: المسجد الحرام - فناء حول الكعبة للطائفين، ولم يكن له على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - جدار يحيط به، فلما استخلف عمر - رضي الله عنه - وكثر الناس، وسع المسجد، واشترى دورا هدمها، وزادها فيه، وهدم على قوم من جيران المسجد أبوا أن يبيعوا، ووضع لهم الأثمان، حتى أخذوها بعد ذلك، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه، وكان عمر - رضي الله عنه - أول من اتخذ جدارا للمسجد، فلما استخلف عثمان - رضي الله عنه - ابتاع منازل فوسع بها المسجد، وأخذ منازل قوم ووضع لهم أثمانها فضجوا منه عند البيت، فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم، فقد فعل بكم عمر - رضي الله عنه - هذا، فأقررتم ورضيتم، ثم أمر بهم إلى الحبس، حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسد، فخلى سبيلهم، وبنى للمسجد
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة غافر الآية 60

الأروقة، فكان عثمان - رضي الله عنه - أول من اتخذ للمسجد الأروقة ). ا.هـ. المراد من كلام الماوردي في [الأحكام السلطانية] وهو آخر البحث. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
محمد بن إبراهيم آل الشيخ

قرار رقم (35) وتاريخ 14\ 2\ 1395هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فبناء على خطاب المقام السامي رقم (30560) وتاريخ 9\ 10\ 1394 هـ الموجه من جلالة الملك حفظه الله إلى فضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بخصوص عرض الرسالة التي هي من تأليف الشيخ\ علي الصالحي، الخاصة بنقل مقام إبراهيم - عليه السلام -، والبناء بمنى، وبعض المقترحات في المسجد الحرام - على هيئة كبار العلماء لدراسة المقترحات التي تضمنتها الرسالة، وبيان الرأي فيها.
وفي الدورة السادسة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر صفر عام 1395 هـ جرى من مجلس الهيئة استعراض الرسالة المذكورة، فوجدت تتلخص فيما يأتي:
أ- اقتراح بنقل المقام من مكانه الحالي إلى مكان آخر؛ ليتسع المطاف للطائفين أيام الحج.
ب- اقتراح بالبناء في منى بصفة جاء وصفها وتحديدها في الاقتراح.
ج- اقتراح ببناء طرق معلقة في المسعى فوق الساعين تنفذ إلى الحرم دون أن يتأذوا أو يتأذى الساعون.
د- اقتراح باستغلال هواء المطاف بتسقيفه بطريقة جاء وصفها وتحديدها في الاقتراح، واقتراحات بربط مبنى الحرم القديم بالجديد، وتبليط

حصوات الحرم .
ثم جرى من المجلس مناقشة هذه المقترحات، ومداولة الرأي فيها، وتقرر ما يلي:
أولا: بالنسبة لموضوع نقل المقام، فمما لا شك فيه أن وضعه الحالي يعتبر من أقوى الأسباب فيما يلاقيه الطائفون في موسم الحج من المشقة العظيمة والكلفة البالغة التي قد تحصل بالبعض إلى الهلاك أو تقارب، وذلك بسبب الزحام والصلاة عنده، وقد سبق أن بحث موضوع نقله، وصدر من سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- فتوى بجواز نقله شرعا، إلا أنه رؤي الاكتفاء بتجربة تتلخص في إزالة الزوائد المحيطة بالمقام، ويبقى في مكانه، فإن كان ذلك كافيا ومزيلا للمحذور استمر بقاؤه في مكانه، وإلا تعين النظر في أمر نقله.
وحيث مضى على هذه التجربة عدة سنوات، واتضح أن بقاءه في مكانه الحالي لا يزال سببا في حصول الزحام والمشقة العظيمة به، ونظرا إلى أن من قواعد الشريعة الإسلامية: أن المشقة تجلب التيسير، وأن النصوص الشرعية قد تضافرت في رفع الحرج عن هذه الأمة، قال تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (1) وقال تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (2) وقال تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } (3)
وقد تتبعت الهيئة الآثار الواردة في تعيين مكان مقام إبراهيم - عليه السلام - في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذكره بعض أهل التفسير والحديث والتاريخ أمثال: الحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، والشوكاني وغيرهم-
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة النساء الآية 28

فترجح لديها أن مكانه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وبعض من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في سقع البيت، ثم أخره عمر أول مرة ؛ مخافة التشويش على الطائفين، ورده المرة الثانية حين حمله السيل إلى ذلك الموضع الذي وضعه فيه أول مرة.
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره قوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1) بعد ذكره الأحاديث الواردة في الصلاة عنده- قال: قلت: وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل - عليه السلام - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ؛ولهذا- والله أعلم- أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أحد الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر » (2) ، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -.
قال عبد الرزاق : عن ابن جريج، حدثني عطاء وغيره من أصحابنا، قال: أول من نقله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقال عبد الرزاق أيضا: عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقال الحافظ أبو بكر أحمد
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) سنن الترمذي المناقب (3662),سنن ابن ماجه المقدمة (97),مسند أحمد بن حنبل (5/382).

بن الحسين بن علي البيهقي، أخبرنا أبو الحسن بن الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: « أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، » وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم، وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي، أخبرنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان- يعني: ابن عيينة - وهو إمام المكيين في زمانه: كان المقام في سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (1) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه، وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله، وقال سفيان : لا أدري أكان لاصقا بها أم لا.
فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه، والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : أخبرنا ابن عمر، وهو: أحمد بن محمد بن حكيم، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام، أخبرنا آدم، هو: ابن أبي إياس في [تفسيره]، أخبرنا شريك عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد قال: « قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله: فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا، » (3) قال مجاهد : وكان عمر يرى الرأي، فينزل به القرآن، هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد : أن أول من
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) صحيح البخاري الصلاة (394),سنن الترمذي تفسير القرآن (2959),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1009),سنن الدارمي المناسك (1849).
(3) سورة البقرة الآية 125 (2) { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }

أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم. اهـ.
وقال رحمه الله في معرض تفسيره قوله تعالى: { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ } (1) قد كان- أي المقام - ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق، بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (2) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في الجزء الثامن من [الفتح]، : كان عمر رأى أن إبقاءه- أي: مقام إبراهيم عليه السلام - يلزم منه التضييق على الطائفين، أو على المصلين فوضع في مكان يرتفع به الحرج. اهـ.
وقال الشوكاني في تفسيره [فتح القدير]، على قوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (3) وهو- أي: المقام - الذي كان ملتصقا بجدار الكعبة، وأول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي بأسانيد صحيحة، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة. اهـ.
وبناء على ذلك كله : فإن الهيئة تقرر بالإجماع جواز نقله شرعا إلى موضع مسامت لمكانه من الناحية الشرقية؛ نظرا للضيق والازدحام الحاصل في المطاف، والضرورة إلى ذلك، ما لم ير ولي الأمر تأجيل ذلك لأمر مصلحي.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) سورة البقرة الآية 125
(3) سورة البقرة الآية 125

ثانيا: بالنسبة إلى البناء في منى فلا يخفى أن منى مشعر من المشاعر المقدسة، وأنها مناخ من سبق، وأن أهل العلم رحمهم الله قد منعوا البناء فيها؛ لكون ذلك يفضي إلى التضييق على عباد الله حجاج بيته الشريف.
ونظرا إلى أن سفوح جبالها غير صالحة في الغالب لسكنى الحجاج فيها أيام منى، وأنه يمكن أن تستغل هذه السفوح بطريقة تحقق المصلحة العامة، ولا تتعارض مع العلة في منع البناء في منى - فإن المجلس يقرر بالأكثرية: جواز البناء على أعمدة في سفوح الجبال المطلة على منى على وجه يضمن المصلحة للحجاج، ولا يعود عليهم بالضرر، ويكون هذا البناء مرفقا عاما، وما تحته لمن سبق إليه من الحجاج كبقية أراضي منى، على أن يكون الإشراف على هذا البناء للدولة.
وقد توقف في ذلك صاحبا الفضيلة الشيخان: صالح اللحيدان، وعبد الله بن غديان ..
ثالثا: بالنسبة لما يتعلق بتسقيف المطاف فيرى المجلس أنه لا حاجة إلى ذلك، ولما فيه من المضرة والمضايقات.
رابعا: بالنسبة لبقية المقترحات؟ كبناء الجسور في المسعى، وتبليط حصوات الحرم، وتخطيط منى، وربط مبنى الحرم القديم بالبناء الجديد - فما كان منها محققا للنفع فإن الشريعة جاءت بتحقيق المصالح ودفع المضار، فتحال إلى الجهة المختصة لدراستها، وتقرير ما يحقق المصلحة

في ذلك منها .
وصلى الله على محمد, وعلى آله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة السادسة . .
عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان
ومتوقف في البناء في سفوح الجبال بمنى ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان
متوقف في أمر البناء في السفوح ... عبد الله بن منيع ...

(9)
قتل الغيلةهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
قتل الغيلة
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة السادسة المنعقدة في شهر صفر عام 1395 هـ من إعداد بحث في قتل الغيلة، ليدرج في جدول أعماله بالدورة السابعة- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته بيان معنى قتل الغيلة في اللغة، وخلاف الفقهاء في ضابطه شرعا، وخلافهم فيما يوجبه من القتل حدا أو قودا، وبيان ما يترتب على هذا الخلاف من قبول العفو عن القاتل وعدم قبوله، مع ذكر أدلة القولين ومناقشتها. وختمت البحث بخلاصة عن ذلك. والله الموفق.

ا-

معنى قتل الغيلة في اللغة وضابطه عند الفقهاء
أ- قتل الغيلة: لغة :
قال الإمام اللغوي إسماعيل بن حمد الجوهري : (غاله الشيء واغتاله: إذا أخذه من حيث لم يدر) (1) , قال: (واغتاله: قتله غيلة، والأصل
__________
(1) [الصحاح]، (5\ 1785) طبعة دار الكتاب العربي بمصر

الواو) (1) هكذا ذكر الجوهري في مادة (غول) المعتلة العين بالواو، وقال في مادة: (غيل) المعتلة العين بالياء (والغيلة: بالكسر الاغتيال، يقال: قتله غيلة، وهو: أن يخدعه فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه قتله) (2) .
وقال أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في مادة (غول): الغين والواو واللام أصل صحيح يدل على ختل وأخذ من حيث لا يدري ، يقال: غاله يغوله: أخذه من حيث لم يدر. قالوا: والغول بعد المفازة؛ لأنه يغتال من مر به، قال: به تمطت غول كل ميل.
والغول من السعالي: سميت؛ لأنها تغتال ، والغيلة: الاغتيال، والياء واو في الأصل، والمغول: سيف دقيق له قفا، وأظنه سمي مغولا؛ لأنه يستر بقراب حتى لا يدرى ما فيه (3) .
وقال الزمخشري في (الغيلة): (هي: فعلة من الاغتيال، وياؤها عن واو؛ لأن الاغتيال من (غالته الغول) وتغوله غولا، وأورد هناك أثرا (أن صبيا قتل بصنعاء غيلة فقتل به عمر سبعة، وقال: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم) (4) .
وقال المجد الفيروزآبادي : (والغول: الهلاك والإهلاك خفية، غاله واغتاله بمعنى) (5) .
__________
(1) [ الصحاح] (5\1786)
(2) [ الصحاح ] (5 \1787 )
(3) معجم مقاييس اللغة، (4\ 402) طبعة دار إحياء الكتاب العربي الأولى
(4) الفائق في غريب الحديث (2 \ 118 ) طبعة حيدرأباد
(5) [بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز]، (4\ 154)

وقال المجد الفيروزآبادي في معاني الغيلة بكسر الغين: والخديعة والاغتيال، وقتله غيلة: خدعه فذهب به إلى موضع فقتله. وعلق الزبيدي على هذه العبارة بقوله: (نقله الجوهري وقد اغتيل. وقال أبو بكر : الغيلة في كلام العرب: إيصال الشر أو القتل إليه من حيث لا يعلم ولا يشعر، وقال أبو العباس : قتله غيلة إذا قتله من حيث لا يعلم. وفتك به: إذا قتله من حيث تراه وهو غار غافل غير مستعد) (1) .
__________
(1) [القاموس وشرحه تاج العروس]، (8\ 53).

ب-

قتل الغيلة شرعا
اختلف العلماء في ضابط قتل الغيلة : هل يخص القتل عمدا عدوانا على مال ونحوه، أو يعم كل قتل عمد عدوان على غرة، أو مع خداع بحيث يتعذر معه الخلاص؟
وفيما يلي أقوال الفقهاء في ذلك :
قال العلامة علي بن سلطان القاري في قتل الغيلة: (هو أن يخدع ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد، والغيلة: فعلة من الاغتيال، وفي المغرب : الغيلة: القتل خفية، وفي القاموس: الغيلة بالكسر: الذريعة والاغتيال، وقتله غيلة، أي: خدعه فذهب به إلى موضع فقتله) (1) .
وقال القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي : (أصحابنا- أي: المالكية- يوردونه- أي: قتل الغيلة- على وجهين:
أحدهما : القتل على وجه المحيل والخديعة.
__________
(1) [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ] (4\ 19) طبعة بمبي

والثاني : على وجه القصد الذي لا يجوز عليه الخطأ) (1) .
وقال العلامة قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي القروي : (قال الفاكهاني عن أهل اللغة: قتل الغيلة: هو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع خفي، فإذا صار فيه قتله) ومر إلى أن قال: (ونقل عن بعض أصحابنا- وأظنه البوني رحمه الله تعالى- أنه اشترط في ذلك أن يكون القتل على مال- وأما الثائرة، وهي: العداوة بينهما، فيجوز العفو فيه. قلت: ما ظنه عن البوني مثله نقل الباجي عن العتبية والموازية قال: قتل الغيلة حرابة، وهو: قتل الرجل خفية لأخذ ماله، قال: (ومن أصحابنا من يقول: هو القتل على وجه القصد الذي لا يجوز عليه الخطأ، وقبله ابن زرقون ) (2) .
وقال الشيخ أحمد بن أحمد بن عيسى البرنسي الفاسي المعروف بزروق : (قال أهل اللغة: قتل الغيلة: أن يخدعه بالقول حتى يأمن فيمشي به إلى موضع فيقتله، يريد لأخذ ماله لا لثائرة بينهما، وإلا فليس بغيلة، وفي النوادر عن الموازية: قتل الغيلة من الحرابة، أن يغتال رجلا أو صبيا فيخدعه حتى يدخل موضعا فيقتله ويأخذ ما معه. وقال اللخمي : من أخذ مال رجل بالقهر ثم قتله خوفا من أن يطلبه بما أخذ لم يكن محاربا، وإنما هو مغتال، ثم هذا إذا فعل ذلك خفية وإلا فليس بغيلة. ا هـ (3)
وقال الحطاب : (قال:- أي: خليل - في التواضيح في باب الحرابة: الغيلة: أن يخدع غيره؛ ليدخله موضعا ويأخذ ماله. وقال أيضا: قال ابن
__________
(1) [المنتقى شرح الموطأ، للباجي] (7\ 116) طبعة مطبعة العادق الأولى
(2) [شرح الرسالة ] لابن ناجي بهامش شرح زروق (2\ 228، 229)
(3) [شرح الرسالة ] لزروق (2\ 228، 229) طبعة المطبعة الجمالية .

رشد في رجل مرض وله أم ولد من سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين: إن قتل الغيلة: هو القتل على مال (1) .
وقال القاضي علي بن عبد السلام التسولي : (فأما الغيلة فهي من أنواع الحرابة، وهي: أن يقتله؛ لأخذ ماله أو زوجته أو ابنته، وكذا لو خدع كبيرا أو صغيرا فيدخله موضعا خاليا؛ ليقتله ويأخذ ماله، أو يخادع الصبي أو غيره ليأخذ ما معه) (2) .
وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي في شرح قول خليل في باب الحرابة من مختصره: (ومخادع أو غيره ليأخذ ما معه)، قال الدسوقي بعد أن ذكر أن هذا القتل قتل غيلة: (وقتل الغيلة من الحرابة، ونص الجواهر: قتل الغيلة من الحرابة، وهي: أن يغتال رجلا أو صبيا فيخدعه حتى يدخله موضعا فيأخذ ما معه، فهو كالحرابة) اهـ.
قال طغى : تفسيرها- الغيلة- بما ذكر يدل على أن القتل ليس شرطا فيها، وأن قتل الغيلة من الحرابة. اهـ (3) .
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني : (قوله: (قتل غيلة) بكسر أوله، أي: خديعة، والاغتيال: الأخذ على غفلة) (4) .
__________
(1) [مواهب الجليل بشرح مختصر خليل]، (6\ 233) وقد قال ابن رشد في [بداية المجتهد ونهاية المقتصد]، (2\ 391) المكتبة التجارية الكبرى: (وقتل الغيلة: أن يضجعه ويذبحه وبخاصة على ماله). اهـ
(2) [البهجة في شرح التحفة]، (2\ 342)
(3) [حاشية الدسوقي على شرح الدردير الكبير لمختصر خليل]، (4 \ 310 ) ومراد الدسوقي (طغى): الشيخ مصطفى الرماصي التتائي وابن سيد محمد البناني محشي الشيخ عبد الباقي
(4) [هدي الساري ] (1\ 123) طبعة المنار

وقال الفقيه مصطفى السيوطي الرحيباني : (وقتل الغيلة، بكسر الغين المعجمة، وهو: القتل على غرة، كالذي يخدع إنسانا فيدخله بيتا أو نحوه أو غيره) (1) .
وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية : (أما إذا كان يقتل النفوس سرا؛ لأخذ المال، مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل، فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم، أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب، أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله- فهذا يسمى: القتل غيلة) (2) .
__________
(1) [ مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى ] (6\39)
(2) [ السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية]، ص (84) طبعة دار الكتاب العربي بمصر- ط: الثالثة

2 -

خلاف الفقهاء فيما يوجبه من القتل حدا أو قودا
وبيان ما يترتب على الخلاف من قبول العفو عن القاتل وعدمه :
اختلف أهل العلم فيما يوجبه قتل الغيلة، ولمن الأمر فيه على قولين :
أحدهما : القصاص أو الدية، على حسب اختيار أولياء المقتول.
والثاني : القتل، ويرجع فيه إلى السلطان، وفيما يلي ذكر نقول عن بعض من قال بكل واحد منهما، وأثر الخلاف، مع الأدلة والمناقشة.
المذهب الأول : أن من قتل رجلا عمدا غيلة أو غير غيلة ، فذلك إلى أولياء القتيل، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا، وبهذا قال أبو حنيفة (1) ،
__________
(1) الأم، (7\ 299)

والشافعي (1) ، وابن قدامة (2) ، وابن حزم، ومن وافقهم من أهل العلم. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى:
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } (3) وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } (4)
قال محمد بن الحسن الشيباني في توجيه الاستدلال بالآيتين قال: فلم يسم في ذلك قتل الغيلة ولا غيرها (5) .
وقال ابن حزم بعد ذكره للآيتين وحديث: « من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين.. » (6) قال: (إن الله تعالى لو أراد أن يختص من ذلك قتل الغيلة أو الحرابة لما أغفله ولا أهمله، ولبينه صلى الله عليه وسلم ) (7) .
أما السنة : فما أخرجه الترمذي بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: « لما فتح الله على رسوله مكة قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يعفو، وإما أن يقتل » (8) . قال الترمذي : وفي الباب عن وائل بن حجر وأنس وأبي شريح خويلد بن
__________
(1) [ الأم ] (7\299)
(2) [ المغني ] ( 7\648) وما بعدها
(3) سورة الإسراء الآية 33
(4) سورة البقرة الآية 178
(5) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب [الأم]، (7\299) يرجع في ذلك أيضا إلى [السنن الكبرى] للبيهقي (8\ 565) باب ما جاء في قتل الغيلة، و[ المغني] (7\ 649)
(6) سنن الترمذي الديات (1406),سنن أبو داود الديات (4504).
(7) [ المحلى ] 7\521
(8) صحيح البخاري العلم (112),صحيح مسلم الحج (1355),سنن الترمذي الديات (1405),سنن النسائي القسامة (4785),سنن أبو داود الديات (4505),سنن ابن ماجه الديات (2624).

عمرة، ثم ساق بسنده إلى أبي شريح الكعبي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفكن فيها دما » (1) ... إلى أن قال: « ثم إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل » (2) ، قال الترمذي : حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
وقال السهيلي في حديث أبي شريح : حديث صحيح، وإن اختلفت الرواة (3) .
وممن استدل بحديث أبي شريح ابن حزم وابن قدامة.
قال ابن حزم في توجيه الاستدلال : فذكر الدية أو القود أو المفاداة، والدية لا تكون إلا بالعفو عن القود بلا شك، فعمم عليه الصلاة والسلام ولم يخص، وذكر أيضا: أن قتل الغيلة لو كان مخصوصا من ذلك لبينه صلى الله عليه وسلم (4) .
وما أخرجه البخاري وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (5) إلى قوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } (6) فالعفو: أن تقبل الدية في العمد { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } (7) مما كتب على من كان قبلكم { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } (8) قتل بعد قبول الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (9)
__________
(1) صحيح البخاري العلم (104),صحيح مسلم الحج (1354),سنن الترمذي الديات (1406),سنن النسائي مناسك الحج (2876),مسند أحمد بن حنبل (4/32).
(2) سنن الترمذي الديات (1406),سنن أبو داود الديات (4504).
(3) [ الروض الأنف] (2\278)
(4) [ المحلى ] (10\520)
(5) سورة البقرة الآية 178
(6) سورة البقرة الآية 178
(7) سورة البقرة الآية 178
(8) سورة البقرة الآية 178
(9) سورة البقرة الآية 178

وجه الدلالة : قال ابن حجر العسقلاني في كلامه على رواية البخاري لهذا الحديث: استدل به الجمهور على جواز أخذ الدية في قتل العمد ولو كان غيلة (1)
ويمكن أن الجمهور استدلوا بالحديث لما ذكره ابن حجر أخذا من عمومه في قتل الغيلة وغيره، وأنهم لم يطلعوا على مخصص يخرج قتل الغيلة من هذا العموم، فبقي العموم على أصله.
وأما الأثر : فما رواه الإمام الشافعي عن محمد بن الحسن قال: أخبرنا أبو حنيفة رحمه الله، عن حماد، عن إبراهيم : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل قد قتل عمدا، فأمر بقتله، فعفا بعض الأولياء، فأمر بقتله، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: كانت لهم النفس، فلما عفا هذا أحيا النفس، فلا يستطيع أن يأخذ حقه حتى يأخذ غيره، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية عليه في ماله، وترفع حصة الذي عفا، فقال عمر : وأنا أرى ذلك (2) .
أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن النخعي قال: من عفا من ذي سهم فعفوه عفو.
وجه الدلالة : ما قاله الشافعي عن محمد بن الحسن : فقد أجاز عمر وابن مسعود العفو من أحد الأولياء، ولم يسألوا: أقتل غيلة كان ذلك أو غيره؟ (3)
__________
(1) [ فتح الباري ] ( 12\176) وما بعدها.
(2) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب [الأم]، (7\299)
(3) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب [الأم]، (7\299)

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21