كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

الخلاصة
مما تقدم يتلخص ما يأتي :
1 - قال جماعة من العلماء : إن طواف الوداع من المناسك ، منهم : إمام الحرمين والغزالي ، وهو مذهب أحمد والشافعي .
وقال آخرون : هو عبادة مستقلة ، منهم : البغوي والمتولي وابن تيمية في أحد قوليه ؛ تعظيما للحرم ، وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الإحرام ، ولأنه لو كان من جملة المناسك لعم الحجيج ، لكنه سقط عن المكي إذا لم يخرج ، وعن الآفاقي إذا نوى الإقامة بمكة ، ولحديث :

« يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا » (1) فسماه قاضيا نسكه قبل الوداع عند نفره ، وعلى الأول : يطلب ممن نفر بعد نسك فقط ، وعلى الثاني : يطلب ممن نفر من مكة مطلقا .
2 - قال الحنفية والحنابلة : إن طواف الوداع واجب . وهو قول عند الشافعية ؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به ، ونهيه عن النفر قبله ، فمن تركه عمدا أو جهلا أو نسيانا لزمه دم ، وأثم إن كان متعمدا ، وقال المالكية : بأنه سنة وهو قول للشافعية ، وعليه لا يأثم من تركه ، ولا دم عليه .
وعلم مما سبق أن وقت طواف الوداع إنما يكون بعد فراغ الحاج من جميع نسكه .
3 - قيل : يطلب طواف الوداع ممن نفر بعد نسكه من مكة ، ولو كان ذلك إلى حدود الحرم فقط ؛ لعموم الأمر به والنهي عن تركه عند النفر .
وقيل : يطلب من كل من نفر بعد نسكه إلى خارج حدود الحرم ، ولو كان دون المواقيت ، ودون مسافة القصر ، لا ممن نفر من مكة إلى داخل حدود الحرم .
وقيل : لا يطلب ممن نفر بعد نسكه إلى المواقيت فما دونها .
وقيل : لا يطلب ممن نفر إلى ما دون مسافة القصر ؛ لأنه في حكم المقيم بمكة ، ولخروج عائشة مع أخيها عبد الرحمن - رضي الله عنهما - إلى التنعيم لتحرم منه بعمرة ، وذلك على علم منه صلى الله عليه وسلم ، ولم يأمرهما بوداع ، والتنعيم من الحل .
ولا يطلب ممن حج أو اعتمر من أهل مكة والمقيمين بها ، ولا من آفاقي حج ، أو اعتمر ونوى الإقامة بمكة مطلقا أو قبل النفر الأول ، وقال أبو
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512).

يوسف : يستحب لأهل مكة إذا حجوا أو اعتمروا أن يطوفوا طواف الوداع .
4 - قال الحنفية : من ترك طواف الوداع عمدا أو نسيانا ، وجب عليه أن يرجع ليطوفه ما لم يتجاوز الميقات ، ومن قال بوجوبه من الشافعية ، قال : يجب عليه الرجوع ما لم يبلغ مسافة القصر ، وإلا لم يجب عليه الرجوع وعليه دم وعصى الله إن كان عامدا ، وهكذا عند الحنابلة .
فإن رجع بعد بلوغ مسافة القصر وطاف ، فقيل : يسقط عنه الدم ، لإتيانه بما وجب عليه ، وقيل : لا يسقط لتقرر وجوبه في ذمته بمجاوزته المسافة ، ويكون رجوعه بإحرام ، وإن رجع قبل بلوغ مسافة القصر وطاف ، فلا دم عليه ولا إحرام عليه في رجوعه ، ومن قال : إن طواف الوداع سنة لم يلزم من نفر من مكة بعد نسكه دون الوداع أن يرجع ليطوف ولم يؤثمه ولم يوجب عليه دما .
وقال ابن حزم : على من ترك طواف الوداع أن يرجع ليطوفه ولو بلغ أقصى الأرض في سفره .
5 - على القول بوجوب طواف الوداع : لا يجوز لمن أدى النسك أن ينفر من مكة ولو مؤقتا دون طواف وداع لمرض أو زحام ، ولو مع نيته أن يعود لطوافه بعد شفائه أو زوال الزحام .
هذا ما تيسر إعداده ، وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 70 ) وتاريخ 21\10\ 1399هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على نبيه محمد ، وآله وصحبه ، وبعد :
فقد نظر مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من 10\10\1399هـ حتى 21\10\1399هـ في حكم طواف الوداع للخارج من مكة المكرمة سواء كان حاجا أو معتمرا أو غيرهما ، وهل يفرق بين من كان سفره مسافة قصر ومن كان دون ذلك؟ واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع بناء على طلب المجلس في دورته الثالثة عشرة ، وقد تبين له أن العلماء مختلفون في تلك المسائل تبعا لاختلاف اجتهادهم والخلاف فيها معروف بين العلماء ، ومدون في كتب الأحاديث ، وكتب الفقه والمناسك ، وما زال عمل العلماء جاريا على الأخذ بما يترجح لهم دليله ، وينبغي للحاج وغيره أن يحرص على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله ما استطاع إلى ذلك سبيلا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني مناسككم » (1) ؛ لذلك يرى المجلس في هذه المسائل الخلافية أن يستفتي العامي من يثق بدينه وأمانته ، ومذهب العامي مذهب من يفتيه من أهل العلم .
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062).

وبالله التوفيق, وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة
. ... . ... عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الله بن خياط ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... راشد بن خنين ... محمد بن علي الحركان
عبد الله بن غديان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ غائب ... عبد الله بن قعود
محمد بن جبير ... . ... صالح بن لحيدان
عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح غائب ... صالح بن غصون
عبد الله بن منيع ... . ... .

( 8 )
الحاجز بين المصلي والمقبرةهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

الحاجز بين المصلي والمقبرة
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله محمد ، وآله وصحبه ، وبعد :
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة عشرة من إعداد بحث في الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه .
وحيث إن الموضوع يتطلب البحث في أمرين :

أحدهما :

سد الذرائع
.
والثاني : الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة .
أعدت اللجنة بحثا مختصرا فيهما ، وفيما يلي الحديث عنهما ، وبالله التوفيق .
أولا : سد الذرائع :
سبق أن كتبت اللجنة الدائمة بحثا في سد الذرائع في موضوع الأسورة المغناطيسية ، وموضوع شارات الطيارين ، وهذا نصه :
قد يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذه عوذة للحفظ والنصر .
إن تطبيق شارات على الجنود أو عدد الحرب من سور القرآن أو آياته ،

واتخاذ أوسمة مكتوب عليها آية أو آيات من كتاب الله تعالى - قد يكون ذريعة إلى التبرك به ، والاعتقاد بأنه سبب النصر والتغلب على الأعداء ، وينتهي الأمر فيه إلى اتخاذه عوذة وتميمة يعتقد أنها تحفظه من المكاره وتقيه شر الهزائم ، وتكفل له النصر في ميادين القتال ثم يتوسع في استعمالها لجلب المنافع ودفع المضار . . ولا شك أن ذلك مما يتنافى مع مقاصد الشريعة من حفظ العقيدة وسلامتها مما يهدمها أو يضعفها ، وسد الذرائع من القواعد الإسلامية الكلية اليقينية التي دلت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبارها ، وبناء الأحكام عليها .
وممن عني بإقامة الأدلة عليها شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله فقال :
( الوجه الرابع العشرون ) (1) : أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها .
والذريعة : ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء ، لكن صارت في عرف الفقهاء : عبارة عما أفضت إلى فعل محرم . ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة ، ولهذا قيل : الذريعة : الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم . أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا ؛ كإفضاء شرب الخمر إلى السكر ، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادا كالقتل والظلم - فهذا ليس من هذا الباب . فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء ؛ لكونها في نفسها فسادا ، بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه ، أو
__________
(1) [الفتاوى الكبرى] ( 3\ 256- 295 ) .

لكونها مفضية إلى فساد ، بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة ، وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم ، فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة . وإلا سميت سببا ومقتضيا ، ونحو ذلك من الأسماء المشهورة . ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا ، وكذلك إن كانت قد تفضي ، وقد لا تفضي ، لكن الطبع متقاض لإفضائها . وأما إن كانت تفضي أحيانا ، فإن يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل ، وإلا حرمها أيضا .
ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها . ومنها : ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم فهذا ( القسم الثاني ) بجامع الحيل ، بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة ، وقد لا يقترن ، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع ، وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع ، فصارت الأقسام ( ثلاثة ) .
أولا : ما هو ذريعة ، وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف ، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى . وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ ، وكقرض بني آدم .
الثاني : ما هو ذريعة لا يحتال بها ، كسب الأوثان ، فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى ، وكذلك سب الرجل والد غيره ، فإنه ذريعة إلى أن يسب والده ، وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن .
الثالث : ما يحتال به من المباحات في الأصل ؛ كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة ، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة .
والغرض من هذا : أن الذرائع حرمها الشارع ، وإن لم يقصد بها

المحرم ، خشية إفضائها إلى المحرم ، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع .
وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها ، وإن لم يقصد البائع الربا ؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ، ويقول القائل : لم أقصد به ذلك . ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه ، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه .
وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر ؛ لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس ، وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة ، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا ، وتلك العلة مقصودة فيها فاستباحه بهذا التأويل - فهو ظلوم لنفسه ، جهول بأمر ربه ، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة .
أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر فنذكر منها ما حضر :
فالأول : قوله سبحانه وتعالى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1) حرم سب الآلهة مع أنه عبادة ؛ لكونه ذريعة إلى سبهم الله سبحانه وتعالى ؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108

( الثاني ) : ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « من الكبائر شتم الرجل والديه . قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه » (1) متفق عليه .
ولفظ البخاري : « إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه . قالوا : يا رسول الله ، كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه » (2) ، فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما ، وإن لم يقصده ، وبين هذا والذي قبله فرق ؛ لأن سب آباء الناس هنا حرام ، لكن قد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الكبائر ؛ لكونه شتما لوالديه ؛ لما فيه من العقوق ، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره .
( الثالث ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة ؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه ؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام .
( الرابع ) : أن الله سبحانه حرم الخمر ؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل ، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب . ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل ، وجعلها نجسة ؛ لئلا تفضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها .
ثم إنه قد نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث ، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها ؛ حسما لمادة ذلك ، وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف . وبين - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة ، فقال : « لو
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).
(2) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).

رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه » يعني صلى الله عليه وسلم : أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا .
( الخامس ) : أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية ؛ حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير .
( السادس ) : أنه نهى عن بناء المساجد على القبور ، ولعن من فعل ذلك ، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها ، وأمر بتسويتها . ونهى عن الصلاة إليها وعندها ، وعن إيقاد المصابيح عليها ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا . وحرم ذلك على من قصد هذا ، ومن لم يقصده ، بل قصد خلافه ؛ سدا للذريعة .
( السابع ) : أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها ، وكان من حكمة ذلك : أنها وقت سجود الكفار للشمس ، ففي ذلك تشبه بهم ، ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه ، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس ، أو أخذ أحوال بعض عابديها .
( الثامن ) : أنه نهى - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة ، مثل قوله : « إن اليهود والنصارى لا يصبغون ، فخالفوهم » (1) ، « إن اليهود لا يصلون في نعالهم ، فخالفوهم » (2) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء : « لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع » (3) ، وقال في موضع : « لا تشبهوا بالأعاجم » ، وقال فيما رواه الترمذي : « ليس منا من تشبه بغيرنا » (4) حتى قال حذيفة بن اليمان : من تشبه بقوم فهو منهم ؛ وما ذاك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب ، وذلك يجر إلى فساد عريض .
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309).
(2) سنن أبو داود الصلاة (652).
(3) صحيح مسلم الصيام (1134),سنن أبو داود الصوم (2445),مسند أحمد بن حنبل (1/236),سنن الدارمي الصوم (1759).
(4) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695).

( التاسع ) : أنه - صلى الله عليه وسلم - « نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها » (1) ، وقال : « إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم » ، حتى ولو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها ، كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك ، وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك ؛ لأن الطباع تتغير ؛ فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة ، كذلك حرم نكاح أكثر من أربع ؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم ، وإن زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن ، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } (2) وهذا نص في اعتبار الذريعة .
( العاشر ) : أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة ، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة ، فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك .
( الحادي عشر ) : أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام ؛ حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين ؛ ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين .
( الثاني عشر ) : أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به ، مثل : اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما . ومثل : اشتراط الولي فيه . ومنع المرأة أن تليه . وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة .
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (4820),صحيح مسلم النكاح (1408),سنن الترمذي النكاح (1126),سنن النسائي النكاح (3288),سنن أبو داود النكاح (2066),سنن ابن ماجه النكاح (1929),مسند أحمد بن حنبل (2/452),موطأ مالك النكاح (1129),سنن الدارمي النكاح (2179).
(2) سورة النساء الآية 3

وكان أصل ذلك في قوله تعالى : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } (1) و { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } (2) وإنما ذلك لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة نكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش .
ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء ، وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة الزائدة على مجرد مقصود الاستمتاع ، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم كما جعل بينهما في قوله تعالى : { نَسَبًا وَصِهْرًا } (3) وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح ، وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه .
( الثالث عشر ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - « نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع » (4) ، وهو حديث صحيح ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح ؛ وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى ، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ، ليأخذ منه ألفين ، وهذا هو معنى الربا .
ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة قال : إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر ، يقصد بذلك : أن هذا ذريعة إلى الربا ، وهذه علة
__________
(1) سورة النساء الآية 24
(2) سورة النساء الآية 25
(3) سورة الفرقان الآية 54
(4) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),مسند أحمد بن حنبل (2/205),سنن الدارمي البيوع (2560).

صحيحة في مسألة مد عجوة ، ولكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة ، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم . والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له .
( الرابع عشر ) : أن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطآ على الربا وما ذاك إلا سدا للذريعة .
( الخامس عشر ) : أنه تقدم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض ، إلا أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض . وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا . وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية ومنع الشافع قبول الهدية ، فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية .
( السادس عشر ) : أن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من ميراث شيء ، أما القاتل عمدا ، كما قال مالك ، والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما ، أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة ، أو القاتل بغير حق أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد ، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده - فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر .
( السابع عشر ) : أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها من الميراث

بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان ؛ لأن الطلاق ذريعة ، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف - مأخذ الشارع في ذلك : أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية ، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين .
( الثامن عشر ) : أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد ، وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك ؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء .
( التاسع عشر ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - « نهى عن إقامة الحدود بدار الحرب » ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار .
( العشرون ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - « نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه » (1) ، « ونهى عن صوم يوم الشك » (2) ، إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو ، وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه الخلاف المشهور ؛ وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه ، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم ، وهو يوم العيد ، وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم ، تمييزا لوقت العبادة من غيره ؛ لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي ، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور ، واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة ، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها ، فكره للإمام أن يتطوع في مكانه ، وأن يستديم استقبال القبلة ، وندب المأموم إلى هذا التبيين ، ومن جملة فوائد ذلك : سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض .
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1815),صحيح مسلم الصيام (1082),سنن الترمذي الصوم (684),سنن النسائي الصيام (2173),سنن أبو داود الصوم (2335),سنن ابن ماجه الصيام (1650),مسند أحمد بن حنبل (2/497),سنن الدارمي الصوم (1689).
(2) سنن ابن ماجه الصيام (1646).

( الحادي والعشرون ) : أنه - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه ، وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا ، قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه .
( الثاني والعشرون ) : أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ( راعنا ) مع قصدهم الصالح ؛ لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه - صلى الله عليه وسلم - ولئلا يتشبه بهم ، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا .
( الثالث والعشرون ) : أنه أوجب الشفعة ؛ لما فيه من رفع الشركة ، وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة ؛ سدا لهذه المفاسد بحسب الإمكان .
( الرابع والعشرون ) : أن الله سبحانه أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحى إليه بالباطن ، وأمر أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق ، وألا يقبل شهادة ظنين في قرابة ، وإن وثق بتقواه . حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء ؛ لينضبط طريق الحكم ، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة ، وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم بغير الحق ، فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك ، وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير .
( الخامس والعشرون ) : أن الله سبحانه منع رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بمكة من الجهر بالقرآن ، حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله

ومن جاء به .
( السادس والعشرون ) : أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود ؛ سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجرا ، وإن كان العقوبات من جنس الشر ؛ ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع ؛ كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك ، فإنه اكتفى فيه بالتعزير ، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة ، وإن تاب العاصي عند ذلك ، وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود ، مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
( السابع والعشرون ) : أنه - صلى الله عليه وسلم - سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك ، مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية ؛ لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم ، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات - لا يكاد ينضبط ، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال ، وزجر من ذرائع الفرقة وهي من الأفعال أيضا .
( الثامن والعشرون ) : أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة ، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار ، وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا ؛ لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار ، وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع .

( التاسع والعشرون ) : أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها ؛ لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم .
( الثلاثون ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ، ويصبغ نعله الذي قلده بدمه ، ويخلي بينه وبين الناس ، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته . قالوا : وسبب ذلك : أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها ؛ لحصول غرضه بعطبها دون المحل ، كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء ، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل ، وأحسم لمادة هذا الفساد ، وهذا من ألطف سد الذراع .
والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط ، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شاع عنهم ؛ إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول - لا يحتج بها ولم يذكر الحيل التي يقصد بها الحرام كاحتيال اليهود ، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما ، وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع ، وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا .
ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخر غير ما ذكرناه من الذرائع ، وإنما قصدنا : أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها ، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم ، إما بأن يقصد به المحرم ،

أو بأن لا يقصد به - يحرمه الشارع بحسب الإمكان ، ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله ، وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه ، وهذا بين لمن تأمله . والله الهادي إلى سواء الصراط .
وقد اتبع ابن القيم شيخه ابن تيمية رحمهما الله في إثبات قاعدة سد الذرائع بأدلة الاستقراء من الكتاب والسنة فقال رحمه الله :
فصل : في سد الذرائع (1) :
لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها . فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها . ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها ، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود ، وكلاهما مقصود . لكنه مقصود قصد الغايات ، وهي مقصودة قصد الوسائل ، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها ؛ تحقيقا لتحريمه ، وتثبيتا له ، ومنعا أن يقرب حماه .
ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به . وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كله كل الإباء ، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك ، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ، ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع
__________
(1) [إعلام الموقعين] ( 3\ 147- 153 ) .

الموصلة إليه لعد متناقضا ، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده .
وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه ، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه . فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ؟
ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها ، والذريعة : ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء .
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ، ليزول الالتباس فيه ، فنقول : الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان :
أحدهما : أن يكون وضعه للإفضاء إليها ؛ كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر ، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية ، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ، ونحو ذلك ، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها .
والثاني : أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب . فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه .
فالأول : كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل ، أو يعقد البيع قاصدا به الربا ، أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك .
والثاني : كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي ، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم ، أو يصلي بين يدي القبر لله . ونحو ذلك .
ثم هذا القسم من الذرائع نوعان :
أحدهما : أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته .

والثاني : أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته . فهاهنا أربعة أقسام :
الأول : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة .
الثاني : وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة .
الثالث : وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة ، لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها .
الرابع : وسيلة موضوعة للمباح ، وقد تفضي إلى المفسدة ، ومصلحتها أرجح من مفسدتها .
فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم .
ومثال الثالث : الصلاة في أوقات النهي ، وسبه آلهة المشركين بين ظهرانيهم . وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها ، وأمثال ذلك .
ومثال الرابع : النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها (1) ويعاملها . وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي ، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ، ونحو ذلك . فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة . وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة .
بقي النظر في القسمين الوسط : هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما ؟ فنقول :
الدلالة على المنع من وجوه :
الوجه الأول : قوله تعالى :
__________
(1) قوله : يطؤها في الأصل ، والصواب يطأها .

{ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1) فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم ؛ لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى . وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم ، وهذا كالتنبيه ، بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز .
الوجه الثاني : قوله تعالى : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } (2) فمنعن من الضرب بالأرجل ، وإن كان جائزا في نفسه ، لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن .
الوجه الثالث : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } (3) الآية . أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة ؛ لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقائهم ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة . ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها ، وإن أمكن في تركه هذه المفسدة ؛ لندورها ، وقلة الإفضاء إليها ، فجعلت (4) كالمقدمة .
الوجه الرابع : قوله تعالى :
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 58
(4) كذا بالأصل ، وصوابه كالمعدوم .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } (1) نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم ، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقصدون بها السب ، يقصدون فاعلا من الرعونة : فنهي المسلمون عن قولها ؛ سدا لذريعة المشابهة ، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون .
الوجه الخامس : قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } (2) { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (3) فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه ، لئلا يكون إغلاظ القول له - مع أنه حقيق به - ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى .
الوجه السادس : أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح ؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإفضاء واحتمال الضيم ، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة .
الوجه السابع : أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها .
الوجه الثامن : ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو ، أن
__________
(1) سورة البقرة الآية 104
(2) سورة طه الآية 43
(3) سورة طه الآية 44

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « من الكبائر شتم الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه » (1) متفق عليه .
ولفظ البخاري : « إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه . قيل : يا رسول الله ، كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه » (2) فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده .
الوجه التاسع : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة ؛ لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنهم وقولهم : إن محمدا يقتل أصحابه ، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخلوا فيه ، ومن لم يدخل فيه ، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل .
الوجه العاشر : أن الله تعالى حرم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل ، وهذا ليس مما نحن فيه ، لكن حرم القطرة الواحدة منها . وحرم إمساكها للتخليل ونجسها ؛ لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة ، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب . ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث . وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم بها ؛ حسما لمادة قربان المسكر ، وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بالعلة في تحريم القليل فقال : « لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه » .
الوجه الحادي عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الخلوة بالأجنبية ، ولو في إقراء القرآن ، والسفر بها ولو في الحج ، وزيارة الوالدين ؛ سدا لذريعة ما يحاذر
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).
(2) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).

من الفتنة وتقلبات الطباع .
الوجه الثاني عشر : أن الله تعالى أمر بغض البصر ، وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله ؛ سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور .
الوجه الثالث عشر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بناء المساجد على القبور ، ولعن من فعل ذلك ، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد ، وعن الصلاة إليها وعندها ، وعن إيقاد المصابيح عليها ، وأمر بتسويتها ، ونهى عن اتخاذها عيدا . وعن شد الرحال إليها ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها . وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده ، بل قصد خلافه ، سدا للذريعة .
الوجه الرابع عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، وكان من حكمة ذلك : أنهما وقت سجود المشركين للشمس ، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بعد هذه الذريعة ، فكيف بالذرائع القريبة ؟ !
الوجه الخامس عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة ، كقوله : « إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم » (1) ، وقوله : « إن اليهود لا يصلون في نعالهم ، فخالفوهم » (2) ، وقوله في عاشوراء : « خالفوا اليهود ، صوموا يوما قبله ويوما بعده » ، وقوله : « لا تشبهوا بالأعاجم » ، وروى الترمذي عنه : « ليس منا من تشبه بغيرنا » (3) ، وروى الإمام أحمد عنه : « من تشبه بقوم فهو منهم » (4) ، وسر ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309).
(2) سنن أبو داود الصلاة (652).
(3) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695).
(4) سنن أبو داود اللباس (4031).

إلى الموافقة في القصد والعمل .
الوجه السادس عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الجمع بين المرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها وقال : « إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم » حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز ؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة كما علل به النبي صلى الله عليه وسلم .
الوجه السابع عشر : أنه حرم نكاح أكثر من أربع ؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور ، وقيل : العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المفضية إلى أكل الحرام . وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع . وأباح الأربع ، وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن ؛ لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة .
الوجه الثامن عشر : أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة ، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها .
الوجه التاسع عشر : أن الله تعالى حرم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل ؛ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام ، فإن زمنه قريب جدا ، فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل .
الوجه العشرون : أن الشارع حرم الطيب على المحرم ؛ لكونه من أسباب دواعي الوطء فتحريمه من باب سد الذريعة .
هذا فقد استمر رحمه الله في ذكر أدلة المنع ، حتى أوصلها تسعة

وتسعين دليلا ...) ثم قال : باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف : فإنه أمر ونهي ، والأمر نوعان : أحدهما : مقصود لنفسه ، والثاني : وسيلة إلى المقصود ، والنهي نوعان : أحدهما : ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه . والثاني : ما يكون وسيلة إلى المفسدة به فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين . اهـ .

ثانيا :

الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه
1 -
نقول عن بعض شراح الحديث
والفقهاء :
بحث شراح الحديث والفقهاء هذا الموضوع ، وفيما يلي نقول عنهم :
أ- روى الإمام مسلم رحمه الله في [صحيحه] عن أبي مرثد الغنوي رحمه الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « لا تصلوا إلى القبور ، ولا تجلسوا عليها » (1) .
قال النووي رحمه الله على هذا الحديث : فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى القبر .
قال الشافعي رحمه الله : وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس . اهـ (2) .
ب- وقال السنوسي رحمه الله على هذا الحديث : ولا تصلوا إليها ، أي : لا تجعل قبلة ؛ سدا للذريعة إلى عبادتها ، واعتقاد الجهال التقرب بذلك قاله ( ع ) قال الأبي : وما علل به النهي والجواب عن إجازته في
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (972),سنن الترمذي الجنائز (1050),سنن النسائي القبلة (760),سنن أبو داود الجنائز (3229),مسند أحمد بن حنبل (4/135).
(2) [شرح النووي على صحيح مسلم] ( 7\38 ) .

المدونة أن يصلي وبين يديه قبر أو مرحاض . ابن العربي : تكره الصلاة في القبور وتحرم الصلاة إليها وهو كفر من فاعله (1) .
ج- قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : قوله : ( وما يكره من الصلاة في القبور ) يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر أو إلى القبر أو بين القبرين ، وفي ذلك حديث رواه مسلم ، عن طريق أبي مرثد الغنوي مرفوعا : « ولا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها أو عليها » (2) ، قلت : وليس هو على شرط البخاري ، فأشار إليه في الترجمة ، وأورد معه أثر عمر الدال على أن النهي عن ذلك لا يقتضي فساد الصلاة ، والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولا في [كتاب الصلاة] لأبي نعيم شيخ البخاري ، ولفظه ، بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر : القبر القبر ، فظن أنه يعني : القمر ، فلما رأى أنه يعني القبر جاز القبر وصلى ، وله طرق أخرى بينتها في [تغليق التعليق] منها : من طريق حميد عن أنس نحوه وزاد فيه : فقال بعض من يليني : إنما يعني القبر فتنحيت عنه ، وقوله : القبر القبر ، بالنصب فيهما على التحذير .
وقوله : ( ولم يأمره بالإعادة ) استنبطه من تمادي أنس على الصلاة ، ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف (3) .
__________
(1) [شرح الأبي والسنوسي على صحيح مسلم] ( 3\100 ) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (972),سنن الترمذي الجنائز (1050),سنن النسائي القبلة (760),سنن أبو داود الجنائز (3229),مسند أحمد بن حنبل (4/135).
(3) [فتح الباري] ( 1\ 523 ) .

2 -

نقول عن بعض الفقهاء
أ- قال النووي رحمه الله : قال أصحابنا : ويكره أن يصلى إلى قبر ،

هكذا قالوا : يكره ولو قيل : يحرم ؛ لحديث أبي مرثد وغيره مما سبق لم يبعد ، قال صاحب التتمة : وأما الصلاة عند رأس قبر رسول الله متوجها إليه فحرام .
ب- قال ابن قدامة رحمه الله :
وقال أبو عبد الله بن حامد : إن صلى إلى المقبرة والحش فحكمه حكم المصلي فيهما إذا لم يكن بينه وبينهما حائل ، لما روى أبو مرثد الغنوي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « لا تصلوا إلى القبور ، ولا تجلسوا إليها » (1) متفق عليه .
وقال الأثرم : ذكر أحمد حديث أبي مرثد ، ثم قال : إسناده جيد . وقال أنس : رآني عمر وأنا أصلي إلى قبر فجعل يشير إلي : القبر القبر ، قال القاضي : وفي هذا تنبيه على نظائره من المواضع التي نهى عن الصلاة فيها ، والصحيح : أنه لا بأس بالصلاة إلى شيء من هذه المواضع إلا المقبرة ؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام : « جعلت الأرض مسجدا » (2) يتناول الموضع الذي يصلي فيه من هي في قبلته .
وقياس ذلك على الصلاة إلى المقبرة لا يصح ؛ لأن النهي إن كان تعبدا غير معقول المعنى امتنع تعديته ودخول القياس فيه ، وإن كان لمعنى مختص بها وهو اتخاذ القبور مسجدا أو والتشبه بمن يعظمها ويصلي إليها ؛ فلا يتعداها الحكم ؛ لعدم وجود المعنى في غيرها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك » (3) ، وقال : « لعنة الله على اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (4) يحذر ما صنعوا ، متفق عليهما .
فعلى هذا لا تصح الصلاة إلى القبور ؛ للنهي عنها ، ويصح إلى غيرها ؛ لبقائها في عموم الإباحة وامتناع قياسها على ما ورد النهي فيه .
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (972),سنن الترمذي الجنائز (1050),سنن النسائي القبلة (760),سنن أبو داود الجنائز (3229),مسند أحمد بن حنبل (4/135).
(2) سنن الترمذي السير (1553),مسند أحمد بن حنبل (5/256).
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532).
(4) صحيح البخاري الصلاة (425),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531),سنن النسائي المساجد (703),مسند أحمد بن حنبل (6/146),سنن الدارمي الصلاة (1403).

والله أعلم (1) .
ج- وقال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله :
ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها ، والنهي عن ذلك إنما هو سد لذريعة الشرك ، وذكر طائفة من أصحابنا : أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة ؛ لأنه لا يتناول اسم المقبرة ، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا ، وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق ، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور ، وهو الصواب ، والمقبرة : كل ما قبر فيه ، لا أنه جمع قبر .
وقال أصحابنا : وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه ، فهذا يعين أن المنع يكون متناولا لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه . وذكر الآمدي وغيره : أنه لا تجوز الصلاة فيه ، أي : المسجد الذي قبلته إلى القبر ، حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر ، وذكر بعضهم هذا منصوص أحمد (2) .
د- وقال ابن مفلح رحمه الله :
وتصح الصلاة إليها مع الكراهة ، وقيل : لا تصح ، وقيل : إلى مقبرة ، اختاره صاحب المغني والمحرر وهو أظهر ، وعنه : وحش ، اختاره ابن حامد ، وقيل : وحمام ولا حائل ، ولو كمؤخرة الرحل ، وظاهره ليس كسترة صلاة ، فيكفي الخط ، بل كسترة المتخلي ، كما سبق ، ويتوجه أن
__________
(1) [المغني والشرح] ( 1\ 724 ) .
(2) [الفتاوى المصرية] ( 4\411 ) .

مرادهم لا يضر بعد كثير عرفا ، كما لا أثر له في مار مبطل ، وعنه لا يكفي حائط المسجد ، جزم به صاحب المحرر وغيره ؛ لكراهة السلف الصلاة في مسجد في قبلته حش (1) .
هـ- وقال العنقري رحمه الله :
قوله : ( وتصح إليها ) وقيل : لا تصح الصلاة إلى المقبرة ، اختاره الموفق ، والمجد وصاحب النظم والفائق . قال في [الفروع] : وهو أظهر ، وعنه : لا تصح إلى المقبرة والحش ، اختاره ابن حامد والشيخ تقي الدين . اهـ .
وعنه لا يكفي حائط المسجد ، جزم به صاحب [المحرر] وغيره ، لكراهة السلف الصلاة في المسجد في قبلته حش . اهـ . واختلفت نسخ [الإقناع] ؛ ففي بعضها : لا يكفي الخط ، ولعلها أصح ، وفي أخرى : لا يكفي حائط المسجد . اهـ ( م ص ) (2) .
و- وقال عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة ، سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفا .
قال في رواية الأثرم : إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة ، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلى فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز . وذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لاتصلوا إلى القبور » (3) (4) ، وقال : إسناده جيد . انتهى .
__________
(1) [الفروع] ( 1\374 ) .
(2) [الروض المربع] ( 1\154 ) حاشية العنقري .
(3) صحيح مسلم الجنائز (972),سنن الترمذي الجنائز (1050),سنن النسائي القبلة (760),سنن أبو داود الجنائز (3229),مسند أحمد بن حنبل (4/135).
(4) رواه مسلم .

ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لاحتمل عدة أوراق . فتبين بهذا : أن العلماء رحمهم الله بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك : من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع . والله المستعان .
وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر - في أبواب العلم بالله - اضطرابهم ، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم ، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد ، وغيروا بها ما قصده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنهي وأراد . فقال بعضهم : النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة ، والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى ، وهذا كله باطل من وجوه :
منها : أنه من القول على الله بلا علم . وحرام بنص الكتاب .
ومنها : أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه ، وما المانع له أن يقول : من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله . ويلزم على ما قاله هؤلاء : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين العلة وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وبعد القرون المفضلة والأئمة ، وهذا باطل قطعا وعقلا وشرعا ؛ لما يلزم عليه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عجز عن البيان أو قصر في البلاغ ، وهذا من أبطل الباطل ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين ، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد ، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم .
ويقال أيضا : هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد ، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم ، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء ، لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم ، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد

عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص ، علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم ، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة ، والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله (1) .
ز- وقال عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله :
وأجاب الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ، والشيخ سليمان بن سحمان : مسجد الطائف الذي في شقه الشمالي قبر ابن عباس - رضي الله عنهما - الصلاة في المسجد إذا جعل بين القبر وبين المسجد جدار يرفع يخرج القبر عن مسمى المسجد فلا تكره الصلاة فيه ، وأما القبر إذا هدمت القبة التي عليه فيترك على حاله ، ولا ينبش ، ولكن يزال ما عليه من بناء وغيره ، ويسوى حتى يصير كأحد قبور المسلمين (2) .
ح- وقال ابن حزم رحمه الله :
قال علي : وكره الصلاة إلى القبر وفي المقبرة وعلى القبر أبو حنيفة والأوزاعي وسفيان ، ولم ير مالك بذلك بأسا ، واحتج له بعض مقلديه بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر المسكينة السوداء .
قال علي : وهذا عجب ناهيك به ، أن يكون هؤلاء القوم يخالفون هذا الخبر فيما جاء فيه ، فلا يجيزون أن تصلى صلاة الجنازة على من قد دفن ثم يستبيحون بما ليس فيه منه أثر ولا إشارة مخالفة السنن الثابتة ، ونعوذ بالله من الخذلان .
__________
(1) [فتح المجيد] ص190 .
(2) [الدرر] ( 3\133 ) ط . المكتب الإسلامي .

قال علي : وكل هذه الآثار حق ، فلا تحل الصلاة حيث ذكرنا ، إلا صلاة الجنازة فإنها تصلى في المقبرة وعلى القبر الذي قد دفن صاحبه ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نحرم ما نهى عنه ، ونعد من القرب إلى الله تعالى أن نفعل مثل ما فعل فأمره ونهيه حق ، وفعله حق ، وما عدا ذلك فباطل ، والحمد لله رب العالمين (1) .
ط- وقال علي محفوظ رحمه الله :
ومن البدع : اتخاذ المقابر مساجد بالصلاة إليها ، فعن أبي مرثد كناز بن الحصين - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « لا تصلوا إلى القبور ، ولا تجلسوا عليها » (2) رواه مسلم وأبو مرثد : بفتح الميم واسمه كناز بفتح الكاف وتشديد النون وآخره زاي ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام » (3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم . وقال صلوات الله وسلامه عليه : « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (4) متفق عليه .
والسر في ذلك أن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها ، وقد ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن ودا وسواعا وإخوانهما كانوا قوما صالحين من قوم نوح عليه السلام ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ، وكان هذا مبدأ عبادة الأصنام ، أخرجه ابن جرير ؛ ولهذه المفسدة نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في المقبرة مطلقا ، وإن لم يقصد الصلاة عندها .
__________
(1) [المحلى] ( 4\32 ) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (972),سنن الترمذي الجنائز (1050),سنن النسائي القبلة (760),سنن أبو داود الجنائز (3229),مسند أحمد بن حنبل (4/135).
(3) سنن الترمذي الصلاة (317),سنن أبو داود الصلاة (492),سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745).
(4) صحيح البخاري الجنائز (1324),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531),سنن النسائي المساجد (703),مسند أحمد بن حنبل (6/121),سنن الدارمي الصلاة (1403).

ووقت طلوع الشمس وعند استوائها وعند غروبها ؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة للشمس فيها فنهى أمته عن الصلاة ، وإن لم يقصد ما قصد المشركون ، سدا للذريعة وبعدا عن التشبه بعبدة الأوثان .
وعلى الجملة : تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما ، وكذا الصلاة عليها للتبرك والإعظام ، كما صرح به الإمام النووي في [شرح المهذب] ، وليس معنى الإعظام أن تقصد أرباب القبور بالسجود ، فإنه كفر صراح ، بل المعنى أنه بتحريه الصلاة لله تعالى : على هذا الوجه زاعما أنه أرجى للقبول عند الله تعالى ببركة صاحب الضريح يكون قد أعظم من شأن هذا الولي ، وهذا يقع كثيرا من العامة (1) .
هذا ما تيسر جمعه . وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) [الإبداع في مضار الابتداع] ص190 .

قرار هيئة كبار العلماء
رقم (79) وتاريخ 21\10\1400هـ
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف ، ابتداء من يوم السبت الموافق للثاني عشر من شهر شوال حسب تقويم أم القرى عام 1400 هـ حتى الحادي والعشرين منه - بحث المجلس موضوع السترة التي ينبغي أن تكون بين المصلي والمقبرة التي أمامه ، بناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة ؛ لما نظر المجلس في خطاب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الموجه للأمين العام لهيئة كبار العلماء برقم ( 3084\1\5 ) وتاريخ 12\10\1399هـ . والذي جاء فيه ما نصه :
( نظرا لكون النصف الشمالي من مسجد ابن عباس بالطائف لا يفصله عن المقبرة الواقعة عنه غربا سوى جدار المسجد ، وأبوابه ونوافذه الغربية مشرعة على المقبرة ، فاعتمدوا عرض الموضوع على المجلس ؛ لتبادل الرأي في الكتابة إلى الحكومة لفتح شارع يفصل المسجد عن المقبرة . اهـ ) .
وكان المجلس في تلك الدورة رأى أن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا فيما يكفي من السترة التي يجب أن تكون بين المصلي والمقبرة التي أمامه . ولما اطلع المجلس على البحث المذكور واستمع إلى كلام أهل العلم وآرائهم في المسألة ، واستعرض الواقع الحالي لمسجد ابن عباس في الطائف والمقبرة التي تقع في قبلة المصلي

من الجزء الشمالي منه رأى بعض أعضاء المجلس أن جدار المسجد لا يكفي سترة للمصلي فيه ؛ ولذلك ينبغي إقامة جدار آخر خاص بالمقبرة وفتح طريق للراجل بينهما وتنبش القبور التي تقع في مكان هذا الطريق إن كان فيها بقية من رفات الموتى .
ورأى الآخرون أنه يكتفى بجدار المسجد القبلي سترة للمصلي فيه ؛ لأن المصلي يستقبل جدار المسجد وهو مضاف إليه لا إلى المقبرة ، ولأن إنشاء جدار آخر وفتح طريق بينه وبين جدار المسجد يترتب عليه نبش القبور دون ضرورة توجب ذلك ، ولكن ينبغي أن يسد البابان اللذان في ذلك الجدار ، وترفع النوافذ التي فيه إلى حيث لا يتمكن المصلي من رؤية المقبرة من خلالها ، ويفتح باب في أدنى جزء من الجدار ليس أمامه مقبرة ليدخل منه الإمام يوم الجمعة ، وتقدم معه الجنائز للصلاة عليها .
وحيث كان الرأي الأخير للأكثرية من أعضاء المجلس فقد صدر القرار برأيهم .
والله الموفق . وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد .
هيئة كبار العلماء
. . رئيس الدورة
عبد الرزاق عفيفي
عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن علي الحركان
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان

(9)
بحث في نقل لحوم الهدايا
والجزاءات خارج الحرم
هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بحث في نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم
إعداد
الجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء من تأجيل البت في موضوع نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم مطلقا ، وعند استغناء فقراء الحرم ، وأن يعد بحث في الموضوع ليتمكن من مناقشة الموضوع في الدورة السادسة عشرة ، بناء على ذلك فقد جمعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية نقولا عن بعض فقهاء المذاهب الأربعة ، وهذه النقول مشتملة على بيان مذاهب الفقهاء فيمن يجب صرف اللحم لهم ، وحكم نقله للفقراء خارج الحرم .
وفيما يلي ذكر النقول مرتبة على حسب المذاهب , وبالله التوفيق .

أولا : الفقه الحنفي
1 - قال في [بدائع الصنائع] : وأما مكان هذا الدم فالحرم ، لا يجوز في غيره ؛ لقوله تعالى : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } (1) ومحله : الحرم ،
__________
(1) سورة الفتح الآية 25

والمراد منه هدي المتعة ؛ لقوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (1) والهدي : اسم لما يهدى إلى بيت الله الحرام ، أي : يبعث وينقل إليه (2) .
2 - ذكر في [ فتح القدير ] : ( وقوله : ( إليه ) مرجع الضمير التوقف بالحرم ، المفهوم من قوله : ( يذبح في الحرم ) ، مع قوله : والإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان ، والآية وهي قوله تعالى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } (3) إما في الإحصار بخصوصه أو فيه وفي غيره أو هو من عموم اللفظ الوارد على سبب خاص - فيتناول منع الحلق قبل الإعمال في الحصر وبعدها في غيره إلى أن يبلغ الهدي محله ، ويبين محله بقوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (4) ) (5) .
3 - قوله : ( ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم ) ، سواء كان تطوعا أو غيره ، قال تعالى في جزاء الصيد : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } (6) فكان أصلا في كل دم وجب كفارة ، وقال تعالى في دم الإحصار : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } (7) وقال في الهدايا مطلقا : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (8) ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان ، فالإضافة ثابتة
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) [ بدائع الصنائع ] ( 3\ 1205 ) ، لأبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي المتوفى عام 587 هـ .
(3) سورة البقرة الآية 196
(4) سورة الحج الآية 33
(5) [ شرح فتح القدير ] ( 2\295 ) لابن الهمام المتوفى سنة 861 ، وذكر : ( ولا يجوز ذبح دم الإحصار إلا في الحرم ) ص 299 .
(6) سورة المائدة الآية 95
(7) سورة البقرة الآية 196
(8) سورة الحج الآية 33

في مفهومه وهو الحرم بالإجماع ، ويجوز الذبح في أي موضع شاء من الحرم ولا يختص بمنى ، ومن الناس من قال : لا يجوز إلا بمنى ، والصحيح ما قلنا . قال عليه الصلاة والسلام : « كل عرفة موقف ، وكل منى منحر ، وكل المزدلفة موقف ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر » (1) رواه أبو داود وابن ماجه من حديث جابر ، فتحصل أن الدماء قسمان : ما يختص بالزمان والمكان ، وما يختص بالمكان فقط (2) .
4 - قال السرخسي - رحمه الله - في جزاء الصيد : ( وإذا قتل المحرم صيدا فعليه قيمة الصيد في الموضع الذي قتله فيه إن كان الصيد يباع ويشترى في ذلك الموضع ، وإلا ففي أقرب المواضع من ذلك الموضع مما يباع ذلك الصيد ويشترى في ذلك الموضع ، مما له نظير من النعم أو لا نظير له في قولي أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - ، وقال محمد والشافعي - رحمهما الله تعالى - فيما له نظير : إلى نظيره من النعم الذي يشبهه في المنظر لا إلى القيمة ) (3) .
5 - فإن اختار التكفير بالهدي فعليه الذبح في الحرم والتصدق بلحمه على الفقراء ؛ لقوله تعالى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } (4) فالهدي : اسم لما يهدى إلى موضع معين ، وإن اختار الإطعام اشترى بالقيمة طعاما ، فيطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة (5) .
6 - قال السرخسي - رحمه الله - في [ المبسوط ] : الأصل في حكم
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1937),سنن ابن ماجه المناسك (3048),سنن الدارمي المناسك (1879).
(2) [ شرح فتح القدير ] ( 2\ 323 ، 324 ) .
(3) [ المبسوط ] ( 2\ 82 ) .
(4) سورة المائدة الآية 95
(5) [ المبسوط ] ( 2\ 82 ) .

الإحصار قوله تعالى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } (1) أي : منعتم من إتمامها ، { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (2) شاة تبعثونها إلى الحرم لتذبح ، ثم تحلقون ، لقوله تعالى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } (3) فعلى المحصر إذا كان محرما بالحج أن يبعث بثمن هدي يشترى له بمكة فيذبح عنه يوم النحر فيحل من إحرامه ، وهذا قول علمائنا - رحمهم الله تعالى - أن هدي الإحصار مختص بالحرم ، وعلى قول الشافعي - رحمه الله - لا يختص بالحرم ولكن يذبح الهدي في الموضع الذي يحصر فيه ، وحجته في ذلك : حديث ابن عمر رضي الله عنهما : « أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه رضي الله عنهم معتمرا فأحصر بالحديبية فذبح هداياه وحلق بها وقاضاهم على أن يعود من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام بغير سلاح فيقضي عمرته » (4) فإنما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي في الموضع الذي أحصر فيه ، ولأنه لو بعث بالهدي لا يأمن ألا يفي المبعوث على يده ، أو يهلك الهدي في الطريق ، وإذا ذبحه في موضعه يتيقن بوصول الهدي إلى محله وخروجه من الإحرام بعد إراقة دمه فكان هذا أولى ، وحجتنا في ذلك قوله تعالى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } (5) والمراد به : الحرم بدليل قوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (6) بعد ما ذكر الهدايا ، ولأن التحلل بإراقة دم هو قربة ، وإراقة الدم لا يكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم ، أو زمان مخصوص وهو أيام النحر ، ففي غير ذلك المكان والزمان لا تكون قربة ، ونقيس هذا الدم بدم المتعة من حيث إنه تحلل به عن الإحرام ، وذلك
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة البقرة الآية 196
(4) صحيح البخاري الصلح (2554),مسند أحمد بن حنبل (2/124).
(5) سورة البقرة الآية 196
(6) سورة الحج الآية 33

يختص بالحرم فكذا هذا ، وأما ما روي فقد اختلفت الروايات في نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدايا حين أحصر ، فروي « أنه بعث الهدايا على يدي ناجية ، لينحرها في الحرم حتى قال ناجية : ماذا أصنع فيما يعطب منها ؟ قال : انحرها ، واصبغ نعلها بدمها ، واضرب بها صفحة سنامها ، وخل بينها وبين الناس ، ولا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا » (1) وهذه الرواية أقرب إلى موافقة الآية قال الله تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } (2) فأما الرواية الثانية إن صحت فنقول : الحديبية من الحرم فإن نصفها من الحل ، ونصفها من الحرم ، ومضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ، ومصلاه كان في الحرم ، فإنما سيقت الهدايا إلى جانب الحرم منها ونحرت في الحرم ، فلا يكون للخصم فيه حجة ، وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بذلك ؛ لأنه ما كان يجد في ذلك الوقت من يبعث الهدايا على يده إلى الحرم (3) .
7 - وقال ابن عابدين :
قوله : ( ما يهدى ) مأخوذ من الهدية التي هي أعم من الهدي لا من الهدي ، وإلا لزم ذكر المعرف في التعريف فيلزم تعريف الشيء بنفسه ، قلت : ( لو أخذ من الهدي يكون تعريفا لفظيا وهو سائغ ) واحترز بقوله : ( إلى الحرم ) عما يهدى إلى غيره نعما كان أو غيره ، وبقوله : ( من النعم ) عما يهدى إلى الحرم من غير النعم ، فإطلاق الفقهاء في باب الأيمان
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1325),سنن أبو داود المناسك (1763),مسند أحمد بن حنبل (1/279).
(2) سورة الفتح الآية 25
(3) [ المبسوط ] للسرخسي ( 4\ 106 ، 107 ) .

والنذور والهدي على غيره مجاز ، وبقوله : ( ليتقرب به ) أي : بإراقة دمه فيه ، أي : في الحرم عما يهدى من النعم إلى الحرم هدية لرجل ، وأفاد به أنه لا بد فيه من النية ، أي : ولو دلالة (1) .
8 - قال الجصاص في تفسيره : [ أحكام القرآن ] :
باب المحصر أين يذبح الهدي ؟
قال تعالى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } (2) واختلف السلف في المحل ما هو ؟ فقال عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين : هو الحرم . وهو قول أصحابنا والثوري .
وقال مالك والشافعي : محله الموضع الذي أحصر فيه فيذبحه ويحل . والدليل على صحة القول الأول : أن المحل اسم لشيئين : يحتمل أن يراد به الوقت ، ويحتمل أن يراد به المكان . ألا ترى أن محل الدين هو وقته الذي تجب المطالبة به ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير : « اشترطي في الحج وقولي : محلي حيث حبستني » (3) فجعل المحل في هذا الموضع اسما للمكان
فلما كان محتملا للأمرين ولم يكن هدي الإحصار في العمرة مؤقتا عند الجميع وهو لا محالة مراد بالآية - وجب أن يكون مراده المكان ، فاقتضى ذلك أن لا يحل حتى يبلغ مكانا غير مكان الإحصار ؛ لأنه لو كان موضع الإحصار محلا للهدي لكان بالغا محله بوقوع الإحصار ، ولأدى ذلك إلى بطلان الغاية المذكورة في الآية ، فدل ذلك على أن المراد بالمحل : هو الحرم ؛ لأن كل من لا يجعل موضع
__________
(1) [ رد المحتار على الدر المختار ] لابن عابدين ( 2\ 614 ) .
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) صحيح البخاري النكاح (4801),صحيح مسلم الحج (1207),سنن النسائي مناسك الحج (2768),مسند أحمد بن حنبل (6/202).

الإحصار محلا للهدي فإنما يجعل المحل الحرم ، ومن جعل محل الهدي موضع الإحصار أبطل فائدة الآية وأسقط معناه ، ومن جهة أخرى وهو أن قوله تعالى : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } (1) إلى قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (2) ودلالته على صحة قولنا في الحل من وجهين : أحدهما : عمومه في سائر الهدايا ، والآخر : ما فيه من بيان معنى المحل الذي أجمل ذكره في قوله : { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } (3) فإذا كان الله قد جعل للمحل البيت العتيق فغير جائز لأحد أن يجعل المحل غيره ، ويدل عليه قوله تعالى في جزاء الصيد : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } (4) فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي فلا يجوز شيء منه دون وجوده فيه ، كما أنه لما قال في الظهار وفي القتل : { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } (5) فقيدها بفعل التتابع لم يجز فعلهما إلا على هذا الوجه ، وكذلك قوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } (6) لا يجوز إلا على الصفة المشروطة ، وكذلك قال أصحابنا في سائر الهدايا التي تذبح أنها لا تجوز إلا في الحرم . ويدل عليه أيضا قوله تعالى في سياق الخطاب بعد ذكر الإحصار : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } (7) فأوجب على المحصر دما ، ونهاه عن الحلق حتى
__________
(1) سورة الحج الآية 30
(2) سورة الحج الآية 33
(3) سورة البقرة الآية 196
(4) سورة المائدة الآية 95
(5) سورة النساء الآية 92
(6) سورة النساء الآية 92
(7) سورة البقرة الآية 196

يذبح هديه ، فلو كان ذبحه في الحل جائزا لذبح صاحب الأذى هديه عن الإحصار وحل به واستغنى عن فدية الأذى ، فدل على أن الحل ليس بمحل الهدي ، فإن قيل : هذا فيمن لا يجد هدي الإحصار . قيل له : لا يجوز أن يكون ذلك خطابا فيمن لا يجد الدم ؛ لأنه خيره بين الصيام والصدقة والنسك ، ولا يكون مخيرا بين الأشياء الثلاثة إلا وهو واجد لها ؛ لأنه لا يجوز التخيير بين ما يجد وبين ما لا يجد ، فثبت بذلك أن محل الهدي هو الحرم دون محل الإحصار . ومن جهة النظر لما اتفقوا في جزاء الصيد أن محله الحرم وأنه لا يجزئ في غيره - وجب أن يكون كذلك حكم كل دم تعلق وجوبه بالإحرام ، والمعنى الجامع بينهما تعلق وجوبهما بالإحرام ، فإن قيل : قال الله تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } (1) وذلك في شأن الحديبية ، وفيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا هديهم في غير الحرم ، لولا ذلك لكان بالغا محله ، قيل له : هذا من أول شيء على أن محله الحرم ؛ لأنه لو كان موضع الإحصار هو الحل محلا للهدي لما قال تعالى : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } (2) فلما أخبر عن منعهم الهدي عن بلوغ محله دل ذلك على أن الحل ليس بمحل له ، فإن قيل : فإن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذبحوا الهدي في الحل فما معنى قوله تعالى : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } (3) قيل له : لما حصل أدنى منع جاز أن يقال : إنهم منعوا ، وليس يقتضي ذلك أن يكون أبدا ممنوعا ، ألا ترى أن رجلا لو منع رجلا حقه جاز
__________
(1) سورة الفتح الآية 25
(2) سورة الفتح الآية 25
(3) سورة الفتح الآية 25

أن يقال : منعه حقه ، كما يقال : حبسه ، ولا يقتضي ذلك أن يكون أبدا محبوسا ، فلما كان المشركون منعوا الهدي بديا من الوصول إلى الحرم جاز إطلاق الاسم عليهم بأنهم منعوا الهدي عن بلوغ محله وإن أطلقوا ، ألا ترى أنه قد وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام ، وإن كانوا قد أطلقوا إليهم بعد ذلك الوصول إليه في العام القابل ، وقال الله عز وجل : { قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } (1) وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر ، فكذلك منعوا الهدي بديا ، ثم لما وقع الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم أطلقوه حتى ذبحه في الحرم ، وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ساق البدن ؛ ليذبحها بعد الطواف بالبيت فلما منعوه من ذلك قال الله تعالى : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } (2) ؛ لقصوره عن الوقت المقصود فيه ذبحه ، ويحتمل أن يريد به المحل المستحب فيه الذبح وهو عند المروة أو بمنى فلما منع ذلك أطلق ما فيه ما وصفت .
وقد ذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم : أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم ، وأن مضرب النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحل ، ومصلاه كان في الحرم ، فإذا أمكنه أن يصلي في الحرم فلا محالة قد كان الذبح ممكنا فيه ، وقد روي أن ناجية بن جندب الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : « ابعث معي الهدي حتى آخذ به في الشعاب والأودية فأذبحها بمكة ففعل » ، وجائز أن يكون بعث معه بعضه ونحر هو بعضه في الحرم . والله أعلم (3) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 63
(2) سورة الفتح الآية 25
(3) [ أحكام القرآن ] للجصاص ( 1\ 339 - 341 ) .

ثانيا : الفقه المالكي
1 - قال مالك في [ المدونة الكبرى ] : رسم في الدم ما يصنع به ؟
قلت : فهذا الدم كيف يصنع به في قول مالك ؟ قال : قال مالك : يقلده ويشعره ويقف به في عرفة مع هدي تمتعه فإن لم يقف به بعرفة لم يجزه إن اشتراه في الحرم إلا أن يخرجه إلى الحل فيسوقه من الحل إلى مكة ويصير منحره بمكة ، قلت لابن القاسم : ولم أمره مالك أن يقف بهذا الهدي الذي جعله عليه لتأخير الحلاق بعرفة ، وهو إن حلق من أذى لم يأمره بأن يقف بهديه ؟ قال : قال مالك : ليس من وجب عليه الهدي لترك الحلاقة مثل من وجب عليه النسك من إماطة الأذى ؛ لأن الهدي إذا وجب لترك الحلاقة فإنما هو هدي ، وكل ما هو هدي فسبيله سبيل هدي المتمتع والصيام فيه إن لم يجد ، ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد ذلك ، ولا يكون فيه الطعام ، وأما نسك الأذى فهو مخير : إن شاء أطعم ، وإن شاء صام ، وإن شاء نسك ، والصيام فيه ثلاثة أيام ، والنسك فيه شاة ، والطعام فيه لستة مساكين مدين مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا فرق ما بينهما (1) .
2 - فيمن أحصر بمرض ومعه هدي :
قلت : أرأيت من أحصر بمرض معه هدي أينحره قبل يوم النحر أم يؤخره حتى يوم النحر ، وهل له أن يبعث به ويقيم هو حراما ؟ قال : إن خاف على هديه لطول مرضه بعث به فنحر بمكة وأقام هو على إحرامه . قال : وإن كان لا يخاف الهدي وكان أمرا قريبا حبسه حتى يسوقه معه . قال :
__________
(1) [ المدونة الكبرى ] للإمام مالك ( 1\ 393 ) .

وهذا رأيي .
قلت : أرأيت إن فاته الحج متى ينحر هدي فوات الحج في قول مالك .
قال : في القضاء من قابل . قلت : فإن بعث به قبل أن يقضي حجه يجزئه ، فقال : سألت مالكا عن ذلك فقال : لا يقدم هديه ولا ينحره إلا في حج قابل ، قال : فقلت له : فإنه يخاف الموت قال : وإن خاف الموت فلا ينحره إلا في حج قابل .
قلت : فإن اعتمر بعد ما فاته حجه فنحر هدي فوات حجه في عمرته هل يجزئه ؟ قال : أرى أن يجزئه في رأيي ، وإنما رأيت ذلك ؛ لأنه لو هلك قبل أن يحج أهدي عنه لمكان ذلك ولو كان ذلك لا يجزئه إلا بعد القضاء ما أهدي عنه بعد الموت ، قال ابن القاسم : وقد بلغني أن مالكا قد كان خففه ثم استثقله بعد ، وأنا لا أحب أن يفعل إلا بعد ، فإن فعل وحج أجزأ عنه ، قلت : أرأيت المحصر بمرض إذا أصابه أذى فحلق رأسه فأراد أن يفتدي ، أفينحر هدي الأذى الذي أماط عنه بموضعه حيث هو أم يؤخر ذلك حتى يأتي مكة في قول مالك ؟ قال : قال مالك : ينحره حيث أحب (1) .
3 - رسم في الكفارة بالصيام وفي جزاء الصيد :
قلت : أرأيت جزاء الصيد في قول مالك أن يكون بغير مكة . قال : قال لي مالك : كل من ترك من نسكه شيئا يجب عليه فيه الدم وجزاء الصيد أيضا ، فإن ذلك لا ينحر ولا يذبح إلا بمكة أو بمنى ، فإن وقف به بعرفة نحر بمنى وإن لم يوقف بعرفة سيق من الحل ونحر بمكة .
قلت له : وإن كان قد
__________
(1) [ المدونة ] ( 1\ 450 ) .

وقف به بعرفة نحر بمنى وإن لم يوقف بعرفة سيق من الحل ونحر بمكة . قلت له : وإن كان قد وقف به بعرفة ولم ينحره أيام النحر بمنى نحره بمكة ، ولا يخرجه إلى الحل ثانية . قال : نعم ، قلت : وهذا قول مالك . قال : نعم (1) .
4 - قال في [ جواهر الإكليل شرح مختصر خليل ] : والجزاء بحكم عدلين فقيهين بذلك مثله من النعم أو إطعام بقيمة الصيد يوم التلف بمحله ، وإلا فبقربه ولا يجزئ بغيره .
وذكر في الشرح ( بمحله ) أي : التلف إن كان له قيمة فيه ووجد به مساكين ( وإلا ) أي : وإن لم يكن له قيمة بمحله أو لم يوجد به مساكين فيقوم أو يطعم ( بقربه ) أي : محل التلف ولا يجزئ الإطعام بغيره ، أي : محل التلف أو قربه مع الإمكان .
سند جملة ذلك أنه إن أخرج الجزاء هديا اختص بالحرم ، أو صياما فحيث شاء أو طعاما اختص بمحل التقويم (2) .
5 - قال ابن رشد في [ بداية المجتهد ] : وأما اختلافهم في مكان الهدي عند من أوجبه ، فالأصل فيه اختلافهم في موضع نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه عام الحديبية ، فقال ابن إسحاق : نحره في الحرم ، وقال غيره : إنما نحره في الحل ، واحتج بقوله تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } (3) وإنما ذهب أبو حنيفة إلى
__________
(1) [ المدونة ] ( 1\ 431 ) .
(2) [ جواهر الإكليل شرح مختصر خليل ] لصالح الأزهري ( 1\ 198 , 199 ) .
(3) سورة الفتح الآية 25

أن من أحصر عن الحج أن عليه حجا وعمرة ؛ لأن المحصر قد فسخ الحج في عمرة ولم يتم واحدا منهما فهذا هو حكم المحصر بعد ، وعند الفقهاء (1) .
وقال في جزاء الصيد : وأما اختلافهم في الموضع فسببه الإطلاق ، أعني : أنه لم يشترط فيه موضع ، فمن شبهه بالزكاة في أنه حق للمساكين فقال : لا ينقل من موضعه ، وأما من رأى أن المقصود بذلك إنما هو الرفق بمساكين مكة قال : لا يطعم إلا مساكين مكة ، ومن اعتمد ظاهر الإطلاق قال : يطعم حيث شاء (2) .
6 - قال ابن عبد البر في [ الكافي ] : ولا ينحر الهدي إلا بمنى ومكة ، ولا ينحر منه بمنى إلا ما وقف بعرفة ، وإن فاته أن يقف بعرفة ساقه من الحل فينحره بمكة بعد خروجه من منى ، وإن نحره بمكة في أيام منى أجزأه (3) .
7 - جزاء الصيد والحكم فيه :
وعند اختيار المثل يذبح في منى أو مكة ، أما في غيرهما فلا يجزئ ؛ لأنه يصير في حكم الهدي ، وتصح القيمة طعاما من غالب قوت أهل البلد الذي يخرج فيه ، وتعين القيمة والإخراج بمحل التلف ولا تجزئ الدراهم ولا يجزئ أكثر من مد ولا أقل ويعطى لمسكين (4) .
8 - الحكم في الصيد : قال الله تعالى :
__________
(1) [ بداية المجتهد ] لابن رشد ( 1\ 384 ) المتوفى سنة 595 هـ .
(2) [ بداية المجتهد ] لابن رشد ( 1\ 389 ) .
(3) [ الكافي ] لابن عبد البر ، ( 1\ 404 ) ، المتوفى سنة 463 هـ .
(4) [ مرشد السالك في القرب من ملك الممالك ] لعبد الوهاب السيد رضوان ص 130 ، 131 .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } (1) قال مالك - رحمه الله - : فالذي يصيد الصيد وهو حلال ثم يقتله وهو محرم بمنزلة الذي يبتاعه وهو محرم ثم يقتله ، وقد نهى الله عن قتله فعليه جزاؤه
والأمر عندنا أن من أصاب الصيد وهو محرم حكم عليه بالجزاء ، قال مالك : أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أن يقوم الصيد الذي أصاب ، فينظر كم ثمنه من الطعام ، فيطعم كل مسكين مدا ، أو يصوم مكان كل مد يوما ، وينظر كم عدة المساكين فإن كانوا عشرة صام عشرة أيام ، وإن كانوا عشرين مسكينا صام عشرين يوما عددهم ما كانوا ، وإن كانوا أكثر من ستين مسكينا . قال مالك : سمعت أنه يحكم على من قتل الصيد في الحرم وهو حلال بمثل ما يحكم به على المحرم الذي يقتل الصيد في الحرم وهو محرم (2) .
9 - ما جاء فيمن أحصر بعدو :
حدثني يحيى عن مالك ، قال : من حبس بعدو ، فحال بينه وبين البيت ، فإنه يحل من كل شيء ، وينحر هديه ، ويحلق رأسه حيث حبس ، وليس عليه قضاء .
وحدثني عن مالك : أنه بلغه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي ، وحلقوا رءوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن
__________
(1) سورة المائدة الآية 95
(2) [ تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ] ( 1\ 326 ، 327 ) لجلال الدين السيوطي .

يطوفوا بالبيت ، وقبل أن يصل إليه الهدي ، ثم لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ، ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا يعودوا لشيء .
وحدثني عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أنه قال حيث خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة : إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بعمرة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة عام الحديبية .
ثم إن عبد الله نظر في أمره فقال : ما أمرهما إلا واحد ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : ما أمرهما إلا واحد ، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة ، ثم نفذ حتى جاء البيت فطاف طوافا واحدا ، ورأى ذلك مجزيا عنه وأهدى ، قال مالك : فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو . كما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأما من أحصر بغير عدو فإنه لا يحل دون البيت (1) .
10 - قال الله تعالى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } (2)
قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره عن هذه الآية : الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى ، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة ، أي : لا تتحللوا من الإحرام حتى ينحر الهدي ، والمحل : الموضع الذي يحل فيه ذبحه .
فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي موضع الحصر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية قال الله تعالى : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } (3) قيل : محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق .
وعند أبي حنيفة محل الهدي في الإحصار الحرم ؛ لقوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (4) وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الآمن
__________
(1) [ تنوير الحوالك شرح الموطأ ] والكتابة من نص الموطأ ، ( 1\ 329 ، 330 ) .
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة الفتح الآية 25
(4) سورة الحج الآية 33

الذي يجد الوصول إلى البيت ، فأما المحصر فخارج من قوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (1) بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هديهم بالحديبية ، وليست من الحرم ، واحتجوا من السنة بحديث ناجية بن جندب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : « ابعث معي الهدي فأنحره بالحرم قال : " فكيف تصنع به ؟ " فقال : أخرجه في الأودية لا يقدرون عليه فأنطلق به حتى أنحره في الحرم »
وأجيب بأن هذا لا يصح ، وإنما ينحر حيث حل ؛ اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وهو الصحيح الذي رواه الأئمة ، ولأن الهدي تابع للمهدي ، والمهدي حل بموضعه فالمهدي أيضا يحل معه (2) .
__________
(1) سورة الحج الآية 33
(2) [ تفسير القرطبي ] ص 379 ، المتوفى سنة 671 هـ .

ثالثا : الفقه الشافعي
1 - قال الشافعي في [ الأم ] : وحيثما نحره من منى أو مكة إذا أعطاه مساكين الحرم أجزأه وقال : ( ولو أن رجلا نحر هديه فمنع المساكين دفعه إليهم أو نحره بناحية ولم يخل بين المساكين وبينه حتى ينتن - كان عليه أن يبدله ، والنحر يوم النحر وأيام منى كلها حتى تغيب الشمس من آخر أيامها ، فإذا غابت الشمس فلا نحر إلا إن كان عليه هدي واجب نحره وأعطاه مساكين الحرم قضاء ) انتهى .
وقال : ( وفي أي الحرم ذبحه ثم أبلغه مساكين الحرم أجزأه وإن كان ذبحه إياه في غير موضع ناس . . . ) .
وقال : ( ومتى أصابه أذى وهو يرجو أن يخلى ، نحاه عنه وافتدى في موضعه كما يفتدي المحصر إذا خلي عنه في غير الحرم ، وكان مخالفا لما

سواه لمن قدر على الحرم ، ذلك لا يجزيه إلا أن يبلغ هديه الحرم ) .
وقال في الإحصار بالمرض وغيره : ( وإن احتاج إلى دواء عليه فيه فدية تنحية أذى ، فعله وافتدى ، ويفتدي في الحرم بأن يفعله ويبعث بهدي إلى الحرم ) (1) .
2 - ( باب أين محل هدي الصيد ) قال الشافعي - رحمه الله - : قال تعالى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } (2) قال الشافعي : ( فلما كان كلما أريد به هدي من ملك ابن آدم هديا كانت الأنعام كلها وكل ما أهدي فهو بمكة - والله أعلم - ولو خفي عن أحد أن هذا هكذا ما انبغى - والله أعلم - أن يخفى عليه إذا كان الصيد إذا جزي بشيء من النعم لا يجزئ فيه ، إلا أن يجرى بمكة ، فعلم أن مكة أعظم أرض الله تعالى حرمة وأولى أن تنزه عن الدماء لولا ما عقلنا من حكم الله في أنه للمساكين الحاضرين بمكة ، فإذا عقلنا هذا عن الله عز وجل فكان جزاء الصيد الطعام لم يجز - والله أعلم - إلا بمكة .
فلو أطعم في كفارة صيد بغير مكة لم يجز عنه ، وأعاد الإطعام بمكة أو بمنى فهو من مكة ؛ لأنه كحاضر الحرم ، ومثل هذا كل ما وجب على محرم بوجه من الوجوه من فدية أذى أو طيب أو لبس أو غيره ، لا يخالفه في شيء ؛ لأنه كله من جهة النسك والنسك إلى الحرم ومنافعه للمساكين الحاضرين الحرم .
وقال : ( ومن حضر الكعبة حين يبلغها الهدي من النعم أو الطعام من مسكين كان له أهل بها أو غريب ؛ لأنهم إنما أعطوا بحضرتها وإن قل ،
__________
(1) [ الأم ] للشافعي - رحمه الله - ( 2\ 184 ، 185 ) .
(2) سورة المائدة الآية 95

فكان يعطي بعضهم دون بعض ، أجزأه أن يعطي مساكين الغرباء دون أهل مكة ومساكين أهل مكة دون مساكين الغرباء وأن يخلط بينهم ولو آثر به أهل مكة ؛ لأنهم يجمعون الحضور والمقام لكان كأنه أسرى إلى القلب . والله أعلم (1) .
3 - قال المصنف - رحمه الله - تعالى :
( إذا وجب على المحرم دم لأجل الإحرام كدم التمتع والقران ، ودم الطيب وجزاء الصيد وجب عليه صرفه لمساكين الحرم ؛ لقوله تعالى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } (2) فإن ذبحه في الحل وأدخله الحرم ، نظرت ، فإن تغير وأنتن لم يجزئه ؛ لأن المستحق لحم كامل غير متغير فلا يجزئه المنتن والمتغير ، وإن لم يتغير ففيه وجهان :
أحدهما : لا يجزئه ؛ لأن الذبح أمر مقصود به الهدي فاختص بالحرم كالتفرقة .
الثاني : يجزئه ؛ لأن المقصود هو اللحم وقد أوصل ذلك إليهم ، وإن وجب عليه طعام لزمه صرفه إلى مساكين الحرم قياسا على الهدي ، وإن وجب عليه صوم جاز أن يصوم في كل مكان ؛ لأنه لا منفعة لأهل الحرم في الصيام . وإن وجب عليه هدي وأحصر عن الحرم جاز له أن يذبح ويفرق حيث أحصر ؛ لما روى ابن عمر : « أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية ، وبين الحديبية وبين الحرم ثلاثة أميال » (3) ، ولأنه إذا جاز أن يتحلل في غير موضع التحلل
__________
(1) [ الأم ] للشافعي ، ص 157 .
(2) سورة المائدة الآية 95
(3) صحيح البخاري الصلح (2554),مسند أحمد بن حنبل (2/124).

لأجل الإحصار جاز أن ينحر الهدي في غير موضع الهدي ، فكما قال الأصحاب : الدماء الواجبة في الحج لها زمان ومكان .
وأما المكان : فالدماء الواجبة على المحرم ضربان : واجب على المحصر بالإحصار ، أو بفعل محظور أو الضرب واجب على غير المحصر ، فيختص بالحرم ، ويجب تفريقه على مساكين الحرم سواء الغرباء الطارئون والمستوطنون ، لكن الصرف إلى المستوطنين أفضل ، وله أن يخص به أحد الصنفين ، نص عليه الشافعي واتفقوا عليه
وفي اختصاص ذبحه بالحرم خلاف ، حكاه المصنف وآخرون وجهين ، وحكاه آخرون قولين : ( أصحهما ) : يختص ، فلو ذبحه في طرف الحل ونقله في الحال طريا إلى الحرم - لم يجزئه
والثاني : لا يختص ، فيجوز ذبحه خارج الحرم بشرط أن ينقله ويفرقه في الحرم قبل تغير اللحم ، وسواء في هذا كله دم التمتع والقران وسائر ما يجب بسبب في الحل أو الحرم ، أو بسبب مباح كالحلق للأذى ، أو بسبب محرم . وهذا هو الصحيح .
وفي القديم قول : أن ما أنشئ سببه في الحل يجوز ذبحه وتفرقته في الحل قياسا على دم الإحصار ، وممن حكى هذا القول وفي وجه ضعيف : أن ما وجب بسبب مباح لا يختص ذبحه وتفرقته بالحرم .
وفيه وجه أنه لو حلق قبل وصوله الحرم وذبح وفرق حيث حلق جاز وكل هذا شاذ ضعيف ، والمذهب ما سبق . قال الشافعي والأصحاب : ويجوز الذبح في بقاع الحرم قريبها وبعيدها ، لكن الأفضل في حق الحاج الذبح بمنى وفي حق المعتمر المروة ؛ لأنهما محل تحللهما ، وكذا حكم ما يسوقانه من

الهدي (1) .
4 - قال القاضي حسين في [ الفتاوى ] : لو لم يجد في الحرم مسكينا لم يجز نقل الدم إلى موضع آخر سواء جوزنا نقل الزكاة أم لا ؛ لأنه وجب لمساكين الحرم ، كمن نذر الصدقة على مساكين بلدهم يجد فيه مساكين ، يصبر حتى يجدهم ، ولا يجوز نقله بخلاف الزكاة على أحد القولين ؛ لأنه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد لها بخلاف الهدي (2) .
5 - ( ويجب صرف لحمه ) وجلده وبقية أجزائه من شعره وغيره ، فاقتصاره على اللحم ؛ لأنه الأصل فيما يقصد منه ، فهو مثال لا قيد ( إلى مساكينه ) أي : الحرم وفقرائه القاطنين منهم والغرباء والصرف إلى الأول أولى إلا أن تشتد حاجة الثاني فيكون أولى ، وعلم من كلامه عدم جواز أكله شيئا منه ، وبه صرح الرافعي في كتاب الأضحية ، وأنه لا فرق بين أن يفرق المذبوح عليهم أو يعطيه بجملته لهم ، وبه صرح الرافعي أيضا في الكلام على تحريم الصيد ، ويكفي الاقتصار على ثلاثة من فقرائه أو مساكينه وإن انحصروا ؛ لأن الثلاثة أقل الجمع ، فلو دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث ضمن له أقل متمول كنظيره من الزكاة ، وإنما لم يجب استيعابهم عند الانحصار كما في الزكاة ؛ لأن المقصود هنا حرمة البلد وثم سد الخلة وتجب النية عند التفرقة ، كما قاله الروياني وغيره ، ويؤخذ من التشبيه بالزكاة الاكتفاء بالمتقدمة عليها واقتصاره فيما مر على الدم الواجب بفعل
__________
(1) [ المجموع شرح المهذب ] ( 7\ 411 - 413 ) .
(2) [ المجموع شرح المهذب ] ( 7\ 413 ) .

حرام أو ترك واجب مثال إذ دم التمتع والقران كذلك . . .
ودفع الطعام لمساكين الحرم لا يتعين لكل منهم مد في دم التمتع ونحوه مما ليس دمه دم تخيير وتقدير ، أما دم الاستمتاعات ونحوها مما دمه دم تخيير وتقدير فلكل واحد من ستة مساكين نصف صاع من ثلاثة آصع كما مر .
ولو ذبح الدم الواجب بالحرم ثم سرق أو غصب منه قبل التفرقة لم يجزئه . نعم ، هو مخير بين ذبح آخر وهو أولى ، أو شراء بدله لحما والتصدق به ؛ لأن الذبح قد وجد ، وإنما لم يتقيد ذلك بما لو قصر في التفرقة وإلا فلا يضمن ، كما لو سرق المال المتعلق به الزكاة ؛ لأن الدم متعلق بالذمة والزكاة بعين المال ، ولو عدم المساكين في الحرم أخر الواجب المالي حتى يجدهم وامتنع النقل ، بخلاف الزكاة حيث جاز النقل فيها إلا أنه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد بها ، بخلاف هذا .
وقوله : ( إلى مساكينه ) عبارة العباب : ويجب تفريق لحوم وجلود هذه الدماء وبدلها من الطعام على المساكين في الحرم ، قال الشارح في شرحه : وقضيته أنه لا يجوز إعطاؤهم خارجه ، والأوجه خلافه كما مر ، لكن يؤيده تعليل الكفاية وغيرها ؛ ذلك بأن القصد من الذبح هو إعظام الحرم بتفرقة اللحم فيه لا لتلويثه بالدم والفرث إذ هو مكروه . اهـ .
ويجاب : بأن المراد بتفرقة اللحم فيه صرفه لأهله وخالفه م - ر فصمم على أنه لا يجوز صرفه خارجه ولا لمن هو فيه بأن خرج هو وهم عنه ثم فرقه عليهم خارجه ثم دخلوه . اهـ . سم على حج .
وقضية قول المصنف صرف لحمه إلى مساكينه أن المدار على صرفه لهم ولو في غير الحرم ، لكن قول الشارح الآتي قبيل الباب ، وكل هذه الدماء وبدلها تختص تفرقته بالحرم على مساكينه يوافق ما نقله - سم - عنه وصمم

عليه (1) .
__________
(1) [ نهاية المحتاج ] ( 3\ 437 ) .

رابعا : الفقه الحنبلي
1 - قال ابن قدامة في [ المغني ] : وإذا نحر الهدي فرقه على المساكين من أهل الحرم ، وهو من كان في الحرم ، فإن أطلقها لهم جاز ، كما روى أنس : « أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات ثم قال : " من شاء فليقتطع » رواه أبو داود .
وإن قسمها فهو أحسن وأفضل ، ولا يعطى الجازر بأجرته شيئا منها ؛ لما روي عن علي رضي الله عنه قال : « أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه ، وأن أقسم بدنه كلها جلودها وجلالها ، وأن لا أعطي الجازر منها شيئا ، وقال : نحن نعطيه من عندنا » (1) . متفق على معناه
ولأنه بقسمها يكون على يقين من إفضائها إلى مستحقها ، ويكفي المساكين مؤونة النهب والزحام عليها ، وإنما لم يعط الجازر أجرته منها ؛ لأنه ذبحها فعوضه عليه ، دون المساكين ، ولأن دفع جزء منها عوضا عن الجزارة كبيعه ولا يجوز بيع شيء منها (2) .
2 - قال ابن قدامة في [ المقنع ] : وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إذا قدر على إيصاله إليهم ، إلا فدية الأذى واللبس ونحوها إذا وجد سببها في الحل فيفرقها حيث وجد سببها ، ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر (3) .
3 - وقال في الحاشية على قوله : ( إلا فدية الأذى ) أي : لأنه صلى الله عليه وسلم أمر
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1630),صحيح مسلم الحج (1317),سنن أبو داود المناسك (1769),سنن ابن ماجه المناسك (3099),مسند أحمد بن حنبل (1/154),سنن الدارمي المناسك (1940).
(2) [ المغني ] ( 3\ 433 ) .
(3) [ المقنع ] ( 1\ 430 ) .

كعبا بها بالحديبية ، وهي من الحل ، واشتكى الحسين بن علي رضي الله عنهما رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورا بالسقيا ، رواه مالك ، ووقت ذبحه حين فعله ، وله الذبح قبله لعذر .
4 - وعلى قوله : ( ودم الإحصار . . إلخ ) أي : من حل أو حرم نص عليه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما أحصر هو وأصحابه بالحديبية نحروا هديهم وحلوا ، لكن إن كان قادرا على أطراف الحرم فوجهان ، وعنه ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه إلى الحرم ويواطئ رجلا على نحره في وقت تحلله ، روي عن ابن مسعود (1) .
5 - قال شيخ الإسلام : وكما أن المعتمر في أشهر الحج إذا أراد أن يحج في عامه مخير بين أن ينشئ للحج سفرا وبين أن يتركه لهدي التمتع ، فهو مخير في إكمال الحج بالسفر أو بالهدي ؛ ولهذا قلنا : ليس جبرانا ؛ لأن دم الجبران لا يخير في سببه كترك الواجبات ، وإنما هو هدي واجب ، كأنه مخير بين العبادة البدنية المحضة والبدنية المالية وهو الهدي ، ولكن قد يقال : إذا كان واجبا فلا يؤكل منه بخلاف التطوع ، قلنا : هدي النذر أيضا فيه خلاف ، وما وجب معينا يأكل منه باتفاق ؛ لأن نفس الذابح لله مهديا إلى بيته أعظم المقصودين ؛ ولهذا اختلف العلماء في وجوب تفرقته في الحرم ، وإن كنا نحن نوجب ذلك فيما هو هدي دون ما هو نسك ، ليظهر تحقيقه بتسميته هديا وهو الإهداء إلى الكعبة (2) .
__________
(1) المقنع ( 1\ 430 ) حاشية ابن الشيخ .
(2) [ الفتاوى ] لشيخ الإسلام ( 35\ 321 ، 322 ) .

6 - وكل هدي أو إطعام يتعلق بحرم أو إحرام : كجزاء صيد ، وما وجب لترك واجب ، أو فوات ، أو بفعل محظور في الحرم ، وهدي تمتع وقران ومنذور ونحوهما ، يلزم ذبحه في الحرم ، وتفرقة لحمه فيه ، أو إطلاقه بعد ذبحه لمساكينه من المسلمين إن قدر على إيصاله إليهم بنفسه ، أو بمن يرسله معه ، وهم : من كان به ، أو واردا إليه من حاج وغيره ممن له أخذ زكاة لحاجة ، فإن دفع إلى فقير في ظنه فبان غنيا أجزأه ، ويجزئ نحره في أي نواحي الحرم كان ، قال أحمد : مكة ومنى واحد ، ومراده : في الإجزاء لا في التساوي ، ومنى كلها منحر ، والأفضل : أن ينحر في الحج بمنى وفي العمرة بالمروة ، وإن سلمه إليهم فنحروه أجزأه ، وإلا استرده ونحره ، فإن أبى وعجز ضمنه ، فإن لم يقدر على إيصاله إليهم جاز نحره في غير الحرم وتفرقته هو والطعام حيث نحره ، وفدية الأذى واللبس ونحوهما ؛ كطيب ، ودم المباشرة دون الفرج إذا لم ينزل ، وما وجب بفعل محظور خارج الحرم ولو لغير عذر فله تفرقتها حيث وجد سببها ، وفي الحرم أيضا ، ووقت ذبح فدية الأذى واللبس ونحوهما وما ألحق به حين فعله ، وله الذبح قبله لعذر ، وكذلك ما وجب لترك واجب ولو أمسك صيدا أو جرحه ثم أخرج جزاءه ثم تلف المجروح أو الممسك أو قدم من أبيح له الحلق فديته قبل الحلق ثم حلق أجزأ ، ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر ، وأما الصيام والحلق وهدي التطوع وما يسمى نسكا فيجزئه بكل مكان كأضحيته (1) .
7 - قال ابن هبيرة : اختلفوا في الدماء المتعلقة بالإحرام بم يختص
__________
(1) [ الإقناع ] ( 1\ 372 ) .

تفريقها ، فقال أبو حنيفة : الذبح كله يتعلق بالحرم ولا يختص تفريقه بأهله ، وقال مالك : ما كان من فدية الأذى وفدية لبس المخيط فإنه نسك ينحره حيث شاء ، ما عدا ذلك فإنه هدي ينحره ويختص بأهل الحرم ، وقال الشافعي : الدماء المتعلقة بالإحرام تفرقتها بالحرم إلا دم الإحصار ، وقال أحمد مثله وزاد عليه في الاستثناء دم الحلق (1) .
هذا ما تيسر ذكره من النقول .
وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) [ الإفصاح ] لابن هبيرة ص 291 .

قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 77 ) وتاريخ 21\10\1400 هـ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بالطائف ابتداء من يوم السبت الموافق 12\10\1400 هـ حسب تقويم أم القرى حتى الحادي والعشرين منه بحث المجلس [ حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم ] .
بناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة من دراسة هذا الموضوع بعد أن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا فيه يوضح حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات ونحوها إلى أماكن تقع خارج الحرم ، وهل يجوز توزيعها خارج الحرم مطلقا أو عند استغناء فقراء الحرم ، وهل يفرق بين الهدايا الواجبة من أجل التمتع والقران وبين الواجبة بفعل محظور أو ترك واجب ؟
وقد درس المجلس البحث المذكور ورجع إلى قراره رقم ( 76 ) الذي أصدره في الدورة الاستثنائية الرابعة ، المتضمن عدة مقترحات للاستفادة من اللحوم التي تكون في منى أيام الحج وهي :
1 - تطوير المسالخ الحالية لتستوعب أعدادا كبيرة من الذبائح ، وإنشاء مسالخ متعددة على مداخل ومخارج منى وفي أماكن متفرقة من الحرم بالقدر الذي يكفي مع استمرار تمكين الحجاج من مباشرة ذبح هداياهم ، إذا رغبوا في ذلك ، وأخذ ما يشاءون من لحومها .

2 - العمل على إيجاد المجالب المناسبة بجوار كل مسلخ ، ومنع الناس من بيع ما لا يجزئ شرعا ؛ من الهزيل والمريض ونحوهما .
3 - إيجاد البرادات الكافية لحفظ اللحوم الصالحة التي يستغني عنها الحجاج إلى أن توزع على فقراء الحرم حسب الإمكان .
4 - أن تقوم الجهات المعنية بتوعية الحجاج في داخل المملكة وخارجها في أحكام الهدي ، وما يجب أن يكون عليه ، وما يلزمهم نحوه .
5 - يجوز للحكومة تنظيم الاستفادة من سواقط الهدي التي تترك في المجازر مثل الجلد والعظام والصوف ، ونحو ذلك مما ترى فيه المصلحة لفقراء الحرم ، مما يتركه أهله رغبة عنه .
وبعد مناقشة الموضوع وتداول الرأي فيه رأى المجلس بالأكثرية إصدار قرار يوضح الحكم في نقل اللحوم من الحرم إلى خارجه ، حيث كان القرار السابق مختصا باللحوم التي تبقى فيه .
وبناء على هذا فإن ما يذبحه الحاج ثلاثة أنواع :
1 - هدي التمتع والقران ، فهذا يجوز النقل منه إلى خارج الحرم ، وقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم من لحوم هداياهم إلى المدينة ، ففي [ صحيح البخاري ] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : « كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى ، فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " كلوا وتزودوا " فأكلنا وتزودنا » (1) .
2 - ما يذبحه الحاج داخل الحرم جزاء لصيد ، أو فدية لإزالة أذى ، أو ارتكاب محظور أو ترك واجب - فهذا النوع لا يجوز نقل شيء منه ؛ لأنه كله لفقراء الحرم .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1632),صحيح مسلم الأضاحي (1972),سنن النسائي الضحايا (4426),مسند أحمد بن حنبل (3/317),موطأ مالك الضحايا (1046),سنن الدارمي الأضاحي (1961).

3 - ما ذبح خارج الحرم من فدية الجزاء ، أو هدي الإحصار ، أو غيرهما مما يسوغ ذبحه خارج الحرم - فهذا يوزع حيث ذبح ، ولا يمنع نقله من مكان ذبحه إلى مكان آخر .
وإن المجلس يوصي جميع الحجاج بأن يختاروا الجيد الطيب لهداياهم وذبائحهم ، وأن يعلموا أنه يجب عليهم توزيعها حسب ما شرع الله ورسوله ، ولا يجوز لهم ذبحها وتركها دون أن ينتفع بها أحد من المسلمين .
والله ولي التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد .
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة
. ... . ... عبد الرزاق عفيفي
عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن علي الحركان
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود متوقف ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان

(10)
حكم دخول الكافر المساجد
والاستعانة به في عمارتها
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
فبناء على البرقية الخطية العاجلة رقم 5334 \ 4 \ 2 وتاريخ 29 \ 6 \ 1400 هـ الواردة من وكيل وزارة الأشغال العامة بالنيابة ، والتي يطلب فيها موافاته إن كان هناك ما يمنع من الناحية الشرعية أن يقوم غير المسلمين بالاشتراك في تنفيذ مشاريع المساجد والإشراف عليها ، وبناء على موافقة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على عرض الموضوع على هيئة كبار العلماء في الدورة السادسة عشرة ؛ لما له من صفة العموم وذلك من اختصاص الهيئة .
ونظرا إلى الرغبة في إطلاع مجلس الهيئة على ما ذكره أهل العلم من حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها . . إلخ - جمعت اللجنة ما تيسر من النقول عن الجصاص ومحمد بن الحسن الشيباني والقرطبي وابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والبرسوي ومحمد رشيد رضا وابن حزم والشوكاني ، وفي هذه النقول مذاهب الفقهاء ، وخاصة الأئمة الأربعة وأدلتهم .

وفيما يلي ذكر النقول مرتبة على حسب ترتيب الناقلين لها . وبالله التوفيق .
1 - النقول عن الجصاص [ أحكام القرآن ] :
قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (1)
قال الجصاص : إطلاق اسم النجس على المشرك من جهة أن الشرك الذي يعتقده يجب اجتنابه ، كما يجب اجتناب النجاسات والأقذار ، فلذلك سماهم نجسا ، والنجاسة في الشرع تنصرف على وجهين :
أحدهما : نجاسة الأعيان ، والآخر : نجاسة الذنوب ، وكذلك الرجس والرجز ينصرف على هذين الوجهين في الشرع ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } (2) وقال في وصف المنافقين : { سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ } (3) فسماهم رجسا ، كما سمى المشركين نجسا ، وقد أفاد قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (4) منعهم من دخول المسجد إلا لعذر ، إذ كان علينا تطهير المساجد من الأنجاس ، وقوله تعالى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (5) قد تنازع معناه أهل العلم : فقال مالك والشافعي : لا يدخل المشرك المسجد الحرام ، قال مالك : ولا غيره من المساجد إلا لحاجة ، من نحو الذمي يدخل إلى
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) سورة التوبة الآية 95
(4) سورة التوبة الآية 28
(5) سورة التوبة الآية 28

الحاكم في المسجد ؛ للخصومة .
وقال الشافعي : يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة . وقال أصحابنا : يجوز للذمي دخول سائر المساجد ، وإنما معنى الآية على أحد وجهين : إما أن يكون النهي خاصا في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد ؛ لأنهم لم تكن لهم ذمة ، وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وهم مشركو العرب ، أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج ؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها أبو بكر ، فيما روى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة : أن أبا بكر بعثه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ، فنبذ أبو بكر إلى الناس فلم يحج في العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشرك ، فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (1) الآية ، وفي حديث علي حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ عنه ( سورة براءة ) نادى : ولا يحج بعد العام مشرك ، وفي ذلك دليل على المراد بقوله : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } (2) ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ } (3) وإنما كانت خشية العيلة ؛ لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحج ؛ لأنهم كانوا ينتفعون بالتجارات التي كانت تكون في مواسم الحج ، فدل ذلك على أن مراد الآية : الحج ، ويدل عليه اتفاق المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أفعال الحج ، وإن لم يكن في المسجد ، ولم يكن أهل الذمة ممنوعين من هذه المواضع - ثبت أن مراد الآية هو : الحج دون قرب المسجد لغير الحج ؛ لأنه إذا حمل على ذلك كان عموما
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) سورة التوبة الآية 28

في سائر المشركين ، وإذا حمل على دخول المسجد كان خاصا في ذلك دون قرب المسجد ، والذي في الآية : النهي عن قرب المسجد فغير جائز تخصيص المسجد به دون ما يقرب منه
وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص : « أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم قبة في المسجد فقالوا : يا رسول الله ، قوم أنجاس . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء ، إنما أنجاس الناس على أنفسهم »
وروى يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب : أن أبا سفيان كان يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر ، غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام ؛ لقول الله تعالى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } (1) قال أبو بكر : فأما وفد ثقيف فإنهم جاءوا بعد فتح مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والآية نزلت في السنة التي حج فيها أبو بكر ، وهي سنة تسع ، فأنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وأخبر أن كونهم أنجاسا لا يمنع دخولهم المسجد
وفي ذلك دلالة على أن نجاسة الكفر لا تمنع الكافر من دخول المسجد ، وأما أبو سفيان فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتجديد الهدنة ، وذلك قبل الفتح ، وكان أبو سفيان مشركا حينئذ ، والآية وإن كان نزولها بعد ذلك فإنما اقتضت النهي عن قرب المسجد الحرام ، ولم تقتض المنع من دخول الكفار سائر المسجد
فإن قيل : لا يجوز للكافر دخول الحرم إلا أن يكون عبدا أو صبيا أو نحو ذلك ؛ لقوله تعالى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } (2) ولما روى زيد بن يثيع عن علي رضي الله عنه : أنه نادى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل الحرم مشرك » ، قيل له : إن صح هذا اللفظ فالمراد : أن لا يدخله للحج
وقد روي في إخبار عن علي أنه نادى : أن لا يحج بعد
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سورة التوبة الآية 28

العام مشرك ، وكذلك في حديث أبي هريرة ، فثبت أن المراد : دخول الحرم للحج
وقد روى شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا ، إلا أن يكون عبدا أو أمة يدخله لحاجة » فأباح دخول العبد والأمة للحاجة لا للحج
وهذا يدل على أن الحر الذمي له دخوله لحاجة إذ لم يفرق أحد بين العبد والحر ، وإنما خص العبد والأمة - والله أعلم - بالذكر ؛ لأنهما لا يدخلانه في الأغلب الأعم للحج
وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } (1) إلا أن يكون عبدا أو واحدا من أهل الذمة ، فوقفه أبو الزبير على جابر ، وجائز أن يكونا صحيحين ، فيكون جابر قد رفعه تارة وأفتى بها أخرى
وروى ابن جريج عن عطاء قال : لا يدخل المسجد مشرك ، وتلا قوله تعالى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (2) قال عطاء : المسجد الحرام : الحرم كله ، قال ابن جريج : وقال لي عمرو بن دينار مثل ذلك
قال أبو بكر : والحرم كله يعبر عنه بالمسجد ، إذ كانت حرمته متعلقة بالمسجد ، وقال الله تعالى : { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } (3) والحرم كله مراد به ، وكذلك قوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (4) قد أريد به الحرم كله ؛ لأنه في أي الحرم
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) سورة الحج الآية 25
(4) سورة الحج الآية 33

نحر البدن أجزأه ، فجائز على هذا أن يكون المراد بقوله تعالى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } (1) الحرم كله للحج ، إذ كان أكثر أفعال المناسك متعلقا بالحرم والحرم كله في حكم المسجد لما وصفنا ، فعبر عن الحرم بالمسجد ، وعبر عن الحج بالحرم
ويدل على أن المراد بالمسجد هاهنا الحرم قوله تعالى : { إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } (2) ومعلوم أن ذلك كان بالحديبية ، وهي على شفير الحرم ، وذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم : أن بعضها من الحل وبعضها من الحرم ، فأطلق الله تعالى عليها أنها عند المسجد الحرام ، وإنما هي عند الحرم ، وإطلاقه تعالى اسم النجس على المشركين يقتضي اجتنابهم وترك مخالطتهم إذ كنا مأمورين باجتناب الأنجاس
وقوله تعالى : { بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (3) فإن قتادة ذكر أن المراد : العام الذي حج فيه أبو بكر الصديق فتلا علي ( سورة براءة ) وهو لتسع مضين من الهجرة ، وكان بعده حجة الوداع سنة عشر (4) .
قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } (5) عمارة المسجد تكون بمعنيين : أحدهما : زيارته والسكون فيه ، والآخر : ببنائه وتجديد ما استرم منه ؛ وذلك لأنه يقال : اعتمر إذا زار ومنه العمرة ؛ لأنها زيارة البيت ، وفلان من عمار المساجد إذا كان كثير المضي إليها والسكون
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سورة التوبة الآية 7
(3) سورة التوبة الآية 28
(4) [ أحكام القرآن ] للجصاص ( 3\87 - 89 ) ، المتوفى سنة 370 هـ . طبعة \ دار الكتاب العربي - بيروت .
(5) سورة التوبة الآية 17

فيها ، وفلان يعمر مجلس فلان إذا أكثر غشيانه له ، فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ، ومن بنائها ، وتولي مصالحها ، والقيام بها ؛ لانتظام اللفظ للأمرين (1) .
2 - النقول عن الشيباني [ الجامع شرح السير الكبير ] :
ذكر عن الزهري : أن أبا سفيان بن حرب كان يدخل المسجد في الهدنة وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } (2) الآية .
والمراد بالهدنة : الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة يوم الحديبية ، وقد جاء أبو سفيان إلى المدينة لتجديد العهد بعد ما نقضوا هم العهود ، وخشوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد لذلك ، فهذا دليل لنا على مالك رضي الله عنه فإنه يقول : لا يمكن المشرك من أن يدخل شيئا في المساجد
والدليل على ذلك : « أن وفد ثقيف لما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يضرب لهم قبة في المسجد فقيل : هم أنجاس . قال : " ليس على الأرض من نجاستهم شيء » .
ثم أخذ الشافعي رضي الله عنه بحديث الزهري فقال : يمنعون من دخول المسجد الحرام خاصة للآية . فأما عندنا فلا يمنعون من ذلك كما لا يمنعون من سائر المساجد ، ويستوي في ذلك الحربي والذمي ، وتأويل الآية : الدخول على الوجه الذي كانوا اعتادوا في الجاهلية ما روي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة .
__________
(1) [ أحكام القرآن ] للجصاص ( 4\278 ) المتوفى سنة 370 هـ .
(2) سورة التوبة الآية 28

والمراد : القرب من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد الحرام ، وبه نقول : إن ذلك ليس إليهم ولا يمكنون منه بحال (1) .
3 - النقول عن القرطبي [ الجامع لأحكام القرآن ] :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (2)
فيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (3) ابتداء وخبر ، واختلف العلماء في وصف المشرك بالنجس : فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما : لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل .
وقال ابن عباس وغيره : بل معنى الشرك هو الذي نجسه . قال الحسن البصري : من صافح مشركا فليتوضأ . والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم ، إلا ابن عبد الحكم فإنه قال : ليس بواجب ؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وبوجوب الغسل عليه
قال أبو ثور وأحمد : وأسقطه الشافعي وقال : أحب إلي أن يغتسل ونحوه لابن القاسم ، ولمالك قول : إنه لا يعرف الغسل ، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس ، وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال ، رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده .
« وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمامة يوما فأسلم ، فبعث به إلى حائط أبي طلحة ، فأمره أن يغتسل ، فاغتسل وصلى ركعتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حسن إسلام صاحبكم » (4) ، وأخرجه مسلم بمعناه ، وفيه : أن ثمامة لما من عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد
__________
(1) [ شرح السير الكبير ] لمحمد بن الحسن الشيباني ( 14\ 135 ) .
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) سورة التوبة الآية 28
(4) مسند أحمد بن حنبل (2/483).

فاغتسل ، وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر ، فإن كان إسلامه قبيل احتلامه فغسله مستحب ، ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة ، هذا قول علمائنا ، وهو تحصيل المذهب
وقد أجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهاره للشهادة بلسانه ، إذا اعتقد الإسلام بقلبه ، وهو قول ضعيف في النظر ، مخالف للأثر ، وذلك أن أحدا لا يكون بالنية مسلما دون القول ، هذا قول جماعة أهل السنة في الإيمان : إنه قول باللسان ، وتصديق بالقلب ، ويزكو بالعمل ، قال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (1) انتهى .
الثانية : قوله تعالى : { فَلَا يَقْرَبُوا } (2) نهي ؛ ولذلك حذفت منه النون { الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (3) هذا اللفظ يطلق على جميع الحرم ، وهو مذهب عطاء ؛ فإذا يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع ، فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ، ليسمع ما يقول ، ولو دخل مشرك الحرم مستورا ومات نبش قبره وأخرجت عظامه ، فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز
__________
(1) سورة فاطر الآية 10
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) سورة البقرة الآية 144

وأما جزيرة العرب وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها ، فقال مالك : يخرج من هذه المواضع كل من كان على غير الإسلام ، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين ، وكذلك قال الشافعي - رحمه الله - ، غير أنه استثنى من ذلك اليمن ، ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم ، ولا يدفنون فيها ويلجأون إلى الحل . انتهى .

الثالثة : واختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال : 1 - فقال أهل المدينة : الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد ، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ، ونزع في كتابه بهذه الآية ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } (1) ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها
وفي [ صحيح مسلم ] وغيره : « إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر » الحديث . والكافر لا يخلو عن ذلك . وقال صلى الله عليه وسلم : « لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب » (2) والكافر جنب ، وقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (3) فسماه الله تعالى نجسا ، فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا من طريق الحكم .
وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب ؛ لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم ، والحرمة موجودة في المسجد ، يقال : رجل نجس ، وامرأة نجس ، ورجلان نجس ، وامرأتان نجس ، ورجال نجس ، ونساء نجس ، لا يثنى ولا يجمع ؛ لأنه مصدر
فأما النجس ( بكسر النون وجزم الجيم ) فلا يقال إلا إذا قيل معه : رجس ، فإذا أفرد قيل : نجس ( بفتح النون وكسر الجيم ) ونجس ( بضم الجيم ) ، وقال الشافعي - رحمه الله - : الآية عامة في سائر المشركين ، خاصة في المسجد الحرام ، ولا يمنعون من دخول غيره ، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد .
قال ابن العربي : وهذا جمود منه على الظاهر ؛ لأن قوله عز وجل : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (4) تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة . فإن قيل : فقد ربط
__________
(1) سورة النور الآية 36
(2) سنن أبو داود الطهارة (232).
(3) سورة التوبة الآية 28
(4) سورة التوبة الآية 28

النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة في المسجد وهو مشرك .
قيل له : أجاب علماؤنا عن هذا الحديث - وإن كان صحيحا - بأجوبة :
أحدها : أنه كان متقدما على نزول الآية .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه فلذلك ربطه .
الثالث : أن ذلك قضية عين فلا ينبغي أن تدفع بها الأدلة التي ذكرناها ؛ لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية ، وقد يمكن أن يقال : إنما ربطه في المسجد ، لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها ، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد ، فيستأنس بذلك ويسلم ، وكذلك كان .
ويمكن أن يقال : إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد ، والله أعلم . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره ، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان ، وهذا قول يرده كل ما ذكرناه من الآية وغيرها .
قال الكيا الطبري : ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة ، وقال الشافعي : تعتبر الحاجة . ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام .
وقال عطاء بن أبي رباح : الحرم كله قبلة ومسجد ، فينبغي أن يمنعوا من دخول الحرم ؛ لقوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (1) وإنما رفع من بيت أم هانئ
وقال قتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية ، أو عبدا كافرا لمسلم ، وروى إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا يحيى بن عبد
__________
(1) سورة الإسراء الآية 1

الحميد قال : حدثنا شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقرب المسجد مشرك ، إلا أن يكون عبدا أو أمة فيدخله لحاجة » ، وبهذا قال جابر بن عبد الله ، فإنه قال : العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام ، وهو مخصوص في العبد والأمة (1) .
4 - النقول من ابن كثير [ تفسير القرآن العظيم ] :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (2)
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين ، الذين هم نجس دينا عن المسجد الحرام ، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية ، وكان نزولها في سنة تسع ؛ ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بصحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ ، وأمره أن ينادي في المشركين : « أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان » (3) فأتم الله ذلك ، وحكم به شرعا وقدرا
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج : أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (4) إلا أن يكون عبدا ، أو أحدا من أهل الذمة ، وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا شريك عن الأشعث - يعني : ابن سوار - عن الحسن عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم » (5) تفرد به الإمام أحمد مرفوعا ، والموقوف أصح إسنادا
وقال الإمام أبو
__________
(1) [ تفسير القرطبي ] ( 8\ 103 ـ 106 ) ، المتوفى سنة 671 هـ .
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) صحيح البخاري الصلاة (362),صحيح مسلم الحج (1347),سنن النسائي مناسك الحج (2957),سنن أبو داود المناسك (1946),مسند أحمد بن حنبل (2/299),سنن الدارمي الصلاة (1430).
(4) سورة التوبة الآية 28
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/392).

عمرو الأوزاعي : كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، وأتبع نهيه قول الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (1)
وقال عطاء : الحرم كله مسجد ؛ لقوله تعالى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (2) ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك ، كما ورد في الصحيح « المؤمن لا ينجس » (3) ، وأما نجاسة بدنه : فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم ، وقال أشعث ، عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ . رواه ابن جرير (4) .
5 - قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في [ الفتاوى ] :
وأما إذا كان دخله ذمي لمصلحة فهذا فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد - رحمه الله - : أحدهما : لا يجوز ، وهو مذهب مالك ؛ لأن ذلك هو الذي استقر عليه عمل الصحابة . والثاني : يجوز وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ، وفي اشتراط إذن المسلم وجهان في مذهب أحمد وغيره (5) .
6 - قدوم وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق : وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالمدينة ، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال : « لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) صحيح البخاري الغسل (281),صحيح مسلم الحيض (371),سنن الترمذي الطهارة (121),سنن النسائي الطهارة (269),سنن أبو داود الطهارة (231),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534),مسند أحمد بن حنبل (2/235).
(4) [ تفسير ابن كثير ] ( 2\346 ) ، المتوفى سنة 774 هـ .
(5) [ الفتاوى ] لشيخ الإسلام ( 22\194 ) .

مسجده فأراد الناس منعهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوهم " فاستقبلوا الشرق فصلوا صلاتهم » (1) .
قال ابن القيم في [ زاد المعاد ] : إنه يؤخذ من هذه القصة أمور منها : جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين (2) .
7 - قال البرسوي في تفسيره المسمى بـ [ تفسير روح البيان ] : قال الواحدي : دلت الآية على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين . ويمنع من دخول المساجد ، فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير وإن دخل بإذنه لم يعزر ، والأولى تعظيم المساجد ومنعها منهم (3) .
والآية هي قوله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } (4)
وقال البرسوي : واعلم أن عمارة المساجد تعم أنواعا منها البناء وتجديد ما تهدم منها (5) .
8 - قال رضا في [ تفسير المنار ] : وقد اختلف الفقهاء في دخول غير المشركين من الكفار المسجد الحرام وغيره من المساجد وبلاد الإسلام : وقد لخص أقوالهم البغوي في تفسير الآية ، ونقله عنه الخازن ببعض
__________
(1) [ زاد المعاد ] ( 3\79 ) , لابن القيم الجوزية المتوفى سنة 752 هـ .
(2) [ زاد المعاد ] ( 3\79 ) , لابن القيم الجوزية المتوفى سنة 752 هـ .
(3) تفسير البرسوي المسمى [ تفسير روح البيان ] ( 3\398 ) , المتوفى سنة 1137 هـ .
(4) سورة التوبة الآية 18
(5) تفسير البرسوي المسمى [ تفسير روح البيان ] ( 3\398 ) , المتوفى سنة 1137 هـ .

تصرف وبغير عزو ، فقال : وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام :
أحدها : الحرم ، فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا ؛ لظاهر هذه الآية ، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك ، فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم ، بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم .
الثاني : من بلاد الإسلام الحجاز ، وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة قيل : نصفها تهامي ونصفها حجازي ، وقيل : كلها حجازي .
وقال الكلبي : حد الحجاز ما بين جبلي طيئ وطريق العراق ، سمي الحجاز ؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد ، وقيل : لأنه حجز بين نجد والسراة ، وقيل : لأنه حجز بين نجد وتهامة والشام .
قال الحربي : وتبوك من الحجاز ، فيجوز للكافر دخول أرض الحجاز بالإذن ، ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام .

/ 33 روى مسلم / 33 عن ابن عمر ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، فلا أترك فيها إلا مسلما » (1) زاد فيه رواية لغير مسلم وأوصى فقال : « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب » (2) فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن يقدم على تجارة ثلاثا .
عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يجتمع دينان في جزيرة العرب » (3) أخرجه مالك في [ الموطأ ] مرسلا .
وروى مسلم ، عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1767),سنن الترمذي السير (1607),سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3030),مسند أحمد بن حنبل (1/29).
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2888),صحيح مسلم الوصية (1637),مسند أحمد بن حنبل (1/222).
(3) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007),موطأ مالك الجامع (1651).

جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم » (1) قال سعيد بن عبد العزيز : جزيرة العرب : ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر ، وقال غيره : حد جزيرة العرب : من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا .
الثالث : سائر بلاد الإسلام فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة ، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن المسلم .
وقد ذكرنا الأحاديث الصحيحة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين وأهل الكتاب من جزيرة العرب ، وأن لا يبقى فيها دينان مع بيان حكمة ذلك في خاتمة الكلام على معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في السلم والحرب ، وإجلائهم من جواره في المدينة ، وإجلاء عمر ليهود خيبر وغيرهم ونصارى نجران ، عملا بوصيته في مرض موته صلى الله عليه وسلم (2) .
9 - قال ابن حزم في [ المحلى ] : ودخول المشركين في جميع المساجد جائز . حاشا حرم مكة كله - المسجد وغيره - فلا يحل البتة أن يدخله كافر .
وهو قول الشافعي وأبي سليمان .
وقال أبو حنيفة : لا بأس أن يدخله اليهودي والنصراني ومنع منه سائر الأديان .
وكره مالك دخول أحد من الكفار في شيء من المساجد .
قال الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (3) الآية .
__________
(1) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2812),سنن الترمذي البر والصلة (1937),مسند أحمد بن حنبل (3/313).
(2) [ تفسير المنار ] لمحمد رشيد رضا ( 10\ 275 - 277 ) .
(3) سورة التوبة الآية 28

قال علي : فخص الله المسجد الحرام ، فلا يجوز تعديه إلى غيره بغير نص وقد كان المحرم قبل بنيان المسجد وقد زيد فيه .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » (1) .
فصح أن حرم مكة هو المسجد الحرام .
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، ثنا إبراهيم بن أحمد ، ثنا الغريري ، ثنا البخاري ، ثنا عبد الله بن يوسف ، ثنا الليث ، ثنا سعيد بن أبي سعيد ، أنه سمع أبا هريرة قال : « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : " ما عندك يا ثمامة ؟ " قال : عندي خير يا محمد ، إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ؟ » (2) ذكر الحديث .
وأنه عليه السلام أمر بإطلاقه في اليوم الثالث ، « فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، يا محمد ، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلي » (3) . . . وذكر الحديث . . . فنص قول مالك .
وأما قول أبي حنيفة فإنه قال : إن الله تعالى قد فرق بين المشركين وسائر الكفار فقال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ } (4)
__________
(1) صحيح البخاري التيمم (328),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن النسائي المساجد (736),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة (1389).
(2) صحيح البخاري المغازي (4114),صحيح مسلم الجهاد والسير (1764),سنن أبو داود الجهاد (2679),مسند أحمد بن حنبل (2/452).
(3) صحيح البخاري المغازي (4114),صحيح مسلم الجهاد والسير (1764),سنن النسائي الطهارة (189),سنن أبو داود الجهاد (2679),مسند أحمد بن حنبل (2/452).
(4) سورة البينة الآية 1

وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } (1)
قال : والمشرك هو من جعل لله شريكا ، لا من لم يجعل له شريكا . قال علي : لا صحة له غير ما ذكرنا .
فأما ما تعلق في الآيتين فلا صحة له فيهما ؛ لأن الله تعالى قال : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } (2) والرمان من الفاكهة .
وقال تعالى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } (3) وهما من الملائكة .
وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } (4) وهؤلاء من النبيين (5) .
10 - قال الإمام الشوكاني في [ نيل الأوطار ] :
قوله : « إن المسلم لا ينجس » (6) تمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر ، وحكاه في [ البحر ] عن الهادي والقاسم والناصر ومالك ، فقالوا : إن الكافر نجس عين ، وقووا ذلك بقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (7)
وأجاب عن ذلك الجمهور : بأن المراد منه : أن المسلم طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة بخلاف المشرك ؛ لعدم تحفظه عن النجاسة ، وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار ، وحجتهم على
__________
(1) سورة الحج الآية 17
(2) سورة الرحمن الآية 68
(3) سورة البقرة الآية 98
(4) سورة الأحزاب الآية 7
(5) ابن حزم [ المحلى ] ( 4\ 245 - 247 ) ، المتوفى سنة 456 هـ .
(6) صحيح البخاري الغسل (279),صحيح مسلم الحيض (371),سنن الترمذي الطهارة (121),سنن النسائي الطهارة (269),سنن أبو داود الطهارة (231),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534),مسند أحمد بن حنبل (2/471).
(7) سورة التوبة الآية 28

صحة هذا التأويل : أن الله أباح نساء أهل الكتاب ، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن ، ومع ذلك فلا يجب من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليهم من غسل المسلمة
ومن جملة ما استدل به القائلون بنجاسة الكافر : حديث إنزاله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف المسجد وتقريره لقول الصحابة : قوم أنجاس لما رأوه أنزلهم المسجد ، وقوله لأبي ثعلبة لما قال له : « يا رسول الله ، إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم ؟ قال : " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها » (1) وسيأتي في باب آنية الكفار .
وأجاب الجمهور عن حديث إنزال وفد ثقيف : بأنه حجة عليهم لا لهم ؛ لأن قوله : « ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء ، إنما أنجاس القوم على أنفسهم » ، بعد قول الصحابة : قوم أنجاس صريح في نفي النجاسة الحسية التي هي محل نزاع ، ودليل على أن المراد نجاسة الاعتقاد والاستقذار .
وعن حديث أبي ثعلبة بأن الأمر بغسل الآنية ليس لتلوثها برطوباتهم ، بل لطبخهم الخنزير وشربهم الخمر فيها ، يدل على ذلك ما عند أحمد وأبي داود من حديث أبي ثعلبة أيضا بلفظ : « إن أرضنا أرض أهل كتاب ، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم » (2) ؟ وسيأتي .
ومن أجوبة الجمهور عن الآية ومفهوم حديث الباب بأن ذلك تنفير عن الكفار وإهانة لهم ، وهذا وإن كان مجازا فقرينته ما ثبت في [ الصحيحين ] من « أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة » ، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد ، وأكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر ، وأكل من الجبن المجلوب من بلاد النصارى ، كما أخرجه أحمد وأبو داود من
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5161),صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930),سنن ابن ماجه الصيد (3207),سنن الدارمي السير (2499).
(2) سنن أبو داود الأطعمة (3839),مسند أحمد بن حنبل (4/194).

حديث ابن عمر ، وأكل من خبز الشعير والإهالة لما دعاه إلى ذلك يهودي ، وسيأتي في باب آنية الكفار ، وما سلف من مباشرة الكتابيات والإجماع على جواز مباشرة المسبية قبل إسلامها ، وتحليل طعام أهل الكتاب ونسائهم بآية المائدة ، وهي آخر ما نزل ، وإطعامه صلى الله عليه وسلم وأصحابه للوفد من الكفار من دون غسل للآنية ولا أمر به ، ولم ينقل توقي رطوبات الكفار عن السلف الصالح ، ولو توقوها لشاع .
قال ابن عبد السلام : ليس من التقشف أن يقول : أشتري من سمن المسلم لا من سمن الكافر ؛ لأن الصحابة لم يلتفتوا إلى ذلك ، وقد زعم المقبلي في [ المنار ] : أن الاستدلال في الآية المذكورة على نجاسة الكافر وهم ؛ لأنه حمل لكلام الله ورسوله على اصطلاح حادث ، وبين النجس في اللغة وبين النجس في عرف المتشرعة عموم وخصوص من وجه ، فالأعمال السيئة نجسة لغة لا عرفا ، والخمر نجس عرفا ، وهو أحد الأطيبين عند أهل اللغة ، والعذرة نجس في العرفين فلا دليل في الآية . انتهى .
ولا يخفاك أن مجرد تخالف اللغة والاصطلاح في هذه الأفراد لا يستلزم عدم صحة الاستدلال بالآية على المطلوب ، والذي في كتب اللغة : أن النجس ضد الطاهر . قال في [ القاموس ] : النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك ، وككتف وعضد ضد الطاهر . انتهى (1) .
هذا ما تيسر إيراده من النقول ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه . .
__________
(1) [ نيل الأوطار ] للشوكاني ( 1\ 25 ، 26 ) ، المتوفى سنة 1255 هـ .

قرار هيئة كبار العلماء
رقم ( 78 ) وتاريخ 21 \10 \1400 هـ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من الثاني عشر من شهر شوال حسب تقويم أم القرى عام 1400 هـ . حتى الحادي والعشرين منه - نظر المجلس في حكم دخول الكفار مساجد المسلمين والاستعانة بهم في عمارتها . . . بناء على البرقية الخطية الواردة لسماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من سعادة وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان لشؤون الأشغال العامة بالنيابة برقم 5334 / 2 وتاريخ 29 / 6 / 1400 هـ ونصها ما يلي :
( نفيدكم أن أحد المقاولين قد تقدم إلينا لاعتماد المهندس المنفذ من قبله لأحد المساجد ؛ ونظرا لأن المهندس المذكور مسيحي الديانة ، فإننا نأمل موافاتنا إن كان هناك ما يمنع من الناحية الشرعية أن يقوم غير المسلمين بالاشتراك في تنفيذ مشاريع المساجد والإشراف عليها ) اهـ .
ولما اطلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع ، واستمع إلى كلام أهل العلم فيه - رأى بالإجماع أنه لا ينبغي أن يتولى الكفار تعمير المساجد حيث يوجد من يقوم بذلك من المسلمين ، وأن لا يستقدموا لهذا الغرض أو غيره ؛ تنفيذا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لا يجتمع في الجزيرة دينان ، وعملا بما يحفظ لهذه البلاد

دينها وأمنها واستقرارها، وإبعادا لها عن الخطر الذي أصاب البلدان المجاورة بسبب إقامة الكفار فيها، وتوليهم لكثير من أمورها؛ ولأن الكفار لا يؤمنون من الغش عند تصميم مخططات المساجد أو تنفيذها- فقد يصمموها على هيئة قريبة أو مشابهة لهيئة الكنائس، كما حدث من بعضهم، وقد يغشون كذلك في التنفيذ والبناء؛ لأنهم أعداء لهذا الدين، ولمن يدين به من المسلمين.
ويوصي المجلس بأن ينبه على الجهات الحكومية في وزارة الأشغال ووزارة الحج والأوقاف وغيرها ممن يتولى عمارة المساجد والإشراف عليها - أن تلاحظ ذلك بدقة وعناية، وأن تشترط في كل العقود التي تبرمها لإقامة المساجد مع المقاولين: أن لا يستعينوا في التصميم أو التنفيذ بأحد من غير المسلمين.
والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
. ... . ... رئيس الدورة
. ... . ... عبد الرزاق عفيفي
عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن علي الحركان
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان

(11) حكم إقامة المسافر
التي تقطع حكم السفر
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية

حكم إقامة المسافر التي تقطع حكم السفر
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وآله وصحبه وبعد:
فبناء على محضر مجلس هيئة كبار العلماء رقم (10) المتخذ في الدورة الخامس الاستثنائية المنعقدة بمدينة الرياض في شهر ربيع أول عام 1401 هـ المتضمن طلب جمع ما تيسر من أقوال العلماء في حكم إقامة المسافر التي تقطع حكم السفر .
أعدت اللجنة الدائمة بحثا مختصرا في الموضوع شمل نقولا عن بعض العلماء. وفيما يلي تلك النقول. . . والله المستعان
:

1 - قال البخاري رحمه الله في [صحيحه]: (باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر )
1080 - حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة عن عاصم وحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:. « أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا » (1)
(الحديث 1080- طرفاه في: 4298، 4299).
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1030),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).

1081 - حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال: سمعت أنسا يقول: « خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة . قلت: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا » (1) .
(الحديث 1081 - طرفه في: 4297) وقال ابن حجر رحمه الله في شرح ذلك (2) : ( باب ما جاء في التقصير) تقول: قصرت الصلاة بفتحتين مخففا قصرا، وقصرتها بالتشديد تقصيرا، وأقصرتها إقصارا والأول أشهر في الاستعمال، والمراد به تخفيف الرباعية إلى ركعتين، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن لا تقصير في صلاة الصبح ولا في صلاة المغرب، وقال النووي : ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح .
وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد، وبعضهم كونه سفر طاعة، وعن أبي حنيفة والثوري في كل سفر سواء كان طاعة أو معصية، قوله: ( وكم يقيم حتى يقصر ) في هذه الترجمة إشكال؛ لأن الإقامة ليست سببا للقصر، ولا القصر غاية للإقامة، قاله الكرماني وأجاب بأن عدد الأيام المذكورة سبب لمعرفة جواز القصر فيها ومنع الزيادة عليها، وأجاب غيره بأن المعنى: وكم إقامته المغياة بالقصر؟ وحاصله كم يقيم مقصرا؟ وقيل: المراد كم يقصر حتى يقيم؟ أي: (حتى) يسمى مقيما فانقلب اللفظ، أو حتى هنا بمعنى حين، أي: كم يقيم حين يقصر؟ وقيل: فاعل يقيم هو المسافر،
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/282),سنن الدارمي الصلاة (1509).
(2) [فتح الباري] (2\561- 563).

والمراد إقامته في بلد ما غايتها التي إذا حصلت يقصر. قوله: (عن عاصم) هو ابن سليمان، وحصين بالضم هو ابن عبد الرحمن . قوله: (تسعة عشر) أي: يوما بليلته، زاد في [المغازي] من وجه آخر عن عاصم وحده ( بمكة )، وكذا رواه ابن المنذر عن طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة، وأخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ (سبعة عشر) بتقديم السين، وكذا أخرجه من طريق حفص بن غياث عن عاصم قال: وقال عباد بن منصور عن عكرمة (تسع عشرة) كذا ذكرها معلقة وقد وصلها البيهقي . ولأبي داود أيضا من حديث ( عمران بن حصين ) « غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، » (1) وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس « أقام رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمسة عشر يقصر الصلاة، » (2) وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال: تسع عشرة عد يومي الدخول الخروج، ومن قال: سبع عشرة حذفهما، ومن قال: ثماني عشرة عد أحدهما.
وأما رواية (خمسة عشر) فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبعة عشر، فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمسة عشر؛ لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا. وأخذ
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (545),سنن أبو داود الصلاة (1229).
(2) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231).

الشافعي بحديث عمران بن حصين لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه في دخول يومي الدخول والخروج فيها أولا، وحجته حديث أنس الذي يليه.
قوله: « فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا » (1) ) ظاهره أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك المراد، وقد صرح أبو يعلى عن شيبان عن أبي عوانة في هذا الحديث بالمراد، ولفظه: ( « إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر » ) ويؤيده صدر الحديث وهو قوله: ( « أقام » (2) ) وللترمذي من وجه آخر عن عاصم « فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا » (3) ).
قوله في حديث أنس : « خرجنا من المدينة في رواية شعبة عن يحيى بن أبي إسحاق عند مسلم إلى الحج » (4) )، قوله: ( « فكان يصلي ركعتين ركعتين » (5) ) في رواية البيهقي من طريق علي بن عاصم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس : « إلا في المغرب » ، قوله: « أقمنا بها عشرا » (6) )، لا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور؛ لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة وحديث أنس في حجة الوداع، وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس « قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة » (7) الحديث.
ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن؛ فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي : إن المسافر إذا أقام ببلده قصر أربعة أيام، وقال أحمد : إحدى وعشرين صلاة. وأما قول ابن رشيد : أراد
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1030),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
(2) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231).
(3) سنن الترمذي الجمعة (549).
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693).
(5) صحيح البخاري الجمعة (1031).
(6) صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/282).
(7) صحيح البخاري الجمعة (1035),سنن النسائي مناسك الحج (2870),مسند أحمد بن حنبل (1/290).

البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس؛ لأن إقامة عشر داخل في إقامة تسع عشرة- فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين- ففيه نظر؛ لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفان، فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة، بل كان مترددا متى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل، والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس لما كان الأصل في المقيم الإتمام. فلما لم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر.
وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال كثيرة كما سيأتي، وفيه: أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلد على ما جاورها وقرب منها؛ لأن منى وعرفة ليستا من مكة، أما عرفة فلأنها خارج الحرم فليست من مكة قطعا، وأما منى ففيها احتمال، والظاهر أنها ليست مكة إلا إن قلنا: إن اسم مكة يشمل جميع الحرم، قال أحمد بن حنبل : ليس لحديث أنس وجه إلا أنه حسب أيام إقامته صلى الله عليه وسلم في حجته منذ دخل مكة إلى أن خرج منها لا وجه له إلا هذا. وقال المحب الطبري : أطلق على ذلك إقامة بمكة؛ لأن هذه المواضع مواضع النسك وهي في حكم التابع لمكة؛ لأنها المقصود بالأصالة لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد . والله أعلم. وزعم الطحاوي : أن الشافعي لم يسبق إلى أن المسافر يصير بنية إقامته أربعة أيام مقيما، وقد قال أحمد نحو ما قال الشافعي، وهي رواية عن مالك .

2 - قال النووي رحمه الله في شرحه للأحاديث الواردة في [ صحيح مسلم ]: في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، قولها: ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر).
اختلف العلماء في القصر في السفر : فقال الشافعي ومالك بن أنس وأكثر العلماء: يجوز القصر والإتمام، والقصر أفضل، ولنا قول: أن الإتمام أفضل، ووجه أنهما سواء، والصحيح المشهور: أن القصر أفضل، وقال أبو حنيفة وكثيرون: القصر واجب ولا يجوز الإتمام، ويحتجون بهذا الحديث وبأن أكثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان القصر واحتج الشافعي وموافقوه بالأحاديث المشهورة في [ صحيح مسلم ] وغيره: « أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم القاصر، ومنهم المتمم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض، » (1) وبأن عثمان كان يتم، وكذلك عائشة وغيرها، وهو ظاهر قول الله عز وجل: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } (2) وهذا يقتضي رفع الجناح والإباحة.
وأما حديث « فرضت الصلاة ركعتين » (3) فمعناه فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار وثبتت دلائل جواز الإتمام فوجب المصير إليها والجمع بين دلائل الشرع قوله: (فقلت لعروة : ما بال عائشة تتم في
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1117),سنن الترمذي الصوم (713),سنن النسائي الصيام (2312),مسند أحمد بن حنبل (3/45).
(2) سورة النساء الآية 101
(3) صحيح البخاري المناقب (3720),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685),سنن النسائي الصلاة (455),سنن أبو داود الصلاة (1198),مسند أحمد بن حنبل (6/265),موطأ مالك النداء للصلاة (337),سنن الدارمي الصلاة (1509).

السفر فقال: إنها تأولت كما تأول عثمان ) اختلف العلماء في تأويلهما: فالصحيح الذي عليه المحققون: أنهما رأيا القصر جائزا والإتمام جائزا فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام، وقيل: لأن عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم فكأنهما في منازلهما. وأبطله المحققون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك منهما وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقيل: لأن عثمان تأهل بمكة . وأبطلوه بأن النبي صلى الله عليه وسلم سافر بأزواجه وقصر، وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه؛ لئلا يظنوا أن فرض الصلاة ركعتان أبدا حضرا وسفرا، وأبطلوه بأن هذا المعنى كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان، وقيل: لأن عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج. وأبطلوه بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث، وقيل: كان لعثمان أرض بمنى . أبطلوه بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة، والصواب: الأول، ثم مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجمهور: أنه يجوز القصر في كل سفر مباح، وشرط بعض السلف كونه سفر طاعة، قال الشافعي ومالك وأحمد والأكثرون: ولا يجوز في سفر المعصية وجوزه أبو حنيفة والثوري، ثم قال الشافعي ومالك وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: لا يجوز القصر إلا في مسيرة مرحلتين قاصدتين، وهي ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربع وعشرون أصبعا معترضة معتدلة، والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات، وقال أبو حنيفة والكوفيون : لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل، وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة، وقال داود وأهل الظاهر: يجوز في السفر

الطويل والقصير حتى لو كان ثلاثة أميال قصر. قوله: (عن عبد الله بن بابيه ) هو بباء موحدة ثم ألف موحدة أخرى مفتوحة ثم مثناة تحت، ويقال فيه: ابن باباه وابن بابي بكسر الباء الثانية. قوله: « عجبت ما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم، فاقبلوا صدقته » (1) هكذا هو في بعض الأصول: « ما عجبت، » (2) وفي بعضها: « عجبت مما عجبت، » (3) وهو المشهور المعروف، وفيه: جواز قول: تصدق الله علينا، واللهم تصدق علينا، وقد كرهه بعض السلف وهو غلط ظاهر، وقد أوضحته في أواخر كتاب [الأذكار]، وفيه: جواز القصر في غير الخوف وفيه: أن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل شيئا يشكل عليه يسأله عنه. والله أعلم).
قوله: في الحضر ركعة، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد جميعا عن القاسم بن مالك قال عمرو : حدثنا قاسم بن مالك المزني حدثنا أيوب بن عائذ الطائي عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال: « إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعا وفي الخوف ركعة » (4) .
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس : « كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم » (5) (6) .
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686),سنن الترمذي تفسير القرآن (3034),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433),سنن أبو داود الصلاة (1199),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065),مسند أحمد بن حنبل (1/36),سنن الدارمي الصلاة (1505).
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686),سنن الترمذي تفسير القرآن (3034),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433),سنن أبو داود الصلاة (1199),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065),مسند أحمد بن حنبل (1/36),سنن الدارمي الصلاة (1505).
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686),سنن الترمذي تفسير القرآن (3034),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433),سنن أبو داود الصلاة (1199),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065),مسند أحمد بن حنبل (1/36),سنن الدارمي الصلاة (1505).
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (687),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1442),سنن أبو داود الصلاة (1247),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1068).
(5) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (688),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1444),مسند أحمد بن حنبل (1/337).
(6) [شرح النووي على صحيح مسلم] (5\194-197).

3 - قال الترمذي رحمه الله: باب ما جاء في كم تقصر الصلاة؟
حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا هشيم، أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي، أخبرنا أنس بن مالك قال: « خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين، قال: قلت لأنس : كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ؟ قال: عشرا » (1) .
وفي الباب عن ابن عباس وجابر .
قال أبو عيسى : حديث أنس حديث حسن صحيح.
وقد روي عن ابن عباس « عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين، » (2) قال ابن عباس : « فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة » (3) .
وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة.
وروي عن ابن عمر أنه قال: من أقام خمسة عشر يوما أتم الصلاة.
وروي عنه ثنتي عشرة.
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقام أربعا صلى أربعا.
وروى ذلك عنه قتادة وعطاء الخراساني وروى عنه داود بن أبي هند خلاف هذا.
واختلف أهل العلم بعد في ذلك:
فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة، وقالوا: إذا أجمع على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة.
وقال الأوزاعي : إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة.
وقال مالك والشافعي وأحمد : إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),سنن الدارمي الصلاة (1510).
(2) سنن الترمذي الجمعة (548).
(3) صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549).

وأما إسحاق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس، قال: لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أجمع على إقامة تسع عشرة أتم الصلاة.
ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون.
حدثنا هناد أخبرنا أبو معاوية عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال: « سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا فصلى تسعة عشر يوما ركعتين ركعتين، قال ابن عباس : فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة ركعتين ركعتين، فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا » (1) . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح.
وقال صاحب [تحفة الأحوذي] في شرح ذلك.
[باب ما جاء في كم تقصر الصلاة)؟!
يريد بيان المدة التي إذا أراد المسافر الإقامة في موضع إلى تلك المدة يتم الصلاة، وإذا أراد الإقامة إلى أقل منها يقصر. وقد عقد البخاري في صحيحه بابا بلفظ: (باب في كم تقصر الصلاة). لكنه أراد بيان المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها جاز له القصر ولا يجوز له في أقل منها . قوله: « خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ) أي: متوجهين إلى مكة لحجة الوداع (فصلى ركعتين » (2) أي: في الرباعية، وفي رواية الصحيحين على ما في المشكاة. « فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة » (3) (قال: عشرا) أي: أقام بمكة عشرا، قال القاري في [المرقاة]: الحديث بظاهره ينافي مذهب الشافعي من أنه إذا أقام أربعة أيام يجب
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
(2) صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/190),سنن الدارمي الصلاة (1509).
(3) صحيح البخاري الجمعة (1031),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077).

الإتمام . انتهى.
قال صاحب [تحفة الأحوذي] رحمه الله في شرحه لذلك:
قلت: قد نقل القاري عن ابن حجر الهيثمي ما لفظه: لم يقم العشر التي أقامها لحجة الوداع بموضع واحد؛ لأنه دخلها يوم الأحد وخرج منها صبيحة الخميس، فأقام بمنى، والجمعة بنمرة وعرفات، ثم عاد السبت بمنى لقضاء نسكه، ثم بمكة لطواف الإفاضة، ثم بمنى يومه فأقام بها بقيته، والأحد والاثنين والثلاثاء إلى الزوال، ثم نفر فنزل بالمحصب وطاف في ليلته للوداع، ثم رحل قبل صلاة الصبح. فلتفرق إقامته قصر في الكل، وبهذا أخذنا أن للمسافر إذا دخل محلا أن يقصر فيه ما لم يصر مقيما أو ينو إقامة أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج أو يقيمهما، واستدلوا لذلك بخبر [ الصحيحين ]، « يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا، » (1) وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكة ومساكنة الكفار كما روياه أيضا . فالإذن في الثلاثة يدل على بقاء حكم السفر فيها بخلاف الأربعة. انتهى.
وقال الحافظ في [فتح الباري]: « قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة » (2) كما في حديث ابن عباس، ولاشك أنه خرج صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس رضي الله عنه، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي : إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، وقال أحمد : إحدى وعشرين صلاة. انتهى كلام الحافظ .
قوله: (وفي الباب عن ابن عباس وجابر ) أما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه، وأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1511).
(2) صحيح البخاري الجمعة (1035),سنن النسائي مناسك الحج (2870),مسند أحمد بن حنبل (1/290).

حديث جابر فأخرجه أبو داود .
قوله: (حديث أنس حديث حسن صحيح) وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .
قوله: (وقد روي عن ابن عباس « عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره » (1) أي: في فتح مكة، وأما حديث أنس المتقدم فكان في حجة الوداع، قاله الحافظ ابن حجر، وحديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري في [صحيحه] (تسع عشرة يصلي ركعتين)، وفي لفظ للبخاري تسعة عشر يوما، وفي رواية لأبي داود عن ابن عباس سبع عشرة، وفي أخرى له عنه خمس عشرة، وفي حديث عمران بن حصين . « شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد، صلوا أربعا، فإنا قوم سفر » (2) رواه أبو داود . (قال ابن عباس : فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة)، هذا هو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما، ومنه أخذ إسحاق بن راهويه ورآه أقوى المذاهب.
(وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة) أخرجه عبد الرزاق بلفظ: إذا أقمت بأرض عشرا فأتمم. فإن قلت: أخرج اليوم أو غدا فصل ركعتين، وإن أقمت شهرا (وروي عن ابن عمر أنه قال: من أقام خمسة عشر يوما أتم الصلاة) أخرجه محمد بن الحسن في كتاب الآثار، أخبرنا أبو حنيفة حدثنا موسى بن مسلم عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: إذا كنت مسافرا فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يوما فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فاقصر الصلاة، وأخرج الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (548).
(2) سنن الترمذي الجمعة (545),سنن أبو داود الصلاة (1229).

خمسة عشر يوما أتم الصلاة، وروي عنه ثنتي عشرة، أخرجه عبد الرزاق . كذا في [شرح الترمذي ] لسراج أحمد السرهندي .
(وروى عنه داود بن أبي هند خلاف هذا) روى محمد بن الحسن في الحجج عن سعيد بن المسيب قال: إذا قدمت بلدة فأقمت خمسة عشر يوما فأتم الصلاة، (واختلف أهل العلم بعد) بالبناء على الضم، أي: بعد ذلك (في ذلك) أي: فيما ذكر من مدة الإقامة (فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة، وقالوا: إذا أجمع) أي: نوى (على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة) وهو قول أبي حنيفة، واستدلوا بما رواه أبو داود من طريق محمد ابن اس حاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: « أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح » (1) خمس عشرة يقصر الصلاة، قال المنذري : وأخرجه ابن ماجه وأخرجه النسائي بنحوه وفي إسناده محمد بن إسحاق واختلف على ابن إسحاق فيه فروى عنه مسندا ومرسلا وروى عنه عن الزهري من قوله انتهى، وقد ضعف النووي هذه الرواية، لكن تعقبه الحافظ في [فتح الباري] حيث قال: وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في [الخلاصة] وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك فهي صحيحة.. انتهى كلام الحافظ .
واستدلوا أيضا بأثر ابن عمر المذكور، وقد روي عنه توقيت ثنتي عشرة كما حكاه الترمذي (وقال الأوزاعي : إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة).
قال الشوكاني في [النيل]: لا يعرف له مستند فرعي، وإنما ذلك اجتهاد
__________
(1) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231).

من نفسه. انتهى.
قلت: لعله استند بما روي عن ابن عمر توقيت ثنتي عشرة. (وقال مالك والشافعي وأحمد : إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة) قال في [السبل] صفحة 156: وهو مروي عن عثمان والمراد غير يوم الدخول والخروج، واستدلوا « بمنعه صلى الله عليه وسلم المهاجرين بعد مضي النسك أن يزيدوا على ثلاثة أيام في مكة، » فدل على أنه بالأربعة الأيام يصير مقيما. انتهى. قلت: ورد هذا الاستدلال بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة، واستدلوا أيضا بما روى مالك عن نافع عن أسلم عن عمر : أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثة أيام، قال الحافظ في [التلخيص]: صححه أبو زرعة . (أما إسحاق ) يعني: ابن راهويه (فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه « أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين » (1) (قال) أي: إسحاق : (لأنه) أي: ابن عباس (روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم أي: أخذ به وعمل عليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامته وإن أتى عليه سنون)، جمع سنة أخرج البيهقي عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة، قال النووي : إسناده صحيح وفيه عكرمة بن عمار . واختلفوا في الاحتجاج به، واحتج به مسلم في [صحيحه]. انتهى، وأخرج عبد الرزاق في [مصنفه]: أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة. انتهى.
وأخرج البيهقي في المعرفة عن عبيد الله بن عمر عن نافع : أن ابن عمر
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (548).

قال: ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة وكنا نصلي ركعتين. انتهى. قال النووي : وهذا سند على شرط[الصحيحين]، كذا في أنصب الراية،، وذكر الزيلعي فيه آثارا أخرى.
قول: « سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا، أي: في فتح مكة كما تقدم (فصلى)، أي: فأقام فصلى (تسعة عشر يوما ركعتين ركعتين » (1) ، وفي رواية للبخاري : « أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، » (2) قال الحافظ في [الفتح]: أي: يوما بليلة، زاد في المغازي بمكة، وأخرجه أبو داود بلفظ: سبعة عشر. بتقديم السين، وله أيضا من حديث عمران بن حصين : « غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، » (3) وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس « أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة، » (4) وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عد أحدهما.
وأما رواية « خمسة عشر » (5) فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. انتهى كلام الحافظ، وقال في [التلخيص] بعد ذكر الروايات المذكورة: ورواية عبد بن حميد عن ابن
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1030),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
(2) صحيح البخاري الجمعة (1030),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
(3) سنن الترمذي الجمعة (545),سنن أبو داود الصلاة (1229).
(4) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231).
(5) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231).

عباس بلفظ: أن « النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة أقام عشرين يوما يقصر الصلاة » ما لفظه: قال البيهقي : أصح الروايات في ذلك رواية البخاري، وهي رواية « تسع عشرة، » (1) وجمع إمام الحرمين والبيهقي بين الروايات السابقة باحتمال أن يكون في بعضها لم يعد يومي الدخول والخروج، وهي رواية سبعة عشر وعدها في بعضها، وهي رواية تسع عشرة وعد يوم الدخول، ولم يعد الخروج، وهي رواية ثمانية عشر. قال الحافظ : وهو جمع متين، وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين وهي صحيحة الإسناد، إلا أنها شاذة أيضا، اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد. انتهى.
قوله: (هذا حديث حسن غريب صحيح)، وأخرجه البخاري وابن ماجه وأحمد (2)
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
(2) [تحفة الأحوذي] (2\110- 116).

4 - قال الكاساني رحمه الله:
( وأما بيان ما يصير المسافر به مقيما، فالمسافر يصير مقيما بوجود الإقامة، والإقامة تثبت بأربعة أشياء. أحدها: صريح نية الإقامة وهو أن ينوي الإقامة خمسة عشر يوما في مكان واحد صالح للإقامة فلابد من أربعة أشياء: نية الإقامة ونية مدة الإقامة واتحاد المكان وصلاحيته للإقامة (أما) نية الإقامة فأمر لابد منه عندنا، حتى لو دخل مصرا أو مكث فيه شهرا أو أكثر لانتظار القافلة أو لحاجة أخرى يقول: أخرج اليوم أو غدا ولم ينو الإقامة- لا يصير مقيما، وللشافعي فيه قولان: في قول: إذا أقام أكثر مما أقام رسول

الله صلى الله عليه وسلم بتبوك كان مقيما، وإن لم ينو الإقامة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك تسعة عشر يوما أو عشرين يوما، وفي قول: إذا أقام أربعة أيام كان مقيما، ولا يباح له القصر (احتج) لقوله الأول: إن الإقامة متى وجدت حقيقة ينبغي أن تكمل الصلاة قلت الإقامة أو كثرت؛ لأنها ضد السفر والشيء يبطل بما يضاده إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك
تسعة عشر يوما وقصر الصلاة، فتركنا هذا القدر بالنص، فنأخذ بالقياس فيما وراءه، ووجه قوله الآخر على النحو الذي ذكرنا: أن القياس أن يبطل السفر بقليل الإقامة؛ لأن الإقامة قرار والسفر انتقال والشيء ينعدم بما يضاده فينعدم حكمه ضرورة، إلا أن قليل الإقامة لا يمكن اعتباره؛ لأن المسافر لا يخلو عن ذلك عادة، فسقط اعتبار القليل لمكان الضرورة ولا ضرورة في الكثير والأربعة في حد الكثرة؛ لأن أدنى درجات الكثير أن يكون جمعا، والثلاثة وإن كانت جمعا لكنها أقل الجمع، فكانت في حد القلة من وجه فلم تثبت الكثرة المطلقة، فإذا صارت أربعة صارت في حد الكثرة على الإطلاق؛ لزوال معنى القلة من جميع الوجوه.
(ولنا): إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإنه روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصلاة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام بأذربيجان شهرا وكان يصلي ركعتين، وعن علقمة : أنه أقام بخوارزم سنتين وكان يقصر، وروي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة، فأقام بمكة ثمان عشرة ليلة لا يصلي إلا الركعتين، ثم قال لأهل مكة : « صلوا أربعا فإنا قوم سفر » (1) والقياس بمقابلة النص والإجماع باطل،
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1229).

وأما مدة الإقامة فأقلها خمسة عشر يوما عندنا، وقال مالك والشافعي : أقلها أربعة أيام، وحجتهما ما ذكرنا، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم « رخص للمهاجرين المقام بمكة بعد قضاء النسك ثلاثة أيام » (1) فهذه إشارة إلى أن الزيادة على الثلاث توجب حكم الإقامة.
(ولنا): ما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا: إذا دخلت بلدة وأنت مسافر وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يوما- فأكمل الصلاة وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر.
وهذا باب لا يوصل إليه بالاجتهاد؛ لأنه من جملة المقادير ولا يظن بهما التكلم جزافا، فالظاهر أنهما قالاه سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى عبد الله بن عباس وجابر وأنس رضي الله عنهم « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه دخلوا مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة ومكثوا ذلك اليوم واليوم الخامس واليوم السادس واليوم السابع، فلما كان صبيحة اليوم الثامن وهو يوم التروية خرجوا إلى منى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ركعتين وقد وطنوا أنفسهم على إقامة أربعة أيام » دل أن التقدير بالأربعة غير صحيح، وما روي من الحديث فليس فيه ما يشير إلى تقدير أدنى مدة الإقامة بالأربعة؛ لأنه يحتمل أنه علم أن حاجتهم ترتفع في تلك المدة فرخص بالمقام ثلاثا لهذا التقدير الإقامة (وأما) اتحاد المكان، فالشرط نية مدة الإقامة في مكان واحد؛ لأن الإقامة قرار والانتقال يضاده ولابد من الانتقال في مكانين.
وإذا عرف هذا فنقول: إذا نوى المسافر الإقامة خمسة عشر يوما في موضعين؛ فإن كانا مصرا واحدا أو قرية واحدة صار مقيما؛ لأنهما متحدان
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512).

حكما ألا يرى أنه لو خرج إليه مسافرا لم يقصر فقد وجد الشرط وهو نية كمال مدة الإقامة في مكان واحد فصار مقيما، وإن كانا مصرين نحو مكة ومنى أو الكوفة والحيرة أو قريتين أو أحدهما مصر والآخر قرية- لا يصير مقيما؛ لأنهما مكانان متباينان حقيقة وحكما، ألا ترى أنه لو خرج إليه المسافر يقصر فلم يوجد الشرط وهو نية الإقامة في موضع واحد خمسة عشر يوما فلغت نيته، فإن نوى المسافر أن يقيم بالليالي في أحد الموضعين ويخرج بالنهار إلى الموضع الآخر؛ فإن دخل أولا الموضع الذي نوى المقام فيه بالنهار لا يصير مقيما، وإن دخل الموضع الذي نوى الإقامة فيه بالليالي يصير مقيما، ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافرا؛ لأن موضع إقامة الرجل حيث يبيت فيه ألا ترى أنه إذا قيل للسوقي: أين تسكن يقول: في محلة كذا، وهو بالنهار يكون بالسوق.
وذكر في كتاب المناسك: أن الحاج إذا دخل مكة في أيام العشر ونوى الإقامة خمسة عشر يوما أو دخل قبل أيام العشر لكن بقي إلى يوم التروية أقل من خمسة عشر يوما ونوى الإقامة، لا يصح؛ لأنه لابد له من الخروج إلى عرفات فلا تتحقق نية إقامته خمسة عشر يوما فلا يصح، وقيل: كان سبب تفقه عيسى بن أبان هذه المسألة، وذلك أنه كان مشغولا يطلب الحديث قال: فدخلت مكة في أول العشر من ذي الحجة مع صاحب لي وعزمت على الإقامة شهرا فجعلت أتم الصلاة فلقيني بعض أصحاب أبي حنيفة فقال: أخطأت فإنك تخرج إلى منى وعرفات، فلما رجعت من منى بدا لصاحبي أن يخرج وعزمت على أن أصاحبه وجعلت أقصر الصلاة، فقال لي صاحب أبي حنيفة : أخطأت فإنك مقيم بمكة فما لم تخرج منها لا

تصير مسافرا فقلت: أخطأت في مسألة في موضعين فدخلت مجلس محمد واشتغلت بالفقه وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم مبلغ علم الفقه فيصير مبعثة للطلبة على طلبه. (وأما) المكان الصالح للإقامة فهو موضع اللبث والقرار في العادة نحو الأمصار والقرى، وأما المفازة والجزيرة أو السفينة فليست موضع الإقامة، حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يوما لا يصير مقيما. كذا روي عن أبي حنيفة وروي عن أبي يوسف في الأعراب والأكراد والتركمان إذا نزلوا بخيامهم في موضع ونووا الإقامة خمسة عشر يوما صاروا مقيمين.
فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يوما يصير مقيما كما في القرية، وروي عنه أيضا أنهم لم يصيروا مقيمين. فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه لا يصح، ذكر الروايتين عن أبي يوسف في العيون فصار الحاصل أن عند أبي حنيفة لا يصير مقيما في المفازة وإن كان ثمة قوم وطنوا ذلك المكان بالخيام والفساطيط، وعن أبي يوسف روايتان وعلى هذا الإمام إذا دخل دار الحرب مع الجند ومعهم أخبية وفساطيط فنووا الإقامة خمسة عشر يوما في المفازة، والصحيح قول أبي حنيفة؛ لأن موضع الإقامة موضع القرار، والمفازة ليست موضع القرار في الأصل فكانت النية لغوا، ولو حاصر المسلمون مدينة من مدائن أهل الحرب ووطنوا أنفسهم على إقامة خمسة عشر يوما لم تصح نية الإقامة ويقصرون، وكذا إذا نزلوا المدينة وحاصروا أهلها في الحصن، وقال أبو يوسف : إن كانوا في الأخبية والفساطيط خارج البلدة، فكذلك وإن كانوا في الأبنية صحت نيتهم. وقال زفر في الفصلين جميعا: إن كانت الشوكة والغلبة للمسلمين

صحت نيتهم وإن كانت للعدو لم تصح. وجه قول زفر : أن الشوكة إذا كانت للمسلمين يقع الأمن لهم من إزعاج العدو إياهم، فيمكنهم القرار ظاهرا فنية الإقامة صادفت محلها فصحت، وأبو يوسف يقول: الأبنية موضع الإقامة فتصح نية الإقامة فيها بخلاف الصحراء.
(ولنا): ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رجلا سأله وقال: إنا نطيل الثواء في أرض الحرب فقال: صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك، ولأن نية الإقامة نية القرار، وإنما تصح في محل صالح للقرار ودار الحرب ليست موضع قرار المسلمين المحاربين؛ لجواز أن يزعجهم العدو ساعة فساعة لقوة تظهر لهم؛ لأن القتال سجال أو تنفذ لهم في المسلمين حيلة؛ لأن الحرب خدعة فلم تصادف النية محلها فلغت، ولأن غرضهم من المكث هنالك فتح الحصن دون التوطن وتوهم انفتاح الحصن في كل ساعة قائم فلا تتحقق نيتهم إقامة خمسة عشر يوما، فقد خرج الجواب عما قالا، وعلى هذا الخلاف إذا حارب أهل العدل البغاة في دار الإسلام في غير مصر أو حاصروهم ونووا الإقامة خمسة عشر يوما، واختلف المتأخرون في الأعراب والأكراد والتركمان الذين يسكنون في بيوت الشعر والصوف : قال بعضهم: لا يكونون مقيمين أبدا وإن نووا الإقامة مدة الإقامة؛ لأن المفازة ليست موضع الإقامة، والأصح أنهم مقيمون؛ لأن عادتهم الإقامة في المفاوز دون الأمصار والقرى فكانت المفاوز لهم كالأمصار والقرى لأهلها، ولأن الإقامة للرجل أصل والسفر عارض وهم لا ينوون السفر، بل ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى مرعى حتى لو ارتحلوا عن أماكنهم وقصدوا موضعا آخر بينهما مدة سفر صاروا مسافرين

في الطريق (1) .
__________
(1) [البدائع] (1\97- 99).

5 - قال ابن القاسم رحمه الله: قلت لمالك : الرجل المسافر يمر بقرية من قراه في سفره وهو لا يريد أن يقيم بقريته تلك إلا يومه وليلته وفيها عبيده وبقره وجواريه وليس له بها أهل ولا ولد (قال): يقصر الصلاة إلا أن يكون نوى أن يقيم فيها أربعة أيام أو يكون فيها أهله وولده، فإن كان فيها أهله وولده أتم الصلاة وإن أقام أربعة أيام أتم الصلاة. (قلت): أرأيت إن كانت هذه القرية التي فيها أهله وولده مر بها في سفره وقد هلك أهله وبقي فيها ولده أيتم الصلاة أم يقصر؟ (قال): يقصر، قال: إنما محمل هذا عند مالك إذا كانت له مسكنا أتم الصلاة وإن لم تكن له مسكنا لم يتم الصلاة.
(قال): وقال مالك : صلاة الأسير في دار الحرب أربع ركعات إلا أن يسافر به فيصلي ركعتين (قال): وقال مالك : لو أن عسكرا دخل دار الحرب فأقام في موضع واحد شهرا أو شهرين أو أكثر من ذلك فإنهم يقصرون الصلاة. قال: ليس دار الحرب كغيرها (قال): وإذا كانوا في غير دار الحرب فنووا إقامة أربعة أيام أتموا الصلاة. (قلت) له: وإن كانوا في غير قرية ولا مصر كان مالك يأمرهم أن يتموا؛ قال: نعم، (قلت): أرأيت إن أقاموا على حصن حاصروه في أرض العدو شهرين أو ثلاثة أيقصرون الصلاة؟ (قال): قال مالك : نعم، يقصرون الصلاة (قال) وكيع بن الجراح : عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس : إنا نطيل المقام بخراسان في الغزو قال: صل ركعتين، وإن أقمت عشر سنين، من حديث وكيع عن المثنى بن

سعيد الضبعي عن أبي جمرة (قال) مالك : إن عائشة قالت: « فرضت الصلاة ركعتين فأتمت صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى » (1) .
(قال) ابن وهب : عن يحيى بن أيوب عن حميد الطويل عن رجل عن عبد الله بن عمر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة ليلة يصلي ركعتين وهو محاصر للطائف » قال: (وكان عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب يقولان: إذا أجمع المسافر على مقام أربعة أيام أتم الصلاة).
(وقال) ابن شهاب ويحيى بن سعيد في الأسير في أرض العدو : إنه يتم الصلاة ما كان محبوسا (2) انتهى.
قال ابن رشد : وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحوا من أحد عشر قولا، إلا أن الأشهر منها هو ما عليه فقهاء الأمصار، ولهم في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: مذهب مالك والشافعي : أنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم.
والثاني: مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري : أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم.
والثالث: مذهب أحمد وداود : أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم.
وسبب الخلاف: أنه أمر مسكوت عنه في الشرع والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع؛ ولذلك رام هؤلاء كلهم أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيها مقصرا، أو أنه جعل
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3720),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685),سنن النسائي الصلاة (455),سنن أبو داود الصلاة (1198),مسند أحمد بن حنبل (6/265),موطأ مالك النداء للصلاة (337),سنن الدارمي الصلاة (1509).
(2) [المدونة] ص 114- 117.

لها حكم المسافر.
فالفريق الأول: احتجوا لمذهبهم بما روي « أنه عليه الصلاة والسلام أقام بمكة ثلاثا يقصر في عمرته » وهذا ليس فيه حجة على أنه النهاية للتقصير، وإنما فيه حجة على أن يقصر في الثلاثة فما دونها.
والفريق الثاني: احتجوا لمذهبهم بما « روي أنه أقام بمكة عام الفتح مقصرا، وذلك نحو من خمسة عشر يوما » (1) في بعض الروايات، وقد روي « سبعة عشر يوما » « وثمانية عشر يوما » « وتسعة عشر يوما، » (2) رواه البخاري عن ابن عباس، وبكل قال فريق.
والفريق الثالث: احتجوا بمقامه في حجه بمكة مقصرا أربعة أيام، وقد احتجت المالكية لمذهبها: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للمهاجر ثلاثة أيام بمكة مقاما بعد قضاء نسكه » (3) فدل هذا عندهم على أن إقامته ثلاثة أيام ليست تسلب عن المقيم فيها اسم السفر، وهي النكتة التي ذهب الجميع إليها، وراموا استنباطها من فعله عليه الصلاة والسلام: أعني: متى يرتفع عنه بقصد الإقامة اسم السفر، ولذلك اتفقوا على أنه إن كانت الإقامة مدة لا يرتفع فيها عنه اسم السفر بحسب رأي واحد منهم في تلك المدة وعاقه عائق عن السفر أنه يقصر أبدا وإن أقام ما شاء الله.
ومن راعى الزمان الأقل من مقامه تأول مقامه في الزمان الأكثر مما ادعاه خصمه على هذه الجهة، فقالت المالكية مثلا: إن الخمسة عشر يوما التي أقامها عليه الصلاة والسلام عام الفتح إنما أقامها وهو أبدا ينوي ألا يقيم أربعة أيام، وهذا بعينه يلزمهم في الزمان الذي حدوه. والأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين: إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي
__________
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1076).
(2) صحيح البخاري المغازي (4047),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
(3) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1511).

عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصرا، ويجعل ذلك حدا من جهة أن الأصل هو الإتمام فوجب ألا يزاد على هذا الزمان إلا بدليل، أو يقول: إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه الإجماع، وما ورد من « أنه عليه الصلاة والسلام أقام مقصرا » أكثر من ذلك الزمان. فيحتمل أن يكون إقامة؛ لأنه جائز للمسافر، ويحتمل أن يكون إقامة بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه مقصرا باتفاق فعرض له أن أقام أكثر من ذلك، وإذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وروي عن الحسن البصري أن المسافر يقصر أبدا إلا أن يقدم مصرا من الأمصار، وهذا بناء على أن اسم المسافر واقع عليه حتى يقدم مصرا من الأمصار، فهذه أمهات المسائل التي تتعلق بالقصر (1) .
6 - قال النووي رحمه الله: قال المصنف رحمه الله:
إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، صار مقيما وانقطعت رخص السفر؛ لأنه بالثلاث لا يصير مقيما؛ لأن المهاجرين رضي الله عنهم حرم عليهم الإقامة بمكة، ثم رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا ثلاثة أيام، فقال صلى الله عليه وسلم : « يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا » (2) وأجلى عمر رضي الله عنه اليهود، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا، وأما اليوم الذي يدخل فيه ويخرج فلا يحتسب؛ لأنه مسافر فيه إقامته في بعضه لا تمنع من كونه مسافرا؛ لأنه ما من مسافر إلا ويقيم بعض اليوم، ولأن مشقة السفر لا تزول إلا بإقامة يوم.
__________
(1) [ بداية المجتهد] ص 122 , 123
(2) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512).

وإن نوى إقامة أربعة أيام على حرب ففيه قولان:
(أحدهما): يقصر؛ لما روى أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة.
(والثاني): لا يقصر؛ لأنه نوى إقامة أربعة أيام لا سفر فيها فلم يقصر كما لو نوى الإقامة في غير حرب، وأما إذا أقام في بلد على حاجة إذا انتجزت رحل، ولم ينو مدة ففيه قولان:
(أحدهما): يقصر سبعة عشر يوما؛ لأن الأصل التمام إلا فيما وردت فيه الرخصة. وقد روى ابن عباس قال: « سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام سبعة عشر يوما يقصر الصلاة » ، وبقي فيما زاد على حكم الأصل.
و (الثاني): يقصر أبدا؛ لأنه إقامة على حاجة يرحل بعدها فلم يمنع القصر كالإقامة في سبعة عشر، وخرج أبو إسحاق قولا ثالثا: إنه يقصر إلى أربعة أيام الإقامة أبلغ في نية الإقامة؛ لأن الإقامة لا يلحقها الفسخ، والنية يلحقها الفسخ، ثم ثبت أنه لو نوى الإقامة أربعة أيام لم يقصر، فلأن يقصر إذا أقام أولى، (الشرح) حديث "" رواه البخاري ومسلم، وحديث: « يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا » (1) رواه البخاري ومسلم أيضا من رواية العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه.
وحديث عمر رضي الله عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا، صحيح رواه مالك في [ الموطأ] بإسناده الصحيح، فرواه عن نافع عن أسلم مولى عمر، وحديث « إقامة الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة » رواه البيهقي بإسناد صحيح، إلا أن فيه عكرمة بن عمار، وهو مختلف في الاحتجاج به، وقد روى له مسلم في [صحيحه].
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512).

وأما حديث ابن عباس فرواه البخاري في [صحيحه]، لكن في رواية البخاري تسعة عشر بنقصان واحد من عشرين، ووقع في بعض روايات أبي داود والبيهقي سبعة عشر بنقصان ثلاثة من عشرين، وكذا وقع في [المهذب].
أما ألفاظ الفصل فقوله: أجلى عمر اليهود : معناه أخرجهم من ديارهم، قال أهل اللغة: يقال: جلا القوم خرجوا من منازلهم، وأجليتهم وجلوتهم أخرجتهم. ورامهرمز - بفتح الميم الأولى وضم الهاء وإسكان الراء وآخره زاي- وهي بلاد معروفة، وقوله: تسعة أشهر هو بالتاء. في أول تسعة، وقوله: الإقامة لا يلحقها الفسخ هو بالفاء، أي: لا ترفع بعد وجودها، والنية يمكن قطعها وإبطالها. أما الأحاديث الواردة بالإقامة المقيدة ففي حديث ابن عباس تسعة عشر يوما كما ذكرنا عن رواية البخاري .
وفي رواية لأبي داود والبيهقي بإسناد صحيح على شرط البخاري سبعة عشر وفي رواية أخرى لأبي داود والبيهقي عن ابن عباس خمسة عشر، ولكنها ضعيفة مرسلة، وكان حديث ابن عباس هذا في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لحرب هوازن في عام الفتح، وروى أبو داود والبيهقي عن عمران بن حصين : « أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثمان عشرة ليلة يقصر الصلاة، » إلا أن في إسناده من لا يحتج به.
قال البيهقي : أصح الروايات في حديث ابن عباس تسعة عشر، وهي التي ذكرها البخاري، قال: ويمكن الجمع بين رواية ثمان عشرة وتسع عشرة وسبع عشرة، فإن من روى تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج ومن روى سبع عشرة لم يعدهما، ومن روى ثمان عشرة عد أحدهما.
وروى أبو داود والبيهقي عن جابر « أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما

يقصر الصلاة، » (1) لكن روي مسندا ومرسلا، قال بعضهم: ورواية المرسل أصح (قلت): ورواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام يجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، فالحديث صحيح؛ لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند.
أما حكم الفصل: فقال الشافعي والأصحاب: إذا نوى في أثناء طريقه الإقامة مطلقا انقطع سفره فلا يجوز الترخص بشيء بالاتفاق، فلو جدد السير بعد ذلك فهو سفر جديد، فلا يجوز القصر إلا أن يقصد مرحلتين هذا إذا نوى الإقامة في موضع يصلح لها من بلد أو قرية أو واد يمكن البدوي الإقامة به ونحو ذلك، فأما المفازة ونحوها ففي انقطاع السفر والرخص بنية الإقامة فيها قولان مشهوران:
أصحهما عند الجمهور: انقطاعه؛ لأنه ليس بمسافر، فلا يترخص حتى يفارقها.
والثاني: لا ينقطع، وله الترخص؛ لأنه لا يصلح للإقامة، فنيته لغو، هذا كله إذا نوى الإقامة وهو ماكث، أما إذا نواها وهو سائر فلا يصير مقيما بلا خلاف، صرح به البندنيجي وغيره؛ لأن سبب القصر السفر، وهو موجود حقيقة، أما إذا نوى الإقامة في بلد ثلاثة أيام فأقل فلا ينقطع الترخص بلا خلاف وإن نوى إقامة أكثر من ثلاثة أيام.
قال الشافعي والأصحاب: إن نوى إقامة أربعة أيام صار مقيما وانقطعت الرخص، وهذا يقتضي أن نية دون أربعة لا تقطع السفر وإن زاد على ثلاثة، وقد صرح به كثيرون من أصحابنا.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1235),مسند أحمد بن حنبل (3/295).

وفي كيفية احتساب الأربعة وجهان حكاهما البغوي وآخرون: (إحداهما: يحسب منها يوما الدخول والخروج، كما يحسب يوم الحدث، ويوم نزع الخف من مدة المسح.
(وأصحهما) وبه قطع المصنف والجمهور: لا يحسبان لما ذكره المصنف. فعلى الأول لو دخل يوم السبت وقت الزوال بنية الخروج يوم الأربعاء وقت الزوال صار مقيما، وعلى الثاني: لا يصير، وإن دخل ضحوة السبت بنية الخروج عشية الأربعاء.
وأما قول إمام الحرمين والغزالي : متى نوى إقامة زيادة على ثلاثة أيام صار مقيما- فموافق لما قاله الأصحاب؛ لأنه لا يمكن زيادة على الثلاثة غير يومي الدخول والخروج بحيث لا يبلغ الأربعة.
ثم الأيام المحتملة معدودة بلياليها ومتى نوى أربعة صار مقيما في الحال ولو دخل في الليل لم يحسب بقية الليل، ويحسب الغد، هذا كله في غير المحارب.
أما المحارب، وهو: المقيم على القتال بحق ففيه قولان مشهوران:
(أحدهما): يقصر أبدا؛ لما ذكره المصنف وهو اختيار المزني، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وعلى هذا يقصر أبدا، وإن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
(وأصحهما) عند الأصحاب: أنه كغيره فلا يقصر إذا نوى إقامة أربعة أيام، وممن صححه القاضي أبو الطيب والماوردي والرافعي وآخرون.
قال الشيخ أبو حامد والمحاملي : وهو اختيار الشافعي، وأجابوا عن حديث أنس بأنهم لم يقيموا تسعة أشهر في مكان واحد، بل كانوا يتنقلون

في تلك الناحية، أما إذا أقام في بلد أو قرية لشغل فله حالان:
(أحدهما): أن يتوقع انقضاء شغله قبل أربعة أيام، ونوى الارتحال عند فراغه فله القصر إلى أربعة أيام بلا خلاف، وفيما زاد عليها طريقان :
(الصحيح) منهما، وقول الجمهور: أنه على ثلاثة أقوال:
(أحدها): يجوز القصر أبدا سواء فيه المقيم لقتال أو لخوف من القتال أو لتجارة وغيرها.
(والثاني): لا يجوز القصر أصلا.
(والثالث): وهو الأصح عند الأصحاب: يجوز القصر ثمانية عشر يوما فقط، وقيل: على هذا يجوز سبعة عشر، وقيل: تسعة عشر، وقيل: عشرين، وسمى إمام الحرمين هذه أقوالا.
والطريق الثاني: أن هذه الأقوال في المحارب، وأما غيره فلا يجوز له القصر بعد أربعة أيام قولا واحدا، وبه قال أبو إسحاق : كما حكاه المصنف عنه، وإذا جمعت هذه الأقوال والأوجه وسميت أقوالا كانت سبعة.
(أحدها): لا يجوز القصر بعد أربعة أيام.
(والثاني): يجوز إلى سبعة عشر يوما (وأصحها) إلى ثمانية عشر، و(الرابع): إلى تسعة عشر، و(الخامس): إلى عشرين، و(السادس): أبدا، و (السابع): للمحارب مجاوزة أربعة وليس لغيره، ودليل الجميع يعرف مما ذكره المصنف، وذكرناه.
(الحال الثاني): أن يعلم أن شغله لا يفرغ قبل أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج- كالمتفقه والمقيم لتجارة كبيرة ولصلاة الجمعة ونحوها، وبينه وبينها أربعة أيام فأكثر- فإن كان محاربا وقلنا في الحال:

الأول: لا يقصر فهاهنا أولى، وإلا فقولان:
(أحدهما): يترخص أبدا (وأصحهما): لا يتجاوز ثمانية عشر، إن كان غير محارب، فالمذهب أنه لا يترخص أصلا، وبه قطع الجمهور .
(والثاني): أنه كالمحارب حكاه الرافعي وآخرون وقالوا: هو غلط ( فإن قيل): ثبت في [صحيحي البخاري ومسلم ]، عن أنس قال: « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصر حتى أتى مكة فأقمنا بها عشرا فلم يزل يقصر حتى رجع، » (1) فهذا كان في حجة الوداع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نوى إقامة هذه المدة، (فالجواب) ما أجاب به البيهقي وأصحابنا في كتب المذهب.
قالوا: ليس مراد أنس أنهم أقاموا في نفس مكة عشرة أيام، بل طرق الأحاديث الصحيحة من روايات جماعة من الصحابة متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في حجته لأربع خلون من ذي الحجة فأقام بها ثلاثة ولم يحسب يوم الدخول ولا الثامن؛ لأنه خرج فيه إلى منى فصلى بها الظهر والعصر وبات بها، وسار منها يوم التاسع إلى عرفات، ورجع فبات بمزدلفة، ثم أصبح فسار إلى منى فقضى نسكه، ثم أفاض إلى مكة فطاف للإفاضة ثم رجع إلى منى، فأقام بها ثلاثا يقصر ثم نفر فيها بعد الزوال في ثالث أيام التشريق فنزل بالمحصب وطاف في ليلته للوداع ثم رحل من مكة قبل صلاة الصبح فلم يقم صلى الله عليه وسلم أربعا في موضع واحد، والله أعلم.
(فرع) لو سافر عبد مع سيده وامرأة مع زوجها، فنوى العبد والمرأة إقامة أربعة أيام ولم ينو السيد والزوج فوجهان حكاهما صاحب [ البيان] وغيره: (أحدهما): ينقطع رخصهما كغيرهما، و (الثاني): لا ينقطع ؛ لأنه لا اختيار لهما في الإقامة فلغت نيتهما. قال صاحب البيان: ولو نوى
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1438),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/145),سنن الدارمي الصلاة (1510).

الجيش الإقامة مع الأمير ولم ينو هو فيحتمل أنه على الوجهين (قلت): الأصح في الجميع أنهم يترخصون؛ لأنه لا يتصور منهم الجزم بالإقامة.

7 - قال ابن قدامة رحمه الله (1) :
مسألة: (وإذا نوى الإقامة ببلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر).
المشهور عن أحمد رحمه الله: أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام إذا نوى الإقامة فيها : ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة. رواه الأثرم وغيره وهو الذي ذكره الخرقي، وعنه: إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام أتم، حكى هذه الرواية أبو الخطاب وابن عقيل . وعنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإلا قصر، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور، وروي عن عثمان رضي الله عنه وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقمت أربعا فصل أربعا؛ لأن الثالث حد القلة؛ « لقوله عليه الصلاة والسلام: يقيم المسافر بعد قضاء نسكه ثلاثا » (2) فدل أن الثلاث في حكم السفر وما زاد في حكم الإقامة. وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن أقام خمسة عشر يوما مع اليوم الذي يخرج فيه أتم ، فإن نوى دونه قصر، ويروى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد؛ لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة، ولا يعرف لهما مخالف، وروي عن علي رضي الله عنه قال: يتم الصلاة الذي يقيم عشرا، ويقصر الذي يقول: أخرج اليوم أخرج غدا. شهرا، وعن ابن عباس أنه
__________
(1) [ الشرح الكبير مع المغني] (2\107, 108) المكتبة السلفية
(2) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1511).

قال: يقصر إذا أقام تسعة عشر يوما ويتم إذا زاد؛ لأن « النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين، » (1) قال ابن عباس : فنحن إذا أقمنا تسع عشرة نصلي ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا. رواه البخاري، وقال الحسن : صل ركعتين ركعتين إلا أن تقدم مصرا فأتم الصلاة وصم، وقالت عائشة : إذا وضعت الزاد والمزاد فأتم الصلاة، وكان طاوس إذا قدم مكة صلى أربعا.
ولنا ما روى أنس قال: « خرجنا مع رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع وأقام بمكة عشرا يقصر الصلاة » (2) . متفق عليه . وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس، « أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام » وقد أجمع على إقامتها قال: فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم، قال الأثرم : وسمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر، فقال: هو كلام ليس يفقهه كل أحد، فقوله: « أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة، » (3) وقال: « قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة وخامسة وسابعة، ثم قال: ثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة، » فإنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه أربعة أيام وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة يقصر، وهي تزيد على أربعة أيام وهو صريح في خلاف قول من حده بأربعة أيام، وقول أصحاب الرأي: لا يعرف لهما مخالف في الصحابة لا يصح؛ لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه عنهم، وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4047),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
(2) صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/282).
(3) صحيح البخاري المغازي (4046),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/190).

وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الإقامة. قال أحمد : أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة : زمن الفتح ثماني عشرة؛ لأنه أراد حنينا ولم يكن تم إجماع المقام، وهذه إقامته التي رواها ابن عباس، وهو دليل على خلاف قول عائشة والحسن . والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله لما سئل عن رجل مسافر إلى بلد، ومقصوده أن يقيم مدة شهر أو أكثر فهل يتم الصلاة أم لا ؟
فأجاب: إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة، كما « فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة . فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة » . وإن كان أكثر ففيه نزاع. والأحوط أن يتم الصلاة.
وأما إن قال: غدا أسافر، أو بعد غد أسافر. ولم ينو المقام فإنه يقصر أبدا، فإن « النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضعة عشر يوما يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة » (1) . والله أعلم.
وسئل عن رجل جرد إلى الخربة لأجل الحمى وهو يعلم أنه يقيم مدة شهرين، فهل يجوز له القصر؟ وإذا جاز القصر، فالإتمام أفضل أم القصر؟
فأجاب: الحمد لله.. هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء، منهم من يوجب الإتمام، ومنهم من يوجب القصر، والصحيح: أن كلاهما سائغ فمن قصر لا ينكر عليه، ومن أتم لا ينكر عليه.
وكذلك تنازعوا في الأفضل: فمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط، فالإتمام أفضل، وأما من تبينت له السنة، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو بمكان، ولا حد الإقامة أيضا بزمن محدود، لا ثلاثة ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1235),مسند أحمد بن حنبل (3/295).

خمسة عشر، فإنه يقصر كما كان غير واحد من السلف يفعل، حتى كان مسروق قد ولوه ولاية لم يكن يختارها، فأقام سنين يقصر الصلاة.
وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة، وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام، ولا أكثر. كما « أقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد فتح مكة قريبا من عشرين يوما يقصرون الصلاة، وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون في رمضان » . وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام. وإذا كان التحديد لا أصل له، فمادام المسافر مسافرا يقصر الصلاة، ولو أقام في مكان شهورا. والله أعلم. كتبه أحمد بن تيمية (1) .
وقال (2) : وتقصر الصلاة في كل ما يسمى سفرا، سواء قل أو كثر.
ولا يتقدر بمدة، وهو مذهب الظاهرية، ونصره صاحب [ المغني] فيه، وسواء كان مباحا أو محرما، ونصره ابن عقيل في موضع. وقاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والشافعي، وسواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو لا. وروي هذا عن جماعة من الصحابة.
وقرر أبو العباس قاعدة نافعة: وهي أن ما أطلقه الشارع بعمل يطلق مسماه ووجوده. ولم يجز تقديره وتحديده بمدة. فلهذا كان الماء قسمين: طاهرا طهورا أو نجسا. ولا حد لأقل الحيض وأكثره ما لم تصر مستحاضة، ولا لأقل سنة وأكثره، ولا لأقل السفر.
__________
(1) [ مجموعة الفتاوى] (24\17, 18 )
(2) [ الاختيارات الفقهية ] ص72 ،73

أما خروجه إلى بعض عمل أرضه وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى قباء فلا يسمى سفرا. ولو كان بريدا. ولهذا لا يتزود ولا يتأهب له أهبة السفر. هذا مع قصر المدة. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة سفر، لا البعيدة في المدة القليلة.
ولا حد للدرهم والدينار، فلو كان أربعة دوانق أو ثمانية خالصا أو مغشوشا قل غشه أو كثر، لا درهما أسود- عمل به في الزكاة والسرقة وغيرهما.
ولا تأجيل في الدية وأنه نص أحمد فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤجلها. وإن رأى الإمام تأجيلها فعل؛ لأن عمر أجلها، فأيهما رأى الإمام فعل. وإلا فإيجاب أحد الأمرين لا يسوغ والخلع فسخ مطلقا.. والكفارة في كل أيمان المسلمين.
وقال ابن القيم رحمه الله بعد كلامه على هديه صلى الله عليه وسلم لسفره: « وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة، » ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم » (1) - فلا يصح، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى.
وقد روى كان يقصر ويتم الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق وكذلك يفطر وتصوم، أي: تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية : وهذا باطل، ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها: « أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1051),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (689),سنن الترمذي الجمعة (544),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458),سنن أبو داود الصلاة (1223),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071).

صلاة السفر » (1) فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه؟! قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس وغيره: أنها تأولت كما تأول عثمان، وأن « النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائما » (2) فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر وتتم هي فغلط بعض الرواة، فقال: كان يقصر ويتم، أي: هو والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه فقيل: ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر، فإذا زال الخوف زال سبب القصر.
وهذا التأويل غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمنا وكان يقصر الصلاة، والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وغيره فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجابه بالشفاء وإن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته: أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له، وقد يقال: أن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصر فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددها وأركانها، إن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3720),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685),سنن النسائي الصلاة (454),سنن أبو داود الصلاة (1198),مسند أحمد بن حنبل (6/241),موطأ مالك النداء للصلاة (337),سنن الدارمي الصلاة (1509).
(2) صحيح البخاري الجمعة (1051),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (689),سنن الترمذي الجمعة (544),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458),سنن أبو داود الصلاة (1223),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071).

وأنها لم تدخل في قصر الآية، والأول: اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني: يدل عليه كلام الصحابة؛ كعائشة وابن عباس وغيرهما قالت عائشة : « فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر » (1) - فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك وأن فرض المسافر ركعتان.
وقال ابن عباس : « فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، » (2) متفق على حديث عائشة وانفرد مسلم بحديث ابن عباس . وقال عمر بن الخطاب : « صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى » (3) . وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بالنا نقصر وقد أمنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صدقة تصدق بها الله عليكم، فاقبلوا صدقته » (4) ، ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ودينه اليسر السمح علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان, تمام غير قصر.
وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله، وإن شاء أتم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى.
وقال أنس : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3720),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685),سنن النسائي الصلاة (455),سنن أبو داود الصلاة (1198),مسند أحمد بن حنبل (6/265),موطأ مالك النداء للصلاة (337),سنن الدارمي الصلاة (1509).
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (687),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1442),سنن أبو داود الصلاة (1247),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1068).
(3) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1063),مسند أحمد بن حنبل (1/37).
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686),سنن الترمذي تفسير القرآن (3034),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433),سنن أبو داود الصلاة (1199),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065),مسند أحمد بن حنبل (1/36),سنن الدارمي الصلاة (1505).

ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة » (1) متفق عليه، « ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان » (2) متفق عليه .
ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: « صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في السفر لا يزيد على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان، » (3) يعني: في صدر خلافة عثمان وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه وقد خرج لفعله تأويلات:
أحدها: أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا حديثي عهد بالإسلام والعهد بالصلاة قريب ومع هذا فلم يربع لهم النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني: أنه كان إماما للناس والإمام حيثما نزل فهو عمله ومحل ولايته فكأنه وطنه. ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أولى بذلك وكان هو الإمام المطلق ولم يربع.
التأويل الثالث: أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كانت فضاء؛ ولهذا « قيل
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن الترمذي الجمعة (548),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن أبو داود الصلاة (1233),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/187),سنن الدارمي الصلاة (1509).
(2) صحيح البخاري الجمعة (1034),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (695),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1449),سنن أبو داود المناسك (1960),مسند أحمد بن حنبل (1/416),سنن الدارمي المناسك (1874).
(3) صحيح البخاري الجمعة (1051),سنن الترمذي الجمعة (544),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458),سنن أبو داود الصلاة (1223),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071),مسند أحمد بن حنبل (2/140),سنن الدارمي المناسك (1875).

له: يا رسول الله، ألا تبني لك بمنى بيتا يظللك من الحر؟ فقال: لا، منى مناخ من سبق » (1) فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر. ورد هذا التأويل بأن النبي صلى الله عليه وسلم « أقام بمكة عشرا يقصر في الصلاة » (2) .
التأويل الرابع: أنه أقام بها ثلاثا. وقد « قال النبي صلى الله عليه وسلم : يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا » (3) فسماه مقيما والمقيم غير مسافر، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر. وقد « أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشرا يقصر الصلاة، وأقام بمنى بعد نسكه أيام الجمار الثلاث يقصر الصلاة » (4) .
التأويل الخامس: أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة. فلهذا أتم، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة .
وهذا التأويل أيضا مما لا يقوى، فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين وقد « منع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد نسكه، ورخص لهم فيها ثلاثة أيام فقط » (5) فلم يكن عثمان ليقيم بها، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، إنما رخص فيها ثلاثا؛ وذلك لأنهم تركوها لله، وما ترك لله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع؛ ولهذا « منع النبي صلى الله عليه وسلم من شراء المتصدق لصدقته، وقال لعمر : لا تشترها ولا تعد في صدقتك » (6) فجعله عائدا في صدقته مع أخذها بالثمن.
التأويل السادس: أنه كان قد تأهل بمنى، والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم، ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي عن أبي ذئاب عن أبيه قال: « صلى عثمان بأهل منى أربعا وقال: يا أيها الناس، لما قدمت تأهلت بها، وإني
__________
(1) سنن الترمذي الحج (881),سنن أبو داود المناسك (2019),سنن ابن ماجه المناسك (3007),مسند أحمد بن حنبل (6/187),سنن الدارمي المناسك (1937).
(2) صحيح البخاري المغازي (4046),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/190).
(3) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512).
(4) صحيح البخاري المغازي (4046),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/190).
(5) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1511).
(6) صحيح البخاري الزكاة (1418),صحيح مسلم الهبات (1621),سنن النسائي الزكاة (2617),سنن أبو داود الزكاة (1593),مسند أحمد بن حنبل (2/55),موطأ مالك الزكاة (625).

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم » (1) رواه الإمام أحمد رحمه الله في [مسنده]، وعبد الله بن الزبير الحميدي في [مسنده] أيضا .
وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم، قال أبو البركات ابن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في [تاريخه] ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله ومالك وأصحابهما، وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان . وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين فحيث نزلت فكان وطنها، وهو أيضا اعتذار ضعيف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أيضا وأمومة أزواجه فرع عن أبوته، ولم يكن يتم لهذا السبب، وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا ابن أختي، إنه لا يشق علي، قال الشافعي رحمه الله: لو كان فرض المسافر ركعتين لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم،. وقد قالت عائشة : كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم وقصر، ثم روي عن إبراهيم بن محمد عن طلحة بن عمر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة « قالت: كل ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة في السفر وأتم، » قال البيهقي : وكذلك رواه المغيرة بن زياد عن عطاء، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحارثي عن الدارقطني عن المحاملي، حدثنا سعيد ابن محمد بن أيوب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم « كان يقصر الصلاة في السفر ويتم ويفطر ويصوم » . قال
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/62).

الدارقطني : وهذا إسناد صحيح، ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري عن عباس الدوري، أنبأنا أبو نعيم، حدثنا العلاء بن زهير، حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة : « أنها اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت قال: أحسنت يا عائشة، » (1) وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة تصلي بخلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة « فرضت الصلاة ركعتين: فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، » (2) فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! قال الزهري لعروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك: فما شأنها كانت تتم الصلاة فقال: تأولت كما تأول عثمان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر » (3) أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون؟ وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلا والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له، والله أعلم.
وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن، فقال له ابن عمر : يا أخي، إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل. وقد قال أنس : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فكان يصلي
__________
(1) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1456).
(2) صحيح البخاري المناقب (3720),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685),سنن النسائي الصلاة (455),سنن أبو داود الصلاة (1198),مسند أحمد بن حنبل (6/265),موطأ مالك النداء للصلاة (337),سنن الدارمي الصلاة (1509).
(3) صحيح البخاري الجمعة (1051),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (689),سنن الترمذي الجمعة (544),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458),سنن أبو داود الصلاة (1223),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071).

ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، » (1) وقال ابن عمر : « صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، » (2) وهذه كلها أحاديث صحيحة (3) .
مسألة: وقال الأثرم عنه: إذا أجمع أن يقيم إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر فإذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك أتم واحتج بحديث جابر وابن عباس قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة وكذا نقل ابن الحكم ونقل المروزي إذا عزم على مقام إحدى وعشرين صلاة فليتم؛ لأن « النبي صلى الله عليه وسلم صلى الغداة يوم التروية بمكة، وكذلك نقل حرب إذا دخل إلى قرية نوى أن يقيم أربعة أيام وزيادة صلاة أتم، » وكذا نقل ابن أصرم وصالح والكوسج إذا أزمع على إقامة أربعة أيام وزيادة يتم في أول يوم.
واحتج بحديث جابر، قال أبو حفص : هذه الرواية ليست مستقصاة والأدلة مستقصاة أنه لا يلزمه الإتمام بالعزيمة على إقامة أربعة أيام وزيادة صلاة حتى ينوي أكثر من ذلك فكيف يقول: إذا أزمع على إقامة أربع وزيادة صلاة أتم. ويحتج بحديث جابر في هذا المقدار وقد كشف هذا في رواية الفضل بن عبد الصمد قيل له: يا أبا عبد الله، يحكون أنك تقول: إذا أجمع على إقامة أكثر من أربعة وصلاة أتم، فقال: لا يفهمون، النبي صلى الله عليه وسلم أجمع على إقامة أربع وصلاة فقصر. ونقل عنه أيوب بن إسحاق بن سافري : أنه قال: إن أزمع على إقامة خمسة أيام يتم وما دون ذلك يقصر، قال أبو حفص : ليس في هذا خلاف لذلك؛ لأنه إذا أوجب الإتمام بإقامة أكثر من
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077).
(2) صحيح البخاري الجمعة (1051),سنن الترمذي الجمعة (544),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458),سنن أبو داود الصلاة (1223),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071),مسند أحمد بن حنبل (2/140),سنن الدارمي المناسك (1875).
(3) [ زاد المعاد] (1\128ـ 130)

أربعة أيام وزيادة صلاة فبخمسة أيام أولى أن يوجب الإتمام. وقوله: ما دون ذلك يقصر يحتمل أن يكون أراد به الأربعة أيام وزيادة صلاة؛ لأنها دون الخمسة أيام، ويحتمل أن يكون ذكره لليوم الخامس؛ لأن الصلاتين بعد الأربعة أيام من اليوم الخامس لا أنه أراد إكمال اليوم الخامس. وقد بين ذلك في رواية طاهر بن محمد التميمي فقال: إذا نوى إقامة أربعة أيام وأكثر من صلاة من اليوم الخامس أتم فقد بين مراده من ذكر اليوم الخامس أنه بعضه؛ لأنه أكثر من مقام النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم الذي قصر فيه الصلاة. قال القاضي: وظاهر كلام أبي حفص هذا أن المسألة على رواية واحدة، وأن مدة الإقامة ما زاد على إحدى وعشرين صلاة وتأول بقية الروايات.
واحتج في ذلك بحديث جابر : « أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة صبح رابعة فصلى بها الغداة وخامسة وسادسة وسابعة أربعة أيام كوامل وزاد صلاة؛ لأنه صلى الغداة يوم التروية بمكة بالأبطح وخرج يوم الخامس إلى منى فصلى الظهر بمنى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها . »
ويجوز أن يحمل كلام أحمد على ظاهره، فيكون في قدر الإقامة ثلاث روايات:
(إحداها): ما زاد على إحدى وعشرين، اختارها الخرقي وأبو حفص .
(الثانية): ما زاد على أربعة أيام ولو بصلاة؛ لأنها مدة تزيد على الأربعة فكان بها مقيما. دليله: إذا نوى زيادة على إحدى وعشرين.
(الثالثة): ما نقص عن خمسة أيام ولو بوقت صلاة؛ لأنها مدة تنقص

عن خمسة أيام، فكان في حكم السفر دليله مدة إحدى وعشرين أو عشرين (1) .
__________
(1) مسائل فقهية عن الإمام أحمد بن حنبل ص 116-118[ بدائع الفوائد]

8 - وقال ابن حزم رحمه الله:
قال علي : واختلف الناس في هذا فروينا عن ابن عمر : أنه كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم الصلاة، ورويناه أيضا عن سعيد بن المسيب، وبه يقول: أبو حنيفة وأصحابه.
وروينا عن طريق أبي داود ثنا محمد بن العلاء، ثنا حفص بن غياث، ثنا عاصم عن عكرمة عن ابن عباس : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة سبع عشرة يقصر الصلاة » (1) قال ابن عباس : من أقام سبع عشرة يقصر الصلاة قال ابن عباس : من أقام سبع عشرة بمكة قصر ومن أقام فزاد أتم. وروي عن الأوزاعي إذا أجمع إقامة ثلاث عشرة ليلة أتم فإن نوى أقل قصر. وعن ابن عمر قول آخر: أنه كان يقول: إذا أجمعت إقامة ثنتي عشرة ليلة، فأتم الصلاة. وعن علي بن أبي طالب : إذا أقمت عشرا فأتم الصلاة، وبه يأخذ سفيان الثوري والحسن بن حيي وحميد الرواسي صاحبه.
وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت أربعا فصل أربعا، وبه يأخذ مالك والشافعي والليث، إلا أنهم يشترطون أن ينوي إقامة أربع، فإن لم ينوها قصر وإن بقي حولا.
وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت ثلاثا فأتم.
ومن طريق وكيع عن شعبة عن أبي بشر- هو جعفر بن أبي وحشية - عن
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1230).

سعيد بن جبير : إذا أراد أن يقيم أكثر من خمس عشرة أتم الصلاة.
وعن سعيد بن جبير قول آخر: إذا وضعت رجلك بأرض فأتم الصلاة.
وعن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال: كنا مع مسروق بالسلسلة سنتين وهو عامل عليها، فصلى بنا ركعتين ركعتين حتى انصرف.
وعن وكيع عن شعبة عن أبي التياح الضبعي عن أبي المنهال العنزي قلت لابن عباس : إني أقيم بالمدينة حولا لا أشد على المسير؟ قال: صل ركعتين.
وعن وكيع عن العمري عن نافع عن ابن عمر : أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر ارتج عليهم الثلج فكان يصلي ركعتين قال علي : الوالي لا ينوي رحيلا قبل خمس عشرة ليلة بلا شك وكذلك من ارتج عليه الثلج فقد أيقن أنه لا ينحل إلى أول الصيف.
وقد أمر ابن عباس من أخبره أنه مقيم سنة لا ينوي سيرا بالقصر.
وعن الحسن وقتادة : يقصر المسافر ما لم يرجع إلى منزله إلا أن يدخل مصرا من أمصار المسلمين.
قال علي : احتج أصحاب أبي حنيفة بأن قولهم أكثر ما قيل: وأنه مجمع عليه أنه إذا نوى المسافر إقامة ذلك المقدار أتم ولا يخرج عن حكم القصر إلا بإجماع.
قال علي : وهذا باطل. وقد أوردنا عن سعيد بن جبير أنه يقصر حين ينوي أكثر من خمسة عشر يوما، وقد اختلف عن ابن عمر نفسه، وخالفه ابن عباس كما أوردنا وغيره فبطل قولهم عن أن يكون له حجة، واحتج لمالك والشافعي مقلدوهما بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق

العلاء بن الحضرمي : أنه عليه الصلاة والسلام قال: « يمكث المهاجر بعد انقضاء نسكه ثلاثا » (1) قالوا: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها في الله تعالى حتى يلقوا ربهم عز وجل غرباء عن أوطانهم لوجهه عز وجل، ثم أباح لهم المقام بها ثلاثا بعد تمام النسك. قالوا: فكانت الثلاث خارجة عن الإقامة المكروهة لهم، وكان ما زاد عنها داخلا في الإقامة المكروهة ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلا.
وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس في هذا الخبر نص ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر أتم، وإنما هو في حكم المهاجر، فما الذي أوجب أن يقاس المسافر يقيم على المهاجر يقيم، هذا لو كان القياس حقا، وكيف وكله باطل؟
وأيضا فإن المسافر يباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك، وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث فأما نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة لو أنصفوا أنفسهم؟
وأيضا فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافرا لا مقيما، وما زاد على الثلاثة للمسافر، فإقامة صحيحة، وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، ولو قيس أحدهما على الآخر لوجب أن يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث لا أن يتم، بخلاف قولهم.
وأيضا فإن إقامة قدر صلاة واحدة زائدة على الثلاثة مكروهة، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر أن يتم ولو نوى زيادة صلاة على الثلاثة الأيام وهكذا قال أبو ثور، فبطل قولهم على كل حال، وعريت الأقوال كلها عن
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3718),صحيح مسلم الحج (1352),سنن الترمذي الحج (949),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455),سنن أبو داود المناسك (2022),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073),مسند أحمد بن حنبل (5/52),سنن الدارمي الصلاة (1512).

حجة، فوجب أن نبين البرهان على صحة قولنا بعون الله تعالى وقوته.
قال علي : أما الإقامة في الجهاد والحج والعمرة فإن الله تعالى لم يجعل القصر إلا مع الضرب في الأرض. ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم القصر إلا مع السفر لا مع الإقامة، وبالضرورة ندري أن حال السفر غير حال الإقامة، وأن السفر إنما هو التنقل في غير دار الإقامة، وأن الإقامة هي السكون وترك النقلة والتنقل في دار الإقامة . هذا حكم الشريعة والطبيعة معا.
فإن ذلك كذلك، فالمقيم في مكان واحد مقيم غير مسافر بلا شك، فلا يجوز أن يخرج عن حال الإقامة وحكمها في الصيام والإتمام إلا بنص، وقد صح بإجماع أهل النقل أن « رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في حال سفره فأقام باقي نهاره وليلته ثم رحل في اليوم الثاني، وأنه عليه الصلاة والسلام قصر في باقي يومه ذلك وفي ليلته التي بين يومي نقلته، » فخرجت هذه الإقامة عن حكم الإقامة في الإتمام والصيام، ولولا ذلك لكان مقيم ساعة له حكم الإقامة. كذلك من ورد على ضيعة له أو ماشية أو عقار فنزل هنالك فهو مقيم، فله حكم الإقامة كما قال ابن عباس، إذ لم نجد نصا في مثل هذه الحال ينقلها عن حكم الإقامة وهو أيضا قول الزهري وأحمد بن حنبل .
ولم نجد عنه عليه السلام أنه أقام يوما وليلة لم يرحل فيهما فقصر وأفطر إلا في الحج والعمرة والجهاد فقط، فوجب بذلك ما ذكرنا من أن من أقام في خلال سفره يوما وليلة لم يظعن في أحدهما فإنه يتم ويصوم، وكذلك من مشى ليلا وينزل نهارا فإنه يقصر باقي ليلته ويومه الذي بين ليلتي حركته، وهذا قول روي عن ربيعة .

ونسأل من أبى هذا عمن مشى في سفر تقصر فيه الصلاة عندهم نوى إقامة وهو سائر لا ينزل ولا يثبت اضطر لشدة الخوف إلى أن يصلي فرضه راكبا ناهضا أو ينزل لصلاة فرضه ثم يرجع إلى المشي: أيقصر أو يتم؟ فمن قولهم يقصر، فصح أن السفر هو المشي.
ثم نسألهم عمن نوى إقامة وهو نازل غير ماش: أيتم أم يقصر؟ فمن قولهم يتم. فقد صح أن الإقامة هي السكون لا المشي متنقلا، وهذا نفس قولنا، ولله تعالى الحمد.
وأما الجهاد والحج فإن عبد الله بن ربيع قال: ثنا محمد بن إسحاق بن السليم، ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود، ثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن يحيي بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله، قال: « أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة » (1) .
قال علي : محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ثقة، وباقي رواة الخبر أشهر من أن يسأل عنهم. وهذا أكثر ما « روي عنه عليه السلام في إقامته بتبوك، » فخرج هذا المقدار من الإقامة عن سائر الأوقات بهذا الخبر، وقال أبو حنيفة ومالك : يقصر مادام مقيما في دار الحرب.
قال علي : وهذا خطأ لما ذكرنا من أن الله تعالى لم يجعل ولا رسوله عليه السلام الصلاة ركعتين إلا في السفر، وأن الإقامة خلاف السفر، لما ذكرنا.
وقال الشافعي وأبو سليمان كقولنا في الجهاد. وروينا عن ابن عباس، مثل قولنا نصا إلا أنه خالف في المدة.
وأما الحج والعمرة فلما حدثناه عبد الله بن يوسف، حدثنا أحمد بن فتح،
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1235),مسند أحمد بن حنبل (3/295).

حدثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، حدثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا يحيى بن يحيى، أنا هشيم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس بن مالك قال: « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجع، قال: كم أقام بمكة ؟ قال: عشرا » (1) .
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، حدثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفريري، ثنا البخاري، ثنا موسى، ثنا وهب عن أيوب السختياني عن أبي العالية البراء عن ابن عباس قال: « قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج » (2) وذكر الحديث.
قال علي : فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صبح رابعة من ذي الحجة، فبالضرورة نعلم أنه أقام بمكة ذلك اليوم الرابع من ذي الحجة، والثاني وهو الخامس من ذي الحجة، والثالث وهو السادس من ذي الحجة، والرابع وهو السابع من ذي الحجة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الظهر من اليوم الثامن من الحجة، وأنه خرج عليه السلام إلى منى قبل صلاة الظهر من اليوم الثامن من ذي الحجة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة، فتمت له بمكة أربعة أيام وأربع ليال كملا، أقامها عليه السلام ناويا للإقامة هذه المدة بها بلا شك، ثم خرج إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة، كما ذكرنا.
وهذا يبطل قول من قال: إن نوى إقامة أربعة أيام أتم؛ لأنه عليه السلام نوى بلا شك إقامة هذه المدة ولم يتم، ثم كان عليه السلام بمنى اليوم الثامن من ذي الحجة وبات بها ليلة يوم عرفة، ثم أتى إلى عرفة بلا شك في اليوم التاسع من ذي الحجة، فبقي هنالك إلى أول الليلة
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1031),صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077),مسند أحمد بن حنبل (3/190).
(2) صحيح البخاري الجمعة (1035),صحيح مسلم الحج (1240),سنن النسائي مناسك الحج (2870).

العاشرة (1) إلى منى فكان بها. ونهض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة. إما في اليوم العاشر وإما في الليلة الحادية عشرة بلا شك في أحد الأمرين ثم رجع إلى منى، فأقام بها ثلاثة أيام ودفع منها في آخر اليوم الرابع بعد رمي الجمار بعد زوال الشمس، وكانت إقامته عليه السلام بمنى أربعة أيام غير نصف يوم، ثم أتى إلى مكة فبات الليلة الرابعة عشرة بالأبطح، وطاف بها طواف الوداع، ثم نهض في آخر ليلته تلك إلى المدينة، فكمل له عليه السلام بمكة ومنى وعرفة ومزدلفة عشر ليال كملا كما قال أنس فصح قولنا، وكان معه عليه السلام متمتعون، وكان هو عليه السلام قارنا، فصح ما قلناه في الحج والعمرة، ولله الحمد، فخرجت هذه الإقامة بهذا الأثر في الحج والعمرة حيث أقام عن حكم سائر الإقامات، ولله تعالى الحمد.
فإن قيل: أليس قد رويتم من طريق ابن عباس وعمران بن الحصين روايات مختلفة في بعضها، « أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسع عشرة، » (2) وفي بعضها « ثمان عشرة » (3) وفي بعضها « سبع عشرة، » (4) وفي بعضها « خمس عشرة يقصر الصلاة؟ » (5)
قلنا: نعم، وقد بين ابن عباس إن هذا كان في عام الفتح، وكان عليه السلام في جهاد وفي دار حرب؛ لأن جماعة من أهل مكة كصفوان وغيره لهم مدة موادعة لم تنقض بعد، ومالك بن عوف في هوازن قد جمعت له العساكر بحنين على بضعة عشر ميلا، وخالد بن سفيان الهذلي على أقل من ذلك يجمع هذيلا لحربه، والكفار محيطون به محاربون له، فالقصر
__________
(1) ثم نهض إلى مزدلفة فبات بها الليلة العاشرة ثم نهض في صباح اليوم العاشر
(2) صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
(3) سنن أبو داود الصلاة (1229),مسند أحمد بن حنبل (4/431).
(4) صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1230),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
(5) صحيح البخاري المغازي (4049),سنن الترمذي الجمعة (549),سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453),سنن أبو داود الصلاة (1231),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).

واجب بعد في أكثر من هذه الإقامة، وهو عليه السلام يتردد من مكة إلى حنين ثم إلى مكة معتمرا ثم إلى الطائف، وهو عليه السلام يوجه السرايا إلى من حول مكة من قبائل العرب، كبني كنانة وغيرهم، فهذا قولنا، وما دخل عليه السلام مكة قط من حين خرج عنها مهاجرا إلا في عمرة القضاء أقام بها ثلاثة أيام فقط، ثم حين فتحها كما ذكرنا محاربا، ثم في حجة الوداع أقام بها كما وصفنا ولا مزيد.
قال علي : وأما قولنا: إن هذه الإقامة لا تكون إلا بعد الدخول في أول دار الحرب وبعد الإحرام فلأن القاصد إلى الجهاد مادام في دار الإسلام فليس في حال جهاد، ولكنه مريد للجهاد وقاصد إليه، وإنما هو مسافر كسائر المسافرين، إلا أجر نيته فقط، وهو ما لم يحرم فليس يعد في عمل حج ولا عمل عمرة، لكنه مريد لأن يحج أو لأن يعتمر، فهو كسائر من يسافر ولا فرق.
قال علي : وكل هذا لا حجة لهم فيه؛ لأن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم لم يقل إذ أقام بمكة أياما: إني إنما قصرت أربعا؛ لأني في حج ولا لأني في مكة، ولا قال إذ أقام بتبوك عشرين يوما يقصر: إني إنما قصرت؛ لأني في جهاد، فمن قال شيئا من هذا فقد قوله عليه الصلاة والسلام ما لم يقل. وهذا لا يحل.
فصح يقينا أنه لولا مقام النبي عليه الصلاة والسلام في تبوك عشرين يوما يقصر وبمكة دون ذلك يقصر لكان لا يجوز القصر إلا في يوم يكون فيه المرء مسافرا ولكان مقيم يومه يلزمه الإتمام. لكن لما أقام عليه الصلاة والسلام عشرين يوما بتبوك يقصر صح بذلك أن عشرين يوما إذا أقامها المسافر، فله فيها حكم السفر. فإن أقام أكثر أو نوى إقامة أكثر فلا برهان

يخرج ذلك عن حكم الإقامة أصلا.
ولا فرق بين من خص الإقامة في الجهاد بعشرين يوما يقصر فيها وبين من خص ذلك بتبوك دون سائر الأماكن، وهذا كله باطل لا يجوز القول به إذ لم يأت به نص قرآن ولا سنة، وبالله التوفيق.
ووجب أن يكون الصوم بخلاف ذلك؛ لأنه لم يأت فيه نص أصلا. فمن نوى إقامة يوم في رمضان فإنه يصوم، وبالله التوفيق.
قال علي : وقال أبو حنيفة والشافعي : إن أقام في مكان ينوي خروجا غدا أو اليوم، فإنه يقصر ويفطر ولو أقام كذلك أعواما. قال أبو حنيفة : وكذلك لو نوى خروجا ما بينه وبين خمسة عشر يوما، ونوى إقامة أربعة عشر يوما فإنه يفطر ويقصر.
وقال مالك : يقصر ويفطر وإن نوى إقامة ثلاثة أيام فإنه يفطر ويقصر، وإن نوى أخرج اليوم أخرج غدا قصر ولو بقي كذلك أعواما.
قال علي : ومن العجب العجيب إسقاط أبي حنيفة النية حيث افترضها الله تعالى من الوضوء للصلاة وغسل الجنابة والحيض وبقائه في رمضان ينوي الفطر إلى قبل زوال الشمس، ويجيز كل ذلك بلا نية، ثم يوجب النية فرضا في الإقامة، حيث لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أوجبها برهان نظري.
قال علي : وبرهان صحة قولنا أن الحكم لإقامة المدد التي ذكرنا- كانت هنالك نية لإقامة أو لم تكن- فهو أن النيات إنما تجب فرضا في الأعمال التي أمر الله تعالى بها فلا يجوز أن تؤدى بلا نية، وأما عمل لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فلا معنى للنية فيه، إذ لم يوجبها هنالك قرآن ولا سنة

ولا نظر ولا إجماع، والإقامة ليست عملا مأمورا به، وكذلك السفر، وإنما هما حالان أوجب الله تعالى فيهما العمل الذي أمر الله تعالى به فيهما، فذلك العمل هو المحتاج إلى النية لا الحال، وهم موافقون لنا أن السفر لا يحتاج إلى نية، ولو أن امرءا خرج لا يريد سفرا فدفعته ضرورات لم يقصد لها حتى صار من منزله على ثلاث ليال، أو سير به مأسورا أو مكرها محمولا مجبرا فإنه يقصر ويفطر، وكذلك يقولون فيمن أقيم به كرها فطالت به مدته فإنه يتم ويصوم.
وكذلك يقولون فيمن اضطر للخوف إلى الصلاة راكبا أو ماشيا، فذلك الخوف وتلك الضرورة لا يحتاج فيها إلى نية. وكذلك النوم لا يحتاج إلى نية وله حكم في إسقاط الوضوء وإيجاب تجديده وغير ذلك. وكذلك الإجناب لا يحتاج إلى نية وهو يوجب الغسل. وكذلك الحدث لا يحتاج إلى نية وهو يوجب حكم الوضوء والاستنجاء، فكل عمل لم يؤمر به لكن أمر فيه بأعمال موصوفة فهو لا يحتاج إلى نية، ومن جملة هذه الأعمال هي الإقامة والسفر، فلا يحتاج فيهما إلى نية أصلا، لكن متى وجدا وجب لكل واحد منهما الحكم الذي أمر الله تعالى به فيه ولا مزيد.
وبالله تعالى التوفيق وهذا قول الشافعي وأصحابنا.
هذا ما تيسر لنا جمعه، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21