كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بمثل ما أخذوا به إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم، بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في أشباهها، فالذي يدل على الأول قوله: « لتتبعن سنن من كان قبلكم.. » (1) الحديث، فإنه قال فيه: « حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم » (2) .
والذي يدل على الثاني قوله: فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، فقال عليه السلام: « هذا كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلها.. » (3) الحديث .
فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بنفسه فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه . والله أعلم (4) ج- قال محمد رشيد رحمه الله :
لبس القلنسوة المعروفة بالبرنيطة - أو التشبه بالنصارى :
يسافر في كل سنة عدد عظيم من أمراء المصريين وحكامهم، ووجهائهم إلى أوربا فيلبسون فيها لبوس الإفرنج ويتزيون بزيهم لا يدعون منه شيئا على أن زي هؤلاء في الأغلب هو الزي الإفرنجي لا فرق إلا فيما يوضع على الرأس، فأكثر المصريين يتبعون حكامهم بلبس الطربوش الذي أخذه الترك عن الروم، وهم في أوربا يلبسون البرنيطة، لا فرق في ذلك بين الأمير والمأمور إلا أفرادا يعدهم الجمهور شذاذا، ويلومون بعضهم على محافظتهم على لبس الطربوش هناك، ويظن أكثر المسلمين أن لبس
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6889),صحيح مسلم العلم (2669),مسند أحمد بن حنبل (3/84).
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3269),صحيح مسلم العلم (2669),مسند أحمد بن حنبل (3/84).
(3) سنن الترمذي الفتن (2180),مسند أحمد بن حنبل (5/218).
(4) [الاعتصام] (2\245، 246).

البرنيطة مخل بالدين الإسلامي، حتى إن [جريدة الحاضرة] تجرأت منذ عامين على التعريض بعزيز مصر لما بلغها من لبسه البرنيطة في أوربا وقالت: إن هذا ممنوع في الإسلام، وأجبناها يومئذ في [المنار] .
ونرى الناس يلهجون في هذه الأيام بخبر فتوى من بعض العلماء بعدم إخلال لبس البرنيطة بالدين الإسلامي، قالوا: إن رجلا من مسلمي الترانسفال سأل العالم عن ذلك، وقال له: إن المسلمين في تلك البلاد مضطهدون ومهضومو الحقوق؛ لأنهم مسلمون، وأنه لا طريق إلى معاملة حكامهم وجيرانهم لهم بالمساواة إلا مساواتهم لهم في زيهم، ولا يتم ذلك إلا بلبس البرنيطة .
فأجابه العالم: بأن اللبس من أمور العادات لا من أمور الدين، وأن ما قاله بعض الفقهاء من كراهة التشبه بالكافر في عاداته قد قيدوه بقصد التعظيم لدينه لا بقصد المصلحة، وأهل الترانسفال على ما يقول السائل لا يقصدون إلى ذلك، بل تحملوا كثيرا من الأذى في تركه، والضرورات تبيح المحظورات، فأمر الكراهة أهون. هذا ما سمعناه في المسألة، وقال: إن بعض المتفقهة استكبروا الأمر وعدوه من المشكلات الدينية، وطفقوا يتهامسون ويتباحثون فيه وما ذاك إلا من قلة الفقه ومن عدم النظر في السنة وفي تاريخ الأمة، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس الجبة الرومية، وهي من لبوس النصارى، ولبس الطيالسة الكسروية، وهي من لبوس مجوس الفرس، وكذلك الصحابة عليهم الرضوان لبسوا في كل بلاد فتحوها من لبوس أهلها، حتى قلنسوة النصارى بغير نكير، إلا ما كتبه عمر إلى عتبة بن غرقد لما خشي

على قومه الترف والسرف وفساد البأس والمنعة، فقد كتب إليه يأمره بالبروز إلى الشمس وبالخشونة وبترك زي الأعاجم، وهو أمر للمصلحة لا للتشريع كيف وعمر يعلم أن الشارع قد لبس لبوس الأعاجم .
وقد لبس المسلمون بأمر المنصور قلانس كقلانس الكفار، ولم ينكر ذلك أحد إلا ما كان من هزل بعض الشعراء، ولكن المسلمين وجموا واستنكروا تغيير السلطان محمود العثماني زي قومه بزي الإفرنج؛ لما كانوا عليه من الجمود على العادات، ولكن عقلاء الترك الآن يعدون ذلك أصلا من أصول الإصلاح ، لا لأن تغيير الزي كبير النفع؛ ولكن لما فيه من زلزال ذلك الجمود الذي كان مانعا من اقتباس الدولة كثيرا من النظام النافع في الجند والإدارة والسياسة عن أوربا التي سبقت وبرزت فيه، وقد رأينا أثر سبقها وجمودنا باستيلائها على معظم بلاد المسلمين، نعم، إنني لا أنكر أن اختيار التشبه بالأجنبي هو أثر الضعف القاضي باحتذاء المغلوب مثال الغالب في زيه وعادته، وأنه ينبغي للأمة أن تحافظ على عادتها أشد المحافظة ما لم تكن ضارة، وإذا أرادت استبدال عادة بأخرى فليكن ذلك بحسب المصلحة، لا تقليدا محضا للأجنبي، ولا أنكر أن المصريين الذين يلبسون البرنيطة في أوربا ملومون، وأن سبب لبسهم إياها ضعف العزيمة ولكنني لا أقول إنهم قد عصوا الله تعالى واستحقوا عقوبته بذلك. ولو كان أمر اللبس من أمور الدين لوجب أن نتبع فيه الشارع، وقد كان يلبس الإزار والرداء ولم يلبس السراويل قط، بل لم يلبس هذه الجبة والفرجية ذات الأكمام الواسعة والأذيال الطويلة التي جمد عليها علماء المسلمين لهذا العهد، ولكنه نهى عنها، ولبس الجبة الرومية الضيقة الأكمام، فكان يتعذر

الوضوء بها، حتى كان يخرج يده من أسفلها عند الوضوء ليغسلهما .
وقد كنت كتبت في موضوع اللباس والتشبه فيه بالأجانب عشرات من الصحائف في كتاب [الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية] ذكرت فيه حكم الملابس في الدين وفي المنفعة وفي الذوق وفي عرف الصوفية وفي السياسة، وذكرنا حكم التقليد فيها وقد جاء في أول الفصل المعقود للبحث في (كيفية اللبوس والتقليد فيه) ما نصه: قد علم مما تقدم: أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وبعض أصحابه عليهم الرضوان- قد لبسوا القباء والفروج والطيالسة الكسروية، واستعملوا المياثر، وكل ذلك من لبوس الفرس، وأنهم لبسوا أيضا البرانس والجبب الرومية وهي من لبوس النصارى، والجبة الرومية لم يتقدم لها ذكر .
وقد ثبت في [الصحيحين ] أن « النبي صلى الله عليه وسلم لبسها فكان يخرج يديه من أسفلها عند إرادة غسلهما في الوضوء؛ » (1) لضيق أكمامهما الذي لا يمكن معه التشمير، ولبسوا أيضا البرود والحبر المخططة والمعلمة، وهي من لبوس اليمن، وتلك الثياب كانت كغيرها تجلب إليهم من العراق والشام ومصر واليمن، لا أنهم كانوا يحتذون مثال هذه الشعوب في صنع لبوسها إذ لم يكونوا أصحاب صنائع، وفي ذلك دليل على أن الشرع ينيط أمر اللباس من حيث كيفية الأثواب وتفاصيلها باختيار اللابس، ولا يحظر على شعب وقبيل استعمال جديلة شعب آخر؛ لأنها أمور عادية لا تتعلق بحقوق الله تعالى ولا بحقوق الخلق لذاتها، نعم، كان أكثر ما يلبس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الرداء والإزار تبعا لعادة قومه لا لوحي نزل بأولوية ذلك وأفضليته شرعا على أنه مناسب لحالة القطر الحجازي الحار، وإذ لم يرد في الشرع
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5462),سنن النسائي الطهارة (82),سنن أبو داود الطهارة (149),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (389),مسند أحمد بن حنبل (4/250),موطأ مالك الطهارة (73).

تفضيل كيفية مخصوصة وشكل معين في الملابس؛ لأن الشرع نزل فيما هو أهم من ذلك- فينبغي أن يناط ذلك بالرأي الصحيح، وهو إنما يرجح ما يوافق حالة المكان والزمان)) انتهى المراد منه وبعد هذا تفصيل في تفضيل بعض الملابس على بعض لاختلاف الزمان والمكان .
وقد حكم الفقهاء العادة في أمر الملابس حتى في الشرع، فاستحبوا ما كرهته السنة لمعنى يقتضي الكراهة مع بقاء ذلك المعنى ، وحجتهم: أنه صار عادة، فقد ورد في الحديث النهي عن إطالة الثياب ووعيد الذي يجر ثوبه خيلاء ، واتفق الفقهاء على أن إطالة الأذيال أو الأكمام للخيلاء حرام، ولغير الخيلاء مكروه شرعا، ثم إنك ترى مثل الشيخ الحفني يقول في تفسير الحديث من حاشيته على [الجامع الصغير]: إن كراهة زيادة طول الثوب عن الكعبين لغير المختال مخصوصة بمن لم يصر ذلك عادة لهم كأهل مصر .
وقال النووي في [شرح مسلم ] نقلا عن القاضي عياض وأقره: وبالجملة: يكره كل ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطول والسعة، والله أعلم. وذكر الشمس الرملي في [شرح المنهاج] : أن إفراط توسعة الثياب والأكمام بدعة وسرف وتضييع للمال ، ثم قال: نعم، ما صار شعارا للعلماء يندب لهم لبسه، ليعرفوا بذلك فيسألوا وليطاعوا فيما عنه زجروا، فأنت ترى أنهم جعلوا المحظور بنص الشارع مندوبا شرعا، وقد رأيت ضعف شبهتهم فإننا إذا سلمنا لهم بأنه ينبغي أن يكون للعلماء زي خاص نقول: إنه ينبغي أن يكون ذلك الزي مما لم ينه عنه الشارع نهيا صريحا، ولئن صح ما يقولون من تحكيم العادة بالشرع من غير ضرورة ولا

حاجة، ليكونن وزر هذا الزي المنهي عنه في السنة على من اخترعه لهؤلاء العلماء من سلفهم الذين كانوا خيرا منهم باعترافهم، ولا أعرف المخترع الأول لزي علماء مصر، وهو أبعد الأزياء عن أدب السنة وعن الذوق وعن المصلحة من حيث السعة والطول، ولكنني أعلم أن أول من اتخذ لأهل العلم زيا مخصوصا فقلدوه فيه بالتدريج هو القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة (رح)، وما أظن أنه كان من السعة والطول بالقدر الذي نشاهد، ولا براءة من هذا إلا بجعل ابتداء العادة كاستمرارها، ولقد بلغ من سلطان العادة على علمائنا أنهم صاروا ينكرون على من يخالفهم من أبناء صنفهم في الأردان المكبرة والأذيال المجررة، فلا عجب إذا حملت العادة بعضهم على إنكار لبس قلنسوة النصارى، ولو لضرورة دفع مفسدة أو جلب مصلحة، مع العلم بأن الصحابة والتابعين لبسوا في صدر الإسلام البرانس، وهي من قلانس النصارى، كما في [البخاري وشرحه] .
أما حجة هؤلاء وأمثالهم التي تروج عند العامة فهي: أن ذلك تشبه بالنصارى الذين يجب علينا مخالفتهم و....، وهذا الكلام غير صحيح على إطلاقه، وإنما هو مقيد بالمخالفة في الأمور الدينية التي لا يوجد في ديننا ما يؤيدها كالأناشيد في الجنائز وحمل المباخر ونحوها أمام النعش واتخاذ قبور الأولياء والصالحين مساجد وغير ذلك مما تشبهنا بهم فيه، بل جعلناه من شعائر ديننا مع النهي عنه في الأحاديث الصحيحة، وأما الأمور الدنيوية كالأكل والزي فليس مما تجب فيه المخالفة، بل تقارب الناس في العادات يؤلف بينهم ويزيل التنافر الذي يعمي كل فريق عن فضائل الآخر- وإذا زال التنافر ظهر الحق على الباطل، وقد علمت أن النبي وأصحابه

لبسوا زي المشركين والمجوس، بله النصارى الذين نطق القرآن الحكيم بأنهم أقرب مودة لنا، وأكثر ما قاله الفقهاء في هذا: أنه يكره أن يأتي المسلم أمرا بقصد التشبه بالأجنبي عن دينه، بل يأتيه أو يتركه للفائدة والمصلحة أو عدمهما، ولا أرى من مصلحة المصريين أن يلبسوا قلنسوة الإفرنج (البرنيطة)؛ لأن هذا من مضعفات الرجاء باستقلالهم. وأما أهل الترانسفال وأهل الرجاء الصالح فلا رجاء في استقلالهم؛ لقلتهم وغلبة الإفرنج عليهم في كل شيء على أنه ينبغي لهم المحافظة على كل ما لا تضرهم المحافظة عليه من عاداتهم التي لا تخالف الشرع. أما اتقاء الضرر فواجب شرعا إن كان محققا، ومندوب إن كان مظنونا، هذه هي القاعدة الشرعية، ولكن أكثر الناس عبيد العادات إلا الذين انسخلوا من التقليد الأعمى، وقد فصلنا القول في مضار تقليد الأجانب في الأثاث والماعون والزينة في كتاب [الحكمة الشرعية] ونقلنا عنه نبذة في [منار السنة الأولى ]، فلتراجع (1) .
__________
(1) [الإيضاح والتنبيه] ص 12- 14.

د- قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله :
فصل: وقد كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفا لهدي المشركين، كما في [مستدرك الحاكم ] من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « هدينا مخالف لهديهم » يعني: المشركين. قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الحافظ الذهبي في [تلخيصه]. وقد رواه الشافعي في [مسنده] من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا،

ولفظه: « هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك » ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه أنه كان يأمر بمخالفة أعداء الله تعالى وينهى عن التشبه بهم. فمن ذلك ما في الصحيحين، و[مسند الإمام أحمد] و[جامع الترمذي] و[سنن النسائي] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خالفوا المشركين، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب » (1) .
ومنها: ما في [صحيح مسلم] عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس » (2) . ومنها: ما في [الصحيحين] و[المسند] و[السنن] عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم » (3) هذا لفظهم سوى الترمذي، ولفظ الترمذي: « غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود » (4) ثم قال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ الإمام أحمد : « غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى » (5) ، وأخرجه ابن حبان في [صحيحه] بهذا اللفظ، وفي رواية للنسائي : « أن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوا عليهم فاصبغوا » (6) . ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: يا معشر الأنصار، حمروا وصفروا، وخالفوا أهل الكتاب فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يتزرون، فقال: تسرولوا واتزروا، وخالفوا أهل الكتاب » (7) . ومنها: ما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي، عن شداد بن أوس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم » (8) قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في [تلخيصه]، وقد رواه
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5553),صحيح مسلم الطهارة (259),سنن الترمذي الأدب (2764),سنن النسائي الطهارة (12),سنن أبو داود الترجل (4199),مسند أحمد بن حنبل (2/118).
(2) صحيح مسلم الطهارة (260),مسند أحمد بن حنبل (2/366).
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309).
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن الترمذي اللباس (1752),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309).
(5) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن الترمذي اللباس (1752),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309).
(6) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن الترمذي اللباس (1752),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309).
(7) مسند أحمد بن حنبل (5/265).
(8) سنن أبو داود الصلاة (652).

الطبراني في [الكبير ]، ولفظه: « وصلوا في نعالكم، ولا تشبهوا باليهود » .
وما رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: « رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار، ولا تلبسها » (1) ، وفي [الصحيحين] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: (إياكم والتنعم وزي أهل الشرك)، ورواه الإمام أحمد في [مسنده] بإسناد صحيح، ولفظه: (ذروا التنعم وزي العجم)، ورواه أيضا في [كتاب الزهد] بإسناد صحيح ولفظه: (إياكم وزي الأعاجم ونعيمها). قال ابن عقيل رحمه الله تعالى :
النهي عن التشبه بالعجم للتحريم، وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: التشبه بالكفار منهي عنه بالإجماع، وقال أيضا: إذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديما وحديثا ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم ومن تشبه من العجم بالعرب لحق بهم .
فصل: وقد ورد التغليظ في التشبه بأعداء الله تعالى، كما في [المسند] و[سنن أبي داود ] وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من تشبه بقوم فهو منهم » (2) صححه ابن حبان. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: إسناده جيد. وقال ابن حجر العسقلاني : إسناده حسن. قال شيخ الإسلام: وقد احتج الإمام أحمد
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2077),سنن النسائي الزينة (5317),مسند أحمد بن حنبل (2/207).
(2) سنن أبو داود اللباس (4031).

وغيره بهذا الحديث، قال: وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } (1) وقال الشيخ أيضا في موضوع آخر: قوله صلى الله عليه وسلم: « من تشبه بقوم فهو منهم » (2) يوجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقا. انتهى .
وفي [جامع الترمذي ] عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى » (3) . قال ابن مفلح في قوله: « ليس منا » (4) هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم انتهى (5) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) سنن أبو داود اللباس (4031).
(3) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695).
(4) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695).
(5) [الإيضاح والتنبيه] ص 12-13.

ثالثا: امتهان آيات القرآن بحمل الجنب للشعار الذي كتب فيه وقضاء الحاجة به في حمام أو غيره وطرحه مع غيره من العدد في المخازن ورميه حين بلاه .
أ- قال المنذري رحمه الله في [مختصر سنن أبي داود] رحمه الله: قال أبو داود في [سننه] رحمه الله (1) ، باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء (18:16) عن أنس قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه » (2) . وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه .
قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس : « أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه » (3) .
__________
(1) [مختصر سنن أبي داود] ص 26.
(2) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).
(3) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).

والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام .
وقال النسائي : وهذا الحديث غير محفوظ. وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. هذا آخر كلامه. وهمام هذا: هو أبو عبد الله همام بن يحيى بن دينار الأزدي والعوذي مولاهم البصري، وإن كان قد تكلم فيه بعضهم، فقد اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه، وقال يزيد بن هارون : همام قوي في الحديث، وقال يحيى بن معين : ثقة صالح، وقال أحمد بن حنبل : همام ثبت في كل المشايخ، وقال ابن عدي الجرجائي : وهمام أشهر وأصدق من أن يذكر له حديث منكر، أوله (1) حديث منكر، وأحاديثه مستقيمة عن قتادة، وهو مقدم أيضا في يحيى بن أبي كثير، وعامة ما يرويه مستقيم. هذا آخر كلامه.
وإذا كان حال همام كذلك فيترجح ما قاله الترمذي. وتفرده به لا يوهن الحديث. وإنما يكون غريبا، كما قال الترمذي. والله عز وجل أعلم.
قال ابن القيم رحمه الله:
18 - وقال في آخر باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء، بعد قول الحافظ زكي الدين . وإنما يكون غريبا كما قال الترمذي، والله عز وجل أعلم.
قلت: هذا الحديث رواه همام، وهو ثقة، عن ابن جريج عن الزهري عن أنس . قال الدارقطني في [كتاب العلل]: رواه سعيد بن عامر وهدية بن خالد عن همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفهم
__________
(1) هكذا في الأصل.

عمرو بن عاصم، فرواه عن همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس « أنه كان إذا دخل الخلاء » (1) موقوفا، ولم يتابع عليه. ورواه يحيى بن المتوكل ويحيى بن الضريس عن ابن جريج عن الزهري عن أنس، نحو قول سعيد بن عامر ومن تابعه عن همام، ورواه عبد الله بن الحرث المخزومي وأبو عاصم وهشام بن سليمان وموسى بن طارق عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن « أنس : أنه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب، فاضطرب الناس الخواتيم، فرمى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا ألبسه أبدا » (2) . وهذا هو المحفوظ والصحيح عن ابن جريج، انتهى كلام الدارقطني .
وحديث يحيى بن المتوكل الذي أشار إليه رواه البيهقي من حديث يحيى بن المتوكل عن ابن جريج، ثم قال: هذا شاهد ضعيف. وإنما ضعفه؛ لأن يحيى هذا قال فيه الإمام أحمد : واهي الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، وضعفه الجماعة كلهم. وأما حديث يحيى بن الضريس، فيحيى هذا ثقة، فينظر الإسناد إليه. وهمام -وإن كان ثقة صدوقا احتج به الشيخان في [الصحيح]- فإن يحيى بن سعيد كان لا يحدث عنه ولا يرضى حفظه، قال أحمد : ما رأيت يحيى أسوأ رأيا منه في حجاج -يعني: ابن أرطاة - وابن إسحاق وهمام، لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم.
وقال يزيد بن زريع -وسئل عن همام -: كتابه صالح، وحفظه لا يسوى شيئا. وقال عفان : كان همام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه، وكان يخالف فلا يرجع إلى كتاب، وكان يكره ذلك، قال: ثم رجع بعد فنظر في كتبه، فقال: يا عفان، كنا نخطئ كثيرا فنستغفر الله عز وجل. ولا ريب أنه
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).
(2) صحيح البخاري اللباس (5529),سنن الترمذي اللباس (1741),سنن النسائي الزينة (5214),مسند أحمد بن حنبل (2/119),موطأ مالك الجامع (1743).

ثقة صدوق، ولكنه قد خولف في هذا الحديث، ولعله مما حدث به من حفظه فغلط فيه، كما قال أبو داود والنسائي والدارقطني . وكذلك ذكر البيهقي : أن المشهور عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: « اتخذ خاتما من ورق، ثم ألقاه » (1) . وعلى هذا فالحديث شاذ أو منكر، كما قال أبو داود، وغريب كما قال الترمذي .
فإن قيل: فغاية ما ذكر في تعليله تفرد همام به.
وجواب هذا من وجهين:
أحدهما: أن هماما لم ينفرد به، كما تقدم.
الثاني: أن هماما ثقة، وتفرد الثقة لا يوجب نكارة الحديث. فقد تفرد عبد الله بن دينار بحديث النهي عن بيع الولاء وهبته، وتفرد مالك بحديث دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر. فهذا غايته أن يكون غريبا، كما قال الترمذي، وأما أن يكون منكرا أو شاذا فلا.
قيل: التفرد نوعان: تفرد لم يخالف فيه من تفرد به، كتفرد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين، وأشباه ذلك. وتفرد خولف فيه المنفرد، كتفرد همام بهذا المتن على هذا الإسناد، فإن الناس خالفوه فيه، وقالوا: « إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق » (2) - الحديث، فهذا هو المعروف عن ابن جريج عن الزهري، فلو لم يرو هذا عن ابن جريج وتفرد همام بحديثه لكان نظير حديث عبد الله بن دينار ونحوه. فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله.
وأما متابعة يحيى بن المتوكل فضعيفة، وحديث ابن الضريس ينظر في حاله ومن أخرجه.
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).
(2) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).

فإن قيل: هذا الحديث كان عند الزهري على وجوه كثيرة، كلها قد رويت عنه في قصة الخاتم، فروى شعيب بن أبي حمزة وعبد الرحمن بن خلاد بن مسافر عن الزهري، كرواية زياد بن سعد هذه: « أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق، » (1) ورواه يونس بن يزيد عن الزهري عن أنس، « كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق فصه حبشي، » (2) ورواه سليمان بن بلال وطلحة بن يحيى ويحيى بن نصر بن حاجب عن يونس عن الزهري، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتما من فضة في يمينه، فيه فص حبشي، جعله في باطن كفه، ورواه إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ آخر قريب من هذا، ورواه همام عن ابن جريج عن الزهري، كما ذكره الترمذي وصححه. وإذا كانت هذه الروايات كلها عند الزهري فالظاهر أنه حدث بها في أوقات، فما الموجب لتغليط همام وحده؟
قيل: هذه الروايات كلها تدل على غلط همام، فإنها مجمعة على أن الحديث إنما هو في اتخاذ الخاتم ولبسه، وليس في شيء منها نزعه إذا دخل الخلاء. فهذا هو الذي حكم لأجله هؤلاء الحفاظ بنكارة الحديث وشذوذه. والمصحح له لما لم يمكنه دفع هذه العلة حكم بغرابته لأجلها، فلو لم يكن مخالفا لرواية من ذكر فما وجه غرابته؟ ولعل الترمذي موافق للجماعة، فإنه صححه من جهة السند، لثقة الرواة، واستغربه لهذه العلة، وهي التي منعت أبا داود من تصحيحه في [سننه]، فلا يكون بينهما اختلاف، بل هو صحيح السند لكنه معلول. والله أعلم.
ب- قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا سعيد بن عامر والحجاج بن منهال قالا: حدثنا همام عن ابن جريج عن
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).
(2) صحيح البخاري اللباس (5534),صحيح مسلم اللباس والزينة (2092),سنن النسائي الزينة (5196),سنن أبو داود الخاتم (4216),سنن ابن ماجه اللباس (3641),مسند أحمد بن حنبل (3/275).

الزهري عن أنس قال: « كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه » (1) .
هذا حديث حسن صحيح غريب.
وقال صاحب [تحفة الأحوذي] رحمه الله: قوله: (إذا دخل الخلاء) أي: أراد دخوله (نزع) أي: أخرج من إصبعه (خاتمه) قال القاري في [المرقاة]: لأن نقشه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على تنحية المستنجي اسم الله واسم رسوله والقرآن، كذا قاله الطيبي، قال الأبهري : ويعم الرسل، وقال ابن حجر : استفيد منه أنه يندب لمريد التبرز أن ينحي كل ما عليه معظم من اسم الله تعالى أو نبي أو ملك، فإن خالف كره. انتهى. وهذا هو الموافق لمذهبنا . انتهى كلام القاري .
قوله: (هذا حديث حسن صحيح غريب) قال الحافظ في [التلخيص]: حديث أنه صلى الله عليه وسلم « كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه، » (2) أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث الزهري عن أنس به. قال النسائي : هذا حديث غير محفوظ. وقال أبو داود : منكر، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وأشار إلى شذوذه، وصححه الترمذي . وقال النووي : هذا مردود عليه، قال في الخلاصة: وقال المنذري : الصواب عندي تصحيحه، فإن رواته ثقات أثبات. وتبعه أبو الفتح القشيري في آخر الاقتراح وعلته أنه من رواية همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس ورواته ثقات، لكن لم يخرج الشيخان رواية همام عن ابن جريج، وابن جريج قيل: لم يسمعه عن الزهري، وإنما رواه عن زياد بن سعد عن الزهري بلفظ آخر، وقد رواه مع همام مع ذلك مرفوعا يحيى بن الضريس البجلي ويحيى بن المتوكل، وأخرجهما الحاكم والدارقطني، وقد رواه عمرو بن عاصم وهو من الثقات
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).
(2) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).

عن همام موقوفا على أنس، وأخرج له البيهقي شاهدا وأشار إلى ضعفه ورجاله ثقات، ورواه الحاكم أيضا ولفظه: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتما نقشه محمد رسول الله فكان إذا دخل الخلاء وضعه، » (1) وله شاهد من حديث ابن عباس رواه الجوزقاني في الأحاديث الضعيفة، وينظر في سنده فإن رجاله ثقات إلا محمد بن إبراهيم الرازي فإنه متروك. انتهى كلام الحافظ .
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5535),سنن أبو داود الخاتم (4218),سنن ابن ماجه اللباس (3639),مسند أحمد بن حنبل (2/22).

ج- وقال الحطاب رحمه الله: يكره أن يدخل بيت الخلاء بخاتم فيه اسم الله تعالى أو يصر الدراهم في خرقة منجوسة والخلاف في هذا كله. انتهى. وقال في [الطراز] لما تكلم على آداب الاستنجاء: وجوز مالك أن يدخل الخلاء ومعه الدينار والدرهم وإن كان مكتوبا عليه اسم الله تعالى، وقال عنه ابن القاسم في العتبية، إنه يستخف في الخاتم الاستنجاء به، قال: ولو نزعه كان أحب إلي وفيه سعة ولم يكن من مضى يتحفظون من هذا. قال ابن القاسم : وأنا أستنجي به وفيه ذكر الله تعالى، قال ابن حبيب : أكره له ذلك وليحوله في يمينه وهذا حسن، وقد كره مالك أن يعامل أهل الذمة بالدنانير والدراهم التي فيها اسم الله تعالى، وفي الترمذي عن أنس « أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه » (1) . انتهى. ونقله في [الذخيرة] وفي [رسم الشريكين] من سماع ابن القاسم من كتاب الطهارة، وسألت مالكا عن لبس الخاتم فيه ذكر الله تعالى يلبس في الشمال وهل يستنجي به؟ قال مالك : أرجو أن يكون خفيفا .
قال ابن رشد : قوله: أرجو أن يكون خفيفا يدل على أنه ضده مكروه وأن نزعه أحسن وكذلك فيما يأتي في رسم مساجد القبائل من هذا السماع وفي رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب ومثله لابن حبيب في
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).

الواضحة، ووجه الكراهية فيه بين ؛ لأن ما كتب فيه اسم الله تعالى من الحروز يجعل له خرقة، وقد قال مالك رحمه الله تعالى في كتاب التجارة إلى أرض الحرب: إني لأعظم أن يعمد إلى دراهم فيها ذكر الله تعالى فيعطاها نجسا وأعظم ذلك إعظاما شديدا وكرهه، وقال ابن القاسم في رسم مساجد القبائل: وأن أستنتجي بخاتمي وفيه ذكر الله تعالى. ليس بحسن من فعله ويحتمل أن يكون إنما فعله؛ لأنه عض بأصبعه فيشق عليه تحويله إلى اليد الأخرى كلما دخل الخلاء واحتاج إلى الاستنجاء فيكون إنما تسامح فيه لهذا المعنى وهو أشبه بورعه وفضله. انتهى. والذي في رسم مساجد القبائل قيل له: استنجي به وفيه ذكر الله تعالى؟ فقال: إن ذلك عندي خفيف ولو نزعه لكان أحسن، وفي هذا سعة وما كان من مضى يتحفظ في مثل هذا ولا يسأل عنه، قال ابن القاسم : وأنا أستنجي بخاتمي وفيه ذكر الله تعالى. قال ابن رشد : قد مضى الكلام عليه في [رسم الشريكين]، وقال في أواخر رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب : سئل مالك عن الخاتم فيه ذكر الله تعالى منقوش من الاستنجاء، فقال: إن نزعه فحسن، وما سمعت أحدا انتزع خاتمه عند الاستنجاء فقيل له: فإن استنجى وهو في يديه فلا بأس، قال ابن رشد : قد مضى الكلام عليه في رسم الشريكين وفي آخر سماع سحنون من كتاب الصلاة .
د- قال الشيرازي في [المهذب] رحمه الله (1) :
إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء عليه ذكر الله تعالى، فالمستحب أن
__________
(1) [المجموع] (2\ 80، 81).

ينحيه؛ لما روى أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم « كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه، » (1) وإنما وضعه؛ لأنه كان عليه محمد رسول الله .
وقال النووي رحمه الله : (الشرح) حديث أنس هذا مشهور، رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي وغيرهم في كتاب الطهارة، والترمذي في اللباس، والنسائي في الزينة، وضعفه أبو داود والنسائي والبيهقي، قال أبو داود: وهو منكر، وإنما يعرف عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم « اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه » (2) . وقال النسائي : هذا الحديث غير محفوظ، وخالفهم الترمذي فقال: حديث حسن صحيح غريب .
وقوله: وإنما وضعه -إلى آخره- هو من كلام المصنف لا من الحديث ولكنه صحيح، ففي [الصحيحين ]، « أن نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم كان محمد رسول الله، » ويقال: خاتم، وخاتم بكسر التاء وفتحها وخاتام وخيتام أربع لغات، والخلاء: بالمد وهو الموضع الخالي، وقوله: كان إذا دخل الخلاء، أي: أراد الدخول. أما حكم المسألة فاتفق أصحابنا على استحباب تنحية ما فيه ذكر الله تعالى عند إرادة دخول الخلاء ولا تجب التنحية، وممن صرح بأنه مستحب المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب في تعليقه، والمحاملي في كتبه الثلاثة، وابن الصباغ، والشيخ نصر المقدسي في كتبه الثلاثة: [الانتخاب] و[التهذيب] و[الكافي]، وآخرون .
قال المتولي والرافعي وغيرهما: لا فرق في هذا بين أن يكون المكتوب عليه درهما أو دينارا أو خاتما أو غير ذلك، وكذا إذا كان معه عوذة، وهي الحروز المعروفة- استحب أن ينحيه صرح به المتولي وآخرون، وألحق الغزالي في [الإحياء] و[الوسيط] بذكر الله تعالى اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).
(2) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).

وقال إمام الحرمين: لا يستصحب شيئا عليه اسم معظم ولم يتعرض الجمهور لغير ذكر الله تعالى، وفي اختصاص هذا الأدب بالبنيان وجهان، قال الشيخ أبو حامد في تعليقه: يختص، وقطع الجمهور بأنه يشترك في البنيان والصحراء، وهو ظاهر كلام المصنف وصرح به المحاملي وغيره وإذا كان معه خاتم فقد قلنا: ينزعه قبل الدخول فلو لم ينزعه سهوا أو عمدا ودخل فقيل: يضم عليه كفه لئلا يظهر. قال ابن المنذر : إن لم ينزعه جعل فصه مما يلي بطن كفه، وحكى ابن المنذر عن جماعة من التابعين: ابن المسيب والحسن وابن سيرين، الترخيص في استصحابه. والله أعلم .
وقال أحمد بن إبراهيم الدمشقي الشهير بابن النحاس :
فصل في بعض ما يشاهد في المساجد من البدع: قال: ومنها: كتابة القرآن في جدران المسجد، ومذهبنا أنه مكروه؛ لأنه تعريض له لوقوع الغبار عليه وقد صرح الحليمي في منهاجه أن من تعظيم الله تعالى وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ننفض الغبار عن المصحف وكتب السنن وألا يوضع عليها شيء من متاع البيت، وكذلك يكره كتابته في جدار غير المسجد، فإن كان في جدار يصعد فوقه إلى غرفة ونحوها كانت الكراهة أشد وربما حرم. والله أعلم (1) .
هـ - قال ابن قدامة رحمه الله (2) :
إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر الله تعالى استحب وضعه .
__________
(1) [تنبيه الغافلين]ص 326.
(2) [المغني] (1\ 167).

وقال أنس بن مالك : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه » (1) . رواه ابن ماجه وأبو داود، وقال: هذا حديث منكر .
وقيل: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضعه؛ لأن فيه: محمد رسول الله ثلاثة أسطر، فإن احتفظ بما معه مما فيه ذكر الله تعالى واحترز عليه من السقوط أو أدار فص الخاتم إلى باطن كفه- فلا بأس .
قال أحمد : الخاتم إذا كان فيه اسم الله يجعله في باطن كفه ويدخل الخلاء. وقال عكرمة : اقلبه هكذا في باطن كفك فاقبض عليه، وبه قال إسحاق، ورخص فيه ابن المسيب والحسن وابن سيرين . وقال أحمد في الرجل يدخل الخلاء ومعه الدراهم: أرجو أن لا يكون به بأس .
و- قال المرداوي رحمه الله (2) :
قوله: (ولا يدخل بشيء فيه ذكر الله تعالى) الصحيح من المذهب: كراهة دخوله الخلاء بشيء فيه ذكر الله تعالى ، إذا لم تكن حاجة. جزم به في [الوجيز]، و[مجمع البحرين]، و[الحاوي الكبير]. وقدمه المجد في [شرحه]، و[ ابن تميم ]، و[ ابن عبيدان ]، و[النظم]، و[الفروع] و[الرعايتين]، وغيرهم. وعنه: لا يكره. قال ابن رجب في [كتاب الخواتم]: والرواية الثانية: لا يكره. وهي اختيار علي بن أبي موسى، والسامري، وصاحب [المغني]. انتهى. قال في [الرعاية]: وقيل: يجوز استصحاب ما فيه ذكر الله تعالى مطلقا، وهو بعيد. انتهى. وقال في [المستوعب]: تركه أولى. قال في النكت: ولعله أقرب. انتهى .
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1746),سنن النسائي الزينة (5213),سنن أبو داود الطهارة (19),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303).
(2) [الإنصاف] (1\ 94، 95).

وقطع ابن عبدوس في [تذكرته] بالتحريم، وما هو ببعيد. قال في [الفروع]: وجزم بعضهم بتحريمه، كمصحف، وفي نسخ: لمصحف.
قلت: أما دخول الخلاء بمصحف من غير حاجة فلا شك في تحريمه قطعا، ولا يتوقف في هذا عاقل .
تنبيه: حيث دخل الخلاء بخاتم فيه ذكر الله تعالى، جعل فصه في باطن كفه، وإن كان في يساره أداره إلى يمينه، لأجل الاستنجاء .
فائدة: لا بأس بحمل الدراهم ونحوها فيه. نص عليهما، وجزم به في [الفروع] وغيره. قال في [الفروع]: ويتوجه في حمل الحرز مثل حمل الدراهم. قال الناظم: بل أولى بالرخصة من حملها .
قلت: وظاهر كلام المصنف هنا، وكثير من الأصحاب أن حمل الدراهم في الخلاء كغيرها في الكراهة وعدمها، ثم رأيت ابن رجب في ذكر كتاب الخواتم: أن أحمد نص على كراهة ذلك في رواية إسحاق بن هانئ . فقال في الدرهم: إذا كان فيه (اسم الله) أو مكتوبا عليه { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } (1) يكره أن يدخل اسم الله الخلاء. انتهى .
وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عن جندي قال للصائغ: اعمل لي حياصة من ذهب، أو فضة، واكتب عليها (بسم الله الرحمن الرحيم) فهل يجوز ذلك ثم لا بد من إعادتها إلى النار لتمام عملها. وهل يجوز لأحد أن يلبس حياصة ذهب أو فضة ؟
فأجاب : الحمد لله رب العالمين. أما حياصة الذهب فمحرمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الذهب والحرير هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها » .
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1

وأما حياصة الفضة، ففيها نزاع بين العلماء: وقد أباحها الشافعي وأحمد، في إحدى الروايتين. وأما كتابة القرآن عليها: فيشبه كتابة القرآن على الدرهم والدينار. ولكن يمتاز هذا بأنها تعاد إلى النار بعد الكتابة، وهذا كله مكروه. فإنه يفضي إلى ابتذال القرآن وامتهانه، ووقوعه في المواضع التي ينزه القرآن عنها. فإن الحياصة (1) ، والدرهم والدينار ونحو ذلك. هو في معرض الابتذال، والامتهان .
وإن كان من العلماء من رخص في حمل الدراهم المكتوب عليها القرآن، فذلك للحاجة، ولم يرخص في كتابة القرآن عليها. والله أعلم (2) .
__________
(1) الحياصة: سير في الحزام [لسان العرب].
(2) [مجموع فتاوى ابن تيمية] (25\ 66، 67).

وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله عن حكم حلية من ذهب مكتوب عليها لفظ الجلالة يلبسها النساء في أعناقهن .
فأجاب بما يأتي:
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سعادة مدير عام الجمارك ... وفقه الله إلى ما فيه رضاه آمين .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد :
إجابة لكتابكم الكريم رقم (3006) في 20\ 8\ 1398 هـ ومرفقه عينة ذهب مكتوب عليها اسم الجلالة وهي مما يعلقه النساء في أعناقهن وردت إليكم عن طريق مؤسسة\....\ جمرك الرياض .
وأفيد سعادتكم: أنه سبق أن صدرت الفتوى من اللجنة الدائمة

للبحوث العلمية والإفتاء بمناسبة ميدالية مفاتيح قدمت لها بما نصه :
(إن كتابة آية أو سورة من القرآن على هذه الحلقة خروج بالقرآن عن المقصد الذي أنزل من أجله من الاهتداء به وتلاوته والعمل بما فيه من أحكام، ومخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر السلف الصالح، وفيه تعريض لآيات القرآن للامتهان بحمل الجنب لها وحملها وقت قضاء الحاجة والاستنجاء والجماع ونحو ذلك- وعلى هذا يجب محو ما كتب من القرآن على هذه الحلقة حتى لا يكون لهذه الكتابة أثر؛ صيانة لكتاب الله عن العبث والامتهان واستعماله في غير ما نزل من أجله من المقاصد المشروعة) انتهت الفتوى .
وعليه تعلمون حفظكم الله: أن كتابة اسم الجلالة على حلي المرأة فيه تشبه بالكافرات في تعليقهن حليا فيه الصليب ونجمة داود واسم عزير بالإضافة إلى كونه ذريعة إلى اتخاذه حرزا وتميمة يرجى بها دفع الضرر وجلب النفع، وهذا لا يجوز .
ومما تقدم يلزم المورد لها ولأمثالها بمحو اسم الجلالة وبعد التأكد من محوه في جميع الكمية المطلوب دخولها لا مانع من السماح لها.
وفي حالة عدم محوه فيلزم منعها من الدخول للمملكة؛ حفاظا على عقيدة التوحيد، وسدا لذريعة الشرك، ومنعا للتشبه بالكافرات.. وتجدون برفقه قطعة الحلي المذكورة أعلاه.
سائلا المولى جل وعلا أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه، وأن يجنبنا جميع سخطه، وأن يثيبكم وجميع العاملين معكم على ما تقومون به في سبيل خدمة عقيدتنا الإسلامية في جميع ثغور المملكة الجوية والبرية

والبحرية، إنه سميع مجيب .

رابعا: قد يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذه عوذة للحفظ والنصر .
إن تعليق شارات على الجنود أو عدد الحرب من سور القرآن أو آياته، واتخاذ أوسمة مكتوب عليها آية أو آيات من كتاب الله تعالى- قد يكون ذريعة إلى التبرك به، والاعتقاد بأنه سبب النصر والتغلب على الأعداء، وينتهي الأمر فيه إلى اتخاذه عوذة وتميمة يعتقد أنها تحفظه من المكاره ، وتقيه شر الهزائم، وتكفل له النصر في ميادين القتال ثم يتوسع في استعمالها لجلب المنافع ودفع المضار .
ولا شك أن ذلك مما يتنافى مع مقاصد الشريعة من حفظ العقيدة وسلامتها مما يهدمها أو يضعفها وسد الذرائع من القواعد الإسلامية الكلية اليقينية التي دلت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبارها، وبناء الأحكام عليها .
وممن عني بإقامة الأدلة عليها شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله فقال :
(الوجه الرابع والعشرون): أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها .
والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء: عبارة عما أفضت إلى فعل محرم. ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم. أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا؛ كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه، أو كان الشيء

نفسه فسادا كالقتل والظلم- فإذا ليس من هذا الباب. فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء؛ لكونها في نفسها فسادا، بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه، أو لكونها مفضية إلى فساد، بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة، وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم، فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة. وإلا سميت سببا ومقتضيا، ونحو ذلك من الأسماء المشهورة. ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا، وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي، لكن الطبع متقاض لإفضائها. وأما إن كانت تفضي أحيانا، فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرمها أيضا. ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها. ومنها: ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم، فهذا (القسم الثاني) بجامع الحيل، بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة، وقد لا يقترن، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع، فصارت الأقسام (ثلاثة) .
الأول : ما هو ذريعة، وهو مما يحتال به؛ كالجمع بين البيع والسلف، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى. وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ، وكقرض بني آدم .
الثاني : ما هو ذريعة لا يحتال بها؛ كسب الأوثان، فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده، وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن .
الثالث : ما يحتال به من المباحات في الأصل؛ كبيع النصاب في أثناء

الحول فرارا من الزكاة، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة .
والغرض من هذا: أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها المحرم؛ خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع .
وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ويقول القائل: لم أقصد به ذلك. ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى، ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه .
وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر؛ لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا، وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل- فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة .
أما شواهد هذه القاعدة فاكثر من أن تحصر، فنذكر منها ما حضر :
فالأول: قوله سبحانه وتعالى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1) حرم سب الآلهة مع أنه عبادة؛ لكونه ذريعة
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108

إلى سبهم لله سبحانه وتعالى؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم .
الثاني : ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله؛ وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه » (1) متفق عليه . ولفظ البخاري : « إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه » (2) ، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن لم يقصده، وبين هذا والذي قبله فرق؛ لأن سب آباء الناس هنا حرام لكن قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر؛ لكونه شتما لوالديه؛ لما فيه من العقوق، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره.
الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام.
الرابع : أن الله سبحانه حرم الخمر؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب. ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل، وجعلها نجسة، لئلا تفضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها. ثم إنه قد نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).
(2) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).

بتخمير النبيذ فيها؛ حسما لمادة ذلك. وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف. وبين صلى الله عليه وسلم أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة، فقال: « لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه » يعني صلى الله عليه وسلم: أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا.
الخامس : أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية؛ حسما لمادة ما يحاذر من تغيير الطباع وشبه الغير .
السادس : أنه « نهى عن بناء المساجد على القبور، » (1) ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها. ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا. وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده، بل قصد خلافه؛ سدا للذريعة.
السابع : أنه « نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، » (2) وكان من حكمة ذلك: أنهما وقت سجود الكفار للشمس، ففي ذلك تشبه بهم، ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس، أو أخذ بعض أحوال عابديها.
الثامن : أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، مثل قوله: « إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم » (3) ، « إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم » (4) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء : « لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع » (5) ، وقال في موضع: « لا تشبهوا بالأعاجم » ، وقال فيما رواه الترمذي : « ليس منا من تشبه بغيرنا » (6) حتى قال حذيفة بن اليمان : « من تشبه بقوم فهو منهم؛ » (7) وما ذاك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (320),سنن النسائي الجنائز (2043),سنن أبو داود الجنائز (3236),مسند أحمد بن حنبل (1/337).
(2) صحيح البخاري الحج (1549),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (828),سنن النسائي المواقيت (563),مسند أحمد بن حنبل (2/13),موطأ مالك النداء للصلاة (513).
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309).
(4) سنن أبو داود الصلاة (652).
(5) صحيح مسلم الصيام (1134),سنن أبو داود الصوم (2445),مسند أحمد بن حنبل (1/236),سنن الدارمي الصوم (1759).
(6) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695).
(7) سنن أبو داود اللباس (4031).

يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب، وذلك يجر إلى فساد عريض .
التاسع : أنه صلى الله عليه وسلم « نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، » (1) وبينها وبين خالتها، وقال: « إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم » حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها، كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك. وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك، لأن الطباع تتغير فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة. وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم وإن زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } (2) وهذا نص في اعتبار الذريعة .
العاشر : أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة، فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك .
الحادي عشر : أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام؛ حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين؛ ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين .
الثاني عشر : أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به، مثل: اشتراط إعلانه إما
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (4820),صحيح مسلم النكاح (1408),سنن الترمذي النكاح (1126),سنن النسائي النكاح (3288),سنن أبو داود النكاح (2066),سنن ابن ماجه النكاح (1929),مسند أحمد بن حنبل (2/452),موطأ مالك النكاح (1129),سنن الدارمي النكاح (2179).
(2) سورة النساء الآية 3

بالشهادة. أو ترك الكتمان أو بهما. ومثل: اشتراط الولي فيه. ومنع المرأة أن تليه. وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة. وكان أصل ذلك في قوله تعالى: { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } (1) و { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } (2) وإنما ذلك لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش. ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكاما من المصاهرة، وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الاستمتاع، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم، كما جعل بينهما في قوله تعالى: { نَسَبًا وَصِهْرًا } (3) وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح، وتبين: أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه .
__________
(1) سورة النساء الآية 24
(2) سورة النساء الآية 25
(3) سورة الفرقان الآية 54

الثالث عشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، » (1) وهو حديث صحيح ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح؛ وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا .
ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),مسند أحمد بن حنبل (2/205),سنن الدارمي البيوع (2560).

قال: إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر، يقصد بذلك: أن هذا ذريعة إلى الربا وهذه علة صحيحة في مسألة مد عجوة، لكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له؟! .
الرابع عشر : إن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطآ على الربا، وما ذاك إلا سدا للذريعة.
الخامس عشر : أنه تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض، إلا أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض؛ وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين، لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا. وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية، ومنع الشافع قبول الهدية فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية .
السادس عشر : أن السنة مضت بأنه « ليس لقاتل من الميراث شيء، » (1) أما القاتل عمدا كما قال مالك، والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما، أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة ، أو القاتل بغير حق أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده - فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا؛ وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر .
__________
(1) سنن ابن ماجه الديات (2646),مسند أحمد بن حنبل (1/49),موطأ مالك العقول (1620).

السابع عشر : أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان؛ لأن الطلاق ذريعة، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف - مأخذ الشارع في ذلك: أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين .
الثامن عشر : أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء .
التاسع عشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى عن إقامة الحدود بدار الحروب؛ » لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار .
العشرون : أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين: إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه » (1) « ونهى عن صوم يوم الشك، » (2) إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو، وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه من الخلاف المشهور؛ وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم وهو يوم العيد، وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم، تمييزا لوقت العبادة من غيره؛ لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور، واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها، فكره للإمام أن يتطوع في مكانه، وأن
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1815),صحيح مسلم الصيام (1082),سنن الترمذي الصوم (684),سنن النسائي الصيام (2173),سنن أبو داود الصوم (2335),سنن ابن ماجه الصيام (1650),مسند أحمد بن حنبل (2/497),سنن الدارمي الصوم (1689).
(2) سنن ابن ماجه الصيام (1646).

يستديم استقبال القبلة، وندب المأموم إلى هذا التبيين، ومن جملة فوائد ذلك: سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض .
الحادي والعشرون : أنه « صلى الله عليه وسلم كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه، » وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا؛ قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه .
الثاني والعشرون : أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا، مع قصدهم الصالح ؛ لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه صلى الله عليه وسلم، ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا .
الثالث والعشرون : أنه أوجب الشفعة؛ لما فيه من رفع الشركة؛ وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة؛ سدا لهذه المفسدة بحسب الإمكان .
الرابع والعشرون : أن الله سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحي إليه بالباطن، وأمره أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق، وألا يقبل شهادة ضنين في قرابة، وإن وثق بتقواه، حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء ؛ لينضبط طريق الحكم، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم كل ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة، وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم لغير الحق، فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك، وإن كان قد يقع لهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير .

الخامس والعشرون : أن الله سبحانه منع رسوله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة من الجهر بالقرآن، حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به .
السادس والعشرون : أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود؛ سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجر وإن كانت العقوبات من جنس الشر؛ ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع؛ كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك، فإنه اكتفى فيه بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة، وإن تاب العاصي عند ذلك، وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها؛ لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود، مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
السابع والعشرون : أنه صلى الله عليه وسلم سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك، من كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية؛ لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة، وصلاح ذات البين، وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات- لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال وزجر عن ذراع الفرقة وهي من الأفعال أيضا .
الثامن والعشرون : أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد

الكفار وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا؛ لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع .
التاسع والعشرون : أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها؛ لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم .
الثلاثون : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ويصبغ نعله الذي قلده بدمه، ويخلي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته . قالوا: وسبب ذلك: أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها؛ لحصول غرضه بعطبها دون المحل، كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل، وأحسم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذرائع .
والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم، إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول: لا يحتج بها، ولم يذكر الحيل التي يقصد بها الحرام كاحتيال اليهود، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما، وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع، فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع، وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا .
ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخر غير ما ذكرناه من الذرائع ، وإنما

قصدنا: أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم، إما بأن يقصد به المحرم، أو بأن لا يقصد به يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما، وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله، وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه، وهذا بين لمن تأمله. والله الهادي إلى سواء الصراط .

وقد اتبع ابن القيم شيخه ابن تيمية رحمهما الله في إثبات قاعدة سد الذرائع بأدلة الاستقراء من الكتاب والسنة فقال رحمه الله :
فصل (1) : في سد الذرائع: لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها. فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود. لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم، وإغراء للنفوس به. وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك
__________
(1) [إعلام الموقعين] (3\ 147- 153).

الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء، ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه - لعد متناقضا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده .
وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه. وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه .
فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء .
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره، ليزول الالتباس فيه، فنقول:
الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان :
أحدهما : أن يكون وضعه للإفضاء إليها؛ كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها .
والثاني : أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب. فيتخذ وسيلة إلى المحرم، إما بقصده أو بغير قصد منه .
فالأول : كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدا به الربا، أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك .
والثاني : كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله. ونحو ذلك .

ثم هذا القسم من الذرائع نوعان :
أحدهما : أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته .
والثاني : أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته .
فهاهنا أربعة أقسام :
الأول : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة .
الثاني : وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة .
الثالث : وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها .
الرابع : وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها .
فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم .
ومثال الثالث : الصلاة في أوقات النهي، ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم. وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها. وأمثال ذلك .
ومثال الرابع : النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها (1) ويعاملها. وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك. فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة. وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة. بقي النظر في القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما ؟
__________
(1) قوله: يطؤها، كذا في الأصل، والصواب: يطبها.

فنقول :
الدلالة على المنع من وجوه :
الوجه الأول : قوله تعالى: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1) فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين- مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم-؛ لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى. وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه، بل كالتصريح على المنع من الجائز، لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز .
الوجه الثاني : قوله تعالى: { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } (2) فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه؛ لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن .
الوجه الثالث : قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } (3) الآية. أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة. ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها وإن أمكن في تركه هذه المفسدة، لندورها
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 58

وقلة الإفضاء إليها فجعلت كالمقدمة (1) .
الوجه الرابع : قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } (2) نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة - مع قصدهم بها الخير- لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب يقصدون فاعلا من الرعونة، فنهي المسلمون عن قولها؛ سدا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم؛ تشبها بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون .
الوجه الخامس : قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } (3) { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (4) فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيق به ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة، فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى .
الوجه السادس : أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإفضاء، واحتمال الضيم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة .
الوجه السابع : أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة، لئلا يتخذ
__________
(1) كذا بالأصل، وصوابه كالمعدوم.
(2) سورة البقرة الآية 104
(3) سورة طه الآية 43
(4) سورة طه الآية 44

ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها .
والوجه الثامن : ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه » (1) متفق عليه . ولفظ البخاري : « إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه » (2) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده .
الوجه التاسع : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين- مع كونه مصلحة- لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه وقولهم: إن محمدا يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل .
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).
(2) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).

الوجه العاشر : أن الله تعالى حرم الخمر؛ لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه، لكن حرم القطرة الواحدة منها، وحرم إمساكها للتخليل ونجسها؛ لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب، ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به؛ حسما لمادة قربان المسكر، وقد صرح صلى الله عليه وسلم بالعلة في تحريم القليل فقال: « لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه » .

الوجه الحادي عشر : أنه صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية، ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين؛ سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع.
الوجه الثاني عشر : أن الله تعالى أمر بغض البصر -وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله- سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.
الوجه الثالث عشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى عن بناء المساجد على القبور، » (1) ولعن من فعل ذلك، ونهى « عن تجصيص القبور وتشريفها، واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها، » (2) وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا. وعن شد الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها. وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه؛ سدا للذريعة.
الوجه الرابع عشر : أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وكان من حكمة ذلك: أنهما وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت؛ سدا للذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد، مح بعد هذه الذريعة، فكيف بالذرائع القريبة؟!
الوجه الخامس عشر : أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة؛ كقوله: « إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم » (3) ، وقوله: « إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم » (4) ، وقوله في عاشوراء: « خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله ويوما بعده » ، وقوله: « لا تشبهوا
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (320),سنن النسائي الجنائز (2043),سنن أبو داود الجنائز (3236),مسند أحمد بن حنبل (1/337).
(2) صحيح مسلم الجنائز (970),سنن الترمذي الجنائز (1052),سنن النسائي الجنائز (2029),سنن أبو داود الجنائز (3225),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1562),مسند أحمد بن حنبل (3/332).
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309).
(4) سنن أبو داود الصلاة (652).

بالأعاجم » ، وروى الترمذي عنه: « ليس منا من تشبه بغيرنا » (1) ، وروى الإمام أحمد عنه: « من تشبه بقوم فهو منهم » (2) ، وسر ذلك: أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل.
الوجه السادس عشر : أنه صلى الله عليه وسلم « حرم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، » (3) وقال: « إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم » حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة، كما علل به النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه السابع عشر : أنه حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور، وقيل: العلة فيه: أنه ذريعة إلى كثرة المؤونة المفضية إلى أكل الحرام. وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع، وأباح الأربع -وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن- لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن، فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة.
الوجه الثامن عشر : أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا. حتى حرم ذلك في عدة الوفاء وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها.
الوجه التاسع عشر : أن الله تعالى حرم عقد النكاح في حال العدة، وفي الإحرام، وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل؛ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام، فإن زمنه قريب جدا، فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل.
الوجه العشرون : أن الشارع حرم الطيب على المحرم؛ لكونه من
__________
(1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695).
(2) سنن أبو داود اللباس (4031).
(3) صحيح البخاري النكاح (4820),صحيح مسلم النكاح (1408),سنن الترمذي النكاح (1126),سنن النسائي النكاح (3291),سنن أبو داود النكاح (2065),سنن ابن ماجه النكاح (1929),مسند أحمد بن حنبل (2/452),موطأ مالك النكاح (1129),سنن الدارمي النكاح (2179).

أسباب دواعي الوطء، فتحريمه من باب سد الذريعة.
هذا فقد استمر رحمه الله في ذكر أدلة المنع حتى أوصلها تسعة وتسعين دليلا..) ثم قال: باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه: أمر، ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين (1) اهـ.
هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) [إعلام الموقعين] (3\ 147- 153) .

(3)
بيان ما يسمى معجزة محمد
الخالدة والمعجزة القرآنية
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة
والمعجزة القرآنية
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
المعجزة القرآنية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الاستثنائية الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض يوم السبت الموافق 1\ 2 إلى يوم 7 منه 1399 هـ اطلع المجلس على المعاملة المتعلقة بما سماه الأستاذ رشاد خليفة : المعجزة القرآنية، وعلى ما جاء فيها من أن كتابة المصحف بالرسم الإملائي ينافيها، واقترح إعداد بحث في الموضوع، فأعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يأتي:
أولا: بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة، والمعجزة القرآنية المذهلة ومناقشتها.
ثانيا: هل ما يقال من أنها معجزة قرآنية صحيح أو لا؟ وهل تمتنع كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء، محافظة عليها أو لا..؟
وفيما يلي تفصيل ذلك بحول الله وقوته:

تمهيد
:
لقد عني الدكتور رشاد خليفة بإثبات إعجاز القرآن وحفظه من طريق سوى الطرق التي عهدها المسلمون من قبل، واهتم بإثبات استمرار ذلك ما دامت الحياة الدنيا؛ ليشاهد الناس جيلا بعد جيل كتاب الله معجزة خالدة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وآية بينة تدل على رسالته وصدقه فيما يوحى إليه من ربه سبحانه، وعلى بقاء ذلك محفوظا من التبديل، والتحريف، والزيادة والنقصان مدى الدهر، وتقوم به الحجة عليهم إلى جانب ما قامت به الحجة على من سبقهم من إخوانهم المسلمين الأولين من وجوه إعجاز القرآن وغيره، وهذا مما يدل -في ظاهره- على غيرته على دينه، وحرصه على مصلحة الأمة، فلفت نظر المسلمين إلى نواحي إعجاز أخرى لم يكن لهم ولا لمن سبقهم بها عهد ولا علم، فألقى محاضرة بين فيها ما اكتشفه من وجوه إعجاز القرآن وحفظه، ثم نشرت (جريدة اليوم السعودية) له مقالا في عددها رقم (2399) الصادر في 12\ 10\ 1389 هـ زاد به الموضوع شرحا وإيضاحا؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانا إلى إيمانهم، ويقينا إلى يقينهم بأن محمدا رسول الله حقا، وأن ما أوحي إليه إنما هو من عند الله، وأنه محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقص وأنه قد وصلنا كما نزل، ولتقوم به الحجة على الذين كفروا، تباعا أكثر فأكثر { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (1) فجزاه الله عن اجتهاده خير الجزاء، وهدانا وإياه إلى الطريق المستقيم.
__________
(1) سورة المدثر الآية 31

وقد رأينا أن نثبت في إعداد هذا البحث نص محاضرته، وأن نشير إلى رقم (جريدة اليوم) وتاريخ صدورها لمن أراد أن يطلع على نص ما نشرت له ، ثم نعلق على كل منهما بما يتيسر: ليعود القارئ بما وجده في التعليق إلى ما أثبت في أصل بيان الإعجاز من قريب.
ومن بعد هذا ختمنا البحث بكلمة تحذيرية أعدها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عرف فيها المدعو الدكتور رشاد خليفة، وأورد بعض ما عرف عنه من بدع وأباطيل وناقشها ورد عليها، وأوضح سماحته مكانة السنة المطهرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
Islamic Productions International. inc.
5937 EAST PIMA STREET - TUCSON, ARIZONA 85711 U.S.A.
ROFTT ORGANIZATION SERVIG THE NEEDS OF ALL MUSLIMS IN THE ENGLIH SPEAKING WOLD
معجزة محمد الخالدة
THE PERPETUAL MIRICAL OF MUHAMMAD
Written and narrated By
Rashad Khalifa
تقديم الدكتور رشاد خليفة
NOW YOU CAN PHYSICALLY WITNEES THE MIRAGE OF MUHAMMAD
1369 - 1976
1976 - 1369

بسم الله الرحمن الرحيم. يعلمنا خالقنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة من (سورة الإسراء): أن القرآن الكريم كتاب معجز لا يستطيع الإتيان بمثله إنس ولا جان...، وفي الدقائق الستين القادمة فإنك سترى وتلمس أدلة مادية ملموسة على أن هذه الآية حقيقة واقعة... في الدقائق الـ 60 القادمة سترى وتسمع وتلمس أدلة دامغة لا تقبل الشك أو الجدال على أن القرآن الكريم هو رسالة الله عز وجل إلى البشرية كافة... وأنه قد وصلنا سالما من أي تحريف أو تحوير أو زيادة أو نقصان.
كما تعلمون جميعا فإن جميع الرسل الذين جاءوا برسالة الله سبحانه وتعالى، جاءوا أيضا مؤيدين بمعجزات...، ظواهر غير طبيعية تثبت للناس أن هؤلاء الرسل قد بعثوا فعلا من قبل الخالق العظيم سبحانه وتعالى...، فسيدنا موسى عليه السلام عندما ذهب إلى فرعون أيده الله بمعجزات مثل تحول العصا إلى حية...، كما أيد الله رسوله عيسى عليه السلام بمعجزات مثل: إحياء الموتى، وخلق الطير من الطين بإذن الله...
ولما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين.. فإنه من الطبيعي أن تكون معجزته هي خاتمة المعجزات..، وأن تكون معجزة خالدة مستمرة، لكي يشهدها كل جيل من أجيال البشر منذ بعثته عليه السلام وحتى يوم القيامة... وهذه المحاضرة سوف تبرهن لنا أن هذه فعلا هي الحقيقة... أن معجزة المصطفى صلى الله عليه وسلم فعلا معجزة أبدية مستمرة فأنتم ستشهدون الآن معجزة محمد الخالدة...، بما لا يدع مجالا للشك... وهذه حقيقة تختلف عن طبيعة المعجزات السابقة لجميع الرسل والأنبياء السابقين...

فكما تعلمون معجزات الأنبياء السابقين كانت جميعها معجزات محدودة بالزمان والمكان...، فمثلا ليس بيننا من شهد سيدنا موسى وهو يلقي العصا فتتحول إلى حية...، ليس بيننا من شهد سيدنا عيسى يحيى الموتى...، لقد شهد هذه المعجزات فقط الناس الذين تواجدوا في مكان معين... في زمان معين... أما المعجزة الختامية التي جاء بها خاتم النبيين...، فسترون الآن أنها معجزة مستمرة لا يحدها مكان أو زمان... وكما يشهدها الآن جيلنا فقد شهدتها الأجيال السابقة، وسوف تشهدها الأجيال القادمة حتى يوم القيامة..
ما هي معجزة محمد؟ يخبرنا القرآن الكريم في (سورة العنكبوت) الآية (49 و50) أن معجزة محمد هي القرآن ذاته...، وقد اتضح بالفعل أن القرآن الكريم معجزة دائمة مستمرة، واتضح أنه كلما اكتشف العلم حقائق جديدة عن عالمنا هذا فإننا نجد أن الاكتشافات الجديدة قديمة قدم القرآن الكريم، وهذا ما شهدته الأجيال السابقة...، فعلى سبيل المثال عندما اكتشف أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، وجد علماء القرآن أن هذه الحقيقة مذكورة في القرآن الكريم (سورة النمل)، آية (88)... وعندما اكتشف أن الشمس مصدر للضوء وأن القمر مجرد عاكس للضوء.. اكتشفت الأجيال السابقة أن هذا الاكتشاف الجديد ليس جديدا بالمرة، وأن القرآن قد بين هذه الحقيقة في (سورة يونس)، الآية (5).
هذا الإعجاز العلمي الذي شهدته الأجيال السابقة في القرآن الكريم يستغرق الساعات الطوال لسرده كاملا... ولكن الغرض من هذه المحاضرة هو دراسة نوع جديد من الإعجاز المادي الملموس الذي يشاء

الله سبحانه وتعالى أن يشهده جيلنا نحن.. في هذا الزمن المادي... فنحن الآن وفي الدقائق القادمة سوف نشهد معجزة محمد بطريقة مادية ملموسة تماما، كما شهد فرعون والسحرة وبنو إسرائيل معجزات موسى...، وكما شهد الحواريون معجزات عيسى..، وهكذا سوف يتبين لنا استمرارية ودوام وخلود المعجزة الختامية لخاتم النبيين عليهم جميعا صلوات الله وسلامه...

إن مفتاح هذه المعجزة الختامية يوجد في الآية الأولى من القرآن الكريم { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (1) فإنك إذا عددت حروف هذه الآية لوجدتها (19)... هذه كما ترون حقيقة مادية ملمومسة لا يستطيع أحد أن يجادلك فيها... وقد اكتشف أن كل كلمة في هذه الآية تتكرر في القرآن الكريم كله عددا من المرات، هو دائما من أضعاف الرقم (19)...، فنحن نجد أن كلمة اسم تتكرر في المصحف الشريف بالضبط (19) مرة... وكلمة الله تتكرر (2698) مرة . . . 19 × 142. . .، وكلمة الرحمن تتكرر (57) مرة... ثلاثة أضعاف الرقم (19)، وكلمة الرحيم تتكرر في القرآن (114) مرة... ستة أضعاف الرقم (19)...، وقبل أن نسأل أنفسنا: (ما معنى هذه الظاهرة التي لا نجدها في أي كتاب آخر في أي مكان في العالم؟) قبل أن نبحث هذا السؤال أود التنبيه أولا إلى أن الشيطان قد يتدخل في هذه اللحظة ويهمس في قلبك قائلا: (ما يدريك أن هذه الأرقام صحيحة؟ ما يدريك أن هذا الشخص لم يضع هذه الأرقام من نفسه؟)..، ولكي نطرد الشيطان من أول المحاضرة وبطريقة نهائية... أود أن أذكركم أن
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1

هذه الأرقام جميعا مسجلة في كتب كثيرة.. وقد سجلت حتى من قبل أن نولد... فقد قام كثير من الناس بعد كلمات وحروف القرآن الكريم خلال القرون الأربعة عشر الماضية.. وسجلوا أرقامهم في كتب كثيرة... ومن أمثلة هذه الكتب، كتاب أحمله معي في كل مكان واسمه [المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم] من وضع محمد فؤاد عبد الباقي وتنشره دار الشعب بالقاهرة ...، هذا الكتاب يبين عدد كل كلمة من كلمات القرآن الكريم.
والآن دعني أكرر هذه الملاحظات.. هذه الحقائق المادية الملموسة:
الآية الأولى في القرآن الكريم { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (1) تتكون من (19) حرف، هذه حقيقة مادية ملموسة لا تقبل الشك أو الجدال... ويحسن بي أن أتوقف هنا قليلا لدراسة الرقم (19).. فهذا رقم خاص يتميز بخاصيتين هامتين: أولهما: أن الرقم (19) يحتوي على البداية والنهاية. الرقم (1) الذي هو بداية النظام الحسابي...، والرقم (9) الذي نهاية النظام الحسابي...، والخاصية الثانية هي أن الرقم (19) لا يقبل القسمة بينما نجد أن الرقم (18) قابل للقسمة على (2، 3، 6، 9)... وبينما نجد الرقم (20) قابل للقسمة على (2، 4، 5، 10) نجد أن الرقم (19) لا يقبل القسمة في الآية الأولى من القرآن، حيث تتركب من (19) حرفا، وكل كلمة في هذه الآية تتكرر أضعاف الرقم (19)... فكلمة اسم تتكرر في القرآن الكريم كله بالضبط (19)... مرة.
وفي الوقت المناسب قبل انتهاء هذه المحاضرة سوف أشرح لماذا
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1

استعمل كلمة (اسم) وليس (بسم).. وسترون أن كلمة بسم لها جانب إعجازي خاص بها... وكلمة الله تتكرر في المصحف الشريف كله (2698) مرة، (142) ضعف الرقم (19)...، وكلمة الرحمة تتكرر (57) مرة.. 3 أضعاف الرقم (19).. وكلمة الرحيم تتكرر (114) مرة ستة أضعاف الرقم (19)...، وكما ترون فإننا هنا نتحدث عن حقائق مادية لا تقبل الجدال...
الحقيقة المادية الأولى: هي أن الآية القرآنية الأولى تتركب من (19) حرفا..، ولا يستطيع أحد أن يجادلك في صحة هذه الحقيقة.. والحقيقة المادية الثانية: هي أن كل كلمة من كلمات هذه الآية تتكرر في القرآن كله عددا من المرات هو دائما من مكررات الرقم (19)...، ماذا تعني هذه الحقائق؟ هذه الملاحظات التي تتميز بأنها عادية واقعية وليست تفسيرا أو تخمينا أو اجتهادا... ماذا تعني هذه الملاحظات؟ إن هناك ثلاثة احتمالات فقط تشرح لنا معنى هذه الحقائق القرآنية:
الاحتمال الأول: هو أن هذه الحقائق حدثت عن طريق الصدفة... عن طريق المصادفة البحتة...، ونستطيع بسهولة أن نرفض هذا الاحتمال..؛ لأن المصادفة تحدث مرة واحدة أو ربما مرتين...، ولكنها تحدث ثلاثة مرات... أو أربع مرات كما نرى هنا... فأنت إذا أمسكت بأي كتاب عادي... وقمت بعد الحروف في جملته الأولى.. فإن احتمال أن كلمة واحدة من كلمات هذه الجملة تتكرر في الكتاب كله عددا من المرات له علاقة بعدد حروف الجملة... هذا الاحتمال جائز... ممكن عن طريق الصدفة أن يحدث ذلك... أما أن تكون

كلمتان اثنتان من كلمات هذه الجملة تتكرران في الكتاب كله عددا من المرات هو من مضاعفات عدد حروف الجملة... فهذا احتمال ضعيف جدا... ونستطيع جميعا أن نتفق على أن احتمال تكرار ثلاث كلمات من كلمات الجملة الأولى في الكتاب كله بطريقة لها علاقة بعدد حروف الجملة.. هذا الاحتمال من قبيل المستحيل.. عن طريق المصادفة... ونحن هنا نرى أن كل كلمة في الآية القرآنية الأولى عدد مكرراتها في القرآن كله له علاقة مباشرة بعدد حروف الآية... الرقم (19)...
الاحتمال الثاني: هو أن سيدنا محمد هو الذي صمم القرآن وكتبه بهذه الطريقة الحسابية الخاصة...، وهذا طبعا ما يعتقده غير المسلمين..، إذ أنهم إذا علموا أو آمنوا بأن القرآن هو رسالة خالقهم إليهم جميعا لأصبحوا مسلمين..، وما يقوله هذا الاحتمال هو أن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم علوم الحساب المتقدم.. هذا الرجل الأمي الذي عاش في القرن السابع الميلادي قال لنفسه في يوم من الأيام: (إنني سأكتب كتابا كبيرا تتركب الجملة الأولى فيه من (19) حرفا.. وتتكرر كل كلمة من كلمات هذه الجملة في الكتاب كله عددا من المرات يكون من أضعاف الرقم (19) ...) ثم مضى هذا الرجل الأمي يكتب هذا الكتاب.. متبعا هذا التصميم.. على مدى (23) سنة. ويتبين لنا في الحال استحالة هذا الاحتمال وحماقته، ولو أصر المكابرون.. والكفار المعاندون.. على أن هذا الاحتمال ممكن.. وأن محمدا هو كاتب القرآن.. وأنه كتب القرآن بهذا التصميم الحسابي النادر الذي لم نره في أي كتاب آخر في التاريخ.. فإنه يمكننا سؤالهم: إذا كان سيدنا محمد رجلا دجالا..، وإذا كان هو

الذي كتب القرآن الكريم بهذا التصميم.. فلماذا لم يفتخر بين صحابته؟.. لماذا لم يجن ثمار جهوده أو يخبر أبناء جيله عن هذا المجهود العبقري الجبار؟ إن هذه الحقائق جميعها لم تكن معروفة قبل شهر يونيه.. حزيران.. (1975 م) الموافق لجمادى الثانية عام (1395 هـ).. إن جيلنا هذا هو الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يطلعه على هذه الحقائق الإعجازية.. كجزء من معجزة محمد الخالدة المستمرة..

الاحتمال الوحيد الذي يتبقى من دراسة هذه الظواهر القرآنية الإعجازية هو: أن الخالق القادر على كل شيء: الله سبحانه وتعالى هو كاتب القرآن الكريم، وليست هذه هي الحقيقة الوحيدة التي تتبين لنا من دراسة هذه الملاحظات المادية الملموسة... حقيقة أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر.. وأنه حقا وصدقا رسالة الخالق عز وجل إلى الناس كافة..، بل إن هناك حقيقة أخرى يجب أن نتذكرها وهي: أن القرآن الكريم وصل إلينا سالما محفوظا من أي تحريف أو تحوير أو زيادة أو نقصان.. فأنت عندما تقول: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } (1) كلمة الله هنا معدودة ومحسوبة ومصممة... إنها واحدة من الـ (2698) كلمات الله الموجودة في القرآن الكريم... وعندما تستمر قائلا: { اللَّهُ الصَّمَدُ } (2) كلمة الله هنا أيضا محسوبة وموضوعة في مكانها بإحكام الخلاق العليم سبحانه وتعالى.. إنها أيضا واحدة من (2698) لفظ الله... إذ إنه في خلال الأربعة عشر قرنا الماضية.. لو حدث أي تلاعب في كلمة واحدة مثل اسم... أو الله... أو الرحمة... أو الرحيم بزيادة أو نقصان أو تحريف... لأصبح عدد مكررات هذه الكلمات في
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2

القرآن الكريم لا يقبل القسمة على (19).. وتختفي بذلك هذه الظواهر القرآنية الحسابية الإعجازية..
هل للرقم (19) أي ذكر أو دلالة خاصة في القرآن الكريم نفسه؟ أي نعم. إننا نجد هذا الرقم في (سورة المدثر) آية رقم (30).. ونجد أن هذا الرقم قد ذكر بخصوص أولئك الذين يزعمون أن القرآن الكريم من قول البشر.. (آيات من سورة المدثر). هكذا نجد أن هذه الآيات الكريمة تقول: بأن أي شخص يقرر أن القرآن من قول البشر، هذا الشخص سيعاقب.. وسيكون عقابه تحت إشراف (19).. والتفسير القديم لهذا الرقم (19) هو أنهم حفظة جهنم..!! إلا أننا في ضوء المعلومات الجديدة التي نراها هنا لا بد من الوصول إلى تفسير جديد.. هذا التفسير الجديد لهذه الآية الكريمة... الآية 30 من سورة المدثر هو أن الـ (19) هي حروف البسملة... الآية الأولى في كتاب الله العظيم... ويؤيد هذا التفسير ما نكتشفه من مراجعة ترتيب نزول القرآن الكريم... فنحن جميعا نعلم أن سيدنا جبريل عندما جاء بالوحي لأول مرة.. فإنه أحضر لخاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام.. أحضر الآيات الأولى من سورة العلق.. { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } (1) وهذه السورة -على فكرة- هي رقم (19) من نهاية القرآن وتتركب من (19) آية، وفي المرة الثانية أحضر الروح الأمين الآيات القليلة الأولى من (سورة القلم).. { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } (2) وفي الزيارة الثالثة... جاء الوحي بـ(سورة المزمل).. الآيات القليلة الأولى...، وفي المرة الرابعة أحضر جبريل عليه السلام الآيات الأولى من (سورة المدثر).. حتى قوله تعالى:
__________
(1) سورة العلق الآية 1
(2) سورة القلم الآية 1

{ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } (1) لقد جاء الوحي الأمين بالتسعة عشر حرفا { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (2) بإجماع العلماء.. جاء سيدنا جبريل في المرة الخامسة بـ (سورة الفاتحة)... التي تبدأ بالتسعة عشر حرفا { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (3) وبإجماع العلماء كانت الفاتحة هي أول سورة كاملة يأتي بها سيدنا جبريل... بالإضافة إلى هذه الحقائق من ترتيب النزول التي تدل على أن الرقم (19) في (سورة المدثر) يرمز إلى التسعة عشر حرفا { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (4) فإن الآية التالية لآية { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } (5) تعلمنا أسباب اختيار الرقم (19) بكل وضوح... إذ تقول الآية (31) من (سورة المدثر): { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ } (6) تعني: أن الأسباب التي من أجلها اخترنا الرقم (19) هي خمسة أسباب:
السبب الأول: { فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } (7) أي: إزعاجا لهم.. ولا شك أن هذه الحقائق الإعجازية الكامنة في التسعة عشر حرف { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (8) سوف تزعج الكفار أيما إزعاج.
السبب الثاني: { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } (9) فهناك المسيحيون الطيبون واليهود الطيبون كما يخبرنا القرآن الكريم في الآية (113) من (سورة آل عمران)، وأهل الكتاب هؤلاء يرون أن القرآن الكريم كتاب عظيم لا غبار عليه، ولكنهم ليسوا متأكدين أنه كتاب من عند الله، فهذه الحقائق الكامنة في التسعة عشر سوف تساعدهم { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } (10) ليتأكدوا أن القرآن العظيم هو بالفعل رسالة الله إليهم... مصدقا لما بين يديهم ومهيمنا عليه...
__________
(1) سورة المدثر الآية 30
(2) سورة الفاتحة الآية 1
(3) سورة الفاتحة الآية 1
(4) سورة الفاتحة الآية 1
(5) سورة المدثر الآية 30
(6) سورة المدثر الآية 31
(7) سورة المدثر الآية 31
(8) سورة الفاتحة الآية 1
(9) سورة المدثر الآية 31
(10) سورة المدثر الآية 31

السبب الثالث: كما توضح الآية (31) من (سورة المدثر): { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } (1) فنحن نؤمن وقبل أن تتبين لنا هذه الحقائق الإعجازية: أن القرآن هو رسالة الله عز وجل للناس كافة... ولكن إيماننا لا شك يزداد ويقوى بظهور هذه المعجزات العظيمة.
السبب الرابع: { وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ } (2) بمحو أي آثار للشك أو الريبة فيما يتعلق بكون القرآن الكريم تنزيل من الرحمن الرحيم.
السبب الخامس: والأخير؛ لكشف المنافقين والكافرين وإظهار حقيقتهم المتعصبة العمياء.
وأخيرا فإن الآية (31) من (سورة المدثر) تقول لنا في نهايتها: { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } (3) إذن فالرقم (19) ليس عدد حراس جهنم.. ويجدر بنا أن نتقبل تفسيرا جديدا لهذا الرقم في ضوء هذه الحقائق الجديدة التي تتكشف لنا في القرآن العظيم.
__________
(1) سورة المدثر الآية 31
(2) سورة المدثر الآية 31
(3) سورة المدثر الآية 31

وبالرغم من أن هذه الحقائق الإعجازية تكفي لإثبات أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر.. فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الدليل المدعم لرسالته دامغا بما لا يدع إلا للمكابرين... إذ يتضح لنا أن هذه الحقائق ليست إلا جزءا ضئيلا من الإعجاز الحسابي المادي المرتبط بالآية القرآنية الأولى { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (1)
فالقرآن الكريم يتميز بخاصية هامة لا نجدها في أي كتاب آخر... هذه الخاصية هي وجود الحروف الغامضة أو الحروف النورانية المعروفة أيضا باسم فواتح السور ... نجد أن بالضبط نصف الحروف الأبجدية...
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1

أربعة عشر حرفا في تركيب أربع عشرة فاتحة من فواتح السور هي ق ون وص وطه ويس وحم والم والر وطسم وعسق والمر والمص وكهيعص ... وهذه الفواتح نحوها في (29) سورة ... (14) حرف يتركب منهم (14) فاتحة تتواجد في بداية (29) سورة... فإذا جمعنا (14 + 14 + 29) نجد المجموعة (57) ثلاثة أضعاف الرقم (19)، وسوف نجد الآن أن الرقم (19) هو القاسم المشترك الأعظم بين جميع فواتح السور بدون استثناء، وهنا أجد الفرصة المناسبة للحديث عن كلمة بسم وكلمة اسم فنحن إذا نظرنا إلى الآية القرآنية الأولى { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (1) نجدها تتكون من حروف نورانية.. وهي الحروف التي تشترك في تركيب فواتح السور... ماعدا الحرف (باء) فإنه ليس من الحروف النورانية، كما أننا نعلم أن كلمة (بسم) هي عبارة عن حرف الجر (باء) زائد كلمة (اسم)... ولولا أن الحرفين (باء) و (ألف) قد دمجا في حرف واحد لأصبح عدد حروف الآية (20) ليس (19). ولاختل كل هذا النظام...
ولما كان الحرف (ألف) هو الحرف الرسمي؛ لكونه من الحروف النورانية.. رغم عدم كتابته.. ولما كان حرف الباء ضروريا من أجل المعنى كان من اللازم النظر إلى مكررات كلمة (اسم) حيث نجدها بالضبط (19) وأيضا كلمة بسم حيث نجد عدد مكرراتها في المصحف الشريف (3)... ونجد أن حاصل ضرب (19 × 3) يساوي عدد الحروف النورانية مضافا إلى عدد الفواتح التي تدخل هذه الحروف في
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1

تركيبها مضافا إلى عدد السور ذات الفواتح (14+ 14+ 29= 19 ×3= 57) وهكذا نجد الربط الكامل التام بين { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (1) والحروف النورانية، فواتح السور...
فلننظر الآن إلى أحد هذه الفواتح.. ولنبدأ بالحرف (ق) إننا نجد هذا الحرف كفاتحة في (سورة ق) وفي (سورة الشورى)... وإذا عددت مكررات الحرف ق في (سورة ق) لوجدتها 57 (19× 3)... ثم إذا عددت مكررات الحرف ق في السورة الوحيدة الأخرى التي تحتوي على هذا الحرف كفاتحة وهي (سورة الشورى)... لوجدت أن هذه السورة رغم أنها أطول من سورة ق مرتين ونصف فإنها تحتوي على نفس العدد من الحرف ق 57 (19 × 3)...
وإذا جمعنا عدد مكررات الحرف ق في هاتين السورتين (57+ 57) فإن النتيجة تساوي عدد سور القرآن الكريم 114 (19 × 6) إذا كان الحرف (ق) يرمز إلى القرآن المجيد فإن هذه الظاهرة المادية الملموسة تقول لنا بوضوح: إن الـ (114) سورة هي القرآن... كل القرآن.. ولا شيء غير القرآن، من الذي صمم القرآن بهذه الطريقة؟
من الذي يمكن أن تتوفر لديه القدرة على معرفة توزيع الحروف الأبجدية في القرآن الكريم ومعرفة أن هناك سورتين فقط تحتويان على هذا العدد المتساوي، الذي يساوي مجموعه في السورتين بالضبط عدد سور القرآن؟ من الذي يمكنه أن يعرف ذلك حتى قبل اكتمال نزول القرآن؟ لا شك أن الإجابة واضحة... فالله وحده هو الذي علم ويعلم توزيع الحروف الأبجدية في رسالته وهو سبحانه الذي وضع هذه الحروف في
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1

أوائل بعض السور كرموز لهذه المعرفة التي لا يستطيعها أي مخلوق... وهو سبحانه الذي حفظ أسرار هذه الحروف لمدة أربعة عشر قرنا كمظهر من مظاهر استمرارية المعجزة القرآنية وخلودها... إذ يشاء الخالق عز وجل أن يكون جيلنا هو الجيل الذي يطلع على أسرار هذه الحروف... شاء سبحانه أن يكون هذا الزمان المادي هو الوقت الذي تنكشف فيه الدلائل المادية الملموسة الكامنة في هذه الحروف...
ولكي ندرك مدى الإحكام في التوزيع الحسابي لحروف القرآن دعنا ندرس آية قصيرة من آيات (سورة ق) -على سبيل المثال- وهي الآية رقم (13) { وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } (1) هذه آية قصيرة نقرأها ونمر بها عادة مر الكرام، ولكنها تحتوي معجزة قرآنية بينة، فإخوان لوط هؤلاء مذكورون في القرآن الكريم (12) مرة: في (سورة الأعراف) آية رقم (80)... في (سورة هود) الآيات (70 و 74 و 89)... في (سورة الحج) الآية رقم (43)... في (سورة الشعراء) آية (160).. في (سورة النحل) آية (54 و 56).. في (سورة العنكبوت) الآية (28)... في (سورة ص) آية رقم (13)... في (سورة ق) الآية رقم (13)... وفي (سورة القمر) آية رقم (33).. ونجد أن هؤلاء الناس الذين كذبوا لوطا يسمون في القرآن دائما: قوم لوط ، هذا هو الاستثناء الوحيد، نراهم يسمون: (قوم لوط... قوم لوط... قوم لوط)... ما عدا في (سورة ق) فإنهم يسمون: { وَإِخْوَانُ لُوطٍ } (2) وتستيطعون طبعا أن تتخيلوا ما يحدث لعدد مكررات الحرف (ق) في (سورة ق) لو أن التعبير قوم لوط استعمل بدلا من (إخوان لوط)... طبعا سيزداد عدد الحرف (ق) ويصبح
__________
(1) سورة ق الآية 13
(2) سورة ق الآية 13

(58) بدلا من (57).. والرقم (58) ليس من مكررات الرقم (19).. لا يقبل القسمة على (19)... كما أن هذا العدد (58) لن يساوي عدد الحرف (ق) في السورة الوحيدة الأخرى التي تفتتح بالحرف (ق) وهي (سورة الشورى) وبالإضافة إلى ذلك فإن مجموع الحرف (ق) في السورتين يصبح (115) وليس (114) عدد سورة+ القرآن الكريم...
وهكذا ترون بالدليل المادي الملموس أن تحريف كلمة واحدة يؤدي إلى اختلال واختفاء هذا النظام الحسابي المعجز الذي نراه في القرآن الكريم، والذي يكمن في الآية القرآنية الأولى { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (1) وفي الحروف النورانية فواتح السور... وترون بالدليل المادي الذي لا يقبل الشك أو الجدال أن أثناء الـ(1400) سنة الماضية.. لو حدث تحريف أو تحوير أو ضياع أو إضافة لكلمة واحدة... كلمة واحدة تحتوي الحرف (ق) مثل (ق).. (يقول). (قال)... (قوم)... تحريف كلمة واحدة مثل هذه في (سورة ق) أو في (سورة الشورى) يؤدي إلى اختلال هذا الميزان الإلهي الحساس...
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (2) صدق الله العظيم.
وهكذا ترون أن هناك حقيقتان واضحتان لا بد أن نذكرهما جيدا، وتظهران لنا من هذه الحقائق التي نلاحظها في القرآن:
أولا: أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر.
ثانيا: أن القرآن الكريم قد حفظ بقدرة الله وضمانه من أي تحريف أو
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1
(2) سورة الحجر الآية 9

تحوير أو ضياع أو إضافة؛ ليكون رسالة الخالق سبحانه وتعالى إلى الناس كافة.
أيها الإخوة والأخوات... هذه العلاقة الوثيقة المباشرة التي بين الحرف (ق) والرقم (19)، عدد حروف { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (1) تجدونها شاملة لجميع الحروف النورانية... فواتح السور... بدون استثناء..
إذا ننتقل الآن إلى الحرف (ن) نجد أن هذا الحرف تفتح به سورة واحدة في القرآن الكريم (سورة القلم) { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } (2) وإذا عددت مكررات الحرف (ن) في هذه السورة لوجدت العدد 133= (19 × 7)....
كذلك الحرف ص...، نحن نجد هذا الحرف كفاتحة في (سورة الأعراف) { المص } (3) وفي (سورة مريم) { كهيعص } (4) وفي (سورة ص)... ونجد أن مجموع مكررات الحرف (ص) في هذه السور الثلاث هو 152= (19 × 8)، وهنا يجدر بي أن أتوقف قليلا لأضرب مثالا آخر يوضح الإحكام العظيم في توزيع كل حرف من حروف القرآن الكريم... ففي سورة الأعراف... الآية رقم (69)... نجد التعبير وزادكم في الخلق بصطة ، ونجد أن كلمة بصطة مكتوبة بالصاد ليس بالسين... وكلنا نعرف أنه ليس في اللغة العربية كلها كلمة
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1
(2) سورة القلم الآية 1
(3) سورة الأعراف الآية 1
(4) سورة مريم الآية 1

(بصط) بالصاد... كما أن المعروف أن كلمة بصطة بالصاد... في هذه الآية (توقيفية)، ومعنى توقيفية: هي أن سيدنا جبريل عليه السلام عندما جاء بهذه الآية.. قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (قل لكتاب الوحي يكتبوا هذه الكلمة بالصاد وليس بالسين).. ومن الواضح الآن للجميع أهمية الحرف ص هنا... إذ لو كتبت كلمة (بسطة) بالسين كما نعرفها لأصبح مجموع مكررات الحرف ص في السور الثلاث (151) وهذا الرقم ليس من مكررات الرقم (19)... أي: أنه بتغيير حرف واحد نجد أن هذا الإحكام الحسابي المعجز يختل ويختفي وتصبح هذه الحروف النورانية عديمة المعنى وعديمة الدلالة.
وعندما ننتقل إلى فواتح السور المركبة من أكثر من حرف نلاحظ حقيقة قرآنية غاية في الإعجاز... إذ نجد أن هذه الحروف تتواجد في هذه السور -مكررات الرقم (19)- بل أيضا إذا عددت الحروف المتشابهة في السور ذات الفواتح المتشابهة فإنك تجد أن هذا العدد أيضا من مكررات الرقم (19)... أي: سواء كان الجمع أفقيا داخل السورة الواحدة... أو رأسيا شاملا لجميع السور التي تفتح بنفس الحرف... فإن المجموع في الحالتين من مكررات الرقم (19).
ولتوضيح هذه الظاهرة الإعجازية.. دعنا ننظر إلى الفاتحة طه نجد هذين الحرفين النورانيين في أول (سورة طه)، ونجد أن عدد مكررات الحرف (ط)+ عدد مكررات الحرف (هـ) يساوي (342)... (19× 18)... وأيضا إذا أضفت مجموع مكررات الحرف (ط) في جميع السور التي تبدأ بهذا الحرف وهي (سور طه، والشعراء، والنمل،

والقصص)... إلى مجموع مكررات الحرف هـ في السور التي تبدأ به وهي (سورتي مريم وطه)... فإنك تجد هذا المجموع (589) = (19 × 31)...
ومثال أخير لهذا التشابك الإعجازي تجده في (سورة يس)... إذا عددت الحرف (ي) والحرف (س) في هذه السورة تجد المجموع (ي) + (س) = (258) 00. (19 × 15) وفي نفس الوقت إذا أضفت مكررات الحرف (ي) في سورتي (مريم ويس) إلى مكررات الحرف (س) في جميع سوره، وهي: (الشعراء والقلم والقصص ويس والشورى)؛ لوجدت المجموع (969)00. (19× 15).. هذا الإحكام الذي يعجز عن الإتيان بمثله أي مخلوق نجده في جميع الحروف النورانية بدون استثناء { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (1) صدق الله العظيم.
وهكذا يشهد جيلنا.. كما شهدت الأجيال السابقة... وكما ستشهد الأجيال المستقبلة... معجزة دائمة مستمرة في القرآن الكريم... معجزة محمد الخالدة.
__________
(1) سورة هود الآية 1

مناقشة المحاضرة
:
اقتضت حكمة الله تعالى وعدله أن يرسل إلى عباده رسلا مبشرين ومنذرين؛ ليخرج بهم الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم، إنذارا إليهم وإقامة الحجة عليهم، قال الله تعالى:

{ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } (1) ومضت سننه التي لا تتبدل في تأييد رسله بالآيات والمعجزات الباهرات؛ ليستيقن من أرسل إليهم بصدقه في دعوى الرسالة، ولا يختلج في قلوبهم منها ريبة وتقوم عليهم الحجة، ويلزمهم قبول ما يوحى إلى الرسل من أصول الدين وفروعه.
ولرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كثير من المعجزات الحسية والروحية، إلا أن المعجزة الكبرى التي تحدى بها قومه هي القرآن ولا تزال الحجة به قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا بد أن تكون من وراء الأسباب العادية حتى لا تنالها قوى الخلق ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وبذلك يكون بها الإيمان والاطمئنان وبها التكليف والإلزام.
ولقد تحدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قومه بأمر يعرفون طريقه ولهم بجنسه عهد، بل نبغوا فيه، وبلغوا ذروته.
أولا: تحداهم بفصاحة القرآن وبلاغته وعلو أسلوبه وإحكامه ودقة تعبيره، ولذا تكلف بعض سفهاء الأحلام منهم أن يأتوا بسور خيل إليهم أنها على نمطه وشاكلته فأضحكوا على أنفسهم العقلاء، وأما ذوي العقل والرأي منهم، فأسلموا أنفسهم إلى العجز، وأيقنوا من قرارة نفوسهم أنه الحق، وأنه من عند الله لا من كلام البشر ولكن أكثرهم يجهلون فأبوا إلا الكفر أنفة واستكبارا.
ثانيا: تحداهم بتشريعه الكامل الموافق لمقتضى العقل والفطرة،
__________
(1) سورة النساء الآية 165

الهادي جميع البشر إلى سواء السبيل في جوانب الحياة كلها عقيدة وعبادة واقتصادا وسياسة وأدبا وأخلاقا مع بقائه كذلك صالحا لهداية العالم وإصلاحه في جميع جوانب الحياة إلى يوم القيامة.
ثالثا: تحداهم بما تضمنه القرآن من الأخبار الغيبية التفصيلية المسهبة، وبوقوف الرسول صلى الله عليه وسلم من إخوانه المرسلين السابقين موقف المصدق لهم، المبين لتحريف أقوامهم لشرائعهم، المعلن لخزاياهم وفضائحهم في خروجهم على أنبيائهم بيان الواثق بنفسه المؤمن بما أوحي إليه من ربه، وهو أمي عاش في أمة أمية، ومن أمته أهل الكتاب الذين فضحهم بسوء صنيعهم مع رسلهم وفي شرائعهم، ومع ذلك لاذوا بالصمت ولم يردوا عليه ما اتهمهم أو فضحهم به؛ تبرئة لأنفسهم، ودفعا للنقيصة والعار عنها، فكان ذلك إيذانا بأنه رسول الله الصادق الأمين، وأن ما جاء به إنما هو وحي من رب العالمين.
هذه جوانب الإعجاز القرآني المعهودة التي عرفها الصحابة وسلفنا الصالح وهي التي عرفها الكفار وعجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن من جهتها.
الإعجاز الحسابي الذي هول أمره المحاضر وجعله حقيقة مادية ملموسة، وهو لا يعدو أن يكون أمرا مبناه التقدير والاعتبار في الأعداد، وذلك مما يختلف فيه الناس، وكثير منه متكلف يلغي فيه صاحبه ما يختل معه حسابه، ويعتبر فيه ما ينتظم به حسابه؛ ليتم ما يريد من الخروج بظاهرة إعجاز جديدة وآية لم يعرفها الصحابة ولا العرب الأولون الذين تحداهم الله تعالى بالقرآن.

لا ينكر منصف أن يكون في القرآن جوانب أخرى من الإعجاز. وإنما ينكر العاقل الرشيد أن يكون منها ما ذكره الأستاذ خليفة واعتبره إعجازا حسيا ملموسا من عدد بعض الحروف وبعض الكلمات من بعض سور القرآن وحسابها، وجعل محور حسابها عدد حروف البسملة الـ (19) في نظره أو عدد كلماتها الأربع لما فيه من الفرض والتخمين، والخطأ الواضح، والتناقض البين، والاعتماد على أمر تقديري يزيد وينقص باعتبارات، فيختلف باعتبار النطق عنه باعتبار الخط ، ويختلف عند اعتبار الخط بعد الحرف المشدد حرفين أو حرفا.
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن تحزيب القرآن بالسور زمن النبي صلى الله عليه وسلم وتحزيبه بالتجزئة زمن عبد الملك بن مروان : (فإنه قد علم أن أول ما جزئ القرآن بالحروف تجزئة: ثمانية، وعشرين، وثلاثين، وستين، هذه التي تكون رءوس الأجزاء والأحزاب في أثناء السورة وأثناء القصة ونحو ذلك كان في زمن الحجاج وما بعده، وروي أن الحجاج أمر بذلك، ومن العراق فشا ذلك، ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك).
وإذا كانت التجزئة بالحروف محدثة من عهد الحجاج بالعراق، فمعلوم أن الصحابة قبل ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كان لهم تحزيب آخر، فإنهم كانوا يقدرون تارة بالآيات فيقولون: خمسون آية، ستون آية، وتارة بالسور، لكن تسبيعه بالآيات لم يروه أحد ولا ذكره أحد فتعين التحزيب بالسور،... ثم قال: وهذا الذي كان عليه الصحابة هو الأحسن لوجوه -ثم ذكر الوجه الأول والثاني- وقال: الثالث: إن التجزئة المحدثة لا سبيل فيها إلى التسوية بين حروف الأجزاء؛ وذلك لأن الحروف في النطق

تخالف الحروف في الخط، في الزيادة والنقصان يزيد كل منهما على الآخر من وجه دون وجه. وتختلف الحروف من وجه، وبيان ذلك بأمور:
أحدها : أن همزات الوصل ثابتة في الخط، وهي في اللفظ تثبت في القطع وتحذف في الوصل، فالعاد إن حسبها انتقض عليه بحال القارئ إذا وصل وهو الغالب فيها، وإن أسقطها انتقض عليه بحال القارئ القاطع وبالخط.
ويتبين ما في محاضرة الأستاذ رشاد من الخطأ والتخمين والتناقض بالوجوه الآتية:
الوجه الأول: إن البسملة خمس كلمات لا أربع، كما قال الأستاذ رشاد، إذ الباء فيها وهي كلمة ولم يعدها وهي في خط المصحف ومنطوق بها، وعد همزة الوصل في كلمة اسم وهي غير مخطوطة ولا ملفوظ بها، ليتم له ما يريد.
الوجه الثاني: إن العلماء اتفقوا على أن البسملة بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا فيما بعد ذلك: فقيل: إنها آية من كل سورة كتبت في أولها، وقيل: آية مستقلة كتبت عند أول كل سورة لا آية منها، وقيل: إنها آية من (سورة الفاتحة) فقط، وقيل: إنها ليست آية من القرآن، وإنما كتبت عند أوائل السور للفصل بينهما.
ثم على تقدير أنها آية من القرآن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم أنها أول آية نزلت وحدها مستقلة، ولا أنها أول آية نزلت مع (سورة الفاتحة)، ولا مع أول (سورة العلق أو المدثر)، ولم يصح في ذلك حديث، وكون شيء من الكلام آية من القرآن أو أول ما نزل منه ليس

مما يحكم فيه العقل، بل من الأمور التوقيفية التي لا مجال فيها للعقول.
وإذا لم يجتمع علماء الأمة على أن البسملة آية من القرآن، ولم يثبت نقلا أنها أول ما نزل من القرآن استقلالا أو مع غيرها منه- فكيف يجعل من هذا الاختلاف أصلا لإثبات ركن ركين في الدين وهو الرسالة، ويعتبر مكرر كل حرف من حروف فواتح السور في سورته مضاعفا له؛ ليجعل من ذلك دليلا على أن القرآن معجزة خالدة وأنه محفوظ إلى يوم القيامة لا يدخله تحريف ولا زيادة ولا نقصان؟!

الوجه الثالث : خطؤه في قوله: إن المراد بتسعة عشر في آية { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } (1) هو الحروف (19) التي اشتملت عليها آية البسملة، واعترف بأن هذا التفسير جديد، وأنه لا بد منه في ضوء المعلومات الجديدة، وأيده بأن { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (2) نزلت مع (سورة الفاتحة) كاملة عقب آية { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } (3) فدل ذلك على أن المراد بهذا الرقم حروف البسملة (19)، وهذا الذي اعتبره تحقيقا هو إلى الخرص والتخمين أقرب منه إلى التحقيق، فإنه بناه على نزول البسملة مع (الفاتحة) بعد آية { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } (4) وهذا يحتاج إلى إثبات، بل لم يثبت في حديث صحيح: أن البسملة نزلت مع الفاتحة، ولا أن نزولها أو نزول إحداهما كان عقب آية { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } (5) وعلى تقدير ثبوت هذا الترتيب لا يدل على ما زعمه في تفسيرها.
ثم زعم أن الآية التي بعدها اشتملت على أسباب اختيار هذا الرقم،
__________
(1) سورة المدثر الآية 30
(2) سورة الفاتحة الآية 1
(3) سورة المدثر الآية 30
(4) سورة المدثر الآية 30
(5) سورة المدثر الآية 30

وفيما ذكر خرص، وتخمين ينافي سياق الكلام (ثم هو تفسير لا يعرف في لغة العرب التي بها نزل القرآن)، والصحيح: أن المراد بتسعة عشر حفظة على النار من الملائكة، كما هو بين في نص الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } (1) الآية ، وهو التفسير الذي قاله العلماء قديما وحديثا، وهو الذي يجب المصير إليه دون سواه.
الوجه الرابع: ما وقع من الخطأ في عده بعض الكلمات في سور القرآن ومن الخطأ والتناقض في عده بعض الحروف في سوره أيضا، من ذلك قوله: الاعتماد في الحساب على عد الحروف اعتماد على أمر تقديري يزيد وينقص باعتبارات فيختلف باعتبار النطق عنه باعتبار الخط ويختلف عند اعتبار الخط بعد الحرف المشدد حرفين أو حرفا.
ثم قد يقع الخطأ في عد الكلمات أو الحروف، ومن ذلك ما حصل في ص (14) من المحاضرة فإنه قال فيها:
أ- إن عدد مكررات كلمة بسم في المصحف الشريف (3) والواقع أنها أكثر، إذ هي في كل من (سورة هود، والنمل، والحاقة، والعلق) مرة مرة وذكرت في (سورة الواقعة) مرتين، ثم نجد المحاضر بنى على تكرارها ثلاثا إعجازا قرآنيا عن طريق الحساب، فإذا ثبت خطؤه في العدد ثبت في الحكم بجعل ذلك معجزة فضلا عن كونها خالدة.
ب- ومن ذلك: أنه اعتبر الألف من كلمة (بسم) وهي غير منطوقة،
__________
(1) سورة المدثر الآية 31

ولا مكتوبة فيها حسب رسم المصحف ليتم له نظامه الحسابي الإعجازي وترك الباء وهي منطوق بها في البسملة ومكتوبة فيها في رسم المصحف وغيره، ولم يعتبر الحرفين جميعا؛ لئلا يختل العدد الذي يراد بناء النظام الحسابي الإعجازي عليه، وقد اعترف في نفس الموضع بهذا التحايل في اعتبار العدد والمعدود.
ج- ومن ذلك أنه أخطأ وتناقض في قوله ص (16) (إخوان لوط: هؤلاء مذكورون في القرآن (12) مرة...) إلى أن قال: (نجد أن هؤلاء الذين كذبوا لوطا يسمون في القرآن دائما قوم لوط، ماعدا في (سورة ق) فإنهم يسمون: (إخوان لوط) هذا هو الاستثناء الوحيد) اهـ.
والواقع أن كلمة لوط تذكر أحيانا وكلمة (قوم لوط) أو (آل لوط) أحيانا، وأن لفظ لوط ذكر في القرآن أكثر من اثنتي عشرة مرة، وليس شيء من هذه الكلمات بعينه ذكر في القرآن اثنتي عشرة مرة، فكلامه في هذه الصفحة جامع بين التناقض والخطأ في العدد والمعدود.
د - ومن ذلك أنه أخطأ في مكرر حرف نون في سورة القلم.
ومن ذلك أن مكرر حرف (ص) في كل من (سورة الأعراف ومريم وص) لا يقبل القسمة على (19) باعترافه، فاحتال باعتبار مجموع مكرر حرف (ص) في السور الثلاث مضاعفا؛ لئلا تختل قاعدته، ولا يخفى ما في هذا من التكلف، بل التلاعب في اعتبار مكرر الحرف في السورة مرة باستقلال وإهمال استقلاله واعتباره مع غيره مرة أخرى.
هـ- ومن ذلك قوله: إن كلمة بصطة من قوله تعالى في (سورة

الأعراف) وزادكم في الخلق بصطة مكتوبة بالصاد لا بالسين، وكلنا نعرف أنه ليس في اللغة العربية كلها كلمة بصط بالصاد ، كما أن المعروف أن كلمة بصطة بالصاد في هذه الآية توقيفية، ومعنى توقيفية هي: أن سيدنا جبريل عليه السلام عندما جاء بهذه الآية قال للنبي صلى الله عليه وسلم : قل لكتاب الوحي يكتبوا هذه الكلمة بالصاد وليس بالسين . . اهـ
ثم رتب على ذلك معجزة حسابية ترجع إلى عدد حروف (ص) في (سورة الأعراف).
وهذا الكلام خطأ من أوجه:
الأول: أن مادة بصط عربية كمادة بسط . ففي [ القاموس المحيط ]، البصط هو البسط في جميع معانيه.
الثاني: أن بصطة بالصاد قراءة سبعية، قرأ بها نافع وابن كثير وخير فيها قالون بين الصاد والسين.
الثالث: كون كتابتها بالصاد توقيفية بالخبر الذي ذكر يحتاج إلى إثبات وأنى له ذلك، فبناء إعجاز حسابي قرآني على ذلك يبعث في النفس ريبة، ويفتح ثغرة للملحدين وكل من يزعم أن القرآن من قول البشر لا وحي من عند الله؛ لبنائه على كذب واحتيال وتكلف وتخمين.
و- ومن ذلك استدلاله بعدم حدوث أي تلاعب في عدد كل من الكلمات الأربع - بسم - الله - الرحمن - الرحيم - في القرآن بزيادة أو نقصان أو تحريف، على أن القرآن وصل إلينا سالما محفوظا، ولا شك في أن

القرآن وصل إلينا سالما محفوظا، لكن الاستدلال على ذلك بما ذكره غير مسلم، إذ لا يلزم من سلامة هذه الكلمات الأربع من التحريف ومن الزيادة أو النقص في عددها عدم الزيادة أو النقص أو التحريف فيما سواها.
ثم على تقدير سلامة ما ذكره المحاضر من الأخطاء والتناقض لا يصح أن يعتبر أصلا في إثبات الرسالة، وأن القرآن وحي من عند الله؛ لأنه ميسور يمكن الحساب أن يأتوا بسورة، بل سور يتحرون فيها جوانب الحساب التي ذكرها المحاضر دون رعاية لجانب الفصاحة والتشريع وأنباء الغيب، كما يفعل من يذكر تاريخ ميلاد أو وفاة أو حادث في بيت من شعر أو نصف بيت ويتحرى فيه حروفا حسابها بالجمل يؤدي المطلوب، فهذا وأمثاله مما يدخل تحت الأسباب العادية ويقع في حدود طاقة البشر، فلا يصح أن يكون معجزة لنبي يتحدى بها أمته بما أنزل الله عليه من القرآن.

ونختم الحديث عن المحاضرة بأن المحاضر لم يكتف ببيان غرضه من محاضرته وهو إثبات إعجاز القرآن بطريقة رياضية حسابية جعل مفتاحها عدد حروف وكلمات - بسم الله الرحمن الرحيم -، بل زاد أمرين عد كلا منهما معجزة قرآنية، وافتتح بهما محاضرته فذكر:
أولا: أن قوله تعالى: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } (1) ... دليل على دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس وجعل إثبات ذلك بالقرآن معجزة خالدة.
وهذا خطأ، بل تحريف للقرآن عن مواضعه، وتفسير له بغير ما قصد
__________
(1) سورة النمل الآية 88

منه ودل عليه سياق الكلام، فإن الآية نزلت بيانا لأهوال يوم القيامة عند النفخ في الصور، بدليل قوله تعالى في الآية التي قبلها: { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } (1) ثم قال بعدها: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } (2) ونظير ذلك قوله تعالى في سورة الواقعة: { إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا } (3) { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا } (4) { فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } (5)
فتفسيرها بدوران الأرض لتكون معجزة، مخالف لسياق الكلام، وخروج بها عن نظائرها من آيات القرآن الواردة في نفس الموضوع، بل مخالف لظاهر الآية نفسها، فإن الدوران لا يقابل الجمود، بل الذي يقابل جمود الجبال وجعلها رواسي للأرض كونها هباء منبثا كالعهن المنفوش تطيرها الرياح فتمر مر السحاب بعد أن كانت أحجارا صلبة متماسكة مستقرة على الأرض أوتادا لها، فكيف يجعل الخطأ في بيان المراد من الآية معجزة يثبت بها أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله، وأن القرآن تنزيل من رب العالمين؟!
ثانيا: أن قوله تعالى في سورة يونس: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا } (6) الآية ، وقوله تعالى في سورة الفرقان: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا } (7) دليل على أن
__________
(1) سورة النمل الآية 87
(2) سورة النمل الآية 88
(3) سورة الواقعة الآية 4
(4) سورة الواقعة الآية 5
(5) سورة الواقعة الآية 6
(6) سورة يونس الآية 5
(7) سورة الفرقان الآية 61

نور القمر مستفاد من نور الشمس وذلك دليل على إعجاز القرآن.
وهذا استنباط باطل فإنه ليس في الآيتين دليل على ذلك، ولا فهم العرب منهما هذه النظرية العلمية، وهم أهل العربية، وأعرف باللغة التي بها نزل القرآن، وإعجاز القرآن لا يحتاج في إثباته إلى أمثال ما ذكر المحاضر، وكون نور القمر مستفاد من نور الشمس لا يتوقف ثبوته على القرآن، بل عرف من طريق آخر كحادث خسوف القمر المتكرر على مر الزمان، ومعرفة ذلك في متناول البشر؛ لكونه متصلا بعلم التسيير وهو من علم الفلك، فيعرفه من له دراية بعلم الفلك، فكيف يجعل ذلك دليلا تثبت به الرسالة وإعجاز القرآن؟!
مناقشة ما نشرت له جريدة (اليوم السعودية)
في عددها رقم (6399) وتاريخ 12\ 1\ 1399م:
1 - الآية القرآنية الأولى { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (1) (19) حرفا ليست البسملة أول آية نزلت من القرآن، بل اختلف في أنها من القرآن إلا في (سورة النمل)، وليست (19) حرفا كما تقدم.
2 - كل كلمة في هذه الآية تتكرر في القرآن الكريم عددا من المرات، هو دائما من مكررات الرقم (19):
أ- كلمة اسم تتكرر في المصحف الشريف (19).
ب- كلمة الله تتكرر في المصحف (2698) مرة = (19 ×142).
ج- كلمة الرحمن تتكرر في المصحف (57) مرة = (19 × 3).
د- كلمة الرحيم تتكرر في المصحف (114) مرة = (19 × 6).
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1

ليس كل كلمة في البسملة ذكرت في القرآن 19 مرة، ولا مضاعفا للعدد (19)، فإن من كلماتها اسم و الرحيم لا تذكر كل منهما (19) مرة ولا مضاعفا لهذا العدد.
3 - رغم غياب البسملة من سورة التوبة فإن القرآن الكريم يحتوي على (114) بسملة؛ لأن سورة النمل فيها بسملتان.
4 - في كون البسملة من القرآن خلاف إلا في (سورة النمل) فهي منه، وما كان مختلفا فيه لا يبنى عليه إعجاز يثبت به ركن من أركان الإسلام.
5 - أول ما جاء به الوحي الأمين جبريل عليه السلام ونزل به على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كان (19) كلمة.
ليس أول ما نزل (19) كلمة، بل عشرين كلمة.
6 - الـ (19) كلمة من (سورة العلق) التي نزل بها جبريل عليه السلام من (76) حرف (19 × 4) طبقا للرسم العثماني الأصلي للقرآن الكريم. ليست الكلمات التي نزلت من سورة العلق (19) حرفا ولا مضاعفا لها.
7 - سورة العلق أول ما نزل من القرآن، هي السورة رقم ( 19) من الخلف وليست (سورة العلق) أول ما نزل من القرآن، وإنما أول ما نزل منه خمس آيات من أولها فقط، ثم ترتيب السور مختلف فيه. فقيل: توقيفي، وقيل: باجتهاد عثمان ووافقه عليه الصحابة رضي الله عنهم، وهناك مصاحف أخرى تختلف عن مصحف عثمان في الترتيب، وعلى كل حال فالمعروف عد السور من الفاتحة ثم البقرة . . . وهكذا، وليست سورة العلق (19) في الترتيب ولا مكررا له بهذا الاعتبار.
8 - في ترتيب نزول الوحي نزلت الآية القرآنية { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (1)
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1

مباشرة عقب الآية القرآنية { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } (1) من سورة المدثر . . والتي تعلمنا أن تسعة عشر فيها الإجابة الشافية على كل من يقول: { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } (2)
ترتيب النزول إنما يعرف بالنقل الصحيح لا بالعقل، ولم يثبت أن البسملة نزلت عقب نزول آية { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } (3) وعليه لا يكون في ذلك رد على من يقول: إن القرآن من قول البشر، وعلى تقدير صحة ذلك لا يدل على أن المراد بكلمة -تسعة عشر- حروف البسملة كما لا يعتبر ردا على من يقول: إن هذا إلا قول البشر، ثم الاعتماد على هذا وأمثاله يفتح بابا للتهجم على القرآن والاستهتار به.
9 - الحروف القرآنية: (فواتح السور) (ق، ن، ص، يس، حم، الم... إلخ) تتكرر في سورها دائما عددا من المرات هو من مكررات العدد (19) ويمكن لأي شخص أن يكتشف هذه الحقائق بنفسه.
فمثلا على الحرف (ق)، في (سورة ق)= 57= 19 × 3
وعن الحرف (ق)، في (سورة الشورى)= 57 = 19 × 3
وعن الحرف (ن)، في (سورة القلم)= 133- 19 × 7
وعدد الحرف (ص)، في سوره الثلاث (ص، مريم، الأعراف)، أي: المجموع في السور الثلاث 152= 19 × 8
وهكذا الحال في جميع الفواتح بدون استثناء.
انتقض ما ذكره في سور مما مثل به كسورة القلم، وكل من سورة ص ومريم والأعراف على حدة؛ ولهذا احتال بجمع الحرف ص في السور الثلاث ليوافق ما أراد.
__________
(1) سورة المدثر الآية 30
(2) سورة المدثر الآية 25
(3) سورة المدثر الآية 30

مما تقدم من المناقشات يتبين أن ما ذكره الدكتور رشاد خليفة في محاضرته وسماه معجزة محمد الخالدة، وما نشرته له جريدة (اليوم السعودية) وسماه معجزة قرآنية مذهلة لا يصلح أن يكون معجزة تثبت بها الرسالة والصدق في دعوى النبوة؛ لما فيه من الخطأ والتناقض، ولأنه على فرض سلامته من ذلك فهو في متناول القوى البشرية، لإمكان اكتسابه عن طريق الأسباب العادية، فيستطيع البشر أن يأتوا بمثله فرادى وجماعات، أما المعجزات فسمتها التي تتميز بها عن المخترعات عجز البشر -على أي حال كانوا- عن أن يأتوا بمثلها؛ لكونها من وراء الأسباب العادية.
وعلى هذا لا يصح أن يقال: إن كتابة القرآن حسب قواعد الإملاء ينافي معجزة القرآن الرياضية الحسابية، بل الذين يمنعون ذلك يبنون رأيهم على أسباب أخرى ذكرناها في بحث خاص بذلك.
والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

كلمة تحذيرية حول إنكار رشاد خليفة للسنة المطهرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فالداعي لكتابة هذه الكلمة أنه ظهر في مدينة توسان التابعة لولاية أريزونا بأمريكا شخص يدعى رشاد خليفة مصري الأصل أمريكي الجنسية يقوم بالدعوة على أساس بعيد عن الإسلام، وينكر السنة، وينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحرف كلام الله بما يناسب مذهبه الباطل.
والمذكور ليس له علم بأصول الشريعة الإسلامية؛ إذ هو يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة الزراعية مما لا يؤهله للقيام بالدعوة إلى الله على وجه صحيح، وقد قام بالتغرير ببعض المسلمين الجدد والسذج من العامة باسم الإسلام في الوقت الذي يحارب فيه الإسلام بإنكاره السنة والتعاون مع المنكرين لها قولا وفعلا، فقد سجل في إذاعة ليبيا أثناء زيارته لها عام 1399 هـ أحاديث إذاعية، ولما سئل من قبل أحد أساتذة الجامعة الليبية قبيل صعوده للطائرة عن رأيه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم . أجاب باختصار: نظرا لضيق الوقت قائلا: (الحديث من صنع إبليس).
ومن أقواله التي توضح رفضه للسنة وتأويله القرآن الكريم رأيه ما يلي:
1 - قوله: إنه لا يجوز رجم الزاني أو الزانية، سواء كانا محصنين أو غير محصنين؛ لأن ذلك لم يرد في القرآن.
2 - تبجحه بصورة مستمرة بما يروى (لا تكتبوا عني سوى القرآن) أنه لا تجوز كتابة الأحاديث.

3 - استدلاله على ما ذهب إليه من أنه لا حاجة للسنة ولا لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن بقوله تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (1) وقوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } (2) 4 - ادعاؤه أن الأخذ بالسنة وكتابتها وجمع الأحاديث في القرنين الثاني والثالث كان سببا في سقوط الدولة الإسلامية.
5 - عدم التصديق بالمعراج وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد في الصلاة؛ لأن العرب قد توارثوها بهذه الكيفية المعهودة عن جدهم إبراهيم عليه السلام.
6 - له تأويلات في كيفية كتابة الحروف المقطعة الواردة في أول السور، ويقول: هذه ليست الكتابة الصحيحة لها ففي قوله تعالى: الم يجب أن تكتب هكذا (ألف لام ميم)، وقوله تعالى: { ن } (3) يجب أن تكتب هكذا (نون)، وغير ذلك من الآراء الباطلة التي يفرق بها كلمة المسلمين مع ما فيها من محادة لله ورسوله.
لذا فقد رأيت من الواجب توضيح أمره وكشف حقيقته للمسلمين؛ لئلا يغتر أحد بكلامه أو ينخدع بآرائه، وحتى يكون الجميع على معرفة بمكانة السنة المطهرة.
فلا يخفى على كل مسلم أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي المصدر الثاني للتشريع، وقد أجمع على ذلك سلف الأمة وعلماؤها، وقد حفظ الله سنة
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) سورة مريم الآية 64
(3) سورة القلم الآية 1

نبيه صلى الله عليه وسلم كما حفظ كتابه فقيض لها رجالا مخلصين وعلماء عاملين وهبوا نفوسهم وكرسوا حياتهم لخدمتها وتمحيصها وتدقيقها ونقلها بأمانة وإخلاص، كما نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تغيير لا في المعنى ولا في اللفظ.
ولم يزل أهل العلم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يؤمنون بهذا الأصل العظيم ويحتجون به ويعلمونه الأمة ويفسرون به كتاب الله، وقد ألفوا فيه المؤلفات الكثيرة وأوضحوا ذلك في كتب الأصول والفقه، وقد جاء في كتاب الله تعالى الأمر باتباع الرسول وطاعته حتى تقوم الساعة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المفسر لكتاب الله، والمبين لما أجمل فيه بأقواله وأفعاله وتقريره، ولولا السنة لم يعرف المسلمون عدد ركعات الصلوات وصفاتها وما يجب فيها، ولم يعرفوا تفصيل أحكام الصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات والمحرمات وما أوجب الله فيها من حدود وعقوبات.
ومما ورد في ذلك من الآيات قوله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (1) وقوله تعالى في سورة النساء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (2) وقوله جل ثناؤه: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } (3)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 132
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 80

وقال تعالى: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (1) وقال عز وجل: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (2)
فهذه الآيات وغيرها جعلت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله ومتممة لها، وأناطت الهدى والرشاد والرحمة باتباع سنته وهديه صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك مع عدم العمل بها وإنكارها والقول بعدم صحتها.
وأن ما تفوه به رشاد خليفة من إنكار السنة والقول بعدم الحاجة إليها كفر وردة عن الإسلام؛ لأن من أنكر السنة فقد أنكر الكتاب ومن أنكرهما أو أحدهما فهو كافر بالإجماع، ولا يجوز التعامل معه وأمثاله، بل يجب هجره والتحذير مع فتنته وبيان كفره وضلاله في كل مناسبة حتى يتوب إلى الله من ذلك توبة معلنة في الصحف السيارة؛ لقول الله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (3) { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (4)
وقد ذكر الإمام السيوطي رحمه الله كفر من جحد السنة في كتابه المسمى [مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة]، فقال: ( اعلموا رحمكم الله أن
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) سورة النور الآية 56
(3) سورة البقرة الآية 159
(4) سورة البقرة الآية 160

من أنكر أن كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة - كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة ) انتهى المقصود.
هذا ما أردت إيضاحه والتنبيه عليه من أمر هذا الرجل براءة للذمة، ونصحا للأمة. وأسأل الله أن يهدينا وإياه صراطه المستقيم، وأن يعصمنا وجميع إخواننا المسلمين من الضلال بعد الهدى ومن الكفر بعد الإيمان، كما أسأله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويكبت أعداء شرعه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز

خطاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة سعادة أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي سلمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فحيث يوجد في مدينة ( توسان ) التابعة لولاية ( أريزونا ) مسجد يشرف عليه شخص يدعى ( رشاد خليفة ) مصري الأصل، أمريكي الجنسية، يقوم فيه بالدعوة الإسلامية على أساس بعيد عن الإسلام؛ لإنكاره السنة، واستنقاصه من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بما ثبت لدينا من التقارير بحقه من عدة جهات والتي ملخصها ما يلي: 1 - أن المذكور يقيم في مدينة ( توسان ) بولاية ( أريزونا ) إحدى الولايات المتحدة الأمريكية، ويحمل الدكتوراه في الهندسة الزراعية، مما لا يؤهله للقيام بالدعوة إلى الله على وجه صحيح، بل إن دعوته للإسلام يظهر منها المخادعة، والتغرير بالمسلمين الجدد، والسذج من العامة باسم الإسلام، في الوقت الذي هو يحارب الإسلام بإنكار السنة، وتعاونه مع المنكرين لها قولا وفعلا أمثال ( محمد علي اللاهوري ) وغيره، وقد قامت حوله ضجة علمية حول اكتشافه سر إعجاز القرآن حسب زعمه.
2 - في زيارته لليبيا عام 1399 هـ سجل في إذاعتها أحاديث، ووجد من يستمع إليه حول رأيه في السنة المطهرة، بل إنه حينما سئل من قبل أحد

أساتذة الجامعة، قبل صعوده للطائرة عن رأيه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب باختصار نظرا لضيق الوقت قائلا: (الحديث من صنع إبليس).
ومن مواقفه التي توضح رفضه للسنة، وتأويل القرآن الكريم حسب ما يراه:
أ- قوله: إنه لا يجوز رجم الزاني أو الزانية، سواء كانا محصنين أو غير محصنين؛ لأن ذلك لم يرد في القرآن.
ب- تبجحه بصورة مستمرة بما يرويه (لا تكتبوا عني سوى القرآن)، ليثبت أنه لا تجوز كتابة الأحاديث.
ج- استدلاله على ما ذهب إليه من أنه لا حاجة للسنة، ولا لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن بقوله تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (1) وقوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } (2)
د- ادعاؤه أن الأخذ بالسنة وكتابتها، وجمع الأحاديث في القرنين: الثاني والثالث كان سببا في سقوط الدولة الإسلامية.
هـ - عدم التصديق بالمعراج، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد في الصلاة؛ لأن العرب قد توارثوها بهذه الكيفية المعهودة عن جدهم إبراهيم.
و- له تأويلات في كيفية كتابة الحروف المقطعة الواردة في أول السور، ويقول: هذه ليست هي الكتابة الصحيحة لها، وفي قوله تعالى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) سورة مريم الآية 64

الم يجب أن تكتب هكذا (ألف لام ميم)، وقوله تعالى: { ن } (1) يجب أن تكتب هكذا (نون) وغير ذلك من الشطحات التي يفرق بها كلمة المسلمين مع ما فيها من محادة لله ورسوله.
لذا فقد رأينا من واجبنا توضيح أمره وكشف حقيقته، لوقف التعامل معه، والتنبه لمغالطاته، وبراءة للذمة، ونصحا لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، راجيا تعميم كتابنا هذا على منسوبيكم والجهات ذات العلاقة، أعانكم الله على كل خير، وجعلنا وإياكم من أنصار السنة والكتاب، ومن دعاة الخير على بصيرة، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة القلم الآية 1

(4)
التقادم في مسألة وضع اليدهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

التقادم في مسألة وضع اليد
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
بناء على الخطاب رقم 1994\ 2 وتاريخ 10\ 10\ 1398 هـ الموجه من سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى سماحة رئيس الدورة الثالثة عشرة وأعضاء المجلس بخصوص اقتراح دراسة التقادم في مسألة وضع اليد، وبناء على موافقة المجلس في الدورة الثالثة عشرة على إدراج هذا الموضوع ضمن المسائل التي تبحث في الدورة الرابعة عشرة، وأن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تكتب بحثا في ذلك.
فقد جمعت ما يسر الله في ذلك تحت العناصر الآتية:
1 - الأسباب الشرعية لنقل الملكية مع الأدلة إجمالا.
2 - أدلة تحريم الاعتداء على أموال الناس .
3 - تعريف الحيازة.
4 - موضوع البحث.
5 - ذكر آراء الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم وشروط ذلك مع الأدلة

والتعليل والمناقشة .
وفيما يلي الكلام عليها بالقدر الذي تيسر وسنختم البحث بملخص مختصر تقريبا للموضوع .

أولا : الأسباب الشرعية لنقل الملكية مع الأدلة إجمالا :
من قواعد الشريعة أن نقل الملكية من المالك الشرعي لا يعتبر إلا إذا كان بسبب من الأسباب الشرعية ؛ كالبيع والهبة والوصية والميراث والشفعة والحيازة والتقادم عند من يقول بذلك على ما سيأتي تفصيله .
وفيما يلي بيان هذه الأسباب باختصار مع الأدلة .
أ- البيع : ومن أدلته قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } (1)
ب- الهبة بلا شرط : فإن كانت بشرط عوض فهي بيع وتدخل في عموم السبب الأول ، ودليل الهبة قوله صلى الله عليه وسلم : « العائد في هبته كالعائد في قيئه » (2) ، وفي لفظ : « فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه يقيء ثم يعود فيه » (3) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما .
ج- الوصية : ومن أدلتها قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } (4) ثم أخرج الوارث بقوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث » (5) (6) .
د- الميراث : ومن أدلته قوله صلى الله عليه وسلم : « ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2478),صحيح مسلم الهبات (1622),سنن الترمذي البيوع (1298),سنن النسائي الرقبى (3710),سنن أبو داود البيوع (3538),سنن ابن ماجه الأحكام (2385),مسند أحمد بن حنبل (1/250).
(3) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2449),صحيح مسلم الهبات (1622),سنن الترمذي البيوع (1298),سنن النسائي الهبة (3704),سنن أبو داود البيوع (3538),سنن ابن ماجه الأحكام (2385),مسند أحمد بن حنبل (1/237).
(4) سورة البقرة الآية 180
(5) سنن أبو داود الوصايا (2870),سنن ابن ماجه الوصايا (2713).
(6) الفتح الكبير ، ( 3\197 ) .

فلأولى رجل ذكر » (1) .
هـ- الشفعة : ومن أدلتها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ( جعل ) وفي لفظ : « قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة له » (2) . أخرجه البخاري وغيره .
و- الحيازة والتقادم عند من يقول بذلك : ومما استدل به لذلك ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من حاز شيئا عشر سنين فهو له » ، وفي رواية أخرى : « من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به » (3) ، وفي رواية ثالثة : « من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به منه » (4) ، وقد ذكر الفقهاء أسبابا أخرى تركنا ذكرها اختصارا ؛ لأن البحث لا يتوقف على ذكرها .
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6356),صحيح مسلم الفرائض (1615),سنن الترمذي الفرائض (2098),سنن أبو داود الفرائض (2898),سنن ابن ماجه الفرائض (2740),مسند أحمد بن حنبل (1/292).
(2) صحيح البخاري الشفعة (2138),صحيح مسلم المساقاة (1608),سنن الترمذي الأحكام (1370),سنن النسائي البيوع (4701),سنن أبو داود البيوع (3514),سنن ابن ماجه الأحكام (2499),مسند أحمد بن حنبل (3/399),سنن الدارمي البيوع (2628).
(3) [شرح الخطاب] ، ( 6\229 ) .
(4) [تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك] ، ( 2\362 ، 363 ) .

ثانيا : أدلة تحريم الاعتداء على أموال الناس :
سبق في الأمر الأول ذكر جملة من الأسباب الشرعية لنقل الملكية من المالك الشرعي ، ونقل الملك بدون سبب شرعي لا يجوز ؛ لأنه من الاعتداء على أموال الناس ، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الاعتداء على أموال الناس بغير حق .
وفيما يلي ذكر بعض الأدلة :
أ- من أدلة الكتاب : قوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 188

وجه الدلالة : أن الآية اشتملت على النهي عن أكل الأموال بالباطل ، والنهي يقتضي التحريم فيكون أكلها محرما .
قال القرطبي : والمعنى : لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق ، فيدخل في هذا : القمار ، والخداع ، والغصوب ، وجحد الحقوق ، وما لا تطيب به نفس مالكه وحرمته الشريعة . وإن طابت به نفس مالكه ؛ كمهر البغي ، وحلوان الكاهن ، وأثمان الخمور ، والخنازير ، وغير ذلك . . إلى أن قال : وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه كما قال : تقتلون أنفسكم ، وقال أيضا : « من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل » (1) .
ب- من أدلة السنة : قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع : « إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا » (2) إلخ الخطبة .
وقد أخرجها مسلم وأبو داود وغيرهما . وهذا النص واضح في تحريم أموال الناس بعضهم على بعض .
ج- أما الإجماع : فقد ذكره القرطبي في أثناء الكلام على الآية السابقة .
__________
(1) [تفسير القرطبي] ، ( 2\331 ) .
(2) صحيح البخاري الحج (1693),صحيح مسلم الحج (1218),سنن الترمذي الحج (856),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).

ثالثا : تعريف الحيازة :
للحيازة معنيان : لغوي ، واصطلاحي ، وفيما يلي بيان كل منهما :
أ- معنى الحيازة : لغة :
1 - قال أحمد بن فارس بن زكريا : ( حوز ) الحاء والواو والزاي أصل

واحد ، وهو الجمع والتجمع ، يقال لكل مجمع وناحية : حوز وحوزة ، وحي فلان الحوزة أي : المجمع والناحية .
وكل من ضم شيئا إلى نفسه فقد حازه حوزا . انتهى المقصود (1) .
2 - وقال الفيروزآبادي : ( الحوز ) الجمع ، وضم الشيء بالحيازة والاحتياز . انتهى (2) .
3 - وقال ابن منظور : وقال سيبويه : هو تفعيل من حزت الشيء والحوز من الأرض أن يتخذها الرجل ويبين حدودها فيستحقها ولا يكون لأحد فيها حق معه فذلك الحوز . والحوز الجمع ، وكل من ضم شيئا إلى نفسه من مال وغير ذلك فقد حازه حوزا وحيازة وحازه إليه واحتازه إليه . . . إلى أن قال ابن منظور : حازه ليحوزه إذا قبضه وملكه واستبد به . . . إلى أن قال : وحزت الأرض إذا أعلمتها وأحييت حدوده . انتهى المقصود (3) .
ب- معنى الحيازة : اصطلاحا :
يقول الدردير : هي وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه والتصرف يكون بواحد من أمور مسكن وإسكان وزرع وغرس أو بيع وهدم وبناء وقطع شجر وعتق وكتابة ووطء في رقيق (4) ، وجاء هذا المعنى في النقول عن المذاهب الأخرى على ما يأتي تفصيله .
__________
(1) [معجم مقاييس اللغة] ، ( 2\ 117 ، 118 ) .
(2) [القاموس] ، ( 2\172 ) .
(3) [لسان العرب] ، ( 7\205 ) وما بعدها .
(4) [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير] ، ( 4\207 ) .

رابعا : موضوع البحث :
شيء معين طالت مدته بيد إنسان وليس لديه إثبات لملكيته سوى طول المدة وادعى إنسان آخر ملكيته ولديه ما يثبت أنه كان ملكا له بوسيلة من وسائل الملك الشرعية ، فهل يحكم به لمن طالت مدة وجوده عنده وهو يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم مع عدم وجود مانع شرعي يمنع من بيده البينة من القيام على من بيده الملك ومطالبته به ؟

خامسا : ذكر آراء الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم وشروط ذلك مع الأدلة والتعليل والمناقشة .
تمهيد : هذا العنصر هو أهم عناصر الموضوع ، وبتتبع اللجنة لما ذكره علماء الفقه الإسلامي وجدت أنهم خدموه خدمة واسعة ودقيقة اشتملت على تفصيل ما يوضحه من الأقوال ومداركها ومناقشة هذه المدارك مع ذكر الشروط المشترطة .
وقد ذكرت اللجنة جملة من النقول في ذلك عن المذاهب الأربعة بدون تصرف فيها ليطلع أعضاء المجلس على كلام العلماء ، وسيكون ترتيب ذكر النقول على حسب الترتيب الزمني للمذاهب الأربعة ، فنذكر النقول عن المذهب الحنفي ثم المالكي ثم الشافعي ثم الحنبلي ، ونذكر أمام كل مذهب تمهيدا يعطي صورة مختصرة له :

1 -

النقول عن المذهب الحنفي
تمهيد : الحنفية يبنون القول بإثبات الملكية بالتقادم على الاجتهاد ، ومدته ست وثلاثون سنة وعلى الأمر السلطاني ، فيحدد المدة التي لا تسمع الدعوى بعدها ، وهذه المدة لا يمكن ضبطها نظرا لاختلاف السلاطين

واختلاف اجتهاد السلطان نفسه ، فقد تكون المدة خمس عشرة سنة ، وقد تكون عشر سنوات ، وقد تكون أقل من ذلك على ما يأتي تفصيله في النقول ، وقد وقع اختيار اللجنة على ثلاثة نقول من [الدر المختار وشرحه] ، ومن [مجلة الأحكام العدلية وشرحها] ، والثالث من [مرشد الحيران وشرحه] ، وقد ذكرناها على هذا الترتيب :
أ- جاء في [الدر المختار ورد المحتار] :
( قوله : بعد خمسة عشر سنة ) المناسب خمس عشرة بتذكير الأول وتأنيث الثاني ؛ لكون المعدود مؤنثا وهو سنة ، وأجاب ط : بأنه على تأويل السنة بالعام أو الحول ( قوله فلا تسمع الآن بعدها ) أي : لنهي السلطان عن سماعها بعدها فقد قال السيد الحموي في [حاشية الأشباه] : أخبرني أستاذي شيخ الإسلام يحيى أفندي الشهير بالنقاري : أن السلاطين الآن يأمرون قضاتهم في جميع ولاياتهم أن يسمعوا دعوى بعد مضي خمس عشرة سنة سوى الوقف والإرث . اهـ .
ونقل في [الحامدية] ، فتاوى من المذاهب الأربعة بعدم سماعها بعد النهي المذكور ، لكن هل يبقى النهي بعد موت السلطان الذي نهى بحيث لا يحتاج من بعده إلى نهي جديد أفتى في الخيرية بأنه لا بد من تجديد النهي ولا يستمر النهي بعده ، وبأنه إذا اختلف الخصمان في أنه منهي أو غير منهي فالقول للقاضي ما لم يثبت المحكوم عليه النهي ، وأطال في ذلك وأطاب فراجعه ، وأما ما ذكره السيد الحموي أيضا من أنه قد علم من عادته - يعني : سلاطين آل عثمان - نصرهم الرحمن - من أنه إذا تولى سلطان عرض عليه قانون من قبله وأخذ أمره باتباعه فلا يفيد هنا ؛ لأن معناه : أن يلتزم قانون

أسلافه بأن يأمر بما أمر به وينهى عما نهوا عنه ، ولا يلزم منه أنه إذا ولى قاضيا ولم ينهه عن سماع هذه الدعوى أن يصير قاضيه منهيا بمجرد ذلك ، وإنما يلزم منه أنه إذا ولاه ينهاه صريحا ؛ ليكون عاملا بما التزمه من القانون ، كما اشتهر أنه حين يوليه الآن يأمره في منشوره بالحكم بأصح أقوال المذهب كعادة من قبله ، وتمام الكلام على ذلك في كتابنا [تنقيح الحامدية] ، فراجعه ، وأطلنا الكلام عليه أيضا في كتابنا [تنبيه الولاة والحكام] .
( قوله : إلا في الوقف والإرث ووجود عذر شرعي ) استثناء الإرث موافق لما مر عن الحموي ، ولما في [الحامدية] عن فتاوى أحمد أفندي المهمنداري مفتي دمشق أنه كتب على ثلاثة أسئلة أنه تسمع دعوى الإرث ولا يمنعها طول المدة ، ويخالفه ما في الخيرية حيث ذكر أن المستثنى ثلاثة : مال اليتيم والوقف والغائب ، ومقتضاه : أن الإرث غير مستثنى فلا تسمع دعواه بعد هذه المدة ، وقد نقل في [الحامدية] ، عن المهمنداري أيضا أنه كتب على سؤال آخر فيمن تركت دعواها الإرث بعد بلوغها خمس عشرة سنة بلا عذر أن الدعوى لا تسمع إلا بأمر سلطاني ، ونقل أيضا مثله فتوى تركية عن المولى أبي السعود وتعريبها : إذا تركت دعوى الإرث بلا عذر شرعي خمس عشرة سنة فهل لا تسمع ؟
الجواب : لا تسمع إلا إذا اعترف الخصم بالحق .
ونقل مثله شيخ مشايخنا التركماني عن فتاوى علي أفندي مفتي الروم ، ونقل مثله أيضا شيخ مشايخنا السائحاني عن فتاوى عبد الله أفندي مفتي الروم ، وهذا الذي رأينا عليه عمل من قبلنا ، فالظاهر : أنه ورد نهي جديد

بعدم سماع دعوى الإرث . والله سبحانه أعلم .
( تنبيهات ) الأول : قد استفيد من كلام الشارح أن عدم سماع الدعوى بعد هذه المدة إنما هو للنهي عنه من السلطان فيكون القاضي معزولا عن سماعها ؛ لما علمت من أن القضاء يتخصص ؛ فلذا قال : إلا بأمر ، أي : فإذا أمر بسماعها بعد هذه المدة تسمع ، وسبب النهي قطع الحيل والتزوير فلا ينافي ما في [الأشباه] ، وغيرها من أن الحق لا يسقط بتقادم الزمان . اهـ . ولذا قال في [الأشباه] أيضا : ويجب عليه سماعها . اهـ . أي : يجب على السلطان الذي نهى قضاته عن سماع الدعوى بعد هذه المدة أن يسمعها بنفسه أو يأمر بسماعها كيلا يضيع حق المدعي ، والظاهر أن هذا حيث لم يظهر من المدعي أمارة التزوير ، وفي بعض نسخ [الأشباه] : ويجب عليه عدم سماعها ، وعليه فالضمير يعود للقاضي المنهي عن سماعها ، لكن الأول هو المذكور في معين المفتي .
الثاني : أن النهي حيث كان للقاضي لا ينافي سماعها من المحكم ، بل قال المصنف في [معين المفتي] : إن القاضي لا يسمعها من حيث كونه قاضيا ، فلو حكمه الخصمان في تلك القضية التي مضى عليها المدة المذكورة فله أن يسمعها .
الثالث : عدم سماع القاضي لها إنما هو عند إنكار الخصم ، فلو اعترف تسمع كما علم مما قدمناه من فتوى المولى أبي السعود أفندي إذ لا تزوير مع الإقرار .
الرابع : عدم سماعها حيث تحقق تركها هذه المدة ، فلو ادعى في أثنائها لا يمنع ، بل تسمع دعواه ثانيا ما لم يكن بين الدعوى الأولى والثانية هذه

المدة . ورأيت بخط شيخ مشايخنا التركماني في مجموعته أن شرطها - أي : شرط الدعوى - مجلس القاضي فلا تصح الدعوى في مجلس غيره ، كالشهادة - تنوير وبحر ودرر - قال : واستفيد منه جواب حادثة الفتوى وهي : أن زيدا ترك دعواه على عمرو مدة خمس عشرة سنة ، ولم يدع عند القاضي ، بل طالبه بحقه مرارا في غير مجلس القاضي ، فمقتضى ما مر لا تسمع ؛ لعدم شرط الدعوى فليكن على ذكر منك . فإنه تكرر السؤال عنها ، وصريح فتوى شيخ الإسلام علي أفندي : أنه إذا ادعى عند القاضي مرارا ولم يفصل القاضي الدعوى ومضت المدة المزبورة - تسمع ؛ لأنه صدق عليه أنه لم يتركها عند القاضي . اهـ . ما في المجموعة .
وبه أفتى في [الحامدية] ، ثم لا يخفى أن ترك الدعوى إنما يتحقق بعد ثبوت حق طلبها ، فلو مات زوج المرأة أو طلقها بعد عشرين سنة مثلا من وقت النكاح - فلها مؤخر المهر ؛ لأن حق طلبه إنما ثبت لها بعد الموت أو الطلاق لا من وقت النكاح ، ومثله ما يأتي فيما لو أخر الدعوى هذه المدة لإعسار المديون ثم ثبت يساره بعدها ، وبه يعلم جواب حادثة الفتوى سئلت عنها حين كتابتي لهذا المحل في رجل له دكان وقف مشتمل على منجور وغيره وضعه من ماله في الدكان بإذن ناظر الوقف نحو أربعين سنة وتصرف فيه هو وورثته من بعده في هذه المدة ثم أنكره الناظر الآن وأنكر وضعه بالإذن ، وأراد الورثة إثباته وإثبات الإذن بوضعه ، والذي ظهر لي في الجواب سماع البينة في ذلك ؛ لأنه حيث كان في يدهم ويد مورثهم هذه المدة بدون معارض لم يكن ذلك تركا للدعوى ، ونظير ذلك ما لو ادعى زيد على عمرو بدار في يده ، فقال له عمرو : كنت اشتريتها منك من عشرين

سنة وهي في ملكي إلى الآن ، وكذبه زيد في الشراء ، فتسمع بينة عمرو على الشراء المذكور بعد هذه المدة ؛ لأن الدعوى توجهت عليه الآن ، وقبلها كان واضع اليد بلا معارض فلم يكن مطالبا بإثبات ملكيتها فلم يكن تاركا للدعوى ، ومثله فيما يظهر أن مستأجر دار الوقف يعمرها بإذن الناظر وينفق عليها مبلغا من الدراهم يصير دينا له على الوقف ويسمى في زماننا : مرصدا ولا يطالب به ما دام في الدار ، فإذا خرج منها فله الدعوى على الناظر بمرصده المذكور وإن طالت مدته حيث جرت العادة بأنه لا يطالب به قبل خروجه ، ولا سيما إذا كان في كل سنة يقتطع بعضه من أجرة الدار فليتأمل .
الخامس : استثناء الشارح العذر الشرعي أعم مما في الخيرية من الاقتصار على استثناء الوقف ومال اليتيم والغائب ؛ لأن العذر يشمل ما لو كان المدعى عليه حاكما ظالما كما يأتي وما لو كان ثابت الإعسار في هذه المدة ثم أيسر بعدها فتسمع كما ذكره في [الحامدية] .
السادس : استثناء مال اليتيم مقيد بما إذا لم يتركها بعد بلوغه هذه المدة وبما إذا لم يكن له ولي كما يأتي ، وفي الحامدية لو كان أحد الورثة قاصرا والباقي بالغين تسمع الدعوى بالنظر إلى القاصر بقدر ما يخصه دون البالغين .
السابع : استثنوا الغائب والوقف ولم يبينوا له مدة فتسمع من الغائب ولو بعد خمسين سنة ، ويؤيده قوله في الخيرية : من المقرر أن الترك لا يتأتى من الغائب له أو عليه ؛ لعدم تأتي الجواب منه بالغيبة ، والعلة خشية التزوير ولا يتأتى بالغيبة الدعوى عليه فلا فرق فيه بين غيبة المدعي والمدعى عليه .

اهـ . وكذا الظاهر في باقي الأعذار أنه لا مدة لها ؛ لأن بقاء العذر وإن طالت مدته يؤكد عدم التزوير بخلاف الوقف فإنه لو طالت مدة دعواه بلا عذر ثلاثا وثلاثين سنة لا تسمع كما أفتى به في [الحامدية] ، أخذا مما ذكره في [البحر] ، في كتاب الدعوى عن ابن الغرس عن [المبسوط] ، إذا ترك الدعوى ثلاثا وثلاثين سنة ولم يكن مانع من الدعوى ثم ادعى لا تسمع دعواه ؛ لأن ترك الدعوى مع التمكن يدل على عدم الحق ظاهرا . اهـ .
وفي [جامع الفتوى] عن فتاوى العتابي ، قال المتأخرون من أهل الفتوى : لا تسمع الدعوى بعد ست وثلاثين سنة إلا أن يكون المدعي غائبا أو صبيا أو مجنونا وليس لهما ولي أو المدعى عليه أميرا جائرا . اهـ . ونقل ط عن الخلاصة : لا تسمع بعد ثلاثين سنة . اهـ . ثم لا يخفى أن هذا ليس مبنيا على المنع السلطاني ، بل هو منع من الفقهاء فلا تسمع الدعوى بعده وإن أمر السلطان بسماعها .
الثامن : سماع الدعوى قبل مضي المدة المحدودة مقيد بما إذا لم يمنع منه مانع آخر يدل على عدم الحق ظاهرا لما سيأتي في مسائل شتى آخر الكتاب ، من أنه لو باع عقارا أو غيره وامرأته أو أحد أقاربه حاضر يعلم به ثم ادعى ابنه مثلا أنه ملكه - لا تسمع دعواه ، وجعل سكوته كالإفصاح قطعا للتزوير والحيل ، بخلاف الأجنبي ، فإن سكوته ولو جارا لا يكون رضا إلا إذا سكت الجار وقت البيع والتسليم وتصرف المشتري فيه زرعا وبناء فلا تسمع دعواه على ما عليه الفتوى ، قطعا للأطماع الفاسدة . اهـ . وأطال في تحقيقه في الخيرية من كتاب الدعوى فقد جعلوا مجرد سكوت القريب أو الزوجة عند البيع مانعا من دعواه بلا تقييد باطلاعه على تصرف المشتري

كما أطلقه في [الكنز] ، و [الملتقى] ، وأما دعوى الأجنبي ولو جارا فلا بد في منعها من السكوت بعد الاطلاع على تصرف المشتري ولم يقيدوه بمدة ، وقد أجاب المصنف في فتاواه فيمن له بيت يسكنه مدة تزيد على ثلاث سنين ويتصرف فيه هدما وعمارة مع اطلاع جاره على ذلك بأنه لا تسمع دعوى الجار عليه البيت أو بعضه على ما عليه الفتوى .
وسيأتي تمام الكلام على ذلك آخر الكتاب في مسائل شتى قبيل الفرائض إن شاء الله تعالى ، فانظره هناك فإنه مهم (1) .
__________
(1) [حاشية ابن عابدين] ( 4\377-379 ) .

ب- وجاء في [مجلة الأحكام العدلية وشرطها]
أ- أنواع مرور الزمن :
إن مرور الزمن على نوعين :
النوع الأول : مرور الزمن الذي حكمه اجتهادي ومدته ست وثلاثون سنة ، ولذلك فالدعوى التي تترك ستا وثلاثين سنة بلا عذر لا تسمع مطلقا ، حيث إن ترك الدعوى تلك المدة مع الاقتدار عليها وفقدان العذر يدل على عدم الحق . إن اعتبار نهاية مدة مرور الزمن ستا وثلاثين سنة بني على المادة الـ ( 661 ) ( علي أفندي و [رد المحتار] بزيادة ) .
النوع الثاني : مرور الزمن المعين من قبل السلطان . أن عدم استماع الدعوى في مرور الزمن الذي هو من هذا النوع مبني على المادة الـ ( 1801 ) من المجلة ، فلذلك إذا تحقق في دعوى مرور زمن من هذا النوع وأمر من قبل السلطان باستماع تلك الدعوى فتسمع .

وللسلطان أن يمنع قاضيا من استماع الدعوى التي يقع فيها مرور زمن من هذا النوع وأن يأذن قاض آخر بسماع مثل هذه الدعوى ؛ ولذلك فالفتاوى التي أفتى بها مشايخ الإسلام بعدم استماع الدعوى في مثل هذا النوع من مرور الزمن قد ذكر فيها بأنها لا تسمع بلا أمر ( علي أفندي ) .
إن هذا النهي هو في حق القاضي وليس في حق الحكم فلذلك إذا فصل الحكم دعوى مر عليها خمس عشرة سنة فصحيح وينفذ حكمه ( الحموي ) حتى لو أن شخصين عينا القاضي حكما بفصل دعوى ، فللحكم المذكور أن يفصل تلك الدعوى ولو مر عليها خمس عشرة سنة [رد المحتار] .
إن مرور الزمن لا يثبت حقا : يعني : أن العقود كالبيع والإجارة مع كونها مثبتة وموجودة لكل واحد من العاقدين منفعة ومضرة إلا أن مرور الزمن لا يثبت حقا للطرف الذي يريد الاستفادة منه . فلذلك إذا رد القاضي دعوى دائن بسبب وقوع مرور الزمن فيها يبقى المدعى عليه مدينا للمدعي ويكون قد هضم حق المدعي .
ب- الدعاوى الممنوع استماعها :
1 - الدعاوى الواقع فيها مرور زمن وهي المبينة في هذا الباب .
2 - دعوى المواضعة والاسم المستعار في الأموال الغير المنقولة .
3 - قد منع بتاريخ 27 جمادى الآخرة سنة 1320 وفي 17 أيلول سنة 1318 هـ دعاوى بيع وشراء العقار ما لم يكن البيع والشراء وقعا بمعاملة رسمية ، أي : في دوائر التمليك ( دفتر خاقاني ) .
4 - قد منع سماع دعوى الرهن والشرط والوفاء والاستغلال غير المندرجة في السند بتاريخ 28 رجب سنة 91 و 28 أغسطس سنة 90 .

5 - قد منع بتاريخ 18 صفر سنة 1306 هـ و 12 تشرين الأول سنة 1304 هـ سماع دعوى فراغ الأراضي الأميرية بشرط الإعاشة الغير المندرج بسند الطابو .
6 - قد منع استماع دعوى فراغ المستغلات الموقوفة مجانا بشرط الإعاشة الغير المندرج في سند التصرف .
7 - قد منع في 26 صفر سنة 78 سماع دعوى الفراغ وفاء الذي لم يندرج في سند الطابو .
8 - لا تسمع دعوى الخليط والشريك بحق الرجحان بعد خمس سنوات حسب قانون الأراضي .
9 - إذا تفرغ متصرف الأرض بالأراضي الأميرية التي عليها أبنية أو أشجار لآخر - فلا تسمع دعوى صاحب الأبنية والأشجار بحق الرجحان بتلك الأراضي بعد مرور عشر سنوات على الفراغ .
10 - إذا تفرغ أحد بالأرض التي بتصرفه بموجب سند طابو الواقعة في حدود القرية لآخر من أهالي قرية أخرى فلمن كان له احتياج للأرض من أهالي تلك القرية أن يدعي تلك الأرض إلى سنة ببدل المثل ، ولا تسمع دعواه بعد مرور سنة حسب قانون الأراضي .
11 - إن الأراضي الأميرية التي تصبح مملوكة كعدم وجود أصحاب انتقال لها - لا تسمع فيها دعوى حق الطابو الذي يثبت لصاحب الأبنية والأشجار في تلك الأرض بعد مرور عشر سنوات .
12 - كذلك لا تسمع دعوى حق الطابو بالأراضي المذكورة من الخليط والشريك بعد مرور خمس سنوات .

13 - كذلك لا تسمع دعوى حق الطابو في الأراضي المذكورة من الأشخاص المحتاجين للأراضي بعد مرور سنة .
14 - لا تسمع دعوى الربح الملزم زيادة عن تسعة في المئة سنويا .
15 - إذا وجد بين ورثة المتوفى شخص لم يبلغ خمس عشرة سنة فلا تسمع دعواه البلوغ قد منع حكام الشرع من استماع دعواه .
السنة التي تعتبر في مرور الزمن :
تعتبر في مرور الزمن السنة العربية - أي : القمرية - وليست السنة الشمسية فلذلك يجب حساب مدة مرور الزمن بالسنة القمرية ، مثلا إذا كان السند المحتوي الدين مؤرخا بتاريخ السنة الشمسية ولم يؤرخ بالسنة القمرية فيحسب مرور ذلك بالسنة القمرية .
مبدأ ومنتهى مرور الزمن :
إن مبدأ مرور الزمن يبتدئ من ثبوب الحق ومنتهاه إقامة الدعوى في حضور القاضي فلذلك يجب حساب مبدئه ومنتهاه على الوجه المشروح .
إذا أثبت من ادعى مرور الزمن مدعاه بالبينة فبها ، أما إذا لم يثبت فهل له تحليف خصمه اليمين ؛ أي : إذا قال المدعى عليه : إنني متصرف في هذا العقار ست عشرة سنة بلا نزاع وأنت سكت ، وأنكر المدعي تصرف المدعى عليه هذه المدة ولم يثبت المدعى عليه بالبينة تصرفه هذا فهل للمدعى عليه أن يحلف خصمه اليمين على عدم العلم بتصرفه ست عشرة سنة ؟ لم أر صراحة في هذه المسألة إلا أن الفقهاء قد بينوا تحت قاعدة عمومية المسائل التي يجب فيها اليمين وهي :
4 - كل موضع يلزم فيه الخصم إذا أقر يستحلف إذا أنكر . ويستثنى من

هذه القاعدة ثلاث مسائل ومرور الزمن ليس منها ( صرة الفتاوى في الدعوى ) فعلى ذلك يلزم اليمين في هذه المسألة حسب هذه القاعدة أن بينة مرور الزمن مرجحة .
ترجح بينة مرور الزمن على بينة أن المدة التي مرت أقل من مدة مرور الزمن سواء كان المدعى به ملكا أو وقفا أو أرضا أميرية . مثلا إذا ادعى ذو اليد بأن الملك العقار المدعى به هو في تصرفه بلا نزاع زيادة عن خمس عشرة سنة وأن دعوى المدعي غير مسموعة وادعى المدعي الخارج بأن مدة تصرف المدعى عليه هي عشر سنوات وأن دعواه مسموعة وأقام البينة على ذلك فترجح بينة ذي اليد ( الطريقة الواضحة ) .
إذا أقام زيد على عمرو دعوى فادعى عمرو أنه مر خمس عشرة سنة وادعى زيد بأنه لم تمر خمس عشرة سنة وأقام البينة على ذلك ، فأيهما كان مشهورا ومعروفا يعمل بها ؟ أما إذا أثبت زيد أنه قدم الدعوى قبل مرور خمس عشرة فيعمل بها ( أبو السعود ) .

وإن صدور الحكم بالمدعي به لا يمنع وقوع مرور الزمن فلذلك لو استحصل أحد حكما بمطلوبه ولم يطلبه مدة خمس عشرة سنة ولم يضع أعلام الحكم ، لأجل تنفيذه في الإجراء يحصل مرور الزمن في حالة تصرف المدعى عليه بلا نزاع ، أما إذا كان معروفا ومشهورا أن تصرف المدعى عليه في ذلك العقار بالوكالة عن المدعي فلا يتحقق مرور الزمن .
مثلا : إذا ادعى المدعي قائلا : إن العقار الفلاني الذي في يدك هو ملكي وبعد أن أنكر المدعى عليه ادعى أنه متصرف في العقار المذكور منذ خمس عشرة سنة بلا نزاع فأجابه المدعي : نعم ، إنك متصرف منذ خمس عشرة

سنة ولكن إن تصرفكم هذا بالوكالة عني وكان مشهورا ومعروفا أن تصرفه بالوكالة عن المدعي فيسقط ادعاء المدعى عليه بمرور الزمن ؛ لأن التصرف كما يكون أصالة يكون نيابة كالوكالة ( البحر وأبو السعود ) .
المادة ( 1660 ) - ( لا تسمع الدعاوى الغير العائدة لأصل الوقف أو للعموم كالدين والوديعة والعقار الملك والميراث والمقاطعة في العقارات الموقوفة أو التصرف بالإجارتين والتولية المشروطة والغلة بعد تركها خمس عشرة سنة ) .
لا تسمع الدعاوى الغير العائدة لأصل الوقف أو للعموم كالدين ولو كان دية والوديعة والعارية والعقار الملك والملك الذي لم يكن عقارا كالحيوان والأمتعة الأخرى والميراث والقصاص والمقاطعة في العقارات الموقوفة ودعوى التصرف بالمقاطعة ودعوى التصرف بالإجارتين والتولية المشروطة والغلة بعد أن تركت خمس عشرة سنة .
أما مدة مرور الزمن في الدعاوى الأخرى كالطلاق والنكاح والوصية فالتفصيلات عنها مفقودة .
ولكن يمكن أن يقال : إن الخصومات التي لم يمنع استماع الدعاوى فيها بمرور الزمن يجب استماعها ما لم يقع مرور زمن اجتهادي .
مدد مرور الزمان : إن مدد مرور الزمن في الدعاوى الحقوقية في هذا الحال على خمسة أقسام :
القسم الأول : مرور زمن الست والثلاثين سنة ، وهذا يكون في دعوى أصل الوقف وفي دعوى صاحب الأرض برقبة الأرض . انظر المادة الـ ( 1661 ) وشرح المادة الـ ( 1662 ) .

القسم الثاني : مرور زمن الخمس عشرة سنة ، وهذا قد عدد قسم منه آنفا : وقسم منه مذكور في المادة الـ ( 1662 ) .
القسم الثالث : مرور زمن العشر سنوات ، وهذا مذكور في المادة الـ ( 1662 ) .
القسم الرابع : مرور زمن السنتين ، فحسب ذيل قانون الأراضي لا تسمع دعوى التصرف في الأراضي الخالية والمحلولة التي فوضت من طرف الحكومة للمهاجرين والتي زرعت منهم أو أنشئت عليها أبنية بعد مرور سنتين بلا عذر .
القسم الخامس : مرور زمن شهر . انظر المادة الـ ( 134 ) .
ولنبحث الآن في تفصيل مدد مرور الزمن في الأمور البينة آنفا :
الدين : مثلا : لو ادعى أحد على آخر قائلا : أطلب منك أن تؤدي لي كذا مبلغا الذي أخذ أو ثمن المبيع الذي بعته لك فلا تسمع دعواه .
ويفهم من ذكر الدين مطلقا أنه يشمل جميع الديون ، سواء كان عائدا للآحاد ، أي : ديون الناس مع بعضهم البعض أو كان ديون بيت المال من الآحاد أو ديون الآحاد من بيت المال خمس عشرة سنة على هذه الديون يحصل فيه مرور الزمن ؛ فلذلك قد صدرت إرادة سنية بتاريخ سنة 1300 هـ وتشرين الثاني سنة 1898 م بعدم سماع دعوى دين بيت المال بعد مرور خمس عشرة سنة .
الوديعة : إذا ادعى أحد على آخر قائلا : إنني أطلب منك الوديعة التي أودعتها لك قبل خمس عشرة سنة وأنكر المدعى عليه فلا تسمع الدعوى .
العارية : إذا توفيت امرأة وادعت أمها على زوجها قائلة : إنني أعرت

ابنتي المتوفاة كذا وكذا وأنكر الزوج - فلا تسمع دعواها .
الميراث : إذا ادعى أحد الورثة على آخر قائلا : إنه قد بقي عندك كذا أشياء من مال مورثنا المتوفى قبل خمس عشرة سنة فأطلب حصتي من تلك الأشياء وأنكر المدعى عليه ذلك - فلا تسمع دعواه .
العقار الملك : إذا ادعى أحد بأن العقار كالدار والكرم الذي في تصرف شخص آخر مدة خمس عشرة سنة بلا نزاع بأنه ملكه أو أن له حصة فيه - فلا تسمع دعواه .
كذلك إذا تصرف اثنان بكرم مدة خمس عشرة سنة بالاشتراك ولم يدعيا على بعضهما البعض في تلك المدة ثم ادعى أحدهما أن ذلك الكرم ملكه مستقلا - فلا تسمع دعواه .
المقاطعة في العقارات الموقوفة : المقاطعة : وهي العقار الذي يكون عرصته وقفا وتكون الأبنية والأشجار والكروم التي عليها العرصة ملكا ويدفع من المتصرف فيها إجارة مقطوعة سنويا لجانب الوقف ، وتسمى هذه أيضا : إجارة الأرض ، ويجوز وقف هذا الملك أيضا ، يعني : إذا وقف أحد بإذن المتولي الذي أحدثه على العرصة الموقوفة أو الشجر الذي غرسه عليها لنفسه فيصح الوقف سواء كان موقوفا في الجهة الموقوفة عليه العرصة الموقوفة أو وقف على جهة أخرى ؛ لأنه وإن كانت جهة القرب مختلفة إلا أنهم يجمعان في أصل القرب واختلاف الجهة لا أوجب اختلاف الحكم ( علي أفندي ) .
ويمكن تصوير دعوى التصرف في العقارات الموقوفة بمقاطعة على أربعة أوجه :

الوجه الأول : أن يكون المدعى به ملكا : مثلا : لو ادعى أحد قائلا : إن داري المملوكة المنشأة على عرصة الوقف الفلاني والمربوطة بكذا مبلغا مقاطعة للوقف يتصرف بها هذا المدعى عليه منذ خمس عشرة سنة وحيث إنها ملكي فأطلب تسليمها ، فإذا أنكر المدعى عليه دعوى المدعي هذه فلا تسمع دعواه وتكون هذه الدعوى دعوى العقار الملك .
الوجه الثاني : يكون المدعى به وقفا ، وهذا إما أن يكون بإجارة واحدة فلا يتصور فيه إقامة دعوى التصرف والدعوى التي تقام من متولي الوقف تكون عائدة إلى أصل الوقف ويكون مرور زمن فيها ستا وثلاثين سنة .
وإما أن تكون بإجارتين ، وهذه تدخل تحت فقرة ( أو التصرف بالإجارتين ) .
الوجه الثالث : تكون صورة الدعوى على الوجه الآتي يربط كلمة التصرف بكلمة المقاطعة وهو إن ادعى زيد على عمرو قائلا : إن عرصة هذا الوقف هي تحت التصرف بالمقاطعة بكذا درهما . فإذا لم يمر خمس عشرة سنة فتسمع الدعوى وإلا فلا . أما إذا ادعى أحد قائلا : إن العرصة التي أخذتها من المتولي زيد هي للوقف الفلاني الذي أنا متول عليه وهي بتصرفك بمقاطعة ، وادعى أن العرصة ملكه وأنكر المقاطعة فيما أن هذه الدعوى في هذه الصورة تتعلق برقبة الوقف فتسمع الدعوى فيها إلى ست وثلاثين سنة .
الوجه الرابع : إذا لم تربط كلمة تصرف بكلمة مقاطعة فتكون صورة الدعوى على هذا الوجه :
أن العرصة الفلانية التي أخذتها من المتولي زيد التي هي من مستغلات

الوقف الذي تحت توليتي هي تحت تصرفك وبما أنه يطلب للوقف منك كذا مبلغا بدل مقاطعة فأطلب منك أداء ذلك . وحقيقة هذه الدعوى دعوى دين وتدخل في الدين ، فلذلك يجب أن يكون مقصودا من عبارة ( دعوى التصرف في العقارات الموقوفة بالمقاطعة ) - الوجه الثالث .

دعوى التصرف بالإجارتين في العقارات الموقوفة - تكون هذه الدعوى على وجهين :
الوجه الأول : تكون بين المتصرفين ، مثلا : إذا تصرف أحد بالإجارتين في عقار وقف في مواجهة آخر خمس عشرة سنة وسكت بلا عذر هذه المدة ثم ادعى بعد ذلك أن العقار المذكور في تصرفه بالإجارتين قبل المدة المذكورة - فلا تسمع دعواه ، وكما أنه لا تسمع دعواه التصرف مرور خمس عشرة سنة لا تسمع دعواه الفراغ وفاء ( جامع الإجارتين ) .
كذلك إذا تصرف اثنان بالاشتراك في عقار وقف بالإجارتين مدة خمس عشرة سنة ولم يدع في هذه المدة أحدهما على الآخر وقام أحدهما وادعى على الآخر أن ذلك العقار كان في تصرفه بالإجارتين قبل السنين المذكورة مستقلا - فلا تسمع دعواه .
الوجه الثاني : تكون بين المتصرف والمتولي ، مثلا : إذا تصرف أحد في عقار وقف بطريق الإجارتين مدة خمس عشرة سنة في مواجهة متولي ذلك الوقف وسكت المتولي تلك المدة بلا عذر : فإذا ادعى المتولي بعد ذلك قائلا للمدعى عليه : إن العقار المذكور لم يؤجر لك وإنك ضبطت ذلك العقار فضولا - فلا تسمع دعواه .
دعوى التولية المشروطة : إذا تصرف أحد بوقف بصفته متوليا

بالمشروطة مدة خمس عشرة سنة ثم ظهر شخص آخر وادعى بأن المتولي لذلك الوقف بالمشروطة هو نفسه لا تسمع دعواه .
والمتولي : هو الشخص الذي عين بإدارة ورؤية أمور ومصالح الوقف حسب شروط الوقفية ، وهو على قسمين :
القسم الأول : المتولي الذي تكون توليته من اقتضاء شروط الوقفية ويقال له : متول بالمشروطة .
القسم الثاني : المتولي الذي لم يشرط من طرف الواقف شرط بأن يكون متوليا ، بل هو متول بنصب القاضي له متوليا .
دعاوى الغلة : ومعنى غلة الوقف : هي فائدة ومحصول الوقف كربح النقود الموقوفة ، وبدل إيجار العقار الموقوف ، ومحصول المزرعة الموقوفة ، وثمر الروضة الموقوفة - فعليه إذا تصرف عمرو بعد وفاة ولده بكر من أولاد أولاد الواقف في المزرعة الموقوفة المشروطة غلتها على أولاد الواقف وأولاد أولاده في مواجهة بشر أربعين سنة مستقلا وسكت بشر هذه المدة بلا عذر ، وبعد ذلك ادعى بشر على بكر قائلا في دعواه : إنني من أولاد الواقف وإن لي حق المشاركة في غلة المزرعة معك - فلا تسمع دعواه ( علي أفندي ) .
فإذا استمع القاضي الدعوى التي وقع فيها - مرور زمن على هذا الوجه وحكم فيها فلا ينفذ حكمه ؛ لأن الحكم والقضاء المخالف لأمر إمام المسلمين المشروع مردود ( جامع الإجارتين ) .
المادة ( 1661 ) : ( تسمع دعوى المتولي والمرازقة في حق أصل الوقف إلى ستة وثلاثين سنة ، ولا تسمع بعد مرور ست وثلاثين سنة : مثلا : إذا

تصرف أحد في عقار على وجه الملكية ستا وثلاثين سنة ثم ادعى متولي وقف قائلا : إن ذلك العقار هو من مستغلات وقفي - فلا تسمع دعواه ) .
تسمع دعوى المتولي والمرازقة في حق أصل الوقف إلى ست وثلاثين سنة ، وكل شيء يتعلق به صحة الوقف هو من أصل الوقف ، وكل شيء لا يتوقف عليه صحة الوقف هو من شروط الوقف ( جامع الإجارتين ) .
والمتولي كما بينا آنفا ؛ إما أن يكون بالمشروطة ، أو بنصب القاضي ، والدعوى صحيحة من أيهما كان .
والمرازقة : هم الذين يأخذون معاشا وراتبا من غلة الوقف ، ويسمى هؤلاء : أهل الوظائف أيضا كإمام الجامع وخدمته .
يفهم من ظاهر المجلة بأن المرازقة هم خصم في دعوى الوقف إلا أن هذه المسألة مختلف فيها بين الفقهاء ، وبيان ذلك أن حق الدعوى في الأوقاف هو للمتولي عند بعض الفقهاء ، ولا يكون المرازقة مدعين مدعى عليهم في الوقف ، والقول المفتى به في ذلك الحين هو هذا القول ، مثلا : إذا ادعى أحد على العقار الذي في يد آخر قائلا : إن سكن هذا العقار وغلته هي وقف مشروطة لي وادعى ذو اليد بأن العقار المذكور ملكه ؛ فإذا كان ذلك المدعي هو متولي الوقف فتعتبر خصومته ودعواه ، وإذا كان غير ذلك فلا تعتبر على القول المختار [جامع الإجارتين] و[النتيجة] ، و[البحر في الدعوى والإسعاف] ، و[رد المحتار] ، و[أوائل الشهاد في الوقف] .
أما إذا أولت هذه الفقرة ( بأنه تسمع دعوى المرتزقة برأي القاضي فتكون موافقة للرأي المختار ) مثلا : إذا كان المتولي غائبا أو لم يدع كما أنه لم يوكل الموقوف عليه - فتسمع دعوى الموقوف عليه بإذن القاضي .

وعند بعض الفقهاء : إن للموقوف عليه أن يكون مدعيا في الأوقاف ، كما للمتولي حق بذلك فلذلك إذا كان الوقف على معين فدعوى الموقوف عليه المعين صحيحة ( الحموي ) .
ويرى أن المجلة قد اختارت هذا القول .
وأصل دعوى الوقف سواء كان عقارا ، وقد ذكر في المجلة ، أو كان منقولا كالنقود والدعاية التي تتعلق بأصل النقود الموقوفة تسمع إلى ست وثلاثين سنة .
مثلا : إذا أتلف أحد كذا دينارا من النقود الموقوفة التي تحت توليته بصرفها على نفسه ثم عين متول آخر على ذلك الوقف ولم يدع ذلك المتولي تلك النقود وبعد مرور خمس عشرة سنة نصب على الوقف متول آخر وادعى على المتولي الأول بتلك النقود - فليس للمتولي الأول أن يقول للمتولي : لا تسمع دعواك حيث قد مر خمس عشرة سنة ( علي أفندي ) .
أما الدعوى المتعلقة بربح النقود الموقوفة فتسمع إلى خمس عشرة سنة فقط ، ولا تسمع دعوى المتولي والمرتزقة في حق أصل الوقف بعد مرور ست وثلاثين سنة ، ومرور الزمن في ذلك هو مرور الزمن الذي هو حكم اجتهادي .
والدعوى في حق أصل الوقف تكون على صورتين :
الصورة الأولى : تكون بين الملكية والوقفية ، مثلا : إذا تصرف أحد في عقار ستا وثلاثين سنة على وجه الملكية ثم ادعى متولي وقف قائلا : إنه من مستغلات وقفي - فلا تسمع دعواه .
أما إذا كانت المدة التي مرت أقل من ست وثلاثين سنة فتسمع الدعوى -

فعليه لو ضبط أحد بضعة حوانيت وتصرف فيها على وجه الملكية مدة خمس وعشرين سنة ثم ادعى متولي وقف أن تلك الحوانيت هي وقف فلان - فتسمع دعواه ( علي أفندي ) .
الصورة الثانية : تكون بين وقفين ، مثلا : لو أجر متولي وقف عقارا على أنه من مستغلات الوقف الذي تحت توليته مدة ست وثلاثين سنة في مواجهة متولي وقف آخر وسكت متولي الوقف الثاني في هذه المدة بلا عذر ثم ادعى على متولي الوقف الأول أن العقار المذكور من مستغلات وقفه - فلا تسمع دعواه .
المادة ( 1662 ) - ( إن كانت دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في عقار الملك - فلا تسمع بعد مرور خمس عشرة سنة ، وإن كانت في عقار الوقف للمتولي أن يدعيها إلى ست وثلاثين سنة ، وكما لا تسمع دعاوى الأرض الأميرية بعد مرور عشر سنوات كذلك لا تسمع دعاوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في الأراضي الأميرية بعد أن تركت عشر سنوات ) .
إن كانت دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في عقار الملك فلا تسمع بعد مرور خمس عشرة سنة .
ويستعمل الطريق الخاص والمسيل في معنيين :
أولهما : بمعنى رقبة الطريق ورقبة المسيل ، وقد مر في شرح المادة الـ ( 1213 ) والـ ( 1143 ) تعريف الطريق الخاص كما أنه قد ذكر في المادة الـ ( 1220 ) بأنه كالملك المشترك لمن لهم فيه حق المرور .
قد ذكر في الـ ( 144 ) أن المسيل : هو محل جريان الماء والسيل

( الهندية في باب البيع الفاسد في قوله : وبيع الطريق وهبته ) .
وعلى هذا المعنى : إذا كان الطريق والمسيل لعقار الملك فمدة مرور الزمن فيها خمس عشرة سنة ، إذا كانا لعقار وقف فمدة مرور الزمن فيها ست وثلاثون سنة وقد ذكر ذلك في مادتي الـ ( 1660 ) والـ ( 1661 ) فإذا كان يقصد في هذه المادة هذا المعنى فيكون تكرارا ، كما أن عبارة ( في العقار الملك ) مانعة من إرادة هذا المعنى ؛ لأنه لا يصح أن يكون الشيء ظرفا لنفسه .
ثانيا : معنى حق المرور ، حق المسيل وهذا المعنى مناسب لتعبير حق الشرب وإذا قصد هذا المعنى فلا يكون الكلام تأكيدا ، بل يكون تأسيسا ، والتأسيس أولى من التأكيد .
مثال للمعنى الثاني : إذا ادعى أحد بأن له حق مرور في العرصة التي في تصرف آخر مستقلا مدة خمس عشرة سنة وأنه كان يمر منها قبل خمس عشرة سنة - فلا تسمع دعواه . وإذا كانت في العقارات الموقوفة فللمتولي أن يدعي ذلك لست وثلاثين سنة . مثلا : لو كان لحانوت وقف حق مسيل في عرصة موقوفة لجهة أخرى - فلمتولي الوقف الأول أن يدعي على متولي الوقف الثاني إلى ست وثلاثين سنة :
وفي ذلك ثلاث صور :
الصورة الأولى : أن يكون حق الطريق واقعا في العقارات الموقوفة ، وأن يكون العقار الذي يرجع إليه حق الطريق وقفا ، كما في المثال المذكور آنفا .
الصورة الثانية : أن يكون حق الطريق واقعا في عقارات موقوفة ويكون

العقار الذي يرجع إليه حق الطريق ملكا ؛ كادعاء أحد على متولي عرصة بقوله : إن لداري الملك حق طريق في العرصة التي أنت متول عليها ومدة مرور الزمن في هذه الدعوى على الظاهر هي خمس عشرة سنة ، تبعا للعقار الملك التي هي عائدة إليه .
الصورة الثالثة : أن يكون حق الطريق واقعا في العقارات المملوكة ويكون العقار الذي يرجع إليه حق الطريق وقفا كادعاء متولي وقف عقارا على آخر بقوله : إن للعقار الذي تحت توليتي حق مرور في العرصة التي هي ملكك ومدة مرور الزمن في هذه الدعوى على الظاهر ست وثلاثون سنة ، تبعا للعقار الموقف التي هي عائدة إليه .
وكما أنه لا تسمع دعوى التصرف في الأراضي الأميرية بعد مرور عشر سنوات قمرية ، كذلك لا تسمع دعاوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في الأراضي الأميرية بعد أن تركت عشر سنوات .
يوجد في هذه الفقرة أربع مسائل ويفصل كل منها على الوجه الآتي :
المسألة الأولى : دعاوى الأراضي الأميرية . والمقصد منها دعاوى التصرف في الأراضي الأميرية سواء كانت الأميرية أميرية صرفة أو أميرية موقوفة . مثلا : إذا تصرف أحد في مزرعة في الأراضي الأميرية عشر سنوات في مواجهة آخر وسكت ذلك الآخر تلك المدة بلا عذر فأقام الدعوى قائلا : إن تلك المزرعة هي بتصرفي بموجب سند طابو قبل السنين المذكورة وأنكر المدعى عليه - فلا تسمع دعواه .
وقد جاء في [جامع الفصولين] : رجل تصرف في الأراضي الأميرية عشر سنين يثبت له حق القرار ولا تؤخذ من يديه .

تكون دعوى التصرف في الأراضي الأميرية على صورتين :
الصورة الأولى : تكون بإقامة الدعوى من شخص على آخر وهو كما في المثال المتقدم الذكر .
الصورة الثانية : تكون بإقامة صاحب الأرض على شخص . مثلا : إذا ادعى صاحب الأرض الأراضي التي بتصرف أحد بموجب طابو محلولة من عهدة فلان أو أنها من الأراضي الأميرية الخالية وطلب ضبطها لبيت المال ، مبينا أن تصرف المدعى عليه بها تصرف فضولي ، فأنكر المدعى عليه التصرف الفضولي وادعى تصرفه بها على كونها أراضي أميرية منذ عشر سنوات وأثبت مدعاه - فلا تسمع دعوى صاحب الأرض ، أما إذا كانت المدة التي مرت أقل من عشر سنوات - فتسمع الدعوى . مثلا : لو ترك أحد دعواه على آخر المتعلقة بأرض مسجلة بالطابو تسع سنوات وأحد عشر شهرا - فلا يمنع هذا الإهمال استماع دعواه ، كما أنه لو تركها تسع سنوات وأحد عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما بلا عذر ولم تتم السنوات العشر - تسمع دعواه .
كذلك لو تصرف أحد مع آخر في مزرعة من الأراضي الأميرية بالاشتراك السنوي عشر سنوات وسكت ذلك الشخص هذه المدة بلا عذر وادعى بعد مرور السنوات العشر بأن جميع المزرعة هي بتصرفه بموجب طابو فلا تسمع دعواه .
وقد صدرت إرادة سلطانية بتاريخ 22 المحرم سنة 1300هـ و 22 تشرين الثاني سنة 1298 بسماع دعوى مأمور الأرض المتعلقة برقبة الأرض الأميرية إلى ست وثلاثين سنة .

مثلا : إذا تصرف أحد في أرض على كونها ملكه فتسمع دعوى مأمور الأراضي بأنها أراض أميرية إلى ست وثلاثين سنة .
كذلك إذا ادعى صاحب الأرض بأن الأرض من الأراضي الأميرية وادعى المتولي ذي اليد بأنها وقف - فتسمع دعوى صاحب الأرض إذا لم يمر ست وثلاثون سنة ، أما إذا مر ست وثلاثون سنة فلا تسمع دعواه .
المسألة الثانية : دعاوى الطريق الخاص في الأراضي الأميرية . إذا ادعى أحد قائلا : إن لمزرعتي التي تحت تصرفي بموجب طابو طريقا خاصا في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو - فلا تسمع الدعوى فيها إذا مر عشر سنوات .
المسألة الثالثة : دعاوى المسيل في الأراضي الأميرية . إذا ادعى أحد قائلا : إن لهذه المزرعة التي تحت تصرفي بموجب طابو حق مسيل في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو - فلا تسمع الدعوى فيها إذا مرت عشر سنوات .
إن الصور الثلاث التي ذكرت في شرح الفقرة الثانية من المادة الآنفة تلاحظ في هاتين المسألتين .
المسألة الرابعة : دعاوى حق الشرب في الأراضي الأميرية : إذا ادعى أحد قائلا إن لهذه المزرعة التي تحت تصرفي بموجب طابو حق شرب في النهر الموجود في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو - فلا تسمع الدعوى فيها إذا مرت عشر سنوات ، وإلا فتسمع .
المادة ( 1663 ) - ( والمعتبر في هذا الباب - أي : في مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى - هو مرور الزمن الواقع بلا عذر فقط ، وأما مرور الزمن

الحاصل بأحد الأعذار الشرعية ككون المدعي صغيرا أو مجنونا أو معتوها ، سواء كان له وصي أو لم يكن له أو كونه في ديار أخرى مدة السفر أو كان خصمه من المتغلبة فلا اعتبار له ، فلذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن من تاريخ زوال واندفاع العذر . مثلا : لا يعتبر الزمن الذي مر حال جنون أو عته أو صغر المدعي ، بل يعتبر مرور الزمن من تاريخ وصوله حد البلوغ . كذلك إذا كان لأحد مع أحد المتغلبة دعوى ولم يمكنه الادعاء لامتداد زمن تغلب خصمه وحصل مرور زمن لا يكون مانعا لاستماع الدعوى ، وإنما يعتبر مرور الزمن من تاريخ زوال التغلب ) .
والمعتبر في هذا الباب - أي : في مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى - هو مرور الزمن الواقع بلا عذر . أما الزمن الذي مر بعذر شرعي ككون المدعي ، أي : صاحب الحق صغيرا أو مجنونا أو معتوها ، سواء كان له وصي أو لم يكن أو كان المدعي أو المدعى عليه في ديار أخرى مدة السفر أو كان خصمه - أي : المدعى عليه - من المتغلبة فلا يعتبر ، فلذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن من تاريخ زوال واندفاع العذر ( علي أفندي ) .
فعلى هذه الصورة : لو كان لزيد حق ثابت في ذمة عمرو فتغيب عمرو بعد ثبوت ذلك الحق أربع عشرة سنة ثم حضر فمبدأ مرور الزمن يعتبر من تاريخ حضور عمرو ، فلو أقام زيد الدعوى بعد التاريخ المذكور بثلاث عشرة سنة - تسمع دعواه .
والمدة التي تمر بأعذار كهذه لو بلغت أربعين أو خمسين سنة فتسمع الدعوى ؛ لأن من المقرر أن الترك لا يتأتى من الغائب له أو عليه ؛ لعدم تأتي الجواب منه بالغيبة ، والعلة خشية التزوير ، ولا لتالي بالغيبة الدعوى عليه

[رد المحتار] .
الأعذار الثلاثة : يطلق على الأعذار المبينة في هذه المادة الأعذار الثلاثة .
الأول : القاصرية : وهو عبارة عن كون صاحب الحق صغيرا أو مجنونا أو معتوها ، فالمدة التي تمر أثناء القاصرية لا تدخل في حساب مرور الزمن ، سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ .
مثلا : لو دامت القاصرية خمس سنوات وزالت في ابتداء السنة السادسة فيبتدئ مرور الزمن اعتبارا من السنة السادسة ، كما أنه لو دامت القاصرية خمس عشرة سنة وزالت في ابتداء السنة السادسة عشرة فيحسب مرور الزمن من ابتداء السنة السادسة عشرة . أما إذا بدأ مرور الزمن حينما لم تكن القاصرية موجودة ، وقبل اكتمال مرور الزمن حصلت القاصرية ، ثم زالت بعد مدة ، فهل يجب تنزيل المدة التي كان فيها في حالة القاصرية من مدة مرور الزمن ؟ يعني : مثلا : لو باع زيد وهو أهل للتصرف مالا لعمرو بعشرين دينارا وبعد خمس سنوات طرأ على عمرو قاصرية دامت عشر سنوات ثم زالت ثم ادعى بعد زوال القاصرية بثماني سنوات ؛ فإذا نزلت من المدة مدة القاصرية فيكون مجموع المدة ثلاث عشرة سنة ، ويجب سماع الدعوى ، وفي حالة عدم تنزيلها تكون المدة ثلاثا وعشرين سنة ، ويجب عدم سماع الدعوى .
إن هذه المسألة محتاجة للحل ومن الموافق استماع الدعوى لحين وجود مسألتها الصريحة .
الثاني : الغيبة : وهي أعم من غيبة المدعي أو المدعى عليه ، فالمدة التي

تمر في حالة الغيبة سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ فلا تأثير لها في مرور الزمن إذا كان ثبوت الحق المدعى به في حالة الغياب .
مثال على كونه بالغا مدة مرور الزمن : إذا كان لأحد في ذمة آخر حق وهو مقيم في ديار بعيدة مدة السفر وتحقق في ذمة الغائب بطريق البيع أو الإجارة أو الإقراض بطريق المكاتبة أو المراسلة أو بإتلاف المال ولم يتمكن من الادعاء بمطلوبه ثم بعد مرور خمس عشرة سنة حضر ذلك الشخص ثم بعد مرور أربع عشرة سنة من حضوره أقام صاحب الحق عليه الدعوى - فتسمع دعواه .
مثال على عدم بلوغ مدة مرور الزمن : إذا ثبت لأحد في ذمة آخر حق وهو مقيم في ديار أخرى بعيدة مدة السفر ودامت غيبة المدين مدة خمس سنوات إلا أنه حضر في ابتداء السنة السادسة فبما أنه يبتدئ مرور الزمن من السنة السادسة فللمدعي أن يقيم الدعوى بعد تسع عشرة سنة اعتبارا من مبدأ ثبوت الحق .
يوجد بعض مسائل تحتاج للحل في عذر الغيبة :
1 - إذا بدأ مرور الزمن في عدم وجود الغيبة وقبل أن يتم مرور الزمن تخللته الغيبة ثم زالت الغيبة بعد مدة ، فهل يجب تنزيل مدة الغيبة من مرور الزمن أو لا يجب ؟ فالظاهر أنه يجب تنزيلها . يعني : لو أقرض زيد لعمرو عشرة دنانير وسلمها إياه ثم أقام الاثنان في بلدة واحدة خمس سنوات ثم غاب عمرو وسافر إلى ديار بعيدة مدة السفر مدة عشر سنوات ثم حضر فادعى المدعي بعد حضوره بأربع سنوات ؛ فإذا نزلت مدة الغيبة يكون مر تسع سنوات فقط ، وإذا لم تنزل يكون قد مر تسع عشرة سنة ، والظاهر : أنه

يجب تنزيل مدة الغيبة .
2 - إذا كان للمدعى عليه الغائب وكيل بالخصومة أو نائب له ، يعني : لو وكل المدعى عليه قبل غيبته وكيلا في الخصومة في الدعاوى التي تقام له أو عليه وكانت هذه الجهة معلومة للمدعي إلا أن المدعي لم يقم الدعوى ، لغيبة المدعى عليه ، فهل يقع مرور الزمن ؟
بما أنه في حالة غيبة المدعى عليه لا يمكن فصل بعض الدعاوى كأن لا يوجد لدى المدعي شهود ويتوجه اليمين فيها على المدعى عليه فالظاهر بأنه لا يحصل مرور الزمن في هذه المسألة .
3 - إذا كان للمدعي مطلوب في تركة وكان بعض الورثة غائبا وبعضهم حاضرا فلم يقم المدعي الدعوى على الحاضرين ورجع الغائب بعد مرور خمس عشرة سنة فأقام المدعي الدعوى عليه فهل يقع مرور الزمن ؟ فالظاهر : أنه لا يقع مرور زمن في حصة هذا الغائب .
الثالث : التغلب : وهو أن يكون المدعي عليه من المتغلبة ، فالمدة التي تمر في حالة التغلب ، سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ فلا تأثير لها على مرور الزمن ما دام ثبوت الحق كان في زمن التغلب .
مثال على بلوغ مدة مرور الزمن : إذا غصب أحد - في حالة غلبة - أغنام شخص آخر وامتد تغلبه خمس عشرة سنة وزال في السنة السادسة عشرة وادعى المدعي بعد مرور ثماني سنوات من تاريخ زوال التغلب - فتسمع دعواه .

مثال على عدم بلوغ مدة مرور الزمن : لو غصب أحد - في حالة تغلبه - مزرعة آخر وامتد تغلبه خمس سنوات وزال تغلبه في السنة السادسة وادعى

بعد ثماني سنوات من زوال التغلب - فتسمع دعواه .
أما إذا ابتدأ مرور الزمن قبل وجود التغلب وتخلل ذلك التغلب قبل انقضاء مدة مرور الزمن ثم زاد التغلب بعد مدة فهل يجب تنزيل مدة التغلب ؟ . . يعني : مثلا : لو غصب أحد قبل أن يكون متغلبا عشرة دنانير من آخر ثم بعد مرور ثماني سنوات أصبح متغلبا ودام تغلبه سبع سنوات ثم زال تغلبه فأقام المدعي بعد سنتين من زوال التغلب فإذا تنزلت مدة التغلب تكون الدعوى مسموعة ، وإذا لم تنزل فتكون غير مسموعة ، والظاهر : أنه يجب تنزليها .
قيل في المجلة : ( ككون المدعي صغيرا . . . إلخ ) ؛ لأنه يوجد عذر رابع حيث إذا منع الزوج زوجته صاحبة الحق من إقامة الدعوى منعا أكيدا ولم تدع من أجل ذلك فهذا العذر معدود عذرا شرعيا ولها إقامة الدعوى بعد زوال المنع ولا تعتبر المدة التي مرت أثناء المنع ، إلا أنه يجب أن يثبت منع الزوج لها . ( علي أفندي ) .
مثال على القاصرية : مثلا : لا يعتبر الزمن الذي مر حال جنون أو عته أو صغر أحد ، وإنما يعتبر من تاريخ وصوله إلى حد البلوغ أو تاريخ زوال الجنون أو العته ، ففي هذه الصورة لو بلغ الصغير ومر تسع سنوات فلا يمنع ذلك من سماع الدعوى .
كذلك لو ترك المجنون أو المعتوه الدعوى تسع سنوات ونصفا فلا يمنع ذلك من استماع دعواه ، مثال لمدة السفر البعيدة : لو سافر أحد إلى ديار بعيدة مدة السفر ولم يدع دائنه بالعشرة الدنانير المطلوبة له من ذمة الغائب ثم عاد الغائب بعد أربع عشرة سنة وبعد عودته بثماني سنوات أقام صاحب

الدين عليه الدعوى - فليس للمدعى عليه أن يقول : إن الدعوى غير مسموعة ، لمرور الزمن .
مثال للتغلب : كذلك إذا كان لرجل مع أحد المتغلبة دعوى ولم يمكنه الادعاء لامتداد زمان تغلب خصمه ووجد مرور الزمن بترك الدعوى الأرض الأميرية خمس عشرة سنة فلا يكون ذلك مانعا لاستماع الدعوى وإنما يعتبر مرور الزمن من تاريخ زوال التغلب .
أما عدم العلم فليس من الأعذار الشرعية . [فتاوى أبي السعود ] .
مثلا : لو ضبط أحد مزرعة من الأراضي الأميرية وتصرف بها مدة عشر سنوات في مواجهة آخر وسكت الآخر تلك المدة ثم ادعى بقوله : إن المزرعة هي في تصرف والدي المتوفى بموجب طابو قبل السنين المذكورة وبوفاته قد انتقلت المزرعة المذكورة حصرا لي ولكن كنت أجهل بأن تلك المزرعة هي في تصرف والدي فلذلك لم أقم الدعوى قبلا والآن علمت ذلك ، فأدعي ، فلا تسمع دعواه .
والحكم على هذا المنوال في التصرف بالإجارتين . مثلا : لو تصرف أحد في دكان وقف بالإجارتين مدة عشرين سنة في مواجهة آخر وسكت المذكور تلك المدة بلا عذر ثم ادعى أن الدكان المذكورة هي لوالده المتوفى بكر وقد انتقلت إليه بالانتقال العادي وأنه سمع ذلك من بعض الناس إلا أنه كان يجهل أن الحال كما ذكر فلم يتقدم للدعوى وأنه يتقدم إليها الآن - فلا تسمع دعواه . [جامع الإجارتين] .
ترجح بين مرور الزمن الحاصل بعذر : مثلا : لو ادعى طرف بأن مرور زمن حصل بعذر وأقام البينة على ذلك وادعى الطرف الآخر بأنه وقع بغير

عذر فترجح بينة كونه واقعا بعذر .
المادة ( 1664 ) : ( مدة السفر هي ثلاثة أيام ، أي : مسافة ثماني عشرة ساعة بالسير المعتدل ) .
مدة السفر البعيدة هي ثلاثة أيام بالسير المعتدل ، أي : راجلا أو راكبا حيوانا سيرا متوسطا مع الاستراحة المعتادة ، وهو في الأيام القصيرة ثلاثة أيام ، أي : مسافة ثماني عشرة ساعة . فلذلك إذا وصل إلى بلدة يسير البريد في يومين مع كونه يصل إليها بالسير المعتاد بثلاثة أيام فتعتبر أيضا مسافة سفر .
كذلك إذا وصل إلى بلدة بالقطار بيوم واحد أو بأقل من يوم وكانت مسافتها بالسير المعتدل ثلاثة أيام - فتعد البلدة المذكورة بعيدة مدة السفر [الفتاوى الجديدة] .
إذا ذهب المدعى عليه إلى بلدة من البلاد الأجنبية وكانت بالنسبة إلى البلدة التي يوجد فيها المدعي غير بعيد مدة السفر فحيث إنه لا يمكن للمدعي أن يذهب إلى البلدة التي يقيم فيها المدعى عليه لاستحصال حقه حسب الأحكام المشروعة ، فهل يعد ذلك عذرا في مرور الزمن ؟ فالظاهر أنه يعد عذرا .
المادة ( 1665 ) : ( إذا اجتمع ساكنا بلدتين بينهما مسافة سفر مرة واحدة في بلدة في كل بضع سنوات ولم يدع أحدهما على الآخر شيئا مع أن محاكمتها كانت ممكنة وبعدها وجد مرور الزمن بهذا الوجه لا تسمع دعوى أحدهما على الآخر بتاريخ أقدم من المدة المذكورة ) .
ساكنا بلدتين بينهما مسافة سفر اجتمعا في بلدة وبتعبير آخر أن المدعي

قد علم بعودة خصمه ولم يدع أحدهما على الآخر وكانت محاكمتها ممكنة فبعد ما وجد مرور الزمن المعتبر في نوع المدعى به - لا تسمع دعوى أحدهما على الآخر بتاريخ أقدم من المدة المذكورة . وبهذه الصورة لو تغيب عمرو بعد أن ثبت في ذمته حق لزيد مدة عشر سنوات في السنة الحادية عشرة اجتمع بزيد مرة واحدة وفي الثانية عشرة مرة أخرى وفي الثالثة عشرة مرة ثالثة ؛ فإذا مر خمس عشرة سنة على مبدأ ثبوت الحق - فلا تسمع دعوى زيد .
فعليه إذا أنكر المدعى عليه المدعى به وادعى أنه قد اجتمع بالمدعي بضعة مرات في ظرف الخمس عشرة سنة ، وأنه كان ممكنا جريان المحاكمة بينهما وأقر المدعي بذلك أو أنكر وأثبت المدعى عليه ذلك - فلا تسمع دعواه .
وقد ذكر في [فتاوى علي أفندي ] ، في هذا المقام عبارة : ( مرة في كل سنتين أو ثلاث سنوات ) ويفهم من ظاهر هذه العبارة بأنه يجب التكرر في الاجتماع ولا يكفي اجتماع واحد وفي هذا الحال يجب حل أسئلة ثلاثة .
1 - كم مرة يجب أن يتكرر هذا الاجتماع ، بما أنه يكون الاجتماع الثاني تكرر فهل يكفي ذلك أو يجب تكرره ثلاث أو أربع مرات ؟ .
2 - ما هو السبب في اختلاف الحكم بين الاجتماع الواحد وبين الاجتماعين أو الأكثر ؟ .
3 - إذا غاب أحد الطرفين في محل سفر بعيد تسع سنوات واجتمع الطرفان في السنة العاشرة وبعد ذلك غاب أحدهما في ديار بعيدة مدة السفر ، مدة أربع سنوات ثم اجتمعا فبموجب المادة الـ ( 1663 ) يكون

مرور التسع سنوات الأولى بعذر ومرور الزمن يبتدئ من بعدها ، ويجب استماع الدعوى في الاجتماع الثالث ، وفي هذا الحال تكون هذه المادة منافية لأحكام المادة الـ ( 1663 ) ؟ وإذا أجيب على ذلك بأن المقصود من مرور الزمن في المادة الـ ( 1663 ) هو حد مرور زمن العشر سنوات أو الخمس عشرة سنة أو الست والثلاثين سنة التي تمت . أما في هذه المسألة فالتسع سنوات الأولى لم تصل إلى حد مرور الزمن ولا يكون صحيحا ، والحقيقة : أن حكم هذه المادة مناف لحكم المادة الـ ( 1663 ) ؛ لأن مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى حسب المادة الـ ( 1663 ) هو مرور الزمن الواقع بلا عذر .
مثلا : إذا تغيب عمرو بعد أن ثبت في ذمته حق لزيد مدة عشر سنوات واجتمع بزيد في السنة الحادية عشرة مرة وفي السنة الثانية عشرة مرة أخرى وفي السنة الثالثة عشرة مرة ثالثة ومر خمس عشرة سنة اعتبارا من مبدأ ثبوت الحق - فحسب هذه المادة لا تسمع الدعوى ، والحال أنها تسمع بحسب المادة الـ ( 1663 ) ؛ لأن المانع من سماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر . وعلى ذلك فالعشر سنوات الأولى في المسألة الآنفة قد مرت بعذر .
ويرد إلى الخاطر أن يجاب على هذا السؤال الجواب الآتي وهو : إذا تكرر الاجتماع أثناء الغيبة فالغيبة الأولى لا تعد عذرا فلا تنزل من المدة ؛ لأنه لو جرى تنزيل مدة الغيبة الأولى يجب تنزيل الغيبة الثانية والثالثة والرابعة وما بعد ذلك ، وفي هذا الحال لا يتحقق في هذه الدعاوى مرور الزمن مطلقا ( وهو أنه لا يتحقق إذ لا ضرورة لتحققه ) .

أما إذا لم يتكرر الاجتماع وكان الاجتماع واحدا فيجب تنزيل مدة الغيبة الأولى ؛ لأنه في هذه الصورة لا يوجد المحذور الذي بين .

المادة الـ ( 1666 ) : ( إذا ادعى أحد على آخر خصوصا في حضور القاضي في كل بضعة سنوات مرة ولم تفصل دعواه ومر على هذا الوجه خمس عشرة سنة فلا يكون مانعا من استماع الدعوى ، وأما الادعاء والمطالبة التي لم تكن في حضور القاضي فلا تدفع مرور الزمن ، بناء عليه إذا ادعى أحد خصوصا في غير مجلس القاضي وطلب به ، وعلى هذا الوجه وجد مرور الزمن فلا تسمع دعواه ) .
وإذا ادعى أحد على آخر خصوصا في حضور القاضي وفي مواجهة الخصم الشرعي في كل بضع سنوات مرة ولم تفصل دعواه ، وبقيت معطلة في المحاكم وحصل أثناء ذلك مرور الزمن المعين لذلك المدعي به كمرور خمس عشرة سنة في دعوى الدين - فلا يمنع ذلك استماع الدعوى .
إلا أنه إذا بلغت المدة بين الدعويين إلى حد خمس عشرة سنة فيمنع ذلك استماع الدعوى . مثلا : إذا مرت بين دعوى الدين مدة خمس عشرة سنة وبين دعوى الأراضي الأميرية عشر سنوات - فيمنع ذلك سماع الدعوى . أما الادعاء والمطالبة التي لم تكن في حضور القاضي واللذان حصلا في مجالس الإدارة أو غرف التجارة أو نقابة الصناع أو غيرها مما لم يكن لها صلاحية الفصل والحكم في الدعوى فلا يدفع ذلك مرور الزمن ، فعليه لو ادعى أحد بخصوص في غير حضور القاضي وحصل مرور الزمن المعين لنوع تلك الدعوى - فلا تسمع دعوى المدعي .
إن تقديم الاستدعاء والمعروض للقاضي ، ولو اقترن بإرسال ورقة

جلب - لا يقطع مرور الزمن حسب الأحكام الفقهية .
وبتعبير آخر : إن الاستدعاء الذي يقدمه المدعي للمحكمة يطلب الحكم له على خصمه بحقه وطلب جلب خصمه للمحكمة لا يقوم مقام الدعوى ولا يكفي لقطع مرور الزمن .
مثلا : لو قدم المدعي قبل انتهاء مدة الخمس عشرة سنة بثمانية أيام استدعاء على هذا الوجه ودعا خصمه للمحاكمة وعند انتهاء مدة الثمانية أيام ترافعا أمام القاضي - فإذا كانت مدة الخمس عشرة سنة قد تمت يوم المرافعة في حضور القاضي فلا تسمع الدعوى ، ولو كانت مدة مرور الزمن لم تتم حين تقديم الاستدعاء أو وقت تبليغ جلب المحكمة ؛ لأنه كما هو مصرح في متن هذه المادة أن الذي يدفع مرور الزمن هو الدعوى . والدعوى حسب مادتي ( 1613 و 1618 ) تقال للطلب الذي يقع في حضور القاضي وفي مواجهة الخصم ، وعليه فالطلب الذي لا يكون في مواجهة الخصم غير معدود من الدعوى .
المادة الـ ( 1667 ) : ( يعتبر مرور الزمن من تاريخ وجود صلاحية الادعاء في المدعي ، فمرور الزمن في دعوى الدين المؤجل إنما يعتبر من حلول الأجل ، لأنه ليس للمدعي صلاحية دعوى ذلك الدين ، ومطالبته قبل حلول الأجل .
مثلا : لو ادعى أحد على آخر بقوله : لي عليك كذا دراهم من ثمن الشيء الفلاني الذي بعتك إياه قبل خمس عشرة سنة مؤجلا لثلاث سنين - تسمع دعواه ، كذلك لا يعتبر مرور الزمن في دعوى البطن الثاني في الوقف المشروط للأولاد بطنا بعد بطن إلا من تاريخ انقراض البطن الأول ؛ لأنه

ليس للبطن الثاني صلاحية الدعوى ما دام البطن الأول موجودا . وكذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن في دعوى المهر المؤجل من وقت الطلاق ومن تاريخ موت أحد الزوجين ؛ لأن المهر المؤجل لا يكون معجلا إلا بالطلاق أو الوفاة ) .
يعتبر مرور الزمن من تاريخ وجود صلاحية الادعاء في المدعي وصلاحية أخذه ، فمرور الزمن في دعوى الدين المؤجل إنما يعتبر من حلول الأجل ؛ لأنه ليس للمدعي صلاحية دعوى وأخذ ذلك الدين أو المطالبة به قبل حلول الأجل حتى إنه لا يحبس المدين من أجل الدين المؤجل [رد المحتار] .
إلا أنه يجوز إثبات الدين المؤجل قبل حلول الأجل وبما أن الإثبات وإقامة البينة مشروط بسبق الدعوى بحكم المادة الـ ( 1697 ) فعلى هذه الصورة يجوز الادعاء بالدين المؤجل قبل حلول الأجل .
مثلا : يصح لأحد أن يثبت مطلوبه من ذمة آخر المؤجل لخمسة أشهر مثلا إلا أنه يؤخر الأخذ والاستيفاء لحلول الأجل ( الأنقروي ) .
كذلك تقبل دعوى الزوجة بإثبات مهرها المؤجل على زوجها ( الهندية ) .
أما إذا لم يثبت المدعي الدين المؤجل بالبينة فلا يحلف المدعى عليه قبل حلول الأجل على أظهر القولين حيث لم يكن للمدعي حق بالمطالبة والأخذ فلا يترتب على المدعى عليه اليمين في حالة إنكاره .
مثلا : لو ادعى أحد على آخر بقوله : لي عليك كذا دراهم من ثمن الشيء الفلاني الذي بعتك إياه أو أجرته لك قبل خمس عشرة سنة مؤجلا

لثلاث سنين - تسمع دعواه ؛ لأنه لم يمر سوى اثنتي عشرة سنة من حلول الأجل والحالة أن دعوى الدين تسمع إلى خمس عشرة سنة . انظر المادة الـ ( 1660 ) .
كذلك لا يعتبر مرور الزمن في دعوى البطن الثاني بالوقف المشروطة توليته وغلته للأولاد بطنا بعد بطن . مثلا : لو شرط الواقف قائلا : قد شرطت تولية وغلة وقفي لأولادي وأولاد أولادي بطنا بعد بطن - فلا تسمع دعوى البطن الثاني إلا من تاريخ انقراض البطن الأول ، فعلى هذه الصورة لو باع أحد أولاد الواقف من البطن الأول عقار الوقف لآخر وسلمه إياه وتصرف المشتري في ذلك العقار خمسا وثلاثين سنة وانقرض البطن الأول بالكلية ونصب أحد الأولاد من البطن الثاني متوليا وبعد مرور سنة ادعى العقار المذكور من المشتري على كونه وقفا - فتسمع دعواه حيث لم يمر على انقراض البطن الأول إلا سنة واحدة والمدة التي مرت قبل ذلك لا تحسب في مرور الزمن حيث إنه ليس للبطن الثاني صلاحية الدعوى ما دام البطن الأول موجودا ؛ لأن أمثال هذا الوقف إذا كان البطن الأول موجودا لا يعطى حصة لأولاد البطن الثاني ، ولا يكون لهم تولية ، كما أنه إذا كان البطن الثاني موجودا فلا يعطى لأولاد البطن الثالث حصة ، ولا يكون لهم تولية على الوقف .
كذلك لو ضبط أجنبي تولية الوقف المشروطة لأولاد الواقف وأولاد أولاده بطنا بعد بطن في مواجهة أولاد الواقف من البطن الأول مدة أربع عشرة سنة وانقرض البطن الأول فادعى أحد أولاد الواقف من البطن الثاني التولية المذكورة من ذلك الأجنبي - فليس للأجنبي أن يدفع دعواه بقوله :

إن دعوى المدعي غير مسموعة لمرور خمس عشرة سنة .
سؤال : لو تصرف المشتري في مواجهة أولاد الواقف من البطن الأول خمسا وثلاثين سنة ، وتصرف سنة في مواجهة أولاد البطن الثاني فتبلغ مدة تصرفه ستا وثلاثين سنة وبما أنه حسب المادة الـ ( 1620 ) لو ترك الدعوى الوارث مدة والموروث مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فيجب عدم استماع الدعوى ؟
الجواب : إن توجيه التولية للبطن الثاني لم يكن بطريق الإرث ، بل هو بمقتضى شرط الواقف فإذا انتقلت التولية إلى البطن الثاني قبل تمام مدة مرور الزمن في مواجهة البطن الأول - فللبطن الثاني حق الدعوى إلى انتهاء مدة مرور الزمن اعتبارا من تاريخ انتقال التولية له ، مع أن المدة التي تمر في زمن البطن الأول والبطن الثاني لا تضم إلى بعضها البعض إلا أنه إذا بلغت المدة في زمن البطن الأول حد مرور الزمن انتقلت التولية إلى البطن الثاني فهل للبطن الثاني حق الدعوى ؟ فنظرا إلى المثال الثاني وإلى دليله يجب أن يكون له حق الدعوى إلا أن دليل الفقهاء لا يثبت المسألة بالكلية ، فيجب العثور على صراحة المسألة ، والمناسب أن تستمع الدعوى لحين العثور على صراحتها .
مثلا : لو تصرف أحد في عقار على وجه الملكية ستا وثلاثين سنة في مواجهة البطن الأول فانقرض البطن الأول فتصرف أيضا بالعقار المذكور ستا وثلاثين سنة في مواجهة البطن الثاني ثم انقرض البطن الثاني فراجع البطن الثالث المحكمة وادعى عليه بأن تولية وغلة ذلك العقار مشروطة لأولاد الواقف بطنا بعد بطن وأنه وإن تصرف في العقار المذكور مدة اثنتين

وسبعين سنة في مواجهة أولاد البطن الأول والبطن الثاني إلا أنهما انقرضا وأصبحت تولية وغلة العقار المذكور عائدة له - فهل تسمع دعواه ؟ فإذا استمعت دعواه فلا يمكن أن يتحقق مرور زمن في نوع هذه الأوقاف .
وإن يكن بموجب المادة الـ ( 1675 ) لا يجري مرور الزمن في بعض الدعاوى إلا أن دعاوى التولية ليست من قبيل الدعاوى ( وقد ورد في البهجة في هامش كتاب الشهادة أنه إذا استمع زيد القاضي دعوة التولية المشروطة التي تركت أربعين سنة بلا عذر وحرر حجة بذلك فلا ينفذ حكمه ولا تعتبر حجته ) وإن يكن أنه يفهم أن هذه الفتوى : أنه إذا مر أربعون سنة على البطن الأول فلا تسمع دعوى البطن الأول إلا أن هذه الفتوى لا تدل صراحة على عدم جواز استماع دعوى البطن الثاني .
وكذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن في دعوى المهر المؤجل من وقت الطلاق أو من تاريخ موت أحد الزوجين ؛ لأن المهر المؤجل لا يكون معجلا إلا بالطلاق أو الوفاة وقد بين بأنه يجوز إثبات المهر المؤجل قبل حلول الأجل .
وكذلك لو ادعى أحد الأراضي التي تحت يد آخر بقوله : إن هذه الأراضي هي بتصرفي ، فأجابه المدعى عليه بقوله : إنك تفرغت لي بهذه الأراضي قبل عشر سنوات بإذن صاحب الأرض ، فإذا أثبت الفراغ له على هذا الوجه فيمنع المدعي من معارضته ولا يقال : بأنه حيث لم يثبت التفرغ بإذن صاحب الأرض منذ سنوات أنه وقع مرور زمن ؛ لأنه لم يكن يوجد معارض له أثناء تصرفه بلا نزاع فهو غير مطالب بإثبات الحق ، فلا يكون قد ترك الدعوى .

المادة ( 1668 ) : ( لا يعتبر مرور الزمن في دعوى الطلب من المفلس إلا من تاريخ زوال الإفلاس . مثلا : لو ادعى أحد على من تمادى إفلاسه خمس عشرة سنة وتحقق يساره بعد ذلك بقوله : بأنه قبل خمس عشرة سنة كان لي في ذمتك كذا دراهم من الجهة الفلانية ولم أستطع الادعاء عليك ، لكونك كنت مفلسا مع ذلك التاريخ ولاقتدارك الآن على أداء الدين أدعي عليك به - تسمع دعواه ) .
لا يعتبر مرور الزمن في دعوى الطلب من المفلس إلا من تاريخ زوال الإفلاس ؛ لأنه لا يمكن استحصال المطلوب من الشخص المفلس كما أنه لا يحبس المدين الثابت إفلاسه .
مثلا : لو ادعى أحد على من تمادى إفلاسه خمس عشرة سنة وتحقق يساره بعد ذلك بقوله : إنه قبل خمس عشرة سنة كان لي عليك من الجهة الفلانية كذا دراهم طلبي منك ولم أستطع الادعاء عليك حيث كنت مفلسا من ذلك التاريخ وحيث أصبحت الآن قادرا على أداء الدين فأدعي عليك به - تسمع دعواه .
أما إذا ثبت في ذمة أحد دين في حال يساره ثم أفلس بعد ثماني سنوات ودام إفلاسه ست سنوات وبعدها أصبح في حالة يسار وبعد مرور سنة ادعى الدائن عليه - فهل تسمع الدعوى بتنزيل مدة الإفلاس كالمدة التي تمر أثناء الصغر ؟

المادة ( 1669 ) : ( إذا ترك أحد الدعوى بلا عذر على الوجه الآنف ووجد مرور الزمن فكما لا تسمع الدعوى في حياته لا تسمع من ورثته بعد مماته أيضا ) .

أي : إذا ادعى الورثة أن المال المدعى به هو موروث عن المورث ؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث بماله أو عليه ، وحيث إنه ليس للمورث حق الدعوى فليس للوارث أيضا حق فيها .
مثلا : لو ادعى أحد على آخر قائلا : إن لمورثي الذي توفي هذه المدة كذا دراهم قد أقرضها لك قبل خمس عشرة سنة فأطلبها منك - فلا تسمع دعواه .
والحكم في المسقفات الموقوفة والأراضي الأميرية على هذا الوجه . مثلا : لو ترك أحد دعواه المتعلقة بالأراضي الأميرية أو بالمسقفات الموقوفة بلا عذر على الوجه السالف الذكر ووجد مرور زمن - فلا تسمع تلك الدعوى منه في حياته وكذلك لا تسمع من أصحاب حق الانتقال بعد وفاته .
مثلا : لو ادعى أحد قائلا : إنك قد تصرفت بالأراضي الأميرية عشر سنوات بلا نزاع التي هي في تصرف مورثي بموجب طابو قبل تلك المدة وبوفاة والدي قد انتقلت تلك الأراضي لي - فلا تسمع دعواه .
المادة ( 1670 ) : ( إذا ترك المورث الدعوى مدة وتركها الوارث أيضا مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع ) .
تضم مدة ترك المورث والوارث والمنتقل منه والمنتقل إليه إلى بعضها فلذلك إذا ترك المورث الدعوى مدة وتركها الوارث أيضا مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى الوارث .
مثلا : لو ترك أحد الدعوى بمطلوبه الذي في ذمة آخر مدة ثماني سنوات وترك بعد وفاته وارثه الدعوى سبع سنوات - فلا تسمع الدعوى بعد ذلك .

كذلك لو ترك أحد مطلوبه الذي في ذمة آخر خمس سنوات ثم توفي وترك وارثه - بالحصر ابنه - الدعوى خمس سنوات أخرى ثم توفي وترك وارثه - بالحصر بنته - الدعوى خمس سنوات أيضا ثم ادعت بعد ذلك فلا تسمع دعواها ، كذلك لو ضبط أحد روضة مدة عشر سنوات على وجه الملكية في مواجهة زيد وسكت زيد هذه المدة بلا عذر ثم توفي زيد وترك بنتا فتصرف المذكور أيضا في الروضة تسع سنوات في مواجهة البنت وسكتت تلك المدة بلا عذر فادعت البنت بأن الروضة المذكورة هي ملك لوالدها زيد وقد باعها لك وفاء - فلا تسمع دعواها ( علي أفندي ) .
كذلك إذا تصرف أحد مدة في عقار وقف بالإجارتين ثم توفي وتصرف فيه ورثته الذين هم من أصحاب الانتقال بالإجارتين وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى المدعي الذي سكت في تلك المدة بلا عذر والأراضي الأميرية تقاس عليها .
المادة ( 1671 ) : ( البائع والمشتري والواهب والموهوب له كالمورث والوارث ، مثلا : إذا تصرف أحد في عرصة مدة خمس عشرة سنة وسكت صاحب الدار المتصلة بتلك العرصة تلك المدة ثم باع الدار لآخر ، فإذا ادعى المشتري أن تلك العرصة هي طريق خاص للدار التي اشتراها - فلا تسمع دعواه . كذلك إذا سكت البائع مدة وسكت المشتري مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى المشتري ) .
البائع والمشتري والواهب والموهوب له كالمورث وبتعبير آخر تجري في حقهم أحكام مادتي ( 1669 و1670 ) السالفتي الذكر .
كذلك الفارغ والمفروغ له كالمنتقل منه والمنتقل إليه .

مثال للبائع والمشتري :
مثلا : إذا تصرف أحد في عرصة ملك خمس عشرة سنة وسكت صاحب الدار المتصلة بتلك العرصة تلك المدة بلا عذر ، ثم باعها من آخر ؛ فإذا ادعى المشتري بأن تلك العرصة هي طريق خاص للدار التي اشتراها فلا تسمع دعواه ، كما لا تسمع في المادة الـ ( 1669 ) .
كذلك إذا سكت البائع مدة وسكت المشتري مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى المشتري ، كما لا تسمع في المادة الـ ( 1670 ) .
مثال للفارغ والمفروغ له في الأراضي الأميرية :
مثلا : إذا تصرف أحد في مزرعة عشر سنوات وسكت صاحب المزرعة المتصلة بالمزرعة المذكورة تلك المدة بلا عذر ثم تفرغ بمزرعته لآخر - فإذا ادعى المتفرغ له أن تلك المزرعة هي طريق خاص للمزرعة التي تفرغت إليه فلا تسمع دعواه .
مثال للفارغ والمفروغ له في المسقفات الموقوفة .
مثلا : لو تصرف أحد بالإجارتين مستقلا في دار وقف في مواجهة بنته هند خمس عشرة سنة وسكتت هذه المدة بلا عذر ثم توفي ذلك الشخص وترك هندا المذكورة وبنته زينب من زوجة أخرى ، وأرادت زينب أن تتصرف في تلك الدار بناء على الانتقال العادي مع هند بالسوية ؛ فإذا ادعت هند بأن نصف الدار المذكورة قبل السنين المذكورة هي في تصرف والدتها خديجة بالإجارتين فانتقل النصف لها ، وإنه لذلك لها ثلاثة أرباع الدار - فلا تسمع دعواها [جامع الإجارتين] .

إذا ضم مدة تصرف الوارث والمورث والبائع والمشتري والواهب والموهوب له والفارغ والمفروغ له إلى بعضهما وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا يجوز إقامة الدعوى عليهم من آخر . مثلا : إذا تصرف المورث في عقار ملك مدة ثماني سنوات وتصرف الوارث مدة ثماني سنوات أخرى بلا نزاع - فإذا ادعى من سكت هذه المدة بلا عذر أن ذلك العقار هو ملكه - فلا تسمع دعواه .
كذلك إذا تصرف البائع في عقار مدة تسع سنوات بلا نزاع ثم باعه لآخر وسلمه وتصرف المشتري ست سنوات بلا نزاع ، فإذا ظهر أحد وادعى على المشتري أن ذلك العقار ملكه - فلا تسمع دعواه .
ويقاس الواهب الموهوب له على ذلك .
كذلك إذا تصرف أحد مدة ثماني سنوات بلا نزاع في عقار موقوف ثم أفرغه لآخر وتصرف المتفرغ له في ذلك مدة ثماني سنوات بلا نزاع ، فإذا ادعى من سكت بلا عذر في هاتين المدتين على المتفرغ له بأن ذلك العقار تحت تصرفه بالإجارتين - فلا تسمع دعواه .
كذلك إذا تصرف أحد في مزرعة من الأراضي الأميرية ثماني سنوات بلا نزاع ثم توفي فتصرف من أصحاب الانتقال ولده في تلك المزرعة مدة سنتين بلا نزاع ثم ظهر شخص سكت في تينك المدتين بلا عذر وادعى على الولد قائلا : إن المزرعة في تصرفي - فلا تسمع دعواه .
كذلك إذا تصرف أحد بلا نزاع في أرض أميرية سبع سنين ثم تفرغ بها لآخر بإذن صاحب الأرض وتصرف المتفرغ له بها ثلاث سنوات ثم ظهر شخص وادعى على المتفرغ له بأن تلك المزرعة هي في تصرفه قبل تلك

السنين - فلا تسمع دعواه .
المادة ( 1672 ) : ( لو وجد مرور الزمن في حق بعض الورثة في دعوى مال الميت الذي هو عند آخر ولم يوجد في حق بعض الورثة لعذر كالصغر ، وادعى به وأثبته - يحكم بحصته في المدعى به ولا يسري هذا الحكم إلى سائر الورثة ) .
يقبل مرور الزمن التجزئة فلذلك لو وجد مرور الزمن في حق بعض الورثة في دعوى مال الميت الذي هو عند آخر ولم يوجد في حق بعض الورثة لعذر ؛ كالصغر والجنون والعته والغيبة مدة السفر وادعى به وأثبته - يحكم بحصته في المدعى به ، ولا يسري هذا الحكم إلى سائر الورثة .
مثلا : لو كان لأحد في ذمة آخر عشرة دنانير ثم توفي وترك ولدين أحدهما بالغ والآخر صغير في السنة الأولى من عمره ولم يدع ولده البالغ مدة ست عشرة سنة وعندما بلغ الولد الصغير - أي : بعد تاريخ وفاة والده بست عشرة سنة - ادعى بحصته فللولد المذكور أن يأخذ حصته الخمسة دنانير وليس للولد الآخر أن يدعي بمشاركته فيما أخذه توفيقا للمادة الـ ( 110 ) .
إذا كان المدعى به دينا ولم يكن عينا فالحكم على هذا المنوال أيضا . فلذلك لو كان لرجلين بالغين مائة دينار في ذمة آخر ولم يمر الزمن في حق أحدهما بسبب وجوده في ديار بعيدة مدة السفر فادعى بمطلوبه وأثبته - يحكم له بحصته في المدعى به ، ولا يسري هذا الحكم على حصة الشريك الآخر .
المادة ( 1673 ) : ( وليس لمن كان مقرا بكونه مستأجرا في عقارات

يملكه لمرور زمن أزيد من خمس عشرة سنة، وأما إذا كان منكرا وادعى المالك بأنه ملكي وكنت أجرتك إياه قبل سنين وما زلت - أقبض أجرته فتسمع دعواه إن كان إيجاره معروفا بين الناس وإلا فلا).
ليس من كان مقرا بكونه مستأجرا أو مستعيرا أو مستودعا أو مرتهنا أو غاصبا أو مزارعا أو مساقيا في عقار أن يملكه لمرور زمن أزيد من خمس عشرة سنة؛ لأنه لا يسقط الحق بتقادم الزمان حسب المادة الـ (1674)، كما أن مرور الزمن ووضع اليد على مال مدة طويلة ليست معدودة من أسباب الملك، كما أن الاستئجار هو مانع لدعوى التملك، كما جاء في المادة الـ(1583).
وأما إذا كان ذلك الشخص منكرا كونه مستأجرا ذلك العقار وادعى المالك بأنه ملكي وكنت أجرتك إياه قبل سنين وما زلت أقبض أجرته - نظر، فإذا كان إيجاره معروفا بين الناس -فتسمع دعواه، وإذا كان غير معروف فلا تسمع، والمعروف بضم العين من العرف. والعرف هو ضد النكر.
ومعنى معروف حسب هذه الإيضاحات، أي: إذا كان معلوما ولا يفيد هذا التعبير لزوم إثبات الإيجار بالتواتر والشهرة وعدم جواز إثباته ودفع مرور الزمن بالبينة العادية ومع ذلك لو اعتبر معنى معروف، يعني: مشهور هنا، فالمشهور على قسمين: أحدهما: أن يكون مشهورا بالشهرة الحقيقية ويدعى ذلك بالتواتر. والآخر: أن يكون مشهورا شهرة حكمية، والشهرة الحكمية تحصل بإخبار شهود بنصاب الشهادة على طريق الشهادة، والاشتهار يطلق على العلم الذي يكون بالتواتر والشهرة أو بإخبار مخبرين عدلين أو بمخبر عدل (التهتاني).

وهل أن هذا الحكم الذي يجري في حال معروفية الإيجار بين الناس يجري أيضا في الإعارة والإيداع أو الرهن المعروف بين الناس؟ فالظاهر أنه يجري. انظر مادة (1583).
والحكم على هذا المنوال أيضا في المسقفات والمستغلات الموقوفة وفي الأراضي الأميرية، فلذلك إذا تصرف أحد في عقار أكثر من ست وثلاثين سنة وادعى بعد ذلك متولي وقف قائلا: إن هذا العقار هو من مستغلات الوقف الذي هو تحت توليتي، وقد أجرتك إياه في المدة المذكورة وأنكر ذلك الشخص دعوى المتولي مدعيا ملكية ذلك العقار - فينظر: فإذا كان معروفا بين الناس أن العقار المذكور كان يؤجر من طرف الوقف لذلك الشخص- فتسمع دعوى المتولي وإلا فلا.
كذلك إذا تصرف أحد في مزرعة من الأراضي الأميرية أكثر من عشر سنوات ثم ادعى شخص آخر قائلا: إن تلك الأرض هي في تصرفي بموجب طابو وقد أجرتها لك المدة المذكورة، وأنكر ذلك الشخص دعوى المدعي -ينظر؛ فإذا كان معروفا بين الناس أن تلك الأرض قد أجرت لذلك الشخص- فتسمع دعواه وإلا فلا.

المادة (1674): لا يسقط الحق بتقادم الزمن بناء عليه إذا أقر واعترف المدعى عليه صراحة في حضور القاضي بأن للمدعي عنده حقا في الحال في دعوى وجد فيها مرور الزمن بالوجه الذي ادعاه المدعي- فلا يعتبر مرور الزمن، ويحكم بموجب إقرار المدعى عليه، وأما إذا لم يقر المدعى عليه في حضور القاضي وادعى المدعي بكونه أقر في محل آخر- فكما لا تسمع دعواه الأصلية كذلك لا تسمع دعوى الإقرار. ولكن الإقرار الذي

ادعى أنه كان قد ربط بسند حاو لخط المدعى عليه المعروف سابقا أو ختمه ولم يوجد مرور الزمن من تاريخ السند إلى وقت الدعوى -تسمع دعوى الإقرار على هذه الصورة).
لا يسقط الحق بتقادم الزمن ولو تقادم الزمن أحقابا كثيرة وإن عدم استماع الدعوى بمرور الزمن المبين آنفا مبني على الأمر السلطاني بسبب امتناع الحكم عن سماع الدعوى خوف وقوع التزوير ولقطع الحيل والتزوير والأطماع الفاسدة الفاشية بين الناس. انظر شرح عنوان الباب الثاني.
فلذلك لو أقام أحد الدعوى بمطلوبه الذي هو على آخر بعد مرور خمس عشرة سنة ورد القاضي الدعوى بسبب مرور الزمن، فيبقى المدين مدينا ديانة، ولا يخلص من حق غرمائه ما لم يؤد دينه أو يرض مدينه.
فلذلك إذا أقر واعترف المدعى عليه صراحة في حضور القاضي بأن للمدعي عنده حقا في الحال في دعوى وجد فيها مرور الزمن بالوجه الذي ادعاه المدعي، فلا يعتبر مرور الزمن، ويحكم بموجب إقرار المدعى عليه.
والإقرار إما أن يكون شفاهيا وقد بين، وإما أن يكون بالإقرار بأن إمضاء أو ختم السند المبرز هو إمضاؤه وختمه، ويقال لهذا: الإقرار بالكتابة.
مثلا: إذا ادعى أحد دينا من آخر مر عليه خمس عشرة سنة استنادا إلى سند معنون ومرسوم فأقر المدعى عليه الإمضاء والختم الذي في السند وادعى وجود مرور الزمن في الدعوى فيلزمه، كما بين في المادة الـ(1610) أن يؤدي المبلغ الذي يحتويه السند (الخالية في كتاب

الدعوى).
وبما أنه لا يسقط الحق بمرور الزمن فلا يكفي أن يكون جواب المدعى عليه على دعوى المدعي بقوله: إن في الدعوى مرور زمن. أما لو أجاب المدعى عليه على دعوى الدين بأنني لست مدينا وفي دعوى العين: أن هذه العين لي وأضاف إلى ذلك الادعاء بمرور الزمن -فيصح دفعه.
إن ذكر عبارة في الحال الواردة في هذه الفقرة هي لكونها وردت في فتاوى مشائخ الإسلام، ولا يقصد بها الاحتراز من الإقرار للمدعي حقا عنده في الماضي؛ فلذلك لو ادعى المدعى عليه بأن المال المدعى به كان قبل ثلاثين سنة للمدعي ولمورثه وأنه اشتراه منه -فيكون قد أقر بحق المدعي، فلذلك إذا لم يثبت المدعى عليه الشراء وحلف المدعي اليمين عند تكليفه للحلف يسلم المدعى به للمدعي؛ لأن من أقر بشيء لغيره أخذ بإقراره ولو كان في يده أحقابا كثيرة لا تعد، وهذا مما لا يتوقف فيه (الخيرية في الدعوى) والحكم في الدين وهو على هذا المنوال فلو ادعى المدعي على المدعى عليه قائلا: إن لي العشرين دينارا التي أقرضتها لك قبل خمس عشرة سنة، فإذا ادعى المدعى عليه أنه اقترض منه هذا المبلغ قبل خمس عشرة سنة إلا أنه قد أدى ذلك للمدعي فعليه إثبات ذلك، فإذا عجز عن الإثبات وحلف المدعي على عدم استيفائه الدين -فله أخذ ذلك المبلغ من المدعى عليه.
والمسقفات الموقوفة والأراضي الأميرية والموقوفة: هي كالأملاك، فلذلك لو ادعى أحد على عقار وقف بالإجارتين أو أرض أميرية جارية في تصرف آخر بلا نزاع مدة خمس عشرة سنة بأن العقار المذكور هو تحت

تصرفه من الوقف المذكور، أو أن الأرض تحت تصرفه وأجاب المدعى عليه بأن العقار المذكور أو الأرض المذكورة كانت تحت تصرفك إلا أنك قد تفرغت بها لي قبل خمس عشرة سنة بإذن المتولي أو بإذن صاحب الأرض وأنني متصرف بذلك العقار أو تلك الأرض من ذلك الوقت - فإذا أثبت المدعى عليه حصول الفراغ له أو نكل المدعي عن حلف اليمين تندفع دعوى المدعي، أما إذا لم يثبت المدعى عليه الفراغ وحلف المدعي اليمين فيحكم على المدعى عليه بالرد.
أن هذه المسألة قد كتبها أمين الفتوى الأسبق ( عمر حلمي أفندي ) في كتاب الأوقاف بغير هذا الوجه إلا أنه لما كان ما كتبه بهذه المسألة مخالفا للشرع فهو غير معتبر.
وأما إذا لم يقر المدعى عليه في حضور القاضي وادعى بكونه أقر في محل آخر وأنه لا يوجد مرور زمن اعتبارا من تاريخ الإقرار فكما لا تسمع دعواه الأصلية، كذلك لا تسمع دعوى الإقرار حيث إنه يوجد في هذه الصورة شبهة تزوير وتصنيع.
ولكن الإقرار الذي ادعى به كان قد ربط بسند حاو لخط وختم المدعى عليه المعروف سابقا بين التجار وأهل البلدة ولم يوجد مرور الزمن من تاريخ السند إلى وقت الدعوى ففي تلك الصورة تسمع دعوى الإقرار؛ لأنه يثبت الإقرار في هذا الحال بريئا من شبهة التزوير والتصنيع.
والإيضاحات عن كلمة وختمه قد مر ذكرها في المادة الـ(1609).
المادة الـ(1675): (لا اعتبار لمرور الزمن في دعاوى المحال التي يعود نفعها للعموم كالطريق العام والنهر والمرعى. مثلا: لو ضبط أحد

المرعى المخصوص بقرية وتصرف فيه خمسين سنة بلا نزاع ثم ادعاه أهل القرية تسمع دعواهم).
لأنه يوجد بين العامة قاصرون كالصغار والمجانين والمعتوهين ويوجد غائبون، وحيث لا يمكن إفراز حق هؤلاء من غيرهم؛ فلذلك لا يجري في المحال التي يعود نفعها للعموم مرور الزمن: مثلا: أن لأهالي بغداد حقا في الطريق العام الكائنة في دمشق.
فلذلك لو ضبط أحد المرعى المخصوص بقرية وتصرف فيه خمسين سنة بلا نزاع ثم ادعاه أهل القرية - تسمع دعواهم.
أما إذا لم يكن المرعى عائدا للعموم، أي: عائدا لأهالي قرية أو قصبة أو عائدا لأهالي قرى أو قصبات متعددة، بل كان عائدا لشخص مخصوص - فإذا كان ملكا فلا تسمع الدعوى فيه بعد خمس عشرة سنة، وإذا كان من الأراضي الأميرية فلا تسمع الدعوى فيه بعد مرور عشر سنوات.
كذلك لو أخذ أحد مقدارا من الطريق العام وألحقه بداره، فإذا ادعى أحد العامة بعد مرور خمسين سنة وأثبت دعواه فله تفريغ الطريق.
والمقصود من النهر في المجلة هو النهر العائد لأهالي قرية أو قرى متعددة، أما النهر المملوك لشخص فمرور الزمن فيه قد مر ذكره في المادة الـ(1661).
تاريخ الإدارة السنية 9 جمادى الآخرة سنة 1293 هـ.
(تم بألطافه تعالى كتاب الدعوى ويليه كتاب البينات والتحليف)
ويرجع إلى كتاب [قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات

الأوقاف] 224 وما بعدها، وكتاب [إتحاف الأخلاق في أحكام الأوقاف] 224 وما بعدها، وكتاب [المعاملات في الشريعة الإسلامية] (1\ 107) وما بعدها.
ج- وجاء في [مرشد الحيران وشرحه] باب في وضع اليد وعدم سماع الدعوى بمرور الزمن : الأصل في هذا المبحث أن الولاية تتخصص بالزمان والمكان والخصومة وتقبل التقييد والتعليق بالشرط كقول الإمام لمن يريد توليته: إذا وصلت إلى بلد كذا فأنت قاضيه وتقبل الإضافة إلى زمن معلوم كقوله: جعلتك قاضيا على جهة كذا من أول سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بعد الألف؛ لأن السلطة مستمدة منه فلا يتجاوز المستمد قدر ما أمده به ولي الأمر، واستدل على أن الولاية تقبل التعليق بقوله عليه الصلاة والسلام حين بعث البعثة إلى مؤتة : قرية من قرى البلقاء في حدود الشام من جهة بلاد العرب شمال معان، وأمر عليهم زيد بن حارثة : « إن قتل زيد بن حارثة فجعفر أميركم، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة . » (1)
وقد ورد نهي سلطاني للقضاة بعدم سماع الدعوى في غير الإرث والوقف بعد مضي خمس عشرة سنة والمدعى عليه واضع يده على ما يدعيه المدعي وهو حاضر ولم يكن عنده عذر شرعي يمنعه من الخصومة؛ لأن تركه تلك المدة أمارة على كونه غير محق، وأن الشيء المتنازع فيه ملك لواضع اليد إذ العرف والعادة يقتضيان أن الشخص لا يسكت عن ملكه هذا الزمن الطويل.
ولكن مضي المدة لا يكسب واضع اليد الملك فيما وضع يده عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: « لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم » ، ولذلك
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4013).

لو أقر به للمدعى عليه تسمع الدعوى ولو تمسك بالمدة الطويلة ولا يلتفت إليه. وينبغي لولي الأمر أن ينظر في مثل هذه القضايا بنفسه أو يعين من يختاره للفصل فيها كي لا تضيع الحقوق، نعم، لو كان بعض المدعين مشهورا بالحيل والتزوير لا يلتفت إلى قضيته أصلا؛ لأن شهرته بالتزوير تدل على أنه مبطل في دعواه، وإنما الواجب عليه النظر في قضايا من لم يشتهروا بالتزوير والاحتيال لاغتيال حقوق الناس بالباطل. وينبني على ذلك أنه إذا كان شخص واضعا يده على عين من الأعيان عقارا كانت أو منقولا والحال أنه يتصرف فيها تصرف الملاك بدون منازع ولا معارض مدة خمس عشرة سنة - فلا تسمع عليه دعوى الملك بغير الإرث والوقف من أحد ليس عنده عذر شرعي كسفر أو مرض أو جنون أو صغر كما سيبين قريبا، ومحل ذلك ما إذا أنكر المدعى عليه، فإن أقر للمدعي وجب على القاضي سماعها، ولذلك ينبغي للقاضي أن لا يرفض القضية من أول الأمر، بل ينبغي له أن يوجه إلى المدعى عليه بعض أسئلة لجواز أن يقر وإذ ذاك يبتدئ في سماعها ليفصل فيها. انظر مادة (151) (1) .
فمما تقدم علمت أن النهي السلطاني خاص بغير الإرث والوقف ، فلا يسري حكم النهي إليهما، بل تسمع فيهما الدعوى ولو بعد مضي خمس عشرة سنة، ولكن نص الفقهاء على أن الخصم لو ترك الخصومة مدة ثلاث وثلاثين سنة في الإرث والوقف وهو يشاهد واضع اليد يتصرف في العين
__________
(1) (المادة 151): من كان واضعا يده على عقار أو غيره ومتصرفا فيه تصرف الملاك بلا منازع ولا معارض مدة 15 سنة - فلا تسمع عليه دعوى الملك بغير الإرث من أحد ليس بذي عذر شرعي إن كان منكرا.

التي تحت يده تصرف الملاك بدون منازع ولا معارض ولم يكن له من عذر شرعي يمنعه من الخصومة - فلا تسمع دعواه بعد ذلك؛ لأن ترك الخصومة هذا الزمن الطويل يدل على أنه غير مالك لما يدعيه، وهذا الحكم ليس مبنيا على نهي سلطاني، بل على اجتهاد الفقهاء؛ ولذا لا تسمع الدعوى بعدها ولو أمر ولي الأمر بسماعها. وصرح بعضهم بأن المدة في الإرث والوقف ثلاثون سنة. وصرح آخرون بأنها ست وثلاثون سنة، وقال بعضهم: المستثنى من النهي السلطاني إنما هو الوقف ومال اليتيم والغائب في الإرث، والمشهور الأول. انظر مادة (152) (1) .
__________
(1) (المادة 152): من كان واضعا يده على عقار متصرفا فيه تصرف الملاك بلا منازع لمدة ثلاث وثلاثين سنة - فلا تسمع عليه بعدها دعوى الإرث ولا دعوى أصل الوقف إلا لعذر شرعي.

وليس المدة المانعة من سماع الدعوى قاصرة على الزمن الذي وضع يده المدعى عليه فيه، بل لواضع اليد المدعى عليه أن يضم إلى مدة وضع يده وضع يد من تلقى الملك عنه مطلقا، سواء كان ذلك التلقي بطريقة الشراء أو الهبة أو الوصية أو الإرث أو غير ذلك، كالأخذ بالشفعة فإذا ضمت المدتان إلى بعضهما وصار المجموع مساويا للمدة المانعة من سماع الدعوى، فلا تسمع على واضع اليد دعوى الملك المطلق ولا دعوى الإرث والوقف؛ لأن علة منع سماعها الترك وقد حصل في مجموع المدتين. انظر مادة (153) (1) .
__________
(1) (المادة 153): لواضع اليد على العقار أن يضم إلى مدة وضع يده مدة وضع يد من انتقل منه العقار إليه، سواء كان انتقاله بشراء أو هبة أو وصية أو إرث أو غير ذلك، فإن جمعت المدتان وبلغت المدة المحددة لمنع سماع الدعوى فلا تسمع على واضع اليد دعوى الملك المطلق ولا دعوى الإرث ولا الوقف.

ومحل منع سماع الدعوى بعد مضي المدة إذا لم يكن وضع اليد بطريق الإجارة أو الإعارة، فإن كان واضع اليد مستأجرا أو مستعيرا أو معترفا بالإجارة أو الإعارة - فليس له أن يتمسك بمضي المدة وهو واضع اليد لاعترافه بأنه ليس بمالك وأن الملك للمؤجر أو للمعير. فلو أنكر الإجارة أو الإعارة في جميع مدة وضع يده ومضت المدة المقررة لمنع سماع الدعوى والمدعي حاضر ولم يخاصم مع تمكنه من المخاصمة ووجود الداعي لها، وهو إنكاره الإجارة أو الإعارة - فلا تسمع دعواه بعد ذلك؛ لأن سكوته المدة الطويلة يدل على أنه غير محق في دعواه، كما تقدم، انظر مادة (155) (1) .
وهذا إذا ترك مدعي الملك أو الإرث أو الوقف الدعوى في المدة الطويلة وهي خمس عشرة سنة في الملك المطلق وثلاث وثلاثون في الإرث والوقف بدون عذر شرعي فإن كان عنده عذر من الأعذار الشرعية يمنعه من الدعوى؛ كأن كان مريضا أو مسافرا أو قاصرا أو مجنونا وليس لهما ولي أو وصي - جاز سماع الدعوى، ولا عبرة بوضع اليد في تلك المدة؛ لأن العلة ترك الخصومة مع التمكن وهو لم يتمكن لوجود العذر. ومن المقرر أن المعلول يدور مع علته وجودا أو عدما.
ولهذا لو حضر المسافر وبلغ الصبي وعقل المجنون وترك كل منهم
__________
(1) (المادة 155): من كان واضعا يده على عقار بطريقة الإجارة أو الإعارة وهو مقر بالإجارة أو العارية فليس له أن يتمسك بمرور خمس عشرة سنة على وضع يده في منع سماع دعوى المؤجر أو المعير عليه، فإن كان منكرا للإجارة أو العارية جميع تلك المدة والمدعي حاضر وهو تارك للدعوى عليه مع التمكن منها ووجود المقتضي لها - فلا تسمع دعواه بعد ذلك.

الدعوى بعد زوال العذر مدة خمس عشرة سنة في الملك المطلق ومدة ثلاثا وثلاثين في الإرث والوقف - لا تسمع منهم الدعوى. انظر مادتي (156, 157) (1) .
ولو خاصم المدعي واضع اليد عند القاضي في مجلس القضاء قبل مضي المدة المانعة من سماع الدعوى ولم يفصل القاضي في الخصومة وأهملت الدعوى حتى مضى على وضع اليد المدة الكافية للمنع من سماع الدعوى - جاز للقاضي سماعها، ولكن محل ذلك ما لم يمض بين الدعوى الأولى والثانية المدة المقررة لعدم سماع الدعوى، فإن مضت المدة بعد الدعوى الأولى ولم يكن عنده عذر يمنعه من الدعوى - فلا يجوز للقاضي سماعها. هذا إذا كانت المخاصمة أمام القاضي كما تقدم، فإن طلب المدعي العين من واضع اليد عليها في غير مجلس القضاء - فلا تعتبر تلك المطالبة، ولو حصلت، وحينئذ لا تكون تلك المطالبة قاطعة للمدة، بل لواضع اليد أن يضم المدة التي بعد المطالبة إلى التي قبلها، فإن بلغت المدتان المدة المحدودة ثم ادعى أحد على واضع اليد بعد ذلك - فلا تسمع منه الدعوى. انظر مادتي (158، 159) (2) وليس عدم سماع الدعوى
__________
(1) (المادة 156): إنما لا تسمع دعوى الملك أو الإرث أو الوقف على واضع اليد إذا تحقق ترك الدعوى بلا عذر شرعي في المدة المحدودة. (المادة 157): إذا تركت الدعوى لعذر من الأعذار الشرعية في المدة المحدودة؛ كأن كان المدعي غائبا أو قاصرا أو مجنونا ولا ولي لهما ولا وصي - فلا مانع من سماع دعوى الملك أو الإرث أو الوقف ما لم يحضر الغائب ويبلغ الصبي ويفيق المجنون ويترك الدعوى بعد حضوره أو بلوغه أو إفاقته مدة تساوي المدة.
(2) (المادة 158): وإذا ادعى في أثناء المدة في مجلس القضاء على واضع اليد ولم تفصل الدعوى فلا مانع من سماعها ثانيا ولو مضت المدة المحدودة ما لم يمض بين الدعوى الأولى والثانية المدة المحدودة. (المادة 159): المطالبة في أثناء المدة المحدودة في غير مجلس القضاء لا تعتبر ولو تكررت مرارا .

قاصرا على مضي المدة الطويلة المتقدم بيانها، بل يمنع المدعي من سماع دعواه إذا وجد منه ما يدل على اعترافه بالملك لواضع اليد ولو لم يمض على ذلك المدة الطويلة؛ لأنه بدعواه الملك بعد اعترافه يعد ساعيا في نقض ما تم من جهته وكل من سعى في نقض ما تم من جهته، فسعيه مردود عليه، وينبني على ذلك ما يأتي:
الأول: أنه إذا ساوم شخص آخر في العين التي تحت يده بطريق البيع أو الإجارة ليبيعها له أو يؤجرها له أو طلب منه أن يعيرها إياه ثم ادعى بعد ذلك أن العين ملكه - فلا تسمع دعواه بعد المساومة أو طلب الإيداع أو الإجارة أو الإعارة؛ لاعترافه ضمنا بالملك للمدعي عليه فلا تقبل دعواه. انظر مادة (154) (1) .
الثاني: إذا باع أحد لآخر عينا من الأعيان، سواء كانت عقارا أو منقولا أمام شخص فاستلم المشتري المبيع بحضرته وتصرف فيه تصرف الملاك وهو حاضر كأن بنى في العقار أو غرس فيه أشجارا أو زرعه أو كان المبيع من الأقمشة فجعله ثوبا ثم أراد بعد ذلك مخاصمة المشتري - فلا تسمع دعواه؛ لأن حضوره وقت البيع ومشاهدته للتصرف، ولم ينكر على
__________
(1) المادة (154): الاستيام والاستيداع والاستئجار والاستعارة والاستيهاب تعتبر إقرارا بعدم الملك المباشر ذلك - فلا تسمع دعواه لنفسه على واضع اليد ولو لم يمض على وضع اليد المدة المحدودة لمنع سماع الدعوى.

المشتري، ولم يخاصمه في ذلك الوقت بدون عذر يعد اعترافا منه بالمالك، ولو مات ذلك الشخص وأراد وارثه أن يدعي فليس له ذلك؛ لاعتراف مورثه بالملك للمشتري ضمنا. انظر مادة (160) (1) .
الثالث: أنه إذا باع شخص عقارا أو حيوانا أو ثوبا لآخر وكان أحد أقاربه يعلم ذلك كولده أو أبيه أو أخيه أو زوجته ثم ادعى أنه ملكه - فلا تسمع دعواه بعد ذلك إذا لم يكن عنده عذر يمنعه من إقامة الدعوى وقت البيع؛ لأن سكوته وقت البيع يعد اعترافا منه بالملك للبائع وأنه ليس له حق فدعواه بعد ذلك تعد سعيا في نقض ما تم من جهته وكل من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه كما سبق. ولا يشترط في عدم سماع دعوى القريب مشاهدته لتصرف المشتري، كما تقدم في الأجنبي على الصحيح، بل مجرد اطلاعه على بيع قريبه بدون مخاصمة لمنعه من سماع الدعوى. انظر مادة (161) (2) .
فائدة:
قال الإمام مالك : من حاز عقار غيره عشر سنين منع الغير من سماع الدعوى، وهذا إذا كان أجنبيا فإن كان قريبا - سواء كان شريكا في العقار أو
__________
(1) (المادة 160): من كان واضعا يده على عقار اشتراه فلا تسمع دعوى الملك عليه ممن كان معه في البلد وهو يعلم البيع ورآه وهو يتصرف فيه بناء وزرعا وغير ذلك وسكت عن دعواه ولو لم تمض على وضع اليد خمس عشرة سنة ووارث من كان حاضرا يعلم البيع ويرى المتصرف كمورثه في عدم سماع الدعوى معه.
(2) (المادة 161): لا تسمع دعوى الملك على واضع اليد من ولد البائع له ولا من أقاربه أو زوجته الذين كانوا حاضرين وقت بيع العقار له وعالمين به وسكتوا عن دعواه ولو لم يمض على بيعه خمس عشرة سنة.

غير شريك- فلا تعتبر الحيازة إلا إذا طال تصرف الحائز بالهدم والبناء ونحوهما مدة طويلة نحو ستين سنة وتختلف الحيازة في المنقول باختلاف حالته، ففي دابة الركوب وفي نحو أثاث المنزل ثلاث سنين وفي نحو ثوب سنة.
وأما الديون الثابتة في الذمة فقيل: تسقط بمضي عشرين سنة بدون عذر. وقيل: لا تسقط إلا بمضي ثلاثين سنة، واختار ابن رشد : أنها متى كانت ثابتة لا تسقط وإن طال الزمان وكان ربه حاضرا ساكتا قادرا على الطلب لخبر « لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم » ، وفوض بعضهم الأمر لاجتهاد القاضي لينظر في حال الزمن وحال الناس وهو ظاهر. اهـ. من [الشرح الكبير] (4\ 217، 218) (1) .
__________
(1) [مرشد الحيران وشرحه] ص (114) وما بعدها.

2 -

النقول عن المذهب المالكي
تمهيد: بنى الإمام مالك القول بإثبات الحكم بالتقادم على اجتهاد الحاكم، ولم يحدد له مدة معينة، وذكر بعضهم عنه تحديده بعشر سنوات، ومن المالكية من بنى قوله في ذلك على حديثين أحدهما: « لا يبطل حق امرئ وإن قدم » ، والثاني: « من حاز شيئا عشر سنين فهو له » .
ولقد اعتنى المالكية في تفصيل الكلام على هذه النقطة في [مدونة الإمام مالك ] رحمه الله، وفي [تبصرة الحكام] لابن فرحون، و[مختصر خليل وشرحه] للحطاب وغيرها، وقد رأت اللجنة الاقتصار على النقول الثلاثة المشار إليها فقط وتركت البقية اختصارا.

وفيما يلي ذكر هذه النقول:
أ- شهادة السماع في الدور المتقادم حيازتها :
قلت (1) : أرأيت إن كانت الدار في يدي رجل قد أنسئ له في العمر أقام فيها خمسين سنة أو ستين سنة ثم قدم رجل فأعادها وأثبت الأصل؟ فقال الذي الدار في يده: اشتريتها من قوم قد انقرضوا وانقرضت البينة، وجاء بقوم يشهدون على السماع أنه اشتراها (قال): سمعت مالكا يقول: إذا جاء بقوم يشهدون على السماع أنه اشترى ولم يقل لي مالك من صاحبه الذي ادعاها كان أو من غيره وقد أخبرتك بالذي سمعت منه وليس وجه السماع الذي يجوز على المدعي، والذي حملنا عن مالك إلا أن يشهدوا على سماع شراء من أهل هذا المدعي الذي يدعي الدار بسببهم أو يكون في ذلك قطع لدعوى هذا المدعي بمنزلة السماع في الأحباس فيما فسر لنا مالك ( قال): ومعنى قول مالك : حتى يشهدوا على سماع يكون فيه قطعا لدعوى هذا المدعي إنما هو أن يشهدوا أنا سمعنا أن هذا الذي الدار في يديه أو أباه أو جده اشترى هذه الدار من هذا المدعي أو من أبيه أو من جده أو من رجل يدعي هذا المدعي أنه ورث هذه الدار من قبله (قال): نعم، أو أشتري ممن اشترى من جد هذا المدعي، وقد بينا لك ذلك من قول مالك (قال): وقال مالك : هاهنا دور تعرف لمن أولها بالمدينة قد تداولها قوم بعد قوم في الاشتراء وهي اليوم لغير أهلها فإذا كان على مثل هذا فالسماع جائز على ما وصفت لك وإن لم تكن شهادة قاطعة (قال) ابن القاسم : وكان مالك يرى
__________
(1) [المدونة الكبرى] (4\ 89).

الشهادة على السماع أمرا قويا (قلت): أرأيت إن أتى الذي الدار في يده ببينة يشهدون أنهم سمعوا أن هذا الرجل الذي في يديه الدار اشترى هذه الدار، أو اشتراها جده، أو اشتراها والده إلا أنهم قالوا: سمعنا أنه اشتراها ولكنا لم نسمع بالذي اشتراها منه من هو؟ (قال): لم أسمع من مالك فيه شيئا ولا أرى ذلك يجوز حتى يشهدوا على سماع صحة أنه اشتراها من فلان أب هذا المدعي أو جده .
ب- في الشهادة على السماع في الدار القريبة حيازتها :
قلت (1) : أرأيت إن أتى رجل فادعى دارا في يدي رجل وثبت ذلك فقال الذي في يديه الدار: أنا آتي بقوم يشهدون على السماع أن أبي اشتراها من خمس سنين أو ما أشبه ذلك أتقبل البينة في تقارب مثل هذا على السماع؟ (قال): لا أرى أن ينفع السماع في مثل هذا ولا تنفعه شهادة السماع إلا أن يقيم بينة تقطع على الشراء وإنما تكون شهادة السماع جائزة فيما كثر من السنين وتطاول من الزمن ولقد قال مالك في الرجل يقر لقوم أن أباهم كان أسلفه مالا وأنه قد قضاه والدهم - (قال) مالك : وكان الذي من ذلك أمرا حديثا من الزمان والسنين لم يتطاول ذلك لم ينفعه قوله: قد قضيت إلا ببينة قاطعة على القضاء، وإن كان تطاول زمان ذلك أحلف المقر وكان القول قوله فهذا يدلك أيضا على تطاول الزمان في شهادة السماع أنها جائزة وما قرب الزمان أنها ليست على الغائب؛ لأنه غائب لم يجز عليه شيء دونه فتكون الحيازة دونه إلا أن مالكا قال في الذي يقر بالدين فيما بلغني عنه ولم
__________
(1) المدونة الكبرى] (4\ 90).

أسمعه منه: لو كان إقراره ذلك على وجه الشكر مثل ما يقول الرجل للرجل: جزى الله فلانا خيرا قد جئته مرة فأسلفني وقضيته، فالله يجزيه خيرا على نشر الجميل والشكر له، لم أر أن يلزمه في هذا شيء مما أقر به قرب زمان ذلك أو بعد .
ج- في الشهادة على الحيازة :
(قلت) (1) : أرأيت أن شهدوا على دار أنها في يد رجل منذ عشر سنين يحوزها ويمنعها ويكريها ويهدم ويبني وأقام آخر البينة أن الدار داره أيجعل مالك الذي أقام البينة على الحيازة وهي في يديه بمنزلة الذي يقيم البينة وهي في يديه أنها له فيكون أولى بها في قول مالك ويجعل مالك الحيازة وإذا شهدوا له بها بمنزلة الملك (قال): قال مالك : إذا كان حاضرا يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له، وإن كان غائبا سئل الذي الدار في يديه، فإن أتى ببينة أو سماع قد سمعوا أن أباه أو جده قد اشترى هذه الدار إذا كان أمرا قد تقادم فأراها له دون الذي أقام البينة أنها له (قال) مالك : لأن هاهنا دورا قد عرفت لمن أولها قد بيعت وتداولتها المواريث وحيزت منذ زمان ، فلو سئل أهلها البينة على أصل الشراء لم يجدوا إلا السماع فإذا كان مثل ما وصفت لك في تطاول الزمان فأتى بالسماع مع الحيازة فأراها له كذلك.
قال مالك : وإن لم يأت بالسماع ولا بالشهادة وكان الذي يطلب الدار غائبا فقدم فأقام البينة أنها له رأيتها له (قال) مالك : وإن كان حاضرا إذ حازها المشتري دونه فلا شيء للذي يدعيها (قلت): هل كان مالك يوقت في الحيازة عشر
__________
(1) [المدونة الكبرى] (4\ 99).

سنين؟ (قال): ما سمعت مالكا يحد فيه عشر سنين ولا غير ذلك ولكن على قدر ما يرى أن هذا قد حازها دون الآخر فيما يكري ويهدم ويبني ويسكن (قلت): أرأيت الدواب والثياب والعروض كلها والحيوان كله هل كان مالك يرى أنها إذا حازها رجل بمحضر من رجل فادعاها الذي حيزت عليه أنه لا حق له فيها؛ لأن هذا قد حازها دونه ، وهل كان يقول في هذه الأشياء مثل ما يقول في الدور والحيازة؟ (قال: لم أسمع من مالك في هذا شيئا إلا أن ذلك عندي مثل ما قال مالك في الدور إذا كانت الثياب تلبس وتمتهن والدواب تكرى وتركب ( ابن وهب ) عن عبد الجبار (1) بن عمر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من حاز شيئا عشر سنين فهو له » قال عبد الجبار : وحدثني عبد العزيز بن المطلب عن زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله (قال) عبد الجبار عن ربيعة أنه قال: إذا كان الرجل حاضرا وماله في يد غيره فمضت له عشر سنين وهو على ذلك كان المال الذي هو في يديه بحيازته إياه عشر سنين إلا أن يأتي الآخر ببينة على أنه أكرى أو أسكن أو أعار عارية أو صنع شيئا من هذا وإلا فلا شيء له قال) ربيعة : ولا حيازة على غائب .
__________
(1) قال في [لسان الميزان] عن العقيلي في عبد الجبار المذكور: في حديثه وهم كثير ومشاه غيره، وقال مسلمة بن القاسم: ضعيف. انتهى ملخصا.

د- ما جاء في الشهادات في المواريث :
(قلت) (1) : أرأيت إن مات عندنا ميت فجاء رجل فأقام البينة أنه ابن الميت ولم يشهد الشهود أنهم لا يعلمون له وارثا غيره أتجيز شهادتهم
__________
(1) [تبصرة الحكام] (2\ 86).

وتعطي هذا الميراث أم لا تعطيه من الميراث شيئا ، وهل تحفظ قول مالك في هذا؟ (قال): وجه الشهادة عند مالك في هذا أن يقولوا: إنه ابنه لا يعلمون له وارثا غيره فأرى أن تبطل الشهادة في ذلك ويسأل وينظر (قلت): أرأيت إن أقمت البينة أن هذه الدار دار أبي وجدي ولم يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لي أيقضي لي بها السلطان في قول مالك أم لا؟ (قال): لا ، حتى يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لا يعلمون أنه أحدث فيها شيئا ولا خرجت عن يده ، وجل الدور تعرف لمن كان أولها ثم تداولها أقوام بعد ذلك فهم إن شهدوا يشهدون ولا علم لهم بما كان فيها ولا تجوز شهادتهم حتى يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لا يعلمون له وارثا غيره إذا شهدوا أن هذا وارث جده أو وارث أبيه (قلت): أرأيت إن شهدوا أن هذا وارث أبيه أو جده مع ورثة آخرين (قال): لا يعطي هذا إلا حظه (قلت): فحظوظ إخوته أتؤخذ من يد هذا الذي هي في يديه فيضعها السلطان على يدي عدل؟ (قال): أرى أن لا يعطى لهذا منها إلا بمقدار حظه وما استحق من ذلك ويترك السلطان ما سوى ذلك في يدي المدعى عليه حتى يأتي من يستحقه ولا يخرجه من يديه (قال) سحنون : وقد كان يقول غير هذا وروى أشهب عن مالك أنه قال: ينتزع من يد المطلوب ويوقف (قلت): أرأيت لو أن قوما شهدوا على أن هذه الدار دار جدي وأن هذا المولى مولى جدي ولم يحددوا المواريث لم يشهدوا أن جدي مات فورثه أبي ، وأن أبي مات فورثته أنا (قال): سأل مالكا بعض أصحابنا وسمعته يسأل عن الرجل يقيم البينة: أن هذه الدار دار جده ويكون فيها رجل قد حازها منذ سنين ذوات عدد (قال): قال مالك : أما إن كان الرجل المدعي حاضرا فلا أرى له فيها حقا لأجل حيازته إياها إذا

كان قد حازها سنين ذوات عدد، وأما إذا كان المدعي غائبا وثبتت المواريث حتى صارت له -فإني أرى أن يسأل الذي هي في يديه من أين صارت له، فإن أتى ببينة على شراء أو سماع على الاشتراء، وإن لم يكن أحد يشهد على معاينة الشراء ولا من يشهد على البتات إلا على السماع فأرى الشهادة جائزة للذي هي في يديه بالسماع بالاشتراء، وإن لم يكن في أصل الشهادة شهادة تقطع على البيع (قال) مالك : لأن هاهنا دورا يعرف لمن أولها قد بيعت ولا يوجد من يشهد على أصل الشراء إلا بالسماع ثم قال لنا: تلك منها هذه الدار التي أنا فيها قد باعها أهلها وليس أحد يشهد على أصل الشراء إلا بالسماع فإذا أتى الذي في يديه الدار بأصل الشراء أو بقوم يشهدون على سماع الاشتراء فذلك قلت، فإن لم يأت الذي في يديه الدار بشيء من هذا لا بقوم يشهدون على السماع ولا بقوم يشهدون على الشراء أتجعلها للذي أقام البينة أنها لجده على ما ثبت في قول مالك ؟ (قال): قال مالك : نعم، تكون للذي أقام بالبينة أنها لجده إذا كان غائبا (قلت): وشهادة السماع هاهنا إنما هو أن يشهدوا أنهم سمعوا أن هذا اشترى هذه الدار من جد هذا المدعي (قال): إذا تقادم ذلك جازت شهادتهم على السماع وإن كان المشتري حيا؛ لأن المشتري يشتري ويتقادم ذلك حتى يكون لشرائه هذا أربعون سنة أو خمسون سنة أو ستون سنة أو نحو ذلك ولم أوقف مالكا على أنه هو اشتراه بعينه إلا أن الذي ذكر لي مالك إنما هو في الشراء الذي يتقادم (قال): وأما في الولاء فإن مالكا قال: أقضي بالسماع إذا شهدت الشهود على السماع أنه مولاه بالمال ولا أقضي له بالولاء (قلت): أرأيت إن أقام البينة أن الدار دار أبيه، وقالت البينة: لا

نعرف كم الورثة أيقضي له بشيء من الدار في قول مالك ، وكيف إن قال الابن: إنما أنا وأخي ليس معنا وارث غيرنا أو قال: أنا وحدي الوارث ليس معي وارث غير أيصدق في قول مالك ؟ (قال): لا أقوم على حفظ قول مالك في هذا ، ولا أرى أن يقضي له السلطان بشيء حتى يقيم البينة على هذه الورثة . (قلت): أرأيت إن أقمت البينة على دار أنها دار جدي ولم يشهد الشهود أن جدي مات وتركها ميراثا لأبي ، وأن أبي مات وتركها ميراثا لورثته ولم يحددوا المواريث بحال ما وصفت لك (قال): سألنا مالكا عنها (فقال): ينظر في ذلك فإن كان المدعي حاضرا بالبلدة التي الدار فيها وقد حيزت دونه السنين يراهم يسكنون ويحوزون بما تحاز به الدور -فلا حق له فيها وإن كان لم يكن بالبلد التي الدار بها وإنما قدم من بلاد أخرى فأقام البينة على أنها دار أبيه أو دار جده وثبتت المواريث سئل من الذي الدار في يديه، فإن أتى ببينة على أصل الشراء أو الوجه الذي صارت به إليه أو سماع من جيرانه أو من غير جيرانه أن جده أو والده كان اشترى هذه الدار أو هو بنفسه إذا طال الزمان فقالوا: سمعنا أنه اشتراها وهاهنا دور تعرف لمن أولها وقد تقادم الزمان وليس على أصل الشراء بينة وإنما هو سماع من الناس أن فلانا اشترى هذه الدار، وإن لم تثبت - يعني: المواريث - لم يسأل الذي الدار في يديه عن شيء (قلت): أرأيت إن أتى الذي في يديه الدار ببينة يشهدون أنهم سمعوا أن هذا الرجل الذي في يديه الدار أنه اشترى هذه الدار أو اشتراها جده أو اشتراها والده إلا أنهم قالوا: سمعنا أنه اشتراها ولكنا لم نسمع بالذي اشتراها منه من هو (قال): لم أسمع من مالك فيه شيئا ولا أرى ذلك حتى يشهدوا على سماع صحة أنه اشتراها من فلان أبي هذا المدعي

أو جده .
هـ- قال ابن فرحون : (فصل في حيازة الأجنبي الحيوان والعروض ) (1) .
قال ابن حبيب : قال لي مطرف وأصبغ : ما حازه الأجنبي على الأجنبي من العبيد والإماء والدواب والحيوان كله والعروض كلها فأقام ذلك في يديه يختدم الرقيق ويركب الدواب ويجلب الماشية ويمتهن العروض -فذلك كله كالحائز والحيازة في ذلك أقل من عشر سنين قطع لحجة مدعيه ومثبت أصله بعد أن يحلف بالله أنه له دون مدعيه ومثبت أصله، قالا: والحيوان والعروض أقصر مدة وأقوى في الحيازة من الدور والأرضين التي إنما تحاز بالعمارة والسكنى.
قال أصبغ : ونرى في الثياب السنة والسنتين حيازة إذا كانت تحاز على وجه الملك واللبس، ونرى حيازة الدابة السنتين والثلاث حيازة إذا ملكها وركبها واغتلها وأعملها على وجه الملك بعلم صاحبها ونرى الأمة شبه ذلك والعبد والعروض فوق ذلك شيئا إذا حاز ذلك بالملك وأسبابه ولا يلتفت في مثل هذا وأشباهه إلى عشر سنين فيما بين الأجنبيين، يعني: لا يبلغ في شيء من ذلك بين الأجانب إلى عشر سنين كما يصنع في الأصول. قاله ابن رشد . قال ابن حبيب : قال لي مطرف وأصبغ : وما أحدث الحائز فيه بيعا أو عتقا أو تدبيرا أو كتابة أو صداقا أو وطئا في الإماء بحضرة مدعيه وبعلمه وإن لم يطل زمان ذلك قبل الوطء فذلك يوجبه لحائزه ويوهن حجة مدعيه قبل حدثان ذلك أو بعد حدثانه إذ ترك التغمير والإنكار والتكلم عند علمه بهذا الإحداث ، ولا يلتفت
__________
(1) [تبصرة الحكام] (2\ 86).

في هذا إلى عشر سنين وإلى ما دونها.
(تنبيه): وذكر ابن رشد في البيان في باب الاستحقاق أنه لا فرق في مدة حيازة الوارث على وارثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض وإنما يفترق في حيازة الأجنبي على الأجنبي كما تقدم في حيازة الأجنبي على الأجنبي الحيوان والعروض فلو حاز الورثة بعضهم على بعض الإماء بالوطء والهبة وما أشبه ذلك فلا يقطع حق الورثة في ذلك طول الزمان إلا أن يطول جدا ولم نر الأربعين يطول جدا بين الورثة خاصة على ما يأتي في حيازة بعضهم على بعض، ذكره في سماع ابن القاسم وبعضه في سماع يحيى فانظره .

و- فصل في سؤال الحائز الأجنبي على الأجنبي من أين صار إليه الملك (1) .
قال ابن رشد : يختلف الجواب في ذلك حسب اختلاف الوجوه: فوجه لا يسأل الحائز عما في يديه من أين صار إليه وتبطل دعوى المدعي فيه بكل حال فلا يوجب يمينا على الحائز المدعي فيه إلا أن يدعي عليه أنه أعاره إياه، فتجب عليه اليمين على ذلك، وهذا الوجه هو إذا لم يثبت الأصل للمدعي، وأقر به الحائز الذي حاز في وجهه العشرة أعوام ونحوها ، ولو ادعى عليه ما في يديه أنه ماله وملكه قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه في وجهيه لوجبت عليه اليمين، ووجه يسأل الحائز عما في يديه من أين صار إليه يصدق في ذلك مع يمينه ويكلف البينة على ذلك وهو إذا ثبت الأصل
__________
(1) [تبصرة الحكام] (2\ 87).

للمدعي، أو أقر له به الحائز قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه -فيجب أن يسأل من أين صار إليه ويكلف البينة على ذلك، ووجه يختلف فيه: فقيل: إنه لا يلزم المطلوب أكثر من أن يوقف على الإقرار أو الإنكار، وقيل: إنه يوقف ويسأل من أين صار إليه وهو إذا ثبتت المواريث ولم يثبت أنها لأبيه وجده .
(مسألة): واختلف إذا كان الحائز وارثا فقيل: إنه بمنزلة وارثه الذي ورث ذلك عنه في مدة الحيازة ، وفي أنه لا ينتفع بها دون أن يدعي الوجه الذي تصير به إلى مورثه، وقيل: يكون الوارث في الحيازة أقصر وليس عليه أن يسأل عن شيء؛ لأنه يقول: ورثت ذلك ولا أدري بم تصير ذلك إلى الذي ورثت عنه، وهو ظاهر قول ابن القاسم وقول ابن الماجشون وهو عندي بين في أنه ليس عليه أن يسأل عن شيء، وأما المدة فينبغي أن يستوي فيها الوارث والموروث.
(فرع) وتضاف مدة حيازة الوارث إلى مدة حيازة الموروث مثل أن يكون الوارث قد حاز خمسة أعوام فيكون ذلك حيازة على الحاضر .
ز- قال ابن فرحون : (فصل في صفة الحيازات ومراتبها ) (1) .
وهي على ستة أقسام؛ لأنها على مراتب ست: الأولى : وهي أضعفها حيازة الأب على ابنه والابن على أبيه.
الثانية : حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغير الميراث بعضهم على بعض، وهذه المرتبة تلي التي قبلها.
الثالثة : وهي تلي التي قبلها حيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شركة فيه بينهم.
الرابعة : حيازة الموالي والأختان.
الخامسة : حيازة الأجنبيين
__________
(1) [تبصرة الحكام] (2\ 90).

الأشراك بعضهم على بعض.
السادسة : حيازة الأجنبيين بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه وهي أقواها، والحيازة تكون بثلاثة أشياء: أضعفها السكنى والازدراع، ويليها الهدم والبنيان والغرس والاستغلال، ويليها التفويت بالبيع والصدقة والهبة والعتق والكتابة والتدبير والوطء وما أشبه ذلك مما لا يفعله الرجل إلا في ماله، والاستخدام في الرقيق والركوب في الدواب كالسكنى والغرس في الدور والأرضين ونتكلم في الأقسام الستة .
(فأما القسم الأول): وهو حيازة الأب على ابنه والابن على أبيه فلا اختلاف في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع، قال ابن راشد : ولا باستخدام العبد فلو بقي العبد بيد الابن زمانا طويلا فلما مات الأب قال: هو لي بوجه كذا من أبي فقال ابن القاسم : لا ينتفع بطول الحيازة حتى يأتي ببينة على ما ادعاه والاتفاق على أنها تكون بالتفويت بالبيع والهبة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والوطء، واختلف: هل يحوز كل واحد منهما على صاحبه بالهدم والبنيان والغرس أم لا؟ على قولين: المشهور أنه لا يحوز عليه بذلك إن ادعاه ملكا لنفسه قام عليه في حياته أو بعد وفاته. وقال ابن رشد : يريد والله سبحانه وتعالى أعلم إلا أن يطول الأمر جدا إلى ما يهلك فيه البينات وينقطع العلم.
والقول الثاني: أنه يحوز عليه بذلك إن قام عليه في حياته أو على سائر ورثته بعد وفاته إذا ادعاه ملكا لنفسه ومثل الأب والابن الجد وابن الابن.
(وأما القسم الثاني): وهو حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغير الميراث فلا اختلاف أيضا في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع وإن طالت السنون، قال مطرف : إلا أن يكون مثل الخمسين سنة ونحوها وإن كان بعضهم يقبل الثمار فهو كالسكنى وأبناؤهم وأبناء أبنائهم

بمنزلتهم لا حق لهم فيما عمر الأب والجد إلا أن يطول الزمان جدا ولا ينفعه أن يقول: ورثت عن أبي وأبي عن جدي لا أدري كيف كان هذا الحق في أيديهم إلا أن يأتي ببينة على شراء الأصل أو عطيته، وكذلك الصهر والمولى على اختلاف قول ابن القاسم فيهم، ولا خلاف في أنها تكون حيازة بالتفويت من البيع والهبة والصدقة والعتق والكتابة والوطء وإن لم تطل المدة، واختلف قول ابن القاسم في حيازة بعضهم على بعض بالهدم والبنيان: فقال مرة: إن العشر سنين حيازة، وقال مرة: إنها لا تكون حيازة إلا أن يطول الأمر؛ كحيازة الابن على أبيه أزيد من أربعين سنة، وما حازه بالكراء كالرجل يكري ذلك لنفسه ويقبضه بحضرة إخوته وعلمهم فهم في ذلك كالأجانب.
(وأما القسم الثالث): وهو حيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه، فمرة جعلهم ابن القاسم كالقرابة الأشراك، ورجع عن قوله بأن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان، إلا أنه لا حيازة بينهم في ذلك إلا مع الطول الكثير، ومرة رآهم بخلاف الأشراك فجعل الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان حيازة فيهما جميعا.
والثاني: أنها ليست بحيازة فيهما إلا مع طول المدة.
والثالث: الفرق بينهما فتكون حيازة في غير الشركاء .
(وأما القسم الرابع): وهو حيازة الموالي والأختان والأصهار فيما لا شركة بينهم فيه، فمرة جعلهم ابن القاسم كالأجنبيين، العشرة الأعوام بينهم حيازة، وإن لم يكن هدم ولا بناء، ومرة جعلهم كالقرابة الذين لا شركة بينهم فيتحصل فيهم ثلاثة أقوال:
أحدها : أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بناء.
والثاني : أنها لا تكون بينهم في العشرة الأعوام إلا مع

الهدم والبناء.
والثالث : أنها لا تكون بينهم بالهدم والبناء إلا أن يطول الزمان جدا. قال ابن القاسم، وإليه رجع. وقال أصبغ : هم كالأجانب إلا من كان منهم مخالطا جدا أو وكيلا. قال ابن رشد : ينبغي أن يكون الخلاف في حال فمن علم منه المسامحة أو أشكل أمره فهو على حقه وإن طالت السنون، ومن علم منه المشاحة فيكون كالأجنبي، وما قاله ابن رشد ذكره ابن العطار فقال: وقد قيل أيضا في الأقارب: إن ذلك يكون في البلدان التي يعرف من أهلها أنهم يوسعون فيها لأقاربهم وأصهارهم ومواليهم، وإن كانوا بموضع لا يعرف هذا فيه انقطعت الحجة باعتبار دون هذه المدة وكانوا كالأجنبيين، وذكره ابن رشد في الاستحقاق أوضح من هذا، وقال: إنما الاختلاف المذكور إذا جهل حالهم على ماذا يحمل أمرهم، فمرة حملهم محل القرابة، ومرة حملهم محل الأجنبيين، وهذا خلاف ما قاله ابن راشد وهم في البيع وما ذكره معه كالأجانب .
(وأما القسم الخامس): وهو حيازة الأجنبيين الأشراك، فلا حيازة بينهم في العشرة الأعوام إذا لم يكن هدم ولا بناء وتكون مع الهدم والبناء ولا يدخل اختلاف قول ابن القاسم في ذلك، وقيل: إنه يدخل في ذلك.
(وأما القسم السادس): وهو حيازة الأجانب بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه، فقد تقدم فيه الكلام والمشهور أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان، ولابن القاسم أنها لا تكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان .
(تنبيه): ذكرهم الهدم والبنيان ظاهر، سواء كان بناء ترميم وإصلاح أو بناء توسع، وكذا الهدم سواء كان هدم ما يخشى سقوطه، أو هدم ما لا

يخشى سقوطه ليوسع ويبني مسكنا أو مساكن وليس كذلك، والذي ينفع في الحيازة هو الهدم والبناء والتوسع وإزالة ما لا يخشى سقوطه؛ لأن عرف الناس وعادتهم أنهم يأذنون للسكان في الرم وإصلاح ما وهي من الكراء، ولا يأذنون في زيادة المسكن. (من اللخمي ).
ح- وقال ابن فرحون: (فصل في صفة الشهادة على الحيازة ) (1) .
وفي فقه وثائق ابن العطار : وإذا قام رجل في دار وأملاك يدعيها لنفسه أو لمورثه ، وأثبت الملك لها ، وكانت في يد معترض لها ، فإن توافق الطالب والمطلوب على حدودها وجب الإعذار إلى المعترض في الشهود والقضاء عليه. وإن عجز والتسجيل دون حيازة الشهود لها وإن سأل الطالب من القاضي الإنزال فيها أو وقع تخالف في بعض حدودها حازها الشهود المقبولون، ولا يكلف القاضي شهود الحيازة أن يحوزوا ما شهدوا به من الرباع، ولو كان الموضع قريبا ، ولكن يأمر الشهود له بالرغبة إليهما في ذلك (من [معين الحكام]) وإذا توجه شهود الحيازة ليحوزوا الملك بعث القاضي معهم شاهدي عدل يحضران حيازة الشهود وفي (الطرر) وإنما احتيج إلى موجهي القاضي في الحيازة مخافة أن يموت شهود الحق ويعزل القاضي أو يموت فيشهد المواجهان على الحيازة فيتم القول بهما، ولا تعمل الحيازة شيئا حتى يقول الشاهدان بحضرة الحائز: هذا الذي شهدنا فيه عند فلان قاضي الجماعة، وإن وقفا على العقار وعيناه ولم يقولا هذا كان جهلا منهما ومن الحاضرين لحيازتهما ولم تعمل الحيازة والشهادة
__________
(1) [تبصرة الحكام] (2\ 90).

شيئا حتى يوقفا على هذا ويقولا به وتتبين به الشهادة، وقال في موضع آخر: ولا يحضر حيازة الشهيدين في الملك الذي شهدا فيه إلا شاهدان يعرفان عين ذلك الملك وحدوده أو يكون الملك المشهود به له حدود مشهورة لا تخفى معرفتها، مثل أن يكون في القبلة منه أو ناحية غيرها فرن أو حمام أو درب أو حوانيت أو رحبة شرع بابه إليها وما أشبه ذلك من الأعلام المثبتة التي يعلم الشاهدان الحيازة بالنظر فيها أنها الحدود التي قال الشاهدان في الملك عند القاضي: إنه المحدود به؛ لأن شهادة الحاضرين للحيازة لا تتم حتى يقولا: إن شهيدي الملك حازا بمحضرهما هذا الملك، وعينا هذه الحدود، فإذا لم يعرفا الملك ولا عينا الحدود لم ينفع بمحضرهما للحيازة؛ لأنه إذا قال الشهيدان في الملك: هذا الملك الذي شهدنا فيه عند القاضي والحاضران للحيازة لا يعرفانه فهو كشهادتهما أولا عند القاضي وتكون شهادة الحاضرين زورا؛ لأنهما يشهدان أن الشهيدين في أصل الملك حاز الدار والملك الذي شهدا فيه عند القاضي وهما لا يعرفان إن كان ذلك هو الملك أم لا ، ولو قالا: إن الشهيدين في الملك عينا بحضرتهما دارا قالا: إنها التي شهدنا فيها عند القاضي لم تعمل شهادتهما في الحيازة شيئا حتى يقطعا أنهما حازا بحضرتهما الشيء الذي شهدا فيه عند القاضي لمعرفتهما لعين الشيء المحوز ، وإن كانا لا يعرفان ملك المشهود له فهما على صحة حدوده وباشتهار أعلامه، قال: وهذا من دقيق الفقه ، وقل من يعرفه.
(مسألة) وفي [الطرر] الموجه من قبل القاضي للحيازة بمنزلة الموجه من قبله للأعذار يجزئ فيه واحد عدل.

(تنبيه): الغائب وإن كانت غيبته قريبة فهو محمول على عدم العلم حتى يثبت عليه العلم، والحاضر محمول على العلم حتى يتبين أنه لم يعلم. قاله ابن راشد .

ط- وقال ابن فرحون : (مسألة في الحيازة على الغائب ) (1) .
وفي [مختصر الواضحة] قال ابن حبيب : وأخبرني حسين عن ابن القاسم وابن وهب وابن نافع وأصبغ ومطرف في الغائب يحاز عليه من ماله فلم يقدم، ولم يوكل حتى طال زمان ذلك فهو كالحاضر إلا أن يكون له عذر مثل أن يكون في يد عدو أو من وراء بحر أو يكون ضعيفا أو مختلا أو امرأة محجوبة أو غير محجوبة وما أشبه ذلك من العذر، فيكون على حقه أبدا وإن أشهد في غيبته على عذره وأنه غير تارك لحقه إلا لما يذكره من عذره كان ذلك أوثق له عندنا ، وقد يكون للغائب وإن قربت غيبته معاذير يعذر بها إذا ظهرت.
قال ابن حبيب : ثم رجع ابن القاسم فقال: أرى الغائب على مسيرة الثلاثة الأيام والأربعة معذورا في غيبته وإن علم بما حيز عليه وإن لم يكن ضعيفا في بدنه ولا مختلا في عقله، وأراه على حقه أبدا ما زال غائبا؛ لأنه قد يكون للغائب معاذير لا تعرف، وقوله الأول عندي أحسن، وهو الذي اجتمع عليه كبار أصحاب مالك، وفي العتبية رواية عن ابن القاسم: أن الثمانية أيام في حكم القريب.
(فرع) وفي الطرر لابن عات : ومغيب المرأة على مسيرة اليوم لا يقطع حجتها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا معها
__________
(1) [تبصرة الحكام] (2\ 84).

ذو محرم منها » (1) قاله بعض الشيوخ المتأخرين.
(فرع) وإن كان غير عالم فهو على حقه إذا قدم ولا حيازة عليه ، وإن طالت الحيازة فيه كانت الغيبة قريبة أو بعيدة.
(تنبيه): وهو محمول على غير العلم حتى يقيم الحائز بينة أنه كان عالما في غيبته بحيازته لماله .
(فرع) وقال مطرف وأصبغ : ونرى السبعة الأيام والثمانية وما أشبه ذلك طولا من الغيبة وعذرا في ترك القدوم والطلب والتوكيل.
وإن كان عالما إلا أنا نستحب له أن يشهد في غيبته إذا علم بحيازة ماله عنه وإن ترك الإشهاد لم يوهن ذلك حجته ، إلا أن يطول الزمان جدا مثل السبعين سنة أو الثمانين وما قاربها، ويكون مع ذلك سماع مستفيض بأنها ملك للذين هي بأيديهم تداولوها هم ومن كان قبلهم بما يحاز به الملك فيكون ذلك كالحيازة على الحاضر وإن كانت الغيبة بعيدة. قال ابن حبيب : وبقولهما أقول .
ي- وقال ابن فرحون (2) : (فصل في حيازة الأجنبي على الأجنبي الحاضر الرباع والعقار ).
وفي [مختصر الواضحة] قال أصبغ : ما حازه الأجنبي على الأجنبي بحضرته وعلمه، أي: الحيازات كانت من سكنى فقط أو ازدراع أو هدم أو بنيان صغر شأنه أو عظم أو غير ذلك من وجوه الحيازات كلها فذلك يوجبه لحائزه ويقطع حجة صاحبه، وهي كالشهادة على الملك كما يكون الرهن شاهدا لصاحبه بحيازته إياه وكما يكون الستر شاهدا للمرأة بإرخائه عليها
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1038),صحيح مسلم الحج (1339),سنن الترمذي الرضاع (1170),سنن أبو داود المناسك (1723),سنن ابن ماجه المناسك (2899),مسند أحمد بن حنبل (2/506),موطأ مالك الجامع (1833).
(2) [تبصرة الحكام] (2\85) .

وكذلك أجمع أهل العلم عليه إذا كان على هذا التفسير الذي فسرنا ورأوا العشر سنين وما قاربها -يعني: كالثمان والتسع- حيازة فيما بين المتداعيين قال ابن القاسم : وكان مالك لا يوقت الحيازة لا عشر سنين ولا غيرها، وكان يرى ذلك على قدر ما ينزل من الأمر ورأى فيه الإمام رأيه، وتابعه ابن الماجشون على ذلك، وإن ذلك قد يكون بعضه أقوى من بعض مثل أن يكون الطالب مجاورا لحائزه مقيما معه ببلده عالما بإحداثه في ذلك، وبما هدم وبنى لا ينكر ولا يدفع، فإن هذه حالة إقرار لا شيء له معها فيما ادعى من ذلك وأثبت أصله، وإن لم يكن على ما وصفنا وكان غائبا عنه أو كان المطلوب مدعيا لشراء لم يثبته وما أشبه هذا -فذلك للطالب الذي له البينة على أنه له أو لأبيه أو لمن أخذ ذلك عنه إذا حلف أنه لم يخرج منه ولم يزل من يده أو من أخذ عنه بما يخرج به بالمال ومن يدريه يحلف على نفسه بالبت وفيما سواه بعلمه، وذهب ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكيم، وأصبغ إلى توقيت ذلك بعشر سنين وما قارب العشر، وهذا في العقار والرباع والأرضين، وسيأتي الكلام على الحيوان والعروض إن شاء الله تعالى .
والدليل على ما ذهب إليه ابن القاسم قوله صلى الله عليه وسلم : « من حاز على خصمه شيئا عشر سنين فهو أحق به » واستدل أئمتنا رحمهم الله تعالى بالعرف والعادة، ويشترط في الحيازة أن يكون المحوز عليه غير خائف من الحائز ولا بينه وبينه قرابة ولا مصاهرة ولا مصادقة ولا شركة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(تنبيه): وفي [الطرر على التهذيب] لأبي الحسن الطنجي عن أبي الحسن الصغير قال عند قوله في التهذيب: ومن أقامت بيده دار سنين

ذوات عدد يحوزها ويمنعها ويكريها ويهدم ويبني فأقام رجل بينة أن الدار داره وأنها لأبيه أو جده وثبتت المواريث فإن كان المدعي حاضرا يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له وذلك يقطع دعواه. قوله: حاضرا يراه لا بد هنا من العلم بشيئين وهما العلم بأنه ملكه والعلم بأنه يتصرف فيه ولا يفيد العلم بأحدهما دون الآخر؛ لأنه إذا علم بالتصرف قد يقول ما علمت أنه ملكي، كما يقول الرجل: الآن قد وجدت الوثيقة عند فلان فيقبل قوله ويحلف، والعلم بهذين الوصفين قاله في [الوثائق المجموعة] وابن أبي جمراء (مسألة) وفي [فقه وثائق ابن العطار ]: ولا يقطع قيام البكر غير العانس، ولا قيام الصغير، ولا قيام المولى عليه في رقاب الأملاك، ولا في أحداث الاعتمار بحضرتهم إلا أن يبلغ الصغير ويملك نفسه من الولي عليه، وتعنس الجارية، ويحاز عليهم عشرة أعوام من بعد ذلك وهم عالمون بحقوقهم لا يعترضون من غير عذر فينقطع حينئذ قيامهم وما لم يعوقوا بحقوقهم لم ينقطع قيامهم .
ك- وجاء في [مختصر خليل وشرحه] للحطاب :
(وإن حاز أجنبي (1) غير شريك وتصرف ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع ولا بينة إلا بإسكان ونحوه).
ش: ختم رحمه الله كتاب الشهادات بالكلام على الحيازة؛ لأنها كالشاهد على الملك، قال ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: الحيازة لا تنقل الملك عن المحوز عنه إلى الحائز
__________
(1) [مواهب الجليل شرح مختصر خليل] (6\ 221) وما بعدها.

باتفاق، ولكنها تدل على الملك كإرخاء الستور ومعرفة العفاص والوكاء وما أشبه ذلك فيكون القول معها قول الحائز مع يمينه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « من حاز شيئا عشر سنين فهو له » ؛ لأن المعنى عند أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: وهو له أي: أن الحكم يوجبه له بدعواه، فإذا حاز الرجل مال غيره في وجهه مدة تكون فيها الحيازة عاملة، وهي عشرة أعوام دون هدم ولا بنيان، أو مع الهدم والبنيان على ما نذكره من الخلاف في ذلك بعد هذا وادعاه ملكا لنفسه بابتياع أو صدقة أو هبة - وجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه. انتهى.
وسواء ادعى صيرورة ذلك من غير المدعي أو ادعى أنه صار إليه من المدعي، أما في البيع فلا أعلم فيه خلافا ، وأما إن أقر أنه ملك المدعي وصار إليه بصدقة أو هبة -ففيه خلاف ذكره في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق. وقول ابن رشد : فيكون القول قول الحائز مع يمينه هو أحد القولين، قال في [الشامل]: وفي يمين الحائز حينئذ قولان، والقول بنفي اليمين عزاه في [التوضيح] لظاهر نقل ابن يونس وغيره، والقول باليمين عزاه لصريح كلام ابن رشد فهو أقوى وهو الظاهر، والله أعلم.
ثم قال ابن رشد : والحيازة تنقسم إلى ستة أقسام: أضعفها حيازة الأب عن ابنه، ويليها حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغيره، ويليها حيازة القرابة فيما لا شرك بينهم فيه والموالي والأختان الشركاء بمنزلتهم، ويليها حيازة الموالي والأختان فيما لا شرك بينهم فيه، ويليها حيازة الأجنبيين الشركاء، وتليها حيازة الأجانب فيما لا شرك بينهم فيه، وهي أقواها، والحيازة تكون بثلاثة أشياء: أضعفها السكنى والازدراع، ويليها الهدم والبنيان والغرس والاستغلال، ويليها التفويت بالبيع والهبة والصدقة

والنحلة والعتق والكتابة والتدبير والوطء وما أشبه ذلك مما لا يفعله الرجل إلا في ماله، والاستخدام في الرقيق والركوب في الدابة كالسكنى فيما يسكن والازدراع فيما يزرع والاستغلال في ذلك كالهدم والبنيان في الدور والغرس في الأرضين. انتهى.
فبدأ المصنف بالكلام على القسم السادس وهي حيازة الأجنبي غير الشريك، فقال: وإن حاز أجنبي غير شريك واحترز بقوله: أجنبي من القريب فإنه سيأتي حكمه، وبقوله: غير شريك من الأجنبي الشريك فإنه سيأتي أيضا حكمه، ومفعول قوله حاز محذوف، أي: حاز عقارا من دار أو أرض، وأما غير العقار فلا يفتقر في الحيازة إلى عشرة أعوام، كما سيأتي بيانه، وقوله: وتصرف بمعنى أنه يشترط في الحيازة أن يكون الحائز يتصرف في العقار المحوز.
وأطلق التصرف لينبه على أن حيازة الأجنبي غير الشريك يكفي فيها مطلق التصرف ولو كان ذلك السكنى والازدراع الذي هو أضعف أنواع الحيازة وهذا هو المشهور، وقال في الرسم المذكور: المشهور في المذهب: أن الحيازة بينهم -يعني: بين الأجانب غير الشركاء- تكون في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان، وعن ابن القاسم أنها لا تكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان ولا خلاف أنها تكون حيازة مع الهدم والبنيان. انتهى.
وقوله: ثم ادعى حاضر، يعني: أنه يشترط في كون الحيازة مانعة من سماع دعوى المدعي أن يكون المدعي حاضرا، واحترز بذلك مما لو كان المدعي غائبا، فإن له القيام وإن طالت المدة، إذا كانت غيبته بعيدة كالسبعة الأيام، قال في [التوضيح]. وإن كانت الغيبة قريبة كأربعة أيام وثبت عذره عن القدوم والتوكيل من عجز

ونحوه فلا حجة عليه ، وإن أشكل أمره فظاهر المذهب أنه على قولين، قال ابن القاسم : لا يسقط حقه؛ لأنه قد يضعف عند القدوم، قيل له: فإن لم يتبين عجزه عن ذلك قال: قد يكون معذورا من لا يتبين عذره، وذكر ابن حبيب : أنه يسقط حقه إلا أن يتبين عذره. انتهى.
وانظر رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق، وقوله: ساكت، يعني: أنه اشترط أيضا في الحيازة أن يكون المدعي ساكتا في مدة الحيازة، واحترز بذلك مما لو تكلم قبل مضي مدة الحيازة فإن حقه لا يبطل، وقوله: بلا مانع، يعني: أن سكوت المدعي في المدة المذكورة إنما يبطل حقه إذا لم يكن له مانع يمنعه من الكلام، فلو كان هناك مانع يمنعه من الكلام فإن حقه لا يبطل، وفسر ابن الحاجب المانع بالخوف والقرابة والصهر، وقد احترز المصنف من القرابة والصهر بقوله أولا: أجنبي، فيكون المراد بالمانع في كلامه الخوف، أي: خوف المدعي من الذي في يده العقار؛ لكونه ذا سلطان أو مستندا لذي سلطان، فإن كان سكوته لذلك لم يطلب حقه، قال الجزولي : وكذلك إذا كان للحائز على المدعي دين ويخاف إن نازعه أن يطلبه ولا يجد من أين يعطيه. انتهى. فتأمله، ويدخل في المانع ما إذا كان المدعي صغيرا أو سفيها فإن سكوته لا يقطع دعواه، قال ابن فرحون في [تبصرته] في الباب السادس والستين قال: قال ابن العطار : ولا يقطع قيام البكر غير المعنسة ولا قيام الصغير ولا قيام المولى عليه الاعتماد المذكور بحضرته إلا أن يبلغ الصغير ويملك نفسه المولى عليه وتعنس الجارية وتحاز عنهم عشرة أعوام من بعد ذلك وهم عالمون بحقوقهم لا يعترضون من غير عذر. انتهى .

ويدخل في المانع أيضا ما إذا لم يعلم المدعي بالحيازة أو لم يعلم بأن العقار المحوز ملكه، قال في [الرسالة]: ومن حاز دارا على حاضر عشر سنين تنسب إليه وصاحبها حاضر عالم، قال الشيخ أبو الحسن الصغير في أواخر كتاب الشهادات لما تكلم على الحيازة في [الرسالة] وصاحبها حاضر عالم.
الشيخ: أي: عالم بالمعلومين بتصرف الحائز وبأنها ملكه قال في [الوثائق المجموعة]: حاضر عالم بأنها ملكه، وإذا كان وارثا ويدعي أنه لم يعلم فيحلف ويقضى له. انتهى.
ونقله ابن فرحون في [تبصرته] عن الطخيخي عن أبي الحسن الصغير بلفظ: لا بد هنا من العلم بشيئين: وهما العلم بأنه ملكه، والعلم بأنه يتصرف فيه ولا يفيد العلم بأحدهما دون الآخر؛ لأنه إذا علم بالتصرف قد يقول: ما علمت أنه ملكي كما يقول الرجل: الآن وجدت الوثيقة عند فلان فيقبل قوله ويحلف، والعلم بهذين الوصفين قاله في [الوثائق المجموعة] وابن أبي زيد . انتهى.
(فرع) قال ابن ناجي في [شرح الرسالة]: قال ابن العربي : وانظر إذا قال: علمت الملك ولم أجد ما أقوم به ووجدته الآن هل يعذر أم لا؟ (قلت): اختار شيخنا أبو مهدي أنه يقبل وذلك عذر سواء كانت البينة التي وجد بينة استرعاء أم لا، والصواب عندي أنه لا يقبل منه؛ لأنه كالمقر والمعترف بأنه لا حق له فيه مدع رفعه. انتهى. زاد في شرح المدونة: ثم وقعت بالقيروان بعد عشرة أعوام فكتب فيها لشيخنا أبي مهدي فأفتى بما صوبت. انتهى.
قال الشيخ يوسف بن عمر في [شرح قول الرسالة]: لا يدعي شيئا: هذا إذا لم يمنعه مانع من القيام، وأما إن خاف سطوة الحائز وأثبت ذلك فهو على قيامه وإن ادعى مغيب البينة وقال: ما سكت إلا لانتظار بينتي فلا يقبل

قوله والدعوة التي تنفعه إذا كان يخاصمه عند القاضي، وأما غير ذلك فلا ينفعه. انتهى. ونحوه للجزولي ونصه: وأما إذا قال: علمت أنها ملكي ولكن منعني من القيام عدم البينة والآن وجدت البينة فإنه لا ينفعه ذلك ويقضى بها للحائز بعد يمينه إذ لا بد من يمين القضاء ثم قال بعد ذلك: وأما إن قال: علمت بأنها ملكي ولم أعلم بالحيازة فإنه لا يقبل قوله؛ لأن العرف يكذبه وكذلك إن قال: منعني من القيام عدم البينة والآن وجدتها فإنه لا ينفعه ولا قيام له. انتهى.
وفي أول مسألة من سماع أشهب من كتاب الاستحقاق ما يدل على أنه إذا ادعى عدم العلم بالحيازة ينفعه ذلك ويحلف، وأنه محمول على عدم العلم، وقال ابن ناجي في [شرح قول الرسالة]: وصاحبها حاضر عالم: ظاهر كلام الشيخ أن الحاضر محمول على عدم العلم بالملكية حتى يثبت، وعزاه بعض من لقيناه لابن سهل، وهو ظاهر التهذيب، وقيل: إنه محمول على العلم حتى يتبين خلافه، وهو قول ابن رشد، وقيل : بالأول إن كان وارثا، وبالثاني إن لم يكن قاله في [الوثائق المجموعة] وبه القضاء عندنا، هكذا كان يتقدم لنا أنها ثلاثة أقوال، والحق أن الذي في [الوثائق المجموعة] إنما هو التنبيه على فرع متفق عليه وهو إذا ادعى الوارث الجهل بملكية موروثه فإنه يقبل قوله مع يمينه، ثم قال بعده: قال ابن العربي: وانظر إذا قال: علمت المالك إلى آخر الفرع المتقدم، ويشير بالفرع المتفق عليه إلى ما نقله أبو الحسن وابن فرحون عن [الوثائق المجموعة] في كلامهما المتقدم وقوله: عشر سنين يعني: أن مدة الحيازة التي تبطل دعوى المدعي عشر سنين ، وهذا التحديد يذكره في [المدونة] عن ربيعة، ونصه: ولم يحدد مالك في الحيازة في

الريع عشر سنين ولا غير ذلك، وقال ربيعة : حوز عشر سنين يقطع دعوى الحاضر إلا أن يقيم بينة أنه إنما أكرى أو أسكن أو أخدم أو أعار ونحوه ولا حيازة على غائب، وذكر ابن المسيب وزيد بن أسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من حاز شيئا عشر سنين فهو له » انتهى. قال في [التوضيح]: وبهذا أخذ ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ ، ودليله ما رواه أبو داود في [مراسيله] عن زيد بن أسلم وذكر الحديث ثم قال: ولابن القاسم في الموازية السبع والثمان وما قارب العشرة مثل العشرة. انتهى.
فتحصل في مدة الحيازة ثلاثة أقوال:
الأول: قول مالك في [المدونة]: أنها لا تحدد بسنين مقدرة، بل باجتهاد الإمام ، وهكذا نقل ابن يونس فقال: ولم يحد مالك في الرباع عشر سنين ولا غير ذلك، ولكن على قدر ما يرى أن بهذا قد حازها دون الآخر فيما يهدم ويبنى ويسكن ويكرى. اهـ، وهكذا نقله ابن شاس وابن عرفة، وسيأتي لفظه.
والقول الثاني : أن مدة الحيازة عشر سنين، وهو القول الذي مشى عليه المصنف في كتاب الشهادات، وعليه اقتصر في [الرسالة] قال في [النوادر]: وبه أخذ ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ، وهكذا عزاه ابن يونس وابن شاس، وتقدم نحوه عن [التوضيح] ونقله ابن عرفة عن [النوادر] وقال ابن يونس : قال ابن سحنون : لما أمر الله نبيه بالقتال بعد عشر سنين كانت أبلغ شيء في الإعذار ، واعتمد أهل المذهب على الحديث المتقدم، وعلى أن كل دعوى يكذبها العرف فإنها غير مقبولة، ولا شك أن بقاء ملك الإنسان بيد الغير يتصرف فيه عشر سنين

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21