كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

فإذا كان الملك يتنوع أنواعا، وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته، وما لم أصفه: لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان، يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه، والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض، فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا (1) اهـ.
__________
(1) إلى هنا انتهى ما نقل من [القواعد النورانية] لابن تيمية (الناشر).

وقال ابن حزم : مسألة: وكل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما برضى الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع أو بعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان أو بالتخيير أو في أحد الوقتين- يعني: قبل العقد أو بعده- ولم يذكراه في حين عقد البيع؛ فالبيع صحيح تام والشرط باطل لا يلزم (1) ، فإن ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع (2) فالبيع باطل مفسوخ، والشرط باطل، أي شرط كان لا تحاش شيئا إلا سبعة شروط فقط فإنها لازمة والبيع صحيح إن اشترطت في البيع، وهي اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى، واشتراط تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى، واشتراط أداء الثمن إلى الميسرة وإن لم يذكرا أجلا، واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معا ويتبايعان ذلك الشيء على أنه بتلك الصفة، واشتراط أن لا خلابة، وبيع العبد أو الأمة فيشترط المشتري مالهما أو بعضه مسمى معينا أو جزءا منسوبا مشاعا في جميعه، سواء كان مالهما
__________
(1) في النسخة رقم 16 ( فلم يلزم ) .
(2) في النسخة رقم 16 في حال العقد.

مجهولا كله، أو معلوما كله، أو معلوما بعضه مجهولا بعضه، أو بيع أصول نخل فيها ثمرة قد أبرت قبل الطيب أو بعده، فيشترط المشتري الثمرة لنفسه أو جزءا معينا منها أو مسمى مشاعا في جميعها، فهذه ولا مزيد وسائرها باطل كما قدمنا، كمن باع مملوكا بشرط العتق أو أمة بشرط الإيلاد، أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة، قلت أو كثرت، أو إلى مكان مسمى قريب أو بعيد، أو دارا واشترط سكناها ساعة فما فوقها، أو غير ذلك من الشروط كلها.
برهان ذلك: ما رويناه من طريق مسلم بن الحجاج، نا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني، نا أبو أسامة - هو حماد بن أسامة - نا هشام بن عروة عن أبيه قال: أخبرتني عائشة أم المؤمنين فذكرت حديثا قالت فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه [بما هو أهله] (1) ثم قال: « أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق » (2) ، وذكر باقي الخبر، ومن طريق أبي داود، حدثنا القعنبي وقتيبة بن سعيد قالا جميعا: نا الليث - هو: ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير قال: إن عائشة أم المؤمنين أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: « ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق » (3) (4)
__________
(1) الزيادة من [صحيح مسلم] (1 \ 440 ).
(2) صحيح البخاري العتق (2424),صحيح مسلم العتق (1504),سنن الترمذي الوصايا (2124),سنن النسائي الطلاق (3451),سنن أبو داود العتق (3929),سنن ابن ماجه الأحكام (2521),مسند أحمد بن حنبل (6/82),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(3) صحيح البخاري العتق (2422),صحيح مسلم العتق (1504),سنن أبو داود العتق (3929),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(4) الحديث في [سنن أبي داود] مطولا اختصره المؤلف.

فهذا الأثر كالشمس صحة وبيانا يرفع الإشكال كله، فلما كانت الشروط كلها باطلة غير ما ذكرنا كان عقد من بيع أو غيره عقد على شرط باطل باطلا ولا بد؛ لأنه عقد على أنه لا يصح (1) إلا بصحة الشرط، والشرط لا صحة له فلا صحة لما عقد بأن لا صحة له إلا بصحة ما لا يصح.
قال أبو محمد : وأما تصحيحنا الشروط السبعة التي ذكرناها فإنها منصوص على صحتها، وكل ما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه (2) فهو في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (3) وقال تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } (4) { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (5) وقال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (6) فأما (7) اشتراط الرهن في البيع إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: { وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } (8) وأما اشتراط الثمن إلى أجل مسمى فلقول الله تعالى: { إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } (9) وأما اشتراط أن لا خلابة فقد ذكرنا الخبر في ذلك قبل هذا المكان بنحو أربع مسائل (10) ، وأما اشتراط الصفات التي يتبايعان عليها من السلامة أومن أن لا خديعة ومن صناعة العبد أو الأمة أو سائر صفات المبيع- فلقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (11) فنص تعالى على التراضي منهما والتراضي لا يكون إلا على
__________
(1) في النسخة رقم 14 (لأنه عقد ما لا يصح).
(2) سقط لفظ (عليه) من النسخة رقم 14.
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سورة النجم الآية 3
(5) سورة النجم الآية 4
(6) سورة النساء الآية 80
(7) في النسخة رقم 14 (وأما).
(8) سورة البقرة الآية 283
(9) سورة البقرة الآية 282
(10) ذكر في (8 \ 376 ) من [المحلى] (الطبعة المنيرية).
(11) سورة النساء الآية 29

صفات المبيع، وصفات الثمن ضرورة، وأما اشتراط الثمن إلى الميسرة، فلقول الله تعالى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } (1) وروينا من طريق شعبة أخبرني عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن عائشة أم المؤمنين « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي قدمت عليه ثياب ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة » وذكر باقي الخبر، وأما مال العبد أو الأمة واشتراطه واشتراط ثمر النخل المؤبر- فلما روينا من طريق عبد الرزاق، نا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، ومن باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع » (2) .
قال أبو محمد : ولو وجدنا خبرا يصح في غير هذه الشروط باقيا غير منسوخ لقلنا به ولم نخالفه، وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم هذين الشرطين إذ قد ذكرنا غيرهما والحمد لله رب العالمين، وقد ذكرنا رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كل بيع فيه شرط فليس بيعا.
قال علي : فإن احتج معارض لنا بقول الله تعالى: { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (3) وقوله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } (4) وبما روي: « المسلمون عند شروطهم » قلنا وبالله تعالى التوفيق (5) : أما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود لا يختلف اثنان في أنه ليس على عمومه ولا على ظاهره، وقد جاء القرآن بأن نجتنب نواهي الله تعالى ومعاصيه فمن عقد على معصية فحرام عليه الوفاء بها فإذ لا شك في هذا فقد صح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى
__________
(1) سورة البقرة الآية 280
(2) صحيح البخاري المساقاة (2250),صحيح مسلم البيوع (1543),سنن الترمذي البيوع (1244),سنن النسائي البيوع (4636),سنن أبو داود البيوع (3433),سنن ابن ماجه التجارات (2211),مسند أحمد بن حنبل (2/9).
(3) سورة المائدة الآية 1
(4) سورة النحل الآية 91
(5) الزيادة من النسخة الحلبية.

فهو باطل والباطل محرم فكل محرم فلا يحل الوفاء به، وكذلك قوله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } (1) فلا يعلم ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه، وقد علمنا أن كل عهد نهى الله عنه فليس هو عهد الله تعالى؛ بل هو عهد الشيطان فلا يحل الوفاء به، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، والباطل لا يحل الوفاء به.
وأما الأثر في ذلك فإننا رويناه من طريق ابن وهب حدثني سليمان بن بلال، نا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المسلمون على شروطهم » (2) ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي حدثني الحزامي عن محمد بن عمر عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المسلمون على شروطهم » (3) ومن طريق ابن أبي شيبة يحيى بن أبي زائدة عن عبد الملك عن عطاء، بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « المسلمون عند شروطهم » ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن الحجاج بن أرطأة عن خالد بن محمد عن شيخ من بني كنانة سمعت عمر يقول: (المسلم عند شرطه)، ومن طريق ابن أبي شيبة، نا ابن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم قال عمر بن الخطاب : (إن مقاطع الحقوق عند الشروط) ومن طريق ابن أبي شيبة، نا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: (المسلمون عند شروطهم).
قال أبو محمد : كثير بن زيد هو كثير بن عبد الله بن
__________
(1) سورة النحل الآية 91
(2) سنن أبو داود الأقضية (3594),مسند أحمد بن حنبل (2/366).
(3) سنن أبو داود الأقضية (3594),مسند أحمد بن حنبل (2/366).

عمرو (1) بن زيد هالك متروك باتفاق، والوليد بن رباح مجهول، والآخر عبد الملك بن حبيب هالك، ومحمد بن عمر هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبد الرحمن بن محمد مجهول لا يعرف، ومرسل أيضا، والثالث مرسل أيضا، والذي من طريق عمر فيه الحجاج بن أرطاة وهو هالك، وخالد بن محمد مجهول، وشيخ من بني كنانة، والآخر فيه إسماعيل بن عبيد الله ولا أعرفه، وخبر علي مرسل، ثم لو صح كل ما ذكرنا لكان حجة لنا وغير مخالف لقولنا؛ لأن شروط المسلمين هي الشروط التي أباحها الله لهم لا التي نهاهم عنها، وأما التي نهوا عنها فليست شروط المسلمين، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط، أو اشترط مائة مرة، وأنه لا يصح لمن اشترطه، فصح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فباطل، فليس هو من شروط المسلمين، فصح قولنا بيقين، ثم إن الحنفيين والمالكيين والشافعيين أشد الناس اضطرابا وتناقضا في ذلك؛ لأنهم يجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء في أنها باطل ليست في كتاب الله عز وجل ويجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء حق؛ لأنها في كتاب الله تعالى، فالحنفيون والشافعيون يمنعون اشتراط المبتاع مال العبد وثمرة النخل المؤبر، ولا يجيزون له ذلك البتة إلا بالشراء على حكم البيوع، والمالكيون والحنفيون والشافعيون لا يجيزون البيع إلى الميسرة، ولا شرط قول: لا خلابة عند البيع، وكلاهما في كتاب الله عز وجل لأمر
__________
(1) في النسخة رقم 14 (بن عمر) وهو غلط.

النبي (1) صلى الله عليه وسلم بهما وينسون هاهنا (2) : « المسلمون عند شروطهم » وكلهم يجيز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها بشرط القطع وهو شرط ليس في كتاب الله تعالى، بل قد صح النهي عن هذا البيع جملة، ومثل هذا كثير.
قال أبو محمد : ولا يخلو كل شرط اشترط في بيع أو غيره من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما إباحة مال لم يجب في العقد، وإما إيجاب عمل، وإما المنع من عمل، والعمل يكون بالبشرة أو بالمال فقط، وكل ذلك حرام بالنص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام » (3) وأما المنع من العمل فإن الله تعالى يقول: { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } (4) فصح بطلان كل شرط جملة إلا شرطا جاء النص من القرآن أو السنة بإباحته، وهاهنا أخبار نذكرها ونبينها إن شاء الله تعالى لئلا يعترض بها جاهل أو مشغب.
حدثني محمد بن إسماعيل العذري القاضي بسرقسطة، نا محمد بن علي الرازي المطوعي، نا محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري نا جعفر بن محمد الخلدي، نا عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير نا محمد بن سليمان الذهلي، نا عبد الوارث - هو: ابن سعيد التنوري - قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعا واشترط شرطا، فقال: (البيع باطل والشرط باطل)، ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك؟ فقال: (البيع جائز والشرط باطل)، ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك؟
__________
(1) في النسخة رقم 16 (أمر النبي).
(2) في النسخة رقم 14هنا.
(3) صحيح البخاري الفتن (6667),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679),مسند أحمد بن حنبل (5/37),سنن الدارمي المناسك (1916).
(4) سورة التحريم الآية 1

فقال: (البيع جائز والشرط جائز) فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: (لا أدري ما قالا، حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نهى عن بيع وشرط » ، البيع باطل والشرط باطل)، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا: فقال: (لا أدري ما قالا، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء » (1) ، البيع جائز والشرط باطل)، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال: (لا أدري ما قالا، نا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله (أنه باع من رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة ) البيع جائز والشرط (جائز).
وهاهنا خبر رابع رويناه من طريق أحمد بن شعيب، أنا زياد بن أيوب، نا ابن علية، نا أيوب السختياني، نا عمرو بن شعيب، حدثني أبي عن أبيه عن أبيه (2) حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن » (3) ، وبه أخذ أحمد بن حنبل فيبطل البيع إذا كان فيه شرطان ويجيزه إذا كان فيه شرط واحد، وذهب أبو ثور إلى الأخذ بهذه الأحاديث كلها فقال: إن اشترط البائع بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله أو خدمة العبد كذلك أو ركوب الدابة كذلك أو لباس الثوب كذلك جاز البيع والشرط؛ لأن الأصل له والمنافع له فباع ما شاء وأمسك ما شاء، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز والشرط باطل كالولاء ونحوه،
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2060),صحيح مسلم العتق (1504),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2) سقط لفظ (عن أبيه) الثاني من [سنن النسائي] (7 \ 295 ).
(3) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن الدارمي البيوع (2560).

وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو عمل المشتري فالبيع والشرط باطلان معا.
قال أبو محمد : هذا خطأ من أبي ثور؛ لأن منافع ما باع البائع من دار أو عبد أو دابة أو ثوب أو غير ذلك فإنما هي له ما دام كل ذلك في ملكه، فإذا خرج من ملكه فمن الباطل والمحال أن يملك ما لم يخلقه الله تعالى بعد من منافع ما باع، فإذا أحدثها الله تعالى فإنما أحدثها الله تعالى في ملك غيره فهي ملك لمن حدثت (عنده) (1) في ملكه فبطل توجيه أبي ثور، وكذلك باقي تقسيمه؛ لأنه دعوى بلا برهان.
وأما قول أحمد فخطأ أيضا؛ لأن تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرطين (2) في بيع ليس مبيحا لشرط واحد ولا محرما له لكنه مسكوت عنه في هذا الخبر فوجب طلب حكمه في غيره فوجدنا قوله صلى الله عليه وسلم: « كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل » (3) فبطل الشرط الواحد وكل ما لم يعقد إلا به، وبالله تعالى التوفيق.
وبقي حديث بريرة وجابر في الجمل فنقول وبالله تعالى التوفيق: إننا روينا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات، نا محمد بن أحمد بن مفرج، نا عبد الله بن جعفر بن الورد، نا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف ونا يحيى بن بكير، نا الليث بن سعد عن هشام بن عروة عن عروة « عن عائشة قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني،
__________
(1) الزيادة من النسخة رقم 16.
(2) في النسخة رقم 14 (للشرطين).
(3) صحيح البخاري العتق (2424),صحيح مسلم العتق (1504),سنن النسائي الطلاق (3451),سنن أبو داود العتق (3929),سنن ابن ماجه الأحكام (2521),مسند أحمد بن حنبل (6/213),موطأ مالك العتق والولاء (1519).

فقالت عائشة : إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة ويكون لي ولاؤك فعلت، فعرضتها عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فسألها فأخبرته فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق. ففعلت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية في الناس فحمد الله عز وجل، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله عز وجل، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق » (3) وذكر باقي الخبر.
ومن طريق البخاري، نا أبو نعيم، نا عبد الواحد بن أيمن، نا أبي قال: « دخلت على عائشة [رضي الله عنها] فقالت: دخلت بريرة - وهي مكاتبة- وقالت: اشتريني وأعتقيني، قالت: نعم، قالت: لا تبيعوني حتى يشترطوا ولائي، فقالت عائشة : لا حاجة لي بذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتريها وأعتقيها، ودعيهم يشترطون ما شاءوا فاشترتها عائشة فأعتقتها واشترط أهلها الولاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق وإن كان مائة شرط » (5) .
قال أبو محمد : فالقول في هذا الخبر هو على ظاهره دون تزيد ولا ظن كاذب مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحريف اللفظ، وهو إن اشترط الولاء على المشتري في المبيع للعتق كان لا يضر البيع شيئا، وكان البيع على هذا
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2424),صحيح مسلم العتق (1504),سنن أبو داود العتق (3929),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2) في النسخ كلها (أن أحبوا أهلك). (1)
(3) في النسخة رقم 14 أن يكون لهم الولاء. (2)
(4) صحيح البخاري العتق (2426),صحيح مسلم العتق (1504),موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(5) الزيادة من [صحيح البخاري] كتاب [المكاتب] باب (5) (3 \ 304 ) والحديث فيه مطول اختصره المصنف. (4)

الشرط جائزا حسنا مباحا وإن كان الولاء مع ذلك للمعتق، وكان اشتراط البائع الولاء لنفسه مباحا غير منهي عنه ثم نسخ الله عز وجل ذلك وأبطله إذ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما ذكرنا فحينئذ حرم أن يشترط هذا الشرط أو غيره جملة إلا شرطا في كتاب الله تعالى لا قبل ذلك أصلا، وقد قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (1) وقال تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } (2)
برهان ذلك أنه عليه السلام قد أباح ذلك وهو عليه السلام لا يبيح الباطل ولا يغر أحدا ولا يخدعه، فإن قيل: فهلا أجزتم البيع بشرط العتق في هذا الحديث؟ قلنا: ليس فيه اشتراطهم عتقها أصلا (3) ولو كان لقلنا به، وقد يمكن أنهم اشترطوا ولاءها إن أعتقت يوما ما أو إن أعتقها، إذ إنما في الحديث أنهم اشترطوا ولاءها لأنفسهم فقط ولا يحل أن يزاد في الأخبار شيء لا لفظ ولا معنى فيكون من فعل ذلك كاذبا إلا أننا نقطع ونبت أن البيع بشرط العتق لو كان جائزا لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وبينه، فإذ لم يفعل فهو شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا فرق بين البيع بشرط العتق وبين بيعه بشرط الصدقة أو بشرط الهبة أو بشرط التدبير وكل ذلك لا يجوز.
وأما حديث جابر فإننا رويناه من طريق [ البخاري ] نا أبو نعيم، نا زكريا سمعت عامرا الشعبي يقول: « حدثني جابر بن عبد الله أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فمر النبي صلى الله عليه وسلم فضربه فدعا له فسار سيرا ليس يسير مثله
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة الأحزاب الآية 6
(3) في النسخة رقم 14 عتقا أصلا
(4) صحيح البخاري الشروط (2569),صحيح مسلم المساقاة (715),مسند أحمد بن حنبل (3/314).

ثم قال: بعنيه بأوقية قلت: لا، ثم قال: بعنيه بأوقية فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ثم انصرف فأرسل على أثري فقال: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك » (1) .
ومن طريق [ مسلم ] نا ابن نمير، نا أبي نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن عامر الشعبي، حدثني جابر بن عبد الله، فذكر هذا الخبر وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: « بعنيه فبعته بأوقية، واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهو لك » (3) .
ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن العلاء نا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله فذكر هذا الخبر وفيه: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل الجمل، بعنيه ، قلت: يا رسول الله بل هو لك قال: لا بل بعنيه ، قلت: بل هو لك، قال: [لا، بل] بعنيه، قد أخذته بأوقية، اركبه فإذا قدمت المدينة فأتنا به فلما قدمت المدينة جئته به فقال لبلال : [يا بلال ] زن له أوقية وزده قيراطا » (7) هكذا رويناه من طريق عطاء عن جابر .
قال أبو محمد : روي هذا أن ركوب جابر الجمل كان تطوعا من رسول
__________
(1) في [صحيح البخاري] (4 \ 30 ) فسار يسير. (4)
(2) صحيح مسلم المساقاة (715),مسند أحمد بن حنبل (3/376).
(3) في النسخة رقم 16 (ثم إني رجعت) وما هنا موافق لما في {صحيح مسلم](1 \ 470 ). (2)
(4) صحيح مسلم الرضاع (715),سنن النسائي البيوع (4639).
(5) في [سنن النسائي] (7 \ 299 ) قلت: بل هو لك يا رسول الله. (4)
(6) الزيادة من [سنن النسائي]. (5)
(7) الزيادة من [سنن النسائي] (6)

الله صلى الله عليه وسلم واختلف فيه على الشعبي وأبي الزبير فروي عنهما عن جابر أنه كان شرطا من جابر، وروي عنهما أنه كان تطوعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نسلم له أنه كان شرطا.
ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق: إنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « قد أخذته بأوقية » (1) ، وصح عنه عليه السلام أنه قال: « أتراني ماكستك لآخذ جملك، ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك » (2) كما أوردنا آنفا، فصح يقينا أنهما أخذان: أحدهما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر لم يفعله؛ بل انتفى عنه، ومن جعل كل ذلك أخذا واحدا فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه.
وهذا كفر محض، فإذا لا بد من أنهما أخذان؛ لأن الأخذ الذي أخبر به عليه السلام عن نفسه هو بلا شك غير الأخذ الذي انتفى عنه البتة، فلا سبيل (3) إلى غير ما يحمل عليه ظاهر الخبر، وهو أنه عليه السلام أخذه وابتاعه ثم تخير قبل التفرق ترك (4) أخذه، وصح أن في حال المماكسة كان ذلك أيضا في نفسه عليه السلام؛ لأنه عليه السلام أخبره أنه لم يماكسه ليأخذ جمله، فصح أن البيع لم يتم فيه قط، فإنما اشترط جابر ركوب جمل نفسه فقط.
وهذا هو مقتضى لفظ الأخبار إذا جمعت ألفاظها، فإذ قد صح أن ذلك البيع لم يتم ولم يوجد في شيء من ألفاظ ذلك الخبر أصلا أن البيع تم بذلك
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/314).
(2) صحيح مسلم المساقاة (715).
(3) في النسخة رقم 16 (إذ لا سبيل).
(4) في النسخة رقم 14 (وترك).

الشرط فقد بطل أن يكون في هذا الخبر حجة في جواز بيع الدابة واستثناء ركوبها أصلا، وبالله تعالى التوفيق.
فأما الحنفيون والشافعيون : فلا يقولون بجواز هذا الشرط أصلا، فإنما الكلام بيننا وبين المالكيين فيه فقط، وليس في هذا الخبر تحديد يوم ولا مسافة قليلة من كثيرة ومن ادعى ذلك فقد كذب، فمن أين خرج لهم تحديد مقدار دون مقدار؟ ويلزمهم إذ لم يجيزوا بيع الدابة على شرط ركوبها شهرا ولا عشرة أيام، وأبطلوا هذا الشرط وأجازوا بيعها واشتراط ركوبها مسافة يسيرة أن يحدوا المقدار الذي يحرم به ما حرموه من ذلك المقدار الذي حللوه، هذا فرض عليهم، وإلا فقد تركوا من اتبعهم في سخنة عينه وفي ما لا يدري لعله يأتي حراما (1) أو يمنع حلالا.
وهذا ضلال مبين، فإن حدوا في ذلك مقدارا ما سئلوا عن البرهان في ذلك إن كانوا صادقين، فلاح فساد هذا القول بيقين لا شك فيه، ومن الباطل المتيقن أن يحرم الله تعالى علينا ما لا يفصله لنا من أوله لآخره لنجتنبه ونأتي ما سواه، إذا كان تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا من أن نعلم الغيب وقد أمننا الله تعالى من ذلك.
(فإن قالوا): إن في بعض ألفاظ الخبر أن ذلك كان حين دنوا من المدينة، قلنا: الدنو يختلف، ولا يكون إلا بالإضافة، فمن أتى من تبوك فكان من المدينة على ست مراحل أو خمس فقد دنا منها، ويكون الدنو أيضا على ربع ميل وأقل أو أكثر، فالسؤال باق عليكم بحسبه، وأيضا فإن
__________
(1) في النسخة رقم 14 (يأتي محرما)

هذه اللفظة إنما هي في رواية سالم بن أبي الجعد، وهو إنما روى أن ركوب جابر كان تطوعا من النبي صلى الله عليه وسلم وشرطا (1) ، وفي رواية المغيرة عن الشعبي عن جابر دليل على أن ذلك كان في مسيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزاة، وأيضا فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك الشرط إلا في مثل تلك المسافة فإذا لم يقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات، فلا تقيسوا على تلك الطريق سائر الطرق (2) ، ولا تقيسوا على اشتراط ذلك في ركوب جمل سائر الدواب، وإلا فأنتم متناقضون متحكمون بالباطل، وإذا قستم على تلك الطريق سائر الطرق، وعلى الجمل سائر الدواب فقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات، كما فعلتم في صلاته عليه السلام راكبا متوجها إلى خيبر إلى غير القبلة فقستم على تلك المسافة سائر المسافات، فلاح أنهم لا متعلق لهم في هذا الخبر أصلا.
وبالله تعالى التوفيق.
وقد جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم آثار في الشروط في البيع خالفوها، فمن ذلك: ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددنا لو أن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قد تبايعا حتى ننظر (3) أيهما أعظم جدا في التجارة، فاشترى عبد الرحمن بن عوف من عثمان فرسا بأرض
__________
(1) كذا في الأصل، ولعله (لا شرطا).
(2) في النسخة رقم 16 (سائر الطريق).
(3) في النسخة 14 (حتى نعلم).

أخرى بأربعين ألفا أو نحوها إن أدركتها الصفقة وهي سالمة، ثم أجاز قليلا ثم رجع فقال: (أزيدك ستة آلاف إن وجدها رسولي سالمة)، قال: (نعم)، فوجدها رسول عبد الرحمن قد هلكت وخرج منها بالشرط الآخر، قيل للزهري : فإن لم يشترط؟ قال: فهي من البائع، فهذا عمل عثمان وعبد الرحمن بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وعلمهم، لا مخالف لهم يعرف منهم، ولم ينكر ذلك سعيد وصوبه الزهري، فخالف الحنفيون والمالكيون والشافعيون كل هذا، وقالوا: لعل الرسول يخطئ أو يبطئ أو يعرضه عارض فلا يدري متى يصل، وهم يشنعون مثل هذا إذا خالف تقليدهم.
ومن طريق وكيع نا محمد بن قيس الأسدي عن عون بن عبد الله عن عتبة بن مسعود قال: إن تميما الداري باع داره واشترط سكناها (1) حياته وقال: (إنما مثلي مثل أم موسى رد عليها ولدها وأعطيت أجر رضاعها).
ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة بن شراحيل قال: باع صهيب داره من عثمان واشترط سكناها، وبه يأخذ أبو ثور، فخالفوه، ولا مخالف لذلك من الصحابة ممن يجيز الشرط في البيع، وقد ذكرنا قبل ابتياع نافع بن عبد الحارث دارا بمكة للسجن من صفوان بأربعة آلاف على إن رضي عمر فالبيع تام فإن لم يرض فلصفوان أربعمائة، فخالفوهم كلهم.
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر، أخبرني نافع
__________
(1) في النسخة 16 (سكناه).

عن ابن عمر أنه اشترى بعيرا بأربعة أبعرة على أن يوفوه إياها بالربذة، وليس فيه وقت ذكر الإيفاء فخالفوه.
ومن طريق حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن النعمان بن حميد قال: أصاب عمار بن ياسر مغنما فقسم بعضه وكتب إلى عمر يشاوره، فتبايع الناس إلى قدوم الراكب، وهذا عمل عمار والناس بحضرته فخالفوه وأما نحن فلا حجة عندنا في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق.
وحكم علي بشرط الخلاص.
وللحنفيين والمالكيين والشافعيين تناقض عظيم فيما أجازوه من الشروط في البيع وما منعوا منه فيها قد ذكرنا بعضه ونذكر في مكان آخر إن شاء الله تعالى ما يسر الله تعالى بذكره؛ لأن الأمر أكثر من ذلك.
وبالله تعالى التوفيق . اهـ (1)
__________
(1) [المحلى] (8 \ 412- 420) المطبعة المنيرية.

ضوابط الشروط المقترنة بالعقد
هذا وقد نقل الدكتور عبد الرزاق السنهوري عن فقهاء الإسلام ضوابط للشروط المقترنة بالعقد صحيحها وفاسدها، وذكر عنهم كثيرا من المسائل، وأمثلة للقسمين، وقارن بين ما نقله عنهم فاستحسنت اللجنة نقله مع حذف ما يغني عنه غيره مما ذكره.
قال الدكتور عبد الرزاق ما نصه (1) :
__________
(1) [مصادر الحق في الفقه الإسلامي] (3 \ 117 - 153، 167- 194).

1 - الشرط الصحيح
متى يكون الشرط صحيحا؟
يتبين مما قدمناه أن الشرط المقترن بالعقد يكون صحيحا، فيصح معه العقد، إذا كان:
(أ) شرطا يقتضيه العقد.
(ب) أو شرطا يلائم العقد.
(ج) أو شرطا جرى به التعامل بين الناس.
(أ) الشرط الذي يقتضيه العقد :
النصوص في [البدائع] (1) : ( وأما الشرط الذي يقتضيه العقد فلا يوجب فساده، كما إذا اشترط أن يتملك المبيع، أو باع بشرط أن يتملك الثمن، أو باع بشرط أن يحبس المبيع حتى يقبض الثمن، أو اشترى على أن يسلم المبيع، أو اشترى جارية على أن تخدمه، أو دابة على أن يركبها، أو ثوبا على أن يلبسه، أو حنطة في سنبلها وشرط الحصاد على البائع، ونحو ذلك فالبيع جائز؛ لأن البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط، فكان ذكرها في معرض الشرط تقريرا لمقتضى العقد، فلا توجب فساد العقد ) اهـ.
وجاء في [الخرشي] (2) : ( وبقي شرط يقتضيه العقد، وهو واضح
__________
(1) [البدائع] (5\171).
(2) [الخرشي] (5 \ 8 ).

الصحة، كشرط تسليم المبيع والقيام بالعيب ورد العوض عند انتقاض البيع، وهو لازم دون شرط، فشرطه تأكيد ) اهـ.
وجاء في [المهذب] (1) : ( إذا شرط في البيع شرطا نظرت، فإن كان شرطا يقتضيه البيع كالتسليم والرد بالعيب وما أشبههما، لم يبطل العقد؛ لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد، فلم يبطله ) اهـ.
وجاء في [المغني] (2) : ( والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام (أحدها): ما هو من مقتضى العقد، كاشتراط التسليم وخيار المجلس والتقابض في الحال، فهذا وجوده كعدمه لا يفيد حكما ولا يؤثر في العقد ) اهـ.
صحة الشرط الذي يقتضيه العقد أمر بديهي:
ويتبين من النصوص المتقدمة الذكر أن الشرط الذي يقتضيه العقد لا خلاف في صحته، بل إن صحته أمر بديهي، إذ هو محض تقرير لمقتضى العقد، ومقتضى العقد لازم دون شرط، فشرطه تأكيد وبيان.
__________
(1) [المهذب] (5\268).
(2) [المغني] (5\285).

(ب)

الشرط الذي يلائم العقد
النصوص:
جاء في [البدائع] (1) : ( وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد، لكنه ملائم للعقد لا يوجب فساد العقد أيضا؛ لأنه مقرر لحكم العقد من حيث
__________
(1) [بدائع الصنائع] (5\171).

المعنى مؤكد إياه على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد، وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهنا أو كفيلا، والرهن معلوم والكفيل حاضر فقبل.
وجملة الكلام في البيع بشرط إعطاء الرهن : أن الرهن لا يخلو؛ إما أن يكون معلوما أو مجهولا، فإن كان معلوما فالبيع جائز استحسانا، والقياس ألا يجوز؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسدا، إلا أنا استحسنا الجواز؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفا مقتضى العقد صورة فهو موافق له معنى؛ لأن الرهن بالثمن شرع توثيقا للثمن، وكذا الكفالة فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقررا لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن، وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا، ولو قبل المشتري المبيع على هذا الشرط ثم امتنع من تسليم الرهن لا يجبر على التسليم عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر : يجبر عليه.
وجه قوله: أن الرهن إذا شرط في البيع فقد صار حقا من حقوقه، والجبر على التسليم من حقوق البييع فيجبر عليه.
ولنا أن الرهن عقد تبرع في الأصل، واشتراطه في البيع لا يخرجه عن أن يكون تبرعا، والجبر على التبرع ليس بمشروع، فلا يجبر عليه، ولكن يقال له: إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو تؤدي الثمن أو يفسخ البائع البيع؛ لأن البائع لم يرض بزوال البيع عن ملكه إلا بوثيقة الرهن أو بقيمته لأن قيمته تقوم مقامه؛ ولأن الدين يستوفى من مالية الرهن وهي قيمته، وإذا أدى الثمن فقد حصل المقصود فلا معنى للفسخ، ولو امتنع المشتري من هذه

الوجوه فللبائع أن يفسخ البيع لفوات الشرط والغرض، وإن الرهن مجهولا فالبيع فاسد؛ لأن جواز هذا الشرط- مع أن القياس يأباه لكونه ملائما للعقد- مقررا لمقتضاه معنى، لحصول معنى التوثيق والتأكد للثمن، ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول، ولو اتفقا على تعيين رهن في المجلس جاز البيع؛ لأن المانع هو جهالة الرهن وقد زال، فكأنه كان معلوما معينا من الابتداء؛ لأن المجلس له حكم حالة واحدة، وإن افترقا عن المجلس تقرر الفساد، وكذا إذا لم يتفقا على تعيين الرهن ولكن المشتري نقد الثمن جاز البيع أيضا؛ لأن المقصود من الرهن هو الوصول إلى الثمن وقد حصل فيسقط اعتبار الوثيقة، وكذلك البيع بشرط إعطاء الكفيل؛ لأن الكفيل إن كان حاضرا في المجلس وقبل جاز البيع استحسانا، وإن كان غائبا فالبيع فاسد، وكذا إذا كان حاضرا ولم يقبل؛ لأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن، لما فيه من تقرير موجب العقد ما بينا، فإذا كان الكفيل غائبا أو حاضرا ولم يقبل لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثيق، فبقي الحكم على ما يقتضيه القياس، وكذا إذا كان الكفيل مجهولا فالبيع فاسد؛ لأن كفالة المجهول لا تصح، ولو كان الكفيل معينا وهو غائب ثم حضر وقبل الكفالة في المجلس- جاز البيع؛ لأنه جازت الكفالة بالقبول في المجلس، وإذا حضر بعد الافتراق تأكد الفساد، ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع فالبيع فاسد؛ لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد

وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائما للعقد، بخلاف الكفالة والرهن . اهـ.
وجاء في الحطاب (1) : قال في البيوع الفاسدة: ( منها: وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه جاز، وعليه الثقة ورهن وحميل، وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليك إن امتنع، وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض، وكذلك إن تكلفت به على أن يعطيك عبده رهنا فإن امتنع من دفعه إليك أجبر. اهـ.
قال اللخمي في كتاب [الرهن]: البيع على غير رهن معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد، والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلي وما لا يغاب عليه كالدور وما أشبهها، وليس العادة العبيد والدواب، وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقا في تلفه؛ لأن في حفظه مشقة وكلفة... اهـ، وقال ابن الحاجب في باب الرهن: ويجبر البائع وشبهه في غير معين في التوضيح، تعني من باع سلعة بثمن مؤجل على شرط أن يأخذ منه رهنا به، فإن كان الرهن المشترط غير معين وأبى المشتري من دفعه خير البائع وشبهه من وارث وموهوب له في فسخ البيع وإمضائه، وهكذا قال ابن الجلاب مقتصرا عليه، والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين ( ابن عبد السلام ) وهو المذهب ) اهـ.
__________
(1) [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل] (4\ 375، 376).

وجاء في [شرح المنهاج] للرملي (1) : والرهن للحاجة إليه لاسيما في معاملة من لا يعرف حاله، وشرطه العلم به، إما بالمشاهدة أو الوصف بصفات السلم، ثم الكلام هنا في وصف لم يرد على عين معينة، فهو مساو لما مر من أن الوصف لا يجزئ عن الرؤية؛ لأنه في معين لا موصوف في الذمة خلافا لمن وهم فيه، وأن يكون غير البيع، فلو شرط برهنه إياه ولو بعد قبضه فسد؛ لأنه لا يملكه إلا بعد البيع، فهو بمنزلة استثناء منفعة في البيع، فلو رهنه بعد قبضه بلا شرط مفسد صح والكفيل للحاجة إليه أيضا، وشرطه العلم به بالمشاهدة.. أو باسمه ونسبه ولا يكفي وصفه بموسر ثقة، إذ الأحرار لا يمكن التزامهم في الذمة لانتفاء القدرة عليهم، بخلاف المرهون فإنه يثبت في الذمة، فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتى برهن غير المعين ولو أعلى قيمة منه، أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله وإن أقام المشتري ضامنا غيره ثقة فللبائع الخيار، ولا يجبر من شرط عليه ذلك على القيام بالمشروط لزوال الضرر بالفسخ ويتخير أيضا فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره. اهـ.
وجاء في [الشرح الكبير للمقنع ] (2) : ( الثاني شرط من مصلحة العقد، كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو الرهن أو الضمين، أو الشهادة، أو صفة في المبيع مقصودة نحوكون العبد كاتبا أو خطيبا أو صانعا أو مسلما أو الأمة بكرا أو الدابة هملاجة أو الفهد صيودا، فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به،
__________
(1) [شرح المنهاج] (3\436- 438).
(2) [الشرح الكبير] (4\48).

فإن لم يف به فللمشتري الفسخ والرجوع بالثمن ) اهـ.

ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد
الأمثلة التي وردت في النصوص المتقدمة عن الشرط الذي يلائم العقد هي:
1 - شرط أخذ الرهن بالثمن.
2 - شرط أخذ الكفيل بالثمن.
3 - شرط الحوالة بالثمن.
وكلها شروط تلائم العقد، فهي وإن كان العقد لا يقتضيها إلا أنها لا تتعارض معه ولا تتنافى مع أحكامه، بل هي من مصلحة العقد وتتعلق بها مصلحة العاقدين.
والمذهب الحنفي: يقتصر كما رأينا على القول بأن الشرط يلائم العقد، أما المذاهب الأخرى فالتعبير فيها أقل تحفظا، تقول المالكية : الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا ينافيه وهو من مصلحته. وتقول أيضا: لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحة ولا معارض له من جهة الشرع.
وتقول الشافعية : شرط لا يقتضيه العقد ولكن فيه مصلحة وتدعو الحاجة إليه.
وتقول الحنابلة : شرط من مصلحة العقد وتتعلق به مصلحة العاقدين.
على أن هذه المذاهب تختلف عندما تقرر ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد، فأضيقها في ذلك هو: المذهب الحنفي، وأوسعها هو:

المذهب المالكي.
ففي المذهب الحنفي: إذا كان الرهن الذي يتوثق الثمن به مجهولا، أو كان الكفيل مجهولا أو كان غير حاضر في المجلس أو كان حاضرا ولم يقبل الكفالة: فإن الشرط يكون فاسدا ويفسد معه البيع، أما في الرهن فلأن جواز هذا الشرط- مع أن القياس يأباه لكونه ملائما للعقد- مقررا لمقتضاه معنى لحصول معنى التوثيق والتأكد للثمن، ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول، وأما في الكفيل فلأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن لما فيه من تقرير موجب العقد.
فإذا كان الكفيل غائبا أو حاضرا ولم يقبل لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثق، فبقي الحكم على ما يقتضيه القياس، وكذا إن كان الكفيل مجهولا فالبيع فاسد لأن كفالة المجهول لا تصح، فلابد إذن لصحة الشرط الملائم للعقد أن يكون تاما نافذ الأثر وقت العقد، فيقبل الكفالة بالثمن، وسلم المشتري الرهن للبائع، وذلك كله قبل انفضاض مجلس العقد، على أنه يجوز أن يكون الرهن- لا الكفيل- غائبا عن المجلس ما دام معلوما إذا كان عينا معينة، أو ما دام يمكن ضبطه بالوصف إذا كان شيئا غير معين إلا بالنوع، ففي هذه الحالة يصح شرط الرهن ويصح معه العقد، ويجب على المشتري تسليم الرهن أو قيمته إلى البائع بعد العقد، وإلا كان البائع بالخيار، إذا لم ينقد الثمن بين فسخ العقد أو إبقائه، ولكن لا يجبر المشتري على تسليم الرهن خلافا لقول زفر إذ يذهب إلى أن الرهن إذا شرط في العقد فقد صار حقا من حقوقه ويجبر المشتري على تنفيذه،

والفرق بين الكفالة والرهن في هذا الصدد إذ يشترط حضور الكفيل وقبول الكفالة ولا يشترط حضور الرهن على ما بينا.
ويوضحه صاحب [فتح القدير] إذ يقول: الآن وجوب الثمن في ذمة الكفيل يضاف إلى البيع فيصير الكفيل كالمشتري، فلا بد من حضور العقد بخلاف الرهن لا تشترط حضرته، لكن ما لم يسلم للبائع لا يثبت فيه حكم الرهن وإن انعقد عقد الرهن بذلك الكلام، فإن سلم معنى العقد على ما عقدا، وإن امتنع عن تسليمه لا يجبر عندنا، بل يؤمر بدفع الثمن، فإن لم يدفع الرهن ولا الثمن خير البائع في الفسخ ).
والظاهر من النصوص: أن الشافعية والحنابلة كالحنفية في وجوب تعيين المرهون وتعيين الكفيل بالذات، فلا يكفي وصف الكفيل بموسر ثقة، ولكن يبدو أن الشافعية والحنابلة لا يتشددون تشدد الحنفية في وجوب أن يكون الكفيل حاضرا في مجلس العقد، وأن يقبل الكفالة قبل انفضاض المجلس، فيكفي أن يكون كل من الرهن والكفيل معينا معلوما على الوجه الذي قدمناه، فإن لم يسلم المشتري الرهن للبائع قبل العقد أو لم يقبل الكفيل الكفالة أو مات قبل القبول خير البائع إذا لم ينقده المشتري الثمن.
ويقول الرملي في هذا الصدد: فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتى برهن غير معين ولو أعلى قيمة منه أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله، وإن أقام المشتري ضامنا غيره ثقة: فللبائع الخيار... ولا يجبر من شرط عليه ذاك على القيام بالمشروط؛ لزوال الضرر بالفسخ،

ويتخير أيضا فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره.
أما المذهب المالكي: فهو كما قدمنا أوسع المذاهب في هذه المسألة، فعنده يصح الشرط حتى لو لم يكن الرهن أو الكفيل معينا، ويقول الحطاب : (وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه جاز)، ليس هذا فحسب، بل أيضا إذا عين الرهن بعد العقد وامتنع المشتري عن تسليمه أجبر على ذلك، ولا يقتصر الأمر على إعطاء البائع حق الفسخ إذا لم ينقد الثمن، وإذا لم يعين الرهن أجبر المشتري على أن يعطي الصنف المعتاد: ثيابا أو حليا أو دارا أو نحو ذلك، ولا يجبر البائع على قبول ما في حفظه مشقة وكلفة كالعبيد والدواب.
ويقول الحطاب أيضا في ذلك: (وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليك إن امتنع، وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض.. والبيع على رهن غير معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد، والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلي وما لا يغاب عليه كالدور وما أشبهها، وليس العادة العبيد والدواب، وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقا في تلفه؛ لأن في حفظه مشقة وكلفة... والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين... وهو المذهب).
ونرى من ذلك أن المذهب الحنفي لا يكتفي في صحة الشرط بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل، بل يجب أن يكون عقد الرهن أو عقد الكفالة قد انعقد مع انعقاد البيع، وتكتفي الشافعية والحنابلة بمجرد التزام

المشتري بتقديم رهن أو كفيل على أن يكون الرهن أو الكفيل معينا وقت العقد، أما المالكية فيكتفون هم أيضا بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل.. ويزيدون على ذلك أنهم لا يشترطون أن يكون الرهن أو الكفيل معينا وقت العقد، ثم إنهم في الرهن يجبرون المشتري على تسليمه إذا كان معينا، أو على تسليم الصنف المعتاد إذا كان غير معين.
بقي شرط الحوالة، ونلاحظ أن كتب الحنفية قد تضاربت في صحة هذا الشرط، فقد جاء في [البدائع]- كما رأينا-: ( ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع فالبيع فاسد، لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائما للعقد بخلاف الكفالة والرهن )، والفرض أن يرد الشرط في عقد البيع قاضيا بحوالة الثمن الذي في ذمه المشتري حوالة دين إلى ذمة شخص آخر قد يكون مدينا للمشتري (غريما من غرمائه)، فيصبح هذا المدين وقد تحمل الدين بالثمن نحو البائع وتبرأ ذمة المشتري من الثمن، هذا الشرط لا يقتضيه العقد، ثم هو يلائم العقد؛ لأن الحوالة إبراء لذمة المشتري من الثمن كما يقول صاحب [البدائع]، ولكن إذا كانت الحوالة إبراء عن الثمن وإسقاطا له من وجه فهي من وجه آخر تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له، فإن الإبراء لا يكون إلا عن شيء واجب، هذا إلى أن الحوالة ليست إبراء فحسب، إذ هي إبراء لذمة المحيل- إبراء غير كامل- وشل لذمة المحال عليه، وفي هذا أيضا تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له.

ولا يختلف الأمر إذا ضمن المشتري الثمن لغريم من غرماء البائع أي لدائن من دائنيه ولو كان ذلك عن طريق حوالة الدين الذي في ذمة البائع لدائنه إلى ذمة المشتري، فإن المشتري بقبوله هذه الحوالة إنما تؤكد وجوب الثمن في ذمته وبدلا من أن يدفعه للبائع يكون واجبا عليه أن يدفعه لدائن البائع، فالشرط كما نرى ملائم لمقتضى عقد البيع كل الملاءمة، ويعدل في ذلك شرط الرهن وشرط الكفالة.
من أجل ذلك نرجح الأخذ بما جاء في [فتح القدير] من أن ( شرط الحوالة كالكفالة ) وبما جاء في [المبسوط] من أن ( شرط الحوالة في هذا كشرط الكفالة )؛ لأنه لا ينافي وجود أصل الثمن في ذمة المشتري، فإن الحوالة تحويل ولا يكون ذلك إلا بعد وجود الثمن في ذمة المشتري، بخلاف ما لو شرط وجوب الثمن ابتداء على غير المشتري بالعقد فإن ذلك ينافي موجب العقد فكان مفسدا للعقد).

الشرط الذي يلائم العقد يصح استثناء على سبيل الاستحسان عند الحنفية ويصح أصلا في المذاهب الأخرى
لم تجز الحنفية الشرط الذي يلائم العقد إلا استثناء على سبيل الاستحسان، ملحقين إياه في المعنى بالشرط الذي يقتضيه العقد، وإلا فإن الشرط ولو لاءم العقد ما دام العقد لا يقتضيه لا يجوز على مقتضى القياس عند الحنفية، فإن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد، فيكون عقدا في عقد وهذا لا يجوز.

وإنما صح هذا الشرط على سبيل الاستحسان كما قدمنا، لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى، مؤكد إياه، فاشتراط الرهن أو الكفالة بالثمن يؤكد وجوب استيفاء الثمن، واستيفاء الثمن ملائم للعقد، ومثل هذا الاشتراط يكون بمثابة اشتراط صفة الجودة في الثمن.
جاء في [المبسوط] (1) : ( وإن شرط أن يرهنه المبتاع هذا بعينه: ففي القياس العقد فاسد، لما بينا (2) أنه شرط عقد في عقد، وفي الاستحسان يجوز هذا العقد؛ لأن المقصود بالرهن الاستيفاء، فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء.
وشرط استيفاء الثمن ملائم للعقد، ثم الرهن بالثمن للتوثق بالثمن، فاشتراط ما يتوثق به كاشتراط صفة الجودة في الثمن ) اهـ.
وقد رأينا صاحب [البدائع] يقول في هذا المعنى: ( وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد لكنه ملائم للعقد لا يوجب فساد العقد أيضا؛ لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى مؤكد إياه. فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد، وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهنا... فإن كان معلوما فالبيع جائز استحسانا، والقياس ألا يجوز؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى صورة العقد فكان مفسدا، إلا أننا استحسنا الجواز؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفا مقتضى العقد صورة فهو موافق له
__________
(1) [المبسوط] (13\19).
(2) أي : في [المبسوط].

معنى؛ لأن الرهن بالثمن شرع توثيقا للثمن وكذا الكفالة فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقررا لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا ) اهـ (1) .
أما في المذهب الشافعي: فالظاهر أن الشرط الذي يلائم العقد يصح أصلا لا استثناء؛ بخلاف المذهب الحنفي فالشرط فيه لا يصح إلا على سبيل الاستثناء كما قدمنا.
وأما المذهبان المالكي والحنبلي: فيبدو أنهما يجيزان الشرط الملائم للعقد على اعتبار أن هذا الشرط إذا كان العقد لا يقتضيه فإنه لا ينافي مقتضى العقد وهو من مصلحته، وما لا ينافي مقتضى العقد وإن كان العقد لا يقتضيه فهو جائز ما دامت فيه مصلحة للعقد وللمتعاقدين.
ويظهر أن الفرق بين المذهب الحنفي وهذين المذهبين في هذا الصدد أن الحنفية يوجبون لصحة الشرط في الأصل أن يكون العقد يقتضيه، ثم هم يجيزون استثناء- على سبيل الاستحسان لا على سبيل القياس- الشرط الذي يلائم العقد؛ لأنه يشبه في المعنى الشرط الذي يقتضيه العقد فيلحق به، أما المذهبان الآخران فعندهما أنه ليس من الضروري لصحة الشرط أن يكون العقد يقتضيه، بل يكفي أن يكون الشرط لا ينافي مقتضى العقد، فيصح الشرط الذي يقتضيه العقد، كما يصح الشرط الذي يلائم العقد؛
__________
(1) بدائع الصنائع (5\171).

لأنه لا ينافي ما يقتضيه، والصحة في هذا الشرط وفي ذاك إنما ترد على سبيل الأصل لا على سبيل الاستثناء.
وقد رأينا الخرشي في المذهب المالكي يقول في هذا المعنى: (ولما أنهى الكلام على الشرط المناقض وترك المؤلف ذكر ما لا يقتضيه العقد لوضوحه أخذ يذكر ما لا يقتضيه ولا ينافيه وهو من مصلحته بقوله مشبها له بالحكم قبله، وهو الصحة كشرط رهن وحميل وأجل، يعني: أن البيع يصح مع اشتراط هذه الأمور، وليس في ذلك فساد ولا كراهية، لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحته، ولا معارض له من جهة الشرع).
ثم رأينا ابن قدامة المقدسي في المذهب الحنبلي يقول في [الشرح الكبير]: ( الثاني شرط من مصلحة العقد... فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به ).

(ج)

الشرط الذي يجري به التعامل
النصوص:
جاء في [المبسوط] (1) : ( وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد وفيه عرف ظاهر، فذلك جائز أيضا، كما لو اشترى نعلا وشراكا بشرط أن يحذوه البائع، لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجا بينا ).
__________
(1) [المبسوط] (13\14).

وجاء في [البدائع] (1) : ( كذلك إن كان مما لا يقتضيه العقد ويلائم العقد أيضا، لكن للناس فيه تعامل- فالبيع جائز، كما إذا اشترى نعلا على أن يحذوه البائع أو جرابا على أن يخرزه له خفا أو ينعل خفه، والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله.
وجه القياس: أن هذا شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوبا بشرط أن يخيطه البائع له قميصا ونحو ذلك، ولنا: أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع، فسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع ).
ولا يزال الشرط الذي يجري به التعامل إنما تثبت له الصحة في المذهب الحنفي على سبيل الاستحسان، أما في القياس فهو لا يجوز؛ لأن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد فيكون عقدا في عقد.
وقد رأينا صاحب [البدائع] يقول: ( والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله، وجه القياس: أن هذا شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوبا بشرط أن يخيطه البائع له قميصا ونحو ذلك.
ولنا: أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع، فسقط القياس بتعامل الناس، كما سقط في الاستصناع ).
__________
(1) [بدائم الصنائع] (5\172).

الشرط الفاسد
المذهب الحنفي
والمذاهب الثلاثة الأخرى:
ولما كان المذهب الحنفي هو أضيق المذاهب في إباحة الشروط المقترنة بالعقد كما قدمنا، ومن ثم كان الشرط الفاسد في هذا المذهب واسع المدى، لذلك نبدأ ببحث المذهب الحنفي وحده، ثم نعقب بتأصيل هذا المذهب وتطور الفقه الإسلامي في المذاهب الثلاثة الأخرى وفي المذهب الحنفي نفسه، فهناك اتصال وثيق بين هاتين المسألتين.
أولا: المذهب الحنفي :
التمييز بين حالتين:
يجب التمييز في المذهب الحنفي بين حالتين:
(أ) حالة فيها الشرط الفاسد يفسد العقد.
(ب) وحالة فيها الشرط الفاسد يلغو دون أن يفسد العقد، فيسقط الشرط ويبقى العقد.
(أ)
شرط فاسد يفسد العقد
النصوص:
جاء في المبسوط (1) : ( وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد وليس فيه عرف
__________
(1) [المبسوط] (13\15- 18).

ظاهر، قال: (فإن كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين فالبيع فاسد)؛ لأن الشرط باطل في نفسه والمنتفع به غير راض بدونه، فتتمكن المطالبة بينهما بهذا الشرط، فلهذا فسد به البيع، وكذلك إن كان فيه منفعة للمعقود عليه، وذلك نحو ما بينا أنه إذا اشترى عبدا على أنه لا يبيعه، فإن العبد يعجبه ألا تتناوله الأيدي، وتمام العقد بالمعقود عليه حتى لو زعم أنه حر كان البيع باطلا، فاشتراط منفعته كاشتراط منفعة أحد المتعاقدين.. قال: (وإذا اشترى عبدا على أنه يعتقه فالبيع فاسد)، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن البيع جائز بهذا الشرط، وهو قول الشافعي، لحديث بريرة رضي الله عنها فإنها جاءت إلى عائشة رضي الله عنها تستعينها في المكاتبة، قالت: إن شئت عددتها لأهلك وأعتقك، فرضيت بذلك، فاشترتها وأعتقتها، وإنما اشترتها بشرط العتق، وقد أجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.. ولأن العتق في المبيع قبض.. والقبض من أحكام العقد، فاشتراطه في العقد يلائم العقد ولا يفسده، وحجتنا في ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ولأن في هذا الشرط منفعة للمعقود عليه والعقد لا يقتضيه فيفسد به العقد كما لو شرط ألا يبيع، يوضحه أنه لو شرط في الجارية أن يستولدها أو في العبد أن يدبره كان العقد فاسدا، فإذا كان اشتراط حق العتق لها يفسد البيع فاشتراط حقيقة العتق أولى، ودعواه أن هذا الشرط يلائم العقد لا معنى له فإن البيع موجب للملك والعتق مبطل له فكيف يكون بينهما ملاءمة، ثم هذا الشرط يمنع استدامة الملك فيكون ضد ما هو المقصود بالعقد، وبيع العبد لسمة لا يكون بشرط العتق، بل يكون ذلك وعدا من المشتري ثم البيع بعقد مطلقا، وهو تأويل حديث عائشة رضي الله عنها

فإنها اشترت بريرة رضي الله عنها مطلقا ووعدت لها أن تعتقها لترضى هي بذلك فإن بيع المكاتبة لا يجوز بغير رضاها..
وإذا اشتراه على أن يقرض له قرضا أو يهب له هبة أو يتصدق عليه صدقة أو على أن يبيعه بكذا وكذا من الثمن فالبيع في جميع ذلك فاسد؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة.. وإن اشترى شيئا وشرط على البائع أن يحمله إلى منزله أو يطحن الحنطة أو يخيط الثوب فهو فاسد، لأن فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه؛ لأنه إذا كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، وكذلك لو اشترى دارا على أن يسكنها البائع شهرا، فهذه إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، أو هذا شرط أجل في العين والعين لا تقبل الأجل ).
وجاء في [البدائع] (1) : (ومنها شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع، أو للمشتري، أو للمبيع إن كان من بني آدم كالرقيق، وليس بملائم للعقد، ولا مما جرى به التعامل بين الناس، ونحو ما إذا باع دارا على أن يسكنها البائع شهرا ثم يسلمها إليه، أو أرضا على أن يزرعها سنة، أو دابة على أن يركبها شهرا، أو ثوبا على أن يلبسه أسبوعا، أو على أن يقرضه المشتري قرضا، أو على أن يهب له هبة، أو يزوج ابنته منه، أو يبيع منه بكذا، ونحو ذلك، أو اشترى ثوبا على أن يخيطه البائع قميصا، أو حنطة على أن يطحنها، أو ثمرة على أن يجذها، أو ربطة قائمة على الأرض على أن
__________
(1) [البدائع] (5\69- 173).

يجذها، أو شيئا له حمل ومؤونة على أن يحمله البائع إلى منزله نحو ذلك: فالبيع في هذا كله فاسد؛ لأنه زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون ربا؛ لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع وهو تفسير الربا، والبيع الذي فيه الربا فاسد أو فيه شبهة الربا، وأنها مفسدة للبيع كحقيقة الربا، وكذا لو باع جارية على أن يدبرها المشتري أو على أن يستولدها فالبيع فاسد؛ لأنه شرط فيه منفعة للمبيع وأنه مفسد، وكذا لو باعها بشرط أن يعتقها المشتري فالبيع فاسد في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه جائز، وبه أخذ الشافعي رحمه الله.. وكذا لو باع عبدا أو جارية بشرط ألا يبيعه وألا يهبه وألا يخرجه من ملكه فالبيع فاسد؛ لأن هذا شرط ينتفع به العبد والجارية بالصيانة عن تداول الأيدي فيكون مفسدا للبيع.
ولو اشترى شيئا بشرط أن يوفيه في منزله فهذا لا يخلو: إما أن يكون المشتري والبائع بمنزلهما في المصر، وإما أن يكون أحدهما في المصر والآخر خارج المصر، فإن كان كلاهما في المصر فالبيع بهذا الشرط جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحسانا، إلا إذا كان في تصحيح الشرط تحقيق الربا، كما إذا تبايعا حنطة بحنطة وشرط أحدهما على صاحبه الإيفاء في منزله، وعند محمد البيع بهذا الشرط فاسد، وهو القياس؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للمشتري فأشبه ما إذا اشترى بشرط الحمل إلى منزله أو بشرط الإيفاء في منزله وأحدهما في المصر والآخر خارج المصر، ولهما أن الناس تعاملوا البيع بهذا الشرط إذا كان المشتري في المصر، فتركنا القياس لتعامل الناس، ولا تعامل فيما إذا لم يكونا في المصر، ولا في

شرط الحمل إلى المنزل فعملنا بالقياس فيه.. وأما بيع الثمر على الشجر بعد ظهوره وبيع الزرع في الأرض إن اشتري بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا؛ لأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض: وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطا الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه.
ونستعرض استخلاصا من النصوص المتقدمة مسائل ثلاث:
1 - الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد.
2 - الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه ا لصور.
3 - العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد.

1 -

الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد
يمكن القول بوجه عام أن الشرط الفاسد الذي يفسد العقد هو الذي فيه منفعة لها صاحب يطالب بها، وهذه المنفعة إما أن تكون للمبيع إذا كان رقيقا أو للبائع أو للمشتري أو لأجنبي غير المتعاقدين.
فمثل المنفعة التي تكون للمبيع إذا كان رقيقا: أن يشتري عبدا على ألا يبيعه أو يهبه أو يخرجه من ملكه بحال، أو على أن يبيعه من فلان دون غيره، أو على ألا يخرجه من بلد معين أو على أن يدبره أو يكاتبه، أو على

أن يعتقه على خلاف بين المذاهب، أو يشتري أمة على أن يستولدها، ففي هذه الأمثلة نرى الرقيق المبيع قد صارت له منفعة بعقد البيع يستوفيها من المشتري، فمن مصلحة الرقيق ألا يباع أو يخرج من ملك المشتري حتى لا تتداوله الأيدي أو في القليل ألا يباع إلا إلى شخص بالذات فيتحدد بذلك مجال التعامل فيه، أو أن يبقى في بلد معين له في الاستقرار فيه مصلحة ومن مصلحته أن يدبر أو يكاتب، أو يستولد إذا كان أمة، فهذا هو طريقه إلى العتق، ومن مصلحته بالأولى أن يشترط البائع عتقه.
والمنفعة التي تكون للبائع إما أن تكون منفعة تتعلق بالمبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع.
فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يبيع عبدا ويشترط على المشتري أن يبقى في خدمته وقتا من الزمن، أو يبيع دارا ويشترط أن يسكنها شهرا، أو يبيع أرضا ويشترط أن يزرعها سنة، أو يبيع دابة ويشترط أن يركبها إلى مكان معين، أو يبيع ثوبا ويشترط أن يلبسه أسبوعا، ونرى في هذه الأمثلة أن البيع يتضمن إجارة أو إعارة، فيتضمن إجارة إن كان للشرط مقابل من الثمن فإن لم يكن له مقابل فالبيع يتضمن إعارة.
ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط البائع على المشتري أن يقرضه قرضا، أو أن يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يشتري منه شيئا آخر أو أن يبيع له كما اشترى منه، أو أن يزوج منه ابنته، ونرى في هذه الأمثلة أن عقد البيع قد تضمن عقدا آخر: قرضا أو هبة أو صدقة أو بيعا أو زواجا.

والمنفعة التي تكون للمشتري تكون هي أيضا إما منفعة تتعلق بالبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع.
فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يشتري حنطة ويشترط على البائع أن يطحنها أو ثوبا ويشترط على البائع أن يخيطه، أو محصولا ويشترط على البائع أن يحصده، أو يشترط أن يتركه في الأرض حتى ينضج، أو ربطة قائمة على الأرض ويشترط على البائع أن يجذها، أو يشتري ما له حمل ومؤونة ويشترط على البائع أن يحمل المبيع إلى منزله، وفي هذه الأمثلة نرى البيع قد اقترن بعقد آخر هو في أغلبها إجارة عمل البائع، وهو إعارة الأرض أو إجارتها في شرط ترك المحصول في الأرض حتى ينضج.
ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط المشتري على البائع أن يقرضه قرضا، أو يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يبيع له شيئا آخر، أو أن يشتري منه كما باع له، أو أن يتزوج ابنته، وهذه هي نفس الأمثلة التي أوردناها في منفعة البائع المستقلة عن المبيع، وإنما جعلناها هنا لمصلحة المشتري لا لمصلحة البائع.
وقد تكون المنفعة لأجنبي غير المتعاقدين، كما إذا باع ساحة على أن يبني المشتري فيها مسجدا، أو باع طعاما على أن يتصدق به المشتري، أو باع دارا واشترط على المشتري أن يهبها لفلان أو يبيعها منه بكذا من الثمن، ويلاحظ أن هذه الصورة في الفقه الإسلامي تعدل في الفقه الغربي صورة الاشتراط لمصلحة الغير، ولما كان الشرط فاسدا في هذه الحالة فقد أقفل باب الاشتراط لمصلحة الغير في الفقه الحنفي.

2 -

الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور
:
وقد رأينا النصوص الفقهية المتقدمة تعلل فساد الشرط والعقد في هذه الصور بعلتين مختلفتين:
العلة الأولى: أن الشرط يتضمن منفعة تجوز المطالبة بها، يكون زيادة منفعة مشروطة في عقد البيع وهي زيادة لا يقابلها عوض، فهي ربا أو فيها شبهة الربا، والمبيع الذي فيه الربا أو شبهة الربا فاسد.
العلة الثانية: أن الشرط لا يقتضيه العقد حتى يصح قياسا، ولا هو ملائم للعقد أو يجري به التعامل حتى يصح استحسانا، وقد تضمن منفعة تجوز المطالبة بها، فصار في ذاته عقدا آخر- إجارة أو إعارة أو بيعا أو قرضا أو هبة أو غير ذلك- تضمنه عقد البيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وعن بيعتين في بيعة واحدة، وعن صفقتين في صفقة واحدة.. ومهما يكن من شأن صحة بعض هذه الأحاديث فقد أخذ بها المذهب الحنفي، وقد رأينا صاحب [المبسوط] يقول في هذا المعنى: ( إن الشرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه؛ لأنه إن كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع، وهو مفسد للعقد.. لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة ).
ورأينا صاحب [البدائع] يقول: ( إن اشترى بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا

يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا، ولأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطا للإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه ).
ورأينا صاحب [فتح القدير] يقول: ( وكذلك لو باع عبدا على أن يستخدمه البائع شهرا أو دارا على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشتري دراهم فهو فاسد؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، وقد ورد في عين بعضها نهي خاص وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف، أي: قرض، ثم خص شرطي الاستخدام والسكنى بوجه معنوي، فقال: ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن بأن يعتبر المسمى ثمنا بإزاء المبيع، وبإزاء أجرة الخدمة والسكنى- يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة ).

3 -

العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد
والظاهر من نصوص [فتح القدير] التي قدمناها: أن الشرط الفاسد لا يفسد العقد إلا إذا كان مبادلة مال بمال، كالبيع والإجارة والقسمة والصلح عن دعوى المال (1) .
وقد ورد في المادة 323 من [مرشد الحيران]: ( كل ما كان مبادلة مال بمال كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والمزارعة والمساقاة والقسمة
__________
(1) أكتفي فيما تقدم عما في [فتح القدير] بما نقل عن [المبسوط] و[البدائع] لاشتمالهما عليه.

والصلح عن مال.. لا يصح اقترانه بالشرط الفاسد ولا تعليقه به، بل تفسد إذا اقترنت أو علقت به.. ومثل ذلك إجازة هذه العقود فإنها تفسد باقترانها بالشرط الفاسد وبتعليقها به ).
أما ما كان مبادلة مال بغير مال كالنكاح والخلع على مال، أو كان من التبرعات كالهبة والقرض، أو من التقييدات كعزل الوكيل والحجر على الصبي من التجارة، أو من الإسقاطات المحضة كالطلاق والعتاق وتسليم الشفعة بعد وجوبها، أو من الإطلاقات كالإذن للصبي بالتجارة، وكذلك الإقالة والرهن والكفالة والحوالة والوكالة والإيصاء والوصية، ففي هذه التصرفات كلها إذا اقترن العقد بالشرط الفاسد- صح العقد، ولغى الشرط (1)
ويتضح مما تقدم أن الشرط الفاسد إذا اقترن بعقد هو مبادلة مال بمال تغلغل في صلبه فأفسده معه، والسبب في ذلك أن الشرط لما كان فاسدا فقد سقط، ولما كان العاقد قد رضي بمبادلة مال بمال المتعاقد الآخر على هذا الشرط وقد فات عليه فيكون غير راض بالمبادلة فيفسد العقد.
وفي هذا يقول صاحب [المبسوط]: ( لأن الشرط باطل في نفسه، والمنتفع به غير راض بدونه )، وهذا السبب لا يقوم في التصرفات الأخرى ومن ثم يسقط الشرط؛ لأنه فاسد، ولكن يبقى العقد على صحته.
__________
(1) انظر المواد 324- 326 من [مرشد الحيران].

(ب)

شرط فاسد يسقط ويبقى العقد
النصوص:
جاء في [البدائع] (1) : ( إذا باع ثوبا على ألا يبيعه المشتري أو لا يهبه أو دابة على ألا يبيعها أو يهبها، أو طعاما على ألا يأكله ولا يبيعه ذكر في المزارعة ما يدل على جواز البيع، فإنه قال: لو شرط أحد المزارعين في الزراعة على ألا يبيع الآخر نصيبه ولا يهبه فالمزارعة جائزة والشرط باطل، وهكذا روى الحسن في [المجرد] عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي الإملاء عن أبي يوسف أن البيع بهذا الشرط فاسد، ووجهه أنه شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا جرى به التعارف بين الناس، فيكون مفسدا كما في سائر الشرائط المفسدة، والصحيح ما ذكر في المزارعة؛ لأن هذا الشرط لا منفعة فيه لأحد فلا يوجبه الفساد، وهذا لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا وذلك بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض ولم يوجد في هذا الشرط؛ لأنه لا منفعة فيه لأحد، إلا أنه شرط فاسد في نفسه لكنه لا يؤثر في العقد، فالعقد جائز والشرط باطل.
ولو باع ثوبا على أن يحرقه المشتري، أو دارا على أن يخربها: فالبيع جائز والشرط باطل؛ لأن شرط المضرة لا يؤثر في البيع على ما ذكرنا ).
وجاء في [فتح القدير] (2) : ( أما لو كان المبيع ثوبا أو حيوانا غير آدمي،
__________
(1) [البدائع] (5\170).
(2) [فتح القدير] (5 \ 215 ، 216).

فقد خرج الجواز مما ذكرنا في المزارعة من أن أحد المزارعين إذا شرط في المزارعة ألا يبيع الآخر نصيبه أو يهبه أن المزارعة جائزة والشرط باطل؛ لأنه ليس لأحد العاملين فيه منفعة. وكذا ذكر الحسن في [المجرد]، قال المصنف: وهو الظاهر من المذهب؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاستحقاق انعدمت المطالبة والمنازعة، فلا يؤدي إلى الربا، وما أبطل الشرط الذي فيه المنفعة للبيع إلا لأنه يؤدي إليه؛ لأنه زيادة عارية عن العوض في عقد البيع وهو معنى الربا .

شرط لا منفعة فيه لأحد وهو شرط فاسد فيسقط
يتبين مما قدمناه من النصوص أن هناك شرطا لا يقتضيه العقد ولا هو يلائم مقتضى العقد ولم يجر به التعامل، وهو مع ذلك لا منفعة فيه لأحد، ومن الأمثلة على هذا الشرط التي وردت في النصوص: يبيع ثوبا أو دابة أو حيوانا غير الرقيق ويشترط على المشتري ألا يبيع أو لا يهب ما اشتراه، يشترط أحد المزارعين على المزارع الآخر ألا يبيع أو لا يهب نصيبه من المزارعة، يبيع طعاما ويشترط على المشتري ألا يأكله ولا يبيعه، يبيع ثوبا ويشترط على المشتري أن يحرقه، يبيع دارا ويشترط على المشتري أن يخربها.
ففي هذه الأمثلة يذهب الفقه الحنفي إلى أن الشرط المقترن بعقد البيع لا منفعة فيه لأحد، ولما كان هذا الشرط لا يقتضيه العقد ولا هو يلائم مقتضى العقد ولم يجر به التعامل- فليس ثمة ما يبرر تصحيحه، ومن ثم كان فاسدا فيسقط، ولكن العقد يبقى صحيحا.

على أن هذا الشرط الفاسد الذي لا منفعة فيه لأحد لما لم يكن له مطالب لانعدام منفعته- والمطالبة إنما تتوجه بالمنفعة- فهو شرط لم يتمكن في صلب العقد حتى يسري فساده إلى العقد، ومن ثم يبقى العقد صحيحا بالرغم من سقوط الشرط، فالشرط من حيث أنه فاسد يسقط، ومن حيث إنه لا منفعة فيه لأحد يستبقي العقد صحيحا، وهذا هو الظاهر في المذهب الحنفي.
ويذكر المذهب لهذا الحكم علتين:
العلة الأولى: أن الشرط الذي يفسد العقد؛ إنما أفسده لأن فيه زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض، إذ هو شرط فيه منفعة على النحو الذي بيناه، فكان في ذلك ربا أو شبهة الربا، والربا وشبهته يفسدان العقود، أما الشرط الذي نحن بصدده فليس فيه منفعة لأحد ولا مطالب له، فلم يوجد فيه معنى الزيادة التي يقابلها عوض، فانعدمت فيه شبهة الربا، فلم يعد هناك مبرر لفساد العقد، فيبقى العقد صحيحا مع سقوط الشرط لفساده.
العلة الثانية: أن الشرط الذي يفسد العقد إنما أفسده من جهة أخرى؛ لأن فيه منفعة لها مطالب، فكان صفقة في صفقة أو عقدا تضمنه عقد آخر، وهذا لا يجوز، أما الشرط الذي لا منفعة فيه لأحد وليس له مطالب فهو ليس بصفقة أو عقد، فلم يتضمن البيع باقترانه به صفقة في صفقة، أو عقدا في عقد، فارتفع سبب الفساد عن البيع، فبقي على صحته مع سقوط الشرط لفساده.

ثانيا

تأصيل المذهب الحنفي وتطور الفقه الإسلامي
أ- سبب فساد العقد في المذهب الحنفي.
ب- السبب الحقيقي في فساد العقد إذا اقترن بالشرط .
ج- علتان تنتهيان إلى علة واحدة تعدد الصفقة.
رأينا أن الفقه الحنفي يعلل كيف يفسد الشرط الفاسد العقد بعلتين:
علة الربا، وعلة تعدد الصفقة، وتكاد العلتان تتعادلان في كتب الفقهاء، بل لعل علة الربا هي التي ترجح كفتها.
ولكن المتأمل فيما يورد الفقهاء عادة من أمثلة للشروط الفاسدة يرى أن فكرة الربا إنما اتخذت تكئة لتعزيز فكرة تعدد الصفقة، وإن فكرة تعدد الصفقة هي التي يجب أن نقف عندها، ولكن لما كانت هذه الفكرة إنما تمت إلى محض الصناعة الفقهية، فإن تعليل فساد العقد بها يكاد يكون خفيا، وهو على كل حال لا يبلغ من الوضوح ما يبلغه التعليل بفكرة الربا، فإن الربا في الفقه الإسلامي لا يكاد يلقي ظله على شيء إلا ويفسده، ومن ثم كان الأيسر على الفقهاء أن يلجئوا في تعليل فساد العقد إلى فكرة الربا، والواقع من الأمر أن فكرة تعدد الصفقة هي الفكرة التي تسيطر على فساد العقد المقترن بالشرط، بل إن فكرة الربا نفسها- لو سلمنا بها جدلا- ترد في النهاية إلى فكرة تعدد الصفقة، ذلك أن كل مثل يورده الفقهاء للشرط الفاسد الذي يفسد العقد يتضمن حتما صفقتين في صفقة واحدة

ولا يتحتم أن يتضمن فكرة الربا، فالشرط الفاسد هو في ذاته صفقة تضمنها عقد البيع، وقد يكون إجارة أو إعارة أو بيعا آخر أو هبة أو صدقة أو زواجا أو غير ذلك، فإذا ما اقترن البيع بهذا الشرط أصبح صفقتين في صفقة واحدة.
والشرط الفاسد قد لا يكون له مقابل من الثمن أو يكون له هذا المقابل، فإن لم يكن له مقابل من الثمن فهنا تأتي فكرة الربا.
إذ يقول الفقهاء: أن الشرط يكون زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض فيفسد العقد للربا، ولكن إذا صح أن تقوم فكرة الربا هنا فإنه مع ذلك يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة، ويمكن القول بأن العقد الذي تضمن هذه الزيادة المشروطة في المنفعة دون عوض إنما تضمن صفقة أخرى فأصبح صفقتين في صفقة.
أما إذا كان الشرط له مقابل من الثمن فإن فكرة الربا لا تقوم، إذ تصبح زيادة المنفعة المشروطة في العقد يقابلها عوض، فلا يمكن تعليل فساد العقد عندئذ إلا بفكرة تعدد الصفقة.
ومن هنا نتبين أن فكرة الربا لا تصلح لتعليل جميع الأحوال التي يفسد الشرط الفاسد فيها العقد، فقد رأيناها لا تصلح إلا لتعليل بعض هذه الأحوال، وحتى في هذا البعض يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة، أما فكرة تعدد الصفقة فتصلح تعليلا لفساد العقد المقترن بالشرط الفاسد في جميع الأحوال دون استثناء.

على أن هناك ما هو أبعد مدى من ذلك، فإن التعليل بالربا حتى في بعض الأحوال دون بعض قد لا يستقيم، فالربا لا يكون إلا في الأموال الربوية، وهي: المكيلات والموزونات عند الحنفية، فإذا كان البيع الذي اقترن بشرط فاسد لم يقع على مال ربوي- لم تقم علة الربا بشطريها: وهما القدر، والجنس، فلا يصح تعليل فساد العقد في هذه الحالة بفكرة الربا. ففكرة تعدد الصفقة تجب- إذن- فكرة الربا، وهي وحدها- في رأينا التي ضيقت المذهب الحنفي، وجعلت العقد يفسد إذا اقترن بالشرط، ففي هذا المذهب لا يجوز أن يتضمن العقد الواحد أكثر من صفقة واحدة، فإذا أضيف إلى هذه الصفقة صفقة أخرى، ولو في صورة شرط فإن العقد يضيق بالصفقتين ويفسد، فتسقط الصفقتان معا.

السبب في تحريم تعدد الصفقة - وحدة العقد.
ويبقى بعد ذلك أن نسأل: ولماذا لا يجوز تعدد الصفقة في العقد الواحد؟ هنا نجد نصوص المذهب الحنفي تتذرع بأحاديث كثيرة عن النبي عليه السلام، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع وشرط، وعن بيع وسلف.
على أنه فضلا عن أن بعض هذه الأحاديث موقوفة كالنهي عن صفقتين في صفقة، وقد أمكن على كل حال تأويله على وجه آخر وكالنهي عن بيع وشرط، فإن هناك أحاديث أخرى صحت عن النبي عليه السلام تجيز اقتران الشرط بالعقد.

ونطالع هنا صفحة من [المبسوط] ترددت في كتب كثيرة، نرى فيها كيف تعددت الأحاديث في هذه المسألة، وبعضها يجيز الشرط فيجيز معه العقد، وبعضها يسقط الشرط ويجيز العقد، وبعضها يسقط الشرط والعقد معا.
قال السرخسي في [المبسوط] (1) : ( حكي عن عبد الوارث بن سعيد قال: حججت فدخلت بمكة على أبي حنيفة وسألت عن البيع بالشرط، فقال: (باطل)، فخرجت من عنده ودخلت على ابن أبي ليلى وسألته عن ذلك، فقال: (البيع جائز والشرط باطل) فدخلت على ابن شبرمة، وسألته عن ذلك، فقال: (البيع جائز والشرط جائز)، فقلت: هؤلاء من فقهاء الكوفة، وقد اختلفوا علي في هذه المسألة كل الاختلاف، فعجزني أن أسأل كل واحد منهم عن حجته، فدخلت على أبي حنيفة فأعدت السؤال عليه، فأعاد جوابه، فقلت: إن صاحبيك يخالفانك، فقال: (لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم: « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط » ...) فدخلت على ابن أبي ليلى، فقلت له مثل ذلك، فقال: (لا أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة عن أبيه « عن عائشة رضي الله عنها: أنها لما أرادت أن تشتري بريرة رضي الله عنها أبى مواليها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله عليه وسلامه: اشتري واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بالى أقوام يشترطون شروطا ليست
__________
(1) [المبسوط] للسرخسي (13 \ 13 ).

في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق، والولاء لمن أعتق » (1) فدخلت على ابن شبرمة وقلت له مثل ذلك، فقال: (لا أدري ما قالا، حدثني محارب بن دثار عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه ناقة في بعض الغزوات، وشرط له ظهرها إلى المدينة ) اهـ.
فالأحاديث كما نرى مختلفة متضاربة، ولابد من التوفيق بينها، وكان من الممكن أن يكون هذا التوفيق لمصلحة اقتران الشرط بالعقد، لا سيما أن أدلة المانعين الكثيرة منها متكلف، فما الذي جعل المذهب الحنفي يؤثر النهي عن الشرط، ويجعله هو المسيطر في هذه المسألة، ويدع الأحاديث الأخرى؟
والواقع من الأمر أن فكرة النهي عن تعدد الصفقة- فضلا عن أنها وردت في أحاديث عن النبي عليه السلام- هي الفكرة الطبيعية التي تتفق مع تطور القانون، فهي الفكرة الأولى التي يقف عندها نظام قانوني ناشئ في توخيه الدقة في التعاقد بتحري البساطة في العقد، وتكون وحدة العقد مبدأ جوهريا من مبادئه، ومن ثم لا يجوز أن يتضمن العقد أكثر من صفقة واحدة وإلا أخل ذلك بوحدته، بل لعل الفقه الإسلامي استغنى بهذه الفكرة وأمثالها- كفكرة اللفظية وفكرة مجلس العقد- عن الشكلية في العقود، تلك الشكلية التي بدأت في القانون الروماني رسوما وأوضاعا ساذجة، وجاءت في الفقه الإسلامي ضربا من الشكلية أكثر تهذيبا.
ولعل فكرة وحدة الصفقة في العقد الواحد لم يخلص منها أي نظام
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2424),صحيح مسلم العتق (1504),سنن الترمذي الوصايا (2124),سنن النسائي الطلاق (3451),سنن أبو داود العتق (3929),سنن ابن ماجه الأحكام (2521),مسند أحمد بن حنبل (6/82),موطأ مالك العتق والولاء (1519).

قانوني مهذب في مراحله الأولى من التطور، فإنها الفكرة التي تلائم العقل القانوني عندما يبدأ في تشييد صرح من النظم القانونية، فهو يتحرى لها الثبات والاستقرار عن طريق وحدة العقد، إذ أن حاجة القانون إلى الثبات والاستقرار تسبق في تاريخ تطوره حاجته إلى المرونة والتجدد... إلى أن قال:

تطور الفقه الإسلامي في الشروط المقترنة بالعقد
تطور الفقه الإسلامي في المذاهب الأربعةعلى أن الفقه الإسلامي لم يلبث جامدا عند المرحلة الأولى للفكر القانوني، بل خطا خطوات واسعة في طريق التطور، تطور في المذهب الحنفي نفسه، وفي المذهب الشافعي، وتطور تطورا أسرع في المذهبين المالكي والحنبلي.
1 -

تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنفي
رأينا مما قدمناه من نصوص الفقه الحنفي: أن فقهاء هذا المذهب، بالرغم من أنهم يقررون كمبدأ عام: وجوب وحدة الصفقة- يحدثون مع ذلك في هذا المبدأ ثغرات هامة، فيدفعون المذهب إلى طريق من التطور يوطئ أكنافه، ويوسع ما ضاق منه؛ سدا لحاجات التعامل.
1 - فأول ما يقررونه- لا على سبيل الاستثناء من المبدأ، بل مطاوعة لطبائع الأشياء- أن الشرط الذي يقتضيه العقد هو شرط صحيح يصح معه العقد، وبديهي أن ما يقررون من ذلك غني عن أن يذكر، فإن ما يقتضيه

العقد صحيح معمول به، سواء ذكر في صورة شرط أو لم يذكر أصلا، ولكنهم لا يقصدون من تقرير هذه القاعدة الحكم في ذاته، بل يقصدون التمهيد بذلك للاستثناءات الحقيقية من مبدأ وحدة الصفقة، فيبنون على هذه القاعدة الأولى قاعدة أخرى.
2 - ومن ثم يقررون: أن الشرط يلائم العقد، وإن لم يكن العقد يقتضيه صورة هو من مقتضى العقد حقيقة، فيلحق بالشرط الذي يقتضيه العقد، ويكون استحسانا شرطا صحيحا يصح معه العقد، وقد سبق بسط هذه المسألة في تفصيلاتها وما ورد فيها من الأمثلة.
3 - ثم ينتقلون بعد ذلك إلى شرط جرى به التعامل، وهذا هو الباب الواسع الذي يدخل منه التطور السريع، فيجيزون شرطا فيه منفعة مطلوبة، دون أن يقتضيه العقد، ودون أن يلائم العقد إذا كان التعامل قد جرى به، فيصح الشرط في هذه الحالة استحسانا ويصح معه العقد.
4 - ثم يقررون الشرط الذي ليست فيه منفعة مطلوبة لا تتحقق فيه معنى الصفقة، ولا يجعل العقد ينطوي على صفقتين، ومن ثم يلغو الشرط؛ لعدم إمكان المطالبة به، ولكن يبقى العقد صحيحا.
5 - ثم إنهم في الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد، ودون أن يلائم العقد- وهذا هو الشرط الفاسد الذي يجعل العقد متعدد الصفقة- يميزون بين أنواع العقود المختلفة: فيقصرون تحريم الصفقتين في الصفقة الواحدة على عقود المعاوضات المالية دون التبرعات والإسقاطات والإطلاقات والتقييدات على ما قدمنا، ففي المعاوضات

المالية يتحقق معنى تعدد الصفقة كاملا، أما في غير المعاوضات المالية فالأمر يختلف، إذ يمكن إلغاء الشرط الفاسد دون أن يمس ذلك كيان العقد الأصلي، فيلغو الشرط ويصح العقد.
هذه هي حلقات متلاصقة في سلسلة من الاستثناءات أوردها المذهب الحنفي على مبدأ ضيق هو مبدأ وحدة الصفقة، فوسع فيه، وأنقذ كثيرا من ضروب التعامل، وخطا خطوات محسوسة في طريق التطور، وكل هذا باسم الاستحسان، هذا المصدر الخصب الذي كان من أهم أسباب تطور المذهب الحنفي.

2 -

تطور الفقه الإسلامي في المذهب الشافعي
.
مذهب الشافعي يقرب كثيرا من المذهب الحنفي في الأصل الذي تمسك به، وهو: منع تعدد الصفقة وفي الاستثناءات التي أوردها على الأصل.
فالشرط الذي يقتضيه العقد صحيح بداهة؛ لأنه معمول به من غير حاجة إلى أن يذكر.
والشرط الذي يلائم العقد- ويدعى في الفقه الشافعي بالشرط الذي فيه مصلحة للعقد، أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة- صحيح أيضا ويصح معه العقد، وليس ذلك سبيل الاستثناء- كما هو الأمر في المذهب الحنفي - بل هو أصل يقوم بذاته، وقد تقدم بيان ذلك، ومن أمثلة الشرط الذي فيه مصلحة للعقد اشتراط الإشهاد على العقد، واشتراط كتابته في صك،

واشتراط الرهن أو الكفيل بالثمن.
ولعل الفقه الشافعي لا يميز بين الشرط الذي يلائم العقد والشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل، فهما عنده شيء واحد، إذ هو يتحدث عن الشرط الذي يلائم العقد تحت اسم الشرط الذي فيه مصلحة للعقد، أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة، ولا يورد أمثلة خاصة للشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل.
ثم إن الفقه الشافعي يذهب إلى أن الشرط الذي لا غرض فيه ولا منفعة منه- يلغو ويصح العقد.
ويتمسك الفقه الشافعي بعد ذلك بالأصل المعروف، فيمنع البيع والشرط، ما دام الشرط فيه منفعة مطلوبة ولا يقتضيه العقد ولا يلائم مقتضى العقد، فلا يجوز أن يشتري زرعا ويشترط على البائع أن يحصده، أو ثوبا ويشترط على البائع أن يخيطه، ولا يجوز أن يبيع دارا بألف على أن يقرضه المشتري قرضا بمائة، ولا يجوز للعاقد أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد، فلا يجوز للراهن أن يشترط على المرتهن ألا يبيع العين المرهونة أصلا أو ألا يبيعها حتى يمضي شهر من وقت حلول الدين، أو أن يكون المرتهن أسوة الغرماء، أو أن يضمن المرتهن هلاك العين كلها، ولا يقتصر على ضمان ما زاد من قيمتها على الدين، ولا يجوز أن يشترط أحد الشركاء أن يكون له نصيب في الربح دون خسارة، أو أن يكون له مبلغ معين من الربح، فقد تربح الشركة أكثر من هذا المبلغ، أو قد لا تربح شيئا، ولا يجوز أن يشترط رب المال في القراض أن يكون رأس المال في يده، أو أن يشترك

مع العامل في التجارة، أو أن تكون يد العامل يد ضمان.
ويمنع الفقه الشافعي البيعتين في بيعة، ويتأول الحديث الوارد في النهي عن ذلك على وجهين لا يجيز أيا منهما، فلا يصح أن يشتري بألف نقدا أو بألفين نسيئة، كما لا يصح أن يبيع العبد بألف على أن يبيع منه المشتري أو أجنبي الدار بألفين.
ويبدو أن الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد أو يلائم مقتضى العقد يبطل في مذهب الشافعي المعاوضات والتبرعات على السواء.
ويتبين مما تقدم: أن مذهب الشافعي قد تطور على نحو يكاد يضاهي فيه المذهب الحنفي، وإن كان يتسع عنه في جهة ويضيق دونه في جهة أخرى.

3 -

تطور الفقه الإسلامي في المذهب المالكي
التطور في المذهب المالكي أبعد مدى من التطور في المذهب الحنفي، وفي مذهب الشافعي، وقد تطور الفقه الإسلامي في مذهب مالك تطورا أبعد مدى من تطوره في مذهبي: أبي حنيفة، والشافعي، فمالك يجيز من الشروط ما يجيزه المذهبان الآخران، ثم هو يجيز منها كثيرا مما لا يجيزانه.
وعنده: أن الأصل في الشرط: أن يكون صحيحا، ويصح معه العقد، وقد يقع الشرط فاسدا على سبيل الاستثناء.

ونستعرض في مذهبه الشرط الصحيح ثم الشرط الفاسد ، وذلك في شيء من التنسيق والترتيب لا نجده عادة في كتب المذهب (1) ، فهذه تتعدد فيها التقسيمات ويتداخل بعضها في بعض ، وقد نوه بذلك ابن رشد في [بداية المجتهد] .
__________
(1) هكذا في الأصل (الناشر) .

الشرط الصحيح في مذهب مالك :
الشرط الصحيح في مذهب مالك أوسع بكثير من الشرط الصحيح في مذهب أبي حنيفة :
(أ) فكل شرط يقتضيه العقد صحيح ، وفي هذا يتفق المذهبان ، فيصح الشرط والعقد إذا اشترط البائع أن يدفع المشتري الثمن ، أو اشترط المشتري أن يسلم البائع المبيع ، أو أن يضمن العيب ، أو اشتراط الدائن المرتهن أن يكون له الحق في بيع العين المرهونة إذا لم يستوف الدين أو يكون مقدما على سائر الغرماء ، أو اشترطت الزوجة أن ينفق عليها الزوج وأن يكسوها .
(ب) ولا يصح- فحسب- في مذهب مالك كل شرط يقتضيه العقد ، بل يصح أيضا كل شرط لا يناقض مقتضى العقد ، وفي هذا يتسع مذهب مالك عن مذهب أبي حنيفة ، إذ يحل في حكم الصحة عند مالك الشرط الذي يلائم العقد ، والشرط الذي جرى به التعامل وهما صحيحان في مذهب أبي حنيفة ، ويدخل أيضا الشرط الذي فيه منفعة معقولة لأحد

المتعاقدين ، ولو لم يكن العقد يقتضيه أو يلائمه ، ما دام الشرط نفسه لا يناقض مقتضى العقد ، ومثل هذا الشرط يفتح الباب واسعا للتعامل ، وهو كما رأينا صحيح عند مالك فاسد عند أبي حنيفة .
فيصح في المذهبين أن يشترط البائع على المشتري تقديم رهن أو كفيل أو محال عليه بالثمن ، وهذا شرط يلائم مقتضى العقد ولا يقتصر على عدم مناقضته .
ويصح في مذهب مالك دون مذهب أبي حنيفة .
1 - أن يشترط البائع على المشتري أن يعتق العبد المبيع ، أو يقف الأرض المبيعة ، أو يبني فيها مسجدا ، أو غير ذلك مما يتضمن إيقاع معنى في المبيع هو من معاني البر .
2 - أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه حتى يعطي الثمن المؤجل ، وفي هذا إيقاع معنى في المبيع لضمان حق البائع .
3 - أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة معقولة ، أو الدابة ويشترط ركوبها ثلاثة أيام أو الوصول بها إلى مكان قريب ، أو الثوب ويشترط عليه المشتري أن يخيطه ، أو الحنطة ويشترط عليه أن يطحنها ، وغير ذلك من الشروط التي فيها منفعة معقولة لأحد المتعاقدين .

الشرط الفاسد في مذهب مالك
ولا يكون الشرط فاسدا عند مالك إلا في موضعين :

1 - إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد ، كما إذا اشترط البائع على المشتري ألا يتصرف في المبيع ، أو اشترط الزوج على الزوجة ألا ينفق عليها ، أو ألا ترثه ، أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان الولاء للبائع ، وسبب فساد الشرط هنا واضح ، فإن العقد لا يسلم مع وجود الشرط ما دام الشرط يناقض مقتضاه ، أو كما يقول الحطاب وهو شرط : (لا يتم معه المقصود من العقد) .
2 - إذا كان الشرط يخل بالثمن ، وذلك كبيع وسلف ، أي : بيع يتضمن قرضا ، وكبيع الثنيا ، وصورته : أن يبتاع سلعة على أن البائع متى ما رد الثمن فالسلعة له (وهذا هو بيع الوفاء في القانون الحديث وهو بيع معلق على شرط لا مقترن بشرط (وكبيع يشترط البائع فيه : أنه إذا باع المشتري السلعة فهو أحق بها بالثمن الذي باع به للمشتري . وسبب فساد الشرط هنا : أنه اشترط لمصلحة البائع أو المشتري ، وقد روعي فيه نقص الثمن بقدر غير معلوم إذا كان لمصلحة البائع, كما في بيع الثنيا ، أو زيادة الثمن بقدر غير معلوم إذا كان الشرط لمصلحة المشتري ، كما في بيع وقرض للمشتري من البائع ، وفي الحالتين تلحق الجهالة بالثمن أو كما يقول الخرشي : إن الشرط يعود جهله في الثمن إما بزيادة إن كان الشرط من المشتري أو بنقص إن كان من البائع .
والشرط الفاسد يبطل في جميع الأحوال ولا يعمل به ، أما أثره في العقد :
1 - فتارة يبطله .

2 - وطورا يبطل الشرط وحده ويبقى العقد .
3 - وثالثة يبطل الشرط والعقد معا إلا إذا نزل المشترط عن الشرط فيسقط الشرط ويبقى العقد .
1 - أما أن الشرط الفاسد يبطل العقد : فيقع ذلك عادة إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد ، بحيث إذا أعمل الشرط كان لا بد للعقد حتما من أن يختل ، فيبطل كل من الشرط والعقد إذا اشترط الواهب ألا يقبض الموهوب له الهبة ، أو اشترط المقرض أن يرد له المقترض أحسن مما اقترض ، أو اشترط الراهن أن يستبقي الرهن تحت يده ، أو أنه يخرج من الرهن بعد مدة معلومة ، أو أن الرهن لا يباع ، أو اشترط رب المال في القراض أن يستبقي المال تحت يده ، أو أن يضمنه العامل ، أو أن يجعل مع العامل أمينا ، أو يشترط الزوج ألا ينفق على الزوجة أو ألا ترثه ، أو تشترط الزوجة أنها بالخيار إلى مدة معلومة ، أو أن الزوج إذا لم يأت بالمهر في مدة معلومة فلا زواج .
2 - وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو وحده ويبقى العقد : فيبدو أن ذلك يقع إذا ناقض الشرط مقتضى العقد ، ولكن العقد لا يختل إذا أعمل الشرط ، فما دام العقد لا يختل بالشرط أو بدونه فإنه يبقى ، أما الشرط فيسقط ؛ لأنه شرط فاسد يناقض مقتضى العقد ، فهو أقرب إلى أن يكون مخالفا للنظام العام في لغة الفقه الغربي ، فيبطل الشرط ويبقى العقد إذا اشترطت الزوجة على زوجها ألا يتزوج عليها ، أو ألا يطلقها ، أو لا ينقلها من بلدها أو من دارها ، أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان

الولاء للبائع ، أو اشترط البائع ألا حق للمشتري في حط جز من الثمن إذا أصابت الثمار آفة ، أو اشترط رب الوديعة على حافظها أن يضمن هلاكها .
3 - وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو والعقد معا إلا إذا نزل عنه المشترط فيسقط ويبقى العقد : فإن ذلك يتحقق في حالة ما إذا كان الشرط يخل بالثمن ، كما رأينا في البيع والسلف وبيع الثنيا والبيع مع اشتراط البائع أنه أحق بالبيع إذا باعه المشتري ، ويتحقق ذلك أيضا فيما إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد عن طريق إيقاعه معنى في البيع ليس من معاني البر ، وذلك كأن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه ، وهذا إذا عمم أو استثنى قليلا كقوله : على ألا تبيعه جملة ، أو لا تبيعه إلا من فلان ، وأما إذا خصص ناسا قليلا فيجوز الشرط ويصح البيع .
تقدير مذهب مالك :
ولا شك في أن الفقه الإسلامي فيما يتعلق باقتران العقد بالشرط قد تطور في مذهب مالك تطورا ملحوظا نحو الإباحة ، فالمذهب المالكي- خلافا للمذهبين الحنفي والشافعي- يجيز الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة ، فيتخطى بهذه الإباحة العقبة التي ترجع في المذهبين الآخرين إلى مبدأ وحدة الصفقة .
ثم إن الشرط الفاسد عند مالك لا يجاوز في أكثر صوره منطقة معقولة ، وهذا واضح في الشرط الفاسد الذي يبطل العقد والشرط الفاسد الذي يبطل وحده ويبقى العقد .

أما الشرط الفاسد الذي يبطل ويبطل العقد معه إلا إذا نزل عنه المشترط فهو في إحدى صورتيه ، وهي صورة المنع من التصرف في البيع لا يجاوز أيضا حدودا معتدلة ، إذ الشرط يصح إذا قيد بقيود معقولة ، كما إذا نهى البائع المشتري عن التصرف لناس قليلين وترك باب التصرف مفتوحا لأكثر الناس ، ويصح كذلك إذا كان له مسوغ مشروع ، كما إذا اشترط البائع ألا يتصرف المشتري في المبيع حتى يعطي الثمن المؤجل ، وكما إذا كان المنع من التصرف يتضمن إيقاع معنى في البيع هو من معاني البر .
وتبقى الصورة الأخرى لهذا الشرط الفاسد ، وهي التي يخل بها الشرط بالثمن ، كما في بيع وسلف ، ففي هذه نرى مذهب مالك قد وقف جامدا ولم يتابع التطور إلى غايته ، وكأنه اصطدم هنا بمبدأ وحدة الصفقة ، فلم يستطع أن يتخطاه في البيع والسلف ، فإن العقد الذي يتضمن بيعا وسلفا لا يتميز في الواقع من الأمر إلا بأنه عقد واحد تضمن صفقتين .

4 -

تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنبلي
.
المذهب الحنبلي أبعد المذاهب تطورا في تصحيح الشروط : وأبعد تطور للفقه الإسلامي في مسألة اقتران الشرط بالعقد كان في مذهب أحمد بن حنبل ، لا سيما إذا استكملنا هذا المذهب بما أضافه إليه ابن تيمية ، وهو من أكبر فقهائه .
فالمذهب الحنبلي كالمذهب المالكي ، تخطى مبدأ وحدة الصفقة ولم يتقيد بهذا المبدأ كما تقيد به المذهبان : الحنفي ، والشافعي ، ومن ثم

استطاع أن يسير أشواطا بعيدة في طريق التطور .
والحنابلة كالمالكية ؛ الأصل عندهم في الشرط : أن يكون صحيحا ويصح معه العقد ، بل هم يسيرون في هذا الأصل إلى مدى أبعد من المالكية في تصحيح الشروط ، ويقع الشرط عند الحنابلة فاسدا على سبيل الاستثناء ، إذا كان ينافي مقتضى العقد ، أو كان قد ورد بالنهي عنه نص خاص .
فنستعرض في المذهب الحنبلي الشرط الصحيح ثم الشرط الفاسد ، ثم ننظر ما أضاف ابن تيمية إلى المذهب من مزيد توسعة في تصحيح الشروط .

الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة
الأصل في مذهب الحنابلة كما قدمنا- هو : أن يكون الشرط صحيحا ، ونساير صاحب [ المغني ] في الترتيب الذي جرى عليه في استعراض الشروط :
أ- فكل شرط يقتضيه العقد صحيح ، وفي هذا تتفق المذاهب الأربعة ، فيصح اشتراط المشتري التسليم على البائع والتقابض في الحال ، ويصح لكل من المتعاقدين أن يشترط خيار المجلس ، فكل هذه الشروط يقتضيها العقد ، وهي معمول بها حتى لو لم تشترط .
ب- ويصح أيضا كل شرط يلائم العقد ، ويكون من مصلحته ، فتتعلق به مصلحة المتعاقدين ؛ كالرهن ، والضمين ، والشهادة ، وفي هذا أيضا

تتفق المذاهب الأربعة .
ج- ويصح أخيرا الشرط الذي ليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ، ولكنه لا ينافي مقتضى العقد .
وهنا نلحظ المدى البعيد من التطور الذي سار فيه المذهب الحنبلي ، كما لحظنا ذلك في مذهب مالك ، وهذا خلافا لمذهبي أبي حنيفة والشافعي ، فما دام الشرط لا ينافي مقتضى العقد فهو في الأصل صحيح ، سواء كان العقد يقتضيه أو لا يقتضيه ، وسواء لاءم مقتضى العقد أو لم يلائمه ، والشرط صحيح حتى لو تضمن منفعة مطلوبة ، وفي هذا يتخطى المذهب الحنبلي مبدأ وحدة الصفقة كما تخطاه المذهب المالكي ، بل هو ينكر صحة الحديث الذي نهى عن بيع وشرط ، ثم إنه لا حاجة في صحة الشرط إلى جريان التعامل به ، خلافا لما يذهب إليه الفقه الحنفي .
ومن ثم نرى المذهب الحنبلي- خلافا لمذهبي أبي حنيفة والشافعي - يصحح أكثر الشروط التي فيها منفعة لأحد المتعاقدين كما يصححها المذهب المالكي ، ونورد ما جاء في هذا الصدد في [ الشرح الكبير على المقنع] (1) ( والثالث : أن يشترط نفعا معلوما في المبيع ؛ كسكنى الدار شهرا ، وحملان البعير إلى موضع معلوم ، أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع ؛ كحمل الحطب أو تكسيره ، أو خياطة الثوب أو تفصيله ، ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة ، مثل أن يبيع دارا ويستثني
__________
(1) [الشرح الكبير على المقنع] ، (4\ 49- 51) .

سكناها سنة ، أو دابة ويشترط ظهرها إلى مكان معلوم ، أو عبدا ويستثني خدمته مدة معلومة ، نص عليه أحمد ، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر ، وقال الشافعي وأصحاب الرأي : لا يصح ؛ لأنه روي : « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط . . » ولنا ما « روى جابر : أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة » (1) ولم يصح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط ، وإنما « نهى عن شرطين في بيع » (2) ، فمفهومه إباحة الشرط الواحد . . ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع ، مثل : أن يشتري ثوبا ويشترط على بائعه خياطته قميصا ، أو بغلة ويشترط حذوها نعلا ، أو حزمة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم ) .
ويتوسع المذهب الحنبلي في إباحة الشروط في عقد الزواج بوجه خاص ، ويفوق في ذلك سائر المذاهب ، وفيها مذهب مالك نفسه ، فيجوز في الزواج من الشروط ما يكون فيه للزوجين منفعة مقصودة ما دامت لا تعارض الشرع ولا تنافي المقصود من عقد الزواج ، ويقول ابن تيمية في ذلك (3) : ( ويجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح ؛ لما في [ الصحيحين ] « عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج » (4) فلا يقتصر مذهب أحمد على أن يكون لكل من الزوجين أن يشترط في الآخر صفة يصح قصدها ، فيشترط الزوج في زوجته البكارة أو الجمال مثلا ، وتشترط الزوجة في زوجها المال أو حرفة معينة أو موردا معينا من العيش ، ويكون للمشترط أن
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3852).
(2) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن الدارمي البيوع (2560).
(3) [مجموع الفتاوى] ، (3\ 327- 332) ، [نظرية العقد] ، ص (155) .
(4) صحيح البخاري النكاح (4856),صحيح مسلم النكاح (1418),سنن الترمذي النكاح (1127),سنن النسائي النكاح (3281),سنن أبو داود النكاح (2139),سنن ابن ماجه النكاح (1954),مسند أحمد بن حنبل (4/150),سنن الدارمي النكاح (2203).

يفسخ الزواج إذا فات عليه ما اشترطه ، ولا فرق في هذا أن يكون المشترط هو الرجل أو المرأة ، وهذا هو أصح روايتي أحمد ، وأصح وجهي أصحاب الشافعي ، وظاهر مذهب مالك (1) ، بل يجوز أيضا في مذهب أحمد : أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها ، أو لا يتسرى ، أو ألا يتزوج عليها ، فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج (2) . وقد رأينا أن هذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك .
__________
(1) [مجموع الفتاوى] ، (3\ 346) ، [نظرية العقد] ص (156-157) .
(2) [نظرية العقد] ، لابن تيمية ص (16 ، 34 ، 161- 162) و[الفتاوى] ، (3\ 327) .

الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة
ولا يكون الشرط فاسدا عند الحنابلة إلا في موضعين :
أ- إذا كان الشرط ينافي مقتضى العقد ، مثل ذلك : أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه ، أو يشترط عليه إن أعتقه أن يكون الولاء للبائع ، فهذه الشروط كلها تنافي مقتضى العقد ، إذ مقتضى العقد حرية المشتري في التصرف في المبيع بعد أن صار ملكه ، يبيعه أو لا يبيعه ، ويهبه أو لا يهبه ، وإذا كان رقيقا فأعتقه فإن الولاء يكون له هو لا للبائع لأنه هو المعتق والولاء لمن أعتق .
بقي أن يشترط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه ، فهل يصح الشرط ؟ في المذهب روايتان :
أحدهما : الشرط فاسد ؛ لأنه ينافي مقتضى العقد شأنه في ذلك شأن ما

قدمناه من الشروط .
والرواية الأخرى : الشرط صحيح ؛ لحديث بريرة المعروف .
ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد عند الحنابلة : أن يشترط المشتري إن أغضبه غاضب أن يرجع على البائع بالثمن ، ومنها : أن يشترط البائع : أن يكون أحق بالمبيع بثمنه إن باعه المشتري ؛ لأنه يكون بذلك قد اشترط ألا يبيعه من غيره إذا أعطاه ثمنه ، فهو كما لو اشترط ألا يبيعه إلا من فلان ، وهذا يقيد حرية المشتري في التصرف فينافي مقتضى العقد ، وقيل أيضا : في مذهب أحمد أن هذا الشرط يتضمن شرطين ، فيكون غير جائز على ما سنرى ؛ لأن البائع شرط أن يبيعه إياه وأن يبيعه بالثمن الأول ، فهما شرطان (1) .
وقد رأينا أن هذا الشرط غير جائز في المذهب المالكي لأنه يخل بالثمن .
ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد أيضا ما جاء في [الشرح الكبير على المقنع] ، (2) : ( وإذا قال : بع عبدك من فلان بألف على أن علي خمسمائة فباعه بهذا الشرط فالبيع فاسد ؛ لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري ، فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح لأنه لا يملك المبيع والثمن على غيره ، ولا يشبه هذا ما لو قال : أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي خمسمائة لكون هذا عوضا في مقابلة فك الزوجة ورقبة العبد ؛ ولذلك لم يجز في النكاح .
__________
(1) الشرح الكبير على المقنع (4\ 55) .
(2) المرجع السابق (4\ 58) .

أما في مسألتنا فإنه معاوضة في مقابلة نقل الملك ، فلا يثبت ؛ لأن العوض على غيره ، وإن كان هذا القول على وجه الضمان : صح البيع ولزم الضمان ) .
ولما كان الشرط الذي ينافي مقتضى العقد فاسدا فإنه يبطل ولا يعمل به .
أما حكم العقد الذي اقترن به الشرط ففيه روايتان :
الأولى : أن العقد صحيح ، وهذا هو المنصوص عن أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي ، فيسقط الشرط ويبقى العقد ( وللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن ، وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إن كان هو المشترط ؛ لأن البائع إنما سمح بالبيع بهذا الثمن لما يحصل له من الغرض بالشرط ، والمشتري إنما سمح له بزيادة الثمن من أجل شرطه ، فإذا لم يحصل غرضه ينبغي أن يرجع بما سمح به كما لو وجده معيبا ، ويحتمل أن يثبت الخيار ولا يرجع بشيء ، كمن شرط رهنا أو ضمينا فامتنع الراهن والضمين ؛ لأن ما ينقصه الشرط من الثمن مجهول فيصير الثمن مجهولا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم لأرباب بريرة بشيء مع فساد الشرط وصحة البيع (1) .
والرواية الثانية : أن الشرط الفاسد يبطل البيع ؛ لأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولا ، ولأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه ، والمشتري
__________
(1) [الشرح الكبير على المقنع] ، (4\ 55) .

كذلك إذا كان الشرط منه ، فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه ، والبيع من شرطه التراضي (1) .
ونرى مما تقدم أن المذهب الحنبلي والمذهب المالكي لا يختلفان كثيرا في الشرط الذي ينافي مقتضى العقد ، ففي كلا المذهبين الشرط فاسد ، ولكن مذهب مالك يتدرج في ترتيب الجزاء على هذا الشرط الفاسد ، فتارة يبطل الشرط والعقد معا ، وطورا يبطل الشرط ويستبقي العقد صحيحا ، وثالثة يبطل الشرط والعقد معا إلا إذا نزل المشترط عن شرطه فيسقط الشرط ويبقى العقد ، وقد مر ذكر ذلك .
ب- ويكون الشرط فاسدا أيضا إذا ورد في النهي عنه نص خاص ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة ، وعن شرطين في بيع وسلف ، « وقال عليه السلام : لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا بيع ما ليس عندك » (2) فهناك إذن نص خاص في النهي عن الجمع بين شرطين في العقد ، وفي النهي عن الجمع بين بيع وسلف .
أما الجمع بين شرطين في العقد فممنوع في مذهب أحمد ، كما قدمنا ، والشرطان المنهي عنهما هما الشرطان اللذان فيهما منفعة لأحد المتعاقدين دون أن يقتضيهما العقد أو يلائماه ، ولو انفرد أي منهما كان صحيحا ، مثل ذلك : من اشترى ثوبا واشترط على البائع خياطته وقصارته ، أو طعاما واشترط طحنه وحمله ، فاجتماع الشرطين في العقد يبطل الكل : الشرطان
__________
(1) [الشرح الكبير] ، (4\ 54) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),مسند أحمد بن حنبل (2/179),سنن الدارمي البيوع (2560).

باطلان والعقد باطل ، أما إن شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو مما يلائم العقد ، مثل : أن يبيعه بشرط الرهن أو الضمين وبشرط أن يسلم إليه المبيع أو الثمن- فهذا لا يؤثر في العقد وإن كثر .
وأما الجمع بين بيع وسلف فممنوع أيضا ، ومعناه في مذهب أحمد : أن يشترط أحد المتعاقدين على المتعاقد الآخر عقدا ثانيا مستقلا في مقابل العقد الأول ، وليس معناه مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد ، فقد قدمنا أن مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد يجوز ، كما إذا اشترط سكنى الدار أو حمل الحطب أو خياطة الثوب ، وقد جاء في [المغني] ، (1) : ( والثاني : أن يشترط عقدا في عقد ؛ نحو أن يبيعه شيئا بشرط أن يبيعه شيئا آخر أو يشتري منه أو يؤجره أو يزوجه أو يسلفه أو يصرف له الثمن أو غيره- فهذا شرط فاسد يفسد به البيع ، سواء اشترطه البائع أو المشتري ) ثم جاء فيه : ( ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه ، أو شرط المشتري ذلك عليه فهو محرم والبيع باطل ، وهذا مذهب مالك والشافعي ، ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال : إن ترك مشترط السلف السلف صح البيع ، ولنا ما روى عبد الله بن عمرو : أن « النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض وعن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف » (2) . أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وفي لفظ « لا يحل بيع وسلف » (3) ؛ ولأنه اشترط عقدا في عقد ففسد كبيعتين في بيعة ، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله ، فتصير الزيادة في الثمن عوضا عن
__________
(1) [المغني] ، (4\ 285) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1232),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),مسند أحمد بن حنبل (2/175),سنن الدارمي البيوع (2560).
(3) سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504).

القرض وربحا له ، وذلك ربا محرم ، ففسد لو صرح به ، ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا ، كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما ) (1) .
هذا ويحتمل أن يبطل الشرط وحده ، ولكن المشهور في مذهب أحمد : أن هذا الشرط الفاسد يبطل العقد .
ويبدو أن المذهب الحنبلي في منعه الجمع بين شرطين في العقد والجمع بين بيع وسلف إنما يحتفظ ببقايا من مبدأ وحدة الصفقة ، كما فعل المذهب المالكي في منعه الجمع بين بيع وسلف ، وإنما تخطى المذهبان الحنبلي والمالكي مبدأ وحدة الصفقة في البيع والشرط الواحد ؛ لأن خطب الشرط الواحد يسير وهو تابع للعقد ومتمم له ، فلا يخل بوحدته إخلالا جسيما ، أما إذا كان لتعدد الصفقة مظهر أوضح بأن اجتمع في العقد شرطان لا شرط واحد عند أحمد أو بأن اجتمعت صفقتان متقابلتان في عقد واحد عند أحمد ومالك فهذا تعدد جسيم في الصفقة لا يجوز احتماله ، وما احتمل منه اليسير لا يحتمل منه الكثير .
فالمذهبان المالكي والحنبلي وقفا جامدين هنا ، ولم يتخطيا مبدأ وحدة الصفقة تخطيا تاما ولم يجيزا تعدد الصفقة في صورته السافرة .
وننظر الآن ماذا فعل ابن تيمية ؟
__________
(1) [المغني] ، (4\ 290 ، 291) .

استكمال المذهب الحنبلي بأقوال ابن تيمية
يقول ابن تيمية : إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ، ولا

يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص أو قياس عند من يقول به ، وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول ، ومالك قريب منه ، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط ، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه (1) .
ويستدل ابن تيمية لصحة ما يقول بالنقل والعقل :
أما النقل : فلقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (2) ولقوله عليه السلام « . . . والمسلمون على شرطهم ، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما » (3) .
وأما العقل : فإنه يقول : إن العقود والشروط من باب الأفعال العادية- أي : ليست من العبادات- والأصل فيها عدم التحريم ، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم ، كما أن الأعيان : الأصل فيها عدم التحريم ، وقوله تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } (4) عام في الأعيان والأفعال ، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة ؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم ، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة (5) . فالوفاء بالشرط إذن واجب بالنقل والعقل ، وبخاصة بعد أن رضيها المتعاقد مختارا ، فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين ، ونتيجتها هي ما
__________
(1) [الفتاوى] ، (29\ 132 ، 133) .
(2) سورة المائدة الآية 1
(3) سنن الترمذي الأحكام (1352),سنن ابن ماجه الأحكام (2353).
(4) سورة الأنعام الآية 119
(5) [الفتاوى] ، (3\ 334) .

أوجباه على نفسيهما بالتعاقد ، لقوله تعالى : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (1) وقال : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } (2) فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه ، فدل على أنه سبب له ، وإذا كان طيب النفس هو المبيح الصداق فكذلك سائر التبرعات ، قياسا بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن .
وكذلك قوله تعالى : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (3) لم يشترط في التجارة إلا التراضي ، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة ، وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن ، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك (4) .
ويستخلص ابن تيمية من هذه المقدمات : أن الأصل في الشرط أن يكون صحيحا ، ويصح معه العقد ، سواء كان ذلك في المعاوضات ، أو في التبرعات .
ففي المعاوضات : يجوز للبائع أن يشترط منفعة المبيع ؛ كأن يسكن الدار شهرا أو ينتفع بزراعة الأرض سنة ، ويجوز للمشتري أن يشترط على البائع أن يخيط له الثوب ، أو يحمل المبيع إلى داره ، أو يحصد الزرع ، ويجوز أن يشترط البائع إذا باع الرقيق أن يعتقه المشتري ، ولكن لا يجوز أن يشترط البائع أن يكون الولاء له عند الإعتاق ؛ لأن هذا شرط يحلل حراما .
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة النساء الآية 4
(3) سورة النساء الآية 29
(4) الفتاوى ، (3\ 336 ، 337) .

وفي التبرعات : يجوز لمن أعتق عبدا أن يشترط عليه أن يخدمه طول حياته ، حياة العبد أو السيد ، وقد ورد أن أم سلمة أعتقت عبدها سفينة ، واشترطت عليه أن يخدم الرسول صلى الله عليه وسلم ما عاش (1) .
ويجوز للواهب أو الواقف أن يشترط لنفسه منفعة ما يهبه أو يقفه مدة معينة أو طول حياته (2) ، بل يصح أن تكون المنفعة التي استثناها المتبرع وأضافها لنفسه منفعة غير معلومة ، إذ يجوز في التبرعات من الغرر ما لا يجوز في المعاوضات ، كما تقدم القول .
وفي هذا يقول ابن تيمية : ( يجوز لكل من أخرج عينا عن ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع ، أو تبرع كالوقف والعتق أن يستثني بعض منافعها ، فإن كان مما لا يصح فيه الغرر كالبيع فلا بد أن يكون المستثنى معلوما ، لما روي عن جابر ، وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش عبده أو عاش فلان ، أو يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف ) (3) .
ويبني ابن تيمية على ما تقدم أن الشرط لا يفسد على سبيل الاستثناء ، إلا في موضعين :
الأولى : إذا كان الشرط ينافي المقصود من العقد ، مثل أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يؤجره ، ذلك أن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره ثم شرط العاقد فيه ما ينافي هذا المقصود- فقد جمع
__________
(1) [الفتاوى] ، (3\ 327) .
(2) [نظرية العقد] ، لابن تيمية ص (16) ، و[الفتاوى] ، (3\ 389 ، 390) .
(3) [الفتاوى] ، (3\ 342 ، 343) .

بين المتناقضين ، بين إثبات المقصود ونفيه ، فمثل هذا الشرط باطل .
ويقول ابن تيمية في تفسيره للمعنى المراد بالشرط الذي ينافي المقصود في العقد وفي تمييزه بين هذا الشرط والشرط الذي يناقض الشرع- ما يأتي : ( إن العقد له حالان : حال إطلاق ، وحال تقييد ، ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود . فإذا قيل : هذا شرط ينافي مقتضى العقد ، فإن أريد به : ينافي العقد المطلق ، فكذلك كل شرط زائد ، وهذا لا يضره ، وإن أريد : ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك ، وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد . فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره ، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين ، بين إثبات المقصود ونفيه ، فلا يحصل شيء ، ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق ، بل هو مبطل للعقد عندنا .
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع ، مثل : اشتراط الولاء لغير المعتق ، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده ، فإن مقصوده الملك ، والعتق قد يكون مقصودا للعقد ، فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا ، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد ، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه ، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق » (1) فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا ، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله ، فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما : إذا لم يكن لغوا ، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه ، بل الواجب حله ؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه ، إذ
__________
(1) صحيح مسلم العتق (1504),سنن ابن ماجه الأحكام (2521).

لولا حاجتهم إليه لما فعلوه ، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج (1) .
الثاني : الشرط الذي يناقض الشرع فيحل الحرام ، ويبدو أن ابن تيمية يبدأ بالتمييز بين منطقة الحرام ومنطقة المباح ، فلا يستطيع الشرط في منطقة الحرام أن يجعل الحرام حلالا ، بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه ، كالزنا ، وكثبوت الولاء لغير المعتق ، وأما ما كان مباحا بدون الشرط ؛ كالزيادة في مهر المثل ، وكالتبرع برهن لتوثيق الثمن- فيصح أن يوجب الشرط فعله بعد أن كان تركه مباحا ، بل كان تركة هو الأصل المعمول به ما دام الشرط الموجب لفعله لم يوجد ، وليس في ذلك تحريم للحلال أو تحليل للحرام ، فيكون الشرط الموجب لفعل المباح شرطا مشروعا ، ومن ثم يكون صحيحا . ويقول ابن تيمية في هذا المعنى ما يأتي :
فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله . وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه ، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما . . وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا . . وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا ، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك ، وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشرط ، قالوا : لأنها إما أن تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا ، وذلك لا
__________
(1) [مجموع الفتاوى] ، لابن تيمية (29\ 155 ، 156) .

يجوز إلا بإذن الشارع . . وليس كذلك ، بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه ، كالزنا وكالوطء في ملك الغير ، وكثبوت الولاء لغير المعتق ، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو يمين ، فلو أراد رجل أن يعير أمته للوطء لم يجز له ذلك ، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز ، وكذلك الولاء « نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته » (1) ، وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد . . . فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط ، فلا يبيح الشرط ما كان حراما ، وأما ما كان مباحا بدون الشرط يوجبه ، كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والراهن .
ونرى من ذلك أن ابن تيمية لا يجعل الشرط فاسدا إلا إذا كان منافيا للمقصود من العقد ، وهذا طبيعي ، وإلا إذا كان مناقضا للشرع فيحل حراما ، وهذا أشبه في الفقه الغربي بالشرط الذي يخالف القانون أو النظام العام . ولم يعرض ابن تيمية لتحريم اجتماع الشرطين ولا لتحريم اجتماع البيعتين في بيعة أو اجتماع البيع والسلف ، ومن ثم يكون تطور الفقه الإسلامي في تصحيح الشروط قد وصل على يد ابن تيمية إلى غاية تقرب مما وصل إليه الفقه الغربي الحديث .
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6375),صحيح مسلم العتق (1506),سنن الترمذي الولاء والهبة (2126),سنن النسائي البيوع (4657),سنن أبو داود الفرائض (2919),سنن ابن ماجه الفرائض (2747),مسند أحمد بن حنبل (2/107),موطأ مالك العتق والولاء (1522),سنن الدارمي البيوع (2572).

مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد
مقارنة إجمالية :
يتبين مما قدمناه : أن المذاهب الأربعة من ناحية تصحيح الشروط المقترنة بالعقد يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين :
1 - قسم يضيق في تصحيح الشروط ويلتزم مبدأ وحدة الصفقة ، فلا يبيح

إلا شرطا اقتضاه العقد ، أو لاءم العقد ، أو جرى به التعامل ، وهذان هما : المذهب الحنفي والمذهب الشافعي .
2 - وقسم يتوسع في تصحيح الشروط ، ولا يلتزم مبدأ وحدة الصفقة ، فيبيح الشروط ما لم تكن منافية لمقتضى العقد أو مناقضة للشرع ، وهذان هما : المذهب المالكي ، والمذهب الحنبلي .
فتطور الفقه الإسلامي نحو تصحيح الشروط ونبذ مبدأ وحدة الصفقة الذي كان أساسا من أسس الصناعة القانونية في المراحل الأولى من تطور القانون- أوضح وأبرز في القسم الثاني منه في القسم الأول ، على أنه يبدو لنا أن المذهب الحنفي على ضيقه في تصحيح الشروط وتأخره في التطور من هذه الناحية- هو أكثر المذاهب تقدما من ناحية تنسيق الصناعة القانونية ، فنظريته في فساد العقد تفوق في وضوحها وتسلسلها المنطقي نظائرها في المذاهب الأخرى .
مقارنة تفصيلية :
على أن هناك فروقا تفصيلية ما بين المذهب الحنفي ومذهب الشافعي اللذين ينتظمها القسم الأول ، وكذلك ما بين المذهب المالكي والمذهب الحنبلي اللذين ينتظمها القسم الثاني .
فالمذهب الحنفي ومذهب الشافعي : يبيحان جميعا الشرط الذي يقتضيه العقد ، ويبيحان كذلك الشرط الذي يلائم العقد ، إلا أن المذهب الحنفي يبيحه استثناء على سبيل الاستحسان ، ومذهب الشافعي يبيحه

أصلا لا استثناء . ثم يتميز المذهب الحنفي على مذهب الشافعي بإفساحه المجال للشرط الذي جرى به التعامل ، ويبيحه استحسانا كذلك ، فيدخل العرف من هذا الباب عنصرا مرنا يطور الفقه الإسلامي ، أما المذهب الشافعي فلا تكاد تلمح فيه باب جريان التعامل مفتوحا ، إنما يتحدث المذهب عن شرط تدعو إليه الحاجة فهو شرط لمصلحة العقد ، ويمزج بينه وبين الشرط الذي يلائم العقد ، ولكن مذهب الشافعي - من جهة أخرى - يصحح شروطا لا يصححها المذهب الحنفي ، ومن ذلك اشتراط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه ، ومن ذلك ما يشترط الزوج في زوجته من بكارة أو جمال أو غير ذلك ، وما تشترط الزوجة في زوجها من مال أو حرفة أو مورد للعيش .
أما المذهبان المالكي والحنبلي : فيصدران جميعا عن مبدأ واحد وهو : أن الأصل في الشروط الصحة ، والفساد هو الاستثناء ، فينبذان بذلك إلى حد كبير مبدأ وحدة الصفقة ، وقد يزيد المذهب الحنبلي على المذهب المالكي في تصحيح الشروط ، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية حين قال : (وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول ، ومالك قريب منه ، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط ، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه) ، فيجوز في مذهب أحمد مثلا، أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها ، أو لا يتسرى ، أو ألا يتزوج عليها ، فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج ، وهذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك .

ولكن التميز الحقيقي للمذهب الحنبلي على المذهب المالكي ليس في الشروط الصحيحة ، وإنما هو في الشروط الفاسدة ، على أننا إذا أخذنا المذهب الحنبلي كما كان قبل أن يجدد فيه ابن تيمية لما كان يتميز عن المذهب المالكي في ذلك ، ففي المذهبين يفسد الشرط إذا كان مناقضا لمقتضى العقد ، أو كان صفقة أخرى تقابل الصفقة الأصلية كبيع وسلف ، فيخل الشرط بالثمن ، كما يقول المذهب المالكي ، أو ينهى عن الشرط نص خاص كما يقول المذهب الحنبلي ، وفي هذا النوع الثاني من الشرط الفاسد نلمح في المذهبين أثرا لمبدأ وحدة الصفقة ، فهما يستبقيان هذا المبدأ في صورة من صوره ، بل إن المذهب الحنبلي يزيد على المذهب المالكي بتحريم اجتماع الشرطين في عقد واحد .
أما إذا أخذنا المذهب الحنبلي بعد تجديد ابن تيمية فإننا نراه يتقدم تقدما كبيرا في التطور ، فينبذ مبدأ وحدة الصفقة ، ويضيق من منطقة الشروط الفاسدة ، فلا يكون الشرط فاسدا إلا إذا كان منافيا لمقتضى العقد ، أو إلا إذا كان مناقضا للشرع (1) . اهـ .
ويمكننا على ضوء ما تقدم من تقسيم الشروط في العقود إلى : صحيح وفاسد- أن ننظر هل الشرط الجزائي من الشروط الصحيحة في العقود أم
__________
(1) ملحوظة : نقلت اللجنة ما تقدم عن الدكتور السنهوري ؛ لما فيه من نصوص فقهية في الموضوع من المذاهب الأربعة مع مقارنة بينها ، وفي هذا فوائد كثيرة ، غير أنه وقع في حديثه عن تطور الفقه الإسلامي بعض أخطاء ، منها ظنه أن المالكيين والحنابلة انتهيا إلى عدم اعتبار وحدة الصفقة في صحة العقد ، غير أنهما استبقياها في صور قليلة كبيع وسلف أو شرطين في عقد ، ومنها ظنه أن ابن تيمية نبذ مبدأ وحدة الصفقة مطلقا في صحة العقد ، وأنه بذلك طور مذهب الإمام أحمد ص 63 ، 64 ، 67 ، 68 ، 71 ، 72 .

من الفاسدة ؟ وفي حال القول بفساده هل ينحصر الفساد فيه أم يتعداه إلى العقد نفسه فيبطل ببطلانه ؟
لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله : أن الشروط في العقود قسمان : صحيح وفاسد .
أما الصحيح فثلاثة أنواع :
أحدها : شرط يقتضيه العقد ؛ كالتقابض ، وحلول الثمن ، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع لإمكان تحقق العقد بدونه .
الثاني : شرط من مصلحة العقد ؛ كاشتراط صفة في الثمن ؛ كالتأجيل أو الرهن أو الضمين به ، أو صفة في المثمن ؛ ككون العبد خصيا أو مسلما ، والأمة بكرا ، والدابة هملاجة ، وحكمه : أنه صحيح وأن المشروط عليه إن وفى بالشرط لزم البيع ، وإن لم يف به فإن تعذر الوفاء تعين الأرش لصاحب الشرط ، وإن لم يتعذر الوفاء به ففيه وجهان :
الأول : أن صاحب الشرط مخير بين الفسخ والأرش ، وهو الصحيح من المذهب .
والثاني : أنه ليس له إلا الفسخ .
وعلى هذا يمكن أن يقال : إن الشرط الجزائي من مصلحة العقد ؛ لأنه حافز لمن شرط عليه أن ينجز لصاحب الشرط حقه ومساعد له على الوفاء بشرطه ، فكان شبيها باشتراط الرهن والكفيل في الوفاء لصاحب الشرط بشرطه ، وإذن يصح الشرط ويلزم الوفاء به ، فإن لم يف وتعذر استدراك ما

فات تعين لمن اشترط شرطا جزائيا الأرش ، وقد اتفق عليه عند العقد بتراضيهما ، وإن لم يتعذر الاستدراك فلصاحب الشرط الخيار بين فسخ العقد والأرش مع بقائه .
الثالث : شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ، وليس منافيا لمقتضاه ؟ كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا ، أو اشتراط المشتري خياطة الثوب ، وفي حكمه خلاف : قيل : يصح وقيل : لا يصح ، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط ، فهو مرتبط بالعقد حيث إنه تقدير للضرر المتوقع حصوله في حالة عدم الوفاء بالالتزام .
وأما الفاسدة فثلاثة أنواع :
أحدها : أن يشترط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدا آخر ؛ كبيع أو إجارة أو نحو ذلك- فهذا الشرط غير صحيح ، وهل يبطل العقد لبطلان الشرط أم يصح العقد ويبطل الشرط ؟ قولان لأهل العلم : أشهرها : القول ببطلان العقد لبطلان الشرط ؟ لكونه من قبيل بيعتين في بيعة المنهي عنها ، وفي القول بصحة العقد وبطلان الشرط رواية عن الإمام أحمد سنده فيها : « حديث عائشة ، حيث أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترط أهلها ولاءها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : اشتريها ، واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق » (1) متفق عليه ، فصحح الشراء مع إبطال الشرط .
ويمكن أن يقال : بأن الشرط الجزائي من هذه الشروط الفاسدة المترتب على فسادها على المشهور لدى بعض أهل العلم فساد العقود المشتملة
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2060),صحيح مسلم العتق (1504),موطأ مالك العتق والولاء (1519).

عليها ، وتوجيه ذلك : أن الشرط الجزائي يعتبر عقد معاوضة مغاير للعقد الأصلي ، فهو من مسائل بيعتين في بيعة المنهي عنها ، ويمكن أن يرد هذا : بأن الشرط الجزائي ليس مستقلا عن العقد الأصلي ، وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر ، فليس من قبيل بعتك على أن تقرضني أو تزوجني أو تؤجرني ؛ لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلا عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلا .
الثاني : من الشروط الفاسدة : شرط ينافي مقتضى العقد ، كأن يشترط في المبيع أن لا خسارة عليه أو ألا يبيع ولا يهب ولا يعتق ، فهذه الشروط باطلة ، وهل تبطل العقود المشتملة عليها ؟ قولان لأهل العلم ، وهما روايتان عن الإمام أحمد :
إحداهما : لا يبطل العقد ، وهو المذهب ، اختاره في [المغني] ، ونصره في [الشرح] ، وجزم به في [الوجيز] ، وقدمه في [الفروع] ؛ لحديث بريرة ، وإذا ألغي الشرط لبطلانه كان لصاحبه الخيار بين الفسخ وما نقص من الثمن .
وقيل : ليس له إلا الفسخ أو الإمضاء ولا أرش له .
ويمكن أن يقال : إن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط ، لأنه منافاة بين نفاذه وبين العقد المشتمل عليه .
الثالث : من الشروط الفاسدة : شرط يعلق به العقد ، كقوله : بعتك إن

جئتني بكذا أو إن رضي فلان ، أو بقول الراهن : إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك ، فلا يصح المبيع ، وهذا هو المذهب ؛ لأن مقتضى العقد انعقاد البيع ، وهذا الشرط يمنعه ، وللإمام أحمد رحمه الله رواية في تصحيح البيع والشرط ، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ؛ لأنه لم يخالف نصا ، ويمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي من هذا النوع من الشروط ، باعتباره عقد معاوضة مستقلا ، وعلى هذا الاعتبار فهو عقد معاوضة معلق على حصول الإخلال بالتزام في العقد الأصلي ، فتجري فيه أحكام هذا النوع من الشروط ، إلا أن القول ببطلان العقد لبطلانه لا يأتي على العقد الأصلي المشتمل عليه ؛ لأن تحقق العقد الأصلي ليس مرهونا بوجود الشرط ، وإنما يعتبر الشرط الجزائي عقد معاوضة مستقلا معلقا نفاذه على الإخلال بالعقد الأصلي ؛ ذلك لأن النص في عقد المقاولة مثلا بعبارة : (إن تأخر إكمالك العمل عن شهر كذا فعليك عن كل شهر تتأخر مبلغ كذا) يعتبر عقدا يشبه في الجملة عقد الرهن المتضمن قول الراهن : (إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك) ويمكن أن يرد على هذا : بأن الشرط الجزائي ليس مستقلا عن العقد الأصلي ، وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر ، فليس من قبيل : بعتك على أن تقرضني أو تؤجرني أو تزوجني ؛ لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلا عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلا .
ونذكر جملة من العقود التي اقترن بها شرط ، وكان ذلك مثار خلاف بين

أئمة الفقهاء :
أ- بيع العربون : وهو : أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع مبلغا من المال على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن ، وإن لم يأخذها فهو للبائع .
وقد بحث علماء المذاهب الإسلامية المعتبرة هذا النوع من البيوع ، واختلفوا فيه على قولين :
فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى القول بتصحيحه .
قال أبو محمد بن قدامة رحمه الله (1) : والعربون في البيع هو : أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهما أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن ، وإن لم يأخذها فذلك للبائع ، يقال : عربون وأربون وعربان وأربان ، قال أحمد : لا بأس به ، وفعله عمر رضي الله عنه ، وعن ابن عمر أنه أجازه ، وقال ابن سيرين : لا بأس به ، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين : لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا ، وقال أحمد : هذا في معناه .
واختار أبو الخطاب : أنه لا يصح ، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن ؛ لأن « النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع العربون) » رواه ابن ماجه ، ولأنه شرط للبائع شيئا بغير عوض فلم يصح ، كما لو شرطه لأجنبي ، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول ، فإنه اشترط أن له رد
__________
(1) [المغني] ، (4\ 232\ 233) طبعة المنار .

المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح ، كما لو قال : ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهما ، وهذا هو القياس ، وإنما صار أحمد فيه إلى ما روى فيه عن نافع بن عبد الحارث : (أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية ، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا) قال الأثرم : قلت لأحمد : تذهب إليه ، قال : (أي شيء أقول ؟ هذا عمر رضي الله عنه) ، وضعف الحديث المروي . روى هذه القصة الأثرم بإسناده .
فأما إن دفع إليه قبل البيع درهما وقال : (لا تبع هذه السلعة لغيري ، وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك) ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ ، وحسب الدرهم من الثمن- صح ؛ لأن البيع خلا عن الشرط المفسد ، ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه ، فيحمل عليه جمعا بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس ، والأئمة القائلين بفساد العربون وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم ؛ لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه ، ولا يصح جعله عوضا عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله ؛ لأنه لو كان عوضا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء ، ولأن الانتظار بالمبيع لا تجوز المعاوضة عنه ، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة . اهـ .
وقد لخص الدكتور السنهوري أدلة القولين ، ورد أدلة القائلين ببطلان بيع العربون - فقال بعد إيراده ما ذكره ابن قدامة رحمه الله ما نصه (1) .
__________
(1) [مصادر الحق في الفقه الإسلامي] ، (2\ 101 ، 102) .

ويمكن أن نستخلص من النص المتقدم ما يأتي :
إن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن بيع العربون ؛ ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض ، وهذا شرط فاسد ، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول : ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهم .
إن أحمد يجيز بيع العربون ، ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر ، وضعف الحديث المروي في النهي عن بيع العربون وإلى القياس على صورة متفق على صحتها هي : أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئا . قال أحمد : هذا في معناه .
ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون ، فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض ، إذ العوض هو الانتظار بالمبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة ، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول ، إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع مع ذكر مدة معلومة إن لم يرجع فيها مضت الصفقة وانقطع الخيار . اهـ .
ويمكن أن يقال : بأن الشرط الجزائي يشبه بيع العربون في أن كلا منهما شرط يوجب على من أخل بالشرط عقوبة مالية يجري تعيينها قبل حصول ذلك .

ونوقشت المقارنة والترجيح بما يأتي :
أولا : في سند الأثر الذي فيه شراء نافع من صفوان دار السجن : عبد الرحمن بن فروخ السعد مولى عمر ، وهو مجهول العين ؛ لأنه لم يرو عنه إلا عمرو بن دينار ؛ ولذا ترك مسلم الرواية عنه في [صحيحه] ، ولم يرو عنه البخاري إلا في التعليقات ، اللهم إلا أن يقال : إن الشهرة تقوم مقام راو آخر ، ذكر معنى ذلك ابن حجر في [تهذيب التهذيب] ، عن الحاكم .
ثانيا : هذا الأثر يحتمل متنه أن يكون عقد الشراء قد أبرم فعلا بين نافع وصفوان ، ويحتمل أن يكون مجرد وعد من نافع لصفوان بالشراء ، ثم كان العقد بعد العرض على عمر ورضاه .
ثالثا : دعوى الاتفاق على ما قاله ابن سيرين من أنه لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا- تحتاج إلى إثبات حتى يتأتى قياس بيع العربون عليه ، وإلا فمجرد قول ابن سيرين ليس بأصل يرجع إليه في الاستدلال ، والإمام أحمد ليس بمجتهد مذهب حتى يقال : إن هذا من باب التخريج على مسألة في المذهب ، بل هو مجتهد مطلق ، ويرجع في اجتهاده إلى الأصول الشرعية .
رابعا : ذكر الأستاذ السنهوري : أن العربون عوض عن انتظار البائع أو عن تفويت فرصة البيع عليه ، فهل الانتظار أو تفويت الفرصة مما يقوم بمال حتى يستحق البائع العربون عوضا عنه ، هذا محل نظر ، فالمخالف لا يوافقه على ذلك كما مر في النقل عن ابن قدامة رحمه الله .

خامسا : لم يذكر في تعريف بيع العربون تعيين مدة ، فكان شبهه بالخيار المجهول ثابتا .
ب- مسألة : ما إذا أعطى الرجل الخياط ثوبه فقال له : (إن خطته اليوم فبعشرة ، أو خطته غدا فبتسعة) ، فهذه المسألة بحثها الفقهاء رحمهم الله ، ومنهم أبو الحسن المرداوي الحنبلي فقد قال ما نصه :
قوله : إن قال : إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم ، وإن خطته غدا فلك نصف درهم فهل يصح ؟ على روايتين : وأطلقهما في [الهداية] و [المذهب ] ، و [المستوعب] ، و [الخلاصة] ، و [المغني] ، و [الشرح] ، و [الفائق] ، و [شرح ابن منجا ] ، و [الحاوي الصغير] ، إحداهما : لا يصح ، وهو المذهب ، والرواية الثانية : يصح وقدمه في [الرعايتين] ، اهـ (1) .
ج- مسألة : ما إذا أكرى لأحد الناس دابة فقال : (إن رددتها اليوم فكراؤها خمسة ، وإن رددتها غدا فكراؤها عشرة) ، فقال أحمد في رواية عبد الله : لا بأس به ، قال في [الفائق] : صح في الروايتين وجزم في [الوجيز] والمذهب ، وقدمه في [الرعايتين] ، و [الخلاصة] ، و [الحاوي الصغير] ، و [النظم] (2) .
فعلى رأي القائلين بصحة العقد في المسألتين (ب ، ج) يكونون قد صححوا اقتطاع جزء من كامل الأجرة جزاء التأخير ، وهذا يشبهه الشرط
__________
(1) [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف] ، (6\ 18) .
(2) المرجع السابق (6\ 20) .

الجزائي من حيث أن كلا منهما يوجب على المتسبب في الإخلال بالاتفاق غرامة مالية يجري تقديرها سلفا في مبدأ العقد .
وقد يرد على ذلك : بأن العقد في كلتا الصورتين ليس مشتملا على شرط التنجيز بخياطة الثوب أو رد الدابة ، وإنما هو عقد تخييري لحالين ، أي : حال منهما يقع عليها الاختيار يتعين العقد بموجبها ، وعليه فليس فيه اقتطاع جزء من كامل الأجرة .
د- مسألة : ما إذا قال : (من خاط لي هذا الثوب في هذا اليوم فله كذا) فإذا خاطه في اليوم الثاني مثلا فهل يستحق الجعل أو أجرة المثل أو لا يستحق شيئا ؟
هذه المسألة ذكرها ابن قدامة رحمه الله في [ المغني] ، فقال في معرض تفريقه بين الإجارة والجعالة في حكم الجمع بين تقدير المدة والعمل : وإن علقه بمدة معلولة فقال : ( من رد لي عبدي من العراق إلى شهر فله دينار) ، أو (من خاط قميصي هذا في اليوم فله درهم) صح ؛ لأن المدة إذا جازت مجهولة فمع التقدير أولى . . . إلى أن قال : فإن العمل الذي يستحق به الجعل هو عمل مقيد بمدة إن أتى به فيها استحق الجعل ، ولا يلزمه شيء آخر ، وإن لم يف به فيها فلا شيء له . اهـ (1) .
وذكرها البهوتي رحمه الله في [ الكشاف] ، فقال :
ويصح الجمع بين تقدير العمل والمدة ، كأن يقول : (من خاط لي هذا
__________
(1) [المغني] ، (6\ 28) مطبعة الإمام .

الثوب في يوم فله كذا ، فإن أتي به فيها استحق الجعل ولم يلزمه شيء آخر ، وإن لم يف به فيها فلا يلزمه شيء له ) اهـ (1) .
فعلى القول بأنه يستحق أجرة المثل إن لم يكن أكثر من الجعل ، ففي حال نقص أجرة المثل عن الجعل فإن الفرق بينهما في مقابلة التأخير ، وعليه فيمكن أن يقال : بأن الشرط الجزائي يشبهه من حيث أن استحقاق الشرط الجزائي في مقابلة الإخلال بالالتزام ومنه التأخير .
هـ- المسألة التي حكم فيها القاضي شريح : والتي سبق ذكرها في أول البحث ونصها : روى البخاري في [صحيحه] ، بسنده عن ابن سيرين : أن رجلا قال لكريه : أدخل ركابك ، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم ، فلم يخرجوا فقال شريح : (من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه) اهـ .
فهذه المسألة صريحة في أنها من أنواع الشروط الجزائية .
ويمكن أن يقال : بتصحيح الشرط الجزائي بناء على اعتباره عقوبة مالية في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث إن الإخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع ، ولأن في تصحيحه ووجوب الوفاء به سدا لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله ، وسببا من أسباب الحفز على الوفاء بالوعود والعهود ؛ تحقيقا لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (2)
__________
(1) [كشاف القناع عن متن الإقناع] ، (4\ 173) .
(2) سورة المائدة الآية 1

هذا ومن الجدير بالذكر : أن اللجنة بنت ما ذكرته من احتمالات في تطبيق الضوابط ، وفي الإلحاق بالنظائر على أوسع المذاهب في ذلك ، وأقربها إلى قوة الدليل ، فإن سلم ذلك وظهر الحكم فالحمد لله ، وإلا فالشرط الجزائي أبعد عن الحكم فيه بالجواز إذا طبقت عليه ضوابط الشروط الصحيحة والفاسدة في المذاهب الفقهية الأخرى ؛ كالمذهب الحنفي والشافعي ، اللهم إلا أن ينظر إلى ما نقل عن الحنفية من اعتبار ما جرى به التعامل وتعارفه الناس في معاملاتهم وكان غير مناقض لمقتضى العقد ، فبهذا يمكن أن يقال : إن الشرط الجزائي يتسع له هذا الضابط ، فيعد من الشروط الصحيحة .
هذا ما تيسر ذكره ، وبالله التوفيق . وصلى على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء
رقم (25) وتاريخ 31\ 8\ 1394هـ .
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد ، وعلى آله وصحبه وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة فيما بين 28\ 10 و 14\ 11 \ 1393\هـ من الرغبة في دراسة موضوع (الشرط الجزائي)- فقد جرى إدراجه في جدول أعمال الهيئة في دورتها الخامسة ، المنعقدة فيما بين 5 و 22\ 8 \ 1394 هـ في مدينة الطائف .
ثم جرى دراسة الموضوع في هذه الدورة بعد الاطلاع على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
وبعد مداولة الرأي والمناقشة ، واستعراض المسائل التي يمكن أن يقاس عليها الشرط الجزائي ، ومناقشة توجيه قياسه على تلك المسائل والإيراد عليه ، وتأمل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (1) وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : « المسلمون على شروطهم ، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا » (2) ولقول عمر رضي الله عنه : (مقاطع الحقوق عند الشروط) والاعتماد على القول الصحيح : من أن الأصل في الشروط الصحة ، وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سنن أبو داود الأقضية (3594),مسند أحمد بن حنبل (2/366).

أو قياسا .
واستعراض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى :
صحيحة ، وفاسدة ، وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع : أحدها : شرط يقتضيه العقد ؛ كاشتراط التقابض ، وحلول الثمن .
الثاني : شرط من مصلحة العقد ؛ كاشتراط صفة في الثمن ؛ كالتأجيل ، أو الرهن ، أو الكفيل به ، أو صفة في المثمن ، ككون الأمة بكرا .
الثالث : شرط فيه منفعة معلومة ، وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ، ولا منافيا لمقتضاه ؛ كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا .
وتقسيم الفاسدة إلى ثلاثة أنواع :
أحدها : اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدا آخر ؛ كبيع ، أو إجارة ، أو نحو ذلك .
الثاني : اشتراط ما ينافي مقتضى العقد ، كأن يشترط في المبيع ألا خسارة عليه ، أو ألا يبيع أو يهب ولا يعتق .
الثالث : الشرط الذي يتعلق به العقد ، كقوله : بعتك إن جاء فلان .
وبتطبيق الشرط الجزائي عليها ، وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد ، إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له ، والاستئناس بما رواه البخاري في [صحيحه] بسنده عن ابن سيرين : أن رجلا قال لكريه : أدخل ركابك ، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم

فلم يخرج ، فقال شريح : (من شرط على نفسه طائعا غير مكروه فهو عليه) .
وقال أيوب عن ابن سيرين : أن رجلا باع طعاما وقال : إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع ، فلم يجئ ، فقال شريح للمشتري : (أنت أخلفت) فقضى عليه ، وفضلا عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام ، حيث إن الإخلال به مظنة الضرر ، وتفويت المنافع ، وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله ، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود ؟ تحقيقا لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (1)
لذلك كله فإن المجلس يقرر بالإجماع :
أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر ، يجب الأخذ به ، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعا ، فيكون العذر مسقطا لوجوبه حتى يزول .
وإذا كان الشرط الجزائي كثيرا عرفا ، بحيث يراد به التهديد المالي ، ويكون بعيدا عن مقتضى القواعد الشرعية- فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف ، على حسب ما فات من منفعة ، أو لحق من مضرة .
ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر ؛ عملا بقوله تعالى : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } (2) وقوله سبحانه : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (3)
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة النساء الآية 58
(3) سورة المائدة الآية 8

وبقوله صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على محمد, وعلى آله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الخامسة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340),مسند أحمد بن حنبل (5/327).

(5)
حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحدهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد (1)
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد ، وآله وبعد : فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء مسألة (حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد) .
وبناء عليه أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، بحثا في الموضوع ، ونصه :
الحمد لله وحده ، وبعد :
فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء ، في دورته الثالثة المنعقدة في شهر ربيع الثاني ، عام 1393 هـ من البحث في الدورة الرابعة عن (حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد) .
وبناء على ما تقتضيه لائحة عمل الهيئة من قيام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداد بحث علمي عن المسألة التي تقرر عرضها على
__________
(1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثالث ، ص 27- 124 ، لعام 1397 هـ .

الهيئة- قامت اللجنة الدائمة بإعداد بحث في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، اشتمل على ما يلي :
1 - حكم الإقدام على جمع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، مع الأدلة ومناقشتها .
2 - ما يترتب على إيقاع الطلاق ثلاثا بلفظ واحد ، مع الأدلة ومناقشتها .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .

حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد
المسألة الأولى : حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة وفيه قولان :
القول الأول : أنه محرم ، وهو مذهب الحنفية والمالكية ، وإحدى الروايتين عن أحمد ، وقول شيخ الإسلام وابن القيم :
أما المذهب الحنفي : فقال الكاساني في الكلام على طلاق البدعة (1) : وأما الذي يرجع إلى العدد فهو إيقاع الثلاث أو الثنتين في طهر واحد لا جماع فيه ، سواء كان على الجمع : بأن أوقع الثلاث جملة واحدة ، أو على التفاريق واحدا بعد واحد ، بعد أن كان الكل في طهر واحد . وهذا قول أصحابنا :
ولنا الكتاب والسنة والمعقول :
أما الكتاب : فقوله عز وجل : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (2) أي : في أطهار عدتهن ، وهو الثلاث في ثلاثة أطهار ، كذا فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا فيما تقدم أمر بالتفريق ، والأمر بالتفريق يكون نهيا عن الجمع ، ثم إن كان الأمر أمر إيجاب كان نهيا عن ضده- وهو : الجمع- نهي تحريم ، وإن كان أمر ندب ، كان نهيا عن ضده- وهو : الجمع- نهي ندب ، وكل
__________
(1) [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع] ، (3\ 94 ، 95) .
(2) سورة الطلاق الآية 1

ذلك حجة على المخالف ؛ لأن الأول يدل على التحريم ، والآخر يدل على الكراهة ، وهو لا يقول بشيء من ذلك .
وقوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) أي : دفعتان ، ألا ترى أن من أعطى آخر درهمين ، لم يجز أن يقول أعطاه مرتين حتى يعطيه دفعتين .
وجه الاستدلال : أن هذا إن كان ظاهره الخبر ، فإن معناه : الأمر ؛ لأن الحمل على ظاهره يؤدي إلى الخلف في خبر من لا يحتمل خبره الخلف ، لأن الطلاق على سبيل الجمع قد يوجد ، وقد يخرج اللفظ مخرج الخبر على إرادة الأمر ، قال الله تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } (2) أي : ليرضعن ، ونحو ذلك ، كذا هذا ، فصار كأنه سبحانه وتعالى قال : طلقوهن مرتين إذا أردتم الطلاق ، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع ؛ لأنه ضده ، فيدل على كون الجمع حراما أو مكروها على ما بينا .
فإن قيل : هذه الآية حجة عليكم ؛ لأنه ذكر جنس الطلاق ، وجنس الطلاق ثلاث ، والثلاث إذا وقع دفعتين ، كان الواقع في دفعة طلقتان ، فيدل على كون الطلقتين في دفعة مسنونتين .
فالجواب : أن هذا أمر بتفريق الطلاقين من الثلاث ، لا بتفريق الثلاث ؛ لأنه أمر بالرجعة عقب الطلاق مرتين- أي : دفعتين- بقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } (3) أي : وهو الرجعة ، وتفريق الطلاق- وهو إيقاعه
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 233
(3) سورة البقرة الآية 229

دفعتين- لا يتعقب الرجعة ، فكان هذا أمرا بتفريق الطلاقين من الثلاث ، لا بتفريق كل جنس الطلاق وهو الثلاث ، والأمر بتفريق طلاقين من الثلاث يكون نهيا عن الجمع بينهما .
وأما السنة : فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تزوجوا ولا تطلقوا ، فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن » (1) ، نهى صلى الله عليه وسلم عن الطلاق ، ولا يجوز أن يكون النهي عن الطلاق لعينه ؛ لأنه قد بقي معتبرا شرعا في حق الحكم بعد النهي ، فعلم أن هاهنا غيرا حقيقيا ملازما للطلاق يصلح أن يكون منهيا عنه ، فكان النهي عنه لا عن الطلاق ، ولا يجوز أن يمنع من الشرع لمكان الحرام الملازم له ، كما في الطلاق في حالة الحيض ، والبيع وقت النداء ، والصلاة في الأرض المغصوبة ، وغير ذلك .
وقد ذكر عن عمر رضي الله عنه : أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضربا ، وأجاز ذلك عليه ، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون إجماعا .
وأما المعقول فمن وجوه :
أحدها ؛ أن النكاح عقد مصلحة ؛ لكونه وسيلة إلى مصالح الدين والدنيا ، والطلاق إبطال له ، وإبطال المصلحة مفسدة ، وقد قال الله عز وجل : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } (2) وهذا معنى الكراهة الشرعية
__________
(1) رواه ابن عدي في [الكامل] من طريق علي بن أبي طالب ، وقال السيوطي في [الجامع الصغير] : ضعيف .
(2) سورة البقرة الآية 205

عندنا : أن الله تعالى لا يحبه ولا يرضى به ، إلا أنه قد يخرج من أن يكون مصلحة ؛ لعدم توافق الأخلاق ، وتباين الطبائع ، أو لفساد يرجع إلى نكاحها ، بأن علم الزوج أن المصالح تفوته بنكاح هذه المرأة ، أو أن المقام معها يسبب فساد دينه ودنياه ، فتنقلب المصلحة في الطلاق ليستوفي مقاصد النكاح من امرأة أخرى ، إلا أن احتمال أنه لم يتأمل . حق التأمل ، ولم ينظر حق النظر في العاقبة قائم ، فالشرع والعقل يدعوانه إلى النظر ، وذلك في أن يطلقها طلقة واحدة رجعية ، حتى أن التباين والفساد إذا كان من جهة المرأة تتوب وتعود إلى الصلاح إذا ذاقت مرارة الفراق ، وإن كانت لا تتوب نظر في حال نفسه ، أنه هل يمكنه الصبر عنها ؛ فإن علم أنه لا يمكنه الصبر عنها يراجعها ، وإن علم أنه يمكنه الصبر عنها يطلقها في الطهر الثاني ثانيا ، ويجرب نفسه ، ثم يطلقها فيخرج نكاحها من أن يكون مصلحة ظاهرا وغالبا ؛ لأنه لا يلحقه الندم غالبا ، فأبيحت الطلقة الواحدة أو الثلاث في ثلاثة أطهار على تقدير خروج نكاحها من أن يكون مصلحة ، وصيرورة المصلحة في الطلاق ، فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة في حالة الغضب ، وليست حالة الغضب حالة التأمل ، لم يعرف خروج النكاح من أن يكون مصلحة ، فكان الطلاق إبطالا للمصلحة من حيث الظاهر ، فكان مفسدة .
والثاني : أن النكاح عقد مسنون ، بل هو واجب لما ذكرنا في كتاب النكاح ، فكان الطلاق قطعا للسنة ، وتفويتا للواجب ، فكان الأصل هو الحظر أو الكراهة ، إلا أنه رخص للتأديب أو للتخليص ، والتأديب يحصل بالطلقة الواحدة الرجعية ؛ لأن التباين أو الفساد إذا كان من قبلها ، فإذا ذاقت

مرارة الفراق فالظاهر أنها تتأدب وتتوب وتعود إلى الموافقة والصلاح ، والتخليص يحصل بالثلاث في ثلاثة أطهار ، والثابت بالرخصة يكون ثابتا بطريق الضرورة ، وحق الضرورة صار مقضيا بما ذكرنا فلا ضرورة إلى الجمع بين الثلاث في طهر واحد ، فبقي ذلك على أصل الحظر . والثالث : أنه إذا طلقها ثلاثا في طهر واحد فربما يلحقه الندم ، وقال الله تعالى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (1) قيل في التفسير : أي : ندامة على ما سبق من فعله ، أو رغبة فيها ، ولا يمكنه التدارك بالنكاح فيقع في السفاح ، فكان في الجمع احتمال الوقوع في الحرام ، وليس في الامتناع ذلك ، والتحرز عن مثله واجب شرعا وعقلا ، بخلاف الطلقة الواحدة ؛ لأنها لا تمنع التدارك بالرجعة ، وبخلاف الثلاث في ثلاثة أطهار ؛ لأن ذلك لا يعقب الندم ظاهرا ؛ لأنه يجرب نفسه في الأطهار الثلاثة فلا يلحقه الندم . انتهى المقصود .
وقال السرخسي : وعلى هذا الأصل- أي : توجيه إيقاع الثلاث في ثلاثة أطهار - قال علماؤنا رحمهم الله : إيقاع الثلاث جملة بدعة .
وبعد أن ساق مذهب الشافعي في إباحته وأدلته (2) ، ساق الدليل على تحريمه ، وهو قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) قال : معناه : دفعتان ، كقوله : أعطيته مرتين ، وضربته مرتين ، والألف واللام للجنس ، فيقتضي
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) [المبسوط] (6\4) وما بعدها ، ويرجع أيضا إلى [فتح القدير] ، (3\ 26) وما بعدها .
(3) سورة البقرة الآية 229

أن يكون كل الطلاق المباح في دفعتين ، ودفعة ثالثة في قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } (1) أو في قوله عز وجل : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) على حسب ما اختلف فيه أهل التفسير ، وفي حديث محمود بن لبيد رحمه الله تعالى : « أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا . فقال : أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم » (3) .
واللعب بكتاب الله : ترك العمل به ، فدل أن موقع الثلاث جملة مخالف للعمل بما في الكتاب ، وأن المراد من قوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (4) تفريق الطلقات على عدد أقراء العدة ، ألا ترى أنه خاطب الزوج بالأمر بإحصاء العدة ؟ وفائدته : التفريق ، فإنه قال : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (5) أي : يبدو له فيراجعها ، وذلك عند التفريق لا عند الجمع .
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه « أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن أبانا طلق امرأته ألفا . فقال صلى الله عليه وسلم : بانت امرأته بثلاث في معصية الله تعالى ، وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون وزرا في عنقه إلى يوم القيامة » .
وإن « ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما طلق امرأته في حالة الحيض ، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ، فقال : أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سنن النسائي الطلاق (3401).
(4) سورة الطلاق الآية 1
(5) سورة الطلاق الآية 1

تحل لي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لا ، بانت منك وهي معصية » (1) .
وبعد أن بين وجه الرد على استدلال الشافعي رحمه الله بقصة لعان عويمر العجلاني ، وأنه طلق ثلاثا ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم قال : ولنا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فقد روي عن علي ، وعمر ، وابن مسعود ، وابن عباس وابن عمر ، وأبي هريرة ، وعمران بن حصين رضي الله تعالى عنهم : كراهة إيقاع الطلاق الثلاث بألفاظ مختلفة .
وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال : لو أن الناس طلقوا نساءهم كما أمروا لما فارق الرجل امرأته وله إليها حاجة ، إن أحدكم يذهب فيطلق امرأته ثلاثا ثم يقعد فيعصر عينيه ، مهلا مهلا بارك الله عليكم ، فيكم كتاب الله وسنة رسوله ، فماذا بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا الضلال ورب الكعبة ؟
قال الكرخي : لا أعرف بين أهل العلم خلافا : أن إيقاع الثلاث جملة مكروه ، إلا قول ابن سيرين ، وإن قوله ليس بحجة .
ثم ساق الرد على ما استدل به الشافعي من الآثار ، ثم ذكر بعد ذلك دليلا من جهة المعنى ، وقد سبق ما يوافقه عن الكاساني .
وقال الطحاوي (2) : حدثنا ابن مرزوق قال : ثنا وهب ، قال : ثنا شعبة ، عن ابن أبي نجيح ، وحميد الأعرج ، عن مجاهد : أن رجلا قال لابن عباس : رجل طلق امرأته مائة ؟ فقال : عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5022),صحيح مسلم الطلاق (1471),سنن الترمذي الطلاق (1175),سنن النسائي الطلاق (3392),سنن أبو داود الطلاق (2179),سنن ابن ماجه الطلاق (2019),مسند أحمد بن حنبل (2/124),موطأ مالك الطلاق (1220),سنن الدارمي الطلاق (2262).
(2) [شرح معاني الآثار] (2\30) .

لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ، من يتق الله يجعل له مخرجا ، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1)
المذهب المالكي :
أما المذهب المالكي فهذه بعض نقول عنه :
قال سحنون : قلت لعبد الرحمن بن القاسم : هل كان مالك يكره أن يطلق الرجل امرأته ثلاث تطليقات في مجلس واحد ؟ قال : نعم ، كان يكرهه أشد الكراهية (2) .
وقال محمد بن أحمد بن رشد : وكذلك لا يجوز عند مالك أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة ، فإن فعل لزمه ذلك ، بدليل قوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا } (3) وقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (4) وهي : الرجعة ، فجلعها فائتة بإيقاع الثلاث في كلمة واحدة ، إذ لو لم يقع ولم يلزمه لم تفته الزوجة ، ولا كان ظالما لنفسه (5) انتهى المقصود .
وقال الباجي (6) : فأما العدد فإنه لا يحل أن يوقع أكثر من طلقة واحدة ، فمن أوقع طلقتين أو ثلاثا فقد طلق بغير سنة . . . والدليل على ما نقوله قوله
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) [المدونة] (2\66) .
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة الطلاق الآية 1
(5) [المقدمات] وهي مع [المدونة] (2\78) .
(6) [المنتقى] (4\3) .

تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1)
ولا يخلو أن يكون أمرا بصفة الطلاق ، والأمر يقتضي الوجوب ، أو يكون إخبارا عن صفة الطلاق الشرعي ، ومن أصحابنا من قال : إن الألف واللام تكون للحصر ، وهذا يقتضي أن لا يكون الطلاق الشرعي على غير هذا الوجه .
فإن قيل : المراد بذلك الإخبار عن أن الطلاق الرجعي طلقتان ، وأن ما زاد عليه ليس برجعي ، قالوا : يدل على ذلك أنه قال بعد ذلك : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) ثم أفرد الطلقة الثالثة لما لم تكن رجعية وفارق حكم الطلقتين ، فقال : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3) وإذا كان المراد ما ذكرناه من الإخبار عن الطلاق الرجعي لم يدل ذلك على أن هذا هو الطلاق الرجعي دون غيره .
فالجواب : أن هذا أمر أضمر في الكلام مع استقلاله دونه بغير دليل ؛ لأنكم تضمرون الرجعي ، وتقولون : معناه : الطلاق الرجعي مرتان ، وإذا استقل الكلام دون ضمير لم يجز تعديها إلا بدليل .
وجواب ثان : وهو : أنه لو أراد الإخبار عما ذكرتم لقال : الطلاق طلقتان ؛ لأن ذلك يقتضي أنه الطلاق الرجعي أوقعهن مجتمعتين أو مفترقتين ، فلما قال : { مَرَّتَانِ } (4) - ولا يكون ذلك إلا لإيقاع الطلاق مفترقا-
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) سورة البقرة الآية 229

ثبت أنه قصد الإخبار عن صفة إيقاعه ، لا الإخبار عن عدد الرجعي منه .
فإن قالوا : إن لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به العدد دون تكرار الفعل ، يدل على ذلك قوله تعالى : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (1) ولم يرد في تفريق الأجر ، وإنما أراد تضعيف العدد .
فالجواب : أن قوله : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (2) حقيقة فيما ذكرناه من تكرار الفعل دون العدد ، ولا فرق في ذلك بين أن يعلق على فعل أو اسم ، يدل على ذلك أنك تقول : لقيت فلانا مرتين ، فيقتضي تكرار الفعل ، وكذلك قوله : دخلت مصر مرتين ، فإذا كان ذلك أصله وحقيقته ودل الدليل في بعض المواضع على العدول به عن حقيقته واستعماله في غير ما وضع له- لم يجز حمله على ذلك في موضع آخر إلا بدليل .
وجواب آخر : وهو أن الفضل قال : معنى { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (3) (مرة بعد مرة في الجنة) . فعلى هذا لم يخرج اللفظ عن بابه ، ولا عدل به عن حقيقته .
وإن قلنا : إن معناه : التضعيف في ماله وأجره : فالفرق بينهما : أن قوله تعالى : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (4) يفيد التضعيف ، ويمنع الاقتصار على ضعف واحد ، ولو كان معنى قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (5) يريد به : التضعيف ، لمنع من إيقاع طلقة واحدة ، وإلا بطل معنى التضعيف ، وهذا باطل باتفاقنا .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 31
(2) سورة الأحزاب الآية 31
(3) سورة الأحزاب الآية 31
(4) سورة الأحزاب الآية 31
(5) سورة البقرة الآية 229

ودليلنا من جهة السنة : ما روى مخرمة بن بكير عن أبيه قال : سمعت محمود بن لبيد قال : « أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقال : فعلته لاعبا ؟ ثم قال : تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ ! حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ، ألا أقتله » (1) ؟ !
ودليلنا من جهة القياس : أن هذا معنى ذو عدد يقتضي البينونة فوجب تحريمه كاللعان .
أما مذهب الحنابلة : فقد قال ابن قدامة : والرواية الثانية : أن جمع الثلاث طلاق بدعة محرم ، اختارها أبو بكر وأبو حفص ، روي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر ، وهو قول مالك وأبي حنيفة .
قال علي رضي الله عنه : لا يطلق أحد للسنة فيندم ، وفي رواية قال : يطلقها واحدة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاث حيض فمتى شاء راجعها . وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان إذا أتي برجل طلق ثلاثا أوجعه ضربا .
وعن مالك بن الحارث قال : جاء رجل إلى ابن عباس قال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا ، فقال : إن عمك عصى الله وأطاع الشيطان ، فلم يجعل الله له مخرجا .
ووجه ذلك : قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } (2) إلى قوله : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (3)
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3401).
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 1

ثم قال بعد ذلك : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } (2) ومن جمع الثلاث لم يبق له أمر يحدث ، ولا يجعل الله له مخرجا ، ولا من أمره يسرا ، وروى النسائي بإسناده عن محمود بن لبيد ، وقد سبق في استدلال المالكية ، وفي حديث ابن عمر قال : « قلت : يا رسول الله ، أرأيت لو طلقتها ثلاثا ؟ قال : إذا عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك » (3) .
وروى الدارقطني بإسناده ، عن علي قال : « سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب ، وقال : تتخذون آيات الله هزوا ، أو دين الله هزوا أو لعبا ، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا ، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره . »
ولأنه تحريم للبضع بقول الزوج من غير حاجة ، فحرم كالظهار ، بل هذا أولى ؛ لأن الظهار يرتفع تحريمه بالتكفير ، وهذا لا سبيل للزوج إلى رفعه بحال ، ولأنه ضرر وإضرار بنفسه وبامرأته من غير حاجة ، فيدخل في عموم النهي ، وربما كان وسيلة إلى عودة إليها حراما أو بحيلة لا تزيل التحريم ، ووقوع الندم ، وخسارة الدنيا والآخرة ، فكان أولى بالتحريم من الطلاق في الحيض الذي ضرره بقاؤها في العدة أياما يسيرة ، أو الطلاق في طهر مسها فيه ، الذي ضرره احتمال الندم بظهور الحمل ، فإن ضرر جمع
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 4
(3) سنن النسائي الطلاق (3557),مسند أحمد بن حنبل (2/6).

الثلاث يتضاعف على ذلك أضعافا كثيرة ، فالتحريم ثم تنبيه على التحريم هاهنا .
ولأنه قول من سمينا من الصحابة ، رواه الأثرم وغيره ، ولم يصح عندنا في عصرهم خلاف قولهم ، فيكون ذلك إجماعا (1) .
وقال شيخ الإسلام : وأما جمع (الطلقات الثلاث ) ففيه قولان :
القول الأول : محرم أيضا عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، واختاره أكثر أصحابه ، وقال أحمد : تدبرت القرآن ، فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي- يعني : طلاق المدخول بها- غير قوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (2)
وعلى هذا القول : فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بأن يفرق الطلاق على ثلاثة أطهار ، فيطلقها في كل طهر طلقة ؟
فيه قولان ، هما روايتان عن أحمد .
إحداهما : له ذلك ، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة .
والثانية : ليس له ذلك ، وهو قول أكثر السلف ، وهو مذهب مالك وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه ؟ كأبي بكر عبد العزيز ، والقاضي أبي يعلى وأصحابه .
__________
(1) [المغني مع الشرح الكبير] (8\240, 241)
(2) سورة البقرة الآية 230

القول الثاني : أن جمع الثلاث ليس بمحرم ، بل هو ترك الأفضل ، وهو مذهب الشافعي ، والرواية الأخرى عن أحمد : اختارها الخرقي .
واحتجوا : بأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة ثلاثا ، وبأن امرأة رفاعة طلقها زوجها ثلاثا ، وبأن الملاعن طلق امرأته ثلاثا ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك .
وأجاب الأكثرون : بأن حديث فاطمة ، وامرأة رفاعة ، إنما طلقاهما ثلاثا متفرقات ، هكذا ثبت في الصحيح : أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات ، لم يطلق ثلاثا لا هذا ولا هذا مجتمعات ، وقول الصحابي : طلق ثلاثا ، يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات بأن يطلقها ثم يراجعها ، ثم يطلقها ثم يراجعها ، ثم يطلقها ، وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة ، وهو المشهور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاثا ، وأما جمع الثلاث بكلمة ، فهذا كان منكرا عندهم ، إنما يقع قليلا ، فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق ، ولا يجوز أن يقال : يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا ، بل هذا قول بلا دليل ، بل هو بخلاف الدليل .
وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة ، أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة ، فكان مؤكدا لموجب اللعان ، والنزاع إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها ، لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما ، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها ، وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح ، والمعروف : أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا ، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها ، إذ لو وقعت لكانت قد حرمت

عليه حتى تنكح زوجا غيره .
وامتنع حينئذ أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ؛ لأنهما صارا أجنبيين ، ولكن غاية ما يمكن أن يقال : حرمها عليه تحريما مؤبدا ، فيقال : فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما ، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح ، وأن الثلاث لم تقع جميعا بخلاف ما إذا قيل : إنه يقع بها واحدة رجعية ، فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما .
وقول سهل بن سعد : طلقها ثلاثا ، فأنفذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه احتاج إلى إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم واختصاص الملاعن بذلك ، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أنه تحرم عليه أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مقصوده ، بل زاده ، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق ، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره ، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة .
واستدل الأكثرون : بأن القرآن العظيم يدل على أن الله لم يبح إلا الطلاق الرجعي ، وإلا الطلاق للعدة ، كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } (1) إلى قوله : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (2) { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (3) وهذا إنما يكون في الرجعي . وقوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (4)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 1

يدل على أنه لا يجوز إرداف الطلاق للطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها ؛ لأنه إنما أباح الطلاق للعدة : أي : لاستقبال العدة ، فمتى طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بنت على العدة ، ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين . فإن كان فيه خلاف شاذ عن خلاس وابن حزم فقد بينا فساده في موضع آخر ، فإن هذا قول ضعيف ؛ لأنهم كانوا في أول الإسلام إذا أراد الرجل إضرار امرأته طلقها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ليطيل حبسها ، فلو كان إذا لم يراجعها تستأنف العدة لم يكن بحاجة إلى أن يراجعها ، والله تعالى قصرهم على الطلاق الثلاث دفعا لهذا الضرر ، كما جاءت بذلك الآثار .
ودل على أنه كان مستقرا عند الله : أن العدة لا تستأنف بدون رجعة ، سواء كان ذلك ؛ لأن الطلاق لا يقع قبل الرجعة ، أو يقع ولا يستأنف له العدة ، وابن حزم إنما أوجب استئناف العدة بأن يكون الطلاق لاستقبال العدة . فلا يكون طلاق إلا يتعقبه عدة ، إذا كان بعد الدخول ، كما دل عليه القرآن ، فلزمه على ذلك هذا القول الفاسد ، وأما من أخذ بمقتضى القرآن وما دلت عليه الآثار فإنه يقول : إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه العدة ، وما كان صاحبه مخيرا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان ، وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة فلا يكون جائزا . فلم يكن ذلك طلاقا للعدة ، ولأنه تعالى قال : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (1) فخيره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضي العدة فيسرحها بإحسان ، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2

العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان .
وقد قال الله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } (1) فهذا يقتضي : أن هذا حال كل مطلقة ، فلم يشرع إلا هذا الطلاق ، ثم قال : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) أي : هذا الطلاق المذكور (مرتان) ، وإذا قيل : سبح مرتين أو ثلاث مرات : لم يجزه أن يقول : سبحان الله مرتين ، بل لا بد أن ينطق بالتسبيح مرة بعد مرة ، فكذلك لا يقال : طلق مرتين إلا إذا طلق مرة بعد مرة ، فإذا قال : أنت طالق ثلاثا أو مرتين لم يجز أن يقال : ثلاث مرات ولا مرتين ، وإن جاز أن يقال : طلق ثلاث تطليقات أو طلقتين ، ثم قال سبحانه بعد ذلك : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3) فهذه الطلقة الثالثة لم يشرعها الله إلا بعد الطلاق الرجعي مرتين . وقد قال الله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } (4) وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث ، وهو يعم كل طلاق ، فعلم أن جمع الثلاث ليس بمشروع . ودلائل تحريم الثلاث كثيرة قوية من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار ، كما هو مبسوط في موضعه .
وسبب ذلك أن ( الأصل في الطلاق الحظر) وإنما أبيح منه قدر الحاجة
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) سورة البقرة الآية 232

كما ثبت في [ الصحيح] عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن إبليس ينصب عرشه على البحر ، ويبعث سراياه ، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة ، فيأتيه الشيطان فيقول : ما زلت به حتى فعل كذا ، حتى يأتيه الشيطان فيقول : ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته ، فيدنيه منه ، ويقول : أنت أنت ويلتزمه » (1) .
وقد قال تعالى في ذم السحر : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } (2) وفي [السنن ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات » (3) . وفي [ السنن ] أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة » (4) . ولهذا لم يبح إلا ثلاث مرات ، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره ، وإذا كان إنما أبيح للحاجة ، فالحاجة تندفع بواحدة ، فما زاد فهو باق على الحظر . اهـ (5) .
وقال ابن القيم : فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة . قد تقدم حديث محمود بن لبيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا ، فقام مغضبا ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم » (6) وإسناده على شرط مسلم ، قال ابن وهب : قد رواه مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه . قال : سمعت محمود بن لبيد ، فذكره ، ومخرمة ثقة بلا شك . وقد احتج مسلم في [صحيحه] بحديثه عن أبيه .
والذين أعلوه ، قالوا : لم يسمع منه ، وإنما هو كتاب . قال أبو طالب :
__________
(1) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2813),مسند أحمد بن حنبل (3/315).
(2) سورة البقرة الآية 102
(3) سنن النسائي الطلاق (3461),مسند أحمد بن حنبل (2/414).
(4) سنن الترمذي الطلاق (1187),سنن أبو داود الطلاق (2226),سنن ابن ماجه الطلاق (2055),مسند أحمد بن حنبل (5/283),سنن الدارمي الطلاق (2270).
(5) [مجموع الفتاوى] (33\ 76-81)
(6) سنن النسائي الطلاق (3401).

سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بن بكير ، فقال : هو ثقة ولم يسمع من أبيه ، وإنما هو كتاب مخرمة ، فنظر فيه كل شيء يقول : (بلغني عن سليمان بن يسار ) فهو من كتاب مخرمة . وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : مخرمة بن بكير وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمعه ، وقال في رواية عباس الدوري : هو ضعيف ، وحديثه عن أبيه كتاب ولم يسمعه منه ، وقال أبو داود : لم يسمع من أبيه إلا حديثا واحدا حديث الوتر . وقال سعيد بن أبي مريم ، عن خاله موسى بن سلمة : أتيت مخرمة فقلت : حدثك أبوك ؟ فقال : لم أدرك أبي ، ولكن هذه كتبه .
والجواب عن هذا من وجهين :
أحدهما : أن كتاب أبيه كان عنده محفوظ مضبوط ، فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به ، أو رآه في كتابه ، بل الأخذ عن النسخة أحوط ، إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها .
وهذه طريقة الصحابة والسلف ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث بكتبه إلى الملوك ، وتقوم عليهم بها الحجة ، وكتب كتبه إلى عماله في بلاد الإسلام فعملوا بها ، واحتجوا بها ، ودفع الصديق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة إلى أنس بن مالك فحمله ، وعملت به الأمة . وكذلك كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات الذي كان عند آل عمرو ، ولم يزل السلف والخلف يحتجون بكتاب بعضهم إلى بعض ، ويقول المكتوب إليه : كتب إلي فلان : أن فلانا أخبره .
ولو بطل الاحتجاج بالكتب لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير ، فإن الاعتماد إنما هو على النسخ لا على الحفظ ، والحفظ خوان ، والنسخة ولا

تخون ، ولا يحفظ في زمن من الأزمان المتقدمة : أن أحدا من أهل العلم رد الاحتجاج بالكتاب ، وقال : لم يشافهني به الكاتب فلا أقبله ، بل كلهم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كاتبه .
الجواب الثاني : أن قول من قال : (لم يسمع من أبيه) معارض بقول من قال : (سمع منه) ومعه زيادة علم وإثبات . قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سئل أبي عن مخرمة بن بكير ؟ فقال : صالح الحديث . قال : وقال ابن أبي ذئب : وحدث في ظهر كتاب مالك : سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه ، فحلف لي : ورب هذه البنية- يعني : المسجد- سمعت من أبي .
وقال علي بن المديني : سمعت معن بن عيسى يقول : مخرمة سمع من أبيه ، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار ، وقال علي : ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان لعله سمع منه الشيء اليسير ، ولم أجد أحدا في المدينة ومخرمة يخبرني عن مخرمة بن بكير : أنه كان يقول في شيء من حديثه : (سمعت أبي) ومخرمة ثقة . . انتهى . ويكفي أن مالكا أخذ كتابه فنظر فيه واحتج به في [موطئه] وكان يقول : حدثني مخرمة ، وكان رجلا صالحا .
وقال أبو حاتم : سألت إسماعيل بن أبي أويس ، قلت : هذا الذي يقول مالك بن أنس : حدثني الثقة من هو ؟ قال : مخرمة بن بكير ، وقيل لأحمد بن صالح المصري : كان مخرمة من ثقات الرجال ؟ قال : نعم . وقال ابن عدي عن ابن وهب ومعن بن عيسى عن مخرمة : أحاديث حسان

مستقيمة ، وأرجو أنه لا بأس به .
وفي [صحيح مسلم ] قول ابن عمر للمطلق ثلاثا : حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك ، وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك ، وهذا تفسير منه للطلاق المأمور به ، وتفسير الصحابي حجة ، وقال الحاكم : هو عندنا مرفوع .
ومن تأمل القرآن حق التأمل تبين له ذلك وعرف أن الطلاق المشروع بعد الدخول ، هو الطلاق الذي تملك به الرجعة ، ولم يشرع الله سبحانه إيقاع الثلاث جملة واحدة البتة ، قال تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1)
ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وحمده ثلاثا وثلاثين ، وكبره ثلاثا وثلاثين » (2) ونظائره ، فإنه لا يعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبير وتحميد متوال ، يتلو بعضه بعضا ، فلو قال : سبحان الله ثلاثا وثلاثين ، والحمد لله ثلاثا وثلاثين ، والله أكبر ثلاثا وثلاثين- بهذا اللفظ- لكان ثلاث مرات فقط ، وأصرح من هذا قوله سبحانه : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ } (3) فلو قال : أشهد بالله أربع شهادات بالله ، إني لمن الصادقين ، كانت مرة ، وكذلك قوله : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } (4) فلو قالت :
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (597),سنن أبو داود الصلاة (1504),مسند أحمد بن حنبل (2/371),موطأ مالك النداء للصلاة (488).
(3) سورة النور الآية 6
(4) سورة النور الآية 8

أشهد بالله أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين كانت واحدة .
وأصرح من ذلك قوله تعالى : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } (1) فهذا مرة بعد مرة . ولا ينقض هذا بقوله تعالى : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (2) وقوله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين » (3) . فإن المرتين هنا : هما : الضعفان ، وهما المثلان ، وهما مثلان في القدر ، كقوله تعالى : { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } (4) وقوله تعالى : { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } (5) أي : ضعف ما يعذب به غيرها ، وضعف ما كانت تؤتي ، ومن هذا قول أنس : « انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين » (6) أي : شقتين وفرقتين ، كما قال في اللفظ الآخر : « انشق القمر فلقتين » (7) وهذا أمر معلوم قطعا : أنه إنما انشق القمر مرة واحدة ، والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان وبين ما يكون مثلين وجزءين ومرتين في المضاعفة ، فالثاني يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد ، والأول لا يتصور فيه ذلك .
ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة ، أنه قال : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (8) إلى أن قال : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } (9) فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول ، فالمطلق
__________
(1) سورة التوبة الآية 101
(2) سورة الأحزاب الآية 31
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2849),صحيح مسلم الإيمان (154),سنن الترمذي النكاح (1116),سنن النسائي النكاح (3344),سنن ابن ماجه النكاح (1956),مسند أحمد بن حنبل (4/405),سنن الدارمي النكاح (2244).
(4) سورة الأحزاب الآية 30
(5) سورة البقرة الآية 265
(6) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2802),سنن الترمذي تفسير القرآن (3286),مسند أحمد بن حنبل (3/275).
(7) صحيح البخاري تفسير القرآن (4583),صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2801),سنن الترمذي تفسير القرآن (3285),مسند أحمد بن حنبل (1/447).
(8) سورة البقرة الآية 228
(9) سورة البقرة الآية 228

أحق فيه بالرجعة ، سوى الثالثة المذكورة بعد هذا .
وكذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) إلى قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } (2) فهذا هو الطلاق المشروع ، وقد ذكر الله سبحانه أقسام الطلاق كلها في القرآن ، وذكر أحكامها فذكر الطلاق قبل الدخول وأنه لا عدة فيه ، وذكر الطلقة الثالثة وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجا غيره ، وذكر طلاق الفدا الذي هو الخلع ، وسماه : فدية ، ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم ، وذكر الطلاق الرجعي الذي يحق للمطلق فيه الرجعة ، وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة .
وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما ، على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة ، وأنه إذا قال لها : أنت طالق طلقة بائنة ، كانت رجعية ، ويلغو وصفها بالبينونة ، وأنه لا يملك إبانتها إلا بعوض ، وأما أبو حنيفة فقال : تبين بذلك ؛ لأن الرجعة حق له وقد أسقطها ، والجمهور يقولون : وإن كانت الرجعة حقا له لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه ، فلا يملك إسقاطه إلا باختيارها ، وبذلها العوض ، وسؤالها أن تفتدي نفسها بغير عوض في أحد القولين ، وهو جواز الخلع بغير عوض ، وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض- فخلاف النص والقياس .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 2

قالوا : وأيضا فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة ، فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد ، فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ويرجعها ، وهذا وإن كان فيه رفق بالرجل ففيه إضرار بالمرأة ، فنسخ سبحانه ذلك بثلاث ، وقصر الزوج عليها ، وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها ، فإذا استوفى العدد الذي ملكه حرمت عليه ، فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة ، وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث ، فهذا شرعه وحكمته وحدوده التي حدها لعباده ، فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها ، كان خلاف شرعه وحكمته ، وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة ، بل إنما ملك واحدة ، فالزائد عليها غير مأذون له فيه .
قالوا : وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة إذ هو خلاف ما شرعه ، لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة إذ هو خلاف ما شرعه .
ونكتة المسألة : أن الله لم يجعل للأمة طلاقا بائنا قط إلا في موضعين :
(أحدهما) : طلاق غير المدخول بها .
(والثاني) : الطلقة الثالثة ، وما عداه من الطلاق فقد جعل للزوج فيه الرجعة . هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره ، وهذا قول الجمهور ، منهم : الإمام أحمد والشافعي وأهل الظاهر .
قالوا : لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع ، ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال : أنت طالق طلقة لا رجعة فيها- وساقها رحمه الله-

هل هي ثلاث ، أو خلع بدون عوض ، أو واحدة بائنة ؟ (1) .
وقد أجاب ابن حزم رحمه الله في كتابه [المحلى] عن ذلك بقوله (2) : أما الآيات فإنما نزلت فيمن طلق واحدة أو اثنتين فقط ، ثم نسألهم عمن طلق مرة ، ثم راجع ، ثم مرة ، ثم راجع ثانية ، ثم ثالثة ، أببدعة أتى ؟ فمن قولهم : لا ، بل بسنة ، فنسألهم : أتحكمون له بما في الآيات المذكورات ؟ فمن قولهم : لا ، بلا خلاف .
فصح أن المقصود- في الآيات ، المذكورات- من أراد أن يطلق طلاقا رجعيا ، فبطل احتجاجهم بها في حكم من طلق ثلاثا .
وأما قولهم : معنى قوله : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) أن معناه : مرة بعد مرة ، فخطأ ، بل هذه الآية كقوله تعالى : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } (4) أي : مضاعفا معا ، وهذه الآية أيضا تصلح لما دون الثلاث من الطلاق ، وهو حجة لنا عليهم ؛ لأنهم لا يختلفون- يعني : المخالفين لنا- في أن طلاق السنة هو : أن يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تنقضي عدتها في قول طائفة منهم ، وفي قول آخرين منهم : أن يطلقها في كل طهر طلقة ، وليس شيء من هذا في هذه الآية ، وهم لا يرون من طلق طلقتين متتابعتين في كلام متصل : طلاق سنة ، فبطل تعلقهم بقوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (5)
__________
(1) [زاد المعاد] (4\100) وما بعدها .
(2) انظر [المحلى] لابن حزم (10\167 ، 168) .
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة الأحزاب الآية 31
(5) سورة البقرة الآية 229

وأما خبر محمود بن لبيد فمرسل ، ولا حجة في مرسل ، ومخرمة لم يسمع من أبيه شيئا .
ويعني ابن حزم بالإرسال : ما قرره الحافظ ابن حجر (1) ، وهو : أن محمود بن لبيد ، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له منه سماع وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية . . وقد ترجم له أحمد في [مسنده] وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع .
وقال الحافظ (2) : ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين فيمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقال : سمع من عمر ، وتوفي بالمدينة سنة ست وتسعين ، وكان ثقة قليل الحديث ، كما ذكر الحافظ : أن الترمذي قال فيه : (رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام صغير) .
وقال ابن أبي حاتم : قال البخاري : له صحبة ، فسخط أبي عليه ، وقال : لا يعرف له صحبة ، روى عن ابن عباس ، روى عنه عاصم بن عمر بن قتادة : سمعت أبي يقول ذلك . سئل أبو زرعة عن محمود بن لبيد ؟ فقال : روى عن ابن عباس ، وروى عنه الحارث بن فضيل ، مديني أنصاري ثقة ، وفي رواية مخرمة عن أبيه كلام كثير . اهـ (3)
__________
(1) انظر [فتح الباري] (9\ 97) .
(2) انظر [تهذيب التهذيب] (10\ 66) .
(3) انظر [الجرح والتعديل] للإمام الحافظ ابن أبي حاتم الرازي (8\290 ، 298) .

الثاني من قولي العلماء في الإقدام على جمع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة : أنه ليس بمحرم ولا بدعة ، بل سنة ، وهو قول الشافعي ، وأبي ثور ، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه ، وجماعة من أهل الظاهر ، كما في [زاد المعاد] ، ونكتفي بإيراد كلام الشافعي في [الأم] ، وابن حزم في [المحلى] .
قال الإمام الشافعي : ( الخلاف في الطلاق الثلاث ) :
عن مالك بن أنس ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن فاطمة بنت قيس ، « أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب بالشام فبعث إليها وكيله بشعير فسخطته ، فقال : والله ما لك علينا من شيء . فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : ليس لك عليه نفقة » (1) .
قال الشافعي رحمه الله : وأبو عمرو رضي الله عنهما طلق امرأته البتة وعلم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط نفقتها ؛ لأنه لا رجعة له عليها ، والبتة التي لا رجعة له عليها ثلاث ، ولم يعب النبي صلى الله عليه وسلم طلاق الثلاث ، وحكم فيما سواها من الطلاق بالنفقة والسكنى . فإن قال قائل : ما دل على أن البتة ثلاث فهو لو لم يكن سمى أبو عمرو رضي الله عنهما ثلاثا البتة ، أو نوى بالبتة ثلاثا ، كانت واحدة يملك الرجعة وعليه نفقتها .
ومن زعم أن البتة ثلاث بلا نية المطلق ، ولا تسمية ثلاث ، قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يعب الطلاق الذي هو ثلاث دليل على أن الطلاق بيد الزوج ، ما أبقى منه أبقى لنفسه ، وما أخرج منه من يده لزمه غير محرم
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1480),موطأ مالك الطلاق (1234).

عليه ، كما لا يحرم عليه أن يعتق رقبة ، وألا يخرج من ماله صدقة ، وقد يقال له : لو أبقيت ما تستغني به عن الناس كان خيرا لك .
فإن قال قائل : ما دل على أن أبا عمرو لا يعدو أن يكون سمى ثلاثا ، أو نوى بالبتة ثلاثا ؟ قلنا : الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع ، عن عبد الله بن علي بن السائب ، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد : أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني طلقت امرأتي سهيمة البتة ، والله ما أردت إلا واحدة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لركانة : « والله ما أردت إلا واحدة ؟ » (1) فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فطلقها الثانية في زمان عمر ، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنهما .
قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا مالك عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد ، أنه أخبره : « أنه تلاعن عويمر وامرأته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع الناس ، فلما فرغا من ملاعنتهما ، قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم . » (2) قال مالك : قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين .
قال الشافعي رحمه الله : فقد طلق عويمر ثلاثا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك محرما لنهاه عنه ، وقال : إن الطلاق وإن لزمك فأنت عاص بأن تجمع ثلاثا ، فافعل كذا ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يأمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، حين طلق امرأته حائضا ، أن يراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك ، فلا يقر النبي
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2206),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).
(2) صحيح البخاري الطلاق (4959),صحيح مسلم اللعان (1492),سنن أبو داود الطلاق (2245),موطأ مالك الطلاق (1201).

صلى الله عليه وسلم بطلاق لا يفعله أحد بين يديه ، إلا نهاه عنه ؛ لأنه العلم بين الحق والباطل ، لا باطل بين يديه إلا يغيره .
قال الشافعي : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول : أخبرني المطلب بن حنطب ، أنه طلق امرأته البتة ثم أتى عمر فذكر ذلك له ، فقال : ما حملك على ذلك ؟ قال : قد فعلته فتلا : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } (1) ما حملك على ذلك ؟ قال : قد فعلته قال : أمسك عليك امرأتك ، فإن الواحدة تبت .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سليمان بن يسار : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للتوءمة مثل ما قال للمطلب .
قال الشافعي : أخبرنا الثقة ، عن الليث بن سعد ، عن بكير عن سليمان :
أن رجلا من بني زريق طلق امرأته البتة ، قال عمر : ما أردت بذلك ؟ قال : أتراني أقيم على حرام والنساء كثير ؟ فأحلفه فحلف .
قال الشافعي رحمه الله : أراه قال ، فردها عليه . قال : وهذا الخبر في الحديث في الزرقي ، يدل على أن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمطلب : ما أردت بذلك ؟ يريد : أواحدة أو ثلاثا ؟ فلما أخبره أنه لم يرد به زيادة في عدد الطلاق ، وأنه قال : بلا نية زيادة ، ألزمه واحدة ، وهي أقل
__________
(1) سورة النساء الآية 66

الطلاق ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ } (1) لو طلق فلم يذكر البتة ، إذ كانت كلمة محدثة ليست في أصل الطلاق تحتمل صفة الطلاق وزيادة في عدده ، ومعنى غير ذلك ، فنهاه عن المشكل من القول ، ولم ينهه عن الطلاق ، ولم يعبه ولم يقل له : لو أردت ثلاثا كان مكروها عليك ، وهو لا يحلفه على ما أراد إلا ولو أراد أكثر من واحدة ألزمه ذلك .
أخبرنا الربيع : قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن ابن شهاب ، عن طلحة بن عبد الله بن عوف ، وكان أعلمهم بذلك ، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن : أن عبد الرحمن طلق امرأته البتة وهو مريض ، فورثها عثمان منه بعد انقضاء عدتها .
قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا عبد الوهاب ، عن أيوب ، عن ابن سيرين : أن امرأة عبد الرحمن نشدته الطلاق ، فقال : إذا حضت ثم طهرت فآذنيني ، فطهرت وهو مريض فآذنته ، فطلقها ثلاثا .
قال الشافعي رحمه الله : والبتة في حديث مالك بيان هذا الحديث ثلاثا ، لما وصفنا من أن يقول : طالق البتة ينوي ثلاثا ، وقد بينه ابن سيرين فقطع موضع الشك فيه .
أخبرنا الربيع ، قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس بن بكير ، قال : طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ، ثم بدا له أن ينكحها ،
__________
(1) سورة النساء الآية 66

فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له ، فسأل أبا هريرة ، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن ذلك ؟ فقالا : لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك . قال : إنما كان طلاقي إياها واحدة ، فقال ابن عباس : إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل .
قال الشافعي رحمه الله : وما عاب ابن عباس ولا أبو هريرة عليه أن يطلق ثلاثا ، ولو كان ذلك معيبا ، لقالا له : لزمك الطلاق وبئسما صنعت ، ثم سمى حين راجعه ، فما زاده ابن عباس على الذي هو عليه أن قال له : إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل ، ولم يقل : بئسما صنعت ، ولا حرجت في إرساله .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن بكير ، عن النعمان بن أبي عياش الأنصاري عن عطاء بن يسار ، قال : جاء رجل يستفتي عبد الله بن عمرو : عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها ، قال عطاء : فقلت : إنما طلاق البكر واحدة . فقال عبد الله بن عمرو : إنما أنت قاض ، الواحدة تبينها ، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره . ولم يقل له عبد الله : بئسما صنعت حين طلقت ثلاثا .
أخبرنا الربيع : قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد ، أن بكيرا أخبره عن النعمان بن أبي عياش أنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير ، وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال : إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ، فماذا تريان ؟ فقال ابن الزبير : إن هذا الأمر ما لنا فيه قول ، اذهب إلى ابن عباس

وأبي هريرة ، فإني تركتهما عند عائشة فسلهما ؟ ثم ائتنا فأخبرنا . فذهب فسألهما ؟ فقال ابن عباس لأبي هريرة : أفته يا أبا هريرة ، فقد جاءتك معضلة ، فقال أبو هريرة رضي الله عنه : الواحدة تبينها ، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره .
وقال ابن عباس مثيل ذلك ولم يعيبا عليه الثلاث ولا عائشة .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرني مالك عن ابن شهاب عن عروة : أن مولاة لبني عدي يقال لها : زيراء ، أخبرته أنها كانت تحت عبد وهي يومئذ أمة ، فعتقت ، فقالت : فأرسلت إلي حفصة فدعتني يومئذ ، فقالت : إني مخبرتك خبرا ولا أحب أن تصنعي شيئا ، إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك ، فقالت : ففارقته ثلاثا ، فلم تقل لها حفصة : لا يجوز لك أن تطلقي ثلاثا . ولو كان ذلك معيبا على الرجل ، إذا لكان ذلك معيبا عليها إذا كان بيدها فيه ما بيده .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن جهمان ، عن أم بكرة الأسلمية : أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن أسيد ، ثم أتيا عثمان في ذلك فقال : هي تطليقة ، إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت . فعثمان رضي الله عنه يخبره : أنه إن سمى أكثر من واحدة كان ما سمى ، ولا يقول له : لا ينبغي لك أن تسمي أكثر من واحدة ؟ بل في هذا القول دلالة على أنه جائز له أن يسمي أكثر من واحدة .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن عمر بن عبد العزيز

رضي الله عنه قال : البتة ما يقول الناس فيها ؟ فقال أبو بكر : فقلت له : كان أبان بن عثمان يجلعها واحدة ، فقال عمر : لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا ، من قال البتة فقد رمى الغاية القصوى .
قال الشافعي : ولم يحك عن واحد منهم على اختلافهم في البتة أنه عاب البتة ولا عاب ثلاثا .
قال الشافعي : قال مالك في المخيرة : إن خيرها زوجها فاختارت نفسها فقد طلقت ثلاثا ، وإن قال زوجها : لم أخيرك إلا في واحدة فليس له في ذلك قول ، وهذا أحسن ما سمعت .
قال الشافعي : فإذا كان مالك يزعم أن من مضى من سلف هذه الأمة قد خيروا ، وخير رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيار إذا ختارت المرأة نفسها يكون ثلاثا ، كان ينبغي بزعمهم أن الخيار لا يحل ؛ لأنها إذا اختارت كان ثلاثا ، وإذا زعم أن الخيار يحل وهي إذا اختارت نفسها طلقت ثلاثا فقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز طلاق ثلاث ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد ، أن سعيد بن جبير أخبره : أن رجلا أتى ابن عباس فقال : طلقت امرأتي مائة ، فقال ابن عباس رضي الله عنه : تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين .
قال الشافعي : أخبرنا سعيد ، عن ابن جريج : أن عطاء ومجاهدا قالا : إن رجلا أتى ابن عباس ، فقال : طلقت امرأتي مائة ، فقال ابن عباس : تأخذ

ثلاثا وتدع سبعا وتسعين .
أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن عطاء وحده ، عن ابن عباس أنه قال : وسبعا وتسعين عدوانا ، اتخذت بها آيات الله هزوا ، فعاب عليه ابن عباس كل ما زاد عن عدد الطلاق الذي لم يجعله الله إليه ولم يعب عليه ما جعل الله إليه من الثلاث ، وفي هذا دلالة على أنه يجوز له عنده أن يطلق ثلاثا ، ولا يجوز له ما لم يكن إليه . اهـ (1) .
المذهب الحنبلي
وأما المذهب الحنبلي : فقد قال ابن قدامة : اختلفت الرواية عن أحمد في جمع الثلاث ، فروي عنه أنه غير محرم اختاره الخرقي ، وهو مذهب الشافعي ، وأبي ثور وداود ، وروي ذلك عن الحسن بن علي وعبد الرحمن بن عوف ، والشعبي ؛ لأن عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته قال : « كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم » (2) متفق عليه . ولم ينقل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن عائشة : « أن امرأة رفاعة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن رفاعة طلقني فبت طلاقي » (3) متفق عليه ، وفي حديث فاطمة بنت قيس : أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات ، ولأنه طلاق جاز تفريقه فجاز جمعه كطلاق النساء (4)
__________
(1) [الأم] للإمام الشافعي (5\ 122- 124) .
(2) صحيح البخاري الطلاق (4959),صحيح مسلم اللعان (1492),سنن النسائي الطلاق (3402),سنن أبو داود الطلاق (2245),سنن ابن ماجه الطلاق (2066),موطأ مالك الطلاق (1201),سنن الدارمي النكاح (2229).
(3) صحيح البخاري الطلاق (4960),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن الترمذي النكاح (1118),سنن النسائي الطلاق (3409),سنن ابن ماجه النكاح (1932),مسند أحمد بن حنبل (6/226),سنن الدارمي الطلاق (2267).
(4) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] ، ( 8\ 240) .

وقد أجاب ابن قدامة عن أدلة القائلين بالإباحة جوابا إجماليا :
فقال : وأما حديث المتلاعنين فغير لازم ؛ لأن الفرقة لم تقع بالطلاق ، فإنها وقعت بمجرد لعان الزوج فلا حجة فيه .
ثم إن اللعان يوجب تحريما مؤبدا ، فالطلاق بعده كالطلاق بعد انفساخ النكاح بالرضاع أو غيره ، ولأن جمع الثلاث إنما حرم لما يعقبه من الندم ، ويحصل به من الضرر ويفوت عليه من حل نكاحها ، ولا يحصل ذلك بالطلاق بعد اللعان لحصوله باللعان .
وسائر الأحاديث لم يقع فيها جمع الثلاث بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مقرا عليه ، ولا حضر المطلق عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك لينكر عليه . على أن حديث فاطمة قد جاء فيه : أنه أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها ، وحديث امرأة رفاعة جاء فيه أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات ، متفق عليه ، فلم يكن في شيء من ذلك جمع الثلاث . ولا خلاف بين الجميع في أن الاختيار والأولى أن يطلقها في كل قرء طلقة ، والأولى أولى ، فإن في ذلك امتثالا لأمر الله سبحانه ، وموافقة لقول السلف ، وأمنا من الندم ، فإنه متى ندم راجعها فإن فاته ذلك بانقضاء عدتها فله نكاحها . (1)
وقال ابن حزم : وجدنا من حجة من قال : إن الطلاق الثلاث مجموعة سنة لا بدعة ، قول الله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (2)
__________
(1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (8\ 242) .
(2) سورة البقرة الآية 230

فهذا يقع على الثلاث مجموعة ومفرقة ، ولا يجوز أن يخص بهذه الآية بعض ذلك دون بعض بغير نص .
وكذلك قوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } (1) عموم لإباحة الثلاث والاثنتين والواحدة . وقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } (2) فلم يخص تعالى مطلقة واحدة من مطلقة اثنتين ومن مطلقة ثلاثا .
ووجدنا ما رويناه من طريق مالك ، عن ابن شهاب : أن سهل بن سعد الساعدي أخبره عن حديث التعان عويمر العجلاني مع امرأته ، وفي آخره أنه قال : (كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها) فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال أبو محمد : لو كانت طلاق الثلاث مجموعة معصية لله تعالى ، لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيان ذلك فصح يقينا أنها سنة مباحة .
وقال بعض أصحابنا : لا يخلو من أن يكون طلقها وهي امرأته ، أو طلقها وقد حرمت عليه ووجب التفريق بينهما ، فإن كان طلقها وهي
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 49
(2) سورة البقرة الآية 241

امرأته ، فليس هذا قولكم ؛ لأن قولكم إنها بتمام اللعان تبين عنه إلى الأبد ، وإن كان طلقها أجنبية فإنما نحن فيمن طلق امرأته لا فيمن طلق أجنبية . فقلنا : إنما طلقها وهو يقدر أنها امرأته هذا ما لا يشك فيه أحد ، فلو كان ذلك معصية لسبقكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الاعتراض ، فإنما حجتنا كلها في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار على من طلق ثلاثا مجموعة امرأة يظنها امرأته : ولا يشك أنها في عصمته فقط . فإن قالوا : ليس كل مسكوت عن ذكره في الأخبار يكون ترك ذكره حجة . فقلنا : نعم ، هو حجة لازمة إلا أن يوجد بيان في خبر آخر لم يذكر في هذا الخبر ، فحينئذ لا يكون السكوت عنه في خبر آخر حجة .
ومن طريق البخاري ، نا محمد بن بشار ، نا يحيى هو ابن سعيد القطان ، عن عبيد الله بن عمر ، نا القاسم بن محمد بن أبي بكر ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : « إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلق ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحل للأول ؟ قال : لا ، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول » (1) فلم ينكر عليه الصلاة والسلام هذا السؤال ، ولو كان لا يجوز لأخبر بذلك . وخبر فاطمة بنت قيس المشهور رويناه من طريق يحيى بن أبي كثير ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن : « أن فاطمة بنت قيس أخبرته : أن زوجها ابن حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ، ثم انطلق إلى اليمن فانطلق خالد بن الوليد في نفر ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين ، فقالوا : إن ابن حفص طلق امرأته ثلاثا ، فهل لها من نفقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لها نفقة وعليها العدة » (2) وذكر باقي الخبر .
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (4961),صحيح مسلم النكاح (1433),سنن ابن ماجه النكاح (1932),مسند أحمد بن حنبل (6/226),سنن الدارمي الطلاق (2267).
(2) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن النسائي الطلاق (3405),سنن أبو داود الطلاق (2290),مسند أحمد بن حنبل (6/373),سنن الدارمي النكاح (2177).

ومن طريق مسلم ، نا محمد بن المثنى ، نا حفص بن غياث ، نا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن فاطمة بنت قيس قالت : « قلت : يا رسول الله ، إن زوجي طلقني ثلاثا وأنا أخاف أن يقتحم علي ، قال : فأمرها فتحولت » (1) . ومن طريق مسلم ، نا محمد بن المثنى ، نا عبد الرحمن بن مهدي ، نا سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس ، « عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا قال : ليس لها سكنى ولا نفقة » (2) .
فهذا نقل تواتر عن فاطمة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها هي ونفر سواها بأن زوجها طلقها ثلاثا (3) ، وبأنه عليه الصلاة والسلام حكم في المطلقة ثلاثا ، ولم ينكر عليه الصلاة والسلام ذلك ، ولا أخبر بأنه ليس بسنة ، وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه .
فإن قيل : إن الزهري روى عن أبي سلمة هذا الخبر ، فقال فيه : أنها ذكرت أنه طلقها آخر ثلاث طلقات ، وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها فذكر الخبر وفيه : فأرسل مروان إليها قبيصة بن ذؤيب فحدثته ، وذكر باقي الخبر .
قلنا : نعم ، هكذا رواه الزهري ، فأما روايته من طريق عبيد الله بن عبد الله فمنقطعة ، لم يذكر عبيد الله ذلك عنها ولا عن قبيصة عنها ، إنما قال : إن فاطمة طلقها زوجها ، وإن مروان بعث إليها قبيصة فحدثته . وأما خبره عن أبي سلمة فمتصل ، إلا أن كلا الخبرين ليس فيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1482),سنن النسائي الطلاق (3547),سنن ابن ماجه الطلاق (2033).
(2) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن النسائي الطلاق (3404),سنن أبو داود الطلاق (2290),مسند أحمد بن حنبل (6/373).
(3) كذا في الأصل المنقول عنه .

هي ولا غيرها بذلك ، إنما السند الصحيح الذي فيه أنه عليه الصلاة والسلام سأل عن كمية طلاقها ؟ وأنها أخبرته ، فهي التي قدمنا أولا ، وعلى ذلك الإجمال جاء حكمه عليه الصلاة والسلام ، وكذلك كل لفظ روي به خبر فاطمة من (أبت طلاقها) و (طلقها البتة) و (طلقها طلاقا باتا) و (طلاقا بائنا) فليس في شيء منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه أصلا فسقط كل ذلك وثبت حكمه عليه الصلاة والسلام على ما صح أنه أخبر به من أنه طلقها ثلاثا فقط .
وأما الصحابة رضي الله عنهم فإن الثابت عن عمر رضي الله عنه الذي لا يثبت عنه غيره ، ما رويناه من طريق عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، نا زيد بن وهب : أنه رفع إلى عمر بن الخطاب برجل طلق امرأته ألفا ، فقال له عمر : أطلقت امرأتك ؟ فقال : إنما كنت ألعب ، فعلاه عمر بالدرة وقال : إنما يكفيك من ذلك ثلاث . فإنما ضربه عمر على الزيادة على الثلاث ، وأحسن عمر في ذلك ، وأعلمه أن الثلاث تكفي ولم ينكرها .
ومن طريق وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : إني طلقت امرأتي ألفا . فقال له علي : بانت منك بثلاث ، واقسم سائرهن بين نسائك . . فلم ينكر جمع الثلاث .
ومن طريق وكيع ، عن جعفر بن برقان ، عن معاوية بن أبي يحيى قال : جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال : طلقت امرأتي ألفا ، فقال : بانت منك بثلاث : . . فلم ينكر الثلاث .

ومن طريق عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : طلقت امرأتي ألفا . فقال له ابن عباس : ثلاث تحرمها عليك ، وبقيتها عليك وزرا ، اتخذت آيات الله هزوا . فلم ينكر الثلاث ، وأنكر ما زاد ، والذي جاء عنه من قوله لمن طلق ثلاثا ثم ندم : لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا ، وهو على ظاهره ، نعم ، إن اتقى الله جعل له مخرجا ، وليس فيه أن طلاقه الثلاث معصية .
ومن طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين . فقال له ابن مسعود : ثلاث تبينها ، وسائرها عدوان .
وهذا خبران في غاية الصحة ، لم ينكر ابن مسعود وابن عباس الثلاث مجموعة أصلا ، وإنما أنكر الزيادة على الثلاث .
ومن طريق أحمد بن شعيب ، أنا عمرو بن علي ، نا يحيى بن سعيد القطان ، عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : طلاق السنة : أن يطلقها طاهرا من غير جماع ، وهذا في غاية الصحة عن ابن مسعود ، فلم يخص طلقة من طلقتين من ثلاث .
فإن قيل : قد روى الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود ، وفيه : فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى ، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى .

قلنا : نعم ، هذا أيضا سنة ، وليس فيه أن ما عدا ذلك حرام وبدعة . فإن قيل : قد رويتم من طريق حماد بن زيد ، نا يحيى بن عتيق ، عن محمد بن سيرين قال : قال علي بن أبي طالب : لو أن الناس أخذوا بأمر الله تعالى في الطلاق ما يبيح رجل نفسه في امرأة أبدا يبدأ فيطلقها تطليقة ثم يتربص ما بينها وبين أن تنقضي عدتها فمتى شاء راجعها .
قلنا : هذا منقطع عنه ؛ لأن ابن سيرين لم يسمع من علي كلمة ، ثم ليس فيه أيضا أن ما عدا ذلك معصية ولا بدعة لا يعلم عن الصحابة رضي الله عنهم غير ما ذكرنا . وأما التابعون فروينا من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : قال رجل لشريح القاضي : طلقت امرأتي مائة . فقال : بانت منك بثلاث ، وسبع وتسعون إسراف ومعصية .
فلم ينكر شريح الثلاث ، وإنما جعل الإسراف والمعصية ما زاد على الثلاث . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : طلاق العدة أن يطلقها إذا طهرت من الحيضة بغير جماع .
قال أبو محمد : فلم يخص واحدة من ثلاث من اثنتين ، لا يعلم عن أحد من التابعين أن الثلاث معصية صرح بذلك إلا الحسن ، والقول بأن الثلاث سنة هو قول الشافعي وأبي ذر وأصحابهما (1) .
وقال ابن أبي شيبة (2) : ( من رخص للرجل أن يطلق ثلاثا في مجلس ) .
__________
(1) انظر [المحلى] (10\ 170-173)
(2) انظر [مصنف ابن أبي شيبة] (5\ 11) .

حدثنا أبو أسامة ، عن هشام قال : سئل محمد عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا في مقعد واحد . قال : لا أعلم بذلك بأسا ، قد طلق عبد الرحمن بن عوف امرأته ثلاثا فلم يعب عليه ذلك .
حدثنا أبو أسامة ، عن ابن عون عن محمد قال : كان لا يرى بذلك بأسا . حدثنا غندر عن شعبة ، عن عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، في رجل أراد أن تبين منه امرأته ، قال : يطلقها ثلاثا .

المسألة الثانية : ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد وفي ذلك مذاهب :
المذهب الأول : أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا .
ذكر من قال بهذا القول :
1 - قال الكاساني : وأما حكم طلاق البدعة (1) : فهو أنه واقع عند عامة العلماء ، وقد ذكر هذا بعد سياقه للألفاظ التي يقع بها طلاق البدعة ، وذكر منها : الثلاث بلفظ واحد .
2 - قال ابن الهمام : وذهب جمهور الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلى أنه يقع ثلاثا (2)
__________
(1) [بدائع الصنائع] (3\ 96) .
(2) [فتح القدير] (3\ 25) .

3 - قال الطحاوي بعد سياقه لأدلة وقوعها ثلاثا : فهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمة الله عليهم أجمعين (1) 4 - قال سحنون بن سعيد التنوخي : قلت : أرأيت إن طلقها ثلاثا وهي حامل في مجلس واحد أو مجالس شتى ، أيلزمه ذلك أم لا ؟ قال : قال مالك : يلزمه ذلك (2) 5 - قال الحطاب : (تنبيه) قال أبو الحسن في شرح كلام [المدونة] المتقدم صورته : أن يقول لها : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق في مجلس واحد ، فإن كان على غير هذه الصفة كما إذا قال : أنت طالق ثلاثا في كلمة واحدة ، فقال عبد الحميد الصائغ : ثلاث تطليقات في كلمة أشد منه في ثلاثة مجالس ، وفي ثلاثة مجالس أشد منه في ثلاثة أطهار ، وكلما طلق يلزمه . . . انتهى (3) .
6 - قال الباجي : إذا ثبت ذلك- أي : كلامه على تحريم إيقاع الثلاث بلفظ واحد- فمن أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث ، وبه قال جماعة الفقهاء (4) .
7 - قال القرطبي : قال علماؤنا : واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ، وهو قول جمهور
__________
(1) [شرح معاني الآثار] (3\ 59) .
(2) [المدونة] (2\ 68) .
(3) [مواهب الجليل] (4\ 39) .
(4) [المنتقى] (4\ 3) .

السلف (1) .
8 - قد سبق أدلة كثيرة عن الإمام الشافعي رحمه الله في الكلام على المسألة الأولى ، وأنه يوقعها ثلاثا .
9 - قال الشيرازي : وإن قال لغير المدخول بها : أنت طالق ثلاثا وقع الثلاث ؛ لأن الجميع صادف الزوجية فوقع الجميع ، كما لو قال ذلك للمدخول بها (2)
10 - قال ابن قدامة : وإن طلق ثلاثا بكلمة واحدة وقع الثلاث وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده ، روي ذلك عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وابن مسعود ، وأنس ، وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين ، والأئمة بعدهم (3)
11 - قال المرداوي : وإن طلقها ثلاثا مجموعة قبل رجعة مرة واحدة طلقت ثلاثا ، وإن لم ينوها على الصحيح من المذهب ، نص عليه مرارا ، وعليه الأصحاب ، بل الأئمة الأربعة رحمهم الله وأصحابهم في الجملة (4) .
12 - قال شيخ الإسلام في أثناء الكلام على بيان المذاهب في ذلك :
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\ 129) .
(2) [المهذب] (2\ 84) .
(3) [المغني] (8\ 243) .
(4) [الإنصاف] (8\ 453) .

الثاني : أنه طلاق محرم لازم ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه ، اختارها أكثر أصحابه ، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين (1)
13 - قال ابن القيم : فاختلف الناس فيها- أي : وقوع الثلاث بكلمة واحدة- على أربعة مذاهب :
أحدها : أنه يقع ، وهذا قول الأئمة الأربعة ، وجمهور التابعين وكثير من الصحابة (2)
14 - قال يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الهادي : الفصل الأول في أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثا : هذا هو الصحيح من المذهب ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره كما سيأتي ، وهذا القول مجزوم به في أكثر كتب أصحاب الإمام أحمد ، كالخرقي ، و[المقنع] و[المحرر] و[الهداية] وغيرهم ، من كتب أصحاب الإمام أحمد ولا يعدل عنه .
قال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس : (كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة) بأي شيء تدفعه ؟ فقال : برواية الناس عن ابن عباس : أنها ثلاث ، وقدمه في [الفروع] وجزم به في [المغني] ، وأكثرهم لم يحك غيره ، والله أعلم بالصواب (3)
15 - قال أيضا : الفصل الثاني فيمن قال بهذا القول ومن أفتى به :
قال به ابن عباس غير مرة ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وعثمان ،
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (33\ 8) .
(2) [زاد المعاد] (4\ 104) .
(3) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 70 .

وعلي ، وابن مسعود ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وبه قال أحمد ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، ومالك ، وأنس (1) ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، وقال به من أصحابنا الخرقي ، والقاضي وأبو بكر ، وابن حامد ، وابن عقيل ، وأبو الخطاب ، والشيرازي ، والشيخ موفق الدين ، والشيخ مجد الدين - وليس مطلقا كما سيأتي- والشريف ، حتى أكثر أصحاب الإمام أحمد على هذا القول .
وفي إجماع ابن المنذر ما يدل على أنه إجماع ليس بصريح فيه .
وهذا القول اختاره ابن رجب . وقد صنف ردا على من قال بخلافه . والله أعلم بالصواب (2)
16 - قال ابن عبد الهادي : قال ابن رجب : اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام- شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سبق بلفظ واحد (3)
17 - وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : وعلى هذا القول- أي : اعتبارها ثلاثا- جل الصحابة وأكثر العلماء منهم الأئمة الأربعة . اهـ (4)
__________
(1) هكذا في الأصل ، ولعل الصواب : مالك بن أنس .
(2) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 70 .
(3) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 77 .
(4) [أضواء البيان] (1\ 176) .

وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والآثار والقياس .
أما الكتاب :
فأولا : قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (1)
قال أبو بكر الرازي تحت عنوان : (ذكر الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا) قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) الآية يدل على وقوع الثلاث معا مع كونه منهيا عنه ؛ وذلك لأن قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (3) قد أبان عن حكمة إذا أوقع اثنتين بأن يقول : أنت طالق ، أنت طالق ، في طهر واحد ، وقد بينا أن ذلك خلاف السنة ، فإذا كان في مضمون الآية الحكم بجواز وقوع الاثنتين على هذا الوجه دل ذلك على صحة وقوعهما لو أوقعهما معا ؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما .
وفيها الدلالة عليه من وجه آخر وهو قوله تعالى : { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (4) فحكم بتحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار ، فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أي وجه أوقعه من مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور .
فإن قيل : قد دللت في معنى الآية : أن المراد بها : بيان المندوب إليه والمأمور به من الطلاق وإيقاع الطلاق الثلاث معا خلاف المسنون عندك ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 230

فكيف تحتج بها في إيقاعها على غير الوجه المباح والآية لم تتضمنهما على هذا الوجه ؟
قيل له : قد دلت الآية على هذه المعاني كلها من إيقاع الاثنتين والثلاث لغير السنة ، وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في الأطهار ، وليس يمتنع أن يكون مراد الآية جميع ذلك . ألا ترى أنه لو قال : طلقوا ثلاثا في الأطهار ، وإن طلقتم جميعا معا وقعن ، كان جائزا ، وإذا لم يتناف المعنيان واحتملتهما الآية وجب حملها عليهما .
فإن قيل : معنى هذه الآية محمول على ما بينه بقوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) وقد بين الشارع الطلاق للعدة ؛ وهو أن يطلقها في ثلاثة أطهار إن أراد إيقاع الثلاث ، ومتى خالف ذلك لم يقع طلاقه .
قيل له : نستعمل الآيتين على ما تقتضيانه من أحكامهما ، فنقول : إن المندوب إليه والمأمور به هو الطلاق للعدة على ما بينه في هذه الآية ، وإن طلق لغير العدة وجمع الثلاث وقعن لما اقتضته الآية الأخرى ، وهي قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) وقوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } (3) إذ ليس في قوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ } (4) نفي لما اقتضته هذه الآية الأخرى ، على أن في فحوى الآية التي فيها ذكر الطلاق للعدة دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة ، وهو قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (5)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) سورة الطلاق الآية 1
(5) سورة الطلاق الآية 1

إلى قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } (1) فلولا أنه إذا طلق لغير العدة وقع ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه ، ولا كان ظالما لنفسه بطلاقه .
وفي هذه الآية دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة ، ويدل عليه قوله تعالى في نسق الخطاب : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (2) يعني- والله أعلم- أنه إذا وقع الطلاق على ما أمره الله كان له مخرجا مما أوقع إن لحقه ندم وهو الرجعة ، وعلى هذا المعنى تأوله ابن عباس حين قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا : إن الله تعالى يقول : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (3) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا ، عصيت ربك وبانت منك امرأتك ؛ ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم رجل طلق امرأته .
فإن قيل : لما كان عاصيا في إيقاع الثلاث معا لم يقع ، إذ ليس هو الطلاق المأمور به ، كما لو وكل رجل رجلا بأن يطلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار لم يقع إذا جمعهن في طهر واحد .
قيل له : أما كونه عاصيا في الطلاق فغير مانع صحة وقوعه لما دللنا عليه فيما سلف ، ومع ذلك فإن الله جعل الظهار منكرا من القول وزورا ، وحكم مع ذلك بصحة وقوعه ، فكونه عاصيا لا يمنع لزوم حكمه والإنسان عاص لله في ردته عن الإسلام ، ولم يمنع عصيانه من لزوم حكمه وفراق امرأته ،
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 2

وقد نهاه الله من مراجعتها ضرارا بقوله تعالى : { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } (1) فلو راجعها وهو يريد ضرارها لثبت حكمها وصحت رجعته .
وأما الفرق بينه وبين الوكيل فهو : أن الوكيل إنما يطلق لغيره وعنه يعبر ، وليس يطلق لنفسه ولا يملك ما يوقعه . ألا ترى أنه لا يتعلق به شيء من حقوق الطلاق وأحكامه ، فلما لم يكن مالكا لما يوقعه ، وإنما يصح إيقاعه لغيره من جهة الأمر إذ كانت أحكامه تتعلق بالأمر دونه لم يقع متى خالف الأمر ، وأما الزوج فهو مالك الطلاق وبه تتعلق أحكامه وليس يوقع لغيره فوجب أن يقع من حيث كان مالكا للثلاث وارتكاب النهي في طلاقه غير مانع وقوعه كما وصفنا في الظهار والرجعة والردة وسائر ما يكون به عاصيا ، ألا ترى أنه لو وطأ أم امرأته بشبهة حرمت عليه امرأته ، وهذا المعنى الذي ذكرناه من حكم الزوج في ملكه للثلاث من الوجوه التي ذكرنا يدل على أنه إذا أوقعهن معا وقع إذ هو موقع لما ملك . اهـ .
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (2) ترجم البخاري على هذه الآية باب من أجاز الطلاق الثلاث لقوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (3) وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم فمن ضيق على نفسه لزمه (4) اهـ .
__________
(1) سورة البقرة الآية 231
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) انظر [تفسير القرطبي] (3\ 128) .

وقال العيني : وجه الاستدلال به أن قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) معناه : مرة بعد مرة ، فإذا جاز الجمع بين اثنتين جاز بين الثلاث وأحسن منه أن يقال : إن قوله تعالى : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) عام متناول لإيقاع الثلاث دفعة واحدة . وقال ابن أبي حاتم : أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة عليه ، أنا ابن وهب ، أخبرني سفيان الثوري ، حدثني إسماعيل بن سميع ، سمعت أبا رزين يقول : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت قول الله عز وجل : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (3) أين الثالثة ؟ قال : (التسريح بالإحسان) . » هذا إسناده صحيح ، ولكنه مرسل ، ورواه ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مرسلا قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم ، حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا عبيد الله بن جرير بن خالد ، حدثنا ابن عائشة ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ذكر الله الطلاق مرتين ، فأين الثالثة ؟ قال : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (4) » . اهـ (5) .
وقد سبقت مناقشة ابن القيم لهذه الآية ، وبين أنها دليل على عدم وقوع الثلاث ، وذلك عند الكلام عليها في المسألة الأولى .
وقال الشيخ جمال الدين الإمام ردا على الاستدلال بقوله تعالى :
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 229
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) انظر : [عمدة القاري] (9\538) .

{ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (1) وبين أنها لا تدل على وقوع الثلاث ، قال (2) : فصل : ومما يبين ويوضح بطلان تركيبهم شرعا ولغة في الطلاق الثلاث وغيره : أن لفظ التعدد فيه منصوب نصب المصدر ، فإن تقدير الكلام : طلقتك طلاقا ، ومعنى المصدر في الكلام : طلقتك تطليقات ثلاث ، ومعنى المصدر في الكلام : إنما هو حكاية حال الفعل في صدوره عن الفاعل .
والفعل له حالتان في صدوره عن الفاعل : حالة يكون فيها خبرا عما صدر وقوعه من الفاعل في الماضي ، وحالة يكون فيها أداة لما يستعمل فيه من إنشاء العقود والفسوخ استعارة أو اشتراكا ، فإذا أريد به الحكاية والخبر عن الماضي ، فإن أريد به إخبار عن حقيقة الفعل ونفي المجاز عنه اتبع بالمصدر مطلقا .
وأما إذا استعمل الماضي في إنشاء عقد أو فسخ سواء قيل : إنه على وجه الاستعارة أو الاشتراك فإن أريد حقيقة العقد أو الفسخ اتبع المصدر مطلقا مثل : طلقتها تطليقا ، وأما إن تعدد العقد أو الفسخ بلفظ واحد في مرة واحدة بمنزلة تعدده بالتكرار مرة بعد مرة وأتبع بالعدد وحده ، أو مضافا إلى المصدر المجموع ، مثل طلقتك ثلاثا وقصد به التعدد ، أو قال في اللعان أشهد بالله خمسا ، أو خمس شهادات ، أو قال في القسامة : أقسم بالله خمسين يمينا أو قال بعد الصلاة : (سبحان الله) مرة ثم قال : (ثلاثا وثلاثين) وكذا (الحمد لله) ، وكذا (الله أكبر) وكذا لو قال في اليوم مرة واحدة (سبحان الله وبحمده) وأتبعها (مائة مرة) لم يكن بتكراره في الأيام
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) بواسطة [سير الحاث] لابن عبد الهادي ، ص (93 ، 94) .

والأوقات والعدد ، فأما غير الطلاق فلا خلاف فيه ، وأما الطلاق فوقع الغلط فيه من بعد الصحابة .
ثانيا : قال النووي : واحتج الجمهور بقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (1)
قالوا : معناه : أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه ؛ لوقوع البينونة ، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه إلا رجعيا فلا يندم (2) .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : ومما يؤيد هذا الاستدلال القرآني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عن طريق مجاهد قال : كنت عند ابن عباس ، فجاءه رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا ، فسكت ، حتى ظننت أنه سيردها إليه . فقال : ينطق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول : يا ابن عباس ، الله قال : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (3) وإنك لم تتق الله ، فلا أجد لك مخرجا ، عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك .
وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه ، وهذا تفسير من ابن عباس للآية بأنها يدخل في معناها (ومن يتق الله) ولم يجمع الطلاق في لفظة واحدة يجعل له مخرجا بالرجعة ، ومن لم يتقه في ذلك بأن جمع الطلقات في لفظ واحد لم يجعل له مخرجا لوقوع البينونة بها مجتمعة ، هذا هو معنى كلامه الذي لا يحتمل غيره ، وهو قوي جدا في محل النزاع ؛ لأنه
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) [صحيح مسلم بشرح النووي] (10\70 ، 71) .
(3) سورة الطلاق الآية 2

مفسر به قرآنا ، وهو ترجمان القرآن ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : « اللهم علمه التأويل » (1) (2) .
ثالثا : قال ابن عبد الهادي نقلا عن ابن رجب : قوله في سياق آيات : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } (3)
قال الحسن : كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يطلق ويقول : كنت لاعبا ، ويعتق ويقول : كنت لاعبا ، ويزوج ابنه ويقول : كنت لاعبا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث من قالهن لاعبا جائزات عليهم : العتاق ، والطلاق ، والنكاح » فأنزل الله : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } (4)
وقال ابن عبد الهادي ردا على ابن رجب في استدلاله بالآيات التي سبقت (5) : وأما استدلاله بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (6) إلى قوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (7) قال : فليس بمسلم ؛ لأن في حديث ركانة لما قال له : " راجعها " تلا هذه الآية ، فهذه الآية دليل لنا لا لكم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى له بهذا استدل بالآية ، فلو كان فيها دليل عليه لم يستدل بها ، واستدلاله بالآية بقول ابن عباس ، فإن ابن عباس قد صح عنه أنه كان يفتي بهذا القول- أي : واحدة ، كما تقدم- فليس لكم في الآية دليل .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/266).
(2) [أضواء البيان] (1\ 175 ، 176) .
(3) سورة البقرة الآية 231
(4) سورة البقرة الآية 231
(5) [سير الحاث] ص 89 ، 90 .
(6) سورة الطلاق الآية 1
(7) سورة الطلاق الآية 2

وأما استدلاله بقوله تعالى : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } (1) - واستدلاله بالحديث- أي : حديث الحسن وقد مضى مع الآية- فالآية والحديث ليس فيهما دليل له ؛ لأنه لم يثبت طلاق الثلاث بالكلية ، وإنما كان يطلق ويقول : كنت لاعبا فنزلت هذه الآية ، إن الطلاق لا لعب فيه فليس في هذا دليل .
وأما استدلاله بالآية الأخرى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2) فليس فيها دليل أيضا ؛ لأن الطلاق هنا لم يذكر أنه بلفظة واحدة ، بل الآية فيها إذا أتى بالطلاق مرة بعد أخرى ، وليس في الآيات دليل له ، بل كلها دليل عليه .
وأما السنة : فقد استدلوا بالأدلة الآتية :
الدليل الأول : ما ثبت في [الصحيحين] (3) في قصة لعان عويمر وزوجته وفيه : « فلما فرغا قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله ، إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، » (4) قال ابن شهاب : فكانت سنة المتلاعنين . متفق عليه .
قال النووي (5) : واستدل به أصحابنا على أن جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ليس حراما ، وموضع الدلالة أنه لم ينكر عليه إطلاق لفظ
__________
(1) سورة البقرة الآية 231
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) [فتح الباري] (9\ 391) و [صحيح مسلم بشرح النووي] (10\ 123) .
(4) صحيح البخاري الطلاق (4959),صحيح مسلم اللعان (1492),سنن النسائي الطلاق (3402),سنن أبو داود الطلاق (2245),سنن ابن ماجه الطلاق (2066),مسند أحمد بن حنبل (5/331),موطأ مالك الطلاق (1201),سنن الدارمي النكاح (2229).
(5) [صحيح مسلم بشرح النووي] (10\ 122) ، ويرجع أيضا إلى [الفتح] (9\ 367) .

الثلاث .
وقد يعترض على هذا فيقال : إنما لم ينكره عليه ؛ لأنه لم يصادف الطلاق محلا مملوكا له ولا نفوذا .
ويجاب عن هذا الاعتراض : بأنه لو كان الثلاث محرما لأنكر عليه ، وقال له : كيف ترسل لفظ الطلاق الثلاث مع أنه حرام ، والله أعلم .
وقال ابن نافع من أصحاب مالك : إنما طلقها ثلاثا بعد اللعان ؛ لأنه يستحب إظهار الطلاق بعد اللعان ، مع أنه قد حصلت الفرقة بنفس اللعان ، وهذا فاسد ، وكيف يستحب للإنسان أن يطلق من صارت أجنبية .
وقال محمد بن أبي صفرة المالكي : لا تحصل الفرقة بنفس اللعان ، واحتج بطلاق عويمر ، وبقوله : إن أمسكتها ، وتأوله الجمهور كما سبق ، والله أعلم .
وأما قوله : (قال ابن شهاب : فكانت سنة المتلاعنين) فقد تأوله ابن نافع المالكي على أن معناه : استحباب الطلاق بعد اللعان كما سبق ، وقال الجمهور : معناه حصول الفرقة بنفس اللعان .
وقال شيخ الإسلام (1) : وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة ، فكان مؤكدا لموجب اللعان ، والنزاع إنما هو طلاق من يمكنه إمساكها ، لا سيما
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (33\77 ، 78) ويرجع أيضا إلى [زاد المعاد] (4\115) ، و[إغاثة اللهفان] (1\314) .

والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما ، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها ، وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح ، والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا ، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها ، إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ، وامتنع حينئذ أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ؛ لأنهما صارا أجنبيين .
ولكن غاية ما يمكن أن يقال : حرمها عليه تحريما مؤبدا . فيقال : فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما ، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح ، وأن الثلاث لم تقع جميعا ، بخلاف ما إذا قيل : إنه يقع بها واحدة رجعية فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما .
وقول سهل بن سعد : فأنفذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه محتاج إلى إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم واختصاص الملاعن بذلك ، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص ، ولا يحتاج إلى إنفاذ ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه- أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مقصوده ، بل زاده ، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق ، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره ، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد ذكره لاستدلال البخاري بحديث عويمر : ووجه الدلالة والاعتراض عليها ، والجواب عن الاعتراض من وجهين ، وكل ذلك سبق نقله عن النووي إلا الوجه الثاني ،

قال (1) : وبأن الفرقة لم يدل على أنها بنفس اللعان كتاب ولا سنة صريحة ولا إجماع .
وبعد أن عرض بعض مذاهب العلماء وأدلتهم ومناقشتها في اللعان هل تحصل به الفرقة أم لا ؟ قال : واختلف في هذا اللفظ- أي : ما جاء في الحديث المتقدم من قوله : فكانت سنة المتلاعنين- هل هو مدرج من كلام الزهري فيكون مرسلا ، وبه قال جماعة من العلماء ، أو هو من كلام سهل فهو مرفوع متصل ، ويؤيد كونه من كلام سهل ما وقع في حديث أبي داود من طريق عياض بن عبد الله الفهري : عن ابن شهاب عن سهل قال : فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ، قال سهل : (حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا) هذا الحديث سكت عليه أبو داود والمنذري .
قال الشوكاني في نيل الأوطار ، : ورجاله رجال الصحيح ، قال مقيده عفا الله عنه : ومعلوم أن ما سكت عليه أبو داود فأقل درجاته عنده الحسن ، وهذه الرواية ظاهرة في محل النزاع ، وبها تعلم أن احتجاج البخاري لوقوع الثلاث دفعة بحديث سهل المذكور- واقع موقعه ؛ لأن المطلع على غوامض إشارات البخاري رحمه الله يفهم أن هذا اللفظ الثابت في سنن أبي داود ، مطابق لترجمة البخاري ، وأنه أشار بالترجمة إلى هذه الرواية ولم يخرجها ؛ لأنها ليست على شرطه ، فتصريح هذا الصحابي الجليل في هذه
__________
(1) [أضواء البيان] (1\ 162) وما بعدها .

الرواية الثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ طلاق الثلاث دفعة يبطل بإيضاح أنه لا عبرة بسكوته صلى الله عليه وسلم وتقريره له ، بناء على أن الفرقة بنفس اللعان كما ترى . . . وبعد سياقه لبقية المذاهب في الفرقة باللعان قال : وبهذا تعلم أن كون الفرقة بنفس اللعان ليس أمرا قطعيا حتى ترد به دلالة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة الثابت في الصحيح ، لا سيما وقد عرفت أن بعض الروايات فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ ذلك .
وبعد أن عرض مذاهب العلماء في نفقة البائن وسكناها قال :
فإن قيل : إنفاذه صلى الله عليه وسلم الثلاث دفعة من الملاعن على الرواية المذكورة لا يكون حجة في غير اللعان ؛ لأن اللعان تجب فيه الفرقة الأبدية ، فإنفاذ الثلاث مؤكد لذلك الأمر الواجب بخلاف الواقع في غير اللعان ، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان ، وقال : « أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم » (1) كما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد .
فالجواب من أربعة أوجه :
الأول : الكلام في حديث محمود بن لبيد ، فإنه تكلم فيه من جهتين : الأولى : أنه مرسل ؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت ولادته في عهده صح وذكره في الصحابة من أجل الرؤية ، فقد ترجم له أحمد في [مسنده] وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صريح فيه بالسماع .
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3401).

الثانية : أن النسائي قال بعد تخريجه لهذا الحديث : لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير - يعني : ابن الأشج - عن أبيه ، ورواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه . قاله أحمد وابن معين وغيرهما ، وقال ابن المديني : سمع من أبيه قليلا . قال ابن حجر في [التقريب] : روايته عن أبيه وجادة من كتابه .
قال مقيده عفا الله عنه :
أما الإعلال الأول : بأنه مرسل فهو مردود بأنه مرسل صحابي ، ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل ، ومحمود بن لبيد المذكور جل روايته عن الصحابة ، كما قال ابن حجر في [التقريب] وغيره .
والإعلال الثاني : بأن رواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه فيه : أن مسلما أخرج في [صحيحه] عدة أحاديث من رواية مخرمة عن أبيه ، والمسلمون مجمعون على قبول أحاديث مسلم إلا بموجب صريح يقتضي الرد ، والحق أن الحديث ثابت إلا أن الاستدلال به يرده .
الوجه الثاني : وهو أن حديث محمود ليس فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث ، ولا أنه لم ينفذها ، وحديث سهل على الرواية المذكورة فيه التصريح بأنه أنفذها ، والمبين مقدم على المجمل ، كما تقرر في الأصول ، بل بعض العلماء احتج لإيقاع الثلاث دفعة بحديث محمود هذا .
ووجه استدلاله به : أنه طلق ثلاثا يظن لزومها ، فلو كانت غير لازمة لبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها غير لازمة ؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة .

الوجه الثالث : أن إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله أخرج حديث سهل تحت الترجمة التي هي قوله : (باب من أجاز الطلاق الثلاث) .
وهو دليل على أنه يرى عدم الفرق بين اللعان وغيره في الاحتجاج بإنفاذ الثلاث دفعة .
الوجه الرابع : هو ما سيأتي من الأحاديث الدالة على وقوع الثلاث دفعة ، كحديث ابن عمر وحديث الحسن بن علي ، وإن كان الكل لا يخلو من كلام .
وبهذا كله تعلم أن رد الاحتجاج بتقريره صلى الله عليه وسلم عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة ، بأن الفرقة بنفس اللعان لا يخلو من نظر ، ولو سلمنا أن الفرقة بنفس اللعان فإنا لا نسلم أن سكوته صلى الله عليه وسلم لا دليل فيه ، بل نقول : لو كانت لا تقع دفعة لبين أنها لا تقع دفعة ، ولو كانت الفرقة بنفس اللعان كما تقدم .
الدليل الثاني : ثبت في [الصحيحين] عن عائشة رضي الله عنها « أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول ؟ قال : حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول » (1) .
وجه الدلالة : ذكر البخاري هذا الحديث تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق ثلاثا ) وقال ابن حجر (2) والعيني (3) : هو ظاهر في كونها مجموعة .
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (4961).
(2) [فتح الباري] (9\ 301) .
(3) [عمدة القاري] (9\ 541) .

وقال ابن القيم (1) : في وجه استدلالهم بالحديث : فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ، ذلك وهذا يدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها ، إذ لو لم يقع لم يتوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها .
وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بهذا الدليل (2) ، فقال : وأما استدلالكم بحديث عائشة - وساق الحديث- فهذا مما لا ننازعكم فيه ، نعم ، هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني ، ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد ؟ بل الحديث حجة لنا ، فإنه لا يقال : فعل ذلك ثلاثا ، وقال : ثلاثا ، إلا لمن فعل ، وقال : مرة بعد مرة ، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم ، كما يقال : قذفه ثلاثا ، وشتمه ثلاثا ، وسلم عليه ثلاثا .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3) : واعترض الاستدلال بهذا الحديث بأنه مختصر من قصة رفاعة ، وقد قدمنا قريبا : أن بعض الروايات الصحيحة دل على أنها ثلاث مفرقة لا مجموعة . انتهى .
ومقصوده (4) ببعض الروايات هي رواية مسلم : (أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات ، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى) .
ثم قال :
ورد هذا الاعتراض : بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع
__________
(1) [زاد المعاد] (4 \ 108) .
(2) [زاد المعاد] (4\ 114) .
(3) [أضواء البيان] (1\ 167) .
(4) [أضواء البيان] (1\ 163) .

لرفاعة فلا مانع من التعدد ، وكون الحديث الأخير في قصة أخرى كما ذكره الحافظ ابن حجر في الكلام على قصة رفاعة فإنه قال فيها ما نصه : وهذا الحديث إن كان محفوظا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى ، وأن كلا من رفاعة القرظي ، ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق ، فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير ، فطلقها قبل أن يمسها ، فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص .
وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب . . . اهـ .
الدليل الثالث : ثبت في الصحيح في قصة رفاعة القرظي وامرأته ، فإن فيه (فقالت : يا رسول الله ، إن رفاعة طلقني فبت طلاقي . . . ) الحديث ، وقد أخرجه البخاري تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق الثلاث) .
وجه الدلالة : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1) : إن قولها : (فبت طلاقي) ظاهر في أنه قال لها : أنت طالق البتة .
وأجاب عن ذلك فقال : قال مقيده : عفا الله عنه- الاستدلال بهذا الحديث غير ناهض فيما يظهر ؛ لأن مرادها بقولها فبت طلاقي أي : بحصول الطلقة الثالثة .
ويبينه أن البخاري ذكر في [الأدب المفرد] من وجه آخر أنها قالت : طلقني آخر ثلاث تطليقات ، وهذه الرواية تبين المراد من قولها : (فبت
__________
(1) [أضواء البيان] (1\ 166) .

طلاقي وأنه لم يكن دفعة واحدة .
وقال شيخ الإسلام (1) : وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة وامرأة رفاعة إنما طلقها ثلاثا متفرقات ، هكذا ثبت في الصحيح : أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات ، لم يطلق ثلاثا ، لا هذا ولا هذا مجتمعات ، وقول الصحابي : طلق ثلاثا يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ، وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة وهو المشهور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاثا ، وأما جمع الثلاث بكلمة فهذا كان منكرا عندهم إنما يقع قليلا فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق ، ولا يجوز أن يقال : يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا ، بل هذا قول بلا دليل ، بل هو خلاف الدليل .
الدليل الرابع : ثبت في [الصحيحين] من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن : « أن فاطمة بنت قيس أخبرته : أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ، ثم انطلق إلى اليمن ، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا : إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها نفقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لها نفقة وعليها العدة » (2) .
وفي [صحيح مسلم] في هذه القصة قالت فاطمة : « فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كم طلقك ؟ قلت : ثلاثا . فقال : صدق ، ليس لك نفقة . . » (3) .
__________
(1) [ مجموع الفتاوى ] ( 33 \ 77 )
(2) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن أبو داود الطلاق (2290),مسند أحمد بن حنبل (6/373),موطأ مالك الطلاق (1234),سنن الدارمي النكاح (2177).
(3) صحيح مسلم الطلاق (1480).

وفي لفظ له : « قالت : يا رسول الله ، إن زوجي طلقني ثلاثا وإني أخاف أن يقتحم علي » . وفي لفظ له عنها : « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في المطلقة ثلاثا : ليس لها نفقة ولا سكنى » (1) .
وفي [الصحيحين] أيضا عن فاطمة بنت قيس : أن أبا حفص بن المغيرة طلقها البتة وهو غائب . . . الحديث . وقد جاء تفسير هذه البتة بأنها ثلاث كما سبق . . .
وفي [المسند] أن هذه الثلاث كانت جميعا (فروي من حديث الشعبي « أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرجها من الدار ومنعها النفقة ، فقال : ما لك ولابنة قيس قال : يا رسول الله ، إن أخي طلقها ثلاثا جميعا » (2) . وذكر الحديث .
وجه الدلالة : أن لفظ البتة جاء مفسرا بأنه طلقها ثلاثا وأنها مجموعة ، فدل على اعتبار وقوع الثلاث مجموعة إذ لو لم يكن ذلك واقعا لبين صلى الله عليه وسلم بقاءها في عصمة زوجها فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم .
وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بحديث فاطمة بنت قيس فقال (3) :
أما حديث فاطمة بنت قيس فمن أصح الأحاديث ، مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسألة قد خالفوه ، ولم يأخذوا به ، فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسكنى ، ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به وهذا قول أبي حنيفة
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1480),سنن الترمذي النكاح (1135),سنن النسائي النكاح (3244),سنن أبو داود الطلاق (2288),سنن ابن ماجه الطلاق (2036),مسند أحمد بن حنبل (6/373),موطأ مالك الطلاق (1234),سنن الدارمي الطلاق (2274).
(2) مسند أحمد بن حنبل (6/417).
(3) [إغاثة اللهفان] (1\ 311- 313) .

وأصحابه .
وأما الشافعي ومالك : فأوجبوا لها السكنى ، والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به ، فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم ، وإن لم يكن محفوظا ؛ بل هو غلط- كما قال بعض المتقدمين- فليس حجة علينا في جمع الثلاث ، فأما أن يكون لكم على منازعيكم وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل .
هذا مع أننا نتنزل عن هذا المقام ، ونقول : الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من المحتج به ، ولو تأمل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتج به ، فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة ، وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك ، ثم طلقها آخر ثلاث ، هكذا جاء مصرحا به في [الصحيح] فروى مسلم في [صحيحه] عن عبيد الله بن عتبة - أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن ، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها . . . الحديث ، فهذا المفسر يبين ذلك المجمل وهو قوله : (طلقها ثلاثا) .
وقال الليث : عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته أنها كانت تحت أبي حفص بن المغيرة ، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات ، وساق الحديث وذكره أبو داود ثم قال : وكذلك رواه صالح بن كيسان ، وابن جريج ، وشعيب بن أبي حمزة ، كلهم عن الزهري .
ثم ساق من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله

قال : أرسل مروان إلى فاطمة ، فسألها ، فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن ، فخرج معه زوجها ، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها ، وذكر الحديث بتمامه ، والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب ، كذلك ذكره أبو داود في طريق أخرى . فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس .
قالوا : ونحن أخذنا به جميعه ، ولم نخالف شيئا منه إذ كان صحيحا صريحا لا مطعن فيه ولا معارض له فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار . وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ (طلقها ثلاثا) و (طلقها البتة) و (طلقها آخر تطليقات) و (أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها) ، و (طلقها ثلاثا جميعا) هذه جملة ألفاظ الحديث . . . وبالله التوفيق .
فأما اللفظ الخامس : وهو قوله : (طلقتها ثلاثا جميعا) فهذا ؛ أولا من حديث مجالد عن الشعبي ، ولم يقل ذلك عن الشعبي غيره ، مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبي ، فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله : (ثلاثا جميعا) وعلى تقدير صحته فالمراد به : أنه اجتمع لها التطليقات الثلاث لا أنها وقعت بكلمة واحدة ، فإذا طلقها آخر ثلاث صح أن يقال : طلقها ثلاثا جميعا ، فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد ، وهو الأغلب عليها ، لا الاجتماع في الآن الواحد ؛ لقوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } (1) فالمراد : حصول الإيمان من الجميع
__________
(1) سورة يونس الآية 99

لا إيمانهم كلهم في آن واحد سابقهم ولاحقهم (1) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد سياقه بعض روايات الحديث وتوجيه الاستدلال ورد التوجيه : قال (2) : ورد بعضهم هذا الاعتراض بأن الروايات المذكورة تدل على عدم تفريق الصحابة والتابعين بين صيغ البينونة الثلاث- يعنون : لفظ البتة- والثلاث المجتمعة ، والثلاث المتفرقة ، لتعبيرها في بعض الروايات بلفظ : طلقني ثلاثا ، وفي بعضها بلفظ : طلقني البتة ، وفي بعضها بلفظ : فطلقني آخر ثلاث تطليقات ، فلم تخص لفظا منها عن لفظ ؛ لعلمها بتساوي الصيغ ، ولو علمت أن بعضها لا يحرم لاحترزت منه .
قالوا : والشعبي قال لها : حدثيني عن طلاقك ، أي : عن كيفيته وحاله ، فكيف يسأل عن الكيفية ويقبل الجواب بما فيه عنده من إجمال من غير أن يستفسر عنه ؟ ! وأبو سلمة روى عنها الصيغ الثلاث ، فلو كان بينها عنده تفاوت لاعترض عليها باختلاف ألفاظها ، وتثبت حتى يعلم منها بأن الصيغ وقعت بينونتها ، فتركه لذلك دليل على تساوي الصيغ المذكورة عنده ، هكذا ذكر بعض الأجلاء ، والظاهر : أن هذا الحديث لا دليل فيه ؛ لأن الروايات التي فيها إجمال بينتها الرواية الصحيحة الأخرى ، كما هو ظاهر ، والعلم عند الله تعالى . انتهى .
وقد سبق في آخر الكلام على الدليل الثالث جواب مشترك لشيخ
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\ 311-313) .
(2) [أضواء البيان] (1\ 170) .

الإسلام عن الحديث الثالث ، وعن هذا الحديث فيرجع إليه .
الدليل الخامس : ما رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم « عن ركانة بن عبد يزيد : أنه طلق امرأته سهيمة البتة ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال : والله ما أردت إلا واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما أردت إلا واحدة ؟ قال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة ، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . » (1)
ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف ركانة ، أنه ما أراد بالبتة إلا واحدة ، فدل على أنه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده ولو لم يفترق الحال لم يحلفه ، وممن استدل بهذا الحديث لمذهب الجمهور أبو بكر الرازي الجصاص قال : لو لم تقع الثلاث إذا أرادها لما استحلفه بالله ما أردت إلا واحدة . اهـ (2) .
وكذلك ابن قدامة قال : ومتى طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو بكلمات حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ؛ لما روي أن « ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، طلقت امرأتي سهيمة البتة ، والله ما أردت إلا واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما أردت إلا واحدة ؟ فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة ، فقال : هو ما أردت فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم » (3) . رواه الترمذي والدارقطني وأبو داود وقال : الحديث صحيح . فلو لم تقع الثلاث لم يكن للاستحلاف معنى .
__________
(1) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2206),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).
(2) [أحكام القرآن] (1\ 459) .
(3) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2206),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).

اهـ (1) .
وحديث ركانة هذا وإن تكلم فيه بعض أهل العلم فقد قبله غير واحد منهم . قال أبو الحسن علي بن محمد الطنافسي : (ما أشرف هذا الحديث) (2) .
روى ذلك عنه ابن ماجه في (باب طلاق البتة) من سننه ، بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة ، عن أبيه عن جده .
وقال الحاكم بعد روايته من طريق الزبير بن سعيد هذه (3) : قد انحرف الشيخان عن الزبير بن سعيد الهاشمي في الصحيحين .
غير أن لهذا الحديث متابعا من بيت ركانة بن عبد يزيد المطلبي ، فيصح به الحديث ، حدثناه أبو العباس محمد بن محمد بن يعقوب ، أنبأ الربيع بن سليمان ، أنبأ الشافعي ، أخبرني محمد بن علي بن شافع ، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد : « أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة ، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلقها الثانية في زمن عمر ، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنهم » (4) ، فقد صح الحديث بهذه الرواية ، فإن الإمام الشافعي قد أتقنه وحفظه عن أهل بيته ، والسائب بن عبد يزيد أبو الشافع بن السائب ، وهو أخ ركانة بن عبد يزيد ، ومحمد بن علي بن شافع عم
__________
(1) [الكافي] (2\ 786) .
(2) [سنن ابن ماجه] (1\ 632) .
(3) [المستدرك] (1\ 199 ، 200) .
(4) سنن أبو داود الطلاق (2206).

الشافعي شيخ قريش في عصره . انتهى كلام الحاكم ، وصححه أيضا ابن حبان ، كما في [التلخيص الحبير] للحافظ ابن حجر ، هذا بالنسبة لرواية الزبير بن سعيد .
أما رواية نافع بن عجير فقد صححها أبو داود ، كما جاء في [سنن الدارقطني] (1) فقد قال بعد أن ساقها : (قال أبو داود : هذا حديث صحيح) .
ونقل ذلك عن الدارقطني أبو بكر ابن العربي (2) ، وجزم به في [العارضة] والمنذري في [مختصر سنن أبي داود ] والقرطبي في [تفسيره] (3) واعتمد عليه وتعقب به دعوى الاضطراب في هذا الحديث .
وكذلك قال الحافظ ابن حجر في [التلخيص الحبير] (صححه أبو داود ) وممن ارتضى مسلك الإمام أبي داود في هذه الرواية الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله ، فقد قال : كما في [تفسير القرطبي ] (4) رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم ، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها ، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني عبد المطلب بن عبد مناف ، وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم) اهـ .
وأما الحافظ ابن كثير فيرى : أن الحديث حسن حسبما نقله عنه
__________
(1) [سنن الدارقطني] (2\ 439) .
(2) [العارضة على الترمذي] (5\ 135) .
(3) [تفسير القرطبي] (3\ 132) .
(4) [تفسير القرطبي] (3\ 132) .

الشوكاني في [نيل الأوطار] بهذا كله ظهرت قوة رواية نافع بن عجير . .
وأما إعلال رواية نافع بن عجير بدعوى جهالته فلا وجه له ؛ لأن نافعا هذا بعيد من الجهالة ، إذ هو نافع بن عجير بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف ، القرشي ، فأخو ركانة ذكره ابن حبان في [الثقات] ، وذكره بعض من صنف في الصحابة . قال الحافظ ابن حجر في [تهذيب التهذيب] : ذكره ابن حبان أيضا في الصحابة ، وكذا أبو القاسم البغوي وأبو نعيم وأبو موسى في [الذيل] وغيرهم ، وقد بينت أمره في مختصري في الصحابة . اهـ .
ويعني الحافظ مختصره في الصحابة [الإصابة في تمييز الصحابة] وقد ذكره فيه قال : (ذكره البغوي في الصحابة) وذكر له حديثه في (البتة) وتكلم على رواياته ثم قال : (وذكره ابن حبان في الصحابة) اهـ .
وممن جزم بتصحيح أبي داود لهذا الحديث المجد ابن تيمية في [المنتقى] إلا أنه عزا إليه التحسين والتصحيح معا ، ونصه (1) . (قال أبو داود - أي : في حديث نافع بن عجير - : هذا حديث حسن صحيح) وفي جزمه هو وابن العربي والمنذري والقرطبي والحافظ ابن حجر بتصحيح أبي داود لهذه الرواية- الرد على من قال : بأن أبا داود لم يحكم بصحة حديث نافع بن عجير ، وإنما قال فيه : (هذا أصح من حديث ابن جريج . . . إلخ) ، وهذا لا يدل على أن الحديث عنده صحيح ، فإن حديث ابن جريج ضعيف ، وحديث نافع بن عجير ضعيف ، وإنما يعني أبو داود أنه أصح الضعيفين عنده) اهـ .
__________
(1) [المنتقى] مع شرحه [نيل الأوطار] (6\ 227)

ومما يقوي حديث نافع بن عجير في البتة صنيع الأئمة الذين أوردوه في مصنفاتهم في الحديث ، فقد قال الدارمي في [مسنده] : (باب في الطلاق البتة) وقال أبو داود : ما جاء في (البتة) وقال الترمذي : (باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة) .
الجواب عن حديث ركانة :
أما حديث ركانة فقد ضعف الإمام أحمد بن حنبل جميع طرقه ، كما ذكره المنذري ، وكذلك ضعفه البخاري ، قال الترمذي في (باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة) من [سننه] بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد بن عبد الله بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده قال (1) : (وسألت محمدا- يعني : البخاري - عن هذا الحديث فقال : فيه اضطراب ، ويروى عن عكرمة عن ابن عباس : أن ركانة طلق امرأته ثلاثا) اهـ .
وذكر الترمذي في موضع آخر (2) : أن حديث ركانة مضطرب فيه ، تارة قيل فيه (ثلاثا ، وتارة قيل فيه (واحدة) .
فعلى قول هذين الإمامين أحمد بن حنبل والبخاري لا احتجاج برواية (ثلاثا) ولا برواية (البتة) بل غاية ما في الأمر أن تتساقط الروايتان المتعارضتان فيرجع إلى غيرهما ، كما ذكره الزرقاني .
وعلى غير ذلك المسلك الذي سلكه الإمامان : أحمد بن حنبل ،
__________
(1) [مختصر سنن أبي داود] (3\ 122) .
(2) [جامع الترمذي] (5\ 132) .

والبخاري نقول : إن لهذا الحديث روايتين :
إحداهما : عند الإمام أحمد بن حنبل : (ثنا سعد بن إبراهيم ، ثني أبي عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : « طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا قال : فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها ؟ قال : طلقتها ثلاثا ، فقال : في مجلس واحد ؟ قال : نعم . قال : فإنما تلك واحدة ، فارجعها إن شئت » (1) قال : فراجعها فكان ابن عباس يرى : إنما الطلاق عند كل طهر .
وقد أجيب عن هذه الرواية : فقال البيهقي : (إن هذا الإسناد لا تقوم به الحجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما فتياه بخلاف ذلك ، ومع رواية أولاد ركانة : أن طلاق ركانة كان واحدة) يعني البيهقي بأولئك الثمانية : الذين رووا فتيا ابن عباس بخلاف ذلك : سعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهدا ، وعكرمة ، وعمرو بن دينار ، ومالك بن الحارث ، ومحمد بن إياس بن البكير ، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري ، وقد ذكر رواياتهم عنه (2) في (باب من جعل الثلاث واحدة وما ورد في خلاف ذلك) ويعني برواية أولاد ركانة : روايتهم : أن ركانة إنما طلق امرأته البتة التي جزم أبو داود بأنها أصح ؛ لأنهم أهله وهم أعلم بخبره ، كما سيأتي .
الثانية : ما أخرجه أبو داود في سننه ، قال : حدثنا أحمد بن صالح
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/265).
(2) [السنن الكبرى] للبيهقي (7\ 337) .

حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج ، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : « طلق عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - أم ركانه ، ونكح امرأة من مزينة ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ، ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته ، ثم قال لجلسائه : أترون فلانا يشبه منه [كذا وكذا من عبد يزيد ، وفلان يشبه منه] كذا وكذا ؟ قالوا : نعم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد : طلقها ففعل ، ثم قال : راجع امرأتك أم ركانة وإخوته قال : إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله ، قال : قد علمت راجعها وتلا : » (2) .
وقد أجيب عن هذه الرواية بما يلي :
1 - إعلالها بجهالة بعض بني أبي رافع : قال الخطابي (في إسناد هذا الحديث مقال ؛ لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع ولم يسمه والمجهول لا تقوم به الحجة) (3) .
وقال ابن حزم : هذا لا يصح ؛ لأنه عن غير مسمى من بني أبي رافع ، ولا حجة في مجهول ، وما نعلم في بني أبي رافع من يحتج به إلا عبيد الله
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(2) سورة الطلاق الآية 1 (1) { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }
(3) [معالم السنن] (3\ 126) .

وحده ، وسائرهم مجهولون (1) .
وقال ابن القيم (2) : إن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ولأبي رافع بنون ، ليس فيهم من يحتج به إلا عبيد الله بن أبي رافع ، ولا نعلم هل هو هذا أو غيره ؛ ولهذا- والله أعلم- رجح أبو داود حديث نافع بن عجير عليه . اهـ .
وقد يقال : بأن في هذا الإعلال ؛ نظرا لأن كلام أبي داود في غاية التصريح ، بأن ترجيحه لحديث نافع بن عجير إنما هو لأنهم أهل بيت ركانة وأهل بيت الشخص أعلم بخبره . . . وقد استجاز الحافظ زين الدين العراقي أن يكون ذلك المجهول الفضل بن عبيد الله بن رافع (3) وتبعه في ذلك ابن حجر في [تقريب التهذيب] والخزرجي في [الخلاصة] لكن ذكر الحافظ ابن رجب في [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة] أن ذلك الرجل الذي لم يسم في رواية عبد الرزاق : هو محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ، قال ابن رجب : وهو رجل ضعيف الحديث بالاتفاق ، وأحاديثه منكرة ، وقيل : إنه متروك فسقط هذا الحديث حينئذ . اهـ .
وأورد له الذهبي في [ميزان الاعتدال] عدة مناكير من روايته عن أبيه عن جده وقال : قال فيه يحيى بن معين : ليس حديثه بشيء ، وقال أبو حاتم :
__________
(1) [المحلى] (11\ 462) .
(2) [تهذيب سنن أبي داود] (3\ 121) .
(3) [المستفاد من مبهمات المتن والاسناد] ص 66 .

منكر الحديث جدا ، وقال ابن عدي : هو في عداد شيعة الكوفة اهـ .
2 - إن رواية محمد بن ثور الثقة العابد الكبير ليس فيها أنه طلقها ثلاثا وإنما فيها (إني طلقتها) وهي عند الحاكم في تفسير سورة الطلاق ، قال الحاكم (1) : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني بمكة ، ثنا يزيد بن المبارك ، ثنا محمد بن ثور ، عن ابن جريج ، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ثم نكح امرأة من مزينة ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ، فأخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم حمية عند ذلك ، فدعا ركانة وإخوته ثم قال لجلسائه : أترون كذا من كذا ؟ فقال : رسول الله لعبد يزيد : طلقها ففعل ، فقال لأبي ركانة : ارتجعها فقال : يا رسول الله ، إني طلقتها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد علمت ذلك فارتجعها فنزلت : » (3) .
ويرى ابن رجب تقديم رواية محمد بن ثور هذه على رواية عبد الرزاق ، محتجا بأن عبد الرزاق حدث في آخر عمره بأحاديث منكرة جدا في فضائل أهل البيت وذم غيرهم ، قال : وكان له ميل إلى التشيع ، وهذا الحكم مما يوافق هوى الشيعة .
3 - إن في حديث ابن جريج غلطا لأن عبد يزيد لم يدرك الإسلام ،
__________
(1) [المستدرك] (2\ 291) .
(2) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(3) سورة الطلاق الآية 1 (2) { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }

نبه على ذلك الحافظ الذهبي في كتابيه [تلخيص المستدرك] و[التجريد لأسماء الصحابة] وقال (1) تعقيبا لقول الحاكم في حديث محمد بن ثور عن ابن جريج المتقدم : (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) قال : ( محمد- أي : ابن عبيد الله بن أبي رافع - واه ، والخبر خطأ وعبد يزيد لم يدرك الإسلام) وقال : (2) عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف : أبو ركانة طلق أم ركانة وهذا لا يصح والمعروف أن صاحب القصة ركانة . اهـ .
4 - حصل الحديث على أنه من قبيل الرواية بالمعنى وذلك أن الناس قد اختلفوا في البتة فقال بعضهم : هي ثلاثة ، وقال بعضهم : هي واحدة ، وكان الراوي ممن يذهب مذهب الثلاث . فحكي أنه قال : (طلقتها ثلاثا ، يريد (البتة) التي حكمها عنده حكم الثلاث ذكر ذلك الخطابي (3) . . .
وقال النووي في [شرح صحيح مسلم ] : (ولعل صاحب هذه الرواية الضعيفة اعتقد أن لفظ (البتة) يقتضي الثلاث فرواه بالمعنى الذي فهمه وغلط في ذلك) اهـ .
5 - أن حديث عبد الرزاق لو صح متنه ليس فيه أنه طلقها ثلاثا بكلمة واحدة ، فيحمل على أنه طلقها ثلاثا في مرات متعددة ، وتكون هذه الواقعة قبل حصر عدد الطلاق في الثلاث ، ذكر هذا المسلك الحافظ ابن رجب في
__________
(1) [تلخيص المستدرك] (2\ 491) .
(2) [التجريد] ص 388 .
(3) [معالم السنن] (3\ 122) .

كتابه [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة)
6 - أن قضية ركانة من باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن له أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام ، فقد قال ضمن الأحكام التي خص بها من شاء ، قال : (وإعادة امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثا من غير محلل) اهـ .
7 - أن رواية أهل بيت ركانة أن ركانة طلق امرأته البتة أولى بالتقديم على رواية من يروي أنه إنما طلقها ثلاثا ، وهذا مسلك أبي داود وابن عبد البر والقرطبي . قال أبو داود في (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث) من [سننه] (1) : حدثنا أحمد بن صالح ، ثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج ، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : « طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة . فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ، ففرق بيني وبينه ، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية . . » (2) إلى آخر الحديث المتقدم ، ثم قال : وحديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده « أن ركانة طلق امرأته البتة ، فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم » (3) أصح ؛ لأن ولد الرجل وأهله أعلم به . « إن ركانة إنما طلق امرأته البتة فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة » (4) . اهـ .
وأوضح الأمر غاية الإيضاح في (باب في البتة) فقال : (حدثنا ابن السرح ، وإبراهيم بن خالد الكلبي أبو ثور في آخرين : قالوا : ثنا محمد بن
__________
(1) [سنن أبي داود] (1\ 507 ، 508 ) .
(2) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(3) سنن أبو داود الطلاق (2196).
(4) سنن أبو داود الطلاق (2196).

إدريس الشافعي ، حدثني عمي محمد بن علي بن شافع ، عن عبيد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة : « أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال : والله ما أردت إلا واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما أردت إلا واحدة ؟ فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة ، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمان عمر رضي الله عنه ، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنه » (1) . قال أبو داود : أوله لفظ إبراهيم ، وآخره لفظ ابن السرح .
حدثنا محمد بن يونس النسائي : أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حدثهم عن محمد بن إدريس ، حدثني عمي محمد بن علي عن ابن السائب ، عن نافع بن عجير ، عن ركانة بن عبد يزيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث .
حدثنا سليمان بن داود العتكي ، ثنا جرير بن حازم ، عن الزبير بن سعيد ، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده ، « أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما أردت ؟ قال : واحدة ، قال : آلله ؟ ! ، قال : آلله ، قال : هو على ما أردت » (2) .
قال أبو داود : وهذا أصح من حديث ابن جريج : أن ركانة طلق امرأته ثلاثا ؛ لأنهم أهل بيته وهم أعلم به ، وحديث ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس . اهـ .
وقال ابن عبد البر في رواية الشافعي (3) : رواية الشافعي لحديث ركانة
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2206).
(2) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2208),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).
(3) [تفسير القرطبي] (3\ 131) .

عن عمه أتم ، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها ، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني المطلب بن عبد مناف ، وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم . اهـ .
وقال القرطبي بعد أن ذكر رواية الدارقطني حديث الشافعي من طريق أبي داود (1) : فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا ، وطلاق البتة قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج بغيره ، والله أعلم . اهـ .
وممن قوى هذا المسلك الحافظ ابن حجر قال (2) : (إن أبا داود رجح : أن ركانة إنما طلق امرأته البتة ، كما أخرجه هو من طريق آل ركانة ، وهو تعليل قوي ؛ لجواز أن يكون بعض رواته حمل (البتة) على الثلاث فقال : (طلقها ثلاثا) فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية مناقشة لحديث ركانة هذا ، ذكرها في كلامه على المقارنة الإجمالية بين أدلة الفريقين تركنا ذكرها هنا وستذكر في آخر البحث .
وقد أجاب ابن القيم أيضا عن حديث ركانة فقال (3) : وأما حديث نافع ابن عجير الذي رواه أبو داود : « أن ركانة طلق امرأته البتة ، فأحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد إلا واحدة » (4) ، فمن العجب تقديم نافع بن عجير المجهول الذي لا يعرف حاله البتة ، ولا يدرى من هو (ولا ما هو) على ابن جريج ومعمر
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\ 131) .
(2) [فتح الباري] (9\ 297) .
(3) [زاد المعاد] (4\ 115 ، 116) ، و[إغاثة اللهفان] (1\ 415 ، 316) .
(4) سنن الترمذي الطلاق (1177),سنن أبو داود الطلاق (2206),سنن ابن ماجه الطلاق (2051),سنن الدارمي الطلاق (2272).

وعبد الله بن طاووس في قصة أبي الصهباء ، وقد شهد إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري بأن فيه اضطرابا . هكذا قال الترمذي في [الجامع] ، وذكر عنه في مواضع أنه مضطرب ، فتارة يقول : (طلقها ثلاثا) وتارة يقول : (واحدة) وتارة يقول : (البتة) وقال الإمام أحمد : وطرقه كلها ضعيفة ، وضعفه أيضا البخاري حكاه المنذري عنه . ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواته على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لجهالة بعض بني أبي رافع ، وأبو رافع هذا وأولاده تابعيون وإن كان عبيد الله أشهرهم ، وليس فيهم متهم بالكذب ؟ ! .
وقد روى عنه ابن جريج ، ومن يقبل رواية المجهول ، أو يقول : رواية العدل عنه تعديل له فهذا حجة عنده ، فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة أو أشد- فكلا ، فغاية الأمر أن يتساقط روايتا هذين المجهولين ويعدل إلى غيرهما وإذا فعلنا ذلك نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم فوجدناه صحيح الإسناد ، وقد زالت علة تدليس محمد بن إسحاق بقوله : (حدثني داود بن الحصين ) ولكن رواه أبو عبد الله الحاكم في [مستدركه] وقال : إسناده صحيح ، فوجدنا الحديث لا علة له .
وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع ، وقد صحح هو وغيره بهذا لإسناد بعينه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا) وأما داود بن الحصين عن عكرمة فلم تزل الأئمة تحتج به ، وقد احتجوا به في حديث العرايا فيما شك فيه ، ولم يجزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها ، مع كونها على خلاف الأحاديث التي نهى

فيها عن بيع الرطب بالتمر ، فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به وإن قدحتم في عكرمة - ولعلكم فاعلون- جاءكم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته ، وارتضاه البخاري لإدخال حديثه في [صحيحه] .

/3 الدليل السادس : روى الدارقطني من حديث الحسن البصري قال : « حدثنا عبد الله : أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخراوين عند القرءين ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا بن عمر ، ما هكذا أمرك الله ، إنك قد أخطأت السنة ، والسنة : أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء ، قال : فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فراجعتها ثم قال : إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك ، فقلت : يا رسول الله ، أرأيت لو أني طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها ؟ قال : لا ، كانت تبين منك وتكون معصية . » (1)
وأجيب : بمعارضته بما رواه الدارقطني في سننه : نا محمد بن أحمد بن يوسف بن يزيد الكوفي أبو بكر ببغداد ، وأبو بكر أحمد بن دارم ، قالا : نا أحمد بن موسى بن إسحاق ، نا أحمد بن صبيح الأسدي ، نا ظريف بن ناصح عن معاوية ، عن عمار الدهني ، « عن أبي الزبير ، قال : سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي حائض ؟ فقال : أتعرف ابن عمر ؟ قلت : نعم . قال : طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة ، ففيه دليل على أنه طلقها ثلاثا بالفعل وردت إلى الواحدة » (2) .
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1471),سنن النسائي الطلاق (3392),سنن أبو داود الطلاق (2185),مسند أحمد بن حنبل (2/124).
(2) سنن الترمذي الطلاق (1175).

وأجاب القرطبي وابن رجب عن حديث تطليق ابن عمر امرأته ثلاثا وهي حائض ورد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى السنة : قال القرطبي : (1) ما نصه : قال الدارقطني - أي : في رواته - كلهم من الشيعة ، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض قال عبيد الله : وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة ، وكذلك قال صالح بن كيسان ، وموسى بن عقبة ، وإسماعيل بن أمية ، وليث بن سعد ، وابن أبي ذئب ، وابن جريج ، وجابر ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن نافع : أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة . وكذلك قال الزهري عن سالم ، عن أبيه ، ويونس بن جبير ، والشعبي ، والحسن . انتهى كلام القرطبي .
وممن ذكر رواية الليث بن سعد مسلم بن الحجاج في [صحيحه] قال : حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد ، وابن رمح ، واللفظ ليحيى قال قتيبة : حدثنا ليث ، وقال الآخران : أخبرنا الليث بن سعد ، عن نافع « عن عبد الله أنه طلق امرأة له وهي حائض تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها ، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها ، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء » (2) . وزاد ابن رمح في روايته : « وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم : أما أنت إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا ، وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك ، وعصيت الله فيما أمرك من
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\ 130) .
(2) صحيح البخاري الطلاق (5022),صحيح مسلم الطلاق (1471),سنن النسائي الطلاق (3392),سنن أبو داود الطلاق (2185),مسند أحمد بن حنبل (2/124),موطأ مالك الطلاق (1220),سنن الدارمي الطلاق (2262).

طلاق امرأتك » (1) .
قال مسلم : جود الليث في قوله (تطليقه واحدة) يعني مسلم بذلك كما بينه النووي : أن الليث حفظ وأتقن قدر الطلاق الذي لم يتقنه غيره، ولم يهمله كما أهمله غيره، ولا غلط فيه وجعله ثلاثا كما غلط فيه غيره.
وقد أطال الدارقطني في سرد الروايات عن الأئمة المذكورين، وأتى في ذلك بما لا يدع مجالا للشك في أن تطليقة ابن عمر لامرأته كانت واحدة، كما صرح النووي في [شرح صحيح مسلم ]، بأن الروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره: أن ابن عمر إنما طلق امرأته واحدة.
وقال (2) الحافظ ابن رجب في الرد على رواية الثلاث أيضا : قد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه؛ لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض، وقد روي ذلك عن أبي الزبير أيضا من رواية معاوية بن عمار الدهني عنه، فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقا فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه، وروى ابن لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير فقال: عن جابر : أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد، وتفرد بقوله: (فإنها امرأته) ولا يدل على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن يكون ثلاثا، فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير، وأصحاب ابن عمر الثقات الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه.
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5022),صحيح مسلم الطلاق (1471),مسند أحمد بن حنبل (2/124).
(2) [جامع العلوم والحكم] ص (56، 57) شرح حديث من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .

فروى أيوب عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهمهم: أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلقها واحدة. خرجه مسلم.
وفي رواية: قال له ابن سيرين : فجعلت لا أعرف للحديث وجها ولا أفهمه. وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات من غير أهل الفقه والعلم، أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا ولعل أبا الزبير من هذا القبيل. ولذلك كان نافع يسأل كثيرا عن طلاق ابن عمر، هل كان ثلاثا أو واحدة؟ ولما قدم نافع مكة أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك.
واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلا معتبرا يقول: إن الطلاق المحرم غير واقع، وأن هذا القول لا وجه له. قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق المحرم؛ لأنه يخالف ما أمر به فقال: هذا قول سوء رديء، ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض، وقال أبو عبيدة : الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم ويمنهم وشامهم وعراقهم ومصرهم، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم.
وقد أجاب ابن القيم عن حديث ابن عمر من رواية الحسن فقال (1) : وأما
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\ 318) .

حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف. قال الدارقطني : حدثنا علي بن محمد بن عبيد الحافظ، حدثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا يعلى بن منصور، حدثنا شعيب بن زريق، أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر -فذكره- وشعيب وثقه الدارقطني، وقال أبو الفتح الأزدي : فيه لين، وقال البيهقي وقد روى هذا الحديث: وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه.
ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب البتة، ولهذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحاح، ولا السنن.
الدليل السابع : روى الدارقطني من حديث إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده، قال: « طلق بعض آبائي امرأته ألفا فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن أبانا طلق امرأته ألفا، فهل له من مخرج؟ فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه » .
قال ابن القيم : (1) وأما حديث عبادة بن الصامت الذي رواه الدارقطني فقد قال عقيب إخراجه: رواته مجهولون وضعفاء، إلا شيخنا وابن عبد الباقي.
الدليل الثامن : روى الدارقطني من حديث حماد بن زيد، حدثنا
__________
(1) [إغاثة اللهفان] (1\ 317) .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21