كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

دليل على انتقاله عنه. والله أعلم.
والقول الثالث : أن مدة الحيازة سبع سنين فأكثر، وهو قول ابن القاسم الثاني، وقد ذكر ابن عرفة هذه الثلاثة الأقوال فقال: وفي تحديد مدة الحيازة بعشر أو سبع. ثالثها لا تحديد بعدة، بل باجتهاد الإمام، وقال في [ المسائل الملقوطة]: (مسألة) في قناة تجري منذ سنة في أرض رجل والذي تجري عليه ساكت لا تكون السنة حيازة للتغافل عن مثلها وسكوت أربع سنين طول وحوز من كتاب الشهادات لابن يونس . انتهى. فتأمله مع ما تقدم، وهل يكون قولا رابعا أو لا؟ والله أعلم.
وقوله: لم تسمع ولا بينة هو جواب الشرط، يعني: أن الحيازة إذا وقعت على الوجه المذكور فهي مانعة من سماع دعوى المدعي، والظاهر: أن المراد بعدم سماعها عدم العمل بها وبمقتضاها من أنه لا يتوجه على المدعى عليه يمين إذا أنكر. أنه لا تسمع ابتداء، ولا يسأل المدعى عليه عن جوابها، فإن ذلك غير ظاهر لاحتمال أن يقر المدعي ويعتقد أن مجرد حوزه يوجب له الملك، وقد تقدم: أن الحوز وحده لا ينقل الملك، وإنما هو دليل على انتقال الملك، وقال صلى الله عليه وسلم : « لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم » . قال ابن رشد في آخر الكلام على المسألة الرابعة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق: وأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها، وهذا أصل في الحكم بالحيازة. انتهى.
وسيأتي كلامه برمته في التنبيه الخامس في قول المصنف: وإنما تفترق الدار من غيرها. وقوله: ولا بينة، يعني: أن الحيازة المذكورة مانعة من سماع دعوى المدعي ومن سماع بينته أيضا فإن قيل: قوله: لم تسمع دعواه يغني عن قوله ولا بينته؛ لأنه إذا لم تسمع

الدعوى لم تسمع البينة. فالجواب والله أعلم: إنما قال: ولا بينته خشية أن يتوهم أن الدعوى المجردة عن البينة هي التي لا تسمع، وأما إذا قامت بها البينة فتسمع، كما تقول في دعوى العبد على سيده العتق والمرأة على زوجها الطلاق، فإن دعواهما لا تسمع إذا كانت مجردة عن البينة، أعني: أنه لا يتوجه على السيد ولا على الزوج بسببهما يمين، إن أقاما البينة على دعواهما سمعت وأيضا فإنما قال: ولا بينة ليفرع عليه قوله إلا بإسكان ونحوه، والمعنى: أنه لا تسمع بينة المدعي إلا أن تشهد البينة للمدعي بأنه أسكن الحائز أو أعمره أو ساقاه أو زارعه أو ما أشبه ذلك، فإنه إذا أقام البينة على ذلك حلف المدعي على رد دعوى الحائز وقضى له، هذا إن ادعى الحائز أن المالك باعه أو نحو ذلك، وأما من لم يدع نقل الملك وإنما تمسك بمجرد الحيازة فلا يحتاج إلى يمين قاله في [التوضيح] وغيره.
( تنبيهات): الأول: الهدم والبناء مقيدان بما إذا لم يهدم ما يخشى سقوطه فإن ذلك لا ينقل الملك وكذا الإصلاح اليسير قاله في [التوضيح].
الثاني: الحيازة على النساء عاملة إن كن في البلد، ذكره ابن بطال في المقنع.
الثالث: تقدم أنه لا حيازة على الغائب ، قال ابن بطال : إلا أنه يستحب له إذا علم أن يشهد أنه على حقه وقاله الرجراجي .
الرابع: قال ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: وأما المدة فينبغي أن يستوي فيها الوارث والموروث؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: « من حاز شيئا عشر سنين فهو له » ، وتضاف مدة حيازة الوارث إلى مدة حيازة الموروث، مثل: أن يكون الوارث قد حاز خمسة أعوام ما كان مورثه قد حازه خمسة أعوام فيكون ذلك حيازة عن الحاضر. انتهى.

الخامس: اختلف هل يطالب الحائز ببيان سبب ملكه . قال في التوضيح: قال ابن أبي زمنين : لا يطالب، وقال غيره: يطالب، وقيل: إن لم يثبت أصل الملك المدعي فلا يسأل الحائز عن بيان أصل ملكه وإن ثبت الأصل للمدعي ببينة أو بإقرار الحائز سئل عن سبب ذلك، وقال ابن عتاب وابن القطان : لا يطالب إلا أن يكون معروفا بالغصب والاستطالة والقدرة على ذلك. انتهى باختصار. وظاهر كلام ابن راشد في رسم سلف الحائز يطالب ببيان سبب ملكه؛ لأنه حينئذ قال إذا حاز الرجل مال غيره في وجهه مدة تكون فيه الحيازة عاملة وادعاه ملكا لنفسه بابتياع أو صدقة أو هبة وجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه.
واختلف إذا كان هذا الحائز وارثا: فقيل: إنه بمنزلة الذي ورث ذلك عنه في أنه لا ينتفع بها دون أن يدعي الوجه الذي يصير به ذلك إلى موروثه، وهو قول مطرف وأصبغ . وقيل: ليس عليه أن يسأل عن شيء؛ لأنه يقول: ورثنا ذلك ولا أدري بماذا صار ذلك إليه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في رسم أن خرجت من سماع عيسى من هذا الكتاب، وقول ابن الماجشون : وقوله عندي بين، فإنه ليس عليه أن يسأل عن شيء. انتهى.
وأفتى في نوازله بأن الحائز لا يطالب بشيء حتى يثبت القائم عليه الملك وسيأتي كلامه في التنبيه السادس، وجزم في شرح آخر مسألة من نوازل عيسى بأنه إذا ثبت أصل الملك لغيره فلا بد من بيان سبب ملكه قال: بأن يقول: اشتريته منه أو وهب لي أو تصدق به علي أو يقول: ورثته عن أبي أو عن فلان ولا أدري بأي وجه يصير إلى الذي ورثته منه، وقال: أما مجرد دعوى الملك دون أن يدعي شيئا من هذا فلا ينتفع به مع الحيازة إذا ثبت أصل

الملك لغيره. انتهى.
(فرع) قال ابن سهل في مسائل الأقضية: من ادعي عليه بأملاك فقال: عندي وثائق غائبة ثم طولب عند حاكم آخر فأنكر تلك المقالة فقال ابن العطار : ليس عليه إحضار الوثائق. انتهى. انظر تمامها فيه.

الثالث : لا تسقط الحيازة ولو طالت الدعوى في الحبس، بذلك أفتى ابن رشد في نوازله في جواب المسألة الخامسة من مسائل الوقف وهي مسألة تتضمن السؤال عن جماعة واضعين أيديهم على أملاكهم ومورثهم ومورث مورثهم نحوا من سبعين عاما يتصرفون فيها بالبناء والغرس والتعويض والقسمة وكثيرا من وجوه التفويت فادعى عليهم بوقفيتها شخص حاضر عالم بالتفويت المذكور والتصرف هو ومورثه من قبله.
ونصه: ولا يجب القضاء بالحبس إلا بعد أن يثبت التحبيس وملك المحبس لم حبسه يوم التحبيس وبعد أن تتعين الأملاك المحبسة بالحيازة لها على ما تصح فيه الحيازة ، فإذا ثبت ذلك كله على وجهه وأعذر إلى المقوم عليهم فلم يكن لهم حجة إلا من ترك القائم وأبيه قبله عليهم وطول سكوتهما عن طلب حقهما مع علمهما بتفويت الأملاك فالقضاء بالحبس واجب والحكم به لازم. انتهى.
وأفتى بذلك أيضا في المسألة السادسة من مسائل الدعوى والخصومات في مسألة ابن زهر، وهي مسألة تتضمن أن رجلا في ملكه ضيعة ورثها عن سلفه منذ سبعين عاما هو وأبوه، وهم يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه فقام عليه رجل وادعى أن الضيعة رهن بيده وبذلك ملكها سلفه قبله واستدعى عقد السماع بالرهن، فأثبت الذي بيده الضيعة أن جده ابتاعها من جد القائم عليه فيها فأفتى أن شهادة الشراء أعمل، ثم قام ذلك الرجل المشتري المدعي الرهنية بعينه وادعى

أنها حبس عليه وأثبت عقد التحبيس بالشهادة على خطوط شهدائه فهل ترى قيامه أولا بالرهن يبطل قيامه بالحبس أم لا؟ فأجاب: كان من وجه الحكم أن لا يكلف الذي بيده الضيعة من أين صارت إليه حتى يثبت القائم ملك الراهن لها ورهنه إياها وموته، وأنه وارثه أو وارث وارثه، وكذلك الحكم في قيامه بالحبس سواء في مذهب مالك وجميع أصحابه، غير أن قول المقوم عليه: أن جده ابتاعها من جد القائم عليه إقرار منه له بملكها، فإن كان هو المحبس، وأثبت حفيده عقد التحبيس، وأنه من عقبه لا عقب له غيره بالسماع إن عجز عن البينة القاطعة وأعذر إلى المقوم عليه فيما ثبت من ذلك فلم يكن عنده فيه مدفع، فالواجب أن يسأل المقوم عليه، فإن أقر أنها هي التي وقع ذكرها في كتاب التحبيس لم يجب على القائم فيها حيازة لاتفاقهما عليه، وانظر إلى تاريخ كتب صاحب التحبيس وتاريخ السماع بشراء جد المقوم عليه من جد القائم، فإن وجد تاريخ الحبس أقدم قضي به وبطل الشراء ووجب الرجوع بالثمن ، وإن وجد تاريخ السماع بالشراء أقدم أو لم يعلم أيهما أقدم قبل صاحبه قضي بالشراء وبطل التحبيس، وهكذا الرواية في ذلك.
ثم قال في جواب ثان على المسألة بعينها إثر الجواب الأول: ما تضمنه عقد التحبيس الثابت لا يوجب أن يسأل من بيده شيء من ذلك من أين صار له ولا يعقل عليه ولا يكلف إثباتا ولا عقلا إلا من بعد أن يثبت القائم بالتحبيس ملك المحبس لما حبسه ويحوز ما أثبت تحبيسه حيازة صحيحة على الوجه الذي ذكرناه، وهذا أصل لا اختلاف فيه، أعني: أن من بيده ملك لا يدعيه يكلف إثبات من أين صار له حتى يثبت المدعي ما ادعاه ويحوزه ولا يلزم المقوم عليه إذا أفضى ببقاء الملك بيده

وحكم بقطع الاعتراض عنه بشيء من ثمن ما ادعى شراءه إذا مضى من طول المدة ما صدق فيه المبتاع على أداء ثمن ما ابتاعه في قول مالك وجميع أصحابه، ولو لم يمض لم يحكم للمدعي أيضا بالثمن حتى يرجع عما ادعاه من التحبيس إلى تصديق دعوى المشتري على اختلاف أصحابنا المتقدمين، أي: واستفيد من هذه المسألة فوائد: منها : أنه مشى على أنه لا يسأل واضع اليد عن شيء حتى يثبت القائم الملك.
ومنها : حكم شهادة السماع في الرهن. ومنها : القضاء بالتاريخ السابق. ومنها : إذا جهل السابق من تاريخ الشراء أو الحبس قضي بتاريخ الشراء وبطل الحبس.
وأفتى غيره: أنه إذا جهل التاريخ قدم الحبس. والله أعلم. ص: (وفي الشريك القريب معهما قولان) ش. يعني: أنه اختلف في الشريك القريب إذا حاز العقار بالبناء والهدم هل تكون مدة الحيازة في حقه عشر سنين كالأجنبي أو لا يكفي في ذلك عشر سنين؟ ولم يبين المصنف قدر مدة الحيازة على القول الثاني والقولان لابن القاسم ذكرهما في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق فكان أولا يقول: إن العشر سنين حيازة، ثم رجع إلى أن ذلك لا يكون حيازة إلا أن يطول الأمر أزيد من أربعين سنة.
(تنبيهات): الأول: ظاهر كلام المصنف وغيره: أن القولين متساويان، وقد علمت أن القول الذي رجع إليه ابن القاسم أن ذلك لا يكون حيازة، ولا شك أن العمل على القول المرجوع إليه فتأمله.
الثاني: علم من قول المصنف معهما أنه لا تحصل الحيازة بين القرابة الشركاء إذا لم يكن هدم ولا بنيان وهو كذلك كما سيأتي في كلام ابن راشد في شرح قول المصنف: وإنما تفترق الدار من غيرها، ويأتي أيضا هناك

بيان حكم الحيازة بين القرابة الشركاء في غير العقار. والله أعلم.
الثالث: لم يذكر المصنف حكم القريب الذي ليس بشريك، وذكر ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم أن قول ابن القاسم اختلف في ذلك، فجعله مرة كالقريب الشريك فيكون قد رجع عن قوله أن الحيازة لا تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان إلى أنه لا حيازة بينهم في ذلك إلا مع الطول الكثير، وهو نص قوله في سماع يحيى المذكور، ومرة رآهم بخلاف ذلك فلم يرجع عن قوله: أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان وهو دليل قوله في السماع المذكور. انتهى.
(قلت): فعلم من كلام ابن رشد هذا أن القول بأن حكم القريب الذي ليس بشريك كحكم القريب الشريك هو الراجح؛ لقوله: إنه نص قول ابن القاسم، وأن الثاني إنما هو مفهوم من كلام ابن القاسم فتأمله، وتحصل من هذا: أن الحيازة بين القرابة سواء كانوا شركاء أو غير شركاء لا تكون بالسكنى والازدراع، وإنما تكون بالهدم والبناء في الأمد الطويل الذي يزيد على أربعين سنة على الأرجح من القولين. والله أعلم.
الرابع: محصل كلام ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق، وأن الحيازة لا تكون بين أب وابنه بالسكنى والازدراع والاستخدام والركوب اتفاقا، وكذلك الأقارب الشركاء بميراث وغيره على الأظهر، وكذا الشركاء الأجانب الذين الشركة بينهم فتكفي الحيازة عشرة أعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان على الشهود وإن حصل هدم وبناء وغرس فتكفي العشرة الأعوام في الشريك الأجنبي، وفي الشريك القريب مع ذلك قولان، وفي كون ذلك القريب غير الشريك والمولى والصهر الشريكان،

ثالثها في الصهر والمولى دون القريب، وفي كون السكنى والازدراع في العشرة حيازة لمولى وصهر غير شريكين أو إن هدم وبنى أو إن طال جدا أقوال. والله أعلم. ص: (لا بين أب وابنه إلا بكهبة) ش: قال ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: وتحصل الحيازة في كل شيء، بالبيع والهبة والصدقة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والولاء ولو بين أب وابنه، ولو قصرت المدة إلا أنه إن حضر مجلس البيع فسكت حتى انقضى المجلس لزمه البيع في حصته وكان له الثمن، وإن سكت بعد العام ونحوه حتى استحق البائع الثمن بالحيازة مع يمينه، وإن لم يعلم بالبيع إلا بعد وقوعه فقام حين علم أخذ منه، وإن سكت العام ونحوه ولم يكن له إلا الثمن، وإن لم يقم حتى مضت مدة الحيازة لم يكن له شيء واستحقه الحائز، وإن حضر مجلس الهبة والصدقة والتدبير والعتق فسكت حتى انقضى المجلس -لم يكن له شيء، وإن لم يحضر ثم علم فإن قام حينئذ كان له حقه، وإن سكت العام ونحوه فلا شيء له، ويختلف في الكتابة هل تحمل على البيع أو على العتق؟ قولان. انتهى مختصرا.
ص: (وإنما تفترق الدار من غيرها في الأجنبي ففي الدابة وأمة الخدمة السنتان ويزاد في عبد وعرض) ش: يعني: أنه إنما يفترق بين الدور وغيرها في مدة الحيازة إذا كانت الحيازة بين الأجانب، وأما في حيازة القرابة بعضهم على بعض فلا يفرق بين الدور وغيرها، قال ابن رشد في رسم سلف من سمع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: إن الأقارب والشركاء بالميراث أو بغير الميراث لا خلاف أن الحيازة بينهم لا تكون بالسكنى والازدراع ولا خلاف أنها تكون بالتفويت بالبيع والصدقة والهبة والعتق والكتابة والتدبير والوطء

وإن لم تطل المدة والاستخدام في الرقيق والركوب في الدواب كالسكنى فيما يسكن والازدراع فيما يزرع قال: والاستغلال في ذلك كالهدم والبنيان في الدور وكالغرس في الأرضين ثم قال: ولا فرق في مدة حيازة الوارث على وارثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض وإنما يفترق ذلك في حيازة الأجنبي بالاعتمار والسكنى والازدراع في الأصول والاستخدام والركوب واللباس في الرقيق والدواب والثياب، فقد قال أصبغ: إن السنة والسنتين في الثياب حيازة وإذا كانت تلبس وتمتهن ، وإن السنتين والثلاثة حيازة في الدواب إذا كانت تركب ، وفي الإماء إذا كن يستخدمن ، وفي العبيد والعروض فوق ذلك ، ولا يبلغ في شيء من ذلك كله بين الأجنبيين إلى العشرة الأعوام كما يصنع في الأصول. انتهى .

(تنبيهات): الأولى : علم من كلام ابن رشد أن اللباس في الثياب كالسكنى في الدور وأنه لا تحصل حيازة بين الأقارب ولو طالت المدة وأن الاستقلال في الرقيق والدواب والثياب بمعنى قبض أجرة العبيد والدواب والثياب؛ كالهدم والبنيان في العقار فلا تحصل الحيازة بين الأقارب في الرقيق والثياب والعروض إلا بالاستغلال ويختلف في مدتها على القولين السابقين اللذين أشار إليهما المصنف بقوله: وفي الشريك القريب معهما قولان أو بالأمور المفوتة؛ كالبيع والهبة والصدقة والعتق والوطء ويعلم هذا من كلام المصنف؛ لأنه لما جعل ذلك مفوتا بين الأب وابنه علم أنه مفوت في حق غيرهما من باب أحرى. والله أعلم.
الثاني : فهم من قول المصنف في الأجنبي أن القريب لا تفترق الدار من غيرها في حقه سواء كان شريكا أو غير شريك ففيه إشارة إلى ترجيح القول بتساويهما كما تقدم

ذلك.
الثالث : تقدم في كلام ابن رشد الثياب يكفي في حيازتها السنة والسنتان ولم يتعرض لها المصنف، بل قد يفهم من كلامه دخولها في العروض فتنبه لذلك.
الرابع : التفصيل الذي ذكرناه عن ابن راشد لا يؤخذ من كلام المصنف ولم ينقله في التوضيح وهو أتم فائدة فتأمله. والله أعلم.
الخامس : في المدة التي يسقط بها طلب الدين قال في المسائل الملقوطة من الكتب المبسوطة المنسوب لولد ابن فرحون : الساكت عن طلب الدين ثلاثين سنة لا قول له ويصدق الغريم في دعوى الدفع ولا يكلف الغريم ببينة لا مكان موتهم أو نسيانهم للشهادة. انتهى من [منتخب الحكام] لابن أبي زمنين .
وفي كتاب محمد بن ياسين في مدعي دين سلف بعد عشرين سنة أن المدعى عليه مصدق في القضاء إذ الغالب أن لا يؤخر السلف مثل هذه المدة كالبيوعات. انتهى كلام المسائل الملقوطة، وقال والده ابن فرحون في [تبصرته] في الباب الثاني والستين في القضاء في شهادة الوثيقة والرهن على استيفاء الحق: (فرع) وفي [مختصر الواضحة] في آخر باب الحيازة قال عبد الملك : وقال لي مطرف وأصبغ : إذا ادعى رجل على رجل حقا قديما وقام عليه بذكر حقه وذلك القيام بعد العشرين سنة أخذ به وعلى الآخر البراءة منه.
وفي [مفيد الحكام]: أن ذكر الحق المشهود فيه لا يبطل إلا بطول الزمان كالثلاثين سنة والأربعين وكذلك الدين وإن كانت معروفة في الأصل إذا طال زمانها هكذا ومن هي له وعليه حضور فلا يقوم عليه بدينه إلا بعد هذا بطول الزمان فيقول: قد قضيتك وباد شهودي بذلك فلا شيء على المدين غير اليمين، قال: وكذلك الوصي يقوم عليه اليتيم بعد طول الزمان وينكر قبض ماله من الوصي فإن كانت مدة يهلك في مثلها

شهود الوصي فلا شيء عليه وإلا فعليه البينة بالدفع. انتهى.
وقال البرزلي في أثناء مسائل البيوع: رأيت جوابا وأظنه للمازري في الديون فقال: إذا طال الزمان على الطالب وبيده وثائق وأحكام وهو حاضر مع المطلوب ولا عذر له يمنعه من الطلب من ظلم ونحوه وسكت عن الطلب فاختلف المذهب في حد السكوت القاطع لطلب الديون الثابتة في الوثائق والأحكام هل حد ذلك عشرون سنة، وهو قول مطرف أو ثلاثون سنة، وهو قول مالك واتفقا جميعا على أن ذلك دلالة قاطعة لطلب الطالب، وقوله عليه الصلاة والسلام: « لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم » معلل بوجود الأسباب المانعة من الطلب بالغيبة البعيدة وعدم القدرة على الطلب مع الحضور، حتى إذا ارتفعت هذه الأسباب من الطلب كان طول المدة مع السكوت والحضور دلالة يقوى بها سبب المطلوب، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به » ، فأطلق عليه الصلاة والسلام ذكر الحيازة، فهو عام في كل ما يحاز من ريع ومال معين وغيره، ومن اجتهد فحد في الرياع العشر سنين وحد في الدين العشرين والثلاثين - رأى أن ذلك راجع إلى حال الطالب مع المطلوب، فمن غلب على حاله كثرة المشاحنة، وأنه لا يمكن أن يسكت عن خصمه عشر سنين -جعلها حدا قاطعا، ومن جعلها عشرين سنة أو ثلاثين، أي: أنها أقصى ما يمكن السكوت في بيع المتحمل فجعلها حدا قاطعا لأعذار الطالبين؛ لأن الغالب من الحال أنه قضاء، وقد قضى بتغليب الأحوال عمر بن الخطاب، وقاله مالك فيمن له شيء وترك غيره يتصرف فيه ويفعل فيه ما يفعل المالك الدهر الطويل، فإن ذلك مما يسقط الملك ويمنع الطالب من الطلب ، قاله مالك

وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ، وإذا كان وطول المدة مع حضور الطالب وسكوته مانعا له من الطلب فالطلب ممنوع في سائر المطالب دون وثائق وأحكام وأرباع، بدليل أن السكوت في ذلك يعد كالإقرار المنطوق به من الطالب للمطلوب بأنه لا حق له عليه ولا تباعة ولا طلب.
قلت: هذا الجواب يقتضي، أن ما بعد الثلاثين مجمع عليه، وإذا أجراه على مسائل الحيازة ففيها قريب القرابة والبعيد والمتوسط والمقاطع لقريب والمواصل له فيجرى عليها، وفي بعضها ما يبلغ الخمسين وأكثر مع أني أحفظ لابن رشد في [شرحه] أنه إذا تقرر الدين وثبت لا يبطل وإن طال؛ لعموم الحديث المتقدم، واختاره التونسي إذا كان ذلك بوثيقة مكتوبة وهي في يد الطالب والطلب بسببها؛ لأن بقاءها بيد ربها دليل على أنه لم يقبض دينه إذ العادة إذا قبض دينه أخذ عقده أو مزقه بخلاف إذا كانت الديون بغير عقود، ولو وجدت بغير المطلوب، وإلا ففيها قولان حكاهما ابن رشد وخرجهما على القولين في الرهن إذا وجد بيد الراهن، هل هو إبراء له أم لا لجواز وقوعه وسقوطه أو التسور عليه ونحو ذلك، وقياسه على باب الحيازة فيه نظر؛ لما أصل ابن رشد أن ترجيح الحيازة إنما هو فيما جهل أصله، وأما إذا ثبت أصله بكراء أو إعارة أو إعمار أو غير ذلك، فلا يزال الحكم كذلك وإن طال الزمن، والدين إن ثبت أصله أيضا، وإن كان في هذه الأصل خلاف في كتاب الولاء من [المدونة]، لكن مذهب ابن القاسم ما ذكره خلافا لقول الغير، وعليه جرى عمل القضاة في هذا الزمان بتونس، ما لم تقترن قرائن تدل على دفع الدين مع طول الزمان فيعمل عليها في البراءة. والله أعلم. انتهى.
ويشير والله أعلم بقوله: وقياسه على باب الحيازة فيه نظر لما أصل

ابن رشد أن ترجيح الحيازة إنما هو فيما جهل أصله إلى ما قاله في شرح المسألة الرابعة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق، ولتذكر المسألة وكلامه عليها ونصها: مسألة: قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن رجل أصدق امرأة عن ابنه منزلا فلما دخل ابنه بالمرأة أخذت المنزل إلا حقولا يسيرة تركتها في يد حميها، فلم تزل في يده حتى مات بعد طول زمان ثم أرادت المرأة أخذها فمنعها ورثة الحمو، وقالوا: قد عاينتها زمان من دهرك وهي في يده ولا تشهدي عليه بعارية ولا كراء، ولا ندري لعلك أرضاك من حقك، أترى للمرأة في ذلك حقا؟ قال: نعم، لها أن تأخذ تلك الحقول التي هي مما كان أصدقها الحمو عن ابنه، ولا يضرها طول ما تركت ذلك في يد الحمو؛ لأنها ليست بالصدقة فتلزم حيازته، وإنما الصداق ثمن من الأثمان، وكذلك لو تركت كل ما أصدقها في يد الحمو لم يضرها ذلك، قال ابن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف؛ لأن حقها تركته في يد حموها فلا يضرها ذلك، طال الزمان أو قصر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ولا يبطل حق امرئ مسلم، وإن قدم » وليس هذا من وجه الحيازة التي ينتفع بها الحائز، ويفرق بين القرابة والأجنبيين والأصهار فيها إذ قد عرف وجه كون الأحقاب بيد الحمو، فهي على ذلك محمولة حتى يعرف مصيرها إليه بوجه صحيح؛ لأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها، وهذا أصل الحكم بالحيازة . وبالله التوفيق.

3 -

النقول عن المذهب الشافعي
يقرر المذهب الشافعي كغيره من المذاهب الأخرى: أن اليد دليل الملك من حيث الجملة ما لم يعارضها ما هو أقوى منها، وليس فيما

أوردناه من النقول ما يدل على تحديد مدة معينة، ويكون مضيها مثبتا الملكية لصاحبه اليد، كما هو مقرر في كتب الحنفية والمالكية، وفيما يلي نقول عن الإمام الشافعي وبعض أتباعه:
أ- جاء في [الأم] (1) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا كان الشيء في يد اثنين عبدا كان أو دارا أو غيره فادعى كل واحد منهما كله فهو في الظاهر بينهما نصفان، ويكلف كل واحد منهما البينة على ما في يد صاحبه، فإن لم يجد واحد منهما بينة أحلفنا كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فأيهما حلف بريء، وأيهما نكل رددنا اليمين على المدعي، فإن حلف أخذ، وإن نكل لم يأخذ شيئا، ودعواه النصف الذي في يد صاحبه كدعواه الكل ليس في يديه منه شيء؛ لأن ما في يد غيره خارج من يديه .
ب- وجاء فيها أيضا (2) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كانت الدار في يد رجلين فأقام أحدهما البينة أنها كلها له منذ سنة والآخر البينة أن له كلها منذ سنتين فيه بينهما نصفان - أقبل بينة كل واحد منهما على ما في يده وأطرحها عما في يد غيره إذا شهد شهود له بخلافها. قال أبو يعقوب : يقضى بها لأقدمهما ملكا لها. قال الربيع : هي بينهما نصفان .
ج- وجاء فيها : (3) قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كان العبد في يدي رجل فادعاه آخر وأقام البينة أنه كان في يديه أمس - فإنه لا يقبل منه البينة على هذا؛ لأنه قد يكون في يديه ما ليس له، ولو أقام البينة أن هذا
__________
(1) [الأم] (6\ 227).
(2) [الأم] (6\232).
(3) [الأم] (6\ 230).

العبد أخذ هذا منه أو انتزع منه العبد أو اغتصبه منه أو غلبه على العبد وأخذه منه أو شهدوا أنه أرسله في حاجته فاعترضه هذا من الطريق فذهب به أو شهدوا أنه أبق من هذا فأخذه هذا - فإن هذه الشهادة جائزة ويقضى له بالعبد، فإن لم تكن له بينة فعلى الذي في يديه العبد اليمين، فإن حلف بريء، وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعي، فإن حلف أخذ ما ادعى، وإن أنكل سقط دعواه، وإنما حلفه على ما ادعى صاحبه. قال أبو يعقوب رحمه الله تعالى: تقبل بينته ويترك في يديه كما كان .
د- وجاء فيها أيضا (1) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كانت الدابة في يدي رجل فأقام البينة أنها له، فأقام رجل أجنبي بينة أنها له - فهي للذي هي في يديه. وسواء أقام الذي هي في يديه بينة على أنها له بميراث أو شراء أو غير ذلك من الملك أو لم يقمها. وسواء أقام الأجنبي البينة على ملك أقدم من ملك هذا أو أحدث أو معه أم لم يقمها. إنما أنظر إلى الشهود حين يشهدون فأجعلها للذي هو أحق في تلك الحال .
هـ- وجاء فيها أيضا (2) : أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا ابن أبي يحيى عن إسحاق بن أبي فروة عن عمر بن الحكم عن جابر بن عبد الله : « أن رجلين تداعيا دابة فأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يديه، » وهذا قول كل من حفظت عنه ممن لقيت في النتاج وفيما لا يكون إلا مرة، وخالفنا بعض المشرقيين
__________
(1) انظر [الأم] (6\235، 236).
(2) [الأم] (6\237).

فيما سوى النتاج وفيما يكون مرتين .
و- وجاء فيها أيضا (1) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا تداعى الرجلان الشيء وهو في يد أحدهما دون الآخر فأقاما معا بينة - فالبينة بينة الذي هو في يديه، إذا كانت البينة مما يقضى بمثله مثل شاهد وامرأتين أو شاهدين فأقام الآخر عشرة أو أكثر- فسواء .
ز- وجاء فيها أيضا تحت عنوان (2) : ( باب الدعويين إحداهما في وقت قبل صاحبه ).
قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كان العبد في يد رجل فأقام الرجل البينة أنه له منذ سنتين، وأقام الذي هو في يديه البينة أنه له منذ سنة، فهو للذي هو في يديه، والوقت الأول والوقت الآخر سواء، وكذلك لو كان في أيديهما فأقاما جميعا البينة على الملك إنما أنظر إلى الحال التي يتنازعان فيها .
ح- جاء في مختصر [ المزني ] (3) : قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: « البينة على المدعي » قال الشافعي : أحسبه قال: ولا أثبته قال: واليمين على المدعى عليه. قال: وإذا ادعى الرجل الشيء في يدي الرجل فالظاهر أنه لمن هو في يديه مع يمينه؛ لأنه أقوى سببا. فإن استوى سببهما فهما فيه سواء، فإن أقام الذي ليس في يديه البينة قال لصاحب اليد: البينة
__________
(1) [الأم] (6\238).
(2) [الأم] (6\235).
(3) انظر [الأم] (8\314) من مختصر المزني.

التي لا تجر إلى أنفسها بشهادتها أقوى من كينونة الشيء في يديك، وقد يكون في يديك ما لا تملكه فهو له لفضل قوة سببه على سببك. فإن أقام الآخر بينة قيل: قد استويتما في الدعوى والبينة، والذي الشيء في يديه أقوى سببا فهو له لفضل قوة سببه. وهذا معتدل على أصل القياس والسنة على ما قلنا في رجلين تداعيا دابة وأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يديه .
ط- يقول الشيرازي (1) : ( وإن تداعيا عينا ولأحدهما بينة وهي في يدهما أو في يد أحدهما أو في يد غيرهما -حكم لمن له البينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « شاهداك أو يمينه » (2) ، فبدأ الحكم بالشهادة، ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها واليد تحتمل الملك وغيره، والذي يقويها هو اليمين وهو متهم فيها فقدمت البينة عليها، وإن كان لكل واحد فيهما بينة نظرت فإن كانت العين في يد أحدهما قضى لمن له اليد من غير يمين. ومن أصحابنا من قال: لا يقضى لصاحب اليد من غير يمين؛ لأن بينته تعارضها بينة المدعي فتسقطها، ويبقى له اليد، ولا يقضى بها من غير يمين.
والمنصوص أنه يقضى له من غير يمين؛ لأن معه بينة معها ترجيح وهو اليد. ومع الآخر بينة لا ترجيح معها. والحجتان إذا تعارضتا ومع أحدهما ترجيح قضي بالتي معها الترجيح كالخبرين إذا تعارضا رفع أحدهما قياس. وإن كانت العين في يد أحدهما فأقام الآخر بينة فقضي له وسلمت العين إليه، ثم أقام صاحب اليد بينة أنها له نقض الحكم وردت العين إليه؛ لأنا حكمنا
__________
(1) انظر [المهذب] (2\311).
(2) صحيح البخاري الرهن (2380).

للآخر ظنا منا أنه لا بينة له، فإذا أتى بالبينة بان لنا أنه كانت له يد وبينة فقدمت على بينة الآخر ).
ي- ويقول الشيرازي في [المهذب] (1) : ( وإن كان في يد رجل دار فادعاها رجل وأقام البينة أنها له أجرها ممن هي في يده، وأقام الذي في يده الدار بينته أنها له قدمت بينة الخارج الذي لا يد له؛ لأن الدار المستأجرة في ملك للمؤجر وبيده، وليس للمستأجر إلا الانتفاع، فتصير كما لو كانت في يده دارا، وادعى رجل أنها له غصبه عليها الذي هي في يده وأقام البينة- فإنه يحكم بها للمغصوب منه ).
__________
(1) [المهذب] (2\ 313).

ك- جاء في [نهاية المحتاج] للرملي (1) : (ولو كانت) العين (بيده) تصرفا أو إمساكا (فأقام غيره بها) أي: بملكها، من غير زيادة (بينة) وأقام (هو) بها (بينة) بينت سبب ملكه أم لا أو قالت: كل اشتراها أو غصبها من الآخر، (قدم) من غير يمين (صاحب اليد) ويسمى: الداخل؛ لأن صلى الله عليه وسلم قضى بذلك، كما رواه أبو داود وغيره، ولترجيح بينته وإن كانت شاهدا ويمينا على الأخرى وإن كانت شاهدين، ومن ثم لو شهدت بينة المدعي بأنه اشتراه منه، أو من بائعه مثلا أو أن أحدهما غصبها قدم لبطلان اليد حينئذ .
ل- ويقول الرملي في [نهاية المحتاج]: أما إذا كان لأحدهما يد وشاهدان وللآخر شاهد ويمين فتقدم اليد والشاهدان (و) المذهب (أنه لو كان لصاحب متأخرة التاريخ يد قدمت)؛ لأنهما متساويان في إثبات الملك
__________
(1) [نهاية المحتاج] (8\ 340).

في الحال، فيتساقطان فيه، وتبقى اليد فيه مقابلة الملك السابق وهي أقوى من الشهادة على الملك السابق، بدليل أنها لا تزال، بها وقيل العكس يتساويان؛ لأن لكل جهة ترجيح .
م- جاء في [شرح منهج الطلاب] لزكريا الأنصاري (1) تحت عنوان: (فصل في تعارض البينتين ).
لو (ادعى كل منهما) أي من الاثنين (شيئا وأقام بينة به وهو بيد ثالث سقطتا) لتناقض موجبهما، فيحلف لكل منهما يمينا.. (أو بيدهما أو لا بيد أحد فهو لهما) إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر (أو بيد أحدهما) ويسمى الداخل (رجحت بينته)، وإن تأخر تاريخها، أو كانت شاهدا ويمينا وبينة الخارج شاهدين، أو لم تبين سبب الملك من شراء أو غيره ترجيحا لبينته بيده. هذا (وإن أقامها بعد بينة الخارج) ولو قبل تعديلها بخلاف ما لو أقامها قبلها؛ لأنها إنما تسمع بعدها؛ لأن الأصل في جانبه اليمين فلا تعدل عنها مادامت كافية (ولو أزيلت يده ببينة وأسندت بينته) الملك (إلى ما قبل إزالة يده واعتذر بغيبتها) مثلا فإنها ترجح؛ لأن يده إنما أزيلت لعدم الحجة، وقد ظهرت فينقض القضاء، بخلاف ما إذا لم تسند بينته إلى ذلك، أو لم يعتذر بما ذكر فلا ترجح؛ لأنه الآن مدع خارج واشتراط الاعتذار ذكره الأصل كالروضة.
وأصلها قال البلقيني : وعندي أنه ليس بشرط والعذر إنما يطلب إذا ظهر من صاحبه ما يخالفه كمسألة الرابحة... ويجاب بأنه إنما شرط هنا وإن لم
__________
(1) انظر [فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب] لزكريا الأنصاري (2\232).

يظهر من صاحبه ما يخالفه لتقدم الحكم بالملك لغيره فاحتيط بذلك ليسهل نقض الحكم بخلاف ما مر .
ن- وجاء في [حاشية الباجوري (1) على شرح ابن قاسم الغزي ] تعليقا على قول ابن قاسم : (وإذا تداعيا) أي: اثنان شيئا في يد أحدهما فالقول قول صاحب اليد بيمينه) أن الذي في يده له.
قال الباجوري : (... قوله: شيئا، أي: عينا، وقوله: في يد أحدهما، أي: ولا بينة لواحد منهما، فإن كان لكل منهما بينة رجحت بينة صاحب اليد، ويسمى الداخل على بينة الآخر، ويسمى: الخارج بشرط أن يقيم الداخل بينته بعد بينة الخارج ولو قبل تعديلها؛ لأن الأصل في جانب الداخل اليمين ما لم يقم الخارج بينته، فلا يعدل عنها مادامت كافية، فلو أقامها قبلها لم تسمع فيعيدها بعدها وترجح بينة الداخل، ولو كانت شاهدا ويمينا وكانت بينة الخارج شاهدين، وإن تأخر تاريخها أو لم تبين سبب الملك من شراء أو غيره ترجيحا لبينة بيده نعم لو قال الخارج: هو ملكي اشتريته منك ولم تدفعه لي أو غصبته مني واكتريته أو استعرته، فقال الداخل: بل هو ملكي وأقاما بينتين بما قالاه - رجحت بينة الخارج؛ لزيادة علمها بما ذكر، ولو أزيلت يد الداخل ببينة أقامها الخارج ثم أقام الداخل بينته وأسندت ملكه إلى ما قبل إزالة يده - رجحت بينته، وإن لم يعتذر بغيبتها مثلا على المعتمد خلافا للبلقيني، وتبعه شيخ الإسلام في شرح منهجه فينقض القضاء السابق؛ لأن يده إنما أزيلت بعدم الحجة وقد ظهرت
__________
(1) انظر [حاشية الباجوري] (3\ 584).

بخلاف ما إذا لم تسند ملكه إلى ذلك فلا ترجح؛ لأنه الآن مدع خارج. وعلم مما تقرر من أن بينة الداخل ترجح إذا أزيلت يده ببينة، وأسندت بينة ملكه ما قبل إزالة يده أن دعواه تسمع، ولو بغير ذكر انتقال بخلاف ما لو أزيلت يده بإقرار حقيقة أو حكما، وهو اليمين المردودة - فلا تسمع دعواه ثانيا بغير ذكر انتقال؛ لأنه مؤاخذ بإقراره .
س- قال العز بن عبد السلام :
(فائدة) (1) : اليد عبارة عن القرب والاتصال، وللقرب والاتصال مراتب بعضها أقوى من بعض في الدلالة:
أعلاها: ما اشتد اتصآله بالإنسان كثيابه التي هو لابسها وعمامته ومنطقته وخاتمه وسراويله ونعله الذي في رجله ودراهمه التي في كمه أو جيبه أو يده، فهذا الاتصال أقوى الأيدي لاحتوائه عليها ودنوه منها.
المرتبة الثانية : البساط الذي هو جالس عليه، أو البغل الذي هو راكب عليه، فهذا في المرتبة الثانية.
المرتبة الثالثة : الدابة التي هو سائقها أو قائدها، فإن يده في ذلك أضعف من يد راكبها.
المرتبة الرابعة : الدار التي هو ساكنها ودلالتها دون دلالة الراكب والسائق والقائد؛ لأنه غير مسئول على جميعها، ويقدم أقوى اليدين على أضعفهما، فلو كان اثنان في دار فتنازعا في الدار وفي ما هما لابسانه جعلت الدار بينهما بأيمانهما، لاستوائهما في الاتصال، وجعل القول قول كل
__________
(1) [قواعد الأحكام في مصالح الأنام] ص 141.

واحد منهما في ما هو لباسه المختص به؛ لقوة القرب والاتصال، ولو اختلف الراكبان في مركوبهما حلفا وجعل بينهما لاستوائهما، ولو اختلف الراكب مع القائد أو السائق قدم الراكب عليهما بيمينه .
ع- وجاء في [الفتاوى الكبرى] لابن حجر الهيتمي (1) :
سئل رحمه الله عن امرأة بيدها مستند شرعي مضمونه: أن فلانة الفلانية اشترت من أختها فلانة الفلانية بيتا بيعا مطلقا بثمن كذا وكذا وقبضت البائعة الثمن باعترافها وحكم حاكم شافعي بالتبايع المذكور. ومؤرخ التبايع والحكم بعام سنة عشرين وتسعمائة (920) ، والشاهد لم يكتب في المستند معرفته للبائعة ولا عرفه بها أحد.
والحالة أن البائعة منكرة للبيع المذكور، وأنها لم تقبض الثمن المذكور، وأنها لم تكن أختا لها كما كتب في المستند. ثم إن البائعة جاءت عند حاكم شرعي مخالف للحاكم المثبت، وادعت على المشترية المذكورة أنها واضعة يدها على بيتها بمقتضى أنهما جعلته تحت يدها في مبلغ اثني عشرة أشرفيا هو ومستندات شرعية تشهد لها بذلك، فأجابت بأنها صار إليها ذلك بالشراء الشرعي منها كما ذكر أعلاه، وأنني تقابلت وإياك التبايع الصادر منك كما ذكر. فهل تسمع دعواها الآن بأنها لم تبع ولم تقبل الثمن؟ وهل حكم الحاكم الشافعي يمنعها من الدعوى بذلك؟ وهل طول المدة مع تصرفها في البيت بالهدم والبناء مسقط للطلب أيضا أم لا؟ وهل للحاكم المدعى لديه إلزام المشترية بحضور البينة ثانيا لتشهد في وجه البائعة بالمعرفة والبيع وبقبض الثمن
__________
(1) [الفتاوى الكبرى]، لابن حجر الهيتمي (4\ 374) وما بعدها.

أم لا؟
فأجاب: نفع الله تعالى بعلومه - قوله: لا تسمع دعواها الآن بأنها لم تبع حيث ثبت عند الحاكم وليس للحاكم المدعى لديه إلزام المشترية بحضور البينة ثانيا لتشهد في وجه البائعة بالمعرفة؛ لأن من لازم حكم الحاكم بصحة البيع استيفاء مسوغاته الشرعية، ومنها أن الشهادة لا تكون إلا على عينها أو باسمها ونسبها، ولا نظر لطول المدة المذكورة ولا لقصرها، وأما دعواها أنها لم تقبض الثمن فإن كانت الشهادة عليها بطريق المعاينة لم تسمع دعواها وإن كانت بطريق الشهادة على إقرارها سمعت دعواها أنها لم تقر إلا على رسم القيالة فتحلف المشترية أنها أقبضتها الثمن، فإن نكلت حلفت البائعة أنها لم تقبض واستحق الثمن... والله أعلم .

4 -

النقول من مذهب الحنابلة
تمهيد: يقرر المذهب الحنبلي القول في الحكم بمرور الزمان من حيث الجملة بناء على قاعدة سد الذرائع، وأنه إذا تعارض أصل وظاهر قدم الظاهر، ولم يذكر الحنابلة من تحديد المدة كما ذكره الأحناف، بل يردون ذلك إلى اجتهاد القاضي، وقد وردنا بعض النقول عن ابن قدامة وصاحب [مطالب أولي النهى]، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وجملة من فتاوى أئمة الدعوة.
قال ابن قدامة (1) : فإن كان في يد رجل دار أو عقار يتصرف فيها تصرف الملاك بالسكنى والإعارة والإجارة والعمارة والهدم والبناء من غير منازع،
__________
(1) [المغني] لابن قدامة (9\162).

فقال أبو عبد الله بن حامد : يجوز أن يشهد له بملكها. وهو قول أبي حنيفة والإصطخري من أصحاب الشافعي . قال القاضي: ويحتمل أن لا يشهد إلا بما شاهده من الملك واليد والتصرف؛ لأن اليد ليست منحصرة في الملك قد تكون بإجارة أو إعارة أو غصب. وهذا قول بعض أصحاب الشافعي .
ووجه الأول: أن اليد دليل الملك، واستمرارها من غير منازع يقويها، فجرت مجرى الاستفاضة فجاز أن يشهد بها كما لو شاهد سبب اليد من بيع أو إرث أو هبة، واحتمال كونها عن غصب أو إجارة يعارضه استمرار اليد من غير منازع، فلا يبقى مانعا كما لو شاهد سبب اليد، فإن احتمال كون البائع غير مالك والوارث والواهب لا يمنع الشهادة كذا هاهنا.
فإن قيل: فإذا بقي الاحتمال لم يحصل العلم ولا تجوز الشهادة إلا بما يعلم.
قلنا: الظن يسمى علما. قال الله تعالى: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } (1) ولا سبيل إلى العلم اليقين هاهنا فجاءت بالظن .
وجاء في [مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى] (2) : ( ومن رأى شيئا بيد إنسان يتصرف فيه مدة طويلة كتصرف مالك من نقض وبناء وإجارة وإعارة فله الشهادة بالملك)؛ لأن تصرفه فيه على هذا الوجه بلا منازع دليل صحة الملك (كمعاينة السبب) أي: سبب الملك (من بيع وإرث) ولا نظر لاحتمال كون البائع والمورث ليس مالكا (وإلا) يره يتصرف كما ذكر فإنه
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 10
(2) انظر [مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى] للشيخ مصطفى السيوطي الرجيباني (6\599).

يشهد (باليد والتصرف)؛ لأن ذلك لا يدل على الملك غالبا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (1) : ومن ادعى على خصمه أن بيده عقارا استغله مدة معينة وعينه، وأنه استحقه فأنكر المدعى عليه، وأقام المدعى عليه بينة باستيلائه لا باستحقاقه، لزم الحاكم إثباته والشهادة به كما يلزم البينة أن تشهد به؛ لأنه كفرع مع أصل، وما لزم أصل الشهادة به لزم فرعه حيث يقبل، ولو لم تلزم إعانة مدع بإثبات وشهادة ونحو ذلك إلا بعد ثبوت استحقاقه لزم الدور بخلاف الحكم وهو الأمر بإعطائه ما ادعاه إن أقام بينة بأنه هو المستحق أمر بإعطائه ما ادعاه وإلا فهو كمال مجهول يصرف في المصالح.
ومن بيده عقار فادعى رجل بثبوته عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته، ثم إلى ورثته ولم يثبت أنه مخلف عن مورثه - لا ينزع منه بذلك، لأن أصلين تعارضا وأسباب انتقاله أكثر من الإرث، ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة، ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق .
قال ابن القيم : فصل: الطريق الثالث (2) :
أن يحكم باليد مع يمين صاحبها، كما إذا ادعى عليه عينا في يده، فأنكر فسأل إحلافه فإنه يحلف وتترك في يده لترجح جانب صاحب اليد؛ ولهذا شرعت اليمين في جهته، فإن اليمين تنتزع في جنبة أقوى المتداعيين، هذا إذا لم تكذب اليد القرائن الظاهرة، فإن كذبتها لم يلتفت إليها، وعلم أنها يد مبطلة.
__________
(1) [الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية].
(2) [الطرق الحكمية في السياسة الشرعية] ص (113) ويرجع إلى ص (88).

وذلك كما لو رأى إنسانا يعدو وبيده عمامة، وعلى رأسه عمامة، وآخر خلفه حاسر الرأس، ممن ليس شأنه أن يمشي حاسر الرأس، فإنا نقطع أن العمامة التي بيده للآخر، ولا يلتفت إلى تلك اليد.
ويجب العمل قطعا بهذه القرائن. فإن العلم المستفاد منها أقوى بكثير من الظن المستفاد من مجرد اليد، بل اليد هنا لا تفيد ظنا البتة. فكيف تقدم على ما هو مقطوع به، أو كالمقطوع به؟
وكذلك إذا رأينا رجلا يقود فرسا مسرجا ولجامه وآلة ركوبه، وليست من مراكبة في العادة، ووراءه أمير ماش، أو من ليس من عادته المشي- فإنا نقطع أن يده مبطلة.
وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهدت العملة معه وليس من أهلها، كما إذا رؤي معه القماش والجواهر ونحوها مما ليس من شأنه وادعى أنها ملكه وفي يده - لم يلتفت إلى ملك اليد.
وكذلك كل يد تدل القرائن الظاهرة التي توجب القطع أو تكاد: أنها يد مبطلة لا حكم لها، ولا يقضى بها.
فإذا قضينا باليد، فإنما نقضي بها إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها.
وإذا كانت اليد ترفع بالنكول، وبالشاهد الواحد مع اليمين، وباليمين المردودة. فلأن ترفع بما هو أقوى من ذلك بكثير بطريق الأولى. فهذا مما لا يرتاب فيه: أنه من أحكام العدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووضعه بين عباده.
فالأيدي ثلاثة :
الأولى : يد يعلم أنها مبطلة ظالمة فلا يلتفت إليها.

الثانية : يد يعلم أنها محقة عادلة، فلا تسمع الدعوى عليها؛ كمن يشاهد في يده دارا يتصرف فيها بأنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب، مع عدم سطوته وشوكته. فجاء من ادعى أنه غصبها منه، واستولى عليها بغير حق - وهو يشاهد في هذا المدة الطويلة، ويمكنه طلب خلاصها منه. ولا يفعل ذلك - فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي، وأن يد المدعى عليه محقة.
هذا مذهب مالك وأصحابه وأهل المدينة . وهو الصواب.
قالوا: إذا رأينا رجلا حائزا لدار متصرفا فيها مدة سنين طويلة : بالهدم والبناء والإجارة والعمارة وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته: من خوف سلطان، أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة، ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك، مما يتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريا عن ذلك أجمع، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويريد أن يقيم بينة على ذلك فدعواه غير مسموعة أصلا، فضلا عن بينته، وتبقى الدار في يد حائزها؛ لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة.
قال تعالى: { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } (1) وأوجبت
__________
(1) سورة الأعراف الآية 199

الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره، وكذلك في هذا الموضع. وليس ذلك خلاف العادات، فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر.
قالوا: وإذا اعتبرنا طول المدة، فقد حدها ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ بعشر سنين. وربما احتج بحديث يذكر عن سعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من حاز شيئا عشر سنين فهو له » وهذا لا يثبت.
وأما مالك رحمه الله: فلم يوقت في ذلك حدا، ورأى ذلك على قدر ما يرى ويجتهد فيه الإمام.
الثالثة : يد محتمل أن تكون محقة، وأن تكون مبطلة، فهذه هي التي تسمع الدعوى عليها ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها. فالشارع لا يقر يدا شهد العرف والحس بكونها مبطلة، ولا يهدر يدا شهد العرف بكونها محقة.
واليد المحتملة: يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب، وهو الأقوى فالأقوى. والله أعلم. فالشارع لا يعين مبطلا، ولا يعين على إبطال الحق، ويحكم في المتشابهات بأقرب الطرق إلى الصواب وأقواها .
قال الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد رحمهم الله : جرى بين رجلين خصومة في عقد بيع نخل متقدم، ودخل عليه عقد ثان وقام بعض الناس على بعض يتنازعون في عقود ماضية في أموال قد استولى عليها أهلها وحضروا عند آل الشيخ، واتفق رأيهم أن ما أفتى به الشيخ رحمه الله وغيره من قضاة المسلمين، واستغله الذي هو في يده مدة والمدعي موجود ولا أنكر

وادعى - فلا له طريق، إلا إن تبين مقالة فيها نص صريح، أو إجماع أهل العلم، أو اتفق عليه قضاة المسلمين الموجودين، وإلا ما يثبت له دعوى بفتيا الواحد في مثل هذه المقالة التي يقضي فيها قاض من قضاة المسلمين، فلا يتعرضها الآخر إلا بإجماع القضاة: أن هذه الفتيا مخالفة للشرع، فإن نقضها واحد ما صح نقضه، فإن تقوى أمير أو مأمور على مسلم وأكل ماله بظلم أو بيع فاسد فيأتي وأقوم له إن شاء الله تعالى.
ويذكر لنا بعض الناس الذي حضروا الشيخ رحمه الله أنه إذا عرض عليه حفيظة بخط مطوع من مطاوعة الجاهلية (1) أمضاها ولا ينكثها، فإذا استدام ملك واحد في يد الآخر واستغله ثلاث سنين أو أربع سنين، وصاحب الدعوى حاضر ولا ادعى في هذه المدة سد عليه الباب.
__________
(1) أي: ما قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ سموا بذلك لما كانوا عليه من أعمال الجاهلية.

سئل الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد : عن أخوين بينهما شركة في أرض تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادعى أنه اشتراها من أخيه ولكن الشهود ماتوا .
فأجاب : الذي نفهم أن هذا على الأصل يلزم مدعي الشراء بينة، فإن لم يجد بينة حلف المنكر أنه لم يبعها عليه، وأنها في ملكه إلى الآن، فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض، وأما كونها في يد أحدهما ويتصرف فيها من قدر ثمان سنين فمثل هذا ما يصير بينة ولا يحكم باليد في مثل هذه الصورة؛ لكونه يدعى أنه اشتراها والآخر منكر ولم يدع أنها ملكه لا حق

للآخر فيها، بل هو مقر بملك أخيه فيها لكنه يدعي بالشراء وهذا الذي تقرر عندنا وعند الأخ حمد بن ناصر .
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله: عن مواريث كانت في الأصل فصارت اليوم في يد غير أهلها يتصرفون فيها تصرف الملاك فأجاب : الذي استقر عليه فتوى شيخنا شيخ الإسلام إمام الدعوة الإسلامية أن العقار ونحوه إذا كان في يد إنسان يتصرف فيه تصرف الملاك من نحو ثلاث سنين فأكثر ليس فيه منازع في تلك المدة أن القول قوله أنه ملكه إلا أن تقوم بينة عادلة تشهد بسبب وضع اليد أنه مستعير أو مستأجر ونحو ذلك، وأما الأصل فلا يلتفت إليه مع هذا الظاهر فقدم شيخنا رحمه الله الظاهر هنا على الأصل؛ لقوته وعدم المعارض .
وسئل أيضا الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ رحمهم الله: عن بستان ادعاه اثنان أصله لجدهما من قبل الأم وليس مع أحدهما بينة بانتقال ملك مورثه عنهما .
فأجاب : قد أفاد ابن القيم رحمه الله تعالى في [الطرق]، ما يؤخذ منه حكم هذه القضية فقال: وأما المرتبة الثالثة: فمثالها: أن يكون رجل حائزا لدار يتصرف فيها السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة، وينسبها إلى نفسه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع من مطالبته من خوف سلطان أو ما أشبه ذلك، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة أو شركة في ميراث ونحوه، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويزعم أنها له، ويريد أن يقيم بينة بذلك - فدعواه غير مسموعة أصلا. انتهى. فمفاد هذا

الكلام أنه إذا كان بين المتنازعين قرابة أو شركة في ميراث ونحو ذلك أن الدعوى تسمع ولا يثبت حكم اليد لمن هي في يده؛ لأجل القرابة وغيبة الشريك فتقسم على الميراث الذي هو في الأصل. والله أعلم .
سئل الشيخ حسن بن حسين ابن الشيخ رحمهم الله: إذا ادعى رجل أن أباه اشترى هذا الملك. وأحضر وثيقة وكان بيد آخر وورثه عن أبيه والوثيقة من مدة خمس سنين .
فأجاب : اعلم أن العلماء قرروا أنه إذا تعارض الأصل والظاهر قدم الظاهر ولم يعمل بالأصل، وهذا فيما إذا كان العقار بيد إنسان قدر خمس سنين يتصرف فيه تصرف المالك ولم يدعه صاحب الأصل في هذه المدة، ولم يكن بينهما شركة ولا قرابة بينهما، فالذي أرى في هذه المسألة إذا كان الملك بيد أب من هو في يده أو ولده مع وجود أبي المدعي يتصرف فيه ولم يدعه الأب فدعوى ابنه اليوم ساقطة، وإن كان أبو المدعي مات من حين الشراء المذكور في الوثيقة وأحضر ابنه بينة أنه لم يعلم بالوثيقة ولم يجدها إلا في هذا الزمان عمل بها وإلا لم تقبل دعواه عدم وجودها إلا ببينة مرضية .
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين : إذا ادعى إنسان عقارا فقال المدعى عليه: ورثته من أبي ولم أعلم لك فيه حقا هل تقبل يمينه؟ وإذا ادعى إنسان شيئا أنه يملكه الآن وشهدت البينة أنه كان له أمس أو لأبيه قبل موته إلى أن مات هل تسمع أو لا؟
فأجاب : لا يخلو إما أن يدعي على من هو بيده أنه غصبه إياه ونحو ذلك، فإذا لم يكن للمدعي بينة فعلى المدعى عليه اليمين على حسب

جوابه، فإن قال المدعي: غصبتني، حلف أني ما غصبتك هذا، وإن قال المدعي: أودعتك هذا، حلف أنك ما أودعتني إياه ونحو ذلك، فإذا حلف بأنك ما تستحق علي شيئا، أو أنك لا تستحق شيئا فيما ادعيته صار جوابا صحيحا ولا يكلف سواه، والحال الثاني: أن يدعي على من هو في يده بأن أباك غصبني هذا أو أنه وديعة عنده ونحو ذلك، فيمين المدعى عليه على نفي العلم، فيحلف في دعوى الغصب بأني ما علمت أن أبي غصب هذا منك، وفي دعوى الوديعة ما علمت أنك أودعته إياه ونحو ذلك.
وفي [سنن أبي داود ]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي: « ألك بينة؟ قال: لا ولكن أحلفه، والله يعلم أنها أرضي اغتصبها أبوه » (1) فتهيأ الكندي لليمين ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنه لا تمكنه الإحاطة بفعل غيره بخلاف فعل نفسه فوجب أن لا يكلف اليمين على البت.
وأما إذا ادعى أن هذه اليمين له الآن وشهدت البينة بأنها كانت له أمس، وأنها كانت في يده أمس لم تسمع بينته لعدم تطابق البينة والدعوى، قال في [الإنصاف]: في أصح الوجهين حتى يتبين سبب يد الثاني نحو غصبه بخلاف ما لو شهدت أنها ملكه اشتراه من رب اليد فإنها تقبل. اهـ.
وأما إذا شهدت البينة أن هذه العين لهذا المدعي بهذه الصيغة كفى ذلك وسلمت إلى المدعي ولو لم تقل وهي في ملكه الآن، وأما إذا ادعى أن هذه العين كانت ملكا لأبيه أو أمه أو أخيه ومات وهي في ملكه فصارت لي بالميراث، فإن شهدت بأن هذه العين كانت ملكا لأبيه ومات وهي في ملكه سمعت البينة بذلك، وإن قالت البينة كانت ملكا لأبيه ونحوه، ولم تشهد بأنها خلفه تركة لم تسمع هذه البينة. وفي [الفروع] و[الإنصاف]، عن الشيخ تقي الدين أنه قال فيمن بيده عقار فادعى آخر بثبوت عند الحاكم
__________
(1) صحيح البخاري الرهن (2380),صحيح مسلم الإيمان (138),سنن الترمذي تفسير القرآن (2996),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3244),سنن ابن ماجه الأحكام (2322),مسند أحمد بن حنبل (5/213).

أنه كان لجده إلى موته ثم لورثته ولم يثبت أنه مخلف عن موروثه لا ينتزع منه بذلك؛ لأن أصلين تعارضا وأسباب انتقاله أكثر من الإرث، ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة، ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق (1) .
__________
(1) [الدرر السنية] (6\512) وما بعدها.

مما تقدم يتبين ما يأتي :
أولا : من الأسباب الشرعية لنقل الملكية البيع والهبة والوصية والميراث والشفعة والحيازة والتقادم عند من يقول بذلك. انظر الإعداد، ص 2.
ثانيا : دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الاعتداء على أموال الناس بغير حق. انظر الإعداد ص 3.
ثالثا : معنى الحيازة في اللغة الجمع والتجمع، وجميع فروع هذه المادة ترجع إلى هذا الأصل، وكل من ضم شيئا إلى نفسه فقد حازه حوزا. والحيازة اصطلاحا: وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه والتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم. انظر الإعداد، ص 4.
رابعا : محل البحث: هو الشيء الذي طالت مدته بيد إنسان وليس لديه ما يثبت ملكيته سوى طول المدة فأقام شخص آخر الدعوى عليه وادعى أنه ملكه وأحضر البينة على ذلك وليس لديه في السابق ما يمنعه من إقامة الدعوى.
خامسا : ذكر أقوال الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم، وبيان المدد

وشروط ذلك مع الأدلة. المعتمد في هذا الباب في جميع تفاصيله من جهة اختلاف مقدار المدة على الاجتهاد السلطاني واجتهاد القضاة.
أ- يرى الإمام مالك رحمه الله تعالى ومن وافقه من أهل العلم: عدم تحديد المدة بمقدار معين يكون قاعدة يطبق عليها تصرف القضاة فلا يتجاوزونها ولا ينقصون عنها شيئا، وهذا مبني على أن لكل مسألة ظروفها وملابساتها، فيجتهد القاضي الذي ينظر في المسألة والاعتماد على اجتهاد القاضي له أصل في الشرع.
ب- يرى الحنفية ومن يوافقهم من المالكية وغيرهم: تحديد المدة، ومن هنا يتشعب الخلاف في مقدار هذه المدة .
1 - التقادم الذي مدته ست وثلاثون سنة، وهذا عند الحنفية ومن يوافقهم، وهو في: أ- دعوى المتولي والمرازقة في الأصل والوقف وغلته.
ب- دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في العقارات الموقوفة.
ج- الدعاوى المتعلقة بأصل النقود الموقوفة.
د- العقار الراجع من الطريق إذا كان موقوفا.
هـ- العقار الذي يرجع من طريق العقارات المملوكة.
و- دعاوى رقبة الأراضي الأميرية التي يقيمها مأمور الأراضي.
والقول بهذه المدة كما ذكر مبني على الاجتهاد.
2 - التقادم الذي مدته خمس عشرة سنة، وهذا يقول به الحنفية ومن يوافقهم، وهو مبني على الأمر السلطاني، فإذا أمر السلطان أن الدعوى

لا تنظر بعد مضي هذه المدة - وجب على القضاة الامتناع عن النظر فيها، فيكون القاضي معزولا عن سماعها، ويذكر ابن عابدين أن سبب النهي قطع الحيل والتزوير، مع العلم أن هذا يمنع النظر ولا يسقط الحق، ويحددون المسائل التي تدخل تحت هذه المدة في:
أ- دعاوى الدين، الوديعة العارية، العقار الملك، الميراث، القصاص، دعوى التولية والغلة في العقارات الموقوفة والمقاطعة والمشروطة التصرف فيها بالإجارتين.
ب- الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في العقار الملك. انظر الإعداد، 6، 11، 12، 34.
3 - التقادم الذي مدته عشر سنوات، وهذا عند من قال به من الحنفية ومن يوافقهم، ويحددون ما لا تقبل فيه الدعوى بعد هذه المدة في دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب التي هي الأرض الأميرية، وهذا أيضا يبنونه على الأمر السلطاني، فإذا أمر أنها لا تسمع الدعوى بعد هذه المدة وجب طاعته ولو أمر بسماعها بعد مضيها سمعت.
4 - مضى في الإعداد تحديد مدة التقادم عدد غير ذلك كما هو مبين في الإعداد تركنا ذكرها اختصارا.
5 - هناك تفاصيل في الإعداد تركنا ذكرها اختصارا ويمكن الرجوع إليها؛ لأن المقصود بالقصد الأول هو أصل الموضوع.
6 - الشروط التي يشترطها العلماء للقول بالتقادم والحكم بمقتضاه هي:
أ - البلوغ.
ب - العقل.
جـ- العلم بملكيته وبوضع اليد عليه.

د- الحضور.
هـ - أن لا يكون ممنوعا من إقامة الدعوى خوفا من ذي سلطان إذا كان الحائز هو السلطان أو الحائز شخصا له علاقة بالسلطان.
7 - المعتبر في مرور الزمان المانع لاستماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر فقط، وأما مرور الزمن الواقع بعذر شرعي من صغر وجنون وعته أو غيبة المدعي والمدعى عليه من المتقلبة فهذه المدة غير معتبرة لكن إذا زال العذر بدأت المدة.
8 - لا اعتبار لمرور الزمن في دعاوى المحال التي يعود نفعها للعموم كالطريق العام والنهر والمرعى؛ لأنه يوجد بين العامة قاصرون كالصغار والمجانين والمعتوهين، ويوجد أيضا غائبون، وحيث لا يمكن إفراز حق هؤلاء من غيرهم، فلذلك لا يجرى في المحال التي يعود نفعها للعموم. هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء
رقم (68) وتاريخ 21\10\ 1399هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال سنة 1399هـ إلى الحادي والعشرين منه نظر المجلس في موضوع [ التقادم في مسألة وضع اليد ]. واطلع على البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع، بناء على ما تقرر في الدورة الثالثة عشرة... واستعرض أقوال أهل العلم في مختلف المذاهب، وكان من أوضحها ما ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه [الطرق الحكمية] حين قال:
فصل: الطريق الثالث: أن يحكم باليد مع يمين صاحبها، كما إذا ادعى عليه عينا في يده فأنكر، فسأل إحلافه فإنه يحلف وتترك في يده لترجح جانب صاحب اليد؛ ولهذا شرعت اليمين في جهته، فإن اليمين تشرع في جنبة أقوى المتداعيين هذا إذا لم تكذب اليد القرائن الظاهرة، فإن كذبتها لم يلتفت إليها، وعلم أنها يد مبطلة، وذلك كما لو رأى إنسانا يعدو وبيده عمامة وعلى رأسه عمامة وآخر خلفه حاسر الرأس ممن ليس شأنه أن يمشي حاسر الرأس - فإننا نقطع أن العمامة التي بيده للآخر ولا يلتفت إلى تلك اليد، ويجب العمل قطعا بهذه القرائن، فإن العلم المستفاد منها أقوى بكثير من الظن المستفاد من مجرد اليد، بل اليد هنا لا تفيد ظنا البتة فكيف تقدم على

ما هو مقطوع به أو كالمقطوع به؟ كذلك إذا رأينا رجلا يقود فرسا مسرجا ولجامه وآلة ركوبه، وليست من مراكبه في العادة ووراءه أمير ماش أو من ليس من عادته المشي فإننا نقطع أن يده مبطلة، وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهدت العملة معه وليس من أهلها. كما إذا رؤي معه القماش والجواهر ونحوها مما ليس من شأنه، وادعى أنها ملكه وفي يديه لم يلتفت إلى ملك اليد.
وكذلك كل يد تدل القرائن الظاهرة التي توجب القطع أو تكاد أنها يد مبطلة لا حكم لها، ولا يقضى بها، فإذا قضينا باليد فإنما نقضي بها إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها، وإذا كانت اليد ترفع بالنكول وبالشاهد الواحد مع اليمين وباليمين المردودة فلأن ترفع بما هو أقوى من ذلك بكثير بطريق الأولى.
فهذا مما لا يرتاب فيه أنه من أحكام العدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه ووضعهم بين عباده، فالأيدي ثلاث: يد يعلم أنها مبطلة ظالمة فلا يلتفت إليها.
الثانية: يد يعلم أنها محقة عادلة فلا تسمع الدعوى عليها، كمن يشاهد في يده دار يتصرف فيها بأنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب مع عدم سطوته وشوكته، فجاء من ادعى أنه غصبها منه واستولى عليها بغير حق وهو يشاهده في هذه المدة الطويلة ويمكنه طلب خلاصها منه، ولا يفعل ذلك - فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي، وأن يد المدعى عليه محقة.
هذا مذهب مالك وأصحابه وأهل المدينة وهو الصواب. قالوا: إذا رأينا رجلا حائزا لدار متصرفا فيها مدة سنين طويلة بالهدم والبناء والإجارة

والعمارة وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته من خوف سلطان أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريا عن ذلك أجمع ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويريد أن يقيم بينة على ذلك فدعواه غير مسموعة أصلا فضلا عن بينته، وتبقى الدار في يد حائزها؛ لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة.
قال تعالى: { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } (1) وأوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره، وكذلك في هذا الموضوع وليس ذلك خلاف العادات فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر.
قالوا: وإذا اعتبرنا طول المدة فقد حددها ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم . وأصبغ بعشر سنين، وربما احتج لهم بحديث يذكر عن سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من حاز شيئا عشر سنين فهو له » وهذا لا يثبت.
وأما مالك رحمه الله فلم يوقت في ذلك حدا ورأى ذلك على قدر ما يرى ويجتهد فيه الإمام.
الثالثة: يد محتمل أن تكون محقة وأن تكون مبطلة
__________
(1) سورة الأعراف الآية 199

فهذه هي التي تسمع الدعوى عليها، ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها، فالشارع لا يغير يدا شهد العرف والحس بكونها مبطلة، ولا يهدر يدا شهد العرف بكونها محقة.
واليد المحتملة: يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب، وهو الأقوى فالأقوى، والله أعلم.
فالشارع لا يعين مبطلا، ولا يعين على إبطال الحق، ويحكم في المتشابهات بأقرب الطرق إلى الصواب وأقواها. وما ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- هو قول كثيرين من أهل العلم رحمهم الله.
وحيث إن المجلس لا يعلم نصا شرعيا خاصا في تحديد مدة تملك الشيء المعين الذي بيد إنسان وليس لديه إثبات الملكية سوى طول المدة، وادعى إنسان آخر ملكيته ولديه ما يثبت أنه كان ملكا له بوسيلة من وسائل الملك الشرعية.
ونظرا لأن هذه المسألة من المسائل التي تبنى على العرف، وعلى قاعدة سد الذرائع، وأن الحكم في كل صورة من صورها يختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال - فإن المجلس يرى عدم تحديد مدة معينة تكون أساسا يبني عليها القضاة أحكامهم، بل يترك الحكم لاجتهادهم، فإذا عرضت صورة من الصور لواحد منهم اجتهد فيها على حسب اختلاف ظروفها وملابساتها، وبناها على القاعدة الشرعية التي يمكن أن تنطبق عليها.

هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة
. ... . ... عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله خياط ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... سليمان بن عبيد
عبد الرزاق عفيفي ... راشد بن خنين ... محمد بن علي الحركان
عبد الله بن غديان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ غائب ... صالح بن لحيدان
محمد بن جبير ... . ... عبد الله بن قعود
عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح غائب ... صالح بن غصون
عبد الله بن منيع ... . ... .

(5)
كتابه المصحف حسب قواعد الإملاءهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الاستثنائية الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض من غرة صفر إلى السابع منه عام 1399 هـ اطلع المجلس على المعاملة المتعلقة بكتابة المصحف حسب قواعد الإملاء، وإن خالف ذلك الرسم العثماني، واقترح إعداد بحث في ذلك، وبناء عليه أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في هذا الموضوع، مشتملا على ما يأتي:
أولا: تمهيد يشتمل على أمرين:
أ- بيان نوع الكتابة التي كانت عند العرب وقت نزول القرآن.
ب- ذكر أمثلة يتبين منها مدى التغيير الذي يحدث عند كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء.
ثانيا: نقول عن العلماء الأولين يتبين منها رأيهم في ذلك مع ما استدلوا أو عللوا به.
ثالثا: الضرورة أو الحاجة التي دعت إلى العدول بالمصحف عن الرسم العثماني إلى كتابته حسب قواعد الإملاء، ومناقشة ذلك.
رابعا: الموانع التي تمنع من ذلك، وبيان ما قد يترتب عليه من تحريف ونحوه. وفيما يلي تفصيل ذلك: والله الموفق.

كتابة المصحف
أولا: التمهيد ويشتمل عل أمرين:
أ -

بيان نوع الكتابة التي كانت معهودة عند العرب وقت نزول القرآن الكريم
إن الكتابة في العرب كانت قليلة جدا، وقد تعلموها من أهل الأنبار، وكان الذي يغلب على زمان السلف الكتابة المتكوفة إلى أن هذبها أبو علي بن مقلة، ثم قربها علي بن هلال البغدادي، وسلك الناس طريقته، ولم تكن محكمة جدا في ذلك الزمان، ولهذا وقع اختلاف في كتابة المصاحف من جهة الصناعة لا من جهة المعنى، وألف العلماء في ذلك واعتنوا به.
قال ابن كثير : وقد كانت الكتابة في العرب قليلة جدا، وإنما أول ما تعلموا ذلك ما ذكره هشام بن محمد بن السائب الكلبي وغيره: أن بشر بن عبد الملك أخا أكيدر دومة تعلم الخط من الأنبار، ثم قدم مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، وتعلمه حرب بن أمية وابنه سفيان، وتعلمه عمر بن الخطاب من حرب بن أمية، وتعلمه معاوية من عمه سفيان بن حرب، وقيل: إن أول من تعلمه من الأنبار قوم من طيء من قرية هناك يقال لها: بقة، ثم هذبوه ونشروه في جزيرة العرب فتعلمه الناس؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود : ثنا عبد الله بن محمد الزهري، ثنا سفيان عن مجاهد عن الشعبي قال: سألنا المهاجرين : من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الأنبار .

قال ابن كثير (1) : والذي كان يغلب على زمان السلف الكتابة المتكوفة، ثم هذبها أبو علي بن مقلة الوزير، وصار له في ذلك نهج وأسلوب في الكتابة، ثم قربها علي بن هلال البغدادي المعروف بابن البواب، وسلك الناس وراءه، وطريقته في ذلك واضحة جيدة، والغرض أن الكتابة لما كانت في ذلك الزمان لم تحكم جيدا وقع في كتابة المصاحف اختلاف في وضع الكلمات من حيث صناعة الكتابة لا من حيث المعنى، وصنف الناس في ذلك.
واعتنى بذلك الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه [فضائل القرآن]، والحافظ أبو بكر بن أبي داود رحمه الله، فبوبا على ذلك، وذكرا قطعة صالحة هي من صناعة القرآن ليست مقصدنا هاهنا؛ ولهذا نص الإمام مالك على أنه لا توضع المصاحف إلا على وضع كتابة الإمام، ورخص غيره في ذلك. واختلفوا في الشكل والنقط: فمن مرخص ومن مانع .
وذكر ابن كثير (2) : أن عثمان رضي الله عنه عهد إلى زيد بن ثابت الأنصاري، وعبد الله بن الزبير بن العوام القرشي، وسعيد بن العاص بن أمية القرشي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي : أن يكتبوا القرآن حينما اختلف الناس في القراءة بالحروف التي بها نزل القرآن، وتنازعوا فيما بينهم، فأمر هؤلاء أن يكتبوا القرآن على حرف واحد من الحروف التي بها نزل القرآن؛ منعا للاختلاف، فجلس هؤلاء الأربعة
__________
(1) ص (15) من كتاب [فضائل القرآن] المطبوع مع الجزء الرابع من تفسيره.
(2) من كتاب [فضائل القرآن] المطبوع مع الجزء الرابع من تفسيره.

يكتبون القرآن نسخا وإذا اختلفوا في موضع الكتابة على أي لغة رجعوا إلى عثمان رضي الله عنهم كما اختلفوا في التابوت أيكتبونه بالتاء أم بالهاء، فقال زيد بن ثابت : إنما هو التابوه، وقال الثلاثة القرشيون: إنما هو التابوت، فرجعوا إلى عثمان، فقال: اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم . اهـ.
والذي يعنينا هنا أن الكتابة كانت معروفة عند العرب قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعند نزول الوحي وإن كان ذلك قليلا، وأنها كانت تختلف من حيث الصناعة، وأنها كتب بها القرآن عند نزوله، وأن عثمان رضي الله عنه أمر الذين أسند إليهم جمع القرآن إذا اختلفوا في صناعة الكتابة أن يكتبوه بلغة قريش؛ لأن القرآن بها نزل، وقد علم الله ذلك من كتبة الوحي، ولم ينكر على رسوله ولا على كتبته، وعلم الصحابة صنيع عثمان ومن جمع القرآن بأمره، ولم ينكروا عليه ولا عليهم رضي الله عنهم أجمعين، فكانت كتابته على هذا النحو دون غيره سنة متبعة.

ب-

أمثلة يتبين منها مدى التغيير الذي يحدث من كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء
.

الرسم العثماني موضع التغيير الرسم الإملائي وضع التغيير السورة 1. الصلاة كتبت بالواو بعد اللام الصلاة كتبت بالألف بعد اللام في سور كثيرة 2. الزكاة كتب بالواو بعد الكاف الزكاة كتبت بالألف بعد الكاف ، ، ، ، 3. الحياة كتب بالواو بعد الياء الحياة كتبت بالألف بعد الياء ، ، ، ، 4. شفعاؤنا كتبت بلا ألف بعد العين شفعاؤنا كتبت بالألف بعد العين يونس 5. أم لهم شركاء كتبت بلا ألف بعد الكاف وبهمزة على واو بعدها ألف أم لهم شركاء كتبت بالألف بعد الكاف ثم همزة مفردة فقط الشورى 6. يبدؤا الخلق همزة على واو بعدها ألف يبدأ الخلق همزة على ألف يونس 7. ويدرؤا عنها همزة على واو بعدها ألف (بلا ألف بعد اللام) ويدرأ همزة على ألف النور 8. لهو البلاء وزيادة واو بعد الهمزة (وزيادة ألف بعد الواو) البلاء بألف بعد اللام وهمزة مفردة الصافات 9. نبوء الخصم بزيادة واو بعدها ألف نبأ بهمزة على الألف فقط ص 10. الربا بواو بعد الباء بعدها ألف الربا بألف بعد الباء فقط البقرة وغيرها 11. أرى بزيادة ألف قبل الذال لأذبحنه بلا زيادة ألف النمل 12. وتمت كلمة ربك بتاء مفتوحة كلمة ربك بتاء مربوطة الأنعام 13. إن رحمة الله بتاء مفتوحة رحمة الله بتاء مربوطة الأعراف 14. لعنت بتاء مفتوحة لعنة بتاء مربوطة النور 15. ورحمت ربك بتاء مفتوحة ورحمة ربك بتاء مربوطة الزخرف 16. الكتاب بلا ألف بعد التاء الكتاب بألف بعد التاء في سور كثيرة 17. الإنسان بلا ألف بعد السين الإنسان بألف بعد السين في سور كثيرة 18. لا يهدي من هو بلا ألف بعد الكاف كاذب بألف بعد الكاف الزمر 19. الجاهلين بلا ألف بعد الجيم الجاهلين بألف بعد الجيم الأنعام وغيرها 20. أتاهم بلا ألف بعد التاء أتاهم بألف بعد التاء غافر 21. السبيلا بألف بعد اللام السبيل بلا ألف بعد اللام الأحزاب 22. سلاسلا بألف بعد اللام الثانية وبدونها بعد الأولى سلاسل بلا ألف بعد اللام الثانية وبألف بعد الأولى الدهر 23. قواريرا بألف بعد الراء الثانية قوارير بلا ألف بعد الراء الدهر 24. الشيطان بلا ألف بعد الطاء الشيطان بألف بعد الطاء في سور كثيرة 25. وأغلالا بلا ألف بعد اللام الأولى أغلالا بألف بعد اللام الأولى الدهر 26. من نبأ المرسلين بياء بعد الهمزة من نبأ المرسلين بلا ياء بعد الهمزة الأنعام 27. بأييد ياءين قبل الدال بأيد . . . بياء فقط قبل الدال الذاريات وسيأتي كثير من الأمثلة في النقل عن [المقنع] لأبي عمرو الداني ، والنقل عن كتاب [الإتقان] للسيوطي إن شاء الله.

ثانيا: نقول عن العلماء يتبين منها رأيهم في كتابة المصحف بغير الرسم العثماني :
إن الحديث عن كتابة المصحف بغير الرسم العثماني قديم، فقد بحثه أئمة السلف قبل أكثر من ألف سنة، وألف فيه علماء القراءة والرسم كتبا وحكموا فيه بما ظهر لهم من الكراهة أو التحريم، وقد جمع الجلال السيوطي نقولا عنهم في الموضوع يتبين منها ما حكموا به في ذلك، فرأينا إثباتها فيما يلي:
قال الجلال السيوطي : (فصل) القاعدة العربية أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء به والوقوف عليه، وقد مهد له النحاة أصولا وقواعد، وقد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام، وقال أشهب : سئل مالك هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟
فقال: لا إلا على الكتبة الأولى. رواه الداني في [المقنع] ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة.
وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: لا. قال أبو عمرو : يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو أولوا.
وقال الإمام أحمد : يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك.
وقال البيهقي في [شعب الإيمان]: من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما

كتبوا شيئا، فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم.
قلت: وينحصر أمر الرسم في ست قواعد: الحذف والزيادة والهمز والبدل والوصل والفصل وما فيه قراءتان فكتب على إحداهما.
القاعدة الأولى: في الحذف: تحذف: الألف من ياء النداء نحو: يا أيها الناس ، وهاء التنبيه نحو: هؤلاء ، و هاأنتم ومن ذلك: أولئك ، و لكن ، و تبارك وفروع الأربعة، و الله و إله ، كيف وقع، و الرحمن و سبحان ، كيف وقع إلا قل سبحان ربي .
وتحذف الياء من كل منقوص منون رفعا وجرا نحو: باغ ولا عاد والمضاف لها إذا نودي إلا يا عبادي الذين أسرفوا يا عبادي الذين آمنوا ، في العنكبوت أو لم يناد. إلا قل لعبادي أسر بعبادي في (طه) و (حم)، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ، ومع مثلها نحو إن ولي ، و الحواريين .
وتحذف الواو مع أخرى نحو: لا يستون ، وإذا المؤدة ، يؤسا وتحذف اللام مدغمة في مثلها نحو: الليل، والذي، إلا الله، واللهم، واللعنة، وفروعه، واللهو، واللغو، واللؤلؤ، واللات، واللهم، واللعب، واللطيف، واللوامة،.. وساق كثيرا من الأمثلة للحذف.
القاعدة الثانية: في الزيادة زيدت ألف بعد الواو آخر اسم مجموع نحو: بنو إسرائيل ، ملاقو ربهم ، أولو الألباب بخلاف المفرد لذو علم إلا الربا، و إن امرؤ هلك .... وساق أمثلة كثيرة في الهمزة.
القاعدة الثالثة: في (الهمزة) يكتب الساكن بحرف حركة ما قبله أولا

ووسطا وآخرا نحو: إئذن و اؤتمن و البأساء و اقرأ و جئناك و وهئ و المؤتون و تسؤهم و إلا و فادارأتم و رئيا و الرياء و شطئه ، فحذف فيها، وكذا أول الأمر بعد فاء، نحو: فأتوا ، أو واو نحو: واشربوا ، والمتحرك إن كان أولا أو اتصل به حرف زائد بألف مطلقا، أي: سواء كان فتحا أو ضما أو كسرا، نحو: أيوب ، إذا ، أولو ، سأصرف ، فبأي ، سأنزل ، إلا مواضع أئنكم لتكفرون ، أئنا لمخرجون في (النمل) أئنا لتاركو آلهتنا ، أئن لنا في (الشعراء) أئذا متنا و أئن ذكرتم أئنا و أئمة و لئلا و لئن و يومئذ و يفرح ، فيكتب فيها بالياء قل أؤنبئكم و وهؤلاء فكتب بالواو، وإن كان وسطا فبحرف حركته، نحو: سأل و سئل و نقرؤه ، إلا جزاؤه الثلاثة. (يوسف) . . . . وساق أمثلة كثيرة للهمزة.
القاعدة الرابعة: في البدل تكتب (بالواو) للتفخيم: ألف الصلاة، والزكاة والحياة والربا غير مضافات والغاء ومشكاة والنجاة، ومناة، (وبالياء) كل ألف منقبلة عنها، نحو: يتوفاكم في اسم أو فعل اتصل به ضمير أم لا بقي ساكنا أم لا، ومنه يا حسرتا ، يا أسفا ، إلا و تترى و كلتا و هداني و عصاني و الأقصى و وأقصى المدينة و طغا الماء و سيماهم وإلا ما قبلها ياء، و الحوايا إلا يحيى اسما وفعلا، ويكتب بها إلى و على و أنى بمعنى: كيف، ومتى، وبلى، وحتى، ولدى، إلا لدى الباب وكتب بالألف الثلاثي الواوي اسما أو فعلا، نحو: الصفا

و شفا و عفا و الأضحى ، كيف وقع و ما زكى منكم و دحاها و تلاها و طحاها و سجا ،...) وساق أمثلة كثيرة للبدل.
القاعدة الخامسة: في الوصل والفصل توصل (ألا) بالفتح إلا عشرة: أن لا أقول أن لا يقولوا في (الأعراف) أن لا ملجأ ، وفي (هود): أن لا إله أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف أن لا تشرك في (الحج): أن لا تعبدوا ، في ( يس): أن لا تعلوا ، في (الدخان): أن لا يشركن في (الممتحنة) أن لا يدخلنها ، في (ن) (ومما) إلا من ما ملكت في (النساء) و (الروم) ومن ما رزقناكم ، في (المنافقين) (وممن) مطلقا، و (عما) إلا عن ما نهوا عنه ، و (إما) بالكسر إلا: وإما نرينك في (الرعد).
وأما بالفتح مطلقا، و (عمن) إلا ويصرفه عن من يشاء في (النور): عن من تولى في (النجم): وأمن إلا أم من يكون في (النساء) أم من أسس أمن من خلقنا في (الصافات) أم من يأتي آمنا و وإلم بالكسرة إلا فإن لم يستجيبوا لك في (القصص)، و (فيما) إلا أحد عشر: في ما فعلن الثاني في (البقرة) ليبلوكم في ما ، في (المائدة) و (الأنعام) قل لا أجد في ما أوحى و في ما اشتهت ، في (الأنبياء) في ما أفضتم و في ما هاهنا في (الشعراء) في ما رزقناكم في (الروم) في ما هم فيه و في ما كانوا فيه كلاهما في (الزمر) وننشئكم في ما لا تعلمون ، و (إنما) إلا: إن ما توعدون لآت في (الأنعام)، (وأنما) بالفتح إلا: وأن ما يوعدون في (الحج)، و(لقمان) و (كلما) إلا: كل ما ردوا إلى الفتنة

و من كل ما سألتموه و ئسما إلا مع اللام، ونعما، ومهما، وربما، وكأنما، ويكأن، وتقطع (حيثما) و (أن لم) بالفتح و (أن لن) إلا في (الكهف) و (القيامة) و (أين مالا)، إلا: فأينما تولوا أينما يوجهه واختلف في أينما تكونوا يدرككم أينما كنتم تعبدون في (الشعراء) أينما ثقفوا في (الأحزاب) و لكي لا إلا في (آل عمران) و (الحج) و (الحديد)، والثاني في (الأحزاب) و (يوم هم)، ونحو: فمال و ولات حين و ابن أم ، إلا في (طه) فكتبت الهمزة حينئذ واوا، وحذفت همزة ابن، فصارت هكذا يا ابن أم ... وساق أمثلة كثيرة للوصل والفصل.
القاعدة السادسة: فيما فيه قراءتان فكتبت على إحداهما: ومرادنا غير الشاذ، من ذلك: مالك يوم الدين و يخادعون واعدنا و الصاعقة و الرياح و تفادوهم و تظاهرون و لا تقاتلوهم ونحوها. ولولا دفاع و فرهان و طائرا في (آل عمران) و (المائدة): مضاعفة، ونحوه عاقدت أيمانكم و الأوليان ، لامستم ،...
(فائدة) كتبت فواتح السور على صورة الحروف أنفسها لا على صورة النطق بها اكتفاء بشهرتها وقطعت حم عسق دون المص و كهيعص طردا للأولى بأخواتها الستة)... إلى أن قال: وأخرج ابن أشتة عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عماله إذا كتب أحدكم (بسم الله الرحمن الرحيم) فليمد الرحمن (وأخرج) عن زيد بن ثابت : أنه كان يكره أن تكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) ليس لها سين (وأخرج) عن يزيد بن أبي

حبيب أن كاتب عمرو بن العاص كتب إلى عمر فكتب بسم الله ولم يكتب لها سينا فضربه عمر فقيل له: فيم ضربك أمير المؤمنين؟ قال: ضربني في سين (وأخرج) عن ابن سيرين أنه كان يكره أن تمد الباء إلى الميم حتى تكتب السين (وأخرج) ابن أبي داود في المصاحف عن ابن سيرين : أنه كره أن يكتب المصحف مشقا قيل: لم؟ قال: لأن فيه نقصا)... إلى أن قال: (وأخرج أبو عبيدة عن عمر بن عبد العزيز قال: لا تكتبوا القرآن حيث يوطأ.
وهل تجوز كتابته بقلم غير العربي؟ قال الزركشي : لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء. قال: ويحتمل الجواز؛ لأنه قد يحسنه من يقرأ بالعربية، والأقرب المنع كما تحرم قراءته بغير لسان العرب، ولقولهم: القلم أحد اللسانين، والعرب لا تعرف قلما غير العربي، وقد قال تعالى: { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } (1) اهـ (2) .
(فائدة): أخرج ابن أبي داود عن إبراهيم التيمي قال: قال عبد الله : لا يكتب المصاحف إلا مضري. قال ابن أبي داود : هذا من أجل اللغات.
(مسألة) اختلف في نقط المصحف وشكله : ويقال: أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل: الحسن البصري ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم الليثي، وأول من وضع الهمزة والتشديد والروم والإشمام الخليل، وقال قتادة : بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا. وقال غيره: أول ما أحدثوا النقط عند آخر الآي ثم الفواتح
__________
(1) سورة الشعراء الآية 195
(2) [مجموع الفتاوى] (12\ 420).

والخواتم. وقال يحيى بن أبي كثير : ما كانوا يعرفون شيئا مما أحدث في المصاحف إلا النقط الثلاث على رءوس الآي. أخرجه ابن أبي داود، وقد أخرج أبو عبيد وغيره عن ابن مسعود قال: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء، وأخرج عن النخعي أنه كره نقط المصاحف، وعن ابن سيرين أنه كره النقط والفواتح والخواتم.

وعن ابن مسعود ومجاهد أنهما كرها التعشير. (وأخرج) ابن أبي داود عن النخعي أنه كان يكره العواشر والفواتح وتصغير المصحف، وأن يكتب فيه سورة كذا وكذا. (وأخرج) عنه أنه أتى بمصحف مكتوب فيه سورة كذا وكذا آية فقال: امح هذا، فإن ابن مسعود كان يكرهه.
(وأخرج) عن أبي العالية أنه كان يكره الجمل في المصحف وفاتحة سورة كذا وخاتمة سورة كذا. وقال مالك : لا بأس بالنقط في المصاحف التي تتعلم فيها العلماء، أما الأمهات فلا. وقال الحليمي : تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه؛ لقوله: جردوا القرآن. وأما النقط فيجوز؛ لأنه ليس له صورة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا، وإنما هي دلالات على هيئة المقروء، فلا يظهر إثباتها لمن يحتاج إليها.
قال البيهقي : من آداب القرآن: أن يفخم فيكتب مفرجا بأحسن خط فلا يصغر ولا يقرمط حروفه ولا يخط به ما ليس منه، كعدد الآيات والسجدات والعشرات والوقوف واختلاف القراءات ومعاني الآيات. وقد أخرج ابن أبي داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لا بأس بنقط المصاحف. (وأخرج) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: لا بأس بشكله.
وقال النووي : نقط المصحف وشكله مستحب؛ لأنه صيانة له من

اللحن والتحريف. وقال ابن مجاهد: ينبغي أن لا يشكل إلا ما يشكل، وقال: إلا أني لا أستجيز النقط بالسواد؛ لما فيه من التغيير لصورة الرسم، ولا أستجيز جمع قراءات شتى في مصحف واحد بألوان مختلفة؛ لأنه من أعظم التخليط والتغيير المرسوم. وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة والهمزات بالصفرة. وقال الجرجاني من أصحابنا في الشافي: (من المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره).
(فائدة) كان الشكل في الصدر الأول نقطا، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة على آخره، والكسرة تحت أوله، وعليه مشى الداني . والذي اشتهر الآن الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذي أخرجه الخليل، وهو أكثر وأوضح، وعليه العمل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف والكسر كذلك تحته، والضم واو صغرى فوقه والتنوين زيادة مثلها، فإن كان مظهرا وذلك قبل حرف حلق ركبت فوقها وإلا جعلت بينهما، وتكتب الألف المحذوفة والبدل منها في محلها حمراء، والهمزة المحذوفة تكتب همزة بلا حرف حمراء أيضا، وعلى النون والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب حمراء، وقبل الحلق سكون وتعرى عند الإدغام والإخفاء ويسكن كل مسكن، ويعرى المدغم، ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء فيكتب عليها السكون نحو: فرطت، ومطة الممدود لا تجاوزه.
(فائدة) قال الحربي في [غريب الحديث]: قول ابن مسعود : (جردوا القرآن). يحتمل وجهين: أحدهما: جردوه في التلاوة ولا تخلطوا به غيره.

والثاني: جردوه في الخط من النقط والتعشير. وقال البيهقي : الأبين أن أراد لا تخلطوا به غيره من الكتب؛ لأن ما خلا القرآن من كتب الله إنما يؤخذ عن اليهود والنصارى وليسوا بمأمونين عليها ) اهـ. من [الإتقان].
وسئل أبو العباس ابن تيمية رحمه الله عمن يقول عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: من كتب مصحفا على غير رسم المصحف العثماني فقد أثم، أو قال: كفر فهل هذا صحيح؟ وأكثر المصاحف اليوم على غير المصحف العثماني، فهل يحل لأحد كتابته على غير المصحف العثماني بشرط ألا يبدل لفظا ولا يغير معنى أو لا؟ (1)
فأجاب: أما هذا النقل عن مالك في تكفير من فعل ذلك فهو كذب على مالك، سواء أريد منه رسم الخط أم رسم اللفظ، فإن مالكا كان يقول عن أهل الشورى: إن لكل منهم مصحفا يخالف رسم مصحف عثمان، وهم أجل من أن يقال فيهم مثل هذا الكلام، وهم علي بن أبي طالب والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعثمان رضي الله عنهم، وأيضا فلو قرأ رجل بحرف من حروفهم التي تخرج عن مصحف عثمان ففيه روايتان عن مالك وأحمد، وأكثر العلماء يحتجون بما ثبت من ذلك عنهم، فكيف يكفر فاعل ذلك. وأما اتباع رسم الخط بحيث يكتبه بالكوفي فلا يجب عند أحد من المسلمين، وكذلك اتباعه فيما كتبه بالواو والألف هو حسن لفظ رسم خط الصحابة (2) .
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (13\ 42).
(2) هكذا بالأصل المطبوع.

وأما تكفير من كتب ألفاظ المصحف بالخط الذي اعتاده فلا أعلم أحدا قال بتكفير من فعل ذلك، لكن متابعة خطهم أحسن هكذا نقل عن مالك وغيره.. والله أعلم.
وسئل أبو العباس ابن تيمية أيضا رحمه الله عمن يقول: إن الشكل والنقط من كلام الله تعالى هل ذلك حق أو باطل؟ إلخ (1) .
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، المصاحف التي كتبها الصحابة لم يشكلوا حروفها ولم ينقطوها فإنهم كانوا عربا لا يلحنون، ثم بعد ذلك في آخر عصر الصحابة لما نشأ اللحن صاروا ينقطون المصاحف ويشكلونها، وذلك جائز عند أكثر العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وكرهه بعضهم، والصحيح أنه لا يكره؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك ولا نزاع بين العلماء أن حكم الشكل والنقط حكم الحروف المكتوبة، فإن النقط تميز بين الحروف كما أن الشكل يبين الإعراب؛ لأنه كلام من تمام الكلام، ويروى عن أبي بكر وعمر أنهما قالا: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، فإذا قرأ القارئ: الحمد لله رب العالمين كانت الضمة والفتحة والكسرة من تمام لفظ القرآن. اهـ المقصود.
يتبين مما ذكر ما يأتي:
1 - ضابط ما يحذف مما يزاد في رسم المصحف العثماني من الحروف، وما يستثنى من ذلك وما يبدل من غيره، وما يرسم ألفا من ذلك، وما يرسم ياء، ومنع التغيير فيما ثبت من الرسم العثماني.
__________
(1) ص (100- 102، 576) وغيرها.

2 - نقط المصحف وشكله وكيفيته، وكراهة العلماء ذلك مطلقا أو جوازه في غير الأمهات، ثم ثبوت الإجماع على جوازه واستمرار العمل عليه إلى عصرنا.
3 - تخميس القرآن وتعشيره وكتابة أسماء السور وعدد الآيات، ورسم علامة بين كل آية وما بعدها وعلامات الوقف، وخلاف العلماء في كراهة ذلك وجوازه، ثم ثبوت الإجماع على جوازه بعد استمرار العمل به إلى عصرنا.
4 - تحريم كتابته بغير اللغة العربية، كما يحرم قراءته بغير لسان العرب، ولقولهم: القلم أحد اللسانين، والعرب لا تعرف قلما غير العربي (1) ، وقد قال تعالى: { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } (2)
وكتب رئيس اللجنة المتشكلة لتفتيش رسم المصاحف المطبوعة ببلدة قزان ملا صادق الايمانقولي القزاني إلى الشيخ محمد رشيد رضا ما يأتي: (بسم الله الرحمن الرحيم. حضرة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا حفظه الله ومتعنا وسائر المسلمين بعلومه الشريفة.
أما بعد: فإن من المسائل التي تدور بيننا الآن مسألة رسم المصاحف المطبوعة في بلدة قزان حيث إن العلماء صرحوا بأن رسم المصاحف يجب فيه الاتباع لرسم المصاحف التي كتبت بأمر سيدنا عثمان رضي الله عنه،
__________
(1) من كلام الزركشي في ص 7 من الأعداد.
(2) سورة الشعراء الآية 195

وفي رسم المصاحف القزانية مخالفة كثيرة لرسم تلك المصاحف. فتشكلت بقزان لجنة من العلماء والقراء لتفتيش رسم هذه المصاحف ونصوص العلماء فيه، وتكلموا في وجوب الاتباع وعدمه فذهب كثير منهم إلى أنه ينبغي اتباع رسم المصاحف العثمانية وأن الرسم سنة متبعة، على ما نص عليه أبو عمرو الداني والشاطبي وابن الجزري والسيوطي والزمخشري وغيرهم. وبعضهم قالوا: إنه لا يجب اتباع الرسم محتجين بقول شيخ الإسلام العز بن عبد السلام حيث قال: (أما الآن فلا يجوز كتابة المصاحف على المرسوم الأول خشية الالتباس، ولئلا يوقع في تغيير من الجهال).
ويجيب الفريق الأول عن هذا بأن المواضع التي يتوهم فيها الالتباس يمكن التخلص منها بالنقط والأشكال. ثم فتشوا المصاحف المطبوعة في الديار الإسلامية من الأستانة ومصر والهند وغيرها، فوجدوا فيها أيضا مخالفة كثيرة لرسم المصاحف العثمانية فما ندري ما سبب عدم اعتنائهم في هذا الباب؟
أأهملوا في رسم كتابنا المقدس، أم لا يقولون بلزوم الاتباع؟
وإذا كان الاتباع واجبا كما يقول به أكثر الأئمة فما ينبغي أن نصنع لنقرأ برواية حفص المعروفة في بلادنا في مثل كلمة آتان في (سورة النمل) آية (36)، فإنه كتب في مصاحف سيدنا عثمان رضي الله عنه كلها بغير (ياء) بعد (النون) في مثل هذه المواضع تخلصا من الالتباس والتلفيق في القراءة.
وهل يجوز مخالفة الرسم لأجل الضرورة في مثل تلك الضرورة؟

وما نصنع في الكلمات التي حذفت فيها الألفات في بعض المصاحف المطبوعة والمكتوبة القديمة مثل كلمة الأعلام والأحلام والأقلام والأزلام والأولاد ، وتلك الكلمات كتبت في بعض المصاحف (الأعلم والأحلم والأقلم) بحذف (الألف) بعد (اللام) والحال أن قاعدة الخط العربي تقتضي إثبات الألف في مثلها : وليس فيها نص صريح من علماء الرسم في حق الحذف أو الإثبات هل ينبغي فيها اتباع قاعدة رسم الخط العربي وإثبات الألفات أم نقول : كانوا يعتبرون الظهور وعدم الالتباس ولهذا كانوا يحذفون الألفات فيما ظهر المراد (منه) مثل الكلمات المذكورة فنحذف الألفات فيهن .
ورسم المصاحف المطبوعة هنا ليس على نسق واحد ، وفي بعضها يحذف الألفات . وأن المصحف الذي يحفظ في بلدة بترسبورغ عاصمة الروسية في المكتبة الإمبراطورية ويظن كونه واحدا من مصاحف سيدنا عثمان رضي الله عنه قد حذف فيه الألفات في مثل هذه المواضع . والعلامة شهاب الدين المرجاني القزاني الذي أفنى عمره في خدمة العلم وصنف كتابا مفيدا في رسم المصحف ، وكان مأمورا بتصحيح المصاحف المطبوعة من جهة الحكومة قد حذف الألفات قصدا في مثل هذه الكلمات ، ولزيادة الاطمئنان ولكون المسألة عامة مهمة ومتعلقة بعموم أهل الإسلام اتفقنا على المراجعة إلى جنابكم المحترم بالاستفسار في تلك المسألة رجاء أن تتفضلوا بإبداء ملاحظاتكم العالية في صفحات المنار . والسلام والإكرام .
فأجاب : إن ديننا يمتاز على جميع الأديان بحفظ أصله منذ الصدر الأول ، فالذين تلقوا القرآن عمن جاء به من عند الله (صلى الله عليه وسلم) حفظوه وكتبوه

وتلقاه عنهم الألوف من المؤمنين ، وتسلسل ذلك جيلا بعد جيل . وقد أحسن التابعون وتابعوهم وأئمة العلم في اتباع الصحابة في رسم المصحف وعدم تجويز كتابته بما استحدث الناس من فن الرسم ، وإن كان أرقى مما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم ؛ لأنه صنعة ترتقي بارتقاء المدنية ، إذ لو فعلوا لجاز أن يحدث اشتباه في بعض الكلمات باختلاف رسمها وجهل أصلها . فالاتباع في رسم المصحف يفيد مزيد ثقة واطمئنان في حفظه كما هو يبعد الشبهات أن تحوم حوله ، وفيه فائدة أخرى وهي حفظ شيء من تاريخ الملة وسلف الأمة كما هو .
نعم ، إن تغير الرسم واختلاف الإملاء يجعل قراءة المصحف على وجه الصواب خاصة بمن يتلقاه عن القراء ؛ ولذلك أحدثوا فيه النقط والشكل وهي زيادة لا تمنع معرفة الأصل على ما كان عليه في عهد الصحابة . ثم إنه يجعل تعليم الصغار عسرا ؛ ولذلك أفتى الإمام مالك بجواز كتابة الألواح ومصاحف التعليم بالرسم المعتاد كما نقل .
قال علم الدين السخاوي في شرحه لعقيلة الشاطبي : قال أشهب - رحمه الله - : سئل مالك رضي الله عنه أرأيت من استكتبته مصحفا أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم ؟
فقال : لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى . قال مالك : ولا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن ، فأقول له : أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها ، وأما المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان والألواح فلا أرى بأسا . ثم قال أشهب : والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحال الأولى إلى أن يعلمها

الآخر ، وفي خلاف ذلك تجهيل الناس بأوليتهم .
وقال أبو عمرو الداني في كتابه المسمى [ الحكم في النقط ] عقيب قول مالك هذا : ولا مخالف لمالك في ذلك من علماء الأمة ، اهـ .
فالذي أراه هو أن تطبع المصاحف التي تتخذ لأجل التلاوة برسم المصحف الإمام الذي كتبه الصحابة عليهم الرضوان حفظا لهذا الأثر التاريخي العظيم الذي هو أصل ديننا كما هو ، لكن مع النقط والشكل للضبط . ولو كان لمثل الأمة الإنكليزية هذا الأثر ؛ لما استبدلت به ملك كسرى وقيصر ، ولا أسطول الألمان الجديد الذي هو شغلها الشاغل اليوم . وأما الألواح والأجزاء وكذا المصاحف التي تطبع لأجل تعليم الصغار بها في الكتاتيب ، فلتطبع بالرسم المصطلح عليه اليوم من كل وجه تسهيلا للتعليم ، ومتى كبر الصغير وكان متعلما للقرآن بالرسم المشهور لا يغلط إذا هو قرأ في المصاحف المطبوعة برسم الصحابة مع زيادة النقط والشكل . وكذلك يكتب القرآن في أثناء كتب التفسير وغيرها بالرسم الاصطلاحي ليقرأه كل أحد على وجه الصواب . وبهذا تجمع بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا ، وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين .
أما ما احتج به العز بن عبد السلام على رأيه فليس بشيء ؛ لأن الاتباع إذا لم يكن واجبا من الأصل ، فإن فرق بين الآن الذي قال فيه ما قال ، وبين ما قبله وما بعده ، بل يكتب الناس القرآن في كل زمن بما يتعارفون عليه من الرسم ، وإذا كان واجبا في الأصل وهو ما لا ينكره فترك الناس له لا يجعله حراما أو غير جائز ، لما ذكره من الالتباس ، بل يزال هذا الالتباس في أنه لا يسلم له .

وأما ما طبعه المسلمون من المصاحف في الأستانة وقزان ومصر وغيرها من البلاد غير متبعين فيه رسم المصحف الإمام في كل الكلمات ، فسببه التهاون والجهل والاعتماد على بعض المصاحف الخطية التي كتبت قبل عهد الطباعة ، فرسم فيها بالرسم المعتاد الكلمات التي يظن أنه يقع الاشتباه فيها إذا هم كتبوها كما كتبها الصحابة كلفظ (الكتاب) بالألف بعد التاء ، وهو في المصحف الإمام بغير ألف ، ليوافق في بعض الآيات قراءة الجمع فكتبوه بالألف . ولم أر مصحفا كتب أو طبع كله بالرسم المعتاد .
ونحمد الله تعالى أن وفق بعض الناس إلى طبع ألوف من المصاحف برسم الصحابة المتبع ، وأحسن المصاحف التي طبعت في أيامنا هذه ضبطا وموافقة للمصحف الإمام المتبع - هو المصحف المطبوع في مطبعة محمد أبي زيد بمصر سنة 1308 هـ ، إذ وقف على تصحيحه وضبطه الشيخ رضوان بن محمد المخللاتي أحد علماء هذا الشأن وصاحب المصنفات فيه . وقد وضع له مقدمة بين فيها ما يحتاج إليه في ذلك .
فالذي أراه أنه ينبغي للجنة القرآنية : أن تراجع هذا المصحف ، فإنها تجد فيه حل عقد المشكلات كلها إن شاء الله تعالى ، ككلمة الأقلام وأمثالها ، وهي بغير ألف ، وكلمة (أتاني) التي رسمت في المصحف الإمام (اتن) فيرون أن هذا المصحف وضع فوق (النون) (ياء) صغيرة مفتوحة هي من قبيل الشكل ؛ لتوافق قراءة حفص ، فهي فيه هكذا (اتن) .

وجملة القول : أننا نرى أن الصواب الذي ينبغي أن يتبع ولا يعدل عنه ، هو : أن تطبع الأجزاء والمصاحف التي يعلم فيها المبتدئون بالرسم الاصطلاحي؛ لتسهيل التعليم ، هو ما جرت عليه الجمعية الخيرية

الإسلامية هنا بإذن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ، فهي تطبع أجزاء القرآن كل جزء على حدته بالرسم الاصطلاحي وتوزعها على التلاميذ في مدارسها . وأما سائر المصاحف فيتبع في طبعها رسم المصحف الإمام كالمصحف الذي ذكرناه آنفا . وإذا جرى المسلمون على هذا في الأستانة ومصر وقزان والقريم وسائر البلاد الإسلامية ، فلا يمضي جيل أو جيلان إلا وتنقرض المصاحف التي طبع بعض كلماتها بالرسم الاصطلاحي وبعضها برسم الصحابة . ولا ضرر من وجودها الآن إذ هي مضبوطة بالشكل كغيرها ، فالاشتباه والخطأ مأمونان في جميع المصاحف ، ولله الحمد .
وسئل أيضا (1) : هل هناك مانع شرعا من طبع المصحف الشريف بالكيفية الآتية :
1 - أن يكون بالهجاء الحديث المتبع بالأزهر الشريف وفروعه وجميع معاهد العلم بالديار المصرية وبغيرها من البلاد العربية وغير العربية .
2 - أن توضع علامات الترقيم الحديثة بين الكلمات ، بدلا من وضعها فوق الكتابة بحروف وكلمات غير مفهومة لكثير من البعيدين عن تعليم الأزهر وملحقاته وكثير ما هم .
3 - أن يوجد بهامش هذا المصحف تفسير عصري مختصر مفيد ، بمعرفة لجنة من كبار العلماء ، وكل هذا يراد به فائدة من يطلع على هذا المصحف من عامة الناس وخاصتهم . ومنعهم من الخطأ في التلاوة
__________
(1) (6\2514) .

بسبب تعقيد الكتابة طبقا لقواعد مضى عليها كثير من القرون ، وأصبحت غير معمول بها في جميع الأحوال . ولصون الناس عامة من الفهم الخطأ لما يتلونه من آيات الذكر الحكيم .
وذلك تنفيذا لقوله تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (1)
هذا ولا يخفى على فضيلتكم أن هذا القرآن إنما هو رسالة الله إلى الناس كافة .
ونرجو نشر الرد بمجلتكم الغراء والإفادة ولكم الشكر من المخلص .
فأجاب بقوله : من المسائل المتفق عليها بين العلماء أو الإجماعية أن خط المصحف الشريف (أي : رسمه) سماعي توقيفي ، يجب فيه اتباع الكتبة الأولى (بالكسر ، أي : هيئة الكتابة) التي أجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم ونشروها بالمصاحف الرسمية التي يعبر عن أصلها (بالمصحف الإمام) ؛ ولهذا الاتباع فوائد ودلائل مبسوطة في محلها : أولها : أن كتاب الله عندنا منقول بالتواتر بلفظه وقراءاته ولهجاته ورسم خطه ، وأنه بهذا كله حفظ من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان . حتى إن حروفه قد عدت بهذا الرسم ودون عددها في الكتب ، ومن فروع ذلك أن لأكثر ما خالف به رسمه الرسم العرفي أسبابا تتعلق بقراءاته ويدخل في هذا ترك نقطه ، وشرح ذلك كله يطول .
وكان المسلمون يعتمدون في تعلم القرآن وتلاوته على التلقين والرواية
__________
(1) سورة القمر الآية 17

والحفظ من الألواح التي يكتبونها ثم يمحونها بعد حفظ ما فيها ، ليكتبوا غيره فيها ، ثم رأوا أن التلاوة في المصاحف غير المنقوطة يكثر فيها الخطأ لغير الحافظ فاستحدثوا النقط ، لمنع ذلك ، ثم استحدثوا الشكل لضبط الإعراب وصحة النقط ، ثم وضعوا علامات وقف للحاجة إليها وكون معرفة ما يحسن الوقف عليه منوطا بالفهم ، وما كل قارئ يفهم ، وجعلوا لهذه العلامات أشكالا بحسب درجاتها ، ثم وضعوا لضبط التلاوة وتجويدها فنا وللوقف والابتداء فنا أفردوا كلا منهما بالتدوين ، وجروا عليهما في التلقين وفي كتابة المصاحف ، فالغرض من كل هذه المستحدثات ضبط تلاوة القرآن واتقاء الخطأ فيها .
ولكن لا يزال فيه كلام كثير يخطئ في النطق به من لم يلقنه بالحفظ من زيادة حروف ونقص أخرى ، وقد صرنا في زمان يقل فيه من القارئين من يتلقى التجويد وعلامات الوقف على حفاظ المقرئين ، فكثر الخطأ في القراءة وفي الوقف والابتداء ، واشتهر في الخط وصناعة الطبع ترقيم جديد فيه علامات للوقف وللاستفهام والتعجب ألفها الناس بدون حاجة للترقيم فاستغني بها عن علامات الوقف الكثيرة في المصاحف من الحروف المفردة والمركبة التي صارت منتقدة لعدم فهم الجمهور لها ولاستغناء الحفاظ عنها ، ولأن منها كلمات قد يظن الجاهلون بالقرآن أنها منه ككلمتي صلي وقلي فإنني أستنكر وضعهما في المصاحف أشد الاستنكار .
ويرى السائل وغيره أنني جريت في تفسيري للقرآن الحكيم المعروف بـ [تفسير المنار] ظهر علي التزام رسم الإمام في الآيات المضبوطة بالشكل التام مع علامات الترقيم العصرية ، ثم رسم الآيات في أثناء

تفسيرها بالرسم العرفي الذي يعرفه جميع المتعلمين مع الترقيم فيها وفي تفسيرها ، وأخالف الطريقة المتبعة في وزارة المعارف والأزهر في الياء المتطرفة فألتزم نقط ما ينطق بها ياء دون ما كانت ألفا منقلبة عنها لكثرة ما يقع من الاشتباه فيهما كالفعل الماضي من الرواية في بنائه للمعلوم والمجهول .
فعلم بهذا أنني لا أرى مانعا شرعيا يمنع مما سأل عنه السائل ، بل أرى أنه واجب ، ولهذا جريت عليه بالفعل منذ أكثر من ثلث قرن ، فإن الخط والطبع صناعتان يقصد بهما أداء الكلام أداء صحيحا . وتصحيح أداء القرآن واجب شرعا ، وتحريفه بالنطق محرم شرعا . وقد جرى جميع علماء المسلمين في تفاسيرهم على كتابة القرآن بالرسم العرفي ، وهم آمنون على حفظ رسمه الأصلي الذي كتبه به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الخلفاء الراشدين ، لكثرة المصاحف فيه ، بل خالفوا رسم المصحف الإمام في كثير من الكلمات التي يشتبه في قراءتها الجمهور منذ قرون ولم أقف على تاريخها ، وهذا ليس بحجة وإنما الحجة وجوب صيانة القرآن من الخطأ في قراءته ، وهي مقدمة على حفظ رسم السلف لو تعذر الجمع بينهما ولا تعذر .
وأما تيسير فهمه على الناس كافة بتفسير سهل العبارة مناسب لحاجة العصر فهو واجب لا معارض له ، وقد طبع بعض الناس تفسير البيضاوي على حواشي المصحف ، وهو تفسير دقيق وجيز وضع لتذكير العلماء بخلاصة ما في أشهر التفاسير ، وبعضهم طبع الجلالين وهو مختصر مخل قلما يستفيد منه الدهماء ، وقد تحريت السهولة واجتناب الاصطلاحات

الفنية والعلمية في [تفسير المنار] ولكنه مطول ، وقد كثر اقتراح الناس على أن أختصره أو أكتب تفسيرا مختصرا ، فشرعت وعلى الله توكلت .

ثالثا : الضرورة أو الحاجة التي دعت إلى العدول عن كتابة المصحف بالرسم العثماني إلى كتابته حسب قواعد الإملاء :
أ- إن القرآن هو الأصل الذي يرجع إليه المسلمون في معرفة عقائدهم وعباداتهم وقد حث الله على تلاوته وتدبر آياته واستنباط الأحكام منه ، وتحكيمه في جميع الشئون والأحوال ، وبينت السنة النبوية فضائله ، وحثت على تعلمه وتعليمه والتعبد بتلاوته والعمل بما فيه من أحكام ، وقد كان السلف رحمهم الله يعرفون الرسم العثماني ، فيسهل عليهم قراءة القرآن بذلك الرسم ، وقاموا بما وجب عليهم من تدبره وأخذ الأحكام منه وتحكيمه فيما شجر بينهم - خير قيام .
ولما طال الأمد ، ووضعت قواعد جديدة للإملاء وسار عليها الكتاب ، وألفها القراء بكثرة استعمالها كتابة وقراءة ، شق عليهم أن يقرءوا القرآن بالرسم الذي كتبت به المصاحف العثمانية ، فتيسيرا عليهم ، ودفعا للحرج عنهم يجوز أن يكتب القرآن بالمصاحف وغيرها حسب قواعد الإملاء ؛ لتمكن الجمهور من تلاوته بسهولة تلاوة صحيحة ، ويتعبدوا بقراءته دون تحريف ، ويتحفظوه على طريق مستقيم ، فإن الشريعة سمحة سهلة ، جاءت بالتيسير ورفع الحرج ، قال الله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (1) وقال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (2) ومن
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78

القواعد الثابتة في الشريعة أن المشقة تجلب التيسير .
ب- في عهد بني أمية كثر دخول الأعاجم في الإسلام ، واختلط بهم مسلمو العرب ، وكثر اللحن ، وخيف على كثير من المسلمين أن يلحنوا في قراءة القرآن ، فأمر الخليفة عبد الملك بن مروان بنقط المصحف وشكله؛ صيانة له من اللحن والتحريف في القراءة ، وتصدى لذلك الحجاج بن يوسف الثقفي ، فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر فقاما بنقطه وشكله ، ولم يكن ذلك بدعا من القول ولا ابتداعا في الدين ؛ لبنائه على مقاصد الشريعة في حفظ القرآن وتيسير تعلمه وتعليمه وإبلاغه للناس ، هداية لهم وإقامة للحجة عليهم ، ثم ثبت إجماع الأمة على نقط المصحف وشكله ، واستمر العمل على ذلك إلى عصرنا فلم يعرف من أنكر ذلك مع طول العهد .
وقد أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم على أن جمع أبي بكر الصديق القرآن أولا وجمع عثمان بن عفان له ثانيا من محامدهما رضي الله عنهما .
ولا شك أن كتابة المصحف حسب القواعد الإملائية من جنس جمع القرآن أولا وثانيا ومن جنس نقطه وشكله ، من جهة البناء على مقاصد الشريعة والاعتماد على المصالح العامة ، إذ كل منها يرجع في حكمه إلى المصالح العامة التي شهدت لها أدلة الشريعة جملة وإن لم يدل عليها بخصوصها دليل معين . فكانت كتابته حسب القواعد الإملائية مشروعة .
إن القرآن لم ينزل مكتوبا ، وإنما نزل وحيا متلوا ، فأملاه النبي صلى الله عليه وسلم على كتبته وكان أميا ، فكتبوه بالرسم المعهود عندهم ، وكانوا ضعافا في صناعة

الكتابة ، ولذا حصل بعض الاختلاف في رسم كتابتهم ، بل في رسم بعض الكلمات في مصاحف الأمصار المنتسخة من المصحف العثماني ، فيجوز أن يكتب أيضا بالرسم الإملائي .
وقد ذكر ذلك الاختلاف الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه [المقنع] ، وبين سبب هذا الاختلاف فقال :

باب
ذكر ما اختلفت فيه مصاحف أهل الأمصار بالإثبات والحذف
أخبرني الخاقاني قال : حدثنا الأصبهاني قال : حدثنا الكسائي عن ابن الصباح قال : قال محمد بن عيسى عن نصير : وهذا ما اختلف فيه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل المدينة وأهل مدينة السلام وأهل الشام في كتابة المصاحف .
كتبوا في سورة (البقرة) إلى آخرها في بعض المصاحف ( إبرهم ) بغير ياء ، وفي بعضها بالياء ، قال أبو عمرو : وبغير ياء وجدت أنا ذلك في مصاحف أهل العراق في البقرة خاصة ، وكذلك رسم في مصاحف أهل الشام ، وقال معلى بن عيسى الوراق عن عاصم الجحدري ( إبرهم ) في (البقرة) بغير ياء ، كذلك وجد في الإمام وحدثنا الخاقاني شيخنا قال : حدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا أبو عبيد قال : تتبعت رسمه في المصاحف فوجدته كتب في البقرة خاصة ( إبرهم ) بغير ياء ، قال نصير : وفي بعضها ( فيضاعفه ) (245) بالألف ، وفي بعضها بغير ألف ، وفي بعضها ( قل بئس ما يأمركم به ) (92) مقطوع ، وفي بعضها ( بئسما ) موصولة ، وفي بعضها ( ملئكة ) وكتابه (285) بالألف ، وفي

بعضها ( وكتبه ) بغير ألف .
وفي (آل عمران) في بعض المصاحف ( ويقاتلون الذين ) (21) بالألف ، وفي بعضها ( ويقتلون ) بغير ألف ، وفي (المائدة) في بعض المصاحف ( نحن أبنؤا الله ) (18) بالواو والألف ، وفي بعضها ( أبناء الله ) بغير واو ، وفي بعضها ( نخشا أن تصيبنا دائرة ) (52) بالألف ، وفي بعضها بالياء ، وفي بعضها ( فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا ساحر مبين ) (110) بالألف ، وفي بعضها ( سحر ) بغير ألف ، وفي بعضها أو كفارة طعام مساكين (95) بالألف ، وفي بعضها ( مسكين ) بغير ألف .
وفي (الأنعام) في بعض المصاحف فالق الحب (95) بالألف ، وفي بعضها ( فلق ) بغير ألف ، وفي بعض المصاحف وجعل الليل سكنا (96) بغير ألف ، وفي بعضها ( وجاعل ) بالألف ، وفي بعضها لئن أنجيتنا (63) بالياء والتاء والنون ، وفي بعضها ( أنجينا ) بالياء والنون .
وفي (الأعراف) في بعض المصاحف ( كل ما دخلت أمة ) (38) مقطوعة ، وفي بعضها ( كلما ) موصولة ، وفي بعضها يأتوك بكل سحار عليم (112) الألف بعد الحاء ، وفي بعضها ( ساحر ) الألف قبل الحاء ، وفي بعضها ( إذا مسهم طيف ) (201) بغير ألف ، وفي بعضها ( طائف ) بألف ، وفي بعضها وريشا ولباس التقوى (26) بغير ألف ، وفي بعضها ( ورياشا ) بالألف ، قال أبو عمرو : ولم يقرأ بذلك أحد من أئمة العامة إلا ما رويناه عن المفضل بن محمد الضبي عن عاصم ، وبذلك قرأنا من طريقه .
وفي (براءة) كتبوا في بعض المصاحف ( ولأوضعوا ) (47) بغير

ألف ، وفي بعضها ( ولا أوضعوا ) بألف .
وفي (يونس) في بعض المصاحف ( إن هذا لساحر ) (76) بالألف ، وفي بعضها ( لسحر مبين ) بغير ألف ، وفي بعضها ( وقال فرعون ائتوني بكل سحار ) (79) الألف بعد الحاء ، وفي بعضها ( سحر ) بغير ألف .
وفي (إبراهيم) في بعض المصاحف ( وذكرهم بأيم الله ) (5) قال أبو عمرو : يعني : بياء من غير ألف ، وقد رأيته أنا في بعض مصاحف أهل المدينة والعراق ، وكذلك ذكره الغازي بن قيس في كتابه بياءين من غير ألف ، قال نصير : وفي بعضها بأيام الله بألف وياء واحدة .
وفي (الحجر) في بعض المصاحف وأرسلنا الرياح لواقح بألف على الإجماع ، وبعضها ( الريح ) ، بغير ألف على واحدة .
وفي (بني إسرائيل) في بعض المصاحف ( أو كلهما ) (23) بغير ألف ، وفي بعضها ( أو كلاهما ) بألف وليس في شيء من المصاحف فيها ياء ، وفي بعضها سبحان ربي (93) بالألف ، وفي بعضها ( سبحن ) بغير ألف ، ولا يكتب في جميع القرآن بألف غير هذا الحرف اختلفوا فيه .
وفي (الكهف) في بعض المصاحف فله جزاء الحسنى (88) بغير واو ، في بعضها ( جزؤا ) بالواو ، وفي بعض المصاحف ( فهل نجعل لك خراجا ) (94) بألف ، وفي بعضها ( خرجا ) بغير ألف ، وفي بعض المصاحف ( تذروه الريح ) (45) بغير ألف ، وفي بعضها ( الرياح ) بألف .
وفي (طه) في بعض المصاحف ( لا تخف دركا ) (77) بغير ألف ، وفي بعضها ( لا تخاف ) بألف .

وفي (الأنبياء) كتبوا في بعض المصاحف ( قال ربي ) (4) بالألف ، وفي بعضها ( قل ربي ) بغير ألف ، وفي بعضها أن لا إله إلا أنت (87) ، وفي بعضها بغير نون ، وفي بعضها في ما اشتهت أنفسهم (102) مقطوع ، وفي بعضها موصول .
وفي (الحج) في بعض المصاحف ( إن الله يدافع ) (38) بالألف ، وفي بعضها بغير ألف .
وفي (المؤمنون) في بعض المصاحف قال كم لبثتم (112) بألف ، وفي بعضها ( قل ) بغير ألف ، وفي بعضها ( قل إن لبثتم إلا قليلا ) (114) بألف ، وفي بعضها ( قال ) بالألف ، وفي بعضها ( سيقولون لله لله لله ) (85 ، 87 ، 89) ثلاثتها بغير ألف ، وفي بعضها : الأول ( لله ) بغير ألف ، والاثنان بعده ( الله الله ) ، وفي بعض المصاحف كل ما جاء أمة رسولها (44) مقطوع ، وفي بعضها ( كلما ) موصولة ، وفي بعضها ( أم تسئلهم خراجا ) (72) بألف ، وفي بعضها ( خرجا ) بغير ألف ، وكتبوا فخراج ربك (72) في جميع المصاحف بالألف .
وفي (الفرقان) في بعض المصاحف ( فيها سرجا ) (61) بغير ألف ، وفي بعضها ( سراجا ) بالألف .
وفي (الشعراء) في بعض المصاحف ( أتتركون فيما ههنا آمنين ) (146) موصولة ، وفي بعضها في ما مقطوعة ، وفي بعضها ( فارهين ) (149) بألف ، وفي بعضها ( فرهين ) بغير ألف ، وكذلك ( حاذرون ) (56) و ( حذرون ) .
وفي (النمل) في بعض المصاحف ( تهدي العمي ) (81) بالتاء بغير

ألف ، وفي بعضها ( بهادي ) بألف وياء بعد الدال ، وفي بعضها ( فناظرة ) (35) بالألف ، وفي بعضها ( فنظرة ) بغير ألف .
وفي (القصص) في بعض المصاحف ( قالوا ساحران تظاهرا ) (48) بألف ، وفي بعضها ( سحران ) بغير ألف بعد السين .
وفي (الروم) في بعض المصاحف ( وما أنت تهد العمي ) (53) بغير ألف ولم يثبتوا فيها ياء ، وفي بعضها ( بهاد ) بألف وليس فيها ياء . التي في (الروم) ليس فيها في شيء من المصاحف ياء ، والتي في (النمل) (81) فيها ياء في جميع المصاحف ، وفي بعضها وما آتيتم من ربا (39) بالألف بغير واو ، وفي بعضها ( ربوا ) بالواو .
وفي (الأحزاب) في بعض المصاحف ( يسئلون عن أنبائكم ) (20) بغير ألف ، وفي بعضها ( يسألون ) بالألف ، قال أبو عمرو : ولم يقرأ بذلك أحد من أئمة القراء إلا ما رويناه من طريق محمد بن المتوكل ورويس عن يعقوب الحضرمي ، وبذلك قرأنا في مذهبه ، وحدثنا أحمد بن عمر قال : حدثنا ابن منير قال : حدثنا عبد الله بن عيسى ، قال : حدثنا ابن مينا قالون عن نافع : أن ذلك في الكتاب بغير ألف .
وفي (يس) في بعض المصاحف ( وما عملت أيديهم ) (35) بالتاء من غير هاء ، وفي بعضها ( وما عملته ) بالهاء ، وفي بعضها في شغل فاكهون (55) بالألف ، وفي بعضها ( فكهون ) بغير ألف .
وفي (المؤمن) في بعض المصاحف ( وكذلك حقت كلمت ربك ) (6) بالتاء ، وفي بعضها ( كلمة ) بالهاء ، وفي بعضها ( إذ القلوب لدا الحناجر ) (18) بالألف ، وفي بعضها ( لدى ) بالياء .

وفي (الدخان) في بعض المصاحف ( فيها فاكهين ) (27) بالألف ، وفي بعضها ( فكهين ) بغير ألف .
وفي (الأحقاف) في بعض المصاحف ( ووصينا الإنسان بوالديه إحسنا ) (15) يجعلون أمام الحاء ألفا كذا قال ، وصوابه : قبل الحاء ، وفي بعضها ( حسنا ) بغير ألف .
وفي (الطور) في بعض المصاحف ( فاكهين ) (18) بالألف ، وفي بعضها ( فكهين ) بغير ألف .
وفي (اقتربت) في بعض المصاحف ( خاشعا ) (7) بالألف ، وفي بعضها ( خشعا ) بغير ألف .
وفي (الرحمن) كتبوا في بعض المصاحف ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) بالألف ، وفي بعضها ( تكذبن ) بغير ألف من أول السورة إلى آخرها ، وفي بعض المصاحف ( وجنا الجنتين دان ) (54) بالألف ، وفي بعضها ( وجنى ) بالياء .
وفي (الواقعة) في بعض المصاحف ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) (75) بغير ألف ، وفي بعضها ( بمواقع ) بالألف .
وفي (الحديد) في بعض المصاحف ( فيضعفه ) (11) بغير ألف ، وفي بعضها ( فيضاعفه ) بالألف ، وفي بعضها ( يضاعف لهم ) (18) بالألف ، وفي بعضها ( يضعف ) بغير ألف .
وفي (المنافقون) في بعض المصاحف ( وأنفقوا من ما رزقنكم ) (10) مقطوع ، وفي بعضها ( مما ) موصول .
وفي (الملك) في بعض المصاحف ( كل ما ألقي فيها فوج ) (8)

مقطوع ، وفي بعضها ( كلما ) موصول .
وفي ( قل أوحي ) في بعض المصاحف قل إنما أدعو ربي (20) بغير ألف ، وقال أبو عمرو : قال الكسائي : قال الجحدري : هو في الإمام ( قل ) قاف لام .
وفي (المرسلات) في بعض المصاحف ( جمالت ) (33) بألف بعد الميم ، وفي بعضه ( جملت ) بغير ألف ، قال أبو عمرو : وليس في شيء منها ألف قبل التاء .
وفي (المطففين) في بعض المصاحف ( فكهين ) (31) بغير ألف ، وفي بعضها ( فاكهين ) بالألف .
وفي (أرأيت) في بعض المصاحف ( أريت ) (1) بغير ألف ، وفي بعضها ( أرأيت ) بالألف ، وفي بعض المصاحف ( أرأيتم ) بالألف ، وفي بعضها ( أريتم ) بغير ألف في جميع القرآن .
قال أبو عمرو : ورأيت أبا حاتم قد حكى عن أيوب بن المتوكل : أنه رأى في مصاحف أهل المدينة ( إنا لنصر رسلنا ) (51) في (غافر) بنون واحدة ، ولم نجد ذلك كذلك في شيء من المصاحف ، وبالله التوفيق .

باب ذكر ما اختلفت فيه مصاحف أهل الحجاز والعراق والشام المنتسخة من الإمام بالزيادة والنقصان
وهذا الباب سمعناه من غير واحد من شيوخنا من ذلك :
في (البقرة) في مصاحف أهل الشام ( قالوا اتخذ الله ولدا ) (116) بغير

واو قبل ( قالوا ) وفي سائر المصاحف ( وقالوا ) بالواو ، وفي مصاحف أهل المدينة والشام ( وأوصى بها ) (132) بألف بين الواوين ، قال أبو عبيد : وكذلك رأيتها في الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وفي سائر المصاحف ( ووصى ) بغير ألف .
وفي (آل عمران) في مصاحف أهل المدينة والشام ( سارعوا إلى مغفرة ) (133) بغير واو قبل السين ، وفي سائر المصاحف ( وسارعوا ) بالواو ، وفيها في مصاحف أهل الشام ( وبالزبر وبالكتب ) (184) بزيادة باء في الكلمتين ، كذا رواه لي خلف بن إبراهيم عن أحمد بن محمد عن علي عن أبي عبيد عن هشام بن عمار عن أيوب بن تميم عن يحيى بن الحارث عن ابن عامر ، وعن هشام عن سويد بن عبد العزيز عن الحسن بن عمران عن عطية بن قيس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن مصاحف أهل الشام ، وكذلك حكى أبو حاتم أنهما مرسومان بالباء في مصحف أهل حمص الذي بعث عثمان به إلى الشام وقال هارون بن موسى الأخفش الدمشقي إن الباء زيدت في الإمام يعني : الذي وجه به إلى الشام في ( وبالزبر ) وحدها ، وروى الكسائي عن أبي حيوة شريح بن يزيد أن ذلك كذلك في المصحف الذي بعث به عثمان إلى الشام والأول أعلى إسنادا ، وهما في سائر المصاحف بغير باء .
وفي (النساء) قال الكسائي والفراء : في بعض مصاحف أهل الكوفة ( والجار ذا القربى ) (36) بألف ، ولم نجد ذلك كذلك في شيء من مصاحفهم ولا قرأ به أحد منهم ، وفي مصاحف أهل الشام ( ما فعلوه إلا قليلا منهم ) (66) بالنصب ، وفي سائر المصاحف ( إلا قليل ) بالرفع .

وفي (المائدة) في مصاحف أهل المدينة ومكة والشام ( يقول الذين آمنوا ) (53) بغير واو قبل ( يقول ) وفي مصاحف أهل الكوفة والبصرة وسائر العراق ( ويقول ) بالواو ، وفيها في مصاحف أهل المدينة والشام ( من يرتدد منكم ) (54) بدالين قال أبو عبيد : وكذا رأيتها في الإمام بدالين وفي سائر المصاحف ( يرتد ) بدال واحدة .
وفي (الأنعام) في مصاحف أهل الشام ( ولدار الآخرة ) (32) بلام واحدة ، وفي سائر المصاحف بلامين ، وفيها في مصاحف أهل الكوفة ( لئن أنجينا من هذه ) (63) بياء من غير تاء ، وفي سائر المصاحف ( لئن أنجيتنا ) بالياء والتاء ، وليس في شيء منها ألف بعد الجيم ، وفيها في مصاحف أهل الشام ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركائهم ) (137) بالياء ، وفي سائر المصاحف ( شركاؤهم ) بالواو .
وفي (الأعراف) في مصاحف أهل الشام ( قليلا ما يتذكرون ) (3) بالياء والتاء ، وفي سائر المصاحف ( تذكرون ) بالتاء من غير ياء ، وفيها في مصاحف أهل الشام ( ما كنا لنهتدي ) (43) بغير واو قبل ( ما ) وفي سائر المصاحف ( وما ) بالواو ، وفيها في مصاحف أهل الشام في قصة صالح ( وقال الملأ الذين استكبروا ) (75) بزيادة واو قبل ( قال ) وفي سائر المصاحف ( قال ) بغير واو ، وفيها في مصاحف أهل الشام ( وإذ أنجاكم من آل فرعون ) (141) بألف من غير ياء ولا نون ، وفي سائر المصاحف ( أنجينكم ) بالياء والنون من غير ألف .
وفي (براءة) في مصاحف أهل المدينة والشام ( الذين اتخذوا مسجدا ضرارا ) (107) بغير واو قبل ( الذين ) وفي سائر المصاحف ( والذين )

بالواو ، وفيها في مصاحف أهل مكة ( تجري من تحتها الأنهار ) بزيادة ( من ) وفي سائر المصاحف بغير ( من ) .
وفي (يونس) في مصاحف أهل الشام ( هو الذي ينشركم في البر والبحر ) (22) بالنون والشين ، وفي سائر المصاحف ( يسيركم ) بالسين والياء .
وفي (سبحان) في مصاحف أهل مكة والشام ( قال سبحان ربي هل كنت ) (93) بألف ، وفي سائر المصاحف ( قل ) بغير ألف .
وفي (الكهف) في مصاحف أهل المدينة ومكة والشام ( خيرا منهما منقلبا ) (36) بزيادة ميم بعد الهاء على التثنية ، وفي سائر مصاحف أهل العراق ( منها ) بغير ميم على التوحيدة ، وفيها في مصاحف أهل مكة ( ما مكنني فيه ربي ) (95) بنونين ، وفي سائر المصاحف ( مكني ) بنون واحدة .
وفي (الأنبياء) في مصاحف أهل الكوفة ( قال ربي يعلم القول ) (4) بألف ، وفي سائر المصاحف ( قل ربي ) بغير ألف ، وفيها في مصاحف أهل مكة ( ألم ير الذين كفروا ) (30) بغير واو بين الهمزة واللام ، وفي سائر المصاحف ( أو لم ير الذين ) بالواو .
وفي (المؤمنون) في مصاحف أهل البصرة ( سيقولون الله قل أفلا تتقون ) (87) ( سيقولون الله قل فأنى تسحرون ) (89) بالألف في الاسمين الأخيرين ، وفي سائر المصاحف ( لله ) فيهما قال أبو عبيد : وكذلك رأيت ذلك في الإمام ، وقال هارون الأعور عن عاصم الجحدري : كانت في الإمام ( لله ) ( لله ) وأول من ألحق هاتين الألفين نصر بن

عاصم الليثي ، وقال أبو عمرو : كان الحسن يقول : الفاسق عبيد الله بن زياد زاد فيهما ألفا ، وقال يعقوب الحضرمي : أمر عبيد الله بن زياد أن يزاد فيهما ألف .

قال أبو عمرو : وهذه الأخبار عندنا لا تصح لضعف نقلتها واضطرابها وخروجها عن العادة إذ غير جائز أن يقدم نصر وعبيد الله هذا الإقدام من الزيادة في المصاحف مع علمهما بأن الأمة لا تسوغ لهما ذلك ، بل تنكره وترده وتحذر منه ولا تعمل عليه ، وإذا كان ذلك بطل إضافة زيادة هاتين الألفين إليهما ، وصح أن إثباتهما من قبل عثمان والجماعة رضوان الله عليهم على حسب ما نزل به من عند الله تعالى ، وما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمعت المصاحف على أن الحرف الأول ( سيقولون لله ) (58) بغير ألف قبل اللام ، وفيها في مصاحف أهل الكوفة ( قل كم لبثتم ) (112) و ( قل إن لبثتم ) (114) بغير ألف في الحرفين ، وفي سائر المصاحف ( قال ) بالألف في الحرفين ، وينبغي أن يكون الحرف الأول في مصاحف أهل مكة بغير ألف والثاني بالألف ؛ لأن قراءتهم فيهما كذلك ، ولا خبر عندنا في ذلك عن مصاحفهم إلا ما رويناه عن أبي عبيد أنه قال : ولا أعلم مصاحف أهل مكة إلا عليها - يعني : على إثبات الألف في الحرفين - .
وفي (الفرقان) في مصاحف أهل مكة ( وننزل الملائكة تنزيلا ) (25) بنونين وفي سائر المصاحف ( ونزل ) بنون واحدة .
وفي (الشعراء) في مصاحف أهل المدينة والشام ( فتوكل على العزيز الرحيم ) (217) بالفاء ، وفي سائر المصاحف ( وتوكل ) بالواو .
وفي (النمل) في مصاحف أهل مكة ( وليأتينني بسلطان مبين ) (21)

بنونين ، وفي سائر المصاحف بنون واحدة .
وفي (القصص) في مصاحف أهل مكة ( قال موسى ربي أعلم ) (37) بغير واو قبل ( قال ) وفي سائر المصاحف ( وقال ) بالواو .
وفي (يس) في مصاحف أهل الكوفة ( وما عملت أيديهم ) (35) بغير هاء بعد التاء ، وفي سائر المصاحف ( وما عملته ) بالهاء ، وفي الزمر في مصاحف أهل الشام ( تأمرونني أعبد ) (64) بنونين ، وفي سائر المصاحف ( تأمروني أعبد ) بنون واحدة .
وفي (المؤمن) في مصاحف أهل الشام ( كانوا هم أشد منكم ) (21) بالكاف ، وفي سائر المصاحف ( أشد منهم ) بالهاء ، وفيها في مصاحف أهل الكوفة ( أو أن يظهر في الأرض الفساد ) بزيادة الألف قبل الواو ، وروى هارون عن صخر بن جويرية وبشار الناقط عن أسيد : أن ذلك كذلك في الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وفى سائر المصاحف ( وأن يظهر ) بغير ألف .
وفي (الشورى) في مصاحف أهل المدينة والشام ( بما كسبت أيديكم ) (30) بغير فاء قبل الباء ، وفي سائر المصاحف ( فبما كسبت ) بزيادة فاء .
وفي (الزخرف) في مصاحف أهل المدينة والشام ( يا عبادي لا خوف عليكم ) (68) بالياء ، وفي مصاحف أهل العراق ( يا عباد ) بغير الياء ، وكذا ينبغي أن يكون في مصاحف أهل مكة ؛ لأن قراءتهم فيه كذلك ، ولا نص عندنا في ذلك في مصاحفهم ، إلا ما حكاه ابن مجاهد : أن ذلك في مصاحفهم بغير ياء ، ورأيت بعض شيوخنا يقول : إن ذلك في مصاحفهم

بالياء ، وأحسبه أخذ ذلك من قول أبي عمرو إذ حكى أنه رأى الياء في ذلك ثابتة في مصاحف أهل الحجاز ، ومكة من الحجاز . والله أعلم .
وحدثنا محمد بن علي ، قال : حدثنا محمد بن قطن ، قال : حدثنا سليمان بن خلاد ، قال : حدثنا اليزيدي ، قال أبو عمرو : ( يا عبادي ) رأيتها في مصاحف أهل المدينة والحجاز بالياء ، وفيها في مصاحف أهل المدينة والشام ( ما تشتهيه الأنفس ) (71) بهائين ، ورأيت بعض شيوخنا يقول : إن ذلك كذلك في مصاحف أهل الكوفة ، وهو غلط ، قال أبو عبيد : وبهاءين رأيته في الإمام ، وفي سائر المصاحف ( تشتهي ) بهاء واحدة .
وفي (الأحقاف) في مصاحف أهل الكوفة ( بوالديه إحسانا ) (15) بزيادة ألف قبل الحاء وبعد السين ، وفي سائر المصاحف ( حسنا ) بغير ألف .
وفي (القتال) قال خلف بن هشام البزار : في مصاحف أهل مكة والكوفيين ( فهل ينظرون إلا الساعة إن تأتهم ) (18) بالكسر مع الجزم .
وفي (الرحمن) في مصاحف أهل الشام ( والحب ذا العصف والريحان ) (12) بالألف والنصب ، وفي سائر المصاحف ( ذو العصف ) بالواو والرفع ، قال أبو عبيد : وكذلك رأيتها في الذي يقال له الإمام مصحف عثمان رضي الله عنه ، وفيها في مصاحف أهل الشام ( ذو الجلال والإكرام ) (78) آخر السورة بالواو ، وفي سائر المصاحف ( ذي الجلال والإكرام ) بالياء ، والحرف الأول (27) في كل المصاحف بالواو .
وفي (الحديد) في مصاحف أهل الشام ( وكل وعد الله الحسنى ) (10) بالرفع ، وفي سائر المصاحف ( وكلا ) بالنصب ، وفيها في مصاحف أهل

المدينة والشام ( فإن الله الغني الحميد ) بغير ( هو ) .
وفي سائر المصاحف ( هو الغني ) بزيادة ( هو ) ، وفي ( والشمس ) في مصاحف أهل المدينة والشام ( فلا يخاف عقبها ) (15) بالفاء ، وفي سائر المصاحف ( ولا يخاف ) بالواو حدثنا ابن خاقان قال : حدثنا أحمد المكي قال : حدثنا علي قال : حدثنا أبو عبيد قال : هذه الحروف التي اختلفت في مصاحف الأمصار مثبتة بين اللوحين وهي كلها منسوخة من الإمام الذي كتبه عثمان ثم بعث إلى كل أفق مما نسخ بمصحف ، وهي كلها كلام الله عز وجل .
حدثنا خلف بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني أن أهل الحجاز وأهل العراق اختلفت مصاحفهم في هذه الحروف قال القاسم : وهي اثنا عشر حرفا : كتب أهل المدينة في (سورة البقرة) ( وأوصى بها إبراهيم بنيه ) (132) بألف ، وكتب أهل العراق ( ووصى ) بغير ألف .
وفي (آل عمران) كتب أهل المدينة ( سارعوا إلى مغفرة ) (133) بغير واو ، وأهل العراق ( وسارعوا ) بالواو .
وفي (المائدة) كتب أهل المدينة ( يقول الذين آمنوا ) (53) بغير واو ، وأهل العراق ( ويقول ) بالواو وفيها أيضا كتب أهل المدينة ( من يرتدد منكم ) (54) بدالين ، وأهل العراق ( من يرتد ) بدال واحدة .
وفي (براءة) أهل المدينة ( الذين اتخذوا مسجدا ) (107) بغير واو ، وأهل العراق ( والذين ) بالواو .

وفي (الكهف) أهل المدينة ( خيرا منهما منقلبا ) (36) على اثنين ، وأهل العراق ( خيرا منها ) على واحدة .
وفي (الشعراء) أهل المدينة ( فتوكل على العزيز الرحيم ) (217) بالفاء ، وأهل العراق ( وتوكل ) بالواو .
وفي (المؤمن) أهل المدينة ( وأن يظهر في الأرض الفساد ) (26) بغير ألف ، وأهل العراق ( أو أن ) بألف .
وفي (عسق) أهل المدينة ( بما كسبت أيديكم ) (30) بغير فاء ، وأهل العراق ( فبما ) بالفاء .
وفي (الزخرف) أهل المدينة ( تشتهيه الأنفس ) (71) بهاءين ، وأهل العراق ( تشتهي ) بهاء واحدة .
وفي (الحديد) أهل المدينة ( فإن الله الغني الحميد ) (24) بغير ( هو ) .
وفي (والشمس وضحاها) أهل المدينة ( فلا يخاف عقباها ) (15) بالفاء ، وأهل العراق ( ولا يخاف ) بالواو ، حدثنا أحمد بن عمر قال : حدثنا محمد بن أحمد قال : حدثنا عبد الله بن عيسى قال : حدثنا قالون عن نافع : أن الحروف المذكورة في مصاحف أهل المدينة على ما ذكر إسماعيل سواء .
حدثنا محمد بن علي قال : حدثنا ابن مجاهد قال : في مصاحف أهل مكة في (التوبة) ( تجري من تحتها الأنهار ) بزيادة ( من ) .
وفي (سبحان) ( قال سبحان ربي ) (93) بألف .
وفي (الكهف) ( ما مكنني فيه ) (95) بنونين .

وفي (الأنبياء) ( ألم ير الذين كفروا ) (35) بغير واو .
وفي (الفرقان) ( وننزل الملائكة ) (25) بنونين .
وفي (النمل) ( أو ليأتينن ) (21) بنونين .
وفي (القصص) ( قال موسى ربي أعلم ) (37) بغير واو .
وحدثنا ابن غلبون قال : حدثنا عبد الله بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن أنس قال : حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا سويد بن عبد العزيز وأيوب بن تميم عن يحيى بن الحارث عن عبد الله بن عامر وحدثنا الخاقاني قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا علي قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا هشام بن عمار عن أيوب بن تميم عن يحيى بن الحارث عن عبد الله بن عامر ، قال أبو عبيد واللفظ له : قال هشام وحدثنا سويد بن عبد العزيز أيضا عن الحسن بن عمران عن عطية بن قيس عن أم الدرداء : عن أبي الدرداء : أن هذه الحروف في مصاحف أهل الشام ، وهي ثمانية وعشرون حرفا في مصاحف أهل الشام : في (البقرة) ( قالوا اتخذ الله ولدا ) (116) بغير واو .
وفي (آل عمران) ( سارعوا ) (133) بغير واو ، وفيها ( بالبينات وبالزبر وبالكتب ) (84) ثلاثتهن بالباء .
وفي (النساء) ( إلا قليلا منهم ) (66) بالنصب .
وفي (المائدة) ( يقول الذين آمنوا ) (53) بغير واو ، وفيها ( من يرتدد منكم عن دينه ) (54) بدالين .
وفي (الأنعام) ( والدار الآخرة ) (32) بلام واحدة ، وفيها ( قتل أولادهم شركائهم ) (137) بنصب ( الأولاد ) وخفض ( الشركاء ) .
وفي (الأعراف) ( قليلا ما يتذكرون ) (3) ، وفيها ( ما كنا لنهتدي )

(43) بغير واو ، وفيها في قصة صالح ( وقال الملأ ) (75) بالواو وفيها ( وإذ أنجكم ) (141) بغير نون .
وفي (براءة) ( الذين اتخذوا ) (107) بغير واو .
وفي (يونس) ( هو الذي ينشركم ) (22) بالنون والشين وفيها ( إن الذين حقت عليهم كلمت ربك ) (96) على الجمع .
وفي (بني إسرائيل) ( قال سبحان ربي ) (93) على الخبر .
وفي (الكهف) ( خيرا منهما ) (36) على اثنين .
وفي (المؤمنون) ( سيقولون لله ) (85 ، 87 ، 89) ، ثلاثتهن بغير ألف .
وفي (الشعراء) ( فتوكل على العزيز ) (217) بالفاء .
وفي (النمل) ( إننا لمخرجون ) (67) على نونين .
وفي (المؤمن) ( أشد منكم ) (21) بالكاف ، وفيها ( وأن يظهر في الأرض ) (26) بغير ألف .
وفي (عسق) ( بما كسبت أيديكم ) (30) بغير فاء .
وفي (الرحمن) ( والحب ذا العصف والريحان ) (12) بالنصب ، وفيها ( تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام ) (87) بالرفع .
وفي (الحديد) ( فإن الله الغني الحميد ) (24) بغير ( هو ) .
وفي (والشمس) ( فلا يخاف عقباها ) (15) بالفاء .
حدثنا الخافاقني قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا علي قال : قال أبو عبيد : اختلفت مصاحف أهل العراق والكوفة والبصرة في خمسة أحرف : كتب الكوفيون في (الأنعام) ( لئن أنجينا ) (63) بغير تاء .
وفي (الأنبياء) ( قال ربي يعلم ) (4) بالألف .

وفي (المؤمنون) ( قل كم لبثتم ) (112) ( قل إن لبثتم ) (114) بغير ألف فيهما .
وفي (الأحقاف) ( بوالديه إحسانا ) (15) بألف قبل الحاء ، وأخرى بعد السين ، وكتبها المصريون ( لئن أنجيتنا ) بالتاء ( قل ربي يعلم ) بغير ألف ( قال كم لبثتم ) ( قال إن لبثتم ) بالألف ( بوالديه حسنا ) بغير ألف .
قال أبو عمرو : وروي لنا عن ابن القاسم وأشهب وابن وهب : أنهم رأوا في مصحف جد مالك بن أنس الذي كتبه حين كتب عثمان بن عفان رضي الله عنه المصاحف أخرجه إليهم مالك في (حم عسق) ( فبما كسبت ) (30) بالفاء .
وفي (الزخرف) ( ما تشتهي الأنفس ) (71) .
وفي (الحديد) ( فإن الله هو الغني الحميد ) (24) بزيادة ( هو ) .
وفي (والشمس) ( ولا يخاف ) (15) بالواو ، وسائر الحروف على ما رواه إسماعيل عن مصاحف أهل المدينة ، وروى خارجة بن مصعب عن نافع أنه قال : في الإمام في (الحديد) ( هو الغني ) بزيادة ( هو ) .
وفي (والشمس) ( ولا يخاف ) بالواو ، وقد ذكرنا حكاية أبي عبيد عن الإمام في رسم هذه الحروف وغيرها فأغنى ذلك عن الإعادة .

وقال أبو حاتم في مصحف أهل المدينة في (يوسف) ( وقال الملك اتون ) (54) بنقصان ياء ، وفي مصحف أهل مكة في آخر النساء ( فآمنوا بالله ورسوله ) (171) ، وفي مصحف أهل حمص الذي بعث به في المصحف الذي بعث به عثمان إلى ( الشام ) ( ثم كيدوني ) بالياء ( وما كان للنبي ) بلامين .

وفي (الكهف) ( للتخذت عليه ) .
قال أبو عمرو : فهذا جميع ما انتهى إلينا بالروايات من الاختلاف بين مصاحف أهل الأمصار ، وقد مضى من ذلك حروف كثيرة في الأبواب المتقدمة والقطع عندنا على كيفية ذلك في مصاحف أهل الأمصار على قراءة أئمتهم غير جائز إلا برواية صحيحة عن مصاحفهم بذلك إذ قراءتهم في كثير من ذلك قد تكون على غير مرسوم مصحفهم ، ألا ترى أن أبا عمرو قرأ ( يا عبادي لا خوف عليكم ) (168) في (الزخرف) بالياء ، وهو في مصاحف أهل البصرة بغير ياء ؟ ! فسئل عن ذلك فقال : إني رأيته في مصاحف أهل المدينة بالياء فترك ما في مصحف أهل بلده ، واتبع في ذلك مصاحف أهل المدينة .
وكذلك قراءته في (الحجرات) ( لا يألتكم من أعمالكم شيئا ) (14) بالهمزة التي صورتها ألف وذلك مرسوم في جميع المصاحف بغير ألف .
وكذلك قراءته أيضا في (المنافقون) ( وأكون من الصالحين ) (10) بالواو والنصب ، وذلك في كل المصاحف بغير واو مع الجزم ، قال أبو عبيد : وكذا رأيته في الإمام قال : واتفقت على ذلك المصاحف .
وكذلك أيضا قراءته في (المرسلات) ( وإذا الرسل وقتت ) (11) بالواو من الوقت ، وذلك في الإمام ، وفي كل المصاحف بالألف ، وكذلك قراءته .
وقراءة ابن كثير في (البقرة) ( أو ننسأها ) (106) بهمزة ساكنة بين السين والهاء وصورتها ألف ، وليست كذلك في مصاحف أهل مكة ولا في غيرها
وكذلك قراءة ابن عامر وعاصم من رواية حفص بن سليمان في (الزخرف) ( قال أولو جئتكم ) (24) بالألف ، ولا خبر عندنا إن ذلك

كذلك مرسوم في مصاحف أهل الشام ولا في غيرها .
وكذلك أيضا قراءة عاصم من الطريق المذكور في (الأنبياء) ( قال رب احكم بالحق ) (112) بالألف ، ولا رواية عندنا كذلك أن ذلك مرسوم في شيء من المصاحف في نظائر لذلك كثيرة ترد عن أئمة القراءة ، بخلاف مرسوم مصحفهم ، وإنما بينت هذا الفصل ونبهت عليه ؛ لأني رأيت بعض من أشار إلى جمع شيء من هجاء المصاحف من منتحلي القراءة من أهل عصرنا قد قصد هذا المعنى وجعله أصلا ، فأضاف بذلك ما قرأ به كل واحد من الأئمة من الزيادة والنقصان في الحروف المتقدمة وغيرها إلى مصاحف أهل بلده وذلك من الخطأ الذي يقود إليه إهمال الرواية وإفراط الغباوة وقلة التحصيل ، إذ غير جائز القطع على كيفية ذلك إلا بخبر منقول عن الأئمة السالفين رواية صحيحة عن العلماء المختصين بعلم ذلك المؤتمنين على نقله وإيراده لما بيناه من الدلالة . وبالله التوفيق .
قال أبو عمرو : فإن سأل سائل عن السبب الموجب لاختلاف مرسوم هذه الحروف الزوائد في المصاحف قلت : السبب في ذلك عندنا أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما جمع القرآن في المصاحف ونسخها على صورة واحدة وآثر في رسمها لغة قريش دون غيرها مما لا يصح ولا يثبت نظرا للأمة واحتياطا على أهل الملة ، وثبت عنده أن هذه الحروف من عند الله عز وجل كذلك منزلة ، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة ، وعلم أن جمعها في مصحف واحد على تلك الحال غير ممكن إلا بإعادة الكلمة مرتين وفي رسم ذلك ، كذلك من التخليط والتغيير للمرسوم ما لا خفاء به ففرقها في المصاحف لذلك ، فجاءت مثبتة في بعضها ، ومحذوفة في بعضها لكي

تحفظها الأمة كما نزلت من عند الله عز وجل ، وعلى ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا سبب اختلاف مرسومها في مصاحف أهل الأمصار .
فإن قال قائل : فما تقول في الخبر الذي رويتموه عن يحيى بن يعمر وعكرمة مولى ابن عباس عن عثمان رضي الله عنه : أن المصاحف لما نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفا من اللحن فقال : اتركوها فإن العرب ستقيمها أو ستعربها بلسانها ، إذ ظاهره يدل على خطأ في الرسم .
قلت : هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجة ، ولا يصح به دليل من جهتين : إحداهما : أنه مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه - مرسل ؛ لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئا ولا رأياه ، وأيضا فإن ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان رضي الله عنه ؛ لما فيه من الطعن عليه مع محله من الدين ومكانه من الإسلام وشدة اجتهاده في بذل النصيحة واهتمامه بما فيه الصلاح للأمة ، فغير ممكن أن يتولى لهم جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقياء الأبرار نظرا لهم ليرتفع الاختلاف في القرآن بينهم ، ثم يترك لهم فيه مع ذلك لحنا وخطأ يتولى تغييره من يأتي بعده ممن لا شك أنه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهده ، هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله ، ولا يحل لأحد أن يعتقده .
فإن قال : فما وجه ذلك عندك لو صح عن عثمان رضي الله عنه ؟ قلت : وجهه أن يكون عثمان رضي الله عنه أراد باللحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم إذ كان كثير منه لو تلي على حال رسمه لانقلب ذلك معنى التلاوة وتغيرت ألفاظها ألا ترى قوله : ( أولأ اذبحنه ) و ( لا أوضعوا ) و ( من نباءى المرسلين ) و ( سأوريكم ) و ( الربوا ) وشبهه مما زيدت الألف

والياء والواو في رسمه لو تلاه تال لا معرفة له بحقيقة الرسم على حال صورته في الخط لصير الإيجاب نفيا ولزاد في اللفظ ما ليس فيه ولا من أصله فأتى من اللحن بما لا خفاء به على من سمعه مع كون رسم ذلك كذلك جائزا مستعملا ، فأعلم عثمان رضي الله عنه إذ وقف على ذلك : أن من فاته تمييز ذلك وعزبت معرفته عنه ممن يأتي بعده سيأخذ ذلك عن العرب إذ هم الذين نزل القرآن بلغتهم فيعرفونه بحقيقة تلاوته ويدلونه على صواب رسمه ، فهذا وجهه عندي . والله أعلم .
فإن قيل : فما معنى قول عثمان رضي الله عنه في آخر هذا الخبر لو كان - الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف ؟ قلت : معناه ، أي : لم توجد فيه مرسومة بتلك الصور المبنية على المعاني دون الألفاظ المخالفة لذلك ، إذ كانت قريش ومن ولي نسخ المصاحف من غيرها قد استعملوا ذلك في كثير من الكتابة ، ولسلكوا فيها تلك الطريقة ولم تكن ثقيف وهذيل مع فصاحتهما يستعملان ذلك فلو أنهما وليتا من أمر المصاحف ما وليه من تقدم من المهاجرين والأنصار لرسمتا جميع تلك الحروف على حال استقرارها في اللفظ ووجودها في المنطق دون المعاني والوجوه إذ ذلك هو المعهود عندهما والذي جرى عليه استعمالها هذا تأويل قول عثمان عندي لو ثبت وجاء مجيء الحجة . وبالله التوفيق .
حدثنا خلف بن إبراهيم المقرئ قال : حدثنا أحمد بن محمد المكي قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا حجاج عن هارون قال : أخبرني الزبير بن الخريت عن عكرمة قال : لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان رضي الله عنه فوجد فيها حروفا من

اللحن فقال : لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال : ستعربها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف .
حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا عمرو بن مرزوق قال : حدثنا عمران القطان عن قتادة عن نصير بن عاصم عن عبد الله بن أبي فطيمة عن يحيى بن يعمر قال : قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : في القرآن لحن تقيمه العرب بألسنتها .
قال : قيل : فما تأويل الخبر الذي رويتموه أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه : أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن عن قوله : إن هذان لساحران (20- 63) وعن والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة (4- 162) وعن إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى (5- 69) ؟ فقالت : يا ابن أختي ، هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتابة . قلت : تأويله ظاهر ، وذلك أن عروة لم يسأل عائشة فيها عن حروف الرسم التي تزاد فيها لمعنى وتنقص منها لآخر ، تأكيدا للبيان ، وطلبا للخفة ، وإنما سألها فيه عن حروف من القراءة المختلفة الألفاظ المحتملة الوجوه على اختلاف اللغات التي أذن الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام ولأمته في القراءة بها واللزوم على ما شاءت منها تيسيرا لها وتوسعة عليها ، وما هذا سبيله وتلك حاله فعن اللحن والخطأ والوهم والزلل بمعزل؛ لفشوه في اللغة ، ووضوحه في قياس العربية ، وإذا كان الأمر في ذلك كذلك فليس ما قصدته فيه بداخل في معنى المرسوم ولا هو من سببه في شيء ، وإنما سمى عروة ذلك لحنا وأطلقت عائشة على مرسومه كذلك الخطأ على جهة الاتساع في الأخبار وطريق المجاز في العبارة إذا كان ذلك مخالفا

لمذهبهما وخارجا عن اختيارهما ، وكان الأوجه والأولى عندهما والآكثر والأفشى لديهما لا على وجه الحقيقة والتحصيل والقطع؛ لما بيناه قبل من جواز ذلك وفشوه في اللغة ، واستعمال مثله في قياس العربية ، مع انعقاد الإجماع على تلاوته كذلك ، دون ما ذهبا إليه إلا ما كان من شذوذ أبي عمرو بن العلاء في إن هذين (20-63) خاصة هذا الذي يحمل عليه هذا الخبر ويتأول فيه دون أن يقطع به على أن أم المؤمنين رضي الله عنها مع عظيم محلها وجليل قدرها واتساع علمها ومعرفتها بلغة قومها لحنت الصحابة وخطأت الكتبة وموضعهم من الفصاحة والعلم باللغة موضعهم الذي لا يجهل ولا ينكر هذا ما لا يسوغ ولا يجوز ، قد تأول بعض علمائنا قول أم المؤمنين أخطأوا في الكتاب ، أي : أخطأوا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة بجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز؛ لأن ما لا يجوز مردود بإجماع ، وإن طالت مدة وقوعه ، وعظم قدر موقعه وتأول اللحن أنه القراءة واللغة ، كقول عمر رضي الله عنه : أبي أقرؤنا وإنا لندع بعض لحنه ، أي : قراءته ولغته ، فهذا بين . وبالله التوفيق .

حدثنا الخاقاني : قال : حدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن عن قول الله عز وجل : إن هذان لساحران ، وعن قوله : والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ، وعن قوله تبارك وتعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى فقالت : يا ابن أختي ، هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتاب .
فإن قال قائل : فإذ قد أوضحت ما سئلت عنه من تأويل هذين الخبرين

فعرفنا بالسبب الذي دعا عثمان رضي الله عنه إلى جمع القرآن في المصاحف وقد كان مجموعا في الصحف على ما رويته لنا في حديث زيد بن ثابت المتقدم قلت : السبب في ذلك بين فذلك الخبر على قول بعض العلماء ، وهو أن أبا بكر رضي الله عنه كان قد جمعه أولا على السبعة الأحرف التي أذن الله عز وجل للأمة في التلاوة بها ولم يخص حرفا بعينه ، فلما كان زمان عثمان ووقع الاختلاف بين أهل العراق وأهل الشام في القراءة وأعلمه حذيفة بذلك- رأى هو ومن بالحضرة من الصحابة أن يجمع الناس على حرف واحد من تلك الأحرف ، وأن يسقط ما سواه فيكون ذلك مما يرتفع به الاختلاف ويوجب الاتفاق إذا كانت الأمة لم تؤمر بحفظ الأحرف السبعة ، وإنما خيرت في أيها شاءت لزمته وأجزأها كتخييرها في كفارة اليمين بالله بين الإطعام والكسوة والعتق ، لا أن يجمع ذلك كلا فكذلك السبعة الأحرف .
وقيل : إنما جمع الصحف في مصحف واحد ، لما في ذلك من حياطة القرآن وصيانته وجعل المصاحف المختلفة مصحفا واحدا متفقا عليه وأسقط ما لا يصح من القراءات ولا يثبت من اللغات وذلك من مناقبه وفضائله رضي الله عنه) . اهـ . وإذا ثبت ذلك فلم لا يجوز أن يكتب المصحف بالرسم الإملائي بعد إحكامه وضبط قواعده ، بل هو أولى منه وأدق وأحسن نظاما وأوضح قراءة وأسهل تلاوة ؟
ونوقش ذلك بما يأتي :
أ- وقد يقال : لا حرج في قراءة القرآن بالرسم العثماني : فإن سهولة القراءة تدور على معرفة الرسم والتمرين على القراءة به أيا كان ، فإذا عني

الإنسان بالرسم العثماني وتعهده بالقراءة سهلت عليه القراءة به كالقراءة حسب قواعد الإملاء ، فإنها سهلت بمعرفة الرسم الإملائي وتطبيقه كتابة وقراءة ، وهذا أمر عام في جميع اللغات ، فإن مبناها المعرفة والمحاكاة والتلقي .
ويشهد لذلك سهولة القراءة في المصحف بالرسم العثماني على من تعلموا طوال القرون الماضية في الكتاتيب إلى العصر الحاضر مع انتشار قواعد الإملاء والعمل بها تأليفا وقراءة ، فالسهولة والصعوبة والوضوح والاشتباه ليس ذاتيا لهذا أو ذاك ، وإنما يرجع ذلك إلى التعهد والعناية ، والإهمال والإعراض .
ب- على أن هناك كلمات تكتب في الرسم الإملائي على طريقة الرسم العثماني مستثناة من القواعد الإملائية ولم يعق ذلك العصريين عن قراءتها أو كتابتها ولم يشق عليهم متابعة الرسم العثماني فيها مثل حذف الألف من ذلك ، وهذا ، وهؤلاء ، ولكن ، وأولئك . . . إلخ ، ومثل زيادة الواو في أولئك ، وأولو الألباب ، وأولي أجنحة ، وزيات الألف في مائة .
ج- إن المشقة التي يعانيها من لم يعرف الرسم العثماني في تلاوة القرآن ليست من جنس الضرورة إلى جمع القرآن ولا من جنس الحاجة إلى نقطه وشكله ، فإنه يمكن القضاء على تلك المشقة بمعرفة الرسم العثماني والتمرس بالقراءة على مقتضاه كما تقدم بيانه ، بخلاف الضرورة إلى جمع القرآن أولا وثانيا : فإنها لا ترتفع إلا بجمعه ولا يقضى عليها إلا به ، وكذا الحال في الحاجة إلى نقطه وشكله ، فإنها لا تزول إلا بذلك ولا تندفع إلا به ، إذ العجمة تتزايد بدخول الأعاجم في الإسلام ، وضعف اللسان

العربي ، وكثرة اللحن تتزايد أيضا مع طول الزمن وكثرة الاختلاط بالأعاجم ، فلم يكن هناك مناص من الجمع والنقط والشكل؛ لعدم وجود بديل يقوم مقام ذلك .
د- نعم ، إن القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكتوب ، ولكن نوعا من الكتابة كان معهودا عند العرب وكتب به القرآن حين نزوله ، ولم ينكر الله على رسوله ولا على كتبته تقييده بهذا النوع من الكتابة ، بل تحرى عثمان رضي الله عنه أن يكتب في الجمع الثاني بلغة قريش خاصة؛ لكونه نزل بلغتهم واستمر العمل على ذلك قبل وضع قواعد الإملاء وبعد وضعها ، فكان ذلك تقريرا لأمر عثمان وطبقه كتبة المصحف حينما كتبوه في عهده ، وإجماع عصور من الأمة على ذلك وصار بذلك سنة متبعة .

رابعا : بيان ما يوجب بقاء كتابة المصاحف بالرسم العثماني ، وما قد يترتب على العدول عنه من تحريف ونحوه :
أولا : ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في خلافة عثمان رضي الله عنه بأمره ، وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوا ما اختلفوا فيه بلغة قريش وذلك مما يدل على القصد إلى رسم معين ، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم ، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا رغم وضع قواعد الإملاء ، والعمل بمقتضاها في التأليف والقراءة وكتابة الرسائل ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي » (1) ، فكانت المحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم واجبة أو سنة متبعة ، اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم ، وعملا بالإجماع .
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676),سنن ابن ماجه المقدمة (42),مسند أحمد بن حنبل (4/126),سنن الدارمي المقدمة (95).

ثانيا : إن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح في الخط فهو قابل للتغيير والتبديل باصطلاح آخر مرة بعد أخرى كسائر رسوم الخطوط في اللغة العربية وغيرها ، فإذا عدلنا عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليا تسهيلا للقراءة فقد يفضي ذلك إلى التغيير كلما تغير الاصطلاح في الكتابة لنفس العلة وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن ، بتبديل بعض الحروف من بعض ، والزيادة فيها والنقص فيها ، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويقع فيها التخليط على مر الأيام والسنين . ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه ، وهذا من جنس البلاء الذي أصيبت به الكتب الأولى حينما عبثت بها الأيدي والأفكار ، وقد جاءت شريعة الإسلام بسد الذرائع والقضاء عليها؛ محافظة على الدين ، ومنعا للشر والفساد .
ثالثا : يخشى إذا وقع ذلك أن يصير كتاب الله- القرآن- ألعوبة بأيدي الناس ، كلما عن لإنسان فكرة في كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية وآخرون كتابته بالعبرية . . وهكذا مستندين في ذلك إلى ما استند إليه من اقترح كتابته حسب قواعد الإملاء من التيسير ورفع الحرج والتوسع في الاطلاع وإقامة الحجة وفي هذا ما فيه من الخطر وقد نصح مالك بن أنس الرشيد أو جده المنصور ألا يهدم الكعبة ليعيدها إلى بنائها الذي قام به عبد الله بن الزبير حيث بناها على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بين أيدي الولاة . قال تقي الدين الفاسي في كتابه [شفاء الغرام] : ويروى (1) أن الخليفة
__________
(1) [شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام] (1\ 100) .

الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة ، وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير - فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله ، وقال له : نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك ، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ، فتذهب هيبته من قلوب الناس . انتهى بالمعنى ، ثم قال : وكان مالك لحظ في ذلك أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، وهي قاعدة مشهورة معتمدة . اهـ .

و

خلاصة القول
: أن لكل من القول بجواز كتابة المصحف- القرآن - على مقتضى قواعد الإملاء والمنع من ذلك وحرمته وجهة نظر ، غير أن مبررات الجواز فيها مآخذ ومناقشات تقدم بيانها ، وقد لا تنهض معها لدعم القول بالجواز ، ومع ذلك قد عارضها ما تقدم ذكره من الموانع ، وجريا على القاعدة المعروفة من تقديم الحظر على الإباحة .
وترجيح جانب درء المفاسد على جلب المصالح عند التعادل أو رجحان جانب المفسدة قد يقال : إن البقاء على ما كان عليه المصحف من الرسم العثماني أولى وأحوط على الأقل ، وعلى كل حال فالمسألة محل نظر واجتهاد والخير في اتباع ما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضي الله عنهم .
والله الموفق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء
رقم (71) وتاريخ 21\10\1399 هـ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد :
ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال إلى الحادي والعشرين فيه نظر المجلس فيما رفعه حسين حمزة صالح مدرس العلوم الدينية بمدرسة الإمام أبي حنيفة الابتدائية بمكة . . إلى جلالة الملك المعظم يطلب فيه المعونة في كتابة المصحف بطريقة الإملاء العادية ، والمحال إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم 3\ ص\ 22035 في 22\ 9\ 1398 هـ . واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في [حكم كتابة القرآن بطريقة الإملاء العادية وإن خالف ذلك الرسم العثماني] .
وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه . . تبين للمجلس أن هناك أسبابا تقتضي بقاء كتابة المصحف بالرسم العثماني وهي :
1 - ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في عهد عثمان رضي الله عنه ، وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوه على رسم معين ووافقه الصحابة وتابعهم التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا هذا ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي » (1) فالمحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم هو المتعين ، اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة ، وعملا بإجماعهم .
2 - إن العدول عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليا
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676),سنن ابن ماجه المقدمة (42),مسند أحمد بن حنبل (4/126),سنن الدارمي المقدمة (95).

بقصد تسهيل القراءة يفضي إلى تغيير آخر إذا تغير الاصطلاح في الكتابة؛ لأن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح قابل للتغيير باصطلاح آخر . . وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف أو زيادتها أو نقصها فيقع الاختلاف بين المصاحف على مر السنين ويجد أعداء الإسلام مجالا للطعن في القرآن الكريم . وقد جاء الإسلام بسد ذرائع الشر ومنع أسباب الفتن .
3 - ما يخشى من أنه إذا لم يلتزم الرسم العثماني في كتابة القرآن أن يصير كتاب الله ألعوبة بأيدي الناس كلما عنت لإنسان فكرة في كتابته اقترح تطبيقها فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية أو غيرها ، وفي هذا ما فيه من الخطر ، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح .
وبناء على هذه الأسباب اتخذ المجلس القرار التالي :
يرى مجلس هيئة كبار العلماء أن يبقى رسم المصحف على ما كان بالرسم العثماني ، ولا ينبغي تغييره ليوافق قواعد الإملاء الحديثة؛ محافظة على كتاب الله من التحريف ، واتباعا لما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين .
والله الموفق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
محمد بن علي الحركان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن صالح غائب
راشد بن خنين ... محمد بن جبير له وجهة نظر ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن غائب
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح اللحيدان

وجهة نظر
لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير
وجهة نظر عضو هيئة كبار العلماء محمد بن إبراهيم بن جبير حول موضوع كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء الحديثة - الذي بحثه مجلس الهيئة في دورته الرابعة عشرة المنعقدة في مدينة الطائف شهر شوال عام 1399 هـ .
بعد اطلاعي على البحث القيم الذي استوفى جميع أطرافه الموضوع ، والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أثابها الله وبارك في جهودها .
وبعد المناقشة التي تمت في مجلس الهيئة برئاسة سماحة الشيخ \ عبد الله بن حميد حول موضوع : (كتابة المصحف بغير الرسم العثماني) وحيث إن الحديث عن هذا الموضوع قديم ، بحثه الأئمة رحمهم الله قبل أكثر من ألف سنة ، وحكموا بما ظهر لهم من التحريم أو الكراهية أو الجواز ، وصنفوا في ذلك المصنفات العديدة ، ولا زال بحث هذا الموضوع يتكرر بين آونة وأخرى إلى يومنا هذا .
وحيث إن قراءة القرآن من المصحف المكتوب بالرسم العثماني على وجه الصواب ستكون خاصة بمن يتلقاه عن القراء ، أما الصغار فسوف يكون تعليمهم من تلك المصاحف عسيرا .
لذلك فإنني أرى أن تطبع المصاحف بالرسم العثماني ، حفظا لهذا الأثر

العظيم الذي هو أصل ديننا ، على أن يعاد طبع الكلمات بالرسم الإملائي المعتاد على الهامش في حيز خاص ، وذلك تسهيلا لتعلم الصغار وقراءة الكبار الذين لم يتلقوا القرآن عن قارئ .
وبهذا نجمع بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين .
والله الموفق ، وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .
عضو هيئة كبار العلماء
محمد بن إبراهيم بن جبير

(6)
كتابة المصحف باللاتينيةهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

كتابة المصحف باللاتينية
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد :
فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الاستثنائية الثالثة المنعقدة بمدينة الرياض في المدة من شهر صفر إلى السابع منه عام 1399 هـ على مصحف مكتوب بالأحرف اللاتينية ، أرسله الملحق الديني بسفارة المملكة العربية السعودية بجاكرتا الشيخ إبراهيم يوسف خان ، وذكر أنه من كتابة المدعو بحر العلوم وطباعة مطبعة سومطرة للطباعة والنشر في مدينة تابعة لمحافظة جاوا الغربية ، وأن جماعة من المغرضين قاموا بدعاية له والترغيب في اقتنائه ، فانتشر هناك في بلاد إندونيسيا ، وفي نفس الدورة اقترح المجلس إعداد بحث في حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينية ، على أن يشترك مع لجنة الإعداد من يجيد بعض اللغات التي تكتب بالحروف اللاتينية ليكون معينا لها في تحقيق الغرض المقصود .
وبناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع مع إشراك بعض من يجيد اللغة الإنجليزية والإندونيسية لترجمة بعض الكلمات أو الجمل ، وللمساعدة في فهم المصطلحات التي كتبت مقدمة لكتابة القرآن بالأحرف اللاتينية .

ويشتمل البحث على ما يأتي :
1 - مقدمة في تصوير الموضوع .
2 - مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية في زعم من فعل ذلك ومناقشتها .
3 - الموانع من كتابته بالأحرف اللاتينية ، مع بيان ما في ذلك من الخطر .
4 - خلاصة البحث .

أولا : مقدمة في تكييف الموضوع وتصويره :
تمهيد :
لما كان الحكم على كتابة المصحف بالحروف اللاتينية بالجواز أو المنع قد يتوقف على معرفة كيفية كتابته بها بدلا من الحروف العربية ، وعلى معرفة رسم ما يتبع ذلك من شكل ومد وتنوين وغنة ونحو ذلك كان لزاما علينا أن فثبت أولا . . . التعليمات التي وضعت لتراعى في كتابته وقراءته بالحروف اللاتينية ، وأن نثبت صورة للحروف والرموز التي تستعمل في الكتابة وتراعى في القراءة ، وأن نذكر البديل من الحروف اللاتينية عن الحروف العربية التي ليس لها بديل مقابل في الحروف اللاتينية ، وأن نذكر ثانيا أمثلة لبعض الفروق في كتابة الحروف والكلمات في النسخة الهندية التي نشرها محمد عبد الحليم الياسي ، والنسخة الإندونيسية الأولى التي نشرها بحر العلوم والنسخة الثانية له؛ ليتبين مدى ما في ذلك من تسهيل قراءة القرآن على كثير من الأعاجم أو صعوبتها ، وليتبين أيضا مدى ما في ذلك من الخطر في كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ، وبذلك يمكن ذكر دواعي الجواز ودواعي المنع ، وترجيح

ما يقتضي النظر ترجيحه ، ولنبدأ بعرض ما ذكر فيما يأتي :
1 - تعليمات وإرشادات النسخ :
أ- إرشادات النسخة الإندونيسية التي نشرها بحر العلوم والحروف والرموز التي اعتمدها فيها .
كيفية قراءة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية
يكون ابتداء تعلم قراءة القرآن الكريم بالحروف العربية غالبا من جزء (عم) والأكثر بالنسبة للأطفال يحتاج تعلمه إلى ثلاث أو أربع سنوات ، وللحصول على قراءة أجود يحتاج الأطفال أحيانا إلى وقت أطول من ذلك .
ونجد كثيرا في الكلمات العربية حروفا مكتوبة في الخط ولا تنطق باللسان عند القراءة ، وعند كتابة تلك الكلمات بالحروف اللاتينية نتخذ رموزا خاصة لها .
انظر الرموز :
1 - رموز الحروف الهجائية .
2 - رموز العلامات .
3 - رموز الوقف .
4 - رموز الشدة (التشديد) .
ورموز العلامات هذه نعتبرها دراسة تكميلية لا نحتاج إلى قراءتها .
ويمكن لك تعلم قراءة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية في أقصر وقت ، إذا كان اهتمامك له اهتماما جديا وصل إلى درجة الحب والشغف . والطريق الوحيد الذي لا مثيل له لمثل هذا التعلم هو طريق الاستماع .

بمعنى؛ أنك تستمع لقراءة أستاذك الذي يجيد قراءة القرآن الكريم . وتنظر في نفس الوقت إلى مصحفك اللاتيني (المكتوب بالحروف اللاتينية) وكذلك بالعكس . تقرأ القرآن الكريم عن طريق مصحفك اللاتيني ، والأستاذ يستمع لقراءتك وينظر إلى مصحفه العربي .
وبذلك تجد كيفية تعلم قراءة القرآن الكريم الجيدة ، وطريقته الموصلة المنتجة ، والله نسأل أن يكون هذا المصحف نافعا لك ، وشكرا .
المؤلف

3 - أضف إلى ما تقدم اقتراحا في كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ، فإن الكاتب في محاولته لضبط القراءة وتسهيل النطق بالكلمات قد جزأ بعض الكلمات العربية إلى مقطعين بينهما خط أفقي كالفتحة ، وجعل حروف المقطع الأول مع حروف الكلمة السابقة أو بعضها وحروف المقطع الثاني مع الكلمة اللاحقة أو بعضها ، مثال ذلك ما اقترحه في كتابة قوله تعالى : { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } (1)
الآية [ الآية 50 من سورة الأنعام ] فإنه كتبها بالحروف اللاتينية على النحو الآتي :
50 - Qul - laaa aquulu lakum indii khazaaa - inul - laahi wa laaa a - lamul - gayba wa laaa aquulu lakum innii malak . Inattabi - u illaa maa youhaa ilayy . Qul hal yasta - wil - a - maa wal - basiir ? Afalaa tatafak - karuun ? ( Section 6 ) .
وفيما سبق من صور كتابة السور السبع بالحروف اللاتينية كثيرة من الأمثلة لذلك .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 50

ثانيا : مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية في نظر من فعل ذلك ومناقشتها :
1 - أن القرآن هو الأصل الذي يرجع المسلمون إليه في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم ، وقد حث الله تعالى على تلاوته وتدبر آياته واستنباط الأحكام منه ، وأمر بتحكيمه في جميع الشئون والأحوال ، وبينت السنة النبوية فضائله ، وحثت على تعلمه وتعليمه ، والتعبد بتلاوته ، والعمل بما فيه من أحكام ، وقد عرف العرب ومن خالطهم وعاش بين أظهرهم الحروف العربية وما يتألف منها من كلمات ، ومرنوا على قراءتها فسهل عليهم أن يقرءوا بها القرآن ويتعبدوا بتلاوته ، ويتدبروا آياته ، ويتعرفوا أحكامه ليعملوا بها .
أما من لغتهم غير عربية وكتابتهم وقراءتهم وتعلمهم بغير الحروف العربية ، وما يتألف منها من الكلام - فيشق عليهم قراءة القرآن بالحروف العربية ، فلكي تسهل عليهم قراءة القرآن ، وتتضح أمامهم أبواب فهمه وتدبر آياته ومعرفة أحكامه - يرخص لهم في كتابة القرآن بالحروف التي عهدوا الكتابة بها في بلادهم ، كاللاتينية ، إن لم يكن ذلك واجبا لكونه وسيلة إلى واجب ، فإن التيسير من مقاصد الشريعة ، وقد جاءت به نصوص الكتاب والسنة ، قال الله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (1) وقال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (2) وقال :
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 185

{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } (1) وثبت عن النبي أنه قال : « يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا » (2) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي ، وثبت عنه أنه قال : « إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا . . » (3) رواه البخاري والنسائي ، ولا شك أن كتابه القرآن بحروف اللغة التي يتكلم بها الأعاجم فيه تيسير لتلاوة القرآن عليهم ، ورفع للحرج عنهم وتعميم للبلاغ ، وإقامة الحجة عليهم .
وليس ذلك بدعا ، بل هو مناسب لمقاصد الشريعة ، وله نظائر ، فقد جمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه القرآن خشية ضياعه بموت القراء ، وجمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن ؛ منعا للاختلاف ، ونقط المصحف وشكل في عهد بني أمية حينما أسلم كثير من الأعاجم ، واختلطوا بمسلمي العرب ، فاستعجم كثير من ألسنة أبناء العرب وخيف عليهم اللحن في التلاوة ، فمحافظة على القرآن وعليهم من اللحن فيه نقط القرآن وشكل ، ولم يكن ذلك منكرا ، بل انتهى الأمر فيه إلى الإجماع ؛ لما فيه من تحقيق مقاصد الشريعة والعمل بمقتضاها ، فليس ببعيد في حكمة المشرع أن يرخص لغير العرب في كتابة القرآن بحروف لغتهم وكلماتها رحمة بهم .
إن القرآن لم ينزل مكتوبا بالعربية أو بغيرها حتى نلتزم الحروف التي نزل مكتوبا بها ، وإنما نزل وحيا متلوا ، فأملاه النبي صلى الله عليه وسلم على كتبته وكان أميا ، فكتبوه بما كان معهودا لديهم من الحروف ، ولم يكن هناك نص من الكتاب
__________
(1) سورة النساء الآية 28
(2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1732),سنن أبو داود الأدب (4835),مسند أحمد بن حنبل (4/412).
(3) صحيح البخاري الإيمان (39),صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2816),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5034),سنن ابن ماجه الزهد (4201),مسند أحمد بن حنبل (2/390).

أو السنة يلزمهم بذلك ، إنما هو واقع لغتهم الذي التزموا من أجله كتابة القرآن بحروف لسانهم مع اختلاف منهم في رسم بعض الحروف ، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز أن يكتب المصحف بحروف غير عربية كاللاتينية ، لوجود الداعي إلى ذلك مع عدم الضرر ؟
ونوقش ذلك بأمور :
الأول : أن تعلم الإنسان للغة غير لغته نطقا وقراءة وكتابة أمر عادي معهود عند الناس قد درجوا عليه قديما وحديثا ؟ إشباعا لغريزة حب الاستطلاع ونهمة العلم ، ورغبة في نيل الشهادات ، وحرصا على تبادل المنافع وتعرف الصناعات إلى غير هذا من الدواعي التي تحفز الناس إلى تعلم غير لغتهم ، فلا حرج على الأعاجم في أن يتعلموا اللغة العربية كتابة وقراءة ، فإن ذلك في متناول الأيدي ومستوى الطاقة البشرية ، بل يجب على المسلمين أن يتعلموها ليقرءوا بها القرآن ويطلعوا على السنة النبوية ويأخذوا منها أحكام الإسلام ، بل هذا أحق من تعلم الإنسان غير لغته لنيل شهادة ، أو تعلم طب أو صناعة ، أو ما شابه ذلك من الأغراض الدنيوية ، ومن رجع إلى ماضي المسلمين وجد من أسلم من الأعاجم قد تعلموا اللغة العربية ، وأسهموا كثيرا في خدمة العلوم الدينية والعربية ، وألفوا فيها كثيرا باللغة العربية ، فألفوا في تفسير القرآن وتدوين الحديث وشرحه ، بل في البلاغة والنحو والصرف ومعاجم اللغة وفقهها .
الثاني : أن الحاجة إلى كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ونحوها إذا ارتفعت ، أمكن الأعاجم تعلم اللغة العربية وانتفى الحرج عنهم والمشقة بذلك ، فلا تكون كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ونحوها من جنس جمع

أبي بكر رضي الله عنه القرآن ، ولا جمع عثمان رضي الله عنه المسلمين على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن . فإن الحاجة إلى كتابته بغير اللغة العربية ، وذلك في متناول البشر ، بخلاف ما قام به أبو بكر وعثمان رضي الله عنهما فإن الضرورة التي ألجأت كلا منهما إلى ما قام به لحفظ القرآن ومنع الاختلاف فيه لا تذهب إلا بما فعلاه ، وكذا القول في نقط القرآن وشكله ، فلم يكن هناك مناص من الجمع والنقط والشكل ، لعدم وجود البديل عن ذلك .
الثالث : أنه كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من يعرف غير اللسان العربي ويعرف الكتابة بغير اللغة العربية ، والرسالة عامة للبشر عربهم وعجمهم ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم أن يكتب الوحي حين ينزل بلغة غير العربية ؛ ليسهل على من أسلم ومن سيسلم من الأعاجم قراءته ولا اتخذ كاتبا للوحي منهم ، بل اتخذ من الكتاب من يكتبه باللغة العربية التي بها نزل ، وسار الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على هذا النهج القويم فاختار من يكتبه باللغة العربية ، بل بلغة قريش ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم فكانت كتابته باللغة العربية سنة متبعة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي . . . » (1) .
الرابع : أن الذين كتبوا القرآن بالحروف اللاتينية أحسوا بأن الذين يعرفون الحروف اللاتينية واعتادوا القراءة بها يشق عليهم أن يقرءوا القرآن بها ؛ لوجود حروف في اللغة العربية ليس لها نظير في اللاتينية ، فاضطروا أن يضعوا لها مقابلا ، واضطروا لذلك أن يضعوا تعليمات تتكون من عشر صفحات جعلوها مقدمة لما كتبوه من القرآن بالحروف اللاتينية ، لتسهل
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607),سنن الدارمي المقدمة (95).

قراءته بها على من يعرف تلك الحروف وتعود القراءة بها ، وهذه التعليمات يحتاج تعلمها والمران عليها إلى مدة وجهد إن لم يزد ذلك على تعلم الحروف العربية والقراءة بها - فهو لا ينقص عنه ، وعلى ذلك تكون كتابة القرآن بالعربية أرجح وأسلم ؛ لكونها اللغة التي بها نزل ، ولبعدها عن مظان التحريف والتبديل .
الخامس : أن التجزئة في كتابة كلمات الآية ، وضم جزء من حروفها إلى ما سبق وآخر إلى ما لحق تشبه تقطيع كلمات البيت من الشعر حسب الأوزان المعروفة عند علماء العروض ، ليعرف البحر الذي هو منه ، ويتبع ذلك صفة نطق للقارئ .
وتشبه أيضا النوتة الموسيقية التي يراعى فيها مطابقة الصوت للمقطع والسلم الموسيقي وهذا من البدع التي تسيء إلى القرآن الكريم .
السادس : أن كاتب القرآن بالحروف اللاتينية لم يلتزم ما تعهد به في تعليماته في كيفية الرسم الكتابي .
فمثلا : نجده أحيانا يثبت الحرف اللاتيني الذي جعله عوضا عن الحركة في الكتابة العربية ، وأحيانا يتركه . ونجده أحيانا يثبت خطا أفقيا بين حرفي المضعف وأحيانا يتركه ، من ذلك ما وقع منه في كتابه ( سورة الناس ) بالحروف اللاتينية في النسخة الهندية والنسخة الأندونيسية الثانية إلى غير ذلك مما ينذر بالخطر ، ويفضي إلى التلاعب بالقرآن الكريم ، وتحريفه والإلحاد فيه ، ويفتح بابا لأهل الزيغ والزندقة والكفر يدخلون منه للطعن في كتاب الله ، ويشبهون على المسلمين ، ويصاب القرآن بما أصيبت به التوراة والإنجيل من قبل من التغيير والتبديل ، وتحريف الكلم عن مواضعه .

ثالثا : بيان الموانع التي تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لاتينية ونحوها وبيان ما فيها من الخطر :
أ - ثبت أن كتابة المصحف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي جمعه في عهد أبي بكر ، وجمعه في عهد عثمان رضي الله عنهما - كانت بالحروف العربية ، بل قصد عثمان رضي الله عنه رسما معينا أمر بكتابته به عند اختلاف كتبة المصحف من الأنصار والقرشيين في رسم الحروف ، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم ، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا ، رغم وجود لغات وحروف غير عربية ، ووجود كتبة مسلمين من غير العرب ، ووجود من يحتاج إلى تسهيل القراءة في المصحف بحروف غير عربية ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي » (1) فكانت المحافظة على كتابة المصحف بالحروف العربية واجبة ؛ عملا بما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، وسائر الصحابة رضي الله عنهم والقرون المشهود لها بالخير ، وعملا بإجماع الأمة .
ب - أن الحروف اللاتينية نوع من الحروف المصطلح على الكتابة بها عند أهلها ، فهي قابلة للتغيير والتبديل بحروف لغة أخرى ، بل حروف لغات أخرى مرة بعد مرة ، فإذا فتح هذا الباب تسهيلا للقراءة فقد يفضي ذلك إلى التغيير كلما تغيرت اللغة ، واختلف الاصطلاح في الكتابة لنفس العلة ، وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف من بعض ، والزيادة عليها والنقص منها ، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويقع فيها الخلط على مر الأيام والسنين ، ويجد عدو الإسلام مدخلا
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676),سنن ابن ماجه المقدمة (42),مسند أحمد بن حنبل (4/126),سنن الدارمي المقدمة (95).

للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه ، وهذا من جنس البلاء الذي أصيبت به الكتب الإلهية الأولى حينما عبثت بها الأيدي والأفكار ، وقد جاءت شريعة الإسلام بسد ذرائع الشر والقضاء عليها ؛ محافظة على الدين ، ومنعا للشر والفساد .
ج - يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير كتاب الله - القرآن - ألعوبة بأيدي الناس ، كلما عن لإنسان فكرة في كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه ، فيقترح بعضهم كتابته بالعبرية ، وآخرون كتابته بالسريانية ، وهكذا مستندين في ذلك إلى ما استند إليه من كتبه بالحروف اللاتينية من التيسير ورفع الحرج والتوسع في الاطلاع والبلاغ وإقامة الحجة ، وفي هذا ما فيه من الخطر العظيم . وقد نصح مالك بن أنس الرشيد أو جده المنصور : ألا يهدم بناء الكعبة الذي أقامه عبد الملك بن مروان ليعيدها إلى بنائها الذي بناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بأيدي الولاة .
قال تقي الدين الفاسي في كتابه [ شفاء الغرام ] : ( ويروى أن الخليفة الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير - فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله ، وقال له : نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ، فتذهب هيبته من قلوب الناس . انتهى بالمعنى ، ثم قال : وكأنه في ذلك لحظ أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، وهي قاعدة مشهورة معتمدة ) . . اهـ .

ولبعض العلماء كلام في بيان حكم كتابة القرآن بغير العربية نثبته فيما يلي :
ذكر جلال الدين السيوطي في [ الإتقان ] (1) : مسألة كتابة القرآن بغير العربية ونقل فيها عن الزركشي احتمال الجواز ، وترجيح المنع من كتابة القرآن بغير الحروف العربية ، قال : قال الزركشي (2) : هل تجوز كتابته بقلم غير عربي ؟ هذا مما لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء ، ويحتمل الجواز ؛ لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية ، والأقرب المنع ، كما تحرم قراءته بغير لسان العرب ، ولقولهم : القلم أحد اللسانين ، والعرب لا تعرف قلما غير العربي ، وقد قال تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } (3) اهـ ، ولم يعلق السيوطي على ذلك ، فكأنه رده .
وقد ذكر الشيخ محمد رشيد رضا في [ مجلة المنار ] (4) : أن بعض المسلمين في الترنسفال كتب إلى جريدة في مصر ثلاثة أسئلة لعرضها على بعض علماء الأزهر فعرضتها على الشيخ محمد بخيت ، فأجاب عنها ونشرت الجريدة أجوبته :
أحد الأسئلة عن التزوج بأخت الرضيعة .
وجوابه معروف وهو : أنه لا يحرم على الرجل إلا من رضعت هي وإياه من امرأة ، وأما أخت الرضيعة فلا تحرم .
__________
(1) [ الإتقان ] ( 2 \ 171 ) .
(2) [ البرهان في علوم القرآن ] لبدر الدين الزركشي ( 1 \ 380 ) .
(3) سورة الشعراء الآية 195
(4) ص ( 247 - 277 ) ، من العدد السادس من المجلة تحت عنوان : كتابة القرآن بالحروف الإنجليزية ) .

والسؤال الثاني : يتعلق بالاقتداء بالمخالف ، وبينا الراجح فيه عندنا في آخر الجزء الماضي ، وأن في المسألة قولين مصححين ، ولكن الشيخ ذكر أن الأصح خلاف ما رجحناه ، وهو المذكور في كتب الفقه ، وهم أسرى تلك الكتب .
وأما السؤال المهم : فهو ما جعلناه عنوانا لهذه النبذة ( أي : كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية ) وقد أجاب عنه الشيخ بجواب ننقله عن تلك الجريدة مع السؤال ، ثم نبين رأينا فيه وهو :
سؤال : ما قولكم - علماء الإسلام ومصابيح الظلام - أدام الله وجودكم - هل يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الإنكليزية والفرنسية مع أن الحروف الإنكليزية ناقصة عن الحروف العربية ، ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان قريش ، فالإنكليزي مثلا إذا أراد أن يكتب مصر بالإنكليزية تقرأ ( مسر ) ، أو أحمد تكتب ( أهمد ) ، ويكتب ( شيك ) بمعنى : شيخ ، لا سيما وإخواننا المسلمون في مصر يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها ، وبعض المسلمين في جنوبي أفريقية في جدال عنيف : منهم من يجوز ، ومنهم من يقول غير جائز . أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى .
جواب : اعلم أن القرآن هو النظم ، أي : اللفظ الدال ؛ لأنه الموصوف بالإنزال والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التي لا تكون إلا للفظ . وأما المعنى ، وحده فليس بقرآن حقيقة . وقيل : إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازا . والحق هو الأول (1) .
__________
(1) الحق : أنه حقيقة فيهما ( اللجنة الدائمة ) .

وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها ، وتجوز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها ، بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى فقد كان تاج المحدثين الحسن البصري يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسية لعدم انطلاق لسانه باللغة العربية . وفي [ النهاية والدراية ] : أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي بأن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية ، فكتب فكانوا يقرءون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم ، وقد عرض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه . وفي [ النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية ] ما يؤخذ منه حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته ، ويحرم مسه لغير الطاهر اتفاقا . وفي كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن ، بل يعتبر تفسيرا له . وفي [ الإتقان ] للسيوطي عن الزركشي أنه لم ير كلاما لعلماء مذهبه في كتابة القرآن بالقلم الأعجمي ، وأنه يحتمل الجواز ؛ لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية ، والأقرب المنع ، كما تحرم قراءته بغير العربية ، ولقولهم : القلم أحد اللسانين ، والعرب لا تعرف قلما غير العربي ، وقد قال تعالى { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } (1)
فتلخص من ذلك : أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها ، وأن الأحوط أن يكتبه بالعربية ، ثم يكتب تفسير كل حرف وترجمته بغيرها ، كالإنكليزية . اهـ .
( المنار ) : عندنا مسألتان :
__________
(1) سورة الشعراء الآية 195

إحداهما : ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية ، أي : التعبير عن معانيه بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمي دون العربي ، وهذه هي التي سألنا عنها الفاصل الروسي ونشرنا السؤال والجواب في هذا الجزء .
والثانية : كتابة القرآن العربي بحروف غير عربية وهذه هي التي يسأل عنها السائل الترنفالي ، وقد رأى القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب والنقول التي نقلها مضطربة ؛ لذلك رأينا أن ننقله ، ونحرر القول في المسألة تحريرا .
المقصود من الكتابة : أداء الكلام بالقراءة ، فإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها لا تغني غناء الحروف العربية لنقصها كحروف اللغة الإنكليزية - فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها ؛ لما فيها من تحريف كلمة ، ومن رضي بتغيير كلام القرآن اختيارا فهو كافر . وإذا كان الأعجمي الداخل في الإسلام لا يستقيم لسانه بلفظ : محمد ، فينطق بها ( مهمد ) وبلفظ خاتم النبيين فيقول ( كاتم النبيين ) ، فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم ، وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه أبد الدهر ، ولو أجاز المسلمون هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التي دخلت في الإسلام لعلة العجز - لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة ، ولكان كل شعب من المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر .
وإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها مما تتأدى بها القراءة على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلا - ففي المسألة تفصيل : والذي نقطع به بأن الكتابة بخطها لا تكون إخلالا

بأصل الدين ولا تلاعبا به ، وإن هو خالف الخط العربي فالفرق بين الخط العربي المعروف والخط الكوفي أبعد من الفرق بين الخطين العربي والفارسي ، ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها ، ولكنهم يعتقدونها عربية . وإذا قيل : إنها مختلفة اختلافا لا يكفي لمتعلم ، أحدها : أن يقرأ الآخر كالكوفي والفارسي : نقول : قصارى ما يدل عليه ذلك : أن كل خط جائز بشرطه ، ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغي الاتفاق على خط واحد . فهم المسلمون هذا من روح الإسلام ، فكانوا متحدين في كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة في التحسين والإتقان . وذلك من آيات حفظ الله له وهو عندي واجب ، فإن القرآن هو الصلة العامة بين المسلمين ، والعروة الوثقى التي يستمسك بها جميع المؤمنين ، ومن التفريط فيه أن يفد المسلم القارئ على مصر قادما من الصين فلا يستطيع قراءة مصاحفها ، وكذا يقال في سائر الشعوب . وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفي ، وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه .
ولقائل أن يقول : إن في هذا الرأي تضييقا على نشر القرآن . وتوسيع دائرة الدعوة إلى الإسلام ، وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة ، وكتبوها بكل قلم ، حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة . فما بال المسلمين ، وغيرهم يتوسعون ، ولنا أن نقول في الجواب : إننا جوزنا ترجمة القرآن لأجل الدعوة عند الحاجة إلى ذلك ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التي هي بها . ولكن المسلم الذي يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية إلا في حالة واحدة ، وهي تسهيل

تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمي الذين يدخلون في الإسلام وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية .
وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعملوا بقواعد الضرورات ، ككونها تبيح المحظورات ، وكونها تقدر بقدرها ، فإذا رأوا أنه لا ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا بكتابة الكلام العربي بحروف لغة القوم الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه ، فليكتبوه ما داموا في حاجة إليه ، ثم ليجتهدوا في تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربي بعد ذلك ؛ ليقووا رابطتهم بسائر المسلمين .
وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم على لغاتهم وخطوطهم . فاللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذا في كلمها وخطها ونرى أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون في ذلك العناية العظيمة والأموال الكثيرة فما لنا لا نعتبر بهذا ؟ ؟ ! !
وفي جواب الشيخ بخيت مباحث ليس من غرضنا التوسع فيها ، ونكتفي بأن نقول : إن ما يصح أن ينظر فيه من نقوله هو ما ذكره عن السلف ، فأثر سلمان إن أريد به أنه كتب لهم ترجمة الفاتحة بلغة الفرس فكيف يكون ذلك وسيلة للين ألسنتهم ، وهم لم يقرءوا إلا بلغتهم . وإن أريد به أنه كتبها بالخط الفارسي فالخط الفارسي قريب من العربي ، ولا دخل له أيضا بلين الألسنة .
والصواب : أن الأثر غير صحيح ، وأما الحسن البصري الذي ذكره فما هو الحسن التابعي المشهور وكأنه أحد الفرس الحنفية ، ولا حجة في قوله فكيف يحتج بعمله ؟ ! على أن فيه ما في الذي قبله وهو أن القراءة بالفارسية

لا يلين بها اللسان للعربية ، إلا أن يقال : كان يقرأ الترجمة حتى تمرن لسانه على العربية باستعمالها وممارسة الكلام فيها . انتهى كلام الشيخ محمد رشيد .

رابعا : الخلاصة :
1 - ذكر ناشرو نسخ المصاحف التي كتبوها بالحروف اللاتينية : مقدمات بينوا فيها الحروف اللاتينية ، ورمزوا لما يتبعها من شكل ومد وغنة ووقف ووصل ، وذكروا معها توجيهات لكيفية استعمالها كتابة وقراءة ، تسهيلا - في نظرهم - على من يريد كتابة القرآن وقراءته على هذه الطريقة ، ومحافظة على القرآن من دخول أي تغيير عليه .
2 - يتبين بالمقارنة بين النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الأولى والثانية أن بينهما اختلافا فيما يأتي :
أ - في الحروف اللاتينية التي اقترحت لتكون بديلا عن الحروف العربية التي ليس لها مقابل في اللاتينية .
ب - في حذف ( أل ) القمرية و ( أل ) الشمسية من النسخة الهندية وإثباتهما في الإندونيسية ، وحذف الحرفين اللذين جعلا علامة على التنوين مطلقا من آخر الكلمة الأخيرة من كل آية من النسخة الهندية والإندونيسية الثانية وإثباتهما في النسخة الإندونيسية الأولى ، وحذف بديل النون والتنوين في بعض أنواع الإدغام من النسخة الهندية والإندونيسية الثانية وإثباتهما في الإندونيسية الأولى . . إلى غير ذلك من الحذف في بعضها والإثبات في الآخر .
ج - في رسم الكلمة بتجزئتها إلى مقطعين وعدم تجزئتها ، والفصل بين

حرفي المضعف بخط كالفتحة وعدم الفصل . . . إلخ .
وكل ذلك يتبين بمراجعة السور السبع في النسخ الثلاث المكتوبة بالحروف اللاتينية والمقارنة بينهما .
3 - لكتابة القرآن بالحروف اللاتينية مبررات :
أ - منها : تسهيل كتابته وقراءته على كثير من الأعاجم ، وتيسير طريق البلاغ ، والدعوة إلى الإسلام ، وإقامة الحجج ، وتعميم ذلك في السواد الأعظم من غير العرب ، ولا شك أن هذا من مقاصد الشريعة ، ونظيره جمع أبي بكر رضي الله عنه القرآن ، خشية ضياعه بموت القراء وجمع عثمان رضي الله عنه القرآن على قراءة واحدة من السبع التي بها نزل القرآن ، خشية الاختلاف ، ونقط القرآن وشكله في عهد بني أمية ، تسهيلا لقراءته على من استعجمت ألسنتهم من أبناء العرب وصيانة لهم من اللحن في التلاوة ، وكل ذلك ليس بمنكر ، بل فيه تحقيق مقاصد الشريعة ، تسهيلا ودعوة وبلاغا وحفظا للقرآن وصيانة له ، فليرخص في كتابته بالحروف اللاتينية لمثل ذلك .
ب - ومنها : أن القرآن لم ينزل مكتوبا ، بل نزل وحيا متلوا ، فكتبه الصحابة بما كان معهودا لديهم من الحروف ، وليس هنا نص من الكتاب أو السنة يلزم الأمة بذلك ، فلم لا تجوز كتابة المصحف بحروف لاتينية مثلا ؛ لوجود الداعي إلى ذلك مع عدم الضرر .
ونوقش ذلك بأمور :
أ - منها : أن تعلم الأعاجم اللغة العربية سهل لا حرج فيه ولا خطر ، فإنه عهد أن كثيرا من الناس يتعلمون غير لغتهم حبا للاستطلاع ووسيلة

لدراسة بعض العلوم ، وحرصا على تبادل المنافع ، وأن كثيرا من الأعاجم الذين أسلموا تعلموا اللغة العربية وخدموا الإسلام ، بل تحولت دول عن لغتها إلى اللغة العربية . بخلاف ما ذكر من جمع القرآن ونقطه وشكله ، فإن المصلحة لا تتحقق إلا بذلك ، ولا يدفع الخطر المتوقع إلا به ، وعلى هذا لا اعتبار بما ادعي أنه نظائر ، ولا للاستشهاد به للترخيص في كتابة القرآن بحروف غير عربية ؛ لوجود الفارق .
ب - كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من يعرف غير العربية والوحي ينزل ولم يتخذ منهم من يكتب القرآن بغير العربية من الفارسية والحبشية والسريانية ونحوها ، تيسيرا على الأمة وإعانة على تعميم البلاغ وإقامة الحجة ، مع علمه بعموم الرسالة وعلم الله تعالى بأحوال الأمم واختلاف لغاتها ، فإعراضه صلى الله عليه وسلم عما سمي دواعي ومبررات لكتابة القرآن بالحروف اللاتينية ، وتقرير الله له على ذلك فيه إلغاء لتلك المبررات وإهدار لها فلا يصح بناء الترخيص عليها .
ج - أن الذين كتبوا المصحف بالحروف اللاتينية أحسوا بأن مجرد كتابته بها لا يحقق التسهيل ؛ لوجود حروف عربية ليس لها مقابل الحروف اللاتينية ، فاضطروا أن يقترحوا لها مقابلا ، واضطروا أن يقارنوا بين الحروف العربية وتوابعها من الشكل والمد ونحوها وبين الحروف اللاتينية والرموز التي وضعت للتوابع ، واضطروا أن يضعوا إرشادات قد وصلت في بعض النسخ أربع عشرة صفحة ، وهذا يحتاج تعليمه والمران عليه كتابة وقراءة إلى جهد ، إن لم يزد على العربية كتابة وقراءة فهو لا ينقص عنه ، وإذن فكتابة القرآن بالعربية أرجح وأسلم ؛ لكونها اللغة التي

بها نزل ، ولبعدها عن مظان التحريف والتبديل .
د - أن التجزئة في كتابة كلمات الآية ، وضم جزء من حروفها إلى ما سبق وآخر إلى ما لحق - تشبه تقطيع كلمات البيت من الشعر حسب الأوزان المعروفة عند علماء العروض ؛ ليعرف البحر الذي هو منه ، ويتبع ذلك صفة نطق القارئ .
وتشبه أيضا النوتة الموسيقية التي يراعى فيها مطابقة الصوت للمقطع والسلم الموسيقي وهذا من البدع التي تسيء إلى القرآن الكريم .
هـ - أن كاتب القرآن بالحروف اللاتينية لم يلتزم ما تعهد به في تعليماته في كيفية الرسم الكتابي .
فمثلا : نجده أحيانا يثبت الحرف اللاتيني الذي جعله عوضا عن الحركة في الكتابة العربية ، وأحيانا يتركه . ونجده أحيانا يثبت خطا أفقيا بين حرفي المضعف وأحيانا يتركه ، من ذلك ما وقع منه في كتابته سورة الناس بالحروف اللاتينية في النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الثانية ، إلى غير ذلك مما ينذر بخطر ، ويفضي إلى التلاعب بالقرآن الكريم ، وتحريفه والإلحاد فيه ، ويفتح بابا لأهل الزيغ والزندقة والكفر يدخلون منه للطعن في كتاب الله ، ويشبهون على المسلمين ، ويصيب القرآن بما أصيبت به التوراة والإنجيل من قبل من التغيير والتبديل ، وتحريف الكلام عن مواضعه .
4 - هناك أمور تقتضي كتابة القرآن بالحروف العربية خاصة منها :
أ - أنه كتب حين نزوله وفي جمع أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما إياه - بالحروف العربية ، ووافق على ذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم ،

وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا ، رغم وجود الأعاجم وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي . . » (1) الحديث . فوجبت المحافظة على ذلك ؛ عملا بما كان في عهده صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم ، وعملا بإجماع الأمة .
ب - أن حروف اللغات من الأمور المصطلح عليها ، فهي قابلة للتغيير عدة مرات بحروف أخرى ، فيخشى إذا فتح هذا الباب أن يفضي إلى التغيير كلما اختلف الاصطلاح ، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ، ويحصل الخلط على مر الأيام ، ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب ، كما حصل بالنسبة للكتب السابقة ، فوجب أن يمنع ذلك ، محافظة على أصل الإسلام ، وسدا لذريعة الشر والفساد .
ج - يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير القرآن ألعوبة بأيدي الناس ، فيقترح كل أن يكتب بلغته وبما يجد من اللغات ، ولا شك أن ذلك مثار اختلاف وضياع ، فيجب أن يصان كتاب الله عن ذلك ؛ صيانة للإسلام ، وقد تنبه علماء الإسلام لذلك فحرموا كتابته بغير العربية ، حفظا للقرآن وصيانة له من العبث والاضطراب .
وليس فيما ذكر استقصاء لمكامن الشر ، ومثار الخطر ، وإنما هي نماذج مما وقع من الاختلاف والخلط والأخطاء وتمثيل لما يخشى منه وقوع البلاء .
هذا ولم تتعرض اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لما جاء في مقدمة النسخة الهندية من الكذب في الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفضيل حبر العالم على دم الشهيد ، ومن الغلو في الثناء على محمد
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607),سنن الدارمي المقدمة (95).

عبد الحليم الياسي بجعل ما اقترحه ونشره من كتابة القرآن بالحروف اللاتينية مما يتحدى به كما يتحدى بالقرآن ، كما لم تتعرض اللجنة لما قد يكون من أخطاء في ترجمة معاني القرآن المطبوعة مع الترجمة الصوتية في النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الثانية ، فإن ذلك ليس من موضوع بحثها الذي كلفت به ، ثم إن ترجمة معاني القرآن موضوع مستقل يحتاج إلى بحث خاص في حكمه وفي طريق تطبيقه وفيما وقع منه ، وقد خاض العلماء فيه من قبل ، ونرجو أن يوفقهم الله تعالى لإكمال ما بدءوه . والله المستعان .
وأخيرا : فالبحث في هذا الموضوع للكشف عن جوانبه وإيضاح الحق فيه وإن كان مهما فأهم منه اللقاء بمن نشروا نسخا من الترجمة الصوتية للقرآن ، ومن أثنوا عليها من العلماء والبحث معهم في الموضوع ، وأهم من الأمرين قيام الحكام في الدول الإسلامية بواجبهم نحو حفظ كتاب الله بعد ظهور الحق . .
والله الموفق . وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 67 ) وتاريخ 21 \ 10 \ 1399هـ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد :
ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال سنة 1399 هـ . إلى الحادي والعشرين منه اطلع المجلس على الخطاب الوارد من مبعوث الرئاسة بسفارة المملكة العربية السعودية بجاكرتا إلى مدير إدارة الدعوة في الخارج برقم 9 \ 1 \ 15 \ 155 وبدون تاريخ ، المتضمن : أنه ظهر في أسواق إندونيسيا مصحف مكتوب بالأحرف اللاتينية . وسؤاله عما ينبغي اتخاذه حياله والذي أحيل إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء من سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بخطابه رقم 255 \ 1 \ د وتاريخ 27 \ 1 \ 1399 هـ . . واطلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في [ حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينية ] . . بناء على طلب المجلس في الدورة الاستثنائية الثالثة لما عرض الخطاب في تلك الدورة .
وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه - قرر المجلس بالإجماع : تحريم كتابة القرآن بالحروف اللاتينية أو غيرها من حروف اللغات الأخرى ، وذلك للأسباب التالية :
1 - أن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين حروفه ومعانيه ، قال تعالى :

{ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (1) { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } (2) { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } (3) { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } (4) والمكتوب بالحروف اللاتينية لا يسمى قرآنا ؛ لقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } (5) وقوله : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } (6)
2 - أن القرآن كتب حين نزوله وفي جمع أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما إياه بالحروف العربية ، ووافق على ذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم ، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا رغم وجود الأعاجم ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي . . » (7) الحديث ، فوجبت المحافظة على ذلك ؛ عملا بما كان في عهده صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم ، وعملا بإجماع الأمة .
3 - أن حروف اللغات من الأمور المصطلح عليها فهي قابلة للتغيير مرات بحروف أخرى فيخشى إذا فتح هذا الباب أن يفضي إلى التغيير كلما اختلف الاصطلاح ، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويحصل التخليط على مر الأيام ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن للاختلاف والاضطراب كما حصل بالنسبة للكتب السابقة ، فوجب أن يمنع ذلك محافظة على أصل الإسلام وسدا لذريعة الشر والفساد .
4 - يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير القرآن ألعوبة بأيدي
__________
(1) سورة الشعراء الآية 192
(2) سورة الشعراء الآية 193
(3) سورة الشعراء الآية 194
(4) سورة الشعراء الآية 195
(5) سورة الشورى الآية 7
(6) سورة النحل الآية 103
(7) سنن أبو داود السنة (4607),سنن الدارمي المقدمة (95).

الناس فيقترح كل أن يكتبه بلغته وبما يجد من اللغات ، ولا شك أن ذلك مثار اختلاف وضياع ، فيجب أن يصان القرآن عن ذلك ؛ صيانة للإسلام ، وحفظا لكتاب الله من العبث والاضطراب .
5 - أن كتابة القرآن بغير الحروف العربية يثبط المسلمين عن معرفة اللغة العربية التي بواسطتها يعبدون ربهم ، ويفهمون دينهم ، ويتفقهون فيه .
هذا وبالله التوفيق . وصلى الله على محمد ، وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
محمد بن علي الحركان سليمان بن عبيد راشد بن خنين عبد الله بن غديان عبد الله بن قعود عبد الرزاق عفيفي عبد الله خياط محمد بن جبير صالح بن غصون عبد المجيد حسن عبد الله بن منيع
رئيس الدورة
عبد الله بن محمد بن حميد عبد العزيز بن عبد الله بن باز عبد العزيز بن صالح غائب إبراهيم بن محمد آل الشيخ غائب صالح بن لحيدان

( 7 )
حكم طواف الوداعهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

حكم طواف الوداع
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فبناء على المحضر رقم ( 11 ) من محاضر دورة مجلس هيئة كبار العلماء الثالثة عشرة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين 14 \ 10 إلى 21 \ 10 \ 1398 هـ المتضمن اقتراح إعداد بحث في ( حكم طواف الوداع ) للخارج من مكة ، سواء كان حاجا أو معتمرا أو غيرهما ، وهل يفرق بين من كان سفره مسافة قصر ومن كان دون ذلك . . ؟ وهل يفرق بين من أراد الرجوع لأداء طواف الوداع وبين غيره . . . ؟
أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يشمل ما يلي :
أولا : طواف الوداع نسك مستقل أو من مناسك الحج .
ثانيا : الخلاف في حكمه مع الأدلة وما يترتب على ذلك .
ثالثا : هل يطلب من كل من نفر عن البيت بعد النسك أو ممن ينفر خارج الحرم أو خارج المواقيت أو خارج مسافة القصر ؟
رابعا : متى يطالب بالرجوع من ترك الوداع وهل يرجع محرما أم لا ؟
خامسا : هل يجوز لمن أدى النسك أن ينفر مؤقتا من أجل شدة الزحام ثم

يعود ليودع ؟
ونظرا لترابط وتداخل نصوص العلماء ومناقشتهم لهذه الأمور رأينا ذكر ما تيسر نقله فيها مجتمعا ، وأتبعناه بخلاصة لما تضمنته هذه النقول ، وبالله التوفيق .
وفيما يلي ذكر ذلك :

1 - النقول من كتب الحديث وشروحها :
أ - قال البخاري رحمه الله :
( حدثنا مسدد حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : « أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض » (1) .
حدثنا أصبغ بن الفرج ، أخبرنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن قتادة ، أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه : « أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به » (2) ، تابعه الليث حدثني خالد عن سعيد عن قتادة : أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
قوله : ( باب طواف الوداع ) قال النووي : ( طواف الوداع واجب يلزم بتركه دم على الصحيح عندنا ، وهو قول أكثر العلماء ، وقال مالك وداود وابن المنذر : هو سنة لا شيء في تركه ) انتهى . والذي رأيته في [ الأوسط ] لابن المنذر أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء .
قوله : ( أمر الناس ) كذا في رواية عبد الله بن طاوس عن أبيه على البناء
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1668),صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1934).
(2) صحيح البخاري الحج (1669),سنن الدارمي المناسك (1873).

لما لم يسم فاعله والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا قوله : ( خفف ) ، وقد رواه سفيان أيضا عن سليمان الأحول عن طاوس فصرح فيه بالرفع ، ولفظه عن ابن عباس قال : « كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (1) أخرجه مسلم هو والذي قبله عن سعيد بن منصور عن سفيان بالإسنادين فرقهما ، فكأن طاوسا حدث به على الوجهين ؛ ولهذا وقع في رواية كل من الراويين عنه ما لم يقع في رواية الآخر ، وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف ، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده .
قوله : ( عن قتادة ) سيأتي بعد باب من وجه آخر عن ابن وهب التصريح بتحديث قتادة ، ويأتي الكلام هناك ، والمقصود منه هنا قوله في آخره : ( ثم ركب إلى البيت فطاف به ) .
قوله : ( تابعه الليث ) أي : تابع عمرو بن الحارث في روايته لهذا الحديث عن قتادة بطريق أخرى إلى قتادة ، وقد وصله البزار والطبراني من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث ، وخالد شيخ الليث هو ابن يزيد ، وذكر البزار والطبراني أنه تفرد بهذا الحديث عن سعيد ، وأن الليث تفرد به عن خالد ، وأن سعيد بن أبي هلال لم يرو عن قتادة عن أنس غير هذا الحديث ) (2) .
قال البخاري أيضا :
( باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(2) [ فتح الباري ] ( 3 \ 585 ، 586 ) .

الوداع ؟ ) .
حدثنا أبو نعيم حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت : « خرجنا مهلين بالحج في أشهر الحج وحرم الحج ، فنزلنا بسرف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدي فلا . وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجال من الصحابة ذوي قوة الهدي ، فلم تكن لهم عمرة ، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي ، فقال : " ما يبكيك ؟ " قلت : سمعتك تقول لأصحابك ما قلت ، فمنعت العمرة . قال : " وما شأنك ؟ " قلت : لا أصلي . قال : " فلا يضرك أنت من بنات آدم كتب عليك ما كتب عليهن ، فكوني في حجتك عسى الله أن يرزقكها " قالت : فكنت حتى نفرنا من منى فنزلنا المحصب ، فدعا عبد الرحمن فقال : " اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم افرغا من طوافكما أنتظركما هاهنا " فأتينا في جوف الليل ، فقال : " فرغتما ؟ " قلت : نعم ، فنادى بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس ، ومن طاف بالبيت قبل صلاة الصبح ، ثم خرج موجها إلى المدينة » (1) .
وقال الحافظ : قوله : ( باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع ) أورد فيه حديث عائشة في عمرتها من التنعيم ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن : « اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم افرغا من طوافكما . . » (2) الحديث . قال ابن بطال : ( لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف فخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع كما فعلت عائشة ) انتهى .
وكأن البخاري لما لم يكن في حديث عائشة التصريح بأنها ما طافت
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1696),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862).
(2) صحيح البخاري الحج (1485),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1778),سنن ابن ماجه المناسك (3000),مسند أحمد بن حنبل (6/273),موطأ مالك الحج (940),سنن الدارمي المناسك (1904).

للوداع بعد طواف العمرة لم يبت الحكم في الترجمة ، وأيضا فإن قياس من يقول : إن إحدى العبادتين لا تندرج في الأخرى أن يقول بمثل ذلك هنا ، ويستفاد من قصة عائشة أن السعي إذا وقع بعد طواف الركن - إن قلنا : إن طواف الركن يغني عن طواف الوداع - أن تخلل السعي بين الطواف والخروج لا يقطع إجزاء الطواف المذكور عن الركن والوداع معا .
قوله في الحديث : « فنزلنا بسرف » (1) في رواية أبي ذر وأبي الوقت ( سرف ) بحذف الباء ، وكذا لمسلم من طريق إسحاق بن عيسى بن الطباع عن أفلح قوله لأصحابه : « من لم يكن معه هدي » (2) ظاهره أن أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بفسخ الحج إلى العمرة كان بسرف قبل دخولهم مكة ، والمعروف في غير هذه الرواية أن قوله لهم ذلك بعد دخول مكة ، ويحتمل التعدد .
قوله : « قلت : لا أصلي » (3) كنت بذلك عن الحيض وهي من لطيف الكنايات .
قوله : « كتب عليك » (4) كذا للأكثر على البناء لما لم يسم فاعله ، ولأبي ذر : « كتب الله عليك » (5) ، وكذا لمسلم .
قوله : « فكوني في حجتك » (6) ، وفي رواية أبي ذر : « في حجك » (7) ، وكذا لمسلم .
قوله : « حتى نفرنا من منى فنزلنا المحصب » (8) في هذا السياق اختصار بينته رواية مسلم بلفظ : « حتى نزلنا منى فتطهرت ثم طفت بالبيت فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب » (9) .
قوله : ( فدعا عبد الرحمن ) ، وفي رواية مسلم : ( عبد الرحمن بن أبي بكر ) .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1485),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862).
(2) صحيح البخاري الحج (1623),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/266),سنن الدارمي المناسك (1862).
(3) صحيح البخاري الحج (1485),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862).
(4) صحيح البخاري الحج (1696).
(5) صحيح البخاري الحج (1696).
(6) صحيح البخاري الحج (1485),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862).
(7) سنن أبو داود المناسك (1989).
(8) صحيح البخاري الحج (1696),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862).
(9) صحيح البخاري الحج (1561),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1778),سنن ابن ماجه المناسك (3000),مسند أحمد بن حنبل (6/273),موطأ مالك الحج (940),سنن الدارمي المناسك (1904).

قوله : « اخرج بأختك الحرم » (1) ، في رواية الكشميهني : " من الحرم " وهي أوضح ، وكذا لمسلم .
قوله : « فأتينا في جوف الليل » (2) في رواية الإسماعيلي : « من آخر الليل » (3) وهي أوفق لبقية الروايات ، وظاهرها أنها أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم قبل أبواب أنها قالت : ( « فلقيته وأنا منهبطة وهو مصعد » (4) ) (5) .
ب - وقال مسلم رحمه الله :
حدثنا سعيد بن منصور ، وزهير بن حرب قالا : حدثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس عن ابن عباس قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (6) . قال زهير : ( ينصرفون كل وجه ) . ولم يقل : ( في ) .
حدثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة : ( واللفظ لسعيد ) ، قالا : حدثنا سفيان عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : « أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض » (7) . حدثني محمد بن حاتم ، حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج ، أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس ، قال : ( كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت : تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت ؟ ) فقال له ابن عباس : إما لا ، فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك وهو يقول : ( ما أراك إلا قد صدقت ) .
حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ( ح ) ، وحدثنا محمد بن رمح ، حدثنا
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1485),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1778),سنن ابن ماجه المناسك (3000),مسند أحمد بن حنبل (6/273),موطأ مالك الحج (940),سنن الدارمي المناسك (1904).
(2) صحيح البخاري الحج (1696),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862).
(3) صحيح البخاري الحج (1625),سنن النسائي صلاة العيدين (1589),سنن أبو داود الضحايا (2811),سنن ابن ماجه الأضاحي (3161),مسند أحمد بن حنبل (2/152).
(4) صحيح البخاري الحج (1486),صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (934),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1782),سنن ابن ماجه المناسك (2963),مسند أحمد بن حنبل (6/273),سنن الدارمي المناسك (1862).
(5) [ فتح الباري ] ( 3 \ 612 ) .
(6) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(7) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).

الليث عن ابن شهاب عن أبي سلمة وعروة أن عائشة قالت : حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت ، قالت عائشة : فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أحابستنا هي ؟ " قالت : فقلت : يا رسول الله ، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلتنفر » (1) .
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4140),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),مسند أحمد بن حنبل (6/82),موطأ مالك الحج (822),سنن الدارمي المناسك (1917).

حدثني أبو الطاهر ، وحرملة بن يحيى ، وأحمد بن عيسى ، قال أحمد : حدثنا ، وقال الآخران : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب بهذا الإسناد ، قالت : ( طمثت صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد ما أفاضت طاهرا ) بمثل حديث الليث .
وحدثنا قتيبة ، يعني : ابن سعيد ، حدثنا ليث ( ح ) ، وحدثنا زهير بن حرب ، حدثنا سفيان ( ح ) ، وحدثني محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب ، كلهم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة : ( أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن صفية قد حاضت ) ، بمعنى حديث الزهري ، وحدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، حدثنا أفلح عن القاسم بن محمد عن عائشة ، قالت : « كنا نتخوف أن تحيض صفية قبل أن تفيض ، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أحابستنا صفية ؟ " قلنا : قد أفاضت ، قال : فلا إذن » (1) .
حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا رسول الله ، إن صفية بنت حيي قد حاضت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعلها تحبسنا ، ألم تكن قد طافت معكن بالبيت ؟ ! " قالوا : بلى :
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917).

قال : فاخرجن » (1) .
حدثني الحكم بن موسى ، حدثني يحيى بن حمزة ، عن الأوزاعي - لعله قال - عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي سلمة ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « وإنها لحابستنا ، فقالوا : يا رسول الله إنها قد زارت يوم النحر ، قال : " فلتنفر معكم » (2) .
حدثنا محمد بن المثنى ، وابن بشار قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ( ح ) ، وحدثنا عبيد الله بن معاذ - واللفظ له - حدثنا أبي ، حدثنا شعبة عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : « لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة ، فقال : " عقرى حلقى ، إنك لحابستنا " ثم قال لها : " أكنت أفضت يوم النحر ؟ " قالت : نعم . قال : " فانفري » (3) .
وحدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو كريب ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ( ح ) ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا جرير ، عن منصور - جميعا - عن إبراهيم عن الأسود ، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث الحكم غير أنهما لا يذكران ( كئيبة حزينة ) .
قال النووي رحمه الله (4) :
( باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض ) .
قوله صلى الله عليه وسلم : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (5) فيه دلالة لمن قال بوجوب طواف الوداع ، وأنه إذا تركه لزمه دم وهو الصحيح في
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917).
(2) صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917).
(3) صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917).
(4) [ صحيح مسلم بشرح النووي ] ( 9 \ 78 - 82 ) .
(5) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).

مذهبنا ، وبه قال أكثر العلماء منهم الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وقال مالك وداود وابن المنذر : هو سنة لا شيء في تركه ، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين .
قوله : « أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض » (1) هذا دليل لوجوب طواف الوداع على غير الحائض وسقوطه عنها ، ولا يلزمها دم بتركه ، هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة ، إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم أمروها بالمقام لطواف الوداع ، دليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية المذكور بعده .
قوله : ( فقال ابن عباس : إما لا فسل فلانة الأنصارية ) هو بكسر الهمزة وفتح اللام وبالإمالة الخفيفة هذا هو الصواب المشهور ، وقال القاضي : ضبطه الطبري والأصيلي ( أما لي ) بكسر اللام ، قال : والمعروف من كلام العرب فتحها إلا أن تكون على لغة من يميل ، قال المازري : قال ابن الأنباري : قولهم : افعل هذا إما لا فمعناه افعله إن كنت لا تفعل غيره فدخلت ما زائدة لأن ، كما قال الله تعالى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا } (2) فاكتفوا بـ ( لا ) عن الفعل ، كما تقول العرب : ( إن زارك فزره وإلا فلا ) ، هذا ما ذكره القاضي ، وقال ابن الأثير في [ نهاية الغريب ] : ( أصل هذه الكلمة إن وما فأدغمت النون في الميم وما زائدة في اللفظ لا حكم لها ، وقد أمالت العرب ( لا ) إمالة خفيفة - قال - والعوام يشبعون إمالتها فتصير ألفها ياء ،
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(2) سورة مريم الآية 26

وهو خطأ ومعناه إن لم تفعل هذا فليكن هذا ) والله أعلم .
قولها : ( صفية بنت حيي ) بضم الحاء وكسرها ، الضم أشهر ، وفي حديثها دليل لسقوط طواف الوداع عن الحائض ، وأن طواف الإفاضة ركن لا بد منه ، وأنه لا يسقط عن الحائض ولا غيرها ، وأن الحائض تقيم له حتى تطهر ، فإن ذهبت إلى وطنها قبل طواف الإفاضة بقيت محرمة ، وقد سبق حديث صفية هذا وبيان إحرامه وضبطه ومعناه وفقهه في أوائل كتاب الحج في باب ( بيان وجوه الإحرام بالحج ) .
قوله : ( حدثني الحكم بن موسى حدثنا يحيى بن حمزة عن الأوزاعي لعله قال عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن عائشة ) هكذا وقع في معظم النسخ ، وكذا نقله القاضي عن معظم النسخ ، قال : وسقط عند الطبري .
قوله : ( لعله ) قال عن يحيى بن أبي كثير ، قال : وسقط لعله ، قال : فقط لابن الحذاء ، قال القاضي : وأظن أن الاسم كله سقط من كتب بعضهم أو شك فيه فألحقه على المحفوظ الصواب ونبه على إلحاقه بقوله : لعله . قوله : ( قالوا : يا رسول الله ، إنها قد زارت يوم النحر ) فيه دليل لمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأهل العراق أنه لا يكره أن يقال لطواف الإفاضة طواف الزيارة ، وقال مالك : يكره ، وليس للكراهة حجة تعتمد . قولها : ( تنفر ) بكسر الفاء وضمها ، الكسر أفصح ، وبه جاء القرآن . والله أعلم .
ج - قال الزيلعي رحمه الله (1) :
__________
(1) [ نصب الراية ] ( 3 \ 123 ) .

الحديث الحادي عشر : روي أنه عليه السلام رخص للنساء الحيض في ترك طواف الصدر ، قلت : أخرج البخاري ومسلم عن طاوس عن ابن عباس قال : « أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض » (1) ، وأخرج البخاري في الحيض عن ابن عباس قال : « رخص للحائض أن تنفر بعد الإفاضة » (2) . قال : وكان ابن عمر يقول أولا : أنها لا تنفر ، ثم رجع . وقال : ( تنفر ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهن ) . انتهى .
وأخرج الترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : « من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحيض ورخص لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم » (3) . انتهى . وقال : حديث حسن صحيح ، ورواه الحاكم في [ المستدرك ] ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . انتهى .
د - قال الترمذي رحمه الله (4) :
( باب ما جاء أن مكث المهاجر بمكة بعد الصدر ثلاثا ) . حدثنا أحمد بن منيع ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد ، سمعت السائب بن يزيد ، عن العلاء بن الحضرمي - يعني : مرفوعا - قال : « يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثا » (5) . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وقد روي من غير هذا .
قال صاحب [ تحفة الأحوذي ] : باب ما جاء أن مكث المهاجر بعد الصدر ثلاثا ، قال في [ النهاية ] : ( الصدر بالتحريك رجوع المسافر من
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(2) صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1933).
(3) صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934).
(4) [ تحفة الأحوذي ] ( 4 \ 20 ، 21 ) .
(5) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512).

مقصد ، والشاربة من الورد ، يقال : أصدر يصدر صدورا وصدرا . انتهى . وقال في [ المجمع ] : ( أي : بعد الرجوع من منى وكان إقامة المهاجر بمكة حراما ثم أبيح بعد قضاء النسك ثلاثة أيام ) . انتهى .
قوله : ( يمكث ) بضم الكاف من باب نصر ينصر ، أي : يقيم ( المهاجر بعد قضاء نسكه ) أي : بعد رجوعه من منى ، كما قال في الرواية الأخرى : بعد الصدر ، أي : الصدر من منى ، قال النووي : ( بمكة ثلاثا ) أي : يجوز له مكث هذه المدة لقضاء حوائجه ، ولا يجوز له الزيادة عليها ، لأنها بلدة تركها لله تعالى فلا يقيم فيها أكثر من هذه المدة ؛ لأنه يشبه العود إلى ما تركه لله تعالى .
قال النووي : ( معنى الحديث : أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها ، ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا على الثلاثة ) . انتهى .
قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) ، وأخرجه البخاري في الهجرة ، ومسلم في الحج ، وأبو داود أيضا في الحج ، وأخرجه النسائي أيضا في الحج وفي الصلاة ، وابن ماجه في الصلاة ( وقد روي من غير هذا الوجه بهذا الإسناد مرفوعا ) إن شئت الوقوف على ذلك فارجع إلى [ الصحيحين ] والسنن وقد ذكرنا مواقع الحديث فيها .
هـ - قال الشوكاني رحمه الله (1) :
__________
(1) [ نيل الأوطار ] ( 5 \ 170 - 172 ) .

عن ابن عباس قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه ، وفي رواية : « أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض » (2) متفق عليه ، وعن ابن عباس : « أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة » (3) رواه أحمد ، وعن عائشة قالت : « حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت ، قالت : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : " أحابستنا هي ؟ " قلت : يا رسول الله ، إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ، قال : " فلتنفر إذن » (4) متفق عليه .
قوله : " لا ينفر أحد . . . " إلخ . فيه دليل على وجوب طواف الوداع ، قال النووي : وهو قول أكثر العلماء ، ويلزم بتركه دم ، وقال مالك وداود وابن المنذر : هو سنة لا شيء في تركه ، قال الحافظ : والذي رأيته لابن المنذر في [ الأوسط ] أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء . انتهى ، وقد اجتمع في طواف الوداع أمره صلى الله عليه وآله وسلم به ونهيه عن تركه ، وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب ، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب . قوله : ( أمر الناس ) بالبناء على ما لم يسم فاعله ، وكذا قوله : ( خفف ) .
قوله : " إذا كانت قد طافت طواف الإفاضة " . قال ابن المنذر : قال عامة الفقهاء بالأمصار : ليس على الحائض التي أفاضت طواف وداع ، وروينا عن عمر بن الخطاب وابن عمر وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1668),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (1/222),سنن الدارمي المناسك (1932).
(2) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(3) صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (1/370).
(4) صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917).

حائضا لطوافي الوداع ، فكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها ، قال : وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك ، وبقي عمر فخالفناه ؛ لثبوت حديث عائشة ، وروى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمد : ( كان الصحابة يقولون : إذا أفاضت قبل أن تحيض فقد فرغت ، إلا عمر ) . وقد روى أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي عن عمر أنه قال : « ليكن آخر عهدها بالبيت » (1) . وفي رواية كذلك : حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واستدل الطحاوي بحديث عائشة على نسخ حديث عمر في حق الحائض ، وكذلك استدل على نسخه بحديث أم سليم عند أبي داود الطيالسي أنها قالت : « حضت بعد ما طفت بالبيت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنفر ، وحاضت صفية فقالت لها عائشة : حبستنا ، فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تنفر » (2) ورواه سعيد بن منصور في كتاب المناسك ، وإسحاق في مسنده ، والطحاوي ، وأصله في البخاري ، ويؤيد ذلك ما أخرجه النسائي ، والترمذي ، وصححه الحاكم ، عن ابن عمر قال : « من حج فليكن آخر عهده البيت إلا الحيض رخص لهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » (3) .
قوله : " فلتنفر إذن " أي : فلا حبس علينا حينئذ ، لأنها قد أفاضت فلا مانع من التوجه والذي يجب عليها قد فعلته ، وفي رواية للبخاري : " فلا بأس انفري " ، وفي رواية له : " اخرجي " ، وفي رواية : " فلتنفر " . ومعانيها متقاربة ، والمراد بها الرحيل من منى إلى جهة المدينة ، واستدل بقوله : " أحابستنا " على أن أمير الحاج يلزمه أن يؤخر الرحيل لأجل من تحيض
__________
(1) سنن الترمذي الحج (946),سنن أبو داود المناسك (2004),مسند أحمد بن حنبل (3/416).
(2) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1934).
(3) صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934).

ممن لم تطف للإفاضة ، وتعقب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أراد بتأخير الرحيل إكرام صفية كما احتبس بالناس على عقد عائشة ، وأما ما أخرجه البزار من حديث جابر ، والثقفي في فوائده من حديث أبي هريرة مرفوعا : « أميران وليسا بأميرين : من تبع جنازة فليس له أن ينصرف حتى تدفن أو يأذن أهلها ، والمرأة تحج أو تعتمر مع قوم فتحيض قبل طواف الركن فليس لهم أن ينصرفوا حتى تطهر أو تأذن لهم » ففي إسناد كل واحد منها ضعيف شديد الضعف كما قال الحافظ .

2 - النقول من كتب الفقهاء :
أ - الحنفية :
قال صاحب [ المبسوط ] (1) :
الثالث : طواف الصدر : وهو واجب عندنا ، سنة عند الشافعي رحمه الله تعالى ، قال : لأنه بمنزلة طواف القدوم ألا ترى أن كل واحد منها يأتي به الآفاقي دون المكي ، وما يكون من واجبات الحج فالآفاقي والمكي فيه سواء . ( ولنا ) في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف » (2) ورخص للنساء الحيض ، والأمر دليل الوجوب ، وتخصيص الحائض برخصة الترك دليل على الوجوب أيضا ، وكما أن طواف الزيارة لتمام التحلل من إحرام الحج ، فطواف الصدر لانتهاء المقام بمكة فيكون واجبا على من ينتهي مقامه بها ، وهو الآفاقي أيضا الذي يرجع إلى أهله دون المكي الذي لا يرجع إلى موضع آخر ، ويسمى هذا : طواف
__________
(1) [ المبسوط ] ( 4 \ 34 ، 35 ) .
(2) صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934).

الوداع ، فإنما يجب على من يودع البيت دون من لا يودعه .
فأما الطواف الرابع : فهو طواف العمرة : وهو الركن في العمرة ، وليس في العمرة طواف الصدر ولا طواف القدوم ، أما طواف القدوم فلأنه كما وصل إلى البيت يتمكن من أداء الطواف الذي هو ركن في هذا النسك - فلا يشتغل بغيره بخلاف الحج ، فإنه عند القدوم لا يتمكن من الطواف الذي هو ركن الحج فيأتي بالطواف المسنون إلى أن يجيء وقت الطواف الذي هو ركن ، وأما طواف الصدر فقد قال الحسن رحمه الله تعالى في العمرة : طواف الصدر أيضا في حق من قدم معتمرا إذا أراد الرجوع إلى أهله كما في الحج ، ولكنا نقول : إن معظم الركن في العمرة الطواف وما هو معظم الركن في النسك لا يتكرر عند الصدر ، كالوقوف في الحج ؛ لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون معظم الركن في نسك ، وهو بعينه غير ركن في ذلك النسك ، ولأن ما هو معظم الركن مقصود ، وطواف الصدر تبع يجب لقصد توديع البيت والشيء الواحد لا يكون مقصودا وتبعا .
وقال صاحب [ بدائع الصنائع ] (1) :
( فصل ) : وأما طواف الصدر : فالكلام فيه يقع في مواضع ، في بيان وجوبه ، وفي بيان شرائطه ، وفي بيان قدره وكيفيته ، وما يسن له أن يفعله بعد فراغه منه ، وفي بيان وقته ، وفي بيان مكانه وحكمه إذا نفر ولم يطف .
أما الأول : فطواف الصدر واجب عندنا ، وقال الشافعي : سنة ، وجه قوله مبني على أنه لا يفرق بين الفرض والواجب ، وليس بفرض بالإجماع
__________
(1) [ بدائع الصنائع ] ( 2 \ 142 ، 143 ) .

فلا يكون واجبا لكنه لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه على المواظبة ، وأنه دليل السنة ، ثم دليل عدم الوجوب أنا أجمعنا على أنه لا يجب على الحائض والنفساء ، ولو كان واجبا لوجب عليهما ، كطواف الزيارة ، ونحن نفرق بين الفرض والواجب على ما عرف ، ودليل الوجوب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف » (1) ومطلق الأمر لوجوب العمل ، إلا أن الحائض خصت عن هذا العموم بدليل ، وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للنساء الحيض ترك طواف الصدر لعذر الحيض ولم يأمرهن بإقامة شيء آخر مقامه وهو الدم ، وهذا أصل عندنا في كل نسك جاز تركه لعذر أنه لا يجب بتركه من المعذور كفارة . والله أعلم .
( فصل ) : وأما شرائطه : فبعضها شرائط الوجوب ، وبعضها شرائط الجواز . أما شرائط الوجوب فمنها : أن يكون من أهل الآفاق فليس على أهل مكة ، ولا من كان منزله داخل المواقيت إلى مكة طواف الصدر إذا حجوا ؛ لأن هذا الطواف إنما وجب توديعا للبيت ، ولهذا يسمى : طواف الوداع ، ويسمى طواف الصدر لوجوده عند صدور الحجاج ورجوعهم إلى وطنهم ، وهذا لا يوجد في أهل مكة ؛ لأنهم في وطنهم ، وأهل داخل المواقيت في حكم أهل مكة فلا يجب عليهم كما لا يجب على أهل مكة ، وقال أبو يوسف : أحب إلي أن يطوف المكي طواف الصدر ؛ لأنه وضع لختم أفعال الحج ، وهذا المعنى يوجد في أهل مكة ، ولو نوى الآفاقي الإقامة بمكة أبدا بأن توطن بها واتخذها دارا فهذا لا يخلو من أحد وجهين : إما أن نوى الإقامة بها قبل أن يحل النفر الأول ، وإما أن نوى بعدما حل النفر الأول ، فإن نوى الإقامة قبل أن يحل النفر الأول سقط عنه طواف الصدر ،
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934).

أي : لا يجب عليه بالإجماع ، وإن نوى بعدما حل النفر الأول لا يسقط ، وعليه طواف الصدر في قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف : يسقط عنه إلا إذا كان شرع فيه ، ووجه قوله : إنه لما نوى الإقامة صار كواحد من أهل مكة ، وليس على أهل مكة طواف الصدر ، إلا إذا شرع فيه ؛ لأنه وجب عليه بالشروع فلا يجوز له تركه ، بل يجب عليه المضي فيه ، ووجه قول أبي حنيفة : أنه إذا حل له النفر فقد وجب عليه الطواف لدخول وقته ، إلا أنه مرتب على طواف الزيارة ، كالوتر مع العشاء ، فنية الإقامة بعد ذلك لا تعمل ، كما إذا نوى الإقامة بعد خروج وقت الصلاة . ومنها : الطهارة من الحيض والنفاس ، فلا يجب على الحائض والنفساء حتى لا يجب عليهما الدم بالترك ، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للحيض ترك هذا الطواف لا إلى بدل ، فدل أنه غير واجب عليهن ، إذ لو كان واجبا لما جاز تركه إلا إلى بدل وهو الدم ، فأما الطهارة عن الحدث والجنابة فليست بشرط للوجوب ، ويجب على المحدث والجنب ؛ لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة فلم يكن ذلك عذرا . والله أعلم .
( فصل ) : وأما شرائط جوازه ، فمنها : النية ، لأنه عبادة فلا بد له من النية ، فأما تعيين النية فليس شرطا حتى لو طاف بعد طواف الزيارة لا يعين شيئا ، أو نوى تطوعا كان للصدر ؛ لأن الوقت تعين له فتنصرف مطلق النية إليه ، كما في صوم رمضان ، ومنها : أن يكون بعد طواف الزيارة حتى إذا نفر في النفر الأول فطاف طوافا لا ينوي شيئا ، أو نوى تطوعا ، أو الصدر يقع عن الزيارة لا عن الصدر ؛ لأن الوقت له طواف ، وطواف الصدر مرتب عليه فأما النفر على فور الطواف فليس من شرائط جوازه حتى لو طاف

الصدر ثم تشاغل بمكة بعده لا يجب عليه طواف آخر ، فإن قيل : أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف » (1) ، فقد أمر أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت ، ولما تشاغل بعده لم يقع الطواف آخر عهده به ، فيجب أن لا يجوزان إذ لم يأت بالمأمور به ، فالجواب : أن المراد منه آخر عهده بالبيت نسكا لا إقامة ، والطواف آخر مناسكه بالبيت وإن تشاغل بغيره ، وروي عن أبي حنيفة أنه قال : إذا طاف للصدر ثم أقام إلى العشاء فأحب إلي أن يطوف طوافا آخر لئلا يحول بين طوافه وبين نفره حائل ، وكذا الطهارة عن الحدث والجنابة ليست بشرط لجوازه ، فيجوز طوافه إذا كان محدثا أو جنبا ويعتد به ، والأفضل : أن يعيد طاهرا ، فإن لم يعد جاز وعليه شاة إن كان جنبا ؛ لأن النقص كثير فيجبر بالشاة ، كما لو ترك أكثر الأشواط ، وإن كان محدثا ففيه روايتان عن أبي حنيفة : في رواية : عليه صدقة وهي الرواية الصحيحة ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ؛ لأن النقص يسير فصار كشوط أو شوطين ، وفي رواية عليه شاة ؛ لأنه طواف واجب فأشبه طواف الزيارة ، وكذا ستر عورته ليس بشرط للجواز حتى لو طاف مكشوف العورة قدر ما لا تجوز به الصلاة جاز ، ولكن يجب عليه الدم ، وكذا الطهارة عن النجاسة إلا أنه يكره ولا شيء عليه ، والفرق ما ذكرنا في طواف الزيارة . والله أعلم .
( فصل ) وأما قدره وكيفيته فمثل سائر الأطوفة ، ونذكر السنن التي تتعلق به في بيان سنن الحج إن شاء الله تعالى .
( فصل ) : وأما وقته فقد روي عن أبي حنيفة أنه قال : ينبغي للإنسان إذا أراد السفر أن يطوف طواف الصدر حين يريد أن ينفر ، وهذا بيان الوقت
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934).

المستحب لا بيان أصل الوقت ، ويجوز في أيام النحر وبعدها ويكون أداء لا قضاء ، حتى لو طاف طواف الصدر ثم أطال الإقامة بمكة ولم ينو الإقامة بها ولم يتخذها دارا - جاز طوافه وإن أقام سنة بعد الطواف ، إلا أن الأصل أن يكون طوافه عند الصدر ؛ لما قلنا ، ولا يلزمه شيء بالتأخير عن أيام النحر بالإجماع .
( فصل ) : وأما مكانه فحول البيت لا يجوز إلا به ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف » (1) والطواف بالبيت هو : الطواف حوله ، فإن نفر ولم يطف ، يجب عليه أن يرجع ويطوف ما لم يجاوز الميقات ، لأنه ترك طوافا واجبا ، وأمكنه أن يأتي به من غير الحاجة إلى تجديد الإحرام ، فيجب عليه أن يرجع ويأتي به ، وإن جاوز الميقات لا يجب عليه الرجوع ، لأنه لا يمكنه الرجوع إلا بالتزام عمرة بالتزام إحرامها ، ثم إذا أراد أن يمضي مضى وعليه دم ، وإن أراد أن يرجع أحرم بعمرة ثم رجع ، وإذا رجع يبتدئ بطواف العمرة ثم بطواف الصدر ولا شيء عليه لتأخيره عن مكانه . وقالوا : الأولى أن لا يرجع ويريق دما مكان الطواف ؛ لأن هذا أنفع للفقراء وأيسر عليه ، لما فيه من دفع مشقة السفر وضرر التزام الإحرام . والله أعلم . اهـ .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1672),صحيح مسلم الحج (1328),سنن الترمذي الحج (944),مسند أحمد بن حنبل (2/101),سنن الدارمي المناسك (1934).

ب - فقهاء

المالكية
قال ابن رشد رحمه الله (1) :
القول في أعداده وأحكامه :
__________
(1) [ بداية المجتهد ] ( 1 \ 273 ) .

وأما أعداده : فإن العلماء أجمعوا على أن الطواف ثلاثة أنواع : طواف القدوم على مكة ، وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر ، وطواف الوداع ، وأجمعوا على أن الواجب منها الذي يفوت الحج بفواته هو طواف الإفاضة ، وأنه المعني بقوله تعالى : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (1) وأنه لا يجزئ عنه دم ، وجمهورهم على : أنه لا يجزئ طواف القدوم على مكة عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة ؛ لكونه قبل يوم النحر ، وقالت طائفة من أصحاب مالك : إن طواف القدوم يجزئ عن طواف الإفاضة ، كأنهم رأوا أن الواجب إنما هو طواف واحد ، وجمهور العلماء على أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة ، وأجمعوا فيما حكاه أبو عمر بن عبد البر : أن طواف القدوم والوداع من سنة الحاج إلا لخائف فوات الحج فإنه يجزئ عنه طواف الإفاضة ، واستحب جماعة من العلماء لمن عرض له هذا أن يرمل في الأشواط الثلاثة من طواف الإفاضة على سنة طواف القدوم من الرمل ، وأجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة ، كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم ، وأجمعوا أن من تمتع بالعمرة إلى الحج أن عليه طوافين ، طواف للعمرة لحله منها ، وطواف للحج يوم النحر على ما في حديث عائشة المشهور ، وأما المفرد فليس عليه إلا طواف واحد كما قلنا يوم النحر ، واختلفوا في القارن : فقال مالك
__________
(1) سورة الحج الآية 29

والشافعي وأحمد وأبو ثور : يجزئ القارن طواف واحد وسعي واحد ، وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر ، وعمدتهم حديث عائشة المتقدم ، وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وابن أبي ليلى : على القارن طوافان وسعيان ، ورووا هذا عن علي وابن مسعود ؛ لأنهما نسكان من شرط كل واحد منهما إذا انفرد طوافه وسعيه ، فوجب أن يكون الأمر كذلك إذا اجتمعا .
وقال الدسوقي (1) رحمه الله :
حاصل المسألة : أن الخارج إلى مكة إذا قصد التردد لها فلا وداع عليه مطلقا وصل للميقات أم لا ، وإن قصد مسكنه أو الإقامة طويلا فعليه الوداع مطلقا ، وإن خرج لاقتضاء دين أو زيارة أهل نظر ؛ فإن خرج لنحو أحد المواقيت ودع ، وإن خرج لدونها كالتنعيم فلا وداع ، هذا محصل كلام ( ح ) .
قوله : ( لا لقريب كالتنعيم والجعرانة ) أي : ما لم يخرج ليقيم فيه ؛ لكونه مسكنه ، أو ليقيم فيه طويلا وإلا طلب منه .
قوله : ( وإن صغيرا ) مبالغة في قوله وندب طواف الوداع إن خرج لكالجحفة ، أي : وإن كان ذلك الخارج صغيرا ، وظاهره ولو كان غير مميز فيفعله عنه وليه .
قوله : ( وتأدى . . إلخ ) الحاصل أن طواف الوداع ليس مقصودا لذاته ، بل يكون آخر عهده من البيت الطواف ، فلذلك يتأدى بطواف الإفاضة أو
__________
(1) [ حاشية الدسوقي ] ( 2 \ 47 ) .

العمرة ، ولا يكون سعيه لها طولا حيث لم يقم عندها إقامة تقطع حكم التوديع ، والمراد بتأديه بهما : أنه لا يستحب لمن طاف للإفاضة أو للعمرة ، ثم خرج من فوره أن يطوف للوداع ، بل يسقط عنه الطلب بما ذكر ، ويحصل له فضل الوداع إن نواه بما ذكر ، قياسا على تحية المسجد .

ج - فقهاء

الشافعية
قال النووي رحمه الله (1) :
قال المصنف رحمه الله : ( إذا فرغ من الحج وأراد المقام بمكة لم يكلف طواف الوداع ، فإن أراد الخروج طاف للوداع وصلى ركعتي الطواف ، وهل يجب طواف الوداع أم لا ؟ فيه قولان :
( أحدهما ) : أنه يجب ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (2) .
( والثاني ) : لا يجب ؛ لأنه لو وجب لم يجز للحائض تركه ، فإن قلنا : إنه واجب وجب بتركه الدم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « من ترك نسكا فعليه دم » . وإن قلنا : لا يجب ، لم يجب بتركه دم ؛ لأنه سنة فلا يجب بتركه دم ، كسائر سنن الحج ، وإن طاف للوداع ثم أقام لم يعتد بطوافه عن الوداع ؛ لأنه لا توديع مع المقام ، فإذا أراد أن يخرج أعاد طواف الوداع ، وإن طاف ثم صلى في طريقه أو اشترى زادا - لم يعد الطواف ؛ لأنه لا يصير بذلك مقيما ، وإن نسي الطواف وخرج ثم ذكره ( فإن قلنا ) : إنه واجب نظرت ، فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة استقر عليه الدم ، فإن عاد
__________
(1) [ المجموع شرح المهذب ] ( 8 \ 253 - 257 ) .
(2) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).

وطاف لم يسقط الدم ؛ لأن الطواف الثاني للخروج الثاني فلا يجزئه عن الخروج الأول ، فإن ذكر ذلك وهو في مسافة لا تقصر فيها الصلاة فعاد وطاف سقط عنه الدم ؛ لأنه في حكم المقيم ، ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع ؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : « أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض » (1) ، فإن نفرت الحائض ثم طهرت ، فإن كانت في بنيان مكة عادت وطافت وإن خرجت من البنيان لم يلزمها الطواف ) .
( الشرح ) حديث ابن عباس الأول : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده » (2) رواه مسلم ، وحديثه الآخر : ( أمر الناس . . ) إلى آخره ، رواه البخاري ومسلم ، وحديث : « من ترك نسكا فعليه دم » سبق بيانه في هذا الباب مرات .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال : " عقرى ، حلقى ، إنك لحابستنا " ثم قال لها : " أكنت أفضت يوم النحر ؟ " قالت : نعم . قال : " فانفري » (3) رواه البخاري ومسلم . والوداع بفتح الواو ، وتنفر بكسر الفاء .
أما الأحكام ففيها مسائل :
( إحداها ) : قال أصحابنا : من فرغ من مناسكه وأراد المقام بمكة ليس عليه طواف الوداع ، وهذا لا خلاف فيه سواء كان من أهلها أو غريبا ، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع ولا رمل في هذا الطواف ولا اضطباع كما سبق ، وإذا طاف صلى ركعتي الطواف ، وفي هذا الطواف قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : أصحهما : أنه
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1668),صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1934).
(2) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(3) صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917).

واجب ، والثاني : سنة ، وحكي طريق آخر أنه سنة قولا واحدا ، حكاه الرافعي وهو ضعيف غريب . والمذهب : أنه واجب .
قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما هذا نصه في [ الأم ] والقديم ، والاستحباب هو نصه في الإملاء ، فإن تركه أراق دما ( فإن قلنا ) : سنة فالدم سنة ، ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع إن قلنا هو واجب . والله أعلم .
( الثانية ) : إذا خرج بلا وداع وقلنا يجب طواف الوداع عصى ، ولزمه العود للطواف ما لم يبلغ مسافة القصر من مكة ، فإن بلغها لم يجب العود بعد ذلك ، ومتى لم يعد لزمه الدم ، فإن عاد قبل بلوغه مسافة القصر سقط عنه الدم ، وإن عاد بعد بلوغها فطريقان :
( أصحهما ) وبه قطع الجمهور : لا يسقط .
( والثاني ) : حكاه الخراسانيون وجهان : ( أصحهما ) : لا يسقط ، ( والثاني ) : يسقط .
( الثالثة ) : ليس على الحائض ولا على النفساء طواف وداع ولا دم عليها لتركه ؛ لأنها ليست مخاطبة به للحديث السابق ، لكن يستحب لها أن تقف على باب المسجد الحرام ، وتدعو بما سنذكره إن شاء الله تعالى .
ولو طهرت الحائض والنفساء فإن كان قبل مفارقة بناء مكة لزمها طواف الوداع ؛ لزوال عذرها ، وإن كان بعد مسافة القصر لم يلزمها العود بلا خلاف ، وإن كان بعد مفارقة مكة وقبل مسافة القصر فقد نص الشافعي : أنه لا يلزمها ، ونص أن المقصر بترك الطواف يلزمه العود . وللأصحاب طريقان : ( المذهب ) الفرق كما نص عليه وبه قطع المصنف والجمهور ؛

لأنه مقصر بخلاف الحائض .
( والطريق الثاني ) : حكاه الخراسانيون فيهما قولان : ( أحدهما ) : يلزمهما ، ( والثاني ) : لا يلزمهما . ( فإن قلنا ) : لا يجب العود فهل الاعتبار في المسافة بنفس مكة أم بالحرم ؟ فيه طريقان : المذهب وبه قطع المصنف والجمهور بنفس مكة ، والثاني : حكاه جماعة من الخراسانيين ، فيه وجهان أصحهما هذا ، والثاني الحرم ، وأما المستحاضة إذا نفرت في يوم حيضها فلا وداع عليها ، وإن نفرت في يوم طهرها لزمها طواف الوداع .
( الرابعة ) : ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد جميع الأشغال ، ويعقبه الخروج بلا مكث ، فإن مكث نظر : إن كان لغير عذر أو لشغل غير أسباب الخروج كشراء متاع أو قضاء دين أو زيارة صديق أو عيادة مريض لزمه إعادة الطواف ، وإن اشتغل بأسباب الخروج كشراء الزاد وشد الرحل ونحوهما ، فهل يحتاج إلى إعادته ؟ فيه طريقان : قطع الجمهور بأنه لا يحتاج ، وذكر إمام الحرمين فيه وجهين ، ولو أقيمت الصلاة فصلاها معهم لم يعد الطواف ، نص عليه الشافعي في الإملاء ، واتفق عليه الأصحاب . والله أعلم .
( الخامسة ) : حكم طواف الوداع حكم سائر أنواع الطواف في الأركان والشروط ، وفيه وجه لأبي يعقوب الأيبوردي أنه يصح بلا طهارة وتجبر الطهارة بالدم ، وقد سبق بيان الوجه في فصل طواف القدوم ، وهو غلط ظاهر . والله تعالى أعلم .
( السادسة ) : هل طواف الوداع من جملة المناسك أم عبادة مستقلة ؟ فيه خلاف ، فقال إمام الحرمين والغزالي : هو من المناسك وليس على الحاج

والمعتمر طواف وداع إذا خرج من مكة لخروجه ، وقال البغوي والمتولي وغيرهما : ليس طواف الوداع من المناسك ، بل هو عبادة مستقلة يؤمر بها كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر سواء كان مكيا أو آفاقيا ، وهذا الثاني أصح عند الرافعي وغيره من المحققين تعظيما للحرم وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الإحرام ، قال الرافعي : ولأن الأصحاب اتفقوا على أن المكي إذا حج ونوى على أن يقيم بوطنه لا يؤمر بطواف الوداع ، وكذا الآفاقي إذا حج وأراد الإقامة بمكة لا وداع عليه ، ولو كان من جملة المناسك لعم الحجيج ، هذا كلام الرافعي ، ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من المناسك ما ثبت في [ صحيح مسلم ] وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا » (1) وجه الدلالة أن طواف الوداع يكون عند الرجوع وسماه قبله قاضيا للمناسك ، وحقيقته أن يكون قضاها كلها . والله أعلم .
( فرع ) ذكرنا في هذه المسألة السادسة عن البغوي : أن طواف الوداع يتوجه على كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر ، قال : ولو أراد دون مسافة القصر لا وداع عليه ، والصحيح المشهور : أنه يتوجه على من أراد مسافة القصر ودونها سواء كانت مسافة بعيدة أم قريبة ؛ لعموم الأحاديث وممن صرح بهذا صاحب البيان وغيره .
( فرع ) قد ذكرنا أنه لا يجوز أن ينفر من منى ويترك طواف الوداع إذا قلنا بوجوبه ، فلو طاف يوم النحر للإفاضة وطاف بعده للوداع ، ثم أتى منى ثم أراد النفر منها في وقت النفر إلى وطنه واقتصر على طواف الوداع السابق فهل يجزئه ؟ قال صاحب البيان : اختلف أصحابنا المتأخرون فيه ، فقال
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512).

الشريف العثماني : يجزئه ؛ لأن طواف الوداع يراد لمفارقته البيت وهذا قد أرادها ، ومنهم من قال : لا يجزئه ، وهو ظاهر كلام الشافعي ، وظاهر الحديث ؛ لأن الشافعي قال : وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت فيودع وينصرف إلى أهله ، هذا كلام صاحب البيان ، وهذا الثاني هو الصحيح وهو مقتضى كلام الأصحاب . والله أعلم .
( فرع ) قال صاحب البيان : قال الشيخ أبو نصر في المعتمد : ليس على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم وداع ولا دم عليه في تركه عندنا ، وقال سفيان الثوري : يلزمه الدم . دليلنا : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم ولم يأمرها عند ذهابها إلى التنعيم بوداع . والله أعلم .
( فرع ) إذا طاف للوداع وخرج من الحرم ، ثم أراد أن يعود إليه وقلنا : دخول الحرم يوجب الإحرام . قال الدارمي : يلزم الإحرام ؛ لأنه دخول جديد - قال - ولو رجع لطواف الوداع من دون مسافة القصر لم يلزمه الإحرام . والله أعلم .

د - فقهاء

الحنابلة
قال ابن قدامة رحمه الله (1) :
( مسألة ) قال : ( فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت ، يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره ، حتى يكون آخر عهده بالبيت ) .
وجملة ذلك : أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها ، أو
__________
(1) [ المغني ] ( 3 \ 458 - 462 ) .

الخروج منها ، فإن أقام بها فلا وداع عليه ؛ لأن الوداع من المفارق لا من الملازم ، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط عنه الطواف ، ولا يصح ؛ لأنه غير مفارق فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر ، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (1) وهذا ليس بنافر ، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع ، وهو واجب من تركه لزمه دم ، وبذلك قال الحسن والحكم وحماد والثوري وإسحاق وأبو ثور ، وقال الشافعي في قول له : لا يجب بتركه شيء ؛ لأنه يسقط عن الحائض ، فلم يكن واجبا كطواف القدوم ، ولأنه كتحية البيت أشبه طواف القدوم .
( ولنا ) ما روى ابن عباس قال : « أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض » (2) متفق عليه ، ولمسلم قال : كان الناس ينصرفون كل وجه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (3) . وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره ، كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها ، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها ، إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى ، وإذا ثبت وجوبه فإنه ليس بركن بغير خلاف ، ولذلك سقط عن الحائض ولم يسقط طواف الزيارة ، ويسمى طواف الوداع ؛ لأنه لتوديع البيت ، وطواف الصدر ؛ لأنه عند صدور الناس من مكة ، ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله ، ولذلك قال النبي
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(2) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(3) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).

صلى الله عليه وسلم : « حتى يكون آخر عهده بالبيت » (1) .
( فصل ) : ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه ، ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي : أنه لا يخرج حتى يودع البيت ، وهذا قول أبي ثور ، وقياس قول مالك ، ذكره ابن القاسم ، وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر ، وأهل المواقيت : إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع ؛ لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام ، بدليل سقوط دم المتعة عنهم .
( ولنا ) عموم قوله صلى الله عليه وسلم : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (2) ، ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد .
( فصل ) فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج ، ففيه روايتان : إحداهما : يجزئه عن طواف الوداع ؛ لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل ، ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه ، كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة ، وعنه : لا يجزئه عن طواف الوداع ؛ لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى ، كالصلاتين الواجبتين .
( مسألة ) قال : ( فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع ) .
قد ذكرنا أن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه ؛ ليكون آخر عهده بالبيت ، فإن طاف للوداع ، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته ، وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور ، وقال أصحاب الرأي : إذا طاف للوداع ، أو طاف تطوعا بعد ما حل له النفر أجزأه عن طواف الوداع ، وإن أقام شهرا أو أكثر ؛ لأنه طاف بعد ما حل له النفر فلم يلزمه إعادته ، كما
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(2) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).

لو نفر عقيبه .
( ولنا ) قوله عليه السلام : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (1) ، ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزه ، كما لو طافه قبل حل النفر ، فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يعده ؛ لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت ، وبهذا قال مالك والشافعي ولا نعلم مخالفا لهما .
( مسألة ) قال : ( فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب وإن بعد بعث بدم . ) .
هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور ، والقريب : هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر ، والبعيد : من بلغ مسافة القصر ، نص عليه أحمد وهو قول الشافعي ، وكان عطاء يرى الطائف قريبا ، وقال الثوري : حد ذلك الحرم ، فمن كان في الحرم فهو قريب ، ومن خرج منه فهو بعيد .
ووجه القول الأول : أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر ، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام ، وقد روي أن عمر ( رد رجلا من مر إلى مكة ؛ ليكون آخر عهده بالبيت ) رواه سعيد ، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ، ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم ، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره ؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه ، والمعذور وغيره كسائر واجباته ، فإن رجع البعيد فطاف للوداع . فقال القاضي : لا يسقط عنه الدم ؛ لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).

فلم تسقط برجوعه ، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه ، وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا ؛ لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر ، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه ؛ لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب .
( فصل ) إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما ؛ لأنه ليس من أهل الأعذار ، فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي ، وطواف لوداعه ، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف ، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه ، فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله : إنه لا يلزمه إحرام ؛ لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به ، فأشبه من رجع لطواف الزيارة ، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة ، فقال أحمد : أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف ، وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك ، وإنما دخل لحاجة غير متكررة ، فأشبه من يدخلها للإقامة بها .
( مسألة ) قال : ( والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت ، ولا وداع عليها ولا فدية ) .
هذا قول عامة فقهاء الأمصار ، وقد روي عن عمر وابنه أنهما ( أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع ) وكان زيد بن ثابت يقول به ، ثم رجع عنه : فروى مسلم ( أن زيد بن ثابت خالف ابن عباس في هذا ) قال طاوس : كنت مع ابن عباس إذ قال : ( زيد بن ثابت يفتي أن لا تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت ، فقال له ابن عباس : أما لا تسأل فلانة الأنصارية ، هل

أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ؟ قال : فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك ، وهو يقول : ما أراك إلا قد صدقت ) .
وروي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضا ، وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا : « يا رسول الله ، إنها حائض ، فقال : " أحابستنا هي ؟ " قالوا : يا رسول الله ، إنها قد أفاضت يوم النحر ، قال : فلتنفر إذن » (1) ، ولا أمرها بفدية ولا غيرها ، وفي حديث ابن عباس : ( إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ) . والحكم في النفساء كالحكم في الحائض ؛ لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط .
( فصل ) وإذا نفرت الحائض بغير وداع ، فطهرت قبل مفارقة البنيان ، رجعت فاغتسلت وودعت ؛ لأنها في حكم الإقامة ، بدليل أنها لا تستبيح الرخص ، فإن لم يمكنها الإقامة فمضت ، أو مضت لغير عذر فعليها دم ، وإن فارقت البنيان لم يجب الرجوع إذا كانت قريبة ، كالخارج من غير عذر .
قلنا : هناك ترك واجبا فلم يسقط بخروجه حتى يصير إلى مسافة القصر ؛ لأنه يكون إنشاء سفر طويل غير الأول ، وهاهنا لم يكن واجبا ، ولا يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
ثم إذا نفر من منى ، فإن بات بالمحصب - وهو الأبطح ، وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة - ثم نفر بعد ذلك فحسن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بات ، وخرج ، ولم يقم بمكة بعد صدوره من منى ، لكنه ودع البيت ، وقال : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (2) فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت ، فيطوف
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (942),سنن الدارمي المناسك (1917).
(2) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).

طواف الوداع ، حتى يكون آخر عهده بالبيت ، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه .
وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها ، لكن إن قضى حاجته ، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع ، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ؛ ليحمل المتاع على دابته ، ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل ، فلا إعادة عليه ، وإن أقام بعد الوداع أعاده ، وهذا الطواف واجب عند الجمهور ، لكن يسقط عن الحائض .
وقال ابن جاسر (1) وفقه الله :
فإذا أتى مكة متعجل ، أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره ، لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف ، إذا فرغ من جميع أموره ؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : « حتى يكون آخر عهده بالبيت » (2) إن لم يقم بمكة أو حرمها ، فإن أقام بمكة أو حرمها فلا وداع عليه ، وهو على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم ، سواء كان حرا ، أو عبدا ، ذكرا ، أو أنثى ، صغيرا ، أو كبيرا ، وتقدم في أول فصل من هذا الكتاب حكم طواف الصغير ، فليراجع عند الاحتياج إليه ، ودليل ذلك ما روى ابن عباس قال : « أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض » (3) متفق عليه ، وفي رواية عنه قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال
__________
(1) [ مفيد الأنام ونور الظلام ] ( 2 \ 127 - 137 ) .
(2) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(3) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1328),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).

النبي صلى الله عليه وسلم : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه ، وعن ابن عباس : « أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة » (2) رواه أحمد ، وعن عائشة قالت : « حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت ، قالت : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أحابستنا هي ؟ " قلت : يا رسول الله ، إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ، فقال : فلتنفر إذن » (3) متفق عليه ، ومن كان خارج الحرم ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع ، سواء أراد الرجوع إلى بلده أو غيره ؛ لما تقدم ، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ( فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت فيطوف طواف الوداع حتى يكون آخر عهده بالبيت ، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه ، وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة ، حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ولا نحوها ، ولكن إن قضى حاجته ، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع ، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ؛ ليحمل المتاع على دابته ونحو ذلك ، مما هو من أسباب الرحيل فلا إعادة عليه ، وإن أقام بعد الوداع أعاده ، وهذا الطواف واجب عند الجمهور ، ولكن يسقط عن الحائض ) انتهى كلامه .
ومن مفهومه يؤخذ : أنه لو دخل منزله بعد طواف الوداع فاشتغل فيه بغير ما هو من أسباب الرحيل - أنه يلزمه إعادة الوداع ، وبالأولى لو ودع في الليل ونام في بيته أو غيره من مساكن مكة أو ما يدخل في مسماها ؛ لأن هذا يعد إقامة ، وينافي مقتضى الحديث الذي نص فيه بأن يكون آخر عهده بالبيت ، أما لو ودع البيت ثم انتظر وداع رفقته حتى يسافروا جميعا ، فإنه لا
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(2) صحيح مسلم الحج (1328),مسند أحمد بن حنبل (1/370).
(3) صحيح البخاري الحج (1670),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),مسند أحمد بن حنبل (6/82),موطأ مالك الحج (822),سنن الدارمي المناسك (1917).

يضر هذا الانتظار إذا لم يشتغل بعد الوداع بما هو ممنوع منه . والله أعلم .
وقال في [ الترغيب والتلخيص ] : لا يجب طواف الوداع على غير الحاج ، قال في [ الفروع ] : ( وإن خرج غير حاج فظاهر كلام شيخنا لا يودع ) انتهى .
قلت : كلام شيخ الإسلام يخالف ما استظهره في [ الفروع ] ، قال شيخ الإسلام : ( وطواف الوداع ليس من الحج ، وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة ) انتهى . والمذهب : وجوبه على كل من أراد الخروج من مكة وبلده في غير الحرم .
( هذا بحث نفيس مهم لا تجده في غير هذا الكتاب ) وهو أن يقال : هل يجوز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة بعده بمنى والبيع والشراء فيه أم لا ؟
فنقول وبالله التوفيق : قال في [ المنتهى وشرحه ] : ( فإذا أتى مكة متعجل أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف ) انتهى ملخصا ، قال الشيخ عثمان النجدي : ( فهم منه أنه لو سافر إلى بلده من منى ولم يأت مكة لا وداع عليه ، صرح به في [ الإقناع ] عن الشيخ تقي الدين في موضع ) انتهى .
قلت : ألم أجد ذلك في [ الإقناع ] بعد المراجعة مرارا ، اللهم إلا أن يكون مراده بذلك قوله الآتي : وطواف الوداع ليس من الحج . . إلى آخره . وهذا ليس بصريح فيما قاله عن الشيخ تقي الدين ) .
وقال النووي الشافعي : ( ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع ) انتهى ، قال ابن حجر المكي : ( أي : بعد نفره

وإن كان قد طاف قبل عوده من مكة إلى منى كما في [ المجموع ] ) انتهى ، وقال ابن نصر الله البغدادي الحنبلي في حواشي الكافي : ( وظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج ، ولو لم يكن طريق بلده عليها لوجوب طواف الوداع عليه ولم يصرحوا به ) .
وقال ابن نصر أيضا : ( وقوة الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منى ، فلو ودع قبلها لم يجزئه ولم أجد به تصريحا ، ويؤخذ ذلك من قولهم : من أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الزيارة والوداع ، ولم يقولوا من اكتفى بطواف الزيارة يوم النحر عن طواف الوداع ولم يعد إلى مكة ) انتهى .
قلت : ( بل قد صرح به [ المغني ] حيث قال : فيما يأتي كما لو طافه قبل حل النفر ، أي : فإنه لا يجزئه ) قال في [ المغني ] : ( ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : « حتى يكون آخر عهده بالبيت » (1) انتهى ، قال في [ الإنصاف ] : ( وظاهر كلام المصنف - يعني : الموفق - أن طواف الوداع يجب ولو لم يكن بمكة ، قال في [ الفروع ] : وهو ظاهر كلامهم ، قال الآجري : يطوف من أراد الخروج من مكة أو من منى أو من نفر آخر ) انتهى ، وفي أثناء كلام للشيخ يحيى بن عطوة النجدي تلميذ الشيخ العسكري قال : ( وأخبرنا جماعة : أن الشويكي أفتاهم بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر ، والفراغ من واجبات الحج ، والبيع والشراء والإقامة بعده بمنى ، ونقلوا عنه أنه بالغ حتى نسب ذلك إلى جميع الأصحاب ، ولو تحقق ما صرح به الزركشي و [ المغني ] و [ الشرح الكبير ]
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).

وغيرها من كتب الأصحاب ما قال ما قال ) ، قال الخرقي : فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت ، قال الزركشي : والمراد الخروج من الحرم ، قال في الشرح : ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ؛ ليكون آخر عهده بالبيت ، وكذا قال في [ المغني ] ، قال : ولقد كشفت قريبا من خمسين كتابا من كتب المذهب فلم أظفر فيها بما نسبه هذا المتفقه إليهم ، وأفتى به عنهم ، وأنا أتعجب منه كيف صدرت منه هذه النسبة إلى جميع الأصحاب ؟ ! والصريح عنهم العكس ، ولعله دخل عليه اللبس من لفظ الخروج في كلام الخرقي ، وتوهم أنه الخروج من مكة وليس كذلك ، فقد صرح الزركشي أن مراد الخرقي الخروج من الحرم ، ولعله ذهل عن وقت الطواف : أعني : طواف الوداع ، ولو حقق النظر في [ المغني ] و [ الشرح الكبير ] وغيرهما لزالت عنه ضبابة الشك ، ولعله اعتمد على ما وجهه ابن مفلح في [ فروعه ] قال : فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه ، ومراده بعد حل النفر ودخول وقت الوداع ، هذا مع تسليم جواز الإفتاء بالتوجيه المذكور ، وجواز اعتماد المقلد عليه من غير نظر في الترجيح ) انتهى كلام ابن عطوة .
قلت : أما لفظ الخروج فهو صريح في كلام الأصحاب أنه الخروج من مكة ، خلافا لما فهمه الشيخ ابن عطوة ، قال الخرقي : ( فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت ، قال الموفق في [ المغني ] : وجملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو : إما أن يريد الإقامة بها ، أو الخروج منها ، فإن أقام بها فلا وداع عليه ، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع ، وهو واجب من تركه لزمه دم ) انتهى ملخصا ، ومثله

في [ الشرح الكبير ] ، قال في [ الإقناع وشرحه ] : ( فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف . . . إلى أن قال : وهو على كل خارج من مكة ) انتهى ملخصا ، قال في [ المنتهى وشرحه ] : ( فإذا أتى مكة متعجل أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف ) انتهى ، وقال في [ الإقناع ] أيضا : ( قال الشيخ : وطواف الوداع ليس من الحج ، وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة ، قال في [ المستوعب ] : ومتى أراد الحاج الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع ) انتهى ، وأما فتوى الشيخ الشويكي بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة في منى - فلا تسلم له صحة فتواه هذه ؛ لما تقدم عن ابن نصر الله أن ظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج ، ولو لم يكن طريق بلده عليها ، لوجوب طواف الوداع عليه ، ولما تقدم عنه أيضا : أن قوة كلام الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منى ، فلو ودع قبلها لم يجزئه ، قال في [ المغني ] بعد كلام سبق : ( ولأنه إذا أقام بعده أي : طواف الوداع خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزئه ، كما لو طافه قبل حل النفر . . إلخ ) فجعل صاحب [ المغني ] ما إذا طاف للوداع قبل حل النفر أصلا في عدم الإجزاء ، وقاس عليه من ودع بعد حل النفر ، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة ، فعلم منه أنه لو طاف للوداع قبل حل النفر وهو ثاني عشر ذي الحجة أنه لا يجزئه ؛ لأن وقت طواف الوداع لا يدخل إلا بعد حل النفر . والله أعلم ، ومثله في [ الشرح الكبير ] ، وأما توجيه صاحب [ الفروع ] الذي نصه : ( فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه ) فمراده - والله أعلم - إذا

كان طاف للوداع بعد حل النفر ودخول وقت الوداع ، وقد نص العلماء : أن وقت طواف الوداع إذا فرغ من جميع أموره ، ومن كان بقي عليه المبيت ليالي منى ورمي الجمار ، فإنه لا يكون قد فرغ من جميع أموره ، بل بقي عليه شيء من واجبات الحج ، أما إذا نفر من منى النفر الأول أو الآخر ، ثم ودع البيت وسافر ونزل خارجا عن بنيان مكة للبيتوتة أو المقيل أو غيرهما ، سواء كان ذلك النزول بمنى أو غيرها من بقاع الحرم المنفصلة عن مسمى بنيان مكة ، فلا يلزمه إعادة طواف الوداع ؛ لأنه قد سافر من مكة وليس مقيما بها بعد الوداع ، هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المسألة التي طال فيها النزاع قديما وحديثا . والله سبحانه وتعالى أعلم .

وفي [التحفة] للشافعية : ( وإذا أراد الحاج أو المعتمر المكي وغيره الخروج من مكة أو منى عقب نفره منها ، وإن كان طاف للوداع عقب طواف الإفاضة عند عوده إليها طاف وجوبا للوداع إذ لا يعتد به ، ولا يسمى طواف وداع إلا بعد فراغ جميع النسك ) انتهى ملخصا بتصرف في التقديم والتأخير .
قال في [المغني] : ( فصل ) : ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه ، ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت ، وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك ، ذكره ابن القاسم ، وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت : إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع ؛ لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام ، بدليل سقوط دم المتعة عنهم ، ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (1) ، ولأنه خارج عن الحرم فلزمه
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).

التوديع كالبعيد ) انتهى ، وكذا في [الشرح الكبير] ، قال في [الإقناع وشرحه] : ( ومن كان خارجه : أي : خارج الحرم ، ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع ، وهو على كل خارج من مكة ) انتهى ملخصا ، وتقدم أول الفصل أنه إذا أقام بمكة أو حرمها لا وداع عليه ، وأنه على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم ، ثم بعد طواف الوداع يصلي ركعتين خلف المقام كسائر الطوافات ، قال في [المنتهى] و[الإقناع] وغيرهما : ويأتي الحطيم نصا أيضا وهو تحت الميزاب فيدعو ) انتهى .
قال في [الإقناع وشرحه] : ( فإن خرج قبله : أي : قبل الوداع فعليه الرجوع إليه ، أي : إلى الوداع لفعله إن كان قريبا دون مسافة القصر ولم يخف على نفسه أو ماله أو فوات رفقته أو غير ذلك من الأعذار ولا شيء عليه إذا رجع قريبا سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا ؛ لأن الدم لم يستقر عليه ؛ لكونه في حكم الحاضر ، فإن لم يمكنه الرجوع لعذر مما تقدم أو لغيره أو أمكنه الرجوع للوداع ولم يرجع ، أو بعد مسافة قصر عن مكة - فعليه دم رجع إلى مكة وطاف للوداع أو لا ؛ لأنه قد استقر عليه ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه ، كمن تجاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم ثم رجع إلى الميقات ، وسواء تركه أي : طواف الوداع عمدا أو خطأ أو نسيانا لعذر أو غيره ؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره ، كسائر واجبات الحج ، ومتى رجع مع القرب لم يلزمه إحرام ؛ لأنه في حكم الحاضر ويلزمه مع البعد الإحرام بعمرة يأتي بها فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر ثم يطوف للوداع إذا فرغ من أموره ) انتهى .

قال الخرقي : ( مسألة ) فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب ، وإن بعد بعث بدم ، قال في [المغني] : هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور ، والقريب : هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر ، والبعيد من بلغ مسافة القصر ، نص عليه أحمد ، وهو قول الشافعي ، وكان عطاء يرى الطائف قريبا ، وقال الثوري : حد ذلك الحرم فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد ، ووجه القول الأول : أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر ، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام .
وقد روي ( أن عمر رد رجلا من مر إلى مكة ؛ ليكون آخر عهده بالبيت ) رواه سعيد ، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم ، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره ؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره كسائر واجباته ، فإن رجع البعيد فطاف الوداع ، فقال القاضي : لا يسقط عنه الدم ؛ لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه ، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه ، وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه ، سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا ؛ لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر ، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه ؛ لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب .
( فصل ) : إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما ؛ لأنه ليس من أهل الأعذار ، فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي ، وطواف لوداعه ، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من

الخلاف ، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه ، فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله : أنه لا يلزمه إحرام ؛ لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به ، فأشبه من رجع لطواف الزيارة ، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة ، فقال أحمد : أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما ، وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف ؛ وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك ، إنما دخل لحاجة غير متكررة ، فأشبه من يدخلها للإقامة بها ) انتهى كلام صاحب [المغني] .
ومثله في [الشرح الكبير] ونصه : ( وإن أخر طواف الزيارة أو القدوم فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الوداع ) .
قال الشيخ مرعي في [الغاية] : ( ويتجه من تعليلهم ولو لم ينو طواف الوداع حال شروعه في طواف الزيارة أو القدوم ) انتهى ؛ لأن المأمور به أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل ، ولأنهما عبادتان من جنس فأجزأت إحداهما عن الأخرى ، ولأن ما شرع مثل تحية المسجد يجزئ عنه الواجب من جنسه ؛ كإجزاء المكتوبة عن تحية المسجد ، وكإجزاء المكتوبة أيضا عن ركعتي الطواف ، وعن ركعتي الإحرام ، وكغسل الجنابة عن غسل الجمعة ، فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة ولو كان ناسيا لطواف الزيارة ؛ لأنه لم ينوه ، وفي الحديث : « وإنما لكل امرئ ما نوى » (1) .
فإن قيل : كيف يتصور إجزاء طواف القدوم عن طواف الوداع ، وقد قال الأصحاب : ثم يفيض إلى مكة فيطوف مفرد وقارن لم يدخلاها قبل للقدوم برمل ثم للزيارة ؟ قلنا : يتصور فيما إذا لم يكن دخل مكة لضيق وقت الوقوف بعرفة مثلا ، وقصد عرفات فلما رجع منها طاف للزيارة أولا ، ثم
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1),صحيح مسلم الإمارة (1907),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647),سنن النسائي الطهارة (75),سنن أبو داود الطلاق (2201),سنن ابن ماجه الزهد (4227),مسند أحمد بن حنبل (1/43).

طاف للقدوم إما نسيانا أو غيره ، فطواف القدوم هذا وإن كان متأخرا عن طواف الزيارة يكفيه عن طواف الوداع ، وهذا على القول بسنية طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة للمتمتع ، وللمفرد والقارن اللذين لم يدخلا مكة قبل وقوفهما بعرفة ، وهو نص الإمام أحمد ، اختاره الخرقي ، أما على اختيار الموفق ، والشارح ، وشيخ الإسلام ، وابن القيم ، وابن رجب ، فلا يسن طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة ، وهو الذي تدل عليه السنة ، كما تقدم في فصل : ( ثم يفيض إلى مكة ، ويكتفي بطواف الزيارة الذي هو ركن في الحج ) والله أعلم . ولا وداع على حائض ونفساء لحديث ابن عباس وفيه : ( إلا أنه خفف عن الحائض ) وتقدم ، والنفساء في معناها ؛ لأن حكمه حكم الحيض فيما يمنعه وغيره ، ولا فدية على الحائض والنفساء ؛ لظاهر حديث صفية المتقدم ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بفدية إلا أن تطهر الحائض والنفساء قبل مفارقة بنيان مكة فيلزمهما العود ، ويغتسلان للحيض والنفاس ؛ لأنهما في حكم المقيم بدليل أنهما لا يستبيحان الرخص قبل مفارقة البنيان ثم يودعان ، فإن لم تعودا للوداع مع طهرهما قبل مفارقة البنيان ولو لعذر فعليهما دم ؛ لتركهما نسكا واجبا ، فأما إن فارقت الحائض والنفساء البنيان قبل طهرهما لم يجب عليهما الرجوع لخروجهما عن حكم الحاضر ، فإن قيل : فلم لا يجب الرجوع عليهما مع القرب كما يجب على الخارج لغير عذر ؟ قلنا : هناك ترك واجبا فلم يقسط بخروجه مع القرب كما تقدم تفصيله ، وهاهنا لم يكن واجبا عليهما ولم يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما وهما حين الإقامة لا يجب عليهما لحصول الحيض والنفاس . والله أعلم ، وأما المعذور غير الحائض والنفساء ، كالمريض

ونحوه فعليه دم إذا ترك طواف الوداع ؛ لأن الواجب لا يسقط جبرانه بالعذر ) وتقدم .
3 - قال ابن حزم رحمه الله :
( وأما قولنا : من أراد أن يخرج من مكة من معتمر أو قارن أو متمتع بالعمرة إلى الحج ففرض عليه أن يجعل آخر عمله الطواف بالبيت ، فإن تردد بمكة بعد ذلك أعاد الطواف ولا بد ، فإن خرج ولم يطف بالبيت ففرض عليه الرجوع ولو كان بلده بأقصى الدنيا حتى يطوف بالبيت ، فإن خرج عن منازل مكة فتردد خارجا ماشيا فليس عليه أن يعيد الطواف ، إلا التي تحيض بعد أن تطوف طواف الإفاضة فليس عليها أن تنتظر طهرها لتطوف لكن تخرج كما هي .
فإن حاضت قبل طواف الإفاضة فلا بد لها أن تنتظر حتى تطهر وتطوف وتحبس عليها الكرى والرفقة ، فلما رويناه من طريق مسلم قال : نا سعيد بن منصور ، نا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول الله : « لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت » (1) .
ومن طريق مسلم ، نا محمد بن رمح ، نا الليث عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة -وهو عبد الرحمن بن عوف - أن عائشة أم المؤمنين قالت : - « حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت ، فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه السلام : أحابستنا هي ؟ فقلت : يا رسول الله ، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلتنفر » (2) .
قال أبو محمد : فمن خرج ولم يودع من غير الحائض فقد ترك فرضا لازما فعليه أن يؤديه ، روينا من طريق وكيع عن إبراهيم بن يزيد ، عن أبي الزبير بن عبد الله :
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1671),صحيح مسلم الحج (1327),سنن أبو داود المناسك (2002),سنن ابن ماجه المناسك (3070),مسند أحمد بن حنبل (6/431),سنن الدارمي المناسك (1932).
(2) صحيح مسلم الحج (1211),سنن الترمذي الحج (943),سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391),سنن أبو داود المناسك (2003),سنن ابن ماجه المناسك (3072),موطأ مالك الحج (945),سنن الدارمي المناسك (1917).

( أن قوما نفروا ولم يودعوا فردهم عمر بن الخطاب حتى ودعوا ) .
قال علي : ولم يخص عمر موضعا عن موضع ، وقال مالك : بتحديد مكان إذا بلغه لم يرجع منه ، وهذا قول لم يوجبه نص ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب ، ومن طريق عبد الرزاق ، نا محمد بن راشد ، عن سليمان بن موسى ، عن نافع قال : ( رد عمر بن الخطاب نساء من ثنية هرشي كن أفضن يوم النحر ، ثم حضن فنفرن ، فردهن حتى يطهرن ، ويطفن بالبيت ، ثم بلغ عمر بعد ذلك حديث غير ما صنع فترك صنعه الأول ) .
قال أبو محمد : هرشي هي نصف الطريق من المدينة إلى مكة بين الأبواء والجحفة على فرسخين من الأبواء ، وبها علمان مبنيان علامة ؛ لأنه نصف الطريق ، وقد روي أثر من طريق أبي عوانة عن يعلى بن عطاء ، عن الوليد بن عبد الرحمن ، عن الحارث بن عبد الله بن أوسي : « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمر بن الخطاب أفتياه في المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ، ثم تحيض أن يكون آخر عهدها بالبيت » (1) .
قال أبو محمد : الوليد بن عبد الرحمن غير معروف ، ثم لو صح لكان داخلا في جملة أمره عليه السلام أن لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت وعمومه ، وكأن يكون أمره عليه السلام : الحائض التي أفاضت بأن تنفر حكما زائدا مبنيا على النهي المذكور مستثنى منه ليستعمل الخبران معا ولا يخالف شيء منهما . وبالله تعالى التوفيق .
وأما قولنا : من ترك عمدا أو بنسيان شيئا من طواف الإفاضة أو من السعي الواجب بين الصفا والمروة - فليرجع أيضا كما ذكرنا ممتنعا من النساء حتى يطوف بالبيت ما بقي عليه ، فإن خرج ذو الحجة قبل أن يطوف
__________
(1) سنن الترمذي الحج (946),سنن أبو داود المناسك (2004),مسند أحمد بن حنبل (3/416).

فقد بطل حجه ، وليس عليه في رجوعه لطواف الوداع أن يمتنع من النساء ، فلأن طواف الإفاضة فرض .
وقال تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } (1) وقد ذكرنا أنها : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، فإذ هو كذلك فلا يحل لأحد أن يعمل شيئا من أعمال الحج في غير أشهر الحج فيكون مخالفا لأمر الله تعالى .
وأما امتناعه عن النساء ؛ فلقول الله تعالى : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (2) فهو ما لم يتم فرائض الحج فهو في الحج بعد ، وأما رجوعه لطواف الوداع فليس هو في حج ولا في عمرة ، فليس عليه أن يحرم ولا أن يمتنع من النساء ؛ لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا إحرام إلا بحج أو عمرة ، وأما لطواف مجرد فلا ) (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) سورة البقرة الآية 197
(3) [المحلى] ( 7\ 241- 244 ) فقه عام .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21